قَالَ: سَمِعْتُ (1) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ (2) بالطُّور (3) فِي الْمَغْرِبِ (4) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: العامَّة عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ (5) تُخَفَّفُ فِي صلاةِ المغرب
__________
(1) قوله: سمعتُ، وللبخاري في "الجهاد" من طريق معمر، عن الزهري: وكان جاء في أسارى بدر. ولابن حبان من طريق محمد بن عمرو، عن الزهري في فداء أهل بدر. وزاد الإِسماعيلي من طريق معمر: وهو يومئذٍ مشرك. وللطبراني من طريق أسامة بن زيد نحوه. وزاد: فأخذني من قراءته الكرب، وللبخاري في المغازي: وذلك أول ما وَقَرَ الإِيمان في قلبي، كذا ذكره الزرقاني.
(2) وفي البخاري من رواية ابن يوسف، عن مالك (قرأ) بلفظ الماضي.
(3) قوله: بالطور، أي: بسورة الطور، وقال ابن الجوزي: يحتمل أن يكون الباء بمعنى من استدل له الطحاوي لما رواه من طريق هشيم، عن الزهري فسمعته يقول: {إن عذاب ربك لواقع} ، قال: فأخبر أن الذي سمعه من هذه السورة هو هذه الآية خاصة، قال الحافظ: وليس في السياق ما يقتضي قوله خاصة، بل جاء في روايات أخرى ما يدل على أنه قرأ السورة كلَّها.
(4) وأما رواية العتمة فضعيفة، لأنها من رواية ابن لهيعة، عن يزيد كما قال ابن عبد البر.
(5) قوله: على أن القراءة ... إلخ، لما أخرجه الطحاوي، عن أبي هريرة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في المغرب بقصار المفصل. وأخرج عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى أن اقرأ في المغرب بقصار المفصل. وأخرج أبو داود، عن عروة: أنه كان يقرأ في المغرب نحو {والعاديات} . وفي الباب آثار شهيرة، ويُستأنس له بما ورد بروايات جماعة من الصحابة أنهم كانوا يصلّون المغرب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم ينصرفون، والرجل يرى موضع نَبْله، وهذا لا يكون إلاَّ عند قراءة القصار.(1/643)
يقْرأُ فيها بقصار (1) المفصَّل. ونرى (2) (3)
__________
(1) وهي من {لَمْ يَكُنِ} إلى الآخر، ومن {الْحُجُرَاتِ} إلى {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ} طوالُه، ومنه إلى {لَمْ يَكُنِ} أوساطه، هذا على الأشهر، وقيل غير ذلك.
(2) أي: نعتقد.
(3) قوله: ونرى ... إلخ، لما ورد على العامة أنهم كيف استحبوا القصار في المغرب مع ثبوت طوال المفصل، بل أطول منها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأجابوا عنه بثلاثة: ذكره المصنف منها اثنين، وترك الثالث.
الأول: أن تطويل القراءة لعله كان أوَّلاً، ثم نُسخ ذلك وتُرك، بما ورد في قراءة المفصل،
والثاني: أنه لعله فرَّق السورة الطويلة في ركعتين، ولم يقرأها بتمامها في ركعة واحدة، فصار قدر ما قرأ في ركعة بقدر القصار.
والثالث: أن هذا بحسب اختلاف الأحوال: قرأ بالطوال لتعليم الجواز والتنبيه على أن وقت المغرب ممتد، وعلى أن قراءة القصار فيه ليس بأمر حتمي. وأقول الجوابان الأوَّلان مخدوشان، أما الأول: فلأن مبناه على احتمال النسخ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، ولأن كونه متروكاً إنما يثبت لو ثبت تأخَّر قراءة القصار على قراءة الطوال من حيث التاريخ، وهو ليس بثابت، ولأن حديث أم الفضل صريح في أنها آخر ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، هو سورة المرسلات في المغرب، فدلَّ ذلك على أنه صلّى الله عليه وسلّم قرأ بالمرسلات في المغرب في يومٍ قبل يومه الذي توفي فيه، ولم يصلِّ المغرب بعده، وقد ورد التصريح بذلك في "سنن النسائي" فحينئذٍ إن سلك مسلك النسخ يثبت نسخ قراءة القصار، لا العكس. وأما الثاني: فلأن إثبات التفريق في جميع ما ورد في قراءة الطوال مشكل، ولأنه قد ورد صريحاً في رواية البخاري وغيره ما يدلُّ على أن جبير بن مطعم سمع الطور بتمامه، قرأه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المغرب، فلا يفيد حينئذٍ ليت ولعل، ولأنه قد ورد في حديث عائشة في "سنن النسائي" أن(1/644)
أَنْ هَذَا (1) كَانَ شَيْئًا فتُرك أَوْ لَعَلَّهُ (2) كَانَ يَقْرَأُ بَعْضَ السُّوَرَةِ ثُمَّ يَرْكَعُ.
248 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا أبو الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا صَلَّى أحدُكُم (3) لِلنَّاسِ فليخفِّفْ (4) ، فإنَّ (5) (6) فيهم السقيمَ (7) والضعيفَ (8)
__________
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ بسورة الأعراف في المغرب، فرقها في ركعتين، ومن المعلوم أن نصفَ الأعراف لا يبلغ مبلغ القصار، فلا يفيد التفريق لإِثبات القصار فإذن الجواب الصواب هو الثالث (يعني لبيان الجواز ولكنه يختلف بالوقت، والقوم والإِمام. انظر أوجز المسالك 2/66) .
(1) أي: القراءة بالمغرب بالطوال.
(2) أي: النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(3) أي: صلّى إماماً.
(4) أي: مع التمام.
(5) تعليل للتخفيف.
(6) قوله: فإن فيهم ... إلخ، مقتضاه أنه متى لم يكن فيه متَّصف بالصفات المذكورة لم يضر التطويل، لكن قال ابن عبد البر: ينبغي لكل إمام إن يخفِّف لأمره صلّى الله عليه وسلّم وإن علم قوةَ من خلفه فإنه لا يدري ما يحدث عليهم من حادث وشغل وعارض وحاجة وحدث وغيره، وقال اليعمري: الأحكام إنما تُناط بالغالب لا بالصورة النادرة، فينبغي للأئمة التخفيف مطلقاً.
(7) من مرض.
(8) خلقة.(1/645)
وَالْكَبِيرَ (1) (2) وَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فليطوِّل مَا شَاءَ (3) (4) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
75 - (بابُ صلاةِ المغربِ وترُ صلاةِ النَّهار)
249 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ دِينَارٍ، عَنِ ابنِ عمرَ قَالَ: صلاةُ المغرِبِ (5) وِترُ صلاةِ النهار (6) .
__________
(1) سناً.
(2) قوله: والكبير، زاد مسلم من وجه آخر، عن أبي الزناد "والصغير"، والطبراني و"الحامل والمرضع"، وعند الطبراني من حديث عدي بن حاتم و"عابر السبيل"، كذا في "إرشاد الساري".
(3) ولمسلم: فليصل كيف شاء، أي: مخفِّفاً أو مطوِّلاً.
(4) قوله: ما شاء، أقول: يُستنبط منه بعمومه أنه لو قرأ أحدٌ القرآن بتمامه في صلاته، أو في ركعته جاز، كما مرَّ حكاية ذلك عن عثمان وغيره، وذلك لأنه صلّى الله عليه وسلّم أجاز للمنفرد التطويل في الأركان إلى ما شاء ولم يقيِّده بأمر. نعم، هو مقيد بعدم حصول الملال ودوام النشاط وعدم الإِخلال بغيره من الأمور الشرعية، على ما ورد في الأحاديث الأخر، وقد أوضحتُ المسأله في رسالتي: "إقامة الحجة على أن الإِكثار في التعبُّد ليس ببدعة".
(5) قوله: قال صلاة المغرب ... إلخ، رواه ابن أبي شيبة مرفوعاً من حديث ابن عمر بلفظ (صلاة المغرب وتر النهار، فأوتروا صلاة الليل) ، قال العراقي: سنده صحيح، ورواه الدارقطني عن ابن مسعود مرفوعاً، وسنده ضعيف، وقال البيهقي: الصحيح وقفه على ابن مسعود، كذا ذكره الزرقاني.
(6) أضيفت إليه لوقوعها عَقِبَه فهي نهاية حكماً.(1/646)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَيَنْبَغِي (1) لِمَنْ جَعَلَ الْمَغْرِبَ وِتْرَ صَلاةِ النَّهَارِ كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ أَنْ يَكُونُ وِتْرُ صَلاةِ اللَّيْلِ مِثْلَهَا، لا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِتَسْلِيمٍ، كَمَا لا يَفْصِلُ فِي الْمَغْرِبِ بِتَسْلِيمٍ (2) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رحمه الله -.
__________
(1) قوله: وينبغي لمن جعل ... إلخ، هذا استدلال من المؤلف على مذهبه من أن الوتر ثلاث لا يُفصل بينهن بتسليم بأن ابن عمر حكم على صلاة المغرب بأنه وتر صلاة النهار، وغرضه منه تشبيه وتر الليل بصلاة المغرب التي هي وتر النهار، وقد أوضح ذلك ما أخرجه الطحاوي عن عقبة بن مسلم قال: سألت ابن عمر عن الوتر؟ فقال: أتعرف وتر النهار؟ فقلت: نعم، صلاة المغرب، فقال: صدقت وأحسنت. فمقتضى هذا التشبيه (قال ابن رشد: فإن لأبي حنيفة أن يقول: إنه إذا شُبِّه شيء بشيْء وجُعل حكمهما واحداً كان المشبَّه به أحرى أن يكون بتلك الصفة فلما شبهت المغرب بوتر الليل وكانت ثلاثاً وجب أن يكون وتر الليل ثلاثاً. انظر الأوجز 1/370) أن يكون وتر الليل ثلاث ركعات بتسليم واحد، كصلاة المغرب هذا، وأقول: فيه نظر، فإن المعروف من فعل ابن عمر أنه كان يصلي الوتر ثلاث ركعات، ويفصل بالسلام على رأس الركعتين، كما مرَّ معنا، ذكره في (باب صلاة الليل) . وأخرجه المؤلف أيضاً من طريق مالك في (باب السلام في الوتر) في ما سيأتي، فذلك دليل على أنه لم يُرِد بقوله: (صلاة المغرب وتر صلاة النهار) تشبيه وتر الليل بوتر النهار في جملة الأحكام، بل في التثليث فقط لا في عدم الفصل بين السلام، فلو استدل المؤلف به على التثليث فقط مع قطع النظر عن الفصل بسلام لكان أبهى وأحسن.
(2) على رأس الركعتين.(1/647)
76 - (بَابُ الْوِتْرِ)
250 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زَيدُ بنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي مُرَّةَ (1) أَنَّهُ سألَ أَبَا هُرَيْرَةَ: كَيْفَ كَانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم يُوتِرُ؟ قَالَ (2) : فَسَكَتَ (3) ، ثُمَّ سَأَلَهُ، فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَقَالَ: إنْ شِئْتَ أخبَرْتُك كَيف أصنعُ أَنَا، قَالَ: أَخْبِرْنِي، قَالَ: إِذَا صلَّيتُ العِشاءَ صليتُ بَعْدَهَا خمسَ رَكَعَاتٍ (4) ثُمَّ أنامُ (5) فَإِنْ قمتُ مِنَ اللَّيْلِ صليتُ مَثْنَى مَثْنَى، فإنْ أصبحتُ أصبحتُ (6) عَلَى وِتْرٍ.
251 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نافعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أنَّه كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ (7) بِمَكَّةَ والسَّماء مُتَغَيِّمَةٌ (8) فَخَشِيَ الصُّبْحَ (9) ، فَأَوْتَرَ بواحدةٍ، ثُمَّ انْكَشَفَ الغيمُ، فَرَأَى عَلَيْهِ (10) لَيْلا، فَشَفَعَ (11) بِسَجْدَةٍ ثُمَّ صَلَّى سَجْدَتَينِ، سجْدتين،
__________
(1) اسمه يزيد المدني، ثقة، كذا قال الزرقاني.
(2) أي: أبو مرَّة.
(3) قوله: فسكت، لعله لما رأى أن تفصيل كيفيات وتره صلى الله عليه وسلَّم لا يقتضيه المقام أن يأتي به على وجه التمام، كذا قال القاري.
(4) قوله: خمس ركعات، ظاهره أنه بتحريمة واحدة اقتداءً بما روي أن
رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فعل كذلك أحياناً، وحمله القاري على الركعتين سنة العشاء وثلاث ركعات الوتر.
(5) يفيد جواز الوتر قبل النوم لمن لم يتعوَّد الانتباه في الليل ولم يثق به.
(6) لأني قد أدَّيته أول الليل.
(7) أي: في ليلة من الليالي، ولفظ ذات مقحمة.
(8) أي: محيط بها السحاب.
(9) أي: طلوعه فيفوت وترُه.
(10) في نسخة: أن عليه.
(11) قوله: فشفع بسجدة، قال الباجي: يحتمل أنه لم يسلم من الواحدة،(2/5)
فَلَمَّا خَشِيَ الصُّبحَ أَوْتَرَ (1) بِوَاحِدَةٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَأْخُذُ، لا نَرَى أَنْ يَشْفَعَ (2) إِلَى الْوِتْرِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ صَلاةِ الْوِتْرِ، وَلَكِنَّهُ يُصَلِّي بَعْدَ وِتْرِه مَا أحَبَّ (3)
__________
فشفعها بأخرى على رأي من قال: لا يحتاج في نية أول الصلاة إلى اعتبار عدد الركعات، ولا اعتبار وتر وشفع، ويحتمل أنه سلَّم.
(1) قوله: أوتر بواحدة، رُوي مثله، عن علي وعثمان وابن مسعود وأسامة وعروة ومكحول وعمرو بن ميمون، واختلف فيه، عن ابن عباس وسعد بن أبي وقاص، وهذه مسألة يعرفها أهل العلم بمسألة نقض الوتر (ذهب بعض السلف إلى نقض الوتر، واعلم أن من أوتر من الليل ثم قام للتهجد، فالجمهور على أنه يصلّي التهجد ولا يعيد الوتر ولا ينقضه، وإليه ذهب أبو حنيفة، والثوري، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد وأبو ثور، وابن المبارك، وبه قال إبراهيم النخعي، ورُوي ذلك عن أبي بكر الصديق، وعمار، وسعد بن أبي وقاص، وعائذ بن عمرو، وابن عباس، وأبي هريرة وعائشة، وعلقمة، وطاووس، وأبي مجلز، كما ذكره ابن قدامة في "المغني"1/799) ، وخالف في ذلك جماعة: منهم أبو بكر كان يوتر قبل أن ينام، ثم إن قام صلَّى ولم يُعِد الوتر، وروي مثله عن عمار وعائشة، وكانت تقول: أَوِتران في ليلة؟ إنكاراً لذلك، قاله ابن عبد البر.(2/6)
وَلا يَنْقُضُ (1) وترَه، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (2) - رَحِمَهُ اللَّه -.
77 - (بَابُ الْوِتْرِ عَلَى الدَّابَّةِ)
252 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْتَرَ عَلَى رَاحِلَتِهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قد جاء هذا الحديث
__________
(2) بأن يضم إلى الوتر ركعة ليصير شفعاً، فينقض وتره كما كان فعله ابن عمر.
(3) قوله: ما أَحَبّ، هذا صريح في جواز الشفع بعد الوتر أخذاً من فعل أبي هريرة وابن عمر، وهو المروي عن أبي بكر أنه قال: أمّا أنا فأنام على وتر، فإن استيقظت صلَّيت شفعاً حتى الصباح، وفي "صحيح مسلم" عن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يصلّي ثلاث عشرة ركعة، يصلّي ثمان ركعات، ثم يوتر، ثم يصلّي ركعتين، وهو جالس فإذا أراد أن يركع قام، فركع ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح وحمله النووي على بيان الجواز، وأنه كان يفعله أحياناً(2/7)
وَجَاءَ (1) غَيْرُهُ فأَحَبُّ (2) إِلَيْنَا أَنْ يصلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ تَطَوُّعًا (3) مَا بَدَا لَهُ، فَإِذَا بَلَغَ الْوِتْرَ نَزَلَ فَأَوْتَرَ عَلَى الأَرْضِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (4) ، وهو قول أبي حنيفة والعامَّة من فقهائنا (5) .
78 - (بَابُ تَأْخِيرِ الْوِتْرِ)
253 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ (6) : أَنَّهُ سَمِعَ عبدَ اللَّهِ (7) بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ يَقُولُ: إِنِّي لأُوتِرُ وأنا أسمع الإقامة
__________
مستدلاًّ بأنّ الروايات المشهورة في الصحيحين وغيرهما، عن عائشة مع رواية خلائق من الصحابة شاهدة بأن آخر صلاته صلى الله عليه وسلَّم كان الوتر، وفي "الصحيحين" أحاديث بالأمر بجعل آخر صلاة الليل وتراً منها حديث: "اجعلوا آخر صلاتكم وتراً"، فكيف يُظَنُّ به صلى الله عليه وسلَّم مع هذه الأحاديث وأشباهها أنه كان يداوم على الركعتين بعد الوتر، ويجعلهما آخر الليل وإنما معناه هو بيان الجواز انتهى كلامه (انظر شرح مسلم للنووي 2/392 باب صلاة الليل والوتر) . وأما الركعتان بعد الوتر فأنكرهما مالك وقال لا أصليهما ولم يثبت فيهما شيء عن أبي حنيفة والشافعي وقال أحمد لا أفعله ولا أمنع من فعله وذكر النووي الجواز فقط لأجل ورودهما في الحديث وقال ابن القيم الصواب أن يقال إن هاتيت الركعتين تجريان مجرى السنة وتكميل الوتر فإن الوتر عبادة مستقلة (انظر فتح الملهم 2/294) ثم قال: وأما ما أشار إليه القاضي عياض من ترجيح الأحاديث المشهورة وردَّ رواية الركعتين جالساً فليس بصواب، لأن الأحاديث إذا صحَّت وأمكن الجمع بينها تعيَّن ذلك. انتهى.
(1) قوله: لا ينقض، لقوله صلى الله عليه وسلَّم: "لا وتران في ليلة"، أخرجه النسائي وابن خزيمة وغيرهما، قال ابن حجر: إسناده حسن.
(2) قوله: أبي حنيفة، وقد وافقه في عدم نقض الوتر مالك، والأوزاعي، والشافعي وأحمد، وأبو ثور، وعلقمة وأبو مجلز، وطاووس، والنخعي، قاله ابن عبد البر.
(1) قوله: وجاء غيره، وهو أنه صلى الله عليه وسلَّم كان ينزل للوتر كما مرَّ في (باب الصلاة على الدابة في السفر) .
(2) قوله: فأحب إلينا ... إلخ، كأنه يُشير إلى أن الروايات لمّا اختلفت في النزول للوتر وعدم نزوله فالاحتياط هو اختيار النزول، وفي هذه العبارة إشارة إلى أنه لا سبيل إلى ردّ رواية عدم النزول وهجرانه بالكلية ودعوى عدم ثبوت ذلك، وإنما اخترنا ما اخترنا لما ذكرنا.
(3) من النوافل والسنن.
(4) قوله: وعبد الله بن عمر، أقول: نسبة ذلك إلى ابن عمر مما يُتكلَّمُ فيه، فإنه قد ورد عنه النزول وعدم النزول كلاهما، بل ورد عنه الزجر على من نزل للوتر، والاهتداء بأن الاقتداء الكامل بالنبي صلى الله عليه وسلَّم هو في عدم النزول كما مرَّ ذكرُ ذلك في (باب الصلاة على الدابة) ، فالظاهر أنَّ مذهبه جواز النزول وترجيح عدم النزول،
(5) أي: أهل الكوفة.
(6) ابن محمد بن أبي بكر.
(7) هو أبو محمد المدني الصحابي، مات سنة خمس وثمانين، كذا في "الإسعاف" وقد مرَّ نُبَذ من حاله.(2/8)
أَوْ بَعْدَ الْفَجْرِ. يَشُكُّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أيَّ ذَلِكَ (1) قَالَ (2) .
254 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ (3) يَقُولُ: إِنِّي لأُوتِرُ بَعْدَ الْفَجْرِ.
255 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (4) أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا أُبَالِي لَوْ أُقيمت (5) الصُّبْحُ (6) وَأَنَا أُوتِرُ.
256 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ (7) بْنُ أبي
__________
(1) وإن اتَّحد المعنى.
(2) أي: عبد الله بن عامر.
(3) هو القاسم بن محمد.
(4) قوله: عن ابن مسعود، المراد به حيث أطلق هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، أبو عبد الرحمن من السابقين الأولين، ومن كبار علماء الصحابة، أَمَّره عمر على الكوفة، ومات سنة اثنتين وثلاثين، أو في التي بعدها بالمدينة، كذا في "التقريب" وقد مرَّ نُبَذ من ترجمته فيما مرَّ.
(5) لأنه وقت ضروري له.
(6) في نسخة: الصلاة.
(7) قوله: عبد الكريم بن أبي المخارق (المخارق: بضم الميم واسم أبيه قيس، ولعبد الكريم زيادة في أول قيام الليل عند البخاري، وله ذكر في مقدمة مسلم، وروى له النسائي قليلاً، وروى عنه ابن ماجه في تفسيره، وأبو داود في مراسيله، والترمذي في حديث "البول قائماً". ومتى أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم متابعة يكون غير مطروح، والطعن فيه إنما هو من قبل حفظه، وقد ذكر صاحب "تنسيق النظام بشرح مسند الإمام أبي حنيفة" وجوه الاحتجاج به، وبلغها سبعة وعشرين وجهاً انظر (مقدمة تنسيق النظام ص 65 - 70)) ، يسمّى عبد الكريم اثنان،(2/9)
الْمُخَارِقِ (1) ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ رَقَدَ (2) ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، فَقَالَ لِخَادِمِهِ: انْظُرْ مَاذَا صَنَعَ (3) النَّاسُ، وَقَدْ ذَهَبَ (4) بصرُه، فَذَهَبَ (5) ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: قَدِ انْصَرَفَ النَّاسُ مِنَ الصُّبْحِ، فَقَامَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَأَوْتَرَ، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ (6) .
257 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سعيد: أن عبادة (7) بن
__________
أحدهما ثقة، متفق عليه، أخرج له البخاري ومسلم، وهو ابن مالك الجزري، وكنيته أبو سعد، والآخر ابن أبي المخارق، وكنيته أبو أمية، وهو متروك، كذا في "القول المسدَّد في الذبِّ عن مسند أحمد" للحافظ ابن حجر العسقلاني، وقال في "التمهيد": هو ضعيف باتفاق أهل الحديث، وكان مؤدِّب كُتَّاب، حسن السمت، غرَّ مالكاً منه سَمْتُه، ولم يكن من أهل بلده، فيعرفه، مات سنة ست أو سبع وعشرين ومائة، وقال السيوطي في "مرقاة الصعود": لا يصح على ما انفرد به عبد الكريم بن أبي المخارق الحكم بالوضع لأنه روى عنه مالك، وقد عُلم من عادته أنه لا يروي إلاّ عن ثقة عنده، وإن كان غيره قد اطَّلع على ما يقتضي جرحَه. انتهى. واسم أبي المخارِق - بضم الميم وكسر الراء - قيس، وقيل: طارق.
(1) اسمه قيس، وقيل: طارق.
(2) أي: نام.
(3) أي: هل فرغوا من صلاة الصبح أم لا؟
(4) أي: صار أعمى، ولذا لم يحضر الجماعة.
(5) أي: الخادم.
(6) فيه أن الوتر يصلّى بعد طلوع الفجر ما لم يصلِّ الصبح.
(7) قوله: عبادة، بالضم، هو أبو الوليد الأنصاري الخزرجي، أحد النقباء، شهد العقبتين وشهد بدراً، وأُحُداً وبيعة الرضوان، والمشاهدَ كلَّها، ومات بالشام في خلافة معاوية، كذا في "الإصابة" وغيره.(2/10)
الصَّامِتِ كَانَ يَؤُمُّ يَوْمًا، فَخرج يَوْمًا لِلصُّبْحِ، فَأَقَامَ الْمُؤَذِّنُ الصَّلاةَ، فَأَسْكَتَهُ حَتَّى أَوْتَرَ (1) ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَحَبُّ إِلَيْنَا أَنْ يُوتِرَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ (2) وَلا يؤخِّرَهُ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَإِنْ طَلَعَ قَبْلَ أَنْ يُوتِرَ فَلْيُوتِرْ، وَلا يَتَعَمَّدْ (3) ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
79 - (بَابُ السَّلامِ فِي الْوِتْرِ (4))
258 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ (5) يسلِّم فِي الْوِتْرِ بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَالرَّكْعَةِ حَتَّى يَأْمُرَ (6) بِبَعْضِ حَاجَتِهِ.
__________
(1) كأنه تذكر بعد خروجه، وأراد الترتيب.
(2) لحديث: فصلُّوها - أي الوتر - ما بين العشاء وطلوع الفجر. أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم.
(3) قوله: ولا يتعمد، وآثار الصحابة الذين أوتروا بعد الطلوع محمولة على أنهم لم يتعمَّدوا ذلك، بل فاتهم ذلك لوجه من الوجوه، فأدَّوْه بعد طلوع الفجر.
(4) أي: في أثنائه.
(5) قوله: كان، هذا الأثر وغير ذلك من الآثار التي ذكرناها في ما سبق يضعِّف ما أخرجه ابن أبي شيبة، عن الحسن، قال أجمع المسلمون على أن الوتر ثلاث، لا يسلّم إلاَّ في آخرهن، وفي سنده عمرو بن عبيد، متكلَّم فيه، ذكره الزيلعي (نصب الراية 2/122) .
(6) قوله: حتى يأمر ببعض حاجته، ظاهره أنه كان يصلي الوتر موصولاً فإن(2/11)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا، وَلَكِنَّا (1) نَأْخُذُ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلا نرَى (2) أَنْ يسلِّم بينهما.
__________
عرضت له حاجة فصلّى ثم بنى على مضى، وهذا دفع لقول من قال: لا يصح الوتر إلاَّ مفصولاً، وأصرح من ذلك ما رواه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن بكر بن عبد الله المزني، قال: صلّى ابن عمر ركعتين، ثم قال: يا غلام! ارحل لنا، ثم قام فأوتر بركعة، وروى الطحاوي عن سالم، عن أبيه، أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة، وأخبر ان النبي صلى الله عليه وسلّم كان يفعله، وإسناده قوي، ولم يعتذر الطحاوي عنه إلاَّ باحتمال أن المراد بقوله تسليمة أي: التسليم في التشهد، ولا يخفى بعده كذا في "فتح الباري" (3/26) وفي دعواه أن ظاهره وصله، وأن رواية سعيد أصرح في ذلك وقفه، بل ظاهر رواية مالك أنه كان عادته فصله، لإِتيانه بكان وحرف المضارعة، وحتى الغائية، نعم لو عبر بحين بدل حتى لكان ذلك ظاهراً، وأما رواية سعيد، فمحتملة كذا قاله الزرقاني.
(1) قوله: ولكنا نأخذ بقول عبد الله، قال التقيُّ الشُّمُنِّي في "شرح النقاية": مذهبنا قويٌّ من حيث النظر، لأن الوتر لا يخلو إما أن يكون فرضاً أو سنّة، فإن كان فرضاً فالفرض ليس إلاَّ ركعتين أو ثلاثاً أو أربعاً، وكلهم أجمعوا على أن الوتر لا يكون اثنين ولا أربعاً، فثبت أنه ثلاث، وإن كان سنة فلا توجد سنة إلاَّ ولها مثل في الفرض، والفرض لم يوجد فيه الوتر إلاَّ المغرب، وهو ثلاث. وذكر صاحب "التمهيد"، عن جماعة من الصحابة روى عنهم الوتر منهم بثلاث، لا يسلِّم إلاَّ في آخرهن، منهم عمر وعليّ وابن مسعود وزيد وأبيّ وأنس. انتهى. وذكر البخاري، عن القاسم قال: رأينا أناساً منذ أدركنا يوترون بثلاث، وإن كلاًّ لواسع، وأرجو أن لا يكون بشيء منه بأس.
(2) قوله: ولا نرى أن يسلِّم بينهما، قد يؤيد ذلك بحديث أخرجه(2/12)
259 - قال محمد: أخبرنا أبو حنيفة،
__________
ابن عبد البر في "التمهيد"، عن عبد الله بن محمد بن يوسف، نا أحمد بن محمد بن إسماعيل، نا أبي، نا الحسن بن سليمان، نا عثمان بن محمد بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، نا عبد العزيز الدراوردي، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلّم نهى عن البُتَيراء أن يصلي الرجل واحدة يوتر بها. ويُجاب عنه بوجوه: أحدها: أن في سنده عثمان، وهو متكلَّم فيه (قال ابن التركماني: لم يتكلم عليه أحد بشيء فيما علمنا غير العقيلي وكلامه ضعيف. وقد أخرج له الحاكم في "المستدرك". الجوهر النقيّ 3/27) ، فقد ذكر ابنُ القطّان في كتاب "الوهم والإيهام": هذا الحديث من جهة ابن عبد البر، وقال: الغالب على حديث عثمان بن محمد بن ربيعة الوهم، والثاني: أنه معارَض بما أخرجه الطحاوي من طريق الأوزاعي، عن المطلب بن عبد الله المخزومي أن رجلاً سأل ابن عمر عن الوتر، فأمره بثلاث، يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة، فقال الرجل: إني أخاف أن يقول الناس هي البُتَيراء، فقال ابن عمر: هذه سنَّة الله ورسوله، فهذا يدل على أن الوتر بركعة بعد ركعتين، قد وُجد من النبي صلى الله عليه وسلّم، والثالث: أنه معارَض بحديث: "فمن أحبَّ أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث، فيفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليوتر". رواه أبو داود وغيره، وقد مرَّ في (باب الصلاة على الدابة) ، والرابع: أن البتيراء، فسَّره ابن عمر بعدم إتمام الركوع والسجود كما أخرجه البيهقي في "المعرفة" بسنده، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مولى لسعد بن أبي وقاص، قال: سألت عبد الله بن عمر عن وتر الليل؟ فقال: يا بُنَيَّ هل تعرف وتر النهار؟ قلت: نعم، هو المغرب، قال: صدقت، ووتر الليل واحدة، بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فقلت: يا أبا عبد الرحمن إن الناس يقولون هي البتيراء، فقال: يا بُنَيَّ ليست تلك البتيراء، إنما البتيراء أن يصلي الرجل الركعة يتم ركوعها وسجودها وقيامها، ثم يقوم(2/13)
حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ (1) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلِّي مَا بَيْنَ صَلاةِ الْعِشَاءِ إِلَى صَلاةِ الصُّبْحِ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثَمَانِيَ (2) رَكَعَاتٍ تطوُّعاً وَثَلاثَ رَكَعَاتِ (3) الْوِتْرِ، وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ (4) .
260 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعي، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ما أُحِبُّ (5) أني
__________
في الأخرى ولا يتم لها ركوعاً ولا سجوداً ولا قياماً فتلك البتيراء (انظر: السنن الكبرى 3/26، قال ابن التركماني في سنده ابن إسحاق وسلمة بن الفضل متكَّلم فيهما، فتأويل ابن عمر ليس بأولى من تفسير البتيراء الذي رواه أبو سعيد مرفوعاً وعرفه الناس قاطبةً. فافهم) .
(1) قوله: حدثنا أبو جعفر، هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وهو المعروف بالباقر سمي به لأنَّه تبقَّر في العلوم أي توسَّع وتبحر، سمع أباه زين العابدين وجابر بن عبد الله وروى عنه ابنه جعفر الصادق وغيره، ولد سنة 56 هـ، ومات بالمدينة سنة 117 هـ (انظر ترجمته في تقريب التهذيب 2/192) ، كذا ذكره القاريّ في "سند الأنام شرح مسند الإمام"، وقال: هذا الحديث رواه الشيخان وأبو داود عن عائشة: كان صلى الله عليه وسلَّم يصلِّي من الليل ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر. انتهى.
(2) هو مقدار تهجّد.
(3) ظاهر هذا وما بعده هو عدم الفصل بالسلام، ولذلك استدلَّ به المؤلف على مُدَّعاه.
(4) أي: سنة الفجر.
(5) قوله: ما أحب، يعني لو أعطاني أحد نَعَماً حُمْراً بدل ترك الوتر ثلاث ركعات لم أحب أن أتركه.(2/14)
تَرَكْتُ الْوِتْرَ بِثَلاثٍ (1) وإنَّ (2) لِي حُمْرَ النَّعَم.
261 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّة، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ (3) قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: الْوِتْرُ ثَلاثٌ كَثَلاثِ (4) الْمَغْرِبِ.
262 - قَالَ مُحَمَّدٌ: حدثنا أبو معاوية (5) المكفوف، عن
__________
(1) قوله: بثلاث، ظاهره أنه ثلاث موصولة، وهو المرويّ عن فعله صريحاً ذكرناه سابقاً، وأخرج الحاكم (المستدرك 1/304) ، أنه قيل للحسن: إن ابن عمر كان يسلم في الركعتين من الوتر، فقال: كان عمر أفقه منه، وكان ينهض في الثالثة بالتكبير.
(2) قوله: وإنَّ لي حُمْر النَّعَم، الحمر بضم فسكون، جمع أحمر، والنَّعَم، بفتحتين بمعنى الأنعام والدوابّ، والمراد بها الإِبل، والحمر منها أحسن أنواعها، ذكره السيوطي.
(3) قوله: عن أبي عُبيدة، بضم العين هو ابن عبد الله بن مسعود مشهور بكنيته، والأشهر أنه لا اسم له غيره، ويقال: اسمه عامر، كوفي، ثقة، من كبار التابعين، روى عن أبيه، وعنه أبو إسحاق السَّبيعي وعمرو بن مرَّة، والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه، مات بعد سنة 180 هـ، كذا في "التقريب" و"جامع الأصول".
(4) التشبيه الكامل إنما يكون إذا لم يكن فصل بين السلام وهو المراد.
(5) قوله: أبو معاوية المكفوف، أي: الممنوع عنه البصر، يعني الأعمى، وهو محمد بن خازم الضرير الكوفي عَمِيَ وهو صغير، ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يهم في حديث غيره، روى عن الأعمش وسفيان، وعنه أحمد وإسحاق وابن معين مات سنة 195 هـ، كذا في "التقريب" (2/157) و"الكاشف".(2/15)
الأَعْمَشِ (1) ، عَنْ مَالِكِ (2) بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (3) بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الْوِتْرُ ثَلاثٌ كَصَلاةِ الْمَغْرِبِ.
263 - قَالَ محمد: أخبرنا إسماعيل (4) بن إبراهيم، عن
__________
(1) قوله: عن الأعمش: بالفتح من العَمَش، بفتحتين، وهو عبارة عن ضعف البصر، وكونه بحيث يجري منه الدمع لمرض، والمشهور به سليمان بن مِهران - بالكسر - الأسدي الكاهلي مولاهم أبو محمد الكوفي أصله من طبرستان، وولد بالكوفة، وروى عن أنس، ولم يثبت له منه سماع، وابن أبي أوفى وأبي وائل وقيس بن أبي حازم والشعبي والنخعي وغيرهم، وعنه أبو إسحاق السَّبيعي وشعبة والسفيانان وغيرهم، قال ابن معين: ثقة، والنسائي: ثقة ثَبْت، وابن عمار: ليس في المحدثين أثبت من الأعمش، ومنصور ثبت أيضاً إلاَّ أن الأعمش أعرف منه بالمسند، مات سنة 147 هـ، وقيل سنة 146 هـ، وترجمته مطوَّلة في "تهذيب التهذيب".
(2) قوله: عن مالك بن الحارث، قال الذهبي في "الكاشف" مالك بن الحارث السلمي، عن أبي سعيد الخدري وعلقمة النخعي، وعنه منصور والأعمش، ثقة، مات سنة 194 هـ. انتهى.
(3) قوله: عن عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي، نسبة إلى نَخَع، بفتحتين، قبيلة، أبو بكر الكوفي، روى عن أخيه الأسود بن يزيد، وعمِّه علقمة بن قيس، وعن حذيفة وابن مسعود وأبي موسى وعائشة وغيرهم، وعنه ابنه محمد وإبراهيم النخعي وأبو إسحاق السبيعي ومنصور وغيرهم، قال ابن سعد وابن معين والعجلي والدارقطني: ثقة، مات سنة 73 هـ، وقيل سنة 83 هـ، كذا في "تهذيب التهذيب".
(4) قوله: إسماعيل بن إبراهيم، ذكر في "تهذيب التهذيب" و"الميزان" كثيراً بهذا الاسم والنسب، بعضهم ثقات، وبعضهم ضعفاء. والظاهر أن المذكور(2/16)
لَيْثٍ (1) ، عَنْ عَطَاءٍ (2) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْوِتْرُ كَصَلاةِ الْمَغْرِبِ.
264 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أخبرنا يعقوب (3) بن إبراهيم، حدثنا حصين (4) بن إبراهيم،
__________
ههنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر البجلي، والنخعي الكوفي ضعَّفه البخاري والنسائي، وقال أبو حاتم: ليس بقوي، يُكتب حديثه، روى عن أبيه وإسماعيل بن أبي خالد وغيرهما، وعنه ابن نمير ووكيع وطلق بن غنام وأبو على الحنفي وغيرهم، فليُحرَّر هذا المقام.
(1) قوله: عن ليث، هو ليث بن أبي سُليم، بالضم، قال الحافظ عبد العظيم المنذري في آخر كتاب "الترغيب والترهيب": فيه خلاف، وقد حدَّث عنه الناس، وضعَّفه يحيى والنسائي، وقال ابن حبان: اختلط في آخر عمره، وقال الدارقطني: كان صاحب سُنَّة، إنما أنكروا عليه الجمع بين عطاء وطاووس ومجاهد فحسب، ووثَّقه ابن معين في رواية. انتهى. وقد بسطتُ في ترجمته في رسالتي في بحث الزيارة النبوية "الكلام المبرور في ردّ القول المنصور وردّ المذهب المأثور" المسمّى بـ"السعي المشكور" حين ظن بعض أفاضل عصرنا أن ضعفَه بلغ إلى أن لا يُحتَجّ به.
(2) هو ابن أبي رباح المكي أو ابن يسار المدني، وقد وُجد في بعض النسخ كذلك عطاء بن يسار.
(3) القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة.
(4) قوله: حصين بن إبراهيم، كذا في النسخ الحاضرة، ولم أقف على حاله في "تهذيب التهذيب" و"تقريب التهذيب" و"الكاشف" و"جامع الأصول" و"ميزان الاعتدال" وغيرهما. وقد مرَّت سابقاً في (بحث رفع اليدين) رواية عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم، عن حصين بن عبد الرحمن، ومرَّ هناك أنه من(2/17)
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ (1) : مَا أجزأتْ (2) ركعةٌ وَاحِدَةٌ قَطُّ.
265 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ (3) ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ (4) قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: أَهْوَنُ (5) مَا يَكُونُ الْوِتْرُ ثَلاثُ رَكَعَاتٍ.
266 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا سَعِيدُ (6) بْنُ أَبِي عروبة، عن
__________
أعالي شيوخه، فلعله هو، والذي في كتاب "الحجج"، حصين، عن إبراهيم، فيتعيَّن أن الحصين هو السابق، وإبراهيم هو النخعي.
(1) لما سمع سعداً أنه أوتر بركعة كما ذكرنا سابقاً.
(2) قوله: ما أجزأت (نصب الراية 1/278، قلت: ومثله لا يقال بالرأي فهو مرفوع حكماً) ، فيه إشارة إلى التنفُّل بركعة واحدة، باطل، وبه صرَّح أصحابنا.
(3) قوله: عن أبي حمزة، ذكر في "تهذيب التهذيب" و"الكاشف" وغيرهما كثيراً من الكوفيين يكنّى بأبي حمزة، بعضهم ثقات، وبعضهم ضعفاء، ولم أدرِ أن المذكور ههنا من هو منهم، فليحرَّر.
(4) ابن قيس النخعي.
(5) أي: أدنى ما يكون ثلاث ركعات، فلا يجوز الأدنى منه.
(6) قوله: أخبرنا سعيد بن أبي عَرُوبة، بفتح العين وضم الراء وسكون الواو - اسمه مِهران بالكسر - العدوي مولى بني عدي بن يشكر، أبو النضر البصري، قال ابن معين والنسائي وأبو زرعة: ثقة، وقال ابن أبي خيثمة: أثبت الناس في قتادة سعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي، وقال أبو داود الطيالسي: كان أحفظ أصحاب قتادة، وقال أبو حاتم: هو قبل أن يختلط ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال مات سنة 155 هـ، وبقي في اختلاطه خمس سنين، كذا في "تهذيب التهذيب".(2/18)
قَتَادَةَ (1) ، عَنْ زُرَارَةَ (2) بْنِ أَبِي أَوْفَى، عَنْ سَعِيدِ (3) بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلَّم
__________
(1) قوله: عن قتادة، هو ابن دِعامة - بكسر الدال المهملة وخِفَّة العين المهملة - كما ضبطه الفَتَّني في "المغني" ابن قتادة بن عزيز أبو الخطاب السدوسي البصري الضرير الأكمه المفسر، وُلد أكمه، وحدَّث، عن أنس رضي الله عنه وعبد الله بن سرجس رضي الله عنه وسعيد بن المسيب وغيرهم وعنه مسعر وأبو عوانة وهشام الدستوائي وسعيد بن أبي عروبة وغيرهم، قال ابن سيرين: كان أحفظ الناس، وقال أحمد: عالم بالتفسير وباختلاف العلماء، ووصفه بالحفظ والفقه، وأطنب في ذكره، وكان من أجلَّة الثقات، عالماً بالعربية واللغة وأيام العرب والأنساب، مات بواسط بالطاعون سنة 118 هـ، وقيل: سنة 117 هـ، كذا في "تذكرة الحفاظ" للذهبي، وله ترجمة طويلة مشتملة على ثناء الناس عليه في "تهذيب التهذيب" وغيره.
(2) قوله: عن زُرارة، بضم الزاء المعجمة وفتح الرائين المهملتين، بينهما ألف، كما ذكر في "المغني" ابن أبي أوفى، هكذا في بعض النسخ، وفي كثير من النسخ المصحَّحة ابن أوفى، وكذا ذكره في "التهذيب" وغيره أنه زرارة بن أوفى العامري، أبو حاجب البصري، وثقه النسائي والعجلي وابن حبان وغيرهم، مات سنة 93 هـ، على ما ذكره ابن سعد، وقيل غير ذلك.
(3) قوله: عن سعيد بن هشام، هكذا وجدنا في النسخ الحاضرة، والذي في "تهذيب الكمال" و"تهذيبه" و"تقريبه" و"تذهيبه" و"الكاشف" و"جامع الأصول" وكتاب "الثقات" لابن حبان، أن اسمه سعد - بدون الياء - بن هشام بن عامر الأنصاري المدني ابن عم أنس، روى عن أبيه وعائشة وابن عباس وسمرة وأنس وغيرهم، وعنه زرارة والحسن البصري وثَّقه النسائي وابن سعد، استشهد بمُكران - بضم الميم - بلدة بالهند، وكذا هو في كتاب "الحجج".(2/19)
كان لا يسلِّم (1) في ركعتي الوتر.
__________
(1) قوله: كان لا يسلِّم في ركعتي الوتر، هذا صريح في إثبات المقصود، وقد أخرجه النسائي، والحاكم (سنن النسائي 1/248، والمستدرك 1/204) أيضاً، وصحَّحه الحاكم، وفيه ردّ على من أبطل الوتر بالثلاث أخذاً مما روى الدارقطني - وقال: رواته ثقات - عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "لا توتروا بثلاث، وأوتروا بخمس أو سبع، ولا تشبّهوا بصلاة المغرب"، ومن المعلوم أن حديث عائشة في عدم السلام في الركعتين مرجَّح على حديث أبي هريرة بوجوه لا تخفى على ماهر الفن، مع أن حديث أبي هريرة معارَض بحديث: "ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل" المخرَّج في السنن، وهو من أسباب الترجيح، هذا وقد يستدل على عدم الفصل بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعة الأولى من الوتر بفاتحة الكتاب، و {سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلى} ، وفي الثانية بـ {قُلْ يا أَيُّها الكَافِرون} ، وفي الثالثة بـ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدْ} والمعوذتين، أخرجه أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "المستدرك" وقال: صحيح على شرط الشيخين والطحاوي وغيرهم، فإن ظاهره أن الثالثة متصلة لا منفصلة، وإلاَّ لقالت: وفي ركعة الوتر، أو في الركعة المفردة، أو نحو ذلك. وروى الطحاوي بنحوه من حديث ابن عباس وعلي وعمران بن حصين، لكن وقع في طريق الدارقطني بلفظ: كان يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدهما بـ {سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الأَعلى} ، و {قُلْ يا أَيُّها الكَافِرون} ويقرأ في الوتر بـ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدْ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس} .(2/20)
80 - (بَابُ (1) سُجُودِ (2) الْقُرْآنِ)
267 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عبدُ اللَّهِ بنُ يزيدَ مَوْلَى الأسودِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَرَأَ بِهِمْ (3) {إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ} فَسَجَدَ فِيهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ حدَّثهم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِيهَا (4) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
__________
(1) قوله: باب سجود القرآن (شرح الزرقاني 2/20، وبسط الكلام في ذلك في أوجز المسالك 4/139) ، هي أربع عشرة سجدات معروفة، عند أبي حنيفة والشافعي غير أنه عدَّ الشافعي منها السجدة الثانية من سورة الحج دون سجدة (ص) وقال أبو حنيفة بالعكس هذا هو المشهور وقال الترمذي رأى بعض أهل العلم أن يُسجد في (ص) وهو قول سفيان وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. انتهى. فعلى هذا يكون عند الشافعي وأحمد خمس عشرة سجدة، وهو رواية عن مالك، كذا في "المحلّى بحلّ أسرار الموطأ" للشيخ سلام الله (هو الشيخ العالم المُحدِّث سلام الله بن شيخ الإِسلام بن فخر الدين الدهلوي، أحد كبار العلماء، توفي سنة 1129 هـ أو 1133 هـ. انظر نزهة الخواطر: 7/205) رحمه الله تعالى.
(2) هو سنَّة، أو فضيلة، قولان مشهوران عند مالك، وعند الشافعية سنَّة مؤكدة، وقال الحنفية: واجب.
(3) قال الباجي: الأظهر أنه كان يصلي، وجاء ذلك مفسَّراً في حديث أبي رافع: صليت خلف أبي هريرة العشاء، فقرأ: {إذا السماء انشقت} .
(4) قوله: سجد فيها، وبهذا قال الخلفاء الأربعة والأئمة الثلاثة، وجماعة، ورواه ابن وهب عن مالك، وروى ابن القاسم والجمهور عنه أنه لا سجود لأن أبا سلمة قال لأبي هريرة: لما سجد: لقد سجدت في سورة ما رأيتُ الناس(2/21)
وَكَانَ مَالِكُ (1) بْنُ أَنَسٍ لا يَرَى (2) فِيهَا سجدة.
__________
يسجدون فيها، فدلَّ هذا على أن الناس تركوه، وجرى العمل بتركه. وردَّه ابن عبد البر بما حاصله، أي عمل يَّدعى مع مخالفة المصطفى والخلفاء بعده (انظر شرح الزرقاني 2/20، وبسط الكلام في ذلك في أوجز المسالك 4/139) .
(1) قوله: مالك، وسلفه في ذلك ابن عمر وابن عباس فإنهما قالا: ليس في المفصَّل سجدة، أخرجه عبد الرزاق في "مصنَّفه".
(2) قوله: لا يرى فيها سجدة، أي: في سورة {انشقت} بل لا في المفصّل مطلقاً، كما صرَّح به حيث قال: الأمر عندنا أنَّ عزائم السجود إحدى عشرة سجدة، ليس في المفصَّل منها شيء، وبه قال الشافعي في القديم، ثم رجع عنه، ذكره البيهقي، وحجَّتهم حديث زيد بن ثابت، قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلَّم "والنجم"، فلم يسجد فيها، أخرجه الشيخان وغيرهما. وأجاب الجمهور عنه بأنه لعله تركه في بعض الأحيان لبيان الجواز فإن سجود التلاوة ليس بواجب كما يشهد به قول عمر: من سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه. وقول ابن عمر: إن الله لم يفرض السجود إلاَّ أن نشاء، أخرجهما البخاري وغيره. هذا على قول من قال باستحباب السجود، أو سنّيته، وأما على رأي من قال بالوجوب كأصحابنا الحنفية، فيجاب عن حديث زيد بأن وجوب السجدة ليس حتماً في الفور، فلعله أخَّره النبي صلى الله عليه وسلَّم ولم يسجد في الفور لبيان ذلك، وليس في الحديث بيان أنه لم يسجد بعد ذلك أيضاً، وقد ثبت سجود النبي صلى الله عليه وسلّم في سورة النجم، من حديث ابن مسعود عند البخاريّ وأبي داود والنسائي، ومن حديث ابن عباس عند البخاري والترمذي. ومن حديث أبي هريرة عند البزّار والدارقطني بإسناد رجاله ثقات، وثبت السجود في سورة "انشقت" من حديث أبي هريرة عند مالك والبخاري وأبي داود والنسائي وغيرهم. ومن حجَّة المالكية حديث أمّ الدرداء قالت: سجدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إحدى عشرة سجدة ليس فيها شيء من المفصَّل، أخرجه ابن ماجه، وفي سنده متكلَّم فيه مع أن الإثبات مقدَّم على النفي، ومن حجتهم حديث(2/22)
268 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَرَأَ بِهِمُ (1) النَّجْمَ، فَسَجَدَ فِيهَا، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ (2) سُورَةً أُخْرَى (3) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ لا يَرَى فِيهَا سَجْدَةً.
269 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ: أَنَّ عُمَرَ قَرَأَ سُورَةَ الْحَجِّ، فَسَجَدَ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ، وَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فُضِّلت بِسَجْدَتَيْنِ (4) .
270 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الله بن دينار، عن ابن عمر
__________
ابن عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يسجد في شيء من المفصَّل، منذ تحوَّل إلى المدينة، وإسناده ليس بقوي (انظر فتح الباري 2/555، 556) مع ثبوت أن أبا هريرة سجد مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم في سورة {انشقت} ، وهو أسلم سنة سبع من الهجرة.
(1) أي: في الصلاة.
(2) ليقع ركوعه عقب قراءة كما هو شأن الركوع.
(3) روى الطبراني بسند صحيح عن عمر أنه قرأ النجم، فسجد فيها، ثم قام فقرأ {إذا زُلزلت} .
(4) قوله: بسجدتين، أولاهما عند قوله تعالى: {إن الله يفعل ما يشاء} ، وهي متفق عليها، والثانية: عند قوله: {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} .(2/23)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ (1) رَآهُ سَجَدَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ (2) : رُوي هَذَا عن عن عمرَ وابنِ عمرَ (3) وكان (4)
__________
(1) قوله: أنه، هذا مقدَّم على ما أخرجه الطحاوي، عن سويد قال: سئل
نافع: هل كان ابن عمر يسجد في الحج سجدتين؟ فقال: مات ابن عمر، ولم يقرأها، ولكن كان يسجد في النجم وفي {اقرأ باسم ربك} .
(2) به قال الشافعي وأحمد، ورواه ابن وهب، عن مالك، ولم يقل به مالك في المشهور عنه، ذكره الزرقاني.
(3) قوله: عن عمر وابن عمر، وكذا رواه الطحاوي عن أبي الدرداء وأبي موسى وأبي موسى الأشعري أنهما سجدا في الحج سجدتين. وروى الحاكم على ما ذكره الزيلعي، عن ابن عمر وابن عباس وابن مسعود وعمار بن ياسر وأبي موسى وأبي الدرداء أنهم سجدوا سجدتين. ويؤيده من المرفوع ما أخرجه أبو دواد والترمذي عن عقبة، قلت: يا رسول الله، أفُضِّلت سورة الحج بسجدتين؟ قال: نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما، وكذا رواه أحمد والحاكم، وفي سنده ضعف ذكره الترمذي، وأشار إليه الحاكم، وأخرج أبو دواد، عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أقرأه خمس عشرة سجدة، وفي سنده ضعيف وهو عبد الله بن منين (انظر نصب الراية 1/306، وقال في بذل المجهود 7/201: وفي سورة الحج سجدتان، إحداهما متفق عليها والثانية اختلف فيها، فالحنفية أنكروها والشافعية أثبتوها) .
(4) قوله: وكان ابن عباس لا يرى ... إلخ، كما أخرجه الطحاوي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال في سجود الحج إن الأولى عزيمة، والأخرى تعليم، قال الطحاوي: فبقول: ابن عباس نأخذ. انتهى. لكنْ قد مرَّ أن الحاكم ذكره في من سجد فيها سجدتين، والحق في هذا الباب هو ما ذهب إليه عمر رضي الله عنه وابن عمر رضي الله عنه.(2/24)
ابْنُ عَبَّاسٍ لا يَرَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ إلاَّ سَجْدَةً وَاحِدَةً (1) : الأُولَى، وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
81 - (بَابُ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي)
271 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ (2) مَوْلَى عُمَرَ (3) : أَنَّ بُسْرَ (4) بْنَ سَعِيدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ أرسله (5) (6) إلى
__________
(1) قوله: واحدة، روى ابن أبي شيبة، عن علي وأبي الدرداء وابن عباس أنهم سجدوا فيه سجدتين، وله عن ابن عباس أنه قال: في الحج سجدة، وعن ابن المسيب والحسن وإبراهيم وسعيد بن جبير مثل ذلك كذا في "المحلّى".
(2) هو سالم بن أبي أمية.
(3) أي: عمر بن عبيد التيمي.
(4) قوله: أن بسر بن سعيد، هكذا في بعض النسخ، بُسْر - بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة - وفي بعض النسخ منها نسخة الشيخ الدهلوي: بشر بن سعيد، واختاره القاري حيث ضبطه بكسر الباء وسكون الشين المعجمة، والصحيح هو الأول، وهو المذكور في كتب الرجال وشروح مؤطأ يحيى، وشروح صحيح البخاري وغيرها.
(5) أي: بسراً.
(6) قوله: أرسله ... إلخ، قال الحافظ: هكذا روي عن مالك، لم يُختلف عليه فيه أن المرسِل هو زيد، وأن المرسَل إليه أبو جُهَيم، وهو بضم الجيم - مصغراً - واسمه عبد الله بن الحارث بن الصمَّة الأنصاري الصحابي، وتابعه سفيان الثوري عن أبي النضر عند مسلم وابن ماجه وغيرهما، وخالفهما ابن عيينة عن أبي النضر فقال: عن بسر، قال: أرسلني أبو جهيم إلى زيد بن(2/25)
أَبِي جُهَيم (1) الأَنْصَارِيِّ يَسْأَلُهُ مَاذَا سَمِعَ مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فِي المارِّ بَيْنَ يَدَيِ المصلِّي (2) ؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ يَعلَمُ المارُّ بين يدي المصلِّي ماذا (3)
__________
خالد أسأله، قال ابن عبد البر: هكذا رواه ابن عيينة مقلوباً، أخرجه ابن أبي خيثمة، عن أبيه، عن ابن عيينة، ثم قال ابن أي خيثمة، سئل عنه يحيى بن معين، فقال: هو خطأ كذا في "التنوير".
(1) قوله: إلى أبي جهيم، هو عبد الله بن جهيم الأنصاري، روى عنه بسر بن سعيد مولى الحضرميين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المارّ بين يدي المصلِّي، رواه مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن بسر، عن أبي جهيم، ولم يسمِّه، وهو أشهر بكنيته، ويقال: هو ابن أخت أبيّ بن كعب، ولست أقف على نسبه في الأنصار، كذا في "الاستيعاب في أحوال الأصحاب" لابن عبد البر رحمه الله.
(2) قوله: بين يدي المصلّي، أي: أمامه، بالقرب، واختلف في ضبط ذلك، فقيل: إذا مرَّ بينه وبين مقدار سجوده، وقيل بينه وبينه ثلاثة أذرع، وقيل بينه وبينه قدر رمية بحجر.
(3) قوله: ماذا عليه، زاد الكشميهني من رواة البخاري من الإثم، وليست هذه الزيادة في شيء من الروايات غيره، والحديث في "المؤطأ" بدونها، وقال ابن عبد البر: لم يختلف رواة "الموطأ" على مالك في شيء منه، وكذا رواه باقي الستة وأصحاب المسانيد والمستخرجات بدونها، ولم أرها في شيء من الروايات مطلقاً، لكن في مصنف ابن أبي شيبة: يعني من الإثم، فيحتمل أن تكون ذُكرت حاشية فظنها الكشميهني أصلاً لأنه لم يكن من أهل العلم ولا من الحفاظ، وقد عزاها المحبّ الطبري في "الأحكام" للبخاري وأطلق، فعِيب ذلك عليه وعلى صاحب العمدة في إيهامه أنها في الصحيحين، كذا في "الفتح".(2/26)
عَلَيْهِ (1) فِي ذَلِكَ لَكَانَ (2) أَنْ يَقِفَ (3) أَرْبَعِينَ (4) خَيْرًا (5) (6) لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، قال (7) : لا أدري
__________
(1) أي: من الإِثم بسبب مروره بين يديه، سدَّ مسد المفعولين ليُعلم وقد علق عمله بالاستفهام.
(2) قوله: لكان ... إلخ، جواب (لو) ليس هذا المذكور، بل التقدير لو يعلم ماذا عليه لوقف أربعين ولو وقف أربعين لكان خيراً.
(3) أي: وقوفه.
(4) قوله: أربعين، قال الطحاوي في "مشكل الآثار": إن المراد أربعين سنة، واستدل بحديث أبي هريرة مرفوعاً: لو يعلم الذي بين يدي أخيه معترضاً، وهو يناجي ربَّه لكان أن يقف مكانه مائة عام خيراً له من الخطوة التي خطاها، ثم قال: هذا الحديث متأخر عن حديث أبي جهيم، لأن فيه زيادة الوعيد، وذلك لا يكون إلاَّ بعد ما أوعدهم بالتخفيف، كذا نقله ابن مالك، وقال الشيخ ابن حجر: ظاهر السياق أنه عين المعدود. لكن الراوي تردد فيه. وما رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة: (لكان أن يقف مائة عام) مشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر، لا لخصوص عدد معين، وقال الكرماني: تخصيص الأربعين بالذكر لكون كمال طور الإِنسان بأربعين كالنطفة والمضغة والعلقة، وكذا بلوغ الأشدّ، ويحتمل غير ذلك كذا في "مرقاة المفاتيح". هذا العدد له اعتبار في الشرع كالثلاث والسبع، وقد أفردت في أعداد السبع جزءاً وفي أعداد الأربعين آخر، كذا قال السيوطي في "التنوير".
(5) قوله: خيراً له، وفي ابن ماجه وابن حبان من حديث أبي هريرة: لكان أن يقف مائة عام خيراً له من الخطوة التي خطاها.
(6) بالنصب وعند الترمذي بالرفع على أنه الاسم.
(7) أي: أبو النضر.(2/27)
قَالَ (1) أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ أَرْبَعِينَ شَهْرًا (2) أَوْ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
272 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (3) بْنِ أَبِي سَعِيدٍ (4) الخُدْري، عَنْ أَبِيهِ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا كَانَ أحدُكم يصلِّي (5) فَلا يدَعْ (6) (7) أَحَدًا يمرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فإنْ أبى (8) فليقاتِلْه (9)
__________
(1) أي: بسر بن سعيد.
(2) وللبزّار من طريق أحمد بن عبدة، عن ابن عيينة، عن أبي النضر، لكان أن يقف أربعين خريفاً.
(3) ثقة، روى له مسلم والأربعة، مات سنة 112 هـ، كذا قال الزرقاني.
(4) هو سعد بن مالك الأنصاري.
(5) زاد الشيخان: إلى شيء يستره.
(6) أي: لا يترك.
(7) قوله: فلا يدع، لابن أبي شيبة عن ابن مسعود: إنَّ المرور بين يدي المصلّي يقطع نصف صلاته.
(8) أي: امتنع.
(9) قوله: فليقاتله، أي: فليدفعه بالقهر، ولا يجوز قتله، كذا قال بعض علمائنا، وقال ابن حجر: فإن أبى إلاَّ بقتله، فليقاتله، وإن أفضى إلى قتاله إياه، ومن ثمَّ جاء في رواية، فإن أبى فليقتله، قال ابن مالك: فإن قتله عملاً بظاهر الحديث، ففي العمد القصاص، وفي الخطأ الدية. وفيه دليل على أن العمل القليل لا يبطل الصلاة، وقال القاضي عياض: فإن دفعه بما يجوز فهلك، فلا قود عليه باتفاق العلماء، وهل يجب الدية أو يكون هدراً، فيه مذهبان للعلماء، وهما قولان(2/28)
فَإِنَّمَا (1) هُوَ شَيْطَانٌ (2) .
273 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن كَعْبٍ (3) أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَ يعلمُ المارُّ بَيْنَ يَدَيِ المصلِّي مَاذَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كَانَ (4) أَنْ يُخسَفَ بِهِ خَيْرًا لَهُ (5) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُكره (6) أنْ يَمُرَّ الرَّجُلُ بَيْنَ يَدَيِ المصلي، فإن أراد
__________
في مذهب مالك: نقله الطيبي كذا في "المرقاة"، وقال الزرقاني: أطلق جماعة من الشافعية أن له قتاله حقيقة، واستبعده في "القبس" وقال: المراد بالمقاتلة المدافعة، وقال الباجي: يحتمل أن يريد فليلعنه كما قال "قُتِلَ الخرَّاصون"، ويحتمل أن يريد يؤاخذه على ذلك بعد تمام صلاته ويوبِّخه.
(1) قوله: فإنما هو شيطان، أي فعله فعل شيطان، أو المراد شيطان الإنس، وفي رواية الإِسماعيلي: فإن معه الشيطان.
(2) استنبط منه ابن أبي جمرة بأن المراد بقوله: فليقاتله المدافعة لأن مقاتلة الشيطان إنما هي بالاستعاذة والتسمية ونحوها.
(3) قوله: كعب، هو كعب بن قانع الحميري، المعروف بكعب الأحبار من مُسلمة أهل الكتاب، قال معاوية: إنه أصدق هؤلاء الذي يحدثون عن الكتاب، مات سنة 32 هـ بحمص، كذا في "الإسعاف".
(4) قال الطيبي: المذكور ليس جواباً للو، بل هو دالّ على ما هو جوابها والتقدير لتمنّى الخسف.
(5) قوله: خيراً له، لأن عذاب الدنيا بالخسف أسهل من عذاب الإِثم، وهذا يحتمل أن يكون من الكتب السالفة، لأن كعباً من أهل الكتاب، فظاهر هذا كالحديث قبله يدل على منع المرور مطلقاً، ولو لم يجد مسلكاً سواه.
(6) أي: كراهة تحريم.(2/29)
أن يمرَّ بين يديه فليدارأ (1) مَا اسْتَطَاعَ، وَلا يُقَاتِلْهُ، فإنْ قاتَلَهُ (2) كَانَ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ (3) فِي صَلاتِهِ مِنْ قِتَالِهِ (4) إِيَّاهُ (5) أشدَّ عَلَيْهِ مِنْ مَمَرِّ هَذَا (6) بَيْنَ يَدَيْهِ (7) ، وَلا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى قِتَالَهُ إلاَّ مَا رُوي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَلَيْسَتِ العامَّة (8) عليها (9) ، ولكنها على
__________
(1) في نسخة: فليدرأ، أي: ليدفع بالإِشارة أو بالتسبيح أو نحو ذلك.
(2) قوله: فإن قاتله ... إلخ، يعني أنه ينبغي للمصلّي أن يدفع المارّ، فإن لم يندفع يدفع بأشد من المرة الأولى، ولا يقتله ولا يقاتله، فإنه إنْ قاتل وقتل فسدت صلاتُه لارتكاب العمل الكثير، فصار ما دخل على المصلّي من ارتكاب قتاله أشدّ من مرور المارّ بين يديه، فإن مروره بين يديه لا يُفسد صلاته، وإنما يوجب إثم المارّ والنقص في صلاته، فإذا اختار دفعَه بالقتال فسدت صلاته، فيلزم عليه اختيار الأعلى لدفع الأدنى، وهو منهي عنه بالأصول الشرعية، والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "فليقاتله" هو المبالغة في المدافعة لا القتال الحقيقي المفسد للصلاة، وهذا هو قول عامة العلماء خلافاً لبعض الشافعية.
(3) أي: على المصلّي.
(4) أي: المصلي.
(5) أي: المارّ.
(6) أي: المارّ.
(7) أي: المصلّي.
(8) أي: عامة الفقهاء.
(9) أي: على ظاهرها.(2/30)
مَا (1) وَصفتُ لَكَ (2) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
274 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
أنه قال (3) : لا يقطعُ الصلاةَ شيء.
__________
(1) وهو أن يدفعه ما استطاع.
(2) في نسخة: ذلك.
(3) قوله: إنه قال....إلخ، أخرجه الدارقطني، عن ابن عمر مرفوعاً، وسنده ضعيف. وجاء مثله مرفوعاً من حديث أبي سعيد عند أبي داود، ومن حديث أنس وأبي أمامة عند الدارقطني، وعن جابر عند الطبراني، وأخرج الطحاوي عن على وعمار: (لا يقطع صلاة المسلم شيء، وادرؤوا ما استطعتم) ، وعن عليّ: (لا يقطع صلاة المسلم كلب ولا حمار ولا امرأة ولا ما سوى ذلك من الدواب) ، وعن حذيفة أنه قال: (لا يقطع صلاتك شيء) ، وعن عثمان نحوه، وأخرج سعيد بن منصور عن على وعثمان مثله، ويعارضها حديث أبي ذر مرفوعاً: "إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره، إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الكلب الأسود والحمار والمرأة". رواه مسلم، وله أيضاً عن أبي هريرة مرفوعاً: "تقطعُ الصلاةَ المرأة والحمار والكلب" ولأبي داود، عن ابن عباس مرفوعاً: "إذا صلّى أحدكم إلى غير السترة، فإنه يقطع صلاته الحمار والخنزير واليهودي والمجوسي والمرأة".
واختلف العلماء في هذا الباب، فجماعة قالوا بظاهر ما ورد في القطع، ونُقل عن أحمد أنه قال: يقطع الصلاة الكلب الأسود، وفي النفس من المرأة والحمار شيء. والجمهور على أنه لا يقطع الصلاة شيء، وأجابوا عن معارضه بوجوه: أحدها وهو مسلك الطحاوي ومن تبعه أنه منسوخ لأن ابن عمر من رواته، وقد حكم بعدم قطع شيء، وثانيها: وهو مسلك الشافعي والجمهور على أن أحاديث القطع مؤوَّلة بشغل القلب وقطع الخشوع لإِفساد أصل الصلاة، وثالثها: مسلك أبي داود وغيره أنه إذا تنازع الخبران يعمل بما عمل به الصحابة، وقد ذهب أكثرهم ههنا(2/31)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهِ (1) نَأْخُذُ، لا يَقْطَعُ الصلاةَ شَيْءٌ مِنْ مارٍّ بَيْنَ يَدَيِ المصلِّي، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ.
82 - (بَابُ مَا يُستَحبّ مِنَ التَّطَوُّعِ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ دُخُولِهِ)
275 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَامِرُ (2) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَمْرِو (3) بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقي (4) ، عن أبي قتادة السُّلَمي (5) أن
__________
إلى عدم القطع، فليكن هو الراجح (وتأول الجمهور ما ورد في ذلك بالنسخ أو بقطع الخشوع، والحديث موقوف، وأخرجه الدارقطني وأبو داود مرفوعاً بإسناد ضعيف. انظر شرح الزرقاني 1/316) ، والكلام طويل مبسوط في موضعه.
(1) وفي نسخة: وبهذا.
(2) هو أبو الحارث المدني وثقه النسائي ويحيى وأبو حاتم وأحمد. كذا في "الإِسعاف".
(3) هو ثقة من كبار التابعين، مات سنة 104 هـ، يقال له رؤية، كذا ذكره الزرقاني.
(4) قوله: الزرقي، - بضم الزاء المعجمة وفتح الراء المهملة - نسبة إلى بني زريق بن عبد حارثة، بطن من الأنصار، ذكره السمعاني.
(5) قوله: السلمي، قال القاري: بضم فسكون. انتهى. وهو خطأ، فإن السمعاني ذكر أوَّلاً السَّلْمي بفتح السين وسكون اللام، وقال: إنه نسبة إلى الجَدّ، وذكر المنتسبين بها، ثم ذكر السُّلَمي بالضم وفتح اللام نسبة إلى سليم، قبيلة من العرب، وذكر المنتسبين بها، ثم ذكر السَّلَمي بفتح السين واللام، وقال: نسبة إلى بني سلمة، حي من الأنصار، وهذه النسبة وردت على خلاف القياس كما في سفر سفري ونمر نمري وأصحاب الحديث يكسرون اللام، ومنهم أبو قتادة الحارث بن ربعي السلمي الأنصاري. انتهى.(2/32)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِذَا (1) دَخَلَ (2) أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيُصَلِّ (3) رَكْعَتَيْنِ (4) قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ (5) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا تَطَوُّعٌ وَهُوَ حسن، وليس بواجب (6) .
__________
(1) قوله: إذا دخل ... إلخ، قد ورد الحديث على سبب، وهو أن أبا قتادة دخل المسجد فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً بين أصحابه، فجلس معهم، فقال له: ما منعك أن تركع؟ قال: رأيتك جالساً، والناس جلوس، فقال: إذا دخل أحدكم ... الحديث رواه مسلم.
(2) خُصَّ منه إذا دخل والإِمام يصلّي الفرض أو شرع في الإقامة.
(3) هو أمر ندب بالإِجماع سوى أهل الظاهر، فقالوا بالوجوب.
(4) هذا العدد لا مفهوم لأكثره باتفاق.
(5) قوله: قبل أن يجلس، فإن جلس لم يشرع له التدارك، كذا قال جماعة، وفيه نظر لما رواه ابن حبان عن أبي ذر أنه دخل المسجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلَّم: أركعتَ ركعتين؟ قال: لا، قال: قم، فاركعهما. ترجم عليه ابن حبان في صحيحه: (تحية المسجد لا تفوت بالجلوس) ، ومثله في قصة سُلَيْك، وقال المحبّ الطبري: يحتمل أن يقال وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة وبعده وقت جواز، واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر للندب، كذا ذكره الزرقاني.
(6) قوله: وليس بواجب، لأن النبي صلى الله عليه وسلَّم رأى رجلاً يتخطّى رقاب الناس فأمره بالجلوس، ولم يأمره بالصلاة كذا ذكره الطحاوي. وقال زيد بن أسلم: كان الصحابة يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلّون، وقال: رأيت ابن عمر يفعله، وكذا سالم ابنه، وكان القاسم بن محمد يدخل المسجد فيجلس ولا يصلي، ذكره الزرقاني، والكلام بعد موضع نظر.(2/33)
83 - (باب الانفتالِ (1) فِي الصَّلاةِ)
276 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى (2) بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ (3) بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبّان أَنَّهُ سَمِعَهُ يُحَدِّثُ عَنْ وَاسِعِ (4) بْنِ حَبّان (5) قَالَ: كُنْتُ أصلِّي فِي الْمَسْجِدِ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مسنِدٌ (6) ظَهْرَهُ إِلَى القِبلة، فَلَمَّا قضيتُ (7) صَلاتِي انصرفتُ إِلَيْهِ مِنْ قِبَل (8) شِقّي الأَيْسَرِ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَنْصَرِفَ عَلَى يمينك؟ قلت: رأيتُك وانصرفتُ إليك (9) ،
__________
(1) أي الانصراف يميناً وشمالاً.
(2) الثلاثة في هذا الإِسناد تابعيون، لكن قيل: إن لواسع رؤية، كذا قال السيوطي.
(3) الأنصاري المدني، وثَّقه النسائي وابن معين وأبو حاتم، مات بالمدينة
سنة 121 هـ، كذا في "الإِسعاف".
(4) وثَّقه أبو زرعة، كذا في "الإِسعاف".
(5) بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء، هو ابن منقذ بن عمرو الأنصاري.
(6) فيه جواز الاستناد إلى الكعبة، لكن لا ينبغي لأحد أن يصلي مواجهاً غيره.
(7) أتممت.
(8) بكسر ففتح، بمعنى جهة.
(9) وكان ابن عمر على شماله.(2/34)
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَإِنَّكَ قَدْ أصبتَ فَإِنَّ قَائِلا (1) يَقُولُ: انصرفْ (2) عَلَى يَمِينِكَ، فَإِذَا كنتَ (3) تصلِّي انْصَرِفْ حَيْثُ أحببتَ عَلَى يَمِينِكَ أَوْ يَسَارِكَ، وَيَقُولُ (4) نَاسٌ (5) : إِذَا قعدتَ عَلَى حَاجَتِكَ
__________
(1) قوله: فإن قائلاً يقول ... إلخ، كأنه يرد على من ألزم الانصراف عن اليمين مع ثبوت الانصراف في كلا الجانبين عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ففيه أن من أصرَّ على مندوب والتزمه التزاماً هجر ما عداه يأثم، وقد ثَبَتَ الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في جانب اليمين واليسار من حديث ابن مسعود، فإنه قال: "لا يجعل أحدكم للشيطان شيئاً من صلاته يرى أن حقاً عليه أن لا ينصرف إلاَّ عن يمينه، لقد رأيت رسول الله كثيراً ينصرف عن يساره. وروى مسلم عن أنس، قال: أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه. وجمع النووي بينهما بأن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كان يفعل تارة بهذا وتارة بهذا، فأخبر كلٌّ ما اعتقده أنه الأكثر. وجمع ابن حجر بوجه آخر، وهو أن يُحمل حديث ابن مسعود على حالة الصلاة في المسجد لأن الحجرة النبوية كانت من جهة يساره، ويُحمل حديث أنس على ما سوى ذلك كحال السفر ونحوه. وبالجملة الانصراف في كلا الجهتين ثابت، فإلزام اليمين إلزام بما لم يلزمه الشرع، نعم، الجمهور استحبوا الانصراف إلى اليمين لكونه أفضل، وبه صرح كثير من أصحابنا.
(2) أي: وجوباً.
(3) هو قول ابن عمر رداً على القائل.
(4) قوله: ويقول، يشير بذلك إلى من كان يقول بعموم النهي في المصر والصحراء، وهو مروي عن أبي أيوب وأبي هريرة ومعقل الأسدي.
(5) قوله: ويقول ناس ... إلخ، فيه دليل على أن الصحابة كانوا يختلفون في معاني السنن، فكان كلّ واحد منهم يستعمل ما سمع على عمومه، فمن ههنا وقع بينهم الاختلاف، كذا في "الكواكب الدراري شرح صحيح البخاري" للكرماني.(2/35)
فَلا تَسْتَقْبِلِ (1) القِبلةَ وَلا بيتَ الْمَقْدِسِ (2) ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ (3) : لَقَدْ رقيتُ (4) عَلَى ظَهْرِ بيتٍ (5) لنا (6)
__________
(1) قوله: فلا تستقبل القبلة..إلخ، اختلفوا فيه على أقوال، فمنهم من قال: يجوز استقبال القبلة واستدبارها بالغائط والبول في المِصر دون الصحراء، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في رواية، والثاني: لا يجوز مطلقاً، وهو مذهب الحنفية أخذاً من حديث أبي أيوب المروي في "سنن أبي داود" وغيره، والثالث: جوازهما مطلقاً، والرابع: عدم جواز الاستقبال مطلقاً، وجواز الاستدبار مطلقاً، كذا ذكره حسين بن الأهدل في رسالته "عدة المنسوخ من الحديث"، وذكر الحازمي أن ممن كره الاستقبال والاستدبار مطلقاً مجاهد وسفيان الثوري وإبراهيم النخعي، وممن رخص مطلقاً عروة بن الزبير، وحُكي عن ربيعة بن عبد الرحمن، وحكي عن ابن المنذر الإِباحة مطلقاً لتعارض الأخبار.
(2) قوله: المقدس، يقال: بفتح الميم وإسكان القاف وكسر الدال، ويقال: بضم الميم وفتح القاف وتشديد الدال المفتوحة لغتان مشهورتان، كذا في "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي رحمه الله.
(3) أراد واسع التأكيد بإعادة قوله: قال عبد الله.
(4) أي: صعدت.
(5) قوله: بيت لنا، وفي رواية: على ظهر بيتنا، وفي رواية: على ظهر بيت حفصة، أي: أخته كما صرَّح به في رواية مسلم، ولابن خزيمة: دخلت على حفصة، فصعدت ظهر البيت. وطريق الجمع أن إضافة البيت إليه على سبيل المجاز لكونها أخته، كذا في "الفتح".
(6) وفي رواية البخاري ومسلم: على ظهر بيت أختي، زاد البيهقي: فحانت مني التفاتة.(2/36)
فرأيت (1) رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عَلَى حَاجَتِهِ (2) مستَقْبِلَ (3) بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ نَأْخُذُ، يَنْصَرِفُ الرجل إذا
__________
(1) قوله: فرأيت، وفي رواية ابن خزيمة، فأشرفتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وهو على خلائه، وفي رواية له: فرأيته يقضي حاجته، وللحكيم الترمذي بسند صحيح فرأيته في كنف. وانتفى بهذا إيراد من قال ممن يرى الجواز مطلقاً: يحتمل أن يكون رآه في الفضاء، ولم يقصد ابن عمر الإِشراف في تلك الحالة وإنما صعد السطح لضرورة له، فحانت منه التفاتة، نعم لما اتفقت رؤيته في تلك الحالة من غير قصد أحبَّ أن لا يخلي ذلك من فائدة، فحفظ هذا الحكم الشرعي.
(2) قوله: على حاجته، أخذ أبو حنيفة بظاهر حديث: "لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها بغائط أو بول"، فحرَّم ذلك في الصحراء والبنيان، وخص آخرون بالصحراء لحديث ابن عمر، قال القاضي أبو بكر بن العربي: المختار هو الأول لأنّا إذا نظرنا إلى المعاني فالحرمة للقِبلة، فلا يختلف في البنيان والصحراء، وإن نظرنا إلى الآثار، فحديث أبي أيوب "لا تستقبلوا" الحديث عامّ، وحديث ابن عمر لا يعارضه لأربعة أوجه: أحدها أنه قول: وهذا فعل، ولا معارضة بين القول والفعل، والثاني: أن الفعل لا صيغة له، وإنما هو حكاية حال وحكايات الأحوال معرَّضة الأعذار، والأسباب، والأقوال لا تحتمل ذلك، والثالث: أن هذا القول شرع منه، وفعله عادة، والشرع مقدم على العادة، والرابع: أن هذا الفعل لو كان شرعاً لما ستر به. انتهى. وفي الآخيرين نظر، لأن فعله شرع والتستُّر عند قضاء الحاجة مطلوب بالإجماع، وقد اختلف العلماء في علَّة النهي على قولين: أحدهما: أن في الصحراء خلقاً من الملائكة والجن، فيستقبلهم لفرجه، والثاني: أن العلة إكرام القبلة، قال ابن العربي: هذا التعليل أولى، ورجَّحه النووي أيضاً، كذا في "زهر الرُّبى على المجتبى" للسيوطي.
(3) قال أحمد: حديث ابن عمر ناسخ لنهي استقبال بيت المقدس.(2/37)
سلَّم عَلَى أَيِّ شقِّه (1) أَحَبّ، وَلا بَأْسَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِالْخَلاءِ مِنَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ بَيْتَ المقدس (2) ، إنما يُكره (3)
__________
(1) أي: على جنبه الأيمن أو الأيسر.
(2) قوله: بيت المقدس، وأما ما أخرجه أبو داود من حديث معقل بن أبي معقل (في الأصل: "معقل بن الأسدي"، هو معقل بن أبي معقل الأسدي كما في بذل المجهود: 1/27) الأسدي، قال: نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلَّم أن نستقبل القبلتين بغائط أو بول، فقال الخطابي في شرح سنن أي داود: يحتمل أن يكون ذلك لمعنى الاحترام لبيت المقدس إذ كان قبلةً لنا، ويحتمل أن يكون ذلك من أجل استدبار الكعبة، لأن من استقبل بيت المقدس بالمدينة فقد استدبر الكعبة. انتهى. وقال أبو إسحاق: إنما نهى عن استقباله بيت المقدس حين كان قبلة، ثم نهى عن استقبال القبلة حين صار قبلة، فجمعهما الراوي ظناً منه على أن النهي مستمر، ونقل الماورديّ عن بعض المتقدِّمين أن المراد بالنهي لأهل المدينة فقط، كذا في "مرقاة الصعود".
(3) قوله: إنما يُكره، لما أخرجه الستة، عن أبي أيوب مرفوعاً: لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها. وأخرج الجماعة إلاَّ البخاري، عن سلمان: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أن نستقبل القبلة بغائطٍ أو بول. وأخرج أبو داود ومسلم وغيرهما، عن أبي هريرة مرفوعاً: إذا جلس أحدكم إلى حاجته، فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها. وأخرج الدارقطني، عن طاووس مرسلاً مرفوعاً: إذا أتى أحدكم البراز، فليكرم قبلة الله، ولا يستقبلها ولا يستدبرها. وأخرج أبو جعفر الطبري في "تهذيب الآثار" عن عبد الله بن الحسن، عن أبيه، عن جده مرفوعاً: من جلس يبول قبالة القبلة، فذكر فتحرَّف عنها إجلالاً لها، لم يقُمْ من مجلسه حتى يُغفر له.
وبهذه الأحاديث أخذ أصحابنا إطلاق كراهة الاستقبال سواء كان في البنيان أو الصحراء، ورجَّحوها لكونها قولية، ولكونها ناهية على خبر يدل على الترخّص(2/38)
أَنْ يَسْتَقْبِلَ (1) بِذَلِكَ الْقِبْلَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
84 - (بَابُ صَلاةِ المُغمى عَلَيْهِ)
277 - أخبرنا مالك، حدثنا نافع، عن ابن عمر: أَنَّهُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَلَمْ يقضِ (2) الصَّلاةَ (3) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (4) نَأْخُذُ إِذَا أُغمي عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَأَمَّا إِذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ أقَلَّ قَضَى (5)
__________
في ذلك فعلاً، وهو ما أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما عن جابر قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم أن نستقبل القبلة، فرأيته قبل أن يُقبض بعام يستقبلها في البول.
(1) قوله: أن يستقبل، وأما الاستدبار ففي رواية عن أبي حنيفة لا يُكره، وفي رواية عنه يكره وهو الأصح عند صاحب "الهداية" وغيره لورود النهي عنه كالاستقبال (انظر عمدة القاري 1/829، وفتح الباري 1/173، والمحلّى لابن حزم 1/194) .
(2) قوله: فلم يقضِ، قال مالك: ذلك في ما نرى، والله أعلم، أن الوقت قد ذهب، فأما من أفاق في الوقت فهو يصلّي وجوباً، إذ ما به السقوط ما به الإِدراك.
(3) أي: الفائتة حال الإِغماء.
(4) قوله: وبهذا نأخذ، وفيه خلاف الشافعي ومالك، فإنهما قالا بسقوط الصلاة بالإِغماء إلاَّ إذا أفاق في الوقت، قلّت أو كثُرت، لحديث عائشة سألت رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم عن الرجل يُغمى عليه فيترك الصلاة؟ فقال: لا لشيء من ذلك قضاء إلاَّ أن يفيق في وقت صلاة، فإنه يصليه. وفي سنده الحكم بن عبد الله ضعيف جداً، حتى قال أحمد: أحاديثه موضوعة، ذكره الزيلعي.
(5) قوله: قضى صلاته، لما روى في كتاب "الآثار": أخبرنا أبو حنيفة عن حماد، عن إبراهيم، عن ابن عمر أنه قال: في الذي يُغمى عليه يوماً وليلة يقضي. وعلى هذا فما أخرجه مالك محمول على ما أفاق بعد اليوم والليلة.(2/39)
صَلاتَهُ (1) .
278 - بَلَغَنَا (2) عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: أَنَّهُ أُغمي عَلَيْهِ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ أَفاق فَقَضَاهَا (3) ، أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ أَبُو مَعْشَرٍ (4) الْمَدِينِيُّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ (5) .
85 - (بَابُ صَلاةِ الْمَرِيضِ)
279 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: إِذَا لَمْ يستطع المريض السجود (6) أومى برأسه.
__________
(1) لأنه لا حَرَج في ذلك.
(2) قوله: بلغنا، أسنده الدارقطني، عن يزيد مولى عمار بن ياسر، أن عمار بن ياسر أُغمي عليه في الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وأفاق نصف الليل، فقضاهُنَّ، ومن طريقه رواه البيهقي، وقال: قال الشافعي: هذا ليس بثابت، ولو ثبت فمحمول على الاستحباب، قال البيهقي: وعلَّته أن يزيد مولى عمّار مجهول والراوي عنه إسماعيل بن عبد الرحمن السدّي كان يحيى بن معين يضعِّفه.
(3) في نسخة: فقضى.
(4) قوله: أبو معشر، اسمه نجيح بن عبد الرحمن السِّنْدي، بكسر السين وسكون النون، مولى بني هاشم، مشهور بكنيته، ويقال: اسمه عبد الرحمن بن الوليد بن هلال، فيه ضعف، قال الترمذي: تكلم فيه بعض مِن قِبَل حفظه وقال أحمد: صدوق، لا يقيم الإِسناد، وقال ابن عدي: يُكتب حديثه مع ضعفه، كذا في "الكاشف" و"التقريب" و"قانون الموضوعات".
(5) أي أصحاب عمار.
(6) بسبب وجع الرأس ونحو ذلك.(2/40)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَلا يَنْبَغِي (1) لَهُ (2) أَنْ يسجُدَ عَلَى عُودٍ وَلا شَيْءٍ (3) يُرْفَعُ (4) إِلَيْهِ، وَيَجْعَلُ سجودَه (5) أخفضَ مِنْ رُكُوعِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
86 - (بَابُ النُّخَامَةِ (6) فِي الْمَسْجِدِ وَمَا يُكره مِنْ ذَلِكَ)
280 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما:
__________
(1) قوله: وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى عُودٍ ... إلخ، لما أخرجه البزار والبيهقي في "المعرفة"، عن أبي بكر الحنفي، عن سفيان الثوري، نا أبو الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عاد مريضاً، فرآه يصلّي على وسادة، فأخذها فرمى بها فأخذ عوداً ليصلّي عليه، فأخذه فرمى به، وقال: صلِّ على الأرض إن استطعت وإلاَّ فأومِ إيماءً، واجعل سجودَك أخفضَ من ركوعك. ورواه أبو يعلى أيضاً بطريق آخر من حديث جابر والطبراني من حديث ابن عمر. وروى أيضاً من حديثه مرفوعاً: "من استطاع منكم أن يسجد فليسجد، ومن لم يستطع فلا يرفع إلى جبهته شيئاً يسجد عليه، وليكن ركوعه وسجوده يومئ برأسه". وذكر شرّاح "الهداية" أنه يُكره السجود على شيء مرفوع إليه، فإن فعل ذلك أجزأه لما روى الحسن، عن أمِّه قالت: رأيت أمّ سلمة تسجد على وسادة من أدم من رَمَدٍ بها، أخرجه البيهقي، وعن ابن عباس أنه رخَّص في السجود على الوسادة، ذكره البيهقي، وذكر ابن أبي شيبة، عن أنس أنه كان يسجد على مرفقه.
(2) بل هو مكروه كما في الأصل.
(3) أي: وعلى شيء آخر كوسادة ونحوها.
(4) بصيغة المجهول أو المعلوم.
(5) أي: إيماء السجود.
(6) قوله: النخامة، يُقال: تنخَّم وتنخَّع، رمى بالنُّخامة والنُّخاعة، بضمّ أولها،(2/41)
أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم رَأَى بُصَاقًا (1) فِي قِبْلَةِ (2) الْمَسْجِدِ فحكَّه (3) (4) ، ثُمَّ أَقْبَلَ (5) عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: إِذَا كَانَ (6) أحدُكُم يصلِّي فَلا (7) يبصقْ (8) قِبَل وَجْهِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ (9)
__________
ما يخرج من الخيشوم والحلقوم. البصاق من الفم والمخاط من الأنف والنخامة من الأنف.
(1) قوله: بصاقاً، بصاد مهملة وفي لغة بالزاء المعجمة، وأخرى بالسين. وضُعِّفت، والباء مضمومة في الثلاث: هو ما يسيل من الفم، كذا ذكره الزرقاني.
(2) أي: في حائط من جهة قبلة المسجد.
(3) قوله: فحكَّه، في رواية أيوب عن نافع، ثم نزل فحكَّه بيده، وفيه إشعار بأنه رآه حال الخُطبة، وبه صرَّح به في رواية الإسماعيلي: زاد (وأحسبه دعا بزعفران فلطخه به) ، زاد عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب: (فلذلك صنع الزعفران في المساجد) ، كذا ذكره الزرقاني.
(4) أي: أزاله بيده.
(5) بوجهه الكريم.
(6) قوله: إذا كان....إلى آخره، قال الباجي: خصَّ بذلك حال الصلاة لفضيلة تلك الحال ولأنه حينئذٍ يكون مستقبل القبلة.
(7) بالجزم على النهي.
(8) أي: مطلقاً لا في جدار المسجد ولا في غيره.
(9) قال ابن عبد البر: هو كلام على التعظيم لشأن القبلة. قوله: فإن الله تعالى، قد نزع به المعتزلة القائلون بأن الله في كل مكان، وهو جهل واضح. وهذا التعليل يدل على حرمة البزاق في القبلة سواء كان في المسجد أم لا، ولا سيَّما من(2/42)
تَعَالَى قِبَل (1) وَجْهِهِ إِذَا صلَّى.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لا يَبْصُقَ تِلْقَاءَ (2) وَجْهِهِ وَلا عَنْ يَمِينِهِ (3) وليبصقْ تَحْتَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى (4) .
87 - (بَابُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ (5) يَعْرَقَانِ فِي ثَوْبٍ)
281 - أَخْبَرَنَا مالك، حدَّثنا نافع، عن ابن عمر: أنه كَانَ يَعْرَقُ (6) فِي الثَّوْبِ (7) وَهُوَ جُنُبٌ، ثُمَّ يصلي فيه.
__________
المصلِّي، وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبان، عن حذيفة مرفوعاً: "من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه"، ولابن خزيمة، عن ابن عمر مرفوعاً: "يُبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه"، كذا ذكره الزرقاني.
(1) بكسر القاف وفتح الباء أي قدَّام وجهه، قوله: قبل وجهه، هذا على التشبيه أي كأن الله في مقابل وجهه، وقال النووي: معناه فإن الله قِبَل الجهة التي عظَّمها، وقيل: معناه فإن قِبلَة اللهِ قِبَل وجهه أو ثوابه أو نحو ذلك.
(2) أي: طرف وجهه لأنه جهة الكعبة.
(3) لشرف الملك.
(4) أو عن يساره إن لم يكن هناك رجل، بذلك وردت الأخبار والسنن، قوله: وليبصق، أي إذا كان تحت رجله شيء من ثيابه وإلاَّ فيُكره فوق أرض المسجد وكذا فوق حصيره.
(5) حكى النووي الاتفاق على طهارة سؤر الحائض وعَرَقها.
(6) بفتح الياء والراء.
(7) الذي هو لابسه، وفي معنى الجنب الحائض والنُّفَساء.(2/43)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ لا بَأْسَ بِهِ مَا لَمْ يُصب (1) الثَّوْبَ مِنَ الْمَنِيِّ (2) (3) شَيْءٌ، وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله -.
88 - (باب بَدْأ (4) أَمْرِ القِبلة وَمَا نُسخ مِنْ قِبْلَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ)
282 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عبدُ اللَّهِ (5) بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عبدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: بينما الناسُ في صلاة (6)
__________
(1) قوله: ما لم يصب، لما أخرجه الطحاوي وغيره عن معاوية أنه سأل أمَّ حبيبة: هل كان النبي يصلِّي في الثوب الذي يضاجعك فيه؟ قالت: نعم، إذا لم يُصبْه أذى.
(2) ونحوه من النجاسات.
(3) فإنه نجس، وأما العرق فليس بنجس (قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن عرق الجنب طاهر، ثبت ذلك عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما من الفقهاء، كذا في "الأوجز" عن "المغني" وبسط الكلام على ذلك العيني فارجع إليه لو شئت، وقال ابن قدامة: سؤر الآدمي طاهر سواء كان مسلماً أو كافراً عند عامة أهل العلم إلاَّ أنه حُكي عن النخعي، أنه كره سؤر الحائض. انظر الكوكب الدري 1/156) .
(4) بالفتح أي ابتداؤه.
(5) قوله: عبد الله، قال ابن عبد البر: كذا رواه جماعة الرواة إلاَّ عبد العزيز بن يحيى، فإنه رواه عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، والصحيح ما في "الموطأ" (شرح الزرقاني 1/395) .
(6) قوله: في صلاة الصبح، قال الحافظ (فتح الباري 1/506، ولامع الدراري 1/585) : هذا لا يخالف حديث البراء(2/44)
الصبح إذ أتاه (1) رجل (2) ،
__________
في "الصحيحين" أنهم كانوا في صلاة العصر لأن الخبر وصل وقت صلاة العصر إلى من هو داخل المدينة، وهو بنو حارثة، وذلك في حديث البراء، والآتي إليهم بذلك عبّاد بن بشر، كما رواه ابن مندة وغيره، وقيل: عباد بن نهيك بفتح النون وكسر الهاء ورجح أبو عمر الأول وقيل عباد بن نصر الأنصاري، والمحفوظ عباد بن بشر، ووصل الخبر وقت الصبح إلى من هو خارج المدينة، وهم بنو عمرو بن عوف أهل قُباء، وذلك في حديث ابن عمر.
(1) ولمسلم في صلاة الغداة (أخرجه مسلم في باب تحويل القبلة من
القدس إلى الكعبة، رقم الحديث 14) .
(2) قوله: رجل، ذكر السعد مسعود بن عمر التفتازاني أنَّه ابن عمر وأنس، حيث قال في "التلويح حاشية التوضيح" عند قول صدر الشريعة: وأما إخبار الصبي والمعتوه فلا يُقبل منه في الديانات أصلاً ... إلى آخره، فإن قيل أن ابن عمر أخبر أهل قباء بتحويل القبلة فاستداروا كهيآتهم وكان صبيا قلنا: لو سُلِّم كونه صبياً، فقد رُوي أنه أخبرهم بذلك أنس، فيحتمل أنهما جاءا جميعاً فأخبراهم. انتهى. قلت: لم أقف لهاتين الروايتين على سند، ولم أطِّلع له ما يدلّ عليه من كلمات المحدِّثين، فإنه لم يذكر أحد منهم أن المُخْبِر بذلك ابن عمر وأنس، بل ذكر بعضهم عبّاد بن بشر، وبعضهم عبّاد بن نَهيك، حكاهما السيوطي في "تنوير الحوالك" (1/201) ، جزم بالأول القسطلاّني في "إرشاد الساري"، وذكر الحافظ ابن حجر وكفاك به اطِّلاعاً أن مُخبر أهل قباء لم يسمّ وإن كان ابن طاهر وغيرُه نقلوا أنه عبّاد بن بشر، ففيه نظر، لأن ذلك إنما ورد في حق بني حارثة في صلاة العصر، فإن كان ما نقله محفوظاً، فيحتمل أن عبّاداً أتى بني حارثة أولاً في العصر، ثم توجَّه إلى أهل قباء وقت الصبح فأعلمهم بالفجر، ومما يدلّ على تعدّدهما(2/45)
فَقَالَ إنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم قَدْ أُنزل عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ (1) قرآنٌ (2) وَقَدْ أُمر (3) أَنْ يستقبلَ القِبلة، فاستقبَلوها (4) ، وَكَانَتْ وجوهُهُم إلى الشام (5)
__________
ما روى مسلم عن أنس أن رجلاً من بني سلمة مرَّ وهم ركوع في صلاة الفجر. انتهى (فتح الباري 1/506) .
(1) قوله: الليلة، قال الباجي: أضاف النزول إلى الليل على ما بلغه، ولعله لم يعلم بنزوله قبل ذلك، أو لعله صلى الله عليه وسلَّم أمر باستقبال الكعبة بالوحي، ثم أُنزل عليه القرآن من الليلة.
(2) بالتنكير لإِرادة البعضية، والمراد قوله تعالى: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ..} الآيات.
(3) قوله: وقد أُمر، وقع في رواية البخاري أنَّ أول صلاة صلاّها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم متوجِّهاً إلى الكعبة العصر، وعند ابن سعد: حُوِّلت القبلة في صلاة الظهر أو العصر على التردُّد. والتحقيق أنَّ أول صلاةٍ صلاّها في بني سلمة لما مات بشر بن البراء بن معرور الظهر وأول صلاة صلاها في المسجد النبوي العصر، كذا في "فتح الباري".
(4) قوله: فاستقبلوها، بفتح الموحَّدة على رواية الأكثر، أي: فتحوَّل أهل قباء إلى جهة الكعبة، ويحتمل أن فاعله النبي صلى الله عليه وسلَّم ومن معه، وضمير وجوههم له أو لأهل قباء، وفي رواية: فاستقبلوها بكسر الموحدة - أمر - ويأتي في ضمير وجوههم الاحتمالان، وعَوْده إلى أهل قباء أظهر، ويرجِّح رواية الكسر رواية البخاري في "التفسير" بلفظ: وقد أمر أن يستقبل القبلة، ألا فاستقبلوها، فدخول حرف الاستفتاح يشعر بأن ما بعده أمر لا خبر، قال الزرقاني (1/396) .
(5) أي: بيت المقدس.(2/46)
فَاسْتَدَارُوا (1) إِلَى الْكَعْبَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ فِيمَنْ أَخْطَأَ القِبلة حَتَّى صلَّى رَكْعَةً أَوْ رَكْعَتَيْنِ (2) ، ثُمَّ عَلِم أَنَّهُ يصلِّي إِلَى غَيْرِ القِبلة فلينحرفْ (3) إلى القِبلة
__________
(1) قوله: فاستداروا، وقع بيان كيفية التحويل في حديث تويلة بنت أسلم عند ابن أبي حاتم، قالت فيه: فتحوَّل النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، فصلَّينا السجدتين الباقيتين إلى المسجد الحرام. وتصويره أن الإِمام تحوَّل من مكانه إلى مؤخَّر المسجد، لأن من استقبل القبلة استدبر بيت المقدس، وهو لو دار كما هو في مكانه لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف، ولمّا تحوَّل الإِمام تحولت الأرض، وهذا يستدعي عملاً كثيراً في الصلاة، فيحتمل أنه وقع قبل تحريم العمل الكثير، ويحتمل أنه اغتُفر للمصلحة أو لم تتوالَ الخُطا عند التحويل، بل وقعت مفترقة، وفي الحديث دليل على أن حكم الناسخ لا يثبت في حق المكلَّف حتى يبلغه، لأن أهل قباء لم يُؤمروا بالإِعادة مع أن الأمر باستقبال الكعبة وقع قبل صلاتهم، واستنبط منه الطحاوي أن من لم تبلغه الدعوة ولم يمكنه استعلام ذلك فالفرض لا يلزمه، وفيه قبول خبر الواحد (والأوجه أن الخبر كان محتفاً بالقرائن، أفادت القطع عندهم، وهي انتظاره صلى الله عليه وسلّم من قبل ذلك، فقد ورد أنه يدعو وينظر إلى السماء. أوجز المسالك 4/96) ، كذا في "شرح الزرقاني".
(2) أي: بعد ما تحرّى فإنه لو صلّى بغير تحرٍّ لم يجز، كذا قالوا (قال الباجي في المنتقى 1/340: ظاهر الحديث يدل على أنهم بنوا على ما تقدم من صلاتهم، ولو شرع أحد بصلاته إلى غير القبلة وهو يظنها إلى القبلة ثم تبيَّن له، فإن كان منحرفاً انحرافاً يسيراً رجع إلى القبلة وبنى، وإن كان منحرفاً عنها انحرافاً كثيراً استأنف الصلاة، والفرق بينه وبين أهل قباء أنهم افتتحوا الصلاة إلى ما شرع لهم من القبلة، فلمّا طرأ النسخ في نفس العبادة لم يجز إفساد ما تقدَّم منها على الصحة. اهـ وفي الأوجز 4/96 لا تفصيل عند الحنفية وتصح صلاته بكل حال ومذهب الشافعية الإعادة مطلقا لمن اجتهد في القبلة فأخطأ كما في الفتح وغيره) .
(3) كأهل قباء إذا علموا أنهم يصلّون إلى غير القبلة.(2/47)
فَيُصَلِّي مَا بَقِيَ ويَعتدّ (1) بِمَا مَضَى، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
89 - (بَابُ الرَّجُلِ يُصَلِّي بِالْقَوْمِ (2) وَهُوَ جُنُب أَوْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ)
283 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا إسماعيلُ بنُ أَبِي الْحَكِيمِ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عمرَ بنَ الْخَطَّابِ صَلَّى (3) الصُّبْحَ، ثُمَّ رَكِبَ (4) إِلَى الجُرُف (5) ، ثُمَّ بَعْدَ مَا طَلَعَتِ الشمسُ رَأَى فِي ثَوْبِهِ احْتِلامًا (6) ، فَقَالَ: لَقَدِ احتلمتُ، وَمَا شَعَرتُ (7) ، وَلَقَدْ سلِّط عَلَيَّ الاحْتِلامُ منذُ (8)
__________
(1) أي: لا يحتاج إلى استئناف الصلاة حتى يجوز أن تقع أربع ركعات في أربع جهات.
(2) أي: وهو يظن أنه على طهارة.
(3) صرح أن صلاته كانت بالناس.
(4) قوله: ثم ركب إلى الجُرُف، فيه أن الإِمام من وَلِيَ شيئاً من أمور المسلمين له أن يتعاهد ضيعته وأمور دنياه.
(5) بضم الجيم والراء وفاء، قال الرافعي: على ثلاثة أميال من المدينة من جانب الشام.
(6) أي: أثره وهو المني.
(7) بفتحتين، أي: علمت.
(8) قوله: منذ وُلِّيْتُ أمرَ الناس، قال الباجي: يحتمل أن يريد أن ذلك كان وقتاً لابتلائه لمعنى من المعاني، لم يذكره، ووقَّته بما ذكر من ولايته، ويحتمل أن(2/48)
وُلِّيتُ أمرَ النَّاس ثُمَّ غَسَلَ (1) مَا رَأَى في ثوبه،
__________
شغله بأمر الناس واهتمامه بهم صرفه عن الاشتغال بالنساء فكثر عليه الاحتلام، كذا في "التنوير" (1/68، وانظر المنتقى 1/101، وأوجز المسالك 1/295) .
(1) قوله: ثم غسل، في غسل عمر الاحتلام من ثوبه دليلٌ على نجاسة المني لأنه لم يكن ليشتغل مع شغل السفر بغسل شيء طاهر. ولم يختلف العلماء في ما عدا المني من كل ما يخرج من الذَّكَر أنه نجس، وفي إجماعهم على ذلك ما يدل على نجاسة المنيّ المختلَف فيه، ولو لم يكن له علة جامعة إلاَّ خروجَه مع البول والمذي والودي مخرجاً واحداً لكفَى، وأما الرواية المرفوعة فيه: فروى عمرو بن ميمون، عن سليمان بن يسار، عن عائشة: كنت أغسله من ثوب رسول الله (أخرجه البخاري 1/55) . وروى همام والأسود عنها قالت: كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم (سنن ابن ماجه 1/99) . وحديث همام والأسود أثبت من جهة الإِسناد. وأما اختلاف السلف والخلف في نجاسة المني، فرُوي عن عمر وابن مسعود وجابر بن سمرة: أنهم غسلوه، وأمروا بغسله. ومثله عن ابن عمر وعائشة على اختلافٍ عنهما، وقال مالك: غسل الاحتلام واجب، ولا يجزئ عنده وعند أصحابه في المني وفي سائر النجاسات إلاَّ الغسل بالماء، ولا يجزئ فيه الفرك. وأما أبو حنيفة وأصحابه، فالمنيّ عندهم نَجَس، ويجري فيه الفرك على أصلهم في النجاسة، وقال الحسن بن حيّ: تُعاد الصلاة من المني في الجسد وإن قلَّ، ولا تعاد من المني في الثوب، وكان يفتي مع ذلك بفركه عن الثوب. وقال الشافعي: المني طاهر، ويفركه إن كان يابساً، وإن لم يفركه فلا بأس به. وعند أبي ثور، وأحمد، وإسحاق، وداود: طاهر كقول الشافعي، ويستحبون غسله رطباً وفركه يابساً، وهو(2/49)
ونَضَحَه (1) ، ثُمَّ اغْتَسَلَ ثُمَّ قَامَ (2) فَصَلَّى الصُّبْحَ بَعْدَ مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخذ، ونرى (3)
__________
قول ابن عباس وسعد، كذا في "الاستذكار" (1/359. وذهب الشافعي وأحمد في أصح قوليه وإسحاق إلى أن المنيّ طاهر، وإنما يغسل الثوب منه لأجل النظافة لا للنجاسة، وروي ذلك عن عليّ وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر وعائشة، وذهب أبو حنيفة ومالك والثوري والأوزاعي، والليث، والحسن بن حي إلى أنه نجس غير أنَّ أبا حنيفة يقول بإجزاء الفرك، ولا يجزئ عندهما إلاَّ الغسل كحكم سائر النجاسات. هذا ملخَّص ما في "شرح المهذَّب" 2/554) .
(1) أي: رشّ ما لم يَرَ فيه أذى، لأنه شكَّ هل أصابه المني أم لا؟ ومن شك في ذلك وجب نضحه تطييباً للنفس. قوله: ونضحه، لا خلاف بين العلماء في أن النضح في حديث عمر هذا معناه الرشّ وهو عند أهل العلم طهارة لما شك فيه كأنهم جعلوه رافعاً للوسوسة، ندب بعضهم إلى ذلك، وأباه بعضهم، وقال: لا يزيده النضح إلاَّ شراً، كذا قال ابن عبد البَرّ (الاستذكار 1/360) .
(2) قوله: قام، فيه دليل على ما ذكره أصحابنا وغيرهم أنَّ من رأى في ثوبه أثر احتلام، ولم يتذكَّر المنام وقد صلَّى فيه قبل ذلك يحمله على آخر نومة نامها، ويعيدُ ما صلّى بينه وبين آخر نومته، وهو من فروع الحادث يُضاف إلى أقرب الأوقات.
(3) قوله: ونرى ... إلى آخره، فيه خلاف بين الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة المجتهدين، فقال مالك وأصحابه والثوري والأوزاعي والشافعي: لا إعادة على من صلّى خلف من نَسِيَ الجنابة وصلّى ثم تذكَّر، إنما الإِعادة على الإِمام فقط، ورُوي ذلك عن عمر، فإنه لمّا صلّى الصبح بجماعة، ثم غدا إلى أرضه بالجُرُف، فوجد في ثوبه احتلاماً أعاد صلاته، ولم يأمرهم بالإِعادة. وروى(2/50)
أَنَّ مَنْ عَلِمَ (1) ذَلِكَ مِمَّنْ صلَّى خَلْفَ عُمَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يعيدَ الصَّلاةَ كَمَا أَعَادَهَا عُمَرُ لأَنَّ الإِمام (2) إِذَا فَسَدَتْ صَلاتُهُ فَسَدَتْ صَلاةُ مَنْ خَلْفَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رحمه الله -.
__________
ابن أبي شيبة عن الحارث، عن عليّ في الجنب يصلّي بالقوم، قال: يعيد ولا يعيدون. وروى أحمد عن عثمان صلّى بالناس الفجر، فلما ارتفع النهار، فإذا هو بأثر الجنابة، فقال: كبرت، والله، كبرت، فأعاد الصلاة، ولم يأمرهم أن يعيدوا. وبه قال أحمد حكاه الأثرم، وإسحاق وأبو ثور، وأبو داود، والحسن وإبراهيم، وسعيد بن جبير، وقال أبو حنيفة والشعبي وحماد بن أبي سليمان: إنه يجب عليهم الإِعادة أيضاً، وروى عبد الرزاق بسند منقطع عن علي رضي الله عنه مثله، كذا ذكره ابن عبد البر في "الاستذكار" (1/362. وفي أوجز المسالك 1/299: واختلف العلماء فيمن صلّى خلف جنب أو محدث وهو ناسٍ فلم يعلم هو ولا المأمومون حتى فرغوا من الصلاة، فقال الأئمة الثلاثة: إن صلاة الإِمام باطلة وصلاتهم صحيحة، وروي عن علي أنهم يعيدون، وبه قال ابن سيرين والشعبي وأبو حنيفة وأصحابه، كذا في "المغني") .
(1) وأما من لم يعلم فلا عليه شيء، لأن التكليف بحسب الوسع.
(2) قوله: لأن الإِمام....إلى آخره، تعليل لطيف على مدَّعاه بأن الإِمام إذا فسدت صلاته فسدت صلاة المؤتم، لأن الإِمام إنما جُعل ليؤتم به، والإِمام ضامن لصلاة المقتدي كما ورد به الحديث، فصلاة المقتدي مشمولة في صلاة الإِمام، وصلاة الإِمام متضمِّنة لها بصحتها، وفسادها بفسادها، فإذا صلّى الإِمام جنباً لم تصح صلاته، لفَوات الشرط، وهي متضمِّنة لصلاة المؤتَمِّ، فتفسد صلاته أيضاً، فإذا عَلم ذلك يلزم عليه الإِعادة، ويتفرَّع عليه أنه يلزم الإِمام إذا وقع ذلك أن يُعلمهم به ليعيدوا صلاتهم، ولو لم يُعلمهم لا إثم عليهم، وهذا التقرير واضح قويٌّ إلاَّ أن يدلَّ دليل أقوى منه على خلافه.(2/51)
90 - (بَابُ الرَّجُلِ (1) يَرْكَعُ دُونَ (2) الصَّفِّ أَوْ يَقْرَأُ (3) فِي رُكُوعِهِ)
284 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ (4) بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ (5) أَنَّهُ قَالَ: دَخَلَ (6) زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَوَجَدَ الناس ركوعاً (7) فركع (8)
__________
(1) أي: ما حكمه؟
(2) أي: قبل بلوغه إلى الصف.
(3) أي: يقرأ القرآن في ركوعه وسجوده.
(4) قوله: أبي أمامة، معدود في الصحابة لأن له رؤية، ولم يسمع، اسمه أسعد، وقيل سعد، مات سنة 100 هـ، وأبوه سهل بن حنيف صحابي شهير من أهل بدر، كذا ذكره الزرقاني.
(5) بضم المهملة وفتح النون.
(6) أي: في المسجد.
(7) أي: راكعين.
(8) قوله: فركع ثم دبَّ، قال مالك: بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يدبّ راكعاً، قال ابن عبد البر: لا أعلم لهما مخالفاً إلاَّ أبا هريرة، فقال: لا تركع حتى تأخذ مقامك من الصف، قال وقاله رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، واستحبه الشافعي، قال: فإن فعل فلا شيء عليه، وأجاز مالك والليث للرجل وحده أن يركع، ويمشي إلى الصف إذا كان قريباً، وكرهه أبو حنيفة والثوري للواحد(2/52)
ثُمَّ دبَّ (1) حَتَّى وَصَلَ الصَّفَّ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا يُجزئ (2) ، وأحبُّ (3) إِلَيْنَا أَنْ لا يَرْكَعَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
285 - قَالَ مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا (4) الْمُبَارَكُ (5) بن فَضَالة، عن
__________
(وقال أحمد وإسحاق: من صلّى خلف صف منفرداً فصلاته باطلة. انظر أوجز المسالك 3/217) .
(1) قوله: ثم دبَّ، دبَّ يدب يدرج في المشي رويداً ولا يسرع، كذا في "مجمع البحار".
(2) أي: يكفي ولا يفسد الصلاة لأن العمل قليل، قوله: يجزئ، أي: يكفي في الأداء لكن بشرط أن لا تقع ثلاث خطوات متوالية في ركن من أركان الصلاة، كذا ذكره بعضهم. وفي الخلاصة: إذا مشى في صلاة إن كان قدر صفّ واحد لا تفسد، وإن كان قدر صفَّين بدفعة يفسد، ولو مشى إلى صف، ثم وقف، ثم إلى صف آخر لا تفسد، وفي "الظهيرية" المختار أنه إذا كثر تفسد، كذا قال على القاري.
(3) لينال زيادة الثواب بكثرة الخطا وطول الانتظار والاشتراك في الجماعة.
(4) وفي نسخة: عن.
(5) قوله: المبارك. هو المبارك بن فضالة - بفتح الفاء وتخفيف الضاد المعجمة - أبو فضالة مولى آل الخطاب العدوي البصري، صدوق يُدَلِّس، قال أبو زرعة: إذا قال حدَّثنا فهو ثقة، روى عن الحسن البصري وبكر المزني، وعنه ابن المبارك وغيره، مات سنة 166 هـ على الصحيح، كذا في "التقريب" و"الكاشف".(2/53)
الْحَسَنِ: أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَكَعَ (2) دُونَ (3) الصَّفِّ ثُمَّ مَشَى (4) حَتَّى وَصَلَ الصَّفَّ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ ذَكَر (5) ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا (6) ولا تَعُدْ (7) .
__________
(1) هذا الحديث رواه البخاري وأبو داود وأحمد والنسائي. قوله: أن أبا بكرة: بسكون الكاف نُفيع بن الحارث الثقفي - بضم النون وفتح الفاء وسكون الياء - كذا في "جامع الأصول" لابن الأثير الجزري، وفي "الاستيعاب" اسمه نفيع بن مسروح، وقيل: نفيع بن الحارث بن كَلدة، كان نزل يوم الطائف إلى رسول الله صّلى الله عليه وسلَّم، فأسلم في غلمان من غلمان الطائف، فأعتقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم وقد عُدَّ من مواليه، توفي بالبصرة سنة إحدى وقيل: اثنتين وخمسين.
(2) ليدرك الركعة.
(3) أي: قبل أن يصل إليه.
(4) أي: بخطوتين، أو أكثر غير متوالية.
(5) على البناء للمفعول، وقيل للمعلوم.
(6) على الطاعة والمبادرة إلى العبادة (دعا له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحرص على العبادة لأنه محمود، ولكن بحيث يوافق الشرع، فإن الحرص على العبادة بوجه لا يوافق الشرع مذموم ولهذا قال: ولا تعد. بذل المجهود 4/351) .
(7) قوله: ولا تَعُد، بفتح التاء وضم العين، من العَوْد، أي: لا تفعل مثل ما فعلته ثانياً، وروي: لا تَعْدُ - بسكون العين وضم الدال - من العدو، أي: لا تُسرع في المشي إلى الصلاة، وقيل: بضم التاء وكسر العين من الإِعادة أي: لا تُعد الصلاة التي صلَّيتها، قال القاضي: ذهب الجمهور إلى أنَّ الانفراد خلف الصف مكروه، وقال النخعي وحماد بن أبي ليلى ووكيع وأحمد: مبطل. والحديث حجة عليهم، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر أبا بكرة بالإِعادة، ومعنى لا تعد: لا تفعل ثانياً(2/54)
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَكَذَا نَقُولُ: وَهُوَ يُجْزِئُ وَأَحَبُّ إِلَيْنَا أَنْ لا يُفعل (1) .
286 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ (2) مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ (3) بْنِ عبد الله بن حُنين (4) ، عن
__________
مثلَ ما فعلت، إن جُعل نهياً عن اقتدائه منفرداً وركوعه قبل أن يصلَ إلى الصف، ولا يدل على فسادِ الصلاة، ويحتمل أن يكون عائداً إلى المشي في الصلاة، فإن الخطوة والخطوتين وإن لم تفسد الصلاة لكن الأَوْلى التحرز عنها، كذا في "المرقاة" (3/76، وقال القاري: "قد أبعد من قال: ولا تُعِدْ بضم التاء وكسر العين من الإِعادة، أي: لا تعد، وأبعد منه من قال إنه بإسكان العين، وضم الدال من العدو، أي: لا تسرع وكلاهما لا يأتي به رواية) .
(1) قوله: أن لا يُفعل، وما روي عن زيد وابن مسعود، أنهما كانا يفعلان ذلك، فإما أنه لم يبلغهما الخبر الدالّ على النهي عن ذلك صريحاً، أو حملاه على نهي إرشاد أو نحو ذلك.
(2) في الإِسناد ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض، وهو من اللطائف (شرح الزرقاني 1/166) .
(3) الهاشمي مولاهم المدني التابعي، قال ابن سعد: ثقة، كثير الحديث روى له الجميع، مات بعد المائة كذا ذكره الزرقاني.
(4) مصغراً.
(1) التابعي الثقة المتوفَّى في إمارة يزيد، روى له الجماعة، كذا ذكره الزرقاني.(2/55)
عَبْدِ اللَّهِ (1) بْنِ حُنين، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لُبْسِ (2) القَسِّيِّ وَعَنْ لُبْسِ (3) المُعَصْفَرِ (4) وَعَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ وَعَنْ قِرَاءَةِ (5) الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ (6) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، تُكره القراءةُ فِي الرُّكُوعِ والسجود وهو
__________
(2) قوله: عن لبس القَسِّيِّ، قال الباجي (1/149) : بفتح القاف وتشديد السين، قال: فسره ابن وهب بأنها ثياب مضلعة، يريد مخطَّطة بالحرير، وكانت تعمل بالقَسّ، وهو موضع بمصر، يلي الفرما، وفي "النهاية": هي ثياب من كَتّان مخلوط بالحرير يؤتى بها من مصر نُسبت إلى قرية على ساحل البحر قريباً من تِنِّيس، يُقال لها القَسّ، بفتح القاف، وبعض أهل الحديث يكسرها، وقيل: أصل القَسِّيِّ القزّي، هو ضرب من الإِبرَيْسم أبدل الزاء سيناً، كذا في "التنوير" (1/101) .
(3) قوله: وعن لبس المعصفر، أجازه قوم من أهل العلم وكرهه (والنهي للتنزيه على المشهور، وكره مالك الثوب المعصفر للرجال في غير الإِحرام. أوجز المسالك 1/74) آخرون ولا حجة عندي لمن أباحه مع ما جاء من نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، كذا قال ابن عبد البر.
(4) عُصْفُر - بضم أول وضم فاء -: كَلِ كاجيره كه بهندي آنرا كسنبه كَويندوجامه كه برنك آن سرخ كرده شود آنرا معصفر كَويند (بالفارسية) (غياث اللغات) .
(5) قوله: وعن قراءة: إلى آخره، قال الخطابي: لما كان الركوع والسجود وهما في غاية الذلّ والخضوع مخصوصَيْن بالذكر والتسبيح، نُهي عن القراءة فيهما.
(6) رواه معمر عن ابن شهاب، عن إبراهيم بن حنين فزاد: والسجود.(2/56)
قَوْلُ (1)
أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
91 - (بَابُ الرَّجُلِ يُصَلِّي (2) وَهُوَ يَحْمِلُ الشَّيْءَ)
287 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ السُّلَمِيِّ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي (3) وَهُوَ حاملٌ (4) أمامةَ (5) بِنْتَ (6)
__________
(1) بل قول الكل لا خلاف فيه (قال ابن رشد في "بداية المجتهد" اتفق الجمهور على منع قراءة القرآن في الركوع والسجود لحديث عليّ. قال الطبري: وهو حديث صحيح به أخذ فقهاء الأمصار، وسار قوم من التابعين إلى جواز ذلك وهو مذهب البخاري، لأنه لم يصح الحديث عنده. اهـ مختصراً. ثم هي كراهة تنزيه عند أكثر العلماء. أوجز المسالك 1/75) ، ذكره ابن عبد البر.
(2) جملة حالية.
(3) قوله: كان يصلي، أخرج الطبراني في "الكبير"، عن عمرو بن سليم الزرقي قال: إن الصلاة التي صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو حاملٌ أُمامة صلاة الصبح، كذا في "مرقاة الصعود".
(4) لأحمد: على رقبته.
(5) قوله: أمامة، هي أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى
بن عبد شمس بن مناف، وأمها زينب بنت رسول الله، وُلدت على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم وكان يحبها وكان ربما حملها على عنقه في الصلاة، وتزوَّجها عليّ بن أبي طالب بعد فاطمة، فلما قُتل علي تزوَّجها المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، فولدت له يحيى وهلكت عنده، وقيل: لم تلد لا لعلي ولا للمغيرة، وليس لزينب عقب، كذا في "الاستيعاب".
(6) الإِضافة: بمعنى اللام، فأظهر في المعطوف وهو قوله ولأبي العاص ما هو مقدر في المعطوف عليه.(2/57)
زَيْنَبَ (1) بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلأَبِي الْعَاصِ (2) بْنِ الرَّبِيعِ، فَإِذَا (3) سَجَدَ وضعها وإذا (4) قام حملها.
__________
(1) قوله: زينب، كانت أكبر بنات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسلمت وهاجرت حين أبى زوجها أن يُسلم، وتوفِّيت في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة ثمان من الهجرة، كذا في "الاستيعاب".
(2) قوله: ولأبي العاص بن الربيع اختُلف في اسمه فقيل لقيط، وقيل: مهشم، وقيل: هشيم، وقيل: مهيشم، والأكثر على الأول، أسلم، وردّ رسول الله زينب إليه، مات سنة 12 هـ، كذا في "الاستيعاب".
(3) ولمسلم: إذا ركع وضعها. قوله: فإذا سجد وضعها ... إلى آخره، اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث، فروى ابن القاسم، عن مالك أنه كان في النافلة، واستبعده المأزري والقرطبي وعياض لما في مسلم: رأيتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يؤمُّ الناس وأمامة على عاتقه. ولأبي داود: بينا نحن ننتظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الظهر أو العصر، وقد دعاه بلال إلى الصلاة إذ خرج إلينا وأمامة على عاتقه، فقام في مصلاه، فقمنا خلفه، فكبَّر، فكبَّرنا وهي في مكانها، وقال النووي: ادعى بعض المالكية أنه منسوخ، وبعضهم أنه من الخصائص، وبعضهم أنه لضرورة، وكلّها دعاوى باطلة مردودة لا دليل عليها، وليس في الحديث ما يخالف قواعد الشرع لأن الآدمي طاهر، وثياب الأطفال وأجسادهم محمولة على الطهارة، والأعمال في الصلاة لا تبطلها إذا قلَّت أو تفرَّقت وإنما فعله رسول الله صلّى عليه وسلّم لبيان الجواز (في "التوشيح" للسيوطي: اختلف في هذا الحديث، فقيل: إنه من الخصائص، وقيل: منسوخ، وقيل: خاص بالضرورة، وقيل: محمول على قلَّة العمل وهو الأصح، أوجز المسالك 3/289) ، كذا في "شرح الزرقاني".
(4) في نسخة: فإذا.(2/58)
92 - (بَابُ الْمَرْأَةِ تَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلِ يصلِّي وَبَيْنَ القِبلة وَهِيَ نَائِمَةٌ أَوْ قَائِمَةٌ (1))
288 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي أَبُو النَّضْرِ (2) مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عوف، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم أَنَّهَا أخبرتْه (3) ، قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم ورِجلاَيَ فِي الْقِبْلَةِ (4) (5) ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَني (6) ، فقبضتُ رِجْلَيَّ (7) ، وإذا قام بسطتُها (8) ،
__________
(1) وفي نسخة، أو قاعدة، والمراد بالرجل المصلّي، وفي نسخة: زيادة يصلي، وهو صفة الرجل أو حال منه، وقعت معترضة.
(2) اسمه سالم بن أبي أمية.
(3) أي: أبا سلمة.
(4) أي: في مكان سجوده.
(5) أي: في جهتها.
(6) أي: طعن بإصبعه فيَّ لأقبض رِجْليَّ من قِبلته. قوله. غمزني، قال النووي: استدل به من يقول لمسُ النساء لا ينقض الوضوء، والجمهور حملوه على أنه غمزها فوق حائل، وهذا هو الظاهر من حال النائم. وقال الزرقاني: فيه دلالة، على أن لمس المرأة بلا لذة لا ينقض الوضوء لأن شأن المصلي عدم اللذة، لا سيَّما النبي صلّى الله عليه وسلّم، واحتمال الحائل والخصوصية بعيد، فإن الأصل عدم الحائل، والخصائص لا تثبت بالاحتمال، وعلى أن المرأة لا تقطع صلاة من صلّى إليها، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وجماعة من التابعين وغيرهم.
(7) بشد الياء، مثنّى.
(8) قوله: بسطتها (هكذا في الأصل، والصحيح: "بسطتهما". انظر فتح الباري 1/492) ، بالتثنية عند أكثر رواة البخاري، ولبعض رواته رجليّ ولبعضهم بسطتها بالإفراد فيهما.(2/59)
والبيوتُ (1) يومئذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ (2) بِأَنْ يصلِّيَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ نَائِمَةٌ أَوْ قَائِمَةٌ أَوْ قَاعِدَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ إِلَى جَنْبِهِ، أَوْ تُصَلِّيَ إِذَا كَانَتْ (3) تصلِّي فِي غَيْرِ صَلاتِهِ، إِنَّمَا يُكره أَنْ تصلِّيَ إِلَى جَنْبِهِ أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُمَا (4) فِي صَلاةٍ وَاحِدَةٍ (5) أَوْ يصلِّيان مَعَ إِمَامٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَتْ (6) كَذَلِكَ فَسَدَتْ (7) صَلاتُهُ، وَهُوَ (8) قَوْلُ أبي حنيفة - رحمه الله -.
__________
(1) قوله: والبيوت ... إلى آخره، قال النووي: أرادت به الاعتذار تقول لو كانت فيها مصابيح لقبضتُ رجلي عند إرادته السجود ولم أُحْوِجْه إلى غمزي. وقال ابن عبد البر: قولها يومئذٍ تريد حينئذٍ، إذ المصابيح إنما تُتَّخذ في الليالي دون الأيام، وهذا مشهور في لسان العرب، يُعبَّر باليوم عن الحين والوقت كما يُعبَّر به عن النهار، كذا في "التنوير"، والظاهر أنه بيان لعادتهم في تلك الأوقات أنهم لم يكونوا معتادين بالمصابيح في تمام الليل إلاَّ عند الضرورة.
(2) المعنى أن محاذاتها لا تضرّ إذا لم تكن معه في صلاة مشتركة
تحريماً وأداء.
(3) بأن لم يكونا مشتركَيْن تحريماً وأداءً.
(4) أي: المرأة والرجل.
(5) أي: هي مقتدية به.
(6) أي: محاذاتها.
(7) قوله: فسدت صلاته، لقول ابن مسعود: أخِّروهنَّ من حيث أخَّرهنَّ الله، أخرجه الطبراني وعبد الرزاق. أفاد ذلك افتراض قيام الرجل أمام المرأة، فإذا قام جنبها أو خلفها وهما مشتركان في الصلاة فسدت صلاته لأنه ترك ما فُرِضَ عليه إذ هو المأمور بالتأخير، كذا قالوا، وفي المقام أبحاث وشرائط مذكورة في كتب الفقه.
(8) وفيه خلاف الشافعي وغيره وهو الاستحسان.(2/60)
93 - (بَابُ (1) صَلاةِ الْخَوْفِ (2))
289 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سُئل عَنْ صَلاةِ الْخَوْفِ، قَالَ: يَتَقَدَّمُ (3) الإِمامُ وطائفةٌ مِنَ الناس فيصلِّي بهم
__________
(1) قوله: باب صلاة الخوف، أي صفتها من حيث إنه يَحتمل في الصلاة ما لا يَحتمل في غيره، ومنعها ابن الماجشون في الحضر تعلّقاً بمفهوم قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض} وأجازها الباقون، وقال أبو يوسف في إحدى الروايتين عنه وصاحبه الحسن بن زياد اللؤلؤي وإبراهيم بن عُلَيّة والمزني: لا تُصلَّى بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم لمفهوم قوله تعالى: {وإذا كنتَ فيهم} . واحتُجّ عليهم بإجماع الصحابة على فعلها بعده وبقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلّي"، فمنطوقه مقدّم على ذلك المفهوم، وقال ابن العربي وغيره: شرط كونه فيهم إنما ورد لبيان الحكم لا لوجوده، أي بيِّنْ لهم بفعلك لأنه أوضح من القول، ثم الأصل أنّ كل عذر طرأ على العبادة فهو على التساوي كالقصر، والكيفية وردت لبيان الحذر من العدوّ، وذلك لا يقتضي التخصيص بقوم دون قوم، كذا في "شرح الزرقاني" (1/369. وفي أوجز المسالك 4/5 - 12 ههنا ثمانية أبحاث لطيفة لا بدّ لطالب الحديث من النظر فيها) .
(2) قوله: صلاة الخوف، قيل: إنها شُرعت في غزوة ذات الرِّقاع، وهي سنة خمس من الهجرة، وقيل في غزوة بني النضير، كذا في "تخريج أحاديث الهداية" للزَّيْلعي.
(3) حيث لا يبلغهم سهام العدوّ.(2/61)
سَجْدَةً (1) وَتَكُونُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بَيْنَهُ (2) وَبَيْنَ الْعَدُوِّ وَلَمْ يُصَلُّوا (3) ، فَإِذَا صَلَّى الَّذِينَ مَعَهُ سَجْدَةً اسْتَأْخَرُوا (4) مَكَانَ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا وَلا يسلِّمون (5) ، وَيَتَقَدَّمُ الَّذِينَ لَمْ يصلُّوا فَيُصَلُّونَ مَعَهُ (6) سَجْدَةً، ثُمَّ ينصرفُ (7) الإِمامُ (8) وَقَدْ صَلَّى (9) سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يقوم كلُّ واحدة من الطائفتين فيصلون (10)
__________
(1) أي ركعة.
(2) أي الإِمام ومن معه.
(3) لحرسهم العدو.
(4) فيكونون في وجه العدو.
(5) بل يستمّرون في الصلاة.
(6) أي الإِمام.
(7) من صلاته بالتسليم.
(8) أي بعد التشهد والسلام.
(9) هذا في الصبح مطلقاً، وكذا في الرباعية في السفر، وأما في المغرب فيصلي مع الأُولى ركعتين ومع الثانية ركعة.
(10) قوله: فيصلون لأنفسهم ... إلى آخره، قال الحافظ: لم تختلف الطرق عن ابن عمر في هذا، وظاهره أنهم أتمُّوا في حالة واحدة، ويحتمل أنهم أتمُّوا على التعاقب، وهو الراجح من حيث المعنى وإلاّ لزم ضياع الحراسة المطلوبة، وإفراد الإِمام وحده، ويرجّحه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود: ثم سلَّم، فقام هؤلاء - أي الطائفة الثانية - فقضَوْا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا، ثم ذهبوا. ورجع أولئك إلى مقامهم، فصلَّوْا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا. وظاهره أن الثانية والت بين رَكْعَتَيْها ثم أتمَّتْ الأولى بعدها. واختار هذه الصفةَ أَشهب والأَوزاعي وأخذ بما في حديث(2/62)
لأنفسهم (1) سجدةً (2) سَجْدَةً، بَعْدَ انْصِرَافِ الإِمام، فَيَكُونُ كلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ صلَّوْا سَجْدَتَيْنِ. فَإِنْ كَانَ خَوْفًا هُوَ أَشَدَّ (3) مِنْ ذَلِكَ صلَّوْا رِجَالا قِيَاماً (4) عَلَى أَقْدَامِهِمْ أَوْ رُكْبَانًا (5) مُسْتَقْبِلِي القِبلةِ (6) وغيرَ مُسْتَقْبِلِيهَا. قَالَ نَافِعٌ (7) : وَلا أُرى (8) عبدَ الله بنَ عمر (9)
__________
ابن عمر الحنفية، ورجّحها ابنُ عبد البَرّ لقوة إسنادها ولموافقة الأصول في أن المأموم لا يُتمّ صلاته قبل صلاة إمامه، كذا في "شرح الزرقاني" (1/371) .
(1) أي وحدهم.
(2) أي ركعة ركعة.
(3) من كثرة العدو.
(4) تفسير لقوله: رجالاً.
(5) على دوابّهم.
(6) أي عند القدرة على استقبالها، وبه قال الجمهور، لكن قال المالكية لا يصنعون ذلك حتى يخشَوا فوات الوقت.
(7) قوله: قال نافع ولا أُرى ... إلى آخره، قال ابن عبد البرّ: هكذا روى مالك هذا الحديث عن نافع على الشك في رفعه، ورواه عن نافع جماعة ولم يشكُّوا في رفعه، منهم ابن أبي ذئب وموسى بن عقبة وأيوب بن موسى، وكذا رواه الزهري عن سالم عن ابن عمر مرفوعاً، ورواه خالد بن معدان عن ابن عمر مرفوعاً.
(8) أي لا أظن.
(9) أي فهو موقوف في حكم مرفوع.(2/63)
إلاَّ حَدَّثَهُ (1) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (2) ، وَهُوَ قَوْلُ (3) أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ مَالِكُ بن أنس لا يأخذ (4) به.
__________
(1) في نسخة: يحدثه.
(2) لقوة إسناده.
(3) قوله: وهو قول، اتفقوا على أن جميع الصفات المروية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في صلاة الخوف معتدّ بها، وإنما الخلاف بينهم في الترجيح، كذا في "مرقاة المفاتيح".
(4) قوله: لا يأخذ به، بل كان يأخذ بما أخرجه هو والترمذيُّ وابن ماجه وغيرهم عن سهل بن أبي حَثْمة: أن صلاة الخوف أن يقوم الإِمام ومعه طائفة من أصحابه وطائفة مواجهة العدو فيركع الإِمام ركعة، ويسجد، ثم يقوم فإذا استوى قائماً ثبت، وأتموا لأنفسهم ركعة باقية، ثم يسلّمون وينصرفون فيكونون وُجاه العدو والإِمام قائم، ثم يُقبل الذين لم يصلّوا فيكبِّرون وراء الإِمام فيركع بهم الركعة الباقية، ثم يسلّمون فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية ثم يسلِّمون، وبه قال الشافعيّ وأحمد وداود مع تجويزهم الصفة التي في حديث ابن عمر، ذكره الزرقاني. وكان مالك يقول أولاً بما رواه يزيد بن رومان عن صالح بن خوّات عمن صلى مع النبيّ صلى الله عليه وسلّم في غزوة ذات الرِّقاع صلاة الخوف، وهو نحو الحديث السابق إلاَّ أن فيه النبيّ صلى الله عليه وسلّم ثبت جالساً حتى أتمت الطائفة الثانية، ثم سلّم بهم، ثم رجع مالك إلى الحديث السابق، ذَكَره ابن عبد البر. وقد رُويت في كيفية صلاة الخوف أخبار مرفوعة وآثار موقوفة على صفات مختلفة حتى ذكر بعضهم أنه ورد ستة عشر نوعاً، وأخذ بكلٍّ جماعة من العلماء، وذكر ابن تيمية في "منهاج السنة" وغيره أن الاختلاف الوارد فيه ليس اختلاف تضاد، بل اختلاف سَعَة وتخيير(2/64)
94 - (بَابُ وَضْعِ الْيَمِينِ عَلَى الْيَسَارِ فِي الصَّلاةِ (1))
290 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ (2) ، عَنْ سَهْلِ (3) بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ (4) ، قَالَ: كَانَ الناسُ (5) يُؤْمَرون (6) أَنْ يضعَ أحدُهم يَدَه اليُمنى عَلَى ذراعِه (7) اليُسرى فِي الصَّلاةِ. قَالَ أَبُو حَازِمٍ: وَلا أعلم إلاَّ
__________
(مما ينبغي أن يُعلم أن أحداً من أصحاب الكتب المتداولة بأيدينا لم يعتنِ بتفصيل صور صلاة الخوف المرويّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أبي داود، فإنه فصَّل في "سننه" إحدى عشرة صورة بحسب الظاهر وهي تبلغ أكثر منها بإبداء بعض الاحتمالات في بعض الروايات. وهي كلها مقبولة عند كافة العلماء بحسب جوازها، وإنما اختلفوا فيما بينهم فيما هي أولى منها وأفضل، إلاَّ صورتين فإن أبا حنيفة - رحمه الله تعالى - يؤوِّلهما على تقدير ثبوتهما عنه صلّى الله عليه وسلّم أو يحملهما على اختصاصهما به صلّى الله عليه وسلّم ... إلخ. بذل المجهود 6/326) .
(1) أي في كل قيام ذكر مسنون، وقال محمد: في حال القراءة فقط.
(2) قوله: أبو حازم، هو سلمة بن دينار الأعرج الزاهد، كان ثقة كثير الحديث، وكان يقصّ في مسجد المدينة، مات بعد سنة 140، كذا في "الإِسعاف".
(3) آخر من مات من الصحابة بالمدينة، مات سنة 88، وقيل: سنة 91، كذا في "الإِسعاف".
(4) قوله: الساعديّ، بكسر العين نسبة إلى ساعدة بن كعب بن الخزرج قبيلة من الأنصار، ذكره السيوطي في "لبّ اللباب في تحرير الأنساب".
(5) أي الصحابة.
(6) أي من جهة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أو من جهة الخلفاء، قوله: يُؤمرون، قال الحافظ: هذا حكمه الرفع لأنه محمول على أن الآمر لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
(7) قوله: على ذراعه، أبهم موضعه من الذراع. وفي حديث وائل عند أبي داود والنسائي: "ثم وضع صلّى الله عليه وسلّم يده اليمنى على ظهر كفِّه اليسرى والرُّسْغ من(2/65)
أَنَّهُ (1) يَنْمِي ذَلِكَ (2) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي إِذَا قَامَ فِي صَلاتِهِ أَنْ يَضَعَ (3) باطنَ
__________
الساعد" وصححه ابن خزيمة وغيره، وأصله في مسلم، والرُّسْغ بضم الراء وسكون السين ثم غين معجمة: هو المفصل بين الساعد والكف.
(1) أي سهلاً.
(2) قوله: يَنْمي ذلك، بفتح أوله وسكون النون وكسر الميم أي يرفعه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وحكى في "المطالع" أن القعنبي رواه بضم أوله من أنمى وهو غلط، ورُدّ بأن الزجاج وابن دريد وغيرهما حَكَوْا: نميت الحديث وأنميته، ومن اصطلاح أهل الحديث: إذا قال الراوي: ينمي، فمراده يرفع ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإن لم يقيده. واعترض الداني في "أطراف الموطّأ" فقال: هذا معلول لأنه ظنّ من أبي حازم، ورُدّ بأن أبا حازم لو لم يقل لا أعلم إلى آخره لكان في حكم المرفوع لأن قول الصحابي: كنا نؤمر - هكذا - يُصرف إليه، كذا ذكره الزرقاني.
(3) قوله: أن يضع، به قال الشافعيّ وأحمد والجمهور، ولم يأت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيه خلاف، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين وهو الذي ذكره مالك في "الموطأ" ولم يحكِ ابنُ المنذر وغيره عن مالك غيره. وروى ابن القاسم عن مالك الإِرسال وصار إليه أكثر أصحابه، كذا ذكره ابن عبد البر وذكر غيره أنه لم يُرو الإِرسال عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا من طريق صحيح ولا من طريق ضعيف، نعم ورد في بعض الروايات: أنه كان يكبّر ثم يرسل، وهو محمول على أنه كان يرسل إرسالاً خفيفاً ثم يضع كما هو مذهب بعض العلماء (جمع الإِمام الشافعي رضي الله عنه بين روايات الإِرسال والوضع فاختار الإِرسال الخفيف بعد التحريمة، ثم الوضع. انظر أوجز المسالك 3/173) . وعليه يُحمل ما أخرجه ابن أبي شيبة أن ابن الزبير كان إذا صلّى أرسل يديه.(2/66)
كفِّه اليُمنى
عَلَى رُسْغه (1) اليُسرى تَحْتَ السُرّة (2) ، ويَرمي (3) بِبَصَرِهِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة - رحمه الله -.
95 - (باب الصلاة على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
291 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ (4) ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ، أَخْبَرَنِي أبو حميد (5) الساعدي
__________
(1) قوله: على رسغه اليسرى، قد اختلفت الأخبار في كيفية الوضع، ففي بعضها ورد الوضع، وفي بعضها ورد الأخذ، وفي بعضها الوضع على الكفّ اليسرى ورسغه وساعده. واختلف فيه مشايخنا، فقيل بالوضع على الكفّ اليسرى وقيل على ذراعه الأيسر، والأصح الوضع على المفصل ذكره العيني، وذكر أيضاً أن عند أبي يوسف يضع اليمنى على رسغ اليسرى وعند محمد يكون الرسغ وسط الكف، واستحسن كثير من مشايخنا الجمع، بأن يضع باطن كفه اليمنى على ظاهر كفه اليسرى ويحلق بالخنصر والإِبهام على الرسغ، وقيل هذا خارج من المذهب والأحاديث والحق أن الأمر فيه واسع محمول على اختلاف الأحوال.
(2) قوله: تحت السرّة، لما أخرج أبو داود عن عليّ أنه قال: السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرّة، وأخرج أيضاً هذه الكيفية من فعل عليّ وأبي هريرة، وثبت عند ابن خزيمة وغيره من حديث وائل الوضع على الصدر، وبه قال الشافعيّ وغيره.
(3) أي يطالع.
(4) أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم.
(5) قوله: أبو حميد، اسمه المنذر بن سعد بن المنذر، أو ابن مالك، وقيل: اسمه عبد الرحمن وقيل: عمرو، شهد أحداً وما بعدها، وعاش إلى أول سنة 60، كذا ذكره الزرقاني.(2/67)
قَالَ: قَالُوا (1) : يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ (2) نصلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: قُولُوا اللَّهُمَّ صلِّ عَلَى محمّدٍ وَعَلَى أزواجِه وذرِّيَّتهِ، كَمَا صلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (3) ، وبارِكْ (4) على محمّدٍ وعلى أزواجِه وذرِّيَّته،
__________
(1) قوله: قالوا، قال ابن حجر: وقفت من تعيين باشر السؤال على جماعة: أُبَيّ بن كعب في الطبراني، وبشير بن سعد عند مالك ومسلم، وزيد بن خارجة عند النسائي، وطلحة بن عبيد الله عند الطبراني، وأبي هريرة عند الشافعي، وعبد الرحمن بن بشير عند إسماعيل القاضي في "كتاب فضل الصلاة"، وكعب بن عُجْرة عند ابن مردويه، فإن ثبت تعدُّدُ السائل فواضح، وإن ثبت أنه واحد فالتعبير بصيغة الجمع إشارة إلى أن السؤال لا يختصُّ به، بل يريد نفسه ومن وافقه على ذلك.
(2) قوله: كيف نصلي عليك، أي كيف الذي يليق أن نصلي به عليك كما علمتنا السلام لأنّا لا نعلم اللفظ اللائق بك (وأما الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في القعدة الأخيرة من الصلاة، فاختلف الأئمة في حكمها، فقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك وأتباعه وأحمد في رواية: إنها سنة، والشافعي: فريضة، قاله في "الأم" كما في الفتح 11/154 وإليه ذهب أحمد في أحد القولين عنه كما حكاه ابن قدامة في المغني 1/ 584) .
(3) ليحيى: على آل إبراهيم، قال عبد البر: آل إبراهيم يدخل فيه إبراهيم، وآل محمد يدخل فيه محمد. ومن هاهنا جاءت الآثار في هذا الباب مرة بإبراهيم، ومرة بآل إبراهيم.
(4) قوله: وبارك، قال العلماء: معنى البركة ههنا الزيادة من الخير والكرامة، وقيل: بمعنى التطهير والتزكية، وقيل: تكثير الثواب. قال السخاوي: لم يصرح أحد بوجوب قوله: وبارك، على ما عثرنا عليه، غير أن ابن حزم ذكر ما يُفهم منه وجوبها في الجملة، فقال: على المرء أن يبارك عليه ولو مرّة في العمر،(2/68)
كما باركتَ (1) على إبراهيم (2) . إنك (3)
__________
وظاهر كلام "المغني" من الحنابلة وجوبها في الصلاة، قال المجد الشيرازي: والظاهر أن أحداً من الفقهاء لا يوافق على ذلك، كذا في "شرح الزرقاني" (قلت: لكن عدَّ في "نيل المآرب" من الأركان قول: "اللَّهم صلِّ على محمد، وعدّ من السنن: الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم في التشهد الأخير وعلى آله والبركة عليه وعليهم والدعاء بعده، ولم يصرح في المغني بوجوب البركة. أوجز المسالك 3/223) .
(1) قوله: كما باركت ... إلى آخره، قيل: ما وجه تشبيه الصلاة عليه بالصلاة على إبراهيم وآل إبراهيم، والقاعدة أن المشبَّه به أفضل، وأجيب عنه بأجوبة: أحدهما: ما قاله النووي، وحكاه بعض أصحابهم عن الشافعي أن معناه صلِّ على محمد، وتمّ الكلام. ثم استأنف وعلى آل محمد أي وصلِّ على آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، فالمسؤول له مثل إبراهيم وآله هم آل محمد لا نفسه، الثاني: أن معناه اجعل لمحمد وآله صلاةً منك كما جعلتها على إبراهيم وآله، فالمسؤول المشاركة في أصل الصلاة لا قدرها. الثالث: أنه على ظاهره، والمراد اجعل لمحمد وآله صلاةً بمقدار الصلاة التي لإِبراهيم وآله، والمسؤول مقابلة الجملة بالجملة، ويدخل في آل إبراهيم خلائق لا يُحْصَوْن من الأنبياء وغيرهم، كذا في "التنوير".
(2) ليحيى: على آل إبراهيم.
(3) قوله: إنك حميد مجيد، قال الحليمي: سبب التشبيه أن الملائكة قالت في بيت إبراهيم: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، إنه حميد مجيد، وقد عُلم أن محمداً وآل محمد من أهل بيت إبراهيم فكأنه قال أجب دعاء الملائكة الذين قالوا ذلك في محمد وآل محمد كما أجبتها عندما قالوها في الموجودين، ولذا ختم بما ختم به هذه الآية، وهو قوله: إنك حميد مجيد.(2/69)
حَمِيدٌ (1) مَجِيدٌ (2) .
292 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نُعِيْم (3) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ المُجْمر (4) مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أنَّ مُحَمَّدَ (5) بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الأنصاري أخبره وهو عَبْدُ اللَّهِ (6) بْنُ زَيْدٍ الَّذِي أُري (7) النداءَ فِي النَّوْمِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ أَبَا مَسْعُودٍ (8) أَخْبَرَهُ،
__________
(1) فعيل من الحمد بمعنى المحمود.
(2) بمعنى ماجد من المجد وهو الشرف.
(3) بضم النون: ثقة من أواسط التابعين، كذا في "التقريب".
(4) بضم الميم الأولى وكسر الثانية بينهما جيم ساكنة، صفة له ولأبيه.
(5) هو محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربِّه الأنصاري المدني، وثَّقه ابن حبان، كذا في "الإِسعاف".
(6) هو صحابي مشهور، مات سنة 32، وقيل استُشهد بأُحُد، كذا في "تقريب التهذيب".
(7) بصيغة المجهول، من الإِرادة، قوله: أُري النداء، وكانت رؤيته في السنة الأولى بعد بناء المسجد، قال الترمذي عن البخاري: لا نعرف له إلاَّ حديث الأذان، قلت: وقال ابن عديّ: لا نعرف له شيئاً يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلاَّ حديث الأذان، وهذا مقيِّد لكلام البخاري، وهو المعتمد، فقد وجدتُ له أحاديث جمعتها في جزء، واغترّ الأصبهاني بالأول، وجزم به جماعة فوهموا، هذا ما في "تهذيب التهذيب" للحافظ ابن
حجر.
(8) هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري البدري، مات سنة 40 هـ أو بعدها، قاله الزرقاني.(2/70)
فَقَالَ: أَتَانَا (1) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَلَسَ مَعَنَا فِي مَجْلِسِ ابْنِ عُبادة (2) ، فَقَالَ بَشِيرُ (3) بْنُ سَعْدٍ أَبُو النُّعْمَانِ: أَمَرَنَا (4) اللَّهُ أَنْ نصلِّي عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ نصلِّي عَلَيْكَ (5) ؟ قَالَ: فصَمَت (6) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تمنَّيْنا (7) أَنَّا لم نسألْه (8) . قال: قولوا (9) : اللهمّ (10) صلِّ
__________
(1) قوله: أتانا ... إلى آخره، قال الباجي: فيه أنَّ الإِمام يخصّ رؤساء الناس بزيارتهم في مجالسهم تأنيساً لهم.
(2) في نسخة: سعد بن عبادة، هو سعد بن عبادة بن دُليم بن حارثة الأنصاري، مات بأرض الشام سنة 15 هـ، وقيل غير ذلك، كذا في التقريب.
(3) قوله: بشير بن سعد، هو بشير - بفتح الموحدة - ابن سَعْد - بسكون العين - ابن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل بدري والد النعمان بن بشير، استشهد بعين التمر، كذا ذكره الزرقاني.
(4) بقوله: {صلُّوا عَلَيْه وسَلِّموا تَسْلِيْماً} (سورة الأحزاب: الآية 56) .
(5) زاد الدارقطني: إذا نحن صلَّيْنا عليك في صلاتنا.
(6) أي سكت زماناً طويلاً، قوله: فصمت، يحتمل أن يكون سكوتُه حياءً وتواضعاً، ويحتمل أن ينتظر ما يأمره الله به من الكلام الذي ذكره.
(7) أي وددنا.
(8) أي كرهنا سؤاله مخالفة أن يكون كرهه وشقّ عليه.
(9) قوله: قولوا، الأمر للوجوب اتفاقاً، فقيل: في العمر مرة واحدة، وقيل في كل تشهّد يعقبه سلام، وقيل كلما ذُكر.
(10) قوله: اللهم صلِّ على محمد، أي عظِّمه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار(2/71)
عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صلَّيت عَلَى إِبْرَاهِيمَ (1) وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ (2) مَجِيدٌ. وَالسَّلامُ (3) كَمَا قَدْ عُلِّمْتم (4) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: كُلُّ هَذَا حسن (5) .
__________
دينه وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بإجزال مثوبته وتشفيعه في أمّته، ولمّا كان البشر عاجزاً عن أن يبلغ قدر الواجب له من ذلك شُرع لنا أن نُحيل أمر ذلك على الله.
(1) وفي بعض النسخ: على آل إبراهيم فقط، وفي بعضها: على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم.
(2) قوله: إنك حميد مجيد، قال الطِّيبي: هذا تذييل الكلام السابق وتقرير له على سبيل العموم، أي إنك حميد، فاعل ما تستوجب به الحمد من النِّعَم المتكاثرة والآلاء المتعاقبة المتوالية، مجيد كريم كثيرالإِحسان إلى جميع عبادك الصالحين. ومن محامدك وإحسانك أن توجِّه صلواتك وبركاتك على حبيبك نبي الرحمة وآله.
(3) أي في التشهد وهو: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
(4) بفتح العين وكسر اللام المخففة، ومنهم من رواه بضم العين وتشديد اللام.
(5) قوله: حسن، يشير إلى أنه ليس للصلاة صيغة مخصوصة لا تتعدّاها إلى غيرها، بل كل ما رُوي في ذلك عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فهو حسن كافٍ لا متثال أمر الله واقتداء نبيه، وإن كان في بعضها خصوصية ليست في غيرها.(2/72)
96 - (بَابُ الاسْتِسْقَاءِ (1))
293 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبَّادَ (2) بْنَ تَمِيمٍ المازنيّ يقول: سمعت عبدَ الله (3)
__________
(1) طلب الغيث والمطر (قال القاري: الاستسقاء في اللغة طلب السُّقيا، وفي الشرع طلب السقيا للعباد عند حاجتهم إليها بسبب قلة الأمطار أو عدم جري الأنهار " (مرقاة المصابيح 3/331 وذكر في "الأوجز" ههنا سبعة أبحاث لطيفة، فارجع إليه 4/61) .
(2) قوله: عباد بن تميم، هو عباد بن تميم بن غزيّة المازني، روى عن أبيه، وله صحبة، وعن عمه عبد الله بن زيد المازني، وثقه النسائي وغيره، قاله السيوطي.
(3) هو عبد الله بن زيد بن عاصم بن كعب الأنصاري المازني، صحابي شهير روى صفة الوضوء وغيره، واستشهد بالحرة سنة 63، كذا في " تقريب التهذيب".
قوله: عبد الله بن زيد، في "ضياء الساري بشرح صحيح البخاري": قال أبو عبد الله - أي البخاريّ - كان ابن عيينة سفيان يقول: هو - أي راوي الحديث - عبد الله بن زيد بن عبد ربه صاحب الأذان الذي أُري الأذان في النوم، ولكنه وهم لأنَّ هذا أي راوي حديث الاستسقاء عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، مازن الأنصار، احتراز عن مازن تيم ومازن قيس ومازن صعصعة ومازن شيبان وغيرهم.
والتقدير: وذاك عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وقد اتفقا في الاسم واسم الأب والنسبة إلى الأنصار، ثم إلى الخزرج والصحبة، وافترقا في الجَدّ والبطن الذي من الخزرج.(2/73)
ابن زَيْدٍ المازِنيّ (1) يَقُولُ: خَرَجَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المصلَّى (2) فَاسْتَسْقَى (3) وَحَوَّلَ (4)
__________
(1) بكسر الزاء نسبة إلى مازن قبيلة.
(2) أي مصلَّى العيد.
(3) قوله: فاستسقى، لم أقف في شيء من طرق هذا الحديث على سبب
ذلك ولا على صفته ولا على وقت ذهابه، وقد وقع ذلك في حديث عائشة عند أبي داود وابن حبان، قال: شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلمَ قحط المطر، فأمر بمنبر وُضع له في المصلّى، ووعد الناسَ يوماً يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر. وفي حديث ابن عباس عند أحمد وأصحاب السنن خرج متبذلاً متواضعاً متضرِّعاً حتى أتى المصلى، فرَقِيَ المنبر. وفي حديث أبي الدرداء عند البزار والطبراني: قحط المطر فسألنا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم أن يستسقي لنا فغدا ... الحديث. وأفاد ابن حبان أنَّ خروجه (ولا يذهب عليك أن دعاؤه صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة حتى مطروا إلى الجمعة الأخرى كان بعد مرجعه صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، كما ذكره الحافظ في (باب الاستسقاء في المسجد الجامع) من رواية البيهقي في "الدلائل" انظر لامع الدراري 4/190) صلى الله عليه وسلم إلى المصلى للاستسقاء كان في شهر رمضان سنة ست، كذا في "الفتح ".
(4) قوله: وحوّل رداءه، وقع بيان المراد بذلك عن المسعودي ولفظه: وقلب رداءه وجعل اليمين على الشمال، زاد ابن ماجه: والشمال على اليمين. وله شاهد أخرجه أبو داود عن عباد بلفظ: فجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر والأيسر على الأيمن. وله من طريق آخر: استسقى وعليه خميصة سوداء، فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعلها على أعلاها فثقلت عليه، فقلبها على عاتقه. وأخرج الدارقطني والحاكم ورجاله ثقات من طريق جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن علي بلفظ: حوّل رداءه ليتحول القحط، كذا في "الفتح".(2/74)
رداءَه (1) حِينَ (2) اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَكَانَ (3) لا يَرَى (4) في الاستسقاء صلاة (5) ،
__________
(1) ذكر الواقدي أن طول ردائه كان ستة أذرع في ثلاثة أذرع، كذا في "التنوير".
(2) عرف بذلك أن التحويل إنما وقع في أثناء الخطبة عند إرادة الدعاء.
(3) قوله: فكان لا يرى ... إلى آخره، ذكر النووي أنه لم يقل سوى أبي حنيفة هذا القول، وتعقبه العيني بأنه أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن إبراهيم النخعي أنه خرج مع المغيرة ليستسقي فصلى المغيرة فرجع إبراهيم حيث رآه يصلي. وروي عن عطاء الأسلمي عن أبيه قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب ليستسقي فما زاد على الاستغفار. انتهى (انظر عمدة القاري 3/429) .
(4) أي على سبيل الاستنان لا أنه بدعة عنده، كما نسبه بعض المتعصِّبين إليه، فإنَّ عدم السنّية لا يستلزم البدعة، كذا حقَّقه العيني في "البناية".
(5) أي مشروعة بجماعة وإن صلَّوْا فُرادى جاز، وبه قال أبو يوسف في رواية. قوله: صلاة، وإنما الاستسقاء عنده مجرّد دعاء واستغفار من دون صلاة وخطبة لقوله تعالى: {استغفروا ربَّكم إنه كان غفّاراً. يُرسل السماءَ عليكم مِدْراراً} (سورة نوح: الآية 10 - 11) على نزول الغيث بمجرّد الاستغفار. وقد روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أيضاً الدعاء المجرّد قولاً وفعلاً، ففي حديث أنس عند البخاري ومسلم وغيرهما: دخل المسجدَ رجلٌ يوم الجمعة ورسول الله قائم يخطب، فاستقبله، وقال: يا رسول الله هلكت المواشي والأموال، فادع الله يغيثنا، فرفع رسول الله يديه، ثم قال: اللهم أغثنا ... الحديث، وفي حديث آبي اللحم: أنه رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستسقي عند(2/75)
وأما (1) في قولنا فإن الإمام
__________
أحجار الزيت، أخرجه أبو داود والترمذي. وروى أبو عوانة في "صحيحه" عن عامر بن خارجة: أنَّ قوماً شَكَوْا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قحط المطر، فقال: اجْثُوا على الرُّكَب، ثم قولوا: يا رب، يا رب.
(1) قوله: وأما في قولنا، وبه قال الشافعي وأحمد ومالك والجمهور (الصلاة جائزة عند الإِمام أبي حنيفة، وسنة عند صاحبيه، وسنة مؤكدة عند الأئمة الثلاثة. أوجز المسالك 4/63) ، لما رُوي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج ليستسقي، فصلى بالناس ركعتين. ثبت ذلك من حديث ابن عباس أخرجه أصحاب السنن الأربعة وابن حبان والحاكم، وصححه الترمذي، ومن حديث عباد عن عمّه عبد الله بن زيد أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم، ومن حديث عائشة أخرجه أبو داود وأبو عوانة وابن حبان والحاكم، ومن حديث أبي هريرة أخرجه أحمد وابن ماجه وأبو عوانة والبيهقي والطحاوي. وبه ظهر ضعف قول صاحب الهداية، في تعليل مذهب أبي حنيفة: أن رسول الله استسقى ولم يُرْوَ عنه الصلاة. فإنْ أراد أنه لم يُرْوَ بالكلية، فهذه الأخبار تكذّبه، وإنْ أراد أنَّه لم يُرْوَ في بعض الروايات فغير قادح. وأما ما ذكروا أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فعله مرة وتركه أخرى فلم يكن سنة، فليس بشيء، فإنه لا يُنكر ثبوت كليهما مرة هذا ومرة هذا، لكن يُعلم مِنْ تتبُّع الطرق، أنه لما خرج بالناس إلى الصحراء صلَّى، فتكون الصلاة مسنونة في هذه الحالة بلا ريب، ودعاؤه المجرّد كان في غير هذه الصورة(2/76)
يُصَلِّي (1) بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ (2) ثُمَّ يَدْعُو (3) ويحوِّل (4) رِدَاءَهُ، فَيَجْعَلُ الأَيْمَنَ عَلَى الأَيْسَرِ، وَالأَيْسَرَ عَلَى الأَيْمَنِ ولا يفعل ذلك أحد إلا الإِمام (5) .
__________
(قال محمد، والأصح أن أبا يوسف معه: يصلي الإِمام ركعتين يجهر فيهما بالقراءة على الأشهر، وفي رواية لمحمد: يكبر للزوائد كالعيد. والمشهور عنه خلافه. ثم يخطب بعد ذلك عندهما قائماً على الأرض لا المنبر، ولا خطبة عند أبي حنيفة، والخطبة عند أبي يوسف واحدة، وعند محمدٍ ثنتان يبدأ هذه الخطبة بالتحميد، وبعد الخطبة يتوجه إلى القبلة ويشتغل بالدعاء رافعاً يديه ويقلب الرداء عند محمد لا عند الإِمام، واختلفت الرواية عن أبي يوسف وأما عند المالكية فيصلي الإمام زكعتين جهرا بالقراءة بلا تكبير ويخطب بعدها على الأرض لا المنبر خطبتين ويستقبل القبلة بعدهما ويبالغ في الدعاء مستقبلا للقبلة قال الزرقاني: وكان الإمام مالك يقول أولا بتقديم الخطبة على الصلاة ثم رجع عنه إلى مافي الموطأ واختلف عنه أيضا في وقت تحويل الرداء ففي (المدونة) إذا فرغ من الخطبة وعنه يحول إذا أشرف على الفراغ وعنه بين الخطبتين ويحول الذكور أرديتهم دون النساء وأما عند الشافعية يصلي بهم الإمام ركعتين كالعيد وإذا مضى الثلث من الخطبة الثانية يتوجه إلى القبلة ويحول رداءه عند استقبال القبلة ويدعو ثم يكمل الخطبة ويحول الذكور أرديتهم وأما عند الحنابلة فهي كالعيد وقتا وصفة ويخطب خطبة واحدة على الأصح على المنبر انظر لامع الدراري 4/191-192) .
(1) من دون أذان وإقامة، صرح به في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه.
(2) يجهر فيهما بالقراءة، كما ورد عند البخاري من حديث عبد الله بن زيد.
(3) قوله: ثم يدعو، أي ثم يخطب بعد الصلاة ويدعو مستقبل القبلة، هكذا ورد في مسند أحمد عن عبد الله بن يزيد، وهو المرجَّح عند الشافعية والمالكية، وفي رواية عائشة وابن عباس ورد تقديم الخطبة على الصلاة واختاره ابن المنذر.
(4) قوله: ويحوّل، به قال أبو يوسف والشافعي والجمهور لثبوت ذلك عن صاحب الشرع صلّى الله عليه وسلَّم، وعند أبي حنيفة لا تحويل لعدم ثبوت ذلك في أحاديث الدعاء المجرد.
(5) قوله: إلاَّ الإِمام، لأنه لم يأمر به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم القوم، وفيه خلاف الشافعي ومالك وأحمد أخذاً مما ورد في مسند أحمد: أن القوم أيضاً حوّلوا أرديتهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والظاهر أنه اطّلع عليه، ولم ينكر عليهم.(2/77)
97 - (بَابُ الرَّجُلِ يُصَلِّي ثُمَّ يَجْلِسُ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ)
294 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نُعيم بن عبد الله المُجْمر أنه سمع أبا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، ثُمَّ جَلَسَ (1) فِي مُصَلاهُ لَمْ تَزَلِ (2) الْمَلائِكَةُ (3) تصلِّي (4) عَلَيْهِ: اللَّهُمَّ صلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهمّ ارْحَمْهُ (5) ، فَإِنْ قَامَ مِنْ مُصَلاهُ، فَجَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ لَمْ يَزَلْ (6) فِي صَلاةٍ حتي يصلِّي.
__________
(1) زاد البخاري ينتظر الصلاة.
(2) قوله: لم تزل الملائكة، قال ابن بطال: من كان كثير الذنوب وأراد أن يحطَّها عنه بغير تعب فليهتمّ بملازمة مكان مصلاّه بعد الصلاة ليستكثر من دعاء الملائكة واستغفارهم فهو مرجوّ إجابته لقوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} (سورة الأنبياء: الآية 28) . وقال المهلب في حديث "الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاّه الذي صلَّى فيه ما لم يحدث، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث": معناه أن الحدث في المسجد خطيئة، يُحرم بها المحدث استغفارَ الملائكة ودعاءَهم المرجوَّ بركته، كذا في "الحبائك في أخبار الملائك" للسيوطي.
(3) الحَفَظة، أو السيّارة، أو أعمّ من ذلك؟ كلٌّ محتمل.
(4) أي تدعو له قائلين: اللهم ... إلى آخره.
(5) أي بقبول حسناته، زاد ابن ماجه: اللهم تُبْ عليه.
(6) أي حكماً باعتبار الثواب(2/78)
98 - (بَابُ صَلاةِ التَّطَوُّعِ (1) بَعْدَ الْفَرِيضَةِ)
295 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدثنا نافع، عن ابن عمر: أن رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلِّي (2) قبلَ الظهرِ (3) ركعتين (4) ، وبعدها ركعتين (5) ،
__________
(قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث بيان فضيلة من انتظر الصلاة مطلقاً سواء ثبت في مجلسه ذلك في المسجد أو تحوَّل إلى غيره. انظر فتح الباري 2/136. وفي أوجز المسالك 3/187: فالظاهر أن صلاة الملائكة تختصّ بالجلوس في مصلاّه الذي صلى فيه، وإذا جلس في مجلس آخر يكون في حكم الصلاة باعتبار الأجر، ولكن لا يتشرف بصلاة الملائكة. وهذا يخالف ما تقدم عن الحافظ، وتبعه جماعة من شُرّاح الحديث: أن لفظ "في مصلاه" الذي صلى فيه، خرج مخرج العادة وليس بقيد، فتأمل) .
(1) أراد به السنن المؤكدة: وهي عشر ركعات عند الحنابلة وهو المرجح عند الشافعية، وعند الحنفية اثنتا عشرة ركعة، قال في "الدر المختار" وسن مؤكداً أربع قبل الظهر بتسليمة وركعتان قبل الصبح، وبعد الظهر والمغرب والعشاء، وعند المالكية لا توقيت للرواتب ولا تحديد لها، انظر عمدة القاري 3/66 وفتح الباري 3/48، وأما الصلاة قبل الصبح يعني ركعتيه رغيبة أي رتبتها دون السنة وفوق النافلة. أوجز المسالك 3/241.
(2) في نسخة: كان يصلي.
(3) قوله: قبل الظهر ركعتين، وفي حديث عائشة: كان لا يدع أربعاً قبل الظهر، رواه البخاري وغيره.
قال الداودي: هو محمول على أن كل واحد وصف ما رأى، ويحتمل أن ابن عمر نسي من الركعتين.
قال الحافظ: وهذا الاحتمال بعيد، والأَوْلى أن يُحمل على حالين.
(4) قال ابن جرير: الأربع قبل الظهر كانت في كثير من أحواله، والركعتان قليلها.
(5) وللترمذي مرفوعاً: من حافظ على أربع قبل العصر حرّمه الله على النار.(2/79)
وَبَعْدَ صلاةِ المغربِ رَكْعَتَيْنِ فِي بيتِه (1) ، وَبَعْدَ صلاةِ العشاءِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ لا يصلِّي (2) بَعْدَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى ينْصَرِف (3) فَيَسْجُدَ (4) سَجْدَتَيْن (5) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا تطوُّع وَهُوَ (6) حَسَنٌ، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يصلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، فَسَأَلَهُ أَبُو أيوبَ (7) الأَنْصَارِيُّ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَنَّ أبوابَ السَّمَاءِ تُفتح (8) فِي هَذِهِ الساعة،
__________
(1) يحتمل أن يكون ظرفاً للكل ولما يليه (إن أفضلية أداء النوافل في البيت مطلقاً مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد والجمهور، وقال مالك والثوري: الأفضل فعل نوافل النهار الراتبة في المسجد وراتبة الليل في البيت، كذا في أوجز المسالك 3/245) .
(2) قوله: وكان لا يصلِّي....إلى آخره، أخرج ابن ماجه عن ابن عباس: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يركع قبل الجمعة أربعاً، لا يفصل في شيء منهن، وزاد الطبراني: وأربعاً بعدها، وسنده واهٍ جداً. وروى الطبراني عن ابن مسعود: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلِّي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً، كذا في "نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية" للزيلعي.
(3) من المسجد إلى بيته.
(4) أي يصلي ركعتين.
(5) ورد في "مصنف عبد الرزاق" عن ابن مسعود: أنه كان يصلِّي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً.
(6) أي عمله مسنون مستحب.
(7) خالد بن زيد.
(8) لقبول الطاعة.(2/80)
فأحبُّ أَنْ يصعدَ لِي فِيهَا عَمَلٌ (1) ، فَقَالَ: يا رسول الله، أ (2) يُفْصَلُ (3) بَيْنَهُنَّ بِسَلامٍ؟ فَقَالَ: لا.
أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ بُكير بْنُ عَامِرٍ البَجَلي (4) عَنْ إِبْرَاهِيمَ والشَّعبي عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
99 - (بَابُ الرَّجُلِ يَمَسّ الْقُرْآنَ (5) وَهُوَ جُنُبٌ أَوْ (6) عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ (7))
296 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عبدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بن حَزْم قال (8) :
__________
(1) أي صالح، وفي رواية: خير.
(2) بهمزة الاستفهام.
(3) بصيغة المجهول.
(4) بفتح الأول والثاني، نسبة إلى بجيلة بن أنمار، قبيلة نزلت بالكوفة،
قاله السَّمْعاني.
(5) المراد به المصحف كما في نسخة.
(6) أو للتنويع للإِيماء إلى أن حكم الجنب والمحدث في هذه المسألة سواء، وفي معنى الجنب الحائض والنُّفَساء.
(7) في نسخة: وضوء.
(8) قوله: قال، إنَّ في الكتاب الذي....إلى آخره، قال ابن عبد البَرّ: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث، وقد رُوي مسنداً من وجه صالح، وهو كتاب مشهور عند أهل السِّيَر معروف عند أهل العلم معرفةً يستغني بها في شهرتها عن الإِسناد لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقِّي الناس له بالقبول.(2/81)
إنَّ فِي الْكِتَابِ (1) الَّذِي كَتَبَهُ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ (2) : لا يَمَسّ الْقُرْآنَ إِلا طَاهِرٌ (3) .
297 - (4) أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لا
يَسْجُدُ (5) الرَّجُلُ وَلا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ إلا وهو طاهر.
__________
(1) قال الباجي: هذا أصل في كتابة العلم وتحصينه في الكتب.
(2) بن زيد بن لوذان، قوله: لعمرو بن حزم، الأنصاري شهد الخندق فما بعدها، وكان عاملَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على نَجْران، مات بعد الخمسين، كذا قال الزرقاني.
(3) أي من النجاسة الكبرى والصغرى، وهو مستفاد من قوله تعالى: {لاَ يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّرُون} (سورة الواقعة: الآية 79) .
(4) في نسخة: قال أخبرنا.
(5) قوله: لا يسجد الرجل ... إلى آخره، قد أخرجه البيهقي أيضاً من طريق الليث عن نافع عن ابن عمر أنه قال: لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر. ويخالفه ما أخرجه ابن أبي شيْبَة بسنده إلى سعيد بن جبير قال: كان ابن عمر ينزل عن راحلته، فيهريق الماء، فيقرأ السجدة، فيسجد وما يتوضأ. وعلَّقه البخاري في "باب سجود المشركين مع المسلمين": وكان ابن عمر يسجد على غير وضوء. وجمع الحافظ ابن حجر بأن المراد بالطهارة في قوله الطهارةُ الكبرى، أو هو محمول على حالة الاختيار، والثاني على الاضطرار. وذكر الحافظ أيضاً أنه لم يوافق ابن عمر على جواز سجود التلاوة بغير وضوء إلا الشَّعبي، أخرجه ابن أبي شَيْبَة بسند صحيح، وكذا أخرجه عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي(2/82)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كلِّه نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِلا فِي خَصْلَةٍ (1) وَاحِدَةٍ، لا بَأْسَ بِقِرَاءَةِ (2) الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ طُهر إلا أن يكون جنباً (3) .
__________
(أنه كان يقرأ السجدة، ثم يسلّم وهو على غير وضوء إلى غير القبلة وهو يمشي يومئ إيماءً. فتح الباري 2/554. وقال شيخنا: وظاهر ترجمة البخاري أنه ذهب أيضاً إلى جواز السجود بلا وضوء. لامع الدراري 4/50) .
(1) قوله: إلاَّ في خصلة واحدة، كأنه حمل قول ابن عمر: إلاَّ وهو طاهر، على الطهارة المطلقة من الصغرى والكبرى، فاستثنى من قوله (وبهذا كله نأخذ) قراءَة القرآن على غير وضوء لثبوت جواز ذلك بالمرفوع والموقوف، فأخرج أصحاب السنن الأربعة وابن حبان، وصححه الحاكم والترمذي عن عليّ: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لا يَحْجُبُه أو لا يَحْجُزُه عن القرآن شيْء ليس الجنابة. وأخرج مالك أن عمر كان في قوم يقرؤون القرآن، فذهب عمر لحاجته ثم رجع وهو يقرأ القرآن، فقال له رجل: تقرأ القرآن ولست على وضوء؟ فقال عمر: من أفتاك هذا؟ أمسيلِمة الكذاب؟ وورد عن عليّ أيضاً قراءة القرآن على غير وضوء (وأما قراءة المحدث القرآن قال ابن رشد: ذهب الجمهور إلى الجواز، أما مسّ المصحف فقال الجمهور - منهم الأئمة الأربعة - لا يَمَسّهُ إلا طاهر من الحَدَثين لقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّرُون} ، خلافاً لداود وابن حزم وغيرهما من السلف. انظر الكوكب الدُّرِّي 1/186) ، أخرجه الدارقطني وغيره.
(2) أي من غير مَسِّه.
(3) أو من يحذو حذوه في النجاسة الكبرى(2/83)
100 - (بَابُ الرَّجُلِ يَجُرُّ (1) ثَوْبَهُ وَالْمَرْأَةُ تَجُرُّ ذَيْلها (2) فَيَعْلَقُ (3) بِهِ قَذَرٌ (4) وَمَا كُره (5) مِنْ ذَلِكَ)
298 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ (6) بْنُ عُمَارَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ، عَنْ أُمِّ وَلَدٍ (7) لإِبراهيم بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أنها (8) سألت أمَّ سلمةَ
__________
(وفي "الكوكب" أيضاً: اتفق الأئمة الأربعة وجمهور الفقهاء على أن الجنب والحائض لا يقرءان القرآن، وقال بعض المبتدعة: يقرأ. وحديث عليّ دليل على ما قلنا، وأما الحائض ففي قراءتها عن مالك روايتان: إحداهما المنع حملاً على الجنب، ووجه الأخرى أن الحيض ضرورة يأتي بغير الاختيار ويطول أمرها فلو مُنعت من ذلك لنسيت ما تعلمت بخلاف الجنب، فإنه تأتي الجنابة باختياره ويمكن إزالتها في الحال وهو أصح. قلت: وعامة شرّاح البخاري على أن ميل البخاري إلى الجواز. فتأمّل.
(1) من الجرّ.
(2) بالفتح (دامن) (بالأردية) .
(3) من باب عَلِم، يقال: عَلِق الشوك بالثوب تشبث به وتعلق بسببه.
(4) بفتح القاف والذال المعجمة: ما يُتَقَذّر به من النجاسات.
(5) وفي نسخة: وما يكره.
(6) وثَّقه ابن معين، وليّنه أبو حاتم، كذا قال السيوطي.
(7) قوله: عن أم ولد، نقل صاحب "الأزهار" عن "الغوامض" أن اسمها حميدة (قال الزرقاني: تابعيّة صغيرة مقبولة، شرح الموطأ 1/56، وذكر الحافظ في التقريب 2/595: حميدة عن أم سلمة، يقال هي أمُّ ولد إبراهيم، مقبولة، من الرابعة) ، ذكره السيد، وقال ابن حجر: مرّة أنها مجهولة، ومع ذلك الحديث حسن، وهو غير صحيح إلا أن يُقال إنه حسن لغيره، كذا في "مرقاة المفاتيح".
(8) قوله: أنها سألت، قد أخرج هذا الحديث أبو داود، وسكت عليه، والدارمي والترمذي وأحمد أيضاً، ذكره القاري، وقد ذكرته في رسالتي "غاية المقال في ما يتعلق بالنعال" مع ما له وما عليه، وقد طُبعت تلك الرسالة في سنة (1287 هـ) ، ووقع في النُّسَخ المطبوعة: روى أبو داود بإسناده عن أمِّ سلمة أنها سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: إني امرأةٌ أُطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر فقال(2/84)
زوجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ:
__________
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يطهره ما بعده إلى آخره، وهذا غلط وقع من مهتمِّي الطبع، والذي في مسودَّتي بخطي: روى أبو داود بإسناده إلى أم سلمة أن امرأة سألتها فقالت: إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر، فقالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم....إلى آخره، فليُتنبه لذلك وليبلِّغ الشاهد الغائب.
(1) من الإِطالة.
(2) قوله: في المكان القذر، قال النوويّ: أراد بالقذر نجاسة يابسة.
(3) أي النجس، وهو بكسر الذال أي في مكان ذي قذر.
(4) قوله: فقالت....إلى آخره، أفتت أم سلمة في هذه المسألة بمثل ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ما روي أن امرأة من بني عبد الأشهل قال: قلت: يا رسول الله، إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة، فكيف نفعل إذا مُطرنا؟ قالت: فقال: أليس بعدها طريق أطيب منها؟ قالت: بلى، قال: فهذه بهذه، أخرجه أبو داود وسكت عليه. وقد اختلفت أقوال العلماء في هذين الحديثين، فقال الطيِّبي في "حواشي المشكوة": الحديثان متقاربان، ونقل الخطَّابي (معالم السنن 1/118) عن أحمد ليس معناه أنه إذا أصابه بول، ثم مرّ بعده على الأرض أنها تطهره، ولكنه يمرّ بالمكان القذر، فيقذره، ثم يمرّ بمكان أطيب فيكون هذا بذلك، وقال مالك في ما روي أن الأرض يطهر بعضها بعضاً: إنما هو أن يطأ الأرض القذرة ثم يطأ الأرض اليابسة النظيفة، فإن بعضها يطهر بعضاً، وأما النجاسة مثل البول وغيره يصيب الثوب أو بعض الجسد، فإن ذلك لا يطهره إلا الغسل إجماعاً. انتهى ملخصاً (يستفاد من تفسير مالك وأحمد أن النجاسة الرطبة ذات جرم كالقذر دون الرقيق كالبول لا كما يزعمه النووي عامَّاً في كل رطبة، انظر "المجموع" 1/96) وقال القاري في(2/85)
إِنِّي امرأةٌ أُطيل (1) ذَيْلي، وَأَمْشِي فِي الْمَكَانِ (2) القَذِر (3) ، فَقَالَتْ (4) أُمُّ سَلَمَةَ: قَالَ (5) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُطَهِّرُهُ (6) مَا بَعْدَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ بِذَلِكَ مَا لَمْ يعلق بالذيل قذر، فيكون أكثر
__________
"المرقاة" قلت: الحديثان متباعدان لا كما قيل إنهما متقاربان، فإنَّ الأول مطلق قابل لأن يتقيد باليابس، وأما الثاني فصريح في الرطب، وما قاله أحمد ومالك التأويل لا يشفي الغليل، ولو حمل على أنه من باب طين الشارع وأنه طاهر أو معفوّ عنه لعموم البلوى لكان له وجه وجيه لكن لا يلائمه قوله: أليس بعدها إلى آخره، فالمخلص ما قاله الخطابي من أن في إسناد الحديثين معاً مقالاً لأن أم ولد إبراهيم وامرأة من بني عبد الأشهل مجهولتان لا يُعرف حالهما في الثقة والعدالة فلا يصح الاستدلال بهما، انتهى، وقال أيضاً: من الغريب قول ابن حجر: وزَعْمُ أن جهالة تلك المرأة تقتضي رد حديثها ليس في محله لأنها صحابية وجهالة الصحابة لا تضر لأن الصحابة كلهم عدول فإنه عدول عن الجادَّة لأنها لو ثبت أنها صحابية لما قيل إنها مجهولة (مرقاة المصابيح 2/77) ، انتهى. أقول: هذا عجيب جداً فإن الحديث الثاني عنوانه ينادي على أن تلك المرأة السائلة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صحابية حيث شافهته وسألته بلا واسطة، لكن لما لم يطَّلعوا على اسمها ونسبها قالوا إنها مجهولة، فهذا لا يقدح في كونها صحابية، ولا يلزم من كونها صحابية أن يُعلم اسمها ورسمها، وهذا أمر ظاهر لمن له خبرة بالفن، وقد صرح به القاري نفسه في مواضع بأن جهالة الصحابي لا تضر، فكيف يعتقد ههنا المنافاة بين الجهل وبين الصحابية، فظهر أن ما ذكره من المخلص ليس بمخلص، بل المخلص أن يُحمل حديث أم سلمة على القذر اليابس كما حمله عليه جماعة، والثاني على تنجُّس النعل والخف ونحو ذلك مما يطهر بالدلك في موضع طاهر إذ ليس فيه تصريح بالذيل.
(5) أي في جواب مثل هذا السؤال.
(6) أي الذيل.(2/86)
مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ (1) الْمِثْقَالِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلا يصلِّيَنَّ فِيهِ حَتَّى يَغْسِلَهُ، وَهُوَ قَوْلُ (2) أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
101 - (بَابُ فَضْلِ الجِهاد (3))
299 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّناد (4) ، عَنِ الأَعْرَجِ (5) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: مَثَلُ الْمُجَاهِدِ (6) فِي سَبِيلِ اللَّهِ (7) كَمَثَلِ (8)
__________
(1) أي الذي قدَّره المثقال، وهذا في الكثيف، وأما في الرقيق فيقدر بقدر عرض الكف.
(2) وبه قال الطبري، وأما عند الشافعي وغيره فقليل النجس وكثيره سواء في افتراض الغسل.
(3) أي المجاهدة في سبيل الله، وهي المحاربة مع الكفار.
(4) عبد الله بن ذَكْوان.
(5) عبد الرحمن بن هرمز.
(6) زاد البخاري عن ابن المسيب عن أبي هريرة: والله أعلم بمن يجاهد في سبيله، أي بحال نيته.
(7) قوله: في سبيل الله، قال الباجي: جميع أعمال البِرّ في سبيل الله إلا أن هذه اللفظة إذا أطلقت في الشرع اقتضت الغزو، والمعنى أن له من الثواب على جهاده مثلَ ثواب المستديم للصيام والصلاة لا يفتر منهما، وإنما أحال على ثواب الصائم والقائم وإن كنّا لا نعرف مقدار ثوابه لما عُرف في الشرع من كثرته وقُرِّر من عظمته.
(8) قوله: كمَثَل....إلى آخره، قال عياض: هذا تفخيم عظيم للجهاد، وفيه أن الفضائل لا تُدرك بالقياس وإنما هي إحسانٌ من الله لمن شاءه.(2/87)
الصَّائِمِ (1) الْقَانِتِ (2) الَّذِي (3) لا يَفْتُرُ (4) مِنْ صيامٍ وَلا صلاةٍ حَتَّى يَرْجِع (5) .
300 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْت (6) أَنْ (7) أقاتلَ في سبيل الله، فأُقتل (8) ،
__________
(1) ومن كان كذلك فأجره مستمرّ، فكذلك المجاهد لا تضيع ساعة من ساعاته.
(2) أي المصلي، ولِيَحيى: كمثل الصائم القائم الدائم الذي ... ، ولمسلم: كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، وزاد النسائي: الخاشع الراكع الساجد.
(3) قوله: الذي لا يفتر، قال البوني: يحتمل أنه ضرب ذلك مثلاً، وإن كان أحدا لا يستطيع كونه قائماً مصلياً لا يفتر ليلاً ولا نهاراً، ويحتمل أنه أراد التكثير (قال ابن دقيق العيد: القياس يقتضي أن الجهاد أفضل الأعمال التي هي وسائل، لأن الجهاد وسيلة إلى إعلان الدين ونشره وإخماد الكفر ودحضه ففضله بحسب فضل ذلك، قلت: أو باعتبار اختلاف الأحوال والأوقات. أوجز المسالك 8/201) .
(4) بسكون الفاء وضم التاء أي لا يمل ولا يكسل.
(5) أي عن غزوة إلى وطنه.
(6) بكسر الدال الأولى: أي تمنيت، وأحببت.
(7) في نسخة: إلى.
(8) قوله: فأقتل ثم أحيى ... إلى آخره، في رواية: ثم أقتل في المواضع
الثلاثة بدل الفاء. قال الطِّيبي: ثم وإن دلّت على تراخي الزمان، لكن الحمل على تراخي الرتبة هو الوجه.
استُشكل هذا التمنِّي منه صلّى الله عليه وسلّم مع علمه بأنه لا يُقتل، وأجاب ابن التين باحتمال أنه قبل نزول قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِن النَّاس} ، ورُدّ بأن نزولها كان في أوائل ما قدم المدينة، وهذا الحديث صرح أبو هريرة في الصحيحين من(2/88)
ثُمَّ أُحيى (1) ، فأُقتل ثُمَّ أُحيى، فأُقتل. فَكَانَ (2) أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ ثَلاثًا: أَشْهَدُ (3) للَّه.
102 - (بَابُ ما يكون من الموتِ شهادة (4))
__________
رواية ابن المسيب عنه بسماعه منه صلّى الله عليه وسلّم، وإنما قدم أبو هريرة في أوائل سنة سبع، والذي يظهر في الجواب أن تمِّني الفضل والخير لا يستلزم الوقوع، فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: وددت لو أن موسى صبر. وله نظائر، كذا قال الزرقاني.
(1) مبني للمفعول فيها.
(2) المعنى كان أبو هريرة يقول: أشهد لله ثلاث مرات.
(3) أي والله لقد قال ذلك.
(4) قوله: ما يكون من الموتِ شهادة، قد ورد في الأخبار عدد كثير لمن يجد ثواب الشهادة، فمن ذلك (1) المقاتل (في الأصل القاتل، وهو خطأ) المجاهد وهو أعلى الشهداء، (2) والمطعون، (3) والمبطون، (4) والغريق، (5) وصاحب ذات الجنب، (6) والحريق، (7) والتي تموت بجُمع، (8) والذي يموت بهدم، (9) ومن يقصد الشهادة ويعزم عليه ولا يتفق له ذلك كما هو ثابت في حديثي الباب، (10) وصاحب السّلّ، أخرجه أحمد من حديث راشد بن خنيس والطبراني من حديث سلمان، (11) والغريب أي المسافر بأي مرض مات، أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس والبيهقي في "الشُّعَب"، من حديث أبي هريرة والدارقطني من حديث ابن عمر والصابوني في "المائتين" من حديث جابر والطبراني من حديث عنترة، (12) وصاحب الحُمّى، أخرجه الديلمي من حديث أنس، (13) واللَّديغ، (14) والشريق، (15) والذي يفترسه السَّبع، (16) والخارّ عن دابّته، رواها الطبراني من حديث ابن عباس، (17) والمتردِّي، أخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود، (18) والميت على فراشه في سبيل الله، رواه مسلم من حديث أبي هريرة، (19) والمقتول دون ماله، (20) والمقتول دون دينه، (21) والمقتول(2/89)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
دون دمه، (22) والمقتول دون أهله، أخرجه أصحاب السنن من حديث سعيد بن زيد، (23) أو دون مظلمته، أخرجه أحمد من حديث ابن عباس، (24) والميت في السجن وقد حُبس ظلماً، رواه ابن مندة من حديث عليّ، (25) والميت عشقاً وقد عفَّ وكتم، أخرجه الديلمي من حديث ابن عباس، (26) والميت وهو طالب العلم، أخرجه البزّار من حديث أبي ذرّ وأبي هريرة، (27) والمرأة في حملها إلى وضعها إلى فصالها، ماتت بين ذلك، أخرجه أبو نعيم من حديث ابن عمر، (28) والصابر القائم ببلد وقع به الطاعون، أخرجه أحمد من حديث جابر، (29) والمرابط في سبيل الله، (30) ومن قُتل بأمره الإِمَام الجائر بالمعروف ونهيه عن المنكر، (31) ومن صبر من النساء على الغَيْرة، أخرجه البزّار والطبراني من حديث ابن مسعود، (32) ومن قال كلَّ يوم خمساً وعشرين مرة: اللهم بارك لي في الموت وفي ما بعد الموت، أخرجه الطبراني من حديث عائشة، (33) ومن صلّى الضحى وصام ثلاث أيام من الشهر ولم يترك الوتر في السفر ولا الحضر، أخرجه الطبراني من حديث ابن عمر، (34) والمتمسِّك بالسُّنَّة عند فساد الأمة، أخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة، (35) والتاجر الأمين الصدوق، أخرجه الحاكم من حديث ابن عمر، (36) ومن دعا في مرضه أربعين مرة: لا إله إلاَّ أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين ثم مات، أخرجه الحاكم من حديث سعد، (37) وجالب طعام إلى بلد، أخرجه الديلمي من حديث ابن مسعود، (38) المؤذن المحتسب، أخرجه الطبراني من حديث ابن عمر، (39) ومن سعى على امرأته أو ما ملكت يمينه يُقيم فيهم أمرَ الله ويطعمهم من الحلال، (40) ومن اغتسل بالثلج فأصابه بَرد، (41) ومن صلّى على النبي صلّى الله عليه وسلّم مائة مرة، أخرج الأول ابنُ أبي شيبة في "المُصَنَّف" عن الحسن، والثاني الطبراني في "الأوسط" من حديث أنس، (42) ومن قال حين يصبح ويمسي: "اللهمّ إني أُشهدك أنّك أنتَ اللهُ الذي لا إله إلاّ أنتَ وحدك لا شريكَ لك وأن محمداً عبدك ورسولك، أبوء بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب غيرك" أخرجه الأصبهاني من حديث حذيفة،(2/90)
301 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ (1) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ، عَنْ عَتِيكِ (2) بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَتِيكٍ - وَهُوَ جَدّ (3) عَبْدِ الله بن عبد الله بن جابر (4) - أي أَخْبَرَهُ أَنَّ جَابِرَ (5) بْنَ عَتِيكٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ يَعُود عَبد الله (6) بنَ ثابت (7)
__________
(43) ومن قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ويقرأ ثلاث آيات من سورة الحشر، أخرجه الترمذي من حديث معقل، (44) ومن مات يوم الجمعة، أخرجه حُمَيد بن منجويه من حديث رجل من الصحابة، (45) ومن طلب الشهادة صادقاً، أخرجه مسلم.
فهذه خمسة وأربعون (45) ورد فيهم أن لهم أجر الشهداء (وبلغ إلى قريب من ستين. انظر أوجز المسالك 4/269) ، وقد ساق الأخبار الواردة فيها السيوطيُّ في رسالته "أبواب السعادة في أسباب الشهادة" مع زيادة.
(1) تابعيّ مدنيّ أنصاريّ، وثّقه ابن معين وأبو حاتم والنسائي، كذا في "الإِسعاف".
(2) مقبول قاله في "التقريب".
(3) أبو أمِّه.
(4) الأنصاري، المدني.
(5) صحابيّ جليل، مات سنة (61) ، كذا ذكره الزرقاني.
(6) قوله: عبد الله بن ثابت، هو أوسيّ، ويقال ظفري، مات في العهد النبوي، وقال الواقدي وابن الكلبي: هو عبد الله بن عبد الله له ولأبيه صحبة، قال الكلبي: دَفَنَه صلّى الله عليه وسلّم في قميصه وعاش الأبُ
إلى خلافة عمر، كذا ذكره الزرقاني.
(7) ابن قيس الأنصاري.(2/91)
فَوَجَدَهُ قَدْ غُلب (1) ، فَصَاحَ (2) بِهِ فَلَمْ يُجِبْه، فَاسْتَرْجَعَ (3) رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: غُلبنا (4) عَلَيْكَ يَا أَبَا الرَّبِيعِ (5) فَصَاحَ النِّسْوَةُ (6) وبَكَيْنَ، فَجَعَلَ ابْنُ عَتِيكٍ يُسْكِتُهُنَّ (7) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُنَّ فَإِذَا وَجَبَ (8) فَلا تَبْكِيَنَّ (9) بَاكِيَةً، قَالُوا: وَمَا الْوُجُوبُ (10) يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا مَاتَ، قالت
__________
(1) بصيغة المجهول أي غلبه الألم حتى منعه مجاوبةَ النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(2) أي رفع صوته في الكلام معه.
(3) أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
(4) بصيغة المجهول، وفيه إيماء إلى قوله تعالى: {والله غالب على أمره} إن المخلوق مأسور في قبضه وقضائه.
(5) قوله: يا أبا الربيع، فيه تكنية الرئيس لمن دونه ولم يستكبر عن ذلك من الخلفاء إلاّ من حُرم التقوى.
(6) اسم جمع لا جمع.
(7) قوله: يُسْكِتُهُنَّ، لأنه سمع النهيَ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وحمله على عمومه.
(8) أي مات، وأصله ومن وجب الحائط إذا سقط، ووجبت الشمس أي غابت.
(9) قوله: فلا تبكِيَنّ، أي لا ترفع صوتها، أما دمع العين وحزن القلب فالسنة ثابتة بإباحة ذلك في كل وقت، وعليه جماعة العلماء بكى صلّى الله عليه وسلّم على ابنه إبراهيم، وعلى ابنته، وقال: هي رحمة جعلها الله في قلوب عباده، ومرَّ بجنازة يبكى عليها فانتهرهنَّ عمر، فقال: دعهن فإن النفس مصابة، والعين واسعة، والعهد قريب، قال أبو عمر (في الأصل: أبو عمرو، وهو خطأ) .
(10) الذي أردت بقولك إذا مات.(2/92)
ابْنَتُهُ (1) : وَاللَّهِ إِنِّي كنتُ لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ شَهِيدًا، فَإِنَّكَ قَدْ كنتَ قضيتَ (2) جَِهَازَك (3) ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْقَعَ (4) أجرَه (5) عَلَى قَدْرِ (6) نيَّته، وَمَا (7) تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ؟ قَالُوا: القتلُ (8) فِي
__________
(1) أي ابنة المريض.
(2) أي أتممت.
(3) بالفتح والكسر ما يُعدُّ الرجل للسفر، والمعنى إنك قد هيَّأتَ أسباب السفر وزاد الحرب للغزاة.
(4) أي أوجب ثواب غزوة.
(5) أي ولو كان هو في بيته.
(6) قوله: على قدر نيته، قال ابن عبد البر: فيه أن المتجهِّز للغزو إذا حيل بينه وبينه يُكتب له أجر الغزو على قدر نيَّته، والآثار بذلك متواترة صحاح.
(7) استفهام.
(8) بالنصب على تقدير "نعدّ"، وبرفعه على تقدير "هي".
(1) زاد ابن ماجه: إن شهداء أمتي إذن لقليل.
(2) أي الحكمية.
(3) قال السيوطي: هم أكثر من ذلك وقد جمعتهم في جزء فناهز الثلاثين.
قوله: سبع، أعلم أن الشهيد ثلاثة: شهيد في الدنيا والآخرة، وشهيد في الدنيا فقط، وشهيد في الآخرة فقط، فالأول من قاتل الكفار لتكون كلمة الله هي العليا، والثاني من قاتلهم لغرض من أغراض الدنيا، والثالث هو من ذُكر. وسُمِّي الشهيد شهيداً لأنَّ روحه شهدت حضرة دار السلام وروح غيره إنما تشهدها يوم القيامة، وقيل غير ذلك من وجوه، كذا في رسالة "الشهداء" لعلي الأجهوري.(2/93)
سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (1) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشَّهَادَةُ (2) سَبْع (3) سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: الْمَطْعُونُ (4) شَهِيدٌ، وَالْغَرِيقُ (5) شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ (6) ذَاتِ الجَنْب شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الْحَرِيقِ (7) شَهِيدٌ، وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ (8) تَمُوتُ بِجَمْعٍ شهيد،
__________
(4) أي الذي يموت بالطاعون. قوله: المطعون، قال أبو الوليد الباجي في "شرح الموطأ": الطاعون مرض يعم الكثير من الناس في جهة من الجهات بخلاف المعتاد من أمراض الناس يكون مرضهم واحداً، وقال عياض: أصل الطاعون القروح الخارجة في الجسد، والوباء عموم الأمراض، فسُمِّيت طاعوناً لشبهها بالهلاك بذلك، وإلاَّ فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعوناً. وقال النوويّ في "تهذيب الأسماء واللغات": الطاعون مرض معروف، وهو بثر وورم مؤلم جدّاً، يخرج مع لهب ويسوّدُّ ما حواليه أو يخضرُّ أو يحمرُّ حمرة بنفسجية، ويحصل معه خَفَقان القلب ويخرج في المراق والآباط غالباً وفي الأيدي والأصابع وسائر الجسد، كذا في "بذل الماعون في فضل الطاعون" للحافظ ابن حجر.
(5) قوله: والغريق، أخرج ابن ماجه عن أبي أمامة: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن الله وكَّل ملكاً بقبض الأرواح إلاَّ شهداء البحر، فإنه يتولّى قبضَ أرواحهم، كذا في "الحبائك في أخبار الملائك" للسيوطي.
(6) قوله: وصاحب ذات الجنب، هو مرض معروف وهو ورم حارّ يعرض في الغشاء المستبطن الأضلاع.
(7) الذي يُحرق بالنار.
(8) قوله: والمرأة تموت بجمع، قال ابن عبد البرّ: هي التي تموت من الولادة ألقت ولدها أم لا. وقيل: هي التي تموت في النفاس، وولدها في بطنها لم تلد، وقيل: هي التي تموت عذراء لم تفتض، قال: والقول الثاني أكثر وأشهر، وقال في "النهاية": تموت بجُمع أي وفي بطنها ولد، وقيل: هي التي تموت بكراً، والجُمع: بالضم بمعنى المجموع، والمعنى أنها ماتت بشيء مجموع فيها غير منفصل عنها من حمل أو بكارة، وما اقتصر من الضم هو إحدى اللغات، فقد ذكر(2/94)
وَالْمَبْطُونُ (1) شَهِيدٌ.
302 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا سُمَيّ (2) ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ (3) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (4) : بَيْنَمَا (5) رجلٌ يَمْشِي وَجَد غصنَ (6) شوكٍ عَلَى الطَّرِيقِ،
__________
في "القاموس" أنه مثلَّث الجيم مع سكون الميم، كذا في رسالة "الشهداء" لعلي الأجهوري.
(1) قوله: والمبطون، قال في "النهاية": هو الذي يموت بمرض بطنه كالاستسقاء ونحوه، وفي كتاب "الجنائز" لأبي بكر المروزي عن شيخه شُرَيح أنه صاحب القولنج، وقال غيره هو صاحب الإِسهال، كذا في رسالة "الشهداء" للأجهوري.
(2) زاد يحيى: مولى أبي بكر بن عبد الرحمن.
(3) قوله: عن أبي صالح، هو ذكوان السَّمّان الزَّيّات المدني، قال أحمد: كان ثقة، أجلّ الناس، وقال ابن المديني: ثقة، ثبت، مات بالمدينة سنة 101، كذا في "الإِسعاف".
(4) قال ابن عبد البر: هذه ثلاثة أحاديث في واحد يرويها كذلك جماعة من أصحاب مالك، وكذا هي محفوظة عن أبي هريرة.
(5) قوله: بينما، أصله بين، فأُشبعت الفتحة، فقيل بينا، وزيدت ما فقيل بينما، وهما ظرفان بمعنى المفأجأة، ويُضافان إلى الجملة الاسمية تارةً وإلى الفعلية أخرى، كذا في "مرقاة المفاتيح".
(6) شاخ درخت خار دار(2/95)
فأخَّرَه (1) فَشَكَرَ (2) اللهُ لَهُ فغَفَر لَهُ، وَقَالَ: الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ (3) : الْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَالْمَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَالْغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الهَدْم (4) ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ: لَوْ يعلمُ (5) الناسُ مَا فِي النِّدَاءِ (6) وَالصَّفِّ (7) الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا (8) إلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا (9)
__________
(بالفارسية) .
(1) أي بعّده عنها.
(2) قوله فشكر الله له: أثنى عليه أو قَبِل عمله، أو أظهر ما جازاه به عند ملائكته فغفر له أي بسبب قبوله غفر له.
(3) هذا العدد وكذا العدد السابق لا مفهوم له.
(4) الذي يموت تحت الهدم.
(5) قوله: لو يعلم الناس، وضع المضارع موضع الماضي ليفيد استمرار العلم، قاله الطيبي.
(6) أي الأذان كما في رواية، قوله: ما في النداء، زاد أبو الشيخ من طريق الأعرج: من الخير والبركة، وقال الطِّيبي: أطلق مفعول يعلم، وهو ما يُبيِّن الفضيلة ما هي ليُفيد ضرباً من المبالغة.
(7) قوله: والصف الأول، قال الباجي: اختُلف فيه هل هو الذي يلي الإِمام، أو المبكِّر السابق إلى المسجد، قال القرطبي: والصحيح أنه الذي يلي الإِمام.
(8) أي حصول كل منهما لمزاحمة.
(9) أي يقترعوا، قوله: إلاَّ أن يستهموا، قال الخطابي وغيره: قيل للاقتراع الاستهام لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام إذا اختلفوا في شيء، فمن خرج اسمه غَلَب.(2/96)
عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا (1) ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ (2) لاسْتَبَقُوا (3) إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي العَتَمَة (4) والصبح (5) لأَتَوْهُما (6) ولو حَبْواً (7) .
__________
(1) قوله: لاستهموا، قد روى سيف بن عمر في كتاب "الفتوح" والطبراني عن شقيق قال: افتتحنا القادسية صدر النهار، فتراجعنا وقد أصيب المؤذن فتشاحّ الناس في الأذان بالقادسية، فاختصموا إلى سعد بن أبي وقاص، فأقرع بينهم، فخرجت القرعة لرجل منهم فأذَّن.
(2) قوله: ما في التهجير، هو التبكير إلى الصلاة أيِّ صلاة كانت كما قاله الهرويّ وغيره، وخصَّه الخليل بالجمعة، وقال النووي: الصواب هو الأول، وقال الباجي: التهجير التبكير إلى الصلاة في الهاجرة وذلك لا يكون إلاَّ في الظهر والجمعة.
(3) قوله: لاستبقوا، قال ابن أبي جمرة: المراد الاستباق معنىً لا حسّاً لأنَّ المسابقة على الأقدام حسّاً تقتضي السرعة في المشي وهو منهيٌّ عنه.
(4) أي العشاء، قوله: ما في العتمة، قال النووي: قد ثبت النهيُ عن تسمية العشاء عَتَمة، والجواب عن هذا الحديث بوجهين: أحدهما: أنه بيان للجواز، والثاني: وهو الأظهر أن استعمال العَتَمة ههنا لمصلحة ونَفْيِ مفسدة، لأن العرب تستعمل لفظ العشاء في المغرب، فلو قال ما في العشاء لحملوها على المغرب وفسد المعنى.
(5) أي في حضورهما.
(6) ولم يلتفتوا إلى عذر مانع.
(7) قوله: ولو حبواً، أي ولو كان الإِتيان حبواً - بفتح مهملة وسكون موحدة - مصدر حبا يحبو إذا مشى الرجل على يديه وبطنه والصبي مشى على إسته، وأشرف بصدره.(2/97)
(أَبْوَابُ الْجَنَائِزِ (1))
1 - (بَابُ الْمَرْأَةِ تُغَسِّلُ (2) زَوْجَهَا)
303 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ بْنُ أَنَسٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ (3) بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ أَسْمَاءَ (4) بِنْتَ عُمَيس امْرَأَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غَسَّلَتْ
__________
(1) قوله: الجنائز، - بفتح الجيم - جمع جَِنازة بالفتح والكسر لغتان، وقيل بالكسر النعش، وبالفتح للميت.
(2) بعد موته.
(3) قوله: عبد الله، هو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني قاضي المدينة المتوفَّى سنة 135 هـ كما ذكره الزرقاني، لا عبد الله بن أبي بكر الصديق كما ظنه القاري.
(4) قوله: أن أسماء بنت عميس، هي أخت ميمونة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأم الفضل زوج العباس، وأخت أخواتهما لأم، وهن تسع، وقيل: عشر، وكانت أسماء من المهاجرات إلى أرض الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب، فولدت له محمداً وعبد الله، وعوناً، ثم هاجرت إلى المدينة، فلما قُتل جعفر تزوَّجها أبو بكر الصديق فولدت له محمداً ولما مات تزوَّجها علي، فولدت له يحيى، كذا في "الاستيعاب" وفيه أيضاً في الكنى: أبو بكر الصديق هو عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر القرشي التيمي، وروى حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن يزيد بن الأصم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي بكر: من أكبر أنا أو أنت؟ فقال: أنت أكبر مني وأكرم، وأنا أسنُّ منك. وهذا الخبر لا يُعرف إلاَّ بهذا الإِسناد، وأظنه وهماً لأن جمهور أهل العلم بالأخبار والسِّيَر يقولون: إن أبا بكر استوفى بمدة خلافته سنّ رسول الله وهو ابن ثلاث وستين سنة.(2/98)
أَبَا بَكْرٍ حِينَ (1) تُوُفِّيَ، فَخَرَجَتْ (2) فَسَأَلَتْ (3) مَنْ حَضَرَهَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَتْ: إِنِّي صَائِمَةٌ، وَإِنَّ هَذَا يومٌ شَدِيدُ الْبَرْدِ فَهَلْ عليَّ (4) مِنْ غُسْلٍ؟ قَالُوا: لا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا بَأْسَ (5) أَنْ تُغَسِّلَ المرأةُ (6) زوجَها إِذَا توفي، ولا غُسل (7)
__________
(1) قوله: حين توفي، ليلةَ الثلاثاء لثمانٍ بقين من الجمادى الآخرة سنة 13 هـ، وله ثلاث وستون سنة كما رواه الحاكم وغيره عن عائشة رضي الله عنها.
(2) أي من المغتسل.
(3) أي مستفتية.
(4) أي يجب عليَّ الغُسْلُ من غسل الميت؟
(5) قوله: لا بأس ... إلىآخره، نقل ابن المنذر وغيره الإِجماع على جواز غُسل المرأة زوجها، وإنما اختلفوا في العكس: فمنهم من أجاز، وإليه مال الشافعي ومالك وأحمد وآخرون، ومنهم من منعه، وهو قول الثوري والأَوْزاعي وأبي حنيفة وأصحابه، كذا ذكر العيني (انظر أوجز المسالك 4/199) .
(6) أي ولو كانت مُحرمة أو صائمة، كذا ذكره الشُّمنِّي.
(7) قوله: ولا غسل....إلى آخره، أقول: يحتمل محملين: أحدهما: أن يكون نفياً للوجوب، والمعنى لا يجب الغسل على من اغتسل، ولا الوضوء. فحينئذٍ لا يكون هذا الكلام نفياً للاستحباب، وثانيهما: أن يكون نفياً للمشروعية، فيكون نفياً للاستحباب أيضاً. والأول أَوْلى، لورود الأمر بالغسل لمن غسل ميتاً، فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندب، وهو ما أخرجه الترمذي وابن ماجه من(2/99)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
حديث عبد العزيز بن المختار، وابن حبان من رواية حماد بن سلمة عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً من غسله الغسل ومن حمله الوضوء وروى أبو داود من رواية عمرو بن عمي عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ، وأخرجه أحمد والبيهقي من رواية صالح مولى التوأمة عنه مرفوعاً - وصالح متكلم فيه - وأخرجه البزار من رواية محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ومن رواية أبي بحر البكراوي عبد الرحمن بن عثمان، عن محمد بن عمر، عن أبي سلمة عنه مرفوعاً. وقد اختلف العلماء في هذا الباب فمذهب جمهور العلماء أنه لا شيء في ذلك، وقال بعض أهل العلم من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن بعدهم: إن عليه الغسل، وقال بعضهم: عليه الوضوء، وقال مالك: أستحب الغسل ولا أرى ذلك واجباً، وقال أحمد: من غسل ميتاً أرجو أن لا يجب عليه الغسل، وقال إسحاق: لا بد فيه من الوضوء، وروي عن ابن المبارك: لا يغتسل ولا يتوضأ من غسل الميت، كذا حكاه الترمذي، وقال الخطّابي في "حواشي سنن أبي داود": لا أعلم أحداً من الفقهاء يوجب غُسل من غَسَل ميتاً ولا الوضوء من حمله ولعله أمرُ ندبٍ. انتهى. وفيه نظر، فقد قال الشافعي: لا غسل عليه إلاَّ أن يثبت حديث أبي هريرة، والخلاف ثابت عند المالكية فروى ابن القاسم وابن وهب عن مالك أنه قال: عليه الغسل، وروى المدنيون وابن عبد الحكم عنه أنه مستحب لا واجب، وهو مشهور مذهبه وصار إلى الوجوب بعض الشافعية أيضاً، كذا ذكره الحافظ ابن حجر والزرقاني وغيرهما. ولما استُشكل على القائلين بعدم الوجوب ورودُ حديث أبي هريرة، وظاهره الوجوب، أجابوا عنه بوجوه:
الأول: أنَّ أبا هريرة تفرَّد بروايته، وفي قبول خبر الواحد في ما يعم به البلوى كلام، وفيه نظر فإنه مع قطع النظر عما يرد على ما أصّلوه من عدم قبول خبر الواحد في ما يعمُّ به البلوى لا يثبت تفرد أبي هريرة، ففي الباب عن عائشة رواه أحمد والبيهقي، وفي إسناده مصعب بن شيبة وفيه مقال، وضعفه أبو زرعة وأحمد(2/100)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
والبخاري، وصحَّحه ابن خزيمة، كذا ذكره ابن حجر في "تخريج أحاديث الرافعي"، وعن حذيفة ذكره ابن أبي حاتم والدارقطني في "العلل"، وقالا: إنه لا يثبت، قال ابن حجر: نفيهما الثبوت على طريق المحدِّثين، وإلاَّ فهو على طريقة الفقهاء قويّ، لأنَّ رواته ثقات أخرجه البيهقي من طريق معمر عن أبي إسحاق، عن أبيه، عن حذيفة، وعن أبي سعيد رواه ابن وهب في جامعه، وعن المغيرة رواه أحمد، وعن علي أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن أبي شيبة والبزار وأبو يعلى عنه قال: لما مات أبو طالب أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: إن عمَّك الشيخَ الضَّالَّ قد مات فقال: انطلق فوارِه ولا تحدثن حدثاً حتى تأتيني، فانطلقت فواريته، فأمرني فاغتسلت فدعا لي. ووقع عند أبي يعلى في آخره، وكان عليّ إذا غسل ميتاً اغتسل. وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" بلفظ: لما أخبرت رسولَ الله بموت أبي طالب بكى، وقال: اذهب فاغسله وكفِّنه، قال ففعلت ثم أتيته فقال لي: اذهب فاغتسل، وروى البيهقي هذا الحديث وضعَّفه، قال ابن حجر: مدار كلام البيهقي على الضعيف، ولا يتبين وجه ضعفه. انتهى.
الوجه الثاني: أن جماعة من المحدثين صرَّحوا بتضعيف طرق أبي هريرة بل صرح بعضهم بأنه لا يثبت في هذا الباب شيء، فنقل الترمذي عن ابن المديني والبخاري أنهما قالا: لا يصح في الباب شيْء، وقال الذُّهلي: لا أعلم فيه حديثاً ثابتاً، لو ثبت للزمنا استعماله، وقال ابن المنذر: ليس في الباب حديث يثبت، وقال ابن أبي حاتم في "العلل": حديث أبي هريرة لا يرفعه الثقات، إنما هو موقوف، وقال الرافعي: لم يصحِّح علماء الحديث في هذا الباب شيئاً مرفوعاً، وفيه نظر، لأنَّ بعض الطرق وإن كانت ضعيفة لكنَّ ضعفها ليس بحيث لا ينجبر بكثرة الطرق مع أنَّ بعض طرقها بانفراده حسن أيضاً. قال الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث الرافعي" بعد نقل كلام الرافعي: قلت: قد حسَّنه الترمذي وصحَّحه ابن حبان، وله طريق آخر، قال عبد الله بن صالح، حدثنا يحيى بن أيوب عن عقيل، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أي هريرة رفعه: من غسل ميتاً فليغتسل،(2/101)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ذكره الدارقطني، وقال: فيه نظر. قلت: رواته موثُّقون، وقال ابن دقيق العيد في "الإِمام": لا يخلو إسناد من طرق هذا الحديث من متكلَّم فيه، وأحسنُها رواية سهيل عن أبيه، عن أبي هريرة وهي معلولة، وإن صحَّحها ابن حبان وابن حزم، فقد رواه سفيان عن سهيل، عن أبيه، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة، قلت: إسحاق أخرج له مسلم، فينبغي أن يصحِّح الحديث، قال: وأما رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة فإسناده حسن إلاَّ أنَّ الحفّاظ من أصحاب محمد بن عمرو روَوْه عنه موقوفاً. وفي الجملة هو بكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسناً، فإنكار النووي على الترمذي بتحسينه معتَرَض، وقد قال الذهبي في "مختصر البيهقي": طرق هذا الحديث أقوى من عدة أحاديث احتَجَّ بها الفقهاء ولم يُعِلّوها: بالوقف، بل قدّموا رواية الرفع، وذكر الماورديّ أن بعض أصحاب الحديث خرَّج لهذا الحديث مئةً وعشرين طريقاً، قلت: ليس ذلك ببعيد. انتهى. ملخصاً.
الوجه الثالث: أنَّ الأمر بالغسل لمن غسل ميتاً منسوخ جزم به أبو داود ونقله عن أحمد، وأيَّده بعضهم بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر النسوة اللّواتي (في الأصل "التي"، والظاهر ما أثبتناه كما في "التلخيص" 2/106) غَسَّلن ابنته بالغسل، ولو كان واجباً لأمرهن، وفيه نظر لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، بل إذا وُجد ناسخ صريح متأخِّر وهو مفقود.
الوجه الرابع: وهو أَوْلاها حمل الأمر على الندب، ويؤيِّده ما رواه الخطيب في ترجمة محمد بن عبد الله المخزومي من طريق عبد الله بن أحمد قال أبي: كتبتَ حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل؟ قال: قلت: لا، قال: في ذلك الجانب شابٌّ يقال له: محمد بن عبد الله يحدِّثه عن أبي هشام المخزومي عن وهيب فاكتبه عنه، قال الحافظ ابن حجر: هذا إسناد صحيح، وهو أحسن ما جُمع به بين مختلف هذه(2/102)
عَلَى مَنْ غَسَّلَ الْمَيِّتَ وَلا وُضُوءَ إلاَّ (1) أَنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ (2) الْمَاءِ فَيَغْسِلَهُ (3) .
2 - (بَابُ مَا يُكَفَّن بِهِ الْمَيِّتُ)
304 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ الزُّهري، عَنْ حُمَيْدِ (4) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (5) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ: الْمَيِّتُ يُقمّص ويُؤزّر (6) ،
__________
الأحاديث. انتهى. ومما يؤيد صرف الأمر الوارد في حديث أبي هريرة عن الوجوب ما أخرجه البيهقي من طريق الحاكم - وقال ابن حجر: إسناده حسن - عن ابن عباس مرفوعاً: ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه، إن ميتكم يموت طاهراً وليس بنجس فحسبكم أن تغسلوا أيديكم. ويؤيِّده أيضاً ما رواه أبو منصور البغدادي من طريق محمد بن عمرو بن يحيى، عن عبد الرحمن بن عاطب، عن أبي هريرة: من غسل ميتاً اغتسل ومن حمله توضأ، فبلغ ذلك عائشة، فقالت: أوَيَنجس موتى المسلمين وما على رجل لو حمل عوداً. ذكره السيوطي في رسالته "عين الإِصابة في استدراك عائشة على الصحابة" وخلاصة المرام أنه لا سبيل إلى ردِّ حديث أبي هريرة مع كثرة طرقه وشواهده ولا إلى دعوى نسخه بمعارضة الأحاديث الأُخَر، بل الأسلم الجمع بحمل الأمر على الندب والاستحباب.
(1) استثناء منقطع.
(2) أي ماء غسل الميت.
(3) أي ذلك المكان الذي أصابه ذلك الماء المستعمل احتياطاً.
(4) الزهري المدني، ثقة من كبار التابعين، مات سنة 105، قاله الزرقاني.
(5) زاد يحيى: بن عوف.
(6) بصيغة المجهول فيهما، أي يَلْبَس القميص والإِزار. قوله: يقمص، ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الميت يكفن في ثلاث(2/103)
ويُلَفُّ بِالثَّوْبِ الثَّالِثِ (1) ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلاَّ ثوبٌ وَاحِدٌ كُفِّنْ فِيهِ (2) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، الإِزار بِجَعْلِ (3) لِفَافَةٍ مِثْلَ الثَّوْبِ الآخَرِ أحبُّ (4) إِلَيْنَا مِنْ أَنْ يُؤَزَّرَ، وَلا يُعْجِبُنَا أن ينقص (5) الميت في
__________
لفائف، ولا يقمص ولا يؤزر أخذاً من حديث عائشة: كُفِّن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة. أخرجه الأئمة الستة وغيرهم. وذهب الحنفية والمالكية إلى إدخال القميص في الكفن أخذاً مما روى ابن عدي في "الكامل"، عن جابر قال: كُفِّن النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم في ثلاثة أثواب: قميص، وإزار، ولفافة. وفي سنده ناصح بن عبد الله الكوفي متكلَّم فيه. وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال: كُفِّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ثلاثة أثواب: قميصه الذي مات فيه حلّة نجرانية، وفيه يزيد بن أبي زياد مجروح. وقالوا بأن معنى قول عائشة إن القميص والعمامة زائدتان على الثلاثة، ورُدَّ بأنه خلاف الظاهر، وأولى ما يُحتج به لإِثبات القميص حديث جابر في قصة موت عبد الله بن أبيّ، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم أعطى ابنه قميصه ليكفِّنه فيه بعدما طلبه، فكفَّنه فيه. أخرجه البخاريُّ وغيره، ويوافقه أثر عبد الله بن عمرو المخرَّج ههنا.
(1) الرداء.
(2) ولا ينتظر بدفنه إلى شيء آخر.
(3) في نسخة: يجعل.
(4) قوله: أحبُّ إلينا من أن يؤزر، يعني أن إزار الميت ليس كإزار الحي ولا يؤزر كما يُؤزر الحيّ على ما يفيده ظاهر أثر ابن عمرو، بل يُجعل الإِزار كاللفافة، ويُبسط ويُلَفُّ الميت فيهما.
(5) قوله: أن ينقص ... إلخ، يشير إلى أن النقصان من الثلاثة إلى ثوبين لا بأس به لقول أبي بكر الصديق: اغسلوا ثوبَيّ هذين، وكفِّنوني فيهما. أخرجه أحمد ومالك وعبد الرزاق وابن سعد وغيرهم، وأخرج الأئمة الستة في حديث(2/104)
كَفَنِهِ مِنْ ثَوْبَيْنِ إلاَّ مِنْ ضَرُورَةٍ (1) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
3 - (بَابُ الْمَشْيِ بِالْجَنَائِزِ وَالْمَشْيِ مَعَهَا)
305 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: أَسْرِعوا بِجَنَائِزِكُمْ (2) فَإِنَّمَا هُوَ خيرٌ (3) تقدِّمونه (4) أَوْ شرٌّ (5) تُلْقُونه عَنْ رِقَابِكُمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، السُّرْعَةُ (6) بِهَا أحبُّ إِلَيْنَا مِنَ الإِبطاء، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة رحمه الله.
__________
المُحرم الذي وقصته راحلته فمات، قال رسول الله: كفِّنوه في ثوبيه ولا تخمِّروا وجهه، الحديث. وأما الزيادة على الثلاثة فعند كثير من أصحابنا والشافعية لا يُكره بشرط أن يكون وتراً لأن ابن عمر كفن ابناً له في خمسة أثواب: قميص وعمامة وثلاث لفائف، رواه البيهقي. لكن الأفضل هو الاقتصار على الثلاث ذكره في "ضياء الساري".
(1) قوله: إلاَّ من ضرورة، لأن مصعب بن عمير حين استُشهد يوم أحد لم يَترك إلاّ بردة (كفاية الثوب الواحد عند الضرورة مجمع عليه عند الأربعة كما صرح به أهل فروعهم، والجمهور على أن الثوب الواحد ينبغي أن يكون ساتراً لجميع البدن، أوجز المسالك 4/209) ، فكُفِّن فيه، أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما.
(2) أي بتجهيز ميتكم ودفنه أو بالتعجيل في المشي به.
(3) أي صاحب خير أو أُريد به المبالغة.
(4) وفي بعض النسخ تقدمونه إليه، أي إلى خير فهو خير له.
(5) أي إلى شرّه في قبره.
(6) قوله: السرعة، المعتدلة من غير أن يُفضي إلى العَدْو، لما أخرجه(2/105)
306 - أخبرنا مالك، حدثنا الزهري قال (1) : كان
__________
أبو داود والترمذي من حديث ابن مسعود قال: سأَلْنا رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم عن المشي خلف الجنازة؟ قال: ما دون الخبب (في الأصل: "الجنب"، وهو خطأ) فإن يكُ خيراً عجَّلتموه وإن كان شرّاً فلا يبعد إلاَّ أهل النار. ولأبي داود والحاكم من حديث أبي بكرة: لقد رأيتنا مع رسول الله وإنا لنكاد أن نرمل بها رملاً. ولابن ماجه وقاسم بن أصبغ من حديث أبي موسى: عليكم بالقصد في جنائزكم إذا مشيتم. ورواه البيهقي ثم أخرج عنه من قوله: إذا انطلقتم بجنازتي فأسرعوا بالمشي. وقال: هذا يدل على أن المراد كراهة شدة الإِسراع.
(1) قوله: قال كان ... إلى آخره، قال الحافظ في: "التلخيص الحبير": روى أحمد وأصحاب السنن والدارقطني وابن حبان والبيهقي من حديث ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: رأيتُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة، قال أحمد: إنما هو عن الزهريّ مرسل، وحديث سالم فعل ابن عمر، وحديث ابن عيينة وهمٌ. وقال الترمذي: أهل الحديث يَرَوْن المرسل أصح، قاله ابن المبارك، قال: وروى معمر ويونس ومالك عن الزهري أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يمشي أمام الجنازة، قال الزهري: وأخبرني سالم أن أباه كان يمشي أمام الجنازة، قال الترمذي: ورواه ابن جريج عن الزهري مثل ابن عيينة، ثم روى عن ابن المبارك أنه قال: أرى ابن جريج أخذه عن ابن عيينة وقال النسائي: وصْلُه خطأ، والصواب مرسل، وقال أحمد: نا حجاج قرأت على ابن جريج، نا زياد بن سعد أن ابن شهاب أخبره، حدثني سالم أن ابن عمر كان يمشي بين يدي الجنازة. وقد كان رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر يمشون أمامها، قال عبد الله: قال أبي ما معناه: القائل: وقد كان إلى آخره: هو الزهري، وحديث سالم فعل ابن عمر، واختار البيهقي ترجيح الموصول لأنه من رواية ابن عيينة، وهو ثقة، حافظ. وعن ابن المديني قال: قلت لابن عيينة: يا أبا محمد خالفك الناس في هذا الحديث، فقال: حدثني الزهري مراراً لست أحصيته سمعته من فِيه عن سالم عن أبيه.
قلت: هذا لا ينفي عنه الوهم لأنه ضبط أنه سمعه عن سالم عن أبيه والأمر(2/106)
رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي أَمَامَ (1) الْجِنَازَةِ، وَالْخُلَفَاءُ (2) هَلُمَّ جَرًّا وَابْنُ عُمَرَ (3) .
307 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ رَبِيعَةَ (4) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُدير (5) : أَنَّهُ رَأَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يقْدُمُ الناسَ أَمَامَ جِنَازَةِ زَيْنَبَ (6) بِنْتِ جَحْشٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَشْيُ أَمَامَهَا حَسَنٌ، وَالْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ (7) ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة رحمه الله.
__________
كذلك إلاَّ أن فيه إدراجاً لعل الزهريّ أدمجه أو حدّث به ابن عيينة وفصله لغيره وقد أوضحتُه في "المدرج" بأتم من هذا.
(1) أي قدّامها لأنه شفيعٌ لها.
(2) أي واحداً بعد واحد في حين خلافته.
(3) أي عبد الله بن عمر أيضاً كان يمشي أمامها وكان من أشد الناس اتّباعاً للسنة.
(4) ذكره ابن حبان في ثقات التابعين مات سنة 93، كذا قال الزرقاني.
(5) بالتصغير.
(6) الأسدية أم المؤمنين، ماتت سنة عشرين عند ابن إسحاق، وقيل إحدى وعشرين وكانت أول أمهات المؤمنين موتاً، قاله الزرقاني.
(7) قوله: أفضل، اختلفوا فيه بعد الاتفاق على جواز المشي أمام الجنازة وخلفها وشِمالها وجنوبها اختلافاً في الأولوية على أربعة مذاهب، الأول (1) : التخيير من دون أفضليةِ مشيٍ على مشي وهو قول الثوريّ وإليه مَيْل البخاري، ذكره الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"، وسنده قول أنس: إنما أنتم مشيِّعون فامشوا بين يديها وخلفها وعن يمينها وشمالها، علَّقه البخاري في صحيحه، ووصله(2/107)
4 - (بَابٌ الْمَيِّتُ لا يُتَّبَعُ بنارٍ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ مِجْمَرة فِي جِنَازَتِهِ)
308 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا سعيد بن أبي سعيد المقبري:
__________
عبد الوهاب بن عطاء الخفاف في كتاب "الجنائز" له. والثاني (2) : أن أمام الجنازة أفضل في حق الماشي وخلفها أفضل للراكب، وهو مذهب أحمد ذكره الزيلعي واستدلّ بحديث المغيرة مرفوعاً: الراكب يسير خلف الجنازة والماشي يمشي أمامها قريباً عنها أو عن يمينها أو يسارها. أخرجه أصحاب السنن الأربعة وأحمد والحاكم وقال: على شرط البخاري، قال الزيلعي: وفي سنده اضطراب ومتنه أيضاً، والثالث (3) : مذهب الشافعي ومالك - وهو قول الجمهور قاله ابن حجر - أن المشي أمامها أفضل، والمستَنَد لهم حديث الزهري وغيره، والرابع (4) : مذهب أبي حنيفة والأَوْزاعي وأصحابهما وهو أن المشي خلفها أفضل، ويؤيّده آثار وأخبار، فأخرج سعيد بن منصور والطحاويّ وابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن أبْزَى قال: كنتُ في جنازة وأبو بكر يمشي أمامها وكذا عمر، وعليٌّ يمشي خلفها، فقلت لعلي: أراك تمشي خلف الجنازة فقال: لقد عَلِما أنَّ المشي خلفها أفضل، إن فضل المشي خلفها على المشي أمامها كفضل صلاة الجماعة على الفذّ، ولكنهما أحبّا أن ييسِّرا على الناس. وإسناده حسن، وهو موقوف في حكم المرفوع ذكره ابن حجر في الفتح، وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن أباه قال له: كن خلفَ الجنازة فإن أمامها للملائكة وخلفها لبَنِي آدم (قال النيمويّ: إسناده حسن. أوجز المسالك 4/212) . وأخرج أبو داود والترمذي عن ابن مسعود مرفوعاً: الجنازة متبوعة وليس معها من تقدّمها. وسنده متكلم فيه. وفي الباب آثار وأخبار أُخَر مبسوطة في "شرح معاني الآثار"، و"نصب الراية".(2/108)
أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ (1) نَهَى (2) أَنْ يُتَّبَعَ بنارٍ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ بمِجْمَرة (3) فِي جِنَازَتِهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
5 - (بَابُ الْقِيَامِ لِلْجِنَازَةِ)
309 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى (4) بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ وَاقِدِ (5) بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ نَافِعِ (6) بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ، عَنْ معَوِّذ (7) بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان (8)
__________
4 - (بَابٌ الْمَيِّتُ لا يُتَّبَعُ بنارٍ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ مِجْمَرة فِي جِنَازَتِهِ)
308 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا سعيد بن أبي سعيد المقبري:
(1) كذا أوصى عمران بن حصين وأبو سعيد وأسماء بنت أبي بكر، قال ابن عبد البر: جاء النهي عن ذلك من حديث ابن عمر مرفوعاً.
(2) لما فيه من التفاؤل لأنه من فعل النصارى (انظر: أوجز المسالك 4/213) .
(3) بكسر الميم: المبخرة والمدخنة، وقيل: المجمر كمنبر بحذف الهاء ما يبخر به من عود وغيره، وهو لغة في المجمرة.
(4) في الإِسناد أربعة من التابعين.
(5) ثقة، روى له مسلم والثلاثة، مات سنة 120، كذا ذكره الزرقاني، كذا يسمى أيضاً، قال ابن عبد البر: سائر الرواة يقولون عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ.
(6) ثقة من رجال الجميع، مات سنة 99 ذكره الزرقاني.
(7) بكسر الواو المشدَّدة.
(8) قوله: كان يقوم، وأمر بذلك أيضاً كما صح من حديث عامر وأبي سعيد(2/109)
يَقُومُ (1) فِي الْجِنَازَةِ، ثُمَّ يَجْلِسُ (2) بَعْدُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا لا نَرَى (3) الْقِيَامَ لِلْجَنَائِزِ، كَانَ (4) هَذَا شَيْئًا فتُرك، وَهُوَ
قَوْلُ (5) أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.
__________
وأبي هريرة، وفي الصحيحين عن جابر: مرّ بنا جنازة، فقام لها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقمنا، فقلنا: إنها جنازة يهودي فقال: إذا رأيتم الجنازة فقوموا. زاد مسلم: إن الموت فزع، وفي الصحيحين عن سهل بن حُنيف فقال صلّى الله عليه وسلّم: أليست نفساً؟ وللحاكم عن أنس وأحمد عن أبي موسى مرفوعاً: إنما قمنا للملائكة. ولأحمد وابن حبان عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: إنما قمنا إعظاماً للذي يقبض النفوس. وأما ما رواه أحمد عن الحسن بن علي: إنما قام رسول الله تأذِّياً بريح اليهودي، فلا يعارض الأخبار الأولى لأن أسانيده لا تقادم تلك في الصحة، ولأن هذا التعليل فَهِمه الراوي والتعليل السابق لَفَظَه صلّى الله عليه وسلّم.
(1) أي إذا رآها.
(2) أي استمر جلوسه بعد ذلك، فلم يكن يقوم لها إلاَّ إذا أراد أن يشيّعها أو يصلي عليها.
(3) أي لا نرى بقاء مشروعيته.
(4) أي القيام للجنازة كان شيئاً مشروعاً فترك.
(5) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال سعيد بن المسيب وعروة ومالك وأهل الحجاز والشافعي وأصحابه، ورُوي ذلك عن عليّ والحسن بن عليّ وعلقمة والأسود والنَّخَعي ونافع بن جبير، وقال أحمد: إنْ قام لم أعبه، وإن لم يقم فلا بأس به، ومذهب جماعة أنه مشروع ليس بمنسوخ، وممن رأى ذلك أبو مسعود وأبو سعيد وسهل بن حنيف وسالم بن عبد الله، كذا ذكره الحازمي في "كتاب الاعتبار"، وذكر ابن حزم وغيره أنّ الجمع بأن الأمر بالقيام للندب وتركه لبيان الجواز أولى من دعوى النسخ. ورُدّ بأن الذي فهمه علي هو الترك مطلقاً(2/110)
6 - (بَابُ الصَّلاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَالدُّعَاءِ)
310 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ (1) الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ (2) أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ كَيْفَ يصلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ، فَقَالَ: أَنَا لَعَمْرِ اللَّهِ (3) أُخْبِرُكَ، أتَّبعها (4) مِنْ أَهْلِهَا، فَإِذَا وُضعت كبَّرت، فحَمِدتُ (5) اللَّهَ وصلَّيْت (6) عَلَى نبيه، ثم قلت (7) :
__________
ويشهد له حديث عبادة: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوم للجنازة فمرَّ به حبر من اليهود، وقال: هكذا نفعل، فقال اجلسوا فخالفوهم. أخرجه أحمد وأصحاب السنن إلاَّ النسائي، وورد في رواية الطحاوي والحازمي من عليّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم لها حين يتشبَّه بأهل الكتاب، فلما نُسخ ذلك تركه، ونهى عنه (ذهب الجمهور إلى أنه نُسخ وذهب جماعة من السلف إلى أنه لم ينسخ، "الكوكب الدري" 2/192) . وفي الباب آثار وأخبار تدل على أنَّ الآخر من فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان هو تركَ القيام.
(1) وليحيى: مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه.
(2) قوله: عن أبيه، اسمه كيسان بن سعيد المقبري المدني أبو سعيد مولى أمِّ شَرِيك، ثقة، ثَبْت، مات سنة 100، وابنه سعيد أبو سعد المقبري المدني، ثقة، مات في حدود العشرين أو قبلها، أو بعدها، كذا في "التقريب".
(3) أي حياته.
(4) بالتشديد وكسر الموحدة ويخفّف فيفتح، قوله أتّبعها، أي أشيّعها من عند أهلها أو من محلِّها.
(5) فيه أنه لم يكن يرى القراءة في صلاتها.
(6) بعد التكبيرة الثانية.
(7) بعد الثالثة.(2/111)
اللَّهُمَّ، عبدُك (1) وابنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتك (2) ، كَانَ (3) يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ، إِنْ كَانَ مُحسناً فَزِدْ (4) فِي إِحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فتجاوز (5)
__________
(1) أي يا الله هذا عبدك.
(2) أي جاريتك، والمراد بهما أبواه.
(3) في دار الدنيا.
(4) أي زد في ثواب حسناته.
(5) أي اغفر ما صدر منه.
(1) أي لا تجعلنا محرومين من مثوباته.
(2) أي أجر الصلاة عليه وشهود الجنازة، أو أجر المصيبة بموته.
(3) أي بما يشغلنا عنك.
(4) قوله: لا قراءة ... إلى آخره، أقول: يحتمل أن يكون نفياً للمشروعية المطلقة، فيكون إشارة إلى الكراهة وبه صرح كثير من أصحابنا المتأخِّرين حيث قالوا: يُكره قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، وقالوا: لو قرأها بنيَّة الدعاء لا بأس به، ويحتمل أن يكون نفياً للزومه، فلا يكون فيه نفي الجواز، وإليه مال حسن الشُّرُنْبُلالي من متأخري أصحابنا حيث صنف رسالة سمَّاها بـ"النظم المستطاب لحكم القراءة في صلاة الجنازة بأُم الكتاب" وردَّ فيها على من ذكر الكراهة بدلائل شافية وهذا هو الأَوْلى لثبوت ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فأخرج الشافعي عن جابر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كبَّر على الميت أربعاً وقرأ بأمّ القرآن بعد التكبيرة الأولى، ورواه الحاكم من طريقه. وروى الترمذيّ وابن ماجه من حديث ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب. وفي إسناده إبراهيم بن عثمان(2/112)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
أبو شيبة الواسطي، وهو ضعيف جداً. وللبخاريّ والنَّسائي والترمذي والحاكم وابن حبان: أن ابن عباس قرأ في صلاة الجنازة بفاتحة الكتاب وقال: إنها سنة فهذا يؤيد رواية ابن أبي شيبة، ورواه أبو يعلى وزاد وسُورة، قال البيهقي: هذه الزيادة غير محفوظة، ولابن ماجه من حديث أمّ شريك: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب، وفي سنده ضعف يسير، كذا قال ابن حجر في "تخريج أحاديث شرح الوجيز" للرافعي. وأخرج عبد الرزاق والنسائي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: السنّة في صلاة الجنازة أن يكبِّر، ثم يقرأ بأمّ القرآن، ثم يصلِّي على النبي، ثم يخلص الدعاء للميت ولا يقرأ إلا في الأُولى، قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" إسناده صحيح. وروى سعيد بن منصور وابن المنذر: كان ابن مسعود يقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب، وعن مجاهد قال: سألت ثمانيةَ عشَرَ صحابياً، فقالوا: يقرأ، رواه الأثرم. ذكره الشُّرُنْبُلالي نقلاً عن أستاذه عن قاسم بن قطلوبغا، وممن كان لا يقرأ الفاتحة أبو هريرة كما يشهد له حديث أبي سعيد المقبري عنه، وابن عمر كما أخرجه مالك عن نافع. ونقل ابن المنذر عن ابن مسعود والحسن بن عليّ وابن الزبير والمِسْوَر بن مخرمة مشروعيَّتها، ونقل ابن الضياء في "شرح المجمع" عن ابن بطَّال أنَّه نقل عدم القراءة عن علي وعمر وابن عمر وأبي هريرة، ومن التابعين عطاء وطاؤوس وابن المسيب وابن سيرين وابن جبير والشعبي والحكم وغيرهم، وبالجملة الأمر بين الصحابة مختلف ونفس القراءة ثابت فلا سبيل إلى الحكم بالكراهة بل غاية الأمر أن لا يكون لازماً(2/113)
عَنْهُ، اللَّهم لا تَحْرِمْنا (1) أَجْرَهُ (2) وَلا تَفْتِنَّا (3) بَعْدَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا قِرَاءَةَ (4) عَلَى الْجِنَازَةِ، وَهُوَ قَوْلُ (5) أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
311 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا صلَّى عَلَى جِنَازَةٍ سلَّم حَتَّى يُسمع مَنْ يَلِيهِ (6) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ، ويُسمع مَنْ يَلِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (7) رَحِمَهُ اللَّهُ.
312 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الصُّبْحِ إِذَا صُلِّيَتا (8) لِوَقْتِهِمَا (9) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ لا بَأْسَ بِالصَّلاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي
__________
(قال شيخنا في لامع الدراري 4/436: تأويل ما روى جابر من القراءة أنه كان قرأ على سبيل الثناء لا على سبيل القراءة، وذلك ليس بمكروه عندنا، وبسط فيه الآثار الدّالة على ترك القراءة في "الأوجز" فارجع إليه لو شئت التفصيل.
وقال الطحاوي: ولعل من قرأ من الصحابة كان على وجه الدعاء لا على وجه القراءة، وقال ابن الهُمام: لا يقرأ الفاتحة إلاَّ بنية الثناء، ولم يثبت القراءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذا قال القاري في "مرقاة المفاتيح" 4/47) .
(5) وبه قال مالك، وقال الشافعي وأحمد وإسحاق بلزومهما، واختار بعض الشافعية الاستحباب، كذا في "ضياء الساري".
(6) أي من يَقْرَبُه من أهل الصفّ الأوَّل.
(7) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال مالك في رواية والأَوْزاعي وابن سيرين، وكذلك كان يفعل أبو هريرة، وكان علي وابن عباس وأبو أمامة وابن جبير والنَّخَعي يُسِرُّونه، وبه قال الشافعي ومالك في رواية، كذا قال الزرقاني.
(8) قال الباجي: أي لوقت الصلاتين المختار، وهو في العصر إلى الاصفرار، وفي الصبح إلى الإِسفار.
(9) قوله: لوقتهما، مقتضاه أنهما إذا أُخِّرتا إلى وقت الكراهة عنده لا يصلِّي عليها، ويبيِّن ذلك ما رواه مالك عن محمد بن أبي حرملة أن ابن عمر قال وقد أُتي بجنازة بعد صلاة الصبح بغَلَس: إمّا أن تُصَلّوا عليها وإما أن تتركوها حتى ترتفع الشمس. فكأنَّ ابن عمر كان يرى اختصاص الكراهة بما عند طلوع الشمس وعند غروبها، لا مطلق ما بين الصلاة وطلوع الشمس أو غروبها. وإلى قول ابن عمر في ذلك ذهب مالك والأوزاعي والكوفيون وأحمد وإسحاق، كذا في "فتح الباري".(2/114)
تَيْنِكَ (1) السَّاعَتَيْنِ مَا لَمْ تَطْلُعَ (2) الشَّمْسُ، أَوْ تتغيَّر الشمسُ بصُفْرة لِلْمَغِيبِ (3) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
7 - (بَابُ الصَّلاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ (4))
313 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مَا صُلِّيَ (5) عَلَى عمر إلا في المسجد (6) .
__________
(1) أي بعد الصبح وبعد العصر.
(2) هذا إذا أحضرت الجنازة قبلهما، وأما إذا حضرت عندهما فيجوز الصلاة عليهما.
(3) أي الغيبوبة والغروب.
(4) أي المسجد الذي لم يُجعل لصلاتها.
(5) قوله: مَا صُلِّيَ عَلَى عُمَرَ إلاَّ فِي الْمَسْجِدِ، به أخذ الشافعي (وأحمد، وكرهها الحنفية، ومالك في المشهور عنه. "الكوكب الدرّيّ" 2/187) وغيره، ويؤيِّدهم ما أخرجه ابن أبي شيبة أن عمر صلّى على أبي بكر في المسجد وأن صُهيباً صلَّى على عمر في المسجد، ووُضعت الجنازة تجاه المنبر. وأخرج مالك في "الموطأ" عن عائشة أنها أمرت أن يُمَرّ عليها بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد، لتدعو له، فأنكَر الناس ذلك عليها، فقالت: ما أسرع الناس؟ ما صلَّى رسولُ الله على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد، وفي رواية لمسلم: على ابني بيضاء سهيل وأخيه. وأخرج عبد الرزاق عن هشام بن عروة: أنه رأى رجالاً يخرجون من المسجد ليصلّوا على جنازة، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ والله ما صُلِّي على أبي بكر إلا في المسجد.
(6) أي مسجد المدينة.(2/115)
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يُصَلَّى (1) عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَذَلِكَ بَلَغَنَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (2) . وَمَوْضِعُ الْجِنَازَةِ بِالْمَدِينَةِ خَارِجٌ (3) مِنَ الْمَسْجِدِ (4) وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلِّي على الجنازة فيه.
__________
(1) أي كُرهَت الصلاة عليها فيه كراهة تحريم في رواية، وتنزيه في رواية وهو أولى.
(2) قوله: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: من صلّى على ميت في المسجد فلا شيء له. أخرجه أبو داود، ولفظ ابن ماجه: فليس له شيء، وفي سنده صالح مولى التَّوْأَمة تكلّموا فيه، وعدُّوا هذا الخبر من تفرُّداته وغرائبه كما بسطه الزيلعي وغيره، وذكر الطحاوي بعد إخراج حديث عائشة وحديث أبي هريرة ما محصَّله: أنه لما اختلفت الأخبار في ذلك رأينا هل يوجد هناك آخر الأمرين فرأينا أن الناس أنكروا على عائشة حين أمرت لإِدخال جنازة سعد في المسجد فدل ذلك على أنه صار مرتفعاً منسوخاً وفي المقام أبحاث وأنظار لا يتحمّلها المقام.
(3) قوله: خارج من المسجد، قال قاسم بن قطلوبغا في فتاواه بعد نقل كلام محمد هذا: أفاد محمد أن عمل رسول الله كان على خلاف ما وقع من الصلاة على عمر، فيُحمل على أنه كان لعذر، وبه قال في "المحيط"، ولفظه: ولا تُقام فيه أي في المسجد غيرها إلا لعذر، وهذا تأويل الصلاة على عمر أنه كان لعذر، وهو خوف الفتنة والصدّ عن الدفن. انتهى.
(4) يشير إلى أنه لو جازت الصلاة على الجنازة في المساجد لما احتيج إلى جعل مصلَّى على حِدَة لها خارج المسجد.(2/116)
8 - (بَابٌ يَحْمِلُ الرَّجُلُ الْمَيِّتَ أَوْ يحنِّطه أَوْ يُغَسِّلُهُ هَلْ يَنْقُضُ ذَلِكَ وُضُوءَهُ؟ (1))
314 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أنَّ عمرَ حَنَّط (2) ابْنًا (3) لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وحَمَله (4) ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ (5) فصلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا وُضُوءَ (6) عَلَى مَنْ حَمَلَ جِنَازَةً وَلا مَنْ حنَّط مَيِّتًا أَوْ كفَّنه أَوْ غَسَّلَهُ، وَهُوَ قول أبي حنيفة رحمه الله.
__________
(1) أي وضوء الحامل ونحوه.
(2) قوله: حنَّط، يقال: حنَّط الميت بالحَنوط تحنيطاً، والحَنوط - بفتح الحاء المهملة فنون -: أخلاطٌ من طيب تُجمع للميت خاصة، كذا قال القاري.
(3) اسمه عبد الرحمن، ذكره ابن حجر في "الفتح".
(4) أي حمل جنازته.
(5) أي المسجد المعدّ للجنازة، أو مسجد المدينة وغيرهما.
(6) قوله: لا وضوء....إلى آخره، قال القاري: فما أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن حبان عن أبي هريرة: "من غسل الميت فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ" محمول على الاحتياط أو على من لا يكون له طهارة ليكون مستعداً للصلاة. انتهى.
أقول: الاحتمال الثاني مما يردّه صريح ألفاظ بعض الطرق فالأَوْلى هو الحمل على الندب (وهذا عند الجمهور منهم الأئمة الثلاثة في المرجَّح عنهم، وكذلك الحنفية خروجاً عن الخلاف، الكوكب الدّرّي 2/173) كما ذكرناه.(2/117)
9 - (بَابُ الرَّجُلِ تُدْرِكُهُ الصَّلاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ (1))
315 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لا يصلِّي (2) الرَّجُلُ عَلَى جِنَازَةٍ إلاَّ وَهُوَ (3) طَاهِرٌ (4) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْجِنَازَةِ إلاَّ طَاهِرٌ، فَإِنْ فَاجَأَتْهُ (5) وَهُوَ عَلَى غَيْرِ طُهُورٍ (6) تَيَمَّمَ (7) ، وَصَلَّى عَلَيْهَا وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله -.
__________
(1) قوله: غير وضوء، اتفقوا على أنَّ من شرط صحة صلاة الجنازة الطهارة، وقال الشعبي ومحمد بن جرير الطبريّ: تجوز بغير طهارة، كذا ذكره القاري.
(2) خبر بمعنى النهي، أو نهي على لغة.
(3) قوله: إلاَّ وهو طاهر، لحديث: لا يقبل الله الصلاة بغير طهور. وسمَّى صلَّى الله عليه وسلّم الصلاة على الجنازة صلاةً في نحو قوله: صلوا على صاحبكم، وقوله في النجاشي: فصلّوا عليه.
(4) أي من الحدث الأصغر والأكبر.
(5) أي أدركته فجاءة.
(6) إلاَّ الوليَّ ومن ينتظر له فيها، وهذا رواية الحسن عن أبي حنيفة، وفي "الهداية": هو الصحيح، وظاهر الرواية جوازُ التيمُّم للوليِّ أيضاً.
(7) قوله: تيمم، أي إذا خاف فواتَها لو توضَّأ، وبه قال عطاء وسالم والزهري والنخعي وربيعة والليث، حكاه ابن المنذر. وهي رواية عن أحمد، وفيه حديث مرفوع عن ابن عباس رواه ابن عدي، وسنده ضعيف، ورُوي عن الحسن البصري أنه سئل عن الرجل في الجنازة على غير وضوء، فإن ذهب يتوضأ تفوته؟(2/118)
10 - (بَابُ الصَّلاةِ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ مَا يُدفن)
316 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بن المسيب (1) : أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى (2) النجاشيَّ (3) فِي الْيَوْمِ الَّذِي
__________
قال: يتيمَّم ويصلِّي (قال ابن رُشد: اتفق الأكثر على أن من شرطها الطهارة كما اتفق جميعهم على أن من شرطها القبلة، واختلفوا في جواز التيمم لها إذا خيف فواتها، فقال قوم: يتيمم ويصلي لها إذا خاف الفوات وبه قال أبو حنيفة وسفيان والأوزاعي وجماعة، وقال مالك والشافعي وأحمد: لا يصلي عليها بتيمُّم، بداية المجتهد 1/243) ، رواه سعيد بن منصور عن حماد بن زيد، عن كثير بن شنظير عنه، وروي عنه أنه قال: لا يتيمَّم ولا يصلّي إلاَّ على طهر، رواه ابن أبي شيبة عن حفص، عن الأشعث عنه، كذا في "فتح الباري". والحديث المرفوع الذي أشار إليه هو ما أخرجه ابن عدي من حديث اليمان بن سعيد عن وكيع، عن معافى بن عمران، عن مغيرة بن زياد، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا فاجأتك الجنازة وأنت على غير وضوء فتيمَّم، قال ابن عدي: هذا مرفوعاً غير محفوظ، والحديث موقوف على ابن عباس، وقال ابن الجوزي في "التحقيق": قال أحمد: مغيرة بن زياد ضعيف، حدَّث بأحاديث مناكير، وكل حديث رفعه فهو منكر، وقد أخرجه ابن أبي شيبة والطحاويُّ والنسائي في كتاب "الكنى" موقوفاً من قول ابن عباس، ذكره الزَّيْلَعي.
(1) في نسخة عن أبي هريرة.
(2) أخبر بموته.
(3) قوله: نعى النجاشي (واختلفوا في أن النجاشي هذا، هو الذي أرسل إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابه أو غيره؟ قال ابن القيم: بَعَثَ ستَّة نفر في يوم واحد في المحرم سنة سبع فأولهم عمرو بن أمية الضَّمري بعثه إلى النجاشي فعظم كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم أسلم وصلى عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم مات بالمدينة وهو بالحبشة، انظر أوجز المسالك 4/217) ، هو من سادات التابعين أسلم ولم يهاجر،(2/119)
مَاتَ فِيهِ، فَخَرَجَ بِهِمْ (1) إِلَى الْمُصَلَّى (2) ، فصفَّ (3) بهم وكبَّر عليه أربع تكبيرات.
__________
وهاجر المسلمون إليه إلى الحبشة مرَّتين وهو يحسن إليهم، وأرسل إليه رسول الله عمرو بن أمية بكتابين: أحدهما: يدعوه فيه إلى الإِسلام، والثاني: يَطلب منه تزويجه بأمِّ حبيبة، فأخذ الكتاب ووضعه على عينيه وأسلم وزوَّجه أمَّ حبيبة، وأسلم على يده عمرو بن العاص قبل أن يصحب النبي صلّى الله عليه وسلّم فصار يُلغز به فيقال: صحابيٌّ كثيرُ الحديث أسلم على يد تابعي، كذا في "ضياء الساري". وفي "شرح القاري": النجاشيّ بفتح النون وتكسر وبتشديد التحتية في الآخر وتخفيف اسم لملك الحبشة كما يقال كسرى وقيصر لمن ملك الفرس والروم، وكان اسمه أصحمة، وكان نعيه في رجب سنة تسع.
(1) أي بأصحابه.
(2) قوله: إلى المصلى، مكان ببطحان، فقوله في رواية ابن ماجه: فخرج وأصحابه إلى البقيع أي بقيع بطحان، أو المراد بالمصلى موضع مُعَدّ للجنائز ببقيع الغرقد غير مصلى العيدين، والأول أظهر قاله الحافظ. وفي الصحيحين عن جابر: قال رسول الله: قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش فهلم فصلوا عليه. وللبخاري فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة. ولمسلم: مات عبد الله الصالح أصحمة، كذا في شرح الزرقاني.
(3) قوله: فصف بهم، قال الزرقاني: فيه أن للصفوف تأثيراً ولو كثر الجمع لأن الظاهر أنه خرج معه صلّى الله عليه وسلّم عدد كثير والمصلى فضاء لا يضيق بهم لو صفّوا فيه صفاً واحداً ومع ذلك صفَّهم، وفيه الصلاة على الميت الغائب، وبه قال الشافعي وأحمد وأكثر السلف، وقال الحنفية والمالكية: لا تُشرع، ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء وأنهم قالوا: ذلك خصوصية له صلّى الله عليه وسلّم، قال: ودلائل الخصوصية واضحة لأنه - والله أعلم - أحضر روحه أو رفعت جنازته حتى شاهدها، وقول ابن دقيق العيد: يحتاج إلى نقل، تُعُقِّب بأن الاحتمال كافٍ في مثل هذا من جهة المانع، ويؤيده(2/120)
317 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، أَنَّ أَبَا أُمامة بْنَ سَهْلِ بْنِ حُنيف، أَخْبَرَهُ (1) أنَّ مِسْكِينَةً (2) مَرِضت، فأُخبر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَرَضِهَا، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُ الْمَسَاكِينَ وَيَسْأَلُ (3) عَنْهُمْ، قَالَ (4) : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم: إذا ماتَتْ فآذنوني (5)
__________
ما ذكره الواحدي بلا إسناد عن ابن عباس: كُشف للنبي صلّى الله عليه وسلّم عن سرير النجاشي حتى رآه وصلى عليه، ولابن حبان عن عمران بن حصين: فقاموا وصفّوا خلفه وهم لا يظنون إلاَّ أن جنازته بين يديه. ولأبي عوانة عن عمران: فصلينا خلفه ونحن لا نرى إلاَّ أن الجنازة قُدَّامنا. وأُجيب أيضاً بأنَّ ذلك خاصٌّ بالنجاشي لإِشاعة أنه مات مسلماً إذ لم يأت في حديث صحيح أنه صلّى الله عليه وسلّم صلى على ميت غائب غيره، وأما حديث صلاته على معاوية بن معاوية الليثي فجاء من طرق لا تخلو من مقالٍ، وعلى تسليم صلاحيته للحجية بالنظر إلى جميع طرقه، دُفع بما ورد أنه رُفعت له الحُجُب حتى شاهد جنازته.
(1) قوله: أخبره، قال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك في إرسال هذا الحديث، وقد وصله موسى بن محمد بن إبراهيم القرشي عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة، عن أبيه، وموسى متروك، وقد روى سفيان بن حسين، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة، عن أبيه أخرجه ابن أبي شيبة وهو حديث مسند متصل صحيح، وروي من وجوه كثيرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حديث أي هريرة، وعامر بن ربيعة، وابن عباس، وأنس.
(2) وفي حديث أي هريرة: كانت امرأة سوداء تنقي المسجد من الأذى، وفي لفظ: تقُمُّ - مكان تنقي - أخرجه الشيخان وغيرهما.
(3) لمزيد تواضعه وحُسن خُلُقه.
(4) أي أبو أمامة.
(5) أي فأعلموني بموتها أو بحضور جنازتها.(2/121)
بِهَا (1) ، قَالَ: فأُتي بِجِنَازَتِهَا لَيْلا (2) (3) ، فَكَرِهُوا (4) أنْ يُؤذنوا رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخبر (5) بِالَّذِي كَانَ (6) مِنْ شَأْنِهَا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَلَمْ آمُرُكُمْ أَنْ تُؤْذِنُوْني؟ فَقَالُوا (7) : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَرِهْنَا (8) أَنْ نخرجَك لَيْلا أَوْ (9) نُوقِظَكَ،
__________
(1) بشهود جنازتها والاستغفار لها.
(2) قوله: ليلاً، لجوازه (قال العيني: ذهب الحسن البصري وسعيد بن المسيب وقتادة وأحمد في رواية إلى كراهة دفن الميت بالليل لرواية، وقال ابن حزم: لا يجوز أن يُدفن أحد ليلاً إلاَّ عَنْ ضرورة، وكل من دُفن ليلاً منه صلّى الله عليه وسلّم ومن أزواجه وأصحابه رضي الله عنهم، فإنَّما ذلك لضرورة أوْجبت ذلك ... وذهب النخعي والثوري وعطاء وأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في الأصح وإسحاق وغيرهم إلى أن دفن الميت بالليل يجوز. اهـ. عمدة القاري 7/150) وإن كان الأفضل تأخيرها للنهار ليكثر من يحضرها من دون مشقَّة ولا تكلُّف.
(3) ولابن أبي شيبة: فأَتَوْه ليؤذنوه فوجدوه نائماً وقد ذهب الليل.
(4) قوله: فكرهوا، إجلالاً له لأنه كان لا يُوقَظ لأنه لا يُدرى ما يحدث له في نومه. زاد ابن أبي شيبة: وتخوَّفوا عليه ظلمَةَ الليل وهوامَّ الأرض.
(5) لابن أبي شيبة: فلما أصبح سأل عنها.
(6) أي موتها ودفنها.
(7) في حديث بريدة عند البيهقي: أن الذي أجابه عن سؤاله أبو بكر.
(8) قوله: كرهنا ... إلى آخره، زاد في حديث عامر بن ربيعة: فقال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فلا تفعلوا، ادعوني لجنائزكم، أخرجه ابن ماجه. وفي حديث يزيد بن ثابت قال: فلا تفعلوا، لا يموتَنَّ فيكم ميت ما كنت بين أظهركم إلاَّ آذنتموني به فإن صلاتي عليه له رحمة، أخرجه أحمد.
(9) شكّ من الرواي.(2/122)
قَالَ (1) : فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صفَّ بِالنَّاسِ عَلَى قَبْرِهَا فَصَلَّى على قبرها (2) فكبَّر أربع تكبيرات (3) .
__________
(1) أي أبو أمامة.
(2) قوله: فصلى على قبرها، قال الإِمام أحمد: رُويت الصلاة على القبر من النبي صلّى الله عليه وسلّم من ستة وجوه حسان. قال ابن عبد البر: بل من تسعة كلها حسان، وساقها كلها بأسانيده في"تمهيده" من حديث سهل بن حنيف، وأبي هريرة وعامر بن ربيعة، وابن عباس، وزيد بن ثابت الخمسة في صلاته على المسكينة، وسعد بن عبادة في صلاة المصطفى على أم سعد بعد دفنها بشهر، وحديث الحصين بن وَحْوَح صلاته صلّى الله عليه وسلّم على قبر طلحة بن البراء، وحديث أبي أمامة بن ثعلبة أنه صلّى الله عليه وسلّم رجع من بدر وقد تُوفيت أمُّ أبي أمامة فصلى عليها، وحديث أنس أنه صلى على امرأة بعد ما دُفنت، وهو محتمل للمسكينة وغيرها، وكذا ورد من حديث بريد عند البيهقي وسمّاها محجنة.
(3) قوله: أربع تكبيرات، هو المأثور عن عمر والحسن والحسين وزيد ين ثابت وعبد الله بن أوفى وابن عمر وصهيب بن سنان وأبيّ بن كعب والبراء بن عازب وأبي هريرة وعقبة بن عامر، وهو مذهب محمد بن الحنفية والشَّعبيّ وعلقمة وعطاء بن أبي رباح وعمر بن عبد العزيز ومحمد بن علي بن حسين والثوري وأكثر أهل الكوفة ومالك وأكثر أهل الحجاز والأَوْزاعي وأكثر أهل الشام والشافعي وأحمد في المشهور عنه وإسحاق وغيرهم. وروي عن ابن مسعود وزيد بن أرقم وحذيفة خمس تكبيرات، وروي عن علي ست تكبيرات، ورُوي عن زرِّ بن حبيش سبع، وروي عن أنس وجابر ثلاث تكبيرات، كذا في "الاعتبار" للحازمي - رحمه الله -. وقد اختلفت الأخبار المرفوعة في ذلك والأمر واسع، لكن ثبت من طرق كثيرة أن آخر ما كبَّر على الجنازة كان أربعاً. ولهذا أخذ به أكثر الصحابة، وروى محمد في "الآثار" عن النخعي أن الناس كانوا يصلون على الجنائز خمساً وستاً وأربعاً حتى قُبض النبيّ، ثم كبَّروا كذلك في ولاية أبي بكر، ثم وُلِّي عمر فقال لهم: إنكم معشرَ أصحاب محمد متى تختلفون يختلف الناس بعدكم، والناس حديثو عهد(2/123)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ التَّكْبِيرُ عَلَى الْجِنَازَةِ أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ وَلا يَنْبَغِي (1) أَنْ يصلِّي (2) عَلَى جنازة قد صلِّي عليها (3) ، وليس (4)
__________
بالجاهلية فأجمع رأيهم أن ينظروا آخر جنازةٍ كبَّر عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم فيأخذون به، ويرفضون ما سواه، فنظروا فوجدوا آخر ما كبر أربعاً (قال ابن عبد البر: انعقد الإِجماع بعد ذلك على أربع، أوجز المسالك 4/214) .
(1) لأنَّ التنفُّل به غير مشروع.
(2) أي أحد من آحاد الأمة.
(3) قوله: قد صلِّي عليها، سواء كانت المرة الثانية على القبر أو خارجه. وقد اختلفوا في الصلاة على القبر، فقال بجوازها الجمهور، ومنهم الشافعي وأحمد وابن وهب وابن عبد الحكم ومالك في رواية شاذة. والمشهور عنه منعه، وبه قال أبو حنيفة والنخعي وجماعة، وعنهم إن دُفن قبل الصلاة شُرع وإلاَّ فلا، وأجابوا عن الحديث بأنه من خصائص النبي صلّى الله عليه وسلّم، وردّه ابن حبان بأنَّ تركَ إنكاره على من صلّى معه على القبر دليل على أنه ليس خاصاً به، وتُعُقِّب بأنَّ الذي يقع بالتبعيَّة لا ينهض دليلاً للأصالة، كذا قال ابن عبد البر والزرقاني والعيني وغيرهم، والكلام في هذه المسألة، وفي تكرار الصلاة على الجنازة، وفي الصلاة على الغائب موضع أنظار وأبحاث لا يتحمَّلها المقام.
(4) قوله: وليس....إلى آخره، لمّا ورد على ما ذكره بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد صلّى على من صُلِّي عليه أجاب بما حاصله: أنه من خصوصيات النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن صلاته على أمته بركة وطهور كما يفيده ما ورد في صحيح مسلم وابن حبان، فصلى على القبر ثم قال: إن هذه القبور مملوءةٌ ظلمة على أهلها وإنَّ الله ينوِّرها لهم بصلاتي عليهم. وفي حديث زيد، فإن صلاتي عليه رحمة. وهذا لا يتحقق في غيره كما أنه صلّى على النجاشي مع أنه قد صُلّي عليه في بلده ومع غيبوبة الجنازة. والكلام بعدُ موضع نظر فإن إثبات الاختصاص أمر عسير، واحتماله وإن(2/124)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا كَغَيْرِهِ (1) ، أَلا يُرى أَنَّهُ صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ مَاتَ (2) بِالْحَبَشَةِ. فَصَلاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرَكَةٌ (3) وَطَهُورٌ فَلَيْسَتْ كَغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
11 - (بَابُ مَا رُوِيَ أَنَّ الْمَيِّتَ يعذَّب (4) بِبُكَاءِ الْحَيِّ)
318 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لا تَبْكوا (5) عَلَى مَوْتَاكُمْ، فإنَّ الْمَيِّتَ يُعذَّب (6) بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ.
319 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ (7) ، عَنْ أَبِيهِ
__________
كان كافياً في مقام المنع، لكن لا ينفع في مقام تحقيق المذهب (انظر أوجز المسالك 4/223) .
(1) بل له خصوصيات.
(2) ولا شك أنه صُلِّي عليه هناك.
(3) أي كثيرة الخير.
(4) في القبر.
(5) أي بطريق النياحة وإلاَّ فأصل البكاء من الرحمة.
(6) قوله: يُعذّب، قال النووي: تأوّله الجمهور على من أوصى أن يُبكى عليه ويناح بعد موته، فنُفِّذت وصيّته، وقالت طائفة: معناه أنه يُعذَّب بسماع بكاء أهله ويرقّ لهم، وإليه ذهب جرير، ورجَّحه عياض، وقالت عائشة: معناه أنَّ الكافر يُعذَّب في حال بكاء أهله بذنبه لا ببكائه، قال: والصحيح قول الجمهور.
(7) ابن محمد بن عمر بن حزم.(2/125)
عَنْ عَمْرة (1) ابْنَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (2) أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا زوجَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم و (3) ذُكر (4) لَهَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ (5) : أَنَّ الْمَيِّتَ (6) يُعذَّب بِبُكَاءِ الْحَيِّ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ:
__________
(1) كانت في حجر عائشة، ماتت قبل مائةٍ أو بعدها، كذا قال السيوطي.
(2) ابن سعد بن زرارة.
(3) أي والحال أنه قد ذُكر لعائشة.
(4) قوله: وذُكر، زاد ابن عوانة أن ابن عمر لمّا مات رافع بن خديج قال لهم: لا تبكوا عليه، فإن بكاء الحيّ على الميت عذاب على الميت، قالت عَمْرة: فسألت عائشة عن ذلك فقالت يرحمه الله إنّما مرّ ... الحديث (انظر عمدة القاري 8/82 ولامع الدراري 4/409) .
(5) أي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم كما في الصحيحين من طريق ابن أبي مُلَيكة عن ابن عمر.
(6) قوله: إن الميت يعذَّب ببكاء الحيّ، اختلفوا فيه على أقوال: فمنهم من حمله على ظاهره، وإليه مال ابن عمر كما رواه عبد الرزاق أنه شهد جنازة رافع بن خديج فقال لأهله: إن رافعاً شيخ كبير، لا طاقة له بالعذاب، وإن الميت يُعذَّب ببكاء أهله عليه، وهو ظاهر صنيع عمر، حيث منع صهيباً لما قال وا أخاه عند إصابته، وقال: أما علمت أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الميت ليُعذَّب ببكاء الحيّ. ومنهم من أنكره مطلقاً كما روى أبو يعلى عن أبي هريرة والله لأن انطلق رجل مجاهد في سبيل الله فاستشهد فعَمِدَتْ امرأتُه سَفَهاً وجهلاً فبكت عليه أيُعذَّب هذا الشهيد بذنب هذه السفيهة؟ وقالت: طائفة: إن الباء للحال أي إنّ مبدأ عذاب الميت يقع عند بكاء أهله لا بسببه، ولا يخفى ما فيه من التكلف. وقال جمع: إنَّ الحديث ورد في معهود معين كما تدل عليه رواية عمرة عن عائشة، وقال جمع: إنه مختَصّ بالكافر لرواية ابن عباس عن عائشة عند البخاري وغيره: والله ما حدَّث(2/126)
يَغْفِرُ (1) اللَّهُ لابْنِ عُمَرَ، أمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِب (2) ، وَلَكِنَّهُ قَدْ نَسِيَ (3) أَوْ أَخْطَأَ (4) ، إِنَّمَا مرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِنَازَةٍ (5) يُبكى عَلَيْهَا، فَقَالَ: إِنَّهُمْ ليَبْكون عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لتُعذَّب (6) فِي قَبْرِهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا نَأْخُذُ (7) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
12 - (بَابٌ الْقَبْرُ يُتّخذ مَسْجِدًا أَوْ يُصلّى (8) إِلَيْهِ أَوْ يُتوسَّد)
320 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيّب،
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليعذّب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن قال: إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه، وقيل: معنى التعذيب توبيخ الملائكة بما يندبه، كما روى أحمد من حديث أبي موسى مرفوعاً: الميت يعذَّب ببكاء الحي إذا قالت النائحة وا عضداه وا ناصراه، جُبذ الميت، وقيل له أنت عضدها، أنت ناصرها. وروى نحوه ابن ماجه والترمذي، وهو قول حسن مفسّر، وهناك أقوالٌ أخَرٌ مبسوطةٌ في "فتح الباري"، وغيره.
(1) أي يسامحه فيما ذَكر.
(2) أي في نقله.
(3) أي سبب وروده.
(4) في تأويله وحمل الحديث على عمومه.
(5) وليحيى: على يهودية.
(6) أي بذنبها ولم ينفعها بكاؤهم عليه.
(7) أي فإنه مطابق لقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (سورة الأنعام: الآية 164) .
(8) بأن يكون القبر أمامه.(2/127)
عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَاتَلَ (1) اللهُ اليهودَ اتَّخَذُوا قبورَ (2) أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ.
321 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، قَالَ: بَلَغَنِي (3) أنَّ عليَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الله عنه كان يتوسَّدُ (4) عليها
__________
(1) أي قتلهم أو لعنهم أو عاداهم، قوله: قاتل الله، المعنى أنهم كانوا يسجدون إلى قبورهم ويتعبَّدون في حضورهم، لكنْ لمّا كان هذا بظاهره
يشابه عبادة الأوثان استحقوا أن يُقال قاتلهم الله، وقيل: معناه النهي عن السجود على قبور الأنبياء، وقيل: النهي عن اتخاذها قِبلةً يصلّى إليها.
(2) قوله: قبور أنبيائهم، ورد في سنن النسائي أن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنَوْا على قبره مسجداً، قال البيضاوي: لمّا كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيماً بشأنهم (هكذا في الأصل، والصواب: "لشأنهم") يجعلونه قِبلةً يتوجَّهون إليها في الصلاة ونحوها واتخذوها أوثاناً، لعنهم ومنع المسلمين من ذلك، فأما من اتّخذ مسجداً في جوار صالح لقصد التبرُّك لا التعظيم له (قلت: قوله لا التعظيم له: يقال اتخاذ المساجد بقربه وقصد التبرك به تعظيم له، انظر سبل السلام 1/153) ولا التوجُّه نحوه فلا يدخل في ذلك الوعيد، كذا في "زهر المجتبى"للسيوطي.
(3) بلاغه صحيح، وقد أخرجه الطحاوي برجال ثقات عن علي، وفي البخاري عن نافع: كان ابن عمر يجلس على القبور.
(4) قوله: كان يتوسَّدُ عليها، دلّ فعل عليّ على جوازه إذ لا مهانة فيه للقبر وصاحبه ورُوي أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً متكياً على قبر، فقال: لا تؤذِ صاحب القبر، كذا في "النهاية"، فالنهي للتنزيه، وعَمَل عليّ محمول على الرخصة إذا لم يكن على وجه الإِهانة، كذا قال القاري.(2/128)
ويضطجع (1) عليها. قال بشر: يعني (2) القبور.
__________
(1) قوله: ويضطجع عليها، ورد في صحيح مسلم وغيره عن أبي مَرثد الغَنَوي مرفوعاً: لا تجلسوا على القبور ولا تصلّوا إليها، وعن أبي هريرة مرفوعاً: لأن يَقعد أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر. وأخرج أحمد عن عمرو بن حزم مرفوعاً: لا تقعدوا على القبور. وبهذه الأخبار وأمثالها أخذ الشافعي والجمهور فقالوا بحرمة الجلوس على القبر أو كراهته، ذكره النووي وغيره، وذكر الطحاوي - بعد ما أخرج الروايات السابقة - عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أن النهي عن الجلوس محمول على الجلوس للتغوُّط ونحوه وأما لغير ذلك فلا، وأيّده بما ساقه بإسناده إلى زيد بن ثابت أنه قال: إنما نهى النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم عن الجلوس على القبور لحَدَثٍ غائط أو بول. ثم أخرج عن أبي هريرة مرفوعاً: من جلس على قبر يبول عليه أو يتغوَّط فكأنما جلس على جمرة نار، ثم أخرج عن عليّ أنه اضطجع على القبر، وعن ابن عمر أنه كان يجلس على القبور. وهذا التأويل الذي ذكره من حمل أخبار النهي على الجلوس لحَدَثٍ قد ذكره مالك أيضاً ظنّاً، وتعقَّبوه بأنه تأويل ضعيف أو باطل لا دلالة عليه في الحديث، وأُجيب بأن ما ذكره قد ثبت عن زيد بن ثابت، والصحابةُ أعلم بموارد النصوص، والذي يظهر بالنظر الغائر أنّ أكثر أخبار النهي مطلقة، لا دلالة فيه على فرد، وما نقل عن زيد يخالفه ما أخرجه أحمد من حديث عمرو بن حزم: رآني النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنا متَّكئ على قبر فقال: لا تؤذِ صاحب القبر، وسنده صحيح، فإنَّه صريح في أن العلة للنهي هو تأذِّي الميت، غاية ما في الباب أن يكون الجلوس لحدثٍ أشد وأغلظ، والجلوس لغيره والتوسّد ونحوه أخف (الأَوْلى أن يُحمل من هذه الأحاديث ما فيه التغليظ على الجلوس للحدث فإنه يحرم وما لا تغليظ فيه على الجلوس المطلق فإنه مكروه، وهذا التفصيل حسن، قاله أبو الطيب، كذا في الكوكب الدرّي 2/196) ، وأما فعل عليّ وابن عمر فيُحمل على بيان الجواز.
(2) أي يريد بضمير عليها.(2/129)
(كِتَابُ الزَّكَاةِ (1))
1 - (بَابُ زَكَاةِ الْمَالِ)
322 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (2) الزُّهري، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، أنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يقول: هذا (3) شهر
__________
(1) قوله: الزكاة، هو لغة النماء والتطهير، وشرعاً إعطاء جزء من النصاب الحَوْلي إلى فقير ونحوه، وفُرضت بعد الهجرة، فقيل: في السنة الثانية، وقيل: في الأُوْلى، وجزم ابن الأثير بأنه في التاسعة، وادعى ابن حزم أنه قبل الهجرة، وفيهما نظر بيّنه في "فتح الباري" (راجع للتفصيل فتح الباري 3/211) .
(2) في نسخة: أخبرني.
(3) قوله: هذا شهر، قيل: الإِشارة لرجب وإنه محمول على أنه كان تمام حول المال، لكنه يحتاج إلى نقل، ففي رواية البيهقي عن الزهري: ولم يسمِّ لي السائب الشهر، ولم أسأله عنه، كذا في "شرح الزرقاني"، وفي "شرح القاري": هذا إشارة إلى أحد الأشهر المعروفة عندهم، أو إلى شهر فرض فيه. انتهى. وفي "لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف" للحافظ زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الشهير بابن رجب الدمشقي الحنبلي المحدث: قد اعتاد أهل هذه البلاد إخراج الزكاة في شهر رجب، ولا أصل لذلك في السُّنَّة ولا عُرف عن أحد من السلف، ولكن روي عن عثمان أنه خطب الناس على المنبر، فقال: إن هذا شهرُ زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤد دينه، وليزكِّ ما بقي، خرَّجه مالك، وقد قيل: إن ذلك الشهر الذي كانوا يُخرجون فيه زكاتهم (كما في لطائف المعارف ص 125، وفي الأصل: "زكاته"، وهو تحريف) نُسي(2/130)
زَكَاتِكُمْ، فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْن فليؤدِّ دَيْنه حَتَّى تُحَصَّلَ (1) أَمْوَالُكُمْ فَتُؤَدُّوا مِنْهَا (2) الزَّكَاةَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْن وَلَهُ مَالٌ فَلْيَدْفَعْ دَيْنه مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ (3) مَا (4) تجبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَفِيهِ زَكَاةٌ، وَتِلْكَ (5) مِائَتَا دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرُونَ مثقالاً ذهباً فصاعداً، وإن كان الذي
__________
فلم يُعرف، وقيل: بل كان شهر المحرم لأنه رأس الحول، وقيل: بل كان شهر رمضان لفضله وفضل الصدقة فيه، وروى يزيد الرقاشي عن أنس أن المسلمين كانوا يُخرجون زكاتهم في شعبان تقويةً على الاستعداد لرمضان، وفي الإِسناد ضعف. انتهى كلامه ملخَّصاً.
(1) لأن ما قابل الدَّيْن لا زكاة فيه.
(2) أي مما يحصل بعد أداء الدَّيْن.
(3) أي أداء الدَّيْن.
(4) أي بقدر النصاب من الذهب أو الفضة أو غيرهما.
(5) أي القدر الذي تجب الزكاة فيه، قوله: وتلك مائتا درهم إلى آخره، لما أخرجه أبو داود من طريق عاصم والحارث عن علي مرفوعاً: إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء - يعني في الذهب - حتى يكون عشرون ديناراً فإذا كانت لك عشرون ديناراً، وحال الحول، ففيها نصف دينار فما زاد فبحسابه. وفيه الحارث الأعور ضعيف. لكن تابعه عاصم، ووثقه ابن معين والنسائي، فالحديث حسن، ورواه شعبة وسفيان وغيرهما من طريق عاصم موقوفاً على علي، كذا ذكره الزيلعي. وقد ثبت تقدير نصاب الفضة بمائتي درهم من حديث جماعة من الصحابة عند الدارقطني والبزّار وعبد الرزاق وغيرهم.(2/131)
بَقِيَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ (1) ، بَعْدَ مَا يَدفع مِنْ مَالِهِ الدَّيْن فَلَيْسَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
323 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ (2) بْنُ خُصيفة أَنَّهُ سَأَلَ سُلَيْمَانَ (3) بْنَ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ مثلُه من الدَّيْن أعليه (4) الزَّكَاةُ؟ فَقَالَ: لا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وهو قول (5) أبي حنيفة رحمه الله.
2 - (باب ما (6) يجب فيه الزَّكَاةِ)
324 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا محمَّدُ (7) بنُ عَبْدِ الله بنِ
__________
(1) أي من القدر الذي يجب فيه الزكاة.
(2) قوله: يزيد، هو يزيد بن عبد الله بن خُصَيفة بن عبد الله بن يزيد الكندي المدني ثقة من رجال الجميع، وقد يُنسب إلى جده وهو خُصَيفة بصيغة التصغير، كذا في التقريب، وغيره.
(3) أحد الفقهاء.
(4) بهمزة الاستفهام أي هل يجب عليه؟
(5) وبه قال الشافعي ومالك، وللشافعي في رواية: أن الدَّيْن لا يمنع الزكاة، ذكره الزرقاني.
(6) أي ذِكر مقداره.
(7) هو أبو عبد الله الأنصاري المازني، ثقة، مات سنة 139 كذا في "الإِسعاف" قوله: محمد بن عبد الله....إلى آخره، هكذا ليحيى وجماعة من رواة "الموطأ" فنسب محمداً لأبيه وجده لجده لأنه عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، وفي رواية التنّيسي عن مالك، عن محمد بن عبد الرحمن بن(2/132)
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ (1) ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خمسةِ (2) أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ (3) صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خمسِ (4) أَوَاقٍ مِنَ الوَرْقِ (5) صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ ذَوْدٍ (6) من الإِبل صدقة.
__________
أبي صعصعة فنسب محمداً إلى جده وجدَّه إلى جده، وَزعْمُ ابن عبد البر أن حديث محمد عن أبيه خطأ في الإِسناد، وإنما هو محفوظ من حديث يحيى بن عمارة، عن أبي سعيد مردود بنقل البيهقي عن محمد بن يحيى الذهلي أن الطريقين محفوظان، كذا في "شرح الزرقاني".
(1) هو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، وثقه النسائي، كذا في "الإِسعاف".
(2) قوله: خمسة أَوسُق، بفتح الألف وضم السين، جمع وَسق، بفتح الواو أشهر من كسرها، وأصله في اللغة الحمل، والمراد به ستون صاعاً، قاله السيوطي.
(3) قال ابن عبد البر: كأنه جواب لسؤال سائل سأله عن نصاب زكاة التمر فلا يمنع الزكاة في غيره من الثمار.
(4) قوله: خمس أواق، يقال: أواقي، بتشديد الياء وتخفيفها، جمع أُوقيَّة بضم الهمزة وتشديد الياء وهي أربعون درهماً، ويقال: أواق بحذف الياء، كذا في "التنوير".
(5) قوله: من الورق، بكسر الراء وإسكانها وهي ههنا الفضة، مضروبها وغيره، واختلف أهل اللغة في أصله، فقيل يُطلق في الأصل على جميع الفضة وقيل هو حقيقة للمضروب دراهم، كذا في "التنوير".
(6) قوله: خمس ذَوْد، بفتح المعجمة وسكون الواو بعدها دال مهملة، هو من الثلاثة إلى العشرة، ولا واحد له من لفظه، ويقال في الواحد: بعير، هذا قول الأكثر، وقال أبو عبيد: من الثنتين إلى العشرة قال: وهو مختص بالإِناث، وقال(2/133)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَأْخُذُ بِذَلِكَ إلاَّ فِي خَصْلَةٍ (1) وَاحِدَةٍ، فَإِنَّهُ (2) كان يقول:
__________
سيبويه: تقول ثلاث ذود لأن الذود مؤنث، وحُكي فيه الإِضافة والتنوين على البدل من خمس، والأول أشهر وهو كقولك خمس أبعرة وخمسة جمال، وخمس نوق وخمس نسوة، كذا في "ضياء الساري".
(1) أي مسألة منفردة.
(2) قوله: فإنه كان يقول ... إلى آخره، لا خلاف بينه وبين غيره من الأئمة في تقدير نصاب الإِبل والغنم وغيرهما من السوائم بما ورد في الأحاديث، وكذا في تقدير نصاب الذهب والفضة، وإنما وقع الخلاف في تقدير نصاب الحبوب والثمار، فعند الشافعي وأبي يوسف ومحمد والجمهور نصابها خمسة أوسق، فلا شيء في ما دونها لورود ذلك من حديث أبي سعيد وجابر وابن عمر وعمرو بن حزم وغيرهم، كما أخرجه الطحاوي والبخاري ومسلم وأحمد وغيرهم، ولعل الحق يدور حوله، وخالفهم في ذلك جماعة من التابعين، فقالوا: في ما أخرجت الأرض العشر أو نصف العشر من غير تفصيل بين أن يكون قدر خمسة أوسق أو أقل أو أكثر، منهم أبو حنيفة، ومنهم عمر بن عبد العزيز فإنه قال: في ما أنبتت الأرض من قليل أو كثير العشر، أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة. وأخرج عن مجاهد والنَّخَعي نحوه. واستدلوا لهم بما أخرجه البخاري عن ابن عمر مرفوعاً: في ما سقت السماءُ والعيونُ أو كان عثريّاً (هو بفتح العين المهملة وفتح الثاء المثلَّثة وكسر الراء وتشديد التحتانية، قال الخطابي: هو الذي يَشرب بعروقه من غير سقي. انظر نيل الأوطار 2/149) العُشْرُ، وفي ما سُقي بالنضح نصف العشر. ولفظ أبي داود: في ما سقت السماءُ والأنهارُ والعيون أو كان بعلاً (البعل: بفتح الباء الموحدة وسكون العين المهملة وروي بضمها. قال في "القاموس": البعل الأرض المرتفعة تمطر في السنة مرة. وكل نخل وزرع لا يُسقى أو ما سقته السماء. نيل الأوطار 2/149) العشر وفي ما سُقي(2/134)
فِيمَا أَخْرَجَتِ (1) الأَرْضُ العُشْرُ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، إِنْ كَانَتْ تُشْرَبُ سَيْحًا (2) أَوْ تَسْقِيهَا السماء، وإن كانت تُشْرَبُ بغَرب (3)
__________
بالسواني أو النضح نصفُ العشر. وفي صحيح مسلم عن جابر مرفوعاً: في ما سقته الأنهار والغيم العُشر وفي ما سُقي بالسانية نصف العشر. وفي سنن ابن ماجه عن معاذ: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى اليمن فأمرني أن آخذ مما سقت السماءُ وما سُقي بعلاً العشر، وما سُقي بالدوالي نصف بالعشر. وأُورد بأن هذه الأخبار مبهمة والأُولى مفسِّرة، والزيادة من الثقة مقبولة، فيجب حملُ المبهم على المفسَّر، وأجيب عنه بأنه إذا ورد حديثان متعارضان أحدهما عامّ والآخر خاصّ فإن عُلم تقدُّم العام على الخاصّ خُصَّ بالخاص، وإن علم تقدم الخاص كان العام ناسخاً له في ما تناولاه وإن لم يعلم التاريخ يجعل العام متأخِّراً لما فيه من الاحتياط، وههنا الأخبار الأول خاصة والثانية عامة ولم يُعلم التاريخ فنجعل الثانية مؤخَّرة ويعمل بها، كذا قرَّره السغناقي والزيلعي وغيرهما، ومنهم من احتج بما روى أبو مطيع البلخي عن أبي حنيفة عن أبان بن أبي عيّاش، عن رجل، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: في ما سقت السماء العشر، وفي ما سُقي بنضح أو غرب نصفُ العشر في قليله وكثيره، وهو إسناد لا يساوي شيئاً فإن أبان ضعيف جداً، وأبو مطيع قال ابن معين: ليس بشيء، وقال أحمد: لا ينبغي أن يُروى عنه، وقال أبو داود: تركوا حديثه، كذا قال ابن الجوزي في "التحقيق"، وهو كما قال فإن أبا مطيع البلخي واسمه الحكم بن عبد الله تلميذ الإِمام أبي حنيفة وإن كان من أجلَّة الفقهاء لكنه مجروح في الرواية كما بسطته في كتابي "الفوائد البهيَّة في تراجم الحنفية".
(1) ولو كان من الخضروات.
(2) أي العين الجارية على وجه الأرض.
(3) بفتح العين المعجمة، أي دلو كبير، كذا في "المصباح". وفي معناه الدلو الصغير.(2/135)
أَوْ دَالِيَةٍ (1) فنصفُ عُشر، وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعي (2) وَمُجَاهِدٍ (3) .
3 - (بَابُ الْمَالِ مَتَى تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ)
325 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ (4) قَالَ: لا تجبُ فِي مالٍ (5) زكاةٌ حتى يَحولَ (6) عليه الحَوْل.
__________
(1) دولاب تديره البقر أو غيره.
(2) فإنه قال في كل شيء أخرجت الأرض الصدقة، أخرجه الطحاوي.
(3) قوله: ومجاهد، فإنه قال لمّا سُئل عنه: في ما قلَّ أو كثر العشر أو نصف العشر، أخرجه الطحاوي.
(4) قوله: عن ابن عمر، قال ابن عبد البر: قد رُوي هذا مرفوعاً من حديث عائشة. قال السيوطي: أخرجه ابن ماجه، وفي شرح الزرقاني: أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد"، من طريق عبيد الله بن عبد الله عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً: ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول، وفي إسناده بقية بن الوليد مدلس، وقد رواه بالعنعنة عن إسماعيل بن عياش، عن عبيد الله، وإسماعيل ضعيف في غير الشاميين، قال الدارقطني: والصحيح وقفه كما في "الموطأ". وقد أخرجه الدارقطني في "الغرائب" مرفوعاً، وضعَّفه. وأخرجه أيضاً من حديث أنس وضعفه، وأخرجه ابن ماجه من حديث عائشة. لكنَّ الإِجماع عليه أغنى عن إسناده.
(5) أي من الأموال الزكوية.
(6) قوله: حتى يحول عليه الحول، روى البيهقي عن أبي بكر وعلي وعائشة موقوفاً عليهم مثل ما رُوي عن ابن عمر، وروى الترمذي والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر مرفوعاً: من استفاد مالاً فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول، عبد الرحمن ضعيف، قال الترمذي: والصحيح عن ابن عمر موقوفاً، وكذا قال البيهقي وابن الجوزي(2/136)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، إلاَّ أَنْ يَكْتِسَبَ (1) مَالا فَيَجْمَعُهُ (2) إِلَى مالٍ عِنْدَهُ مِمَّا يُزكَّى، فَإِذَا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِي الأَوَّلِ زَكَّى الثَّانِي (3) مَعَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعي رَحِمَهُمَا الله تعالى.
__________
وغيرهما، قال البيهقي: الاعتماد في هذا على الآثار عن أبي بكر وغيره، قلت: حديث عليّ الذي أخرجه أبو داود وأحمد والبيهقي لا بأس بإسناده والآثار تعضده، فتصلح للحجّية، كذا في "تخريج أحاديث الرافعي" لابن حجر.
(1) أي إذا كان من جنس ما عنده، وإن لم يكن من جنسه يَستأنف له الحساب من ذلك الوقت، ولا يَجمع، ذَكَره العيني وغيره.
(2) أي فيضمُّه، قوله: فيجمعه ... إلى آخره، وقال الشافعي وأحمد: لا يضم لحديث: من استفاد مالاً فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول، أخرجه الترمذي وغيره. وقال أصحابنا: هو حديث ضعيف وعلى تسليم ثبوته فعمومه ليس مراداً للاتفاق على خروج الأرباح والأولاد، فعلَّلنا بالمجانسة، فقلنا: إنما أخرج الأولاد والأرباح للمجانسة لا للتولد، فيجب أن يُخرج المُستفاد (المستفاد على نوعين: الأول أن يكون من جنسه، والثاني أن يكون من غير جنسه كما إذا كان له إبل فاستفاد بقراً فلا يُضمُّ إلى الذي عنده بالاتفاق، والأول على نوعين: أحدهما أن يكون المستفاد من الأصل كالأولاد والأرباح فيُضمُّ بالإِجماع، والثاني أن يكون مستفاداً بسبب مقصود كالشراء فإنه يُضمُّ عندنا. الكوكب الدّرّي 2/14.
وانظر البحث الشافي في البدائع 2/13، والمغني 2/496 وما بعدها) إذا كان من جنسه، وهو أدفع للحرج على أصحاب الحِرَف الذين يجدون كل يوم درهماً فأكثر وأقل، فإن في اعتبار الحول لكل مستفاد حرجاً عظيماً، وهو مدفوعٌ بالنص، كذا قرَّره ابن الهُمام وغيره، وذكر العينيُّ أن مذهبنا في هذا الباب هو قول عثمان وابن عباس والحسن البصري والثوري والحسن بن صالح وهو قول مالك في السائمة.
(3) فمن كان عنده مائتا درهم في أول الحول وقد حصل في وسطه مائة درهم مثلاً يُضمُّ إلى المائتين، ويُعطي زكاة الكل عند حَوَلان الحول على الأول.(2/137)
4 - (بَابُ الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ الدَّيْن هَلْ عَلَيْهِ فِيهِ زَكَاةٌ)
326 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ (1) بْنُ عُقْبَةَ مَوْلَى الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ (2) عَنْ مكاتَبٍ لَهُ قَاطَعَهُ (3) بِمَالٍ عَظِيمٍ؟ قَالَ (4) : قُلْتُ: هَلْ فِيهِ زَكَاةٌ؟ قَالَ الْقَاسِمُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ (5) لا يأخُذُ مِنْ مالٍ صَدَقَةً حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، قَالَ الْقَاسِمُ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَعْطَى الناسَ أَعْطِياتِهم (6) يَسْأَلُ (7) الرَّجُلَ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ مالٍ (8) قد وجبت فيه
__________
(1) هو أخو موسى بن عقبة المدني، ثقة، كذا في "التقريب".
(2) أي ابن أبي بكر الصدِّيق.
(3) قوله: قاطعه، قال أبو عمر: معنى مقاطعة المكاتب أخذ مال معجَّل منه دون ما كوتب عليه ليعجل عتقه (شرح الزرقاني 2/96) .
(4) أي السائل.
(5) قوله: كان لا يأخذ ... إلى آخره، أي والمقاطعة فائدة لا زكاة فيها حتى يمر عليها عند مستفيدها الحول.
(6) أي أرزاقهم وعطياتهم (أعطياتهم جمع عطايا جمع عطية، قاله الزرقاني. وقال الباجي: في اللغة اسم لما يعطيه الإنسان غيرَه على أيِّ وجه كان إلاَّ أنه في الشرع واقع على ما يُعطيه الإِمام من بيت المال على سبيل الأرزاق. أوجز المسالك 5/247) .
(7) وفي نسخة: سأل.
(8) بأن كان نصاباً مرَّ عليه الحول.(2/138)
الزَّكَاةُ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، أَخَذَ مِنْ عَطَائِهِ زكاةَ ذَلِكَ الْمَالِ، وَإِنْ قَالَ لا، سلَّم (1) إِلَيْهِ
عَطَاءَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
327 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي عُمَرُ (2) بْنُ حُسَيْنٍ، عَنْ عَائِشَةَ (3) بِنْتِ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ، عَنْ أَبِيهَا (4) قَالَ: كُنْتُ إِذَا قبضتُ (5) عَطَائِي مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ سَأَلَنِي هَلْ عِنْدَكَ مالٌ وَجَبَ عَلَيْكَ فِيهِ الزَّكَاةُ؟ فَإِنْ قُلْتُ: نَعَمْ، أَخَذَ مِنْ عَطَائِي زَكَاةَ ذَلِكَ الْمَالِ وإلاَّ دَفَعَ (6) إليَّ عَطَائِي.
__________
(1) أي لم يأخذ منه شيئاً كما ليحيى.
(2) قوله: عمر بن حسين، ثقة، روى له مسلم والترمذي، وهو عمر بن حسين بن عبد الله الجُمَحي، مولاهم، أبو قدامة المكي، كذا في "التقريب".
(3) قوله: عائشة، القُرَشية الجُمَحية الصحابية هي وأمها ريطة بنت سفيان، من المبايِعات، كذا في "الاستيعاب".
(4) قوله: عن أبيها، قُدامة بضم القاف ابن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جُمَح القرشي الجُمَحي، خال عبد الله وحفصة ابنَيْ عمر بن الخطاب، هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه عثمان بن مظعون وعبد الله بن مظعون، ثم شهد بدراً وسائر المشاهد، وتوفي سنة ست وثلاثين، كذا في "الاستيعاب".
(5) أي أيام خلافته.
(6) قوله: وإلاَّ دفع إليّ عطائي، في سؤاله كأبي بكر وقولهما: وإن قلت: لا إلخ: دليلٌ على تصديق الناس في أموالهم التي فيها الزكاة، وجواز إخراج زكاة المال من غيره، ولا مخالف لهما إذا كان من جنسه، فإن كان ذهباً عن فضة أو عكسه فخلاف(2/139)
5 - (بَابُ زَكَاةِ (1) الحُلِيّ (2))
328 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قَاسِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَلِي بَنَاتَ أَخِيهَا (3) يَتَامَى فِي حِجْرها،
__________
(شرح الزرقاني 2/97) .
(1) قوله: باب زكاة الحُليّ، اختلفوا فيه، فمذهب مالك وأحمد في رواية وإسحاق والشافعي أنه لا زكاة في الحلي، ومذهبنا وجوب الزكاة فيه، وهو مذهب عمر وابن عمر وابن عمرو وأبي موسى وابن جبير وعطاء وعبد الله بن شداد وطاوس وابن سيرين ومجاهد والضحاك وجابر بن يزيد وعلقمة والأسود وعمر بن عبد العزيز والثوري والزهري، وهو قول عائشة وأم سلمة وفاطمة بنت قيس، كذا ذكره العيني. وقال الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل يقول: خمسة من الصحابة كانوا لا يَرَوْنَ في الحُلِيّ زكاةً: أنس بن مالك وجابر وابن عمر وعائشة وأسماء، كذا نقله الزيلعي. أما أثر عائشة (وقد ثبت مذهب عائشة رضي الله عنها بخلاف هذا الأثر فإنها رُويت عنها مرفوعاً وموقوفاً الزكاةُ في الحلي، وبسطت الروايات عنها في الأوجز 5/281) فسيأتي في الكتاب، وحمله أصحابنا على أنها إنما لم تخرج الزكاة من حلي بنات أخيها لأنه لا زكاة في مال الصبي. لا لأنه ليس في الحليِّ زكاة وأما أثر ابن عمر فسيأتي في الكتاب أيضا وحمله أصحابنا على أنه لا زكاة في مال الصبي. وأما عدم أدائه الزكاة من حلي جواريه فيُحمل على أن ابن عمر كان يرى أن المملوك يملك، ولا زكاة عليه. وأما أثر أنس فأخرجه الدارقطني عن علي بن سليمان أنه سأله عن الحلي؟ فقال: ليس فيه زكاة. وأما أثر جابر فأخرجه الشافعي ثم البيهقي عن عمرو بن دينار، قال سمعت ابن خالد يسأل جابراً عن الحلي أفيه زكاة؟ فقال: لا. وأما أثر أسماء فأخرجه الدارقطني أنها كانت تحلِّي بناتها الذهب ولا تزكِّيه.
(2) بضم الحاء ويُكْسَر، فكسر اللام وتشديد الياء. وبفتح الحاء فسكون.
(3) أي لأبيها محمد بن أبي بكر، قاله الباجي.(2/140)
لَهُنَّ (1) حُلِيّ (2) ، فَلا تُخرج مِنْ حُلِيِّهنّ الزَّكَاةَ.
329 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُحَلِّي (3) بناتِهِ وَجَوَارِيهِ فَلا يُخرج مِنْ حُلِيِّهنّ الزَّكَاةَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَمَّا مَا كَانَ مِنْ حُلِيّ جوهرٍ ولؤلؤٍ فَلَيْسَتْ (4) فِيهِ الزَّكَاةُ عَلَى كُلِّ حَالٍ (5) ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ حُلِيِّ ذهبٍ أو فضة ففيه (6) الزكاة (7)
__________
(1) قوله: لهن، قال الباجي: يقتضي مِلْكَهُنّ له، وإن لم يتصرَّفْنَ فيه لكونهن محجورات.
(2) بفتح فسكون مفرد، وبضم وكسر اللام وتشديد الياء جمع.
(3) بتشديد اللام يُلْبِسُهُنَّ الحليّ.
(4) قوله: فليست فيه الزكاة، لأن ما سوى الثَّمَنَين من الذهب والفضة وما يُتَّخذ منهما لا يجب فيه الزكاة إذا لم تكن للتجارة. ويؤيّده ما أخرجه ابن أبي شيبة عن عكرمة قال: ليس في حجر اللؤلؤ ولا في حجر الزمرد زكاة إلا أن يكون للتجارة. وأخرج ابن عدي في "الكامل" عن عمرو بن أبي عمرو الكلاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً: لا زكاة في حَجَر، وضُعِّف بعمروٍ والكلاعي وقال: إنه مجهول، لا أعلم حدث عنه غير بقية، وأحاديثه منكرة، وذكر ابن حجر أنه قد تابعه عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي ومحمد بن عبد الله العزرمي عن عمرو بن شعيب، وكلاهما متروكان.
(5) أي سواء كان للبالغ أو الصبي.
(6) وأما ما رُوَي عن جابر مرفوعاً: ليس في الحلي زكاةٌ، فباطل، لا أصل له، وإنما هو قول جابر، قاله البيهقي.
(7) قوله: ففيه الزكاة، لما أخرجه أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن امرأة أتت النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم ومعها ابنةٌ لها وفي يد ابنتها مسكتان(2/141)
إلاَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِيَتِيمٍ (1) أَوْ يَتِيمَةٍ لم يَبْلُغَا فلا تكون (2)
__________
غليظتان من ذهب، فقال لها: أتعطين زكاةَ هذا؟ قالت: لا، قال: أيسُرُّكِ أن يسوِّرَكِ بهما يوم القيامة سواراً من نار؟ قال: فألقتهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقالت: إنهما لله ولرسوله، وإسناده صحيح، قاله ابن القطان، وقال المنذري: لا مقال فيه. وأخرجه الترمذي من طريق ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أتت امرأتان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي أيديهما سواران من ذهب، فقال لهما: أتؤديان زكاة هذا؟ فقالتا: لا، فقال: أتحبّان أن يسوِّركما الله بسوارين من نار؟ قالتا: لا، قال: فأدِّيا زكاته، وفي الباب عن عائشة أخرجه أبو داود والحاكم والدارقطني وأم سلمة أخرجه الحاكم وأبو داود والدارقطني والبيهقي، وأسماء أخرجه أحمد، وفاطمة بنت قيس أخرجه الدارقطني، وعبد الله بن مسعود أخرجه الدارقطني. وهي أحاديث متقاربة كلها تفيد وجوب الزكاة في الحلي، وضَعْفُ بعض طرقها لا يضر إذا حصل التقوِّي بالضم لا سيما إذا كان بعض الطرق سالماً من القدح، وبسطه في تخريج أحاديث الهداية، للزيلعي (1/402) .
(1) وكذا إذا كان لغير اليتيم.
(2) قوله: فلا تكون في مالها زكاة، لأثر ابن عمر وعائشة وغيره، وبه قال أبو وائل وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي والحسن البصري وغيرهم خلافاً للشافعي وأحمد ومالك أخذاً مما روى الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطب الناس، فقال: من وَلِيَ مالاً ليتيم فليتَّجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة. وفي إسناده مقال نبَّهَ عليه الترمذي وأحمد، وله طرق أخر عند الدارقطني وغيره ضعيفة، وكذا حديث أنس مرفوعاً: اتَّجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة، أخرجه الطبراني في الأوسط، سنده مجروح، وأجاب أصحابنا عنها على تقدير ثبوتها بأن الصدقة محمولة على النفقة (في الكوكب الدُّرِّي 2/15: تأويله عندنا الإِنفاق على نفس اليتيم فإنه قد يُسمَّى صدقة كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في غير هذا الحديث: "تصدَّق على نفسك" ومن روى ههنا بلفظ الزكاة فرواية بالمعنى عنده مع أن ظاهر "تأكله الصدقة" إحاطة الصدقة كل ماله، وذلك لا يكون في الزكاة، فإنها لا تجب بعَوْد المال إلى أقل من النصاب وإن لم يكن نصاباً من أول الأمر لم تأكله الصدقة رأساً، وأما إذا أريد بها النفقة سواء كانت نفقة نفسه أو أحد ممن يجب عليه نفقته كان ظاهراً في معناه. اهـ) . وللتفصيل موضع آخر.(2/142)
فِي مَالِهَا (1) زَكَاةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
6 - (بَابُ العُشُر (2))
330 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهريّ، عن سالم بن عبد الله، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَأْخُذُ عَنِ النَّبَط (3) مِنَ الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ نصفَ العُشُر، يُرِيدُ (4) أَنْ يُكْثِرَ الحِمل (5) إِلَى الْمَدِينَةِ، ويأخذ
__________
(1) في نسخة: مالهما.
(2) بضمتين وبضم واحد: ما يجب فيه العُشُرُ أو نصفُه من مال الحربيِّ والذِّمِّيِّ.
(3) بفتح النون. قوله: من النبط (قال الباجي: وهم كفار أهل الشام عقد لهم عقد الذمة، اهـ، فكانوا يختلفون إلى المدينة بالحنطة والزيت وغير ذلك من أقوات أهل الشام، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخفّف عنهم في الحنطة والزيت، انظر أوجز المسالك 6/107) ، هو جيل من الناس كانوا ينزلون سواد العراق ثم استُعمل في أخلاط الناس وعوامِّهم، والجمع أنباط، مثل سبب وأسباب، كذا في "المصباح المنير في غريب
الشرح الكبير" لأحمد الفَيُّومي.
(4) أي يقصد عمر. وليحيى: يريد بذلك أي يأخذ النصف ويترك النصف.
(5) أي المحمول منهما.(2/143)
مِنَ القِطنية (1) الْعُشُرَ (2) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِمَّا اخْتَلَفُوا (3) فِيهِ لِلتِّجَارَةِ مِنْ قِطَنيَّةٍ أَوْ غَيْرِ قِطَنِيَّةٍ نِصْفُ الْعُشُرِ (4) فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَمِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ إِذَا دَخَلُوا أَرْضَ الإِسلام بِأَمَانٍ الْعُشُرُ مِنْ ذَلِكَ كلِّه. وكذلك (5) أمر عمر بن
__________
(1) قوله: من القِطْنِيَّة، بكسر القاف وسكون الطاء فنون فتحتيَّة مشدَّدة كالعدس والحمص واللوبيا، وفي "التهذيب" القطنية اسم جامع للحبوب التي تُطبخ كالعدس والباقلا واللوبيا والحمصة والأرزّ والسمسم وغير ذلك، كذا في شرح القاري.
(2) على الأصل فيما اتَّجروا فيه.
(3) المراد به ذهابهم ومجيئهم بقصد التجارة.
(4) قوله: نصف العشر، ذهب إلى هذا التفصيل ابن أبي ليلى والشافعي والثوري وأبو عبيد، وقال مالك: يؤخذ من تجار أهل الذمة العشر إذا اتّجروا إلى غير بلادهم ممّا قلّ أو كَثُر، ولنا ما روى عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن ابن سيرين قال: بعثني أنس بن مالك على الأَيْلة، فأخرج لي كتاباً من عمر: يؤخذ من المسلمين من كل أربعين درهماً درهم ومن أهل الذمة من كل عشرين درهماً درهم، ومن لا ذمّة له من كل عشرة دراهم درهم. وروى أبو الحسن القُدُوري في "شرح مختصر الكرخي" أن عمر نصب العشار، وقال لهم: خذوا من المسلم ربع العشر ومن الذمي نصف العشر، ومن الحربي العشر، وكان هذا بمحضر من الصحابة، فكان إجماعاً سكوتياً، كذا في "البناية".
(5) قوله: كذلك، أخرج سعيد بن منصور نا أبو عوانة، وأبو معاوية، عن الأعمش عن إبراهيم بن المهاجر عن زياد بن حدير قال: استعملني عمر على العشور وأمرني أن آخذ من تجار أهل الحرب العُشر. ومن تجار أهل الذمة نصف العشر، ومن تجار المسلمين ربع العشر. وأخرج البيهقي عن محمد بن سيرين عن أنس نحو ذلك.(2/144)
الْخَطَّابِ زِيَادَ بْنَ (1) حُدَيْر وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حِينَ بَعَثَهُمَا عَلَى عُشُورِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
7 - (بَابُ (2) الْجِزْيَةِ (3))
331 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ (4) : أنَّ النبيَّ صَلَّى الله عليه وسلّم أخذ
__________
(1) هو أبو المغيرة الأسدي الكوفي التابعي، سمع عمر وعلياً، وروى عنه خلقٌ منهم الشَّعبيُّ، كذا ذكره القاري.
(2) قوله: باب الجزية (ارجع إلى أوجز المسالك للتفصيل في هذا 6/81، وأحكام القرآن للجصاص 3/100 - 102) ، قال أبو يوسف في "كتاب الخراج" جميع أهل الشرك من المجوس وعَبَدَة الأوثان وعَبَدَة النيران والحجارة والصابئين يُؤخذ منهم الجزية ما خلا أهلَ الردّة من أهل الإسلام وأهلَ الأوثان من العرب والعجم فإن الحكم فيهم أن يُعرض عليهم الإسلام فإن أسلموا إلاّ قُتل الرجال منهم، وسُبي النساء والصبيان، وليس أهل الشرك من عبدة الأوثان، وعبدة النيران والمجوس مثل أهل الكتاب في ذبائحهم ومناكحتهم، حدثنا قيس بن الربيع الأسدي عن قيس بن مسلم عن الحسن قال: صالح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مجوس هجر على أن يأخذ منهم الجزية غيرَ مستحِلٍّ مناكحة نسائهم ولا أكل ذبائحهم.
(3) من جزأت الشيء إذا قسمته، وقيل من الجزاء، قال العلماء: الحكمة في وضع الجزية أنَّ الذّلّ الذي يلحقهم يحملهم على الإِسلام، شُرعت سنة ثمان وقيل تسع.
(4) قوله: الزهري، كذا أخرجه مرسلاً ابنُ أبي شيبة من طريق مالك، وأخرج الدارقطني في غرائب مالك والطبراني من طريقه عن الزهري عن السائب بن يزيد رضي الله عنه، قال الدارقطني: لم يصل إسناده غير الحسين بن أبي كبشة البصري عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك، والمرسل هو المحفوظ.(2/145)
مِنْ مَجُوسِ (1) الْبَحْرَيْنِ الْجِزْيَةَ، وَأَنَّ عُمَرَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ فَارِسٍ (2) ، وَأَخَذَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ مِنَ الْبَرْبَرِ (3) .
332 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ (4) الجزيةَ عَلَى أَهْلِ (5) الوَرِق أَرْبَعِينَ (6) دِرْهَمًا، وَعَلَى أَهْلِ (7) الذَّهَبِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ (8) ، وَمَعَ ذَلِكَ أَرْزَاقَ (9) الْمُسْلِمِينَ
__________
(1) قوله: من مجوس البحرين، بلفظ التثنية موضع بين البصرة وعَمَّان، وهو من بلاد نجد، ويُعرب إعراب المثنى، ويجوز جعل النون محل الإِعراب مع لزوم الياء مطلقاً، وهي لغة مشهورة، قاله الزرقاني.
(2) لقب قبيلة، ليس بأب ولا أم، وإنما هم أخلاط من تغلب، اصطلحوا على هذا الاسم، كما في "القاموس".
(3) كجعفر، قوم من أهل المغرب.
(4) أي عيّنها.
(5) كأهل العراق.
(6) في كل سنة. قوله: أربعين درهماً ... إلى آخره، إليه ذهب مالك فلا يُزاد عليه ولا يُنقص إلا من يضعف عن ذلك، فيُخَفّف عنه بقدر ما يراه الإِمام. وقال الشافعي: أقلّها دينار ولا حدّ لأكثره إلا إذا بذل الأغنياء ديناراً لم يجز قتالهم. وقال أبو حنيفة وأحمد: أقلّها على الفقراء والمعتملين اثنا عشر درهماً أو دينار، وعلى أواسط الناس أربعة وعشرون درهماً، أو ديناران، وعلى الأغنياء ثمانية وأربعون درهماً أو أربعة دينار، كذا في "شرح الزرقاني".
(7) كأهل مصر والشام.
(8) في كل سنة.
(9) قوله: أرزاق المسلمين، أي رفد أبناء السبيل وعَوْنهم، قال ابن عبد البر، وقال الباجي: أقوات من عندهم من أجناد المسلمين على قدر(2/146)
وَضِيَافَةَ (1) ثَلاثَةِ أَيَّامٍ.
333 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُؤتى بنَعَم (2) كَثِيرَةٍ مِنْ نَعَم الْجِزْيَةِ. قَالَ مَالِكٌ: أُراه (3) تُؤخذ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ فِي جِزْيَتِهِمْ (4) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: السُّنَّة (5) أَنْ تُؤْخَذَ الْجِزْيَةُ مِنَ الْمَجُوسِ
__________
ما جرت عادة أهل تلك الجهة من الاقتيات، وقد جاء ذلك مفسَّراً أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد أن عليهم من أرزاق المسلمين من الحنطة مُدّان، ومن الزيت ثلاثة أقساط كل شهر لكلِّ إنسان من أهل الشام والجزيرة، وودَكَ وعسل لا أدري كم هو، وعلى أهل العراق خمسة عشر صاعاً لكلِّ إنسان كل شهر، وودك وعسل.
(1) بيان لأرزاق المسلمين. قوله: وضيافة ثلاثة أيام، للمجتازين بهم من المسلمين من خبز وشعير وتين وأدام، ومكان ينزلون به يكنّونه من الحر والبرد، قاله ابن عبد البر.
(2) أي دوابّ كالشاة والبقرة.
(3) أي أظن.
(4) أي أهل النعم.
(5) قوله: السنة ... إلى آخره، أي الطريقة المشروعة من النبي صلّى الله عليه وسلّم وخلفائه أخذُ الجزية من المجوس كأهل الكتاب إلا أنه لا يجوز نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم بخلاف أهل الكتاب، لما أخرجه البخاري عن ابن عبدة المكي أتانا كتابُ عمر قبل موته بسنة: فرِّقوا بين كل ذي محرم من المجوس. ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذها من مجوس هجر، وفي "الموطأ" برواية يحيى: مالك عن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه أن عمر ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لَسَمِعْتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب، ورواه ابن أبي شيبة عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر،(2/147)
من غير (1)
__________
وعبد الرزاق في "مصنفه" عن ابن جريج عن جعفر، وإسحاق بن رواهويه عن عبد الله بن إدريس عن جعفر، وهو حديث منقطع، فإن والد جعفر محمد بن علي لم يلقَ عمر ولا ابنَ عوف، وقد رواه أبو علي الحنفي عبد الله بن عبد المجيد من طريق مالك فقال عن أبيه عن جده أخرجه البزار والدارقطني في غرائب مالك ولم يقل عن جده أحد سوى أبي علي الحنفي وكان ثقة وهو مع ذلك مرسل، فإن جدَّ جعفر عليَّ بن الحسين لم يلق عمر، ولا ابن عوف، كذا ذكره ابن عبد البر وغيره، وروى الشافعي في "مسنده" عن سفيان عن سعيد بن المزربان عن نصر بن عاصم قال: قال فروة بن نوفل: علامَ تُؤخذ الجزية من المجوس، وإنهم ليسوا بأهل كتاب؟ فقام إليه المستورد، وقال: يا عدوَّ الله تطعن على أبي بكر وعمر وعلي، وقد أخذوا الجزية من المجوس، فذهب به إلى القصر، فخرج عليهم عليّ، وقال: أنا أعلم الناس بالمجوس، كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه، وإنّ ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أمه فاطلع عليه بعض أهل مملكته، فلما صحا أرادوا أن يُقيموا عليه الحد، فدعا أهل مملكته، فقال: أتعلمون خيراً من دين آدم، وقد كان يُنكح بنيه من بناته، فأنا على دين آدم فبايعوه، وقاتلوا الذي خالفهم، وقد أسرى على كتابهم فرفع من بين أظهرهم، وذهب العلم الذي في صدورهم فهم أهل كتاب، وفي سنده سعيد بن المزربان مجروح، ذكره ابن الجوزي في "التحقيق". ومن طريق الشافعي رواه البيهقي، وقال: أخطأ سفيان في قوله نصر بن عاصم، وإنما هو عيسى بن عاصم، كذا ذكره الزيلعي، وأخرج الإِمام أبو يوسف في كتاب "الخَرَاج" عن نصر بن خليفة أن فروة بن نوفل قال: الحديث نحوه.
(1) قوله: من غيره ... إلى آخره، لما أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد بن علي: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى مجوس هجر يَعرض عليهم الإِسلام فمن أسلم قُبل منه، ومن لم يُسلم ضُربت عليه الجزية غيرَ ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم. وهو مرسل، وقيس بن مسلم مختلف فيه، قاله ابن القطان: وروى ابن سعد في "الطبقات" عن محمد الواقدي عن(2/148)
أَنْ تُنكحَ نِسَاؤُهُمْ وَلا تُؤكل ذَبَائِحُهُمْ، وَكَذَلِكَ بَلَغَنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَرَبَ عُمَرُ (1) الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ سَوَادِ الْكُوفَةِ، على المُعسر (2) اثنا عَشَرَ دِرْهَمًا وَعَلَى الْوَسَطِ (3) أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا. وَأَمَّا مَا ذَكَر (4) مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مِنَ الْإِبِلِ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمْ يَأْخُذِ الْإِبِلَ فِي جِزْيَةٍ عَلِمْنَاهَا إلاَّ مِنْ بَنِي تَغْلِب (5) فَإِنَّهُ (6) أَضْعَفَ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةَ، فَجَعَلَ ذَلِكَ جِزْيَتَهُمْ، فَأَخَذَ من إبلهم وبقرهم وغنمهم.
__________
عبد الحكم بن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإِسلام، فإن أَبَوْا عرض عليهم الجزية بأن لا تُنْكح نساؤهم ولا تُؤكل ذبائحهم (قال ابن القيم: فلما نزلت آية الجزية أخذها صلّى الله عليه وسلّم من ثلاث طوائف: من المجوس، واليهود، والنصارى، ولم يأخذها من عُبّاد الأصنام، فقيل: لا يجوز أخذها من كافر غير هؤلاء ومن دان دينهم اقتداءً بأخذه صلّى الله عليه وسلّم وتركه، وقيل: بل تؤخذ من أهل الكتاب وغيرهم من الكفار كعبدة الأصنام من العجم دون العرب، والأول قول الشافعي وأحمد في إحدى روايتيه، والثاني: قول أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى. "أوجز المسالك" 6/85) .
(1) ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فصار كالإِجماع. قوله وضرب، أخرجه ابن أبي شيبة وابن زنجويه في كتاب "الأموال"، والقاسم بن سلاَّم في كتاب "الأموال". وهو المأثور عن عثمان وعلي، ذكره الزيلعي وغيره.
(2) أي الفقير.
(3) أي المتوسط.
(4) أي في إطلاقه بحث.
(5) بكسر اللام قوم من نصارى العرب أبَوْا أن يُعطوا الجزية فضاعف عمر عليهم الصدقة.
(6) قوله: فإنه أضعف عليهم ... إلى آخره، أخرجه البيهقي وابن أبي شيبة والقاسم بن سلاّم في كتاب "الأموال" وأبو يوسف في كتاب "الخراج" وحميد بن زنجويه وعبد الرزاق وغيرهم، كما بسطه الزيلعي.(2/149)
8 - (بَابُ زَكَاةِ الرَّقِيقِ وَالْخَيْلِ والبَراذين (1))
334 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ عَنْ صَدَقَةِ الْبَرَاذِينَ فَقَالَ: أَوَفي (2) الخيلِ (3) صَدَقَةٌ؟
335 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن دينار، عن سليمان بن يسار، عن عِراك (4) بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ (5) عَلَى الْمُسْلِمِ (6) فِي عَبْدِهِ وَلا فِي فرسه
__________
(1) بفتح الموحدة، جمع البِرْذَوْن كفردوس، الفرس الفارسي، وقال المُطَرِّزي: البرذون: التركي من الخيل، قاله القاري.
(2) همزة الاستفهام للإِنكار لا للاستفهام.
(3) وقد صح: ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة. وقال صلّى الله عليه وسلّم: قد عفوتُ عن الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرقة. أخرجه أبو داود بسند حسن.
(4) قوله: عن عراك بن مالك، قال السيوطي في "الإِسعاف": عِرَاك بن مالك الغِفاري المدني، روى عن ابن عباس وأبي هريرة وابن عمر وعائشة وجماعة، وعنه سليمان بن يسار وخيثم وعبد الله ابنا عراك، وثًّقه أبو زرعة وأبو حاتم، مات بالمدينة في خلافة يزيد بن عبد الملك، انتهى. وعِرَاك بكسر العين المهملة، وفتح الراء المخففة بعدها ألف بعدها كاف، كذا ضبطه ابن حجر في "التقريب"وابن الأثير في "جامع الأصول" والفَتَّني في "المغني" وغيرهم.
(5) قال الباجي: هذا نفي، والنفي على الإِطلاق يقتضي الاستغراق، قاله القاري.
(6) قوله: ليس على المسلم ... إلى آخره، أخرجه الأئمة الستة في كتبهم(2/150)
صَدَقَةٌ (1) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (2) لَيْسَ فِي الْخَيْلِ صَدَقَةٌ سَائِمَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ سَائِمَةٍ. وأما في قوله أبي حنيفة (3) رحمه الله: فإذا كانت
__________
ورواه ابن حبان وزاد: إلاَّ صدقةَ الفطر، ورواه الدارقطني بلفظ: لا صدقة على الرجل في فرسه ولا في عبده إلاَّ زكاة الفطر، كذا في "نصب الراية" للزيلعي.
(1) قوله: صدقة، لا خلاف أنه ليس في رقاب العبيد صدقة إلاَّ أن يُشْتَروا للتجارة، وأوجب حماد وأبو حنيفة وزفر الزكاة في الخيل إذا كانت إناثاً وذكوراً، فإذا انفردت زُكِّي إناثها لا ذكورها، ثم يُخَيَّر بين أن يُخرج عن كل فرس ديناراً وبين أن يقوِّمها أو يخرج ربع العشر. ولا حجة لهم لصحة هذا الحديث، واستدل بالحديث من قال من الظاهرية بعدم وجوب الزكاة فيهما ولو كانا للتجارة، وأجيب بأن زكاة التجارة ثابتة بالإِجماع، فيخص به عموم الحديث، كذا في "شرح الزرقاني".
(2) قال القاري: ووافقه أبو يوسف واختاره الطحاوي. وفي "الينابيع": عليه الفتوى وهو قول مالك والشافعي.
(3) قوله: وأما في قول أبي حنيفة ... إلى آخره، استُدل له بما أخرجه الدارقطني والبيهقي من طريق الليث بن حماد الإِصطخري، نا أبو يوسف عن فورك عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر مرفوعاً: في الخيل السائمة في كل فرس دينار. ويُرَدُّ على هذا الاستدلال بوجهين: أحدهما أن في سنده كلاماً، قال الدارقطني: تفرد به فورك وهو ضعيف جداً، ومَنْ دونه ضعفاء. انتهى. وقال البيهقي: لو كان هذا الحديث صحيحاً عند أبي يوسف لم يخالفه. انتهى. وقال ابن القطان: أبو يوسف هو أبو يوسف يعقوب القاضي وهو مجهول عندهم. انتهى.
فلا يصلح للاحتجاج به في مقابلة الحديث الصحيح النافي للصدقة، لكنَّ فيما قال ابن القطان نظراً، فإن أبا يوسف وثَّقه ابن حبان وغيره، قال الزيلعي، وقال العيني:(2/151)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
قول ابن القطان لم يصدر عن عقل، وهل يُقال في مثل أبي يوسف إنه مجهول، وهو أول من سُمِّي بقاضي القضاة، وعلمه شاع في ربع الدنيا وهو إمام ثقة حجة. انتهى. وفي "أنساب السمعاني": لم يختلف يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني في كون أبي يوسف ثقة في الحديث. انتهى. وقد بسطتُ في ترجمته في "مقدمة الهداية" ثم في "مقدمة السعاية، شرح شرح الوقاية"، ثم في "النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير" ثم في "الفوائد البهية في تراجم الحنفية". وثانيهما: أنه على تقدير صحته يُحمل على أنه كان في الابتداء، ثم نُسخ بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: عفوتُ عن صدقة الخيل. أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، والعفو لا يكون إلاّ عن حقٍّ لازم، وقد يُستدل لما ذهب إليه أبو حنيفة بأخبار أُخر، منها ما في الصحيحين، مرفوعاً في حديث طويل: الخيل ثلاثة: هي لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر ... الحديث، وفيه فأمّا الذي له ستر فرجل ربطها تعفُّفاً ولم ينسَ حقَّ الله في رقابها ولا ظهورها ... الحديث، فإن الحق الثابت على رقاب الحيوانات ليس إلاَّ الزكاة فدل ذلك على وجوبها. وأجاب عنه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" بأنه يجوز أن يكون ذلك الحق سوى الزكاة، فإنه قد روى ما نا ربيع المؤذن نا أسد نا شريك بن عبد الله بسنده عن عامر، عن فاطمة بنت قيس، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: في المال حقٌّ سوى الزكاة، وحجة أخرى أنّا رأينا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر الإِبل السائمة، فقال: فيها حق، فسُئل: ما هو؟ فقال: إطراقُ فحلها، وإعارةُ دلوها، ومنيحة سمينها، فاحتمل أن يكون هو في الخيل (انظر شرح معاني الآثار 1/310. إطراق فحلها أي عاريته للضراب، ومنيحة سمينها أي عطية سمينها من المنح وهو إعطاء ذات لبن فقيراً ليشرب لبنها مدة، ثم يردها على صاحبها إذا ذهب درّها. اهـ) . انتهى ملخصاً. ومنها ما روي أن عمر أخذ الصدقة من الخيل وكذلك عثمان، أخرجه ابن عبد البر والدارقطني وغيرهما، وأجاب عنه الطحاوي بأنه لم يأخذه عمر على أنه حق واجب عليهم، بل لسبب آخر، ثم أخرج بسنده عن حارثة قال:(2/152)
سَائِمَةً (1) يُطلب نَسْلُهَا فَفِيهَا الزَّكَاةُ، إِنْ شئتَ (2) فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارٌ، وَإِنْ شِئْتَ فَالْقِيمَةُ، ثُمَّ فِي كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خمسةُ دَرَاهِمَ وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعي (3) .
336 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ (4) : أَنَّ عمرَ (5) بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ لا يَأْخُذَ مِنَ الْخَيْلِ وَلا الْعَسَلِ (6) صدقة.
__________
حججت مع عمر فأتاه أشراف الشام، فقالوا: إنا أصبنا خيلاً وأموالاً فخذ من أموالنا صدقة، فقال: هذا شيء لم يفعله اللذان كانا قبلي، ولكن انتظروا حتى أسأل المسلمين، فسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم عليّ، فقالوا: حسن، وعليٌّ ساكت، فقال عمر: ما لك يا أبا الحسن؟ فقال: قد أشاروا عليك ولا بأس بما قالوا إن لم يكن واجباً، وجزية راتبة يؤخذون بها بعدك. فدل ذلك على أنه إنما أخذ على سبيل التطوع بعد ابتغائهم ذلك لا على سبيل أنه شيء واجب، وقد أخبر أنه لم يأخذه رسول الله ولا أبو بكر.
(1) بأن ترعى في أكثر الحول.
(2) أي أيها السائل.
(3) كما أخرجه المؤلف في كتاب "الآثار"، عن أبي حنيفة، عن حمّاد عنه.
(4) هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قاضي المدينة.
(5) وأحد الفقهاء والخلفاء من بني أمية.
(6) قوله: ولا العسل، قد ذهب الأئمة إلى أن لا زكاة في العسل (يجب العشر في العسل، به قال أبو حنيفة والشافعي في القديم وأحمد. وفي الجديد لا عشر فيه، وعليه مالك، مرقاة المفاتيح 4/155) ، وضعَّف(2/153)
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَمَّا الْخَيْلُ فَهِيَ عَلَى مَا وصفتُ (1) لَكَ، وَأَمَّا الْعَسَلُ فَفِيهِ العُشُر (2) إِذَا أصبتَ مِنْهُ الشيءَ الْكَبِيرَ (3) خمسةَ أَفْرَاقٍ (4) فَصَاعِدًا، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الْعُشُرُ (5) ، وَقَدْ بَلَغَنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَعَلَ فِي الْعَسَلِ الْعُشُرَ.
337 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سُلْيَمَانَ بن
__________
أحمد حديث أنه صلّى الله عليه وسلّم أخذ منه العُشر، قال أبو عمر: هو حديث حسن يرويه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.
(1) من أنه ليس فيه صدقة خلافاً لأبي حنيفة.
(2) قوله: ففيه العشر، لما روى الترمذي عن ابن عمر مرفوعاً: في العسل العشر، في كل عشرة أزقّ زقّ. ورواه الطبراني بلفظ: في العسل العشر، في كل عشر قِرَب قِربة، وليس في ما دون ذلك شيء.
وروى العقيلي عن أبي هريرة مرفوعاً: في العسل العشر.
وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد والبيهقي والطبراني وغيرهم قصة فيها: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ العُشر. وفي أسانيد أكثر هذه الأخبار مقال، وسند بعضها حسن. وللبسط موضع آخر.
(3) في نسخة: الكثير،
(4) قال القاري: جمع فَرَق بالفتح، مكيال بالمدينة يسع ثلاثة آصع أو ستة عشر رطلاً.
(5) قوله: العشر، أي إذا كان في أرض عشرية أو جبلي، وقال الشافعي: لا شيء في العسل، وقال أبو يوسف: لا شيء في العسل الجبلي، كذا قال القاري.(2/154)
يَسَارٍ: أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ قَالُوا لأَبِي عُبَيْدَةَ (1) بنِ الْجَرَّاحِ (2) : خُذْ مِنْ خَيْلِنَا وَرَقِيقِنَا صَدَقَةً، فَأَبَى (3) ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنْ أَحَبُّوا (4) فخُذْها مِنْهُمْ، واردُدْها عَلَيْهِمْ يَعْنِي عَلَى فُقَرَائِهِمْ، وَارْزُقْ رَقِيقَهُمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْقَوْلُ فِي هَذَا الْقَوْلِ الأَوَّلِ (5) ، وَلَيْسَ فِي فَرَسِ الْمُسْلِمِ صَدَقَةٌ وَلا فِي عَبْدِهِ إِلا صَدَقَةَ الْفِطْرِ (6) .
9 - (بَابُ الرِّكَازِ (7))
338 - أَخْبَرَنَا مالك،
__________
(1) بضم العين، هو عامر بن عبد الله الفهري أمين هذه الأمة، أمَّره عمر على الشام.
(2) بالفتح وتشديد الرّاء (وفي الأصل والجيم، وهو تحريف) .
(3) فيه أنه كان مقرَّراً عندهم أن لا زكاة فيه.
(4) يريد أن هذا تطوع، ومن تطوع بشيء أُخذ منه.
(5) أي عدم وجوب الصدقة في الخيل، وفعل عمر لم يكن على وجه الإِلزام والإِيجاب.
(6) فإنه يجب على سيده لأجل عبده.
(7) قوله: الركاز (إن في مسائل المعدن والركاز أبحاث وسيعة الأذيال بُسطت في الأوجز 5/263، ولامع الدراري 5/104 وما بعدها. وإن الركاز يعمُّ المعدن والكنز عند الحنفية وهو مؤدَّى قول لمالك والشافعي، وأما عند غير الحنفية فالمشهور عنهم أن الركاز دفين الجاهلية، قال ابن قدامة: هذا قول الحسن والشعبي ومالك والشافعي وأبي ثور) ، بكسر الراء من الركز، وهو الإثبات في الأرض إما(2/155)
حَدَّثَنَا رَبِيعَةُ (1) بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وغيرهُ (2) : أن (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَ لبلالِ (4) بْنِ الْحَارِثِ المُزَني معادنَ مِنْ معادن القَبَلية (5) ، وهو (6)
__________
مخلوقاً، وهو المعدن، أو موضوعاً، وهو الكنز على ما يُفهم من "المُغْرب" وكثير من كتب اللغة.
(1) قوله: ربيعة ... إلى آخره، هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن فرّوخ التَّيْمي أبو عثمان، ويقال أبو عبد الرحمن، المدني الفقيه أحد الأعلام المعروف بربيعة الرأي، قال أحمد: ثقة، وقال يعقوب بن شيبة: ثقة، ثَبْت، مات سنة 136، كذا في "الإِسعاف".
(2) بالرفع أي وغير ربيعة من المشايخ.
(3) قوله: أن، قال ابن عبد البر: هذا الحديث عند جميع رواة "الموطأ" مرسل، وقد وصله البزار من طريق عبد العزيز الدَّارَاوَردي عن ربيعة، عن الحارث بن بلال بن الحارث، عن أبيه، قلت: وأخرجه أبو داود من طريق ثور بن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قاله السيوطي.
(4) قوله: لبلال ... إلى آخره، هو بلال بن الحارث بن عاصم بن سعيد بن قرة بن خلادة بن ثعلبة أبو عبد الرحمن المزني، قدم على النبي صلّى الله عليه وسلّم في وفد مُزَينة سنة خمس، وكان يحمل لواء مزينة يوم الفتح، ثم سكن البصرة، وتوفي سنة ستين آخر أيام معاوية رضي الله عنه، كذا في "أسد الغابة في معرفة الصحابة" لعز الدين علي بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري.
(5) قوله: من معادن القبلية، قال ابن الأثير: في "النهاية" منسوب إلى قَبَل، بفتح القاف والباء، وهي ناحية من الفُرُع، هذا هو المحفوظ في الحديث، وفي كتاب الأمكنة معادن القِلَبة (القِلَبة: بكسر القاف بعدها لام مفتوحة ثم باء. أوجز المسالك 5/265) .
(6) أي مكان تلك المعادن.(2/156)
مِنْ نَاحِيَةِ الفُرُع (1) ، فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ إِلَى الْيَوْمِ لا يُؤخذ مِنْهَا إلاَّ الزَّكَاةُ (2) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ (3) أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم قال: في
__________
(1) قوله: من ناحية الفُرُع، بضم الفاء والراء كما جزم به السُّهَيْلي وعياض في "المشارق"، وقال في كتابه "التنبيهات": هكذا قيَّده الناس، وحكى عبد الحق عن الأحول إسكان الراء ولم يذكر غيره، كذا ذكره الزرقاني.
(2) أراد بها ربع العشر. قوله: إلاَّ الزكاة ... إلى آخره، به قال جماعة، وقال الثوري وأبو حنيفة وغيرهما: المعدن كالركاز يؤخذ من قليله وكثيره الخُمُس.
(3) قوله: الحديث المعروف، أخرجه الأئمة الستة وغيرهم من حديث أبي هريرة: "العجماء جُبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس" أخرجوه مطوَّلاً ومختَصَراً، وحمله مالك والشافعي وغيرهما على المال المدفون في الأرض، وقالوا: أما المعدن الذي خلقه الله في الأرض فلا خُمُس فيه، بل فيه الزكاة إذا بلغ قدر النصاب، وهو المأثور عن عمر بن عبد العزيز، وصله أبو عبيد في كتاب "الأموال" وعلَّقه البخاري في صحيحه. وأما أصحابنا فقالوا: الركاز: يعمُّ المعدن والكنز، ففي كل ذلك الخمس. ويؤيده ما أخرجه البيهقي في "المعرفة" عن حبان بن علي، عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً: الركاز الذي ينبت بالأرض. وفي عبد الله كلام، وروى أبو يوسف أيضاً عن عبد الله بسنده، عن أبي هريرة مرفوعاً: في الركاز الخمس، قيل: وما الركاز يا رسول الله؟ قال: الذي خلقه الله في الأرض يوم خُلقت، ذكره البيهقي. وأما حديث بلال بن الحارث المزني في معادن القَبَلية. فقال أبو عبيد: هو منقطع، ومع انقطاعه ليس فيه أنه عليه الصلاة والسلام أمر بذلك وإنما فيه لا يؤخذ منها إلاَّ الزكاة، وقال النووي: قال الشافعي: ليس هذا مما يُثبته أهل الحديث ولو أثبتوه لم يكن فيه رواية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال البيهقي: هو كما قال الشافعي في رواية مالك، وأما ما أخرجه البيهقي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذ من معادن القبلية الصدقة ففي سنده كثير بن عبد الله مجمع على ضعفه ذكره العيني.(2/157)
الرِّكَازِ (1) الخُمُس (2) ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الرِّكَازُ؟ قَالَ: الْمَالُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى في الأرض يوم خَلَق السموات وَالأَرْضَ فِي هَذِهِ الْمَعَادِنِ، فَفِيهَا الْخُمُسُ. وَهُوَ قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - والعامة مِنْ فُقَهَائِنَا (3) .
10 - (بَابُ صَدَقَةِ الْبَقَرِ)
339 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا حميد (4) بن قيس، عن
__________
(1) سواء كان في دار الحرب أو دار الإسلام عند الجمهور. ومنهم الأئمة الأربعة خلافاً للحسن البصري في قوله: فيه الخمس في أرض الحرب، وفي أرض الإسلام فيه الزكاة، قاله القاري.
(2) قوله: في الركاز الخمس، قال السيوطي: وقع في زمن شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام أن رجلاً رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: اذهب إلى موضع كذا، فاحفره فإن فيه ركازاً، فخذه لا خمس عليك فيه، فلما أصبح ذهب إلى ذلك الموضع، فحفره فوجد الركاز، فاستفتى علماء عصره فأفتوه بأنه لا خمس عليه لصحة رؤياه، وأفتى الشيخ عز الدين بأن عليه الخمس، وقال: أكثر ما يُنَزَّل منامه منزلة حديث روي بإسناد صحيح وقد عارضه ما هو أصح منه، وهو الحديث المخرَّج في الصحيحين: في الركاز الخمس. قال القاري: وأيضاً حديث المنام لا يعارض حديث اليقظة، فإنَّ حالها أقوى ولهذا لا يجوز العمل بما يرى في المنام إذا كان مخالفاً لشرعه عليه الصلاة والسلام (انظر شرح الزرقاني 1/101) .
(3) الأكثرين من فقهائنا أي الكوفيين.
(4) قوله: حميد، هو أبو صفوان الأعرج القاري، لا بأس به من رجال الجميع، مات سنة 130، وقيل: بعدها، كذا ذكره الزرقاني.(2/158)
طَاوُسٍ (1) : أنَّ (2) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ (3) معاذَ بنَ الْجَبَلِ إِلَى الْيَمَنِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كلِّ ثَلاثِينَ بَقَرَةً تبيعاً (4) ومن كل أربعين مُسِنَّةً (5) ،
__________
(1) هو ابن كَيْسان اليماني، ويقال: اسمه ذكوان، وطاوس لقبه، تابعي، ثقة، مات سنة 106، وقيل بعدها، كذا ذكره الزرقاني.
(2) قوله: أن ... إلى آخره، أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن مسروق عن معاذ، وقال الترمذي: حديث حسن، وقد رواه بعضهم مرسلاً لم يذكر فيه معاذاً، وهذا أصح. انتهى. ورواه ابن حبان في صحيحه مسنداً، والحاكم في "المستدرك" وقال: صحيح على شرط الشيخين، والمرسل الذي أشار إليه الترمذي أخرجه ابن أبي شيبة عن مسروق قال: بعث رسول الله معاذاً إلى اليمن. الحديث.
وقال أبو عمر في "التمهيد"، في باب حميد بن قيس: قد رُوي هذا الخبر عن معاذ بإسناد متصل صحيح ثابت ذكره عبد الرزاق: ثنا معمر والثوري عن الأعمش عن أبي وائل، عن مسروق، عن معاذ. انتهى. وللحديث طرق أخر منها عن أبي وائل، عن معاذ، وهي عند أبي داود والنسائي، ومنها عن إبراهيم النخعي، عن معاذ وهي عند النسائي، ومنها عن طاوس، عن معاذ وهي في "موطأ مالك". قال في الإِمام: ورواية إبراهيم عن معاذ منقطعة بلا شك، وكذلك رواية طاوس. وقال الشافعي: طاوس أعلم بأمر معاذ، وإن كان لم يلقه، كذا في "نصب الراية" (2/346 و 347) للزيلعي رحمه الله.
(3) أي قاضياً ومعلِّماً.
(4) هو ما طَعَنَ في السنة الثانية، سُمِّي به لأنه يتبع أمه.
(5) هي أنثى المُسِنّ، وهو ما دخل في الثالثة.(2/159)
فأُتي بِهَا دُونَ ذَلِكَ (1) ، فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، وَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْ فِيهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ (2) مُعَاذٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ لَيْسَ فِي أقلَّ مِنْ ثَلاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ زَكَاةٌ، فَإِذَا كَانَتْ ثَلاثِينَ فَفِيهَا تبيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ، وَالتَّبِيعُ الجَذَع (3) الحَوْلي، إِلَى أَرْبَعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ (4) أَرْبَعِينَ فَفِيهَا مُسِنَّة، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - والعامَّة.
__________
(1) أي ما دون الثلاثين.
(2) أي من اليمن.
(3) بفتح الجيم والذال المعجمة، ما أتى عليه أكثرُ السنة، (الجذع) أي إذا أكمل السنة وشرع في الثانية.
(4) قوله: بلغت أربعين، ففيها مُسِنَّة: وهكذا يحسب كل ثلاثين وأربعين، لما أخرجه أحمد والطبراني عن معاذ قال: بعثني رسول الله أصدق أهل اليمن، فأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعاً ومن كل أربعين مُسِنَّة، ومن ستين تبيعان، ومن سبعين مُسِنَّة وتبيع، ومن ثمانين مُسِنَّتان، ومن تسعين ثلاثة أتبعة ومن المائة مُسِنَّة وتبيعان، ومن العشر ومائة مُسِنَّتان وتبيع، ومن عشرين ومائة ثلاث مُسنّات أو أربعة أتبعة وأمرني أن لا آخذ فيما بين ذلك شيئاً إلاَّ أن تبلغَ مُسنَّة أو جذعاً. وأخرج البيهقي والدارقطني من حديث بقية عن المسعودي عن الحكم عن طاوس، عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث معاذاً إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعاً ومن كل أربعين مُسنَّة، قالوا: فالأوقاص؟ قال: ما أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها بشيء، وسأسأله إذا قَدِمتُ إليه، فلما قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سأله، فقال: ليس فيها شيء. وهذا يدل على أن معاذاً قدم المدينة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيّ، ويوافقه ما أخرجه أبو يعلى أن معاذاً لما قدم من اليمن سجد للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال(2/160)
11 - (بَابُ الْكَنْزِ (1))
340 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ قَالَ: سُئل ابْنُ عُمَرَ عَنِ الْكَنْزِ (2) ؟ فَقَالَ: هُوَ المالُ (3) الَّذِي لا تُؤَدَّى زكاتُه.
341 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ (4) : مَنْ كَانَ له مالٌ، ولم يؤدِّ زكاتَه
__________
له: يا معاذ ما هذا؟ قال: إني لما قدمت على اليمن وجدت اليهود والنصارى يسجدون لعظمائهم وقالوا هذه تحيَّةُ الأنبياء، فقال: كذبوا على أنبيائهم، ولو كنت آمِراً أن يُسجَدَ لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها. ويخالفه رواية مالك وغيرها من الروايات الصحيحة.
(1) قوله: الكنز، كنز وجد فيه سِمَة الكفر كنقش صنم ونحوه خُمِّس، وأما ما فيه سِمَة الإِسلام فكاللُّقطَة، فالمراد بالكنز ههنا ما يضعه صاحبه في الأرض ويدفنه، أو أريد به ما يجمعه مطلقاً، كذا قال القاري.
(2) المذموم الوارد في القرآن.
(3) قوله: هو المال ... إلى آخره، على هذا التفسير جمهور العلماء وفقهاء الأمصار (راجع للتفصيل: "فتح الباري": 3/268، و"عمدة القاري": 4/275) ، وقد رواه الثوري عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر مرفوعاً أخرجه الطبراني والبيهقي وقال: ليس بمحفوظ، وأخرج ابن مردويه، عن ابن عمر مرفوعاً: كلُّ ما أَدِّيت زكاته وإن كان تحت سبع أَرَضين فليس بكنز، وكلُّ ما لا تؤدَّى زكاته فهو كنز وإنْ كان ظاهراً على وجه الأرض.
(4) قوله: قال، موقوفاً ورفعه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح، عنه. رواه البخاري، وتابعه زيد بن أسلم عن أبي صالح عند مسلم.(2/161)
مُثِّلَ (1) لَهُ يومَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا (2) أقْرَعَ (3) ، لَهُ زَبِيبَتَانِ (4) يَطْلُبُهُ حَتَّى يُمْكِنَه (5) فَيَقُولَ: أَنَا كَنْزُكَ (6) .
12 - (بَابُ مَنْ تَحِلُّ لَهُ الزَّكَاةُ)
342 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يسار: أنَّ (7) رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ: لا تَحِلُّ الصدقةُ لغنيٍّ إلاَّ لِخَمْسَةٍ: لغازٍ (8) فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ لعاملٍ (9) عليها، أو لغارمٍ (10) ، أو لرجل
__________
(1) أي صُوِّر مالُه في نظره.
(2) حية عظيمة.
(3) قوله: أقرع، برأسه بياض، وكلما أكثر سُمَّه ابيضّ رأسه، قاله ابن عبد البر. وفي "الفتح": الأقرع الذي تقرَّع رأسه أي تمعَّط لكثرة سُمِّه.
(4) أي نقطتان سوداوان في جانبي الرأس.
(5) بضم الياء وكسر الكاف مخفَّفاً أي فيتمكن منه فيأخذه ويعضّه.
(6) قوله: أنا كنزك، ولابن حبان: يتبعه فيقول: أنا كنزك الذي تركتَه بعدك، فلا يزال يتبعه حتى يُلقمه يده فيمضغها ثم يتبعها (وفي الأصل: يتبعه، وهو خطأ) سائر جسده.
(7) قوله: أنَّ، قال السيوطي: قد وصله أبو داود وابن ماجه من طريق معمر عن زيد، عن عطاء، عن أبي سعيد الخُدْري.
(8) قوله: لغاز، وفي معناه منقطع الحاج، وكذا ابن السبيل وهو المسافر الفقير الذي لا مال في يده.
(9) من يبعثه الإِمام لجمعها فيُعطى بقدر كفايته وإن كن غنيّاً عنها.
(10) أي مديون استغرق دَيْنُه مالَه، بحيث لا يفضل نصاب له، أو لصاحب غرامة من دِيَةٍ لزمته.(2/162)
اشْتَرَاهَا (1) بِمَالِهِ أَوْ لِرَجُلٍ لَهُ جَارٌ (2) مِسْكِينٌ تُصُدِّق (3) عَلَى الْمِسْكِينِ فَأَهْدَى إِلَى الغنيِّ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَالْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِذَا كَانَ لَهُ عَنْهَا (4) غِنًى يَقْدِرُ بِغِنَاهُ عَلَى الْغَزْوِ لَمْ يُستحبّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا (5) ، وَكَذَلِكَ الْغَارِمُ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ وَفَاءٌ بدَيْنه وَفَضْلٌ (6) تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لَمْ يُستحبّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
13 - (بَابُ زَكَاةِ الْفِطْرِ (7))
343 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ أنَّ ابنَ عمر كان يبعث بزكاة
__________
(1) أي الزكاة من مصرفها.
(2) قوله: له جار، خرج على جهة التمثيل فلا مفهوم له.
(3) بصيغة المجهول.
(4) أي عن الصدقة.
(5) قوله: شيئاً، بل يُستحب له أن لا يأخذ، وفيه تنبيه على أنه لا يجوز أن يأخذ أكثر من قدر كفاية.
(6) أي زيادة.
(7) هي واجبة عندنا، وقيل مستحبة (قال العيني: فرض عند مالك والشافعي وأحمد، وواجبة عند أبي حنيفة، وسنة في رواية عن مالك، وعند طائفة من الحنفية، وقيل: مندوبة، كانت واجبة ثم نُسخت. راجع عمدة القاري 4/462، وفيه ثمانية أبحاث مفيدة. وانظر أوجز المسالك 6/113) ، وقدرها نصف صاع من بر وصاع من غيره.(2/163)
الْفِطْرِ إِلَى الَّذِي (1) تُجْمَعُ عِنْدَهُ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: وبهذا نأخذ، يُعجبنا (2) تعجيلُ زكاة
__________
(1) هو من نصبه الإِمام لقبضها، قوله: إلى الذي تُجمع عنده، قال في "ضياء الساري": قال البخاري: كان ابن عمر يعطيها الذين يقبلونها، والمراد بهم الذين نصبهم الإِمام لقبضها، وبهذا جزم ابن بطّال، وقال ابن التين: معناه من قال أنا فقير من غير أن يتجسّس. قال الحافظ: والأول أظهر، وقد وقع في رواية ابن خُزَيْمة من طريق عبد الوارث عن أيوب قلت لنافع: متى كان ابن عمر يعطي؟ قال: إذا قعد العامل، قلت: متى كان يقعد العامل؟ قال: قبل الفطر بيوم أو يومين، ولمالك في "الموطأ" عن نافع أن ابن عمر: كان يبعث زكاة الفطر إلى الذي تُجمع عنده قبل الفطر بيوم أو يومين، وأخرجه الشافعي عنه، وقال: هذا حسن وأنا أستحبه يعني تعجيلَها قبل الفطر. انتهى. ويدل على ذلك أيضاً ما أخرجه البخاري في "الوكالة" وغيرها عن أبي هريرة قال: وكَّلني رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم بحفظ زكاة رمضان ... الحديث، وفيه أنه أمسك الشيطان ثلاثَ ليالٍ وهو يأخذ من التمر، فدل على أنهم كانوا يعجِّلونها.
(2) ليكون عاملاً بقوله تعالى: {قد أفلح من تزكّى} أي أخرج زكاة الفطر {وذكر اسمَ ربِّه} أي بالتكبير في طريقه {فصلّى} أي صلاةَ عيده. قوله: يعجبنا ... إلى آخره، لما أخرجه الحاكم في "علوم الحديث" عن أبي العباس محمد بن يعقوب، نا محمد بن الجهم، نا نضر بن حماد، نا أبو معشر عن نافع، عن ابن عمر: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نُخرج صدقة الفطر عن كل صغير وكبير وحرٍّ وعبد صاعاً من تمر أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من شعير أو صاعاً من قمح، وكان يأمرنا أن نُخْرِجَها قبل الصلاة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَقْسمها قبل أن ينصرف إلى المصلّى، ويقول: أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم. وفي صحيح البخاري، وغيره عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر بزكاة الفطر أن تُؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة. وأخرج ابن أبي شيبة والدارقطني عن الحجاج بن أرطاة عن ابن عباس قال: من(2/164)
الْفِطْرِ (1) قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الرَّجُلُ إِلَى الْمُصَلَّى، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله.
14 - (باب صَدَقَةِ الزَّيْتُونِ)
344 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: صَدَقَةُ الزَّيْتُونِ (2) العُشر.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخذ إذ خرج (3) منه خمسة أوسق
__________
السُّنَّة أن يُخرج صدقة الفطر قبل الصلاة (يستحب أداؤها قبل الخروج إلى الصلاة، وقد اتفق عليه الأربعة كما في "عمدة القاري") ولا يَخرج حتى يطعم. وأخرج ابن سعد في "الطبقات" عن أبي سعيد الخدري قال: فرض صوم رمضان بعد ما حُوِّلت القِبلة إلى الكعبة بشهر في شعبان على رأس ثمانية عشر شهراً من الهجرة، وأمر عليه السلام في هذه السنة بزكاة الفطر، وأن يخرج عن الصغير والكبير والذكر والأنثى والحر والعبد صاعاً من تمر أو صاعاً من زبيب أو مدين من بُرّ (بهذا قال أبو حنيفة: نصف صاع من القمح، أي الحنطة - وصاع من التمر والشعير، وقال الشافعي: صاع من كل شيء في صدقة الفطر، ومذهب مالك
وأحمد وإسحاق مثل مذهب الشافعي في تقديره بالصاع في البُرّ. انظر أوجز المسالك 6/132) ، وأمر بإخراجها قبل الغُدُوِّ إلى الصلاة وقال: أغنوهم يعني المساكين عن الطواف في هذا اليوم.
(1) قال القاري: لقوله تعالى: {سارعوا إلى مغفرة من ربكم} (سورة آل عمران: الآية 133) ، ولأن في التأخير آفات.
(2) الزيتون معروف، والزيت دهنه.
(3) قوله: إذا خرج منه خمسة أوسق فصاعداً، فحينئذٍ يجب فيه العشر(2/165)
فَصَاعِدًا (1) ، وَلا يُلتفت (2) فِي هَذَا إِلَى الزَّيْتِ، إِنَّمَا يُنظر فِي هَذَا إِلَى الزَّيْتُونِ، وَأَمَّا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَفِي قليله وكثيره.
__________
سواء كان الزيت الخارج منه أقلّ أو أكثر، وأما عند أبي حنيفة ففي كل ما يخرج من الأرض العشر من دون تقدير بخمسة أوسق وقد مرَّ تفصيله، وقال محمد بن عبد الباقي الزُّرقاني به أي بوجوب العُشر في الزيتون. قال جماعة من الفقهاء وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، والثاني كابن وهب وأبي ثور وأبي يوسف ومحمد لا زكاة فيه لأنه إدام، لا قوت. انتهى. وأنت تعلم ما فيه (قال شيخنا في "الأوجز" 6/45: وما حكى الزُّرقاني (2/130) عن صاحبَيْ أبي حنيفة لم أجده في كتبنا، بل ذكر الإِمام محمد في موطَّئه حديث الباب، ثم قال: وبهذا نأخذ إذا خرج منه خمسة أوسق فصاعداً، ولا يُلتفت في هذا إلى الزيت، وإنما يُنظر إلى الزيتون، وأما في قول أبي حنيفة ففي قليله وكثيره. انتهى. وهذا صريح في أن محمداً - رحمه الله - قائل بوجوب العُشر في الزيتون) فإن كلام محمد ههنا صريح في وجوب العشر في الزيتون.
(1) قياساً على ما ورد.
(2) أي بأن يكون قليلاً أو كثيراً.(2/166)
(أَبْوَابُ الصِّيَامِ (1))
1 - (بَابُ الصَّوْمِ لِرُؤْيَةِ الْهِلالِ (2) والإِفطار لِرُؤْيَتِهِ)
345 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ (3) رَمَضَانَ، فَقَالَ: لا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوا (4) الْهِلالَ، وَلا تُفطروا حتى تَرَوْه،
__________
(1) قوله: الصيام (الصوم لغة: الإِمساك عن أي شيء كان قولاً كقوله تعالى: {إنِّي نذرتُ للرحمن صوماً فلن أكلِّم اليوم إنسيّاً} أو فعلاً كقول النابغة الذبياني:
خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمة * تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
صام الخيل إذا لم تعتلف، وهو المشهور. راجع لتفصيله "اللسان" و"عمدة القاري" 5/253) ، بكسر الصاد، والياء بدل من الواو، وهو الصوم مصدران لصام، وهو ربع الإِيمان لحديث: الصوم نصف الصبر، وحديث: الصبر نصف الإِيمان.
(2) قوله الهلال: قال الأزهري: يُسمَّى القمر لليلتين من أول الشهر هلالاً، وفي ليلة ست وسبع وعشرين أيضاً وما بين ذلك يسمى قمراً.
(3) قوله: ذَكَر رمضان، فيه إيماء إلى جواز ذكره بدون شهر، قال عياض: هو الصحيح، ومنعه أصحاب مالك لحديث " لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله، ولكن قولوا: شهر رمضان"، أخرجه ابن عَدِيٌ وضعفه. وفرّق ابن الباقلاّني بأنه إن دلَّت قرينة على صرفه إلى الشهر كصمنا رمضان جاز، وإلا امتنع كجاء ودخل. وبالفرق قال كثير من الشافعية، قال النووي: والمذهبان فاسدان لأن الكراهة إنما تثبت بنهي الشرع، ولم يثبت فيه نهي، ولا يصح قولهم إنه اسم الله لأنه جاء فيه أثر ضعيف، وأسماء الله توقيفية لا تُطلق إلا بدليل صحيح. ولو ثبت أنه اسم لم يلزم كراهته، كذا قال الزرقاني.
(4) والمراد به رؤية بعض المسلمين لا كلّ الناس. قوله: حتى تَرَوا الهلال، يجب على الناس كفايةً أن يلتمسوا هلال رمضان يوم التاسع والعشرين من(2/167)
فَإِنْ غُمَّ (1) عَلَيْكُمْ فاقْدُروا (2) لَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ الله.
__________
شعبان لأنه قد يكون ناقصاً، نص عليه الشرنبلالي في "مراقي الفلاح" وهذا معنى قول القُدُوري: ينبغي للناس أن يلتمسوا الهلال يوم التاسع والعشرين كما فسّره ابن الهمام في "فتح القدير "، وذلك لما روى عن البخاري عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشهر تسع وعشرون ليلةً فلا تصوموا حتى تَرَوْه، فإن غَمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين. قوله: غُمّ، بضم الغين المعجمة وتشديد الميم أي حال بينكم وبينه غيم. قوله: أكملوا العَدّة، أي عدة شعبان لأن الأصل في الشهر هو البقاء، وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله وسلم: صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن أُغمي عليكم فأكملوا العدد. وروى الترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصوموا قبل رمضان، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن حالت دونه غياية فأكملوا ثلاثين يوماً. قوله: غياية، بالتحتيتين، كل ما أظلّك من سحابة أو غيرها. وقد بسطتُ الكلام في رسالتي "القول المنثور في هلال خير الشهور".
(1) بضم الغين وتشديد الميم أي حال بينكم وبينه الهلال غيم.
(2) بضم الدال أي فقدِّروا له تمام العدد ثلاثين كما في رواية أخرى، أمر: فأكملوا العدة ثلاثين.
قوله: فاقدروا له، قال النووي: اختُلف في معناه، فقالت طائفة: معناه ضيِّقوا له، وقدِّروه تحت السحاب، وبهذا قال أحمد وغيره ممن يجوّز صوم ليلة(2/168)
2 - (بَابُ مَتَى يَحْرُمُ الطَّعَامُ عَلَى الصَّائِمِ)
346 - أَخْبَرَنَا مالك، حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ بِلالا يُنَادِي (1) بليلٍ (2) فكُلُوا (3)
__________
الغيم عن رمضان، وقال ابن شريح وجماعة: معناه قدروه بحساب المنازل. وذهب الأئمة الثلاثة والجمهور إلى أن معناه قدروا له تمام العدد ثلاثين يوماً، كما في الرواية الأخرى.
(1) أي يؤذّن، قوله: ينادي، في هذا الحديث مشروعية الأذان قبل الوقت في الصبح، وهل يُكتفى به عن الأذان بعد الفجر أم لا؟ ذهب إلى الأول الشافعي ومالك وأحمد وأصحابهم، وروى الشافعي في القديم عن عمر أنه قال: عجِّلوا الأذان بالصبح، يدلج المدلج، وتخرج العائرة. وصحح في "الروضة" أن وقته من أول نصف الليل الآخر، وهذا هو مذهب أبي يوسف من الحنفية وابن حبيب من المالكية، لكن على هذا يُشَكل قولُ القاسم بن محمد المرويِّ عند البخاري في "الصيام" لم يكن بين أذانيهما أي أذان بلال وأذان ابن أمِّ مكتوم إلا أن يرقى ذا وينزل ذا. ومن ثمَّ اختار السبكي في "شرح المنهاج" أن الوقت الذي يُؤَذّن فيه قبل الفجر هو وقت السَّحَر، كذا في "إرشاد الساري".
(2) قوله: بليل، قال مالك: لم تزل صلاة الصبح يُنادى لها قبل الفجر، فأما غيرها من الصلوات فإنا لم نرها يُنادى لها إلا بعد أن يحلّ وقتها، قال الكرخي من الحنفية: كان أبو يوسف يقول بقول أبي حنيفة، لا يؤذَّن لها حتى أتى المدينة، فرجع إلى قول مالك، وعلم أنه عملهم المتصل. قال الباجي: يظهر لي أنه ليس في الأثر ما يقتضي أن الأذان قبل الفجر لصلاة الفجر، فإن كان الخلاف في الأذان ذلك الوقت فالآثار حجّة لمن أثبته، وإن كان الخلاف في المقصود به فيحتاج إلى ما يبيِّن ذلك.
(3) فيه إشعار بأن الأذان كان علامة عندهم على دخول الوقت فبيَّنَ أن أذان بلال على خلاف ذلك.(2/169)
وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ (1) ابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ (2) .
347 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ (3) ، عَنْ سَالِمٍ مِثْلَهُ، قَالَ (4) : وَكَانَ ابنُ أمِّ مَكْتُومٍ لا يُنادي (5) حَتَّى يُقَالَ لَهُ: قَدْ أَصْبَحْتَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: كَانَ (6) بلالٌ ينادي بليل في شهر رمضان
__________
(1) قوله: حتى ينادي ابنُ أم مكتوم، قد أخرج هذا الحديث الشيخان وغيرهما من حديث ابن عمر وعائشة. ورواه ابن خزيمة من حديث ابن مسعود وسَمُرة وصحّحهما. وفي الباب عن أنس وأبي ذرّ. وروى أحمد وابن خزيمة وابن حبان من حديث أنيسة بنت حبيب هذا الحديث بلفظ: إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال. وروى ابن خزيمة عن عائشة مثله، وقال: إن صح هذا الخبر فيحتمل أن يكون كان الأذان بين بلال وابن أم مكتوم نوباً، فكان بلال إذا كانت نوبته يعني السابقة أذن بليل، وكذلك ابن أم مكتوم، وجزم به ابن حبان أنه صلّى الله عليه وسلّم جعل الأذان بينهما نوباً. وحكم ابن عبد البر وابن الجوزي ومن تبعهما على حديث أنيسة بالوهم، وأنه مقلوب، كذا في "تخريج أحاديث الرافعي" لابن حجر.
(2) فإنه ينادي أول ما يبدأ الصبح.
(3) لم يُختلف على مالك في الإِسناد الأول أنه موصول، وأما هذا فرواه يحيى وأكثر الرواة مرسلاً، فوصله القعنبي، فقال: عن سالم عن أبيه، قاله ابن عبد البر.
(4) عين الطحاوي أن قائله ابن شهاب.
(5) لكونه أعمى.
(6) قوله: كان بلال ... إلى آخره، أجاب أصحابنا القائلون بعدم جواز الأذان قبل الوقت مطلقاً ولو بالصبح عن الأحاديث المُثْبَتة له بوجوه: الأول: ما أشار إليه ههنا، وهو أن أذان بلال بليل لم يكن للصلاة ليُحكم به بجواز أذان الفجر قبل(2/170)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
دخول وقته، بل كان لسحور الناس في شهر رمضان خاصّة، وأذان الفجر إنما كان ما يؤذّنه ابن أم مكتوم بعد طلوع الفجر. ويعضده رواية مسلم مرفوعاً: لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذِّن أو قال: ينادي ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم. وأخرج الطحاوي عن ابن مسعود مرفوعاً: لا يمنعنّ أحدكم أذان بلال من سحوره، فإنه ينادي أو يؤذّن ليرجع غائبكم أو لينتبه نائمكم. ففي هاتين الروايتين وأمثالها تصريح بأن أذان بلال ليس للصلاة بل لأمر آخر، والثاني: أن بلالاً إنما كان يؤذّن بليل لأنه كان في بصره سوء لا يقدر به على تمييز الفجر، ذكره الطحاوي وأيّده بما أخرجه عن أنس مرفوعاً: لا يغرّنكم أذان بلال فإن في بصره شيئاً، وقال: فدل ذلك على أن بلالاً كان يريد الفجر فيخطئه لضعف بصره فأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن لا يعلموا على أذانه إذ كان من عادته الخطأ لضعف بصره (انظر شرح معاني الآثار 1/82 - 84) . انتهى. وفيه بُعْد ظاهر فإنه لو كان كذلك لم يقرِّره النبي صلّى الله عليه وسلّم مؤذناً له وعلى تقدير التقرير لم يؤذِّن له بأذان الصبح. والثالث: المعارضة بأحاديث أخر، منها ما أخرجه أبو داود عن شداد عن بلال أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر هكذا، ومدّ يده عرضاً. وأخرج الطحاوي والبيهقي عن نافع عن ابن عمر عن حفصة: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أذّن المؤذن بالفجر قام فصلى ركعتي الفجر، ثم خرج إلى المسجد، وكان لا يؤذِّن حتى يصبح. وأخرج أبو داود عن ابن عمر أن بلالاً أذَّن قبل طلوع الفجر، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يرجع فينادي: ألا إن العبد قد نام. وفي الباب أخبار أخر مبسوطة في "تخريج أحاديث الهداية" للزيلعي وغيره، والحق في هذا المقام أنه لا سبيل إلى المعارضة، فإن الأحاديث المثبتة للأذان بليل صحيحة وما عداها مقدوحة كما بسطه الزيلعي وغيره، وتخصيص كونه برمضان فقط ليس بذلك ما لم يثبت بأثر صحيح صريح، وزَعْمُ أنه كان للصلاة غير مستند إلى دليل يُعتدّ به، بل الظاهر أن أذان بلال بليل كان لإِرجاع القائمين وإيقاظ النائمين، فهو ذكر بصورة الأذان، فافهم فإن الأمر مما يُعرف ويُنكر.(2/171)
لِسَحُورِ (1) النَّاسِ، وَكَانَ ابْنُ أمِّ مَكْتُومٍ يُنَادِي لِلصَّلاةِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابنُ أمِّ مَكْتُومٍ (2) .
3 - (بَابُ مَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا فِي رَمَضَانَ)
348 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهري، عَنْ حُمَيد (3) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (4) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلا (5) أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَأَمَرَ (6) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يكفِّر بِعِتْقِ رَقَبَةٍ أَوْ صِيَامِ شَهْرَيْنِ متتابعين أو إطعام
__________
(1) بالضمّ، مصدر بمعنى الأكل وقت السحر، وأما بالفتح فهو اسم لما يؤكل فيه.
(2) قوله: ابن أم مكتوم، اسمه عمرو، وقيل: الحصين، فسمّاه النبي صلّى الله عليه وسلّم عبد الله، أسلم قديماً، وشهد القادسية في خلافة عمر واستشهد بها، والأشهر في اسم أبيه قيس بن زائدة، واسم أمه عاتكة المخزومية، وزعم بعضهم أنه وُلد أعمى، فكنيت أمُّه به لاكتتام نور بصره، كذا ذكره الزرقاني.
(3) أبو عبد الرحمن المدنيّ، وثّقه العجلي وغيره، ومات سنة 95 هـ، وقيل: 105 هـ، كذا في "الإِسعاف".
(4) أي ابن عوف، كما ليحيى.
(5) قوله: أن رجلاً، هو سلمان، وقيل سلمة بن صخر البياضي، رواه ابن أبي شيبة وابن الجارود، وبه جزم عبد الغني، وتُعقّب بأن سلمة هو المُظاهر في رمضان، وإنما أتى أهله ليلاً رأى خلخالها في القمر.
(6) في نسخة: أمره. قوله: أفطر في رمضان، قال ابن عبد البر: كذا رواه مالك ولم يذكر بماذا أفطر، وتابعه جماعة عن ابن شهاب، وقال أكثر الرواة عن الزهري: إن رجلاً وقع على امرأته في رمضان، فذكروا ما أفطر به، فتمسك به أحمد والشافعي ومن وافقهما في أن الكفارة خاصة بالجماع، فإن الذمة بريئة فلا يثبت شيء فيها إلا(2/172)
سِتِّينَ مِسْكِينًا، قَالَ لا أَجِدُ (1) ، فأُتي (2) رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعَرَقٍ (3) مِنْ تَمْرٍ، فَقَالَ: خُذْ هَذَا فتصدَّق بِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَجِدُ أَحَدًا (4) أحوجَ (5) إِلَيْهِ مِنِّي، قَالَ: كُلْه (6) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخذ إذا أفطر الرجل متعمِّداً (7)
__________
بيقين، وقال مالك وأبو حنيفة وطائفة: عليه الكفارة بتعمُّد أكل وشرب ونحوهما أيضاً، لأن الصوم شرعاً الامتناع عن الأكل والجماع فإذا ثبت في وجه من ذلك شيء ثبت في نظيره (والجامع بينهما انتهاك حرمة الشهر بما يفسد الصوم عمداً. انظر أوجز المسالك 5/66) .
(1) وفي حديث عائشة قال: تصدَّق، فقال: يا بني الله ما لي شيء، وما أقدر عليه.
(2) لم يسمِّ الآتي، وللبخاري في الكفارات: فجاء رجل من الأنصار.
(3) فسّر الزُّهريّ في رواية الصحيحين بأنه المِكْتَل (العَرَق) بفتح العين والراء، وروي بإسكان الراء، وذَكر في "المُغرب" وغيره أن العرق مكتل يسع ثلاثين صاعاً من تمر وقيل خمسة عشر.
(4) أي بين لابتي المدينة، كما في رواية.
(5) أي أفقر إلى أكله.
(6) قوله: كُلْه، احتج به القائل بأنه لا تجب الكفارة، ورُدّ بأنه أباح له تأخيرها إلى وقت اليُسْر، لا أنه أسقطها عنه جملة، وقال عياض: قال الزهري: هذا خاصّ بذا الرجل.
(7) وأمّا الناسي فلا كفارة عليه ولا قضاء بل يُتمّ صومه.
(1) قوله: بأكل أو شرب، قد يُسْتَدَلّ عليه بإطلاق الفطر في الحديث(2/173)
فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بأكلٍ أَوْ شربٍ (1) أَوْ جِمَاعٍ (2) فَعَلَيْهِ (3) قضاءُ يومٍ مَكَانَهُ، وكفّارةُ الظِّهَارِ أنْ (4) يعتقَ رَقَبَةً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ (5) فصيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَطْعَمَ (6) سِتِّينَ مِسْكِينًا، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ (7) مِنْ حِنْطَةٍ أو صاع من تمر أو شعير.
__________
المذكور ويُنازَع بأنه محمول على الجماع. فقد رواه عشرون من حافظ أصحاب الزهري بذكر الجماع، والأحسن في الاستدلال ما أخرجه الدارقطني من طريق محمد بن كعب عن أبي هريرة أن رجلاً أكل في رمضان. فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يعتق رقبة "الحديث" لكن إسناده ضعيف لضعف أبي معشر راويه عن ابن كعب، والمشهور في الاستدلال حمل النظير على النظير.
(2) أخّره مبالغة في استواء أمره مع غيره.
(3) أي: فعليه شيئان. قوله: فعليه قضاء ... إلى آخره، ثبت في رواية أبي داود من حديث أبي هريرة في قصة المُجامع في رمضان، وفي سندها ضعف، وورد أيضاً في رواية مالك عن سعد بن المسيب مرسلاً، وفي رواية سعيد بن منصور وغيرهما، ذكره ابن حجر.
(4) في بعض النسخ: وهي أن.
(5) قوله: فإن لم يجد ... إلى آخره، فيه إشعار بأنه لا ينتقل عن العتق إلى الصيام وكذا عنه إلى الإِطعام إلا عند العجز، وبه ورد التصريح في كثير من الروايات، وبه أخذ أصحابنا والشافعي، وقال مالك: هو على التخيير أخذاً بظاهر ما رواه عن الزُّهري عن حميد عن أبي هريرة، قاله الزرقاني.
(6) في نسخة: فإطعام.
(7) قوله: نصف صاع، فالمجموع ثلاثون صاعاً من حنطة أو ستون صاعاً من شعير أو تمر وأما قصة العرق الذي كان فيه التمر أقل من ذلك فمحمول على القدر(2/174)
4 - (بَابُ الرَّجُلِ يَطْلُعُ لَهُ الْفَجْرُ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ جُنُبٌ (1))
349 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ (2) بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ (3) ، عَنْ أَبِي يونس (4) مولى عَائِشَةَ (5) أَنَّ رَجُلا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ (6) وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وأنا أسمع (7) : إني أصبحتُ
__________
المعجَّل (قال الحافظ: قد اعتنى به - أي بالحديث المذكور - بعض المتأخرين ممن أدركه شيوخنا، فتكلم عليه في مجلّدين جمع فيهما ألف فائدة وفائدة. فتح الباري 3/172) .
(1) أي والحال أنه يجب عليه الغسل سواء يكون عن احتلام أو جماع أو انقطاع حيض أو نفاس.
(2) أبو طوالة قاضي المدينة لعمر بن عبد العزيز، ثقة مات سنة 134 هـ، كذا في "التقريب".
(3) ابن حزم الأنصاري.
(4) وثقه ابن حبان، قاله السيوطي، قوله: عن أبي يونس أن رجلاً....إلى آخره، هكذا في بعض النسخ، وفي بعضها عن أبي يونس عن عائشة، وقال الزرقاني: هكذا لجميع رواة الموطأ، كيحيى عند ابن وضاح عن أبي يونس عن عائشة أن رجلاً ... إلى آخره، وأرسله عبيد الله بن يحيى عنه، فلم يذكر عن عائشة.
(5) نادت عائشة - في مسلم - من وراء الباب.
(6) أي: والحال أن الرجل.
(7) أي قولَه.(2/175)
جُنُباً وَأَنَا أُرِيدُ الصَّوْمَ (1) ، فَقَالَ (2) رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنَا (3) أُصْبِحُ (4) جُنُبًا، ثُمَّ أَغْتَسِلُ (5) فَأَصُومُ، فَقَالَ الرَّجُلُ (6) : إنَّكَ لستَ (7) مِثْلَنَا، فَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ (8) مَا تقدَّم مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَغَضِبَ (9) رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) فهل يصح صيامي؟
(2) أجابه بالفعل لأنه أبلغ.
(3) ولك فيّ أسوة.
(4) أي أحياناً.
(5) بعد الصبح للصلاة.
(6) اعتقد الرجل أن ذلك من خصائصه لأن الله يحلّ لرسوله ما شاء.
(7) كأن السائل لم يكن ماهراً في قيام المبنى ولا في مقام المعنى وإلا فحقُّه أن يقول إنا لسنا مثلك فلا يُقاس حالنا على حالك، كذا قال القاري.
(8) قوله: فقد غفر الله لك ... إلى آخره، أي ستر وحال بينك وبين الذنب فلا يقع منك ذنب أصلاً، إلا أن الغفر هو الستر، فهو كناية عن العصمة.
(9) أي لِما ظهر من قوله ترك الاقتداء بفعله مع أنه يجب المتابعة لفعله وقوله وتقريره في جميع الأحكام. نعم له خصوصيات معلومة عند العلماء الكرام، لكنه صلّى الله عليه وسلّم حيث دلّه على حكمه بفعله تبيّن أنه ليس من مخصوص حكمه، فغضب لأجله.
قوله: فغضب، لاعتقاده الخصوصية بلا علم مع كونه أخبره بفعله جواباً لسؤاله وذلك أقوى دليل على عدم الاختصاص، أشار إليه ابن العربي. وقال الباجي: قول السائل ذلك وإن كان على معنى الخوف والتوقِّي، لكن ظاهره أنه يعتقد فيه صلّى الله عليه وسلّم ارتكاب ما شاء لأنه غُفر له أو لعله أراد أن الله يُحلّ لرسوله ما شاء.(2/176)
وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أكونَ أَخْشَاكُمْ (1) لِلَّهِ عزَّ وَجَلَّ وَأَعْلَمَكُمْ (2) بِمَا أَتَّقِي (3) .
350 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا سُمَيٌّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (4) أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: كُنْتُ أَنَا وَأَبِي (5) عِنْدَ مروان بن الحكم (6)
__________
(1) قوله: أخشاكم، قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: فيه إشكال لأن الخوف والخشية حالتان تنشآن عن ملاحظة شدّة النقمة الممكن وقوعها بالخائف، وقد دل القاطع على أنه صلّى الله عليه وسلّم غير معذَّب، فكيف يُتصوَّر منه الخوف؟! فكيف أشد الخوف؟! والجواب أن الذهول جائز عليه فإذا حصل الذهول حصل له الخوف، كذا في "مرقاة الصعود".
(2) وأعلمكم بما أتقي، قال عياض: فيه وجوب الاقتداء بأفعاله والوقوف عندها إلا ما قام الدليل على اختصاصه به، هو قول مالك، وأكثر أصحابنا البغداديين، وأكثر أصحاب الشافعي، وقال معظم الشافعية: إنه مندوب، وحملته طائفة على الإِباحة.
(3) أي بما يجب أن أتَّقي منه من فعل أو ترك أو قول.
(4) ابن الحارث بن هشام.
(5) عبد الرحمن المدني، له رؤية، وكان من كبار ثقات التابعين، مات سنة 43، كذا ذكره الزُّرقاني.
(6) قوله: عند مروان بن الحكم، مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، يقال: له رؤية، فإن ثبت فلا يعرج على من تُكُلِّم فيه، وإلاَّ فقد قال عروة بن الزبير: كان مروان لا يُتَّهم في الحديث، وقد روى سهل بن سعد الساعدي الصحابي اعتماداً على صدقه وإنما نقموا عليه أنه رمى طلحة يوم الجمل بسهم،(2/177)
وَهُوَ أَمِيرُ (1) الْمَدِينَةِ، فذَكَر (2) أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ (3) قَالَ: مَنْ أَصْبَحَ جُنُباً أَفْطَرَ (4) ، فَقَالَ مَرْوَانُ: أقسمتُ عليك
__________
فقتله ثم شهر السيف في طلب الخلافة حتى جرى ما جرى، كذا في "هدي الساري مقدمة فتح الباري" للحافظ ابن حجر.
(1) من جهة معاوية.
(2) قوله: فذكر، بالبناء للفاعل ففي رواية لمسلم: فذكر له عبد الرحمن، وللبخاري: أنَّ أباه عبد الرحمن أخبر مروان أن أبا هريرة ... إلى آخره.
(3) قوله: أنَّ أبا هريرة قال، أجمع أهل هذه الأعصار على صحة صوم الجنب سواء كان من احتلام أو جماع، وبه قال جماهير الصحابة والتابعين، وحُكي عن الحسن بن صالح بن يحيى إبطاله، وكان عليه أبو هريرة، والصحيح أنه رجع عنه كما صرح به في رواية مسلم، وقيل: لم يرجع عنه وليس بشيء، وحُكي عن طاوس وعروة إن علِم بجنابته لا يصح، وإلاَّ يصح، وحُكي مثله عن أبي هريرة، وحُكي أيضاً عن الحسن البصري، وحُكي عن النخعي أنه يجزيه في صوم التطوع دون الفرض، وحُكي عن سالم بن عبد الله والحسن بن صالح والحسن البصري يصومه ويقضيه، ثم ارتفع الخلاف، وأجمع العلماء بعد هؤلاء على صحته (اختلف السلف في هذه المسألة على أقوال كثيرة، لكن الجمهور وفقهاء الأمصار على الجواز، فصارت المسألة كالإِجماعية بعدما كانت كثيرة الاختلاف. انظر لامع الدراري 5/384، وأوجز المسالك 5/30 - 46، وفتح الملهم 3/129) ، كذا في "شرح صحيح مسلم" للنووي - رحمه الله -
(4) أي بطل صومه، لكنه أمسك وقضى، قوله: أفطر، لحديث الفضل بن عباس في مسلم، وحديث أسامة بن زيد عند النسائي مرفوعاً: من أدركه الفجر جنباً فلا يصم، والنسائي عن أبي هريرة: لا وربِّ هذا البيت، ما أنا قلتُ من أدركه الصبح وهو جنب، فلا يصوم، محمّدٌ وربِّ الكعبة قاله.(2/178)
يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لتذهبَنَّ إِلَى أمَّيْ (1) الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ فَتَسْأَلْهُمَا عَنْ ذَلِكَ، قَالَ (2) : فَذَهَبَ (3) عبدُ الرَّحْمَنِ (4) وذهبتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ، فسلَّمنا (5) عَلَى عَائِشَةَ، ثُمَّ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، كُنَّا عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، فَذَكَرَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَنْ أَصْبَحَ جُنُباً أَفْطَرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، قَالَتْ: لَيْسَ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، أترغَبُ (6) عَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ؟ قَالَ: لا (7) وَاللَّهِ، قَالَتْ: فأشهدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُصبح جُنُباً من
__________
(1) تثنية أمّ.
(2) أي أبو بكر.
(3) قوله: فذهب عبد الرحمن، قال الزرقاني: ووقع عند النسائي من رواية عبد ربه بن سعيد عن أبي عياض، عن عبد الرحمن: أرسلني مروان إلى عائشة فأتيتُها فلقيتُ ذكوان، فأرسلته إليها، فسألها عن ذلك فذكر الحديث مرفوعاً: قال: فأتيت مروان فحدثته فأرسلني إلى أمِّ سلمة، فأتيتها، فلقيت غلامها نافعاً، فأرسلته إليها، فسألها عن ذلك، فذكر مثله. قال الحافظ: في إسناده نظر لأن أبا عياض مجهول، فإنْ كان محفوظاً فيُجمع بأنَّ كلاًّ من الغلامين كان واسطة بين عبد الرحمن وبينهما في السؤالن وسمع عبد الرحمن وابنُه أبو بكر كلامَهما من وراء الحجاب بعد الدخول.
(4) يعني أباه.
(5) أي من وراء حجاب.
(6) الرغبة إذا كانت صلتها بـ"عن"، يكون معناه الإِعراض، أتت بذلك مبالغة في الردِّ عليه.
(7) أي لا أرغب عنه. والأصل عدم الاختصاص.(2/179)
جِماع (1) غَيْرَ احْتِلامٍ (2) ، ثُمَّ يَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمِ. قَالَ (3) : ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أمِّ سَلَمَةَ فَسَأَلَهَا (4) عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ كَمَا قَالَتْ (5) عَائِشَةُ، فَخَرَجْنَا حَتَّى جِئْنَا مَرْوَانَ، فَذَكَرَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَا قَالَتَا، فَقَالَ (6) : أقسمتُ عَلَيْكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ (7) لتركَبَنَّ دابَّتي (8) ، فَإِنَّهَا بِالْبَابِ (9) ، فلتذهبَنَّ إلى أبي هريرة، فإنه (10)
__________
(1) وفي رواية للنسائي: كان يصبح جُنُباً منِّي.
(2) قوله: احتلام، في دليل لمن يقول بجواز الاحتلام على الأنبياء، والأشهر امتناعه، قالوا: لأنه من تلاعب الشيطان وهم منزَّهون عنه، ويتأوَّلون هذا الحديث على أن المراد يصبح جُنُباً من جماع، ولا يجنب من احتلام لامتناعه منه ويكون قريباً من معنى قوله تعالى: {وَيقْتُلُون النَّبِيّيْنَ بِغَيْرِ حَقٍّ} ، كذا في "شرح صحيح مسلم" للنووي. وقال السيوطي: قصدت بذلك المبالغة في الردِّ، والمنفي على إطلاقه لا مفهوم له لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان لا يحتلم، إذ الاحتلام من الشيطان، وهو معصوم منه.
(3) أبو بكر.
(4) عبد الرحمن.
(5) في رواية النسائي: فقالت أم سلمة: كان يصبح جنباً مني فيصوم ويأمرني بالصيام.
(6) أي مروان.
(7) كنية عبد الرحمن.
(8) أي الخاصة.
(9) أي واقفة بها.
(10) قوله: فإنه بأرضه بالعقيق، وفي رواية للبخاري: ثم قُدِّر لنا أن نجتمع(2/180)
بِأَرْضِهِ بِالْعَقِيقِ (1) ، فلتخبِرَنَّهُ ذَلِكَ (2) ، قَالَ: فَرَكِبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَرَكِبْتُ مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَتَحَدَّثَ مَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ سَاعَةً (3) ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ (4) ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لا عِلْمُ لي (5) بذلك، إنما أخبَرَنِيه (6)
__________
بذي الحُلَيْفةِ وكان لأبي هريرة هناك أرض. فظاهره أنهم اجتمعوا من غير قصد، ورواية مالك نصٌّ في القصد، فيُحمل قوله: "ثم قُدِّر لنا" على المعنى الأعمّ من التقدير، لا الاتفاق، ولا تخالف بين قوله بذي الحليفة وبين قوله بالعقيق لاحتمال أنهما قصداه إلى العقيق، فلم يجداه ثم وجداه بذي الحليفة وكان له بها أرض أيضاً. وفي رواية معمر عن الزهري، عن أبي بكر، فقال مروان: عزمتُ عليكما إلاَّ ذهبتما إلى أبي هريرة، قال: فلقينا أبا هريرة عند باب المسجد، والظاهر أن المراد مسجده بالعقيق لا المسجد النبوي، أو يُجمع بأنهما التقيا بالعقيق، فذكر له عبد الرحمن القصَّة مجملة، ولم يذكرها، بل شرع فيها ثم لم يتهيَّأ له ذكر تفصيلها، وسماع جواب أبي هريرة إلاَّ بعد رجوعه إلى المدينة وإرادة دخول المسجد النبوي، قاله الحافظ.
(1) موضع.
(2) أي نقْلَهما المخالفَ لقوله.
(3) وعند البخاري فقال له عبد الرحمن: إني ذاكر لك أمراً، ولولا أن مروان أقسم عليّ لم أذكره لك.
(4) وفي مسلم: فقال: أهما قالتا ذلك؟ قال: نعم، قال: هما أعلم، ورجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك.
(5) أي من المصطفى صلّى الله عليه وسلّم بلا واسطة.
(6) وفي البخاري: فقال: كذلك أخبرني الفضل بن عباس، وهو أعلم أي بما روى. قوله: إنما أخبرنيه مخبر، لما ثبت عنده أن حديث عائشة وأمّ سلمة على ظاهره، وهذا متأوَّل رجع عنه، وكان حديث عائشة وأم سلمة أَوْلَى بالاعتماد لأنهما(2/181)
مُخبر (1) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ مِنْ غَيْرِ احْتِلامٍ (2) فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ اغْتَسَلَ بَعْدَ مَا طَلَعَ الفجر فلا بأس
__________
أعلم بمثل هذا من غيرهما، ولأنه موافق للقرآن، فإن الله تعالى أباح الأكل والمباشرة إلى طلوع الفجر، ومعلوم أنه إذا جاز الجماع إلى طلوع الفجر لزم منه أن يصبح جُنُباً، ويصح صومه، وإذا دلَّ القرآن وفعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم على جواز الصوم لمن أصبح جنباً وجب الجواب عن حديث أبي هريرة، عن الفضل، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وجوابه من ثلاثة أوجه، أحدها: أنه إرشاد إلى الأفضل، فالأفضل أن يغتسل قبل الفجر، ولو خالف جاز، وهذا مذهب أصحابنا وجوابهم عن الحديث، فإن قيل: كيف يقولون: الاغتسال قبل الفجر أفضل وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم خلافه؟ فالجواب أنه فعله لبيان الجواز، ويكون في حقه حينئذٍ أفضل لأنه يتضمَّن البيان للناس، وهذا كما أنه يتوضأ مرَّة مرَّة، في بعض الأوقات بياناً للجواز، ومعلوم أن الثلاث أفضل. والجواب الثاني: أنه لعله محمول على من أدركه الفجر مجامعاً فاستدام بعد طلوع الفجر عالماً فإنه يفطر. والثالث: جواب ابن المنذر في ما رواه البيهقي عنه أن حديث أبي هريرة منسوخ، وأنه كان في أول الأمر حينما كان الجماع محرَّماً في الليل بعد النوم كما كان الطعام والشراب محرّماً، ثم نُسخ ولم يعلمه أبو هريرة، فكان يُفتي بما علمه حتى بلغه الناسخ، فرجع إليه، قال ابن المنذر: هذا أحسن ما سمعت فيه، كذا في "شرح صحيح مسلم" (3/165، من طبعة دار الشعب) للنووي.
(1) للنسائي: أخبرنيه أسامة بن زيد، وله أيضاً: أخبرنيه فلان وفلان، فيحتمل أنه سمعه من الفضل وأسامة فأرسل الحديث أولاً ثم أسنده لمّا سُئل عنه.
(2) قوله: من غير احتلام، إنما ذكره لأن الدليل الذي سيذكره إنما يدل عليه، لا لأن حكمه مخالف لما نحن فيه، بل حكم الاحتلام والجماع سواء، ويدل(2/182)
بِذَلِكَ، وَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {أُحِلَّ لَكُمْ (1) ليلةَ الصيام الرَّفَثُ (2) إلى نسائكم،
__________
عليه قوله عليه الصلاة والسلام: ثلاث لا يفطّرن الصائم: الحجامة والقيء والاحتلام. أخرجه الترمذي والبيهقي في سننه وابن حبان في "الضعفاء" والدارقطني وابن عدي من حديث أبي سعيد الخدري، والبزار وابن عَدِيّ من حديث ابن عباس، والطبراني في "الأوسط" من حديث ثوبان. وفي أسانيده كلام يرتفع بكثرة الطرق، كما بسطه الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث الهداية" وغيره.
(1) قوله: أُحلَّ لكم، أخرج وكيع وعبد بن حميد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه عن البراء قال: كان أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا كان الرجل صائماً فحضر الإِفطار، فنام قبل أن يُفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإنّ قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً وكان يعمل في أرضه، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال: هل عندك طعام؟ قالت: لا، ولكن انطلق فاطلب، فغلبت عيناه فنام، وجاءت امرأته، فلما انتصف النهار غُشي عليه، فذكر ذلك لرسول الله فنزلت هذه الآية. وأخرج أحمد وابن جرير وابن المنذر بسند حسن عن كعب: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فنام حَرُم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد، فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة وقد سَمُر عنده، فوجد امرأته قد نامت فأيقظها وأرادها، فقالت: إني نمت، ثم وقع بها، فغدا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره، فأنزل الله {علم الله أنكم كنتم تختانون} (سورة البقرة: الآية 187) الآية. وفي الباب أخبار كثيرة إن شئت الاطلاع عليها فارجع إلى "الدر المنثور" للسيوطي.
(2) أي الجماع، به فسَّره ابن عباس، أخرجه عنه ابن المنذر وابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وعبد الرزاق وعبد بن حُمَيد وغيرهم.(2/183)
هنَّ (1) لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لباسٌ لهنَّ، عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ (2) أَنْفُسَكُمْ، فَتَابَ (3) عَلَيْكُمْ وعفا عنكم (4) ، فالآن باشروهنَّ} يعني (5) الجماع {وابتغُوا (6) ما كتب الله لكم} يَعْنِي (7) الْوَلَدَ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود} يعني (8) حتى يطلع الفجر
__________
(1) قوله: هن لباس لكم، أي هن سكن لكم تسكنون إليه في الليل والنهار به فسره ابن عباس، أخرجه عنه الطيالسي.
(2) أي تبالغون في خيانتها لارتكاب جنايتها بالجماع بعد صلاة العشاء أو بعد النوم فإنه كان محرَّماً أولاً، ثم نُسخ.
(3) أي رجع عليكم بالتخفيف.
(4) أي ما صدر وما مضى.
(5) قوله: يعني الجماع، هذا التفسير منقول عن ابن عباس، أخرجه عنه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي من طريق.
(6) أي اطلبوا.
(7) تفسير من الإِمام محمد، قوله: يعني الولد، هذا التفسير أيضاً منقول عن ابن عباس أخرجه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم، وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد وقتادة والضحّاك مثله، وأخرج البخاري في "تاريخه" عن أنس {ما كتب الله لكم} : أي ليلة القدر، وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال: ابتغوا الرخصة التي كتب الله عليكم.
(8) قوله: يعني حتى يطلع الفجر، كان بعض الصحابة لمّا نزل قوله تعالى: {حتى يتبيّن لكم الخَيطُ الأبيض من الخيط الأسود} إذا أراد الصوم ربط في رجله(2/184)
فَإِذَا (1) كَانَ الرَّجُلُ (2) قَدْ رُخِّص لَهُ أَنْ يُجَامِعَ، وَيَبْتَغِي (3) الْوَلَدَ، وَيَأْكُلَ وَيَشْرَبَ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ (4) فَمَتَى يَكُونُ الْغُسْلُ إلاَّ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ. فَهَذَا لا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - والعامَّة.
5 - (بَابُ القُبلة لِلصَّائِمِ (5))
351 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أسلم، عن عطاء بن
__________
الخيط الأبيض والأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له الفرق بينهما، فأنزل الله قوله {من الفجر} وبيَّن أن المراد من الخيط الأبيض الفجر أي الصبح الصادق، ومن الأسود الليل، كذا أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما (انظر عمدة القاري 5/292) .
(1) قوله: فإذا كان ... إلى آخره، شروع في وجه دلالة كتاب الله على ما ذكره، وحاصله أن الآية المذكورة أباحت الأكل والشرب والجماع إلى طلوع الفجر فيكون كلٌّ منها مباحاً في آخر جزء من أجزاء الليل متَّصلٍ بأول جزء الفجر أيضاً بنص هذه الآية، وهو يقتضي بالضرورة أن يقع الغسل - إذا جامع في آخر الجزء - بعد طلوع الفجر، فدلَّ ذلك على أنه لا بأس به.
(2) الذي يريد الصوم.
(3) هذا قيد اتفاقي.
(4) أي لا يتحقَّق ولا يمكن غسله إلاَّ بعد طلوع الفجر.
(5) قوله: باب القبله للصائم (لا بأس بالقبلة للصائم إذا أمِنَ على نفسه الجماع مثل الشيوخ، وتُكره إذا لم يأمن على نفسه كالشبان، وهذا هو مذهب أبي حنيفة والشافعي والثوري والأَوْزاعي، وحكاه الخطابي عن مالك، وكرهها قوم مطلقاً، وإليه ذهب مالك في المشهور عنه، وأباحها قوم مطلقاً، وإليه ذهب أحمد وإسحاق وداود. ومنهم من أباحها في النفل ومنعها في الفرض، ومنهم من منعها مطلقاً وذهب إليه طائفة من التابعين، فالأقوال خمسة، وانظر تفصيلها في عمدة القاري 6/9. قلت: ما حُكي عن أحمد هو رواية عنه، وإلاَّ ففي "الروض المربع" تُكره القبلة. الأوجز 5/44) ، اختلف أهل العلم في جواز القبلة(2/185)
يَسَار (1) : أنَّ رَجُلا (2) قَبَّل امْرَأَةً وَهُوَ صَائِمٌ،
__________
للصائم، فرخَّص عمر بن الخطاب وأبو هريرة وعائشة فيها، وقال الشافعي: لا بأس بها إذا لم تحرِّك القبلة شهوته، وقال ابن عباس: يُكره ذلك للشبان، ويرخَّص فيه للشيوخ، كذا في "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبي رحمه الله.
(1) مرسل عند جميع الرواة، ووصله عبد الرزاق بإسناد صحيح عن عطاء، عن رجل من الأنصار.
(2) قوله: أن رجلاً ... إلى آخره، حديث عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يُقَبِّل بعض نسائه وهو صائم وكان أَمْلَكَكُم لإِرْبه. متفقٌ عليه. وله عندهما ألفاظ، وفي رواية لأبي داود: كان يقبِّلني وهو صائم، ويمصُّ لساني هو صائم. وفي إسناده أبو يحيى المعرقب، وهو ضعيف وقد وثقه العِجْلي، ولابن حبان في صحيحه عنها: كان يقبِّل بعض نسائه وهو صائم في الفريضة والتطوع. ثم ساق بإسناده أنه صلّى الله عليه وسلّم كان لا يمس شيئاً من وجهها وهي صائمة، وقال: ليس بين الخبرين تضادٌّ لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان يملك إربه ونبَّه بفعله ذلك على جواز هذا الفعل لمن هو بمثل حاله، وترك استعماله إذا كانت المرأة صائمة علماً منه بما رُكِّب في النساء من الضعف. وفي رواية البخاري: أنه كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لَيُقَبِّل بعض أزواجه وهو صائم، ثم ضحكت تعجُّباً من نفسها حيث ذكرت هذا الحديث الذي يُستحى من ذكره، لكن غلب عليها مصلحة التبليغ، وقيل: ضحكت سروراً منها، وقيل: أرادت أن تنبِّه بذلك أنها صاحبة القصة. وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه أبو داود عن الأغرِّ، عنه: أن رجلاً سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المباشرة للصائم فرخَّص له وسأله آخر فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ، والذي نهاه شاب، كذا في "التلخيص الحبير تخريج أحاديث الشرح الكبير" للحافظ ابن حجر.(2/186)
فَوَجَدَ (1) مِنْ ذَلِكَ وَجْداً شَدِيدًا، فَأَرْسَلَ امرأتَه تَسْأَلُ لَهُ عَنْ ذَلِكَ (2) ، فَدَخَلَتْ عَلَى أمِّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَتْهَا أمُّ سَلَمَةَ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّل (3) وَهُوَ صَائِمٌ. فرجعتْ إِلَيْهِ فأخبرتْه بِذَلِكَ، فَزَادَهُ ذَلِكَ (4) شَرًّا (5) فَقَالَ: إِنَّا لَسْنَا مثلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُحلُّ (6) اللَّهُ لِرَسُولِهِ (7) مَا شاء، فرجعت
__________
(1) قوله: فوجد، أي فاغتمَّ له كثيراً ولم يعدّه أمراً حقيراً، واستحيى أَنْ يَسأل رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم توقيراً.
(2) أي هل يضرُّ صومه ذلك؟
(3) قوله: كان يقبّل، أي بعض أزواجه أو بنفسها كما يُعلم من رواية البخاري عن زينب بنت أم سلمة عنها أنها كانت هي ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يغتسلان في إناء واحد وكان يقبِّلها وهو صائم. ويخالفه ما أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، نا صالح بن عبد الرحمن، نا عبد الله بن يزيد، نا موسى بن عليّ: سمعت أبي يقول: ثني أبو قيس مولى عمرو بن العاص قال: بعثني عبد الله بن عمرو إلى أمِّ سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: سَلْها أكان رسول الله يقبل وهو صائم؟ فإن قالت: لا، فقل: إنَّ عائشة تخبر (في الأصل: "يخبر"، وهو خطأ. انظر شرح معاني الآثار 1/346 ط الهند) الناس أنه كان يقبّل وهو صائم، فأتيت أم سلمة فأبلغتها السلام عن عبد الله بن عمرو، وقلت: أكان رسول الله يقبّل وهو صائم فقالت: لا، فقلت: إن عائشة تخبر الناس أنه كان يقبل، فقالت: لعله لم يكن يتمالك عنها حبّاً، أما أنا فلا. والذي يظهر أن الاختلاف محمول على اختلاف الأحوال.
(4) قال الباجي: يعني استدامة الوَجْد إذا لم تأته بما يقنعه.
(5) قوله: شرّاً، أي محنة وبليَّة حيث ظن أنَّ أم سلمة أفتتْ من عندها.
(6) أي يُبيح. اعتقد أن ذلك من خصائصه.
(7) كصوم الوصال والزيادة على أربع في النكاح.(2/187)
الْمَرْأَةُ إِلَى أمِّ سَلَمَةَ، فَوَجَدَتْ عِنْدَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَالُ (1) هَذِهِ الْمَرْأَةِ؟ فأخبَرَتْه (2) أُمُّ سَلَمَةَ، فَقَالَ: أَلا (3) أخبرتِها أَنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ (4) ؟ قَالَتْ: قَدْ أخبرتُها، فذهبتْ إِلَى زَوْجِهَا، فأخبرَتْه، فَزَادَهُ ذَلِكَ شَرًّا، وَقَالَ: إِنَّا لَسْنَا مثلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُحلُّ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ (5) ، فَغَضِبَ (6) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ (7) : وَاللَّهِ إِنِّي لأَتْقَاكُمْ (8) لِلَّهِ، وَأَعْلَمُكُمْ بحدوده.
__________
(1) أي ما شأنها وأي شيء جاء بها.
(2) أي بأنها تسأل عن القبلة للصائم.
(3) فيه تنبيه على الإِخبار بأفعاله، ويجب عليهن أن يُخبرن بها ليقتدي به الناس.
(4) قال الباجي: فيه إيجاب العمل بخبر الواحد.
(5) قال عياض: لأن السائل جوَّز وقوع النهي عنه منه، لكن لا حرج عليه إذ غُفر له.
(6) قوله: فغضب، لعل سبب غضبه أن الأصل هو العمل بما ثبت عنه حتى يثبت دليل على تخصيصه.
(7) قوله: وقال: والله ... إلى آخره، قال ابن عبد البر: فيه دلالة على جواز القبلة للشاب والشيخ لأنه لم يقل للمرأة: زوجُك شيخ أو شاب؟ فلو كان بينهما فرق لسألها لأنه المبيِّن عن الله، وقد أجمعوا على أن القبلة لا تُكره لنفسها، وإنما كرهها من كرهها خشية ما تَؤُول إليه، وأجمعوا على أن من قبَّل وسَلِم فلا شيء عليه. فإن أمذى فكذلك عند الحنفية والشافعية، وعليه القضاء عند مالك، وعن أحمد يفطر، وإن أمنى فسد صومه اتفاقاً.
(8) فكيف تجوزون (في شرح الزرقاني 2/162، فكيف تجوزون وقوع ما نُهِي عنه مني) ما نُهِيَ عنه مني؟(2/188)
352 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ: أَنَّ عَائِشَةَ (1) ابْنَةَ طَلْحَةٍ (2) أخبَرَتْه أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ عَلَيْهَا (3) زوجُها (4) هُنَالِكَ (5) وَهُوَ (6) عبدُ اللَّهِ (7) ابنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابنِ أَبِي بَكْرٍ (8) ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَدْنُوَ (9) إِلَى أَهْلِكَ تُقَبِّلُهَا (10) وَتُلاعِبُهَا؟ قَالَ: أُقَبِّلُهَا وَأَنَا صَائِمٌ؟! قالت (11) : نعم (12) .
__________
(1) القرشية، كانت فائقة الجمال، ثقة، روى لها الستة، كذا ذكره الزُّرقاني.
(2) أحد العشرة المبشرة.
(3) أي على عائشة الصدِّيقة.
(4) أي زوج ابنة طلحة.
(5) أي وكونها عَمَّتَه سبب ذلك.
(6) أي زوجها.
(7) تابعي، روى له الشيخان وغيرهما.
(8) الصدِّيق.
(9) أي تقرب.
(10) قوله: تقبَّلها، لعلها قصدت إفادته الحكم وإلا فمعلوم أنه لا يقبلها بحضور عمته أم المؤمنين، وقال أبو عبد الملك: تريد ما يمنعك إذا دخلتما، ويحتمل أنها شكت لعائشة قِلَّة حاجته إلى النساء، وسألتها أن تكلِّمه. فأفْتَتْه بذلك، إذ صح عندها ملْكَه لنفسه، قاله الزرقاني.
(11) هذا حديث موقوف، حكمه مرفوع.
(12) قوله: نعم، في هذا دلالة على أنها لا ترى تحريمها ولا أنها من(2/189)
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ (1) بالقُبلة لِلصَّائِمِ إِذَا ملك نفسه عن
__________
الخصائص، وأنه لا فرق بين شاب وشيخ، لأن عبد الله كان شابّاً، ولا يعارض هذا ما للنسائي عن الأسود: قلت لعائشة أيباشر الصائم؟ قالت: لا، قلت: أليس كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يباشر وهو صائم؟ قالت: كان أملَكَكُم لإِربه. لأن جوابها للأسود بالمنع محمول على من تحرّكت شهوته لأن فيه تعريضاً لإِفساد العبادة كما أشعر به قولها: وكان أملككم لإِربه، فحاصل ما أشارت إليه إباحة القُبلة والمباشرة بغير جماع لمن ملك إربه دون من لا يملكه، أو يُحمل النهي على التنزيه، فقد رواه أبو يوسف القاضي بلفظ: سئلت عائشة عن المباشرة للصائم؟ فكرهتها، فلا ينافي الإِباحة المستفادة من حديث الباب، ومن قولها: الصائم يحلّ له (في "الأصل: "لها"، وهو تحريف) كلُّ شيء إلا الجماع. رواه الطحاوي، كذا ذكره الزرقاني.
(1) قوله: لا بأس ... إلى آخره، هذا الذي ذكره هو طريق الجمع بين الأخبار والآثار المختلفة، فإن بعضها تدل على الجواز، وبعضها على الامتناع، وبعضها على الفرق بين الشاب والشيخ. فمنها حديث عائشة بنت طلحة عن عائشة رضي الله عنها، وحديث زيد بن أسلم عن عطاء، المذكُورَيْن في الباب، وهما يدلاّن على الجواز مطلقاً من غير فرق بين الشاب والشيخ، وأثر ابن عمر المذكور في الباب يدل على المنع مطلقاً، وحديث عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقبّل نساءه وهو صائم المخرَّج في الصحيحين وغيرهما يدل على الجواز، وحديث أبي هريرة عند أبي داود نصّ في الفرق، وقال مالك في "الموطأ": قال عروة بن الزبير: لم أرَ القُبلة للصائم تدعو إلى خير، وأخرج عن ابن عباس أنه رخَّص للشيخ وكرهها للشاب، وروى البيهقي بسند صحيح عن عائشة: أنه صلّى الله عليه وسلّم رخّص في القبلة للشيخ وهو صائم، ونهى الشاب وقال: الشيخ يملك إربه والشاب يفسد صومه، وأجمع أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن عمر أنه قال: هششتُ فقبلت وأنا صائم؟ فقلت: يا رسول الله صنعتُ اليوم أمراً عظيماً قبّلتُ وأنا صائم، قال: أرأيتَ لو مضمضتَ من الماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس به، قال: فَمَهْ، وأخرج مالك أن سعد بن أبي وقاص وأبا هريرة كانا يرخِّصان في القبلة للصائم،(2/190)
الْجِمَاعِ (1) فَإِنْ خَافَ أَنْ لا يَمْلِكَ نَفْسَهُ فالكفُّ أَفْضَلُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْعَامَّةِ قَبْلَنَا.
353 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَنهى (2) عَنِ القُبلة (3) وَالْمُبَاشَرَةِ (4) لِلصَّائِمِ.
6 - (بَابُ الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ)
354 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَحتجم (5)
__________
وأخرج الطحاوي أنه سئل سعد: أتباشر وأنت صائم؟ قال: نعم، وأخرج الطحاوي أيضاً عن ابن عمر أنه سئل عن القُبلة للصائم، فرخَّص للشيخ الكبير وكرهها للشاب، وأخرج عنه عن عمر قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام فرأيته لا ينظر إليّ، فقلت: يا رسول الله ما شأني؟ فقال: ألست الذي تقبل وأنت صائم، فقلت: والذي بعثك بالحق إني لا أقبّل بعد هذا. فهذه الأخبار وأمثالها يُعلم منها أنه لا كراهة في القبلة للصائم في نفسها، وإنما كرهها من كرهها لخوف ما تَؤُول إليه، فطريق الجمع إنه إذا ملك نفسه فلا بأس به وإن خاف فالكفّ أفضل.
(1) وكذا عن إنزال المني.
(2) قوله: ينهى، أي مطلقاً للشيخ والشاب كليهما كما هو ظاهر العبارة، أو للشاب فقط، كما هو نصّ رواية الطحاوي، وكذلك رُوي النهي عن عمر وغيره، فأخرج الطحاوي عن سعيد بن المسيب أن عمر كان ينهى عن القبلة للصائم، وأخرج أيضاً عن زاذان أنه قال عمر: لأن أعضَّ على جمرة أحبُّ إليّ من أن أقبِّل وأنا صائم، وأخرج أيضاً عن ابن مسعود أنه سئل عن القبلة للصائم؟ فقال: يَقضي يوماً آخر، وأخرج - بسند فيه أبو يزيد الضبِّي وقال: هو رجل لا يُعرف - عن ميمونة بنت سعد: أنه سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنه؟
فقال: أَفطرا جميعاً. وهذا كله محمول على من لا يملك.
(3) لأن من حام حول الحِمى يوشك أن يقع فيه.
(4) المراد بالمباشرة المسّ والملامسة والملاعبة والمخالطة.
(5) إشارة إلى الرخصة.(2/191)
وَهُوَ صَائِمٌ ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ يَحْتَجِمُ (1) بَعْدَ مَا تَغْرُبُ (2) الشَّمْسُ.
355 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهري: أَنَّ سَعْدًا (3) وَابْنَ عُمَرَ كَانَا يَحْتَجِمَانِ وَهُمَا صَائِمَانِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ بِالْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ، وَإِنَّمَا كُرهت (4) مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ، فَإِذَا أُمِن ذَلِكَ فَلا بَأْسَ، وَهُوَ قَوْلُ (5) أَبِي حَنِيفَةَ - رحمه الله -.
__________
(1) قال الباجي: لما كَبِرَ وضَعُف خاف أن تضطره الحجامة إلى الفطر.
(2) أي احتياطاً وعملاً بالعزيمة.
(3) أي ابن وقاص.
(4) أي في بعض الروايات.
(5) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين، فأخرج الطحاوي عن أبي سعيد الخدري قال: إنما كرهنا أو كرهت الحجامة للصائم من أجل الضعف. وأخرج عن حميد قال: سئل أنس عن الحجامة للصائم؟ فقال: ما كنت أرى أن الحجامة تُكره للصائم إلا من الجهد. وأخرج عن ثابت البُنَاني قال: سألت أنس بن مالك هل كنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، إلا من أجل الضعف. وأخرج عن ابن عباس أنه قال: إنما كُرهت الحجامة مخافة الضعف. وذكر الحازمي في "الناسخ والمنسوخ" أنه مذهب سعد والحسين بن علي وابن مسعود وابن عباس وزيد بن أرقم وابن عمر وأنس وعائشة وأمّ سلمة والشَّعبي وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وعطاء بن يسار وزيد بن أسلم وعِكْرمة وأبي العالية وإبراهيم النَّخَعي وسفيان ومالك والشافعي وأصحابه إلا ابن المنذر. وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الصائم إذا احتجم في رمضان بطل صومه، منهم عطاء والأَوْزاعي وأحمد وإسحاق، واستدلالهم في ذلك بحديث(2/192)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
مرفوع: أفطر الحاجم والمحجوم، أخرجه أبو داود وابن ماجه والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه من حديث ثوبان، وأبو داود والنسائي وغيرهما من حديث شدّاد بن أوس: أنه مرّ مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زمن الفتح على رجل يحتجم لثمان عشرة خلت من رمضان، فقال: أفطر الحاجم والمحجوم، والترمذي - وقال: حسن صحيح - من حديث رافع بن خديج، والنسائي والحاكم من حديث أبي موسى، والنسائي من حديث مَعْقِل بن سنان قال: مرّ عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا أحتجم في ثمان عشرة خلت من رمضان فقال ذلك، وأيضاً من حديث أسامة بن زيد والحسن بن علي وعائشة وأبي هريرة وابن عباس، والطبراني من حديث سَمُرة وجابر وابن عَدِيّ في "الكامل" من حديث ابن عمر وسعد بن مالك. وله طرق أُخَر كلها مبسوطة في "تخريج أحاديث الهداية" للزيلعي وابن حجر. وأجاب عنها الجمهور بأنه منسوخ لأنه كان زمن الفتح، وقد احتجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام حجّة الوداع وهو صائم، أخرجه البخاري والترمذي وغيرهما من حديث ابن عباس. ويؤيده ما أخرجه الدارقطني بسند فيه ضعف عن أنس قال: أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمرّ به رسولُ الله، فقال: أفطر هذان. ثم رخّص النبي صلّى الله عليه وسلّم بعدُ في الحجامة. وكذا ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" عنه أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم احتجم بعد ما قال: أفطر الحاجم والمحجوم، ومنهم من قال: ورود حديث أفطر الحاجم والمحجوم إنما كان لسبب آخر (قال الطحاوي: ليس فيها (أي في هذه الأحاديث) ما يدل على أن الفطر كان لأجل الحجامة، بل إنما كان ذلك لمعنى آخر وهو أنهما كانا يغتابان رجلاً، فلذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال. وليس إفطارهما ذلك كالإِفطار بالأكل والشرب والجماع ولكنه حبط أجرهما باغتيابهما فصارا بذلك مفطِرَيْن، لا لأنه إفطار يوجب عليهما القضاء. وهكذا كما قيل الكذب يفطر الصائم ليس يراد به الفطر الذي يوجب القضاء، إنما هو حبوط الأجر بذلك. شرح معاني الآثار 1/349) وهو ما أخرجه العُقَيلي في "الضعفاء" وغيره عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرّ على رجلين يحتجم(2/193)
356 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ: مَا رَأَيْتُ (1) أَبِي (2) قطُّ احْتَجَمَ إِلا وَهُوَ صَائِمٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهِ نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -.
7 - (باب الصائم يذرعه (3) القَيْء أو يتقيأ (4))
357 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَنِ اسْتَقَاءَ (5) وَهُوَ صَائِمٌ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَمَنْ ذَرَعَهُ القَيْء فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ (6) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهِ (7) نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة رحمه الله تعالى.
__________
أحدهما الآخر، فاغتاب أحدهما ولم ينكر الآخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفطر الحاجم والمحجوم. قال ابن مسعود لا للحجامة ولكن للغيِبة.
(1) لأنه كان يواصل الصوم، قاله ابن عبد البر.
(2) أي عروة بن الزبير بن العوام.
(3) أي يسبقه ويغلبه.
(4) أي عمداً.
(5) أي ملأ فِيه عند أبي يوسف، ومطلقاً عند محمد.
(6) أي لا قضاء، ولا كفارة.
(7) قوله: وبه نأخذ، وبه قال إبراهيم النخعي والقاسم بن محمد وأبو يوسف وعامة العلماء، ذكره الطحاوي. ويؤيده قوله صلّى الله عليه وسلّم: من قاء فلا قضاء عليه، ومن استقاء عمداً فعليه القضاء. أخرجه أصحاب السنن الأربعة والدارمي(2/194)
8 - (بَابُ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ)
358 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لا يَصُومُ (1) في السفر.
__________
وابن حبان والحاكم وصححه والطحاوي والدارقطني وغيرهم من حديث أبي هريرة، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقال الترمذي: حسن غريب، وأخرجه أبو يعلى وإسحاق بن راهويه وابن أبي شيبة. وفي بعض طرقه مقال يرتفع بضمّ بعضها مع بعض.
وأما ما ورد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قاء فأفطر، فمعناه: ضعف وكان الصوم تطوعاً فأفطر عمداً، ذكره الطحاوي (شرح معاني الآثار 1/348. ثم إن كون القيء غير مفطر وكون الاستقاء مفطر وعليه القضاء هو مذهب الأئمة الأربعة، كما في "عمدة القاري" 6/36) . ويعضده ما أخرجه ابن ماجه عن فضالة بن عبيد الأنصاري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج عليهم في يوم كان يصومه، فدعا بإناء فشرب، فقلنا: يا رسول الله إنَّ هذا يومٌ كنت تصومه! قال: أجل، ولكني قِئْتُ.
(1) قوله: كان لا يصوم في السفر، لأنه كان يرى أن الصوم في السفر لا يجزئ، لأن الفطر عزيمة من الله، وبه قال أبوه عمر، وأبو هريرة، وعبد الرحمن بن عوف، وقوم من أهل الظاهر، ويردّه أحاديث الباب، قاله ابن عبد البَرّ. واحتجوا لذلك أيضاً بحديث الصحيحين أنه صلّى الله عليه وسلّم كان في سفر - أي غزوة الفتح كما في الترمذي - فرأى زحاماً ورجلاً قد ظُلِّل عليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم، فقال: ليس من البر الصوم في السفر - ولفظ مسلم: ليس البر أن تصوموا في السفر - وزاد بعض الرواة: عليكم برخصة الله التي رَخّص لكم، وروايته على لغة حمير في "مسند أحمد" قال ابن عبد البر: ولا حجة فيه لأنه عامّ، خرج على سبب، فإن قُصر عليه لم تقم به حجة، وإلا حُمل على من حالُه مثل حال الرجل وبلغ ذلك المبلغ(2/195)
359 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (1) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنّ (2) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ (3) عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ (4) حَتَّى بَلَغَ الكُدَيد (5) ثُمَّ أَفْطَرَ (6) فَأَفْطَرَ النَّاسُ مَعَهُ (7) وَكَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، قَالَ: وَكَانُوا (8) يَأْخُذُونَ بِالأَحْدَثِ (9) فَالأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم.
__________
(كذا في شرح الزرقاني 2/170) .
(1) ابن عتبة بن مسعود.
(2) قال أبو الحسن القابسي: هذا من مرسلات الصحابة لأن ابن عباس كان في هذه السنة مقيماً بمكة.
(3) يوم الأربعاء بعد العصر لعشر خَلَوْن من رمضان سنة ثمان من الهجرة.
(4) أي جميع سيره.
(5) موضع بينه وبين المدينة سبع مراحل ونحوها وبينها وبين مكة مرحلتان أو ثلاث.
(6) قوله: ثم أفطر، لأنه بلغه أن الناس شقّ عليهم الصيام، وقيل له: إنما ينظرون في ما فعلت، فلما استوى على راحلته بعد العصر دعا بإناء من ماء، فوضعه على راحلته ليراه الناس، فشرب فأفطر فناوله رجلاً بجنبه فشرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: أولئك العصاة أولئك العصاة. رواه مسلم والترمذي عن جابر. قال المازري: احتج به مطرف ومن وافقه من المحدّثين، وهو أحد قولي الشافعي أن من بيّت الصوم في رمضان له أن يفطر، ومنعه الجمهور، وحملوا الحديث على أنه أفطر للتقوِّي على العدوّ والمشقّة الحاصلة له ولهم.
(7) أي حتى بلغوا مكة.
(8) أي الصحابة. قوله: وكانوا، هو قول ابن شهاب كما بُيِّن في رواية البخاري ومسلم، قال الحافظ ابن حجر: وظاهره أنه ذهب إلى أن الصوم في السفر منسوخ ولم يوافق على ذلك.
(9) قوله: بالأحدث فالأحدث، في مسلم عن يونس قال ابن شهاب: وكانوا(2/196)
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ شَاءَ صَامَ (1) فِي السَّفَرِ، ومن شاء أفطر، والصوم أفضل (2)
__________
(في الأصل: "كان"، وهو خطأ. انظر صحيح مسلم 2/785) يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره، ويَرَوْنه الناس المحكم، قال عياض: إنما يكون ناسخاً إذا لم يمكن الجمع أو يكون الأحدث من غيره وفي غير هذه القصة، وأما فيها أعني قضية الصوم فليس بناسخ إلا أن يكون ابن شهاب مال إلى أن الصوم في السفر لا ينعقد كقول أهل الظاهر ولكنه غير معلوم عنه.
(1) قوله: من شاء صام في السفر ومن شاء أفطر، لقوله تعالى: {ومن كان مريضاً أو على سفر فعدّةٌ من أيّام أُخَر} (سورة البقرة: الآية 185) ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة. أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وعبد بن حميد والبيهقي في سننه وغيرهم. وأخرج عبد بن حميد والدارقطني عن عائشة قالت: كلٌّ قد فَعَل رسول الله، صام وأفطر في السفر. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: لا أعيب على من صام ولا من أفطر في السفر. وأخرج مالك والشافعي وعبد بن حميد والبخاري وأبو داود عن أنس قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فصام بعضنا، وأفطر بعضنا، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. وأخرج مسلم والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري كنا نسافر مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في شهر رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجد المفطر على الصائم ولا الصائم على المفطر. وهذه الأحاديث وأمثالها تشهد بأن حديث "ليس من البر الصيام في السفر" أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم وغيرهم محمول على ما إذا لم يقو وأورث صومه ضعفاً أو مرضاً كما يُعلم من شأن وروده.
(2) قوله: أفضل لمن قوي عليه، لما أخرج عبد بن حميد عن أبي عياض: خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم في رمضان، فنُودي في الناس: من شاء صام ومن شاء أفطر، فقيل لأبي عياض: كيف فعل رسول الله؟ قال: صام وكان أحقَّهم بذلك.
وورد في(2/197)
لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ (1) ، وَإِنَّمَا (2) بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْطَرَ حِينَ سَافَرَ إِلَى مَكَّةَ لأَنَّ النَّاسَ شَكَوْا إِلَيْهِ الْجَهْدَ (3) مِنَ الصَّوْمِ، فَأَفْطَرَ لِذَلِكَ، وَقَدْ بَلَغَنَا (4) أَنَّ حَمْزَةَ الأَسْلَمِيَّ (5) سَأَلَهُ عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ. فَبِهَذَا (6) نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ (7) أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ الله - والعامة (8) من قبلنا.
__________
حديث أبي سعيد الخدري المتقدِّم: كانوا يَرَوْن أن من وجد قوَّة فصام فحسن، ومن وجد ضعفاً فأفطر فحسن.
(1) قال القاري: أي لقوله تعالى: {وأن تصوموا خيرٌ لكم} (سورة البقرة: الآية 184) ، وبه قال مالك والشافعي (وبه قال أبو حنيفة كما في لامع الدراري 5/415) ، وقال أحمد والأوْزاعي: الفطر أفضل مطلقاً لحديث: ليس من البر الصيام في السفر.
(2) قوله: وإنما بلغنا ... إلى آخره، دَفْعٌ لما يُتَوَهَّم أنه لو كان الصوم أفضل عند القوة لما أفطر النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفر الفتح لأنه كان يستطيع ما لا يستطيعه غيره.
(3) بفتح الجيم وضمها: المشقة.
(4) قوله: وقد بلغنا ... إلى آخره، هذا البلاغ أخرجه مالك والشافعي وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني وصححه والحاكم بعبارات متقاربة.
(5) هو ابن عمر بن عويمر أبو صالح المدني، صحابي جليل، مات سنة 61 هـ، كذا ذكره الزرقاني.
(6) في بعض النسخ: قال محمد: فهذا.
(7) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وكذا أبي يوسف، وبه قال أنس وعائشة وسعيد بن جبير ومجاهد وجابر بن زيد، أخرجه الطحاوي عنهم.
(8) قوله: والعامة من قبلنا، أي أكثر من مضى من الصحابة والتابعين خلافاً(2/198)
9 - (بَابُ قَضَاءِ رَمَضَانَ هَلْ يُفرَّق؟ (1))
360 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ (2) : لا يفرَّق (3) قَضَاءُ رَمَضَانَ.
361 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابن شهاب: أن ابن عباس (4)
__________
لبعضهم منهم ابن عباس حيث رُوي عنه أنه قال - لما سُئل عن الصوم في السفر -: يسر وعسر، فخذ بيسر الله. وروى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد أنه قال: الإِفطار في السفر العزيمة. ومنهم أبو هريرة حيث أمر رجلاً صام في السفر بالقضاء. أخرجه عبد بن حميد والطحاوي. ومنهم عمر حيث أمر رجلاً صام رمضان في السفر أن يعيد، أخرجه عبد أيضاً. ومنهم ابن عمر حيث قال: لأن أفطر في رمضان أحبّ إليّ من أن أصوم، أخرجه عبد بن حميد. وأخرج أيضاً عنه أنه سُئل عنه فقال: رخصة نزلت من السماء فإن شئتم فردّوها. وأخرج أيضاً أنه قال: لو تصدّقت بصدقة فرُدّت، ألم تكن تغضب؟ إنما هو صدقة تصدق بها الله عليكم.
ويوافقهم حديث: الصيام في السفر كالفطر في الحضر. أخرجه ابن ماجه والبزار من حديث عبد الرحمن بن عوف، وفي سنده كلام، وصحح النسائي وقفه، وعلى تقدير صحته فهو محمول على من لا يقوى.
(1) أي بين الأيام في قضاء الصيام.
(2) مذهب ابن عمر وجوب تتابع القضاء، وكذا رُوي عن علي والحسن والشعبي، وبه قال أهل الظاهر. وذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة إلى استحبابه (انظر الأوجز 5/128) .
(3) إمّا استحباباً أو وجوباً، وكأنه قاسه على أداء رمضان، أو لكون القضاء فرضاً كالأداء، فلا ينبغي أن يُؤخَّر عند قدرته على ترتيبه، كذا قال القاري.
(4) قوله: أن ابن عباس ... إلى آخره، قال ابن عبد البر: لا أدري عمن أخذ ابن شهاب هذا، وقد صح عن ابن عباس وأبي هريرة أنهما أجازا تفريق قضاء(2/199)
وَأَبَا هُرَيْرَةَ اخْتَلَفَا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ، قَالَ أَحَدُهُمَا (1) : يُفَرَّق (2) بَيْنَهُ، وَقَالَ الآخَرُ: لا يفرَّق (3) بَيْنَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْجَمْعُ بَيْنَهُ أَفْضَلُ وَإِنْ فرَّقتَ (4) وأحصيتَ العِدَّة (5) فَلا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - والعامَّة (6) قَبْلَنَا.
__________
رمضان وقالا: لا بأس بتفريقه لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} . وفي "الفتح": هكذا أخرجه منقطعاً مبهماً، ووصله عبد الرزاق عن معمر، عن الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عن ابن عباس فيمن عليه قضاء رمضان؟ قال: يقضيه مفرَّقاً.
وأخرجه الدارقطني من وجه آخر عن معمر بسنده قال: صُمه كيف شئت، ورويناه في فوائد أحمد بن شبيب، عن أبيه، عن يونس، عن الزهري بلفظ: لا يضرُّك كيف قضيتها، إنما هي عدَّة من أيام أُخَر فأحصه. وقال عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء: أن ابن عباس وأبا هريرة قالا: فرِّقه إذا أحصيته. انتهى.
(1) زاد يحيى: لا أدري أيهما قال: يفرَّق، ولا أيهما قال: لا يفرَّق.
(2) أي يجوز أن يفرَّق بين أيام قضائه.
(3) أي بل يجب إيصاله (هكذا في الأصل، والظاهر "اتصاله") .
(4) في نسخة: فرقته.
(5) ضبطت العدد، وحفظته لئلا يكون ناقصاً عما هنالك.
(6) قوله: والعامَّة قبلنا، أي من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: إن شاء تابع، وأن شاء فرَّق، لأن الله يقول: {فعِدَّةٌ من أيّامٍ أُخَر} . وأخرج ابن أبي شيبة والدارقطني عنه: صُمْه كيف شئت، وقال ابن عمر: صمه كما أفطرته. وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن أنس: أنه سئل عنه؟ فقال: إنما قال الله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر} فإذا أحصى العِدَّة فلا بأس بالتفريق. وأخرج ابن أبي شيبة والدارقطني(2/200)
10 - (بَابُ مَنْ صَامَ تَطَوُّعًا ثُمَّ أَفْطَرَ)
362 - أَخْبَرَنَا مالك، حدثنا الزهري: أن عائشة (1) وحفصة
__________
والبيهقي عن أبي عبيدة بن الجرّاح: إن الله لم يرخِّص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه فأحصِ العدَّة واصنع كيف شئت. وأخرج الدارقطني عن رافع بن خَديج قال: أحص العِدَّة وصم كيف شئت. وكذلك أخرج ابن أبي شيبة والدارقطني عن معاذ. وأخرج الدارقطني عن عمرو بن العاص قال: يفرَّق قضاء رمضان. وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي هريرة أن امرأةً سألت كيف تَقضي رمضان؟ قال: صومي كيف شئت، فإنما يريد الله بكم اليُسر ولا يريد بكم العسر. وأخرج ابن المنذر والدارقطني والبيهقي في سننه عن عائشة نزلت {فعِدَّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخرَ متتابعات} فسقطت متتابعات. قال البيهقي: أي نُسخت. ويؤيِّده ما أخرجه الدارقطني، وضعفه عن أبي هريرة مرفوعاً: من كان عليه صوم رمضان فليسرده ولا يفرِّقه. وأخرج أيضاً وضعفه عن ابن عمر: سُئل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قضاء رمضان؟ فقال: يقضيه أتباعاً وإن فرَّقه أجزأه. وأخرج الدارقطني وابن أبي شيبة عن محمد بن المنكدر: بلغني أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن تقطيع قضاء رمضان؟ فقال: ذلك إليك، أرأيتَ لو كان على أحدكم دَيْن فقضى الدرهم والدرهمين، ألم يكن قضاءً؟ قال الدارقطني: إسناده حسن (سنن الدارقطني 1/244، وصححه ابن الجوزي كما في نيل الأوطار 4/115) إلاَّ أنه مرسل. ثم رواه من طريق آخر موصولاً عن جابر مرفوعاً وضعفه.
(1) قوله: أن عائشة ... إلى آخره، وصله ابن عبد البر من طريق عبد العزيز بن يحيى عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، وقال: لا يصح عن مالك إلاَّ المرسل، ووصله النسائي من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة وصالح بن كيسان ويحيى بن سعيد ثلاثتهم عن الزهري، عن عروة، عن عائشة وقال: هذا خطأ، والصواب عن الزهري مرسل ووصله الترمذي والنسائي أيضاً من طريق جعفر بن برقان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، وقال(2/201)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَصْبَحَتَا صَائِمَتَيْنِ متطوِّعتين (1) ، فأُهدي لَهُمَا طَعَامٌ (2) فَأَفْطَرَتَا (3) عَلَيْهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَالَتْ حَفْصَةُ - بَدَرَتْنِي (4) بِالْكَلامِ وَكَانَتِ ابْنَةَ (5) أَبِيهَا -: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصْبَحْتُ أَنَا وَعَائِشَةُ صَائِمَتَيْنِ متطوِّعتين، فأُهدي لَنَا طَعَامٌ فَأَفْطَرْنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّمك اقْضِيا (6) يوماً مكانه.
__________
الترمذي: روى مالك ومعمر وعبيد الله بن عمر وزياد بن سعد وغير واحد من الحفاظ عن الزهري، عن عائشة مرسلاً (وقد وصله أبو داود أيضاً في "سننه"، باب من رأى عليه القضاء. انظر بذل المجهود في حل أبي داود 11/336) وهذا أصح، كذا في "التنوير".
(1) أي نافلتين.
(2) أي شاة، كما في رواية أحمد.
(3) بأكلهما إياه.
(4) أي سابقتني وغلبتني.
(5) قوله: ابنة، أي على خُلُق والدها من الحِدَّة والغلبة، فإنه كان من مظاهر الجلال، وأنا على طينة أبي من الحلم والسكينة، فإنه كان من مظاهر الجمال، قاله القاري.
(6) قوله: اقضيا يوماً مكانه، ظاهر الأمر للوجوب، وبه قال أبو حنيفة وأبو ثور ومالك، قال ابن عبد البر: ومن حجة مالك مع هذا الحديث قوله تعالى: {ثم أتِمّوا الصيام إلى الليل} (سورة البقرة: الآية 187) يعمُّ الفرض والنفل، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّم حرماتِ الله فهو خير له عند ربه} (سورة الحج: الآية 30) ، وحديث: إذا دُعي أحدكم إلى طعام فليُجب،(2/202)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، مَنْ صَامَ تطوُّعاً ثُمَّ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (1) - رَحِمَهُ اللَّهُ - والعامَّة (2) قَبْلَنَا.
11 - (بَابُ تَعْجِيلِ الإِفطار)
363 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يَزَالُ (3) الناسُ (4) بخير (5) ما عجَّلوا الإِفطار.
__________
فإن كان مفطراً فليأكل، وروي: فإن شاء أكل، وإن كان صائماً فليدعُ، وروي: فإن كان صائماً فلا يأكل، فلو جاز الفطر في التطوع لكان أحسن في إجابة الدعوة، واحتج الآخرون بحديث أم هانئ (قال الترمذي: حديث أم هانئ في إسناده مقال. وقال المنذري: لا يثبت، وفي إسناده اختلاف كثير أشار إليه النسائي، كذا في "بذل المجهود"، نقلاً عن المرقاة 11/336) : دخل عليَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنا صائمة، فأُتي بإناء من لبن فشرب، ثم ناولني فشربت، فقلت: إني كنت صائمة ولكني كرهت أن أردَّ سُؤرك، فقال: إن كان من قضاء رمضان، فاقضي يوماً مكانه وإن كان من غيره فإن شئتِ فاقضي وإن شئت فلا تقضي، وحديث عائشة: دخل عليَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: إنَّا خبَّأنا لك حَيْساً، فقال: أما إني كنت أريد الصوم لكن قرِّبيه. وأجيب أنهما قضية عين لا عموم له.
(1) قوله: أبي حنيفة، وكذا مالك وأبو ثور وغيرهما، وقال الشافعي وأحمد وإسحاق: لا قضاء عليه ويُستحب أن لا يُفطر، ذكره الزرقاني.
(2) منهم ابن عباس وابن عمر أخرجه الطحاويّ عنهما.
(3) لأبي داود من حديث أبي هريرة: لا يزال الدِّين ظاهراً.
(4) أي الصائمون من المسلمين.
(5) أي مصحوبين ببركة في متابعة سُنَّة دون موافقة بدعة. وعَيَّن في حديث(2/203)
قَالَ مُحَمَّدٌ: تَعْجِيلُ الإِفطار وَصَلاةِ الْمَغْرِبِ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهِمَا (1) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْعَامَّةِ (2) .
364 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَا يصلِّيان (3) المغربَ حِينَ ينظرانِ الليلَ الأَسْوَدَ (4) قَبْلَ أَنْ يُفطروا، ثُمَّ يُفْطِرَانِ (5) بعد الصلاة في رمضان.
__________
أبي هريرة علَّةَ ذلك، فقال: لأن اليهود والنصارى يؤخِّرون، ولابن حبان والحاكم من حديث سهل: لا تزال أمتي على سُنَّتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم.
(1) روى عبد الرزاق وغيره بإسناد صحيح عن عمرو بن ميمون الأودي قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعَ الناس إفطاراً وأبطأهم سحوراً (قال ابن عبد البر: أحاديث تعجيل الإِفطار وتأخير السحور صحاح متواترة، فتح الباري 4/199) .
(2) قوله: والعامة، أي جمهور علماء أهل السنَّة خلافاً للشيعة المبتدعة حيث لم يفطروا حتى تشتبك (في الأصل: "يشتبك"، وهو خطأ) النجوم.
(3) أي أولاً.
(4) أي سواد أوله. قوله: الليل الأسود، أي في أفق المشرق عند الغروب، وهو معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم، رواه الشيخان، أي أقبل من جهة الشرق وأدبر من جهة المغرب.
(5) قوله: ثم يفطران، فكانا يسرعان بصلاة المغرب لأنه مشروع اتفاقاً وليس من تأخير الفطر المكروه، لأنه إنما يُكره تأخيره إلى اشتباك النجوم على وجه المبالغة ولم يؤخر للمبادرة إلى عبادة، قاله الباجي: لكن روى ابن أبي شيبة وغيره(2/204)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهَذَا كلُّه وَاسِعٌ، فَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ (1) قَبْلَ الصَّلاةِ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ بَعْدَهَا، وكلُّ ذَلِكَ لا بَأْسَ (2) بِهِ.
12 - (بَابُ الرَّجُلِ يُفْطِرُ قَبْلَ الْمَسَاءِ (3) وَيَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ أَمْسَى)
365 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَفْطَرَ فِي يَوْمِ رَمَضَانَ فِي يَوْمِ غَيْم (4) ، وَرَأَى (5) أَنَّهُ قَدْ أَمْسَى أَوْ (6) غَابَتِ الشَّمْسُ، فَجَاءَهُ رجل فقال: يا أمير
__________
عن أنس قال: ما رأيتُ رسول الله يصلي حتى يفطر ولو على شربة من ماء. ورُوي
عن ابن عباس وطائفة: أنهم كانوا يفطرون قبل الصلاة، كذا قال الزرقاني. وقال القاري: هو إما لبيان الجواز إشعاراً بأن مثل هذا التأخير لا ينافي الأمر بالتعجيل، أو لعدم ما يُفطران به عندهم قبل الصلاة، أو لأن الإِفطار المتعارف عندهم أن يتعشَّوْا بطعامهم، وهذا ربما يُخلّ بتعجيل المغرب. وأما إذا أمكن الاقتصار على نفس الإِفطار بأكل تمرة، أو بشرب قطرة، ثم يصلي ويتعشى، فهذا جَمْعٌ حسن ووجهٌ مستحسن.
(1) بشرط أن لا يبلغ مبلغ اشتباك النجوم.
(2) إلاَّ أن الأفضل هو تقديم الفطر (وقال الطحاوي: يستحب الإِفطار قبل الصلاة، كما في الأوجز 5/29) على الصلاة لأنه الموافق لعادة رسول الله وغالب أصحابه.
(3) أي قبل غروب الشمس.
(4) بالفتح أي سحاب.
(5) أي وظن.
(6) شك من الراوي، وفي نسخة: (و) .(2/205)
الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ طَلَعَتِ (1) الشَّمْسُ، قَالَ: الخَطْب (2) يَسِيرٌ وَقَدِ اجْتَهَدْنَا (3) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ أَفْطَرَ وَهُوَ يَرَى أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَغِبْ لَمْ يَأْكُلْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَلَمْ يَشْرَبْ وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ (4) ، وَهُوَ قَوْلُ (5) أَبِي حنيفة - رحمه الله -.
__________
(1) قوله: قد طلعت الشمس، أي ظهرت يحتمل أنه قصد لِيَعْلَمَ الحكم فيه، ويحتمل أنه أخبره ليمسك بقية يومه لأنه يجب على من أفطر وهو لا يعلم أن الزمان صوم، ثم علم أنْ يمسك، بخلاف من أُبيح له الفطر مع العلم أنه زمان صوم فيجوز له الأكل بقية صومه، قاله الباجي.
(2) قال يحيى: (قال مالك: يريد بقوله "الخطب يسير" القضاء فيما نُرى وخفة مؤنته ويسارته، يقول: نصوم يوماً مكانه) (كذا في موطأ مالك، وفي الأوجز 5/119، أي يريد كونه يسيراً، وهو كذلك يعني الأمر سهل، لا صعوبة فيه، إذ لا تجب فيه الكفارة كأنه يقول: نصوم يوماً مكانه) . الخطب: أي الأمر هيِّن حقيرٌ.
(3) حيث عملنا على حسب ظنِّنا والظن معتبر في الشرع.
(4) أي ذلك الصوم الذي أفطره.
(5) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال الأئمة الباقية والجمهور لما صرح به في قصة إفطار عمر، فروى ابن أبي شيبة عن حنظلة، قال: شهدت عمر في رمضان وقُرِّب إليه شراب، فشرب بعض القوم وهم يرون الشمس قد غربت، ثم ارتقى المؤذن، فقال: يا أمير المؤمنين، والله إن الشمس طالعة لم تغرب، فقال عمر: من كان أفطر فليصم يوماً مكانه، ومن لم يُفطر فيتمَّ صومه حتى تغرب الشمس، وزاد من طريق آخر: فقال له: إنما بعثناك داعياً ولم نبعثك راعياً، وقد اجتهدنا، وقضاء يوم يسير. ويعضده ما في صحيح البخاري عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء قالت: أفطرنا على عهد رسول الله يومَ غيم، ثم طلعت الشمس، قيل لهشام: فأُمروا بالقضاء؟ قال: لا بدَّ من القضاء، وذهب جماعة إلى أنه لا يجب القضاء في هذه الصورة أخذاً بما ورد في بعض طرق قصة(2/206)
13 - (بَابُ الْوِصَالِ (1) فِي الصِّيَامِ)
366 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نافع عن عبد الله بن عمر: أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى (2) عَنِ الْوِصَالِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ (3) تُوَاصِلُ، قَالَ: إني لستُ كهيئتكم (4) إني أُطعَم (5) وأُسقى.
__________
فطر عمر أنه قال: لا نقضي، لكن قال ابن عبد البر وغيره: هي رواية ضعيفة، والصواب رواية الإِثبات (قال الحافظ: يرجِّح الأول أنه لو غمَّ هلال رمضان فأصبحوا مفطرين، ثم تبين أن ذلك اليوم من رمضان فالقضاء واجب بالاتفاق فكذلك هذا. فتح الباري 4/200) .
(1) هو إمساك الليل بالنهار.
(2) نهي تنزيه، قوله: نهى عن الوصال، وفي رواية جويرية عن نافع عند البخاري، وعبيد الله بن عمر، عن نافع عند مسلم، عن ابن عمر أنه صلّى الله عليه وسلّم واصل، فواصل الناس، فشقَّ عليهم، فنهاهم، فقالوا: يا رسول الله. ولم يُسَمَّ القائلون، وفي الصحيحين عن أبي هريرة فقال رجل من المسلمين، وفي لفظ فقال رجال من الجميع، وكان القائل واحداً ونُسب إلى الجمع لرضائهم به. وفيه استواء المكلفين في الأحكام، وأنَّ كل حكم ثبت في حقه صلّى الله عليه وسلّم ثبت في حقِّ أمَّته إلاَّ ما استُثني.
(3) أي فما الحكمة في نهيك لنا عنه.
(4) أي مشابهاً لكم في صفتكم وحالتكم.
(5) قوله: إني أُطعم وأُسقى، لأحمد وابن أبي شيبة من طريق الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة: إني أظل عند ربي فيطعمني ويسقيني، وللإِسماعيلي من حديث عائشة: أظل عند الله يطعمني ويسقيني، ولابن أبي شيبة من مرسل الحسن: إني أبيت عند ربي. واختُلف في ذلك. فقيل: هو على حقيقته وإنه صلّى الله عليه وسلّم كان يُؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامةً له في ليالي صيامه، وطعام الجنة وشرابها لا تجري عليه أحكام التكليف، قال ابن المنير:(2/207)
367 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزِّناد (1) ، عَنِ الأَعْرَجِ (2) ، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِيَّاكُمْ (3) وَالْوِصَالَ، إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ (4) ، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنِّي لَسْتُ (5) كَهَيْئَتِكُمْ، أبِيت (6) يُطْعِمُني رَبِّي ويَسقيني، فاكْلَفوا (7) من الأعمال
__________
الذي يفطر شرعاً إنما هو الطعام المعتاد، وأما الخارق للعادة كالمحضر من الجنة فعلى غير هذا المعنى، وقال جماعة: هو مجاز عن لازم الطعام والشراب، وهو القوة، فكأنه قال: قوة الآكل الشارب يفيض عليَّ بما يسدُّ مسدَّ الطعام، والمعنى أن الله يخلق من الشبع والريِّ ما يغنيه عن الطعام والشراب، فلا يحس بجوع ولا عطش. وجنح ابن القيم إلى أن المراد أنه يشغله بالتفكُّر في عظمته والتغذِّي بمعارفه وقرة العين بمحبَّته والاستغراق في مناجاته والإِقبال عليه عن الطعام والشراب، قال: وقد يكون هذا الغذاء أعظم من غذاء الأجساد، ومن له أدنى ذوق وتجربة يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الجسماني (قال شيخنا: هذا المعنى لا ينكره أحدٌ له ذوق بالمحبَّة كما قال ابن القيم. لامع الدراري 5/377) . انتهى. كذا في "التنوير".
(1) عبد الله بن ذكوان.
(2) عبد الرحمن بن هرمز.
(3) كُرِّر للمبالغة عن نهي الوصال.
(4) عند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح ثلاث مرات.
(5) إنما لم يقل: لستم كهيئاتي تواضعاً.
(6) أي أُمسي.
(7) بفتح اللام أي احْمِلوا.(2/208)
مَا لَكُمْ (1) بِهِ طَاقَةٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، الْوِصَالُ مَكْرُوهٌ، وَهُوَ أنْ يُوَاصِلَ الرَّجُلُ بَيْنَ يَوْمَيْنِ فِي الصَّوْمِ، لا يَأْكُلُ فِي اللَّيْلِ شَيْئًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْعَامَّةِ (2) .
14 - (بَابُ صَوْمِ يَوْمِ (3) عَرَفَةَ)
368 - أَخْبَرَنَا مالك، حدثنا سالم أبو النضر (4) ،
__________
(1) قوله: ما لكم به طاقة، أي قدرة وقوة لا يكون سبباً لضعف بنيته، وأما الأنبياء فلهم القوة الإِلهية أو الغذاء اللَّدُنِّي فلا يُقاس الصعلوك على الملوك.
(2) قوله: والعامة، أي جمهور العلماء خلافاً لبعضهم من الصحابة والتابعين، حيث جوَّزوه (اختلف العلماء في حكم الوصال، فذهب أحمد وإسحاق وجماعة من المالكية إلى جوازه إلى السحر، قال الحافظ: هذا الوصال لا يترتَّب عليه شيء مما يترتب على غيره، لأنه في الحقيقة بمنزلة عَشاء يؤخِّره، وقال الموفق: الوصال وهو أن لا يفطر بين اليومين بأكل ولا شرب، مكروه في قول أكثر أهل العلم، والراجح عند الشافعية التحريم، وفي "الدر المختار" مكروه تنزيهاً. انظر لامع الدراري 5/380 وأوجز المسالك 5/103) وقالوا: النهي عنه رحمة، فمن قدر عليه فلا حرج، لحديث الصحيحن عن عائشة: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الوصال رحمةً لهم. وأجيب بأن الرحمة لا تمنع النهي، فمن رحمته أنه كره لهم أو حرمه عليهم. وأجاز أحمد وابن وهب وإسحاق الوصال إلى السحر لحديث البخاري عن أبي سعيد مرفوعاً: لا تواصلوا، فأيُّكم أراد الوصال فليواصل إلى السحر. وعارضه ابن عبد البر بحديث الصحيحين: إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار (في الأصل: "الشمس"، وهو خطأ. تنظر عمدة القاري 6/64) من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم، فالوصال مخصوص بالنبي صلّى الله عليه وسلّم.
(3) يوم التاسع من ذي الحجة.
(4) مولى عمر بن عبيد.(2/209)
عَنْ عُمَيْرٍ (1) مَوْلَى (2) ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أمِّ الْفَضْلِ (3) ابْنَةِ الْحَارِثِ: أَنَّ نَاسًا تمارَوْا (4) فِي صَوْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ (5) ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَائِمٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ (6) بِصَائِمٍ، فَأَرْسَلَتْ (7) أمُّ الْفَضْلِ بقَدَح (8) مِنْ لَبَن وهو واقف بعرفة فشربه (9) .
__________
(1) هو ابن عبد الله الهلالي، وثَّقه النسائي وابن حبان، مات سنة 104، كذا في "الإِسعاف".
(2) وفي رواية: مولى أم الفضل، ولا منافاة، فهذا باعتبار الأصل والأولان باعتبار المآل، كذا ذكره الزُّرقاني.
(3) زوجة العباس.
(4) أي تنازعوا، أو تشاكّوا، أو اختلفوا.
(5) أي بعرفات.
(6) أي لأنه مسافر.
(7) قوله: فأرسلت، لم يُسَمَّ الرسول بذلك، نعم في النسائي عن ابن عباس ما يدل على أنه كان الرسولَ بذلك. وفي الصحيحين عن ميمونة أنها أرسلت فيُحمل على التعدُّد بأن يكون الأختان أرسلتا معاً، أو أرسلتا قَدَحاً واحداً، ونُسب إلى كلِّ منهما لأنَّ ميمونة أرسلت بسؤال أختها أم الفضل لها ذلك لكشف الحال، أو عكسه. وفيه التحيُّل للاطِّلاع على الحكم بغير سؤال وفطنة المرسِلة لاستكشافها عن الحكم الشرعي بهذه الوسيلة اللطيفة اللائقة بالحال، لأن ذلك كان في يوم حارٍّ بعد الظهيرة، كذا في "شرح الزُّرقاني".
(8) بفتحتين كاسه بزرك (بالفارسية) .
(9) شفقةً على الأمة ورحمةً على العامة. قوله: فشربه، زاد في حديث(2/210)
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ شَاءَ صَامَ يَوْمَ عَرَفَةَ ومن شاء أفطر، إنما صومه تطوع (1) ،
__________
ميمونة: والناس ينظرون، وفي رواية أبي نعيم: وهو يخطب الناس بعرفة أي ليراه الناس ويعلمون أنه مفطر، لأن العيان أقوى من الخبر. ففطر يوم عرفة للحاجّ أفضل من صومه لأنه الذي اختاره صلّى الله عليه وسلّم لنفسه وللتقوِّي على عمل الحج، ولما فيه من العون على الاجتهاد في الدعاء والتضرُّع المطلوب في ذلك الموضع، ولذا قال الجمهور: يُستحب فطره للحاج وإن كان قوياً. ثم اختلفوا هل صومه مكروه؟ وصححه المالكية، أو خلاف الأولى؟ وصححه الشافعية، وتُعقب بأن فعله المجرد لا يدل على عدم استحباب صومه، إذ قد يتركه لبيان الجواز، وأجيب بأنه قد روى أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة والحاكم عن أبي هريرة: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن صوم عرفة بعرفة. وأخذ بظاهره قوم منهم يحيى بن سعيد الأنصاري، فقال: يجب فطره للحاجِّ، والجمهور على استحبابه، كذا في "شرح الزُّرقاني".
(1) قوله: تطوع، أي ليس بفرض ولا واجب، لكن فيه فضيلة ثابتة، فروى مسلم واللفظ له، وأبو داود من حديث أبي قتادة: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن صوم يوم عرفة؟ قال: يكفِّر السنة الماضية والباقية (الجمع بينه وبين حديث الباب أن يُحمل على غير الحاجّ أو على من لم يُضعفه صيامه عن الذكر والدعاء المطلوب للحاج. انظر فتح الباري 4/237) ، وفي رواية الترمذيّ: صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي بعده والسنة التي قبله. وروى ابن ماجه عن قتادة بن النعمان: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من صام يوم عرفة غُفر له سنة أمامه وسنة بعده. وروى أحمد، عن عطاء الخرساني أن عبد الرحمن بن أبي بكر دخل على عائشة يوم عرفة وهي صائمة والماء يُرَشُّ عليها، فقال لها: أفطري، فقالت: أُفطر وقد سمعت رسول الله يقول: إن صوم عرفة يكفِّر العام الذي قبله، قال الحافظ عبد العظيم المنذري في كتاب "الترغيب والترهيب": رواته محتَجٌّ بهم في الصحيح إلاَّ عطاء لم يسمع من عبد الرحمن. وروى أبو يعلى عن سهل بن سعد(2/211)
فَإِنْ كَانَ (1) إِذَا صَامَهُ يُضْعِفُه ذَلِكَ عَنِ الدُّعَاءِ (2) فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فالإِفطار أَفْضَلُ (3) مِنَ الصوم.
__________
مرفوعاً: من صام يوم عرفة غُفر له ذنبُ سنتين متتابعتين. قال المنذري: رجاله رجال الصحيح. وأخرج الطبراني في "الأوسط" عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: من صام يوم عرفة غُفر له سنةً أمامه وسنةً خلفه، ومن صام عاشوراء غُفر له سنة. وإسناده حسن قاله المنذري. وروى الطبراني في "الأوسط" أيضاً عن سعيد بن جبير: سأل رجلٌ عبد الله بن عمر، عن صوم يوم عرفة؟ فقال: كنا ونحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نعدله بصوم سنتين. وإسناده حسن قاله المنذري. وروى في "الكبير" بإسناد فيه رِشْدين بن سعد - وقد ضُعِّف - عن زيد بن أرقم: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن صيام يوم عرفة؟ فقال: يكفِّر السنة التي قبلها والتي بعدها. وروى الطبراني في "الأوسط" والبيهقي عن مسروق أنه دخل على عائشة يوم عرفة، فقال: اسقوني، فقالت: يا غلام اسْقِهِ عسلاً، ثم قالت: وما أنت بصائم؟! قال: لا، إني أخاف أن يكون يوم الأضحى، فقالت: إنما ذلك يوم عرفة، يوم يعرف الإِمام، أوَ ما سمعتَ يا مسروق أن رسول الله كان يعدله بألف يوم؟ وإسناده حسن قاله المنذري. وفي رواية البيهقي عنها مرفوعاً: صيام عرفة كصيام ألف يوم. وأخرج أبو سعيد النقّاش في "أماليه" عن ابن عمر مرفوعاً: من صام يوم عرفة غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر. قال الحافظ ابن حجر في رسالته "الخصال المكفرة في الذنوب المقدمة والمؤخرة": قد ثبت في "صحيح مسلم" أنه يكفِّر ذنوب السنة الماضية والمستقبلة وذلك المراد من قوله وما تأخر. انتهى. وذكر السيوطي في رسالته "فيمن يُؤتى أجره مرتين" أن سبب كون صوم عاشوراء كفّارة سنة وكون صوم عرفة كفارة سنتين أن ذلك من شرع موسى، وهذا سنَّة النبي صلّى الله عليه وسلّم فضُعِّف أجره.
(1) أي المحرم.
(2) ونحوه من التلبية والقراءة، وكذا إذا كان الصوم يُسيء خُلُقه أو يُتعب مشيه.
(3) قوله: أفضل، وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف كما ذكره الطحاويّ وعليه(2/212)
15 - (بَابُ الأَيَّامِ الَّتِي يُكْرَهُ فِيهَا الصَّوْمُ)
369 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سُلْيَمَانَ (1) بْنِ يَسَارٍ (2) : أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صِيَامِ أَيَّامِ (3) مِنًى.
370 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ (4) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ
__________
حُمل ما ورد من النهي عن صيام عرفة بعرفة. أخرجه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وصححه والطبراني والطحاوي وغيرهم. وأخرج الترمذي وابن حبان من حديث ابن عمر: حججتُ مع رسول الله ولم يصم، ومع أبي بكر كذلك، ومع عمر كذلك، ومع عثمان كذلك، وأنا لا أصومُه ولا آمرُ به ولا أنهى عنه، وذَكَر المنذريُّ أنَّ مالكاً والثوريَّ كانا يختاران الفطر بعرفة، وكان الزبير وعائشة يصومان، ورُوي ذلك عن عثمان بن أبي العاص، وكان عطاء يقول: أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف، وقال قتادة: لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء.
(1) قال الزهري: كان من العلماء، وقال الزهري: ثقة مأمون، مات سنة 107 هـ.
(2) لم يُختلف على مالك في إرساله، قاله أبو عمر، وقد وصله النَّسائي من طريق سفيان الثوري عن أبي النضر وعبد الله بن أبي بكر، وهما عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن حُذافة.
(3) أي أيّام رمي الجمار بها، وهي الثلاثة التي يتعجَّل الحاجّ منها في يومين بعد يوم النحر، وهي الأيام المعلومات والمعدودات وأيام التشريق.
(4) هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثيّ المدني، وثَّقه ابن معين والنسائي، مات سنة 139 هـ، كذا في "الإِسعاف".(2/213)
أَبِي مرَّة مَوْلَى (1) عُقَيْلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ دَخَلَ عَلَى أَبِيهِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فقرَّب (2) لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لأَبِيهِ: إِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: كُلْ، أَمَا علمتَ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمُرُ (3) نا (4) بِالْفِطْرِ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (5) نَأْخُذُ، لا يَنْبَغِي أَنْ يُصام أَيَّامُ التَّشْرِيقِ لمُتعةٍ (6)
__________
(1) ليحيى مولى أم هانئ بنت أبي طالب، قال ابن عبد البر: هكذا يقول يحيى، وأكثرهم يقولون مولى عقيل.
(2) أي أبوه.
(3) أمر إيجاب.
(4) معاشر المسلمين.
(5) قوله: وبهذا نأخذ، اختلفوا فيه على ما بسطه العينيّ في "عمدة القاري" (6/113) وغيره على أقوال، منهم من قال: لا يجوز صيام أيام التشريق مطلقاً، لا للمتمتع ولا لغيره، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه والشافعيِّ في الجديد والليث بن سعد وابن عُلَيَّة، وبه قال علي بن أبي طالب والحسن وعطاء، وهو الرواية الأولى عن أحمد، وصححها بعض أصحابه. ومنهم من قال: يجوز مطلقاً، وهو مذهب أبي إسحاق المَرْوزي الشافعي، ولعله لم يبلغه أحاديث النهي. ومنهم من قال: يجوز للمتمتِّع الذي لم يجد الهَدْي ولم يصم الثلاثة في عشر ذي الحجَّة وهو قول عائشة وابن عمر وعروة، وبه قال مالك والأَوْزاعي وإسحاق والشافعي في القديم وقد رجع عنه، وهو الرواية الثانية عن أحمد واختارها بعض أصحابه.
(6) أي لصوم تمتُّع.(2/214)
وَلا لِغَيْرِهَا (1) ، لِمَا جَاءَ (2) مِنَ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ والعامَّة من قبلنا. وقال مالك (3)
__________
(1) أي من قِران وفدية وكفارة وقضاء.
(2) قوله: لما جاء من النهي، أي من حديث جماعة من الصحابة عند جماعة من الأئمة منهم عبد الله بن حذافة عند النسائي، وابن عباس عند الطبراني، وأبي هريرة عند الدارقطني، وزيد بن خالد الجُهَني عند أبي يعلى المَوْصلي، ونبيشة وكعب بن مالك عند مسلم، وأم خلدة الأنصارية عند إسحاق بن راهويه، وابن أبي شيبة وعمرو بن العاص، عند مالك والحاكم وابن خزيمة، وعقبة بن عامر وبشر وعليّ وغيرهم عند جماعة، وليس فيها تخصيص للمتمتِّع ولا لغيره، بل في بعضها أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم بعث منادياً أيّام منى ينادي: ألا لا يصومنَّ أحد هذه الأيام.
وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/335) النهي من حديث عليّ وسعد بن أبي وقاص وعائشة وعمرو بن العاص وعبد الله بن حذافة وأبي هريرة وبشر بن سحيم وأنس ومعمر بن عبد الله العدوي وأم الفضل زوجة العباس وغيرهم، ثم قال: فلما ثبت بهذه الآثار النهيُ عن صيام أيام التشريق وكان ذلك بمنى والحاجّ مقيمون بها، وفيهم المتمتِّعون والقارنون، ولم يستثن منهم متمتِّعاً دخلوا في هذا النهي أيضاً.
(3) قوله: وقال مالك ... إلى آخره، يُستَدَلُّ له بظاهر قوله تعالى: {فإذا أمنتم فمن تمتَّع بالعمرة إلى الحجِّ فما استيسر من الهَدْي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحجِّ وسبعة إذا رجعتم} (سورة البقرة: الآية 196) ، فإنَّ ظاهره تجويز الثلاثة في أيام الحج وأيام التشريق داخلة فيها، ويوافقه ما أخرجه وكيع وعبد الرزاق وابن أبي شَيْبَة وعبد بن حُميد وابن جَرير وابن المنذر عن ابن عمر في تفسير ثلاثة أيام، قال: يومٌ قبل(2/215)
ابن أَنَسٍ يَصُومُهَا الْمُتَمَتِّعُ (1) الَّذِي لا يَجِدُ الهَدْيَ أَوْ (2) فَاتَتْهُ الأيّامُ الثَّلاثَةُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ.
16 - (بَابُ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ مِنَ اللَّيْلِ)
371 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، أنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: لا يصومُ (3) إلاَّ مَنْ أَجمع (4) الصيامَ قَبْلَ الْفَجْرِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَنْ أَجْمَعَ أَيْضًا عَلَى الصيام (5) قبل نصف
__________
التروية ويوم عرفة، وإذا فاته صيامها صام أيام منى فإنهن من الحج. وأخرج البخاري وابن جرير والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر وعائشة قالا: لم يُرخَّص في أيام التشريق أن يُصمن إلاَّ لمتمتِّع لم يجد هدياً. وأخرج ابن جرير ومَن بعده عن ابن عمر: رخَّص رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم حتى فاتته أيام العشر أن يصوم أيام التشريق. وأخرج الدارقطني عن عائشة سمعت رسول الله يقول: من لم يكن معه هَدْي فليصم ثلاثة أيام قبل يوم النحر ومن لم يكن صام تلك الثلاثة صام أيام منى.
وأجاب أصحابنا وغيرهم عن هذه الآثار بأن الموقوف منها لا يوازي المرفوع الناهي والمرفوع منها لا يساوي الناهي العامّ من حيث السند، والاستنباط من الآية في حيِّز الخفاء لأن دخول أيام التشريق في أيام الحج في حيِّز المنع. وفي المقام كلام في المبسوطات.
(1) وكذا القارن.
(2) في نسخة: إذا.
(3) أي لا يصح أن يصوم.
(4) قال الباجي: الإِجماع على الصوم وهو العزم عليه والقصد له.
(5) أي فرضاً كان أو نفلاً، قوله: على الصيام، سواء كان فرضاً أو نفلاً، أما النفل فلما أخرجه مسلم في صحيحه عن عائشة قال لي رسول الله ذاتَ يوم:(2/216)
النَّهَارِ (1) فَهُوَ (2) صَائِمٌ، وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ (3) غيرُ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُ (4) أَبِي حَنِيفَةَ والعامَّة قَبْلَنَا.
__________
يا عائشة هل عندكم شيء؟ فقلت: يا رسول الله ما عندنا شيء، فقال: فإني صائم ... الحديث، وله ألفاظ عند مسلم.
ورواه أبو داود وابن حبَّان والدارقطني بلفظ: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يأتينا يقول: هل عندكم من غَداء؟ فإن قلنا نعم تغدّى، وإن قلنا لا، قال: إني صائم. وفي رواية لمسلم والدارقطني: دخل عليها، فقال: هل عندكم شيء؟ قلت: لا، قال: فإني إذاً صائم. ودخل عليَّ يوماً آخر، فقال: أعندكم شيء؟ قلت: نعم، قال لي: إذاً أفطر وقد كنت فرضت الصوم.
وذكر البخاريُّ تعليقاً عن أمِّ الدرداء: كان أبو الدرداء يقول: عندكم طعام؟ فإن قلنا: لا، قال: فإني صائم يومي هذا. ووصله ابن أبي شيبة، وكذا أورد عن أبي طلحة عند عبد الرزاق أنه كان يأتي أهله فيقول هل من غداء؟ فيقولون: لا، فيصوم. وعن أبي هريرة عند البيهقي، وعن ابن عباس وصله الطحاوي، وعن حذيفة وصله عبد الرزاق، وذكرها البخاري تعليقاً،
وأما الفرض فلما ورد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث رجلاً ينادي في الناس يوم عاشوراء أنَّ من أكل فليصم، أي ليمسك بقية يومه، ومن لم يأكل فلا يأكل. أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم، وصوم يوم عاشوراء كان فرضاً قبل رمضان، فدل ذلك على إجزاء النية بعد الطلوع أيضاً في رمضان لولا يظهر فرق بين فرض وفرض.
(1) أي الشرعي، وهو وقت الضحوة الكبرى بحيث يقع النية في أكثر أجزاء النهار.
(2) فصومه عندنا صحيح.
(3) أي مضمون ما ذكر.
(4) قوله: وهو قول أبي حنيفة، خلافاً للشافعي وأصحابه فإنهم جَوَّزوا في النفل النية بعد الطلوع للآثار المذكورة، ولم يجوِّزوا ذلك في الفرض لأثر ابن عمر، ولحديث حفصة مرفوعاً: من لم يُجمع من الليل فلا صيام له، وفي رواية: من لم يبيِّت الصيام من الليل فلا صيام له، أخرجه أبو داود والترمذي(2/217)
17 - (بَابُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الصِّيَامِ)
372 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (1) ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى يُقَالَ
__________
والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وأحمد والدارقطني، واختُلف في رفعه ووقفه، وصحح جماعة - منهم الترمذي - وقفَه على حفصة، وحمله الطحاوي على ما عدا النفلَ وصومَ رمضان من صوم الكفارات وقضاء شهر رمضان، لئلا يضادّ حديث صوم يوم عاشوراء وغيره من الآثار، وذكر في "إرشاد الساري" أنه روى عبد الرزاق عن حذيفة أنه قال: من بدا له الصيام بعد ما تزول الشمس فليصم، وإليه ذهب جماعة سواء كان قبل الزوال أو بعده وهو مذهب الحنابلة، وقال مالك: لا يصوم في النافلة إلاَّ أن يبيِّت، لحديث: لا صيام لمن لا يبيِّت الصيام من الليل، وقياساً على الصلاة إذ فرضها ونفلها سواء في النية (قال الموفَّق: لا يصح الصوم إلاَّ بنية إجماعاً فرضاً كان أو تطوعاً لأنه عبادة محضة، فافتقر إلى النية كالصلاة، ثم إن كان فرضاً كصيام رمضان في أدائه وقضائه والنذر والكفارة اشتُرط أن ينويَه من الليل عند إمامنا ومالك والشافعي، وقال أبو حنيفة يُجزئ صيام رمضان وكل صوم متعيِّن بنية من النهار لحديث عاشوراء المتفق عليه، ثم في أي جزء من الليل نوى أجزأه، ثم فَعَلَ بعد النية ما ينافي الصوم من الأكل والشرب أم لا واشتراط بعض أصحاب الشافعي أن لا يأتي بعد النية بمنافٍ للصوم، واشترط بعضهم وجود النية في النصف الأخير من الليل كما اختُص به أذان الصبح والدفع من مزدلفة، ولنا عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: "من لم يبيِّت الصيام من الليل"، وصوم التطوع يجوز بنية من النهار عند إمامنا وأبي حنيفة والشافعي، وقال مالك وداود: لا يجوز إلاَّ بنية من الليل، ثم في أي وقت من النهار نوى أجزأه، سواء في ذلك ما قبل الزوال وبعده، وهذا ظاهر كلام أحمد والخرقي، واختار القاضي في "المحرَّر" أنه لا تجزئه النية بعد الزوال، وهذا مذهب أبي حنيفة والمشهور من قولي الشافعي، كذا في لامع الدراري 5/382) .
(1) قوله: عبد الرحمن، هكذا قال أبو النضر ووافقه يحيى بن أبي كثير في الصحيحين، ومحمد بن إبراهيم وزيد بن غياث عند النسائي، ومحمد بن عمرو عند(2/218)
لا يُفطر (1) ، ويُفطر (2) حَتَّى يُقَالَ لا يَصُومُ، وَمَا رأيتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ (3) صيامَ شهرٍ قطُّ إلاَّ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شهرٍ أكثرَ (4) صِيَامًا (5) مِنْهُ في شعبان.
__________
الترمذيّ، وخالفهم يحيى بن سعيد وسالم بن أبي الجعد فروياه عن أبي سلمة عن أم سلمة أخرجهما النسائي، ويُحتمل أن أبا سلمة رواه عن كلٍّ منهما، كذا ذكره الزُّرقاني.
(1) أي بعد ذلك.
(2) أي أحياناً ويستمرُّ على إفطاره.
(3) لئلا يُظَنُّ وجوبه.
(4) بالنصب ثاني مفعولَيْ رأيت.
(5) بالنصب، وروي بالخفض، قال السُّهَيلي: هو وهم كأنه كتب الألف على لغة من يقف على المنصوب المنوَّن بدون الألف فتوهَّمه مخفوضاً. قوله: أكثر صياماً منه في شعبان، اختُلف في الحكمة في إكثاره الصوم فيه، فقيل: كان يشتغل عن صيام الثلاثة من كل شهر لسفر أو غيره، فيجتمع فيقضيها فيه، واستُدلَّ له بما أخرجه الطبراني بسند ضعيف عن عائشة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما أخَّر ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة، فيصوم شعبان، وقيل: كان يصنع ذلك لتعظيم رمضان لحديث الترمذي: سُئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أيّ الصوم أفضل بعد رمضان؟ قال: شعبان لتعظيم رمضان. وأصح منه ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن خزيمة عن أسامة قلت: يا رسول الله لم أركَ ما تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: ذاك شهر يَغْفُل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى الله، فأحبُّ أن يُرفع (المراد بالرفع الرفع الخاصّ دون الرفع العامّ بُكرة وعشيّاً. انظر فتح المُلْهم 3/174) إليه عملي وأنا صائم، كذا في "التوشيح شرح صحيح البخاري" للسيوطي.(2/219)
18 - (باب صوم يوم عَاشُورَاءَ (1))
373 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيد (2) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سمع معاويةَ (3) بنَ أبي سفيان عامَ (4) حَجٍّ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ (5) يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ،
__________
(1) قوله: عاشوراء، هو بالمدّ على المشهور، وحُكي فيه القصر وهو في الأصل صفة الليلة العاشرة لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد، واليوم مضاف إليها، فإذا قيل يوم عاشوراء فكأنه قيل يوم الليلة العاشرة إلا أنهم لمّا عدلوا عن الصفة غلبت عليه الاسمية فاستغنوا عن ذكر الموصوف (قال العيني: وهو مذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وعدَّ أسماءهم ثم قال: ومن الأئمة مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحابهم. "عمدة القاري" 6/116)
كذا ذكره القاري.
(2) قوله: عن حُمَيد، قال الحافظ: ابن حجر، هكذا رواه مالك وتابعه يونس وصالح بن كيسان وابن عُيَينة وغيرهم، قال الأَوْزاعي والزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وقال النعمان بن راشد عن الزهري عن السائب بن يزيد كلاهما عن معاوية، المحفوظ رواية الزهري عن حميد، قاله النسائي وغيره.
(3) هو وأبوه من مُسلمة الفتح، وكان أميراً عشرين سنة وخليفةً عشرين سنة، كذا ذكره الزرقاني.
(4) قوله: عام حجّ، كان أول حجة حجها معاوية بعد الخلافة سنة أربع وأربعين، وآخر حجة حجها سنة سبع وخمسين، ذكره ابن جرير. قال ابن حجر: ويظهر أن المراد في هذا الحديث الحجة الأخيرة، وكأنه تأخر بمكة أو المدينة بعد الحج إلى يوم عاشوراء.
(5) أي منبر المسجد النبوي.(2/220)
أين (1) علماؤكمم (2) ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِهَذَا الْيَوْمِ (3) هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ لَمْ يَكْتُبِ (4) اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، أَنَا صَائِمٌ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ (5) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَانَ وَاجِبًا (6) قَبْلَ أَنْ يُفترض
__________
(1) قوله: أين علماؤكم؟، قال النووي: الظاهر إنما قال ذلك لمّا سمع من يوجبه أو يحرمه أو يكرهه، فأراد إعلامهم بأنه ليس بواجب، ولا محرم، وقال ابن التين: يحتمل أن يريد به استدعاء موافقتهم، أو بلغه أنهم يَرَوْن صيامه فرضاً أو نفلاً، أو يكون للتبليغ، كذا في "عمدة القاري (6/121) " شرح صحيح البخاري للعيني.
(2) أي من الصحابة والتابعين.
(3) أي في حقه.
(4) أي لم يُفرض، قوله: لم يكتب الله ... إلى آخره، اتفق العلماء على أن صوم عاشوراء اليوم سُنَّة وليس بواجب، واختلفوا في حكمه أوَّلَ الإِسلام، فقال أبو حنيفة: كان واجباً، واختلف أصحاب الشافعي على وجهين: أشهرهما: أنه لم يزل سُنَّة، ولم يك واجباً قط، والثاني: كقول أبي حنيفة، وقال عياض: وكان بعض السلف يقول: كان فرضاً وهو باقٍ على فرضيّته، قال: وانقرض القائلون بهذا، وحصل الإِجماع على أنه ليس بفرض، كذا في "عمدة القاري".
(5) قال الحافظ ابن حجر: هو كلمة من كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم كما بيّنه النسائي في روايته، ذكره السيوطي.
(6) قوله: كان واجباً (وبسط الكلام على هذا الشيخُ ابن القيم في "الهدي" وقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصوم عاشوراء قبل أن ينزل فرض رمضان، فلما فُرض رمضان تركه، فهذا لا يمكن التخلّص عنه إلا بأنَّ صيامه كان فرضاً قبل رمضان، فحينئذٍ يكون المتروك وجوب صومه لا استحبابه، ويتعين هذا ... إلخ. "لامع الدراري" 5/383) ....إلى آخره، به ورد كثير من الأخبار، فأخرج(2/221)
رَمَضَانُ ثُمَّ نَسَخَهُ (1) شَهْرُ رَمَضَانَ، فَهُوَ تطوُّعٌ مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْعَامَّةِ قبلنا.
__________
الطحاويّ عن الرُّبَيِّع بنت معوِّذ: قد بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأنصار: من كان أصبح صائماً فليُتِمّ صومه، ومن كان أصبح مفطراً، فليتمّ آخر يومه، فلم نزل نصومه ويصومه صبياننا وهم صغار، ونتخذ لهم اللعبة من العِهْن، فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة. وأخرج عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر بصوم عاشوراء قبل أن يُفترض رمضان، فلما فُرض قال: من شاء صام عاشوراء ومن شاء أفطر. وأخرج عن جابر: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرنا بصوم عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عليه، فلما فُرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا. وأخرج عن قيس بن سعد: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصوم عاشوراء قبل أن يُفترض رمضان. فلمّا نزل رمضان لم نُؤمر ولم نُنْهَ عنه. وفي الباب أخبار أُخَر مخرّجة في السنن والصحاح، وأما حديث معاوية فأجيب عنه بأن معاوية من مُسلمة الفتح، فإن كان سمع ما سمع فإنما سمع سنة تسع أو عشر، وذلك بعد نسخه برمضان، فإنه كان في السنة الثانية، فلا دلالة له على عدم وجوبه قبل ذلك.
(1) أي افتراضه.(2/222)
19 - (بَابُ (1) لَيْلَةِ (2) الْقَدْرِ)
374 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ: تحرَّوْا (3) ليلةَ (4) الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الأواخر من رمضان.
__________
(1) قوله: باب ليلة القدر (ذكر شيخنا في الأوجز 5/178 سبعة أبحاث لطيفة في هذا الباب: منها اختلافُهم في وجه التسمية بليلة القدر، ومنها: اختصاص هذه الليلة بهذه الأمة عند الجمهور، ومنها: اختلافهم في سبب هذه العَطيّة الجليلة، ومنها: في تعيين هذه الليلة على أقوال كثيرة تبلغ إلى قريب من خمسين قولاً، ومختار أئمة الفقه والسلوك في تعيين هذه الليلة، ومنها: اختلافهم هل يحصل الثواب المترتَّب عليها لمن قامها ولم يظهر له شيء، وغيرها) ، اختلف العلماء فيها، فقيل: إنها رُفعت أصلاً ورأساً، قاله الحَجّاج الوالي الظالم والرافضة، وقيل: إنها دائرة في جميع السنة، وقيل: إنها ليلة النصف من شعبان، وقيل: مختصة برمضان ممكنة في جميع لياليه، ورجّحه السُّبْكي، وقيل أول ليلة منه، وقيل ليلة النصف، وقيل ست عشرة، وقيل سبعة عشرة، وقيل ليلة ثماني عشرة، وقيل: ليلة تسع عشرة، وقيل: مبهمة في العشر الأوسط، وقيل: مبهمة في العشر الأخير، وقيل: مبهمة في السبع الأواخر، وقيل: ليلة الحادي والعشرين، وقيل كذلك إن كان الشهر ناقصاً وإلا فليلة العشرين، وقيل: ليلة اثنتين وعشرين، وقيل: ليلة ثلاث وعشرين، وقيل ليلة سبع وعشرين وهو مذهب أحمد واختاره خلائق، وقيل ليلة ثمان وعشرين، وقيل: ليلة تسع وعشرين، وقيل: ليلة الثلاثين، وقيل: تنتقل في النصف الأخير، وقيل: تنتقل في العشر الأخير كلِّه، وقيل: إنها تنتقل في أوتار العشر الأخير، وقيل: تنتقل في السبع الأواخر، وقيل: في أشفاع العشر الأوسط، والعشر الأخير، وذهب بعض المتأخرين إلى أنها تكون دائماً ليلة الجمعة ولا أصل له، كذا في "التنوير" (1/300) .
(2) سُمِّيت بذلك لعظم قدرها لنزول القرآن فيها، ولوصفها بأنها خير من ألف شهر.
(3) أي اجتهدوا أو التمسوا.
(4) قال ابن عبد البَرّ: هكذا رواه مالك، ورواه شعبة عن عبد الله بن دينار بلفظ: تحروها ليلة سبع وعشرين.(2/223)
375 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ (1) : أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (2) : تحرَّوْا ليلةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ.
20 - (بَابُ (3) الاعْتِكَافِ (4))
376 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ،
__________
(1) قال ابن عبد البر: رواه أنس بن عياض أبو ضمرة عن هشام عن أبيه عن عائشة موصولاً.
(2) وفي الصحيح عن عائشة: تحروا ليلة القدر في وتر العشر الأواخر من رمضان.
(3) قوله: باب الاعتكاف، قال مالك: فكّرتُ في الاعتكاف وترك الصحابة له مع شدّة اعتنائهم واتباعهم الأثر فأراهم تركوه لشدّته. انتهى. قال السيوطي في "التوشيح": وتمامه أن يُقال: مع اشتغالهم بالكسب لعيالهم والعمل في أراضيهم، فيشقّ عليهم ترك ذلك وملازمتهم للمسجد. انتهى. قلت: هو مع تمامه ليس بتمام، لعدم كونه وجهاً لترك سنّة من سنن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والأَوْلى أن يُقال إن الاعتكاف في العشر من رمضان وإن كان سنّةً مؤكدة لكنه على الكفاية لا على العين، وقد كانت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بعده يعتكفن فكفى ذلك، وقد حقّقتُه في رسالتي "الإِنصاف في حكم الاعتكاف".
(4) هو لغةً لزوم الشيْء وحبس النفس عليه خيراً أو شرّاً، وشرعاً لزوم المسجد للعبادة على وجه مخصوص.(2/224)
عَنْ عَمْرة (1) بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اعتكَفَ يُدْني (2) إِلَيَّ (3) رأسَه فأرجِّله (4) ، وَكَانَ لا يَدْخُلُ البيتَ إِلا (5) لِحَاجَةِ (6) الإِنسان.
__________
(1) قوله: عن عمرة، قال ابن عبد البر: كذا رواه جمهور رواة الموطأ، ورواه عبد الرحمن بن مهدي وجماعة عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة، فلم يذكروا عمرة في هذا الحديث. وكذا لم يذكر عمرة أكثر أصحاب ابن شهاب منهم معمر وسفيان وزياد بن سعد والأَوْزاعي. انتهى.
ورواه النسائي من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن مالك به، ورواه الترمذي عن أبي مصعب عن مالك عن الزهري. عن عروة وعمرة كلاهما عن عائشة، وقال هكذا روى بعضهم عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عمرة عن عائشة والصحيح عن عروة وعمرة عن عائشة. وكذا أخرجه البخاري ومسلم وبقية الستة عن الزهري عن عروة وعمرة كلاهما عن عائشة، كذا في "التنوير".
(2) من الإِدناء أي يقرب. قوله: يُدني إليّ رأسه، فيه إن إخراج البعض لا يجري مجرى الكل، زاد في رواية: وأنا حائض. وفيه أن الحائض طاهرة.
(3) وأنا في الحُجرة.
(4) أي فأمشّط شعر رأسه.
(5) قوله: إلا لحاجة الإِنسان، فسّرها الزهري بالبول والغائط، وقد اتفقوا على استثنائهما، واختلفوا في غيرهما من الحاجات مثل عيادة المريض وشهود الجمعة والجنازة، فرآه بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وغيرهم، وبه قال الثوري وابن المبارك، وقال بعضهم: ليس له أن يفعل شيئاً من هذا، كذا في "عمدة القاري".
(6) أي الضرورية وهي الغائط والبول والحدث.(2/225)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا يَخْرُجُ (1) الرَّجُلُ إِذَا اعْتَكَفَ إِلا لِلْغَائِطِ أَوِ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ فَيَكُونُ فِي مُعْتَكَفه (2) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
377 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يزيدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ الْهَادِ (3) ، عَنْ محمد بن إبراهيم (4) ، عن أبي سلمةَ بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سعيدٍ الخُدْري (5) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتكفُ العَشْرَ الوُسَطَ (6) مِنْ شَهْرِ (7) رَمَضَانَ، فَاعْتَكَفَ (8) عاماً (9) حتى إذا كان ليلةَ
__________
(1) قوله: لا يخرج الرجل، يعني إلى بيته قَرُب أو بَعُد، وأما للوضوء والغسل من دون ضرورة فلا، وكذا في عيادة المريض ونحو ذلك. ويشهد له ما أخرجه أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يسأل عن المريض إلاّ مارّاً في اعتكافه.
(2) اسم مفعول أي محل اعتكافه.
(3) أصله الهادي، حذف الياء وقفاً ووصلاً.
(4) ابن الحارث التميمي.
(5) قال ابن عبد البر: هذا أصحّ حديث يُروى في هذا الباب.
(6) قوله: الوسط، قال ابن حجر: بضم الواو والسين جمع وُسْطى، ويُروى بفتح السين مثل كُبَر وكُبْرى، ورواه الباجي بإسكانها على أنها جمع واسط كبازل وبزل. انتهى.
(7) قوله: من شهر رمضان، فيه مداومته على ذلك. فالاعتكاف فيه سنّة مؤكدة لمواظبته عليه، قاله ابن عبد البر. ولعل مراده رمضان لا بقيد الوسط إذ هو لم يداوم عليه.
(8) كذلك.
(9) مصدر عام إذا سَبَح، فالإِنسان يعوم في دنياه على الأرض طول حياته.(2/226)
إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهُيَ الليلةُ الَّتِي يَخْرُجُ (1) فِيهَا مِنَ اعْتِكَافِهِ قَالَ (2) : مَنْ كَانَ (3) اعْتَكَفَ مَعِيَ فليعتكفْ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ، وَقَدْ رأيتُ (4) هَذِهِ الليلةَ (5) ، ثُمَّ أُنسيتُها (6) ، وَقَدْ رأيتُني (7) مِنْ صُبْحَتِها (8) أسجُدُ فِي ماءٍ وَطِينٍ، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، والتمسوها في كل وترٍ (9) .
__________
(1) أي من عادته أن يخرج. قوله: يخرج فيها، قال ابن حزم: هذه الرواية مشكلة، فإن ظاهرها أن خطبته وقعت في أول اليوم الحادي والعشرين، وعلى هذا يكون أول الليالي اعتكافه الآخر ليلة اثنين وعشرين وهو مغاير لقوله في آخر الحديث: فأبصرتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم انصرف وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين، فإنه ظاهر في أن الخطبة كانت في صبح اليوم العشرين ووقوع المطر كان في ليلة إحدى وعشرين وهو الموافق لبقية الطرق، فكان في هذه الرواية تجوُّزاً أي من الصبح الذي قبلها، كذا في "التنوير".
(2) وفي رواية الشيخين: فخطبنا صبيحة عشرين.
(3) أي من أصحابي.
(4) وفي رواية أُريتُ: بهمزةِ أوّله. قوله وقد رأيت، قال النووي: في "شرح المهذب" قال القفّال: ليس معناه أنه رأى الملائكة والأنوار عياناً، ثم نَسِيَ في أول ليلةٍ رأى ذلك، لأن مثل هذا قلَّ أن ينسى، وإنما معناه أنه قيل له ليلة القدر ليلة كذا وكذا، ثم نسي كيف قيل له.
(5) أي ليلة القدر.
(6) بصيغة المفعول أي أنسانيها الله لحكمةٍ في إنسائها.
(7) أي نفسي في تلك الليلة.
(8) أي في صبحها.
(9) أي أوتار لياليه، أوّلُها ليلة الحادي والعشرين إلى آخر التاسع والعشرين.(2/227)
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فمُطرتِ السَّمَاءُ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ (1) سَقْفُهُ عَرِيشًا (2) فوَكَف (3) الْمَسْجِدُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ (4) : فأبصرتْ (5) عَيْنَايَ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ (6) عَلَيْنَا، وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ (7) أثرُ الْمَاءِ والطِّين مِنْ صُبْحِ (8) لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ.
378 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، سألتُ ابنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ عَنِ الرَّجُلِ الْمُعْتَكِفِ يَذْهَبُ لِحَاجَتِهِ تحت سقف (9) ؟
__________
(1) أي في مسجد المدينة.
(2) أي أنه كان مظلَّلاً بالجريد والخوص محكَم البناء بحيث يكفّ عن المطر.
(3) أي أقطر الماء من سقفه.
(4) أي الخدري راوي الحديث.
(5) أي فرأيت.
(6) من الصلاة.
(7) قوله: وأنفه، فيه السجود على الجبهة والأنف جميعاً، فإن سجد على أنفه وحده لم يجزه وعلى جبهته وحدها أساء، قاله مالك، وقال الشافعي: لا يجزيه، وقال أبو حنيفة: إذا سجد على جبهته أو أنفه أجزاه (وفي الهداية: إن اقتصر على أحدهما جاز عند أبي حنيفة وقالا: لا يجوز الاقتصار على الأنف إلا من عذر، وهو رواية عنه ... إلخ، انظر "أوجز المسالك" 5/187) .
(8) بعد ما فرغ من صلاة الصبح.
(9) أي خراب صار مزبلة، ويكون حول المسجد.(2/228)
قَالَ: لا بَأْسَ بِذَلِكَ (1) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: بِهَذَا نَأْخُذُ، لا بَأْسَ لِلْمُعْتَكِفِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ الْحَاجَةَ مِنَ الْغَائِطِ أَوِ الْبَوْلِ أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ (2) أَوْ أَنْ يَمُرَّ تَحْتَ السَّقْفِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
__________
(1) وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة، وقال جماعة: إن دخل تحته بطل (قال الموفق: لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد تُقام الجماعة فيه، لأن الجماعة واجبة والاعتكاف في غيره يُفضي إلى أحد الأمرين: إما ترك الجماعة الواجبة، وإما خروجه إليها، فيتكرر الخروج كثيراً مع إمكان التحرّز منه، وذلك منافٍ للاعتكاف. ولا يصح الاعتكاف في غير مسجد إذا كان المعتكف رجلاً، لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافاً "المغني" 3/187) .
(2) أي بيته.(2/229)
(كِتَابُ الْحَجِّ (1))
1 - (بَابُ الْمَوَاقِيتِ (2))
379 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر: أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (3) : يُهلُّ (4) أهلُ (5) الْمَدِينَةِ مِنْ ذي الحُلَيْفة (6) ، ويُهِلُّ أهلُ الشام (7)
__________
(1) بفتح الحاء والكسر، في اللغة: القصد، وفي الشرع: زيارة أماكن مخصوصة بأفعال مخصوصة.
(2) جمع للميقات مكان الإِحرام. حكى الأثرم عن أحمد أنه سئل: أيُّ سنةٍ وَقَّت رسول الله المواقيت؟ فقال: عام حجّ، كذا في "التوشيح".
(3) وللبخاري: أنَّ رجلاً قام في المسجد، فقال: يا رسول الله من أين تأمرنا أن نهلَّ؟ فقال: يهلُّ إلى آخره، بصيغة الخبر مراداً به الأمر.
(4) مِنْ أَهَلَّ المُحرم: رفع صوته عند الإِحرام. وكلُّ من رفع صوته فقد أهلَّ، كذا في "المصباح".
(5) أي حقيقةً أو حكماً ومن حولهم من أهل الشرق.
(6) قوله: من ذي الحُلَيْفة، بضمِّ الحاء المهملة وفتح اللام وإسكان الياء المثنّاة من تحت وبالفاء، هو على نحو ستة أميال من المدينة، وقيل: سبعة أو أربعة، كذا في "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي رحمه الله.
(7) زاد النسائي من حديث عائشة: ومصر، وزاد الشافعي في روايته: والمغرب، والمصريون الآن يُحرمون من رابغ - براء وموحَّدة وعين معجمة - قرب الجُحفة لكثرة حُمّاها، فلا ينزلها أحد إلاَّ حُمّ، كذا ذكره الزرقاني.(2/230)
مِنَ الجُحْفة (1) ، ويُهلُّ أهلُ نَجْدٍ (2) مِنْ قَرْن (3) .
قال ابنُ عمر: ويزعُمُون (4)
__________
(1) قوله: من الجُحْفة، بضم الجيم وإسكان الحاء، قرية كبيرة كانت عامرة، وهي على طريق المدينة على نحو سبع مراحل من المدينة، ونحو ثلاث مراحل من مكة، قرية من الهجر بينها وبينه نحو ستة أميال، قال صاحب "المطالع" وغيره: سُمِّيت جحفة لأن السيل احتجفها، وقال أبو الفتح الهمداني: هي فعلة من جحف السيل اجتحف: إذا اقتلع ما يمر به من شجر أو غيره، وهذا من باب العرفة كما تقول عرفت عرفة بالفتح، وما تعرفه عرفة، كذلك جحف السيل جحفة، بالفتح، والمجحوف جحفة، بالضم، كذا في "تهذيب الأسماء واللغات".
(2) وكذا أهل الطائف ومن حولهم من أهل الشرق. قوله: أهل نجد: كل مكان مرتفع، وهو اسم لعشرة مواضع، والمراد ههنا التي أعلى تهامة واليمن، وأسفلها الشام والعراق، قاله الزرقاني.
(3) قوله: من قرن، بفتح القاف وسكون الراء. وفي حديث ابن عباس في الصحيحين: قرن المنازل. وضبط الجوهري بفتح الراء، وغلَّطوه، وبالغ النووي فحكى الاتفاق على تخطئته في ذلك وفي نسبة أُوَيس القرني إليه، وإنما هو منسوب إلى قبيلة بني قرن بطن من مراد، لكن حكى عياض أن من سكَّن الراء أراد الجبل، ومن فتح أراد الطريق. والجبل المذكور بينه وبين مكة من جهة المشرق مرحلتان، كذا في "شرح الزُّرقاني".
(4) قوله: ويزعمون ... إلى آخره، للبخاري من طريق الليث عن نافع، عن ابن عمر: لم أفقه هذه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وفي "الصحيحين" عن سالم عن أبيه، وزعموا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال - ولم أسمعه -: ويُهِلُّ أهل اليمن من يلملم. وهو من استعمال الزعم على القول المحقَّق، وهو يُشعر بأنَّ الذي بلَّغ ذلك ابنَ عمر جماعة، وقد ثبت ذلك عن ابن عباس في "الصحيحين"، وجابر عند مسلم إلاَّ أنه(2/231)
أَنَّهُ (1) قَالَ: ويُهلُّ أهلُ اليَمَن مِنْ يَلَمْلَم (2) .
380 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (3) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، أنه قال: قال
__________
قال: أحسبه رفعه، وعائشة عند النسائي، والحارث بن عمرو السهمي عند أحمد وأبي داود والنسائي (انظر أوجز المسالك 6/217) .
(1) أي النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(2) قوله: من يلملم، بفتح الياء واللامين وإسكان الميم بينهما، ويُقال فيه ألملم بهمزة، هو على مرحلتين من مكة. وفي "شرح مسلم" لعياض: هو جبل من جبال تهامة على مرحلتين من مكّة، كذا في "تهذيب الأسماء".
(3) قوله: أخبرنا عبد الله بن دينار ... إلى آخره، قال الزرقاني: هذا الحديث تابع فيه مالكاً إسماعيلُ بن جعفر عند مسلم، وسفيان بن عيينة عند البخاري في "الاعتصام". كلاهما عن ابن دينار به، وزاد فذكر العراق فقال أي ابن عمر: لم يكن عراق يومئذٍ، ولأحمد عن صدقة فقال له قائل: فأين العراق؟ فقال: لم يكن يومئذ عراق. وروى الشافعي عن طاوس لم يوقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات عرق ولم يكن حينئذٍ أهل المشرق. وكذا قال مالك في "المدوَّنة" والشافعي في "الأم" فميقات ذات عرق لأهل العراق ليس منصوصاً عليه، وإنما أُجمع عليه، وبه قطع الغزالي والرافعي في "شرح المسند" والنووي في "شرح مسلم"، ويدل له ما في البخاري: أنَّ أهل العراق أتَوْا عمر، فوقَّت لهم ذات عرق، وصحح الحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية والرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في "شرح المهذب" أنه منصوص. وفي مسلم من طريق ابن جُريج عن أبي الزبير عن جابر: ومُهَلّ أهل العراق ذات عرق، إلاّ أنه مشكوك في رفعه لأن أبا الزبير قال: سمعت جابراً قال: سمعت أحسبه رفع، لكن قال العراقي: قوله أحسبه أي أظنه والظن في باب الرواية يتنزَّل منزل اليقين، وقد أخرجه أحمد من رواية ابن لهيعة، وابن ماجه(2/232)
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهلَ الْمَدِينَةِ أَنْ يُهِلّوا (1) مِنْ ذِي الحُلَيفة وأهلَ الشَّامِ مِنَ الجُحفة، وَأَهْلَ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَمَّا هَؤُلاءِ الثَّلاثِ (2) فَسَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُخْبِرْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَأَمَّا أَهْلُ الْيَمَنِ فَيُهِلُّونَ مِنْ يَلْمَلَمَ.
381 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَحْرَمَ (3) مِنَ الفُُرْع (4) .
382 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي الثقة (5) عندي: أن ابنَ عمر
__________
من رواية إبراهيم بن يزيد كلاهما عن أبي الزبير فلم يشكّا في رفعه، وروى أحمد وأبو داود والنسائي عن عائشة، وعن الحارث قالا: وقَّت رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَهْلِ العراق ذات عرق، قال الحافظ: فهذا يدل على أنَّ للحديث أصلاً (انظر فتح الباري 3/389 و 390) .
(1) وميقات المكِّي ومَن بمعناه للحج الحرم وللعمرة الحل.
(2) أي المواضع الثلاثة.
(3) أي مرة.
(4) قوله: من الفُرع، بضم الفاء والراء وبإسكانها، موضع بناحية المدينة، يقال: هي أول قرية مارت إسماعيل وأمّه التمر بمكة، قال ابن عبد البر: محمله عند العلماء أنه مرَّ بميقات لا يُريد إحراماً ثم بدا له فأهلَّ منه أو جاء إلى الفرع من مكة أو غيرها ثمَّ بدا له في الإِحرام كما قاله الشافعي وغيره. وقد رَوى حديث المواقيت ومُحال أن يتعداه مع علمه به فيوجب على نفسه ما عليه دم.
(5) قيل: هو نافع، كذا ذكره الزُّرقاني.(2/233)
أَحْرَمَ (1) مِنْ إِيلِيَّاءَ (2) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، هَذِهِ مَوَاقِيتُ (3) وقَّتها رسولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم فلا ينبغي (4)
__________
(1) قوله: أحرم (في جمع الفوائد برواية مالك أن ابن عمر أهلَّ بحجة من إيلياء. أوجز المسالك 6/224) من إيلياء، أي عام الحَكَمين، لما افترق أبو موسى وعمرو بن العاص من غير اتفاق بدُومة الجندل، فنهض ابن عمر إلى بيت المقدس فأحرم منه كما رواه البيهقي وابن عبد البر وغيرهما مع كونه روى حديث المواقيت، فدلَّ على أنه فهم أن المراد منع مجاوزتها حلالاً، لا منع الإِحرام قبلها، وأما الكراهة فلعلَّة أخرى، هي خوف أن يعرض للمحرم إذا بعدت مسافته ما يفسد إحرامه. وأما قصيرها فلما فيه من التباس الميقات والتضليل عنه، وهذا مذهب مالك وجماعة من السلف (قال مالك وأحمد وإسحاق: إحرامه من المواقيت أفضل، وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وآخرون: الإِحرام من المواقيت رخصة. انظر عمدة القاري 5/141) ؟ فأنكر عمر على عمران بن حصين في إحرامه من البصرة، وأنكر عثمان على عبد الله بن عامر إحرامه قبل الميقات، قال ابن عبد البر: وهذا من هؤلاء - والله أعلم - كراهة أن يضيِّق المرء على نفسه ما وسَّع الله عليه، وأن يتعرض لما لا يؤمَن أن يحدث في إحرامه، وذهب جماعة إلى جوازه من غير كراهة. وقال به الشافعية، كذا في "شرح الزرقاني".
(2) بكسر أوله ممدوداً ومخفَّفاً، وقد تُشدَّد الياء الثانية ويُقصر، اسم مدينة بيت المقدس.
(3) أي أماكن موقَّتة.
(4) أي لا يحلّ. قوله: فلا ينبغي لأحد ... إلى آخره، لما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: لا تجاوز الميقات إلاَّ بإحرام(2/234)
لأحد أن يجاوزَها (1)
__________
(نصب الراية 1/473) ، وكذلك أخرجه الطبراني في معجمه وأخرج الشافعي والبيهقي عن أبي الشعثاء أنه رأى ابن عباس يردُّ من جاوز الميقات غير محرم، وروى إسحاق بن راهويه عنه أنه قال: إذا جاوز الوقت فلم يحرم حتى دخل مكة رجع إلى الوقت فأحرم، فإن خشي إنْ رجع إلى الوقت يفوت الحج، فإنه يُحرم ويهريق دماً. وبهذه الأخبار وأمثالها حرَّم الجمهور المجاوزة عن المواقيت بغير إحرام، لكن الشافعية خصُّوه بمن يريد أداء النسك، وأصحابنا عمَّموه، وذهب عطاء والنَّخَعي إلى عدم وجوب الإِحرام من المواقيت، وقال سعيد بن جبير: لا يصح حجّه، وقال الحسن: يجب على المجاوز العَوْد إلى الميقات فإنْ لم يَعُدْ حتى تمَّ حجُّه رجع للميقات وأهلَّ منه بعمرة. وهذه الأقاويل الثلاثة شاذة ضعيفة، قاله ابن عبد البر وغيره.
(1) قوله: أن يجاوزَها، وأما تقديم الإِحرام عليها فجائز اتفاقاً، حكاه غير واحد. وحكى العيني في "شرح الهداية" أنَّ عند داود الظاهري إذا أحرم قبل هذه المواقيت فلا حج له ولا عمرة، وهو قول شاذ مخالف لفعل السلف وقولهم، فقد أحرم ابن عمر من بيت المقدس، بل ورد في فضله حديث أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان مرفوعاً: من أهلَّ بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، ووجبت له الجنة. هذا لفظ أبي داود، وفي سنده ضعف يسير، ذكره الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث شرح الرافعي"، وذكر القرطبي أنَّ إحرام ابن عمر وابن عباس كان من الشام، وإحرام عمران بن حصين من البصرة وابن مسعود من القادسية، وإحرام علقمة والأسود والشعبي من بيوتهم، وسعيد بن جبير من الكوفة رواه سعيد بن منصور، وأخرج الحاكم في "المستدرك" أنه سُئل عليّ عن قوله تعالى: {وأتمّوا الحج والعمرة لله} فقال: أن تُحرم من دويرة أهلك. وفي الباب آثار كثيرة تشهد بجواز التقديم إلاَّ أن مالكاً وأحمد وإسحاق كرهوه كما ذكره العيني وغيره، وقال أصحابنا: هو أفضل إن أَمِن من أن يقع في محظور.(2/235)
إِذَا أَرَادَ (1) حَجًّا إلاَّ مُحرماً، فَأَمَّا إِحْرَامُ (2) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِنَ الفُرُع وَهُوَ دون ذي الحُلَيفة إلى
__________
(1) قوله: إذا أراد، هذا القيد غالبي، وإلاَّ فلا يحل لأحد من الآفاقي أن يجاوز الميقات بلا إحرام إذا أراد دخول الحرم سواء أراد أحد النُّسُكين أو لم يرد، خلافاً للشافعي. وأما دخوله عليه الصلاة والسلام عام الفتح بغير إحرام، فحكم مخصوص له ولأصحابه في ذلك الوقت، كذا في "شرح القاري".
(2) قوله: فأما إحرام ... إلى آخره، دَفْعٌ لما ورد أنه لما لم يَجُزْ مجاوزة المواقيت فكيف جاوز ابن عمر ميقات أهل المدينة وهو ذو الحليفة، وأحرم من الفُُْرع، وهو متجاوز عن ذي الحليفة، إلى جانب مكة. وحاصل الدفع أنه لا يحل المجاوزة من هذه المواقيت لمن مرَّ بها إلاّ محرماً إلاّ من كان بين يدية ميقات آخر، فإنه مخيَّر بين أن يحرم من ميقاته الأول أو من الثاني، فأهل المدينة يُخيَّر لهم بين أن يُحرموا من ذي الحليفة وهو ميقاتهم الموقَّت وبين أن يحرموا من الجُحْفة، أو من رابغ الذي هو قريب الجحفة لحديث مرفوع مرسل: من أحب أن يستمتع بثيابه إلى الجحفة فليفعل. فلا يلزمهم من مجاوزة ذي الحليفة دم، وإن كان الأفضل هو الإِحرام منه، وقد يُستدل له بما وقع في رواية البخاري وغيره من حديث ابن عباس بعد ذكر المواقيت: فهنَّ لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة. واستدل به كثير على أن الشامي إذا مرَّ بذي الحليفة لزمه الإِحرام منها ولا يؤخره إلى ميقاته الجحفة فإن أخَّر لزمه دم عند الجمهور، وحكى النووي الاتفاق عليه، ولعله بالنسبة إلى جمهور الشافعية وإلاَّ فالمعروف عند المالكية أن الشامي مثلاً إذا جاوز ذا الحليفة بغير إحرام إلى الجحفة جاز له ذلك، وبه قالت
الحنفية (وأما مذهب الحنفية في ذلك ما في "البدائع": من جاوز ميقاتاً من هذه المواقيت من غير إحرام إلى ميقات آخر جاز إلاَّ أنَّ المستحب أن يحرم من الميقات الأول، كذا في بذل المجهود 8/324) وأبو ثور وابن المنذر من الشافعية، كذا في "فتح الباري" وغيره.(2/236)
مَكَّةَ، فَإِنَّ أَمَامَهَا (1) وَقْتٌ آخَرُ (2) وَهُوَ الْجُحْفَةُ (3) وَقَدْ رُخِّص (4) لأَهْلِ الْمَدِينَةِ أنْ يُحرموا (5) مِنَ الْجُحْفَةِ لأَنَّهَا (6) وَقْتٌ مِنَ الْمَوَاقِيتِ. بَلَغَنَا عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ (7) أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِثِيَابِهِ (8) إِلَى الْجُحْفَةِ فَلْيَفْعَلْ. أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ، عَنْ إِسْحَاقَ (9) بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ (10) بْنِ عَلِيٍّ، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) أي قدّامها.
(2) أي ميقات متأخر آخر.
(3) الحاصل أن هذا رخصة والإِحرام من الميقات الأول عزيمة فلو أحرم من الجحفة فلا شيء عليه عندنا خلافاً للشافعي، كذا في "المرقاة".
(4) أي بصيغة المجهول أي وقعت الرخصة.
(5) سواء مرّوا على ذي الحُلَيفة أم لا.
(6) أي الواجب أن لا يتجاوزوا عن مطلق الميقات أي عن الميقات الأول.
(7) خطاب لأهل المدينة.
(8) أي أن يلبس ثيابه ويؤخِّر إحرامه إلى الجحفة.
(9) قوله: عن إسحاق بن راشد، هو أبو سليمان إسحاق بن راشد الحرّاني، وقيل الرقي مولى بني أمية، وقيل مولى عمر، روى عن الزهري وعبد الله بن حسن بن الحسن بن علي ومحمد بن علي زين العابدين أبي جعفر الباقر وغيرهم، وعنه جماعة، ذكره ابن حبان وابن شاهين في "الثقات"، ووثقه النسائي وابن معين وأبو حاتم، كذا في "تهذيب التهذيب" وغيره.
(10) أي عن أبي جعفر محمد الباقر ابن زين العابدين علي بن الحسين بن علي، ويسمى هذا السند سلسلة الذهب، قاله القاري.(2/237)
2 - (بَابُ الرَّجُلِ يُحرم فِي دُبُر (1) الصَّلاةِ وَحَيْثُ يَنْبَعِثُ (2) بِهِ بَعِيرُهُ)
383 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عمرَ كَانَ يصلِّي (3) فِي مَسْجِدِ ذِي الحُلَيفة، فَإِذَا انْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ أَحْرَمَ (4) .
384 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُوسَى (5) بْنُ عُقبة، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سمع ابن عمر يقول: بيداؤكم (6)
__________
(1) بضمتين أي بعد الصلاة.
(2) والمراد بالانبعاث القيام والباء للتعدية أي حين يقيمه بعيره.
(3) ركعتين سنة الإِحرام (عند مسجد ذي الحليفة وأراد بالمسجد مصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس المراد بالمسجد أن هناك مسجداً بُني قبل ذلك. بذل المجهود 8/271) .
(4) أي نوى ولبّى أو جدَّد نيَّته وتلبيته بناءً على أن الأفضل للمحرم أن يحرم عقيب صلاة سنة الإِحرام كما سيأتي من صنيعه صلّى الله عليه وسلّم. قوله: أحرم، اتِّباعاً لما رآه من فعل المصطفى صلّى الله عليه وسلّم لذلك كما في الصحيحين من طريق صالح بن كيسان عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً، وفي مسلم من رواية الزهري عن سالم عن أبيه: كان صلّى الله عليه وسلّم يركع بذي الحليفة ركعتين ثم إذا استوتْ به الناقة قائمةً عند مسجد ذي الحُليفة أهلّ.
(5) هو مولى آل الزبير، ويقال مولى أم خالد زوجة الزبير، ثقة، توفي سنة 141 هـ، كذا في "الكاشف".
(6) أي مفازتكم، التي فوق عَلَمَي ذي الحليفة لمن صعد الوادي، قاله أبو عُبيد البكري، وأضافها إليهم لكونهم كذبوا لسببها.(2/238)
هَذِهِ الَّتِي تَكْذِبُونَ (1) عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، وَمَا أهلَّ (2) رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا مِنْ عند
__________
(1) أتقولون إنه أحرم منها ولم يحرم منها (ليس المراد بالكذب عمداً، بل إطلاق الكذب عليه لعدم علمهم بابتداء إحرامه صلّى الله عليه وسلّم من المسجد بعد الصلاة) ؟!
(2) للحميدي عن سفيان، عن ابن عيينة: والله ما أهلَّ. وقوله: وما أهلَّ ... إلى آخره، هذا لفظ مالك، وأما لفظ سفيان فأخرجه الحُمَيدي في مسنده بلفظ: هذه البيداء التي تكذبون فيها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والله ما أهلَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلاَّ من عند المسجد مسجد ذي الحليفة. ولمسلم من طريق آخر بلفظ: كان ابن عمر إذا قيل له الإِحرام من البيداء؟ قال: البيداء التي تكذبون فيها ... إلى آخره، إلاَّ أنه قال: ما أهلَّ إلاَّ من عند الشجرة حين قام به بعيره. وسيأتي للمصنف - أي البخاري - بلفظ: أهلَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم حين استوت به راحلته قائمةً، أخرجه من طريق صالح بن كيسان عن نافع، عن ابن عمر. وكان ابن عمر ينكر على ابن عباس قوله في روايته في "صحيح البخاري" بلفظ: ركب راحلته حتى استوى على البيداء أهل، فهذه ثلاث روايات ظاهرها التدافع، وقد أزال الإِشكال ما رواه أبو داود والحاكم من طريق سعيد بن جبير قلت لابن عباس (حديث ابن عباس وإن ضعَّفه النووي وغيره، لكن حسنه الترمذي وسكت عليه أبو داود، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم مفسر في الباب، وأقرَّه عليه الذهبي، وقال ابن الهُمام: بعد ما بسط الكلام: الحق أن الحديث حسن، فزال الإِشكال. أوجز المسالك 6/236) : عجبتُ لاختلاف أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في إهلاله، فذكر الحديث، وفيه: فلما صلّى في مسجد ذي الحُلَيفة ركعتين أوجب من مجلسه، فأهل بالحج حين فرغ منهما، فسمع منه قومٌ فحفظوه، ثم ركب فلما استقلَّت به راحلته أهل، فأدرك ذلك قوم لم يشهدوه في المرة الأولى، فسمعوه حين ذاك، فقالوا: إنما أهلَّ حين استقلت به راحلته، فلما علا شَرَفَ(2/239)
الْمَسْجِدِ (1) مَسْجِدِ ذِي الحُلَيفة.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (2) نَأْخُذُ يُحْرِمُ الرَّجُلُ إِنْ شَاءَ فِي دُبُرِ صَلاتِهِ وَإِنْ شَاءَ حِينَ يَنْبَعِثُ بِهِ بَعِيرُهُ، وكلٌّ حَسَن (3) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ من فقهائنا.
__________
البيداء أهلَّ، وأدرك ذلك قوم لم يشهدوه، فنقل كل واحد ما سمع وإنما كان إهلاله في مُصَلاّه وأيم الله، ثم أهلَّ ثانياً وثالثاً، كذا في "فتح الباري".
(1) أي بعد فراغه من صلاته.
(2) أي بما ذكر من الحديثين.
(3) قوله: وكلٌّ حسن، والأحسن هو الأول عند أئمتنا الثلاثة كما حكاه الطحاوي خلافاً للمالكية والشافعية، فإن الأفضل عندهم أن يُهِلَّ إذا بعثت به راحلته أو توجَّه لطريقه ماشياً (وكذا جمع بين مذهبيهما الزرقاني 2/244. وفرَّق الباجي بينهما فقال: ذهب مالك وأكثر الفقهاء إلى أن المستحب أن يهلَّ الراكب إذا استوت به راحلته قائمة، وقال الشافعي: يُهل إذا أخذت ناقته في المشي، وقال أبو حنيفة: يُهل عقيب الصلاة شرح الباجي 1/208. وما حكوا من مذهب مالك يأبى عنه كلام الدردير إذ صرح بأولولية الإِحرام في أول المواقيت إلاَّ في ذي الحليفة ففي مسجدها، كذا في الأوجز 6/235) ، ذكره في "ضياء الساري".(2/240)
3 - (بَابُ (1) التَّلْبِيَةِ (2))
385 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أنَّ تَلْبِيَةَ (3) النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَبَّيْكَ (4) اللَّهم (5) لَبَّيْكَ (6) ، لبَّيك لا شريك لك لبيك، إن
__________
(1) قوله: باب التلبية، قال ابن عبد البر: قال جماعة من العلماء: معنى التلبية إجابة دعوة إبراهيم حين أذّن في الناس بالحجّ، قال الحافظ: هذا أخرجه عبد بن حُميد وابن جرير وابن أبي حاتم في تفاسيرهم بأسانيد قوية عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة وغير واحد، وأقوى ما فيه ما أخرجه أحمد بن مَنيع في "مسنده" وابن أبي حاتم من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس، قال: لما فرغ إبراهيم عليه الصلاة والسلام من بناء البيت قيل له أذِّنْ في الناس بالحج، قال: يا رب وما يبلّغ صوتي؟ قال: أذِّن، وعليّ البلاغ، فنادى إبراهيم: يا أيها الناس كُتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق، فسمعه مَن ما بين السماء والأرض، أفلا تَرَوْنَ الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبّون. ومن طريق ابن جريج عن عطاء عنه، وفيه: فأجابوه في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وأوّل من أجابه أهل اليمن (انظر فتح الباري 3/409. وفيه ابن المنير في الحاشية: وفي مشروعية التلبية تنبيه على إكرام الله تعالى لعباده بأنّ وفوده على بيته إنما كان باستدعاءٍ منه سبحانه وتعالى) .
(2) مصدر لبّى يلبِّي إذا أجاب بلبَّيْك، ومعناه أجبتك إجابةً بعد إجابة، على أن التلبية بحذف الزوائد للتكثير.
(3) أي التي كان يداوم عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا ينقص منها.
(4) اشتقاقه من لبّ بالمكان إذا أقام به ولزمه.
(5) أي يا الله أجبناك في ما دعوتَنا.
(6) قوله: لبيك، قال القاري: كرره للتأكيد أو أحدهما في الدنيا والآخر في(2/241)
الحمدَ (1) وَالنِّعْمَةَ (2) لَكَ وَالْمُلْكَ (3) لا شَرِيكَ لَكَ (4) ، قَالَ (5) : وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِيهَا لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ (6) وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ (7) والرغباء (8)
__________
الأخرى. أو كرره باعتبار الحالين المختلفين من الغنى والفقر والنفع والضرر والخير والشر، أو إشارةً إلى وقوع أحدهما في عالم الأرواح والآخر في عالم الأشباح.
(1) قوله: إنَّ، رُوي بكسر الهمزة، وهو الأكثر والأشهر، وبفتحها على أن "إنّ" للتعليل.
(2) أي المنحة مختصة بكرمك وجُودك. قوله: والنعمة، المشهور فيه النصب، وجوّز القاضي عياض الرفع على الابتداء. والخبر محذوف، قال ابن الأنباري: وإنْ شئتَ جعلتَ خبر إنّ محذوفاً، تقديره إن الحمد لك والنعمة مستقرّةٌ لك، كذا في "ضياء الساري" شرح "صحيح البخاري".
(3) قوله: والملك، بالنصب أيضاً على المشهور، ويجوز الرفع، قال ابن المنير: قرن الحمد والنعمة، وأفرد المُلك، لأن الحمد متعلِّق بالنعمة، ولهذا يقال: الحمد لله على نعمه، والملك مستقل.
(4) كرّره للتأكيد.
(5) أي نافع.
(6) أي مساعدة لطاعتك بعد مساعدة.
(7) في نسخة: بيديك لبيك. قوله: بيديك، أي بتصرفك في الدنيا والأخرى. والاكتفاء بالخير مع أن الخير والشر كلاهما بيديه تأدّباً في نسبة الشر إليه أو لأن كل شر لا يكون خالياً عن خير.
(8) قوله: والرغباء، قال المأزري: يُروى بفتح الراء والمدّ، وبضم الراء مع القصر. قال عياض: وحكى أبو علي فيه أيضاً الفتح مع القصر، ومعناه الطلب والمسألة إلى الله.(2/242)
إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ (1) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، التَّلْبِيَةُ (2) هِيَ التَّلْبِيَةُ الأُولَى الَّتِي رُوي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا زدتَ (3) فحسنٌ (4) ،
__________
(1) أي العمل لك خالصة.
(2) أي المسنونة.
(3) قوله: وما زدت، إشارة إلى أنه لا ينقص من التلبية المذكورة المأثورة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبه صرّح كثير من أصحابنا المتأخرين، وعلَّلوه بأنه لم يُروَ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم النقص منه، لكن يخدشه ما في صحيح البخاري ومسند أبي داود الطيالسي عن عائشة قالت: إني لأعلم كيف كان رسول الله يلبي، لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك.
(4) قوله: فحسن، فيه إشارة إلى أن تحديد التلبية المأثورة ليس بتحديد إلزاميٍّ لا يجوز الزيادة عليه، ولذا ثبت عن جماعة الزيادة، فمنهم ابن عمر كما أخرجه مالك، ومن طريقه الشافعي، وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، ومنهم عمر كما في صحيح مسلم من طريق الزهري عن سالم عن أبيه سمعت رسول الله يُهلّ ملبياً يقول: لبيك، الحديث، قال: وكان عمر يهلّ بهذا، ويزيد: لبيك اللَّهم لبيك وسعديك، والخير في يديك والرغباء إليك والعمل. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق المسور: كانت تلبية عمر فذكر مثل المرفوع وزاد: لبيك مرغوباً ومرهوباً إليك ذا النعماء والفضل الحسن. وأخرج سعيد بن منصور في سننه عن الأسود بن يزيد أنه كان يزيد في التلبية: لبيك غفّارَ الذنوب. بل قد ثبت الزيادة على التلبية المذكورة من النبي صلّى الله عليه وسلّم وتقريره عليها، فأخرج النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة: كان من تلبية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبيك إله الحقّ لبيك. وأخرجه الحافظ ابن حجر العسقلاني في "نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار" وقال: هو حديث صحيح أخرجه ابن خزيمة والحاكم(2/243)
وهو قول (1) أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
4 - (بَابُ مَتَى تُقْطع (2) التَّلْبِيَةُ)
386 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ (3) بْنُ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيُّ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَهُمَا غَادِيَانِ (4) إلى عَرَفَة: كيف كنتم
__________
وابن حبان، وأخرج الحافظ أيضاً عن جابر: أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبيك اللَّهم لبيك. فذكرها، قال: والناس يزيدون لبيك ذا المعارج ونحوه من الكلام والنبي يسمع فلا يردّ عليهم شيئاً، وقال: هذا حديث صحيح أخرجه أبو داود وأصله في مسلم في حديث جابر الطويل.
(1) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال الثَّوْري والأَوْزاعي حكاه الطحاوي وذكر في "فتح الباري" و"ضياء الساري" وغيرهما أنَّ ابن عبد البرّ حكى عن مالك الكراهة وحكى أهل العراق عن الشافعي يعني في القديم نحوه. وغلطوا، بل لا يكره عنده ولا يُستحب، وحكى البيهقي في "المعرفة" عن الشافعي: لا ضيق على أحد في قول ما جاء عن ابن عمر غير أن الاختيار عندي أن يُفرد ما رُوي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن حجر: هذا أعدل الوجوه، واحتجّ من كره بما رُوي عن سعد بن أبي وقّاص أنه سمع رجلاً يقول: لبيك ذا المعارج، فقال: إنه لذو المعارج. ولكنا كنا مع رسول الله لا نقول كذلك أخرجه الطحاوي واختار عدمَ الزيادة وقد مرَّ ما يعارضه من حديث جابر.
(2) أي ينتهي بأن لا يُلبي بعده في الحج والعمرة.
(3) الحجازي، الثقة، وليس له عن أنس ولا غيره سوى هذا الحديث الواحد، ذكره الزرقاني.
(4) أي ذاهبان.(2/244)
تَصْنَعُونَ (1) مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْيَوْمِ؟ قَالَ: كَانَ يُهِلّ (2) المُهِلّ، فَلا يُنْكَرُ عَلَيْهِ (3) وَيُكَبِّرُ (4) الْمُكَبِّرُ فَلا يُنْكَرُ عَلَيْهِ.
378 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كلُّ ذَلِكَ (5) قَدْ رأيتُ الناسَ (6) يَفْعَلُونَهُ، فَأَمَّا نَحْنُ فنكبِّر.
قَالَ مُحَمَّدٌ: بِذَلِكَ (7) نَأْخُذُ عَلَى أَنَّ التَّلْبِيَةَ هِيَ الْوَاجِبَةُ (8) فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلا أَنَّ التَّكْبِيرَ (9) لا يُنكر عَلَى حالٍ مِنَ الْحَالاتِ وَالتَّلْبِيَةِ لا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إِلا في موضعها (10) .
__________
(1) أي من جهة التلبية وغيرها من الأذكار.
(2) أي يلبِّي الملبّي.
(3) وفي رواية موسى بن عقبة: لا يَعيب أحدنا صاحبه. وفي مسلم عن ابن عمر: غدونا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من منى إلى عرفات منّا الملبّي، ومنّا المكبّر.
(4) قوله: ويكبّر المكبّر ... إلى آخره، قال الشيخ وليّ الدين: ظاهر كلام الخطابي أن العلماء أجمعوا على ترك العمل بهذا الحديث، وأن السنّة في الغدوّ من منى إلى عرفات التلبية فقط. وحكى المنذري أن بعض العلماء أخذ بظاهره، لكنه لا يدل على فضل التكبير على التلبية بل على جوازها (قال العيني: التكبير المذكور نوع من الذكر أدخله الملبِّي في خلال التلبية من غير ترك للتلبية لأن المرويّ عن الشارع أنه لم يقطع التلبية حتى رمى جمرة العقبة. انظر: أوجز المسالك 6/273) .
(5) أي ما ذكر من التكبير والتلبية.
(6) أي الصحابة.
(7) أي بما سبق من استحباب التلبية بعرفات.
(8) أي الثابتة.
(9) ونحوه من الأذكار.
(10) أي في محل التلبية وهو الإِحرام.(2/245)
388 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَدَعُ (1) التَّلْبِيَةَ (2) إِذَا انْتَهَى إِلَى الْحَرَمِ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَالصَّفَا (3) وَالْمَرْوَةَ، ثُمَّ يلبِّي حَتَّى يَغْدُوَ (4) مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفة، فَإِذَا غَدَا (5) تَرَكَ التَّلْبِيَةَ (6) .
389 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ: أن عائشة (7)
__________
(1) أي يترك في إحرام الحج.
(2) في نسخة: في الحج التلبية.
(3) أي ويسعى بينهما.
(4) أي يذهب غَداءً.
(5) أي ذهب.
(6) زاد يحيى: وكان يترك التلبية في العمرة إذا دخل الحَرَم.
(7) قوله: أن عائشة....إلى آخره، مالك عن جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أنَّ عَلِيًّا كان يلبّي في الحج حتى إذا زاغت (زالت) الشمس من يوم عرفة قطع التلبية، قال مالك: وذلك (أي فعل عليّ) الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا (المدينة النبوية) . وقاله ابن عمر وعائشة وجماعة (هو قول الأوزاعي والليث. لامع الدراري 5/146) . وقال الجمهور: يلبِّي حتى يرمي جمرة العقبة لما في الصحيحين عن الفضل بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة ثم اختلفوا فقال أصحاب الرأي وسفيان الثوري والشافعي: يقطعها مع أول حصاة لظاهر قوله: حتى بلغ الجمرة، وقال أحمد وإسحاق يلبِّي إلى فراغ رميها لرواية أبي داود حديث الفضل: لبَّى حتى رمى جمرة العقبة، كذا في "شرح الزرقاني".(2/246)
كَانَتْ تَتْرُكُ التَّلْبِيَةَ إِذَا رَاحَتْ إِلَى الْمَوْقِفِ (1) .
390 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَلْقَمَةُ بْنُ أَبِي عَلْقَمَةَ، أَنَّ أُمَّهُ (2) أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَنْزِلُ بِعَرَفَةَ بنَمِرة (3) ، ثُمَّ تحوّلتْ (4) فَنَزَلَتْ فِي الأَرَاكِ (5) ، فَكَانَتْ عَائِشَةُ تُهِلّ (6) مَا كَانَتْ فِي مَنْزِلِهَا (7) وَمَنْ كَانَ مَعَهَا فَإِذَا ركبتْ وتوجّهتْ إِلَى الْمَوْقِفِ (8) تركتْ الإِهلال (9) ، وَكَانَتْ تُقِيمُ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْحَجِّ (10) ، فَإِذَا كَانَ قَبْلَ هِلالِ الْمُحَرَّمِ خَرَجَتْ حَتَّى تَأْتِيَ الجُحْفة (11) ، فَتُقِيمَ بِهَا حَتَّى تَرَى الهلال (12) ،
__________
(1) بعرفة بعد الزوال.
(2) مرجانة مولاة عائشة مقبولة الرواية.
(3) قوله: بنمرة، أي بموضع يقال له نَمِرَة - بفتح النون وكسر الميم - وكان ذلك عملاً بالسنَّة حيث كان عليه السلام يضرب له خيمة بها، فينزل قبل زمان الوقوف فيها.
(4) لأجل دفع المزاحمة.
(5) موضع بعرفة قرب نمرة.
(6) أي تلبِّي بلا رفع صوت.
(7) الموضع الذي نزلت فيه.
(8) بعرفة.
(9) التلبية.
(10) أي بعد فراغها منه.
(11) خروجها إلى الجحفة لفضل الإِحرام من الميقات والإِحرام من التنعيم إنما هو رخصة، والميقات أفضل، قاله أبو عبد الملك.
(12) أي هلال المحرّم.(2/247)
فَإِذَا رَأَتِ الْهِلالَ أَهَلَّتْ (1) بِالْعُمْرَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ أَحْرَمَ (2) بِالْحَجِّ أَوْ قَرَن (3) لَبَّى (4) حَتَّى يرمي
__________
(1) قوله: أهلَّت بالعمرة، أي ليكون عمرتها آفاقية فإنها أفضل من أن تكون مكية لا سيما والعمرة المكية لا تصح عند طائفة.
(2) أي مفرداً.
(3) أي جمع بين الحج والعمرة.
(4) قوله: لبَّى حتى يرمي الجمرة ... إلى آخره، أصله ما ورد في البخاري وغيره من رواية الفضل: لم يزل النبي صلّى الله عليه وسلّم يلبِّي حتى رمى جمرة العقبة.
وروى ابن المنذر قال ابن حجر في "الفتح": إسناده صحيح عن ابن عباس أنه كان يقول: التلبية شعار الحج، فإذا كنت حاجّاً فلبِّ حتى بدء حلِّك، وبدء حلِّك أن ترمي الجمرة. وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" عن عكرمة، قال: وقفت مع الحسين بن علي فكان يلبِّي حتى رمى جمرة العقبة، فقلت: يا أبا عبد الله ما هذا؟ فقال: كان أبي يفعل ذلك وأخبرني أبي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يفعل ذلك، قال: فرحت إلى ابن عباس فأخبرته، فقال: صدق، أخبرني الفضل أخي أن رسول الله لبَّى حتى رمى، وكان رديفَه. ثم أخرج حديث الفضل المذكور بطرق، ثم أخرج أن عبد الله يعني ابن مسعود كان يلبِّي حتى رمي جمرة العقبة ولم يسمع الناس يلبّون عشية عرفة، فقال: أيها الناس أنسيتُم؟ والذي نفسي بيده لقد رأيتُ رسول الله يلبِّي حتى رمى جمرة العقبة. ثم أخرج من طريق آخر عن عبد الرحمن ابن يزيد: حَججتُ مع عبد الله، فلمّا أفاض إلى جمع جعل يلبِّي، فقال رجل أعرابي: هذا؟ فقال عبد الله: أنسي الناس أم ضلّوا؟ ثم أخرج بطريق آخر: أن عبد الله لبّى وهو متوجّه إلى عرفات، فقال أناس: من هذا الأعرابي؟ فقال: أضلّ الناس أم نسُوا؟ واللَّهِ ما زال رسول الله يلبِّي حتى رمي جمرة العقبة إلا أن يخلط(2/248)
الْجَمْرَةَ بِأَوَّلِ (1) حَصَاةٍ رَمَى يَوْمَ النَّحْرِ، فَعِنْدَ ذلك (2) يقطع التلبية.
__________
ذلك بتهليل وتكبير. ثم أخرج عن ابن عباس: كان أسامة بن زيد رِدْف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عرفة إلى المزدلفة. ثم أردف الفضل من مزدلفة إلى منى، فكلاهما قالا: لم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبِّي حتى يرمي جمرة العقبة. ثم أخرج عن عبد الرحمن بن الأسود قال: حججتُ مع الأسود، فلمّا كان يوم عرفة وخطب ابن الزبير بعرفة، فلما لم يسمعه يلبِّي صعد إليه الأسود، فقال: ما يمنعك أن تلبِّي؟ قال: ويلبِّي الرجل إذا كان في مثل مقامي؟ قال الأسود: نعم، سمعتُ عمر بن الخطاب يلبِّي في مثل مقامك، فلبَّى ابن الزبير. ثم قال الطحاوي: ففي هذه الآثار أن عمر كان يلبِّي بعرفة وهو على المنبر وأن عبد الله بن الزبير فعل ذلك، وبعده ابن مسعود.
فثبت بفعل من ذكرنا لموافقتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه لا يقطع التلبية حتى يرمي جمرة العقبة، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. انتهى.
(1) روى البيهقي من حديث الفضل: فلم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبِّي حتى رمي جمرة العقبة وكبَّر مع كل حصاة. قال البيهقي: تكبيره مع أول كل حصاة دليل على قطع التلبية بأول حصاة. انتهى.
(2) قوله: فعند ذلك يقطع التلبية، به قال الشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وأتباعهم إلا أن بعض الشافعية قالوا: يقطعها بعد تمام الرمي، لما روى ابن خزيمة عن الفضل قالت: أفضتُ مع النبي صلّى الله عليه وسلّم من عرفات، فلم يزل يلبِّي حتى رمى جمرة العقبة، فكبّر مع كل حصاة، ثم قطع التلبية مع آخرها حصاة، قال ابن خزيمة: هذا حديث صحيح مفسِّر لما أبهم في الروايات الأخرى، كذا في "فتح الباري" وفيه أيضاً قالت طائفة: يقطعها المحرم إذا دخل الحرم وهو مذهب ابن عمر لكن كان يعاود التلبية إذا خرج من مكة إلى عرفة، وقالت طائفة يقطعها إذا راح إلى الموقف، وهو مروي عن عائشة وسعد بن أبي وقاص وعليّ بأسانيد صحيحة. وبه قال مالك، وقيَّده بزوال الشمس يوم عرفة، وهو قول الأوزاعي والليث. وأشار الطحاوي إلى أنّ كلّ من رُوي عنه ترك التلبية من يوم عرفة محمول(2/249)
وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ لَبَّى حَتَّى يَسْتَلِمَ (1) الرُّكْنَ لِلطَّوَافِ، بِذَلِكَ جَاءَتِ الآثَارُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
5 - (بَابُ رَفْعِ (2) الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ)
391 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا عبد الله بن أبي بكر (3) ، أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ (4) بْنَ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ خَلادَ (5) بْنَ السائب الأنصاري
__________
على أنه تركها للاشتغال بغيرها من الذكر، لا على أنها لا تُشرع، وجمع بذلك بين ما اختلف من الآثار.
(1) قوله: حتى يستلم الركن للطواف، هو المرويّ عن ابن عباس كما أخرجه البيهقي وابن أبي شيبة من طريق عبد الملك بن أبي سليمان: سُئل عطاء متى يقطع المعتمر التلبية؟ فقال: قال ابن عمر: إذا دخل الحرم. وقال ابن عباس: حين يمسح الحجر. واختلفت الرواية فيه عن ابن عمر فقال عطاء: إنه قال: إذا دخل الحَرَم. ويوافقه ما أخرجه مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقطع التلبية في العمرة إذا دخل الحرم، وأخرج أيضاً عن ابن شهاب: كان عبد الله بن عمر لا يلبِّي وهو يطوف بالبيت. ويخالفه ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق ابن سيرين: كان ابن عمر إذا طاف لبّى.
(2) أي للرجال دون النساء، فإن صوتهن عورة إلاَّ أن يكون ضرورة.
(3) ابن محمد بن عمرو بن حزم.
(4) قوله: عبد الملك، هو عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي المدني، ثقة، مات في خلافة هشام. كذا في "تقريب التهذيب".
(5) التابعي الثقة، ووهم من زعم أنه صحابيّ، كذا ذكره الزرقاني.(2/250)
ثُمَّ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ (1) بْنِ الْخَزْرَجِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَاهُ (2) أَخْبَرَهُ (3) ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَأَمَرَنِي (4) أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَوْ مَن معي (5) أن يرفعوا أصواتهم بالإِهلال بالتلبية (6) .
__________
(1) قبيلة من الأنصار.
(2) هو السائب بن خلاد بن سويد المدني، له صحبة، وعمل على اليمن، مات سنة 71 هـ، كذا ذكره الزرقاني.
(3) قوله: أخبره، قال الزرقاني: هذا الحديث رواه أبو داود عن القعنبي، عن مالك به، وتابعه ابن جريج - كما أفاده المِزّي - وسفيان بن عيينة، عن عبد الله بن أبي بكر بنحوه عند الترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم وابن حبان ورجاله ثقات وإن اختلف على التابعي في صحابيه، فقيل أبوه كما ههنا، وقيل زيد بن خالد، وقيل عن خلاد عن أبيه، عن زيد بن خالد، وقال ابن عبد البر: هذا حديث اختُلف في إسناده اختلافاً كبيراً وأرجو أنَّ رواية مالك أصح.
(4) أمر ندب (قال ابن رشد: أوجب أهل الظاهر رفعَ الصوت بالتلبية، وهو مستحب عند الجمهور وأجمع أهل العلم على أن تلبية المرأة فيما حكاه أبو عمر هو أن تُسمع نفسها بالقول. "بداية المجتهد" 1/364) عند الجمهور ووجوب عند الظاهرية.
(5) قوله: أو من معي، قال الزرقاني: بالشك - في رواية يحيى والشافعي وغيرهما - من الراوي إشارةً إلى أن المصطفى قال أحد اللفظين، وتجويز ابن الأثير أن الشك من النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه نوع سهو ولا يعصم عنه ركيك متعسف. وفي رواية القعنبي: ومن معي، قال الولي العراقي: إنه زيادة إيضاح وبيان، ويحتمل أن يريد بأصحابه الملازمين له المقيمين معه في بلده وبمن معه غيرهم ممن قدم يحج معه.
(6) عطف بيان أو المعنى في الإِحرام بها.(2/251)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ (1) أَفْضَلُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
6 - (بَابُ القِرَان (2) بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ)
392 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ (3) بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ الأَسَدِيُّ، أنَّ (4) سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَامَ حجَّةِ (5) الوداعِ كَانَ مِن أَصْحَابِهِ (6) مَنْ أَهَلَّ (7) بحجٍّ،
__________
(1) من إخفاضه. قوله: أفضل، وعليه كان عمل الصحابة فأخرج البخاري عن أنس: صلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة الظهر أربعاً والعصر بذي الحُلَيفة ركعتين، وسمعتهم يصرخون بهما، أي بالحج والعمرة جميعاً. وأخرج ابن أبي شيبة - قال ابن حجر: إسناده صحيح - عن بكر بن عبد الله المزني: كنت مع عبد الله بن عمر فلبّى حتى أسمع ما بين الجبلين. وأخرج أيضاً بإسناد صحيح عن المطلب بن عبد الله قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تثجّ أصواتهم. وفي الباب أخبار كثيرة وآثار شهيرة.
(2) قوله: القران، بكسر أي الجمع بين النُّسُكين في سفر واحد، وهو أفضل عندنا، وقال مالك والشافعي: الإِفراد أفضل، وقال أحمد: التمتُّع أفضل. وسيأتي تفصيله.
(3) هو أبو الأسود، ثقة، علاّمة بالمغازي، مات سنة بضع وثلاثين ومائة، قاله الزرقاني.
(4) أرسله سليمان ووصله أبو الأسود عن عروة، عن عائشة.
(5) سنة عشر من الهجرة.
(6) وهم أكثرهم.
(7) أي أحرم، من الإِهلال وهو رفع الصوت بالتلبية.(2/252)
وَمَنْ (1) أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الحجِّ وَالْعُمْرَةِ، فحلَّ (2) مَنْ كَانَ أهلَّ بِالْعُمْرَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ أهلَّ بِالْحَجِّ أَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَمْ يَحِلُّوا (3) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وبهذا نأخذ، وهو قول أي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ.
393 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، أَنَّ عبد الله بن عمر
__________
(1) قوله: ومن أهلَّ بعمرة، لا يخالف هذا رواية الأسود في الصحيحين عن عائشة: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم لا نرى إلاَّ الحجّ. وللبخاري من وجه آخر عن أبي الأسود عن عروة عنها: مُهِلِّين بالحج ولمسلم عن القاسم، عنها: لا نذكر إلاَّ الحج. وله أيضاً: ملبِّين بالحج، لأنه يُحمل على أنها ذكرت ما كانوا يعهدونه في ترك الاعتمار في أشهر الحج، فخرجوا لا يعرفون إلاَّ الحج، ثم بيَّن لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وجوه الإِحرام، وجوَّز لهم الاعتمار في أشهر الحج، قاله الزرقاني.
(2) قوله: فحلَّ من كان أهلَّ بالعمرة، لمّا طافوا وسعوا وحلقوا أو قصر من لم يسق هدياً بإجماع، ومن ساقه عند مالك والشافعي وجماعة قياساً على من لم يسقه، وقال أبو حنيفة وأحمد وجماعة: لا يحل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر، لما في مسلم عن عائشة مرفوعاً: من أحرم بعمرة ولم يهدِ فليتحلَّل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه، ومن أهلَّ بحج فليتم حجه. وهو ظاهر في ما قالوه، وأُجيب بأن هذه الرواية مختصرة من الرواية الأخرى الآتية في "الموطأ" والصحيحين عن عائشة مرفوعاً: من كان معه هدي فيهلل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً، فهذه مفسرة للمحذوف، ذكره الزرقاني.
(3) أي لم يخرجوا من الإِحرام إلاَّ بعد أن حلقوا بمنى في غير الجماع وبعد أن طافوا، في سائر المحظورات.(2/253)
خَرَجَ (1) فِي الْفِتْنَةِ (2) مُعْتَمِرًا، وَقَالَ (3) : إنْ صُددتُ (4) عَنِ الْبَيْتِ صَنَعْنَا (5) كَمَا صَنَعْنَا (6) مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (7) : قَالَ (8) : فَخَرَجَ (9) فأهلَّ (10) بِالْعُمْرَةِ وَسَارَ، حَتَّى إِذَا ظَهَرَ (11) عَلَى ظهر البيداء التفتَ إلى
__________
(1) من المدينة.
(2) قوله: في الفتنة، حين نزل الحجاج لقتال ابن الزبير كما في الصحيحين من وجه آخر. وذكر أصحاب الأخبار أنه لما مات معاوية بن يزيد بن معاوية ولم يستخلف بقي الناس بلا خليفة شهرين، فأجمعوا، فبايعوا عبد الله بن الزبير، وتمَّ له مُلك الحجاز والعراق وخراسان، وبايع أهل الشام ومصر مروانَ بن الحَكَم فلم
يزل الأمر كذلك حتى مات مروان، وولي ابنه عبد الملك فمنع الناس الحجَّ خوفاً من أن يبايعوا ابن الزبير، ثم بعث جيشاً أمَّر عليه الحجّاج، فقاتل أهل مكة وحاصرهم حتى غلبهم، وقَتَل ابنَ الزبير وصَلَبه، وذلك سنة ثلاث وسبعين، كذا ذكره الزرقاني.
(3) قاله جواباً لقول ولديه عبيد الله وسالم: لا يضرك أن لا تحج العام، إنا نخاف أن يحال بينك وبين البيت كما في الصحيحين.
(4) أي مُنعت عن طوافه.
(5) أي أنا ومن تبعني.
(6) أي نحن الصحابة.
(7) من التحلُّل حيث منعوه من دخول مكة بالحُدَيبية.
(8) نافع.
(9) ابن عمر.
(10) زاد في رواية جويرية: من ذي الحليفة.
(11) أي صعد.(2/254)
أَصْحَابِهِ، وَقَالَ: مَا أَمْرُهُمَا إلاَّ وَاحِدٌ (1) ، أُشْهِدُكم (2) أَنِّي قَدْ أوجبتُ (3) الحجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ، فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا جَاءَ الْبَيْتَ طَافَ بِهِ، وَطَافَ (4) بين الصفا والمروة سبعاً سبعاً (5) لم يَزِدْ (6) عليه،
__________
(1) أي في الصد وعدمه والجمع أفضل فلا وجه لاقتصاري على العمرة المفردة.
(2) قوله: أشهدكم، لم يكتفِ بالنية ليعلم من اقتدى به أنه انتقل نظره للقِران لاستوائهما في حكم الحصر.
(3) أي أدخلتُ عليها، وجمعتُ بينهما.
(4) قوله: طاف به، طوافاً واحداً لقرانه بعد الوقوف بعرفة، وبه قال الأئمة الثلاثة والجمهور، وقال أبو حنيفة والكوفيون: على القارن طوافان وسعيان. وأوَّلوا قوله طوافاً واحداً على أنه طاف لكلٍّ منهما طوافاً يُشبه الطواف الآخر، ولا يخفى ما فيه، ويردُّه قوله: ورأى ذلك مُجزياً - بضم الميم وسكون الجيم وكسر الزاي بلا همز - كافياً عنه، كذا ذكره الزرقاني.
(5) قيد لكلٍّ منهما أو للثاني وأطلقه الأول لظهور أمره.
(6) قوله: لم يزد عليه، أي على الطواف الواحد والسعي الواحد، وفيه حجة للأئمة الثلاثة القائلين بكفاية الطواف الواحد والسعي والواحد للقارن، ويوافقهم حديث البخاري وغيره عن عائشة في بيان من حجَّ مع النبي صلّى الله عليه وسلّم: فطاف الذين كانوا أهلّوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم حلّوا، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى. وأما الذين جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافاً واحداً. وذكر العيني في "شرحه" أنه مذهب عطاء والحسن وطاوس. وقال مجاهد وجابر بن زيد وشُرَيح القاضي والشَّعبي والنَّخَعي والأَوْزاعي وابن أبي ليلى(2/255)
وَرَأَى ذَلِكَ مُجْزياً (1) عَنْهُ وَأَهْدَى.
394 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدثنا صدقة بن يسار المكِّي، قال:
__________
وغيرهم: لا بد للقارن من طوافين وسعيين، وحكى ذلك عن عليّ وعمر والحسن والحسين وابن مسعود: انتهى ملخصاً. وأخرج الطحاوي مستدلاً لمذهب الحنفية عن أبي نصر، قال: أهللتُ بالحجِّ، فأدركتُ عليّاً، فقلت له: إني أهللت بالحج، أفأستطيع أن أضيف إليه عمرة؟ قال: لا، لو كنتَ أهللتَ بالعمرة، ثم أردتَ أن تضمَّ إليها الحج ضممتَه، قلت: كيف أصنع إذا أردتُ ذلك؟ قال: تَصُبُّ عليك إداوة من ماء، ثم تحرم بهما جميعاً، وتطوف لكل واحد منهما طوافاً. وأخرج عن زياد بن مالك، عن علي وعبد الله قالا: القارن يطوف بطوافين ويسعى بسعيَيْن.
(1) قوله: مجزياً عنه، قال في "إرشاد الساري": فيه دليل على أن القارن يجزيه طواف واحد (اعلم أن ما ورد من الروايات من قولهم: طاف لها طوافاً واحداً مؤوَّل إجماعاً، فإنه صلّى الله عليه وسلّم طاف أولاً عن قدومه مكة كما في حديث جابر الطويل وغيره ثم طاف بعد رجوعه من منى يوم النحر مع الاختلاف في الروايات في صلاته صلّى الله عليه وسلّم الظهر: أكانت بمكة أو بمنى؟ كما في حديث جابر المذكور وغيره من عدة روايات. فلا يشك أحد فضلاً عن الأئمة من هذين الطوافين، فلا بد من التأويل لكل واحد فيما ورد من لفظ "طوافاً واحداً" فهم يقولون طاف للفرض طوافاً واحداً والطواف الأول كان للقدوم، ونحن نقول طاف للحِلِّ من الإِحرامين طوافاً واحداً، والطواف الأول كان للعمرة. الكوكب الدري 2/150) . وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور، وقال أبو حنيفة في آخرين: عليه طوافان وسعيان، واستدل لذلك في "فتح القدير" بما رواه النسائي في "سننه الكبرى" عن حماد بن عبد الرحمن الأنصاري، عن إبراهيم بن محمد بن الحنفية قال: طُفت مع أبي وقد جمع الحج والعمرة فطاف لهما طوافين: وسعى سعيين، وحدثني أن عليّاً فعل ذلك، وحدثه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعل ذلك. قال العلامة ابن الهُمام: وحماد هذا وإن ضعَّفه الأزدي فقد ذكره ابن حبان في "الثقات" فلا ينزل حديثه عن درجة الحسن مع أنه رُوي عن علي(2/256)
سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَدَخَلْنَا (1) عَلَيْهِ قبلَ يومِ التَّرْوِيَةِ (2) بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ (3) فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ثائرَ (4) الرَّأْسِ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ (5) إِنِّي ضَفَّرتُ (6) رَأْسِي، وأحرمتُ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ، فَمَاذَا تَرَى (7) ؟ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَوْ كنتُ مَعَكَ حِينَ أحرمتَ لأمرتُكَ (8) أَنْ تُهِلَّ بِهِمَا جَمِيعًا، فَإِذَا قدمتَ (9) طُفْتَ بِالْبَيْتِ (10) وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وكنتَ عَلَى إِحْرَامِكَ، لا تحلَّ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى تحلَّ (11) مِنْهُمَا جَمِيعًا يَوْمَ النَّحْرِ، وتنحَرَ هَدْيك (12) . وقال
__________
بطرق كثيرة مضعَّفة ترتقي إلى الحسن غير أنَّا تركناه واقتصرنا على ما هو الحجة بنفسه بلا ضمّ. انتهى.
(1) أي نحن جماعة من التابعين.
(2) هو الثامن من ذي الحجة.
(3) أي ما يتعلَّق بمناسك الحج.
(4) أي متفرِّق شعر رأسه لفَقْد دهنه وعدم مشطه.
(5) هو كنية ابن عمر.
(6) روي بالتشديد والتخفيف أي جعلته ضفائر، كل ضفيرة على حدة.
(7) أي من الحكم.
(8) لأن القِران أفضل من التمتع وكذا من الإفراد.
(9) أي مكة بعد فرض إحرامك بهما.
(10) أي للعمرة.
(11) بعد أن ترمي الجمرة.
(12) أي للقران.(2/257)
لَهُ (1) ابْنُ عُمَرَ: خُذْ مَا تَطَايَرَ (2) مِنْ شَعْرِكَ، واهْدِ (3) ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ (4) فِي الْبَيْتِ وَمَا هَدْيَه (5) يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: هَدْيُه (6) ثَلاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ (7) هَدْيُهُ، قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ ابْنُ عُمَرَ، حَتَّى إِذَا أَرَدْنَا الْخُرُوجَ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ (8) إِلا شَاةً لَكَانَ أُرى أَنْ أَذْبَحَهَا أحبَّ (9) إليَّ من أن أصوم (10) .
__________
(1) وليحيى: فقال اليماني: قد كان ذلك، فقال ابن عمر: خذ ما تطاير من رأسك واهدِ.
(2) أي ما تفرَّق.
(3) أي اذبح يوم النحر التمتع.
(4) أي من أهل العراق، كما ليحيى.
(5) أي الواجب عليه.
(6) أي ما يُطلق عليه الهدي من بعير أو بقرة أو شاة.
(7) أي في جوابها.
(8) أجمل الهدي أولاً رجاء أنه يأخذ بالأفضل، فلما اضطرَّ إلى الكلام صرح.
(9) قوله: أحب ... إلى آخره، هذا لا يخالف قوله: {فما استيسر من الهدي} بَدَنة أو بقرة إما لأنه رجع عنه أو لأنه قُيِّد بعدم الوجود، فمن وجد البقرة أو البدنة فهو أفضل، قال أبو عمر: وهذا أصح من رواية من روى عن ابن عمر: الصيام أحب إليَّ من الشاة، لأنه معروف من مذهب ابن عمر تفضيل إراقه الدماء في الحج على سائر الأعمال.
(10) أي بدله ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد الرجوع.(2/258)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، الْقِرَانُ (1) أَفْضَلُ، كَمَا قال عبد الله بن
__________
(1) قوله: القران ... إلى آخره، اختلفوا في أيُّها أفضل (أي مع الاتفاق على جواز الكل، قال النووي: اختلف العلماء في هذه الأنواع الثلاثة أيها أفضل، فقال الشافعي ومالك وكثيرون: أفضلها الإِفراد ثم التمتُّع ثم القِران. وقال أحمد وآخرون: أفضلها التمتُّع، وقال أبو حنيفة وآخرون: أفضلها القران. وهذان المذهبان قولان آخران للشافعي. شرح مسلم للنووي 3/301) بحسب اختلافهم فيما فعله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع، فمذهب الشافعية والمالكية أنَّ الإِفراد أفضل بشرط أن يعتمر من عامه لأنه صلى الله عليه وسلم اختاره أولاً، ولأن رواته أخصُّ به صلى الله عليه وسلّم في هذه الحجة فإن منهم جابر، وهو أحسنهم سياقاً لحجه صلى الله عليه وسلم، ومنهم ابن عمر، وقد قال: كنت تحت ناقته يمسني لُعابها أسمعه يلبِّي بالحج، وعائشة وقُربها منه واطِّلاعها على باطن أمره وعلانِيَتِه كله معروف مع فقهها، وابن عباس وهو بالمحل بالمعروف من الفقه والفهم الثاقب، ورجَّحه الخطابي أيضاً بأن الخلفاء الراشدين واظبوا عليه، قال: ولا يُظَنُّ بهم المواظبة على ترك الأفضل، وبأنه لم يُنقل عن أحد منهم أنه كره الإِفراد وقد نقل عنهم كراهة التمتُّع والقران، وبأن الإِفراد لا يجب فيه دم بالإِجماع بخلاف التمتع والقران. انتهى. قال الحافظ: وهذا ينبني على أن دم القران دم جُبران، وقد منعه من رجَّح القران، وقال: إنه دم فضل وثواب كالأضحية، وقال عياض نحو ما قاله الخطابي، وزاد: وقد تضافرت الروايات الصحيحة بأنه صلى الله عليه وسلّم كان مفرداً، وأما رواية من روى أنه كان متمتعاً فمعناه أنه أمر به لأنه صرح بقوله: ولولا أن معي الهدي لأحللتُ، فصحَّ أنه لم يتحلل. وأما رواية من روى القران فهو إخبار عن آخر أحواله لأنه أدخل العمرة على الحج لمَّا جاء إلى الوادي أي وادي العقيق، وقيل له: قل عمرة في حجة. انتهى. قال الحافظ: هذا الجمع هو المعتمد، وقد سبق إليه قديماً ابنُ المنذر وبيَّنه ابن حزم في حجة الوداع بياناً شافياً، ومهَّده المحبُّ الطبري تمهيداً بالغاً يطول ذكره، ومحصّله أنَّ كلَّ من رَوى عنه الإِفراد حمل على ما أَهَلَّ به في أول الحال، وكل من روى(2/259)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
التمتع أراد ما أمر به أصحابه، وكلّ من روى عنه القِران أراد ما استقر عليه أمره، ثم قال الحافظ: يترجَّح رواية من روى القران بأمور، وذكر منها: أنه لم يقل عليه السلام في شيء من الروايات أفردتُ ولا تمتعتُ، وقال: قرنت، وأيضاً فإن من روى القران لا يحتمل حديثَه التأويل إلاَّ بتأمُّل، بخلاف من روى عنه الإفراد، فإنه محمول على أول الحال، ومن روى عنه التمتع فإنه محمول على الإقتصار على سفر واحد للنسكين، وأيضاً فإن رواية القران جاءت عن بضعة عشر صحابياً بأسانيد جياد، بخلاف روايتي الإفراد والتمتع، قال الحافظ: وهذا يقتضي رفع الشك عن ذلك، ومقتضى ذلك أن القران أفضل من الإِفراد والتمتع، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال دالثوري وأبو حنيفة وأسحاق بن راهويه، وإختاره من الشافعية المُزَني وابن المنذر وأبو إسحاق المَرْوزي، ومن المتأخرين تقيّ الدين السُبْكي، وذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن التمتع أفضل لكونه صلى الله عليه وسلَّم تمنَّاه بقوله: لولا أني سقتُ الهدي لأحللت، ولا يتمنى إلا الأفضل وهو قول أحمد في المشهور عنه، وأُجيب عنه بأنه إنما تمناه تطييباً لقلوب أصحابه لحزنهم على فوات موافقته، وإلا فالأفضل ما اختار الله له واستمرَّ عليه، وحكى عياض عن بعض العلماء أن الصور الثلاثة في الفضل سواء، وهو مقتضى تصرُّف إبن خزيمة في صحيحه، وعن أحمد: من ساق الهدي فالقران أفضل له ليوافق فعله عليه السلام، ومن لم يسق الهدي فالتمتع أفضل له ليوافق ما تمنّاه، ض أتباعه: ومن أراد أن يُنشئ لعمرته من بلده سفراً فالإفراد أفضل له، وهذا أعل المذاهب وأشبهها بموافقة الأحاديث الصحيحة، كذا في (فتح الباري) و (ضياء الساري) وغيرهما من شروح صحيح البخاري، ولابن القيم في كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد) كلام نفيس طويل في ترجيح القران بنحو عشرين وجهاً فليُرجع إليه(2/260)
عُمَرَ. فَإِذَا كَانَتِ الْعُمْرَةُ وَقَدْ حَضَرَ الْحَجُّ (1) ، فَطَافَ لَهَا وَسَعَى، فليُقَصِّرْ، ثُمَّ ليُحْرِمْ بِالْحَجِّ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ حَلَقَ وَشَاةٌ تُجْزِئُهُ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
395 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ: أَنَّ مُحَمَّدَ (2) بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَوْفَل بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَدَّثَنَا: أَنَّهُ سَمِع سَعْدَ بْنَ أبي وقّاس وَالضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ عَامَ (3) حَجِّ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَهُمَا يَذْكُرَانِ التمتُّع (4) بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ: لا يَصْنَعُ ذَلِكَ (5) إلاَّ مَنْ جَهِل (6) أمرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: بِئْسَ مَا قلت، قد صنعها (7)
__________
(زاد المعاد 1/177) .
(1) أي أشهره بأن وقع طوافه فيه وأكثره.
(2) الهاشمي المدني مقبول، قاله الزرقاني.
(3) قوله: عام حج، كان أول حجة حجها بعد الخلافة سنة أربع وأربعين، وآخر حجة حجها سنة سبع وخمسين، ذكره ابن جرير. والمراد ههنا الأولى لأن سعداً مات سنة خمس وخمسين على الصحيح، كذا ذكره الزرقاني.
(4) في نسخة: المتعة.
(5) أي التمتّع.
(6) قوله: إلاَّ من جهل أمر الله، أي لأنه تعالى قال: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لله} (سورة البقرة: الآية 196) فأَمْره بالإِتمام يقتضي استمرار الإِحرام إلى فراغ الحج، ومنع التحلل، والمتمتِّع يتحلَّل.
(7) أي المتعة اللغوية، وهي الجمع بين الحج والعمرة، وحُكم القِران(2/261)
رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَنَعْنَاهَا (1) معه.
__________
والمتعة واحد قاله القاري. قوله: قد صنعها، قال الزرقاني: وروى الشيخان واللفظ لمسلم عن أبي موسى: كنت أُفتي الناس بذلك أي بجواز المتعة في إمارة أبي بكر وعمر، فإني لقائم بالموقف إذ جاءني رجل فقال: إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك، فلما قدم قلت: يا أمير المؤمنين، ما أحدثتَ في شأن النسك؟ قال: إنْ تأخذ بكتاب الله، فإن الله قال: {وأتمّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ للَّهِ} وإنْ تأخذ بسنَّة نبيِّنا، فإنه لم يحل حتى نحَر الهدي، ولمسلم: فقال عمر: قد علمتَ أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد فعله وأصحابه، ولكن كرهتُ أن تظلّوا معرِّسين بهنَّ أي النساء بالأراك (أخرجه مسلم في "باب في نسخ التحلُّل من الإِحرام" 2/896.
(معرِّسين بهنَّ في الأراك) الضمير يعود إلى النساء للعلم بهن لم يُذْكَرْن، ومعناه كرهت التمتع لأنه يقتضي التحلل وطاء النساء إلى حين الخروج إلى عرفات. انظر شرح النووي على مسلم 3/360. وقوله في الأراك، هو موضع بعرفة قرب نمرة) ، ثم تروحون في الحج تقطر رؤوسكم (أي من مياه الاغتسال المسبَّبة عن الوقاع بعهد قريب، والجملة حال) فبيَّن عمر العلّة التي لأجلها كره التمتع، وقال المأزري: قيل: المتعة التي نهى عنها عمر فسخ الحج إلى العمرة، وقيل: العمرة في أشهر الحج ثم الحج، قال عياض: والظاهر الأول لأنه كان يضرب الناس عليها - كما في مسلم - بناءً على معتقده أن الفسخ كان خاصّاً بالصحابة في سنة حجة الوداع، وقال النووي: المختار هو الثاني، وهو للتنزيه ترغيباً في الإِفراد ثم انعقد الإِجماع على جواز التمتُّع من غير كراهة.
(1) قوله: وصنعناها معه، قال القاري: أي المتعة اللغوية أو الشرعية إذ تقدَّم أن بعض الصحابة تمتعوا في حجة الوداع، والحاصل أن القران وقع منه صلّى الله عليه وسلّم، والتمتع من بعض أصحابه وليحيى: قال: بئس ما قلتَ يا ابن أخي، فقال: الضحاك: فإن عمر بن الخطاب قد نهى عنها، فقال سعد: قد صنعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(2/262)
قَالَ مُحَمَّدٌ: القِران عِنْدَنَا أَفْضَلُ مِنَ الإِفراد (1) بِالْحَجِّ، وَإِفْرَادُ (2) الْعُمْرَةِ، فَإِذَا قَرَنَ (3) طَافَ بِالْبَيْتِ لِعُمْرَتِهِ (4) وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَطَافَ بِالْبَيْتِ لِحَجَّتِهِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، طَوَافَانِ (5) وَسَعْيَانِ أحبُّ إِلَيْنَا مِنْ طَوَافٍ وَاحِدٍ وَسَعْيٍ وَاحِدٍ، ثَبَتَ ذَلِكَ (6) بِمَا جَاءَ (7) عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ أَمَرَ الْقَارِنَ بِطَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ، وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة وحمه اللَّهُ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
396 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نافع، عن عبد الله بن عمر، أن عمر بن الخطاب قال:
__________
وصنعناها معه. والمعنى أن هذا يكفي في الجواب إنْ كنتَ من أهل التحقيق دون أهل التقليد.
(1) قوله: من الإفراد بالحج، قال القاري: أي مع إتيان عمرة بعده وإلاَّ فمن المعلوم أن العبادتين خير من عبادة واحدة إجماعاً، فالمعنى أن الجمع بينهما بإحرام أفضل من إتيانهما بإحرامين.
(2) قوله: وإفراد العمرة، قالها القاري أي من إفراد العمرة في أشهر الحج وإفراد الحج بعدها فيكون متمتعاً وإلاَّ فالعمرة سُنَّة عندنا، والحج أفضل منهما إجماعاً.
(3) بين النسكين.
(4) أي طواف الفرض لها.
(5) أي للنسكين.
(6) أي التعدُّد.
(7) مرَّ تخريجه.(2/263)
افْصِلُوا (1) بَيْنَ حجِّكم وعُمرتكم، فَإِنَّهُ أَتَمُّ (2) لِحَجِّ أَحَدِكُمْ وَأَتَمُّ لِعُمْرَتِهِ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الحجِّ (3) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْتَمِرُ الرَّجُلُ وَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ ثُمَّ يَحُجَّ (4) وَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي سَفَرَيْنِ أَفْضَلَ مِنَ الْقِرَانِ (5) . وَلَكِنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ مِنَ الْحَجِّ مُفْرَدًا وَالْعُمْرَةُ مِنْ مَكَّةَ، وَمِنَ التَّمَتُّعِ (6) وَالْحَجُّ مِنْ مَكَّةَ، لأَنَّهُ إِذَا قَرَنَ كَانَتْ عُمْرَتُهُ وَحَجَّتُهُ مِنْ بلده (7) وإذا تمتّع كانت حجته (8) مكيّة (9) ،
__________
(1) فَكَرِه (قال شيخنا: والأوجه عندي أن نهي عمر كان عن متعة الفسخ والتمتع المعروف كليهما، والنهي عن الأول كان على التحريم، وهو محمل ما ورد أنه كان يضرب على ذلك. قال عياض: وما كان عمر لينهى عن التمتع، وإنما كان ينهى ويضرب على الفسخ لاعتقاده هو وغيره أنَّ الفسخ خاص بالصحابة. اهـ. والنهي عن الثاني كان بسبيل الاختيار وهو محمل رواية "الموطأ" وما في معناها، ولما حملوه أيضاً على التحريم فعل بنفسه التمتع لبيان الجواز. انظر لامع الدراري 5/157 - 158) عمر التمتُّع لئلا يترفَّه الحاج، وكان من رأيه عدم الترفُّه للحاج بكل طريق.
(2) أي لأنه يكون كل في سفر منفرداً بناءً على أن الأجر بقدر المشقة.
(3) وهي شوال وذو القعدة وتسع ذي الحجة.
(4) أي في سفر آخر.
(5) أي في سفر واحد.
(6) أي من العمرة في أشهر الحج.
(7) حيث أحرم بهما.
(8) وعمرته آفاقية.
(9) في نسخة: من مكة.(2/264)
وَإِذَا أَفْرَدَ بِالْحَجِّ كَانَتْ عُمْرَتُهُ (1) مَكِّيَّةً، فالقِران أفضلُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، والعامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
7 - (بَابُ مَنْ أَهْدَى هَدْيًا وَهُوَ مُقِيمٌ)
397 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ (2) ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ عَمْرة بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَتْهُ أَنَّ ابْنَ زِيَادِ (3) بْنِ أَبِي سُفْيَانَ كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ أنَّ (4) ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: مَن أَهدى هَدْياً (5) حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ على الحاجِّ، وقد بعثتُ (6) بهدي،
__________
(1) أي إن أتى بها، وسفره ينصرف إلى حجه.
(2) أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف وإسماعيل، ومسلم عن يحيى، الثلاثة عن مالك به.
(3) وقع عند مسلم أن ابن زياد وهو وهم، نبَّه عليه الغَسّاني ومن تبعه، كذا في "الفتح". قوله أن: زياد بن أبي سفيان، كذا وقع في "الموطأ" وكان شيخ مالك حدَّث به كذلك في زمن بني أُمية وأما بعدهم فما كان يقال له إلاَّ زياد بن أبيه، وقبل استلحاق معاوية له كان يقال له زياد بن عبيد، وكانت أمه سميَّة مولاة الحارث بن كلدة الثقفي تحت عبيد، فولدت زياداً على فراشه، فلما كان في خلافة معاوية شهد جماعة على إقرار أبي سفيان بأنَّ زياداً ولده، فاستلحقه معاوية لذلك، وزوَّج ابنه بنته، وأمّره على أهل العراقين البصرة والكوفة، ومات في خلافته سنة ثلاث وخمسين، كذا في "فتح الباري".
(4) بفتح الهمزة وكسرها.
(5) أي بهدي كما في نسخة.
(6) إلى الحرم وأنا مقيم غير محرم.(2/265)
فاكْتُبي (1) إليَّ بأمرِك أَوْ مُري صاحبَ (2) الْهَدْيِ، قَالَتْ عَمْرة: قَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ (3) كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَا فَتَلْتُ (4) قلائدَ هَدْي رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي (5) ثُمَّ قَلَّدها رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، وَبَعَثَ بِهَا (6) مَعَ أَبِي (7) ، ثُمَّ لَمْ يَحْرُم (8)
__________
(1) حتى أعلم أني كيف أعمل.
(2) أي الذي أريد أن أرسله ليخبرني، فأو: للتنويع بين الكتابة وبين الرواية.
(3) قوله: ليس كما قال ابن عباس، قال الحافظ تبعاً للكرماني: حاصل اعتراض عائشة على ابن عباس أنه ذهب إلى ما أفتى به قياساً للتوكيل في أمر الهدي على المباشرة له، فبيَّنْت عائشة أن هذا القياس لا اعتبار له في مقابلة هذه السُّنَّة الظاهرة.
(4) أي من العهن وهو الصوف كما في رواية. قوله: أنا فتلت، قال ابن المنيِّر: يحتمل أن يكون قولها ذلك بياناً لحفظها الأمر ومعرفتها به، ويحتمل أن تكون أرادت أنه صلّى الله عليه وسلّم تناول ذلك بنفسه، وعلم وقت التقليد، ومع ذلك فلم يمتنع من شيء يمتنع منه المحرم لئلا يعلم أحد أنه استباح ذلك قبل أن يعلم بتقليد الهدي. انتهى. وقال ابن التين: أرادت بذلك علمَها بجميع القصة، ويحتمل أن تريد أنه آخر فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه حج في العام الذي يليه حجة الوداع لئلا يظن ظانٌّ أنَّ ذلك كان في أول الإِسلام، ثم نُسخ، فأرادت إزالة هذا اللَّبْس.
(5) يحتمل الإِفراد والتثنية.
(6) أي بالهدايا.
(7) أي أبي بكر حين حجَّ في السنة التاسعة أمير الحاجّ وأتبعه بعليّ.
(8) وفي رواية مسلم: فأصبح فينا حلالاً يأتي ما يأتي به الحلال من أهله.(2/266)
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ شَيْءٌ (1) كَانَ أحلَّه اللَّهُ حَتَّى نَحَرَ (2) الْهَدْيَ (3) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ عَلَى الَّذِي يَتَوَجَّهُ مَعَ هَدْيه يُرِيدُ مَكَّةَ (4) وَقَدْ سَاقَ (5) بَدَنةً وقلَّدها (6) ، فَهَذَا يَكُونُ مُحْرِمًا حِينَ يَتَوَجَّهُ مَعَ بَدَنَتِهِ المقلَّدة بِمَا أَرَادَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمرة. فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُقِيمًا فِي أَهْلِهِ لَمْ يَكُنْ مُحرماً وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ شَيْءٌ (7) حلَّ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ (8) أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
__________
(1) أي من محظورات الإِحرام.
(2) قوله: حتى نحر، أي أبو بكر وفي بعض النسخ بلفظ المجهول، فإن قلتَ: عدم الحرمة ليس مُغَيّاً إلى النحر إذ هو باقٍ بعده فلا مخالفة بين حكم ما بعد الغاية وما قبلها، قلتُ: هو غاية للتحريم لا لـ"لم يحرم" أي الحرمة المنتهية إلى التحريم لم تكن وذلك لأنه ردّ لكلام ابن عباس؟ وهو كان مثبتاً للحرمة إلى النحر، كذا في "الكوكب الدراري شرح صحيح البخاري" للكرماني.
(3) قوله: حتى نحر الهدي، أي: وانقضى أمره ولم يحرم أفترك إحرامه بعد ذلك أولى، لأنه إذا انتفى في وقت الشبهة فلأن ينتفي عند انتفاء الشبهة أوْلى.
(4) بقصد أحد النُّسُكين.
(5) أي أرسلها قُدّامه، ومشى وراءها.
(6) أي والحال أنه قلّدها وهذا قيدُ كمال.
(7) أي بسبب بعثه هدياً.
(8) قوله: وهو قول أبي حنيفة، بهذا يُرَدُّ على الخطابيّ حيث نقل عن أصحابنا مثل قول ابن عباس، وقد ردَّه الحافظ ابن حجر بأنه خطأ وافتراء عليهم، فالطحاويّ أعلم بهم منه، وقد حكى أنَّ مذهبهم أنَّ من ساق الهدي وقصد البيت وقلَّد وجب عليه الإِحرام، وحكى ابن المنذر عن جماعةٍ منهم أحمد والثوريّ(2/267)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وإسحاق أن من أراد النسك صار بمجرَّد تقليده الهدي محرماً. وأما قول ابن عباس فقد خالفه ابن مسعود وعائشة وأنس وابن الزبير وغيرهم، بل جاء عن الزهري ما يدل على أن الأمر استقرَّ على خلاف ما قاله، ففي نسخة أبي اليمان عن شعيب عنه، وأخرجه البيهقي من طريقه عنه قال: أول من كشف العَمْي (في الأصل: الغمي وهو تحريف كما في عمدة القاري 4/714، والسنن الكبرى للبيهقي 5/234) عن الناس وبيَّن لهم السُّنَّة في ذلك عائشة ... فذكر الحديث عن عروة وعَمْرة عنها، وقال: لمّا بلغ الناسَ قولُ عائشة أخذوا به وتركوا فتوى ابن عباس. انتهى. وفيه دلالة على أن قوله كان مهجوراً، ومن ثَم لم يأخذ أحد من أئمة الأمصار المعروفين به، بل قال ابن التين: خالف ابن عباس جميع الفقهاء في هذا، ولعله رجع عنه لمّا بلغه حديث عائشة، وتعقَّبه ابن حجر (انظر فتح الباري 3/546) وغيره بأنَّ ابن عباس لم ينفرد بما قاله، بل وافقه جماعة من الصحابة، منهم ابن عمر ورواه ابن أبي شيبة وابن المنذر بسنَديْهما إلى نافع عنه بلفظ: كان إذا بعث بالهدي يمسك عمّا يمسك عنه المحرم، إلاَّ أنه لا يلبّي. وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن عباس وابن عمر قالا: من قلَّد أحرم، ومنهم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري صاحب لواء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخرجه عنه سعيد بن منصور، ومنهم عمر وعلي فإنهما قالا في الرجل يرسل بَدَنَتَه أنه يُمسك عما يُمسك عنه المحرم، رواه ابن أبي شيبة، وحكى ابن المنذر هذا المذهب عن النخعي وعطاء وابن سيرين وآخرين، وأخرج ابن أبي شيبة مثله عن سعيد بن جبير، ويوافقهم من المرفوع حديث جابر قال: بينا النبي صلّى الله عليه وسلّم جالس مع أصحابه إذ شق قميصه حتى خرج منه. وقال: إني أَمرتُ ببُدْني التي بعثت بها أن تُقلَّد اليوم، وتُشعر على مكان كذا، فلبست قميصي ونسيت، أخرجه عبد الرزاق والبزار والطحاوي، وفي سنده عبد الرحمن بن عطاء ضعيف، قال ابن عبد البر: لا يُحتَجّ(2/268)
8 - (باب تقليد البُدْن (1) وإشعارهم)
398 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَهْدَى هَدْيًا مِنَ الْمَدِينَةِ قَلَّدَهُ (2) وَأَشْعَرَهُ (3) بِذِي الحُلَيفة، يقلِّده قَبْلَ أَنْ يُشْعِرُهُ، وَذَلِكَ (4) فِي مَكَانٍ واحدٍ وهو موجِّهُهُ (5) إلى القِبْلة، يقلِّده (6) بنعلين،
__________
بما انفرد به، فكيف إذا خالفه من هو أثبت منه؟ انتهى، ويُحتمل أن يكون سابقاً وحديث عائشة له ناسخاً كذا في "فتح الباري" و"نصب الراية" وغيرهما (ههنا مسألتان طالما تشتبه إحداهما بالأخرى حتى وقع الاشبتاه فيهما للخطابيّ ونحوه من المحقِّقين، أولاهما: حكم من بعث بهديه وهو مقيم في بلدته لا يريد النسك، فقد كان فيه خلاف في السلف، لكن انقضى بعد ذلك، واستقر الأمر على أن مجرِّد بعث الهدي لا يُوجب إحراماً، والثانية: من ساق الهدْي وأراد النسك أيضاً وهي مختلفة بين الأئمة، قال في "الفتح": ذهب جماعة من فقهاء الفتوى إلى أنَّ من أراد النسك صار بمجرد تقليده الهدي محرماً، حكاه ابن المنذر عن الثوري وأحمد وإسحاق، قال: وقال أصحاب الرأي: من ساق الهدي وأمّ البيت ثم قلَّد وجب عليه الإحرام، وقال الجمهور: لا يصير بتقليد الهدي محرماً ولا يجب عليه شيء. اهـ. انظر أوجز المسالك 6/285) .
(1) بضم فسكون جمع بَدَنَة بفتحتين وهي الإِبل والبقر عندنا.
(2) أي بنعل، أو لحاء شجرة.
(3) أي أدماه في سنامه ليكون إشعاراً بأنه من شعائر الله فلا يتعرَّض له أحد.
قوله: وأشعره بذي الحليفة، لأنه كان من أتبع الناس للمصطفى، وفي الصحيحين: أنه صلّى الله عليه وسلّم قلَّد الهدي وأشعره بذي الحليفة.
(4) أي ما ذُكر من التقليد والإِشعار.
(5) أي جاعل وجه هديه في حالَتَيْ التقليد والإِشعار.
(6) بيان لما أجمله أولاً.(2/269)
ويُشعره (1) مِنْ شِقّه (2) الأَيْسَرِ، ثُمَّ يُساق مَعَهُ (3) حَتَّى يُوقَف بِهِ مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ، ثُمَّ يُدفَع بِهِ مَعَهُمْ إِذَا دَفَعُوا (4) ، فَإِذَا قَدِم مِنَى مِنْ غَدَاةِ يَوْمِ النَّحْرِ نَحَرَه قَبْلَ (5) أنْ يَحْلِقَ أَوْ يقصِّر، وَكَانَ يَنْحَرُ هَدْيَهُ بيده (6)
__________
(1) من الإِشعار: شقّ سنام الهدي.
(2) أي الجانب. قوله: من شقِّه الأيسر، فيه أنه أشعرها من الجانب الأيسر وأخرجه البيهقي من طريق أخرى عن نافع عن ابن عمر أنه كان يُشعر بُدْنَه من الشقّ الأيسر إلا أن تكون صعاباً مُقَرَّنة، فإذا لم يستطع أن يَدْخل بينها أشعر من الشقّ الأيمن، وإذا أراد أنْ يُشعرها وجهها إلى القبلة، وفي صحيح البخاري: أنه أشعرها من شِقِّها الأيمن، قال الحافظ: تبين بهذا أن ابن عمر كان يطعن في الأيمن تارة، وفي الأيسر أخرى، بحسب ما يتهيأ له، وإلى الإِشعار في الجانب الأيمن ذهب الشافعي وصاحبا أبي حنيفة وأحمد في رواية، وإلى الأيسر ذهب مالك وأحمد في رواية (ثم اختلفوا في النَّعَم التي تُشعر، فقال الشافعي وأحمد: تُشعر الإِبل والبقر مطلقاً، وعند مالك في الإِبل قولان: المرجَّح منهما الإِشعار مطلقاً، والثاني: التقييد بذات السِّنام، وفي البقر ثلاثة أقوال: الإِثبات والنفي مطلقاً والثالث الراجح عندهم التقييد بذات السِّنام وعندنا - الحنفية - تشعر الإِبل لا البقر، وأما الغنم فلا إشعار فيها إجماعاً. والبسط في "الأوجز" 7/195، و"الكوكب الدرّي" 2/131) ، كذا في "ضياء الساري".
(3) أي مع ابن عمر.
(4) أي إذا أفاضوا ورجعوا.
(5) لقوله تعالى: {ولا تَحْلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهَدْيُ مَحِلَّه} (سورة البقرة: الآية 196) .
(6) قوله: بيده، لأنه المستحب وقد نحر النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع ثلاثاً وستين بدنة بيده بعدد سنيّ عمره، وأمر عليّاً بنحر بقية البُدْن وكان كلُّها مائة.(2/270)
يصفُّهُنّ (1) قِيَامًا، ويوجِّهُّنّ (2) إِلَى القِبْلة ثُمَّ يَأْكُلُ (3) ويُطعم.
399 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا وَخَزَ (4) فِي سِنام بَدَنَتَه وَهُوَ يُشعرها، قَالَ (5) : بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ.
400 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أنَّ ابنَ عُمَرَ كَانَ (6) يُشْعِرُ بَدَنَتَه فِي الشِّقِّ الأَيْسَرِ إِلا أَنْ تَكُونَ صِعَاباً (7) مقرَّنة (8) ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَدْخل بَيْنَهَا (9) أَشْعَرَ مِنَ الشِّقِّ الأَيْمَنِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُشعرها وَجَّهَهَا إلى القِبْلة، قال: فإذا (10) أشعرها قال:
__________
(1) لقوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عليها صوافّ} (سورة الحجّ: الآية 36) .
(2) قوله: ويوجِّهنَّ، أي يجعل الهدايا عند نحرهن إلى جهة الكعبة.
(3) لقوله تعالى: {فكلوا منها وأطعموا} (سورة الحجّ: الآية 28) .
(4) قوله: إذا وخز، بالخاء والزاء المعجمتين أي طعن طعنةً غير نافذة برمح أو إبرة أو غير ذلك.
(5) امتثالاً لقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ على ما هدَاكُمْ} (سورة البقرة: الآية 185) .
(6) أي في الأكثر.
(7) بكسر الصاد أي متصعِّبة.
(8) بتشديد الراء أي مقرونة بعضها ببعض مقرَّبة.
(9) أي البُدْن.
(10) وفي نسخة: وإذا.(2/271)
بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. وَكَانَ (1) يُشعرها بِيَدِهِ (2) وينحرها بيده قياماً.
__________
(1) قوله: وكان يشعرها ... إلى آخره، بذلك قال الجمهور من السَّلَف والخلف، وذكر الطحاوي في "اختلاف العلماء" كراهته عن أبي حنيفة، وذهب غيره إلى استحبابه حتى صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا: هو حسن، قال: وقال مالك: يختصّ الإِشعار بمن لها سنام، قال في "الفتح": وأبعد من منع من الإِشعار، واعتلّ باحتمال أنه كان مشروعا قبل النهي عن المثلة فإن النسخ لا يصار إليه بالإحتمال بل وقع الإِشعار في حجّة الوداع، وذلك بعد النهي عن المُثلة بزمان. وقال الخطّابي وغيره: اعتلال من كره الإِشعار بأنه المُثلة مردود، بل هو من باب الكيّ وشق الأذن ليصير علامة، قال: وقد كثر تشنيع المتقدِّمين على أبي حنيفة في إطلاقة كراهة الإِشعار، وانتصر له الطحاوي بأنه لم يَكره أصل الإِشعار، وإنما كره ما يُفعل على وجهٍ يُخالف منه هلاك البُدن كسراية الجرح لا سيما مع الطعن بالشَّفْرة، فأراد سدّ الباب عن العامّة لأنهم لا يُراعون الحدّ في ذلك، وأما من كان عارفاً بالسنّة في ذلك فلا، في هذا تعقُّبٌ على الخطّابي حيث قال: لا أعلم أحداً كره الإِشعار إلا أبا حنيفة وخالفه صاحباه. انتهى.
وذكر الترمذي قال: سمعت أبا السائب يقول: كنا عند وكيع فقال له رجل: رُوي عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإِشعار مُثلة. فقال له وكيع: أقول لك رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم وتقول: قال إبراهيم، ما أحقك بأن تُحبس. انتهى. وفيه تعقُّب على ابن حزم في زعمه أنه ليس لأبي حنيفة في ذلك سلف، قال الحافظ: وقد بالغ ابن حزم في هذا الموضع ويتعيَّن الرجوع إلى ما قال الطحاويّ فإنه أعلم من غيره بأقوال أصحابه، قال: واتفق من قال بالإِشعار بإلحاق البقر في ذلك بالإِبل إلا سعيد بن جبير، واتفقوا على أن الغنم لا تُشْعَر، كذا في "الضياء".
(2) لأن الأعمال الحسنة أَوْلَى أن تكون بلا واسطة إن أمكن وقوعها.(2/272)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (1) ، التَّقْلِيدُ أَفْضَلُ مِنَ الإِشعار، والإِشعار حَسَنٌ (2) ، والإِشعار (3) مِنَ الْجَانِبِ الأَيْسَرِ، إِلا أَنْ تَكُونَ صِعَاباً مُقَرَّنة لا يَسْتَطِيعُ (4) أَنْ يَدْخُلَ بَيْنَهَا فليُشعرها مِنَ الْجَانِبِ الأَيْسَرِ و (5) الأيمن.
9 - (بَابُ مَنْ (6) تطيَّب قَبْلَ أَنْ يُحرم)
401 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بن
__________
(1) قوله: وبهذا نأخذ، لم يذكر ههنا موافقة قول أبي حنيفة لأن عنده الإِشعار مكروه، نصَّ عليه في "الجامع الصغير" وحمله الطحاوي على أنه كَره المبالغَة (أو هو ردع للعوّام إبقاء على الهدايا وخوفاً عما يؤول الأمر إليه من المبالغة فيه والوقوع في المنهيّ عنه طلباً لما هو ندب فحسب "الكوكب الدرّي" 2/131) فيه بحيث يؤدِّي إلى السراية. وهو محمل حسن. ولولاه لكان قوله مخالفاً للثابت بالأحاديث الصحيحة الصريحة صريحاً. وللقوم في توجيه ما رُوي عنه كلمات قد فزعنا من دفعها في تعليقاتي على "الهداية" فلا نضيع الوقت بذكرها.
(2) أي مستحب عند الجمهور.
(3) أي الأحسن.
(4) أي صاحبها.
(5) الواو بمعنى أو.
(6) قوله: باب من تطيّب قبل أن يحرم، اختلفوا فيه فذهب الأئمة الثلاثة والجمهور إلى استحباب التطيّب عند إرادة الإحرام، وأنه لا يضرّ بقاءُ لونه ورائحته وإنما يحرم ابتداؤه للمحرم، وقال مالك والزهري وجماعة من الصحابة والتابعين: لا يُمنع من التطيب بطيبٍ يبقى له رائحة بعده، كذا في الزرقاني وغيره. واحتج(2/273)
الْخَطَّابِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَجَدَ ريحَ طيبٍ وَهُوَ بِالشَّجَرَةِ (1) ، فَقَالَ: مِمَّنْ ريحُ هَذَا الطِّيبِ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ (2) بْنُ أَبِي سُفْيَانَ: مِنِّي
__________
الجمهور بحديث عائشة كنتُ أطيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإِحرامه قَبْلَ أَنْ يُحرم، ولحِلَّه قَبْلَ أن يطوف بالبيت. وسيأتي في "باب ما يَحْرُم على الحاجّ بعد رمي جمرة العقبة" وفي رواية للشيخين كأني أنظر إلى وبيص الطِّيب في مَفْرِق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو محرم وفي لفظ لمسلم: كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبِّي. وفي رواية لهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يُحرم يتطيب بأطيب ما يجد، ثم أرى وبيص الطيب في رأسه ولحيته بعد ذلك. وأخرجا عن محمد بن المنتشر قال: سألتُ ابنَ عمر عن رجل يطيب ثم يصبح محرماً، فقال: ما أحبّ أن أصبح محرماً أنضح طيباً، لأن أُطلى بقَطِران أحبّ إليّ من أن أفعل ذلك، فدخلتُ على عائشة فأخبرتها بقوله فقالت: إنما طيَّبْتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فطاف في نسائه، ثم أصبح محرماً. وفي لفظ لهما: كنت أطيّب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيطوف على نسائه، ثم يصبح مُحرماً ينضح طيباً. كذا ذكره الزيلعي وغيره. وأجاب عنه المالكية ومن قال بقولهم بوجوه كلها مردودة، منها أنه صلّى الله عليه وسلّم اغتسل بعد ما تطيّب لقولها في رواية: ثم طاف على نسائه، فإن المراد بالطواف الجماع وكان من عادته أن يغتسل عند كل أحد، ورُدّ لأنه ليس فيه أنه أصابهن، وكان عليه السلام كثيراً ما يطوف على نسائه من غير إصابة كما في حديث عائشة: قلّ يوم إلا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطوف علينا، فيقبِّل ويلمس دون الوقاع، فإذا جاء إلى التي هو يومها يبيت عندها. ولو سُلِّم أنه اغتسل فقولها في رواية: ثم أصبح محرماً ينضح طيباً صريح في بقاء الرائحة، وبه يُردّ على من قال إن ذلك الطيب كان لا رائحة له تمسُّكاً برواية النسائي: بطيبٍ لا يشبه طيبكم. ومنها أن ذلك من خصائصه، ورُدّ بأنها لا تثبت بالقياس، كذا في "شروح صحيح البخاري".
(1) سمرة بذي الحُلَيفة على ستة أميال من المدينة.
(2) قوله: معاوية بن أبي سفيان، هو معاوية بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، أسلم هو وأبوه وأخوه يزيد وأمه هند بنتُ(2/274)
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (1) قَالَ: مِنْكَ (2) لَعَمْري (3) ، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ (4) طَيَّبَتْني. قَالَ (5) : عزمتُ (6) عَلَيْكَ لَتَرْجَعَنَّ فَلَتَغْسِلَنَّه.
402 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا (7) الصَّلْت بن زُبَيد، عن غير
__________
عُتْبة بن ربيعة بن عبد شمس يومَ الفتح، وكان هو من المؤلَّفة قلوبُهم، فحسن إسلامه، وكتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولما مات يزيدُ أخوه استخلفه على عمله بالشام، فلمّا ولي عثمان جمع له الشام جميعه، ولم يزل كذلك إلى أن قُتل عثمان، فانفرد بالشام، ولم يبايع عليّاً. وكان وقعة صِفِّين بينه وبين عليّ، وقد استقصى ذلك في "الكامل في التاريخ". ولما قُتل عليّ سَلّم الحسن الأمر إلى معاوية فسلّم الأمر إليه، وتوفّي في النصف من رجب سنة ستين، كذا في "أُسْد الغابة في معرفة الصحابة" لابن الأثير الجزري.
(1) زاد عبد الرزاق: فتغيَّظ عليه عمر.
(2) لأنك تحب الرفاهية، وكان عمر يسميه كسرى العرب.
(3) بفتح العين أي لقسمي بعَمري.
(4) قوله: أم حبيبة، زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم بنت أبي سفيان، اسمها رملة، لا خلاف في ذلك إلاَّ عند من شذّ، توفيت سنة أربع وأربعين، كذا في "الإِسعاف".
(5) قوله: قال، وفي رواية عبد الرزاق أقسمتُ عليك لترجعن إلى أم حبيبة فلتغسلنّه عنك كما طيَّبتْكَ، وزاد في رواية أيوب عن نافع عن أسلم: فرجع معاوية إليها حتى لحقهم ببعض الطريق.
(6) أي أقسمت عليك.
(7) قوله: أخبرنا الصلت بن زبيد، هكذا وُجد في نسخ هذا الكتاب بالباء الموحدة وكذا ضبطه القاري أنه بضمّ الزاء وبفتح الموحدة، لكن الذي في "مُوطأ(2/275)
وَاحِدٍ (1) مِنْ أَهْلِهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَجَدَ ريحَ طيبٍ وَهُوَ بِالشَّجَرَةِ وَإِلَى جَنْبِهِ كَثير (2) بْنُ الصَّلْتِ، فَقَالَ: مِمَّنْ ريحُ هَذَا الطِّيبِ؟ قَالَ كَثِيرٌ: مِنِّي، لبَّدتُ (3) رَأْسِي وَأَرَدْتُ أَنْ أَحْلِقَ (4) ، قَالَ عُمَرُ: فَاذْهَبْ إِلَى شَرَبَة (5) ، فادلكْ مِنْهَا رَأْسَكَ حَتَّى تنقِّيَه (6) . فَفَعَلَ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا أرى (7) أن يتطيّب المحرم حين
__________
يحيى": الصلت بن زييد بيائين، وقال الزرقاني في "شرحه": الصلت بن زييد بضم الزاء وتحتيتين تصغير زيد الكندي، وثّقه العجلي وغيره، وكفى برواية مالك عنه. انتهى. وكذا ضبطه ابن الأثير في "جامع الأصول"، وضبط الصَّلْت بالفتح ثم السكون.
(1) أي عن جمع كثير من أقاربه.
(2) الكندي المدني التابعي الكبير، وُلد في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووهم عن عدّه من الصحابة، كذا قال الزرقاني.
(3) أي جعلت فيه شيئاً كالصمغ ليجتمع شعره لئلا يتفرّق في الإِحرام (التلبيد مندوب عند الشافعية. ولم يذكر الجمهور التلبيد في مندوبات الإِحرام. أوجز المسالك 6/209) .
(4) أي بعد فراغ نسكي.
(5) بالتحريك حويض حول النخلة، كذا في القاموس، أو قال مالك: الشربة: حفيرة تكون عند أصل الشجرة ذكره يحيى في "موطأه".
(6) من الإِنقاء والتنقية: أي حتى تنظِّفَه من طيبك.
(7) قوله: لا أرى..إلى آخره، هذا موافق لما اختاره جماعة من الصحابة، منهم عمر حيث أنكر على معاوية وكثير بن الصلت نضح الطيب حال الإِحرام، وأنكر أيضاً على البراء بن عازب كما أخرجه ابن أبي شيبة عن بشير بن(2/276)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
يسار: لما أحرموا وجد عمر ريحَ طيبٍ: فقال: ممن هذه الريح؟ فقال البراء: منّي يا أمير المؤمنين، فقال عمر: قد علمنا أن امرأتك عطرة أو عطارة، إنما الحاج الأدفر (الدفر: النتن. مجمع بحار الأنوار 1/186) الأغبر. ومنهم عثمان كما أخرجه الطحاوي عن سعد بن إبراهيم عن أبيه: كنت مع عثمان بذي الحُلَيفة فرأى رجلاً يريد أن يُحرم وقد دهن رأسه فأمر به فغسل رأسه بالطين. ومنهم ابن عمر كما مرّ ذكره. ويوافقهم من المرفوع ما أخرجا عن يعلى بن أمية، قال: أتى النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم رجلٌ متضمِّخ بطيبٍ وعليه جُبّة، فقال: كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جُبّة بعد ما تضمخ بطيب؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجُبّة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك. وفي لفظ لهما: وهو متضمخ بالخَلوق، فقال له: اغسل عنك الصفرة. وفي لفظ للبخاري: واغسل عنك أثر الخلوق وأثر الصفرة. وأجاب الجمهور عنه بجوابين، أحدهما: أنَّ طيبه كان من زعفران، وقد نهي عن التزعفُر، يدل عليه رواية مسلم: وهو مصفِّر لحيته ورأسه، كذا ذكره المنذري. وأخرج الطحاوي أولاً عن يعلى بن أمية: أن رجلاً أتى النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم بالجعرانة وعليه جُبّة وهو معصفرٌ لحيته ورأسه ... الحديث، ثم قال: لا حُجّة فيه وذلك أن التطيّب الذي كان على ذلك الرجل إنما كان صفرة وهو خلوق وذلك مكروه للرجال لا للإِحرام، ولكنه مكروه في نفسه في حال الإِحلال والإِحرام. ثم أيّده بما أخرج من طريق آخر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى رجلاً لبَّى بعمرة، وعليه جُبّة، وشيْء من خَلوق فأمره أن ينزع الجبة ويمسح الخلوق. ومن طريق آخر: أن رجلاً جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله إني أحرمتُ وعليّ جُبّتي هذه وعلى جبته خلوق والناس يسخرون مني، فقال: اخلع عنك هذه الجبة واغسل عنك هذا الزعفران. ثم أخرج أحاديث النهي عن التزعفر والخلوق، ثم قال: فإنما أمر الرجل الذي أمر بغسل طيبه الذي كان عليه في حديث يعلى لأنه لم يكن من طيب الرجال، وليس في ذلك دليل على(2/277)
يُرِيدُ الإِحرام إِلا أَنْ يَتَطَيَّبَ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ (1) كَانَ لا يرى به بأساً.
10 - (باب من ساق هَدْياً فعَطِبَ (2) في الطريق أو نَذَرَ بَدَنَة)
403 - أخبرنا مالك، حدَّثنا ابن شهاب، عن سعيد بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ سَاقَ بَدَنة تطوُّعاً، ثم عَطِبَت (3) فنحرها
__________
حكم من أراد الإِحرام: هل له أن يتطيب بطيب يبقى عليه بعد الإِحرام أم لا؟ انتهى، وثانيهما: ما نقل الحازمي في "كتاب الناسخ والمنسوخ" عن الشافعي أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسل الطيب منسوخ لأنه كان في عام الجعرانة وهو سنة ثمان، وحديث عائشة أنها طيَّبتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم ناسخ له لأنه في حجة الوداع. انتهى.
(1) قوله: فإنه كان لا يرى به بأساً، بل كان يقول باستحبابه أخذاً من حديث عائشة وبه قال أكثر الصحابة، قاله المنذري. وأخرج سعيد بن منصور عن عائشة قالت: طيّبْتُ أبي بالمسك لإِحرامه حين أحرم. وأخرج الطحاوي عن عبد الرحمن قال: تطيَّبْتُ حاجّاً فرافقني عثمان بن العاص، فلما كان عند الإِحرام قال: اغسلوا رؤوسكم بهذا الخِطمي الأبيض فوقع في نفسي من ذلك شيء، فقدمت مكة فسألتُ ابن عمر وابن عباس، فابن عمر قال: ما أحسنه، وابن عباس قال: أما أنا فأضمّخ به رأسي. وأخرج عن عائشة بنت سعد قالت: كنت أشبع رأس سعد بن أبي وقاص لحرمه بالطيب. وأخرج عن عبد الله بن الزبير: أنه كان يتطيّب بالغالية الجيدة عند الإِحرام. وأخرج أبو داود وابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنّا نضمّخ وجوهنا بالمسك المطيّب قبل أن نحرم ثم نُحرم فنعرق فيسيل على وجوهنا ونحن مع رسول الله فلا ينهانا.
(2) كفرح: هلك، كذا في "المصباح".
(3) أي قَرُب هلاكها.(2/278)
فلْيَجْعَلْ قِلادتَها (1) ونعلَها فِي دَمِهَا (2) ، ثُمَّ يتركْها لِلنَّاسِ يَأْكُلُونَهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فإنْ هُوَ أَكَلَ مِنْهَا أَوْ أَمَرَ بِأَكْلِهَا فَعَلَيْهِ الغُرْم (3) .
404 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أنَّ (4) صَاحِبَ (5) هَدْي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: كَيْفَ نَصْنَعُ بِمَا عَطِب (6) مِنَ الْهَدْيِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْحَرْها وأَلْقِ (7) قِلادَتَها (8)
__________
(1) بكسر القاف أي ما قُلِّدت به من لحاء شجرة أو قطعة مزادة.
(2) أي فليغمسها فيه وليضرب بها صفحة سنامها. وفائدة ذلك إعلام الناس أنه هدي فيأكل منه الفقراء دون الأغنياء.
(3) بضم الغين أي الغرامة وهي قيمة ما أكل.
(4) قوله: أن صاحب هدي ... إلى آخره، مرسلٌ صورةً لكنه محمول على الوصل لأن عروة ثبت سماعه من ناجية، فقد أخرجه ابن خزيمة من طريق عبد الرحيم بن سليمان عن هشام عن عروة قال: حدثني ناجية، ورواه أبو داود وابن عبد البر من طريق سفيان بن سعيد الثوري والترمذي - وقال: حسن صحيح - والنسائي من رواية عبدة بن سليمان وابن ماجه من رواية وكيع والطحاوي من طريق ابن عيينة وابن عبد البر من طريق وهيب بن خالد خمستهم عن هشام، عن أبيه، عن ناجية، قال في "الإِصابة": ولم يُسَمِّ أحد منهم والدَ ناجية، لكن قال بعضهم: الخزاعي، وبعضهم الأسلمي، ولا يبعد التعدُّد، وقد جزم ابن عبد البَرّ بأنه ناجية بن جندب الأسلمي، كذا ذكره الزرقاني.
(5) هو ناجية الأسلمي.
(6) بكسر الطاء أي هلك.
(7) أي اغمس.
(8) قال في "المنتخب": قلادة بالكسر (انجه دركرن كتند)(2/279)
أَوْ نعلَها (1) فِي دَمِهَا وخلِّ (2) بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهَا يَأْكُلُونَهَا.
405 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: كنتُ أَرى ابنَ عمرَ (3) بن الخطاب يُهدي (4) في الحج بَدَنَتَيْن بَدَنَتَيْن (5) ، وفي العمرة بَدَنَة بَدنة، قَالَ: رأيتُه فِي الْعُمْرَةِ يَنْحَرُ بَدَنتَه وهي قائمةٌ في حرف (6) دار (7)
__________
(أي بالفارسية) .
(1) قال مالك مرة: أمره بذلك ليعلم أنه هدي فلا يُستباح إلاَّ على الوجه الذي ينبغي.
(2) قوله: وخلِّ بين الناس ... إلى آخره، قال عياض: فما عَطِب من هدي التطوع لا يأكل منه صاحبه ولا سائقه ولا رفقته لنصِّ الحديث، وبه قال مالك والجمهور (واختلفوا فيما يجب على من أكل منه فقال مالك: إنْ أكل منه وجب عليه بدله، وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد: عليه قيمة ما أكل. الكوكب الدري 2/134. وبسط شيخنا في هذه المسألة مذاهب الأئمة الأربعة في الأوجز 7/212) ، وقالوا: لا بدل عليه لأنه موضع بيان، ولم يبيِّن صلّى الله عليه وسلّم، بخلاف الهَدْي الواجب إذا عطب قبل مَحِلِّه، فيأكل منه صاحبه والأغنياء لأن صاحبه يضمنه لتعلُّقه بذمَّته، قاله الزرقاني.
(3) هو عبد الله.
(4) من الإِهداء أي يُرسل في حال إحرامه بالحج.
(5) بالتكرار لإِفادة عموم التثنية.
(6) بالفتح بمعنى الطَّرَف.
(7) قوله: دار خالد بن أسيد، قال هشام بن الكلبي: أسلم عام الفتح،(2/280)
خَالِدِ (1) بْنِ أَسِيد (2) وَكَانَ فِيهَا مَنْزِلُهُ (3) ، وَقَالَ (4) : لَقَدْ رأيتُه طَعَنَ فِي لَبَّة (5) بَدَنَتَه حَتَّى خَرَجَتْ (6) سِنَّة (7) الحَربة مِنْ تَحْتِ حَنَكِها (8) .
406 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ (9) الْقَارِئُ (10) أَنَّهُ رَأَى
__________
وأقام بمكة وكان من المؤلَّفة، قال ابن دريد: كان جزّاراً، قيل: إنه فُقد يوم اليمامة، وقيل مات قبله، قاله الزرقاني.
(1) هو أخو عتّاب بن أَسيد الذي استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكَّة عام الفتح.
(2) بفتح الهمزة وكسر السين.
(3) أي ابن عمر إذا حج أو اعتمر.
(4) أي ابن دينار.
(5) بفتح اللام وتشديد الموحِّدة: المنحر من الصدر.
(6) من قوة الطعنة.
(7) قوله: سِنَّة الحَربة، هو بالفتح آلة الحرب والعصا، والمراد به ههنا السكّين ونحوه مما يُذبح به، وسِنَّة الشيء: بكسر السين وتشديد النون (دندنهْ آن) (أي بالفارسية) والمراد به طرفه ورأسه ذو الحدة. والحنك بفتحتين (زير زنخدان) (أي بالفارسية) .
(8) في نسخة: كتفها.
(9) يزيد بن القعقاع.
(10) بالهمزة، نسبة إلى قراءة القرآن، لا بتشديد الياء نسبة إلى قارة بطن كما ظنه صاحب "المحلّى".(2/281)
عبدَ الله (1) بنَ عياش بن أبي ربيعة أَهْدَى عَامًا (2) بَدَنتين، إِحْدَاهُمَا بُخْتِيَّة (3) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، كلُّ هَدْي تطوُّعٍ عَطِب فِي الطَّرِيقِ (4) صَنَعَ كَمَا صَنَعَ وخلَّى (5) بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ يَأْكُلُونَهُ، وَلا يُعْجِبُنَا (6) أَنْ يَأْكُلَ (7) مِنْهُ إلاَّ من (8) كان محتاجاً إليه (9) .
__________
(1) قوله: عبد الله بن عياش، بشدِّ التحتية وشين معجمة ابن أبي ربيعة اسمه عمرو بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي الصحابي ابن الصحابي، وُلد بالحبشة. وحفظ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يروِ عنه، وروى عن عمر وغيره، وأبوه قديم الإِسلام، قاله الزرقاني.
(2) أي سَنَة من السنين.
(3) قوله: بُخْتِيَّة، بضم موحَّدة وسكون الخاء المعجمة، فتاء فوقيّة فتحتيَّة مشدَّدة، هي الأنثى من الجمال، والذكر البُختي، وهي جمال طوال الأعناق على ما في "النهاية".
(4) أي قبل أن يصل إلى الحَرَم.
(5) من التخلية.
(6) أي لا يجوز عندنا.
(7) أي صاحب الهَدْي.
(8) قوله: إلاَّ من كان محتاجاً إليه، اعلم أن هدي التطوُّع إذا بلغ الحَرَم يجوز لصاحبه وغيره من الأغنياء أن يأكل منه، وأما إذا لم يبلغ فلا يجوز لصاحبه أن يأكل منه ولا لغيره من الأغنياء لأن القربة فيه بالإِراقة إنما تكون في الحرم، وفي غيره بالتصدُّق.
(9) أي مضطراً إليه.(2/282)
407 - أخبرنا مالك، حدثنا نافع، عن ابن عمر: كَانَ يَقُولُ: الْهَدْيُ (1) مَا قُلِّد أَوْ أُشعر وأُوقف بِهِ بِعَرَفَةَ.
408 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ قَالَ: مَنْ نَذَرَ بَدَنَة (2) فَإِنَّهُ يقلِّدها نَعْلا، ويُشعِرُها، ثُمَّ يَسُوقُهَا، فَيَنْحَرُهَا عِنْدَ الْبَيْتِ أَوْ بِمَنًى يَوْمَ النَّحْرِ لَيْسَ لَهُ مَحِلّ (3) دُونَ ذَلِكَ، وَمَنْ نَذَرَ جَزُوراً (4) مِنَ الإِبل أَوِ الْبَقَرِ فَإِنَّهُ يَنْحَرُها حَيْثُ (5) شَاءَ (6) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ رخَّصوا فِي نَحْرِ البَدَنة حَيْثُ شَاءَ (7) ، وَقَالَ
__________
(1) قوله: الهدي ... إلى آخره، في الأثر دليل على استنان الذهاب بالهدي إلى عرفات كالتقليد والإِشعار، وبه قال أبو حنيفة أنه يُسَنُّ ذلك من غير وجوب، كذا في "المحلّى بحلي أسرار الموطا".
(2) أي من إبل أو بقرة.
(3) قوله: ليس له محل دون ذلك، لأنه لمّا عبَّر ببدنة عُلم أنه هَدْي.
(4) قوله: جَزُوراً، بفتح الجيم وضم الزاي هو من الإِبل خاصة يقع على الذكر والأنثى، كذا في "المصباح" اللغوي، فقوله من الإِبل والبقر تعميم باعتبار الإِطلاق العُرفي، قاله القاري.
(5) أي من الحرم وغيره وفرق بين نذر البدنة ونذر الجزور بأن الأول خاص بالحرم والثاني عام.
(6) قوله: حيث شاء، أي في أي مكان لأنه أراد إطعام لحمه مساكين موضعه أو ما نوى من الموضع.
(7) أي الناذر.(2/283)
بَعْضُهُمْ: الهَدْي (1) بِمَكَّةَ لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {هَدْياً بالغَ الكعبة} وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي البَدَنة (2) فالبَدَنة حَيْثُ شَاءَ إلاَّ أَنْ يَنْوِيَ الْحَرَمَ فَلا يَنْحَرْهَا (3) إلاَّ فِيهِ (4) . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعي وَمَالِكِ بْنِ أَنَس.
409 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي (5) عَمْرُو بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ أَنَّهُ سَأَلَ سعيدَ بنَ الْمُسَيِّبِ عَنْ بَدَنَة جعلَتْها (6) امرأةٌ عَلَيْهَا، قَالَ: فَقَالَ سَعِيدٌ: البُدْنُ مِنَ الإِبل (7) ومَحِلّ (8) البُدْن الْبَيْتُ الْعَتِيقُ إلاَّ أَنْ تَكُونَ (9) سمَّتْ مَكَانًا (10) مِنَ الأَرْضِ فَلْتَنْحَرْهَا حَيْثُ سمَّتْ، فإنْ لَمْ تَجِدْ بَدَنة فَبَقَرَةٌ (11) فَإِنْ لَمْ تكن بقرة فَعَشَرٌ من الغنم،
__________
(1) يعني إذا نذرها هدياً فهو مخصوص بمكة وما حولها.
(2) أي بل أطلقها.
(3) أي لا يذبحها.
(4) فإنما الأعمال بالنيات.
(5) قوله: أخبرني عمرو بن عبيد الله الأنصاري، ذكره ابن حبان في كتاب "الثقات" وسمَّى والدَه بعبيد، وقال: إنه من بني الحارث بن الخزرج من أهل المدينة، يروي عن ابن عباس، روى عنه مالك بن أنس وسليمان بن بلال.
(6) أي ألزمتها على نفسها بأن نذرتها.
(7) أي دون البقر. هو يوافق قول الشافعي.
(8) بكسر الحاء أي محل ذبحها الذي يَحِلُّ ذبحه فيه.
(9) أي المرأة.
(10) غير الحَرَم.
(11) فإنها تقوم مقامها.(2/284)
قَالَ (1) : ثُمَّ سَأَلْتُ سالمَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: مِثْلَ مَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ لَمْ تَجِدْ بَقَرَةً، فَسَبْعٌ مِنَ الْغَنَمِ، قَالَ: ثُمَّ جئتُ (2) خارجةَ بنَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فسألتُه، فَقَالَ مثلَ مَا قَالَ سَالِمٌ، ثُمَّ جئتُ عبدَ اللَّهِ (3) بنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ (4) ، فَقَالَ مثلَ مَا قَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: البُدْنُ مِنَ الإِبل (5) وَالْبَقَرِ، وَلَهَا (6) أَنْ تَنْحَرَهَا حَيْثُ شَاءَتْ إلاَّ أَنْ تَنْوِيَ الْحَرَمَ، فَلا تَنْحَرْهَا إلاَّ فِي الْحَرَمِ وَيَكُونُ (7) هَدْيًا، والبَدَنَة مِنَ الإِبل وَالْبَقَرِ تُجزئ (8) عَنْ سَبْعَةٍ وَلا تُجْزِئُ عَنْ أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة والعامَّة من فقهائنا.
__________
(1) عمرو بن عبيد الله.
(2) قوله: ثُمَّ جِئْتُ خَارِجَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، هو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة من أجلَّة الثقات، مات سنة تسع وتسعين، وقيل: سنة مائة، قاله ابن حبان.
(3) أبو هاشم المدني، وثَّقه ابن سعد والنسائي، مات سنة 98، كذا في "الإِسعاف".
(4) ابن أبي طالب.
(5) أي من كليهما في مذهبنا.
(6) أي للمرأة الناذرة المذكورة.
(7) أي ويكون بالنية.
(8) قوله: تجزئ عن سبعة، روى مسلم عن جابر قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم مُهِلِّين بالحج، فأمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إن نشترك في الإِبل والبقر كلُّ سبعةٍ منا في بدنة. وبهذا قال الشافعي والجمهور سواء كان الهدْيُ تطوُّعاً أو واجباً، وسواء كانوا كلُّهم متقرِّبين بذلك أو بعضهم يريد التقرُّب وبعضهم يريد اللحم.(2/285)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وعن أبي حنيفة يُشترط في الاشتراك أن يكونوا كلُّهم متقرِّبين بالهَدْي. وعن داود وبعض المالكية: يجوز هذا في هدي التطوُّع دون الواجب. وعن مالك لا يجوز مطلقاً. واحتج له إسماعيل القاضي بأن حديث جابر إنما كان في الحديبية حيث كانوا مُحْصَرين، وبأن أبا جمرة خالفه ثقاتُ أصحاب ابن عباس، فقد رَوَوْا عنه أن ما استيسر من الهدي شاة، وساق ذلك بأسانيد صحيحة عنهم. وقد روى ليث عن طاوس، عن ابن عباس مثل رواية أبي جمرة لكنْ ليثٌ ضعيف. ثم ساق بسنده إلى محمد بن سيرين عن ابن عباس قال: ما كنتُ أرى أن دماً واحداً لعلّه يُجزئ أو يكفي عن أكثر من واحد. وأجاب الحافظ بأن تأويله لحديث جابر بأنه كان في الحديبية لا يدفع الاحتجاجَ بالحديث أي لثبوت جواز أصل الاشتراك، قال: بل روى مسلم من طريق أخرى عن جابر في أثناء حديث: فأمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أمرهم أن يحلوا حجَّهم إذا أحللنا أن نُهدي، ويجتمع النفر منا في الهدية. وأقول: بل كيف يصح تأويله بأنه في الحديبية مع قول جابر: خرجنا مُهِلِّين بالحج، والحديبية إنما كان فيه الإِهلال بالعمرة، ثم قال الحافظ: وليس بين رواية أبي جمرة - قال: سألت ابن عباس عن المتعة، فأمرني بها، وسألته عن الهَدْي، فقال: فيها جَزُور أو بقرة أو شاة أو شرك في دم، رواه البخاري - وبين رواية غيره منافاة لأنه زاد عليهم ذكر الاشتراك، ووافقهم على ذكر الشاة أي وزيادة الثقة مقبولة. قال: وإنما أراد ابن عباس بالاقتصار على الشاة الردُّ على من زعم اختصاص الهدي بالإِبل والبقر. قال: وأما رواية محمد بن سيرين عن ابن عباس فمنقطعة، ومع ذلك لو كانت متصلة احتمل أن يكون ابن عباس أخبر أنه كان لا يرى ذلك من جهة الاجتهاد، ومتى صح عنده النقل بصحة الاشتراك أفتى به أبا جمرة، وبهذا تجتمع الأخبار، وهو أولى من الطعن في رواية من أجمع العلماء على توثيقه، وهو أبو جمرة.
وقد رُوي عن ابن عمر أنه كان لا يرى التشريك، ثم رجع عنه لمّا بلغتْه السُّنَّة، قال الحافظ: واتفق من قال بالاشتراك على أنه لا يكون في أكثر من سبعة(2/286)
11 - (بَابُ الرَّجُلُ يسوقُ بَدَنَة فَيَضْطَرُّ (1) إِلَى رُكُوبِهَا)
410 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا اضطررتَ إِلَى بَدَنَتِك (2) فارْكبْها رُكُوبًا غَيْرَ فَادِحٍ (3) .
411 - أَخْبَرَنَا (4) مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أبو الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل (5)
__________
إلاَّ إحدى الروايتين عن سعيد بن المسيب. فقال: تُجزئ عن عشرة، وبه قال إسحاق بن راهويه وابن خزيمة من الشافعية واحتج لذلك في "صحيحه" وقوّاه، كذا في "ضياء الساري".
(1) بأن عجز عن المشي ولم يجد غيرها. قوله: فيضطرّ إلى ركوبها، اختلفوا في ركوب البدنة المُهداة، فقال بعضهم: هو واجب لإِطلاق الأمر مع ما فيه من مخالفة الجاهلية. ورُدّ هذا بأنه عليه السلام لم يركب هَدْيَه، ولا أمر الناس بركوب هداياهم. ومنهم من قال: له أن يركبها مطلقاً من غير حاجة، وقال أصحابنا والشافعي: لا يركبها إلا عند الحاجة كذا في "مرقاة المفاتيح".
(2) أي إلى ركوبها.
(3) أي غير مثقل ومؤلم، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: اركبها بالمعروف إذا أُلجئت إلى ظهرها.
(4) قوله: أخبرنا مالك ... إلى آخره، رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى، وأبو داود عن القعنبي، والنسائي عن قتيبة الأربعة عن مالك به، وتابعه المغيرة بن عبد الرحمن عند مسلم، وسفيان الثوري عند ابن ماجه، كلاهما عن أبي الزِّناد به.
(5) قال الحافظ: لم أقف على اسمه بعد طول البحث، زاد النسائي عن أنس: وقد جهده المشي، أي وهو عاجز عن مشيه.(2/287)
يَسُوقُ بَدَنَتَه (1) ، فَقَالَ لَهُ: ارْكَبْهَا، فَقَالَ: (2) أَنَّهَا بَدَنَة،
__________
(1) وعند مسلم: بدنة مقلدة.
(2) قوله: فَقَالَ: أَنَّهَا بَدَنَةٌ، قيل: الظاهر أن الرجل ظن أنه عليه السلام خفي عليه كونها هدياً، فلذلك قال: إنها بدنة. قال الحافظ: والحقّ أنه لم يخفَ ذلك عليه لكونها كانت مقلَّدة، ولهذا قال له لما زاد في مراجعته: ويلك. وقال القرطبي: إنما قال له ويلك تأديباً لأجل مراجعته له مع عدم خفاء الحال عليه. وبهذا جزم ابن عبد البَرّ وابن العربي، وبالغ حتى قال: ولولا أنه صلّى الله عليه وسلّم اشترط على ربِّه ما اشترط لهلك ذلك الرجل. قال القرطبي: ويحتمل أن يكون فهم عن الرجل أنه يترك ركوبها على عادة الجاهلية في السائبة وغيرها، فزجره عن ذلك. وعلى الحالتين فهي إنشاء ورجّحه عياض وغيره، قالوا: والأمر ههنا وإن قلنا إنه للإِرشاد لكنه استحق الذم بتوقّفه عن الامتثال، وقيل: كان الرجل أشرف على هلكة من الجهد. وويل كلمة تقال لمن وقع في هلكة: فالمعنى أشرفت على الهلكة فاركب. فعلى هذا هي إخبار، وقيل: هي كلمة تدعم به العرب كلامها، ولا يُقصد معناها كقولهم: لا أمَّ لك. واستدل به على جواز ركوب الهدي سواء كان واجباً أو متطوِّعاً به، لكونه صلّى الله عليه وسلّم لم يستفصل صاحبَ الهدي عن ذلك، فدل على أن الحكم لا يختلف. وبالجواز مطلقاً قال عروة بن الزبير، ونسبه ابن المنذر لأحمد وإسحاق، وبه قال أهل الظاهر، لكن نقل القسطلاني عن "تنقيح المُقنع" من كتب الحنابلة - وعليه الفتوى عندهم - أنّ له ركوبها لحاجة ويضمن نقصَها كمذهب الحنفية. وجزم النووي بالأول في "الروضة" تبعاً لأصله في الضحايا، ونقله في "شرح المهذب" عن القفّال والماوردي، ثم نقل فيه عن أبي حامد والبندنجي وغيرهما تقييده بالحاجة وهو الذي حكاه الترمذي عن الشافعي وأحمد وإسحاق. وقيّد صاحب "الهداية" من الحنفية جواز ركوبها بالاضطرار إلى ذلك وهو المنقول عن الشَّعبي عند ابن أبي شيبة. وقال ابن العربي عن مالك: يركب للضرورة فإذا استراح نزل. وفي المسألة مذهب خامس وهو المنع مطلقاً، نقله ابن العربي عن أبي حنيفة وشنّع عليه. قال الحافظ: ولكنْ الذي نقله الطحاوي وغيره الجواز بقدر(2/288)
فَقَالَ لَهُ بَعْدَ مَرَّتَيْنِ: ارْكَبْهَا وَيْلَكَ (1) .
412 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: إِذَا نَتَجَتِ (2) البَدَنة فلْيَحْمِلْ (3) وَلَدُهَا مَعَهَا حَتَّى يُنْحر مَعَهَا، فإنْ لَمْ يَجِدْ (4) لَهُ مَحْمَلا فلْيَحْمِلْهُ عَلَى أمِّه حَتَّى يُنحر (5) مَعَهَا.
413 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ (6) أَوْ عُمَرَ - شَكَّ مُحَمَّدٌ - (7) كَانَ يَقُولُ: مَنْ أهدى بَدَنَة فَضَلَّتْ (8)
__________
الحاجه إلاّ أنه قال: ومع ذلك يضمن ما نقص منها بركوبه، وضمان النقص وافق عليه الشافعية في الهدي المنذور. ومذهب سادس: وهو وجوب الركوب نقله ابن عبد البر عن بعض أهل الظاهر تمسُّكاً بظاهر الأمر ولمخالفة ما كانوا عليه في الجاهلية من البحيرة والسائبة. واختلف المُجيزون: هل يحمل المهدي عليها متاعه، فمنعه مالك، وأجازه الجمهور (ونقل عياض الإِجماع على أنه لا يؤجرها. انظر فتح الباري 3/538) ، كذا في "الضياء".
(1) زجراً له ليعلم أن الضرورات تبيح المحظورات.
(2) يقال: نتجت الناقة ولداً على البناء للفاعل على معنى ولدت وحملت، كذا في "المصباح المنير".
(3) صاحب البَدَنَة.
(4) وليحيى: فإن لم يوجَدْ له محمل حمل على أمه.
(5) وجوباً.
(6) في موطأ يحيى عن ابن عمر من غير شك.
(7) يعني المصنف نفسه.
(8) أي الطريق.(2/289)
أَوْ مَاتَتْ (1) ، فَإِنْ كَانَتْ نَذْرًا أَبْدَلَهَا (2) ، وَإِنْ كَانَتْ تَطَوُّعًا، فَإِنْ شَاءَ أَبْدَلَهَا (3) ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا (4) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَمَنِ اضْطُرَّ (5) إِلَى رُكُوبِ بَدَنَتَه فليركبْها فَإِنْ نَقَصَهَا ذَلِكَ (6) شَيْئًا تصدَّق بِمَا نَقَصَهَا (7) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
12 - (بَابُ الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ قَمْلة (8) أَوْ نحوَها (9) أَوْ ينتفُ (10) شَعْرًا)
414 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: المُحْرِمُ لا يَصْلُحُ (11) له أن
__________
(1) قبل بلوغ المَحِلّ.
(2) أي بمثلها - في نسخة: بدّلها -.
(3) والأوَّل الأَوْلى.
(4) أي لم يبدله.
(5) بصيغة المجهول.
(6) أي ركوبها، وحمل متاعه عليه.
(7) أي بقيمة نقصها.
(8) قوله: قملة، القمل والقَمْلة بالفتح فالسكون، دويّبة تتولد من العرق والوسخ إذا أصاب ثوباً أو بدناً أو شعراً، يقال له بالفارسية (سيش) .
(9) في نسخة: غيرها.
(10) وكذا إذا حلق شعراً أو قطع.
(11) أي لا يحل له.(2/290)
ينتفَ (1) مِنْ شَعْرِهِ شَيْئًا، وَلا يَحْلِقَهُ وَلا يُقَصِّرَهُ إِلا أَنْ يُصِيبَهُ أَذًى (2) مِنْ رَأْسِهِ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ، كَمَا أَمَرَهُ (3) اللَّهُ تَعَالَى. وَلا يحلُّ له أن أَنْ يقلمَ أَظْفَارَهُ وَلا يقتلَ قَمْلَةً، وَلا يَطْرَحَهَا مِنْ رَأْسِهِ إِلَى الأَرْضِ وَلا مِنْ جَسِدِهِ (4) وَلا مِنْ ثَوْبِهِ، وَلا يَقْتُلَ الصَّيْدَ وَلا يَأْمُرَ بِهِ (5) وَلا يَدُلَّ عَلَيْهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى.
__________
(1) النتف (بركندن) (بالفارسية) .
(2) أي فيحتاج إلى حلق شعره أو قصِّه.
(3) قوله: كما أمره الله تعالى، أي بقوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّه فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نُسُكٍ} (سورة البقرة: الآية 196) والصيام مفسَّر بثلاثة أيام، والصدقة بإطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، والنسك بأدنى ما يُطلق عليه الهدي من غنم أو بقر أو إبل، وأو للتخيير، وهذا عند العذر كما تقرّر، وأما عند عدمه فيجب عليه دمٌ مع الإِثم (قال العيني: إذا حلق رأسه أو لبس أو تطيَّب عامداً من غير ضرورة فقد حكى ابن عبد البَرّ في "الاستذكار" عن أبي حنيفة والشافعي وأصحابنا وأبي ثور أن عليه دماً لا غير وأنه لا يخيَّر إلا في الضرورة. وقال مالك: بئس ما فعل وعليه الفدية، وهو مخيَّر فيها، وقال شيخنا زين الدين وما حكاه عن الشافعي وأصحابه ليس بجيد، بل المعروف عنهم وجوب الفدية كما جزم الرافعي. عمدة القاري 10/152) .
(4) جلده.
(5) وكذا لا يرمي ثوبه في الشمس بقصد قتل القملة.(2/291)
13 - (بَابُ الحِجامة (1) للمُحرم)
415 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: لا يَحْتَجِمُ الْمُحْرِمُ إلاَّ أَنْ يَضْطَرَّ (2) إِلَيْهِ (3) مِمَّا لا بُدَّ مِنْهُ (4) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ بِأَنْ يَحْتَجِمَ الْمُحْرِمُ (5) وَلَكِنْ لا يَحْلِقُ شَعْرًا. بَلَغَنَا (6) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ. وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْعَامَّةِ مِنْ فقهائنا.
__________
(1) بالكسر: الاحتجام.
(2) قوله: أن يضطرّ، لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يحتجم إلا لضرورة، فإن احتجم لغير ضرورة حَرُمَت إن لزم منها قلعُ الشعر، فإن كان في موضع لا شعر فيه فأجازها الجمهور ولا فدية، وأوجبها الحسن البصري، وكرهها ابن عمر، وبه قال مالك: لا يحتجم المحرم إلا من ضرورة أي يُكره لأنها قد تؤدِّي لضعفه كما كره صوم عرفة للحاجّ من أنّ الصوم أخفّ من الحجامة كذا ذكره الزرقاني.
(3) أي إلى الاحتجام.
(4) أي مما لا فرار ولا علاج فيه إلا الحجامة.
(5) إذا خرج الدم لا يضر اتفاقاً، ولهذا جوّزوا له الفصد إجماعاً.
(6) قوله: بلغنا ... إلى آخره، أخرجه البخاري وغيره من حديث ابن عباس أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم، وأخرج مالك عن سليمان بن يسار مرسلاً: أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم احتجم وهو محرم فوق رأسه، وهو يومئذ بلَحْي جَمل - مكان بطريق مكة - ووصله البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن بَحَينة. ولأبي داود والنسائي والحاكم عن أنس أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم احتجم وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به (قال الحافظ: الجمع بين حديثَي ابن عباس وأنس واضح بالحمل على التعدّد، أشار إليه الطبري. اهـ. قلت: بل هو المتعيِّن. أوجز المسالك 6/349. قوله بلحي جمل، وقع في بعض الروايات بالتثنية وفي بعضها بالإِفراد واللام المفتوحة ويجوز كسرها والمهملة ساكنة، موضع بطريق مكة) . وفي الباب أخبار كثيرة يحصل بها الكراهة.(2/292)
14 - (بَابُ الْمُحْرِمِ يُغَطِّي (1) وَجْهَهُ)
416 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ (2) بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَخْبَرَهُ قَالَ: رأيتُ (3) عثمانَ بنَ عفان
__________
(1) من التغطية بمعنى الستر.
(2) ابن محمد بن عمرو بن حزم.
(3) قوله: رأيت عثمان ... إلى آخره، أخرجه مالك أيضاً عن يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أنه قال: أخبرني الفرافصة بن عمير الحنفي أنه رأى عثمان بالعرج يغطي وجهه وهو محرم. ويوافقه ما أخرجه الدارقطني في "العلل" عن أبان بن عثمان عن عثمان أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يخمّر وجهه وهو محرم. لكن قال الدارقطني: الصواب أنه موقوف. وبهذا أخذ جماعة من الصحابة ومن بعدهم، منهم الشافعي وغيره. استدل بعضهم له بما أخرجه الشافعي من حديث إبراهيم ابن أبي حرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في الذي وقص: خمّروا وجهه، ولا تخمّروا رأسه. وبما أخرجه الدارقطني في "سننه" عن ابن عمر أنه قال: إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها. واستدل أصحابنا بما أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنَّ رجلاً أوقصته راحلته وهو محرم فمات فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اغسلوه بماءٍ وسدر وكفّنوه في ثوبه، ولا تَمَسّوه طيباً، ولا تخمّروا رأسه، ولا وجهه فإنه يُبعث يوم القيامة ملبِّياً. ورواه الباقون ولم يذكروا الوجه. قال أبو عبد الله الحاكم في كتاب "علوم الحديث" ذكر الوجه في هذا الحديث تصحيف في الرواية لإِجماع الثقات الأثبات على ذكر الرأس، ورُدّ بأن التصحيف إنما يكون في الحروف المتشابهة، وأيُّ تشابُه(2/293)
بالعَرْج (1) وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي يومٍ صائفٍ (2) قَدْ غطَّى (3) وَجْهَه (4) بقَطيفة (5)
__________
بين الوجه والرأس في الحروف، هذا على تقدير أن لا يذكر في الحديث غير الوجه، فكيف وقد جمع بين الرأس والوجه والروايتان عند مسلم؟ ففي لفظ اقتصر على الوجه وفي لفظ جمع بينهما. واستدلوا أيضاً بقول ابن عمر: ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمّره المحرم. هذا كله في الرجل، وأما المرأة، فأخرج البخاري من حديث نافع عن ابن عمر: لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القُفّازين. ورواه مالك موقوفاً على ابن عمر. وله طرق في البخاري موصولة ومعلَّقة، وأخرج أبو داود والحاكم من حديث ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى النساء في إحرامهن عن النقاب. وأخرج أبو داود وابن ماجه عن عائشة قالت: كان الرُّكبان يمرّ بنا ونحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم محرمات، فإذا حَاذَوْنا سدَلَتْ إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفنا. وهو محمول على توسيط شيء حاجب بين الوجه وبين الجلباب.
وفي الباب آثار وأخبار مبسوطة في "تخريج أحاديث الهداية" للزيلعي، و"تخريج أحاديث الرافعي" لابن حجر.
(1) بعين مهملة مفتوحة فرَاء ساكنة فجيم، موضع بطريق المدينة.
(2) أي من أيام الصيف.
(3) قوله: قد غَطَّى وجهه، قال الزرقاني: إنه كان يرى جائزاً. وكذا ابن عباس وابن عوف وابن الزبير وزيد بن ثابت وسعيد وجابر، وبه قال الشافعي. وقال ابن عمر: يحرم تغطية الوجه، وبه قال مالك وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن، وفيه الفدية على مشهور المذهب، ولا يجوز تغطية الرأس إجماعاً.
(4) قوله: وجهه، قال الباجي: يحتمل أن يكون فَعَل ذلك لحاجة إليه، أي لضرورة دعت إليه، وأن يكون في رأيه مباحاً. وقد خالفه غيره، فقالوا: لا يجوز.
(5) قوله: بقطيفة، هي دثار له خَمْل. والدِّثار ما يتدثر به الإِنسان أي ما يتلفّف فيه من كساء أو غيره.(2/294)
أُرْجُوان (1) ثُمَّ أُتِيَ بِلَحْمِ صَيْدٍ، فَقَالَ: كُلُوا، قالوا: ألا تأكل؟ قال: لستُ كهيأتكم، إِنَّمَا صِيد مِنْ أَجْلِي (2) .
417 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَا فَوْقَ الذَّقن (3) مِنَ الرَّأْسِ فَلا يُخَمِّرُهُ (4) الْمُحْرِمُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ نَأْخُذُ، وَهُوَ قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم اللَّهُ تَعَالَى.
15 - (بَابُ المُحرم يَغْسِلُ رَأْسَهُ، أَيَغْتَسِلُ؟ (5))
418 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، أنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لا يَغْسِلُ (6) رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ إِلا من الاحتلام (7) .
__________
(1) بضم الهمزة والجيم: صوف أحمر أي فيه خطوط حمر.
(2) فالمدار على النيّة.
(3) هو مجتمع لَحْيَيْ الإِنسان.
(4) أي فلا يغطّيه فإن الوجه في حكم الرأس.
(5) أي بجميع بدنه من غير قصد إزالة وسخه.
(6) فكان يعمل بالأفضل.
(7) قوله: إلا من الاحتلام، ولا ينافيه ما سبق من غسله لدخول مكة وعشية عرفة، فلعله كان يغسل جسده دون رأسه. قال الشافعي: نحن ومالك لا نَرَى بَأْسًا أَنْ يَغْسِلَ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ من غير احتلام، ورُوي أنه عليه السلام اغتسل وهو محرم. ثم أطال الكلام إلى أن قال: وقد يذهب على ابن عمر وغيره السنن، ولو علمها ما خالفها. كذا ذكره البيهقي في "المعرفة" كذا في "المحلّى".(2/295)
419 - أخبرنا مالك، أخبرنا زيد بن أسلم، عن (1) إِبْرَاهِيمَ (2) ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ عَبَّاسٍ، والمِسْور (3) بْنَ مَخْرَمة تَمَارَيَا (4) بالأَبْواء (5) ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَغْسل (6) المُحرم رأسَه، وقال (7) المِسْور: لا
__________
(1) قوله: عن إبراهيم ... إلى آخره، ليحيى: مالك عن زيد بن أسلم عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله ... إلى آخره. قال ابن عبد البَرّ: لم يتابع أحدٌ من رواة الموطأ يحيى على إدخال نافع بين زيد وإبراهيم، وهو خطأ لا شك فيه، وهو مما يُحفظ من خطأ يحيى في "الموطأ" وغلطه. وأَمَرَ ابن وضّاح بطرحه (قلت: فإسقاطه من النسخ المصرية ليس بصحيح لأنه موجود في رواية يحيى، وإن كان غلطاً في نفسه. وليس في رواية محمد أيضاً. أوجز المسالك 6/166) .
(2) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الحج، وكذا النسائي وابن ماجه، كذا في "إرشاد الساري".
(3) قوله: المَسْور، بكسر الميم وسكون السين المهملة وخِفَّة الواو، وابن مخْرمة بفتح الميم وسكون المعجمة ابن نوفل القرشي، له ولأبيه صحبة، ذكره في "الإِصابة" وغيره.
(4) أي تشاكّا وتشاحّا وتخالفا في جواز غسل المحرم وعدمه.
(5) بفتح الهمزة وسكون الموحدة وبالمدّ: جبل بين مكة والمدينة وعنده بلد يُنسب إليه، كذا في "النهاية".
(6) أي يجوز له.
(7) قوله: وقال المسور لا، قال الأُبِّي: الظنّ بهما أنهما لا يختلفان إلا ولكلٍّ منهما مستند. قال عياض: ودلّ كلامُهما أنهما اختلفا في تحريك الشعر إذ لا خلاف في غسل المحرم رأسه في غسل الجنابة، ولا بدّ من صبّ الماء، فخاف(2/296)
فَأَرْسَلَهُ (1) ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى (2) أَبِي أَيُّوب يَسْأَلُهُ (3) فَوَجَدَهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ (4) وَهُوَ يُستر (5) بِثَوْبٍ، قَالَ: فسلَّمت عَلَيْهِ (6) فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ أَرَسَلَنِي إِلَيْكَ ابنُ عباس
__________
المسور أن يكون في تحريكه باليد قتل بعض دوابّها أو طرحها. وعلم ابن عباس أن عند أبي أيوب عِلمَ ذلك.
(1) أي ابن حنين.
(2) قوله: إلى، قال ابن عبد البَرّ: فيه أن الصحابة إذا اختلفوا لم يكن قول أحدهما حجة على الآخر إلا بدليل.
(3) أي عن حكم الغُسل للمُحرم.
(4) قوله: القرنين، تثنية قرن، وهما الخشبتان القائمتان على رأس البئر وشبههما من البناء ويمد بينهما خشبة يجرّ عليها الحبل المستقى به ويعلو عليها البكرة، ذكره السيوطي.
(5) فيه التستّر للغسل.
(6) قوله: فسلمت عليه ... إلى آخره، قال عياض والنووي وغيرهما: فيه جواز السلام على المتطهِّر في حال طهارته بخلاف من هو على الحدث، وتعقّبه الوليّ العراقي بأنه لم يصرِّح بأنه ردّ عليه السلام، بل ظاهره أنه لم يَرُدّ لقوله: فقال: من هذا؟ بفاء التعقيب الدالّة على أنه لم يفصل بين سلامه وبينها بشيء، فيدل على عكس ما استدل به فإن قيل: الظاهر أنه ردّ السلام وتَرَكَ ذِكْرَه لوضوحه، وأما الفاء فهي مثل قوله تعالى: {أن اضرب بعصاك البحر فانفلق} (سورة الشعراء: الآية 63) قلتُ: لمّا لم يصرِّح بذكر ردّ السلام احتمل الردَّ وعدمه فسقط الاستدلال للجانبين. انتهى. قال الزرقاني: وفيه وقفة.(2/297)
أسألُك (1) كَيْفَ (2) كَانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْسِلُ رأسَه وَهُوَ مُحْرِم؟ فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الثَّوْبِ (3) وَطَأْطَأَهُ (4) حَتَّى بَدَا (5) لِي رأسَه، ثُمَّ قَالَ لإِنسان (6) يَصُبُّ الماءَ عَلَيْهِ: اصبُبْ (7) ، فَصُبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ (8) بيده، فأقبل بيده وأدبر، فقال (9) :
__________
(1) أي لأن أسأل.
(2) قوله: كيف كان ... إلى آخره، قال ابن عبد البر: فيه أنَّ ابنَ عباس كان عنده علم غسل رأس المحرم، أنبأه أبو أيوب أو غيره لأنه كان يأخذ عن الصحابة. وقال ابن دقيق العيد: هذا يُشعر بأن ابن عباس كان عنده علم بأصل الغسل، وقال القاري: فيه أنه لم يكن النزاع في كيفية غسله لكنها تفيد زيادة في بيان جواز فعله. انتهى. وفيه ما فيه.
(3) أي الساتر له.
(4) أي أرخاه وأخّره وخفّضه.
(5) أي ظهر.
(6) لم يُسَمّ في رواية.
(7) بضمّ الباء الأولى، أي صبّه.
(8) وليحيى: بيديه فأقبل بهما وأدبر - أي بهما -.
(9) قوله: فقال هكذا رأيته يفعل، في هذا الحديث فوائد: منها جواز اغتسال المحرم وغسله رأسه، وإمرار اليد على شعره بحيث لا ينتف شعراً. ومنها قبول خبر الواحد وأنّ قبوله كان مشهوراً بين الصحابة. ومنها الرجوع إلى النصّ وترك الاجتهاد والقياس عند وجود النص. ومنها السلام على المتطهِّر في وضوء أو غسل بخلاف الجالس على الحدث. ومنها جواز الاستعانة في الطهارة ولكن الأَوْلى تركها إلاّ لحاجة. واتفق العلماء على جواز غسل المحرم رأسه وجسده عن(2/298)
هَكَذَا رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ (1) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ أَبِي أَيُّوبَ نَأْخُذُ (2) ، لا نَرَى بَأْسًا أَنْ يغسلَ المحرمُ رأسَه (3) بِالْمَاءِ. وَهَلْ يَزِيدُهُ (4) الْمَاءُ إلاَّ شعثاً (5) ؟!
__________
الجنابة، بل هو واجب عليه وأما غسله للتبرّد فمذهبنا ومذهب الجمهور جوازه بلا كراهة، ويجوز عند الشافعي غسل رأسه بالسدر والخِطْمي (قال ابن رشد: اتفقوا على منع غسل رأسه بالخطمي، وقال مالك وأبو حنيفة: إن فعل ذلك افتدى، وقال أبو ثور وغيره: لا شيء عليه. بداية المجتهد 1/403 وقال العيني إن غسل رأسه بالخطمي والسدر فإن الفقهاء يكرهونه وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وأوجب مالك وأبي حنيفة عليه الفدية وقال الشافعي وأبو ثور لا شيء عليه وفي شرح الوجيز لا يكره الخطمي والسدر وفي القديم يكره ولكن لا فدية عليه وبه قال أحمد انظر أوجز المسالك 6/174) بحيث لا ينتف شعراً ولا فدية عليه ما لم ينتف شعراً، كذا في "شرح صحيح مسلم" للنووي.
(1) أي يغتسل في حال الإِحرام. قوله: يفعل، زاد ابن عيينة: فرجعت إليهما فأخبرتهما فقال المسور لابن عباس: لا أُماريك أبداً أي لا أجادلك، كذا في "إرشاد الساري".
(2) قوله: نأخذ، لأن المثبتَ مقدَّمٌ على النافي، ولأنّ الأصل الجواز حتى يثبت دليل على منعه لثبوت ذلك بكثير من الروايات.
(3) سواء غسل سائر بدنه أم لا.
(4) أي لا يزيده إلا شعثاً.
(5) قوله: إلا شعثاً، قيل فيه إن الشعث - محرّكة - انتشار الشعر وتفرُّقه وتغيُّره كما ينتشر رأس السوال. ولا شك أن بالماء يحصل الاجتماع والالتئام. انتهى. وفيه نظر، فإن مجرد غسل الرأس دون أن يُنقيَه ويصفيه بالخِطمي أو غير(2/299)
وهو قول (1) أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
420 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ الْمَكِّيُّ، عَنْ عَطَاءِ (2) بْنِ أَبِي رَباح (3) ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِيَعْلَى بْنِ مُنِيَّة (4) وَهُوَ يَصُبُّ (5) عَلَى عُمَرَ مَاءً وَعُمَرُ يَغْتَسِلُ (6) : اصْبُبْ (7) عَلَى رَأْسِي، قَالَ لَهُ يعلى:
__________
ذلك يدخل الغبار في أصول الشعر وينتشر بعد الجفاف كانتشار أطراف السواك، بل أَزْيَد لفقدان التدهين. فلم يزده الماء إلا شعثاً.
(1) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال مالك والشافعي، وعن ابن عباس قال: يدخل المحرم الحمام، ذكره البخاري تعليقاً ووصله البيهقي والدارقطني من طريق أيوب عن عكرمة عنه قال: يدخل المحرم الحمام، وينزع رأسه، وإذا انكسر ظفره طرحه ويقول: أَمِيطوا عنكم الأذى فإن الله لا يصنع بأوساخكم شيئاً. وحكى ابن أبي شيبة كراهةَ ذلك عن الحسن وعطاء. وهذا كلُّه في مجرد الغسل، وأما غسله بالخِطمي وغيره. فإن الفقهاء يكرهونه. وأوجب مالك والشافعي الفدية عليه، ورخص عطاء ومجاهد لمن لبّد رأسه ذلك، كذا في "عمدة القاري بشرح صحيح البخاري".
(2) هو فقيه ثقة فاضل لكنه كثير الإِرسال، مات سنة 114، كذا ذكره الزرقاني.
(3) بالفتح اسمه أسلم.
(4) هي أمّه، واسم أبيه أمية بن أبي عبيدة بن همام وهو صحابي، مات سنة بضع وأربعين، قاله الزرقاني.
(5) أي حال اغتساله.
(6) أي في حال إحرامه.
(7) مقولة عمر.(2/300)
أَتُرِيدُ (1) أَنْ تَجْعَلَهَا (2) فيَّ؟ إِنْ أَمَرْتَنِي صببتُ، قَالَ: اصْبُبْ. فَلَمْ يَزد (3) الْمَاءُ إلاَّ شَعَثًا (4) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا نَرَى بِهَذَا بَأْسًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ والعامَة مِنْ فُقَهَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
16 - (بَابُ مَا يُكره لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَلْبَسَ مِنَ الثِّيَابِ)
421 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا نافع، عن ابن عمر (5) : أن رجلا (6) سَأَلَ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاذَا يَلْبَسُ (7) المحرمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ: لا يَلْبَسُ (8)
__________
(1) قوله: أتريد أن تجعلها فيَّ، قال ابن وهب: معناه إنما أفعله طوعاً لك لفضلك وأمانتك، ولا رأي لي فيه، وقال أبو عمرك أي الفدية إن مات شيء من دوابّ رأسك أو زال شيء من الشعر لزمتني الفدية فإن أمرتني كانت عليك.
(2) أي هذه الخصلة.
(3) في نسخة: فلن يزيده.
(4) فلا ينافي ما ورد من أن الحاجّ أشعث.
(5) قال القاري: هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة.
(6) قال الحافظ: لم أقف على اسمه في شيء من الطرق.
(7) قوله: ماذا يلبس المحرم؟، وعند البخاري: ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا؟ وعند البيهقي: نادى رجلٌ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يخطب بذلك المكان. وأشار نافع إلى مقدَّم المسجد أي مسجد المدينة. وللبخاري ومسلم عن ابن عباس: أنه صلّى الله عليه وسلّم خطب بذلك في عرفات لكن ليس في أنه أجاب به السائل فهو محمول على تعدُّده.
(8) قوله: لا يلبس، بالرفع خبر عن الحكم الشرعي، أو بمعنى النهي،(2/301)
القُمُص (1) وَلا الْعَمَائِمَ وَلا السَّرَاوِيلاتِ وَلا البَرَانِس (2) وَلا الخِفاف (3) إِلا أَحَدٌ (4) لا يَجِدُ (5) نَعْلَيْنِ، فيَلْبَس خُفَّيْن وليقطَعْهُما أسفلَ من الكعبين (6) ،
__________
وبالجزم بمعنى النهي، وفي رواية: لا تلبسوا. وإنما ذكر ما لا يجوزُ لُبْسُه مع أنّ السؤال كان عما يجوزُ لُبسه لكون ما لا يُلبس منحصراً، فقال: لا يلبس كذا أي يلبس ما سواه. وهذا على رواية مشهورة. وإلا فعند أحمد وابن خزيمة وأبي عوانة: أن رجلاً سأل ما يجتنب المحرم من الثياب؟ وهذا الحكم أي عدم جواز لُبْس المَخيط من القميص وغيره مخصوص بالرجال. وأما المرأة فيجوز لها جميع ذلك، قاله ابن المنذر كذا في "فتح الباري".
(1) قوله: القُمُص، بضمتين جمع قميص، ولا العمائم جمع عِمامة - بالكسر - ما يُلَفّ على الرأس ولا السراويلات جمع سراويل - وهو مفرد - أو جمع سروال.
(2) قوله: البرانس، بفتح الموحدة وكسر النون جمع البُرنس بضم وهو قَلْنَسُوة طويلة أو كل ثوب رأسه منه دراعة كانت أو جبّة، كذا في "القاموس".
(3) بالكسر جمع خُفّ.
(4) بالرفع بدل من فاعل لا يلبس وهو أَوْلَى من نصبه استثناء، قاله القاري.
(5) قوله: لا يجد نعلين، ظاهره أنه إذا كان قادراً على النعلين لا يلبس الخفّ مقطوعاً، يعني لا يحل له ذلك لما فيه من إتلاف المال من غير ضرورة، وقد صرّح بهذا ابن نجيم في "البحر الرائق"، وقال العيني في "البناية" إنْ وَجَد النعلين فلبس الخفّين مقطوعين لا شيء عليه عندنا، وعند مالك يفدي، وكذا عند أحمد، وعن الشافعي قولان. وقد بسطت الكلام في هذه المسألة في رسالتي "غاية المقال فيما يتعلّق بالنعال".
(6) المراد بهما المَفْصِلان اللذان في وسط القدمين من عند معقد الشِّراك.(2/302)
وَلا تَلْبَسُوا (1) مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا (2) مَسَّهُ الزَّعفران وَلَا الوَرس (3) .
422 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: نَهَى رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَلْبَسَ المحرمُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِزَعْفَرَانٍ (4) أَوْ وَرس، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فيلبسْ خُفَّين. وليقطَعْهما (5) أسفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ.
423 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدثنا نافع، عن ابن عمر أنه كان (6)
__________
(1) هذا الحكم عامّ للرجال والنساء.
(2) قوله: شيئاً مسّه الزعفران، قال الطِّيبي: نبَّه بالورس والزعفران على ما في معناهما ممّا يُقصد به الطيب، فيُكره للمحرم الثوب المصبوغ بغير طيب أيضاً.
(3) بفتح الواو: نبت أصفر يُصبغ به، قاله في "النهاية".
(4) وفي حكمه العصفر.
(5) قوله: وليقطعهما، اتَّفق على وجوب القطع بحيث ينكشف الكعب وعدم جواز لُبْس الساتر له الجمهور، وخالف في ذلك أحمد، وحُكي عن عطاء مثله قال: لأن في قطعهما إفساداً، قال الخطابي: يُشبه أن يكون عطاء لم يبلغ الحديث وما أذن فيه رسول الله ليس بفساد والعجب من أحمد فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه، وقلّت سنة لم تبلغه، ويشبه أن يكون ذهب إلى حديث ابن عباس فإن فيه: من لم يجد نعلين فليلبس الخفين من غير ذكر القطع. انتهى. وللحنابلة في تصحيح هذا القول أقوال مردودة بسطها العينيّ في "عمدة القاري".
(6) قوله: أنه كان يقول، هذا رواه موقوفاً مالك وعبيد الله العمري وليث وأيوب السختياني وموسى بن عقبة كلهم عن نافع كما عند البخاري وأبي داود. وأخرجاه من طريق الليث عن نافع فجعله من جملة المرفوع السابق، فقال بعد قوله:(2/303)
يَقُولُ: لا تَنْتَقِبُ (1) الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ وَلا تَلْبَسُ القُفَّازين (2) .
424 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَسْلَمَ يحدّث (3) عبدَ الله بنَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى عَلَى طَلْحَةَ (4) بْنِ عبيد الله
__________
ولا ورس ولا تنتقب، وورد ذلك مفرداً أيضاً مرفوعاً عند أبي داود، وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كلَّه والخفاف، وأنّ لها أن تُغطِّي رأسها وتسترَ شعرها إلا الوجه فتسدل عليها الثوب سدلاً خفيفاً تستتر به عن أعين الرجال ولا تخمّر لما ورد عن عائشة: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرَّ بنا الركب سدلنا الثوب على وجوهنا ونحن محرمات، فإذا جاوزنا رفعناه، أخرجه أبو داود وابن ماجه. وعليه يُحمل ما أخرجه مالك عن هشام بن عروة عن زوجته فاطمة بنت المنذر أنها قالت: كنا نخمّر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصِّديق، كذا في "شرح الزرقاني".
(1) قوله: لا تنتقب (جاز لها نقاب لا يمس وجهها، قال في المغني 3/326. فأما إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريباً منها فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها، رُوي ذلك عن عثمان وعائشة، وبه قال عطاء ومالك والثوري والشافعي وإسحاق ومحمد بن الحسن، ولا نعلم فيه خلافاً ... ، وذكر القاضي أن الثوب يكون متجافياً عن وجهها....إلخ) ، أي لا تلبس النقاب وهو ما يستر الوجه من البرد ونحوه، وهو يحتمل أن يكون نفياً أو نهياً إلا إذا جافتْ بينه وبين وجهها، قاله القاري.
(2) قوله: القُفَّازين، بضم القاف وتشديد الفاء شيء يتخذه نساء العرب ويحشى بقطن يُغطي كفَّيْ المرأة وأصابعها. بالفارسية (دستانه) .
(3) أي يرويه له.
(4) قوله: طلحة بن عبيد الله، هو أحد العشرة المبشَّرة: طلحة بن(2/304)
ثَوْبًا مَصْبُوغًا (1) وَهُوَ مُحرم، فَقَالَ عُمَرُ: مَا هَذَا الثَّوْبُ الْمَصْبُوغُ يَا طَلْحَةُ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ مَدَر (2) ، قَالَ إِنَّكُمْ - أَيُّهَا (3) الرَهْط - أئمةٌ (4) يَقْتَدِي بِكُمُ النَّاسُ وَلَوْ أنَّ (5) رَجُلا جَاهِلا رَأَى هَذَا الثَّوْبَ لَقَالَ (6) : أَنَّ طَلْحَةَ كَانَ يَلْبَس (7) الثِّيَابَ الْمُصْبَغَةَ في الإِحرام.
__________
عبيد الله بن عثمان بن عمرو القرشي التيمي، يُعرف بطلحة الخير، وطلحة الفيَّاض، وهو من السابقين الأولين شهداء أحد وما بعدها، رُوي عنه قال: سمّاني رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أحد طلحة الخير، ويوم العُسْرة طلحة الفيّاض، ويوم حنين طلحة الجَوَاد. واستشهد في وقعة "الجمل" سنة ست وثلاثين، وله مناقب جمّة ذكرها ابن الأثير في "أسد الغابة".
(1) بغير ورس وزعفران.
(2) بفتحتين أي من طين أحمر وليس فيه طيب.
(3) خطاب إلى الصحابة.
(4) من المجتهدين.
(5) قوله: ولو أن رجلاً، يؤخذ منه أن العلماء يُستحب لهم التجنُّب عن مواضع التُّهم، وأنه ينبغي لهم ترك مباح يُحتمل فيه الفتنة.
(6) ولم يفرِّق الرأي بين الحلال والحرام، على أن نفس هذا اللون مع قطع النظر عن كونه طيباً لا يليق بالعلماء.
(7) قوله: كان يلبس ... إلى آخره، قال الزرقاني: إنما كره عمر ذلك لئلا يقتدي به جاهل فيظن جواز لُبْس المورس والمزعفر فلا حجة لأبي حنيفة في أن العصفر طيب وفيه الفدية، قاله ابن المنذر. وقد أجاز الجمهور لُبْس المعصفر للمحرم. انتهى. وفيه نظر ظاهر فإن الظاهر من أثر عمر أنه كره ذلك لئلاّ يظن جاهل من لُبْس الثوب المصبغ بالمَدَر - ولونه أحمر - جواز لُبْس الأحمر مطلقاً(2/305)
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُكره أَنْ يَلْبَس الْمُحْرِمُ الْمُشَبَّعُ (1) بِالْعُصْفُرِ (2) وَالْمَصْبُوغَ بِالْوَرْسِ أَوِ الزَّعْفَرَانِ، إِلا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَدْ غُسِلَ، فَذَهَبَ (3) رِيحُهُ وَصَارَ لا ينفَضُّ (4) ، فَلا بَأْسَ (5) بِأَنْ يلبسه. ولا ينبغي للمرأة أن
__________
حتى المعصفر لا لئلا يظن جواز المورس والمعصفر، فإن لون كل منهما أصفر يبعد من رؤيته لونَ المدرِ جوازَه.
(1) من أشبع الثوب إذا أكثر صبغه.
(2) بضم العين والفاء: نبت معروف يُصبغ به الثوب صبغاً أحمر، يقال له كسم.
(3) قوله: فذهب ريحه، يشير إلى أن المنع من المصبوغ بالزعفران والورس إنما هو لريحه لا لنفس اللون، قال العيني في "عمدة القاري": ظاهر الحديث أنه لا يجوز لُبس ما مسَّه الزعفران والورس سواء انقطعت رائحته أو لم تنقطع، وفي "الموطأ" أن مالكاً سُئل عن ثوب مسّه طيب، ثم ذهب ريح الطيب هل يُحرم فيه؟ قال: نعم، لا بأس بذلك، ما لم يكن فيه صباغ زعفران أو ورس، قال: وإنما يُكره لُبْسُ المشبعات لأنها تنفَضُّ وذهب الشافعي إلى أنه إن كان بحيث لو أصابه الماء فاحت الريح منه لم يجز استعماله، وقال أصحابنا: ما غسل من ذلك حتى صار لا ينفضّ فلا بأس بلبسه في الإِحرام، وهو المنقول عن سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح والحسن وطاوس وقتادة والنخعي والثوري وأحمد وإسحاق، وقد روى الطحاوي عن فهد عن يحيى بن عبد المجيد عن أبي معاوية، وعن ابن أبي عمران عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي عن أبي معاوية عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: "لا تلبسوا ثوباً مسّه ورس أو زعفران - يعني في الإِحرام - إلا أن يكون غسيلاً". وهذه الزيادة صحيحة لأن رجاله ثقات.
(4) بفتح الفاء وتشديد الضاد أيضاً أي لا يتناثر منه الطيب ولا يفوح منه.
(5) قوله: فلا بأس بأن يلبسه، ظاهره أنه يجوز للرجال لبس المزعفر(2/306)
تتنقَّب (1) فَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تُغَطِّيَ (2) وَجْهَهَا فلتَسْدِلْ (3) الثَّوْبَ سَدْلا مِنْ فَوْقِ (4) خِمَارِهَا عَلَى وَجْهِهَا، وتُجافيه (5) عَنْ وَجْهِهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة والعامة من فقهائنا.
425 - أخبرنا مالك، حدثنا حميد بن قيس المكي، عن
__________
والمعصفر، وحقق العيني في "شرح البخاري" نقلاً عن شيخه الزين العراقي وأقره أنَّ لُبس المزعفر لغير المحرم جائز، والمراد في النهي الوارد عن تزعفر الرجل فيما أخرجه الشيخان وغيرهما تزعفر بدنه، لكن أكثر كتب فقهائنا ناصّة على كراهة المعصفر والمزعفر للرجل غير المحرم (في الأصل الغير المحرم) فما بالك بالمحرم ويمكن أن يُقال: معنى قوله لا بأس بأن يلبسه ههنا لا بأس به للإِحرام، ولا يضرّ لُبسه للإِحرام إذا ذهب ريحه. وأما كراهته لنفس اللون فهو أمر آخر يُعلم من موضع آخر.
(1) أي تلبس النقاب.
(2) لمقابلة غير محرم وغير ذلك.
(3) قوله: فلتسدل الثوب، يقال: سدلت الثوب أرخته وأرسلته من غير ضمّ جانبيه وإن ضمّتهما فهو قريب من التلفيف.
(4) قوله: من فوق خِمارها، بالكسر ما يغطي به المرأة رأسها أي تُرخي الثوب من فوق رأسها على وجهها من غير أن يمسّه، وفسّره القاري بقوله: بكسر أوّلها أي ما تغطي بها وجهها من خشب أو قصب. انتهى، وفيه نظر ظاهر لكونه تفسيراً بما ليس بتفسير.
(5) أي تباعد الثوب المسدول عن الوجه.(2/307)
عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ (1) : أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بحُنَين (2) وَعَلَى الأَعْرَابِيِّ (3) قميصٌ بِهِ (4) أَثَرُ صُفرة (5) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أهللتُ (6) بِعُمْرَةٍ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي أَصْنَعُ (7) ؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: انزع (8) قميصَك
__________
(1) مرسل وصله البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود من طرق عن عطاء عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه.
(2) قوله: بحنين، بالتصغير وادٍ بالطائف، قال ابن عبد البر: المراد منصرفه من غزوة حنين، والموضع الذي لقيه فيه هو الجعرّانة، ذكره السيوطي. وكانت تلك الغزوة سنة ثمان كما ذكره ابن حزم وغيره.
(3) قوله: الأعرابي، قال الحافظ: لم أقف على اسمه. وفي "تفسير الطرطوشي" اسمه عطاء بن أمية، قال ابن فتحون: إن صح هذا فهو أخو يعلى راوي الخبر.
(4) أي بذلك القميص. وفي رواية: جبة.
(5) أي من زعفران.
(6) أي أحرمت.
(7) أي في إحرامها وأعمالها.
(8) وقوله: انزع قميصك، أي لأنه مخيط لا يحل استعماله في الإِحرام ولم يأمره بالفدية، فأخذ به الشافعي والثوري وعطاء وأحمد في رواية، وقالوا: من لبس في إحرامه ما لا يجوز جاهلاً أو ناسياً، فلا فدية عليه، قال أبو حنيفة وجماعة: يلزمه إذا غطى رأسه ووجهه متعمّداً أو ناسياً يوماً إلى الليل الفدية، وفي أقل منه الصدقة. وفيه أن المحرم إذا لبس مخيطاً لا يجب عليه شَقُّه، بل نزعه خلافاً للشافعي والنخعي والشعبي قالوا: لا ينزعه لئلا يصير مغطياً رأسه. ونحوه عن علي والحسن وأبي قلابة عند أبي شيبة. كذا ذكره العيني.(2/308)
وَاغْسِلْ هَذِهِ الصُّفرة عَنْكَ (1) وَافْعَلْ فِي عُمْرَتِكَ مثلَ مَا تَفْعَلُ (2) فِي حَجِّكَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، يَنْزَعُ قَمِيصَهُ وَيَغْسِلُ الصُّفْرَةَ الَّتِي بِهِ (3) .
17 - (بَابُ مَا رُخِّص للمُحرم أَنْ يَقْتُلَ مِنَ الدَّوَابِّ (4))
426 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابن عمر: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم قال: خمسٌ (5) من الدواب
__________
(1) قوله: عنك، أي عن بدنك، كذا فسَّره القاري، وليس بصحيح، بل المعنى عن ثوبك على ما يُستفاد من رواية سعيد بن منصور والبيهقي كما فصّله شرّاح صحيح البخاري. ويُستفاد منه نهي المزعفر للرجال.
(2) قوله: ما تفعل في حجك، أي من الأفعال المشتركة بين العمرة والحج دون ما يخص بالحج، ودل هذا أنّ أفعال الحج كانت معلومة عنده.
(3) أي ببدن المحرم وثوبه.
(4) جمع دابة: هي ما يدبّ على الأرض.
(5) قوله: خمس، مفهومه اختصاص الحكم بهذه الخمسة، لكنه مفهوم عدد، وليس بحجة عند الجمهور، وعلى تقدير اعتباره يحتمل أنه عليه السلام اقتصر عليه في وقت، وبيّن في وقت آخر أن غير الخمس يشتركه، فقد ورد عند مسلم من حديث عائشة الاقتصار على الأربع من غير ذكر العقرب، وورد عنها عند أبي عوانة في "المستخرج" ست، هذه الخمسة والحيّة. وأخرج ابن خزيمة وابن المنذر زيادة على الخمسة المذكورة، وهي الذئب والنمر. وعند ابن ماجه من حديث أبي سعيد مرفوعاً: يَقْتُل المحرم الحيةَ والعقربَ والسبعَ العادي والكلب العقور والفأرة. ومن ثم ذهب الجمهور إلى أن الحكم عام في كل مؤذٍ، فليلحق(2/309)
لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ (1) فِي قَتْلِهِنَّ جُناح (2) الْغُرَابُ (3) وَالْفَأْرَةُ (4) والعَقْرب، والحِدَأَة (5) ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ (6) .
427 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ: خمسٌ (7) مِنَ الدَّوَابِّ، مَنْ قَتَلَهُنَّ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ: الْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، والكلب (8) العَقُور، والغُراب، والحِدَأة.
__________
بالحدأة الصقر والبازي وغيرهما من سباع الطيور، وبالعقرب الزنبور والحية ونحوها، وبالفأرة ابن عرس، وبالكلب العقور الأسد، والذئب والنمر وغيرها من سباع البهائم. ومن ثم قيد أصحابنا الغراب بالأبقع وهو الذي يأكل الجِيَف لا غراب الزرع لأنه غير مؤذٍ وقد ورد التقييد بالأبقع في رواية عائشة عند مسلم. والتفصيل في "شرح صحيح البخاري".
(1) وعلى غير المحرم ينتفي الجُناح بالأولَى.
(2) بالضم أي إثم.
(3) أي الذي يأكل الجِيَف وهو الغراب الأبقع.
(4) يستوي فيها الوحشية والأهلية.
(5) بكسر الحاء وفتح الدال والهمزة مقصوراً، على زنة عِنَبَة.
(6) بفتح العين أي المجنون أو الذي يعضّ.
(7) في رواية خمس فواسق وتسميتها به بكونها مؤذية.
(8) قوله: والكلب، قال النووي: اختلفوا في المراد به فقيل: هو الكلب المعروف خاصة وقيل الذئب وحده. وقال جمهور العلماء: المراد به كل مفترس عادٍ غالباً كالنمر والفهد.(2/310)
428 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ فِي الْحَرَمِ (1) .
429 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ (2) قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَ يَقُولُ: أَمَر (3) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ (4) الوَزَغ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كلِّه نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فقهائنا.
__________
(1) قوله: في الحرم، الذي يَحْرُم فيه الاصطياد. وقتل الحيوانات للمُحرم. والحلال كليهما، وذلك لكون الحية مؤذية، وقد وردت الأخبار بجواز قتل الأشياء السابق ذكرها وغيرها من المؤذيات في الحرم، وللمُحْرم أيضاً في الحلّ والحرم كليهما. واختلفت الروايات في الأشياء المذكورة، ففي بعضها ورد نفيُ الجُناح عن قتلها للمحرم، وفي بعضها: نفي الجناح عن قتلهن في الحرم. وهما حكمان متغايران ثابتان لا يستلزم أحدهما الآخر وقد اشتبه على بعض الفقهاء أحدهما بالآخر، وورد الجمع بهما في "صحيح مسلم" عن ابن عمر مرفوعاً: خمس لا جناح على من قتلهن في الحرم والإِحرام، كذا حققه الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية".
(2) قال العيني في "عمدة القاري": فيه انقطاع بين الزهري وسعد.
(3) قوله: أمر، ليس في هذه الرواية جواز القتل للمحرم. ولعل المؤلف استدل بإطلاقه فأورده في هذا الباب.
(4) قوله: بقتل الوزغ، بفتحتين جمع وزغة، دويّبة معروفة تكون في السقوف والجدران، وكبارها يقال لها سام أبرص. وقد ورد الأمر والوعد بالأجر في قتلها، فعن أم شريك أنها استأمرت النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم في قتل الوزغان فأمرها بذلك، أخرجه البخاري ومسلم. وفي "الصحيحين" أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بقتل الوزغ وسماه فويسقاً، وقال: كان ينفخ النار على إبراهيم. وفي "الصحيح" من حديث(2/311)
18 - (باب الرجل يفوته (1) حج)
430 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ سُلَيْمَانَ (2) بْنِ يَسَارٍ: أنَّ هَبّار (3) بْنَ الأَسْوَدِ جَاءَ (4) يَوْمَ النحر، و (5) عمر ينحر (6) بُدْنَه،
__________
أبي هريرة من قتل وزغة في (في الأصل "من أول ضربة"، وهو تحريف. انظر عمدة القاري 10/186) أول ضربة فله كذا وكذا حسنة، ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة دون الأولى ومن قتلها في الثالثة فله كذا وكذا حسنة دون الثانية، وعند الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعاً: اقتلوا الوزغة ولو في جوف الكعبة. وفي سنده عمر بن قيس المكي ضعيف. وعند ابن ماجه عن عائشة: أنه كان في بيتها رمح موضوع فقيل لها ما تصنعين بها؟ قالت: أقتل الوزغ، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن إبراهيم لما ألقي في النار لم يكن في الأرض دابّة إلا أطفأت عنه النار غير الوزغ فإنه كان ينفخ عليه النار فأمر عليه السلام بقتله، كذا في "حياة الحيوان" للدَّميري.
(1) قوله: يفوته، بأن أحرم به، ولم يحصل له الوقوف بعرفة في وقته وهو من زوال يوم عرفة إلى صبح يوم النحر.
(2) في رواية البخاري في "التاريخ" عن سليمان عن هبّار أنه حدثه.
(3) قوله: أن هبّار، بفتح الهاء وتشديد الباء، آخره راء مهملة: ابن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى القرشي، صحابي شهير أسلم بعد فتح مكة، وحَسُن إسلامه، ذكره ابن الأثير في "أسد الغابة".
(4) أي بمنى وكان مجيئه للحج من الشام كما ورد في رواية.
(5) الواو حالية.
(6) أي بمنى يوم النحر.(2/312)
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْطَأْنَا (1) فِي العِدَّة كُنَّا نُرى أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اذْهَبْ إِلَى مَكَّةَ فَطُفْ (2) بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا، أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ (3) وَانْحَرْ هَدْيًا إِنْ كَانَ مَعَكَ، ثُمَّ احْلِقُوا (4) أَوْ قصِّروا وَارْجَعُوا (5) فَإِذَا كَانَ قابلٌ (6) فَحُجُّوا (7) وَاهْدُوا (8) ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ (9) فَيَصُمْ (10) ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعْتُمْ.
__________
(1) قوله: أخطأنا في العِدّة، بكسر العين وتشديد الدال أي تعداد التاريخ والأيام، وكنا نُرى بصيغة المجهول: أي نظن أن هذا اليوم الذي وصلنا فيه، يوم عرفة يوم الوقوف بعرفة، فلذا تأخّرنا وقد فاتنا الحج فأفتنا فيما نحن فيه.
(2) كطواف العمرة.
(3) من المُحرمين بالحج.
(4) خطاب إلى الجماعة.
(5) أي إلى الأوطان. وهذا الأمر إباحة، فلو أقام هناك فالحكم واحد.
(6) أي عام مستقبل.
(7) قوله: فحجوا، أي قضاءً عن الحج الذي فاته وتحلّل (وفي "مناسك النووي": يلزمه أن يتحلل بعمل عمرة، قال ابن حجر: أي اتفاقاً إلا رواية عن مالك فلو أراد البقاء على إحرامه أثم ويجب عليه التحلل فوراً كما نقله ابن الرفعة عن النص، ومتى خالف وبقي محرماً إلى قابل فحج بذلك الإِحرام لم يصح حجّه. أوجز المسالك 7/240) منه بأفعال العمرة سواء كان الحج الذي أحرم به فرضاً أو نفلاً، فإن النفل يلزم بالشروع عندنا.
(8) أي في ذلك العام.
(9) أي الهدي.
(10) قوله: فليصم. بدل الهدي ثلاثة أيام في الحج أي في أشهره بعد(2/313)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا إِلا فِي خَصْلَةٍ (1) وَاحِدَةٍ، لا هديَ (2) عَلَيْهِمْ فِي قَابِلٍ وَلا صَوْمٍ. وَكَذَلِكَ (3) رَوَى الأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعي عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنِ الَّذِي يَفُوتُهُ الْحَجُّ؟ فَقَالَ: يحلّ (4) بعمرة
__________
إحرامه، والأفضل أن يكون آخرها يوم عرفة، وسبعة إذا رجعتم أي فرغتم من الحج بمكة أو بعد الرجوع إلى الوطن، فإنّ الأمر موسَّع. واستدل الشافعي ومالك والحسن بن زياد من أصحابنا بهذا الأثر، وقالوا: فائت الحج يتحلّل بأفعال العمرة، ويحج من عام قابل، وعليه دم، فإن لم يجد فصوم، ويوافقهم أيضاً ما أخرجه الشافعي والبيهقي عن أنس بن عياض عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: من أدرك ليلة النحر فوقف بعرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج ومن فاته فقد فاته الحج، فليأت البيت وليطف به سبعاً، ويطوف بين الصفا والمروة سبعاً، ثم ليحلق أو ليقصِّر، وإن كان معه هدي فلينحر، ثم يرجع إلى أهله فإن أدركه الحج من قابل فليحج وليهد، فإن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعاً إذا رجع إلى أهله. وما أخرجه ابن أبي شيبة عن عطاء أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: من لم يُدرك الحج فعليه دم، ويجعلها عمرة، وعليه الحج من قابل. وهو مرسل ضعيف، كذا ذكره الزيلعي والعيني.
(1) أي في حكم واحد من الأحكام المذكورة.
(2) أي ليس بواجب عليهم. وأما على الاستحباب فلا يُنكر وعليه يُحمل ما ورد بأمره.
(3) قوله: وكذلك روى الأعمش، يوافقه حديث ابن عباس مرفوعاً: من أدرك عرفات فوقف بها وبالمزدلفة فقد تم حجُّه، ومن فاته عرفات فقد فاته الحج، فليحلل بعمرة، وعليه الحج من قابل. ونحوه من طريق ابن عمر، أخرجهما الدارقطني، وسندهما ضعيف كما بسطه الزيلعي.
(4) أي يخرج من العمرة بأفعال العمرة.(2/314)
وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قابلٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ (1) هَدْيًا، ثُمَّ قَالَ: سَأَلْتُ بَعْدَ ذَلِكَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَقَالَ: مِثْلَ (2) مَا قَالَ عُمَرُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَكَيْفَ (3) يَكُونُ عَلَيْهِ (4) هَدْيٌ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَالصِّيَامُ وَهُوَ (5) لَمْ يتمتَّعْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؟!
19 - (بَابُ الحَلَمة (6) والقُراد يَنْزَعُهُ الْمُحْرِمُ)
431 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ عَبْدَ الله بن عمر كان
__________
(1) أي عمر فلو كان واجباً لذكره.
(2) أي من غير ذكر الهدي.
(3) استبعاد لوجوب الهدي أو الصيام عليه وإيماء إلى الاستدلال على عدمه.
(4) أي على فائت الحج.
(5) قوله: وهو، أي والحال أنه لم يتمتع في أشهر الحج، والهدي إن قدر عليه وصيام العشرة إن لم يقدر عليه خاصّ بالمتمتع، كما قال الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بالعمرة إلى الحجّ فَما استيسر من الهَدْي، فمَنْ لم يجد فصيام ثلاثة أيّامٍ في الحجّ وسبعة إذا رجعتم تلك عشرةٌ كاملة} (سورة البقرة: الآية 196) ولعلَّ من حَكَم بالهدي على فائت الحج قاسه على المُحصَر، لكن يبقى الكلام في الصيام.
(6) قوله: باب الحلمة والقراد ينزعه المحرم، أي يخرجه من جسد بعيره حالة إحرامه، والقُراد بالضم كغُراب: دويّبة تتعلق بالبعير كالقُمَّل للإِنسان، ويقال له أول ما يكون صغيراً: قمقامة، ثم يصير حمنانة، ثم يصير قراداً، ثم يصير حَلَمة - بفتحتين - كذا قال الدَّميري في "حياة الحيوان"، وقال أيضاً: مذهبنا استحباب(2/315)
يَكْرَهُ (1) أَنْ ينزعَ المُحرم حَلَمة أَوْ قُرَادًا عَنْ بَعِيرِهِ (2) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ بِذَلِكَ (3) ، قولُ (4) عمرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي هَذَا (5) أعجبُ إِلَيْنَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَر.
432 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا (6) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن
__________
قتل القراد في الإِحرام وغيره، وقال العبدري: يجوز عندنا أن يقرد بعيره، وبه قال ابن عمر وابن عباس وأكثر الفقهاء. وقال مالك: لا يقرده، وقال ابن المنذرك وممن أباح تقريد البعير عمر وابن عباس وجابر بن زيد وعطاء والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وكرهه ابن عمر ومالك، وروي عن سعيد بن المسيّب أنه قال في المحرم يقتل قرادة: يتصدق بتمرة أو تمرتين، قال ابن المنذر وبالأول أقول. انتهى.
(1) قوله: يكره، لأن تقريده سبب لإِهلاكه، قال مالك: ذلك أحب ما سمعت في ذلك.
(2) وأما عن نفسه فلا يُكره لأنه ليس من دوابّ الإِنسان (أما لو ركب القراد على نفسه فلا بأس أن يدفعه لأنه ليس مما يتولّد عن الإِنسان. أوجز المسالك 7/38) .
(3) أي بالتقريد من البعير.
(4) الآتي ذكره.
(5) أي في هذا الأمر.
(6) قوله: حدثنا عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الرحمن العمري المدني ضعفه جماعة، منهم ابن المديني ويحيى بن سعيد وغيرهما، ووثقه أحمد وابن معين ويعقوب بن شيبة، توفي بالمدينة سنة 171،(2/316)
رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الهُدَير (1) ، قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُقرّدُ (2) بَعِيرَهُ بالسُّقيا (3) وَهُوَ مُحرم، فَيَجْعَلُهُ (4) فِي طِينٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا بَأْسَ (5) بِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فقهائنا.
__________
كذا في "تهذيب التهذيب" وقد بسطت الكلام في توثيقه والاحتجاج به في رسالتي "الكلام المبرور في ردّ القول المنصور"، وفي رسالتي "السعي المشكور في الردّ على المذهب المأثور" كلاهما في بحث زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، والرسالتان المردودتان لبعض أفاضل عصرنا ممن حج ولم يزر قبرَ النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكتب ما كتب. وفي "موطّأ يحيى" في هذه الرواية لم يذكر عبد الله العُمَري بل فيه مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي إلى آخره.
(1) بصيغة التصغير.
(2) من التقريد وهو نزع القراد من البعير.
(3) بالضم: قرية بين مكة والمدينة.
(4) أي يُلقي القراد في الطين (قال الموفق: وما لا يؤذي بطبعه ولا يؤكل كالرخم والديدان فلا أثر للحرم ولا للإِحرام فيه ولا جزاء فيه إن قتله، وبهذا قال الشافعي. وقال مالك: يحرم قتلها وإن قتلها فداها، وإذا وطئ الذباب والنمل تصدَّق بشيء من الطعام. أوجز المسالك 9/36) .
(5) قوله: لا بأس به، لأن القراد مؤذية بالطبع وليست بصيد ولا متولدة من بدن الإنسان حتى يحرم إهلاكه.(2/317)
20 - (بَابُ لُبْس المِنْطَقة (1) والهِمْيان للمُحرم)
433 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَكْرَهُ (2) لُبْسَ الْمِنْطَقَةِ لِلْمُحْرِمِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا أَيْضًا لا بَأْسَ بِهِ، قَدْ رخَّص غيرُ وَاحِدٍ (3) مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي لُبْس الْهِمْيَانِ للمُحرم، وَقَالَ: استوثِقْ (4) من نفقتك.
__________
(1) قوله: لُبْس المنطقة، قال القاري: المِنْطَقة بكسر الميم وفتح الطاء ما يشدّ به الوسط، والهِمْيان - بكسر فسكون - الكيس الذي تُجعل فيه النفقة ويُشَدّ على الوسط ويشبه تكة السراويل.
(2) قوله: كان يكره، أي تنزيهاً، قال ابن عبد البرّ: لم يُنقل كراهته إلاّ عنه وعنه جوازه. ولا يكره عند فقهاء الأمصار وأجازوا عقده إذا لم يكن إدخال بعضه في بعض، ومنع إسحاق عقده، وكذا عن سعيد بن المسيب عن ابن أبي شيبة. وفي "الهداية" و"البناية": لا بأس بأن يشدّ في وسطه الهميان وهو ما يوضع فيه الدراهم والدنانير، وقال مالك: يُكره إن كان فيه (سقط لفظ "فيه" من الأصل) نفقة غيره لأنه لا ضرورة له في ذلك. ولنا أنه ليس في معنى لُبْس المخيط فاستوت به الحالتان. قال ابن المنذر: رخّص في الهميان والمنطقة للمحرم ابن عباس وابن المسيّب وعطاء وطاوس ومجاهد والقاسم والنخعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور غير أن إسحاق قال: ليس له أن يعقد، بل يدخل السيور بعضها في بعض.
(3) أي كثير من الفقهاء.
(4) قوله: استوثق، أي استحفظ واستحكم ما تنفقه في سفرك، وهذا قول عائشة، ذكره محبّ الدين الطبري، نقله العيني. وفيه إشارة إلى أن الضرورات تبيح المحظورات، فإنّ المحظور في الإِحرام إنما هو لُبْس المخيط حقيقةً أو حكماً لا شدَّه.(2/318)
21 - (بَابُ الْمُحْرِمِ يَحُكُّ (1) جلدَه)
434 - أَخْبَرَنَا (2) عَلْقَمَةُ بْنُ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أُمِّهِ (3) قَالَتْ: سمعتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا تُسأَلُ (4) عَنِ المُحرم، يَحُكُّ (5) جِلْدَهُ؟ فَتَقُولُ: نَعَمْ فَلْيَحُكَّ (6) وليشدُدْ (7) ، وَلَوْ رُبطت (8) يَدَايَ (9) ، ثُمَّ لَمْ أَجِدْ إِلا أَنْ أحكَّ برِجْلَيّ (10) لاحْتَكَكْتُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (11) ، وَهُوَ قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
__________
(1) من الحك (سودن جيزى جيزى) (بالفارسية) .
(2) قوله: أخبرنا علقمة، هكذا وجدنا في نسخ عديدة، والصحيح أخبرنا مالك أخبرنا علقمة إلى آخره على ما في بعض النسخ الصحيحة (كذا في الأوجز 7/37) .
(3) اسمها مرجانة.
(4) بصيغة المجهول: أي يسألها الناس.
(5) استفهام بحذف الهمزة، بيان للسؤال.
(6) أي المحرم. والأمر للإِباحة.
(7) أي ليبالغ في الحك.
(8) أي شُدَّتْ، بصيغة المجهول.
(9) في نسخة: يداي واحتجت.
(10) تثنية رِجل بكسر.
(11) أي بجواز الحكّ بشرط أن يكون برفق، لا ينتف شعراً.(2/319)
22 - (بَابُ المُحرم يَتَزَوَّجُ)
435 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ نُبَيْه (1) بْنِ وَهْبٍ أَخِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ: أَنَّ عمرَ بنَ عُبَيْدِ اللَّهِ أَرْسَلَ (2) إلى أبانَ بنِ عثمان - و (3) أبان أَمِيرُ (4) الْمَدِينَةِ - هُمَا (5) مُحرمان، فَقَالَ (6) : إِنِّي أردتُ أَنْ أُنكح (7) طَلْحَةَ بْنَ عُمَرَ ابنةَ شيبةَ بنِ جُبَيْرٍ، وأردتُ (8) أَنْ تَحْضُرَ ذَلِكَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ (9) أَبَانٌ، وَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عفان قال: قال:
__________
(1) قوله عن نبيه، هو بضم النون - مصغَّراً - بن وهب بن عثمان العبدري أخي بني عبد الدار بن قصيّ قبيلة أي هو أحد منهم، وهو من صغار التابعين، مات سنة 126، وشيخه عمر بن عبيد الله بن معمر بن عثمان بن عمرو بن كعب القرشي جده معمر صحابي، وهو من التابعين، ذكره ابن حبان في "الثقات" كذا في "شرح الزرقاني".
(2) أي نُبَيْهاً الراوي كما في رواية لمسلم.
(3) الواو حالية وكذا الواو التي بعدها.
(4) في "موطأ يحيى" وأبان يومئذ أمير الحاجّ أي من جهة عبد الملك.
(5) أي عمر وأبان.
(6) أي عمر.
(7) قوله: أن أنكح، من الإِنكاح، طلحة بن عمر أي ابنه مع ابنة شيبة، اسمها: أمة الحميد بن جبير بن عثمان بن أبي طلحة العبدري.
(8) أي قصدتُ وأحببتُ أن تحضر في مجلس العقد. وفيه دلالة على ندب الإِيذان لحضور العقد.
(9) وقال لا أُراه إلا عراقياً، كما في رواية لمسلم، أي آخذاً بمذهب أهل العراق تاركاً للسنة.(2/320)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يَنْكِحُ المحرمُ وَلا يَخْطُبُ وَلا يُنْكَح (1) .
436 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: لا يَنكحُ المُحرم وَلا يَخْطُبُ عَلَى نَفْسِهِ وَلا عَلَى غَيْرِهِ.
437 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا (2) غَطَفان بْنُ طَرِيف أَخْبَرَهُ: أَنَّ أَبَاهُ طَرِيفًا تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحرم فَرَدَّ (3) عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نِكاحَه.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَدْ جَاءَ فِي هَذَا (4) اختلاف (5) ، فأبطل أهل (6)
__________
(1) قوله: لا يَنْكِح، بفتح أوله، المحرم بحج أو عمرة أي لا يعقد لنفسه ولا يُنْكَح بضمّ أوله أي لا يعقد لغيره بولاية أو وكالة، ولا يخطب من الخِطبة بالكسر، ويحتمل أن يريد خطبة النكاح. والسرّ في النهي عن هذه الأمور أنها من أمور العيش الدنيوي والإحرام ينبغي فيه ترك الترفُّه والتعيش، ولذا نهي عن التطيب ولُبْس المخيط ونحو ذلك.
(2) قوله: حدثنا غطفان، هكذا في النسخ الحاضرة، وفي "موطأ يحيى": مالك عن داود بن الحصين أن أبا غطفان بن طريف المُرِّي أخبره أن أباه ... إلى آخره. وأبو غَطَفان - بفتحات - قيل: اسمه سعد تابعي ثقة، وأبوه طَرِيف ككريم أيضاً من التابعين ونسبته المُرِّيّ - بضم الميم وكسر الراء المشددة - إلى مُرٍّ، قبيلة، ذكره السَّمْعاني.
(3) قوله: فردّ نكاحه، ظاهره أنه فسخه بغير طلاق أخذاً بظاهر الحديث وهو قول الشافعية. وعند المالكية يُفسخ بطلقة احتياطاً، ذكره السَّمْعاني.
(4) أي في نكاح المُحرم.
(5) أي اختلاف الروايات واختلاف العلماء.
(6) قوله: أهل المدينة، منهم سعيد بن المسيب والقاسم وسليمان بن يسار، وبه قال الليث والأوْزاعي ومالك وأحمد وإسحاق: أنه لا يجوز للمحرم النكاح، فإن(2/321)
الْمَدِينَةِ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ، وَأَجَازَ أَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ نِكَاحَهُ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوَّجَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ وَهُوَ مُحرم. فَلا نَعْلَمُ (1) أَحَدًا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أعلمَ بتزوُّج رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
فعل ذلك فهو باطل، وهو قول عمر وابن عمر وعلي وأبان وغيرهم. وأجاز ذلك إبراهيم النَّخَعي والثوْري وعطاء بن أبي رباح والحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان وعكرمة ومسروق وأبو حنيفة وأصحابه. واحتج المانعون بحديث عثمان المذكور سابقاً، وقد رواه الجماعة إلا البخاريّ وابن حِبّان وغيرهما. واحتجّ المجوِّزون بحديث ابن عباس قال: تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم، أخرجه الأئمة الستة وغيرهم، زاد البخاري في رواية: وبنى بها وهو حلال وماتت بسَرَف. وقال الترمذي: هو حديث حسن صحيح. وفي الباب عن عائشة أخرجه ابن حبان والبيهقي. قالت: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوج وهو محرم. وأخرجه الطحاوي أيضاً، وأخرج أيضاً عن أبي هريرة: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم. وكذا أخرجه الدارقطني. وأجاب المجوِّزون عن حديث المانعين بحمل "لا يَنْكح" على منع الوطء فإن النكاح يُستعمل فيه. وفيه سخافة ظاهرة فإن لا يخطُبُ ولا يُنكح بالضم آبيان عن هذا التأويل (قلت: قد ذهب أكثر المؤرخين إلى أنه نكحها بسَرِف ذاهباً إلى مكة وأنه صلى الله عليه وسلم أراد بمكة البناء بها ودعا أهل مكة إلى الوليمة فلم يقبلوها. أفترى أنه صلى الله عليه وسلم ورد مكة ولم يحرم بعد؟ فكيف يُتصوَّر ما قالوا من أنه تزوج وهو حلال؟ انظر الكوكب الدرى 2/104) والكلام في هذا البحث طويل من الطرفين مبسوط في "تخريج أحاديث الهداية" للزيلعي وشرح "الهداية" وشرح "صحيح البخاري" للعيني.
(1) قوله: فلا نعلم، إشارة إلى ترجيح هذه الرواية بأن ابن عباس أعلم بكيفية تزوُّج ميمونة، وهو يخبر أنه كان في حالة الإحرام، فروايته مقدَّمة على رواية من روى أنها تزوجها حلالاً، كما أخرجه الطبراني في "معجمه" عن صفية بنت(2/322)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
شَيْبة وغيرُه. وههنا أبحاث يظهر بالتَعمُّق فيها ترجيح قول المانع على ما ذهب إليه المجوِّزون:
أحدها: وهو أقواها أنه قد رُوي عن ميمونة وهي صاحب القصة أنها تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حلال. وفي رواية: تزوجني ونحن حلالان بسرف. وفي رواية: بعد أن رجعنا من مكة، أخرجه أبو داود والترمذي ومسلم وأبو يعلى وغيرهم، ولاشك أن صاحب القصة أدرى بحاله من ابن أخته.
وثانيها: أنه لو كان كون ابن عباس ابن أخت ميمونة مرجِّحاً، فكذلك يزيد بن الأصم ابن أختها، وهو روى أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالاً. وابن عباس وإن كان أعلم منه وأفضل منه لكنهما يتساويان في القرابة، ورواية يزيد أخرجها الطحاوي وغيره.
وثالثها: أن أبا رافع مولى رسول الله أخبر أنه تزوّجها وهو حلال وكان سفيراً بينهما، كما أخرجه الترمذي وحسّنه وأحمد وابن حبان وابن خزيمة. ولاشك أن الرسول في واقعة أدرى بها من غيره.
ورابعها: أن أبا داود أسند عن سعيد بن المسيب أن ابن عباس وهم في أنه تزوجها وهو محرم.
وخامسها: أنه لا شك أنّ تزويج ميمونة كان في عمرة القضاء، وإنما اختُلف في أنه كان ذاهباً إلى مكة فيكون في حالة الإحرام، أو راجعاً منها فيكون في حالة الإحلال، وابن عباس كان إذ ذاك صغيراً لم يبلغ مبلغ الرجال، فلا يبعد وهمه وقلة حفظه لهذه الواقعة لصغره، وليس فيه حطّ لشأنه بل بيان لدفع استبعاد وهمه لا سيما إذا خالفه أبو رافع وميمونة.
وسادسها: أنه على تقدير صحة روايته يمكن أن يكون معنى قوله مُحرماً أي في الحرم فإن المحرم يستعمل في عرفهم في هذا المعنى أيضاً، وفيه بُعد، كما يشهد به رواية البخاري: تزوّجها وهو محرم وبنى بها وهو حلال.(2/323)
مَيْمُونَةَ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ (1) ابْنُ أُخْتِهَا، فَلا نَرَى بِتَزَوُّجِ الْمُحْرِمِ بَأْسًا وَلَكِنْ لا يُقَبِّل (2) وَلا يَمَسَّ حَتَّى يَحِلَّ (3) ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم الله تَعَالَى.
23 - (بَابُ الطَّوَافِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الْفَجْرِ)
438 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَير الْمَكِّيُّ: أَنَّهُ كان يرى البيتَ (4)
__________
وسابعها: أنه قد يجيء المحرم بمعنى الداخل في الشهر الحرام فيحتمل أن يكون هو المراد ههنا، وفيه بُعد أيضاً نظراً إلى تقابل الحلال.
وثامنها: أنه قد تقرر في الأصول أن الحديث القولي مقدّم على الحديث الفعلي، وقد أخذ بهذه القاعدة أصحابنا أيضاً في كثير من المواضع، فبعد ثبوت رواية ابن عباس وقوّته وترجحه على رواية غيره وكون المحرم فيه بمعنى صاحب الإحرام يقال: إنه حكاية للفعل النبوي، وهو مع أنه لاعموم له يُقدِّم عليه حديث المنع القولي، والقول بأن التقدُّم إنما يكون عند التعارض والتعارض إنما يكون بالتساوي ولا تساوي ههنا كما صدر عن العيني في "عمدة القاري" مما لا يعبأ به، فإنه لا شبهه في ثبوت التساوي، والكلام في سند حديث المنع وكذا الكلام في سند روايات يزيد وميمونة وأبي رافع إن كان فهو قليل لا يرتفع به قابلية الاحتجاج به فافهم واستقم.
(1) أي والحال أن ابن عباس ابن أخت ميمونة فإنّ أمّه أمَّ الفضل أخت لها.
(2) لأن التقبيل والمس ونحو ذلك من دواعي الجماع، وهو مع دواعيه ممنوع عنه في الإحرام.
(3) أي يخرج من الإحرام.
(4) أي الكعبة أي حوله ومطافه.(2/324)
يَخْلُو (1) بَعْدَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الصُّبْحِ، مَا (2) يَطُوفُ بِهِ أَحَدٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: إِنَّمَا كَانَ يَخْلُو لأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الصَّلاةَ (3) تَيْنك (4) السَّاعَتَيْنِ. وَالطَّوَافُ لا بُدّ لَهُ (5) مِنْ صَلاةِ رَكْعَتَيْنِ، فَلا بَأْسَ (6) بِأَنْ يطوف سبعاًولا يُصَلِّيَ الرَّكْعَتَيْنِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ وَتَبْيَضَّ (7) ، كَمَا
__________
(1) قوله: يخلو، قال الزرقاني: هذا إخبار عن مشاهدة من ثقة لا إخبار عن حكم، فسقط قول أبي عمر (في الأصل أبو عمرو والصواب أبو عمر) أي ابن عبد البر: هذا خبر منكر، يدفعه من رأى الطواف بعدهما وتأخيره الصلاة كمالك وموافقيه، ومن رأى الطواف والصلاة معاً بعدهما.
(2) نافية.
(3) لعموم الأحاديث الواردة بذالك كما مرَّ ذكرها.
(4) أي بعد العصر وبعد الصبح.
(5) أي وجوباً (وفي "المحلى" سنة مؤكدة على أصح القولين من الشافعية وهو مذهب الحنابلة. وأوجبهما الحنيفة والمالكية. لكن قال الحنفية: تُجبران بدم وهو القول الآخر للشافعي ويجزئ عنهما المكتوبة عند الشافعي وأحمد. ولا تجزئ عند المالكية. انظر أوجز المسالك 7/126) ويستحب عدم فصلٍ إلا من ضرورة.
(6) قوله: فلا بأس بأن يطوف، تصريح بعدم كراهة الطواف في هذه الأوقات التي كُرهت الصلاة فيها. وتأخير ركعتي الطواف، فسقط ما قال ابن عبد البر: كره الثوري والكوفيون الطواف بعد العصر والصبح فإن فعل فلتؤخر الصلاة. انتهى. قال الحافظ ابن حجر: لعل هذا عند بعض الكوفيين وإلا فالمشهور عند الحنفية أن الطواف لا يُكره وإنما تُكره الصلاة.
(7) أي تذهب حُمرته وهو كالتفسير للارتفاع.(2/325)
صنع (1) عمر بن الخطاب، أويصلي (2) الْمَغْرِبَ. وَهُوَ قَوْلُ (3) أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى.
__________
(1) على ما يأتي.
(2) قوله: أو يصلي المغرب، أي أو حتى يصلي المغرب في الطواف بعد العصر وإنما قيد بالصلاة لأن النوافل قبل صلاة المغرب بعد الغروب مكروه عندنا لكونه مؤدياً إلى تأخير المغرب، وكذا ركعتا الطواف وإن كانت واجبة لأن إيجابه بفعل العبد لا بإيجاب من الله تعالى. نعم. ينبغي أن تؤدَّى قبل سُنّة المغرب لقوتها بالنسبة إليها إلا من ضرورة.
(3) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير والحسن البصري والثوري وأبو يوسف ومالك في رواية. واحتجوا بعموم الأخبار الواردة في كراهة الصلاة في هذه الأوقات، وقد وافقهم: أثرُ عمر حيث صلى بذي طوى، ولم يصلِّ في الفور مع أن الموالاة مستحبة. وأثرُ ابن عمر أخرجه الطحاوي عن نافع أن ابن عمر: قدم عند صلاة الصبح فطاف ولم يصل إلا بعد ما طلعت الشمس. وأخرج ابن المنذر وسعيد بن أبي عروبة عن أيوب قال: كان ابن عمر لا يطوف بعد صلاة العصر ولا بعد الصبح. وأثرُ جابر قال: كنا نطوف فنمسح الركن الفاتحة والخاتمة ولم نكن نطوف بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تطلع الشمس بين قرني شيطان، أخرجه أحمد. وأثرُ أبي سعيد الخدري انه طاف بعد الصبح، فجلس حتى طلعت الشمس أخرجه ابن أبي شيبة. وأثرُ عائشة قالت: إذا أردت الطواف بالبيت بعد صلاة الفجر أو العصر فطف وأخّر الصلاة حتى تغيب أو تطلع. وذهب عطاء وطاوس وعروة والقاسم والشافعي وأحمد وإسحاق إلى جواز ركعتي الطواف في هذه الأوقات، ويوافقهم حديث جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بني عبد مناف، من وَلِييَ منكم من أمر الناس شيئاً فلا يمنعنّ أحداً طاف بهذا البيت وصلّى أي ساعةٍ شاء من ليل أو نهار، أخرجه الشافعي وأصحاب السنن وصححه(2/326)
439 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ (1) أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ طَافَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بَعْدَ صَلاةِ الصُّبْحِ بِالْكَعْبَةِ (2) فَلَمَّا قَضَى (3) طوافَه نَظَر (4) فَلَمْ يرَ الشمس، فركب (5)
__________
الترمذي وابي خزيمة وغيرهم، وما أخرجه الدارقطني والبيهقي بسند ضعيف عن مجاهد قال: قدم أبو ذر فأخذ بعضادة باب الكعبة، وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: لا يصلين أحد بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب إلا بمكة. وفي المقام أبحاث من الطرفين مبسوطة في "فتح الباري" و"عمدة القاري" وقد أطال الكلام في المقام الطحاوي في "شرح معاني الآثار" ورجَّع جوازَ ركعتي الطواف بعد العصر وبعد الصبح قبل الطلوع والغروب من غير كراهة، وكراهتَهما في غيرهما من الأوقات المكروهة كوقت الطلوع والغروب والزوال. وروي ذلك عن ابن عمر ومجاهد والنَّخَعي وعطاء. ولعل المنصف المحيط بأبحاث الطرفين يعلم أن هذا هو الأرجح الأصح، وعليه كان عملي في مكة حين تشرَّفْتُ مرة ثانية بزيارة الحرمين في السنة الثانية والتسعين بعد الألف والمائتين، ولما طفت طواف الوداع بعد العصر حضرتُ المقام مقام إبراهيم لصلاة ركعتي الطواف فمنعني المطوِّفون من الحنفية فقلت لهم: الأرجح الجواز في هذا الوقت وهو مختار الطحاوي من أصحابنا، وهو كافٍ لنا، فقالوا: لم نكن مطَّلعين على ذلك وقد استفدنا منك ذلك.
(1) ابن عبدٍ القارِّيّ.
(2) قيد به احترازاً عن الطواف بين الصفا والمروة.
(3) أي أتمّ.
(4) أي إلى جانب المشرق.
(5) قاصداً المدينة.(2/327)
وَلَمْ يُسَبِّحْ (1) حَتَّى أَنَاخَ (2) بِذِي طُوى (3) فسبَّح رَكْعَتَيْنِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، يَنْبَغِي أَنْ لا يُصَلِّيَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَتَبْيَضَّ (4) . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
24 - (بَابُ الْحَلالُ (5) يَذْبَحُ الصيد أويصيده: هَلْ يَأْكُلُ الْمُحْرِمُ مِنْهُ أَمْ لا؟)
440 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْب (6) بْنِ جَثَّامة اللَّيْثِ: أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بالأبواء
__________
(1) أي لم يصل ركعتي الطواف. يقال سبّح بمعنى صلى السُّبْحة - بالضم - وهي ركعتا النافلة.
(2) أي أجلس بعيرَه.
(3) بالضم اسم موضع بين مكة والمدينة.
(4) ليذهب وقت الكراهة.
(5) أي غير المحرم.
(6) قوله: عن الصَّعب، بالفتح (ابن جَثّامة) بفتح الجيم وتشديد المثلثة، ابن قيس بن ربيعة الليثي، من أجلّة الصحابة، مات في خلافة عثمان على الأصح، (أنه) أي الصعب أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وهو) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (بالأبْواء) بفتح الهمزة وسكون الموحدة: جبل بينه وبين الجُحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً (أو) شك من الراوي (بودّان) بفتح الواو وتشديد الدال المهملة موضع قريب من الجُحفة بينهما ثمانية أميال، كذا قال الزرقاني.(2/328)
أوبودّان، فَرَدَّهُ (1) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِي (2) قَالَ (3) : إِنَّا (4) لَمْ نَرُدَّه عَلَيْكَ إِلا (5) أَنَّا حُرُم.
441 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ: أَنَّهُ مَرَّ بِهِ (6) قومٌ (7) مُحْرِمون بالرَّبَذَة (8) فاستفتَوْه فِي لَحْمِ صَيْدٍ وجدوا أحِلّةً يأكلونه،
__________
(1) أي الحمار الوحشي.
(2) أي من التغيُّر والملال بسبب عدم قبوله الهدية.
(3) أي معتذراً أو كاشفاً عن وجه الردّ.
(4) قوله: إنا، بكسر الهمزة، لم نردَّه، بفتح الدال روايةً وضمِّه قياساً، قال القاضي عياض في"شرح صحيح مسلم" ضبطناه في الروايات بالفتح، وردّه محققوا أشياخنا من أهل العربية وقالوا: بضم الدال، وكذا وجدته بخط بعض أشياخنا أيضاً، وهو الصواب عندهم على مذهب سيبويه في مثل هذا في المضاعف إذا دخله الهاء أن يُضم ما قبلها في الأمر ونحوه من المجزوم مراعاةً للواو التي توجبها ضمة الهاء، هذا في المذكَّر. وأما في المؤنث مثل (لم نردَّها) فمفتوح.
(5) قوله: إلاَّ أنّا، بفتح الهمزة بحذف لام التعليل أي لا نرده لعلة من العلل إلا لأنّا حُرُم بضمتين جمع حرام بمعنى المحرم، قاله الكرماني. وقيل: إنا بكسر أوله ابتدائية.
(6) أي بأبي هريرة.
(7) قوله: قوم محرمون، هم من أهل العراق، وكان أبو هريرة عند ذلك جاء من البحرين واستقر بالرَّبّذة فطلبوا منه الحكم في لحم صيد وجدوا ناساً من أهل الربذة يأكلونه وهم أحِلَّة - بفتح الهمزة وكسر الحاء وتشديد اللام - جمع الحلال بمعنى غير المحرم.
(8) بفتحات: قرية قريب المدينة.(2/329)
فَأَفْتَاهُمْ بِأَكْلِهِ، ثُمَّ قَدِمَ (1) عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ (2) ، فَقَالَ عُمَرُ: بِمَ أفتيتَهم (3) ؟ قَالَ: أفتيتُهم بِأَكْلِهِ، قَالَ عُمَرُ: لَوْ أفتيتَهم بِغَيْرِهِ لأوجعتُك (4) .
442 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ (5) مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ: أَنَّهُ كَانَ مَعَ (6) رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى (7) إِذَا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ تَخَلَّفَ (8) مِنْ أَصْحَابٍ لَهُ مُحرمين، وَهُوَ غَيْرُ
__________
(1) أي أبو هريرة بالمدينة.
(2) أي عن حكم أكل المحرم لحمَ صيد وُجد عند الحلال.
(3) أي بأي شيء أفتيتَ الذين سألوا عنك.
(4) قوله: لأوجعتك، أي لو أفتيتهم بالحرمة أو الكراهية لأدّبتُك وضربتُك وأوجعتُك بالملامة على فتواك بخلاف الشريعة. ودل هذا الأثر على جواز أكل المحرم لحم صيد ذبحه الحلال لا بأمر المحرم وإعانته.
(5) قوله: عن نافع، هو ابن عباس بموحدة وسين مهملة أو عياش بياء تحتية وشين معجمة: أبو محمد الأقرع المدني، ثقة وهو مولى أبي قتادة حقيقةً، كما ذكره النسائي والعِجْلي، وقال ابن حبان: قيل له ذلك للزومه به وإلا فهو مولى عقيلة بنت طلق الغفارية، كذا في "شرح الزرقاني".
(6) في السفر عام الحديبية كما في رواية للبخاري، وفي رواية عام عمرة القضاء.
(7) قوله: حتى إذا كان ببعض الطريق، كان ذلك في قرية تُعرف بالقاحة على ثلاثة أميال من المدينة كما صرح به في روايات البخاري وابن حبان. وعند الطحاوي أن ذلك بعُسفان وفيه نظر.
(8) أي بقي خلفاً متخلفاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.(2/330)
مُحْرِمٍ (1) فَرَأَى حِمَارًا (2) وَحْشِيًّا، فَاسْتَوَى (3) عَلَى فَرَسِهِ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُناولوه سَوْطَهُ (4) ، فَأَبَوْا فَسَأَلَهُمْ أن يناولوه رُمحه (5) ، فأبَوْا (6) ،
__________
(1) قوله: وهو غير محرم، استشكل كونه غير محرم مع أنه لا يجوز مجاوزة الميقات بغير إحرام لا سيما لمن يريد الحج أو العمرة، وأجيب عنه بوجوه ذكرها العيني في "عمدة القاري" وغيره، منها: أنه لم يخرج من المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بل بعثه إليه أهلها بعد خروجه ليعلمه أن بعض العرب يقصدون الإغارة، ورُدّ بمخالفته صريح بعض الروايات. ومنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا قتادة ورفقته لكشف عدوٍّ لهم بجهة الساحل، ولقيه في الطريق بعد مجاوزة الميقات، وفي رواية الطحاوي: أنه بعثه على الصدقة فلقيه بعسفان وهو غير مُحرم، ويردّه أيضاً ظاهر بعض الروايات. ومنها: ما ذكره القاضي عياض وغيره أن المواقيت لم تكن وُقِّتت بعد، فإنها عُيِّنت في حجة الوداع. ومنها ما ذكره عليّ القاري أنه لم يُحرم بقصد الإحرام من ميقات آخر وهو الجُحفة فإن المدني مخيّر بين أن يحرم من ذي الحُليفة وبين أن يُحرم من الجحفة.
(2) قوله: حماراً وحشياً، وهو مقابل الحمار الأهلي، وقد مرّ في باب المتعة حكم الحمار الأهلي، وأنه حرام عند العامة، وفيه خلاف لا يُعتدّ به. وأما الحمار الوحشي، ويقال له بالفارسية (كَورخر) فحلال بالإجماع وكذا إذا صار أهلياً يوضع عليه الإكاف. وقد ثبت في أخبار متعددة أكل الصحابة بل أكل النبي صلى الله عليه وسلم لحمه، كذا في "حياة الحيوان" للدَّميري، ومختصره "عين الحياة" لتلميذه محمد بن أبي بكر الدَّماميني.
(3) أي ركب عليه مستوياً متهيئأً لصيده.
(4) في رواية فسقط سوطه من يده فسأل أن يعطوه سوطه.
(5) بالضم.
(6) قوله: فأبَوا، أي أنكروا أو امتنعوا من مناولة السوط والرمح لعلمهم بأن المحرم لا يجوز له الدلالة على الصيد، ولا الإعانة عليه بوجه من الوجوه.(2/331)
فَأَخَذَهُ (1) ثُمَّ شَدَّ (2) عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ بعضُ أَصْحَابِ (3) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَى بَعْضُهُمْ (4) فَلَمَّا أَدْرَكُوا رَسُولَ الله وَسَلَّمَ سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ (5) فَقَالَ: إِنَّمَا (6) هِيَ طُعمة أطعمَكُمُوها اللَّهُ.
443 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بن أسلم، عن عطاء بن يسار: أن كَعْبَ الأَحْبَارِ أَقْبَلَ (7) مِنَ الشَّامِ فِي رَكْب (8) مُحرمين (9) حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ وَجَدُوا لحم صيد (10) فأفتاهم كعب بأكله، فلما
__________
(1) أي السوط.
(2) أي حمل عليه.
(3) ممن كان مع أبي قتادة.
(4) قوله: وأبى بعضهم، أي امتنعوا من أكله ظنّاً منهم أن المحرم لا يجوز له أكل لحم الصيد مطلقاً.
(5) أي عن هذه الواقعة.
(6) قوله: إنما هي طُعمة، بالضم أي طعام أطعمكموه الله بفضله ورحمته، وفي رواية للبخاري ومسلم: قال: هل منكم أحد أمره أوأشار إليه بشيء؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمها، وفي رواية للبخاري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل معكم منه شيء؟ فقلت: فناولته العضد فأكلها وهو محرم.
(7) إلى مكة.
(8) بالفتح: جمع راكب أي جماعة.
(9) وكانوا قد أحرموا من بيت المقدس كما ورد في رواية.
(10) أوصاده حلال.(2/332)
قَدِمُوا (1) عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ذَكَرُوا ذَلِكَ (2) لَهُ، فَقَالَ: مَنْ أَفْتَاكُمْ بِهَذَا؟ فَقَالُوا: كَعْبٌ، قَالَ: فَإِنِّي أمّرتُه (3) عَلَيْكُمْ حَتَّى تَرجعوا. ثُمَّ لَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ (4) - طَرِيقِ (5) مَكَّةَ - مرَّت بِهِمْ رِجْلٌ (6) مِنْ جَرَادٍ (7) ، فَأَفْتَاهُمْ (8) كَعْبٌ بِأَنْ يَأْكُلُوهُ وَيَأْخُذُوهُ فَلَمَّا قَدِموا (9) عَلَى عُمَرَ ذَكَرُوا
__________
(1) أي بالمدينة وهي ممرّ ركب الشام الذاهبين إلى مكة.
(2) أي أكْلَهم لحمَ الصيد في الإحرام.
(3) قوله: فإني أمّرته، من التأمير أي جعلته أميراً عليكم لتقتدوا به في سفركم لعلمه وفضله حتى ترجعوا من نُسُككم.
(4) أي بين مكة والمدينة.
(5) بيان لبعض الطريق.
(6) بكسر الراء: أي قطيع وطائفة.
(7) بالفتح يقال له في الفارسية (ملخ) وهو حلال بالإجماع من غير ذبح.
(8) قوله: فأفتاهم، هذه الفتوة المذكورة في هذه الرواية مخالفة لما ورد عنه أنه حَكَم بالجزاء في قتل الجراد كما في رواية مالك على ما يأتي، وفي رواية الشافعي بسند حسن عن عبد الله بن أبي عمار، قال: أقبلتُ مع معاذ بن جبل وكعب الأحبار في أناس مُحرمين من البيت المقدس بعمرة حتى إذا كنا ببعض الطريق وكعب على نار يصطلي مرت به رِجْلٌ من جرادتين فقتلهما، وكان قد نسي إحرامه ثم ذكر إحرامه فألقاهما، فلما قدمنا المدينة قصَّ كعب على عمر فقال: ما جعلتَ على نفسك يا كعب؟ فقال: درهمين، فقال عمر: بخ بخ، درهمان خير من مائة جرادة. وهذا يثبت أن كعباً رجع عن فتواه بعدم الجزاء، ويحتمل العكس، ولا يُجزم بأحدهما إلا إذا ثبت تأخُّر أحدهما، فيكون ذلك مرجوعاً إليه، ويمكن أن يكون ذلك الاختلاف للاختلاف في الجراد البري والبحري.
(9) أي بالمدينة بعد الفراغ من النسك.(2/333)
ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ (1) عَلَى أَنْ تُفْتِيَهم بِهَذَا (2) ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنْ (3) هُوَ إِلا نَثْرة حُوتٍ ينثره في كل عام مرتين.
__________
(1) أيْ: أيّ شيء بعثك عليه.
(2) أي بأكل الجراد وهم محرمون.
(3) قوله: إن هو، نافية أي ليس هو أي الجراد إلا نَثْرة حوت - بفتح النون وسكون الثاء المثلثة - هو كالعطسة للإنسان يعني هو شيء يخرج من نثرة حُوت ينثُره بضم الثاء وكسرها أي يرميه متفرقاً مثل ما يخرج من عطس الإنسان من المخاط في كل عام - أي كل سنة - مرتين. يعني فهو صيد بحري وهو حلال بنصّ قوله تعالى: {أحلّ لكم صيد البحر وطعامه} (سورة المائدة: الآية 96) قال الدَّميري: اختلف أصحابنا وغيرهم في الجراد هل هو صيد بحري أو برّي؟ فقيل: بحري لما روى ابن ماجه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على الجراد، فقال: اللهم أهلكْ كباره وأفسد صغاره واقطع دابره وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا إنك سميع الدعاء، فقال رجل كيف تدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره؟ فقال: إن الجراد نثرة الحوت من البحر، وفيه عن أبي هريرة: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حج أو عمرة، فاستقبلنا رِجْلٌ من جراد، فجعلنا نضربهُنُ بنعالنا وأسواطنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوه، فأنه من صيد البحر. والصحيح أنه بري لأن المحرم يجب عليه فيه الجزاء، وبه قال عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس وعطاء، قال العبدري: وهو قول الكافة من أهل العلم (قال العيني في "شرح الهداية": الصحيح أنه من صيد البر فيجب الجزاء بقتله وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي في قوله الصحيح المشهور، كذا في "البذل"، قلت: وصرح ذوو فروع الحنابلة أيضاً بالجزاء. الكوكب الدري 2/108) إلا أبا سعيد الخدري، وحكاه ابن المنذر عن كعب الأحبار. واحتج لهم(2/334)
444 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: أَنَّ رَجُلا سَأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إِنِّي أصبتُ (1) جَرَادَاتٍ بسَوْطي، فَقَالَ: أطْعِم (2) قَبْضَةً (3) مِنْ طَعَامٍ (4) .
445 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ الزُّبَيْرَ (5) بْنِ الْعَوَّامِ كَانَ يتزود (6) صفيف الظِّباء في الإحرام.
__________
بحديث أبي المهزّم عن أبي هريرة: أصبنا رِجْلاً من جراد، فكان الرّجُل منا يضربه بسوطه وهو محرم، فقيل: إن هذا لا يصلح، فذُكر ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقال: إنما هو من صيد البحر، رواه أبو داود والترمذي وغيرهما. واتفقوا على ضعفه بضعف أبي المهزّم، اسمه يزيد بن سفيان. انتهى. وقال الدَّماميني: ذكر بعض الحذّاق من المالكية أن الجراد نوعان: برّي وبحري، فيترتب على كلٍّ حُكْمُه وتتفق الأخبار بذلك.
(1) أي وجدتُ واصطدتُ في الإحرام.
(2) أمر من الإطعام.
(3) بالفتح ما حمل كفُّ يدك من الطعام.
(4) أي حنطة أو غيرها.
(5) قوله: الزبير، هو الزبير بالتصغير ابن العوّام - بتشديد الواو - ابن خويلد أبوعبد الله، ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية. قال النووي في "التهذيب": أسلم بعد إسلام أبي بكر بقليل وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة وشهد بدراً وأحُداً والمشاهد كلها، وقتل يوم الجمل سنة ست وثلاثين.
(6) قوله: كان يتزود، أي يجعله زاداً لسفره في حالة الإحرام. صفيف الظباء، قال القاري: بكسر الظاء جمع الظبي، والصفيف - مهملة وفائين بينهما تحتية -: ما يصفّ من اللحم على اللحم يشوى.(2/335)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كلِّه نَأْخُذُ، إِذَا صَادَ (1) الحلالُ الصيدَ
__________
(1) قوله: إذا صاد الحلال الصيد، اختلفوا في أكل المُحرم لحم الصيد الذي صاده حلال على أقوال:
الأول: أنه لا يجوز للمحرم أكل الصيد مطلقاً صاده حلال أو غيره لعموم قوله تعالى: {وحُرِّم عليكم صَيْدُ البر مادُمْتُمْ حُرُماً} (سورة المائدة: الآية 96) . وهو قول ابن عمر وابن عباس أخرجه عبد الرزاق، وبه قال طاوس وجابر بن زيد والثوري وإسحاق بن راهويه والشَّعبي والليث بي سعد ومجاهد، وروي نحوه عن علي. واحتج لهم بما مرّ من حديث الصَّعب بن جثّامة حيث امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من قبول لحم صيده وعلله بإحرامه وأجاب الجمهور بأنه تركه على التَّنزه أوعلم أنه صِيد من أجله. ومعنى قوله: {حُرِّم عليكم صيد البر} حُرّم عليكم اصطياده بدليل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرُم} (سورة المائدة: الآية 95) وقد ورد في أخبار كثيرة إجازة المحرم في أكل لحم الصيد، بل وأكل النبي صلى الله عليه وسلم لحمه في إحرامه.
القول الثاني: إنّ الصيد الذي صيد لأجل المحرم وإن لم يأمره ولم يُعِنْه إذا علم المحرم ذلك حرام عليه، وما ليس كذلك فهو حلال إذا لم يُعِنْه، وهو قول عثمان وعطاء والشافعي ومالك وأبي ثور وأحمد وإسحاق في رواية، واحتجوا بحديث صيد البر لكم حلال مالم تصيدوه أو يُصاد لكم، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وابن حبان والطبراني وابن عدي والطحاوي من حديث جابر، وفي سنده من تُكُلِّم فيه.
القول الثالث: أنه حلال للمحرم صِيد له أو لم يُصَد له مالم يُعِنْ عليه ولم يَدُلّ عليه، وهو مرويّ عن عمر وأبي هريرة والزبير وكعب الأحبار ومجاهد(2/336)
فَذَبَحَهُ (1) فَلا بَأْسَ بِأَنْ يَأْكُلَ الْمُحْرِمُ مِنْ لَحْمِهِ إِنْ كَانَ (2) صِيد مِنْ أَجْلِهِ أَوْ لَمْ يُصَد مِنْ أَجْلِهِ لأَنَّ (3) الْحَلالَ صَادَهُ وَذَبَحَهُ، وَذَلِكَ (4) لَهُ حَلالٌ فَخَرَجَ مِنْ حَالِ الصَّيْدِ (5) وَصَارَ لَحْمًا (6) فَلا بَأْسَ بِأَنْ يَأْكُلَ الْمُحْرِمُ مِنْهُ وَأَمَّا الْجَرَادُ فَلا يَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَصِيدَهُ فَإِنْ فَعَلَ كفَّر (7) ، وَتَمْرَةٌ (8) خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ: كَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فقهائنا رحمهم الله تعالى.
__________
وعطاء في رواية وسعيد بن جبير وبه قال الكوفيون أبو حنيفة وأصحابه. وحجتهم حديث أبي قتادة فإن فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم هل أحد منكم أمره أو أشار إليه بشيء؟ قالوا: لا، قال: فكلوا، حيث اكتفى فيه على الاستفسار عن الإعانة ولم يقل هل صِيد لأجلكم، ودعوى كونه منسوخاً بحديث الصعب بسندِ أنّ حديث أبي قتادة عام الحديبية وحديث الصعب عام حجة الوداع لا يُسمع فإنه إنما يُصار إليه عند تعذُّر الجمع. وأما قوله أو يصد لكم فمعناه يصد لكم أو بأمركم وإعانتكم. هذا ملخص ما في "عمدة القاري" و"نصب الراية".
(1) أي الحلال وقيد به لأن ذبح المحرم الصيد يُحرّمه عليه وعلى غيره.
(2) أي سواء صاده الحلال من أجل المحرم أي لإطعامه وهديّته إليه بغير أمره وإعانته.
(3) علة للحِلِّيَّة.
(4) أي الذبح والصيد للحلال حلال فلا يحرم لا عليه ولا على المحرم.
(5) أي للمحرم.
(6) كسائر اللحوم التي يجوز أكلها للمحرم.
(7) أي أدَّى الكفارة بما شاء ولو قبضة من طعام أو تمرة واحدة.
(8) قوله: وتمرة خير من جرادة، يعني تمرة واحدة خير من جرادة قتلها(2/337)
25 - (بَابُ الرَّجُلِ يَعْتَمِرُ فِي أَشْهُرِ (1) الْحَجِّ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ (2) مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحُجَّ (3)
446 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ عُمَرَ (4) بْنَ أَبِي سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي شَوَّالٍ، فَأَذِنَ لَهُ، فَاعْتَمَرَ فِي شَوَّالٍ ثم قَفَل (5) إلى أهله ولم يحجّ (6) .
__________
فيوديها بدلها، قال العيني في "البناية" قصته أن أهل حمص أصابوا جراداً كثيراً في إحرامهم وجعلوا يتصدقون مكان كل جرادة بدرهم فقال عمر: إن دراهمكم كثيرة، تمرة خير من جرادة، وروى مالك في "الموطأ" عن يحيى بن سعيد أن رجلاً سأل عن جرادة قتلها وهو محرم؟ فقال عمر لكعب: تعال حتى نحكم، فقال كعب: درهم، فقال عمر لكعب: إنك تجد الدراهم، تمرة خير من جرادة.
(1) أي شوال وذي القعدة وأوائل ذي الحجة.
(2) أي إلى وطنه.
(3) أي في تلك السنة.
(4) هو ربيب النبي صلى الله عليه وسلم أمه أم سلمة أمّ المؤمنين، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الله الأسدي المخزومي، روى أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه جمع، مات سنة 83، قاله القاري.
(5) أي رجع من مكة.
(6) قوله: ولم يحج، قال الزرقاني: فيه دليل على جواز العمرة في أشهر الحج، وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: كانوا - أي أهل الجاهلية - يَرَوْن أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، قال العلماء: هذا من مبتدعاتهم الباطلة التي لا أصل لها، ولابن حبان عن ابن عباس قال: والله ما أعمر(2/338)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَلا مُتْعَةَ (1) عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
447 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ يَسَارٍ الْمَكِّيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لئنْ (2) أعتمرَ قَبْلَ الْحَجِّ، وَأُهْدِيَ أحبُّ إليَّ مِنْ أَنْ أَعْتَمِرَ فِي ذِي الْحِجَّةِ بَعْدَ الْحَجِّ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: كلُّ (3) هَذَا حسنٌ وَاسِعٌ (4) إن شاء فعل (5) وإن شاء
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر المشركين، فإن هذا الحيّ من قريش ومن دان دِينَهم كانوا يقولون ... فذكر نحوه.
(1) قوله: ولا مُتعة، بالضم أي لا يجب عليه دم التمتع لأنه مشروط باجتماع العمرة والحج في أشهر الحج بنص الكتاب.
(2) قوله: لئن أعتمر قبل الحج، أي في أشهر الحج بأن أكون قارناً. وهو أن يحرم من الميقات بالحج والعمرة معاً، فإذا دخل مكة يعتمر، ولا يخرج من الإحرام إلى أن يحج، أو يكون متمتعاً بأن يحرم من الميقات بالعمرة فيتحلَّل بأفعال العمرة ويحلق أو يقصر، ثم يحرم بالحج من مكة، وأهدي أي أؤدِّي هدياً واجباً وهو دم القران والتمتّع شكراً لأداء النسكين في سفر واحد في موسم واحد أحبُّ إليّ من أن أعتمر في ذي الحجة بعد الحج وإن كان هو أيضاً جائزاً. وذلك لأن في الاعتمار قبل الحج في أشهر الحج إبطالاً لقول المشركين، ومخالفةً تامة لهم حيث كانوا يمنعون عنه. وفيه إيماء إلى الرد على من منع من التمتع من الصحابة، فإن قلت: قد منع عنه عمر وعثمان ومعاوية وقولهم أحرى بالقبول، قلت: قد أنكر عليهم في عصرهم أجلّة الصحابة وخالفوهم في فعلها، والحق مع المنكرين.
(3) قوله: كل هذا، أي مما ذُكر من الاعتمار قبل الحج وبعد الحج.
(4) أي جائز فعله.
(5) أي ما ذُكر من التمتع.(2/339)
قَرَنَ وَأَهْدَى فَهُوَ (1) أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ (2) .
448 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ (3) أَبِيهِ: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْتَمِرْ إِلا ثلاثَ عُمَر، إِحْدَاهُنَّ فِي شَوَّالٍ واثنين فِي ذِي الْقِعْدَةِ.
26 - (بَابُ فَضْلِ الْعُمْرَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ)
449 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا سُمَيٌّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ مَوْلاهُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ (4) : جاءت
__________
(1) أي القران أقضل من ذلك لأن فيه جمعاً بين النسكين في إحرام واحد.
(2) في نسخة: من ذلك كله.
(3) قوله: عن أبيه، أي عن عروة بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم: مرسلٌ وصله أبو داود وسعيد بن منصور عن عائشة: لم يعتمر إلا ثلاث عمر، لا يخالف هذا الحصر ما في الصحيحين عنها أنه اعتمر أربعاً. وعندهما عن أنس أنه اعتمر أربعاً وعمرة الحديبية حيث ردوه من العام القابل، وهي عمرة القضاء وعمرة الجعرانة وعمرة مع حجته، ولأحمد وأبي داود عن عائشة: اعتمر أربع عمر لأنها لم تعدّ التي في حجته لأنها لم تكن في ذي القعدة، بل في ذي الحجة إحداهن في شوال، هذا مغاير لقولها ولقول أنس عندهما، والجمع أنها وقعت في آخر شوال، وأول ذي القعدة وهذه عمرة الجعرانة، واثنين في ذي القعدة عمرة الحديبية وعمرة القضاء، كذا في "فتح الباري" وغيره.
(4) قوله: يقول جاءت امرأة، قال ابن عبد البر: هكذا لجميع رواة "الموطأ" وهو مرسل ظاهراً، لكنْ صحّ سماع أبي بكر عن امرأة من بني أسد بن خزيمة يُقال لها أمّ معقل في رواية عبد الرزاق، وفي بعض الروايات تسميتها أم سنان الأنصارية. ورجّع الحافظ بأنهما قصتان.(2/340)
امرأةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنِّي كنتُ تجهّزتُ (1) لِلْحَجِّ وأردتُه، فَاعْتَرَضَ (2) لِي، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعْتَمِرِي فِي رَمَضَانَ، فَإِنَّ عُمْرة فِيهِ كَحَجَّةٍ (3) .
27 - (بَابُ المتمتِّع مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الهَدْي)
450 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: مَنِ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي شَوَّالٍ أَوْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ (4) أَوْ ذِي الحِجّة (5) ، فقد استمتع ووجب عليه الهَدْي (6)
__________
(1) قوله: تجهّزت، أي قصدتُه وهيأتُ أسباب سفره، قالته لمّا قال لها النبي صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من حجّ الوداع: مامنعكِ من أن تخرجي معنا، كما في "سنن أبي داود".
(2) أي عرض لي عارض وعاقني عائق وهو مرض الجدري، كذا هو في رواية أبي داود.
(3) قوله: فإن عمرة فيه كحجة، رُوي نحوه من حديث ابن عباس عند البخاريّ ومسلم، وجابر عند ابن ماجه، وأنس عند ابن عدي، وأبي طليق عند الطبراني، وغيرِهم عند غيرهم، قال أبو بكر بن العربي: هذا حديث صحيح، وهو فضل من الله ونعمة، قال ابن الجوزي: فيه أنَّ ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت كذا في "عمدة القاري".
(4) بفتح القاف وكسرها.
(5) بالكسر لا غير.
(6) أدناه شاة.(2/341)
أَوِ الصِّيَامُ (1) إنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا.
451 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: الصِّيَامُ (2) لِمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ مِمَّنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا مَا بَيْنَ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ فَإِنْ (3) لَمْ يَصُمْ صَامَ أَيَّامَ مِنًى.
452 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدثنا ابن شهاب، عن سالم بن
__________
(1) أي ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع (قال ابن قدامة: ولكل واحد من صوم الثلاثة والسبعة وقتان: وقت جواز ووقت استحباب، فأما وقت الثلاثة فوقت الاختيار لها أن يصومها ما بين إحرامه بالحج ويوم عرفة، قال طاوس: يصوم ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة، ورُوي ذلك عن عطاء والشَّعبي ومجاهد والحسن والنخعي وسعيد بن جبير وعلقمة وعمرو بن دينار وأصحاب الرأي وإن صام منها قبل إحرامه بالحج جاز.
وأما وقت جوازها فإذا أحرم بالعمرة وهذا قول أبي حنيفة، وعن أحمد أنه إذا حلّ من العمرة، وقال مالك والشافعي: لا يجوز إلا بعد إحرام الحج. انظر: المغني 3/476 و 477) .
(2) أي صيام ثلاثة أيام قبل الحج.
(3) قوله: فإن لم يصم، أي في الأيام الثلاثة التي قبل النحر، وهي السابع والثامن والتاسع من ذي الحجة صام أيام منى، وهي أيام التشريق التي يقوم الحجاج فيها بمنى أي اليوم الحادي عشر والثاني عشر - وهو يوم النفر الأول - والثالث عشر يوم النفر الثاني، وهذا مذهب عائشة وغيرها من الصحابة، وبه قال مالك وغيره وقال أصحابنا وغيرهم: لا يجوز في أيام منى الصوم مطلقاً، وقد ذكر تفصيله في كتاب الصيام.(2/342)
عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَ ذَلِكَ (1) .
453 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: مَنِ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي (2) شَوَّالٍ أَوْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ أَوْ فِي ذِي الْحِجَّةِ (3) ، ثُمَّ أَقَامَ (4) حَتَّى يَحُجَّ (5) فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أَوِ (6) الصِّيَامُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، وَمَنْ رَجَعَ (7) إِلَى أَهْلِهِ ثُمَّ حَجَّ (8) فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (9) كلَّه نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ والعامة من فقهائنا رحمهم الله تعالى.
__________
(1) أي مثل قول عائشة رضي الله عنها.
(2) بيان لأشهر الحج.
(3) أي العشرة الأولى منها.
(4) أي بمكة أو حواليها من غير رجوع إلى أهله.
(5) أي في تلك السنة.
(6) عطف على ما قبله.
(7) أي بعد تمام أفعال عمرته.
(8) أي في تلك السنة.
(9) قوله: وبهذا كله، إشارة إلى ما في هذا الأثر الأخير أو إلى جميع ما تقدَّم من الآثار في هذا الباب. وحينئذ يُستثنى منه حكم صوم أيام منى، وإنما لم يصَّرح به اكتفاءً بما ذكره في كتاب الصيام.(2/343)
28 - (بَابُ (1) الرَّمْل بِالْبَيْتِ)
454 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ (2) بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الحَرَامي (3) : أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ مِنَ الحَجَر (4) إِلَى الحَجَر.
__________
(1) قوله: باب الرمل بالبيت، أي في طواف بيت الله، وهو بفتح الراء وسكون الميم، سرعة المشي مع تقارب الخطا، وقيل: هو شبيه بالهرولة، وأصله أن يحرك الماشي منكبيه في مشيه، واتفقوا على كونه مشروعاً، وسببه ما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما قدِموا معتمرين في عمرة القضاء قال المشركون: يقدم عليكم قوم وهنتهم - أي ضعفتهم - حُمَّى يثرب، فأمرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة ولم يأمرهم به في جميع الأشواط شفقةً عليهم، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم. واختلفوا في أنه هل هو من السنن التي لا يجوز تركها أم من السنن التي يخيَّر فيها، فذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والجمهور إلى الأول، ورُوي ذلك عن عمر وابنه وابن مسعود. وذهب جمع من التابعين كطاوس وعطاء والحسن والقاسم وسالم إلى الثاني، وروي ذلك عن ابن عباس. وهذا للرجل، وأما المرأة فلا ترمل بالإجماع لكونه منافياً للستر، كذا في "عمدة القاري".
(2) قوله: جعفر، هو جعفر الصادق فقيه، صدوق، إمام مات سنة ثمان وأربعين ومائة، وأبوه محمد الباقر بن علي زين العابدين بن حسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، ثقة فاضل، كذا في "شرح الزرقاني".
(3) قوله: الحَرَامي، بفتح الهاء المهملة نسبة إلى حرام بن كعب الأنصاري جَدّ جابر بن عبد الله، ذكره السمعاني.
(4) قوله: من الحَجَر، بفتحتين أي من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود يعني في تمام الدورة. وقد رُوي نحوه من حديث ابن عمر عند مسلم والنسائي(2/344)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، الرَّمْلُ ثَلاثَةُ (1) أَشْوَاطٍ (2) من الحجر إلى الحجر. وهو وقول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم الله تَعَالَى.
29 - (بَابُ المكِّي وَغَيْرِهِ يَحُجُّ أَوْ يَعْتَمِرُ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّمْل)
455 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ رَأَى عبد الله بن الزبير (3)
__________
وأبي داود وابن ماجه، ومن حديث أبي الطفيل في مسند أحمد، وورد من رواية ابن عباس في الصحيحين في ذكر ابتداء الرمل أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يرملوا (معنى الرمل: إسراع الخطو من غير وثب. وهو سنة في الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم، ولا نعلم فيه بين أهل العلم خلافاً. المغني 3/373) في الأشواط الثلاثة ويمشوا بين الركنين أي الركن اليماني والحجر الأسود. وجُمع بأن ما في حديث ابن عباس كان في عمرة القضاء وما في حديث جابر كان في حجة الوداع فهو آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلزم الأخذ به.
(1) أي في ثلاثة.
(2) جمع شوط بالفتح وهو عبارة عن دورة واحدة حول الكعبة.
(3) قوله: أنه رأى عبد الله بن الزبير، هو أبو حبيب، ويقال: أبو بكر عبد الله بن الزبير، أحد العشرة المبشرة، الزُّبير - بالضم - بن العوام الأسدي وُلد أول سنة الهجرة ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبرّك عليه، كان كثير الصيام والصلاة، وبويع له بالخلافة سنة أربع وستين في آخر عصر يزيد بن معاوية، واجتمع على(2/345)
أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مِنَ التَّنْعيم (1) ، قَالَ (2) : ثُمَّ رَأَيْتُهُ (3) يَسْعَى (4) حَوْلَ الْبَيْتِ حَتَّى طَافَ الأَشْوَاطَ الثَّلاثَةَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، الرَّمْلُ وَاجِبٌ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ (5) فِي الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ، وَهُوَ قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
__________
طاعته أهل الحجاز واليمن والعراق وخراسان، وقتله الحجّاج الوالي من طرف عبد الملك بن مروان سنة 72.
ومن مآثره أنه بنى الكعبة على قواعد إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والتسليم، كذا في "جامع الأصول" وغيره.
(1) قوله: من التنعيم، موضع خارج مكة في الحِلّ، وإنما أحرم منه اتباعاً لعمرة عائشة حيث أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الحج أن تعتمر وتحرم من التنعيم، واستدل به الجمهور على أن ميقات المكي للعمرة الحل، وخصّه بعضُهم بالتنعيم، وذكر الطحاوي أنه ليس بميقاتٍ معيّن كمواقيت الإحرام، بل ميقات المعتمر الحلّ أيّ جهة كانت.
(2) أي عروة بن الزبير.
(3) أي أخاه عبد الله بن الزبير.
(4) أي يدور سعياً ورملاً.
(5) من أهل الآفاق.(2/346)
30 - (بَابُ الْمُعْتَمِرِ أَوِ الْمُعْتَمِرَةِ (1) مَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا مِنَ التَّقْصِيرِ وَالْهَدْيِ (2))
456 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ (3) ، أَنَّ مَوْلاةً لعَمْرة (4) ابْنَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (5) يُقَالُ لَهَا رُقَيّة أَخْبَرَتْهُ (6) : أَنَّهَا كَانَتْ (7) خَرَجَتْ (8) مَعَ عَمْرة ابْنَةِ عَبْدِ الرحمن إلى مكة،
__________
(قال أحمد: ليس على أهل مكة رمل عند البيت ولا بين الصفا والمروة. المغني 3/376 وفي هامش بذل المجهود 9/147: وفيه أربع مسائل، الأول: حكاه الترمذي عن بعضهم أنه ليس على أهل مكة رمل، وبه قال أحمد، وعند الثلاثة لا فرق بين المكي وغيره. والثاني: الرمل في ثلاثة جوانب كما قاله جمع من التابعين وهو قول للشافعي ضعيف والجمهور منهم الأربعة على الاستيعاب. والثالث: مذهب الجمهور الرمل في الجوانب الأربعة سنة وقال بعضهم: واجب وهو مؤدِّى قول مالك إذ قال بوجوب الدم بتركه. الرابع: أنه في طواف القدوم لا غير عند الحنابلة وهو قول للشافعي والصحيح عنده وبه قلنا إنه في كل طواف يعقبه سعي، وقال مالك في طواف القدوم فإن لم يطف للقدوم ففي طواف الزيارة. انظر حجة الوداع: ص 75) .
(1) قوله: أو المعتمرة، قال القاري: أو للتنويع وجمع بينهما ليكون نصاً على اتحاد حكمهما إلا أن التقصير يتعيّن في حق المرأة، ويجوز في حق الرجل، وإن كان الحلق أفضل بالنسبة إليه.
(2) عطف على المعتمر أو على ما يجب أو على التقصير وهو الأظهر.
(3) ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري.
(4) بفتح العين.
(5) ابن سعد بن زرارة.
(6) أي عبد الله.
(7) في نسخة: قالت.
(8) أي من المدينة.(2/347)
قَالَتْ (1) : فَدَخَلَتْ عَمْرة مَكَّةَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ (2) وَأَنَا مَعَهَا. قَالَتْ: فَطَافَتْ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ (3) الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ دَخَلَتْ (4) صُفّة (5) الْمَسْجِدِ، فَقَالَتْ (6) : أمعكِ (7) مِقَصّان (8) ؟ فَقُلْتُ: لا، قَالَتْ: فالْتَمِسِيه (9) لِي، قَالَتْ: فالتمستُه حتى جئتُ به (10) ، فأخذتْ من
__________
(1) أي رقية.
(2) قوله: يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، سمِّي به لأن التروية الفكر والتردد، وقد وقع فيه التردد لإبراهيم على نبينا وعليه السلام حين رأى في منامه ليلة الثامن ذبح ولده في أن هذا المنام رحماني، أو شيطاني، وحصل له العرفان بأنه رحماني يوم التاسع، فسُمِّي عرفة، كذا قيل. وذكر القاري في "شرح منسك رحمة الله السندي" أنه إنما سُمِّي به إنهم كانوا يروون إبلهم فيه، أي يسقونها الماء استعداداً لوقوف يوم عرفة إذ لم يكن في عرفات ماء جارٍ كزماننا.
(3) أي سعت بين الصفا والمروة.
(4) أي عَمْرة.
(5) قوله: صُفّة المسجد، قال الزرقاني: بضم الصاد مفرد صُفَف كغُرفة وغُرَف، قال ابن حبيب: مؤخر المسجد، وقيل: سقائف المسجد.
(6) أي لرقية.
(7) بهمزة استفهام.
(8) قوله: مِقَصّان، بكسر الميم وفتح القاف والصاد المشدّدة، قال الجوهري: المقص المقراض، وهما مقصان.
(9) أي اطلبيه لي من عند شخص ههنا.
(10) أي بالمقص عند عَمْرة.(2/348)
قُرُونِ (1) رَأْسِهَا، قَالَتْ (2) : فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ ذَبَحَتْ (3) شَاةً.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ لِلْمُعْتَمِرِ وَالْمُعْتَمِرَةِ، يَنْبَغِي أَنْ يقصِّر مِنْ شَعْرِهِ إِذَا طَافَ (4) وَسَعَى (5) ، فَإِذَا كَانَ يومُ النَّحْرِ ذَبَح (6) مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
457 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَلِيًّا (7) كَانَ يَقُولُ: مَا اسْتَيْسَرَ (8) من الهدي شاة.
__________
(1) قوله: من قرون، جمع قرن أي من ضفائر رأسها، قاله الزرقاني. وقال القاري: أي فقطعت من رؤوس شعر رأسها قدر أنملة من جميعها.
(2) أي رقية.
(3) قوله: ذبحت شاة، أي ذبحت عَمْرة يوم العاشر من ذي الحجة بمنى شاة لتمتُّعها لكونها اعتمرت في أشهر الحج، ثم حَلّت من إحرامها بتقصير الشعر، ثم أحرمت بالحج وحجت.
(4) بالبيت.
(5) بين الصفا والمروة.
(6) بعد الرمي قبل الحلق.
(7) ابن أبي طالب.
(8) قوله: ما استيسر، أي المراد من قوله تعالى: {فمن تمتّع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} (سورة البقرة: الآية 196) شاة وهو أدناه. وهذا هو قول الجمهور من الصحابة والتابعين، رواه الطبراني وأبو حاتم عنهم بأسانيد صحيحة، وروَوْا بأسانيد قوية عن عائشة وابن عمر أنهما كانا لا يريان {ما استيسر من الهَدْي} إلا من الإبل والبقر،(2/349)
458 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ بَعِيرٌ (1) أَوْ بَقَرَةٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ عليٍّ نَأْخُذُ، مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ شَاةٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (2) وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
31 - (بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ)
459 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أنَّ ابنَ عُمَرَ اعْتَمَرَ، ثُمَّ أَقْبَلَ (3) حَتَّى إِذَا كَانَ بقُديد (4) جَاءَهُ خَبَرٌ (5) مِنَ الْمَدِينَةِ، فرجع فدخل مكّة بغير (6) إحرام.
__________
ووافقهما القاسم وطائفة، وقد أخرج الطبري بإسناد صحيح إلى عبد الله بن عبيد بن عمير قال: قال ابن عباس: الهدي شاة، فقيل له في ذلك؟ أي إنه لا يقع اسم شاة على الهدي، فقال: أنا أقرأ عليكم من كتاب الله ماتقوون به؟ ما في الظبي؟ قالوا: شاة. قال: فإن الله يقول: {هدياً بالغ الكعبة} كذا في "ضياء الساري" (وانظر فتح الباري 3/535، وأوجز المسالك 7/248) .
(1) قوله: بعير أو بقرة، محمول على الاستحباب فإنه قد مرّ عنه أنه قال لو لم أجد إلا أن أذبح شاة لكان أحب إلى من أن أصوم.
(2) وبه قال الأئمة الثلاثة الباقية.
(3) أي من مكة يريد المدينة.
(4) مصغّراً: موضع بين مكّة والمدينة قرب مكة.
(5) أي خبر مانعٌ من توجّهه إلى المدينة، وهو خبر وقوع الفتنة في المدينة كما صُرِّح به في رواية عبد الرزاق.
(6) قوله: بغير إحرام، قال الزرقاني: احتج به ابن شهاب والحسن البصري(2/350)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، مَنْ كَانَ (1) فِي الْمَوَاقِيتِ أَوْ دُونَهَا إِلَى مَكَّةَ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ وَقْتٌ مِنَ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي وُقِّتت فلا بأس أن
__________
وداود وأتباعه على جواز دخول مكة بلا إحرام، وأبى ذلك الجمهور (إن من أراد أن يدخل مكة يجب أن يدخلها محرماً إذا كان آفاقياً يمرّ على الميقات سواء كان أراد الحج أو العمرة أو لا عند أبي حنيفة ومالك وأحمد وهو أشهر القولين عند الشافعية كما في شرح المهذَب 7/11) . قال ابن وهب عن مالك: لست آخذ بقول ابن شهاب وكرهه، وقال: إنما يكون ذلك على مثل ما عمل ابن عمر من القرب. وقال إسماعيل القاضي: كره الأكثر دخولها بغير إحرام، ورخصوا للحطّابين ومن يكثر دخولهم، ولمن خرج منها يريد بلده ثم بدا له أن يرجع كما صنع ابن عمر، وأما من سافر إليها في تجارة أو غيرها فلا يدخلها إلا محرماً.
(1) قوله: من كان في المواقيت، المقررة للإحرام أي في أنفسها أو دونها أي أسفل منها وأقرب إلى جهة مكة ليس بينه وبين مكة وقت أي ميقات من المواقيت التي وُقّتت - بصيغة المجهول - أي عُيِّنت، وفيه احتراز عمّن بين ذي الحليفة والجُحفة فإنهم وإن كانوا داخل ميقات ذي الحليفة لكن بينهم وبين مكة ميقات آخر، فلا يجوز لهم مجاوزته بغير إحرام، فلا بأس أن يدخل مكة بغير إحرام كما صنع ابن عمر، وهذا إذا لم يُرد أحد النسكين، وإلا فالإحرام لازم. وأما من كان خلف المواقيت أي في جهة مخالفةٍ لجهة مكة أيّ وقت من المواقيت التي بينه وبين مكة فلا يدخلنّ مكة - سواء قصد نسكاً أو لم يقصد - إلا بإحرام لأحد النُّسُكين، وأما إن لم يُرد دخول مكة بل أراد حاجة فيما سواها فلا إحرام عليه بلا خلاف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أتَوْا بدراً مارِّين بذي الحليفة ولم يحرموا وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا، وبه قال الجمهور. وقال العيني في "عمدة القاري": وهو قول عطاء بن أبي رباح والليث والثوري ومالك في رواية، وهو قوله(2/351)
يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ وَأَمَّا مَنْ كَانَ خَلْفَ الْمَوَاقِيتِ أَيَّ وَقْتٍ مِنَ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ فَلا يَدْخُلَنَّ مَكَّةَ إِلا بِإِحْرَامٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
32 - (بَابُ فَضْلِ الحَلْق (1) وَمَا يُجزئ (2) مِنَ التَّقْصِيرِ)
460 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: مَنْ ضَفَر (3) فليحلِقْ، وَلا تُشبِّهوا بالتلبيد.
__________
الصحيح، والشافعي في المشهور عنه، وأحمد وأبي ثور، وقال الزهري والحسن البصري والشافعي في قول ومالك في رواية، وداود بن علي وأصحابه من الظاهرية: لا بأس بدخول الحرم بغير إحرام. انتهى. وقد مرّ بعض ما يتعلق بهذا البحث غير مرة وسيجيء ذكُر ما استَدلّ به المخالفون مع جوابه إن شاء الله تعالى.
(1) أي حَلْق الرأس عند التحلل من الإحرام.
(2) أي يكفي.
(3) قوله: من ضفر، بالضاد المعجمة والفاء (مخففة ومثقلة، كذا في الأوجز 7/330) ، أي جعل شعر رأسه ضفائر كل ضفيرة على حدة. فليحلق، ظاهره الوجوب. ولا تُشبِّهوا، بالضم أي تلبّسوا علينا. فتفعلوا ما يشبه التلبيد. وروي بفتح التاء أي لا تتشبهوا بالتلبيد، هو أن يجعل على رأسه قبل الإحرام لزوقاً كالصمغ ونحوه ليتلبّد شعره أي يلتصق بعضه ببعض، فلا ينتشر ولا يقمل، ولا يصيبه الغبار. وظاهر هذا الأثر أنّ الحلق واجب عند عمر لمن ضفَر. ويجوز القصر لمن لبّد لأنه أشد منه، وفي رواية عنه كما في "موطأ يحيى": من عقص رأسه أو ضفر أو لبّد فقد وجب عليه الحلاق. وإنما جعله واجباً لأن هذه الأشياء تقي الشعر من الشعث، فلما أراد حفظ شعره وصَوْنه ألزمه حلقَه مبالغةً في عقوبته، وإلى هذا ذهب مالك والثوري وأحمد والشافعي في(2/352)
461 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عن ابن عمر: أنَّ رسولَ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (1) : اللَّهمّ ارْحَمِ المحلِّقين، قَالُوا (2) : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهم ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: والمقصِّرين يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهم ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: والمُقَصِّرِين يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (3) والمُقَصِّرِين.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخذ، من ضفر فليحلِق (4) ، والحلق أفضل
__________
القديم، وقال في الجديد كالحنفية: لا يتعيّن الحلق مطلقاً إلا إنْ نَذَره أو كان شعره خفيفاً لا يمكن تقصيره، كذا في "شرح الزرقاني" والقاري.
(1) قوله: قال، أي في حجة الوداع كما ورد في رواية أحمد وابن أبي شيبة ومسلم والبخاري، أو في الحديبية كما ورد عند الطبراني وغيره. ورجّح ابن عبد البَرّ الثاني. وقال النووي في الأول: إنه الصحيح المشهور، وجمع القاضي عياض وابن دقيق العيد بوقوعه في الموضعين.
(2) قوله: قالوا والمقصرين، أي قل: وارحم المقصرين، فإن بعض الأصحاب كانوا عند ذلك مقصِّرين، فأرادوا شمولهم في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ: لم أقف في شيء من طرقه على الذي تولّى السؤال في ذلك بعد البحث الشديد.
(3) قوله: قال والمقصرين، أي في المرة الرابعة بعد ما دعا للمحلِّقين فقط ثلاثاً، وفي معظم الروايات عن مالك الدعاء للمحلِّقين مرتين وعطف المقصِّرين في الثالثة، وكذا وقع الاختلاف في رواية غيره في الصحيحين وغيرهما.
(4) أي استحباباً(2/353)
من التقصير، والتقصير يُجرئ (1) . وهو قول (2) أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
462 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا حَلَقَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَخَذَ مِنْ لِحْيَتِهِ (3) وَمِنْ شَارِبِهِ (4) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: لَيْسَ (5) هَذَا بِوَاجِبٍ، مَنْ شَاءَ فَعَلَهُ. وَمَنْ شاء لم يفعله.
__________
(وذكر الشيخ في "المسوَّى" على أثر الباب: وعليه أبو حنيفة، وفي "العالمكَيرية" لو تعذّر الحلق لعارض تعيّن التقصير أو التقصير لعارض تعيّن الحلق كأن لبّده بصمغ فلا يعمل فيه المقراض ومتى نقض تناثر بعض شعره وذلك لا يجوز للمحرم قبل الحلق. أوجز المسالك 7/332) .
(1) قوله: يجزئ، أي يكفي، وإذا لم يكن له شعر فيُمرّ الموسى على رأسه.
(2) قوله: وهو قول أبي حنيفة، قال العيني في "عمدة القاري": قد أجمع العلماء على أن التقصير مجزئ في الحج والعمرة معاً إلا ما حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري أنه كان يقول: يلزمه الحلق في أول حجّة، وحُكي ذلك عن النخعي عند ابن أبي شيبة.
(3) أي من طولها وعرضها، إذا زاد على القدر المسنون، وهو قدر القبضة.
(4) أي أخذ من شاربه قصَّاً ونهكاً، لا حلقاً.
(5) قوله: ليس هذا بواجب، أي ليس أخذ اللحية والشارب واجباً بل مسنون أو مستحب، أو يقال: ليس هذا من واجبات الحج ومناسكه كحلق الرأس وتقصيره، وإنما فعله ابن عمر اتفاقاً (اختلفوا في ما طال من اللحية على أقوال، الأول: يتركها على حالها ولا يأخذ منها شيئاً وهو مختار الشافعية، ورجحه النووي وهو أحد الوجهين عند الحنابلة. الثاني: كذلك إلا في حجّ وعمرة فيستحب أخذ شيء منها، قال الحافظ: هو المنصوص عن الشافعي. الثالث: يستحب أخذ ما فحش طولها جداً بدون التحديد بالقبضة، وهو مختار الأمام مالك رحمه الله، ورجّحه القاضي عياض. الرابع: يُستحب ما زاد على القبضة وهو مختار الحنفية انظر: أوجز المسالك 15/6) . وفي الأثر إشعار بأن أخذ الشارب هو السنَّة(2/354)
33 - (بَابُ الْمَرْأَةِ تَقْدَمُ (1) مَكَّةَ بِحَجٍّ أَوْ بِعُمْرَةٍ فَتَحِيضُ قَبْلَ قُدُومِهَا (2) أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ)
463 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: الْمَرْأَةُ الْحَائِضُ الَّتِي تُهِلُّ (3) بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ تُهِلُّ (4) بِحَجَّتِهَا أَوْ بِعُمْرَتِهَا إِذَا أَرَادَتْ، وَلَكِنْ لا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَلا بَيْنَ الصَّفَا والمروة حتى تَطَّهّر (5) ،
__________
دون الحلق كما صرح به في "الهداية" بل قيل: إن الحلق بدعة، وجنح الطحاوي في "شرح معاني الآثار" إليه، لكن لم يأتِ بما يفيده والتفصيل في شرحه للعيني.
(1) من باب علم يعلم.
(2) أي قبل دخولها مكة.
(3) أي تحرم.
(4) قوله: تهل، أي يجوز لها أن تحرم بالحج أو بالعمرة إذا أرادت ذلك لأن الحيض وكذا النفاس لا يمنعان عن جواز إحرامها في أيّ وقت شاءت فتغتسل لإحرامها لكن لا تُصلي سُنّة الإِحرام، ولا تطوف بالبيت إذا دخلت مكّة طواف العمرة أو طواف القدوم، لأن الطهارة شرط في صحة الطواف، ولأن الطواف يكون بالمسجد الحرام وهي ممنوعة عن دخول كل مسجد، وكذا لا تسعى بين الصفا والمروة لأنه وإن كان جائزاً بغير طهارة لكنه متوقف على وجود طواف قبله، وإذا ليس فليس.
(5) أي بانقطاع الحيض والغسل، وهو بفتح التاء والطاء المشدّدة وشدّ الهاء على حذف إحدى التائين، وبفتح التاء وسكون الطاء وضم الهاء(2/355)
وَتَشْهَدَ (1) الْمَنَاسِكَ كلَّها مَعَ النَّاسِ غَيْرَ أَنَّهَا لا تَطُوفُ (2) بِالْبَيْتِ وَلا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلا تَقْرَبُ (3) الْمَسْجِدَ وَلا تحِل (4) حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
464 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنها قالت: قدمتُ (5) مكّةَ و (6) أنا حَائِضٌ وَلَمْ أَطُفْ (7) بِالْبَيْتِ وَلا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فشكوتُ ذَلِكَ (8) إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: افْعَلِي (9) مَا يفعلُ الحاجُّ (10) غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطّهَري.
__________
(1) وقوله: وتشهد المناسك، أي مناسك الحجّ كلها من الوقوف بعرفة وبمزدلفة ورمي الجمار وغيرها لأنها ليست في المسجد ولا شرط لها الطهارة.
(2) أي طواف الإِفاضة.
(3) قوله: ولا تقرب المسجد، مبالغة في النهي والغرض نفي الدخول ولو لغير طواف.
(4) قوله: ولا تحل، أي لا تخرج من الإِحرام حتى تطوف طواف العمرة أو طواف الإِفاضة وتسعى بعده.
(5) أي في حجة الوداع.
(6) الواو الحالية.
(7) لكون الطواف محرَّماً في الحيض وكون السعي موقوفاً عليه.
(8) أي ما وقع لي.
(9) قوله: افعلي، أي ارفضي عمرتك وأحرمي بالحج وافعلي جميع أفعاله.
(10) أي من مناسكه.(2/356)
465 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا (1) مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامَ (2) حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا (3) بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم: من (5) كان معه
__________
(1) من المدينة.
(2) قوله: عام حجة الوداع، وهو عام عشرة من الهجرة، وهي السنة التي حج فيها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أصحابه وهي آخرحجّته، وسميت تلك السنة بعام حجة الوداع، لأنّه ودّع الناس فيها، وقال: خذوا عني مناسككم لعلي لا أحج بعد عامي هذا.
(3) قوله: فأهللنا بعمرة، ظاهرة أن عائشة كانت محرمة بالعمرة مفردة، وقد صرح به في رواية عنها عند البخاري وغيره: وكنتُ ممن أهلّ بعمرة، ومنا من أهلّ بحجّ، ومنا من أهلّ بحج وعمرة. وفي رواية عنها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نُرى إلا أنه الحجّ فلما قدمنا مكة تطوّفنا بالبيت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهَدْي أن يحل أي من الحج بعمل العمرة وهو فسخ الحج، وهذا محمول على أنها ذكرت ما كانوا يعهدونه من ترك الاعتمار في أشهر الحج، فخرجوا لا يعرفون إلا الحج، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم - دفعاً لاعتقادهم - بفسخ الحج إلى العمرة، وقيل: إنها كانت أحرمت بالحج أولاً فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالفسخ فسخت إحرام الحج وأحرمت بالعمرة، والتفصيل في "فتح الباري". والعجب من القاري أنه قال: إنها كانت مُفْرِدة بالحج بالاتفاق، وكان فسخها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى. فإن إحرامها قد اختلفت الروايات فيه اختلافاً كثيراً فأين الاتفاق؟!
(4) أي بسرف قرب مكة، كما في رواية عند البخاري.
(5) قوله: من كان معه هَدْي، بالفتح اسم لما يُهدى إلى الحرم من الأنعام، وسَوْق الهَدْي سنة لمريد الحج والعمرة. فليُهلّ، أي ليحرم بالحج والعمرة معاً. ثم لا يَحِلّ، بفتح أوله وكسر ثانيه أي لا يخرج من الإحرام. حتى يحلّ منهما، أي الحج والعمرة جميعاً بعد الفراغ من مناسك الحج.(2/357)
هَدْيٌ فليُهلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، ثُمَّ لا يُحِلَّ حَتَّى يحلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا، قَالَتْ: فقدِمْتُ مكّةَ وَأَنَا حَائِضٌ (1) وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَشَكَوْتُ (2) ُذلك إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: انقُضِي (3) رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وأهلَّي بِالْحَجِّ وَدَعِي الْعُمْرَةَ، قَالَتْ: ففعلتُ، فَلَمَّا قضيتُ (4) الْحَجَّ أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى التَّنْعِيمِ (5) فاعتمرتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذِهِ مَكَانَ عمرتك،
__________
(1) جملة حالية، وكان ابتداء حيضها بسَرَف كما في رواية.
(2) قوله: فشكوت ذلك، أي لما دخل عليها وهي تبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقلت: لا أصلي، وكان شكواها يوم التروية، كما في "صحيح مسلم".
(3) قوله: انقُضِي، بضم القاف وكسر الضاد. رأسك، أي حلِّي ضفر شعره. وامتشطي، أي سرِّحي شعرك بالمشط. وأهلِّي، أي بالحج لقرب أيامه. ودعي، أي اتركي العمرة، وظاهره أنها كانت مفردة بالعمرة فنقضت إحرامها، وقضت تلك العمرة بعد أيام الحج حين قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يرجع الناس بحج وعمرة، وأرجع أنا بحج، ليس معها عمرة، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة بالتنعيم، وقال: هذه مكان عمرتك أي هذه العمرة عوض عمرتك السابقة برفع المكان أو نصبه أي مجعولة مكان عمرتك، وقد وقع في هذا الباب روايات مخالفة لهذا دالة على أنها كانت قارنة ولم تنقض إحرام العمرة بل أهلّت بالحج، ولما طهرت طافت بالكعبة وسعت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد حللت من حجك وعمرتك، قالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، فأعمرها بالتنعيم، وهو في "صحيح مسلم" من حديث جابر، لكن لا يخفى أن خبر صاحب القصة عن نفسه أحرى بالقبول من خبر غيره.
(4) أي أدّيت.
(5) موضع قرب مكة.(2/358)
وَطَافَ الَّذِينَ حَلَّوْا (1) بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا (2) آخَرَ بَعْدَ أنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى. وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا جَمَعُوا (3) الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا (4) طَوَافًا وَاحِدًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، الْحَائِضُ تَقْضِي الْمَنَاسِكَ (5) كلَّها غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفَ وَلا تَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا والمروة حتى تَطّهّر، فإن كانت أهلَّتْ (6)
__________
(1) أي خرجوا من إحرام العمرة بالحلق أو التقصير وكانوا مُحرمين بالعمرة مفردة.
(2) هو طواف الزيارة للحج.
(3) أي قرنوا.
(4) قوله: فإنما طافوا طوافاً واحداً، هذا نص في أنه يكفي الطواف الواحد والسعي الواحد للحج والعمرة كليهما للقارن، ونحوه ما روي عن ابن عمر مرفوعاً: من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد، أخرجه ابن ماجه والترمذي، وقال: حسن غريب. وفي سنن ابن ماجه عن ابن عباس وجابر وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف هو وأصحابه إلا طوافاً واحداً لحجتهم وعمرتهم، ونحوه عند الترمذي والدارقطني عن جابر وعند الدارقطني عن ابن عباس وأبي قتادة وأبي سعيد، وسند بعضها ضعيف، ويخالف هذا ما أخرجه النسائي عن علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعيين، ونحوه عند الدارقطني عن ابن عمر وابن مسعود وعمران بن حصين. وفي أسانيدها كلام كما بسطه الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية"، ولأجل هذا الاختلاف اختلف الأئمة. فقال أصحابنا بالتعدُّد وهو الأقيس، وغيرهم ذهبوا إلى إجزاء التوحُّد، وقد ذكرنا سابقاً بعض ما يتعلق بهذا المقام فتذكَّره.
(5) أي مناسك الحج.
(6) أي أحرمت.(2/359)
بِعُمْرَةٍ (1) فَخَافَتْ فَوْتَ الْحَجِّ (2) فلْتُحْرم بِالْحَجِّ، وتقفْ (3) بِعَرَفَةَ، وترفُض (4) الْعُمْرَةَ، فَإِذَا فَرَغَتْ مِنْ حَجِّهَا (5) قضتْ الْعُمْرَةَ (6) كَمَا قَضَتْهَا (7) عَائِشَةُ، وَذَبَحَتْ (8) مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْي.
بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَبَحَ عَنْهَا (9) بَقَرَةً، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلا مَنْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَإِنَّهُ يَطُوفُ (10) طَوَافَيْنِ ويسعى سعيَيْن.
__________
(1) أي منفردة.
(2) بأن جاء موسم الحج.
(3) وتؤدي المناسك كلها غير الطواف والسعي.
(4) أي تتركها وتنقض إحرامها (وبسط في الأوجز 8/73 الكلام على روايات عائشة رضي الله عنها، وفيه قال الشيخ ابن القيم: فالصواب الذي لا معدل عنه أنها كانت معتمدة ابتداءً كما قال به الجمهور مع الاختلاف بينهم أنها فسخت العمرة أو قرنتها مع الحج. قلت: وبالأول قالت الحنفية، وبالقول الثاني قالت الأئمة الثلاثة وهذا الإختلاف مبني على اختلاف آخر وهو أن القارن يأتي بأفعال العمرة مستقلا وبأفعال الحج مستقلا عند الحنفية وأما الأئمة الثالثة فقالوا تدخل أفعال العمرة في أفعال الحج انظر حجة الوداع ص 64) .
(5) في نسخة: حجتها.
(6) أي بعد الحج.
(7) بالأمر النبوي.
(8) أي للمتمتع.
(9) وفي رواية: ذبح عن نسائه، أخرجه البخاري وغيره.
(10) طوافاً وسعياً للعمرة، وطوافاً وسعياً للحج.(2/360)
34 - (بَابُ الْمَرْأَةُ تَحِيضُ فَي حجِّها قَبْلَ أَنْ تَطُوفَ طَوَافَ (1) الزِّيَارَةِ)
466 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي أَبُو (2) الرِّجَالِ، أَنَّ عَمْرة أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ إِذَا حجَّتْ وَمَعَهَا نِسَاءٌ تَخَافُ (3) أنْ تَحِضْنَ قَدَّمَتْهُنَّ (4) يوم النحر فأَفَضْنَ (5) ، فإن حِضْن
__________
(1) قوله: طواف الزيارة، هو طواف الحج وهو أحد أركانه ويسمَّى طواف الإِفاضة وطواف الفرض أيضاً، ووقته أيام النحر، أفضلها أولها.
(2) قوله: أخبرني أبو الرجال، هو محمد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حارثة بن النعمان الأنصاري، سمع أنس بن مالك وأمَّه، وعنه الثوري ومالك، من أجلَّة الثقات، وأمُّه عَمْرة - بالفتح - بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة كانت في حجر عائشة، وربَّتها، وروت عنها كثيراً، وهي من التابعيات المشهورات، وابنها محمد كُنِّي بأبي الرِّجال بالكسر جمع رجل لأنه كان له عشرة أولاد ذكور، كذا ذكره ابن الأثير وغيره.
(3) أي تخاف عائشة أن يأتيهن الحيض لقرب أوقاتهن المضادة للحيض.
(4) قوله: قدَّمتهن، من التقديم أي أرسلتهن قبل جميع الرفقاء وقبل نفسها إلى مكة ليفرغن من طواف الزيارة الذي هو أحد أركان الحج لئلا يلزم التوقف في المراجعة إن جاءهن الحيض قبل الطواف فيلزم انتظار تطهُّرِهنَّ وطوافهن.
(5) من الإفاضة أي طفن طواف الإفاضة.(2/361)
بَعْدَ ذَلِكَ (1) لَمْ تَنْتَظِرْ (2) ، تَنْفِرُ بِهِنَّ وَهُنَّ حُيَّضٌ إِذَا كُنَّ قَدْ أَفَضْن.
467 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ (3) بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ عَنْ عَمْرة ابْنَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عن عائشة قالت: قلت
__________
(1) أي بعد طواف الزيارة.
(2) قوله: لم تنتظر، أي طهارتهن عن الحيض، بل تنفِرُ بكسر الفاء من النفر أي ترجع وتسافر إلى المدينة بهن، وهن: أي الحال أنهن حُيَّض بضم الحاء وتشديد الياء المفتوحة جمع حائض، إذا كن قد أفضن أي فرغن من طواف الإفاضة، فلا تنتظر لطوافهنَّ الوداع، فإن طواف الوداع ويسمى أيضاً طواف الصَّدَر وإن كان واجباً للآفاقي لكنه ساقط وجوبه عن الحُيَّضِ وأمثالهن لما سيأتي من الخبر المرفوع.
(3) قوله: حدثنا عبد الله بن أبي بكر، هو عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري. أنَّ أباه هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وقد مرَّت ترجمتهما. وهذا الذي ذكرنا مصرَّح به في روايات البخاري ومسلم وغيرهما وفي موطأ يحيى، ونص عليه شرّاح صحيح البخاري: العيني والكرماني وابن حجر والقسطلاني وغيرهم، وشراح صحيح مسلم، وشرّاح موطأ يحيى وغيرهم. والعجب كل العجب من علي القاري - ولا عجب فإن البشر يخطئ - حيث يقول: حدثنا عبد الله بن أبي بكر شهد الطائف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرُمي بسهم رماه أبو محجن الثقفي، فمات منه في خلافة أبيه في شوال سنة إحدى عشرة، وكان أسلم قديماً، أن أباه أي أبا بكر الصديق أخبره عن عَمْرة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر عن عائشة، فهذا من رواية الأكابر عن الأصاغر. انتهى كلامه. فأخطأ في هذه السطور العديدة في مواضع: أحَدها: في زعمه أن عبد الله بن أبي بكر المذكور هو ابن أبي بكر الصديق، ولو لم ينظر موطأ يحيى وصحيح البخاري وغيرهما من الكتب المخرَّجة لهذا الحديث، بل تأمل فيما ذكره(2/362)
يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ صَفِيَّة (1) بنتَ حُيَيٍّ قَدْ حَاضَتْ لَعَلَّهَا (2) تَحْبِسُنا، قَالَ: أَلَمْ تَكُنْ طَافَتْ (3) مَعَكُنَّ بِالْبَيْتِ؟ قلن: بلى إلاَّ أنها لم تطف
__________
بنفسه ههنا من حال عبد الله لوضح له خطؤه، فإنه ذكر أن عبد الله بن أبي بكر الصدّيق مات سنة إحدى عشرة فهل يقول فاضل ممارس بكتب الحديث والرجال إن مالكاً صاحب الموطأ الذي وُلد سنة إحدى أو ثلاث أو أربع أو سبع وتسعين يروى عنه ويقول فيه حدثنا الدالّ على المشافهة، أَوَلم يعلم أن مالكاً لو أدرك عبد الله الذي ذكره لأدرك عمر وعثمان وأبا بكر وعلياً وكثيراً من الصحابة لكون أجلَّة الصحابة موجودين في ذلك الوقت، فكان مالك من أكابر التابعين، ولم يقل به أحد.
وثانيها: في زعمه أن المراد بأبيه هو أبو بكر الصديق هو مبنيٌّ على الأول.
وثالثها: في زعمه أن عمرة المذكورة في هذه الرواية هي بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، لا والله بل هي عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة أم أبي الرجال. ورابعها: في زعمه أن هذا من قبيل رواية الأكابر عن الأصاغر، وهو مبنيٌّ على زعمه الثاني.
(1) قوله: إن صفيَّة، هي أم المؤمنين صفية بفتح أوله وكسر ثانيه وتشديد ثالثه بنت حُيَيّ - بضم الحاء المهملة وفتح الياء التحتانية الأولى وتشديد الأخرى بن أَخطب - بالفتح - ابن سَعية - بالفتح - من بني إسرائيل من سبط هارون بن عمران أخي موسى، قُتل زوجها كنانة في غزوة خيبر حين افتتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة سبع، فوقعت في السَّبْي فاصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه وأسلمت فأعتقها وتزوجها، وكانت وفاته سنة 52، وقيل غير ذلك، كذا ذكره ابن الأثير.
(2) قوله: لعلها تحبسنا، أي تمنعنا من الخروج إلى المدينة لانتظار طهارتها وطوافها، وظاهر هذه الرواية أن هذا قول عائشة، وعند البخاري وغيره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلها تحبسنا، ألم تكن طافت معكنَّ؟
(3) أي طواف الزيارة.(2/363)
طَوَافَ الْوَدَاعِ، قَالَ: فاخْرُجْن (1) .
468 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَخْبَرَهُ عَنْ أُمِّ سُلَيْم (2) ابْنَةِ مِلْحان قَالَتْ: استفتيتُ (3) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فيمن حاضت أو ولدت (4) بعدما
__________
(1) أي لا تنتظرن طواف الوداع وفي رواية للبخاري: فاخْرُجي، خطاباً لصَفِيَّة.
(2) قوله: عن أم سُلَيم، بضم السين وفتح اللام بنت مِلْحان بكسر الميم وسكون اللام، اسمها سهلة أو رُمَيْلة - مصغَّراً - أو رُمَيْثة - كذلك - أو مُلَيْكة - كذلك - أو أنيفة، وهي والدة أنس، وقد مرَّ ذكرها. وذكر ابن عبد البر أن في هذه الرواية انقطاعاً لأن أبا سلمة لم يسمع أم سُلَيْم. وروي أيضاً من حديث هشام عن قتادة، عن عكرمة عنها وهو أيضاً منقطع، وذكر الحافظ في "فتح الباري" أن لهذه الرواية شواهد فعند الطيالسي في مسنده عن هشام الدستوائي عن قتادة، عن عكرمة، قال: اختلف ابن عباس وزيد بن ثابت في المرأة إذا حاضت وقد طافت يوم النحر، فقال زيد: يكون آخر عهدها بالبيت، وقال ابن عباس: تنفر إن شاءت، فقال الأنصار: لا نتابعك يا ابن عباس وأنت تخالف زيداً، فقال: سَلُوا صاحبتكم أم سُلَيْم، فقالت: حضتُ بعد ما طفت بالبيت، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنفر. وعند مسلم والنسائي والإسماعيلي عن طاوس. قال: كنت مع ابن عباس فقال له زيد: تُفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالطواف؟ فقال: سل فلانة الأنصارية، هل أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؟ فقال بع دما رجع إليه: ما أراك إلاَّ صدقت. وعند الإسماعيلي، فقال ابن عباس: سل أم سُلَيْم وصواحبها: هل أمرهنَّ بذلك؟
(3) أي طلبت الفتوى والحكم.
(4) أي نفست بعد ما ولدت.(2/364)
أفاضَتْ (1) يَوْمَ النَّحْر فَأَذِنَ (2) لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخَرَجَتْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، أَيُّمَا امرأةٍ حَاضَتْ قَبْلَ أَنْ تَطُوفَ يَوْمَ النَّحْرِ طَوَافَ الزِّيَارَةِ أَوْ وَلَدَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَلا تنفِرَنَّ (3) حَتَّى تَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ (4) ، وَإِنْ كَانَتْ طَافَتْ طَوَافَ الزِّيَارَةِ ثُمَّ حَاضَتْ أَوْ وَلَدَتْ فَلا بَأْسَ (5) بِأَنْ تنفِر (6) قَبْلَ أَنْ تَطُوفَ طَوَافَ الصَّدَر (7) . وَهُوَ (8) قَوْلُ أبي حنيفة رحمه الله تعالى والعامة من فقهائنا.
__________
(1) أي طافت طواف النحر.
(2) قوله: فأذن لها، أي لمن حاضت أو ولدت أو لأم سُلَيم، فإنها كانت استفتت عن حال نفسها، ويدل عليه عبارة موطأ يحيى أنَّ أم سليم استفتتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وحاضتْ أو ولدت بعد ما أفاضت يوم النحر، فأذن لها أن تخرج فخرجت، وبناءً عليه قال الزرقاني: أو ولدت شكٌّ من الراوي.
(3) أي لا تخرجن ولا ترجعن.
(4) لأن طواف الزيارة أحد أركان الحج فلا يمكن النفر بدونه.
(5) أي جاز لها ذلك فإنْ أقامت حتى طافت فهو أفضل.
(6) أي تسافر.
(7) بفتح الأول والثاني بمعنى الرجوع وهو طواف الوداع.
(8) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال الجمهور (قال النووي: هذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والعلماء كافة إلاَّ ما حكى ابن المنذر عن عمر وابنه وزيد بن ثابت أنهم أمروا بالمقام لطواف الوداع. ودليل الجمهور هذا الحديث وحديث صفية. شرح النووي على صحيح مسلم 3/462) من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، ورُوي خلافه عن ابن عمر وزيد وعمر فإنهم أمروا الحائض بالمقام(2/365)
35 - (بَابُ الْمَرْأَةِ تُرِيدُ الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ فَتَلِدُ أَوْ تَحِيضُ قَبْلَ (1) أَنْ تُحرم)
469 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ (2) أَسْمَاءَ (3) بِنْتِ عُمَيْس (4) وَلَدَتْ (5) محمدَ بْنَ أبي بكر (6)
__________
إلى أن تطوف طواف الصدر. قال ابن المنذر: وقد ثبت رجوع ابن عمر وزيد وبقي عمر، فخالفناه لثبوت حديث عائشة (انظر فتح الباري 3/587)
(1) قوله: قبل أن تحرم، قال القاري: فيه إشارة إلى أنه لا يلزم من الإرادة تحقيق النية، كذا لا يكفي عن النية بمجرد قوله: اللَّهم إني أريد الحج والعمرة، فإن الدعاء إخبار ولا بدَّ في النية من الإنشاء.
(2) قوله: أن، هكذا قال القعنبي وابن بكير وابن مهدي وغيرهم من رواة الموطأ، وقال يحيى ومعن وابن القاسم وقتيبة عن أبيه، عن أسماء، وعلى كل حال فهو مرسل لأن القاسم لم يلقَ أسماء، قاله ابن عبد البر. وقد وصله مسلم وأبو داود وابن ماجه عن القاسم، عن عائشة، ورواه النسائي وابن ماجه عن القاسم، عن أبي بكر الصديق، كذا ذكره السيوطي.
(3) زوجة أبي بكر الصديق.
(4) بصيغة التصغير.
(5) أي حين سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قبل وفاته بثلاثة أشهر.
(6) قوله: محمد بن أبي بكر، يُكنى بأبي القاسم، نشأ بعد ما مات أبوه في حجر علي، وشهد معه الجمل والصِّفِّين، وكان من نُسّاك قريش إلاَّ أنه أعان على قتل عثمان، وولاّه عثمان بمصر، فأقام بها إلى أن بعث معاوية الجيوش فيهم عمرو بن العاص ومعاوية بن خديج، ووقع القتال فانهزم محمد بن أبي بكر وقتله(2/366)
بالبَيْداء (1) ، فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرْها فَلْتَغْتَسِلْ (2) ثُمَّ لِتُهِلَّ (3) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ فِي النُّفساء وَالْحَائِضِ جَمِيعًا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
36 - (بَابُ الْمُسْتَحَاضَةِ (4) فِي الحجِّ)
470 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْر الْمَكِّيُّ، أَنَّ أَبَا مَاعِزٍ (5) عَبْدَ اللَّهِ بْنُ سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ تَسْتَفْتِيهِ (6) فَقَالَتْ: إِنِّي أقبلتُ (7) أُرِيدُ أَنْ أَطُوفَ الْبَيْتَ حَتَّى إِذَا كنتُ عِنْدَ باب المسجد (8) أهرقت (9) ،
__________
ابن خَديج في صَفَر سنة ثمان وثلاثين، كذا في "تحفة المحبِّين بمناقب الخلفاء الراشدين".
(1) قال القاري: هو مقدمة الصحراء بذي الحليفة.
(2) قوله: فلتغتسل، أي غُسْل الإِحرام للنظافة لا للطهارة.
(3) أي لتحرم.
(4) أي ماذا حكمها؟.
(5) هو من أعيان التابعين.
(6) أي تطلب الحكم في شأنها.
(7) قوله: أقبلتُ، أي توجهت وأردت الطواف بالبيت.
(8) أي المسجد الحرام.
(9) قوله: أهرقت، أي سال الدم مني، وهو معروف أو مجهول، يُقال أراق(2/367)
فرجعتُ (1) حَتَّى ذَهَبَ ذَلِكَ (2) عَنِّي، ثُمَّ أقبلتُ (3) حَتَّى إِذَا كنتُ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ أَهْرَقْتُ، فَرَجَعْتُ حَتَّى ذَهَبَ ذلِك عَنِّي، ثُمَّ رَجَعْتُ (4) إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ أَيْضًا، فَقَالَ لَهَا ابْنُ عمر: إنما (5) ذلِك رَكْضَة من الشيطان
__________
الماءَ يُريقه، وهَراقَه يُهَريقُه بفتح الهاء هراقة، وأهرقته إهراقة وإهراقاً بالجمع بين البدل والمبدل منه فإن الهاء في هراق بدل من الهمزة، كذا في "مجمع البحار".
(1) أي إلى البيت.
(2) أي سيلان الدم.
(3) أي توجهت إلى المسجد.
(4) أي مرة ثالثة.
(5) قوله: إنما ذلك، بكسر الكاف يعني ليس ذلك الدم إلاَّ ركضة من الشيطان، وليس بدم حيض حتى يمنع من الصلاة والطواف ودخول المسجد. وقد ورد كون الاستحاضة من ركضات الشيطان مرفوعاً من حديث حَمْنة بنت جحش عند الترمذي وأبي داود وأحمد، ولا ينافي ذلك ما في صحيح البخاري من حديث عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حُبيش من قوله صلى الله عليه وسلم: إنما ذلك عِرْقٌ انفجر، وذلك لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فإذا ركض ذلك العرق سال منه الدم. وللشيطان في هذا العِرْق الخاص تصرُّف، وله به اختصاص بالنسبة إلى جميع عروق البدن، كذا ذكره القاضي بدر الدين الشِّبْلي في "آكام المرجان في أخبار الجّان"، وقال ابن الأثير في "النهاية": أصل الركض الضرب بالرجل، ومنه قوله تعالى: {اركُضْ برِجلْك} (سورة ص: الآية 42) ، والمعنى أن الشيطان قد وجد بذلك طريقاً للتلبيس عليها في أمر دينها من طهرها وصلاتها.(2/368)
فَاغْتَسِلِي (1) ثُمَّ اسْتَثْفِرِي (2) بثوبٍ ثُمَّ طُوفِي (3) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، هَذِهِ (4) الْمُسْتَحَاضَةُ فَلْتَتَوَضَّأْ وَلْتَسْتَثْفِرْ
__________
(1) قوله: فاغتسلي، قال القاري: لعل أمرها بالغسل لتقدُّم حيضها أو لتكميل طهارتها ونظافتها وإلاَّ فالمستحاضة تتوضأ إذا استمر دمها لكل وقت، وأما إذا نسيت عادتَها فيجب عليها لكل صلاة غسل.
(2) قوله: ثم استثفري، الاستثفار أن تشدَّ فرجها بخرقة عريضة بعد أن تحشي قطناً، وتوثق طرفيها بشيء تشدُّه على وسطها، من ثفر الدابة الذي (في الأصل: "التي"، وهو تحريف) يُجعل تحت ذنبها، كذا في "مجمع البحار" وغيره.
(3) قوله: ثم طوفي، قال الزرقاني: قال سحنون في كتاب "تفسير الغريب": سألت ابن نافع: أذلك من المرأة بعد ما تلوَّمت أيام الحيض ثم شكت طول ذلك بها ومعاودته إياها؟ قال: لا، ولكن ذلك فيما نرى في يوم واحد ذهبت ثم رجعت وذهبت ثم رجعت ثم سألت، فرآه ابن عمر من الشيطان. وقال غيره: يحتمل أنها ممن قعدت عن الحيض فلا يكون دم حيض وأمرها بالغسل احتياطاً، ويحتمل أنه رآها كالمستحاضة والحيض له غاية ينتهي إليها، وقال أبو عمر: وأفتاها ابن عمر فتوى من علم أنه ليس بحيض. وقد رواه جماعة من رواة الموطأ بلفظ إن عجوزاً استفتت ... إلى آخره. ودل جوابه أنهما ممَّن لا تحيض لقوله إنها ركضة من ركضات الشيطان، ولذلك قال لها: طوفي، وإنما يحل الطواف لمن تحل له الصلاة، وأما قوله اغتسلي فعلى مذهبه من ندب الاغتسال للطواف لها أنه اغتسال للحيض ولا أنه لازم. انتهى (شرح الزرقاني 2/312) .
(4) هذه المرأة مستحاضة لا حائضة.(2/369)
بِثَوْبٍ ثُمَّ تَطُوفُ وَتَصْنَعُ مَا تَصْنَعُ (1) الطَّاهِرَةُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
37 - (بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ وَمَا يُستحبّ مِنَ الْغُسْلِ قَبْلَ الدُّخُولِ (2))
471 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدثنا نافع، عن ابن عمر: أنه كان إِذَا دَنَا (3) مِنْ مَكَّةَ بَاتَ (4) بِذِي (5) طُوى بين (6) الثنيَّتَيْن حتى (7) يصبح ثم
__________
(1) من الصلاة والصيام وغير ذلك.
(2) أي قبل دخول مكة.
(3) أي قرب.
(4) أي مكث ليلاً.
(5) قوله: بذي طوى، مثلث الطاء، والفتح أشهر، مقصور، منوَّن وغير منوَّن، وادٍ بقرب مكة، يُعرف اليوم ببئر الزاهد، قاله الزرقاني. قال القاري: هو وادٍ بقرب مكة على نحو فرسخ يُعرف في وقتنا بالزاهر في طريق التنعيم وينزل فيه أمراء الحاج خروجاً ودخولاً، ومن نوّنه جعله اسما للوادي، ومن منعه جعله اسماً للبقعة مع العلمية.
(6) قوله: بين الثنيتين، كل عقبة في جبل أو طريق يسمّى ثَنِيّة بفتح المثلثة وكسر النون وتشديد الياء التحتية، والثنية التي بأعلى مكة هي التي يُنزل منها إلى المعلى، ومقابر مكة بجنب المحصب، وهي يقال لها الحَجُون بفتح الحاء وضم الجيم. وقد صح في "صحيح البخاري" وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل مكة من الثنية العليا ويخرج من الثنية السفلى.
(7) غاية للبيتوتة.(2/370)
يُصَلِّيَ الصُّبْحَ (1) ، ثُمَّ يَدْخُلَ (2) مِنَ الثَّنِيَّةِ الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَلا يَدْخُلَ (3) مَكَّةَ إِذَا خَرَجَ (4) حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا حَتَّى يَغْتَسِلَ (5) قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ إِذَا دَنَا مِنْ مَكَّةَ بِذِي (6) طُوى، وَيَأْمُرُ مَنْ مَعَهُ فَيَغْتَسِلُوا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا.
472 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ: أَنَّ أَبَاهُ الْقَاسِمُ كَانَ يَدْخُلُ (7) مَكَّةَ لَيْلا وهو معتمر فيطوف بالبيت وبالصفا
__________
(1) أي بذي طوى.
(2) أي في النهار اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه صح أنه بات بذي طوى ودخل مكة نهاراً.
(3) أي ابن عمر.
(4) أي من المدينة.
(5) قوله: حتى يغتسل، قال ابن المندر: الغسل لدخول مكة مستحب عند جميع العلماء إلا أنه ليس في تركه فدية، وقال أكثرهم: الوضوء يُجزئ فيه، وهذا الغسل ليس لكونه مُحرماً بل هو لحرمة مكة، حتى يُستَحَبّ لمن كان حلالاً أيضاً، وقد اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم لدخولها يوم الفتح وكان حلالاً، أفاد ذلك الشافعي في "الأمّ" (وعند المالكية: هذا الغسل للطواف فيُندب لغير حائض ونفساء، وهما لا يدخلان المسجد ويغتسلان للإِحرام والوقوف، كما قاله الزرقاني في شرح الموطأ 2/227) كذا في "عمدة القاري".
(6) متعلق بالاغتسال.
(7) قوله: كان يدخل مكة ليلاً، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث دخل مكة ليلاً حين أحرم بالعمرة من الجعرّانة، كما أخرجه النسائي.(2/371)
وَالْمَرْوَةِ وَيُؤَخِّرُ الحِلاق (1) حَتَّى (2) يُصْبِحَ، وَلَكِنَّهُ لا يَعُودُ (3) إِلَى الْبَيْتِ فَيَطُوفُ بِهِ (4) حَتَّى يَحْلِقَ، وَرُبَّمَا دَخَلَ (5) الْمَسْجِدَ فَأَوْتَرَ (6) فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ (7) فَلَمْ يَقْرَبِ الْبَيْتَ (8) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ بِأَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ إِنْ (9) شَاءَ لَيْلا وَإِنْ شَاءَ نَهَارًا، فَيَطُوفَ وَيَسْعَى. وَلَكِنَّهُ (10) لا يُعْجِبُنَا له أن يعود في الطواف
__________
(1) بالكسر أي حلق الرأس.
(2) غاية للتأخير.
(3) قوله: لا يعود، ليقع التوالي بين طواف العمرة والحلق من غير فصل بينهما وإن كان ذلك أيضاً جائزاً.
(4) أي مرة ثانية.
(5) أي في آخر الليل
(6) أي صلَّى الوتر في المسجد الحرام.
(7) أي عن المسجد.
(8) أي للطواف والاستلام.
(9) قوله: إن شاء ليلاً وإن شاء نهاراً، لأن كل ذلك ثبت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
(10) قوله: ولكنه، الضمير للشأن، لا يعجبنا من الإعجاب، له أي لا يسُرُّنا ولا يستحب عندنا للداخل بمكة أن يعود في الطواف نفلاً، حتى يحلق رأسه أو يقصر شعر رأسه فيُتم أفعال عمرته، ثم يأتي بالطواف ما شاء، كما فعل متعلق بما فهم من السابق من عدم العود. القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أحد الفقهاء السبعة بالمدينة. ويؤيده ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة ولم يقرب الكعبة بعد(2/372)
حَتَّى يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ كَمَا فَعَلَ الْقَاسِمُ، فَأَمَّا الْغُسْلُ حِينَ يَدْخُلُ (1) فَهُوَ حَسَنٌ (2) وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.
38 - (بَابُ السَّعْيِ (3) بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ)
473 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر: أنه
__________
طوافه حتى رجع من عرفة. وبوّب عليه البخاري "بباب من لم يقرب الكعبة ولم يطف حتى يخرج إلى عرفة ويرجع"، قال الحافظ في الفتح (3/486) : هذا ظاهر فيما ترجم لكنه لا يدل على أن الحاج يُمنع من الطواف قبل الوقوف، فلعله صلى الله عليه وسلم ترك الطواف تطوّعاً خشية أن يظن أحد أنه واجب، وكان يحب التخفيف على أمته، وعن مالك أن الحاج لا يتنفل بطواف حتى يتم حجّه، وعنه الطواف بالبيت أفضل من صلاة النافلة لمن كان من أهل البلاد البعيدة وهو المعتمد. انتهى.
(1) أي عند دخول مكة.
(2) أي مستحسن سنة أو مستحب.
(3) قوله: باب السعي، أي المشي بين الصفا والمَرْوة - بالفتح - هما جبلان بمكة يجب المشي بينهما بعد الطواف في العمرة والحج سبعة أشواط مع سرعة المشي في ما بين الميلين الأخضرين. قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات": الصفا مبدأ السعي، وهو مقصور، مكان مرتفع عند باب المسجد الحرام، وهو أنف أي قطعة من جبل أبي قُبَيس، وهو الآن إحدى عشرة درجة، وأما المروة فلاطية جداً أي منخفضة، وهي أنف من جبل قعيقعان، وهي درجتان، ومن وقف عليها كان محاذياً للركن العراقي، وتمنعه العمارة من رؤيته، وإذا نزل من الصفا سعى حتى يكون بين الميل الأخضر المعلق بفناء المسجد وبينه نحو ستة أذرع فيسعى سعياً شديداً حتى يحاذي الميلين الأخضرين اللذين بفناء المسجد وحذاء دار(2/373)
كَانَ إِذَا طَافَ (1) بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بَدَأَ بِالصَّفَا (2) فرَقِي (3) حَتَّى يبدُوَ (4) لَهُ الْبَيْتُ، وَكَانَ يُكَبِّرُ (5) ثَلاثَ تَكْبِيرَاتٍ ثُمَّ يَقُولُ (6) : لا إِلَهَ إلا الله
__________
العباس ثم يمشي حتى يصعد المروة. انتهى. وفي "شرح جامع الترمذي" للحافظ زين الدين العراقي: اختلفوا في السعي بين الصفا والمروة للحاجّ والمعتمر على ثلاثة أقوال: أحداها: أنه ركن لا يصح إلا به، وهو قول ابن عمر وعائشة وجابر، وبه قال الشافعي ومالك في المشهور عنه وأحمد في أصح الروايتين عنه وإسحاق وأبو ثور لقوله عليه السلام: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي، رواه أحمد والدارقطني والبيهقي. والثاني: أنه واجب يُجبر تركه بدم، وبه قال الثوري وأبو حنيفة ومالك. والثالث: أنه سنة أومستحب وهو قول ابن سيرين وعطاء ومجاهد وأحمد في رواية (انظر بذل المجهود 9/171 وذكر في هامشه: رجّح الموفّق في المغني 3/389 أنه واجب كقولنا، نعم عدَّ صاحب "الروض" السعي من الأركان) .
(1) أي أراد السعي بينهما.
(2) قوله: بدأ بالصفا، لحديث ابدأوا بما بدأ الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} (سورة البقرة: الآية 158) . وهذه البداية بالصفا سنة وقيل واجب (قال ابن قدامة: إن الترتيب شرط في السعي وهو أن يبدأ بالصفا، فإن بدأ بالمروة لم يعتد بذلك الشوط، فإذا صار إلى الصفا اعتدّ بما يأتي به بعد ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالصفا وقال: "نبدأ بما بدأ الله به" وهذا قول الحسن ومالك والشافعي والأوزافي وأصحاب الرأي، المغني 3/388.
(3) بكسر القاف أي صعد على الصفا.
(4) بضم الدال بعده الواو أي يظهر له البيت فيعاينه ويستقبله وهو مستحب.
(5) أي يقول الله أكبر ثلاثاً على الصفا.
(6) أي بعد التكبير.(2/374)
وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلك (1) وَلَهُ الْحَمْدُ يُحيي ويُميت، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يَفْعَلُ ذَلِكَ (2) سَبْعَ مَرَّاتٍ فَذَلِكَ (3) إِحْدَى وَعِشْرُونَ تَكْبِيرَةً وَسَبْعُ تَهْلِيلاتٍ (4) ، وَيَدْعُو فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَيَسْأَلُ (5) اللَّهَ تَعَالَى ثُمَّ يَهْبِطُ (6) ، فَيَمْشِي (7) حَتَّى إِذَا جَاءَ بطنَ (8) الْمَسِيلِ سَعَى (9) حَتَّى يَظْهَرَ (10) مِنْهُ، ثُمَّ يَمْشِي (11) حَتَّى يَأْتِيَ الْمَرْوَةَ فيرقَى (12) فيصنع عليها مثل
__________
(1) بضم الميم.
(2) أي التكبير ثلاثاً مع التهليل المذكور.
(3) أي مجموع ما ذكر.
(4) في نسخة: تهليلة.
(5) قوله: ويسأل الله، عطف تفسيريّ أو يُقال أحدهما بالجنان، وثانيهما باللسان، والمراد أنه كان يدعو الله تعالى ويطلب حاجاته فيما بين المذكور من المرات السبع.
(6) بكسر الباء أي ينزل من الصفا.
(7) أي على هيأته من غير عَدْو.
(8) قوله: بطن المسيل، أي بطن الوادي وهوالموضع المنخفض مسيل المياه والأمطار بين الميلين الأخضرين.
(9) أي أسرع في مشيه.
(10) أي يرتفع من المسيل ويخرج منه.
(11) أي على هيأته.
(12) بفتح القاف.(2/375)
مَا صَنَعَ (1) عَلَى الصَّفَا، يَصْنَعُ ذَلِكُ (2) سَبْعَ مَرَّاتٍ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ سَعْيِهِ. وسمعتُه (3) يَدْعُو عَلَى الصَّفَا: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قلتَ ادُّعُونِي أستجبْ لَكُمْ وَإِنَّكَ لا تُخلفُ (4) الْمِيعَادَ وَإِنِّي أَسْأَلُكَ كَمَا هديتَني لِلإِسْلامِ (5) أَنْ لا تنزِعَه (6) مِنِّي حتى توفّاني و (7) أنا مُسْلِمٌ.
474 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ حِينَ هَبَط (8) مِنَ الصَّفَا مَشَى حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ (9) قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ المَسيل سَعَى حَتَّى ظَهَرَ (10) مِنْهُ، قَالَ (11) : وَكَانَ يُكبّر عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثَلاثًا، وَيُهَلِّلُ وَاحِدَةً. يفعلُ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ.
__________
(1) من التكبير وغيره.
(2) أي ما ذُكر من السعي والمشي بين الصفا والمروة.
(3) هذا قول نافع يقول: سمعتُ ابن عمر.
(4) لا تخلف بالضم، الميعاد أي الوعد.
(5) في نسخة إلى الإسلام.
(6) أي لا تخرج الإسلام مني.
(7) الواو حالية.
(8) بفتح الباء أي نزل.
(9) أي انحدرت: غارت قدماه في الوادي.
(10) أي صعد من بطن الوادي.
(11) أي جابر بن عبد الله.(2/376)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ، إِذَا صَعِد (1) الرَّجُلُ الصَّفَا كبَّر (2) وهلَّل وَدَعَا، ثُمَّ هَبَطَ مَاشِيًا (3) حَتَّى يَبْلُغَ بَطْنَ الْوَادِي، فَيَسْعَى (4) فِيهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ، ثُمَّ يَمْشِيَ مَشْيًا عَلَى هِيْنَتِه (5) حَتَّى يَأْتِيَ الْمَرْوَةَ فَيَصْعَدَ عَلَيْهَا، فَيُكَبِّرَ ويهلّل ويدعوه، يَصْنَعُ ذَلِكَ (6) بَيْنَهُمَا سَبْعًا، يَسْعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْهُمَا وَهُوَ (7) قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ.
39 - (بَابُ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ رَاكِبًا (8) أَوْ مَاشِيًا)
475 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عبد الرحمن بن نوفل
__________
(1) قوله: صعد الرجل، قال القاريّ: وكذا المرأة، ولا يبعد أن يُقال: المرأة لا ينبغي لها أن تصعد لأنّ مبنى أمرها على الستر.
(2) أقله مرة من كل واحدة، وأوسطه ثلاث، وأعلاه سبع.
(3) أي إذا لم يكن معذوراً وإلاّ فراكباً.
(4) أي يسرع في مشيه.
(5) قوله: على هِينَتِه، أي على سكون ووقار، يقال: سار على هينته أي عادته في السكون والوقار والرفق، مِنْ امش على هِينتك أي على رِسْلك، ذكره في "النهاية"، قال القاري: هو بكسر الهاء وسكون الياء التحتية وفتح النون وكسر الفوقية.
(6) أي ما ذُكر من المشي والسعي.
(7) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال الجمهور خلافاً للطحاوي من الحنفية وبعض الشافعية حيث ذهبوا إلى الذهاب من الصفا إلى المروة، ثم منها إلى الصفا، مجموع ذلك شوط، فيكون الدور عنده أربعة عشر مرة ويردّه الأحاديث الصحيحة (انظر أوجز المسالك 7/152) .
(8) قوله: راكباً أو ماشياً، قال القاري: المشي واجب إلا لضرورة فيجوز(2/377)
الأَسَدِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ زَيْنَبَ (1) بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمة زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ: اشتكيتُ (2) فذكرتُ (3) ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: طوفي من (4) وراء الناس و (5) أنت راكبة (6) ، قالت: فطفتُ (7)
__________
الركوب، فكان الأَوْلى تقديم ماشياً، وقد يقال: قدّم راكباً لورود الحديث الآتي على صفة الركوب. انتهى. والأوجه أن يُقال لمّا كان المشي أصلاً والركوب رخصة إذا وقعت ضرورةٌ قُدِّم ذكر الركوب اهتماماً به.
(1) قوله: عن زينب، هي ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، أمّها أمّ سلمة أمّ المؤمنين، وأبوها أبو سلمة عبد الله بن أسد المخزومي الصحابي، كذا في "الاستيعاب" وغيره، ولم تذكر في رواية البخاري بل فيها من طريق يحيى عن هشام عن أبيه عروة عن أمّ سلمة، وتعقّبه الدارقطني بأنه منقطع. فإن عروة لم يسمع عن أم سلمة، وردّه الحافظ ابن حجر في "مقدمة فتح الباري" بأن سماعه منها ممكن فإنه أدرك من حياتها نيّفاً وثلاثين سنة.
(2) أي مرضت.
(3) قوله: فذكرت ذلك، أي أنها مريضة، وأنها لم تطف لمّا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج، وكان ذلك في طواف الوداع، كما ورد في رواية هشام.
(4) قوله: من وراء الناس، أي من خلفهم متباعدة منهم وهو مستحب للنساء.
(5) الواو الحالية.
(6) أي على البعير.
(7) قوله: قالت فطفت، أي راكبة على بعير، وقد ثبت مثله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بِمحْجن بالكسر أي بعصا، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم، وكان ذلك لشكوى عَرَضت له، فلم يقدر على(2/378)
ورسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي (1) إلى جانب البيت، ويقرأ بالطور (2) وكتابٍ مَسْطُورٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا بَأْسَ لِلْمَرِيضِ وَذِي الْعِلَّةِ (3) أَنْ يطوفَ بِالْبَيْتِ مَحْمُولا (4) وَلا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ (5) . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة رحمه الله تعالى والعامة من فقهائنا.
476 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بكر، عن
__________
المشي كما في رواية أبي داود أو ليشرف فيراه الناس ويسألونه كما ورد عن جابر عند مسلم ويحتمل أن يكون كلٌّ منهما باعثاً له، ودلَّ هذا كلُّه على جواز الطواف راكباً بعذر، فإن كان بغير عذر جاز بلا كراهة، لكنه خلاف الأَوْلى أو بكراهة قولان للشافعية، وعند أبي حنيفة ومالك المشي (4/620. ومذهب الشافعي وأحمد: أنه مستحب، وجزم جماعة من الشافعية بكراهة الطواف راكباً من غير عذر كما ذكره العيني) واجب، فإن تركه بغير عذر فعليه ذم، وفيه أيضاً جواز إدخال الدابّة في المسجد إذا أمن التلويث، واستنبط منه طائفة طهارة بول مأكول اللحم وبعره، وتحقيقه في موضع آخر، كذا في "عمدة القاري" وغيره.
(1) أي صلاة الصبح بالجماعة.
(2) أي بسورة الطور.
(3) قوله: وذي العِلّة، بكسر أوله وتشديد ثانيه أي ذي المرض، والعطف تفسيري. وفسّر القاري المريض بضعيف البدن، وذا العلة بالأعرج والزَّمِن ومَنْ به وجع الرِّجْل ونحوه.
(4) أي على إنسان أو دابّة.
(5) أي لا يجب عليه دم لأن الضرورات تبيح المحظورات.(2/379)
ابْنِ أَبِي مُلَيكة (1) ، أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ عَلَى امْرَأَةٍ مَجْذُومَةٍ (2) تَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقَالَ: يَا أَمَة اللَّهِ، اقْعُدِي (3) فِي بَيْتِكِ، وَلا تُؤْذِي النَّاسَ (4) . فَلَمَّا تُوُفِّيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَتَتْ (5) ، فَقِيلَ لَهَا: هَلَكَ (6) الَّذِي كَانَ ينهاكِ عَنِ الْخُرُوجِ (7) ، قَالَتْ: واللَّهِ لا أُطيعه (8) حيّاً وأعصيه مَيّتاً.
__________
(1) قوله: عن ابن أبي مُلَكية، بالتصغير هو عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ملكية اسمه زهير التيمي كان ثقة فقيهاً، مات سنة سبع عشر ومائة، قاله الزرقاني.
(2) أي أصابها مرض الجذام.
(3) أي اجلسي ولا تطوفي وفي رواية يحيى: لو جلست في بيتك أي لكان خيراً.
(4) قوله: ولا تؤذي الناس، أي بريح الجذام، قال ابن عبد البر: فيه أنه يُحال بين المجذوم ومخالطة الناس لما فيه من الأذى، وهو لا يجوز. وإذا مُنع آكلُ الثوم من المسجد وكان ربما أُخرج إلى البقيع في العهد النبوي فما ظنك بالجذام؟ وهو عند بعض الناس يُعدي وعند جميعهم يؤذي، وألان عمر للمرأة القول بعد أن أخبرها أنها تؤذي لأنه رحمها للبلاء الذي بها، وقد عرف منه أنه كان يعتقد أن شيئاً لا يُعدي، وكان يجالس مُعَيْقيباً الدَّوْسي ويؤاكله ويشاربه، وربما وضع فمه على موضع فمه وكان على بيت ماله. ولعله علم من عقلها ودينها أنها تكفي بإشارته، ألم تَرَ إلى أنه لم تخطئ فراسته فيها فأطاعته حياً وميتاً.
(5) أتت مكة.
(6) أي مات.
(7) للطواف.
(8) لأنه أَمَر بحقّ.(2/380)
40 - (بَابُ اسْتِلامِ (1) الرُّكْنِ)
477 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ المَقْبَري (2) ، عَنْ عُبَيد (3) بْنِ جُرَيج، أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: با أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ (4) ، رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا (5) مَا (6) رأيتُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا! قَالَ: فَمَا هُنَّ (7) يَا ابْنَ جُرَيج؟ قَالَ: رأيتُك لا تَمَسُّ (8) من الأركان إلاَّ اليمانِيَيْن (9) ،
__________
(1) قوله: استلام الركن، أي لمس ركن الكعبة، وهي مشتملة على أربعة أركان، في أحدها: الحجر الأسود الذي ينبغي لمسُه وتقبيلُه، وثانيها: الركن اليماني ويستحب لمسُه أيضاً، وثالثها ورابعها: الركنان الشاميّان وهما بجانب الحَطيم.
(2) بضم الباء وفتحها.
(3) قوله: عن عبيد، مصغَّراً، ابن جريج مصغَّراً التيمي مولاهم المدني من ثقات التابعين، ذكره الحافظ ابن حجر.
(4) كنية ابن عمر.
(5) أي أربع خصال.
(6) قوله: ما رأيتُ أحداً من أصحابك يصنعها، أي أحداً من أقرانك وأمثالك ممن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد نفي الرؤية عن الأكثر، وبالغ فيه فقال: ما رأيت أحداً، أو المراد نفي رؤية أحد يفعل مجموع هذه الخصال الأربعة، أو المراد نفي رؤية أحد يفعل هذه على سبيل الالتزام كما كان ابن عمر يلتزمها.
(7) أي تلك الخصال.
(8) بفتح الميم وتشديد السين أي لا تلمس باليد.
(9) قوله: اليمانيين، قال السيوطي في "تنوير الحوالك"، بتخفيف الياء لأنَّ(2/381)
ورأيتُك تَلْبَس (1) النِّعالَ (2) السِّبْتية، ورأيتُكَ تصبُغُ (3) بالصُّفْرة، وَرَأَيْتُكَ إِذَا كنتَ بمكَّة أَهلَّ (4) الناسُ (5) إِذَا رأَوْا
__________
الألف بدل من إحدى يائَيْ النسب، ولا يُجمع بين البدل والمُبْدل منه، وفي لغة قليلة تشديدها على أنَّ الألف زائدة، والمراد بهما الركن اليَماني والذي فيه الحجر الأسود على جهة التغليب.
(1) بفتح الباء.
(2) قوله: النِّعال السِّبتية، النِّعال بالكسر جمع نعل، وهو ما يُلبس في الرجل لوقاية القدم، والسِّبْتية بالكسر منسوب إلى سبت، وهي جلود البقر المدبوغةُ يُتخذ منها النعال، سُمِّيت بذلك لأن شعرها سُبِتَ عنها أي حُلِقَتْ، أو لأنها انْسَبتَ (هكذا في الأصل والظاهر انسَبَتَتْ بالدباغ أي لانت، كما في مجمع البحار 3/11) بالدباغ أي لانت، وكان من عادة العرب لبس النعال من الجلود الغير (هكذا في الأصل، والصواب بدون "ال" كما نبهنا على ذلك سابقاً) مدبوغة بشعرها، وكانت المدبوغة تعمل بالطائف وغيره، وكان يلبسها أهل الرفاهية، وقيل: إنه منسوب إلى سوق السَّبْت بالفتح، وقيل: إلى السُّبت بالضم: نبت يُدبغ به، ويلزم عليهما أن يكون السبتية في الرواية بالفتح أو الضم، ولم يرد في الحديث على ما أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم إلاَّ الكسر، كذا حققه أحمد بن محمد المقرئ المغربي في كتابه " فتح المتعال في مدح خير النعال"، وفصَّلتُ ما يتعلق بهذا الحديث في رسالتي "غاية المقال في ما يتعلق بالنعال"، وتعليقاتها المسماة بظفر الأنفال.
(3) قوله: تصبُغُ، أي ثوبَك أو شعرَك، وهو بضم الموحدة، وحُكي فتحُها وكسرُها. بالصُّفرة بالضم أي اللون الأصفر بالزعفران أو غيره، وقيل: الصفرة نبت يُصبغ به أصفر.
(4) أي رفعوا أصواتهم بالتلبية وأحرموا بالحج.
(5) أي أكثرهم ممن هو بمكة.(2/382)
الْهِلالَ (1) وَلَمْ تهلِّلْ أنتَ حَتَّى يكونَ (2) يومُ التَّرْوِيَةِ (3) ! قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَمَّا الأَرْكَانُ فَإِنِّي لَمْ أرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَلَمَ إلاَّ اليمانِيَيْن (4) . وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتية فَإِنِّي رأيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي (5) لَيْسَ فِيهَا (6) شَعْرٌ ويتوضَّأُ (7) فِيهَا، فَإِنِّي أحبُّ أَنْ أَلْبَسَها (8) . وَأَمَّا الصُّفْرة
__________
(1) أي هلال ذي الحجة.
(2) أي يوجد، فهي تامة وما بعده فاعلُه، ويمكن أن يكون ناقصة وما بعده مفعولُة وفاعله ضمير راجع.
(3) هو الثامن من ذي الحجة.
(4) قوله: إلا اليمانيين، أي الركن اليماني الذي بجهة اليمن والركن الذي بجهة أكثر بلاد الهند الذي فيه الحجر الأسود، ولا يستلم الركنين الآخَرَيْن، وهذا عن النبي صلى الله وعليه وسلم متفق عليه، وأما أصحابه فذهب ابن عمر وعمر وابن عباس وجابر وأبي هريرة قَصْرُ الاستلام عليهما، ورُوي عن معاوية وابن الزبير مسُّ الكل، وعللوا بأنه ليس شيء من البيت مهجوراً. والآثار عنهم مخرجة في "مصنَّف ابن أبي شيبة"، و"مسند أحمد" وغيرهما، وهذا الخلاف قد ارتفع وأَجمع مَن بعدهم على أنه لا يُستلم إلا اليمانيين.
(5) هذا تفسر للسبتية.
(6) في نسخة: لها.
(7) قوله: يتوضأ فيها، الظاهر أن معناه يتوضأ ويغسل الرجلين حال كون النعلين فيهما ولا بأس به إذا كان النعلان طاهرين، ووصل الماء إلى الرِّجْل بتمامه، وقال النووي: معناه أنه يتوضأ ويلبسها ورجلاه رطبتان.
(8) ليحصل الاقتداء به.(2/383)
فَإِنِّي رأيتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يصبُعُ (1) بها فأنا أحبُّ أن أصبُعَ بِهَا. وَأَمَّا الإِهلال فَإِنِّي لَمْ أرَ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ حَتَّى (2) تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهَذَا (3) كلُّه حَسَن، وَلا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَلِمَ مِنَ الأَرْكَانِ، إلاَّ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ والحَجَر (4) ، وَهُمَا اللَّذَانِ اسْتَلَمَهُمَا ابْنُ عُمَرَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ.
478 - أخبرنا مالك، أخبرنا ابن شهاب، عن سالم بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ (5) بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصدِّيق رَضِيَ اللَّهُ عنه
__________
(1) قوله: يصبُغ بها، قال الزرقاني: قال المأزري: قيل: المراد صبغ الشعر، وقيل: صبغ الثوب والأشبه هو الثاني. قال عياض: هذا أظهر الوجهين وقد جاءت آثار عن ابن عمر فيها تصفير ابن عمر لحيته واحتجّ بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصفر لحيته بالورس والزعفران. رواه أبو داود. وذكر أيضاً في حديث آخر احتجاجه بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصبُغُ بها ثوبه حتى عمامته.
(2) قوله: حتى تنبعث به، أي تستوي قائمة إلى طريقه يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم: إنما كان يُحرم حين التوجُّه إلى مكة والشروع في الأعمال فقاس عليه الإحرام بمكة يوم التروية لأنه يوم التوجُّه إلى منى ويوم الشروع في أفعال الحج، والمراد بانبعاث الراحلة انبعاثها به من ذي الحليفة لا من مكة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُحرم في حجته من مكة، وقد ذكرنا سابقاً ما يتعلَّق بهذا المقام فتذكَّر.
(3) أي ما ذُكر في هذه الرواية.
(4) أي الحجر الأسود.
(5) قوله: أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر، هو أخو القاسم بن محمد من ثقات التابعين قُتل بالحَرَّة سنة 63. أخبر هو عبدَ الله بن عمر بنصب عبد الله على أنه مفعول أخبر، فالمُخْبِر هو عبد الله بن محمد والمُخْبَر له ابن عمر، "عن" متعلِّق بأخبر عائشة: وظاهره أن سالماً كان حاضراً لذلك، فتكون من رواية نافع عن(2/384)
أَخْبَرَ عبدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَلَمْ (1) تَرَي أَنَّ قومَك (2) حِينَ بَنَوا (3) الكعبة اقتصروا عن قواعد (4) إبراهيم عليه
__________
عبد الله بن محمد، وأخرجه مسلم من رواية نافع عن عبد الله بن محمد، عن عائشة، كذا ذكره الحافظ ابن حجر وغيره.
(1) بهمزة الاستفهام وفتح التاء والراء وسكون الياء وبحذف النون للجزم أي ألم تعلمي.
(2) بكسر الكاف خطاب إلى عائشة وقومها المراد به قريش.
(3) قوله: حين بنوا الكعبة، أن أرادوا بناءها، وذلك قبل البعثة النبوية بخمس سنين، وكانت الكعبة قبل ذلك مبنيَّة بالرضم (الرضم واحدته "رضمة" الصخور العظيمة) . ليس فيها مدر ولم تكن جدرانها مرتفعة، وكان لها بابان فتساقط بناؤها ووصلها الحريق فأرادت قريش تسقيفَها ورفعَ جدرانها، ولم تكن قبل ذلك مسقَّفة فبَنوْا الكعبة وسقفوها بالخشب والحجارة وجعلوا لها باباً واحداً ليُدخلوا فيها من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا، وقد كانوا تعاهدوا أن لا يُصرف في بنائها إلا المال الطيب، فجمعوه وشرعوا في بنائها فقصرت بهم النفقة، فأخرجوا قَدْر الحَطيم من الكعبة، ولم يزل ذلك البناء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يغيِّره لأن قريشاً كانوا قريبي عهد بالكفر والجاهلية، فخاف أن يطعنوا عليه بهدم الكعبة من غير ضرورة وبقي كذلك إلى عهد الخلفاء حتى جاء عهد عبد الله بن الزبير وكان قد سمع هذا الحديث من عائشة فهدم الكعبة في عهد خلافته وبناها على قواعد إبراهيم، ثم لما قُتل ابن الزبير لم يرضَ الحجاج الأمير من عبد الملك بن مروان إبقاء بناء ابن الزبير فهدمها وأعادها إلى وضع قريش فكان ما كان كما هو مبسوط في تواريخ البلد الأمين (وانظر أوجز المسالك 7/ 93) .
(4) جمع قاعدة بمعنى الأساس.(2/385)
السَّلامُ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلا تَرُدَّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَتْ: فَقَالَ: لَوْلا (1) حِدثانُ (2) قومِك بِالْكُفْرِ، قَالَ (3) : فَقَالَ (4) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَئِنْ (5) كَانَتْ عائشةُ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَرَى رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ (6) اسْتِلامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَان الحِجر إلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يتمَّ عَلَى قَوَاعِدِ إبراهيم عليه السلام
__________
(1) قوله: فقال: لولا ... إلى آخره، وفي رواية: لولا أنَّ قومَك حديث عهد بالجاهلية لأمرت بالبيت فهُدم، فأدخلت فيه ما أخرج وألزقته بالأرض وجعلت له بابين: باباً شرقياً، وباباً غربياً فبلغتُ به أساس إبراهيم. واستُنبط من الحديث جواز ترك ما هو صواب خوف وقوع مَفسدة أشد منه.
(2) بالكسر بمعنى الحدوث والقرب.
(3) أي عبد الله بن محمد.
(4) حين سمع هذا الحديث.
(5) قوله: لئن، قال الحافظ ابن حجر والقاضي عياض: ليس هذا شكاً من ابن عمر في صدق عائشة، لكن يقع في كلام العرب كثيراً صورة التشكيك والمراد به التقرير.
(6) قوله: ترك استلام الركنين، أي لمسَهما وتقبيلَهما. اللذين يليان أي يقربان الحِجْر (وهو المعروف على هيئة نصف الدائرة وقدره تسع وثلاثون ذراعاً. تنوير الحوالك ص 263) . بالكسر وهو الحطيم: الموضع الذي أخرجته قريش من الكعبة، وهما ركنان شاميان. ويعرف اليوم أحدهما بالركن العراقي والآخر بالشامي، إلا أن البيت أي الكعبة لم يتم على قواعد إبراهيم فليس الركنان بحسب بناء الخليل طرفين للكعبة، ولذا ورد أن ابن الزبير لما بنى الكعبة على قواعد الخليل استلم الأركان كلَّها.(2/386)
41 - (بَابُ الصَّلاةِ فِي الْكَعْبَةِ وَدُخُولِهَا)
479 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا نافع، عن ابن عمر: أن رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ (1) الْكَعْبَةَ هُوَ وأسامةُ (2) بْنُ زَيْدٍ وَبِلالٌ (3) وَعُثْمَانُ (4) بْنُ طلحة الحجبي، فأغلقها (5) عليه،
__________
(1) كان ذلك يوم الفتح، كما ورد في رواية البخاري.
(2) قوله: أُسامة، بضم الألف ابن زيد بن حارثة بن شراحيل الهاشمي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، له مناقب كثيرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: أحبيِّه فإني أحبُّه، أخرجه الترمذي، وولاه إمارة الجيش وفيهم عمر، وعقد له اللواء، توفي بالمدينة أو بوادي القرى سنة 54، وقيل: غير ذلك، ذكره النووي في "تهذيب الأسماء واللغات".
(3) قوله: وبلال، هو ابن رباح بالفتح الحبشي مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان قديم الإسلام والهجرة، وشهد المشاهد كلها، وله مناقب كثيرة، توفي بدمشق سنة 20، وقيل: سنة 21، وقيل بالمدينة وهو غلط، قاله النووي في "التهذيب"، وقد ذكرت قدراً من ترجمته في رسالتي "خير الخبر بأذان خير البشر" وغيره.
(4) قوله: وعثمان، هو ابن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزّى بن عبد الدار، يقال له الَحجَبي بفتح الحاء والجيم لحجبهم الكعبة، ويُعرفون الآن بالشَّيبيِّين نسبة إلى شَيْبة بن عثمان بن أبي طلحة ابن عم عثمان المذكور ههنا. وخدمة غلق البيت وفتحه وحفظ مفتاحه لم تزل فيهم، ذكره العيني،
(5) قوله: فأغلقها، أي الكعبة، والضمير إلى عثمان، وإنما أغلقه لكثرة الناس فخاف أن يزدحموا عليه، أو يصلوا بصلاته فيكون ذلك عندهم من مناسك الحج(2/387)
وَمَكَثَ (1) فِيهَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ (2) : فَسَأَلْتُ بِلالا حِينَ خَرَجُوا مَاذَا صَنَعَ (3) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، وَعَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ، وَثَلاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى (4) ، وَكَانَ الْبَيْتُ (5) يومئذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ الصَّلاةُ فِي الْكَعْبَةِ حَسَنَةٌ (6) جَمِيلَةٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ والعامة من فقهائنا.
__________
(روى ابن أبي شيبة من قول ابن عباس: إن دخول البيت ليس من الحج في شيء. وحكى القرطبي عن بعض العلماء أن دخول البيت من مناسك الحج، وردَّه بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إنما دخله عام الفتح ولم يكن محرماً. فتح الباري 3/ 466) .
(1) أي توقَّف فيها زماناً.
(2) ابن عمر.
(3) أي في داخل الكعبة.
(4) قوله: ثم صلّى، أي ركعتين نفلاً، وعند مسلم عن أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة. ولكنه كبَّر في نواحيه. ووقع عند أبي عَوَانة عن ابن عمر أنه سأل بلالاً وأسامة - حين خرجا -: هل صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه؟ فقالا: نعم، وكذا ورد عند أحمد والطبراني. وجمع بينهما بأن أسامة حيث أثبتها اعتمد في ذلك على غيره، وحيث نفى أراد ما في علمه، ويحتمل أن يكون أسامة غاب بعد دخوله، فلم يره يصلي، ويدل عليه ما رواه ابن المنذر من حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صوراً في الكعبة، فكنت آتيه بماءٍ في الدَّلو يضرب به الصُّوَر. وقال ابن حِبّان: الأشبه أن يُحمل الخبران على دخولين متغايرين: أحدهما يوم الفتح وصلّى فيه، والآخر في حجة الوداع، ولم يصل فيه، كذا في " عمدة القاري".
(5) أي كانت الكعبة في ذلك الزمان مبنيَّة على ستة أَعمِدة بالفتح وكسر الميم جمع عمود.
(6) أي مستحبة وفضيلة (ويقول الحافظ في الفتح 3/466 ما ملخِّصه: إن صحة النفل والفرض داخل الكعبة قول الجمهور، وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعي، وعن ابن عباس عدم الصحة مطلقاً للزوم استدبار بعض الكعبة وقد ورد الأمر باستقبال جميعها، وبه قال بعض المالكية والظاهرية والطبري، ومشهور قول مالك على رأي المازري منع الفرض ووجوب الإعادة، وأطلق الترمذي عنه جواز النفل، فكأنه اختلف النقل عنه. اهـ -) وليست من مناسك الحج.(2/388)
42 - (بَابُ الْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ أَوْ عَنِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ)
480 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ (1) قَالَ (2) : كَانَ الْفَضْلُ (3) بْنُ عَبَّاسٍ رديفَ (4) رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، قال: فأتتْ (5)
__________
(1) أي سليمانَ بنَ يسار.
(2) أي ابنُ عباس.
(3) قوله: الفضل، هو ابن عباس، أخو عبد الله بن عباس ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، له مناقب كثيرة، شهد حُنَيْناً وحجة الوداع، وخرج إلى الشام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي بناحية الأردنّ في طاعون عَمَواس سنة 18، وقيل: توفي سنة 15، وقيل غيرذلك، ذكره ابن الأثير. وهذا الحديث أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس مثل ماههنا، والأئمة الخمسة من حديث الفضل، فجعله بعضهم من مسند ابن عباس وبعضهم من مسند الفضل، قال الترمذي: سألت محّمداً - يعني البخاري - عنه فقال: أصح شيء في هذا الباب ما رواه ابن عباس عن الفضل، ويحتمل أن يكون سمعه من الفضل وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أرسله، فلم يذكر مَن سمعه منه.
(4) قوله: رديف، أي راكباً خَلْفَه على بعيرٍ واحد وهو مما لا بأس به، إذا أطاقته الدابَّة.
(5) وكان ذلك غداةَ جمْعٍ بيوم النحر، كما في روايةٍ للبخاريِّ والنسائيِّ.(2/389)
امرأةٌ مِنْ (1) خثعَم تَسْتَفْتِيهِ (2) ، قَالَ: فَجَعَلَ (3) الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصرِف وَجْهَ الفضل بيده إلى الشِّقِّ الآخر، فقالت (4) :
__________
(1) قوله: من خَثْعَم، بفتح الخاء وسكون الثاء المثلَّثة وفتح العين: قبيلة مشهورة.
(2) أي تطلب منه الحكم والفتوى.
(3) قوله: فجعل، أي طفق وشرع الفضل بن عباس ينظر إلى تلك المرأة، وتنظر تلك المرأة إلى الفضل، وذلك لكون الطبائع مجبولة على النظر إلى الصور الحسنة، وكان الفضل حسناً جميلاً وتلك المرأة شابة جميلة، والأظهر أن ذلك النظر لم يكن عن شهوة بل من المباح الذي رُخِّص فيه إذا أُمن من الشهوة، لكن لّما خاف النبي صلى الله عليه وسلم أن يجرَّ ذلك إلى فتنة صَرَفَ وجهَ الفضل بيده الشريفة إلى الشِّقّ - بالكسر وتشديد القاف - الآخر أي الجانب الآخر الذي ليس فيه ذلك الاحتمال، وقد سئل عنه العباس فقال: لم لوَّيتَ عُنُق ابن عمك؟ فقال: رأيت شابّاً وشابّةً فلم آمن الشيطانَ عليهما، أخرجه الترمذي، وبالغ في دفع الفتنة فصرف وجهه بيده فإنَّ الإنكار باليد أقوى من الإنكار باللسان، وبهذا ظهر أنه لا يصح استنباط حرمة مطلق النظر إلى وجه الأجنبية ولو في حالة الأمن من هذه القصة (قال الباجي: يحتمل أن تكون قد سدلت على وجهها ثوباً، فإن المحرمة يجوز لها ذلك لمعنى الستر، إلاَّ أنه كان يبدو من وجهها ما ينظر إليه الفضل. المنتقى 2/267. وفي فتح الباري 4/70 عن العياض: لعل الفضل لم ينظر نظراً ينكر بل خشي عليه أن يؤول إلى ذلك، أو كان قبل نزول الأمر بإدناء الجلابيب.
وقال الشيخ في " البذل": وإنما لم يمنعها ولم يأمر بصرف النظر عنه لأن صرف وجه أحدهما يغني عن الآخر، ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم لم يخف منها الشهوة، كما في الأوجز 7/48) .
(4) بيان لاستفتائها.(2/390)
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ فريضةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أدركْت أَبِي شَيْخًا (1) كَبِيرًا لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أفأحجُّ (2) عنه؟ قال: نعم (3) ، وذلك (4) في حجة الوادع.
481 - أخبرنا مالك، أخبرنا أيوب السَّخْتيانيّ (5) ، عن
__________
(1) قوله: شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبُت، بضم الباء أي يقعد ويستقرُّ على الراحلة، يعني أن الحج افترض على أبي حال كونه شيخاً كبيراً غير قادر على الذهاب لا ماشياً ولا راكباً بأن أسلم في ذلك الحال، أو أسلم قبله وكان فقيراً فحصلت له الاستطاعة الموجِبة لافتراض الحج في تلك الحالة
(2) بهمزة الاستفهام.
(3) قوله: قال: نعم، أي حجي نائبةً عنه، واستُنبط من الحديث جواز حج المرأة عن الرجل وكذا العكس، ولا خلاف في جوازهما إلاَّ ماقال الحسن بن صالح من عدم جواز حج المرأة عن الرجل، وهو غفلة عن السنَّة، وقالت طائفة: لا يحج أحد عن أحد، روي هذا عن ابن عمر والقاسم والنَّخَعي، وقال مالك والليث: لا يحج أحد عن أحد إلاَّ عن ميت لم يحج حجة الإسلام، وقالت الحنفية والشافعية بجواز الاستنابة للشيخ الفاني وكذا الحج عن الميت، كذا في "عمدة القاري".
(4) أي كان هذا الاستفتاء والجواب في حجة الوداع سنة عشر.
(5) قوله: السختياني، نسبة إلى بيع السَّخْتِيان - وهو بفتح السين وسكون الخاء وكسر التاء الفوقانية وتخفيف الياء التحتية، في الآخر نون - جلود الظأن، كان أيوب يبيعها، فنسب به، كذا في "أنساب السَّمعاني" ومختصره المسمّى باللباب لابن الأثير الجزري، وأما قول السيوطي في مختصره "لب اللباب" إنه بكسر السين فسبق قلم نبَّه عليه عبد الله بن سالم البصري المكِّي.(2/391)
ابْنِ سِيرِينَ (1) ، عَنْ رَجُلٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلا أَتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ أمي امرأةٌ كَبِيرَةٌ لا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْمِلَهَا (2) عَلَى بَعِيرٍ، وإنْ رَبَطْنَاهَا (3) خِفْنَا أَنْ تَمُوتَ، أَفَأَحُجُّ (4) عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.
482 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ السَّخْتَيانيّ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ رَجُلا كَانَ جَعَلَ (5) عَلَيْهِ أَنْ لا يَبْلُغَ (6) أحدٌ مِنْ وَلَده
__________
(1) قوله: عن ابن سيرين، اسمه محمد، ذكر النووي في "التهذيب" أن أباه سِيرِين - بكسر السين والراء - كان مولى أنس بن مالك، وله ستة أولاد: محمد ومَعبد وأنس ويحيى وحفصة وكريمة وكلهم رواة ثقات من أجلِّة التابعين، وكثيراً ما يطلق ابن سيرين على محمد، هذا أبو بكر البصري الإمام في التفسير والتعبير والحديث والفقه، سمع ابن عمر وأبا هريرة وابن الزبير وغيرهم، ولم يسمع عن ابن عباس فحديثه عنه مرسل، وقد أكثر الأئمة في الثناء عليه، توفي بالبصرة سنة 110 هـ -.
(2) أي لا نقدر أن نركبها على الراحلة خوفاً من سقوطها.
(3) أي شَدَدْنا بالحبل على البعير خوف السقوط.
(4) بهمزة استفهام.
(5) أي نذر وألزم على نفسه.
(6) قوله: أنْ لا يبلغَ أحد من وَلَد، بفتحتين أو بضم الأول وسكون الثاني.
الحلب، أي حلب اللبن عن الضرع. فيحلُب، بضم اللام وكسره، أي ولده.
فيشرب، أي ذلك الولد. ويستقيه (في نسخة: يسقيه) ، أي يسقي الولد ذلك اللبن والده إلاَّ حجَّ بنفسه وحجَّ به أي الولد، قال ابن سيرين: فبلغ رجل من ولده الذي قال أي إلى(2/392)
الحَلَبَ فيَحلِبُ فَيَشْرَبَ وَيَسْتَقِيَهُ إلاَّ حجَّ وحجَّ بِهِ، قَالَ: فَبَلَغَ رجلٌ مِنْ وَلَدِهِ الَّذِي قَالَ، وَقَدْ كَبِرَ الشَّيْخُ، فَجَاءَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ الخَبَرَ، فَقَالَ إِنَّ أَبِي قَدْ كَبِرَ وَهُوَ لا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا بَأْسَ بالحجِّ عَنِ الْمَيِّتِ (1) وَعَنِ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ إِذَا بَلَغَا مِنَ الْكِبَرِ (2) (3) مَا لا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَحُجَّا. وَهُوَ قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ مَالِكُ (4) بْنُ أَنَسٍ: لا أرَى أن يحجَّ أحدٌ عن أحدٍ.
__________
مرتبةٍ قال بها ذلك الرجل، وهو أن يقدر على أن يحلب فيشرب ويسقيه. وقد، أي والحال أنه قد كبِرَ - بكسر الباء - الشيخ أي بلغ الوالد من الشيخوخة وبلغ من الكبر إلى حد لا يقدر على إيفاء نذره، فَجَاءَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فأخبره الخبر أي بين له كيفية النذر والكبر، فقال: إن أبي قد كبر وضعف وهو لا يستطيع أي لا يقدر على الحج أفأحج عنه؟ أي نيابة عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، حُجَّ عنه وأَوْفِ بنذره.
(1) قوله: عن الميت، أي نيابةً عن الميت فرضاً كان أو نفلاً، فإن كان فرضاً، وأوصى به الميت سقط عنه وإلاَّ يجزئ عنه إن شاء الله، وفي النفل (قال الحافظ: وأما النفل فيجوز عند أبي حنيفة خلافاً للشافعي، وعن أحمد روايتان: كذا في فتح الباري 4/66 وبسط شيخناً في الأوجز 9/42 في بيان الحج عن الغير عشرة أبحاث مفيدة مهمة) يصل ثوابه إليه.
(2) بكسر الأول وفتح الثاني.
(3) أي سناً لا يقدران الحج بنفسهما.
(4) صاحب الموطأ.(2/393)
43 - (بَابُ الصَّلاةِ بِمِنًى (1) يَوْمَ التَّرْوِيَةِ (2))
483 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابنَ عُمَرَ كَانَ (3) يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ بِمِنًى، ثُمَّ يغدُو إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ إِلَى عَرَفَةَ.
قَالَ محمد: هكذا السنَّة (4)
__________
(1) قوله: بمنى، بكسر الميم، تصرف ولا تصرف، وهو موضع معروف من الحرم بين مكة والمزدلفة، حدُّها من جهة المشرق بطن السيل إذا هبطت من وادي محسر، ومن جهة المغرب جمرة العقبة، سُمِّي به لما يمنى فيه من الدماء أي يُراق ويُصَبُّ، ذكره النووي في "التهذيب".
(2) أي اليوم الثامن من ذي الحجة.
(3) قوله: كان يصلي، أي كان يرحل من مكة بعد صلاة الفجر من اليوم الثامن إلى منى، فيصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح من يوم عرفة، ثم يذهب في اليوم التاسع غداءً أي صباحاً إذا طلعت الشمس إلى عَرَفة بفتحتين، ويقال له عرفات أيضاً. قال النووي: اسم لموضع الوقوف سُمِّي بذلك لأن آدم عرف حواء هناك، وقيل: لأن جبريل عرَّف إبراهيم المناسك هناك، وجُمعت عرفات لأن كلَّ حدٍّ منه يسمَّى عرفة، ولهذا كانت مصروفة كقصبات، قال النحويون: ويجوز ترك صرفه بناءً على أنها اسم مفرد لبقعة.
(4) قوله: هكذا السنَّة، أي الطريقة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من مكة ضحىً من يوم التروية، وغدا إلى عرفات يوم عرفة بعد الطلوع، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وأحمد والحكم وابن خزيمة وغيرهم. وقد أجمع الأئمة على استحباب هذا وأولويته ومنهم من قال إنه سنة مؤكدة(2/394)
فَإِنْ عجَّل (1) أَوْ تأخَّر فَلا بَأْسَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
44 - (بَابُ الْغُسْلِ بِعَرَفَةَ يَوْمَ (2) عَرَفَةَ)
484 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَغْتَسِلُ بِعَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يُرَوِّحَ (3) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا (4) حَسَنٌ وَلَيْسَ بواجب.
45 - (باب الدَّفع (5) من عرفة)
485 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، أنَّ أباه أخبره،
__________
(هكذا في فروع الأئمة الأربعة: أوجز المسالك 7/356) .
(1) قوله: فإن عجَّل، من التعجيل. وفي نسخة: تعجَّل أو تأخَّر بأن قدم بمنى يوم السابع من ذي الحجة أو بعد صلاة الظهر أو العصر يوم التروية، وبأن يذهب إلى عرفة قبل طلوع يوم عرفة في ليلة عرفة أو يوم التروية أو يذهب إلى عرفة وقت الضحى يوم عرفة أو بعد الزوال بشرط أن يصل هناك وقت الوقوف فلا بأس أي هو جائز إلاَّ أنه خلاف الأَولى، أو خلاف السَّنة، إنشاء الله تعالى، قال القاري: إنما استثني احتياطاً لاحتمال أن يكون تأَخُّره عليه السلام في منى كان للنسك وقصد العبادة أو لضرورة قلَّة الماء بعرفة أو الاستراحة أو لحوق الجماعة المتأخرة، وعلى كل تقدير فالأولى هو المتابعة.
(2) أي اليوم التاسع.
(3) أي يذهب من مقام نزوله إلى جبل الرحمة وموقف الدعاء.
(4) قوله: هذا حسن، أي هذا الغسل مستحب، وقيل سنة للوقوف وليس من المناسك الواجبة.
(5) قوله: الدفع، أي الرجوع من عرفة إلى المزدلفة عند غروب الشمس يوم عرفة.(2/395)
أَنَّهُ سَمِعَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يُحدِّث عَنْ سَيْرِ (1) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَفَعَ (2) مِنْ عَرَفَة، فَقَالَ: كَانَ (3) يَسِير العَنَقَ حَتَّى إِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ. قَالَ هِشَامٌ: وَالنَّصُّ أرْفَعُ (4) مِنَ العَنَق.
قَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَنا (5) أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عليكم بالسَّكِينَة (6) فإنَّ البِرَّ (7)
__________
(1) أي عن كيفيَّته.
(2) أي انصرف وذلك في حجة الوداع.
(3) قوله: كان يسير العَنَقَ، بفتح العين وفتح النون، نوع من السير وهو أدنى المَشْي، وسير سهلٌ للدوابِّ من غير إسراع حتى إذا وجد فَجْوة - بالفتح - ما اتسع من الأرض - وفي بعض الروايات فرجة - نصَّ أي أسرع والنصُّ والنصيص في السير أن لسيار (هكذا في الأصل وهو تحريف. الصواب: " أن تسار" كما في الأوجز 7/294) الدابَّة سيراً شديداً. قال ابن بطّال: تعجيل الدفع من عرفة إنما هو لضيق الوقت لأنهم إنما يدفعون عند سقوط الشمس وبين عرفة والمزدلفة ثلاثة أميال وعليهم أن يجمعوا المغرب والعشاء في المزدلفة، فتعجَّلوا في السير لاستعجال الصلاة.
(4) أي أعلى منه (قال النووي: هما نوعان من إسراع السير. وفي العنق نوع من الرفق. شرح النووي على مسلم 3/422) .
(5) هذا البلاغ أخرجه البخاري (رقم الحديث 1666) وغيره من حديث ابن عباس.
(6) أي بالطمأنينة في السير.
(7) بالكسر أي الطاعة والعبادة.(2/396)
ليس بإيضاع (1) الإبل وإيجا فِ (2) الْخَيْلِ. وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
46 - (بَابُ بَطْنٍ (3) محسِّر)
486 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ (4) يُحَرِّك راحلَته فِي بَطْنٍ محسِّر كقَدْر رمْيَةٍ بحَجَر.
قَالَ محمَّدٌ: هَذَا كلُّه وَاسِعٌ (5) إِنْ شئتَ حَركَّتَ (6) ، وإن شئت
__________
(1) أي بإسراعه.
(2) أي إعدائها.
(3) قوله: باب بَطن، بالفتح. محسِّر، قال العيني في " البناية شرح الهداية": بكسر السين المشدَّدة فاعل من حسَّر بالتشديد لأن فيل أصحاب الفيل (في شرح "الدسوقي" على شرح متن" الخليل": الحق أن قضية الفيل لم تكن بوادي محسرّ، بل كانت خارج الحرم، وذكر العيني في عمدة القاري 4/691 نقلاً عن الطبري - وهو المحب الطبري - ذلك، ثم قال: قيل هذا غلط لأن الفيل لم يعبر الحرم) حسر فيه أي أعيى، وهو وادٍ من مزدلفة ومنى، وسمِّي وادي النار، يقال: إن رجلاً اصطاد فيه، فنزلت نار وأحرقته، وحكمة الإسراع فيه لمخالفة النصاري لأنه مو قفهم.
(4) قوله: كان يحرِّك، أي تحريكاً زائداً ليسرع في بطن محسِّر كقَدر رمية بالكسر بحَجَر أي مقدار إذا رُمي بالحجر فوصل بموضع، وهذا قيل لمخالفة النصارى كما مر، وقيل: لأنه وادٍ عذِّب به بعض الكفار، فأحب أن يسرع في الخروج منه، وهو أمر مستحب ليس بواجب.
(5) أي جائز.
(6) أي الراحلة للإِسرع في وادي محسِّر.(2/397)
سِرْتَ عَلَى هيْنَتِكَ (1) بَلَغَنَا (2) أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي السَّيرين (3) جَمِيعًا: عَلَيْكُمْ بالسَّكينَة (4) . حِينَ أفاضَ (5) مِنْ عَرَفَةَ، وَحِينَ أفَاضَ من المُزدَالِفَة.
47 - (بَابُ (6) الصَّلاةِ بِالْمُزْدَلِفَةِ)
487 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي المغرب والعشاء بالمُزدَلِفة جميعاً.
__________
(1) بالفتح أي طريقتك في التوسط.
(2) قوله: بلغنا، دليل لكون الأمرين جائزَين يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السيرين جميعاً - أي في السير من عرفة إلى مزدلفة وفي السير من مزدلفة إلى منى -: عليكم بالسكينة والطمأنينة في المسير، فدل ذلك على عدم الإسراع. وفيه أن السكينة في السير الثاني لا ينافي قدراً من الإِسراع مع أن هذا القدر مخصَّص من ذلك المطلق. وليس ذلك ثابتاً بفعل ابن عمر وحده، بل ثبت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر الطويل المخرج في الصحاح (قال الموفق: يستحب الإِسراع في بطن محسِّر وهو ما بين جمع ومنى، فإن كان ماشياً أسرع وإن كان راكباً حرَّك دابته لأن جابراً قال في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أتى بطن محسر حرَّك قليلاً. المغني 3/424) .
(3) في نسخة: المسيرين.
(4) بيان للسيرين.
(5) أي رجع.
(6) قوله: باب الصلاة بالمزدلفة، بضم الميم وكسر اللام: موضع بين منى(2/398)
488 - أخبرنا مالك، أخبرنا ابن شهاب، عن سالم بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ (1) بالمُزدَلِفة جَمِيعًا.
489 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَدِيِّ (2) بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (3) بْنِ يَزِيدَ الأَنْصَارِيِّ الخَطْمي، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ (4) الأَنْصَارِيِّ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المغربَ والعشاءَ بالمُزْدَلِفَة جميعا (5) في حَجَّةِ الوَدَاع.
__________
وعرفة ما بين وادي محسِّر ومأزمي عرفة، وهما جبلان بين المزدلفة وعرفة، واحده مأزم بكسر الزاء، والحدان خارجان من المزدلفة سمِّي به لازدلاف الناس أي اقترابهم واجتماعهم بها، وقيل لاجتماع آدم وحواء به، من ثم سمِّي بالجمع أيضاً، ذكره النووي.
(1) ولم يتنفَّل بينهما.
(2) هومن ثقات التابعين الكوفيين، وثقه أحمد وغيره، مات سنة 110، كذا في "الإسعاف".
(3) قوله: عبد الله، هو عبد الله بن يزيد بن زيد بن حصين الأنصاري الخطمي، نسبة إلى بني خَطمة بالفتح بطن من الأنصار، وهو صحابي صغير، ذكره العيني وغيره.
(4) اسمه خالد بن زيد.
(5) قوله: جميعاً، زاد الطبراني من طريق جابر الجعفي ومحمد بن أبي ليلى كلاهما عن عديّ بن ثابت بهذا الإِسناد بإقامة واحدة، والجعفي ضعيف، لكن تقوّى بمتابعة محمد، وبه يُرَدُّ على قول ابن حزم: ليس في حديث أبي أيوب ذِكْرُ أذان وإقامة، كذا ذكره الحافظ ابن حجر في "فتح الباري".(2/399)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يُصَلِّي (1) الرجلُ المغربَ حَتَّى يَأْتِيَ المُزْدَلِفَة، وَإِنْ ذَهَبَ نِصْفُ اللَّيْلِ، فَإِذَا أَتَاهَا أذَّن وَأَقَامَ فَيُصَلِّي الْمَغْرِبَ والعشاءَ بِأَذَانٍ (2) وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة رحمه الله والعامةِ من فقهائنا.
__________
(1) قوله: لا يصلي، يعني أنَّ تأخير المغرب واجب إلى أن يصل المزدلفة فيجمع بينه وبين العشاء في المزدلفة وإن ذهب نصف الليل ودخل وقت كراهة العشاء، فلو صلاها في الطريق أو في عرفة أعاد، وهذا أحد القولين، وبه قال بعض المالكية، وقال الشافعية وغيرهم: لو جمع قبل جمع أو جمع بينهما تقديماً في الجمع أجزأ، وفاتت السنَّة، والخلاف مبني على أن الجمع بعرفة أو المزدلفة هل هو للنسك أو للسفر، فمن قال بالأول قال بالأول، ومن قال بالثاني قال بالثاني، كما بسطه في "ضياء الساري".
(2) قوله: بأذان وإقامة واحدة، أي بأذان واحد وإقامة واحدة للأولى فقط، والمرجَّح هو تعدُّد الإقامة لا الأذان كما بسطه الطحاوي في " شرح معاني الآثار". والمسألة مسدسة فيها ستة أقوال كما فصَّلها في "فتح الباري"
(3/525) . و"عمدة القاري" (4/687) : أحدها: الجمع بأذانين وإقامتين، رُوي ذلك عن ابن مسعود عند البخاري، وعن عمر عند الطحاوي، وبه قال مالك وأكثر أصحابه وليس لهم في ذلك حديث مرفوع، قاله ابن عبد البر، وقال ابن حزم: لم نجده مروياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بنص صريح صحيح، وذكر ابن عبد البر عن أحمد بن خالد أنه كان يتعجب من مالك حيث أخذ بحديث ابن مسعود وهو من رواية الكوفيين مع كونه موقوفاً ومع كونه لم يروه، ويترك ما رَوى عن أهل المدينة وهو مرفوع، وأُجيب عنه بأنه اعتمد صنيع عمر وإن كان لم يروه في "الموطأ"، وحمل الطاوي صنيع(2/400)
48 - (بَابُ مَا يَحْرُم عَلَى الْحَاجِّ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ العَقَبة (1) يَوْمَ النَّحْرِ)
490 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ
__________
ابْنِ عمر على أنه أذَّن للثانية لكون الناس تفرَّقوا لعشائهم فأذَّن ليجمعهم، وبه نقول إذا تفرق الناس عن الإِمام لأجل عشاء أو لغيره، فأذَّن، فلا بأس به، وبمثله يُجاب عن فعل ابن مسعود. وثانيها: أن يجمع بينهما بأذان وإقامة واحدة وهو مذهب أصحابنا الحنفية، قال ابن عبد البر: أنا أعجب من الكوفيين أخذوا بما رواه أهل المدينة، وتركوا ما رَوَوْا عن ابن مسعود مع أنهم لا يعدلون به أحداً. انتهى. وحجتهم في ذلك حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بأذان واحد وإقامة واحدة أخرجه ابن أبي شيبة، ورُوي نحوه من حديث ابن عباس عند أبي الشيخ الأصبهاني من حديث أبي أيوب كما مر. وثالثها: أن يجمع بأذان واحد وإقامتين، ثبت ذلك من حديث جابر عند مسلم وابن عمر عند البخاري، وهو الصحيح من مذهب الشافعي ورواية عن أحمد، وبه قال ابن الماجشون من المالكية وابن حزم من الظاهرية والطحاوي من الحنفية وقواه. ورابعها: الجمع بإقامتين فقط من غير أذان، وهو رواية عن أحمد وعن الشافعي، وقال به الثوري وغيره، وهو ظاهر حديث أسامة المرويّ في صحيح البخاريّ حيث لم يذكر فيه الأذان، وقد رُوي عن ابن عمر من فعله كلُّ واحد من هذه الصفات، أخرجه الطحاوي، وكأنه رآه من الأمر المتخير فيه.
وخامسها: الجمع بالإِقامة الواحدة بلا أذان، أخرجه مسلم وأبو داود عن ابن عمر أيضاً وهو المشهور من مذهب أحمد. وسادسها: ترك الأذان والإِقامة مطلقاً، أخرجه ابن حزم من فعل ابن عمر أيضاً. هذا كله في جمع التأخير بمزدلفة، وأما جمع التقديم بعرفات ففيه أقوال ثلاثة، الأول: يؤذَّن للأولى، ويقيم لها فقط، وبه قال الشافعي. والثاني: يؤذَّن للأولى ويقيم لكل منهما، وهو مذهب الحنفية. الثالث: تعدُّد الأذان والإقامة كليمها، وهو قول بعض الشافعية. وأرجحها وسطها.
(1) بفتحتين هو اسم لموضع رمي طرف مِنَى إلى جهة مكَّة،(2/401)
عبد الله بن عمر: أنَّ عمر بن الْخَطَّابِ خَطَبَ (1) النَّاسَ بعَرَفَة فعلَّمهم أمرَ (2) الْحَجِّ، وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: ثُمَّ (3) جِئْتُمْ مِنًى، فَمَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ (4) الَّتِي عِنْدَ الْعَقَبَةِ فَقَدْ حلَّ (5) لَهُ مَا حَرُم (6) عَلَيْهِ إلاَّ النِّسَاء (7) وَالطِّيبَ (8) ، لا يمَسَّ أحدٌ نِسَاءً وَلا طِيبًا حَتَّى يَطُوفَ (9) بِالْبَيْتِ.
491 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ رَمَى الجَمْرة (10) ثُمَّ حَلَقَ أَوْ قصَّر،
__________
وفي يوم النحر يكتفي على رمي جمرة العقبة وفيما بعده من الأيام، يرمى في ثلاث مواضع.
(1) اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
(2) أي مناسكه.
(3) قوله: ثم جئتم، أي بعد الرجوع من عرفة والمزدلفة غداة يوم النحر،
وفي رواية يحيى: إذا جئتم منى، وهكذا في بعض نسخ هذا الكتاب، وفي بعضها: إن جئتم.
(4) أي يوم النحر.
(5) أي بالحلق أو التقصير.
(6) أي في حالة الإحرام.
(7) أي مباشرتهن.
(8) أي استعمال الطيب في بدنه وثيابه.
(9) قوله: حتى يطوف بالبيت، أي طواف الزيارة في يوم النحر أو بعده إلى الثاني عشر في ذي الحجة.
(10) أي يوم النحر.(2/402)
وَنَحَرَ (1) هَدْيًا إِنْ كَانَ مَعَهُ حلَّ لَهُ مَا حَرُم (2) عَلَيْهِ فِي الْحَجِّ إلاَّ النَّسَاء والطِّيبَ (3) حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا (4) قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ. وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ
__________
(1) أي ذبحه.
(2) أي في إحرامه.
(3) لكونه من مقدِّمات الجماع.
(4) قوله: هذا قول، أي عدم حِلّ النساء والطيب قبل طواف الزيارة. والأول متفق عليه (أي يحل له كل شيء إلاَّ النساء وهو قول سالم وطاوس والنخعي وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال مالك: يحل له كل شيء إلاَّ النساء والصيد، وفي " المدونة": أكره لمن رمى العقبة أن يتطَّيب حتى يفيض فإن فعل فلا شيء عليه. عمدة القاري 5/93) والثاني مختلف فيه، فمذهب عمر عدم حِلّ الطيب لكونه من مقدِّمات الجماع، وبه قال مالك، ويوافقه قول عبد الله بن الزبير: من سنَّة الحج إذا رمى الجمرة الكبرى حلّ له كل شيء إلاَّ النساء والطيب حتّى يزور البيت، أخرجه الحاكم في"المستدرك" وقال على شرط الشيخين، ولعل هذا الحكم منهم احتياطي، وإلاَّ فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحيحة في أحاديث عديدة حِلّ الطيب كما بسطه الزيلعي في "نصب الراية"، فمن ذلك حديث عائشة الآتي ذِكْرُه، وأخرج أبو داود من حديث عائشة مرفوعاً: إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حلَّ له كلُّ شيء إلاَّ النساء، ونحوه أخرجه الدارقطني وابن أبي شيبة من حديثها، وأبو داود وأحمد والحاكم من حديث أم سلمة، وأخرج النسائي عن ابن عباس قال: إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء، فقال رجل: والطيب؟ قال: أمّا أنا فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمخ رأسه بالمسك أفطيب (في الأصل: أخطيب، وهو تحريف) هو أم لا؟ وزعم بعض المالكية(2/403)
خِلافَ (1) ذَلِكَ قَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَديّ هَاتَيْنِ بَعْدَ مَا حَلَقَ (2) قَبْلَ أَنْ يَزُورَ (3) الْبَيْتَ، فَأَخَذْنَا بِقَوْلِهَا (4) . وَعَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ (5) والعامَّة مِنْ فُقَهَائِنَا.
492 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ عائشة أنها (6) قالت: كنت أُطَيِّب (7)
__________
أن عمل أهل المدينة على خلافه، قال العيني: ورُدَّ بما رواه النسائي من طريق أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بن هشام أن سليمان بن عبد الملك لما حج أدرك ناساً من أهل العلم منهم القاسم بي محمد وخارجة بن زيد وسالم وعبد الله بن عبد الله بن عمر وأبو بكر بن عبد الرحمن، فسألهم عن الطيب قبل الإفاضة فكلهم أمروه به. فهؤلاء فقهاء أهل المدينة من التابعين قد اتفقوا على ذلك، فكيف يُدَّعى مع ذلك العمل على خلافه؟!
(1) أي خلاف مذهب عمر وابنه.
(2) يوم النحر.
(3) أي يطوف طواف الزيارة.
(4) لكونه متضمناً لبيان الفعل النبوي.
(5) وهذا قول الجمهور.
(6) قوله: أنها قالت، قال ابن عبد البر: هذا حديث صحيح ثابت لا يختلف أهل العلم في صحته وثبوته، وقد رُوي من وجوه، وقال العيني: أخرجه الطحاوي من ثمانية عشر وجهاً.
(7) قوله: كنت أطيِّب، قال الحافظ في "فتح الباري" (3/398) : استُدلَّ به على أنَّ "كان" لا تقتضي التكرار لأنها لم يقع ذلك منها إلاَّ مرة واحدة، وقد صرحت في(2/404)
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإحرّامِه (1) قَبْلَ أَنْ يُحرم، ولحلِّه (2) قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ (3) بِالْبَيْتِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ فِي الطِّيبِ (4) قَبْلَ زِيَارَةِ الْبَيْتِ ونَدَعُ (5) مَا رَوَى عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ والعامَّة مِنْ فُقَهَائِنَا.
49 - (بَابُ مِنْ أيِّ مَوْضِعٍ يُرمى (6) الْجِمَارُ (7))
493 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ الرحمن بن القاسم:
__________
رواية عروة عنها بأن ذلك كان في حجة الوادع، وكذا استدلَّ به النوويُّ في " شرح صحيح مسلم"، وتُعُقِّب بأن المدَّعى تكراره إنما هو التطيُّب لا الإحرام، ولا مانع من أن يتكرر الطيب لأجل الإحرام مع كون الإحرام مرة واحدة، ولا يخفى ما فيه، وقال النووي في موضع آخر: إنها لا تقتضن التكرار ولا الاستمرار، وكذا قال الفخر في "المحصول" وجزم ابن الحاجب بأنها تقتضيه، وقال جماعة من المحققين: إنها تقتضيه ظهوراً وقد تقع قرينة تدل على عدمه.
(1) أي لأجل إحرامه. دل هذا على جواز التطُّيب عند الإحرام وقد اختلفوا فيه وقد مرِّ بنا تفصيله.
(2) أي خروجه عن الإحرام (أي بعد أن يرمي ويحلق) .
(3) أي يطوف طواف الزيارة.
(4) أي في جواز استعماله.
(5) أي نترك.
(6) بصيغة المجهول.
(7) قوله: الجمار، بالكسر جمع جَمرة بالفتح هي الحصا الصغيرة ثم سمِّي(2/405)
مِنْ أَيْنَ كَانَ (1) الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ يَرْمِي جَمرَةَ العَقَبة؟ قَالَ: مِنْ (2) حَيْثُ تَيَسَّرَ.
قَالَ محمَّد: أفضلُ ذَلِكَ أَنْ يَرْمِيَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَمِنْ حَيْثُ مَا (3) رَمَى فَهُوَ جَائِزٌ وهو قول أبي حنفية والعامة.
__________
المواضع التي ترمى الحجار فيها بالجمار، فقيل: جمرة العقبة والجمرة الوسطى والجمرة الكبرى، وسمِّيت جمرة العقبة به لأن العقبة بفتحتين في الأصل الطريق الصعب في الجبل وتلك الجمرة واقعة كذلك، وقيل: سمَّيت تلك المواضع بها لاجتماع الحصى هناك، من تجَّمر القوم إذا تجمعوا، ذكره العيني.
(1) أي من أي مقام.
(2) قوله: من حيث تَيَسَّر، قال القاري: أي من جوانبها عُلْويّها وسُفْليّها.
انتهى. وقال الزرقاني: أي من بطن الوادي، بمعنى أنه لم يعَّين محلاً منها للرمي، وليس المراد من فوقها أو تحتها أو بظهرها لما صح أن النبي صلى الله عليه وسلم رماه من بطن الوادي. انتهى. والذي يظهر في معنى هذا الأثر لعموم قوله: من حيث تيسَّر، أي أمكن وسهل، هو ما ذكره القاري، ولا شبهة أن الرمي من بطن الوادي مندوب وإنما الكلام في الجواز وفيما إذا لم يمكن ذلك، قال في " الهداية"و" البناية": فيرميها من بطن الوادي أي من أسفل الوادي إلى أعلاه، هكذا رواه عمر وابن مسعود في الصحيحين والترمذي عن ابن مسعود أنه عليه السلام لمّا رمى جمرةَ العقبة جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينة، ورمى من بطن الوادي. ولو رماها من أعلاها جاز، والأول هو السنَّة فإن عمر رماها من أعلاها للزحام.
(3) أي من أي موضع رمى جاز.(2/406)
50 - (بَابُ تَأْخِيرِ (1) رَمْيِ الْحِجَارَةِ مِنْ عِلّةٍ (2) أَوْ مِنْ غَيْرِ علّةٍ وَمَا يُكره مِنْ ذَلِكَ)
494 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّ (3) أَبَا البَدَّاح بْنَ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ أَخْبَرَه، عَنْ أَبِيهِ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ رَخَّصَ لرِعاء (4) الإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ (5) يَرْمُون (6) يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْمُونَ مِنَ الْغَدِ، أَوْ مِنْ بَعْدِ الْغَدِ ليَوْمين، ثم يرمون يوم النَّفر.
__________
(ذكر في " المحلى" أنِّ كلَّ ذلك واسع لكن السنَّة عند الجمهور كونه من بطن الوادي. انظر الأوجز 8/ 51)
(1) أي من أوقاته المقررة.
(2) بكسر الأول وتشديد الثاني: أي مرض أو ضرورة.
(3) قوله: أن أبا البدّاح، بفتح الموحّدة والدال المشدّدة المهملة فألف فحاء مهملة، لا يوقف على اسمه، وكنيته اسمه، وقال الواقدي: أبو البدّاح لَقَبٌ غلب عليه وكينته أبو عمرو. انتهى. وكذا قال ابن المديني وابن حبان، وقيل: كينته أبو بكر، ويقال: اسمه عدي، وهو من ثقات التابعين، مات سنة 117، وقيل سنة 110. ابن عاصم بن عدي أخبره أي أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عاصم بن عدي بن الجَدَّ - بفتح الجيم - بن العجلان (في الأصل لعجلان والصواب العجلان. شرح الزرقاني 2/371) بن حارثة القضاعي الأنصاري، هو من الصحابة، شهد أحداً وغيره، وعاش خمسة عشر ومائة، كذا في شرح الزرقاني.
(4) بالكسر جمع راعي.
(5) مصدر بات أي في القيام ليلاً بمنى اللائق للحجّاج أي أباح لهم تركه لضرورتهم.
(6) قوله: يرمون، هذا بيان للرخصة يعني رخّص لهم ترك البيتوتة بمنى،(2/407)
قَالَ محمدٌ: مَنْ جَمَعَ رَمْي يَوْمَيْنِ فِي يَوْمٍ مِنْ عِلّةٍ أَوْ غَيْرِ عِلّة فَلا
__________
وأمرهم أن يرموا يوم النحر بعد طلوع الشمس كما لسائر الحجاج، ثم يرمُون، أي إذا رَمُوا يوم النحر أجاز لهم أن يذهبوا من منى، ويقيموا خارحين عنه، ثم يجيئوا في اليوم الحادي عشر، فيرمون من الغد، أي اليوم الحادي عشر أو من بعد الغد أن لا يرموا يوم الحادي عشر بل يدخلوا في منى في اليوم الثاني عشر فيرموا فيه ليومين للحادي عشر قضاءً وللثاني عشر أداءً، ثم يرمون يوم النفر - بالفتح ثم السكون - أي يوم الانصرف من منى. وهو اليوم الثالث عشر - وهو يوم النفر الثاني ويُستحب ذلك. ومن تعجل فنفر في الثاني عشر فلا إثم عليه كما قال الله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه} (سورة البقرة: الآية 203) وعلى هذا التقرير الذي ذكرنا يكون رخصتهم لأمرين، أحدهما: ترك البيتوتة، وثانيهما: جواز جمع رمي يومين في يوم واحد، ويمكن أن يكون المراد بقوله يرمون يوم النحر: رَمْيَ يوم النحر في ليلته فيكون رخصة ثالثة، كما أخرج الطبراني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة أن يرموا ليلاً، وعند الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أنه صلى الله عليه وسلم رخص للرعاء أن يرموا ليلاً وأيّ ساعة شاؤوا من النهار، ونحوه أخرجه البرّاز من حديث ابن عمرو. بهذا استند الشافعي في أنّ أوّل وقت الرمي يوم النحر بعد نصف ليلته وعندنا وقته بعد طلوع الفجر لحديث ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر نساءه صبيحة جَمْع أن يفيضوا مع أول الفجر سواداً ولا يرموا الجمرة إلاَ مصبحين، أخرجه الطحاوي. وعنه أنه عليه السلام كان يقدم ضعفة أهله من المزدلفة بغَلَس ويأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس، أخرجه الأربعة. وهذا بيان الوقت الأفضل، وما مرّ من الأحاديث محمول عندنا على رمي الأيام الباقية فإنها جائزة ليلاً، ولو سلمنا أن المراد به ليلة العيد فهو أمر ضروري ثبت رخصةً للرعاء والضعفاء فلا يكون حجًّةً لتعيين الوقت، كذا في " البناية".(2/408)
كَفَّارة عَلَيْهِ إِلا أَنَّه يُكْرَه (1) لَهُ أَنْ يَدع ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عِلّة حَتَّى الغَد. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا تَرَكَ (2) ذَلِكَ حَتَّى الغَد فَعَلَيْهِ دمٌ (3) .
51 - (بَابُ رَمْيِ الْجِمَارِ رَاكِبًا)
495 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: أَنَّ النَّاسَ (4) كَانُوا إِذَا رمَوْا الْجِمَارَ مَشَوْا (5) ذَاهِبِينَ (6) وَرَاجِعِينَ (7) وَأَوَّلُ (8) من ركب مُعَاوِيَة بن أبي سُفيان.
__________
(1) لأنه خلاف السنّة.
(2) أي من غير علّة.
(3) لأن رمي كل يوم في ذلك اليوم واجب عنده خلافاً لهما
(4) أي الصحابة.
(5) أي على أقدامهم.
(6) أي من منازلهم إلى الجمار.
(7) إلى مقامهم.
(8) قوله: وأول من ركب معاوية، قيل ذلك لعذره بالسمن، وعند ابن أبي شيبة أن جابر بن عبد الله كان لا يركب إلا من ضرورة، وعند أبي داود أي ابن عمر كان يأتي الجمار في الأيام الثلاثة بعد يوم النحر ماشياً ذاهباً وراجعاً، ويخبر أن ّالنبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. ثم المراد بالركوب ههنا المحكوم بأوّليّته من معاوية الركوب في جميع الجمار، أو الركوب في غير يوم النحر، وإلا فالركوب يوم النحر عند جمرة العقبة ثابت في رسول الله صلى اله عليه وسلم عند البخاري ومسلم وغيرهما. وفي ذلك مع ما مرّ دلالة لما ذهب إليه الشافعي ومالك من أنّ رمي يوم النحر الأفضل فيه الركوب، وفي غيره المشي، وقال غيرهما: الأفضل المشي في الكل، وركوب(2/409)
قَالَ مُحَمَّدٌ: المَشْيُ أَفْضَلُ ومَنْ رَكِبَ فَلا بأسَ (1) بِذَلِكَ.
52 - (بَابُ مَا (2) يَقُولُ عِنْدَ الْجِمَارِ وَالْوُقُوفِ (3) عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ)
496 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُكبّر (4) كُلَّما رَمَى الجمرة بحصاة.
قال محمد (5) : وبهذا نأخذ.
__________
النبي صلى الله عليه وسلم كان ليراه الناس، فيتعلموا منه المناسك ويسألوه (في الأصل: "يسألوا عنه") المسائل. والبسط في "عمدة القاري"، وفي "الهداية" وغيره: كل رمي بعده رمي فالأفضل أن يرميه ماشياً، وإلا فيرميه راكباً لأن الرمي الذي بعده فيه وقوف ودعاء فيرمي ماشياً ليكون أقرب إلى الإجابة.
(1) أي هو جائز (وقد أجمع العلماء على جواز الأمرين معاً، واختلفوا في الأفضل من ذلك فذهب أحمد وإسحاق إلى استحباب الرمي ماشياً. وذهب مالك إلى استحباب المشي في رمي أيام التشريق. وأما جمرة العقبة يوم النحر فيرميها على حسب حاله كيف كان. قال النووي: يُستحب أن يرمي في اليومين الأوّلين من أيام التشريق ماشياً، وفي اليوم الثالث راكباً، قال ابن حجر: هو المعتمد كما في "الروضة" وعند الحنفية في المسألة ثلاث أقوال. ورجح ابن الهمام أداءها ماشياً أَوْلى لأنه أقرب إلى التواضع وخصوصاً في هذا الزمان. انظر: الأوجز 8/50، والكوكب الدري 2/ 129.
(2) من الأذكار.
(3) للدعاء.
(4) أي يقول الله أكبر.
(5) فإن التكبير عند كل حصاة مستحبّ فإن تركه فلا شيء عليه عند الجمهور، وعند الثوري يُطعم بتركه.(2/410)
497 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ (1) الْجَمْرَتَيْنِ الأُوليَيْن يَقِفُ وُقُوفًا (2) طَوِيلا، يُكَبِّرُ اللَّهَ وَيُسَبِّحُهُ وَيَدْعُو اللَّهَ وَلا يَقِفُ (3) عِنْدَ العَقَبَة.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وهو قول أبي حنيفة رحمه الله.
__________
(1) قوله: عند الجمرتين الأوليين، فيه تغليب والمراد الأولى التي تلي مسجد الخَيْف والوسطى. وهذا في غير يوم النحر، وأما فيه فلا يرمي إلاَّ جمرة العقبة وليس هناك وقوف، والأصل فيه أن كلَّ رمي بعده رمي يُستحبّ فيه الوقوف والدعاء لأنه في وسط العبادة، فيأتي بالدعاء فيه، وكل رمي ليس بعده رمي لا وقوف فيه لأن العبادة قد انتهت، كذا في "الهداية" وغيرها.
(2) قوله: وقوفاً طويلاً، أي مستقبل القبلة كما في رواية البخاري عن سالم أنّ ابن عمر كان يرمي الجمرة الدينا أي القربى من مسجد الخَيْف بسبع حصياتٍ ويُكبّر على إِثرِ كل حصاةٍ ثم يقدم (هكذا في الأصل. وفي صحيح البخاري: ثم يتقدّم. رقم الحديث 1751 و 1752، "4/ 583") .
فيقوم مستقبل القبلة طويلاً، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الجمرة الوسطى، ثم يأتي ذات الشمال، فيقوم مستقبل القبلة طويلاً، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي جمرةَ ذاتِ العقبة من بطن الوادي، فلا يقف عندها ثم ينصرف. وورد نحوه في روايةٍ للبخاري من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، قال العينيّ: اختلفوا في مقدار ما يقف فكان ابن مسعود يقف قدر قراءة سورة البقرة مرتين، وعن ابن عمر أنه كان يقف قدر سورة البقرة وعن ابن عباس بقدر قراءة سورة من المئين. ولا توقيف في ذلك عند العلماء وإنما هو ذكر ودعاء.
(3) لا يوم النحر ولا فيما بعده.(2/411)
53 - (بَابُ رَمْيِ الْجِمَارِ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ (1))
498 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لا تُرمَى (2) الْجِمَارُ (3) حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ فِي الأَيَّامِ الثَّلاثَةِ الَّتِي بَعْدَ يوم النحر.
قال محمد: وبهذا (4) نأخذ.
__________
(1) قوله: أو بعده، قال القاري: أو للتنويع فقبل الزوال يرمي العقبة يوم النحر، وبعده للبقية. انتهى. وفيه أنه ليس لوقت رمي يوم النحر وهو من طلوع الفجر إلى الزوال عند أبي يوسف وإلى غروب الشمس عندهما ذكر فيما بعد ترجمة الباب إلا أن يُقال: قول ابن عمر لا ترمي الجمار حتى تزول الشمس إلى آخره، يدل على أن ابتداء وقت الرمي من الأيام الثلاثة التي بعد النحر، هي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من الزوال دون يوم النحر، فإنّ الابتداء فيه قبل الزوال يدل عليه التقييد بما بعد يوم النحر، فالأثر المذكور دلّ على كلا الأمرين أحدهما بعبارته والآخر بإشارته ويمكن أن يكون الهمزة الاستفهامية محذوفة أو عاطفة عليه، فالمعنى باب بيان أن رمي الجمار أهو قبل الزوال أو بعده؟
(2) بصيغة المجهول.
(3) أي الحجار الصغار والمراد مواضع الرمي.
(4) قوله: وبهذا، وبه قال أبو حنفية إلا أنه لو رمى في اليوم الرابع قبل الزوال صح مع الكراهة عنده خلافاً لهما وهو الأصح(2/412)
54 - (بَابُ الْبَيْتُوتَةِ (1) وَرَاءَ عَقَبَةِ مِنًى وَمَا يُكره مِنْ ذَلِكَ)
499 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، قَالَ: زعموا (2) أن عمر بن الحطاب كَانَ يَبْعَثُ رِجَالا يُدْخِلُونَ (3) النَّاسَ مِنْ وَرَاءِ الْعَقَبَةِ إِلَى (4) مِنًى. قَالَ نَافِعٌ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لا يَبِيْتَنَّ أحدٌ مِنَ الْحَاجِّ لَيَالِي مِنًى وَرَاءَ الْعَقَبَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنَ الْحَاجِّ أَنْ يَبِيتَ إلاَّ بِمِنًى لَيَالِي الْحَجِّ (5) فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ (6) مَكْرُوهٌ وَلا كَفَّارة عَلَيْهِ. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
__________
(أما عند الجمهور فالسنة عندهم أن يرمي الجمار في غير يوم الأضحى بعد الزوال، ورخص الحنفية في الرمي في يوم النفر قبل الزوال، كذا في
فتح الباري 4/580 والمغني 3/452.
(1) قوله: باب البيتوتة (قال الجمهور: لا يبيت أحدٌ ليالي منى في غير منى، غير أنّ المبيت به واجب عند الشافعي وأحمد في المشهور عنهما، وسنّة عند أبي حنفية والشافعي في أحد قوليه وأحمد في رواية. أوجز المسالك 8/25) ، هي بمنى واجبة عند الجمهور حتى يجب الدم بتركها إلا من ضرورة لحديث: رخّص لرعاء الإبل، وفي قول للشافعي ورواية عن أحمد أنه سنة، يُكره تركها ولا يجب شيء به، وهو مذهب أصحابنا.
(2) أي قالوا أو ذكروا له.
(3) من الإدخال.
(4) قوله: إلى منى، وذلك لأنّ العقبة ليست من منى بل هي حدّ منى من جهة مكّة.
(5) وهي الليالي الثلاثة والاثنتان لمن تعجّل بعد ليلة العيد.
(6) قوله: فهو مكروه، إلا للرعاة للحديث المارّ، وإلا لأهل السقاية لحديث: رخّص النبي صلى الله عليه وسلم للعباس أن يبيت بمكة أيام منى من أجل سقايته أي لماء زمزم.(2/413)
55 - (بَابُ مَنْ قَدَّمَ نُسُكاً (1) قَبْلَ نُسُكٍ)
500 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عِيسَى (2) بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْد اللَّهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ (3) لِلنَّاسِ عَامَ حَجَّة الوَدَاع يَسْأَلُونَهُ، فَجَاء (4) رجلٌ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَشْعُر (5) فنحرتُ (6) قَبْلَ أَنْ أرْمِي (7) ، قَالَ: ارْمِ وَلا حَرَج (8) ، وَقَالَ (9) آخَرُ: يا رسول الله،
__________
(1) أي عبادة من عبادات الحج.
(2) ثقة فاضل، مات سنة 100، وأبوه من العَشَرة، قاله الحافظ.
(3) أي على ناقته عند جمرة العقبة كما في رواية البخاري.
(4) قوله: فجاء رجل، قال الحافظ (فتح الباري 3/570) : لم أقفْ على اسمه بعد البحث الشديد ولا على اسم أحد ممن سأل في هذه القصة وكانوا جماعة، لكن في حديث أسامة بن شَريك عند الطحاوي وغيره: كان الأعراب يسألونه. فكان هذا هو السبب في عدم ضبط أسمائهم.
(5) أي لم أعلم أو لم أتعمَّد.
(6) أي ذبحت.
(7) الجمرة في يوم النحر.
(8) بفتحتين.
(9) قوله: وقال آخر، ذكر في هذه الرواية سؤال اثنين عن أمرين، أحدهما تقديم الذبح على الرمي، وثانيهما تقديم الحلق على الذبح، زاد في رواية في الصحيحين وأشباه ذلك، وفي رواية لمسلم قال آخر: أفضتُ قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج. فهذا ثالث وهو تقديم طواف الإضافة على الرمي، وفي رواية لأحمد ذكر(2/414)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
السؤال عن أمر رابع وهو تقديم الحلق قبل الرمي. فحاصل ما في حديث عبد الله بن عمرو السؤال عن أربعة أشياء، وورد الأوّلان في حديث ابن عباس أيضاً عند البخاري، وللدار قطني من حديثه أيضاً السؤال عن الحلق قبل الرمي، وفي حديث جابر وأبي سعيد عند الطحاوي مثله، وفي حديث علي عند أحمد السؤال عن الإضافة قبل الحلق، وفي حديثه عند ابن الطحاوي السؤال عن الرمي والإفاضة معاً قبل الحلق، وفي حديث جابر عند ابن حبان السؤال عن الإفاضة قبل الذبح، وفي حديث أسامة السؤال عن السعي قبل الطواف. فهذه عدة صور (انظر فتح الباري 3/573) سُئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم وأجاب بأنه لا حرج. ولا خلاف في أن الترتيب بتقديم الرمي ثم الذبح ثم الحلق ثم طواف الإفاضة ثم السعي مطلوب، واختُلف في وجوبه، فذهب الشافعي وأحمد في رواية والجمهور إلى استنانه (اعلم أن المسنون يوم النحر أربعة أمور: الرمي ثم الذبح ثم الحلق ثم الإفاضة، وهذا الترتيب هو المسنون عند كافة العلماء، وقد وردت الروايات بهذا الترتيب من فعله صلى الله عليه وسلم والترتيب بين هذه الأربعة سنة عند الشافعي وأحمد وصاحبي أبي حنفية، فمن قدّم شيئاً من هذه أو أخّر فلا دم عليه عندهم لكون الترتيب غير واجب، واستدلوا بما ورد في الروايات من قوله عليه الصلاة والسلام: افعل ولا حرج، وأما عند الإمامين الهُمامين أبي حنفية ومالك رحمهما الله تعالى فالترتيب في بعضها واجب وفي بعضها سنة، فمن خالف الترتيب الواجب فعليه دم، ومن خالف الترتيب المسنون فقد أساء ولا دم عليه، فالترتيب عند مالك بين الرمي والأمور الثلاثة فقط، فلو قدم شيئاً من الأمور الثلاثة على الرمي فعليه دم، وأما في الأمور الثلاثة الباقية فسنة، وأما عند الإمام أبي حنفية فالترتيب بين الطواف والذبح سنة للمفرد فقط. وأما في غيرهما فالترتيب واجب، سواء كان مفرداً أو غيره، فمن خالف الترتيب الواجب فعليه دم. انظر حجة الواداع ص 146، وأوجز المسالك 8/ 149) .
وأنه لو أخلّ في شيء من ذلك لا يلزم دم استدلالاً بقوله صلى الله عليه وسلم: لا حرج، وأوجبه مالك في تقديم الإفاضة على الرمي، وذهب ًأبو حنفية إلى وجوبه في الكل ولزوم الدم بتركه، وحمل قوله: لا حرج على نفي الإثم، والكلام طويل مبسوط في شروح صحيح البخاري وشروح الهداية.(2/415)
لَمْ أشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، قَالَ: اذْبَحْ وَلا حَرَجَ. فَمَا سُئل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ يَوْمَئِذٍ (1) قُدِّمَ (2) وَلا أُخِّر إلاَّ قَالَ: افْعَلْ وَلا حَرَجَ.
501 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ السَّخْتيانيّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ (3) يَقُولُ: مَنْ (4) نَسِيَ مِنْ نُسُكه شَيْئًا - أَوْ تَرَك - فَلْيُهرِق دَمًا. قَالَ أَيُّوبُ: لا أَدْرِي أَقَالَ (5) تَرَكَ أَمْ نَسِي؟
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِالْحَدِيثِ (6) الَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم نأخذ أنّه
__________
(1) أي يوم النحر.
(2) صفة لشيء.
(3) هذا موقوف على ابن عباس له حكم الرفع، وأخرج ابن أبي شيب عن سعيد بن جيبر وإبراهيم النخعي وجابر بن زيد نحو ذلك.
(4) قوله: من نسي من نسكه، بضمتين أي من أعمال حجِّه وعمرته شيئاً - أو ترك - شكّ من أيوب السختياني هل روى شيخُه سعيد لفظ نسي أو ترك. فليهرق، أي يجب عليه أن يذبح ويريق دماً لتركه الواجب، وفي رواية ابن أبي شيبة والطحاوي بسند ضعيف لضعف راويه إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عنه قال: من قدّم شيئاً من حجّه أو أخّر فليهرق لذلك دماً. ثم أخرج الطحاوي بسند آخر قويّ مثله. قال الطحاويّ في "شرح معاني الأثار" فهذا ابن عباس يوجب على من قدّم نسكاً أو أخّر دماً، وهو أحد من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما سئل يومئذ عن شيء قدّم أو أخّر من أمر الحج إلا قال فيه: لا حرج، فلم يكن معنى ذلك عنده معنى الإباحة ولكن معنى ذلك على أن الذين فعلوه في حجة النبي عليه السلام كان على الجهل بالحكم فيه (انظر شرح معاني الآثار 1/425) .
(5) أي سعيد.
(6) أي بظاهره الدّال على نفي الحرج مطلقاً.(2/416)
قَالَ: لا حَرَجَ (1) فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لا حَرَجَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يرَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةً إِلا فِي (2) خَصلَةٍ واحدةٍ، المُتَمَتِّع والقَارِن إِذَا حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ قَالَ (3) : عَلَيْهِ دمٌ (4) ، وَأَمَّا نَحْنُ (5) فَلا نَرَى عَلَيْهِ شَيْئًا.
56 - (بَابُ (6) جَزَاءِ الصَّيْدِ)
502 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عبد الله:
__________
(1) أي لا في الآخره بالإٍثم، ولا في الدنيا بلزوم الجزاء إذا لم يتعمد، وكذا لا حرج في الدنيا عند التعمد.
(2) قوله: إلا في خصلة، الحصر غير حقيقي لما في "الهدايه" وشروحه: من أخّرَ الحلق حتى مضت أيام النحر فعليه دمٌ عند أبي حنيفه، وكذا إذا أخّر طواف الزيارة، وقال: لا شيء عليه في الوجهين، وكذا الخلاف في تأخير الرمي، وفي تقديم نسك على نسك كالحلق قبل الرمي ونحر القارن قبل الرمي والحلق قبل الذبح، بخلاف ما إذا ذبح المفرد بالحج قبل الرمي أو حلق قبل الذبح حيث لا يجب عليه شيء عنده أيضاً لأن النسك لا يتحقق في حقه لعدم وجوب الذبح على المفرد، وأما القارن والمتمتع فعليهما دم واجب فيجب الترتيب بينه وبين غيره.
(3) أي أبو حنيفة.
(4) بترك الترتيب الواجب.
(5) أي أنا وأبو يوسف وغيرهما.
(6) قوله: باب جزاء الصيد، أي جزاء صيد البرّ للمُحرم، وأما صيد البحر فهو حلال، والأصل فيه قوله تعالى: {يا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقتُلُوا الصَّيدَ وَأَنتُم حُرُمٌ وَمَن قَتَلَه مِنكُم مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحكُمُ بِه ذَوَا عَدْلٍ مِنكُم(2/417)
أنَّ (1) عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَضَى فِي الضَّبُع (2) بكَبش (3) وَفِي الغَزال (4) بعَنز (5) ،
__________
هَدياً بالِغَ الكَعبَة أَو كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أو عَدلُ ذلِكَ صِيَاماً} (سورة المائدة: الآية 95) . واختلفوا في المثل فعند أبي حنيفة وأبي يوسف هو أن يُقوَّم الصيدُ في المكان الذي قُتل فيه أو في أقرب المواضع منه إذا كان في برية، فيقوّمه رجلان عدلان ممن له معرفة بقيم الصيد، ثم القاتل مخيّر، إن شاء ابتاع بها هدياً إن بلغت قيمته قيمة الهدي، فيذبحه في الحرم، وإن شاء اشترى بها طعاماً وتصدَّقَ به على كل مسكين نصف صاع من بُرّ أو صاعاً من شعير أو تمر، وإن شاء صام عوض صدقة مسكين يوماً، وذلك لأن المثل المطلق هو المثل صورةً ومعنى، ولا يمكن الحمل عليه لخروج ما ليس له مثل صوري فحمل على المثل معنى، وهو القيمة. ومعنىقوله "من النَّعَم" بياناً لمثل أن يبتاع من النعم من ذلك القيمة، وعند محمد والشافعي يجب في الصيد النظير في ماله نظير لأنّ "من النعم" بيان لمثل، والقيمة ليست من النعم، ولذلك أوجب الصحابة النظير فيما له نظير لحديث "الضبع صيد وفيه شاة" أخرجه أصحاب السنن، وما ليس له نظير تجب القيمة فيه، فيكون قولهما مثل ما مرّ، والكلام من الطرفين مبسوط في "فتح القدير" و"النهاية" وغيرهما (ارجع إلى الأوجز 8/98) .
(1) وقد وقع في بعض النسخ "عن" وهو تحريف. والحديث منقطع في رواية يحيى لعدم الواسطة بين أبي الزبير وعمر.
(2) بفتح الضاد وضم الباء أو سكونها. بالفارسية "كفتار".
(3) بالفتح.
(4) بالفتح: الظبي.
(5) بالفتح: الأنثى من المعز.(2/418)
وَفِي الأَرْنَبِ بعَنَاق (1) وَفِي اليَربوع (2) بجَفرة (3) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ لأَنَّ هَذَا أَمْثِلَةٌ (4) مِنَ النَّعَمِ.
57 - (بَابُ كَفَّارَةِ (5) الأَذَى)
503 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ الجَزَرِيّ (6) ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (7) بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ (8) بن عُجْرَة:
__________
(1) بالفتح: الأنثى من أولاد المعز.
(2) بالفتح: الفار الوحشي.
(3) بالفتح: قيل: من أولاد المعز ما بلغ أربعة أشهر، وقيل: منه ومن الضأن أيضاً.
(4) أي ما ذُكر أمثلة - بالفتح - جمع مثل أي مشابهة ومماثلة حال كونها من النَّعَم بفتحتين أي الدوابّ.
(5) أي كفّارة حلق الرأس بسبب أذى في رأسه من كثرة القمل ونحوه.
(6) بفتحتين، نسبة إلى جزيرة ابن عمر: اسم موضع.
(7) هو من المجتهدين التابعين وثقات المحدثين، وسيأتي ذكره في باب القسامة.
(8) قوله: عن كعب، هو كعب بن عُجْرة - بضم أوله وسكون ثانيه - ابن أمية بن عدي الأنصاري، نزل بالكوفة، ومات بالمدائن سنة 51 هـ - أو بعدها، روى عنه ابن عباس وابن عمر وغيرهما، ومن التابعين ابن أبي ليلى وأبو وائل وغيرهما، قاله ابن الأثير، وقد كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية محرماً، فرآه رسول الله والقملة تسقط من رأسه على وجهه فقال: أيؤذيك هوامُّك؟ قال: نعم، فأمره أن يحلق، وأنزل الله فيه قوله: {فَمَن كَان مِنكُم مَرِيضاً أَوبِه أَذَىً مِن رَأسِه} (سورة البقرة: الآية 196) ، يعني(2/419)
أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحرِماً، فَآذَاهُ (1) القُمَّل فِي رَأْسِهِ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ وَقَالَ: صُمْ ثلاثةَ أَيَّامٍ، أَوْ أطْعِمْ (2) سِتَّةَ مَسَاكِينَ مُدَيَّنْ مُديَّن (3) أَوِ نُسُك (4) شَاةً أيَّ ذَلِكَ فَعَلتَ أَجْزَأَ عَنْكَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْعَامَّةِ.
58 - (بَابُ مَن قدَّم (5) الضَّعَفَة من المزدلفة)
504 - أخبرنا مالك، أخبرنا نافع،
__________
لا تحلقوا رؤوسكم في حال الإِحرام إلاَّ أن تضطروا إلى حلقه لمرض أو لأذى في الرأس من هوامَّ أو صداع، ففدية أي فحَلَق فعليه فدية من صيام ثلاثة أيام، أو صدقة ثلاثة آصع على ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، أو نسك، واحدتها نسيكة أي ذبيحة أعلاها بَدَنة ووسطها بقرة وأدناها شاة، كذا في "معالم التنزيل".
(1) قوله: فآذاه القُمَّل، بضم القاف وتشديد الميم واحدة قملة أو بالفتح ثم السكون: دويِّبة صغيرة تتولد من العرق والوسخ والعفونة، ذكره الدماميني في "عين الحياة".
(2) أمر من الإطعام.
(3) المد - بضم الميم وتشديد الدال - ربع الصاع فالغرض تصدَّقْ مُدَّيْن مُدَّيْن يعني نصف صاع لكل مسكين.
(4) بضم السين يعني اذبح.
(5) قوله: باب من قدَّم، من التقديم، الضعفة - بفتحتين - جمع ضعيف مثل النساء والصبيان والشيوخ الكبار والمرضى. من المزدلفة، أي أرسلهم إلى منى من مزدلفة في ليلة العيد قبل أوان نفر الحجاج منها، وهو وقت الإِسفار من يوم(2/420)
عَنْ سَالِمٍ وعُبَيد اللَّهِ (1) ابنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ كَانَ يُقَدِّم (2) صِبْيَانه مِنَ المُزْدَلِفَة إِلَى مِنىً حَتَّى (3) يُصَلّوا الصُّبْحَ بمِنىً.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بأس بأن يُقَدَّم (4) الضَّعَفَة ويُوغِر (5) إِلَيْهِمْ أَنْ لا يَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ والعامة من فقهائنا.
__________
العيد، وهو جائز بالإِجماع (وفي المغني 3/423، ولا نعلم فيه مخالفاً) خوف الزحام عليهم، وقد قدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضَعَفَة بني هاشم وصبيانهم، منهم ابن عباس ونساؤه وأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى يطلع الفجر كما هو ثابت في صحيح البخاري والسنن.
(1) هو من أعلام التابعين، ثقة ثبت، مات قبل أخيه سالم، قاله ابن الأثير.
(2) أي يرسلهم بالليل قبل نفر الناس.
(3) قوله: حتى يصلّوا الصبح بمنى، في صحيح البخاري عن سالم أن ابن عمر كان يُقَدّم ضَعَفَة أهله فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل، فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يرجعون قبل أن يقف الإِمام وقبل أن يدفَعَ، فمنهم من يَقْدَمُ مِنىً لصلاة الفجر ومنهم من يَقدَمُ بعد ذلك فإذا قدموا رَمَوْا الجمرة. وكان ابن عمر يقول: أرخص (في نسخة البخاري: أرخص. قال الحافظ: كذا وقع فيه أرخص، وفي بعض الروايات: رخَّص بالتشديد وهو الأظهر من حيث المعنى. فتح الباري 3/526) في أولئك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
(4) مجهول من التقديم وكذا ما بعده، وفي نسخة يقدم ويوغر مبنيّان للفاعل.
(5) قوله: ويوغر إليهم، قال القاري: بكسر الغين المعجمة من أوغر إليه، هكذا أمره أن لا يفعل ويترك، والمعنى يأمرهم ويؤكد عليهم أن لا يرموا الجمرة(2/421)
59 - (بَابُ جِلال (1) البُدن (2))
505 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أنَّ ابنَ عُمَرَ كَانَ لا يشقُّ (3) جِلال بُدنه، وَكَانَ لا يجلِّلها (4) حَتَّى (5) يغدوَ بِهَا من منى إلى عرفة
__________
حتى تطلع الشمس ليكونوا حاملين للسنة، وإلاَّ فيجوز الرمي بعد الصبح إجماعاً. وفي "عمدة القاري" (10/18) : جواز الرمي قبل طلوع الشمس وبعد طلوعِ الفجر للذين يتقدمون قبل الناس قول عطاء بن أبي رباح وطاوس ومجاهد والنَّخَعي والشعبي وسعيد بن جبير والشافعي، وقال عياض: مذهب الشافعي رمي الجمرة من نصف الليل، ومذهب مالك أنَّ الرمي يحل بطلوع الفجر، ومذهب الثوري والنخعي أنها لا تُرمى إلاَّ بعد طلوع الشمس وهو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق قالوا: فإن رَمَوْها قبل طلوع الشمس أجزأتهم وقد أساؤوا، أو قال الكاساني من أصحابنا: أول وقته المستحب ما بعد طلوع الشمس وآخر وقته آخر النهار، كذا قال أبو حنيفة، وقال أبو يوسف إلى الزوال.
(1) قوله: جِلال، بالكسر جمع جُلَّ - بالضم وتشديد اللام - ما يُجعل على ظهر الحيوان وهو للبَدَنة كالثوب للإِنسان يقيه البرد والوسخ.
(2) قوله: البُدْن، بالضم جمع البَدَنة بفتحتين هي من الإِبل والبقر.
(3) قوله: كان لا يشق، أي لا يقطعها في موضع لئلا تفسد، وتكون قابلة لأيِّ انتفاع كان، قال الزرقاني: رواه البيهقي من طريق يحيى بن بكير عن مالك، وقال: وزاد فيه غيره عن مالك إلاَّ موضع السنام، وإذا نحرها نزع جِلالها مخافةَ أن يفسدها الدم، ثم يتصدَّق بها. ونقل عياض أن التجليل يكون بعد الإِشعار لئلا يتلطَّخ بالدم وأن يشق الجلال من السنام إن قلّت قيمتها فإن كانت نفيسة لم تشق.
(4) أي من التجليل أي لا يكسوها الجلال.
(5) قوله: حتى يغدو بها، أي يصبح بها، ويذهب من منى إلى عرفة، وفي(2/422)
وَكَانَ يُجَلِّلها بالحُلَل (1) والقُبَاطي والأنمَاط، ثُمَّ يَبْعَثُ (2) بِجِلاَلها، فَيَكْسُوهَا (3) الْكَعْبَةَ. قَالَ (4) : فَلَمَّا كُسِيَت (5) الْكَعْبَةُ هذه الكسوة (6)
__________
رواية ابن المنذر عن نافع: كان ابن عمر يجلِّل بُدْنه الأنماط والبرود حتى يخرج من المدينة ثم ينزعها فيطويها حتى يكون يوم عرفة فيُلبسها إياها حتى ينحرها، ثم يتصدق بها، قال نافع: وربما دفعها إلى بني شيبة (انظر فتح الباري 3/550) .
(1) قوله: بالحلل، جمع حُلَّة بالضم فتشديد هي من برود اليمن، ولا يُسمَّى حلَّة إلاَّ أن يكون ثوبان من جنس واحد، والقُباطي - بالضم - جمع القُبطي - بالضم - ثوب رقيق من كَتّان يُعمل بمصر نسبةً إلى القِبط بالكسر قبيلة بمصر، والضم في النسبة على غير قياس، فرق بين الثياب وبين نسبة الإِنسان، فإنه ينسب بالقبطي بالكسر، والأنماط جمع نَمَط - بفتحتين - ثوب من صوف يُطرح على الهودج، ويكون ملوَّناً، وقيل: ضرب من البسط له خمل رقيق، كذا ذكره الزرقاني والقاري.
(2) إلى خدام الكعبة.
(3) قوله: فيكسوها الكعبة، قال ابن عبد البر: لأن كسوتها من القرب وكرائم الصدقات، وكانت تُكسى من زمن تُبَّع الحِمْيَري، ويقال: إنه أول من كساها، فكان ابن عمر يجمل بها بدنه ثم يكسوها الكعبة فيحصل على فضيلتين.
(4) أي نافع.
(5) بصيغة المجهول.
(6) قوله: هذه الكسوة، أي هذه الكسوة المعروفة، ولعلَّ المراد بها ما كساها به عبد الملك بن مروان من الديباج، وكان قبل ذلك في عهد الخلفاء تُكسى بالقباطي، كما بسطه العيني.(2/423)
أَقْصَر (1) مِنَ الجِلال.
506 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، قَالَ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ دِينَارٍ: مَا كَانَ (2) ابْنُ عُمَرَ يَصْنَعُ بِجِلالِ بُدْنه؟ حَتَّى (3) أَقْصَرَ عَنْ تِلْكَ الْكِسْوَةِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يتصدَّق (4) بِهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. يَنْبَغِي (5) أَنْ يُتَصَدَّقَ بِجِلالِ الْبُدْنِ وبِخُطُمِها (6) وَأَنْ لا يُعْطَى الجزَّار (7) مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَلا مِنْ لُحُومِهَا. بَلَغَنَا (8) أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
__________
(1) بفتح الهمزة: صيغة ماضٍ أي ترك ما كان يفعله من بعثها إلى الكعبة لعدم الاحتجاج إليه.
(2) استفهامية.
(3) في بعض النسخ: حين. وهو الظاهر.
(4) أي على الفقراء (قال الباجي: إن جلال البدن كانت كسوة الكعبة وكانت أَولى بها من غير ذلك فلما كسيت الكعبة رأى أنَّ الصدقة بها أولى من غير ذلك. المنتقى 2/314)
(5) أي استحباباً.
(6) قوله: بخطمها، بالضم جمع الخِطام بالكسر وهو زمام البعير الذي يجعل في أنفه.
(7) بضمِّ الجيم وتشديد الزاي المعجمة الذي يذبح الإِبل وغيره.
(8) هذا البلاغ أخرجه الجماعة إلاًّ الترمذي، ذكره الزيلعي.(2/424)
عَنْهُ بهَدْي فَأَمَرَ (1) أَنْ يتصدَّق بِجِلالِهِ وبِخطُمِه وَأَنْ لا يعطيَ (2) الجزَّار مِنْ خُطُمه وَجِلالِهِ شَيْئًا.
60 - (بَابُ المُحْصَر (3))
507 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أُحْصِرَ (4) دُونَ الْبَيْتِ بمرضٍ فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَهُوَ يَتَدَاوَى مِمَّا اضْطُرَّ إِلَيْهِ وَيَفْتَدِيَ.
__________
(1) قَالَ العيني: الظاهر أنَّ الأمر للاستحباب.
(2) أي في أجرته. وأما إن كان فقيراً فلا بأس بتصدُّقه عليه.
(3) قوله: المحصر، اسم مفعول من الإِحصار، من أحصره، إذا حبسه وهو الذي حبس عن إتمام الحج والعمرة بعذر أو مرض أو نحو ذلك.
(4) قوله: مَن أحصر، أي مُنع وحُبس دون البيت، أي قبل وصوله إليه بمرض ونحوه من غير عدو كافر. فإنه لا يَحِلُّ، بفتح أوله وكسر ثانيه وتشديد ثالثه أي لا يخرج من إحرامه حتى يطوف بالبيت ولو امتدَّت الأيام. فهو يتدَاوى، أي يعالج. مما اضطُرَّ مجهول، إليه، أي باستعمال ما احتيج إليه من مَحظورات الإِحرام كاللباس والطيب وإزالة الشعر وغير ذلك. ويفتدي، أي يؤدي فديةَ ما استعمله من المحظورات وكفارته بعد الفراغ من مناسكه. وحاصله أن الإِحصار المذكور في قوله تعالى: {وأتِمّوا الحجَّ والعُمرة لله فإن أُحصرتم فما استيسر من الهَدي ولا تَحلِقوا رؤوسكم حتى يَبلُغَ الهَديُ مَحِلَّه} (سورة البقرة: الآية 196) لا يكون بالمرض. وقد وقع الاختلاف في الإِحصار على أقوال كما بسطه العيني وغيره (فيه عشرة أبحاث بسطها شيخنا في أوجز المسالك، فارجع إليه 8/50 - 72) ، الأول: أن الإِحصار وحكمه الثابت(2/425)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
بالآية وهو أن يذبح الهدي، ويخرج من الإِحرام كان مخصوصاً (انظر سبل السلام 2/217) بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والآية المذكورة نزلت في حصرهم يوم الحديبية حين صدَّهم المشركون عن البيت فيختص بمورده، وهذا القول شاذ لا يعتمد عليه، والثاني: أن حكم الحصر عام لكنه لا يكون إلاَّ بالعدو الكافر كما كان في العهد النبوي، ويدل عليه قوله تعالى بعد تلك الآية: {فإذا أمنتم فمن تَمَتَّع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} (سورة البقرة: الآية 196) أي أمنتم من خوف العدو، فلا يكون الإِحصار بمرض ونحوه، وهذا مذهب ابن عمر كما دل عليه قوله المذكور ههنا، ومذهب ابن عباس حيث قال: لا حصر إلاَّ حصر العدو، أخرجه ابن أبي حاتم وقال: روى نحوه عن ابن عمر وطاوس، والزهري وزيد بن أسلم، وبه قال الليث ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق، والثالث: أن حكم الإِحصار عام زماناً وسبباً فيحصل حكمه بكل حابس من مرض وعدو وكسر رجل وذهاب نفقة ونحوها مما يمنعه المضي إلى البيت، وهذا قول ابن مسعود ورواية عن ابن عباس. وبه قال أصحابنا الحنفية وقالوا: الإِحصار في اللغة عام غير مخصوص بالعدو، ونزول تلك الآية في حصر العدو لا يقتضي اختصاصه به، وكذا لفظ الأمن لا يقتضيه فيمكن أن يراد به الأمن من عدو ومرض ونحوه، وعلى تقرير الاختصاص يقال: ورد بحسب تعين الحادثة والعبرة لعموم اللفظ والعلة لا لخصوص السبب، ويوافقه حديث من كُسِرَ أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى، أخرجه أحمد وأصحاب السنن، وفي رواية من كسر أوعرج أو مرض، ورواه عبد بن حميد، وقال روي نحوه عن ابن مسعود وابن الزبير وعلقمة وابن المسيب وعروة ومجاهد والنخعي وعطاء وغيرهم وهناك قول رابع محكي عن ابن الزبير وهو: أن المحصر بالمرض والعدو سواء، لا يحل إلاَّ بالطواف وهو قول شاذ، وأرجح الأقوال هو القول الثالث(2/426)
قَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ (1) جَعَلَ الْمُحْصَرَ بِالْوَجَعِ (2) كَالْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ، فَسُئِلَ (3) عَنْ رَجُلٍ اعْتَمَرَ (4) فنَهَشَته (5) حيَّة فَلَمْ يَسْتَطِعِ الْمُضِيَّ (6) ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لِيَبْعَثْ (7) بِهَدْيٍ ويواعِد (8) أصحابَه يَوْمَ أَمَارٍ، فإذا نَحَرَ عنه الهدي
__________
(انظر عمدة القاري 10/141) .
(1) أخرجه عنه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" من طرق عديدة.
(2) بالفتحتين المرض المؤلم.
(3) أي ابن مسعود.
(4) أحرم بالعمرة.
(5) من النهش وهو لدغ الحية وجرحها.
(6) أي لم يقدر الذهاب إلى مكة لإِتمام العمرة.
(7) أمر أن يرسل مع بعض أصحابه إلى مكة هدياً.
(8) قوله: ويواعد، من المواعدة "يوم أمار" بالفتح أي يوم أمارة وعلامة تدل على وصولهم إلى مكة وذبحهم الهدي عنه "فإذا نحر" ذبح عنه الهدي بمكة وجاء ذلك اليوم الموعود "حَلَّ" خرج من الإِحرام واستعمل محظوراته من الحلق وغيره "وكانت عليه عمرة مكان عمرته" أي عوض عمرته السابقة قضاء عنها، فإنها إن كانت واجبة بالنذر وغيره فظاهر، وإن كانت نفلاً فالنفل بالشروع يلزم كما هو مذهبنا، ودل هذا على أن المحصر يبعث بالهدي إلى مكة، ولا يذبحه حيث أحصر وهو المراد من قوله تعالى: {حَتَّى يَبلُغَ الهَدي مَحِلَّه} ، وقال الشافعي وغيره (قال الجمهور: يذبح المحصر الهدي حيث يحل سواء كان من الحل أو الحرم، وقال أبو حنيفة لا يذبحه إلاَّ في الحرم. عمدة القاري 10/149) : المراد بالمحل مكان الإِحصار، وفي المقام كلام طويل لا يليق هنا خوف التطويل.(2/427)
حَلَّ وَكَانَتْ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ مَكَانَ عُمْرَتِهِ، وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
61 - (بَابُ تَكْفِينِ الْمُحْرِمِ (1))
508 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كفَّن ابنه واقِدَ بن عبد الله وَ (2) قد مَاتَ مُحرماً بالجُحفَة (3) ، وَخمَّرَ (4) رَأْسَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخذُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِذَا (5) مَاتَ فَقَدْ ذَهَبَ الإِحرام عَنْهُ.
__________
(1) أي إذا مات المحرم في إحرامه.
(2) الواو حالية.
(3) بضمِّ الجيم: موضع بين الحرمين ميقات أهل الشام وقد مرَّ ذكره في بحث المواقيت.
(4) أي غَطّى رأسه. وفي رواية يحيى: ووجهه وقال لولا أنّا حُرُم لطيَّبناه.
(5) قوله: إذا مات، يعني أنَّ بالموت تنقطع الأعمال، فإذا مات ذهب الإِحرام منه، فلا بأس بتخمير وجهه ورأسه كما هو المسنون في سائر الموتى أخذاً من قول النبي صلى الله عليه وسلم: خمِّروا وجوه موتاكم ولا تشبَّهوا باليهود، أخرجه الدارقطني بسند صالح. وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية، فقال مالك بعد رواية هذا الأثر: إنما يعمل الرجل ما دام حيّاً فإذا مات فقد انقضى العمل. انتهى. ويوافقهم حديث: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاَّ من ثلاث: صدقة جاريه أوعلم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له، أخرجه ابن ماجه. ويخالفهم ما أخرجه مسلم وغيره أن رجلاً محرماً توفي، فقال رسول الله: كفِّنوه في ثوبيه ولا تغطّوا رأسه ولا تقربوه طيباً، فإنه يُبعث مطيَّباً يوم القيامة. وفي رواية: ولا تغطّوا رأسه ووجهه. وقد مرَّ معنا ذكر هذا(2/428)
62 - (بَابُ مَنْ أَدْرَكَ (1) عَرَفَةَ (2) لَيْلَةَ (3) الْمُزْدَلِفَةِ)
509 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا نافع، أن عبد الله بن عمر كان
__________
الحديث في "باب المحرم يُغطَّى وجهه"، وبه قالت الشافعية وغيرهم (وأحمد وإسحاق وأهل الظاهر في أن المحرم على إحرامه بعد الموت، كذا في الأوجز 6/193) . وهو الأرجح نقلاً، وأجاب العيني والزرقاني وغيرهما من الحنفية والمالكية عن هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم لعله عرف بالوحي بقاء إحرامه بعد موته، فهو خاص بذلك الرجل وبأنه واقعة حال لا عموم لها، وبأنه علَّله بقوله: فإنه يُبعث ملبِّياً، وهذا الأمر لا يتحقَّق في غيره وجوده فيكون خاصّاً به ولا يخفى على المنصف أن هذا كله تعسف، فإن البعث ملبيّاً ليس بخاصّ به، بل هو عام في كل محرم حيث ورد: يُبعث كلُّ عبد على ما مات عليه، أخرجه مسلم. وورد من مات على مرتبة من هذه المراتب بُعث عليها يوم القيامة، أخرجه الحاكم. وورد أن المؤذِّن يُبعث وهو يؤذِّن، والملبِّي يُبعث وهو يلبي، أخرجه الأصبهاني في "الترغيب والترهيب". وورد غير ذلك مما يدل عليه أيضاً كما بسطه السيوطي في "البدور السافرة في أحوال الآخرة". فهذا التعليل لا دلالة له على الاختصاص، وإنما عَلَّل به لأنه لمّا حَكَمَ بعدم التخمير المخالف لسنن الموتى نَبَّه على حكمه فيه، وهو أنه يُبعث ملبِّياً فينبغي إبقاؤه على صورة الملبّين. واحتمال الاختصاص بالوحي مجرَّدُ احتمال لا يُسمع، وكونه واقعة حال لا عموم لها إنما يصح إذا لم يكن فيه تعليل، وأما إذا وُجد وهو عام فيكون الحكم عامّاً، والجواب عن أثر ابن عمر يحتمل أن يكون لم يبلغه الحديث، ويحتمل أن يكون بلغه وحمله على الأولويَّة وجوَّز التخمير. ولعل هذا هو الذي لا يتجاوز الحق عنه.
(1) أي وصل إليها.
(2) في نسخة: عرفات.
(3) أي في الليلة يقام فيها بمزدلفة، وهي ليلة العيد.(2/429)
يَقُولُ: مَن وَقَفَ بِعَرَفَةَ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ (1) فَقَدْ أَدْرَكَ (2) الْحَجَّ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ.
63 - (بَابُ مَنْ غَرُبَتْ لَهُ الشَّمْسُ فِي النَّفْرِ (3) الأَوَّلِ وَهُوَ بِمِنًى)
510 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ غَرَبَت لَهُ الشَّمْسُ مِنْ أَوْسَطِ (4) أَيَّامِ التشريق وهو بمنى
__________
(1) أي فجر العيد.
(2) قوله: أدرك الحج، أي أدرك أعظم أركانه، وهو الوقوف بعرفة، وهذا حُكمٌ شُرع تسهيلاً، فإن أصل الوقوف هو ما يكون بالنهار يوم عرفة، فإن لم يتيسر له ذلك كفى وقوفه في جزء من أجزاء ليلة العيد بعرفة، وقد قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أدرك معنا هذه الصلاة أي صلاة الصبح بمزدلفة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تمَّ حجُّه وقضى تَفَثَه، رواه ابن خزيمة وصححه وابن حبان وأصحاب السنن، وقال أيضاً: الحج عرفة، من أدركها قبل أن يطلع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه، أخرجه أصحاب السنن، وزاد يحيى في موطأه في أثر ابن عمرو: من لم يقف بعرفة ليلة المزدلفة قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحج، وكذا روى نحوه عن عروة. وهذا يدل على أنه لا بد من الوقوف ليلاً أيضاً مع النهار حتى لو دفع من عرفة قبل غروب الشمس فاته الحج وبه قال مالك، بل عنده الوقوف في جزء من الليل أصل، والنهار تبع، وعندنا النهار أصل والليل تبع، كما بسطه العيني في "عمدة القاري".
(3) أي يوم الانصراف الأول من منى، وهو اليوم الثاني عشر من ذي الحجة.
(4) هو يوم الثاني عشر.(2/430)
لا ينفِرَنَّ (1) حَتَّى يَرمي الْجِمَارَ مِنَ الْغَدِ (2) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (3) نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة والعامة.
__________
(1) أي لا يرجعنَّ إلى مكة.
(2) أي من اليوم الثالث عشر.
(3) قوله: وبهذا نأخذ، قال القاري: اعلم أن الأفضل أن يقيم ويرمي يوم الرابع وإن لم يقم نفر قبل غروب الشمس، فإن لم ينفر حتى غربت الشمس يُكره أن ينفر حتى يرمي في اليوم الرابع، ولو نفر من الليل قبل طلوع الفجر من اليوم الرابع من أيام الرمي لا شيء عليه وقد أساء، ولا يلزمه رمي اليوم الرابع في ظاهر الرواية نص عليه محمد في "الرقيات" وإليه أشار في الأصل وهو المذكور في المتون، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يلزمه إن لم ينفر قبل الغروب، وليس له أن ينفر بعده حتى لو نفر بعد الغروب قبل الرمي يلزمه دم كما لو نفر بعد طلوع الفجر وهو قول الأئمة الثلاثة (قال الخرقي: فإن أحب أن يتعجَّل في يومين خرج قبل غروب الشمس، فإن غربت الشمس وهو بها لم يخرج حتى يرمي من غد بعد الزوال. قال الموفق: فإن غربت قبل خروجه من منى لم ينفر سواء كان ارتحل أو كان مقيماً في منزله لم يجز له الخروج، وهذا قول عمر وجابر بن زيد وعطاء وطاوس ومجاهد وأبان بن عثمان ومالك والثوري والشافعي وإسحاق وابن المنذر، وقال أبو حنيفة: له أن ينفر ما لم يطلع الفجر من اليوم الثالث لأنه لم يدخل اليوم الآخر فجاز له النفر كما قبل الغروب. انظر المغني 3/454، 455) ، فوجه الظاهر أن قبل غروب اليوم الثالث يجوز النفر، فكذا بعده بجامع أنَّ كلاًّ من الوقتين لا يجوز الرمي فيه عن الرابع ووجه رواية أبي حنيفة ومَن تبعه أن النفر في اليوم لا في الليل لقوله تعالى: {فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه} (سورة البقرة: الآية 203) ، والجواب أن لياليها التالية تابعة لأيامها الماضية. ولذا جاز رمي أيامها في لياليها اتفاقاً.(2/431)
64 - (بَابُ مَنْ نَفَرَ (1) وَلَمْ يَحْلِقْ)
511 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا نافع: أن عبد الله بن عمر لَقِيَ رَجُلا مِنْ أَهْلِهِ (2) يُقَالُ (3) لَهُ المجَبَّر وَقَدْ أَفَاضَ (4) وَلَمْ يَحْلِقْ رَأْسَهُ وَلَمْ يقصِّر، جَهِلَ (5) ذَلِكَ، فَأَمَرَهُ (6) عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَرْجِعَ فَيَحْلِقَ رَأْسَهُ أَوْ يقصِّر ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَى الْبَيْتِ، فَيُفِيض.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ.
65 - (بَابُ الرَّجُلِ يُجَامِعُ قَبْلَ أَنْ يُفيض (7))
512 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ،
__________
(1) أي من منى إلى مكة.
(2) أي من أعزَّته وأقاربه.
(3) قوله: يقال له المجبَّر، بصيغة المجهول من التجبير، اسمه عبد الرحمن وهو ابن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب، فالمجبَّر ابن أخي عبد الله بن عمر، وقد مرت ترجمته ووجه لقبه في "باب الوضوء من الرعاف".
(4) أي طاف طواف الإِفاضة.
(5) قوله: جهل ذلك، أي فعل المجبَّر ذلك جاهلاً عن هذا الحكم أنه يقدّم الحلق أو القصر على الطواف لا عالماً عامداً.
(6) قوله: فأمره، أمره بالرجوع إلى مِنى والحلق أو القصر هناك ثم طواف البيت أَمرَ ندب مراعاةً للترتيب المسنون، وإلاَّ فيجوز الحلق والقصرفي غير منى في الحَرَم مطلقاً والطواف قبلهما يُعتدُّ به ولا شيء عليه لكنه مكروه.
(7) قوله: قبل أن يفيض، أي قبل أن يطوف طواف الزيارة وفي نسخة عليها شرح القاري "باب الرجل يجامع بعرفة قبل أن يفيض" وفسَّر القاري معنى يفيض(2/432)
أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ (1) الْمَكِّيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ وَقَعَ (2) عَلَى امْرَأَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُفيض (3) فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْحَرَ بَدَنة. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) : مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ حجَّه، فمن جامع (5)
__________
يرجع من عرفات أي يجامع بعرفة قبل الرجوع بعد الوقوف. ويخدشه أنه ليس في الباب أثر يوافق هذا العنوان إلاَّ أن يُحمل قوله في أثر ابن عباس قبل أن يفيض على الجماع قبل الرجوع من عرفة، فإن الإِفاضة تُطلق عليه، قال الله تعالى: {فإذا أفضتم من عرفات} (سورة البقرة: الآية 198) ، لكنه ليس بصحيح فقد وقع في رواية يحيى في هذا الأثر: أنه سُئل عن رجل وقع بأهله وهو بمنى قبل أن يفيض إلى آخره، وهذا صريح في أن المراد به طواف الإِفاضة.
(1) اسمه محمد بن مسلم.
(2) أي وطأها.
(3) قوله: قبل أن يفيض، أي بعد الوقوف بعرفة سواء كان جِمَاعه بمنى أو بمكة فحينئذٍ تمَّ حجُّه لأنه وقع التحلل برمي الجمرات ووقع جِماعُه بعده وعليه أن يذبح بَدَنة بقراً أو إبلاً.
(4) أخرجه أصحاب السنن.
(5) قوله: فمن جامع، تفصيله على ما في"الهداية" وحواشيها أن الجماع قبل الوقوف بعرفة يفسد حجه، وعليه أن يمضي فيه ويهدي شاة ويحج من قابل، لما رواه أبو داود في المراسيل والبيهقي أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل جامع امرأتَه وهما محرمان، فقال: اقضيا نسككما واهديا هدياً. وعند الشافعي تجب بدنة كما في الجماع بعد الوقوف. ولنا إطلاق ما روينا، ولأنه لمّا وجب القضاء خفَّت الجناية. ومن جامع بعد الوقوف بعرفة سواء كان قبل الرمي أو بعده لم يفسد حجه(2/433)
بَعْدَ مَا يَقِفُ بِعَرَفَةَ لَمْ يفسُد حجُّه، وَلَكِنْ عَلَيْهِ بَدَنة (1) لِجمَاعِه، وحجُّه تامٌّ، وَإِذَا (2) جَامَعَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ لا يَفْسَدُ حَجُّهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
66 - (بَابُ تَعْجِيلِ الإِهلال (3))
513 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: يَا أَهْلَ (4) مكة، ما شأنُ الناس يأتون
__________
وعليه بدنة لأثر ابن عباس خلافاً للشافعي فيما إذا جامع قبل رمي يوم النحر فإنه عنده وعند مالك وأحمد مفسد، هذا إذا جامع قبل الحلق، فإن جامع بعد الحلق فعليه شاة لبقاء إحرامه في حق النساء، ودون لُبس المَخيط فخفِّفت الجناية.
(1) أي جزاءً لفعله.
(2) هذا بظاهره مكرر.
(3) أي الإِحرام لمن بمكة.
(4) قوله: يا أهل مكة، خطاب إلى مَن بمكة مكِّيّاً كان أو آفاقياً. ما شأن الناس أي الآفاقيون يأتون أي يدخلون مكة شُعثاً - بالضم فسكون - جمع أشعث: وهو الشَّعِث بفتح أوله وكسر ثانيه، مغبَّر الرأس متفرِّق الشعر مشتَّت الحال يعني يدخلون وهم محرمون من المواقيت مغبَّروا الرأس لا أثر عليهم للدُّهن والطيب، والحال يا أهل مكة أنتم مدَّهنون - بتشديد الدال من الادِّهان - أي مستعملون الدهن في الشعر. أهِلّوا، أي أحرموا بالحج إذا رأيتم الهلال أي هلال ذي الحجة، وهذا الأمر منه للندب وقد مرَّ أن ابن عمر كان يحرم يوم التروية ويستحبُّه ويتأسّى في ذلك بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر في ذلك واسع (انظر المنتقى للباجي 2/219) فمن تعجل فلا إثم عليه ومن تأخَّر فلا إثم عليه. والأفضل هو التعجيل إذا أمن من الوقوع في المحظورات.(2/434)
شُعثاً، وَأَنْتُمْ مُدَّهِنُون، أهِلُّوا إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلالَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: تَعْجِيلُ الإِهلال أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهِ إِذَا ملكتَ (1) نفسَك. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
67 - (بَابُ القُفُول (2) مِنَ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ)
514 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابن عمر: أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ حجٍّ أَوْ عُمرةٍ أَوْ غَزوة يُكَبِّر (3) عَلَى كُلِّ (4) شَرَفٍ مِنَ الأَرْضِ ثَلاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ (5) : لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك لَهُ، لَهُ المُلك وَلَهُ الْحَمْدُ يُحيِي ويُمِيت وهو على كل
__________
(1) قدرت نفسك وأمنت من الوقوع في المحظور.
(2) بالضم أي الرجوع إلى وطنه.
(3) أي يقول: الله أكبر.
(4) قوله: على كل شرف، قال العيني في "عمدة القاري": هو بفتحتين المكان العالي، قال الجوهري: جبل مشرف أي عالٍ، وقوله: آيبون، أي راجعون إلى الله، وفيه إيهام معنى الرجوع إلى الوطن، يقال آب إلى الشيء أوباً وإياباً أي رجع، وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي نحن آيبون، وكذا ارتفاع تائبون وما بعده. وقوله: لربنا، إما خاص بقوله ساجدون، وإما عامّ لسائر الصفات. وقوله: هَزَم الأحزاب، هم الطائفة المتفرِّقة الذين اجتمعوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب فهزمهم الله بلا مقاتلة ولا إيجاف خيل، وقال عياض: يحتمل أن يريد أحزاب الكفر في جميع الأيام والمواطن، ويحتمل أن يريد به الدعاء أي الَّلهم افعل ذلك.
(5) اختار هذا الذكر لكونه جامعاً، ولكونه أفضل ما قاله الأنبياء قبله.(2/435)
شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيُبون تَائِبُونَ عابدُون ساجِدُون (1) لرَبِّنا حامِدُونَ، صَدَقَ (2) اللَّهُ وَعدَه ونَصَرَ عَبدَه وهَزَمَ الأحزابَ وَحدَه.
68 - (بَابُ (3) الصَّدَر)
515 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نافع، عن ابن عمر: أَنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَدَرَ (4) مِنَ الحجِّ أَوِ العُمرَة أَنَاخَ (5) بالبَطحَاءِ الَّذِي (6) بِذِي الحُلَيفة فَيُصَلِّي بِهَا ويُهَلِّل قَالَ (7) : فَكَانَ (8) عبد الله بن
__________
(1) أي مصلون أو منقادون.
(2) قوله: صدق الله وعده، أي في إظهار الدين ونصرة المسلمين وغلبة أمور اليقين. ونصرعبده أي عبده الخاص المستحق لكمال العبودية المشار إليه بقوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} (سورة الإِسراء: الآية 1) ، وغير ذلك، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.
(3) قوله: باب الصَّدَر، بفتحتين بمعنى الرجوع، ومنه قوله تعالى: {يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً} (سورة الزلزلة: الآية 6)
(4) أي رجع.
(5) قوله: أناخ، أي أجلس بعيره، ونزل بالبَطحاءِ بالفتح الوادي الذي فيه دقاق الحصى الذي بذي الحليفة - ميقات أهل المدينة - فيصلي بها نفلاً أداءً للشكر، ويهلِّلُ أي يؤدي التهليل المذكور سابقاً. قال القاري: فيه تنبيه على أنه يُستَحَبُّ لأهل المدينة أن ينزلوا بذي الحُلَيفة ذهاباً وإياباً وينبغي أن يكون كذا أمر غيرهم ببلدهم.
(6) احتراز عن البطحاء الذي بين مكة ومنى.
(7) أي نافع.
(8) في نسخة: وكان.(2/436)
عُمَرَ يَفْعَلُ (1) ذَلِكَ.
516 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: لا يصدُرَنَّ (2) أَحَدٌ (3) مِنَ الحاجِّ حَتَّى يَطُوفَ (4) بِالْبَيْتِ فإنَّ آخِرَ النُّسُكِ (5) الطَّوَافُ بالبيت.
__________
(1) قوله: يفعل ذلك، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان كثير الاهتمام بمتابعة النبي عليه السلام ولو في المندوبات بل المباحات.
(2) بضمِّ الدال أي لا يرجعن من مكة.
(3) أي من أهل الآفاق.
(4) أي طواف الوداع.
(5) قوله: فإن أخر النسك، بضمَّتين أي أخر المناسك المتعلِّقة بالحج والعمرة هو الطواف بالبيت، قال مالك: وذلك فيما نرى والله أعلم لقول الله: {ومن يعظِّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} (سورة الحج: الآية 32) ، وقال: {ثم مَحِلُّها إلى البيت العتيق} ومحل الشعائر (ذكر الباجي عن زيد بن أسلم: أن الشعائر ستّ: الصفا، والمروة، والجمار، والمشعر الحرام، وعرفة، والركن. والحرمات خمس: الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمحرم حتى يَحِلّ. المنتقى للباجي 2/294) كلها وانقضاؤها إلى البيت العتيق. انتهى. وقد اقتدى عمر في هذا الحكم بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت، أخرجه مسلم ورواه الشافعي وزاد: فإنَّ آخر النسك الطواف بالبيت. وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: أُمر الناس أن يكون آخرعهدهم بالبيت الطواف إلاَّ أنه خُفِّف عن الحائض، وعن هذا قال أئمتنا: إن طواف الصدر واجب يجب بتركه الدم، وبه قال أحمد والحسن ومجاهد والثوري والحكم وحماد، وعن(2/437)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، طوافُ الصَّدَر واجِبٌ عَلَى الحاجِّ (1) وَمَنْ تَرَكَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ إلاَّ الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ فَإِنَّهَا (2) تَنفِر (3) وَلا تَطُوفُ إِنْ شَاءَتْ (4) . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
69 - (بَابُ الْمَرْأَةِ يُكره لَهَا إِذَا حلَّت (5) مِنْ إِحْرَامِهَا أَنْ تمتشطَ حَتَّى تَأْخُذَ مِنْ شَعْرِهَا)
517 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْمَرْأَةُ المُحرِمة إِذَا حلَّت (6) لا تَمتَشِط حَتَّى تأخذَ مِنْ شعرِها، شعرِ رأسِها (7) ، وَإِنْ كَانَ لَهَا هديٌ لَمْ تَأْخُذْ مِنْ شعرها شيئاً حتى تنحر (8) .
__________
ابن عباس ما يدل عليه، وعند الشافعي في أحد القولين مستحب، وقال مالك: سنة ولا شيء على تاركه، كذا ذكره في "البناية".
(1) وكذا على المعتمر من أهل الآفاق إذا أراد الرجوع.
(2) أي كل منها.
(3) أي تسافر.
(4) إذا اضطُرَّت إلى ذلك، والأَولى أن تنفر بعد الطواف.
(5) قوله: يُكره لها إذا حلت، أي أرادت الخروج من الإِحرام، والتحلُّل أن تمتشط أي تسرِّح شعرها بالمشط حتى تأخذ من شعرها أي تقصر قدر أنملة فإنَّ القصر متعيِّن في حقَّها والحلق منهيٌّ عنه لها.
(6) إذا أرادت التحلُّل.
(7) بدل من شعرها.
(8) أي تذبح ذلك الهدي. قال القاري: الترتيب بالنسبة إلى القارن(2/438)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
70 - (بَابُ النُّزُولِ بالمحصَّب (1))
518 - أخبرنا مالك، حدثنا نافع، عن ابن عمر: أنه كان
__________
والمتمتع واجب وأما بالنسبة إلى المفرد بالحج فمندوب.
(1) قوله: بالمحصَّب، اسم مفعول من التحصيب، وهو اسم موضع بين مكة ومنى لاجتماع الحصباء أي الحصا فيه بحمل السيل، وهو موضعٌ منهبط بقرب مكة، وهو من الحجون مصعداً في الشقّ الأيسر وأنت ذاهب إلى منى إلى حائط حرمان مرتفعاً من بطن الوادي فذلك كله المحصَّب، والحجون الجبل المشرف على مسجد الحرمين بأعلى مكة على يمينك وأنت مصعد، كذا في "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي، وفي"شرح القاري" هو ما بين الجبل الذي عنده المقبرة والجبل الذي يقابله مصعداً في الجانب الأيسر وأنت ذاهب إلى منى مرتفعاً عن بطن الوادي، وليست المقبرة من المحصَّب، وكان الكفار اجتمعوا فيه وتحالفوا على إضرار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إراءةً لهم لطيفَ صنع الله، وتكريمه بنصره وفتحه، فذلك سنة كالرمل في الطواف، كذا في "شرح المجمع"، وقال شمس الأئمة السرخسي، في"مبسوطه": الأصح أن التحصيب سنة أي ولو ساعة، وإلا فالأفضل أن يصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويضجع ضجعة، ثم يدخل مكة على ما ذكره ابن الهُمام. وقال الشافعي: ليس بسنّة لما في الكتب الستة عن عائشة قالت: إنما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصب ليكون أسمح لخروجه وليس بسنة فمن شاء تركه ومن شاء لم يتركه. ولنا ما روى مسلم عن ابن عمر أنه كان يرى التحصيب سنة، قال نافع: قد حصَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده. أقول: الأظهر أن يُقال: إنه مستحب، وليس بسنة مؤكدة، إذ المحصَّب لا يسع جميع الحجاج، فلا يُقاس على الرمل، أويُقال: إنها سنّة مؤكدة على الكفاية،(2/439)
يصلِّي (1) الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بالمحصَّب، ثُمَّ يَدخُلُ (2) مِنَ اللَّيْلِ فَيَطُوفُ (3) بِالْبَيْتِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا حَسَنٌ، وَمَنْ تَرَكَ النُّزُولَ بالمحصَّب فَلا شَيْءَ (4) عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ الله.
__________
ومتعيِّنة على أمراء الحاج، وهذا أمر تركه الناس بالكلية إلا من نزل فيه من أعراب البادية من غير القصد والنية. انتهى. وقال العيني في "عمدة القاري": قال الخطّابي: التحصيب هو أنه إذا نَفَرمن منى إلى مكة للتوديع يقيم بالمحصَّب حتى يهجع ساعة ثم يدخل مكة، وليس بشيء، أي ليس بنسك الحج وإنما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستراحة، وقال الحافظ عبد العظيم المنذري: التحصيب مستحب عند جميع العلماء، وقال شيخنا زين الدين العراقي: فيه نظر لأن الترمذي حكى استحبابه عن بعض أهل العلم، وحكى النوويّ استحبابه عن مذهب الشافعي ومالك والجمهور وهذا هو الصواب، وقد كان من أهل العلم من لا يستحبه فكانت اسماء وعروة لا يحصّبان، حكاه ابن عبد البَرّ في "الاستذكار"، وقال ابن بطّال: كانت عائشة لا تحصّب.
(1) أي إذا رجع من منى.
(2) أي بمكة.
(3) أي طواف الوداع أو طواف النفل.
(4) قوله: فلا شيء عليه، أي لا يجب عليه كفارة ولا إثم، وهذا لأنه ليس من مناسك الحج (قال النووي في "مناسكه": هذا التحصيب مستحب اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هو من مناسك الحج وسننه، وهذا معنى ما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ليس بسنة. أوجز المسالك 8/23) وهذا هو معنى قول ابن عباس: ليس التحصيب بشيء إنما هو(2/440)
71 - (بَابُ الرَّجُلِ يُحْرِمُ (1) مِنْ مَكَّةَ هَلْ يَطُوفُ (2) بِالْبَيْتِ)
519 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَحْرَمَ (3) مِنْ مَكَّةَ لَمْ يطُف (4) بِالْبَيْتِ وَلا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى يَرْجِعَ (5) مِنْ مِنًى وَلا يَسْعَى (6) إِلا إذا طاف حول البيت.
__________
منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي، وقول عائشة: ليس النزول بالأبطح وهو المحصَّب سنّة إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون أسمح لخروجه إذا خرج أي أسهل لتوجُّهه إلى المدينة. أخرجه مسلم وغيره.
(1) للحج.
(2) أي بعد الإِحرام.
(3) قوله: كان إذا أحرم من مكة، أي يوم التروية تارةً كما مرّ عنه، ولهلال ذي الحجة تارةً اتباعاً بأمرأبيه عمر كما مرَ، ففي "مصنف عبد الرزاق" عن نافع: أهلّ ابنُ عمر بالحج حين رأى الهلال ومرة أخرى بعد الهلال من جوف الكعبة، ومرة أخرى حين راح إلى منى، وروى أيضاً عن مجاهد قلت لابن عمر: أهللتَ فينا إهلالاً مختلفاً؟ قال: أما أول عام فأخذت مأخذ أهل بلدي، ثم نظرت فإذا أنا أدخل على أهلي حراماً وأخرُجُ حراماً وليس كذلك كنا نفعل. قلت: فبأيّ شيء نأخذ؟ قال: تحرم يوم التروية، كذا ذكره شراح صحيح البخاري.
(4) أي طواف الإِفاضة فإنه بعد الفراغ من مناسك الحج، بل ولا طواف النفل.
(5) قوله: حتى يرجع إلى منى، قال القاري: الحاصل أنه يختار أن يقع سعيُ الحج بعد طواف الفرض وإن جوّز تقديم سعي الحج بعد طواف نفل، ثم إنه لا يسعى بعد طواف الإِفاضة إذ السعي لا يكرّر.
(6) لأنه موقوف على تقدُّم طواف ما.(2/441)
قَالَ مُحَمَّدٌ: إِنْ فَعَلَ هَذَا أَجْزَأَهُ (1) ، وَإِنْ طَافَ (2) وَرَمَلَ وَسَعَى قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ (3) أَجْزَأَهُ ذَلِكَ (4) ، كُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ (5) إِلا أَنَّا نحِبّ لَهُ أَنْ لا يَترُكَ الرَّمل (6) بِالْبَيْتِ فِي الأَشْوَاطِ الثَّلاثَةِ الأُول (7) إِنْ عجَّل (8) أَوْ أَخَّرَ. وهو قول أبي حنيفة رحمه الله.
72 - (باب الْمُحْرِمِ (9) يَحْتَجِمُ)
520 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: أَنّ (10) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ فَوْقَ رأسه
__________
(1) أي كفاه بل هذا هو الأولى عند عدم الحرج.
(2) أي نفلاً بعد إحرام الحج في الطواف.
(3) أي إلى منى.
(4) أي عن سعي الحج.
(5) أي مستحسن إلا أن أحدهما أحسن.
(6) لأنه سنّة مطلقاً.
(7) بضم أوله وفتح ثانيه أي في الدورات الثلاث الأولى من الدورات السبع.
(8) أي سواء عجّل قبل الخروج أو أخر بعد الرجوع.
(9) قوله: باب المحرم يحتجم، موقع هذا الباب وبعض ما فيه مكرّراً من المؤلف فإنه قد مرّ سابقاً "باب الحجامة للمحرم"، وأورد فيه أثر ابن عمر المذكور ههنا، وذكر فيه احتجام النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم صائم بلاغاً. ولعله لذهول أو نسيان، وقد مر منها نبذ مما يتعلق بهذا البحث هناك.
(10) قوله: أن، هذا مرسل في "الموطأ"، وقد رُوي ذلك من حديث جمع من الصحابة، فعن ابن عباس احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم، أخرجه البخاري ومسلم(2/442)
وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُحْرِمٌ بِمَكَانٍ (1) مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ يُقَالُ لَهُ: لَحيُ جَمَل.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا بَأْسَ بِأَنْ يَحْتَجِمَ الرَّجُلُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، اضطُرَّ إِلَيْهِ (2) أَوْ لَمْ يُضطَرَّ إِلا أَنَّهُ لا يَحْلِقُ (3) شَعْرًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة.
__________
وأبو داود والترمذي والنسائي. وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو مُحرم من وجعٍ كان برأسه، أخرجه ابن عدي. وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، أخرجه النسائي وابن ماجه. وعن ابن عمر احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم صائم وأعطى الحَجَّام أجرة، أخرجه ابن عدي. وعن عبد الله بن بُحَينة: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم بلَحي جمل في وسط رأسه، أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه. ولَحي جمل - بفتح اللام ويُروى بكسرها وسكون الحاء المهملة بعدها ياء آخر الحروف، وبفتح الجيم والميم آخره لام - اسم موضع بين مكة والمدينة وهو أقرب إلى المدينة، وجزم الحازمي وغيره أن ذلك كان في حجة الوداع، ودلّت هذه الأحاديث على جواز الحجامة للمحرم مطلقاً (وقال ابن قدامة: أما الحجامة إذا لم تقطع شعراً فمباحة من غير فدية في قول الجمهور لأنه تداوٍ بإخراج دم فأشبه الفصد وربط الجرح، وقال مالك: لا يحتجم إلا من ضرورة، وكان الحسن البصري يرى في الحجامة دماً. المغني 3/305) ، وبه قال عطاء ومسروق وإبراهيم وطاوس والشعبي والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق، وقالوا: ما لم يقطع الشعر، وقال قوم: لا يحتجم المحرم إلا من ضرورة، رُوي ذلك عن ابن عمر، وبه قال مالك، كذا في "عمدة القاري".
(1) أي بموضع في طريق مكة.
(2) أي احتيج إليه إلى حدّ الاضطرار أو لا.
(3) فإن حَلَق فعليه فدية.(2/443)
521 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لا يَحْتَجِمُ (1) الْمُحْرِمُ إِلا أَنْ يُضطَرّ إِلَيْهِ.
73 - (بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ بِسِلاحٍ)
522 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أن رسول (2) الله صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ (3) عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ المِغفَر (4) فلما
__________
(1) قوله: لا يحتجم المحرم، أي في موضع له شعر يحتاج إلى قطعه إلا أن يُضطَرّ إليه، فحينئذ يفتدي كما عُلم من قوله تعالى: {ففدية من صيام أوصدقة أونُسُك} (سورة البقرة: الآية 196) ، فلا منافاة بين هذا الحديث وبين ما تقدم، كذا قال القاري: وأراد به إرجاعَ قول ابن عمر إلى ما ذهب الجمهور إليه، وليس بجيد فإن خلاف ابن عمر في المسألة مشهور أنه لا يجوز الاحتجام مطلقاً إلا عند الاضطرار.
(2) قوله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن من طريق مالك، وقد قيل: تفرد به مالك عن الزهري من بين أصحابه وليس كذلك فقد رواه ستة عشر نفساً غير مالك عنه في "الحلية" لأبي نعيم ومسند أبي يعلى وكتاب الضعفاء لابن حبان وغيرها، وله طرق أُخَر أيضاً كما بسطه الحافظ في "فتح الباري".
(3) أي في سنة فتح مكة وهي سنة ثمان.
(4) قوله: وعلى رأسه المِغفَر، بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء ثم راء، قال صاحب المحكم: ما يُجعل من فضل درع الحديد على الرأس مثل القلنسوة، وقال ابن عبد البر: هو ما غطَّى الرأس من السلاح كالبيضة وشبهها من حديد كان أو غيره، وقد زاد بشر بن عمر عن مالك: من حديد، ولا أعلم ذكره غيرَه أي من رواة الموطأ. وأما خارجة فقد رواه عشرة أخرج رواياتهم الدارقطني. قال مالك: لم يكن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومئذ محرماً، فإنه لم يرو عن أحد أنه تحلَّل من(2/444)
نَزَعَهُ (1) جَاءَهُ رَجُلٌ (2) فَقَالَ لَهُ: ابْنُ خَطَل (3) متعلِّق بأستار الكعبة، قال: اقتلوه.
__________
إحرامه وهو من الخصائص النبوية عند الجمهور، وخالف ابن شهاب فأجاز ذلك لغيره، قال أبو عمر: ولا أعلم من تابعه على ذلك إلا الحسن البصريّ، وروي عن الشافعي، والمشهور عنه أنها لا تُدخَل إلا بإحرام فإن دخلها أساء ولا شيء عليه عنده وعند مالك، وقال أبو حنيفة وأصحابه: عليه حجة أو عمرة، ولمسلم وأحمد وأصحاب السنن عن جابر: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح وعليه عمامة سوداء لغير إحرام. ولا معارضة بينه وبين حديث أنس لإِمكان أنّ المغفر فوق العمامة، قاله ابن عبد البر. وقيل: لعل العمامةَ كانت ملفوفة فوق المغفر، وقال القرطبي: يجوز أن يكون نزع المغفر عند انقياد أهل مكة ولبس العمامة بعده، كذا ذكره العيني والزرقاني.
(1) أي وضع المغفر عن الرأس.
(2) قوله: جاءه رجل، هو أبو برزة الأسلمي بفتح الباء وسكون الراء بعده زاء معجمة، واسمه نضلة بن عبيد، جزم به الكرماني والفاكهي في "شرح العمدة"، وقيل: سعيد بن حريث، وقال الحافظ لم يسمّ.
(3) قوله: ابن خَطَل، بفتحتين، قيل: اسمه عبد الله، وكان اسمه في الجاهلية عبد العُزَّى، وقيل: هوعبد الله بن هلال بن خطل، وقيل: غالب بن عبد الله بن خطل، واسم خطل عبد مناف، وهو لقب له من بني تيم، وكان قد ارتدّ بعد ما أسلم، وقيل: كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يبدّل ما نزل فيكتب مكان غفور رحيم رحيم غفور ونحو ذلك، ولما ارتد لحق بأهل مكة، فلما دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبطل دمه، فقال: اقتلوه وإن وجدتموه تحت أَستار الكعبة - بالفتح جمع سِتر بالكسر ما يُستربه البيت - فأُخبر أنه متعلِّق بأستار الكعبة فأمربقتله فقُتل(2/445)
قَالَ مُحَمَّدٌ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ حِينَ فَتَحَهَا غيرَ (1) مُحرم وَلِذَلِكَ دَخَلَ وَعَلَى رَأْسِهِ المِغفَر، وَقَدْ بلَغَنا (2) أَنَّهُ حِينَ أَحْرَمَ مِنْ حُنَين (3) قَالَ: هَذِهِ العُمرة لِدُخُولِنَا مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ يَعْنِي يَوْمَ الفَتح، فَكَذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا: مَنْ دَخَلَ (4) مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ فَلا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَخْرُجَ فَيُهلَّ (5) بِعُمْرَةٍ أَوْ بِحَجَّةٍ لِدُخُولِهِ (6) مَكَّةَ بغير إحرام. وهو قول (7) أبي خنيفة رحمه الله والعامة من فقهائنا.
__________
(قال ابن عبد البر والطيبي: إن قتل ابن خطل كان قوداً لقتله المسلم، وقال القاري: بل كان ارتداداً. أوجز المسالك 8/175) .
(1) قوله: غير محرم، لأنها قد أُحِلّت له ذلك اليوم حتى حل له القتال فيها، ثم عادت حراماً إلى يوم القيامة فكان ذلك من خصائصه بمن معه، كما بسطه الطحاوي في "شرح معاني الآثار".
(2) قوله: وقد بلغنا، هذا البلاغ يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أدَّى العمرة التي أحرم بها من الجعرّانة حين رجوعه من حُنَين وتقسيم غنائمه عوضاً لدخوله مكة بغير إحرام في فتح مكة، والله أعلم بحال نبيِّه.
(3) قوله: حُنَين، مصغراً اسم موضع وادٍ بين مكة والطائف وراء عرفات، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً، وكانت فيهاغزوة مشهورة مذكورة في القرآن.
(4) أي من أهل الآفاق.
(5) أي يحرم.
(6) أي عوضاً عنه.
(7) قوله: قول، وبه قال جماعة، وقيّد بعضهم بمن أراد الحج أوالعمرة وقد مرّ معنا ما يتعلق بهذا المقام في "باب دخول مكة بغير إحرام" وفي "باب المواقيت".(2/446)
(كِتَابُ النِّكَاحِ (1))
1 - (بَابُ الرَّجُلِ تَكُونُ عِنْدَهُ نِسْوَةٌ (2) كيف يَقْسِمُ بينهنَّ)
523 - أخبرنا مالك،
__________
(1) قوله: كتاب النكاح، هو في اللغة حقيقة في الوطء مجاز في العقد، وقيل: مشترك بينهما وفي الشرع حقيقة في العقد الموضوع قاله علي القاري، وقد وردت أحاديث كثيرة ناطقة بفضله والترغيب إليه، وطرق بعضها وإن كانت مما تُكُلِّم في رواتها فلا يضر في إثبات المقصود (لا خلاف أن النكاح فرض حالة التَّوَقان، حتى إنّ من تاقت نفسه إلى النساء بحيث لا يمكنه الصبر عنهن وهو قادر على المهر والنفقة ولم يتزوَّج يأثم، واختلف فيما إذا لم تُتقْ نفسه، فقال نفاة القياس مثل داود بن علي الأصبهاني وغيره من أصحاب الظواهر: فرض عين بمنزلة الصوم والصلاة وغيرهما، وقال الشافعي: مباح كالبيع والشراء واختلف أصحابنا فيه، فقال بعضهم: إنه مندوب ومستحب وإليه ذهب الكرخي، وقال بعضهم: فرض كفاية بمنزلة الجهاد وقال بعضهم: واجب ... إلخ. بذل المجهود 10/4، نقلاً عن "البدائع") . فأخرج ابن ماجه من حديث عائشة مرفوعاً: النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ومن كان ذا طَوْل فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصوم، فإنَّ الصوم وجاء له، وفي سنده عيسى بن ميمون ضعيف، وفي الصحيحين من حديث أنس في ضمن حديث: ولكني أصوم وأُفطر وأصلي وأنام وأتزوج، فمن رغب عن سنتي فليس مني، وعن أنس مرفوعاً: حُبِّب إليَّ من الدنيا النساءُ والطِّيبُ، وجُعل قرَّةُ عيني في الصلاة، رواه النسائي وأسناده حسن، وقد اشتُهر على الألسنة بزيادة ثلاث، وهكذا ذكره الغزالي في "الإحياء" ولم يوجد في شيء من طرقه المسندة كذا قال الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث الرافعي".
(2) قوله: نسوة، المراد بهنَّ الزوجات لأن السَّراري وأمهات الأولاد لا حق لهن في القسمة، كذا قال القاري.(2/447)
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ (1) ، عَنْ عبد الملك بن أبي بكر بن الحارث بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ (2) (3) : أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَنَى (4) بأمِّ سَلَمَةَ (5) قَالَ لَهَا حِينَ (6) أصبحتْ (7) عِنْدَهُ (8) : لَيْسَ بكِ (9) على أهلك (10)
__________
(1) ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني.
(2) أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بن هشام المخزومي المدني.
(3) قوله: عن أبيه أن النبي ... إلى آخره، قال ابن عبد البر: هذا حديث ظاهره الانقطاع وهو متصل مسند صحيح قد سمعه أبو بكر من أم سلمة كما صُرِّح به عند مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه، كذا في "تنوير الحوالك".
(4) أي زفَّت إليه ودخل عليها.
(5) هند بنت أبي أمية المخزومية.
(6) قوله: حين أصبحت عنده، وفي رواية لمسلم: دخل عليها فإذا أراد أن يخرج أخذت بثوبه فقال لها ليس بك ... إلى آخره، وفي رواية الحاكم في "المستدرك": أنها أخذت بثوبه مانعةً له من الخروج من بيتها، فقال لها إن شئتِ. وهذا يشعر بتقديم التماس أم سلمة لذلك، فخيَّرها (في الأصل: "خيره"، وهو خطأ) النبي صلى الله عليه وسلم بين التسبيع والتثليث
(7) أي دخلت في الصباح.
(8) أي في بيته.
(9) يا أم سلمة.
(10) قوله: على أهلك، يريد به نفسه صلى الله عليه وسلم. يقول ليس عليَّ بك احتقار(2/448)
هَوَانٌ (1) ، إِنْ شِئْتِ سبَّعْتُ عندكِ وسبَّعتُ (2) عندهنَّ (3) ، وإن شئت ثلَّثتُ (4) عندكِ ودُرت (5) ،
__________
وإذلال بالنسبة إلى باقي الأزواج، فلا أفعل فعلاً يكون فيه هوانك، بل الأمر بيدك إن شئتِ سبَّعتُ عندكِ وإن شئتِ ثلَّثت.
(1) قوله: هوان، قال النووي: معناه لا يلحقك هوان ولا يضيع من حقك شيء بل تأخُذِينه كاملاً، وقال الأبَّي: قيل: المراد بالأهل قبيلتها لأن الإعراض عن المرأة وعدم المبالاة بها يدل على عدم المبالاة بأهلها فالباء على الأول متعلقة بهوان، وعلى الثاني للسببية أي لا يلحق أهلك بسببك هوان، كذا قال الزرقاني.
(2) أي أقمتُ عندك سبعاً.
(3) أي عند بقية الزوجات.
(4) أي أقمت ثلاثاً.
(5) قوله: ودُرْت، ظاهره أن الثلاث حق للجديدة الثيبة فإن معنى درت الدوران المعتاد وهو القسم يوماً يوماً، فكأنه قال لأم سلمة: وكانت ثيبة إن شئتِ سبَّعتُ عندك فأسبِّع عند بقية الأزواج للتسوية، إذ لا حق لك في السبعة، وأن شئتِ ثلَّثتُ عندك فتُوَفِّي حقك، ثم درت على بقية النساء يوماً يوماً بالسوية، وفُهم منه جواز تخيير الثيب بين الثلاث بلا قضاء، والسبع مع القضاء، وإليه ذهب الجمهور والشافعي وأحمد كما ذكره النووي وغيره، وقال مالك وأصحابه: لا تُخيَّر بل للبكر الجديدة سبع وللثيب ثلاث يرون التخيير والقضاء، قال ابن عبد البر: هذا أي حديث أم سلمة تركه مالك وأصحابه للحديث الذي رواه مالك عن أنس. انتهى. وأشار به إلى ما في صحيح البخاري عن أنس أنه قال: السنَّة إذا تزوُّج البكر أقام عندها سبعاً، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً، وفيه أيضاً عنه: من السنَّة إذا تزوَّج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعاً وقسم، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثاً ثم قسم. وأخرج ابن ماجه والدارمي وابن خزيمة والإسماعيلي(2/449)
قالت (1) : ثلِّثْ.
__________
والدارقطني والبيهقي وابن حبان هذا الحديثَ عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سَبعٌ للبكر وثلاث للثيب. واعتذر أصحاب مالك عن حديث أم سلمة الدال صريحاً على التخيير بأن مالكاً رأى ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم لأنه خُصَّ في النكاح بخصائص فاحتمال الخصوصية مَنَع من الأخذ به، وفيه ضعفٌ ظاهر لأن مجرد الاحتمال لا يمنع الاستدلال، وقال أصحابنا الحنفية: لا فرق بين الجديدة والقديمة ولا بين البكر والثيبة، بل يجب القسم على السوية بينهن يوماً يوماً لإِطلاق قوله تعالى: {ولَنْ تَستَطيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَين النِّسَاءِ ولو حَرَصْتُم فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيلِ} (سورة النساء: الآية 129) ، وقوله تعالى: {فإنْ خِفْتُم ألا تَعدِلُوا فَواحدة أو مَا ملكتْ أَيمَانُكُم} (سورة النساء: الآية 3) ، وإطلاق ما روى أصحاب السنن الأربعة عن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ويعدل ويقول: اللَّهم هذا قَسْمي فيما أملك فلا تَلُمْني فيما تملك ولا أملك يعني القلب أي زيادة المحبة. فظاهره أنَّ ماعداه داخل تحت ملكه فتجب السوية فيه، ولما روى أصحاب السنن وأحمد والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعاً، من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقّه مائل. فظاهر هذه النصوص يقتضي التسوية من غير فصل، فإن سبَّع عند الجديدة سبَّع عند غيرها، وإن ثلَّث عندها ثلث عند غيرها، ولا حق لها في الزيادة بكراً كانت أم ثيباً، كذا قرره ابن الهمام وغيره. وعلى هذا حملوا حديث أم سلمة، وقالوا: معنى دُرتُ: الدوران عند البقية بالثلاث ليحصل المساواة إلاَّ أنه خلاف الظاهر، وخلاف ما أخرجه النسائي والدارقطني بطريق فيه الواقدي: أنه قال لأم سلمة: إن شئتِ أقمتُ عندك ثلاثاً خالصةً لك، وإن شئتِ سبَّعتُ لك وسبَّعت لنسائي.
(1) قوله: قالت: ثلاث، قال القاضي عياض: اختارت التثليث مع أخذها(2/450)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ يَنْبَغِي إِنْ سبَّع عِنْدَهَا (1) أَنْ يُسبِّع عِنْدَهُنَّ (2) لا يَزِيدُ لَهَا عَلَيْهِنَّ شَيْئًا وَإِنْ ثلَّث عِنْدَهَا أَنْ يُثلِّث (3) عندهن، وهو قول (4) أبو حنيفة والعامة من فقهائنا.
__________
بثوبه حرصاً على طول إقامتِه عندها لأنها رأت أنه إذا سبَّع لها وسبَّع لغيرها لم يقرب رجوعه إليها.
(1) أي الجديدة.
(2) أي القديمة.
(3) قوله: أن يثلِّث عندهن، لعله مبني على حمل الدَّوْر المذكور في الحديث على الدَّوْر بالتثليث، وقد عرفتَ ما فيه، ولذا قال القاري في شرحه تحت هذا القول: فيه أن ظاهر الحديث السابق أن بعد التثليث هو الدور ولا يفهم منه التثليث عندهن إلاَّ من دليل خارج يحتاج إلى بيانه. انتهى.
(4) قوله: وهو قول أبي حنيفة، قال علي القاري في "المرقاة شرح المشكاة": عندنا لا فرق بين القديمة والجديدة لإطلاق قوله تعالى: {فإن خفتُم ألاَّ تَعدِلُوا فواحدة} وقوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أن تَعْدِلُوا بَينَ النِّسَاءِ} (سورة النساء: الآية 129) . وخبر الواحد لا ينسخ الكتاب. انتهى. فأشار إلى بناء الكلام على مسألة أصولية وهي عدم جواز نسخ إطلاق الكتاب القطعي بخبر الآحاد الظني، ففي ما نحن فيه لما ثبت بإطلاق الكتاب وجوب عموم المساواة ومنع الميل إلى إحدى الزوجات مطلقاً أفاد ذلك وجوب المساواة في القديمة والجديدة أيضاً والبكر والثيب أيضاً، فإن فُرِّق بينهما بحديث أنس أو أم سلمة وغيرها يلزم إبطال إطلاق الكتاب بالخبر الظني، وأشار في شرحه لهذا الكتاب إلى الإِيراد على هذا المسلك حيث قال بعد ذكر استناد علمائنا بآية: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا} وغيره فيه أنه إذا كان التخصيص وقع شرعاً يكون عدلاً فلا منافاة ولا معارضة أصلاً. انتهى.(2/451)
2 - (بَابُ أَدْنَى (1) مَا يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ عَلَيْهِ الْمَرْأَةَ)
524 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا حُميد (2) الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ (3) عَوْفٍ جاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ (4) أَثَر صُفْرة فَأَخْبَرَهُ (5) أنَّه تزوَّج امْرَأَةً من الأنصار،
__________
(1) أي أقلّ مهرها.
(2) قوله: حميد الطويل، هو حُميد بضم الحاء بن أبي حميد أبو عبيدة البصري الطويل، روى عن أنس والحسن وعكرمة، وعنه مالك وشعبة والحمّادان والسفيانان وخلق، وثقه ابن معين وأبو حاتم، مات سنة ثلاث وأربعين ومائة، كذا في "الإِسعاف".
(3) أحد العشرة المبشَّرة بالجنة المتوفى سنة 32 هـ.
(4) قوله: وعليه أثر صفرة (وفي رواية وضر من صفرة بفتح الواو والضاد المعجمة آخره راء، هو في الأصل الأثر، وفي أخرى ردغ وردع بمهملات، مفتوح الأول ساكن الثاني هو أثر الزعفران.
والمراد بالصفرة صفرة خلوق والخلوق طيب يُصنع من زعفران وغيره، قاله الحافظ. انظر الأوجز 9/438) ، تعلقت بجلده أو ثوبه من طيب العروس، وهذا أولى ما فُسِّر به، وفي رواية: به ردع من زعفران أي أثره، وليس بداخل في النهي عن تزعفر الرجل لأنه فيما قصد به التشبه بالنساء، كذا قال الزرقاني.
(5) قوله: فأخبره، أي فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ما هذا؟ فأخبره. كذا ورد في رواية، وفيه افتقاد الكبير أصحابه وسؤاله عما يختلف عليه من حالهم، فإنه كان نهي عن التضمخ بالطيب، فأجابه بأنه لم يضمِّخ به، وإنما تعلق به من العروس. وهذه المرأة التي أخبر أنه تزوَّجها لم تسمَّ في الروايات إلاَّ أن الزبير بن بكار جزم بأنها ابنة أبي الحَيْسَر - بفتح المهملتين بينهما تحتية ساكنة آخره راء مهملة -(2/452)
قَالَ: كَمْ (1) سُقْتَ إِلَيْهَا؟ قَالَ: وَزْنُ (2) نَوَاة من ذهب، قال: أَوْلِم (3)
__________
اسمه أنس بن رافع الأنصاري، وأنها وَلَدَتْ له القاسم وعبد الله، كذا قال الحافظ ابن حجر.
(1) قوله: كم سُقت إليها، بضم السين من السوق، أي كم أرسلتَ من المهر مطلقاً، أو المعجل كذا قال القاري. وقال الزرقاني: فيه أنه لا بد في النكاح من المهر، وقد يشعر ظاهره احتياجه إلى تقدير لأن كم موضوعة له، ففيه حجة للمالكية والحنفية في أنَّ أقل الصداق مقدَّر (قال ابن رشد: اتفقوا على أنه لا حدَّ لأكثره، واختلفوا في أقلِّه، فقال الشافعي وأحمد وإسحاق وفقهاء المدينة من التابعين لا حدَّ لأقله، وكل ما جاز أن يكون ثمناً وقيمة لشيء جاز أن يكون صداقاً، وقال طائفة بوجوب تحديد أقله، والمشهور من ذلك مذهبان: أحدهما: مذهب مالك لا بد من ربع دينار أو ثلاثة دراهم، ومذهب أبي حنيفة لا بد من عشرة وقيل خمسة وقيل أربعون ... إلخ. انظر بداية المجتهد 2/20) .
(2) قوله: وزن نواة من ذهب، قال الخطابي والأكثرون: هي خمسة دراهم من ذهب فالنواة اسم المقدار المعروف عندهم، وقال أحمد بن حنبل: النواة ثلاثة دراهم وثلث، وقيل: المراد: نواة التمر أي وزنها من ذهب، والأول أظهر وأصح، وقال بعض المالكية: النواة بالمدينة ربع دينار كذا في "شرح الزرقاني"، وفيه أيضاً قال عياض: قيل: زنة نواة من ذهب ثلاثة دراهم وربع، وأراد قائله أن يحتج به على أنه أقلّ الصداق، ولا يصح لقوله من ذهب وذلك أكثر من دينارين، وهذا لم يقله أحد، وهو غفلة من قائله بل فيه حجة لمن يقول لا يكون أقل من عشرة دراهم.
(3) زاد في رواية: قال: فبارك الله لك، أَوْلِمْ ولو بشاة. قوله: أَوْلم، أمر ندب عند الجمهور وقيل للوجوب، ووقته على الأشهر بعد الدخول كما يُستنبط من هذا الحديث أيضاً.(2/453)
وَلَوْ (1) بِشَاةٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (2) نَأْخُذُ. أَدْنَى المهر عَشَرة دراهم ما تُقطع
__________
(1) هو للتقليل.
(2) قوله: وبهذا نأخذ أدنى المهر ... إلى آخره، لعله حمل النواة على هذا المقدار، وقد ورد بالتقدير بهذا المقدار آثار أُخَر أكثرها مما تُكُلِّم فيها، فأخرج الدارقطني ثم البيهقي في سننهما عن داود الأزدي عن الشَّعبي عن علي قال: لا تُقطع الأيدي في أقل من عشرة دراهم ولا يكون المهر أقل من عشرة دراهم، قال ابن الجوزي في "التحقيق": قال ابن حبان: داود ضعيف والشعبي لم يسمع علياً. وأخرجه الدارقطني أيضاً عن جويبر - وهو ضعيف - عن الضحاك، عن النزال بن سبرة، عن علي، ومن طريق آخر عن الضحاك بسند فيه محمد بن مروان أبو جعفر لا يكاد يعرف. وأخرج الدارقطني والبيهقي عن مبشر بن عبيد، عن الحجاج بن أرطأة، عن عطاء عن عمرو بن دينار عن جابر مرفوعاً: لا تنكحوا النساء إلاَّ الأَكْفاء ولا يزوِّجهن إلاَّ الأولياء ولا مهر دون عشرة دراهم، قال الدارقطني: ابن عبيد متروك الحديث، وأسند البيهقي عن أحمد أنه قال: أحاديث مبشر موضوعة، ورواه أبو يعلى المَوْصلي في مسنده عن ميسرة عن أبي الزبير، عن جابر، عن أبي يعلى رواه ابن حبان في "كتاب الضعفاء"، كذا ذكره الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية"، والكلام في هذا الحديث نقضاً وإبراماً كثير، والإِنصاف أن هذا الحديث بعد ثبوته لا يدل على التقدير بحيث لا يصح دونه، وفي الأحاديث كثرة دالة على إطلاق المهر، وعدم التقدير بالعشرة وظواهر الآيات تؤيِّده، وقد أجاب عنها أصحابنا بحملها على المعجَّل (يحتمل أن يكون معجلاً في المهر لا أصل المهر على ما جرت العادة بتعجيل شيء من المهر قبل الدخول. ويحتمل أن يكون ذلك كله في حال جواز النكاح بغير مهر على ما قيل: إن النكاح كان جائزاً بغير مهر إلى أن نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشِّغار. بذل المجهود 10/131) ، فافهم ولا تعجل بالقبول فإنه يَرِدُ عليهم نسخ إطلاق الكتاب وتقييده بأخبار الآحاد، وهو خلاف أصولهم.(2/454)
فِيهِ الْيَدُ. وَهُوَ قَوْلُ (1) أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
3 - (بَابُ لا يَجْمَعُ الرَّجُلُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وعمَّتها فِي النِّكَاحِ)
525 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ (2) ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يَجْمَعُ (3) الرجلُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وعمَّتها وَلا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ (4) قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ من فقهائنا.
__________
(1) قوله: قول، وعند مالك أدناه ربع دينار، وعند النَّخَعي أربعون ديناراً، وعند الشافعي ما جاز كونه ثمناً جاز كونه مهراً، كذا ذكره ابن الهمام.
(2) بكسر الزاء وخفة النون عبد الله بن ذكوان.
(3) أي في نكاح أو ملك يمين، فإن نكحهما معاً بطل نكاحهما، وإن مرتَّباً بطل نكاح الثانية. قوله: لا يجمع ... إلى آخره، الحديث مبسوط في سنن أبي داود والترمذي بلفظ: لا تنكح المرأة على عمتها ولا العمة على بنت أخيها ولا المرأة على خالتها ولا الخالة على بنت أختها ولا تنكح الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى. والحكمة في تحريم مثل هذا هو الاحتراز عن قطع الرحم بين الأقارب، فإن الضَّرَّتين تتحاسدان وينجر البُغض إلى أقرب الناس، والحسد بين الأقارب أشنع، وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر في تحريم الجمع بين بنته وبنت غيره حيث حرَّم على عليّ رضي الله عنه نكاح بنت أي جهل على فاطمة، كذا في "حجة الله البالغة".
(4) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال جمهور العلماء، وشذ طائفة من(2/455)
526 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَنْهَى أَنْ تُنْكح الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا أَوْ عَلَى عمَّتها وأنْ (1) يطأَ الرجلُ وَلِيدَةً (2) فِي بَطْنِهَا جنينٌ لِغَيْرِهِ (3) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
__________
الخوارج حيث جوزت الجمع بين المرأة وعمتها، وغير ذلك سوى الجمع بين الأختين زعماً منهم أن الله حرم الجمع بين الأختين بقوله: {وأن تجمعوا بين الأختين} (سورة النساء الآية 23) ، ثم قال: {وأُحِلَّ لكم ما وراء ذلكم} (سورة النساء الآية 24) فدل ذلك على جواز الجمع بين غيرهما، وأخبار الآحاد لا تخصِّص القرآن ولا تنسخه وبالغ بعض السلف حيث منع من الجمع بين بنتي العم، وبنتي الخالة ونحو ذلك أيضاً، والجمهور على خلافه، كذا قال الزرقاني وغيره.
(1) لئلا يسقي بمائة زرع غيره سواء كان من حلال أو حرام، كذا قال القاري. قوله: وأن يطأ، ورد: لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض، رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم عن أبي سعيد، قاله الزرقاني. وفيه إشارة إلى جواز نكاح حبلى من غيره، وبه قال جمهور علمائنا بجواز نكاح حبلى من زنا لكن يحرم وطؤها ما لم تضع، هذا إذا نكح غير الزاني، وإن نكح الزاني يجوز له وطؤها أيضاً لكونه ساقياً بمائه زرعَ نفسه.
(2) أي جارية أو أمة.
(3) أي لغير الواطئ.(2/456)
4 - (بَابُ الرَّجُلِ يَخْطُبُ عَلَى خِطبة (1) أَخِيهِ (2))
527 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ (3) ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يخطبُ (4) أحدُكم على خِطبة أخيه (5) .
__________
(1) بكسر الخاء: التماس النكاح.
(2) قوله: أخيه، التعبير به ليوافق عنوان الخبر والتعبير به في الخبر للتحريض على كمال التودُّد وقطع صور المنافرة أو لأنَّ كل المسلمين إخوة إسلاماً.
(3) قوله: حَبّان، بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحَّدة بن مُنقِذ بضم الميم وكسر القاف آخره ذال معجمة، كما ضبطه الحافظ عبد الغني في "مشتبه النسبة" وابن ماكولا في "الإِكمال" وغيرهما لا بكسر الحاء المهملة كما ظنه القاري.
(4) قوله: لا يخطب (قال الجمهور: هذا النهي للتحريم، وقال الخطّابي: هذا النهي للتأديب وليس نهي تحريم يبطل العقد عند أكثر الفقهاء. قال الحافظ: هو عندهم للتحريم، ولا يبطل العقد، بل حكى النووي أن النهي فيه للتحريم بالإِجماع. انظر: بذل المجهود 10/75) ، برفع الباء خبر بمعنى النهي، وهو أبلغ من صريح النهي، قال عياض وغيره: المنع إنما هو بعد الركون وإلاَّ فلا، لحديث فاطمة بنت قيس حين أخبرت أنه خطبها ثلاثة، فلم ينكر دخول بعضهم على بعض، وقال الخطابي: في قوله "أخيه" دليل على أن الأول مسلم، فإن كان يهودياً أو نصرانياً لم يمنع الخطبة على خطبته، وبه قال الأَوْزاعي، والجمهور على خلافه (ذهب الجمهور إلى إلحاق الذمي بالمسلم في ذلك، وقال ابن قدامة: إن كان الخاطب الأول ذمياً لم تحرم الخطبة، نص عليه أحمد إذ قال: إنما هو للمسلمين، ولو خطب على خطبة يهودي أو نصراني أو استام على سومهم لم يكن داخلاً في ذلك. المغني 6/608) . وقالوا: إن ذكر الأخ جرى على الغالب أو للإِشارة إلى قطع التنافر.
(5) أي إذا توافقوا وأما إذا أبى أهلها فلا بأس، كذا قال القاري.(2/457)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم الله.
5 - (باب الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا)
528 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (1) ومُجَمِّع ابنَيْ يَزِيدَ بْنِ جَارِيَة الأَنْصَارِيِّ، عَنْ خَنْسْاء ابْنَةِ خِذام: أَنَّ (2) أباها زوّجها (3) وهي (4) ثيِّب، فكرهت
__________
(1) قوله: عن عبد الرحمن، هو أبو محمد المدني ذكره ابن حبان في ثقات التابعين، يقال: وُلد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومات سنة 93 هـ، وأخوه مجمّع على وزن اسم فاعل من التجميع، تابعي كبير مات سنة 60، وأبوهما يزيد بن جارية الأنصاري الأوسي، ذكره ابن سعد في الصحابة، كذا قال الزرقاني. وقال ابن عبد البَرّ في "الاستيعاب": يزيد بن حارثة اليربوعي ابن عامر بن مجمع بن العطاف، هو أبو مجمع، وعبد الرحمن شهد خطبة الوداع.
(2) قوله: أن أباها، هو خذام بالمعجمة المكسورة والدال المهملة، كما في "الفتح" و"التقريب"، وقال بعضهم: بالذال المعجمة ابن وديعة، ويقال ابن خالد، من أفاضل الصحابة، كذا قال الزرقاني.
(3) قوله زوّجها، لمّا تأيّمَتْ من أُويس بن قتاده الأنصاري حين قُتل يوم أحد، كما رواه عبد الرزاق عن معمر بن سعيد بن عبد الرحمن عن أبي بكر بن محمد مرسلاً، وأخرجه الواقدي عن خنساء نفسها، وسماه بعضهم أنساً، وقيل اسمه أسير، وإنه مات ببدر.
(4) قوله: وهي ثيب، قال ابن عبد البرّ في "الاستيعاب" خنساء بنت خذام ابن وديعة الأنصاري من الأوس أنكحها أبوها وهي كارهة فردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نكاحها. واختلفت الأحاديث في حالها في ذلك الوقت، ففي نقل مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عبد الرحمن ومجمِّع عنها أنها كانت ثيباً، وذكر(2/458)
ذلك (1) ، فجاءَت رسول الله صلى فَرَدّ (2) نكاحه.
__________
ابن المبارك عن الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم عن عبد الله بن يزيد بن وديعة عن خنساء أنها كانت يومئذ بكراً، والصحيح نقل مالك في ذلك (قال الشيخ في "بذل المجهود"10/112 بعد ما حكى اختلاف الروايات في كونها بكراً أم ثيباً: لا معارضة بينهما حتى يُحتاج إلى الترجيح، فيحتمل أن يكون وقع لها هذه القصة مرتين، مرة وقعت لها حال كونها بكراً ثم وقعت حال كونها ثيباً، وهذا أهون من أن يُرَدّ الحديث الصحيح بهذا العذر، مع أن القائل بكونها ثيباً هو عبد الرحمن ومجمع ابنا يزيد، والقائلة بكونها بكراً هي خنساء نفسها فلا يرجَّح قولهما بمقابلة قولها) ، وروى محمد بن إسحاق عن حجاج بن السائب عن أبيه عن جدته خنساء قال: وكانت أيِّمّاً من رجل فزوجها أبوها رجلاً من بني عوف فخُطبت إلى أبي لبابة بن عبد المنذر وارتفع شأنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يلحقها بهواها فتزوجت أبا لبابة.
(1) قوله: ذلك، أي ذلك النكاح، أو ذلك الرجل الذي زوّجها منه أبوها، قال ابن حجر: ولم يُعرف اسمه، نعم عند الواقدي أنه من مُزَينة وعند ابن إسحاق أنه من بني عمرو بن عوف.
(2) قوله: فردَّ نكاحه، أي وجعل أمره إليها كما في رواية عبد الرزاق عن أبي بكر بن محمد وله عن نافع بن جبير: فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبي زوجني وأنا كارهة وقد ملكتُ أمري، قال: فلا نكاح له، انكحي من شِئتِ، فرد نكاحه. ونكحت أبا لبابة الأنصاري. قال ابن عبد البر: هذا الحديث مجمع على صحته وعلى القول به، لأن من قال لا نكاح إلا بولي. قال: لا يزوِّج الثيِّبَ وليُّها إلا بإذنها ومن قال: ليس للولي مع الثيب أمر فهو أولى بالعمل بهذا الحديث. واختلف في بطلانه لو رضيت، فقال الشافعي وأحمد ببطلانه، وقال أبو حنيفة لها أن تجيز فيجوز ولا تجيز فيبطل. انتهى ملخصاً. وأما حديث النسائي عن جابر أن رجلاً زوج ابنته وهي بكر من غير أمرها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ففرَّق بينهما فحمله البيهقي على أنه زوّجها من غير كفؤ، كذا في شرح الزرقاني.(2/459)
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يَنْبَغِي أَنْ تُنْكَح الثَّيِّب، وَلا البِكْر إِذَا بَلَغَتْ (1) إِلا بِإِذْنِهِمَا فَأَمَّا إذْن الْبِكْرِ فَصَمْتُها (2) ، وَأَمَّا إذْن الثَّيِّب فَرِضَاهَا بِلِسَانِهَا، زوَّجها والدُها أَوْ غَيْرُهُ (3) . وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
6 - (باب الرجل يَكُونُ عِنْدَهُ أَكْثَرُ (4) مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ فَيُرِيدُ (5) أَنْ يَتَزَوَّجَ)
529 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ (6) ، قال: بلغنا أن
__________
(1) في نسخة: بلغتنا. وإذا لم تبلغ يجوز نكاح وليها بغير إذنها إلاَّ أن لها خيار الفسخ عند البلوغ إذا كان الناكح غير الأب والجد.
(2) أي سكوتها. قوله: صمتها، قال القاري: لما أخرجه الجماعة إلا البخاري من حديث ابن عباس مرفوعاً: الأيّم أحق بنفسها من وليها. والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صُماتها، والأيّم الثيّب التي لا زوج لها إذا كانت بالغةً عاقلة.
(3) من أوليائها حقيقةً أو حكماً.
(4) قوله: أكثر من أربع نسوة، الأَوْلى أن يحذف الأكثر ليطابق العنوان ما في الباب من الأخبار، فإنَّ الخبر الأول دالّ على نهي التزوج على أكثر من أربع نسوة، والثاني: على منع التزوّج على أربع نسوة، ولأنّ منع التزوّج بعد الأربعة يستلزم المنع منه بعد أكثرها من غير عكس.
(5) قوله: فيريد أن يتزوج، أي لواحدة بعد الأربعة، فكان حق العبارة أن يقول: ويريد بالواو عطفاً على "يكون" لا أن يفرِّع على كون أكثر من الأربع عنده، والظاهر أنه من النُّسّاخ، كذا في شرح القاري، وفيه نظر غير خفي.
(6) هو الزهري، فالحديث مرسل وهو حجة.(2/460)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لِرَجُلٍ (1) مِنْ ثَقِيفٍ (2) - وَكَانَ عِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ (3) - حِينَ (4) أَسْلَمَ الثَّقَفِيُّ، فَقَالَ لَهُ: أمسِكْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، وفارِقْ سائرَهُنّ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (5) . يَخْتَارُ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا أيّتُهنّ شَاءَ، وَيُفَارِقُ (6) مَا بَقِيَ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: نِكَاحُ الأَرْبَعَةِ الأُوَل جَائِزٌ، ونكاحُ مَنْ بَقِي مِنْهُنَّ بَاطِلٌ وهو قول إبراهيم النَّخَعي.
__________
(1) قوله: قال لرجل من ثقيف، قال ابن عبد البر في "شرح الموطأ" هكذا رواه جماعة من رواة الموطأ، وأكثر رواة ابن شهاب، رواه ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن عثمان بن محمد بن أبي سويد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لغيلان بن سلمة الثقفي حين أسلم فذكره، ووصله معمر عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر، ويقولون إنه من خطأ معمر مما حدّث به بالعراق، كذا في "شرح الزرقاني". وفيه أيضاً قد رواه الترمذي وابن ماجه من طريق معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه، وقال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: هذا غير محفوظ والصحيح ما روى شعيب وغيرُه عن الزهري قال: حدثت عن عثمان بن محمد بن أبي سويد الثقفي فذكره.
(2) قبيلة كبيرة من أهل الطائف والحجاز.
(3) أي فأسْلَمْنَ معه قاله الزرقاني.
(4) ظرف لقال. قوله: حين أسلم الثقفي، وهو غيلان بن سلمة بن معتب بن مالك، أحد وجوه ثقيف ومقدمهم، أسلم بعد فتح الطائف ولم يهاجر، وتوفي في آخر خلافة عمر رضي الله عنه، ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب".
(5) وبه قال مالك والشافعي وأحمد كما في "رحمة الأمة".
(6) قوله: ويفارق ما بقي، قال القاري: لعل مأخذها قوله "وفارق سائرهن" حيث لم يقل طلِّقْهُنّ، لكن يُشكل بأن عقود الجاهلية قبل الدخول في(2/461)
530 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا رَبِيعَة بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ الْوَلِيدَ (1) سَأَلَ الْقَاسِمَ وعُرْوَةَ (2) وَكَانَتْ عِنْدَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَأَرَادَ أَنْ يَبِتَّ (3) وَاحِدَةً وَيَتَزَوَّجُ أُخرى، فَقَالَ: نَعَمْ، فَارِقِ امْرَأَتَكَ ثَلاثًا وتزوّج. فقال القاسم في مجالس مختلفة.
__________
الأحكام الإِسلامية صحيحة (والظاهر أن كلمة "صحيحة" سقطت في الأصل) ، والظاهر أن التعبير، بالمفارقة بناءً على فسخ الزيادة بالآية الناسخة لجوازها قبل ذلك وهي قوله تعالى: {فانكحوا مَا طَاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} (سورة النساء: الآية 3) فإن سورة النساء مدنية بالإِجماع، فالقول بأن نكاح من بقي منهن باطل موقوف على دليل صح في السماع. نعم بعد ظهور الحكم لو تزوّج شخص زيادة على الأربع فلا خلاف في بطلان الزائد وصحة الأقل (قال الموفق: إن الكافر إذا أسلم ومعه أكثر من أربع نسوة فأسلمن في عدتهن أو كنّ كتابيّات لم يكن له إمساكهن كلّهن بغير خلاف نعلمه، ولا يملك إمساك أكثر من أربع، فإذا أحبّ ذلك اختار أربعاً منهن وفارق سائرهن سواء تزوجن في عقد واحد أو في عقود، وسواء اختار الأوائل أو الأواخر، نص عليه أحمد، وبه قال الحسن ومالك والليث والأوزاعي والثوري والشافعي وإسحاق ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن كان تزوجهن في عقد انفسخ نكاح جميعهنّ وإن كان في عقود فنكاح الأوائل صحيح ونكاح ما زاد على أربع باطل. المغني 6/620) . وفي "البذل" عن الشوكاني: ذهبت العترة وأبو حنيفة وأبو يوسف والثوري والأوزاعي والزهري وأحد قولي الشافعي إلى أنه لا يقر من أنكحة الكفار إلا ما وافق الإِسلام. انظر الأوجز 10/227، وبذل المجهود 10/380) .
(1) أي ابن عبد الملك بن مروان أحد ملوك بني أمية.
(2) حين قدم المدينة.
(3) قوله: أن يَبِتَّ، بفتح الياء وكسر الباء الموحدة وتشديد الفوقية، أي(2/462)
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يُعجبنا (1) أَنْ يَتَزَوَّجَ خَامِسَةً وَإِنْ بَتَّ (2) طَلاقَ إِحْدَاهُنَّ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها. لا يُعْجِبُنَا أَنْ يَكُونَ مَاؤُهُ فِي رَحِمِ خَمْسِ (3) نِسْوَة حَرَائِرَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
7 - (بَابُ مَا يُوجِبُ الصَّدَاق (4))
531 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بِامْرَأَتِهِ وأُرخِيَتْ السُّتُورُ (5) فَقَدْ وَجَبَ (6) الصَّدَاق.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (7) نَأْخُذُ، وَهُوَ قول أبي حنيفة والعامة من
__________
يطلقها بالبتة ويقطعها عن الرجل، ويتزوج أخرى أي في عدَّة الأولى، فقالا - أي كلاهما -: نعم فارقْ امرأتك بالثلاث، أي طلقها ثلاثاً وتزوج بواحدة، وأطلق عروه الثلاث. فقال القاسم في مجالس متفرقة ليكون على وفق السنّة. وفي "موطأ يحيى": مالك عن ربيعة أن القاسم بن محمد وعروة بن الزبير كانا يقولان في الرجل يكون عنده أربع نسوة فيطلق إحداهن البتة، ويتزوج إن شاء ولا ينتظر أن تقضي عدّتَها، ولو طلَّقها واحدة أو اثنين لم يتزوج حتى تنقضي عدّتُها، كذا ذكر القاري.
(1) أي لا يحل عندنا. بل ينتظر إلى أن تنقضي عدتها، وهذا عدة الرجل، كما بسطه الفقهاء.
(2) أي بيتوتة صغرى أو كبرى.
(3) كما أنه لا يحل له إلا أربع حقيقة أو حكماً.
(4) بفتح أوله وكسره من المرأة، كذا قال القاري.
(5) كناية عن الخلوة الصحيحة وإن لم يكن هناك إرخاء ستور حقيقة.
(6) أي كلّ المهر المسمّى أو مهر المثل.
(7) قوله: وبهذا نأخذ، قال ابن المنذر: وهو قول عمر وعلي وزيد بن ثابت وعبد الله بن جابر ومعاذ وقول الشافعي في القديم، وقال في الجديد: يجب على الزوج إذا طلَّق بعد الخلوة نصف المسمّى، وأحمد موافق لأبي حنيفة، ويؤيد مذهبنا قوله تعالى: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضُكم إلى بعض} (سورة النساء: الآية 21) أي وصل من غير فصل إذ حقيقة الإِفضاء الدخول في الفضاء وهو مكان الخلاء، كذا في شرح القاري، وذكر السيوطي في "الدر المنثور": أخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن الأخنس بن قيس أن عمر وعلياً قالا: إذا أرخى ستراً أو أغلق باباً، فلها الصَّداق كاملاً، وعليها العِدّة. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي عن زرارة بن أَوْفى قال: قضاء الخلفاء الراشدين أنّ (في الأصل "أنه"، وهو تحريف) من أغلق باباً أو أرخى ستراً فقد وجب الصَّدَاق. وأخرج البيهقي عن محمد بن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كشف امرأته، فنظر إلى عورتها فقد وجب الصداق. وأخرج مالك والبيهقي عن زيد بن ثابت(2/463)
فُقَهَائِنَا. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: إِنْ طلَّقها بَعْدَ ذَلِكَ (1) لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلا نِصْفُ الْمَهْرِ (2) إِلا أَنْ يَطُولَ مُكْثُها (3) وَيَتَلَذَّذُ (4) مِنْهَا فيجب الصداق.
__________
قال: إذا دخل الرجل بامرأته، فأرخيت عليهما الستور فقد وجب الصداق. وأخرج مالك والشافعي وابن أبي شيبة والبيهقي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قضى في المرأة يتزوجها الرجل قال: إذا أُرخيت الستور فقد وجب الصداق (بنفس الخلوة عند الجمهور وبادعاء المرأة عند المالكية. انظر أوجز المسالك 9/314) .
(1) أي بعد الخلوة الصحيحة.
(2) لعدم الجماع.
(3) أي مع الرجل.
(4) بلمسها وتقبيلها.(2/464)
8 - (بَابُ نِكَاحِ الشِّغار (1))
532 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى (2) عَنِ الشِّغَارِ. وَالشِّغَارُ أن يُنكح الرجل ابنته على أن
__________
(1) بكسر الشين المعجمة. قوله: نكاح الشغار، هو مأخوذ من قولهم: شغر البلد عن السلطان إذا خلا عنه، سُمِّي به لخلوّه عن الصداق أو بعض شرائطه، وقال ثعلب: من قولهم شغر الكلب إذا رفع رجله ليبول، كأن كلاً من الوليَّيْن يقول للآخر لا ترفع رجل بنتي حتى أرفع رجل بنتك، كذا قال الزرقاني.
(2) قوله: نهى عن الشغار (ذكر شيخنا في أوجز المسالك 9/347 في هذا الحديث عدة مباحث فارجع إليه) ، هذا حديث متفق عليه من حديث نافع عن ابن عمر، وفي رواية لهما عن عبيد الله بن عمر قلت لنافع: ما الشغار؟ قال: أن ينكح ابنة الرجل وتنكحه ابنتك بغير صداق وينكح أخت الرجل وتنكحه أختك بغير صداق. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: نُهي عن الشغار وهو أن يزوِّج الرجلُ ابنته على أن يزوِّجَه صاحبُه بنته. وفي الباب عن جابر رواه مسلم، وعن أنس رواه أحمد والترمذي وصححه والنسائي، وعن معاوية رواه أبو داود. وقال الشافعي في حديث ابن عمر: لا أدري تفسير الشغار من النبي صلى الله عليه وسلم أو من ابن عمر أو من نافع أو مالك. انتهى. وقال الخطيب "المدرج": هو من قول مالك بيّنه وفصّله القعنبي وابن مهدي ومحرز بن عون عنه. انتهى. ورواية البخاري ومسلم من طريق عبيد الله صريح في أنه من نافع، ولذا قال القرطبي في "شرح صحيح مسلم": إن التفسير في حديث ابن عمر جاء عن نافع وعن مالك وأما حديث أبي هريرة فهو على الاحتمال، والظاهر أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، كذا ذكره الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث الرافعي"، ثم قال: في الطبراني من حديث أبيّ بن كعب مرفوعاً: لا شغار في الإِسلام، قالوا: يا رسول الله، وما الشغار؟ قال: نكاح المرأة بالمرأة، لا صَدَاق بينهما. وإسناده وإن كان ضعيفاً لكنه يُستأنس به في هذا المقام.(2/465)
يُنكحه الآخَرُ ابْنَتَهُ (1) لَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (2) نَأْخُذُ. لا يَكُونُ الصَّداق نِكَاحَ امْرَأَةٍ (3) فَإِذَا تَزَوَّجَهَا (4) عَلَى أَنْ يَكُونَ صَدَاقها أَنْ يُزَوِّجَهُ (5) ابْنَتَهُ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ وَلَهَا صَدَاقُ مِثْلِهَا مِنْ نِسَائِهَا، وَلا وَكْس (6) وَلا شَطَطَ (7) . وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
__________
(1) أو أخته أو غيرها ممن له ولاية عليها.
(2) قوله: وبهذا نأخذ، قال عياض: لا خلاف في النهي (أجمع العلماء على أنه منهيّ عنه، لكن اختلفوا هل هو نهي يقتضي إبطال النكاح أم لا؟ وعند الشافعي يقتضي إبطاله، وحكاه الخطّابي عن أحمد وإسحاق وأبي عبيد، وقال مالك: يُفسخ قبل الدخول وبعده، وفي رواية عنه قبله لا بعده، وقال جماعة: يصح بمهر المثل وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله. كذا في بذل المجهود 10/65) عن الشغار ابتداءً فإن وقع أمضاه الكوفيون والليث والزهري وعطاء بصداق المثل، وأبطله مالك والشافعي، كذا في "شرح الزرقاني"، وفي "شرح القاري": لا يفسد النكاح، ويفسد الشرط عند أبي حنيفة والشافعي وعن مالك وأحمد روايتان.
(3) قوله: لا يكون الصداق نكاح امرأة كذا في الأصل، والظاهر أنه وهم ويمكن حمله على القلب. هذا كلام القاري، ولا يخفى وهنه فإن مؤدَّى هذه العبارة وقلبها واحد.
(4) أيّ امرأة بولاية وليِّها.
(5) أي يزوّج هذا المتزوج بنته أو أخته مثلاً بذلك الولي الذي تزوج هو ببنته.
(6) بفتح وسكون أي لا نقص.
(7) أي لا زيادة.(2/466)
9 - (بَابُ نِكَاحِ (1) السِّرِّ)
533 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ (2) : أَنَّ عُمَرَ (3) أُتِيَ (4) برجلٍ فِي نِكَاحٍ لَمْ يَشهد عَلَيْهِ إِلا رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا نِكَاحُ السِّرّ (5) وَلا نُجيزه وَلَوْ كنتُ (6) تَقَدَّمْتُ فيه لَرَجَمْتُ.
__________
(1) قوله: نكاح السرّ، قال القاري: أي تزويج الخفية. وهو أن يعقد بغير حضور نصاب الشهادة وشرائطه.
(2) قوله: عن أبي الزبير، هو محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسدي المكي، روى عن جابر وابن عمر وابن عباس وابن الزبير وعائشة، وعنه مالك وأبو حنيفة وشعبة والسفيانان، وثّقه ابن المديني وابن معين والنسائي، مات سنة 128 هـ، كذا في "الإِسعاف".
(3) ابن الخطاب أحد الخلفاء الأربعة.
(4) بصيغة المجهول.
(5) أي لا بد في النكاح من الإِعلان ولو بحضور شاهدين.
(6) قوله: ولو كنتُ تَقَدَّمتُ، بفتح التاء والقاف والدال، أي سبقت غيري، وفي رواية ابن وضاح بضم التاء والقاف وكسر الدال على بناء المفعول أي سبقني غيري، كذا قال الزرقاني. والظاهر أن معناه لو تقدمت في هذا الأمر بالمنع وسَبقتُ بإقامة الحجة على عدم جوازه وشهّرت ذلك، ثم فعلت بعد الاطلاع عليه لرجمت أي أقمت عليك تعزيراً وعقوبة(2/467)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لأَنَّ النِّكَاحَ لا يجوزُ (1) فِي أقَلّ مِنْ شاهِدَيْن وَإِنَّمَا شَهِدَ عَلَى هَذَا الَّذِي رَدَّهُ عُمَرُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، فَهَذَا نِكَاحُ السِّرِّ لأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تَكْمُلْ (2) وَلَوْ كَمُلَتِ الشَّهَادَةُ بِرَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ (3) وَامْرَأَتَيْنِ كَانَ نِكَاحًا جَائِزًا وَإِنْ كَانَ سِرّاً (4) ، وَإِنَّمَا يَفْسُد (5) نِكَاحَ السِّرِّ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ شهودٍ، فَأَمَّا إِذَا كَمُلَتْ فِيهِ الشَّهَادَةُ فَهُوَ نِكَاحُ العَلاَنِيَة وَإِنْ كَانُوا أسَرُّوه (6) .
534 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا محمد بن أَبَان (7) ،
__________
(والأوجه ما في "المحلَّى" إذ قال: تقدمت ورجمت بزنة المتكلم المعلوم فيهما. يعني لو أعلمتُ الناس أنه لا يحل نكاح إلا بشاهد وامرأتين حتى تعرفوا لرجمت فيه بعد تقدمي مَنْ فعله. انظر الأوجز 9/356) .
(1) قوله: لا يجوز في أقل من شاهدين، لورود كثير من الأخبار في ذلك، والكلام في رواة أكثرها لا يضر لحصول القوة للمجموع، فأخرج ابن حبان في "صحيحه" من حديث عائشة مرفوعاً: لا نكاح إلاَّ بوليّ وشاهِدَيْ عدل، وما كان من نكاح على غير ذلك فهو باطل. وأخرج الترمذي عن ابن عباس مرفوعاً وموقوفاً - وقال: الموقوف أصح -: البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بيِّنة. وفي الباب من حديث أبي هريرة وعليّ وأنس وجابر وابن مسعود وابن عمر وعمران بن حصين ذكرها الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية" مع ما لها وما عليها.
(2) أي لم تتم.
(3) قوله: أو رجل وامرأتين، فيه خلاف الأئمة الثلاثة حيث قالوا: لا دخل للنساء في النكاح، وإنما يصح بشهادة عَدْلين رجلين إلاَّ أنِّ مالكاً أجاز العقد بدون شهادة ثم يشهدان قبل الدخول، وقال: نكاح السرّ ما أوصى بكتمه. وعند غيره لا يجوز ما لم يشهد عليه، كذا قال الزرقاني.
(4) أي خفياً، وليس الشرط الإِعلان في المجالس والمجامع.
(5) في نسخة: يفسر.
(6) أي أهل العقد.
(7) بفتح الموحدة وخفة الباء.(2/468)
عَنْ حَمَّادٍ (1) ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ (2) أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَجَازَ شهادةَ رجلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي النِّكَاحِ والفُرْقَة (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
10 - (بَابُ الرَّجُلِ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَابْنَتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَأُخْتِهَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ)
535 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْد اللَّهِ (4) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ (5) ، عَنْ أَبِيهِ (6) : أنَّ عُمَرَ سُئل عَنِ الْمَرْأَةِ وَابْنَتِهَا مِمَّا مَلَكَت الْيَمِينُ أَتُوْطَأ (7) إِحْدَاهُمَا بَعْدَ الأُخرى؟ قال: لا أُحبُّ (8) أنْ
__________
(1) ابن أبي سليمان لا ابن أبي سلمة كما ظنه القاري.
(2) النخعي.
(3) أي في الفسخ.
(4) بضم العين.
(5) بضم الأولى وسكون الثانية ابن مسعود.
(6) عبد الله بن عتبة بن مسعود الهُذَلي ابن أخي عبد الله بن مسعود.
(7) بهمزة الاستفهام بيان للسؤال. وفي بعض نسخ "موطأ" يحيى بدون الهمزة.
(8) قوله: لا أحبُّ أن أجيزَهما، مأخوذ من الإِجازة أي لا أحبُّ أن أجيز الجمع بينهما وطياً. وفي "الموطأ" برواية يحيى: ما أحب أن أَخْبُرهما جميعاً. قال الزرقاني بفتح الهمزة وإسكان الخاء المعجمة وضم الباء الموحدة أي أطأهما، يقال للحراث: خبير، ومنه المخابرة. انتهى.(2/469)
أُجِيزَهما جَمِيعًا وَنَهَاهُ (1) .
536 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْريّ، عَنْ قّبِيصّة (2) بْنِ ذُؤيْب: أنَّ رَجُلا (3) سَأَلَ عُثْمَانَ (4) عَنِ الأُخْتَيْن مِمَّا مَلَكَت الْيَمِينُ هَلْ يُجمع بينهما؟ فقال: أحلَّتْهما (5)
__________
(1) قوله: ونهاه (نهي تحريم باتفاق العلماء إلاَّ ما رُوي عن ابن عباس. كذا في الأوجز 9/375) ، أي نهى عمر السائل عن الجمع بينهما والمعنى أنه لا يطأ واحدة، ما لم يحرِّم الأخرى بعتقها أو بعتق بعضها أو بتمليك بعضها أو جميعها، كذا قال القاري.
(2) قوله: قبيصة بن ذؤيب، هو قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي المدني، وُلد عام الفتح، وروى عن عثمان وابن عوف وحذيفة وزيد بن ثابت وعائشة وأم سلمة. قال الزهري: كان من علماء هذه الأمة، مات بالشام سنة 87، كذا في "الإِسعاف".
(3) ابن عفان أحد الخلفاء الأربعة.
(4) والجمع بملكة اليمين.
(5) قوله: أحلَّتهما آية، قال ابن حبيب: يريد قوله: {والمُحْصَنات من النساء إلاَّ ما ملكتْ أيمانُكم} (سورة النساء: الآية 24) ، حيث عمَّ ولم يخصّ أختين ولا غيرهما، وقيل قوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ملكت أيمانهم} (سورة المؤمنون: الآية 5 - 6) . وقال ابن عبد البَرّ: يريد تحليل الوطء بملك اليمين في غير آية، كذا في "شرح الزرقاني".(2/470)
آيَةٌ وحرَّمتهما آيَةٌ (1) ، مَا كُنْتُ (2) لأصْنَع ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ (3) فَلَقِي رَجُلا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لَوْ كَانَ (4) لِي مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ، ثُمَّ أُتيتُ بأحدٍ فَعَلَ ذَلِكَ جعلتُه نِكالاً. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ (5) : أُرَاه (6) عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنه.
__________
(1) يعني قولَه تعالى: {وأنْ تَجمعوا بين الأختين} لكونه عامّاً من النكاح والجمع بملك اليمين.
(2) قوله: ما كنت لأصنع ذلك، أخبره برأيه بعد ما ذكر التعارض بين الآيتين كأنه يشير إلى تقديم الحَظر على الإباحة أو إلى أن اشتراك العلة يقتضي كون الحكم في ما نحن فيه مثل الحكم في النكاح فكما لا يجوز الجمع نكاحاً لا يجوز وطياً بملك اليمين.
(3) قوله: ثم خرج، أي ذلك السائل، فلقي علياً فسأله عن ذلك لما أن جواب عثمان رضي الله عنه لم يكن شافياً لعدم جزمه بذلك.
(4) قوله: لو كان لي من الأمر، أي الحكومة والخلافة أي لو كانت لي حكومة على الناس بالعقوبة ثم جئت بأحد فعل ذلك أي الجمع بين الأختين بملك اليمين، واطَّلعت على ذلك جعلته أي فعلَه ذلك نَكالاً - بالفتح - أي باعث عقوبة وعذاب، يعني لأجريتُ عليه عقوبة زاجرة عن مثل ذلك. قال ابن عبد البر: لم يقل حددتُه حدَّ الزناء لأن المأوِّل ليس بزانٍ إجماعاً، وإن أخطأ إلاَّ ما لا يُعذر بجهله وهذا شبهة قوية، وهي شبهة عثمان وغيره.
(5) الزهري شيخ مالك.
(6) قوله: أراه علياً، أي أظن ذلك الصحابي القائل له علي بن أبي طالب وكنى عنه قَبيصة لصحبته عبد الملك بن مروان، وبنو أمية تستثقل سماع ذكر عليّ لا سيما ما خالف فيه عثمان، كذا في "شرح الزرقاني"، وقال القاري: لا يبعد أن(2/471)
قَالَ محمدٌ: وَبِهَذَا (1) كُلِّهِ نَأْخُذُ لا يَنْبَغِي (2) أَنْ يُجمع بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ ابْنَتِهَا، وَلا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَأُخْتِهَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ. قَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ (3) : مَا حرَّم اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْحَرَائِرِ شَيْئًا إلاَّ وَقَدْ حرَّم مِنَ الإِماء مثلَه إلاَّ أَنْ يَجْمَعَهُنَّ رَجُلٌ. يَعْنِي (4)
__________
يكون الرجل هو ابن مسعود فإنه سُئل عن الرجل يجمع بين الأختين المملوكتين في الوطئ فكرهه.
(1) وبه قال الجمهور.
(2) أي لا يحل لأحد.
(3) قوله: قال عمار بن ياسر، أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة، كذا قال السيوطي في "الدر المنثور"، وذكر فيه آثاراً أُخَر منها قول إياس بن عامر: سألت عليّاً أن لي أختين مما ملكت يميني اتخذت إحداهما سُرِّيَّة وولدت لي أولاداً، ثم رغبتُ في الأخرى فما أصنع؟ قال: تعتق التي كنتَ تطأ ثم تطأ الأخرى، ثم قال: إنه يحرم عليك مما ملكتْ يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله من الحرائر إلاَّ العدد، ويحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب، أخرجه ابن عبد البر في "الاستذكار". ومنها ما أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي عن عليّ وسئل عن رجل له أمتان أختان، وطئ إحداهما (في الأصل: "أحدهما") ، ثم أراد أن يطأ الأخرى؟ قال: لا، حتى يُخرجها عن ملكه. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود أنه سُئل عن الرجل يجمع بين الأختين الأمتين فكرهه، فقيل له: يقول الله: {إلاَّ ما ملكت أَيْمانكم} فقال: وبعيرك مما ملكت يمينك. وأخرج ابن المنذر والبيهقي عنه، قال: يحرم من الإِماء ما يحرم من الحرائر إلاَّ العدد، وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبيهقي عن ابن عمر نحو ذلك.
(4) بيان لمراد عمار من قوله: إلاِّ أن يجمعهن.(2/472)
بِذَلِكَ أَنَّهُ يَجْمَعُ مَا شَاءَ (1) مِنَ الإِماء، وَلا يحلُّ لَهُ فوقَ أربعِ حرائرَ. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
11 - (بَابُ الرَّجُلِ يَنْكح الْمَرْأَةَ وَلا يَصِلُ إِلَيْهَا لعلَّة (2) بِالْمَرْأَةِ أَوْ بِالرَّجُلِ)
537 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شهاب، عن سعيد بن المسيب أنَّه كان يَقُولُ: مَنْ تزوَّج امْرَأَةً فَلَمْ (3) يَسْتَطِعْ أَنْ يَمَسَّهَا فإنَّه يُضْرَب لَهُ أجَل سَنَة فَإِنْ مَسَّها وإلاَّ فُرَّقَ بينما.
قَالَ محمدُ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قولُ أَبِي حنيفة رحمه الله إن
__________
(1) من غير اعتبار عدد ولو تجاوز عن الألف.
(2) علة الرجل: كالعُنَّة، وعلَّة المرأة كالرَّتق (الرتق أن يكون الفرج مسدوداً يعني أن يكون ملتصقاً لا يدخل الذكر فيه. المغني 6/651) ، والمشتركة كالجنون، كذا قال القاري.
(3) قوله: فلم يستطع أن يمسها، أي يجامعها لمانع به بأن يكون عِنيِّناً، فإنه يُضرب له أي يُعَيَّن له أجل سنة أي قمرية على الأصح، أما إذا كان مجبوباً فإنه يُفرَّق بطلبها إذ لا فائدة في تأجيله، فإن مسَّها أي جامعها ولو مرة فبها، وإلاَّ فَرَّق بينهما أي القاضي إن طلبته وتَبين بطلقة. وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن محمد، عن الشعبي أن عمر بن الخطاب كتب إلى شُريح أن يؤجِّل العِنِّين سنة من يوم يرفع إليه، فإن استطاعها وإلاَّ فخيَّرها، فإن شاءت أقامت وإن شاءت فارقت. ورُوي أيضاً عن علي وابن مسعود والمغيرة بن شعبة أن العِنّين يؤجَّل سنَّة، كذا في "شرح القاري".(2/473)
مَضَتْ سَنَةٌ وَلَمْ يمسَّها خُيِّرَت (1) فَإِنِ (2) اختارَتْه فَهِيَ زَوْجَتُهُ، وَلا خِيَار لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا. وَإِنِ اختارَت نَفْسَهَا فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ بائِنَة، وإن قال (3)
__________
(1) بين الافتراق والإِقامة معه (فإن اختارت الفسخ لم يجز إِلاَّ بحكم الحاكم لأنه مختلف فيه فإما أن يفسخ وإما أن يرده إليها فتفسخ هي في قول عامة القائلين به، ولا يفسخ حتى تختار الفسخ وتطلبه لأنه لحقها فلا تُجبر على استيفائه كالفسخ بالإِعسار، فإذا فسخ فهو فسخ وليس بطلاق. وهذا قول الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك والثوري: يفرق الحاكم بينهما وتكون تطليقة لأنه فرقة لعدم الوطء فكانت طلاقاً كفرقة المولى. المغني 6/669. وفي "المحلى" تبين بطلقة بائنة عند أبي حنيفة ولها كل المهر إن خلا بها ونصفه إن لم يخل بها، وقال الشافعي وأحمد: فسخ، لا يجب المهر ولا المتعة ويجب العدة. كذا في الأوجز 10/222) .
(2) قوله: فإن اختارته فهي زوجته، أي إن اختارته بعد ظهور عِنَّته فهي زوجته من غير طلاق ولا فسخ لأنها أسقطت حقَّها، ولا يعود الساقط، وإن اختارت نفسها وطلبت التفريق فهو طلاق بائن. به وردت الآثار، فروى عبد الرزاق في مصنفه عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: قضى عمر في العِنّين أن يؤجل سنة، قال معمر: وبلغني أن التأجيل من يوم تخاصمه. وكذا رواه الدارقطني، وفي رواية ابن أبي شيبة، عن سعيد، عن عمر أنه أجَّل العِنّين سنة، وقال: إن أتاها وإلاَّ فرَّقوا بينهما، ولها الصَّدَاق كاملاً. وروى محمد في كتاب "الآثار" عن أبي حنيفة، عن إسماعيل بن مسلم المكي، عن الحسن، عن عمر أن امرأة أتته، فأخبرته أن زوجها لا يصل إليها فأجَّله حولاً، فلما انقضى حول ولم يصل إليها خَيَّرها، فاختارت نفسها، ففرَّق بينهما عمر، وجعلها تطليقة بائنة. وفي الباب آثار عن علي وابن مسعود والمغيرة بن شعبة والحسن والشَّعْبي والنَّخَعي وغيرهم، ذكرها الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية".
(3) أي الزوج بعد مضيِّ السنة.(2/474)
إني قد مَسِستُها (1) السَنَةِ إِنْ كَانَتْ ثَيِّبَاً (2) فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ (3) مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ بكْراً نَظَرَ إِليها النِّساء (4) ، فَإِنْ قُلْنَ هِيَ بِكْرٌ خُيِّرت بَعْدَ مَا (5) تُحَلَّفُ بِاللَّهِ مَا مَسَّها وَإِنْ قُلْنَ هِيَ ثَيِّب، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لَقَدْ مَسِسْتُها (6) وهو قول أبي حنيفة والعامةِ من فقهائنا.
538 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُجَبَّر (7) ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيَّب أنَّه قَالَ: أيُّما رجلٍ تزوَّج امْرَأَةً وَبِهِ جُنُون أَوْ ضُرٌّ (8) فَإِنَّهَا تُخَيّر إِنْ شاءَت قَرَّت (9) وَإِنْ شاءَت فَارَقَتْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا كَانَ (10) أَمْرًا لا يُحْتَملُ خُيِّرَتْ، فَإِنْ شَاءَتْ قَرَّت وَإِنْ شاءَت فارقَتْ، وإلاَّ لا خيار لها إلاَّ في العِنِّيْن والمجْبُوب.
__________
(1) أي جامعها في أثناء السنة.
(2) أي قبل هذا النزاع.
(3) أي الزوج.
(4) أي العارفات بهذه الأحوال.
(5) لعل هذا اليمين استظهار، قاله القاري.
(6) بكسر السين الأولى.
(7) على وزن اسم المفعول من التفعيل (مجبَّر لقب، اسمه عبد الرحمن بن عبد الرحمن الأصغر ابن عمر بن الخطاب، وابنه عبد الرحمن هو شيخ مالك. تعجيل المنفعة ص 393) .
(8) أي ضرر آخر كالجذام والبرص وغير ذلك.
(9) أي بقيت عنده.
(10) قوله: إذا كان أمراً لا يحتمل، أي لا يمكنها المُقام معه إلاَّ بضررها،(2/475)
12 - (بَابُ الْبِكْرِ تُستأمر (1) فِي نَفْسِهَا)
539 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ (2) بْنُ الفَضْل (3) ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْر (4) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أنَّ (5) رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم
__________
فحينئذٍ تُخَيَّر وإن كان أمراً يُحتمل فلا خيار لها إلاَّ في العِنّين، وهو من لا يصل إلى النساء مع وجود الآله أو يصل إلى الثيِّب دون البكر أو إلى بعض النساء دون بعض، وذلك لمرض أو ضعف بكبر سنه أو في خلقته أو لسحر، وكذا المجبوب والمراد به الخصي سواء كان مسلولاً سُلَّت منه خصيتاه أو موجوداً فهو كالعنّين في التأجيل لأن الوطء منه متوقع، بخلاف المجبوب غير المتوقع منه الوطء فإنه لا فائدة في تأجيله. وبالجملة إذا كان بالزوج جنون أو برص أو جذام فلا خيار لها عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: لها الخيار دفعاً للضرر عنها، كذا قال علي القاري وغيره (بسط ابن قدامة هذه المسألة في "المغني"6/651، فارجع إليه) .
(1) أي تُستأذن، إذا كانت عاقلة بالغة.
(2) قوله: عبد الله، قال الزرقاني: ثقة من رجال الجميع، تابعي صغير من طبقة الزهري، قال السيوطي: وثقة النسائي وأبو حاتم وابن معين.
(3) ابن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب.
(4) ابن مُطعم.
(5) قوله: أنَّ ... إلى آخره، أخرجه مسلم وأصحاب السنن الأربعة وأحمد والشافعي كلهم من طريق مالك، تابعه زياد بن سعد، عن عبد الله بن الفضل بلفظ: الثيِّب أحق بنفسها من وليِّها والبكر يستأذنها أبوها، وإذنها صُماتها. وربما قال: صمتها إقرارها، رواه مسلم. وقال ابن عبد البر: هذا حديث رفيع رواه عن(2/476)
قال: الأيِّم (1) أَحَقُّ (2) بنفسها من وَلِيِّها،
__________
مالك جماعة من الأجلَّة كشعبة والسفيانين ويحيى القطان، قيل: ورواه أبو حنيفة، ولا يصح.
(1) قوله: الأيِّم، بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة، كل امرأة لا زوج لها صغيرةً أو كبيرةً، بكراً أو ثيِّباً، حكاه الحربي وغيره. واختلفوا في المراد به ههنا، فقال الكوفيون وزفر والشعبي والزهري: المراد ههنا هو المعنى اللغوي ثيباً كان أو بكراً بالغة، فعقدها على نفسها جائز، وليس الولي من أركان العقد. وتُعُقِّب بأنه لو كان كذلك لما كان لفصل الأيِّم من البكر معنى، وقال علماء الحجاز وكافة الفقهاء: المراد منه الثيِّب المتوفى عنها، أو المطلَّقة لرواية أخرى بلفظ: "الثيب" مكان "الأيم"، كذا في "شرح الزرقاني" وغيره.
(2) قوله: أحق بنفسها، لفظة أحقُّ للمشاركة أي أنَّ لها في نفسها حقاً ولوليها، وحقها آكد من حقه، كذا قال النووي، وقال عياض: يحتمل أن المراد أحق في كل شيء من عقدٍ وغيره، ويحتمل أنها أحق بالرضى أن لا تزوَّج حتى تنطق بالإِذن بخلاف البكر. وفي "تخريج أحاديث الهداية" للزيلعي: احتج الشافعي وأحمد بما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس مرفوعاً: الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر يستأمرها أبوها في نفسها، قال ابن الجوزي في "التحقيق": وجه الدليل أنه قسم النساء قسمين، ثم خصَّ الثيب بأنها أحق من وليها، فلو أن البكر كالثيب في ترجيح حقها على حق الولي لم يكن لإِفراد الثيب معنى، فإن قالوا: قد رواه مسلم أيضاً بلفظ "الأيم" وهو مَن لا زوج لها بكراً كانت أو ثيِّباً، قلنا: المراد به الثيب، وقال في "التنقيح": لا دلالة فيه على أن البكر ليست أحق بنفسها إلاَّ من جهة المفهوم، والحنفية لا يقولون به، وعلى تقدير القول به كما هو الصحيح لا حجة فيه على إجبار كل بكر لأنه قد خالفه منطوق، وهو قوله "البكر تُستأذن" والاستيذان منافٍ للإِجبار، وإنما وقع التفريق في الحديث بين الثيب والبكر لأن الثيب يخطب إلى نفسها، والبكر يخطب وليها فيستأذنها.(2/477)
والبكْر (1) تُسْتَأمر فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُماتُها (2) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَذَاتُ الأَبِ وَغَيْرِ الأَبِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
540 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا قَيْس (3) بْنُ الرَّبِيعِ الأسَدي (4) ، عن عبد الكريم (5) الجَزَرِي (6) ،
__________
(1) أي البالغة.
(2) بالضم أي سكوتها.
(3) قوله: قيس، هو ثقة، وثقه شعبة وسفيان، وعن ابن عيينة ما رأيت بالكوفة أجود حديثاً منه، وضعفه وكيع وغيره، قال ابن عون: عامَّة رواياته مستقيمة والقول فيه ما قاله شعبة، وأنه لا بأس به، مات سنة 107، وقيل: غير ذلك، كذا في "تهذيب التهذيب".
(4) نسبة إلى أسد بفتحتين: قبيلة.
(5) قوله: عن عبد الكريم الجزري، هو عبد الكريم بن مالك الجزري، أبو سعيد الحراني أحد الأثبات، وثقه الأئمة، قال ابن معين: ثقة ثبت، وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث. مات سنة 127، وهو غير عبد الكريم بن أبي المُخارق أبو أمية البصري، وهو مختلف فيه، وقد يشتبه أحدهما بثانيهما، كذا في "مقدمة فتح الباري" للحافظ ابن حجر وغيره.
(6) قوله: الجزري، بفتح الجيم وفتح الزاء المعجمة نسبة إلى جزيرة ابن عمر، موضع عمَّره رجل معروف بابن عمر، وليس هو بعبد الله بن عمر الصحابي، وإليها يُنسب ابن الأثير الجزري مؤلِّف "النهاية في غريب الحديث" و"جامع الأصول"، واسمه مبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم، وأخوه نصر الله المعروف أيضاً بابن الأثير الجزري المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر"، وأخوه الآخر المعروف أيضاً بابن الأثير الجزري مؤلف "أسد الغابة في أخبار الصحابة" و"الكامل في التاريخ"، و"مختصر أنساب السمعاني"، وإليها(2/478)
عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيَّب (1) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُسْتَأذَن الأبْكار فِي أنفسهنَّ ذَوَات الأَبِ وَغَيْرِ الأَبِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: فَبِهَذَا (2) نَأْخُذُ.
13 - (بَابُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ (3) وَلِيٍّ)
541 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (4) رَجُلٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيّب
__________
يُنسب مؤلف "الحصن الحصين" شمس الدين محمد بن محمد الجزري، وقد بسطت في تراجم هؤلاء في "التعليقات السنيَّة على الفوائد البهية في تراجم الحنفية".
وقال السيوطي في "لب الألباب في تحرير الأنساب": الجزري نسبةً إلى عدة بلاد: المَوْصل، وسنجار، وحرّان، والرها، والرقة، ورأس عين، وآمد، وديار بكر، وجزيرة ابن عمر. انتهى. وفي "جامع الأصول": هو نسبة إلى الجزيرة وهي البلاد التي بين الفرات ودجلة وبها ديار بكر وربيعة.
(1) هذا مرسل.
(2) قوله: فبهذا نأخذ، حاصل مذهب أصحابنا أن تزويج البكر البالغة العاقلة لا يجوز بدون رضاها، وفي غير البالغة يجوز، وعند الشافعي يجوز للأب والجد تزويج البكر بغير رضاها صغيرةً كانت أو كبيرة، وفي الثيبة لا يجوز بدون رضاها، وبه قال مالك في الأب. وهو أشهر الروايتين عن أحمد في الجَدِّ، وقال في رواية أخرى: ليس للجد ولاية الإِجبار، كذا قال القاري.
(3) قوله: بغير ولي، هو العصبة على ترتيبهم بشرط حرية وتكليف، ثم الأم، ثم ذو الرَّحِم، الأقرب فالأقرب ثم مَوْلى الموالاة ثم القاضي، كذا قال القاري.
(4) في موطأ مالك برواية يحيى: مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب قال ... إلخ.(2/479)
قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لا يَصْلُحُ لامرأةٍ أَنْ تُنْكَح (1) إِلا بِإِذْنِ وليِّها (2) أَوْ ذِي الرَّأْيِ (3) مِنْ أَهْلِهَا أَوِ السُّلْطَانِ.
قَالَ محمدٌ: لا نِكَاحَ (4) إِلا بوَليّ (5) ، فَإِنْ (6) تشاجَرَت (7) هِيَ وَالْوَلِيُّ فالسُّلطان ولِيّ مَنْ لا وَلِيّ (8) لَهُ. فَأَمَّا (9) أَبُو حنيفة فقال: إذا
__________
(1) بصيغة المجهول قال القاري: ويمكن المعلوم.
(2) أي الأقرب.
(3) أي ذي التدبير والعقل الصائب من أهلها ولو كان أبعد.
(4) قوله: لا نكاح إلا بولي ... إلى آخره، لحديث عائشة مرفوعاً: أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإنْ دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن اشتجروا فالسلطان وليّ من لا وليّ له، أخرجه الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وأبو عوانة والطحاوي والحاكم وابن حبان، وحديث أبي موسى مرفوعاً: لا نكاح إلا بولي، أخرجه أحمد وابن ماجه وأبوداود والترمذي وابن حبان والحاكم. وفي الباب عن عائشة وأم سلمة وزينب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعلي وابن عباس. وقد جمع الدمياطي طرقه في جزء، كذا في "التلخيص الحبير".
(5) أي ولو المرأة بالغة.
(6) في نسخة: وإن.
(7) أي تنازعت المرأة وليها بأن رضيت بنكاح لم يرض به وليها.
(8) أي حقيقة وحكماً كما في صورة المشاجرة.
(9) قوله: فأما أبو حنيفة ... إلى آخره، أخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" حديث عائشة بأسانيده من طريق ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة مرفوعاً: أيّما امرأةٍ نكحت. . . الحديث، ومن طريق(2/480)
وَضَعَتْ (1) نَفْسَهَا فِي كَفَاءَةٍ وَلَمْ تُقَصِّر فِي نَفْسِهَا فِي صَدَاق (2) ، فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَمِنْ حُجَّته قَوْلُ عُمَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَوْ ذِي الرَّأي
__________
الحجاج بن أرطأة عن الزهري وابن لهيعة عن عبيد الله بن جعفر عن الزهري ثم قال: فذهب إلى هذا قوم، فقالوا: لا يجوز تزويج المرأة نفسها إلا بإذن وليها، وممن قال به أبو يوسف ومحمد، وخالفهم في ذلك آخرون وقالوا: للمرأة أن تزوج نفسها ممن شاءت وليس لوليها أن يعترض عليها في ذلك إذا وضعت نفسها حيث كان ينبغي لها أن تضعها، ثم ذكر في حجتهم ما أخرج عن عائشة أنها زوّجت حفصةَ بنت عبد الرحمن: المنذرَ بنَ الزبير، وعبدُ الرحمن غائب بالشام، فلما قدم قال: أمثلي يُصنع به هذا (هكذا في الأصل، وفي "شرح معاني الآثار"2/5: زاد بعد "هذا": ويُفتات عليه. (أي إذا تفرد برأيه) ؟ فكلّمت عائشة المنذر وقالت: ذلك بيد عبد الرحمن، فقال عبد الرحمن: ما كنتُ أردّ أمراً قضيته فقررت حفصة عند المنذر، ولم يكن ذلك طلاقاً، ثم علل حديث عائشة السابق، وطرق حديث لا نكاح إلا بولي، وأطال الكلام في ذلك بما أكثره مدفوع، وقال في آخر الباب: وأما النظر في ذلك فإنا قد رأينا المرأة قبل بلوغها يجوز أمر والديها على بضعها ومالها، فإذا بلغت فكل قد أجمع على أن ما كان من العقد إليه في مالها قد عاد إليها، فكذلك العقد على بضعها يخرج من يده، وهذا هو قول أبي حنيفة إلا أنه كان يقول: إن زوّجت المرأة نفسها من غير كفؤ فلوليّها فسخ ذلك وكذلك إن قصَّرتْ في مهرها بأن تزوّجت بدون مهر مثلها، فلوليّها أن يخاصم. وقد كان أبو يوسف يقول: إن بضع المرأة إليها، وإنه ليس للولي أن يعترض عليها في نقصان ما تزوجت عليه عن مهر مثلها ثم رجع إلى قول محمد. إنه لا نكاح إلا بولي.
(1) أي نكحت من كفؤ.
(2) أي من مهر مثلها.(2/481)
مِنْ أَهْلِهَا. إِنَّهُ لَيْسَ بوَلِيّ، وَقَدْ أَجَازَ (1) نِكَاحَهُ (2) لأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ لا تُقَصِّر (3) بِنَفْسِهَا فَإِذَا فَعَلَتْ هِيَ ذَلِكَ جَازَ (4) .
14 - (بَابُ الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ وَلا يَفْرِضُ (5) لَهَا صَدَاقًا)
542 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، أَنَّ بِنْتًا لعُبَيْد اللَّهِ (6) بْنِ عُمَرَ - وأُمها (7) ابْنَةُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ كَانَتْ تَحْتَ ابْنٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - فَمَاتَ (8) ، وَلَمْ يُسَمِّ (9) لَهَا صَدَاقاً، فَقَامَتْ أمها (10) تطلُبُ (11) صَدَاقها؟
__________
(1) أي عمر.
(2) أي تزويج ذي الرأي.
(3) من اعتبار الكفاءة وتمام المهر.
(4) لحصول المقصود.
(5) أي لا يقدّر المهر، ولا يسمّيه عند العقد.
(6) قوله: لعبيد الله، هو أخو عبد الله بن عمر بن الخطاب، وُلد في العهد النبوي، وقُتل بصفّين مع معاوية سنة 37، وزيد بن الخطاب أخو عمر بن الخطاب أسلم قبله واستشهد قبله قاله الزرقاني.
(7) الجملة حالية معترضة.
(8) وفي رواية يحيى عن مالك: ولم يدخل بها.
(9) أي عند النكاح.
(10) وهي ابنة زيد بن الخطاب أخي عمر بن الخطاب.
(11) أي وكالة عن بنتها عن أبي زوجها.(2/482)
فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَيْسَ لَهَا صَدَاق وَلَوْ كَانَ (1) لَهَا صَدَاق لَم نُمْسِكْه وَلَمْ نَظلمها. وَأَبَتْ أَنْ تَقْبَلَ ذَلِكَ (2) فَجَعَلُوا بَيْنَهُمْ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ (3) فقَضَى (4) أَنْ لا صَدَاق لَهَا، ولها الميراث.
__________
(1) أي لو كانت مستحقة لصداق شرعاً لأعطيته.
(2) أي قول ابن عمر.
(3) أي جعلوا زيداً حَكَماً لفصل هذه القضية.
(4) قوله: فقضى أن لا صداق لها (والمرجح عند المالكية أن لا صداق لها ولها الميراث واجب في مال المتوفى، ولهم قول آخر: إنه يجب الصداق بالموت، قال الزرقاني في شرحه 4/129: وهو قول شاذ عندنا وقال الموفق: لو مات أحدهما قبل الإِصابة وقبل الفرض ورثه صاحبه وكان لها مهر نسائها، أما الميراث فلا خلاف فيه فإن الله تبارك وتعالى فرض لكل واحد من الزوجين فرضاً، وعقد الزوجية ههنا صحيح ثابت فورث به لدخوله في عموم النص، وأما الصداق فإنه يكمل لها مهر نسائها في الصحيح من المذاهب، وإليه ذهب ابن مسعود وابن شبرمة وابن أبي ليلى والثوري وإسحاق، وروي عن عليّ وابن عباس وابن عمر والزهري وربيعة ومالك والأوزاعي: لا مهر لها، وقال أبو حنيفة: كقولنا في المسلمة، وكقولهم في الذميّة، وعن أحمد رواية أخرى: لا يكمل ويَنتصف، وللشافعي قولان كالروايتين. المعني 6/721) ، هكذا أخرجه الشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي أيضاً، وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي عن علي بن أبي طالب أنه قال في المتوفَّى عنها زوجها (في الأصل: "زوجة"، وهو تحريف) ولم يفرض لها صداقاً: إن لها الميراث وعليها العدة ولا صداق لها، قال: ولا يقبل قول أعرابي من أشجع على كتاب الله. ويخالفه ما أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي عن علقمة أن قوماً أتوا ابن مسعود، فقالوا: إنّ رجلاً منّا تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقاً، ولم يجمعها إليه حتى مات، فقال: ما سئلتُ عن شيء منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ من هذه، فأْتُوا غيري، فاختلفوا إليه فيها شهراً، ثم قالوا له في آخر ذلك: من(2/483)
قال محمد: ولسنا (1)
__________
نسأل إذا لم نسألك وأنت آخر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البلد، ولا نجد غيرك؟ فقال: سأقول فيها بجهد رأيي، فإن كان صواباً فمن الله وحده لا شريك له وإن كان خطأ فمني، والله ورسوله بريئان، أرى أن أجعل لها صَدَاقاً كصَدَاق نسائها، لا وكس ولا شطط ولها الميراث، وعليها العدة أربعة أشهر وعشراً، قال: وذلك بسمع من ناس من أشجع، فقاموا منهم معقل بن سنان، فقالوا: نشهد أنك قضيتَ بمثل الذي قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة منا يقال لها: بروع بنت(2/484)
نَأْخُذُ بِهَذَا (1) .
543 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، عَنْ حمَّاد، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ: أَنَّ رَجُلا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يفْرِض (2) لَهَا صَدَاقاً، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: لَهَا صَدَاق مِثْلِهَا مِنْ نِسَائِهَا، لا وَكْسَ (3) وَلا شَطَطَ، فَلَمَّا قَضَى قَالَ فَإِنْ (4) يَكُنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ (5) وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي (6) وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ، فَقَالَ رَجُلٌ (7) من
__________
واشق، قال: ما رُئي عبد الله فَرِح بشيء ما فرح يومئذٍ إلا بإسلامه، ثم قال: اللَّهم إن كان صواباً فمنك وحدك لا شريك لك. كذا أورده السيوطي في "الدر المنثور".
(1) قوله: ولسنا نأخذ بهذا، لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافه، ولا حجة بعد قول الرسول بقول غيره، وكل أحد يؤخد من قوله ويُترك إلا قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال محيي السنّة البغوي في " معالم التنزيل" عند قوله تعالى: {لاجُناح عليكم إن طَلَّقْتُم النساء ما لم تمسّوهن أو تفرضوا لهن فريضة} (سورة البقرة: الآية 236) : من حكم الآية أنّ من تزوّج امرأةً بالغةً برضاها على غير مهر يصح النكاح، وللمرأة مطالبة بأن يفرض لها صداقاً، فإن دخل بها قبل الفرض فلها مهر مثلها، وإن طلّقها قبل الفرض والدخول فلها المتعة، وإن مات أحدهما قبل الدخول والفرض فاختلف أهل العلم في أنها هل تستحق المهر أم لا؟ فذهب جماعة إلى أن لا مهر لها، وهو قول علي وزيد وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس كما لو طلّقها قبل الدخول والفرض. وذهب قوم إلى أنّ لها المهر لأن الموت كالدخول في تقرير المسمَّى، فكذلك في تقرير مهر المثل إذا لم يكن في العقد مسمى، وهو قول الثوري وأصحاب الرأي، واحتجوا بما روي عن ابن مسعود أنه سئل عن رجل تزوّج امرأة ولم يفرض لها صداقاً ولم يدخل بها حتى مات فقال ابن مسعود: لها صداق نسائها، لا وكس ولا شطط، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله في بروع بنت واشق امرأةٍ منا مثل ما قضيت. قال الشافعي: فإن ثبت حديث بروع فلا حجة في قول أحد دون النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يثبت فلا مهر لها. انتهى. وقال علي القاري في "سند الأنام شرح مسند الإمام": قال شيخنا رئيس المفسرين في زمانه الشيخ عطية السلمي المكي الشافعي: فقد ثبت حديثها أخرجه أبو داود والترمذي وصححه وأحمد والحاكم وصححه، وابن أبي شيبة وعبد الرزاق. ولم يتفرد به معقل بن سنان بل قال هو وجماعة من أشجع لابن مسعود: نشهد أنك قضيتَ بما قضى به رسول الله. وهو أحد قولي الشافعي، قاله قياساً، ولو ثبت عنده الحديث لما خالف فيه، وهو المرجّح عند النووي، والقول الثاني رجّحه الرافعي.
(1) أي بحكومة زيد بعدم الصداق، وأما كون الميراث لها فمجمع عليه.
(2) بكسر الراء أي لم يقدّر.
(3) أي لا نقصان ولا زيادة.
(4) قوله: فإن يكن، فيه إشارة إلى أن المجتهد يخطئ ويصيب، وأن الخطألا يُنسب إلى الله تعالى تأدُّباً.
(5) أي من توفيقه.
(6) أي من نفسي ومن وسوسة الشيطان.
(7) قوله: فقال رجل من جلسائه ... إلى آخره، قال الرافعي من علماء(2/485)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الشافعية في "شرح الوجيز": في راوي هذا الحديث اضطراب قيل عن معقل بن سنان، وقيل عن رجل من بني أشجع، أو ناس من أشجع، وقيل: غير ذلك، وصححه بعض أصحاب الحديث، وقالوا: إن الاختلاف في اسم راويه لا يضرّ لأن الصحابة كلهم عدول. انتهى. قال الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديثه": هذا الذي ذكره الأصل فيه ما ذكره الشافعي في "الأم" قال: قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي أنه قضى في بروع بنت واشق، وقد نكحت بغير مهر فمات زوجها، فقضى بمهر نسائها، وقضى لها بالميراث، فإن كان ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أولى الأمور بنا، ولا حجة في قول أحد دون النبي صلى الله عليه وسلم وإن كثر، ولا شيء في قوله إلا طاعة الله بالتسليم له ولم أحفظ عنه من وجه يثبت مثله، مرة يقال عن معقل بن سنان، ومرة عن معقل بن يسار، ومرة عن بعض أشجع لا يسمَّى، وقال البيهقي: قد سُمِّي فيه معقل بن سنان، هو صحابي مشهور والاختلاف فيه لا يضر، فإن جميع الروايات فيه صحيحة وفي بعضها ما يدل على أن جماعة من أشجع شهدوا بذلك. وقال ابن أبي حاتم: قال أبو زرعة: الذي قال معقل بن سنان أصح، وروى الحاكم في "المستدرك"، قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن يعقوب بن الأخرم يقول: سمعت الحسن بن سفيان يقول: سمعت حرملة بن يحيى قال: سمعت الشافعي يقول: إنْ صح حديث بروع قلتُ به، قال الحاكم: فقال شيخنا أبو عبد الله: لو حضرت الشافعي لقمت على رؤوس الناس، وقلت قد صح الحديث فَقُل به. انتهى. وفي "فتح القدير": لنا أن سائلاً سأل عبد الله بن مسعود في صورة موت الرجل فقال بعد شهر أقول فيه بنفسي فإن يك صواباً فمن الله ورسوله وإن يكُ خطأً فمن ابن أمّ عبد. وفي رواية ومن الشيطان والله ورسوله بريئان، أرى لها مهر مثل نسائها، لاوكس ولا شطط، فقال رجل يقال له معقل بن سنان وأبو الجراح حامل راية الأشجعيِّين فقالا: نشهد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في امرأة منا يُقال لها برووع بنت واشق الأشجعية بمثل قضائك هذا، فسُرّ ابن مسعود سروراً لم يُسَرّ مثله قط بعد إسلامه. هكذا رواه أصحابنا، وروى الترمذي والنسائي وأبو داود(2/486)
جُلَسَائِهِ: (1) بَلَغَنا (2) أَنَّهُ مَعْقِل (3) بْنُ سِنَانٍ الأَشْجَعِيُّ، وكان من
__________
هذا الحديث بلفظ أخصر وهو أن ابن مسعود قال في رجل تزوج امرأة فمات عنها، ولم يدخل بها ولم يفرض لها الصداق: إن لها الصداق كاملاً ولها الميراث، وعليها العدة، فقال: معقل بن سنان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق بمثله، هذا اللفظ لأبي داود وله روايات أخر بألفاظ، قال البيهقي: جميع روايات هذا الحديث وأسانيدها صحيحة، والذي رُوي من ردّ علي (أما الذي رُوي عن عليّ رضي الله عنه فلم يصح ولو صح ما أثّر فيه لأن الرواة قد ذكروا عن عمر رضي الله عنه أنه ردّ حديث فاطمة بنت قيس وهو مشهور. والحديث مذكور في "مسند أبي حنيفة" وبسط في هامشه تخريجه، وقال: رواه الحاكم من وجه صححه، على شرط مسلم ومن وجه على شرط الشيخين، ورواه ابن حبان في صحيحه وحكى الزرقاني عن الإمام مالك بعد ذكر هذا الحديث، قال مالك: ليس عليه العمل. أوجز المسالك 9/305) رضي الله عنه فلمذهب تفرد به، وهو تحليف الرواي إلا أبا بكر الصديق، ولم ير هذا الرجل ليحلّفه، لكنه لم يصح عنه ذلك، وممن أنكر ثبوته عنه الحافظ المنذري. انتهى.
(1) أي من شركاء مجلس ابن مسعود.
(2) هذا كلام محمد بيان للرجل المبهم.
(3) قوله: إنه معقل، بكسر القاف وفتح الميم بن سنان بكسر السين، وبِروع بكسر الموحدة على المشهور وقيل بفتحها وبسكون الراء وفتح الواو بعدها عين مهملة، وقال بعض اللغويين: كسر الباء خطأ، وقيل: رواه المحدثون بالكسر ولا سبيل إلى دفع الرواية، وأسماء الأعلام لا مجال للقياس فيها، كذا في "شرح القاري" وفي "الاستيعاب": بروع بنت واشق الأشجعية مات عنها زوجها هلال بن مرة الأشجعي، ولم يفرض صداقاً، فقضى رسول الله بمثل صداق نسائها. روى حديثها أبو سنان معقل وجراح الأشجعيان وناس من أشجع، وشهدوا بذلك عند ابن مسعود. وفيه أيضاً: معقل بن سنان الأشجعي يُكنى أبا عبد الرحمن، وقيل(2/487)
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَضَيْتَ - وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ (1) - بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بِرَوْعَ (2) بنتِ وَاشق الأشْجَعِيّة، قَالَ (3) : فَفَرِحَ عَبْدُ اللَّهِ فَرْحَة (4) مَا فَرِحَ قَبْلَهَا مِثْلَهَا لِمُوَافَقَةِ قَوْلِهِ قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال مسْرُوق ابن الأجْدَع: لا يَكُونُ (5) مِيرَاثٌ حَتَّى يَكُونَ قَبْلَهُ صَدَاق.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
15 - (بَابُ الْمَرْأَةِ تُزَوَّجُ فِي عِدّتها (6))
544 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شهاب، عن سعيد بن
__________
أبا زيد، وقيل أبا سنان، كان فاضلاً نقياً شابّاً، شهد فتح مكة ونزل الكوفة، ثم أتى المدينة وقُتل يوم الحرّة.
(1) هو الرب تبارك وتعالى وهي جملة اعتراضية تأكيدية.
(2) قوله: بروع، اسم زوج هلال بن مرة، ذكره ابن مندة في "معرفة الصحابة" وهو في مسند أحمد أيضاً ذكره ابن حجر في" التلخيص (في الأصل "تلخيص"، وهو خطأ) الحبير".
(3) أي ابراهيم النخعي.
(4) التنوين للتعظيم.
(5) قوله: لا يكون، أي الميراث. يتفرع على الصداق المتفرع على النكاح حقيقة أو حكماً، والميراث متفق عليه، فينبغي أن يكون الصداق كذلك، كذا قال القاري.
(6) من زوج آخر.(2/488)
المسيَّب وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَار، أَنَّهُمَا حَدَّثا: (1) أَنَّ ابْنَةَ (2) طَلْحة بْنِ عُبَيْد اللَّهِ كَانَتْ تَحْتَ رُشَيْد الثَّقَفِيّ، فَطَلَّقَهَا، فَنَكَحَتْ فِي عِدَّتها (3) أَبَا سَعِيدِ بنَ مُنَبِّهٍ أَوْ أَبَا الجُلاس بْنَ مُنَيَّة فضربها (4) عمر، وضرب (5)
__________
(1) أي الزهري.
(2) قوله: أن ابنة طلحة بن عبيد الله، هو أحد العشرة المبشّرة كانت تحت رُشيد الثقفي نسبة إلى ثقيف قبيلة، كذا قال القاري في "شرحه". وهو يفيد أن التي كانت تحت رشيد هي بنت طلحة بن عبيد الله، وهكذا في نسخ متعددة من الكتاب، وفي "موطأ يحيى" وشرحه للزرقاني: مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيَّب وسليمان بن يَسَار أن طليحة بنت عُبيد الله الأسدية لها إدراك. قال أبو عمر (في الأصل أبو عمرو، وهو تحريف) : كذا وقع الأسدية في بعض نسخ "الموطأ" في رواية يحيى وهو خطأ وجهل ولا أعلم أحداً قاله، وإنما هي تيمية أخت طلحة بن عبيد الله أحد العشرة التيمي، كانت تحت رُشيد - بضم الراء وفتح الشين - الثقفي الطائفي، ثم المدني، مخضرم، فطلَّقها إلى آخره. ويوافقه ما في "استيعاب ابن عبد البَرّ" في فصل الصحابيات: طليحة بنت عُبيد الله التي كانت تحت رُشيد الثقفي، فطلَّقها ونكحت في عدَّتها، ذكر الليث عن ابن شهاب أنها ابنة عبيد الله. انتهى. فظهر أن الصواب في عبارة الكتاب أن طليحة ابنة عبيد الله كانت تحت رشيد الثقفي ... إلى آخره.
(3) قوله: في عدّتها، أي قبل انقضائها. أبا سعيد بن مُنَبِّه بضم ميم وفتح نون وتشديد موحدة فهاء. أو أبا الجُلاس كغراب، ابن عمرو بن سويد صحابيان على ما في "القاموس" بن مُنَيَّة - بضم ميم وفتح نون وتحتية مشددة فتاء تأنيث - والشك من أحد الرواة، كذا قال القاري.
(4) تعزيراً وتأديباً.
(5) قوله: وضرب، لأنه ارتكب ما نهى اللَّهُ عنه في كتابه حيث قال: {ولا تَعزموا(2/489)
زوجَها بالمِخْفَقَة (1) ضَرَباتٍ (2) ، وفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ عُمَرُ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ فِي عِدَّتِهَا - وَإِنْ كَانَ زوجُها الَّذِي تَزَوَّجَهَا (3) لَمْ يَدْخُلْ بِهَا (4) - فُرِّق بينهما، واعتدَّتْ بقية عِدَّتِها من (5) الأول،
__________
عُقْدة النكاح حتى يبلغ الكتابُ أجلَه} (سورة البقرة: الآية 235) قال ابن عباس: أي لا تنكحوا حتى تنقضي العدة. أخرجه عنه ابن جرير وابن المنذر، وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن مجاهد مثله، نعم قد أجاز الله بالتعريض وإظهار قصد النكاح في أيام العدّة بقوله: {ولا جناح عليكم فيما عرَّضتم به من خِطْبة النساء أو أكننتُم في أنفسكم. عَلِمَ اللَّهُ أنّكم ستذكرونهُنَّ ولكن لا تواعِدُوهنَّ سرّاً إلا أن يقولوا قولاً معروفاً} (سورة البقرة: الآية 235) قال القاسم: هو أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدّتها إنكِ عليّ لكريمة، وإني فيكِ راغب ونحو هذا، أخرجه مالك والشافعي والبيهقي. وأخرج وكيع والفِرْيابي وسعيد بن منصور وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس قال: التعريض أن يقول: إني أريد التزوّج وإني لأحب امرأة، ذكره السيوطي.
(1) قوله: بالمِخْفَقَة، بكسر الميم وإسكان الخاء المعجمة وفتح الفاء والقاف، هكذا ضبط بالقلم في نسخ قديمة، قال الجوهري: هي الدِّرَّة التي يضرب بها، وفي "القاموس" كمِكْنَسَة أي على وزنها، قاله الزرقاني.
(2) أي مرات عديدة.
(3) هي في عدتها.
(4) أي لم يجامعها.
(5) قوله: من الأول، أي العدة الباقية من عدّة الزوج الأول، وأما الزوج الثاني فلا عدة من تفريقه لأنه لم يدخل بها وغير المدخولة لا عدّة لها.(2/490)
ثُمَّ كَانَ (1) خَاطِبًا مِنَ الخُطّاب، وَإِنْ كَانَ (2) قَدْ دَخَلَ بِهَا فُرِّق بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اعتدَّت بَقِيَّةَ عِدَّتِها مِنَ الآخِر (3) ثُمَّ لَمْ يَنْكِحْهَا (4) أَبَدًا. قَالَ (5) سَعِيدُ بْنُ المسيَّب: وَلَهَا مَهْرُهَا (6) بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
545 - أَخْبَرَنَا (7) الْحَسَنُ بْنُ عُمَارة،
__________
(1) قوله: ثم كان خاطباً من الخُطّاب، أي ثم كان الزوج الثاني الذي فُرِّق بينه وبينها خاطباً من الخُطّاب، إن شاء يخطب لها ويعقد عقداً جديداً. وفيه إشارة إلى أنه ليس أحقَّ بها من غيره، بل هو خاطب من الخُطّاب، فتنكح من شاءت.
(2) أي الزوج الثاني.
(3) بكسر الخاء يعني المتأخر.
(4) قوله: ثم لم ينكحها أبداً، لتأبد التحريم (قال الباجي: فالمشهور من المذهب أنّ التحريم يتأبّد، وبه قال ابن حنبل، وروى الشيخ أبو القاسم في تفريعه فيه روايتين: إحداهما أن تحريمه يتأبد، على ما قدّمناه، والثانية: أنه زانٍ، وعليه الحدّ ولا يُلحق به الولد، وله أن يتزوجها إذا انقضت عدّتها، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. المنتقى 3/317) بالوطء في العدة زجراً له وتأديباً وسياسةً في حقهما.
(5) في "موطأ يحيى": قال مالك: قال سعيد بن المسيب ... إلى آخره.
(6) ولا مهر لها في صورة عدم الوطء.
(7) قوله: أخبرنا الحسن، هو الحسن بن عُمارة - بالضم - البجلي الكوفي(2/491)
عَنِ الحَكَم (1) بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: رَجَعَ (2) عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الَّتِي تتزوَّج (3) فِي عِدَّتِها إِلَى قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَذَلِكَ (4) أَنَّ عُمَرَ قَالَ: إِذَا دَخَلَ (5) بها فُرِّق بينَهُما ولم يجتمعا أَبَداً،
__________
أبو محمد قاضي بغداد، روى عن الزهري والحكم بن عتيبة وأبي إسحاق السَّبيعي وغيرهم، وعنه السفيانان وجماعة، وثقه عيسى بن يونس، وقال: شيخ صالح، لكن جرَّحه كثير: منهم النسائي وابن معين وابن المديني وأحمد وشعبة والدارقطني والساجي والجوزجاني وغيرهم بأنه متروك أو ساقط أو لا يُحتج به أو منكر الحديث ونحو ذلك، وقال النضر عن شعبة: أفادني الحسن بن عمارة عن الحكم أحاديث فلم يكن لها أصل، مات سنة 153، كذا في "تهذيب التهذيب" وغيره.
(1) قوله: عن الحكم بن عُيَيْنة، هكذا في النسخ الحاضرة والصحيح على ما في "مشتبه النسبة" و "تهذيب التهذيب" و "تقريبه" وغيرها أنه الحَكَم - بفتحتين - بن عُتَيْبة - بضم العين وفتح التاء المثناة الفوقية وبعدها ياء تحتانية مثناة ثم باء موحدة - أبو محمد الكندي مولاهم الكوفي، روى عن جمع من الصحابة والتابعين، وثَّقه ابن عيينة وابن مهدي وأحمد ويحيى بن سعيد والعجلي وابن سعد وغيرهم، وقال البخاري في "التاريخ الكبير": قال القطان: قال شعبة: الحكم عن مجاهد كتاب إلاَّ ما قال سمعت، وقال ابن حبان في "الثقات": كان يدلِّس، مات سنة 113 أو 114 أو بعده بسنة.
(2) عن قوله السابق.
(3) بصيغة المجهول والمعروف.
(4) بيان للرجوع (أخرج البيهقي في "سننه" بطرق عديدة رجوع عمر رضي الله عنه إلى قول عليّ رضي الله عنه. انظر الأوجز 9/361) .
(5) الزوج الثاني.(2/492)
وأخذ (1) صَدَاقها، فجعل في بيت المال فقام عَلِيٌّ كرَّم اللَّهُ وَجْهَهُ: لَهَا صَدَاقها بِمَا استحلَّ (2) مِنْ فَرْجِهَا، فَإِذَا انقضتْ عِدَّتُها مِنَ الأَوَّلِ تَزَوَّجَها (3) الآخَرُ إِنْ شاءَ. فَرَجِعَ عُمَرُ إِلَى قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
546 - أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ (4) ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (5) بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ: أنَّ امْرَأَةً هَلَكَ (6) عَنْهَا زَوْجُهَا، فاعتدَّت أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، ثُمَّ تزوَّجَتْ حِينَ حلَّت (7) فَمَكَثَتْ (8) عِنْدَ زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَنِصْفًا، ثُمَّ ولدتْ وَلَدًا تامّاً (9) ،
__________
(1) أي أخذ عمر صَدَاقها وأدخله في بيت المال زجراً لحرمانها.
(2) أي استمتع ببُضْعها.
(3) قوله: تزوجها الآخر إن شاء، ولا عِدَّة ثانية بالنسبة إليه، فإن أراد ثالث أن يتزوجها فلا يجوز حتى تخرج من عدَّة الثاني أيضاً، كذا قال القاري.
(4) ابن الحارث التيمي.
(5) لم أقف على تعيُّنه وحاله إلى الآن ولعل الله يُحدث بعد ذلك أمراً (هو عبد الله بن عبد الله بن أبي أمية انتسب إلى جده فأسلم مع ابيه، هذا هو المرجّح عند شيخنا، انظر الأوجز 12/198) .
(6) أي مات.
(7) أي خرجت من العدة.
(8) أي أقامت ولبثت عند الثاني.
(9) أي غير ناقص الخِلقة.(2/493)
فَجَاءَ زوجُها (1) إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَدَعَا عمرُ نِسَاءً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ قدَمَاء (2) ، فسألهنَّ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ مِنْهُنَّ: أَنَا أُخْبِرُكَ (3) ، أَمَّا هَذِهِ الْمَرْأَةُ هَلَكَ زَوْجُهَا حِينَ حَمَلَتْ، فَأُهْرِيقَتِ الدِّمَاءُ (4) فَحَشَفَ (5) ولدُها فِي بَطْنِهَا (6) ، فَلَمَّا أَصَابَهَا (7) زوجُها الَّذِي نَكَحَتْهُ وَأَصَابَ الولدَ (8) الماءُ (9) تحرَّك الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا، وكَبِر فصدَّقها عُمَرُ بِذَلِكَ وفرَّق بَيْنَهُمَا (10) ، وَقَالَ عُمَرُ: أمَا (11) إِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنِي عَنْهُمَا إلاَّ خَيْرًا (12) ، وَأَلْحَقَ (13) الولدَ بالأوَّل.
قَالَ محمدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، الْوَلَدُ وَلَدُ الأوَّل، لأنها جاءت به عند
__________
(1) مستفتياً عما في الباب.
(2) أي نساءً عارفات عاقلات.
(3) أي بحقيقة الواقعة.
(4) أي دماء الحيض أو غيره.
(5) أي يبس لعدم وصول غذائه وهو الدم.
(6) فلم يتحرك ولم يتبيَّنْ حملُها.
(7) أي وطيها.
(8) مفعول مقدَّم.
(9) أي المني.
(10) لوقوع العقد في أثناء العدَّة لأن عِدَّة الحامل وضع الحمل.
(11) بالتخفيف حرف تنبيه.
(12) أي صلاح وديانة ولو بلغني شرٌّ لأقمت التعزيز.
(13) أي أثبت نَسَبَه من الزوج الأول.(2/494)
الآخَرِ (1) لأقلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَلا تَلِدُ الْمَرْأَةُ وَلَدًا تامَّاً لأقلِّ مِنْ (2) ستَّة أَشْهُرٍ، فَهُوَ ابْنُ الأَوَّلِ، ويفرَّق بَيْنَهُمَا (3) وَبَيْنَ الآخَرِ، وَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا استَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا: الأقلُّ مِمَّا سُمِّي (4) لَهَا وَمِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا. وَهُوَ قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
16 - (باب العزل (5))
547 - أخبرنا مالك،
__________
(1) بفتح الخاء والكسر.
(2) فإن أقلّ مدة الحمل ستة أشهر بالنص.
(3) سواء دخل بها أو لم يدخل.
(4) إن سُمِّي شيء، وإلاَّ فمهر المثل.
(5) هو أن يجامع ولا يُنزل في داخل الفرج، بل يُخرج الذَّكَر قبل الإِنزال. قوله: باب العزل، قد اختُلف فيه فأباحه جابر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وزيد بن ثابت وابن مسعود، ومنعه ابن عمر وقال: لو علمت أنَّ أحداً من ولدي يعزل لنكَّلتُه، وقال: ضرب عمرُ على العزل بعضَ بَنِيه، وعند سعيد بن منصور عن ابن المسيَّب: أن عمر وعثمان كانا يُنكران العزل، وقال أبو أمامة: ما كنتُ أرى مسلماً يفعله، وعند أبي عَوَانة أنَّ علياً كان يكرهه، ونَقَل ابن عبد البر وابن هبيرة الإِجماع على أنه لا يَعزل عن الزوجة الحرَّة إلاَّ بإذنها، لأن الجماع من حقِّها، ولها المطالبة به، وليس الجماع المعروف إلاَّ ما لا يلحقه عزل، وتُعُقِّب بأن المعروف عند الشافعية أن المرأة لا حق لها في الجماع أصلاً، والمعوَّل عليه عند الحنفية أن حقَّها إنما هو في الوطئة الواحدة بعد العقد، يستقرُّ بها المهر. واختلفوا في علَّة النهي عن العزل، فقيل: لتفويت حقِّ المرأة، وقيل لمعاندة القدر، ويشهد للأول ما أخرجه أحمد وابن ماجه عن عمر مرفوعاً: نهى عن العزل عن الحرَّة إلاَّ بإذنها،(2/495)
أخبرنا سالم (1) أبو النَّضر (2) ، عن
__________
وفي إسناده ابن لَهيعة متكلَّم فيه، ويشهد للثاني ما أخرجه أحمد والبزار بإسناد حسن عن أنس جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن العزل، فقال: لو أنَّ الماء الذي يكون منه الولد أَهْرَقْتَه على صخرة لأخرج الله منها ولداً وليخلُقَنَّ اللَّهُ نفساً هو خالقها. وأخرج مسلم عن جابر: أن رجلاً أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية وهي خادمتنا وسانِيَتُنا في النخل وأنا أطوف عليها، وأكره أن تَحمل، فقال: اعزل عنها إن شئتَ فإنه سيأتيها ما قُدِّر لها. وفي الباب أخبارٌ كثيرة، كذا في "شرح مسند الإمام الأعظم" (انظر "تنسيق النظام في مسند الإِمام" للشيخ المحدث محمد حسن السنبهلي ص 134) لبعض المتبحِّرين، وفيه أيضاً قال الحافظ ابن حجر: ينتزع من حكم العزل حكم معالجة المرأة إسقاط النطفة قبل نفخ الروح، فمن قال بالمنع هناك ففي هذه أَوْلى، ومن قال بالجواز يمكنه أن يقول في هذه أيضاً بالجواز، ويمكنه أن يفرِّق بأنه أشدُّ لأن العزل لم يقع فيه تعاطي السبب، ومعالجة السِّقْط بعد السبب. انتهى. وقال ابن الهُمام في "فتح القدير": يباح الإِسقاط ما لم يتخلَّق، وفي "الخانية": لا أقول: إنه يُباح الإِسقاط مطلقاً فإنَّ المُحرم إذا كسر بيضَ الصيد يكون ضامنا لأنه أصل الصيد، فإذا كان هناك مع الجزاء إثم فلا أقلَّ أن يلحقها إثم ههنا إذا أسقطت من غير عذر. انتهى. وقال في "البحر": ينبغي الاعتماد عليه لأن له أصلاً صحيحاً يُقاس عليه، والظاهر أن هذه المسألة لم تُنقل عن أبي حنيفة صريحاً، لذا يعبرون بقالوا. انتهى. قال الحافظ ابن حجر: يلحق بهذه المسألة تعاطي المرأة ما يقطع الحَبَل من أصله، فقد أفتى بعض المتأخرين من الشافعية بالمنع، وهو مشكل على قولهم بإباحة العزل مطلقاً.
(1) ابن أبي أمية.
(2) مولى عمر بن عبيد الله القرشي.(2/496)
عامر (1) بن سعد بن أبي وقَّاص، عن أَبِيهِ أَنَّهُ (2) كَانَ يَعْزِل.
548 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (3) بْنِ أفْلَح مَوْلَى أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أُمِّ وَلَدِ أَبِي أَيُّوبَ: أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ كَانَ يَعْزِل.
549 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ضمْرَة بْنُ سَعِيدٍ الْمَازِنِيُّ، عَنِ الحجَّاج (4) بْنِ عَمرو بْنِ غَزِيَّة: أنَّه كَانَ جَالِسًا عِنْدَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ،
__________
(1) قوله: عن عامر بن سعد، ابن أبي وقاص الزهري المدني، وثَّقه ابن حبان، مات سنة 96 هـ، ويقال سنة 103، كذا في "إسعاف المبطأ".
(2) لأنه كان ممن يرى الرخصة فيه، قاله الزرقاني. وقال القاري: عن نسائه أو إمائه، والثاني هو الظاهر.
(3) قوله: عن عبد الرحمن بن أفلح، هكذا وجدنا في نسخ عديدة، وكذا في نسخة شرح القاري، وفي موطأ مالك برواية يحيى، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن ابن أبي أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري عن أمّ ولد لأبي أيوب ... إلخ. وقال شارحه الزرقاني: هو عمر - بضم العين - بن كثير بن أفلح المدني ثقة. انتهى. ويوافقه قول ابن حجر في "تقريب التهذيب": عمر بن كثير بن أفلح المدني مولى أبي أيوب ثقةً. انتهى. وقال السيوطي في "الإِسعاف": عمر بن كثير بن أفلح المدني مولى أبي أيوب عن ابن عمر وكعب ونافع وجماعة، وعنه ابن عون ويحيى الأنصاري وغيرهما وثقه النسائي. انتهى.
(4) قوله: عن الحجاج بن عَمرو (ذكره بعضهم من التابعين وهو من رواة الأربعة. انظر: الأوجز 10/268) ، بفتح العين، بن غَزِيَّة بفتح الغين المعجمة وكسر الزاء وتشديد التحتية، الأنصاري المازني المدني، شهد صفّين مع علي رضي الله عنه، كذا في "شرح الزرقاني".(2/497)
فجاءَه (1) ابْنُ قَهْد رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ (2) ، إِنَّ عِنْدِي جَوَاريَ، لَيْسَ نِسَائِي اللاتِي (3) كُنَّ بأعجبَ إلَيَّ منهنَّ، وَلَيْسَ كلُّهن (4) يُعْجِبُنِي أَنْ تَحمل مِنِّي، أَفَأَعْزِلُ (5) ؟ قَالَ: قَالَ: أَفتِهِ (6) يَا حَجَّاجُ، قَالَ: قُلْتُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، إِنَّمَا نَجْلِسُ (7) إِلَيْكَ لِنَتَعَلَّمَ
__________
(1) قوله: فجاءه ابن قَهد، بفتح القاف وسكون الهاء فدال مهملة على ما في "المغني" وقال: كذا جاء في "الموطأ" غير منسوب، وقيل: بفاء إذلا يُعرف بقاف إلاَّ قيس بن قهد، الصحابي رجل من أهل اليمن بدل عن ابن قهد، فقال أي ابن قهد - لزيد: يا أبا سعيد، إنَّ عندي جواريَ جمع جارية أي إماء ليس نسائي اللاتي كنَّ، أي عندي قبلهن. بأعجبَ، أي أحسن وأرغب إليَّ منهن، وليس كلهن، أي جميع نسائي أو إمائي - وهو الأظهر - يعجبني أن تحمل مني، كذا في "شرح القاري" وفي "شرح الزرقاني": ابن قَهد بفتح القاف ضبطه ابن الحذاء، وجوَّز أن يكون قيس بن قهد الصحابي قال في"التبصرة": وفيه بُعد، ولعل وجهه قوله رجل من اليمن، فإنَّ قيساً الصحابي من الأنصار، فيبعد أن يُقال فيه ذالك وإن كان أصل الأنصار من اليمن.
(2) هو كنية زيد بن ثابت.
(3) قوله: اللاتي كن، في نسخة " موطأ يحيى": أُكِنُّ قال الزرقاني في "شرحه" (3/229) : بضم الهمزة وكسر الكاف أي أضمُّ إليَّ.
(4) لأني أحتاج إلى بيع بعضهن ونحو ذلك.
(5) بهمزة الاستفهام.
(6) لما رأى فيه من قابلية الفتوى.
(7) يريد أنك أعلم مني فأنت أحق بالإِفتاء.(2/498)
مِنْكَ، قَالَ. أَفْتِهِ، قَالَ: قُلْتُ (1) : هُوَ حَرْثُكَ (2) إِنْ شئتَ عطَّشْتَهُ وإنْ شئتَ سقيتَه، قَالَ: وَقَدْ كُنْتُ أسْمع (3) ذَلِكَ مِنْ زَيْدٍ، فَقَالَ زيد: صَدَقَ (4) .
قال محمد: وبهذا (5) نأخذ
__________
(1) أي للسائل.
(2) قوله: هو حرثك، أي بضع إمائك موضع حرثك، فيجوز لك أن تسقيه الماء أو تعزله عن الماء، وكأنه أشار بإطلاق الحرث إلى أن جواز العزل مستنبطٌ من الكتاب فإنه تعالى قال في باب وطء النساء {نساؤكم حرث كم فأتُوا حرثكم أنَّى شئتم} (سورة البقرة: الآية 223) فسمّى بُضعَ المرأة حرثاً، ومن المعلوم أن الحرث يتخير فيه الإِنسان بين أن يسقيه وأن لا يسقيه، فكذلك بضع النساء، وبل: قيل: إن نزول "أنّى شئتم" أي كيف شئتم كان لبيان جواز العزل، فأخرج وكيع وابن أبي شيبة وابن منيع وعبد بن حُمَيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني والحاكم والضياء في "المختارة" عن زائدة بن عمير قال: سألتُ ابن عباس عن العزل، فقال: إنكم أكثرتم فإن كان قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، وإن لم يكن قال فيه شيئاً فأنا أقول فيه: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم فإن شئتم فاعزلوا وإن شئتم فلا تفعلوا، وهذا أحد الأقوال الأربعة التي ذُكرت في شأن نزول هذه الآية. وقد بسط السيوطي في "الدر المنثور" الكلام فيها.
(3) أي بهذا الحكم فأفتيت على وفقه.
(4) تصويباً لإِفتاء تلميذه واطمئناناً لقلب سائله.
(5) قوله: وبهذا نأخذ، وبه قال أحمد ومالك في المسألتين، وقال القاضي عياض: رأى بعض شيوخنا في زوجة الرجل المملوكة لغيره إذنها أيضاً مع إذن سيده(2/499)
لا نَرَى بِالْعَزْلِ بَأْسًا عَنِ الأَمَةِ (1) ، وَأَمَّا الحُرَّة فَلا يَنْبَغِي أَنْ يَعزِل عَنْهَا إلاَّ بِإِذْنٍ (2) ، وَإِذَا كَانَتِ الأَمَة زَوْجَةَ الرَّجُلِ فَلا يَنْبَغِي أَنْ يَعزِلَ عَنْهَا إلاَّ بِإِذْنٍ مَوْلاهَا. وهو قول أبي حنيفة رحمه الله.
__________
لحقِّ الزوجية، وقال الباجي: قيل: لا يعزل عنها إلاَّ بإذنها أيضاً. وعندي أن هذا صحيح فإنَّ لها بالعقد حقاً في الوطء. وذهب الشافعية إلى كراهة العزل مطلقاً ولهم قول آخر أيضاً.
(1) قوله: عن الأمة، أي عن أمته فإنها مملوكة بجميع أجزائها وحقوقها، وليس لها حق ورضاء معتبر شرعاً، وكثيراً ما يَكره الرجل النَّسل من الإماء بخلاف الحرة فإن لها حقاً معتبراً، وكذا إذا كان الزوج أمة رجل، فإن لمولاها حقاً معتبراً، فلا يجوز العزل إلاَّ بالإذن. وقد ورد الفرق بين الحرة والأمة مرفوعاً وموقوفاً، فأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أنه قال: تستأمر الحرة وتعزل عن الأمة، وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن ابن عباس أنه نهى عن عزل الحرَّة إلا بإذنها. وروى ابن أبي شيبة عنه أنه كان يعزل عن أمته. وأخرج البيهقي عن ابن عمر أنه قال: تعزل الأمة وتستأذن الحرة. وعن عمر مثله. وأخرج ابن ماجه عن عمر مرفوعاً نحوه، كذا ذكره ابن حجر في "التلخيص الحبير". وقال الطحاوي في "شرح معاني الآثار" بعد ما ذكر إباحة العزل عن الأمة لا عن الحرة إلاَّ بإذنها، وإنْ كانت لرجل زوجة مملوكة فأراد أن يعزل عنها فإن أبا حنيفة ومحمداً وأبا يوسف كانوا يقولون فيما، حدثني به محمد بن العباس عن علي بن معبد، عن محمد، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة الإذن في ذلك إلى مولى الأمة، وروي عن أبي يوسف فيما حدثني به ابن أبي عمر أنَّ حدثني محمد بن شجاع عن الحسن بن زياد أنه قال: الإِذن في ذلك إلى الأمة، قال ابن أبي عمران: هذا هو النظر على أصول ما بُني عليه هذا الباب لأنها لو أباحت زوجها تركَ جماعها كان ذلك في سعة ولم يكن لمولاها أن يأخذ زوجها به فكذا هذا.
(2) في نسخة: بإذنها.(2/500)
550 - أخبرنا مالك، أخبرنا ابن شهاب، عن سالم بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: مَا بالُ رجالٍ يَعْزِلُون عَنْ ولائِدهم (1) ؟ لا تَأْتِينِي ولِيدة فَيَعْتَرِفُ سيِّدُها أَنَّهُ قَدْ ألمَّ (2) بِهَا إلاَّ ألحقتُ بِهِ (3) وَلَدَهَا فَاعْتَزِلُوا (4) بعدُ أَوِ اتْرُكُوا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: إنَّما صَنَعَ (5) هَذَا (6) عمرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى التَّهْدِيدِ لِلنَّاسِ أنْ يُضَيِّعُوا ولائِدَهم، وهم (7) يطؤونهنَّ. قَدْ بَلَغَنَا أنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ، فَنَفَاهُ، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ فَحَمَلَتْ، فَقَالَ: اللَّهم لا تَلْحَقْ بآل (8) عمر
__________
(1) أي عن إِمائهم جمع، وليدة بمعنى الأمة.
(2) بتشديد الميم من الإلمام أي جامعها.
(3) أي نَسَبْتُه إليه وحكمتُ بأنه منه وإن لم يعترف به.
(4) في نسخة: فاعزلوا.
(5) قوله: إنما صنع ... إلخ، يعني لم يقصد به عمر حرمةَ العزل عن الأمة فإنه جائز عنده وعند غيره، ولا أنَّ كل ما تضعه الأمة الموطوءة من سيدها ملحَقٌ بسيدها، وإن لم يَدَّعِه ولم يعترف به، بل أراد به الزجر والتهديد كراهية أن يُضيّعوا ولائدهم بالعزل بدليل ما بلغ عن زيد بن ثابت أنه نفى ولد جارية موطوءة له من نفسه، فإنه يدل على جواز النفي بعد الوطء، وبدليل ما ثبت عن عمر نفسه نفي ولد جاريته الموطوءة.
(6) أي الحكم المذكور.
(7) جملة حالية.
(8) أي أولاده وأقاربه.(2/501)
مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، فَجَاءَتْ بِغُلامٍ أَسْوَدَ، فأقرَّت أنَّه مِنَ الرَّاعِي، فَانْتَفَى (1) مِنْهُ عُمَرُ. وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ إِذَا حصَّنها (2) وَلَمْ يَدَعْها تَخْرُجْ (3) ، فجاءَت بولدٍ لَمْ يَسَعْهُ (4) فِيمَا بَيْنَهُ (5) وَبَيْنَ رَبِّهِ عزَّ وَجَلَّ يَنْتَفِي مِنْهُ، فَبِهَذَا نَأْخُذُ.
551 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا نَافِعٌ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَتْ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الخطّاب: ما بال رجالٍ يطؤون ولائِدهم ثُمَّ يَدَعُونَهُنَّ (6) فيَخْرُجْنَ (7) ؟! وَاللَّهِ لا تَأْتِينِي (8) ولِيْدَةٌ فَيَعْتَرِفُ سيِّدُهَا أنْ قَدْ وَطِئَها إلاَّ ألحقتُ بِهِ ولَدَها فأرسلوهُنّ بعدُ (9) أَو أَمْسِكُوْهُنَّ.
__________
(1) أي تبرأ من أن يكون هو والداً له.
(2) أي حفظ المولى جاريته في بيته ولم يتركها تخرج.
(3) إلى محل يورث الشبهة.
(4) أي لم يجز.
(5) أي ديانةً لا قضاءً.
(6) أي يتركونهن.
(7) من بيوتهن إلى مواضع الشبهة.
(8) هذا حكم تهديدي لئلا يتركوا تحصين إمائهم موطوءات.
(9) أي بعد هذا الحكم إن شئتم أرسلتم وإن شئتم أمسكتم.(2/502)
(كِتَابُ الطَّلاقِ)
1 - (بَابُ (1) طَلاقِ السُّنَّةِ)
552 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقْرَأُ (2) : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ
__________
(1) قوله: باب طلاق السنَّة، أي الطلاق المسنون، ويقال له الطلاق السُّنِّي، والمراد بالمسنون ههنا المباح لأن الطلاق ليس عبادة في نفسها يُثبت له ثواباً، فمعنى المسنون ما ثبت على وجه لا يستوجب عقاباً. نعم يُثاب إذا وقعت له داعية إلى أن يطلِّقها عَقيب الجماع أو حائضاً أو ثلاث تطليقات، فمنع نفسه إلى الطريق الآخر والواحدة، لكن لا على الطلاق بل على كفِّ نفسه عن ذلك الإِيقاع. كذا أفاده ابن الهُمام. وقال القاري: لا يبعد أن يقال: السنَّة جاءت في اللغة بمعنى الحكم والأمر، فالمراد الطلاق الذي حكم الشارع وأمر أن يقع على وفقه أو السُّنِّي على معناه الشرعي. والطلاق وإن كان مباحاً في نفسه إلاَّ أنه إذا أوقعه على هذا الوجه يكون مثاباً.
(2) قوله: يقرأ، أي بدل: {يا أيها النبيُّ إذا طلَّقتم النساءَ فطلِّقوهنَّ لِعدَّتهن} (سورة الطلاق: الآية 1) ، وفي قراءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أخرجه مسلم: {في قُبُل عدَّتهن} (قال النووي: هذه قراءة ابن عباس وابن عمر وهي شاذة، لا تثبت قرآناً بالإِجماع ولا يكون لها حكم خبر الواحد عندنا وعند محقِّقي الأصوليين، والله أعلم. شرح النووي على صحيح مسلم 3/667، كتاب الطلاق، رقم الحديث 15) . فاستفاد منه أن الخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم خاصةً لكن المراد هو(2/503)
لقُبُل (1) عِدَّتِهنَّ} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: طَلاقُ (2) السُنَّة أَنْ يُطَلِّقَها لقُبُل عدَّتها طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ حِينَ تَطْهُرُ مِنْ حَيْضِهَا قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا (3) . وهو قول أبي حنيفة والعامَّة من فقهائنا.
553 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عُمَر أَنَّه طَلَّقَ (4) امرأته (5)
__________
ومن آمن به وأن اللام في قوله: {لعدتهن} متعلق بمحذوف نحو مستقبِلاً والغرض منه أن يطلِّق في كل طهر مرة، فإنه إذا طلَّق في طهر فقد استقبل العدة، وفيه إشارة إلى أن العدة ثلاثة قروء بمعنى الحيض، ومن قال: إنه الطهر قال معنى قوله: {لعدتهن} لوقت عدتهن أو لأول عدتهن.
(1) بضم القاف والباء وإسكان الباء أي استقبال عدتهن.
(2) قوله: طلاق السُّنَّة ... إلخ، بيان لما أفادته قراءة ابن عمر، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يستحبون أن يطلقها واحدة، ثم يتركها حتى تحيض ثلاث حيض. وأخرج الدارقطني من حديث معلى بن منصور، عن شعيب أن عطاء الخراساني حدثهم عن الحسن، عن ابن عمر أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها تطليقتين، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هكذا أمرك الله يا ابن عمر، السنَّة أن تستقبل الطهر، فتطلِّق لكل قرء.
(3) لئلا يكون عليها حرج من إحصاء العدة فإنه إن طلَّق بعد الجماع يشتبه العدة بالقروء أو بوضع الحمل.
(4) تطليقة واحدة كما في رواية مسلم.
(5) قوله: امرأته، هي آمِنة - بمد الهمزة وكسر الميم - بنت غِفار - بكسر(2/504)
وَهِيَ (1) حائِضٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فسألَ عُمرُ عَن ذلكَ (2) رسول اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم، فَقَالَ: مُرْه (3)
__________
الغين المعجمة وتخفيف الفاء الراء - أو بنت عمار، وفي مسند أحمد أن اسمها النوار فيمكن أن يكون اسمها آمنة ولقبها النوار، كذا قال ابن حجر.
(1) جملة حالية معترضة.
(2) أي عن حكم طلاقه.
(3) قوله: مُرْه فليراجعها (قال الزرقاني: الأمر للوجوب عند مالك وجماعة وصححه صاحب "الهداية": من الحنفية، والمذهب عند الأئمة الثلاثة وفي "المحلى": ندباً عند الشافعي وأحمد وبعض الحنفية ووجوباً عند مالك والبعض الآخر من الحنفية منهم صاحب "الهداية" ورجحه ابن الهُمام، قال: وهو ظاهر عبارة محمد بن الحسن في "المبسوط". أوجز المسالك 10/174) ، أمر استحباب عند جمع من الحنفية، قال العيني: وبه قال الشافعي وأحمد، وقال صاحب "الهداية": الأصح أن المراجعة واجب عملاً بحقيقة الأمر، ورفعاً للمعصية بالقدر الممكن. وفي الأمر بالمراجعة إفادة لزوم الطلاق في حالة الحيض وإن كان معصيةً وإلاَّ فلا معنى للرجعة، وهو قول جمهور العلماء: إن الطلاق في حالة الحيض واقع (وقال الموفق: إن طلَّقها للبدعة وهو أن يطلِّقها حائضاً أو في طهر أصابها فيه أثم ووقع طلاقه في قول عامة أهل العلم، قال ابن المنذر وابن عبد البر: لم يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال، وحكاه أبو نصر عن ابن عُلَيَّة وهشام بن الحكم والشيعة وحكاه في " المحلى" عن الظاهرية منهم ابن حزم والخوارج والروافض واختاره ابن تيمية وابن القيم، وقالوا: لا يقع طلاقه. أوجز المسالك 10/175 المغني 7/100) ، وإن كان خلاف السنَّة ومكروهاً. ولا يخالف في ذلك إلاَّ أهلُ البدع والجهل الذين قالوا: طلاقُ غيرُ السُّنَّة غير واقع، ورُوي ذلك عن بعض التابعين، وهو قول شاذّ لم يعرِّج عليه أحدٌ من العلماء. وقد سئل ابن عمر رضي الله تعالى عنه أيُعتدُّ بتلك الطلقة؟ قال: نعم، كذا قال ابن عبد البر.(2/505)
فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيض (1) ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا بَعْدُ، وَإِنْ شَاء طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا (2) فَتِلْكَ (3) الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ (4) أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ.
__________
(1) قوله: ثم تحيض ثم تطهر ... إلى آخره، هذا نصٌّ في أنه لا يطلقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي كان طلق فيها، بل في الطهر التالي للحيضة الأخرى وهو قول محمد وأبي يوسف ورواية عن أبي حنيفة، وبه قال الشافعي في المشهور عنه ومالك وأحمد، وذكر الطحاوي أنه يطلقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلق فيها، وهو رواية عن أبي حنيفة (وهو وجه للشافعية أيضاً. انظر بذل المجهود 10/248) ، وجه الأول: أن السنَّة أن يفصل بين كل طلاقين بحيضة كاملة، والفاصل ههنا بعض الحيضة، فتكمل بالثانية، ووجه الثاني: أن أثر الطلاق قد انعدم بالمراجعة، فكأنه لم يطلِّقها في الحيض. وقد ورد الأمران في قصة طلاق ابن عمر في الكتب الستة، كذا في "الهداية" وشرحها للعيني.
(2) أي يجامِعَها.
(3) قوله: فتلك العدة ... إلى آخره، استدل الشافعية ومن وافقهم بهذا اللفظ على أن عدَّة المطلقة هو ثلاثة أطهار، قالوا: لمّا أمر رسول الله صَلَى الله عليه وسلم أن يطَلِّقها في الطهر، وجعله العدة ونهاه أن يطلق في الحيض، وأخرجه من أن يكون عِدَّة ثبت بذلك أن الأقراء هي الأطهار، وأجاب عنه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" بأنه ليس المراد ههنا بالعدة المصطلحة الثابتة بالكتاب التي هي ثلاثة قروء بل عدَّة طلاق النساء أي وقته، وليس أنَّ ما يكون عدَّة تطلَّق لها النساء يجب أن يكون العدة التي تعتدُّ بها النساء، وقد جاءت العِدَّة لمعانٍ، وههنا حجة أخرى وهي أن عمر هو الذي خاطبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القول ولم يكن هذا القول عنده دليلاً على أن القرء في العدة هو الطهر، فإن مذهبه أن القرء هو الحيض.
(4) أي بقوله فطلِّقوهن لعدَّتهن.(2/506)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخُذ.
2 - (بَابُ طَلاقِ الحُرَّة (1) تَحْتَ الْعَبْدِ)
554 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيَّب أنَّ نُفَيْعاً (2) مكاتَب أمِّ سَلَمَةَ (3) كَانَتْ تَحْتَهُ امْرَأَةٌ حرَّة، فطلَّقها تَطْلِيقَتَيْنِ، فَاسْتَفْتَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ: فَقَالَ: حَرُمت (4) عَلَيْكَ.
__________
(1) أي الحرَّة إذا كانت زوجةً لعبد.
(2) بصيغة التصغير.
(3) زوجة النبي صلى الله عليه وسلم.
(4) أي حرمةً مغلَّظةً لا تحلُّ حتى تَنكح زوجاً غيره.
(1) عبد الله بن ذكوان.
(2) شكّ من الراوي.
(3) بفتح الدال والراء والجيم موضع بالمدينة قاله الزرقاني، وقال القاري: جمع درجة يريد درجة المسجد.
(4) في نسخة: فسألهما.
(5) أي استقبلاه بالجواب استعجالاً.(2/507)
555 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّناد (1) ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: أنَّ نُفَيْعاً كَانَ عَبْدًا لأمِّ سلمةَ أَوْ مُكَاتِبًا (2) ، وَكَانَتْ تَحْتَهُ امْرَأَةٌ حرَّة، فطلَّقها تَطْلِيقَتَيْنِ، فَأَمَرَهُ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ عُثْمَانَ فَيَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَقِيَهُ عِنْدَ الدَّرَج (3) وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَسَأَلَهُ (4) فَابْتَدَرَاهُ (5) جَمِيعًا فَقَالا: حَرُمتْ عَلَيْكَ، حَرُمتْ عَلَيْكَ.
556 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِذَا طلَّق الْعَبْدُ امرأتَه اثْنَتَيْنِ فَقَدْ حَرُمَتْ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، حرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً، وعِدَّة الحرَّة ثَلاثَةُ قُرُوءٍ (6) وعدَّة الأَمَةِ (7) حَيْضَتَانِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَدِ اخْتَلَفَ (8) النَّاسُ فِي هَذَا، فَأَمَّا ما عليه فقهاؤنا فإنهم (9) يقولون:
__________
(6) أي ثلاثة حيض.
(7) وإن كان زوجها حرّاً لأن العبرة في العدَّة للمرأة (هذا مما لا خلاف فيه، أوجز المسالك 10/208) .
(8) قوله: وقد اختلف الناس في هذا، أي في اعتبار عدد الطلاق هل هو بالرجال أم بالنساء؟ قال السروجي في "شرح الهداية": قال همام وقتادة ومجاهد والحسن البصري وابن سيرين وعكرمة ونافع وعبيدة السَّلْماني ومسروق وحماد بن أبي سليمان والحسن بن حَي والثوري والنخعي والشعبي: يطلق العبد الحرة ثلاثاً، وتعتدُّ بثلاثة حيض، ويطلق الحر الأمة ثنيتن، وتعتدُّ بحيضتين وعند الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد: يطلِّق الحر الأمة ثلاثاً، وتعتدُّ بحيضتين، ويطلِّق العبد الحرة ثنتين، وتعتدُّ بثلاث حيض، حرَّر ذلك الرافعي وصاحب الأنوار وابن حزم عنهم كذا في "البناية شرح الهداية" للعيني، وفيها أيضاً طلاق الأمة ثنتان حراً كان زوجها أو عبداً، وطلاق الحرة ثلاث حراً كان زوجها أو عبداً، وهو قول علي وابن مسعود رواه ابن حزم في "المحلّى"، وبه قال سفيان وأحمد وإسحاق، وقال الشافعي: عدد الطلاق معتبر بحال الرجال والعدة بالنساء، وبه قال مالك في "الموطأ".
(9) قوله: فإنهم يقولون ... إلخ، استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: طلاق الأمة ثنتان، وقرؤها حيضتان. وهو نصُّ في الباب، وقد رُوي من حديث عائشة وابن عمرو(2/508)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وابن عباس وأما حديث عائشة، فأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي عاصم، عن ابن جريج عن مظاهر بن أسلم، عن القاسم، عنها، قال أبو داود في رواية: هذا حديث مجهول، وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلاَّ من حديث مظاهر، ومظاهر لا يُعرف له غير هذا الحديث. ونقل الذهبي في "الميزان": تضعيف مظاهر (أجاب الشيخ في "البذل"10/269 عن ضعف مظاهر فارجع إليه) عن أبي عاصم النبيل ويحيى بن معين وأبي حاتم والبخاري، ونقل توثيقه عن ابن حبان، وقال الخطّابي في "معالم السنن": الحديث حجة لأهل العراق إن ثبت ضعفوه. انتهى. وأخرج الحاكم في "المستدرك" هذا الحديث بهذا السند وصححه، وأما حديث ابن عمر فأخرجه ابن ماجه في سننه، عن عمر بن شبيب، نا عبد الله بن عيسى، عن عطية، عن ابن عمر مرفوعاً نحوه، ورواه البزار في مسنده والطبراني في معجمه والدارقطني. وقال: تفرد به عمر بن شبيب وهو ضعيف لا يحتجُّ به، ثم أخرجه موقوفاً على ابن عمر من طريق سالم ونافع وقال: هو الصواب. وأما حديث ابن عباس فأخرجه الحاكم في "المستدرك" حيث قال بعد أن روى حديث عائشة المتقدم عن أبي عاصم بسنده، قال أبو عاصم: فذكرته لمظاهر، فقلت: حدثني كما حدثني به ابن جريج، فحدثني مظاهر عن القاسم، عن ابن عباس مرفوعاً: طلاق الأمة ثنتان، وقرؤها حيضتان، قال الحاكم: ومظاهر شيخ من أهل البصرة لم يذكره أحد من متقدِّمي مشايخنا بجرح. فإذا الحديث صحيح ولم يخرجاه، ثم قال: وقد روي عن ابن عباس ما يعارض هذا. ثم أخرج عن يحيى بن أبي كثير أن عمرو بن معتب أخبره أن أبا حسن مولى بني نوفل أخبره أنه استفتى ابن عباس عن مملوك تحته مملوكة فطلقها تطليقتين، ثم أعتقت بعد ذلك، هل يصلح له أن يخطبها؟ قال: نعم، قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أحاديث الباب ما أخرجه الدارقطني عن سلم بن سالم، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً: إذا كانت الأمة تحت الرجل فطلقها تطليقتين، ثم اشتراها لم تحلّ له حتى تنكح زوجاً غيره. وأعلَّه(2/509)
الطَّلاقُ بِالنِّسَاءِ والعِدَّة بهنَّ لأنَّ (1) اللَّهَ عزَّ وجلّ قال: {فطلَّقُوْهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} فَإِنَّمَا الطَّلاقُ للعِدَّة فَإِذَا كَانَتِ الحرَّة وَزَوْجُهَا عَبْدٌ فعِدَّتها ثَلاثَةُ قُرُوءٍ وَطَلاقُهَا ثَلاثَةُ (2) تَطْلِيقَاتٍ للعدَّة (3) كَمَا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَإِذَا كَانَ الْحُرُّ تَحْتَهُ الأَمَةُ (4) فعدَّتها حَيْضَتَانِ، وَطَلاقُهَا للعدَّة تَطْلِيقَتَانِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عزَّ وَجَلَّ.
557 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا (5) إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ المكِّي قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ يَقُولُ: قال علي بن أبي طالب:
__________
الدارقطني بسلم، وقال: كان ابن المبارك يكذبه، وأخرج الشافعي ومن طريقه البيهقي والدارقطني عن عمر بن الخطاب قال: ينكح العبد امرأتين وتطلق الأمة تطليقتين وتعتد الأمة حيضتين، كذا في "نصب الراية" للزيلعي.
(1) قوله: لأن الله ... إلخ، توضيحه أن الله تعالى قال: {فطلِّقوهن لعدتهن} فجعل الطلاق للعدة، ومن المعلوم أن العدة معتبرة بالنساء اتفاقاً، فكذلك الطلاق فإن كانت المرأة حرَّة سواء كان زوجها عبداً أو حرَّاً فعدتها ثلاثة قروء، فيكون طلاقها أيضاً ثلاثاً لكل طهر طلاق، وإن كانت أمة سواء كان زوجها حراً أو عبداً فعدتها حيضتان، فكذلك الطلاق، وهذا استنباط لطيف وتوجيه شريف.
(2) حسب عدد العدة.
(3) في كل قرء طلاق.
(4) في نسخة: أمة.
(5) قوله: أخبرنا إبراهيم بن يزيد (إبراهيم بن يزيد: هو الخوزي المكي مولى بني أمية، قال فيه أحمد: "متروك الحديث" وقال ابن معين: ليس بثقة وليس بشيء، وضعَّفه أبو زرعة وأبو حاتم وابن نمير. الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (ص 146، المجلد الأول، القسم الأول) ، الأموي المكي مولى عمر بن(2/510)
الطَّلاقُ (1) بِالنِّسَاءِ والعدَّة بهنَّ. وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
3 - (بَابُ مَا يُكره للمطلَّقة الْمَبْتُوتَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا مِنَ الْمَبِيتِ فِي غَيْرِ بَيْتِهَا)
558 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: لا تَبِيتُ الْمَبْتُوتَةُ (2) وَلا المتوفَّى عَنْهَا إلاَّ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (3) نأخذ. أما المتوفَّى عنها فإنها تَخرج
__________
عبد العزيز، روى عن طاوس وعطاء وأبي الزبير وغيرهم، وعنه وكيع وعبد الرزاق والثوري، قال ابن معين: ليس بثقة وليس بشيء، وقال أبو زرعة وأبو حاتم: منكر الحديث، وقال البخاري: سكتوا عنه، قال الدُّولابي: يعني تركوه، وقال النسائي: متروك، وقال ابن عدي: هو في عداد من يكتب حديثه، وإن كان قد نُسب إلى الضعف، توفي سنة 151، كذا في "تهذيب الكمال".
(1) أي عدده معتبر بهن.
(2) أي المطلقة بالطلاق البائن واحداً كان أو ثلاثاً.
(3) قوله: وبهذا نأخذ، أي بكون عدَّة المبتوتة، وكذا المطلَّقة الرجعية، والمتوفَّى عنها زوجها في بيت زوجها، أما المطلقة مبتوتة كانت أو رجعية فلا يجوز لها الخروج ليلاً ولا نهاراً، والمتوفّى عنها تخرج نهاراً. أما عدم جواز خروج المطلقة فلقوله تعالى: {ولا تُخْرِجُوْهُنَّ من بيوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلاَّ أن يأتينَ بفاحشةٍ مبيِّنة} (سورة الطَّلاق: الآية 1) ، والفاحشة نفس الخروج قاله النخعي، وقال ابن مسعود: هي الزنا فيخرجن لإِقامة الحد، وقال ابن عباس: هي نشوزها أو تكون بَذَيَّة اللسان. وأما(2/511)
بِالنَّهَارِ فِي حَوَائِجِهَا، وَلا تبيتُ إلاَّ فِي بَيْتِهَا، وأمَّا المُطَلَّقَةُ مَبْتُوتَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مبتوتةٍ (1) فَلا تَخْرُجُ لَيْلا وَلا نَهَارًا مَا دَامَتْ فِي عِدَّتها. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ والعامة من فقهائنا.
__________
خروج المتوفّى عنها نهاراً فلأنه لا نفقة لها، فتحتاج إلى الخروج نهاراً لطلب المعاش، ولا كذلك المطلقة لأن النفقة حاصلة لها من مال زوجها، كذا في "الهداية" وشرحها "البناية". وذكر في "البناية" أيضاً أن ممن أوجب على المتوفّى عنها البيتوتة في بيت زوجها عمر وعثمان وابن مسعود وابن عمر وأم سلمة وابن المسيب والقاسم والأَوْزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وأبو عبيدة. وجاء عن عليّ وعائشة وابن عباس وجابر أنها تعتدُّ حيث شاءت، وهو قول الحسن وعطاء والظاهرية. واستدل عليّ القاري على عدم خروجها بقوله تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْن منكم ويذرون أزواجاً وصيةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غيرَ إخراج} (سورة البقرة: الآية 240) فإنه دل على عدم خروجها من بيت زوجها، ولما نُسخ مدة الحول بأربعة أشهر وعشراً والوصية بقي عدم الخروج على حاله. وذكر الزرقاني أن الليث ومالكاً وجماعة قالوا بجواز خروج المطلقة أيضاً نهاراً لحديث جابر عند مسلم: طُلِّقت خالتي، فأرادت أن تجذَّ نخلها: فزجرها رجل أن تخرج (قال ابن رسلان: في الحديث دليل لمالك والشافعي وأحمد أن المعتدَّة تخرج لقضاء الحاجة، وإنما تلزم بالليل وسواء عند مالك رجعية كانت أو بائنة، قال الشافعي في الرجعية: لا تخرج ليلاً ولا نهاراً، وإنما تخرج نهاراً المبتوتة، وقال أبو حنيفة: ذلك في المتوفى عنها زوجها، وأما المطلقة فلا تخرج ليلاً ولا نهاراً. انتهى. قال صاحب "الهداية": لأن نفقتها على الزوج بخلاف المتوفى عنها إذ لا نفقة لها. انظر هامش بذل المجهود 11/56) . فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: بلى جُذّي نخلك فإنك عسى أن تصدَّقي أو تفعلي معروفاً. ويُجاب عنه بأنه واقعة حال لا عموم لها.
(1) هي المطلقة بالطلاق الرجعي.(2/512)
4 - (بَابُ الرَّجُلِ (1) يَأْذَنُ لِعَبْدِهِ فِي التَّزْوِيجِ هَلْ يَجُوزُ طَلاقُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ؟)
559 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ (2) يَقُولُ: مَنْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي أَنْ يَنْكِحَ (3) فَإِنَّهُ لا يَجُوزُ (4) لامْرَأَتِهِ طلاقٌ إِلا أَنْ يطلقَها الْعَبْدُ، فَأَمَّا (5) أَنْ يَأْخُذَ (6) الرَّجُلُ أمةَ غُلامِهِ، أَوْ أمةَ وليدتِه (7) فَلا جُنَاحَ (8) عَلَيْهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (9) نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ والعامة من فقهائنا.
__________
(1) قوله: الرجل، المراد به الشخص رجلاً كان أو امرأة، وكذا المراد بالمولى المالك.
(2) قوله: أنه كان يقول من أذن ... إلخ، في "موطأ يحيى": كان يقول من أذن لعبده أن ينكح فالطلاق بيده، لابيد غيره من الطلاق شيء ... إلخ.
(3) أي يتزوج.
(4) أي لا يقع عليها طلاق.
(5) إشارة إلى الفرق بين أمة العبد وزوجته.
(6) أي يتصرف فيها بالخدمة أو الوطء.
(7) أي جاريته.
(8) أي فلا إثم عليه لأن له أخذ مال رقيقه، بل ماله ماله.
(9) قوله: وبهذا نأخذ، لما ورد: الطلاق بيد من أخذ الساق، أخرجه الطبراني عن ابن عباس، وروى ابن ماجه والدارقطني عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله سيدي زوجني أمته وهو يريد أن يفرق بيني وبينها(2/513)
560 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عَبْدًا لِبَعْضِ (1) ثَقِيفٍ جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: أَنَّ سَيِّدِي أَنْكَحَنِي جَارِيَتَهُ فلانة (2) - وكان عمر يعرف الجارية (3) - وهو (4) يطأها فَأَرْسَلَ عُمَرُ (5) إِلَى الرَّجُلِ (6) ، فَقَالَ مَا فَعَلَتْ جاريتك (7) ؟ قال: هي عندي، قال: هل تطأها؟ فَأَشَارَ إِلَى بَعْضِ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ، فَقَالَ: لا، فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا وَاللَّهِ لَوِ اعترفتَ لجعلتُك نَكَالا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا ينبغي (8) إذا زوج الرجلُ جاريتَه
__________
فصعد النبي صلى الله عليه وسلّم المنبر، فقال: أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده (أمته) (في الأصل: "من أمة"، هو تحريف. انظر ابن ماجه 2081) ثم يريد أن يفرق بينهما، إنما الطلاق لمن أخذ الساق، كذا قال القاري.
(1) أي الرجل من قبيلة ثقيف.
(2) كأنه ذكرها باسمها أو عرفها بوصفها.
(3) جملة معترضة.
(4) أي والحال أن سيدي يطأ الجارية التي أنكحنيها (في الأصل: "أنكحني بها" وهو خطأ)
(5) أي أرسل رجلاً إليه فطلبه بحضرته واستفسر منه.
(6) أي سيدها.
(7) قوله: ما فعلت جاريتك، أي ما صنعت بها وما جرى لها، قال الرجل: هي عندي أي في ملكي وتصرفي. وقال عمر: هل تطأها أي تجامعها، سأله عنه ليظهر صدق مقالة عبده أو كذبه. فأشار إليه، أي إلى ذلك الرجل لمنع الإقرار خوفاً من ضرب السياط، بعض من كان عنده، أي بعض حاضري مجلس عمر وذلك لأن الستر في الحدود والتعزيرات وتلقين الإنكار أفضل، فقال ذلك الرجل: لا، فقال عمر: أما والله - أقسم للتأكيد - لو اعترفتَ أي أقررتَ عندي بوطئها بعد تزويجها، لجعلتك نكالاً أي لأقمت عليك عقوبةً وتعزيراً.
(8) أي لا يحل ولا يجوز.(2/514)
عبدَه أَنْ يَطَأَهَا لأَنَّ الطلاقَ والفرقةَ (1) بيدِ الْعَبْدِ (2) إِذَا زَوَّجَهُ مَوْلاهُ، وَلَيْسَ لِمَوْلاهُ أَنْ يُفرقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَنْ زَوَّجَهَا فَإِنْ وَطِئَهَا (3) ينُدَم (4) إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ عَادَ أَدَّبَهُ الإِمَامُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى مِنَ الْحَبْسِ وَالضَّرْبِ، وَلا يَبْلُغَ (5) بِذَلِكَ أَرْبَعِينَ سَوْطًا.
6 - (بَابُ الْمَرْأَةِ تَخْتَلِعُ (6) مِنْ زَوْجِهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا أَوْ أَقَلَّ)
561 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ مَوْلاةً (7) لِصَفِيَّةَ (8) اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِكُلِّ شَيْءٍ (9) لها. فلم يُنكره ابن عمر.
__________
(1) أي الفسخ.
(2) احتراز عما إذا تزوج العبد بغير إذن مولاه فإن له حينئذِ أن يفسخ (به أخذ مالك وأبو حنيفة والشافعي وسائر فقهاء الحجاز والعراق. المنتقى 4/90) .
(3) أي المولى بعد تزويجها بعبده.
(4) أي يوبخ عليه ويزجر.
(5) لأن التعزير يكون أقل من أقل الحدود.
(6) في نسخة: تخلع.
(7) أي أمة.
(8) هي بنت أبي عبيد زوجة ابن عمر.
(9) قوله: بشيء، هو الظاهر أنها أعطت كل ما كان في ملكها، والظاهر أنه كان أكثر مما أخذته من زوجها، ولما لم ينكر عليها ابن عمر دل على جوازه، مما يستدل عليه بقوله تعالى: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) فإنه يدل بإطلاقه على(2/515)
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَا اخْتَلَعَتْ بِهِ امْرَأَةٌ مِنْ زوجها فهو جائز في القضاء (1) وما تحب لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا وَإِنْ جَاءَ (2) النُّشُوزُ مِنْ قِبَلها. فَأَمَّا إِذَا جَاءَ النُّشُوزُ مِنْ قِبله (3) لَمْ نُحِبَّ (4) لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا قَلِيلا وَلا كَثِيرًا، وَإِنْ أَخَذَ (5) فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ لَهُ (6) فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة رحمه الله.
__________
جواز الاقتداء مطلقاً ولو بكل المال، فإن قلتَ: قوله تعالى (وإن أردتم استبدالَ زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناَ وإثماَ مبيناَ) (سورة النساء: الآية 20) يدل على عدم جواز أخذ شيء مما أعطاها ولو قليلاً ومن ثم ذهب بعض العلماء إلى عدم جواز الخلع، قلتُ: هو محمول على الأخذ جبراً وبغير رضائها.
(1) أي في ظاهر الحكومة الشرعية.
(2) قوله: وإن جاء النشوز، أي الخلاف والنزاع من قِبل الزوجة، وهذا رواية الأصل، وفي "الجامع الصغير": أن الفضل يطيب له لإطلاق قوله تعالى: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) ووجه ما في الأصل ما روى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق عن عطاء قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلّم تشكو زوجها، فقال: أتردين عليه حديقته التي أصدقك؟ قالت: نعم وزيادة، قال: أما الزيادة فلا. وأخرج الدارقطني عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: لا يأخذ الرجل من المختلعة أكثر مما أعطاها، كذا في "شرح القاري".
(3) أي الزوج.
(4) أي يكره له.
(5) برضاء الزوجة.
(6) لأن الفساد من قِبَله.(2/516)
6 - (بَابُ الْخُلْعِ كَمْ يَكُونُ مِنَ الطَّلاقِ)
562 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جُمهان (1) مَوْلَى الأَسْلَمِيِّينَ، عَنْ أُمِّ بَكْرٍ الأَسْلَمِيَّةِ (2) : أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسِيدٍ (3) ثُمَّ أَتَيَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: هِيَ تَطْلِيقَةٌ إِلا أَنْ تَكُونَ سَمَّتْ (4) شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا سَمَّتْ.
قال محمدٌ: وبهذا (5) نأخذ
__________
(1) قوله: عن جُمهان، بضم أوله، مدني، قديم مقبول قاله ابن حجر في "تقريب التهذيب". وفي "تهذيب التهذيب": جمهان أبو العلاء، ويقال أبو يعلى مولى الأسلميين يعد في أهل المدينة، روى عن عثمان وسعد وأبي هريرة وأم بكرة الأسلمية، وعنه عروة وعمر بن نبيه ذكره مسلم في الطبقة الأولى من أهل المدينة، وذكره ابن حبان في"الثقات" وقال علي بن المديني: هو جد أمي، وكان من السبي في ما أرى. انتهى ملخصاً. وضبط القاري جمهان بفتح الجيم فأخطأ.
(2) نسبة إلى قبيلة أسلم.
(3) بالتصغير.
(4) أي ذكرت شيئاً.
(5) قوله: وبهذا نأخذ، اختلفوا في أن الخلع تطليقة أم لا؟ فقال أصحابنا: إنه تطليقة بائنة، وهو قول عثمان وعلي وابن مسعود والحسن وابن المسيب وعطاء وشريح والشعبي وقبيسة بن ذئيب ومجاهد وأبي سلمة والنخعي والزهري والثوري والأوزاعي ومكحول وابن أبي نجيح وعروة ومالك والشافعي في الجديد، وقالت الظاهرية: تطليقة رجعية، وقال أحمد وإسحاق: فرقتة بغير طلاق، وهو قول ابن عباس والشافعي في القديم، كذا قال العيني في "شرح الهداية" ومما يشهد للأول ما أخرجه الدارقطني والبيهقي في سننهما من حديث عباد بن كثير عن أيوب(2/517)
الخلع تطليقة بائنة إلا (1) سَمَّى ثَلاثًا، أَوْ نَوَاهَا فَيَكُونُ ثَلاثًا.
7 - (بَابُ الرَّجُلِ يَقُولُ إِذَا نَكَحْتُ (2) فُلانَةً فَهِيَ طَالِقٌ)
563 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُجَبِّرٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: إِذَا نَكَحْتُ فُلانَةً فَهِيَ طَالِقٌ، فَهِيَ طَالِقٌ، فَهِيَ كَذَلِكَ إِذَا نَكَحَهَا (3) ، وَإِذَا كَانَ طَلَّقَهَا (4) وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا فَهُوَ كَمَا قَالَ (5) .
قَالَ محمدٌ: وَبِهَذَا (6) نَأْخُذُ. وَهُوَ قول أبي حنيفة رحمه الله.
__________
عن عكرمة عن ابن عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل الخلعة تطليقة بائنة. ورواه ابن عدي في "الكامل" وأعلّه بعباد، وأسند عن البخاري قال: تركوه، وعن النسائي أنه متروك الحديث. وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" وابن أبي شيبة عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم جعل الخلع تطليقة، كذا أورده الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية": وفي الباب آثار كثيرة مبسوطة في "الدر المنثور" وغيره. والمسألة محققة بدلائلها في كتب الأصول.
(1) قوله: إلا أن يكون سمى ... إلخ، يعني أن الخلع طلاق واحد بائن إلا أن يكون ذكر ثلاثاً أو نوى بالخلع ثلاثاً فهو على ما ذكر وعلى ما نوى.
(2) أي يعلق طلاق بنفس الملك أو بسببه كالتزوج.
(3) أي يقع الطلاق بمجرد عقدها.
(4) أي في تعليقه.
(5) أي يقع ما علق واحداً كان أو أكثر.
(6) قوله: وبهذا نأخذ، وبه قال طائفة من السلف فأخرج ابن أبي شيبة عن(2/518)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
سالم بن عبد الله بن عمر والقاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي والأسود بن يزيد وأبي بكر بن عبد الرحمن وأبي بكر بن عمرو بن حزم والزهري ومكحول الشامي في رجل قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق أو يوم أتزوجها فهي طالق أو كل امرأة أتزوجها فهي طالق، قالوا: هو كما قال. وقال الشافعي: لا يصح هذا التعليق ولا يقع به الطلاق لما أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده معروفاً: لا طلاق فيما لا يملك، قال الترمذي: حديث حسن صحيح وهو أحسن شيء في هذا الباب، وأخرجه ابن ماجه عن المسور بن مخرمة مرفوعاً: لا طلاق قبل النكاح (هذا على نوعين: إما أن ينجز الطلاق، وإما أن يعلقه بالنكاح، فإن كان الأول فهو متفق على أنه لا يقع الطلاق فيه أصلاً، وإذا كان الثاني فهو الذي اختلف فيه الأئمة، فالجمهور على أنه لا يقع الطلاق فيه، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يقع الطلاق. بذل المجهود 10/272، والبسط في الأوجز 10/59) ، وقال الحاكم في "المستدرك": صح حديث "لا طلاق إلا بعد نكاح" من حديث ابن عمر وابن عباس وعائشة ومعاذ بن جبل وجابر. وأجاب عنه أصحابنا ومن وافقهم بحمله على التنجيز، وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أنه قال في رجل قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، وكل أمة أشتريها فهي حرة، هو كما قال، فقال له معمر: أوليس جاء لا طلاق قبل نكاح ولاعتق إلا بعد ملكٍ؟ قال: إنما ذلك أن يقول الرجل امرأةُ فلانٍ طالق، وعبد فلان حر، نعم هناك حديثان صريحان موافقان لما اختاره الشافعي أحدهما: ما أخرجه الدارقطني عن ابن عمر أن النبي سُئل عن رجل قال: يوم أتزوج فلانة فهي طالق ثلاثاً، فقال صلى الله عليه وسلّم: لا طلاق فيما لا يملك. وثانيهما: ما أخرجه أيضاً عن أبي ثعلبة الخُشني قال: قال لي عمٌ لي: اعمل لي عملاً حتى أزوجك بنتي؟ فقلت: إن تزوجتها فهي طالق، ثم بدا لي أن أتزوجَها، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: تزوجها، فإنه لا طلاق إلا بعد نكاح. فإن صح هذان الحديثان تَمَّ الكلام إذ لاحكم بعد حكم النبي عليه السلام، لكن لا سبيل(2/519)
564 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سَعِيدِ (1) بْنِ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ رَجُلا (2) سَأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ الله عنه، فقال: إن قُلت إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلانَةً فَهِيَ عليَّ كَظَهْرِ أُمِّي، قَالَ: إِنْ تَزَوَّجْتَهَا فَلا تَقْرَبْهَا حَتَّى تُكفرَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (3) نأخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ يَكُونُ مُظَاهِرًا مِنْهَا إِذَا تَزَوَّجَهَا فلا (4) يقربها حتى يُكفر (5) .
__________
إلى ذلك ففي الإسناد الأول أبو خالد الواسطي عمر بن خالد قال فيه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين الدارقطني: كذاب، وقال إسحاق بن راهويه وأبو زرعة: يضع الحديث، وفي الثاني علي بن قرين كذبه يحيى بن معين وغيره، كذا حققته الزيلعي في " تخريج أحاديث الهداية"، وقاسم بن قطلوبغا في "فتاواه".
(1) قوله: عن سعيد، بكسر العين بعدها ياء وقيل سعد بن عمرو - بالفتح - ابن سُليم الزرقي بضم السين، والنسبة بضم الزاء وفتح الراء وبالقاف الأنصاري، وثقة بن معين وابن حبان، مات سنة 134 هـ. قال ابن عبد البر: ليس له في "الموطأ" غير هذا الحديث، كذا قال الزرقاني والقاري.
(2) قوله: أن رجلاً، في "موطأ يحيى" أنه أي سعيد سأل القاسم عن رجل طلق امرأته إن هو تزوجها؟ فقال القاسم (قال البيهقي: هذا منقطع، فإن القاسم بن محمد لم يدرك عمر رضي الله عنه. أوجز المسالك 10/58) : إن رجلاً ... إلخ.
(3) أي بوقوع الظهار المعلق كالطلاق المعلق.
(4) في نسخة: ولا.
(5) أي كفارة الظهار.(2/520)
8 - (بَابُ الْمَرْأَةِ يُطَلِّقُهَا زَوْجُهَا تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ فَتَتَزَوَّجُ زَوْجًا ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا الأَوَّلُ)
665 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ اسْتَفْتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ وَتَرَكَهَا (1) حَتَّى تَحِلَّ، ثُمَّ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَيَمُوتَ (2) أَوْ يُطَلَّقَا فَيَتَزَوَّجُهَا (3) زَوْجُهَا الأَوَّلُ عَلَى كَمْ هِيَ (4) ؟ قَالَ عُمَرُ: هِيَ عَلَى مَا بَقِيَ (5) مِنْ طَلاقِهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (6) نَأْخُذُ. فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ، فَقَالَ:
إذا عادت
__________
(1) بأن خرجت من عِدتها.
(2) أي بعد ما وطئها.
(3) بعد مضي عِدة الثاني.
(4) هذا محل السؤال: أي المرأة على أي عدد من الطلاق عند الأول.
(5) أي على ما بقي من الثلاث بعد حط من سبق منه.
(6) قوله: وبهذا نأخذ، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يهدم الزوج الثاني ما مضى، ويملك الأول ثلاث تطليقات بحل جديد، كما في صورة التحليل بعد الثلاث. والمسألة مبسوطة في كتب الأصول. قال القاري: والدليل على ما روى محمد في كتاب "الآثار" عن أبي حنيفة عن حماد ابن أبي سليمان عن سعيد بن جبير قال: كنت جالساً عند عبد الله بن مسعود فجاء أعرابي فسأله عن رجل طلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم انقضت عدتها وتزوجت زوجاً غيره فدخل بها، ثم مات عنها أو طلقها، ثم انقضت عدتها فأراد الأول أن يتزوجها، على كم هي؟ فالتفت إلى ابن عباس وقال: ما تقول في هذا؟ فقال: يهدم الزوج الثاني الواحدة والثنتين والثلاث واسأل ابن عمر، قال فلقيت ابن عمر فسألته، فقال مثل ما قال ابن عباس.(2/521)
إِلَى الأَوَّلِ بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا (1) الآخَرُ عَادَتْ عَلَى طَلاقٍ جَدِيدٍ ثَلاثِ تَطْلِيقَاتٍ مُسْتَقْبِلاتٍ. وَفِي أَصْلِ ابْنِ الصَّوَّافِ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
9 - (بَابُ الرَّجُلِ يَجْعَلُ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا أَوْ غَيْرِهَا)
566 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ (2) بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ (3) ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَهُ (4) ، فَأَتَاهُ بَعْضُ (5) بَنِي أَبِي عَتِيقٍ وَعَيْنَاهُ تدمعان (6) ، فال لَهُ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: ملَّكت امْرَأَتِي أَمْرَهَا بيدها ففارتني، فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: الْقَدَرُ (7) ، قَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ارْتَجِعْهَا (8)
__________
(1) أي وطيها.
(2) هو من رجال الجميع ومن الثقات، كذا قال الزرقاني.
(3) أحد الفقهاء السبعة، من الثقات، مات سنة 100 أو قبلها، وهو عم سعيد، قاله الزرقاني.
(4) أي عند والده زيد.
(5) هو محمد بن عبد الله بن أبي عتيق محمد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ المدني مقبول. روى له البخاري وغيره كما في موطأ يحيى وشرحه.
(6) بفتح الميم أي تسيلان دمعاً من البكاء.
(7) أي قدر الله وقضاؤه.
(8) هذا بناء على مذهبه أنها واحد رجعية.(2/522)
إِنْ شِئْتَ فَإِنَّمَا هِيَ وَاحِدَةٌ وَأَنْتَ أملكُ (1) بِهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا عِنْدَنَا (2) عَلَى مَا نَوَى الزَّوْجُ فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَهُوَ خَاطِبٌ مِنَ الخطُاب وَإِنْ نَوَى ثَلاثًا فَثَلاثٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا, وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْقَضَاءُ مَا قَضَتْ.
567 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ القاسم، عن
__________
(1) أي أحق من غيرك (قال مالك: لا آخذ بحديث زيد في التمليك، ولكني أرى إذا ملك امرأته أن القضاء ما قضت إلا أن ينكر عليها فيحلف كما قال ابن عمر رضي الله عنهما، ويحتمل قول مالك هذا أن يعلم أن يكون علم مذهب زيد أنها لا تكون إلا واحدة وإن أوقعت أكثر من ذلك على كل، ويحتمل أيضاً أن يكون مالك يريد بذلك أني لا أقول بظاهر اللفظ على الإطلاق كقوله: فارقتني، والفراق عند مالك في بعض الروايات عنه يقتضي أكثر من الواحد، والحديث يحتمل أن يكون ذكر فراقاًعلى غير لفظ الفراق، وأنها فارقته بطلقة واحدة، ويحتمل أن يكون ملكها طلقة واحدة بالتصريح فلا يلزمه مازادت ولا يلزمه في ذلك يمين، فلذلك قال له: ارتجعها فيكون ذلك موافقاً لقول مالك وإنما كان جزعه على هذا فرقاً من أن تكون واحدة بائنة، وعلم من مخالفتها له أنها إذا ملكت نفسها لم تعد إليه. انظر المنتقى 4/20)
(2) قوله: هذا عندنا، أي الطلاق عندنا على ما نوى الزوج به، فإذا نوى واحدة فواحدة بائنة فلا يرجعها بل يكون خاطباً من الخُطاب وينكحها نكاحاً ثانياً وإن نوى ثلاثاً فثلاث، وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك: يقع بالتفويض ثلاث لأن الثلاث أتم ما يكون من الاختيار. وقال الشافعي: يقع واحدة رجعية لأنها أدنى ما يكون من الاختيار، وبه قال أحمد. وفي"الهداية": أنه يقع طلقة رجعية اعتباراً لما أتت به من صريح الطلاق، فقيل: هذا سهو، وقيل: فيه روايتان، إحداهما: يقع واحدة رجعية والأخرى بائنة، وهذا أصح كما في "شرح الوقاية"، وقال(2/523)
أبيه (1) ، عن عائشة رضي الله عنها: أنها خَطَبَتْ (2) عَلَى (3) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قُرَيْبَةَ (4) بِنْتِ أَبِي أُمَيَّةَ فزوجته (5)
__________
عثمان بن عفان وعلي: القضاء ما قضت أي الحكم ما نوت من رجعية أو بائنة واحدة أو ثلاثاً لأن الأمر مفوض إليها، ولعل هذا عند إطلاق زوجها فلا ينافي ما تقدم، كذا في "شرح القاري".
(1) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.
(2) من الخطبة بالكسر أي طلبت النكاح لأخيها عبد الرحمن.
(3) قوله: على عبد الرحمن، هو شقيق عائشة: عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق عبد الله بن أبي قحافة عثمان، أمهما أم رومان: أسلم في هدنة الحديبية، وكان اسمه عبد الكعبة، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلّم عبد الرحمن، وله فضائل حسنة، ولا يعرف في الصحابة أربعة كلهم ابن الذي قبله صحبوا النبي وأسلموا إلا أبو قحافة وابن أبو بكر وابنه عبد الرحمن هذا وابنه أبو عتيق محمد، وكان قد سكن المدينة، وامتنع من بيعة يزيد حين طلبها معاوية وبعث إليه معاوية بمائة ألف درهم، فردها وقال: لا أبيع ديني بدنياي، وخرج إلى مكة ومات فجأة في نومه بمكان اسمه "حبشي" على عشرة أميال من مكة. وحُمل إليها فدفن في المعلى، وكان ذلك سنة 53 وعليه الأكثر، وقيل: سنة 55، وقيل: سنة 52، كذا في "أسد الغابة في معرفة الصحابة" لابن الأثير الجزري.
(4) قوله: قريبة، بفتح القاف وكسر الراء وسكون التحتية بعدها باء موحدة فتاء تأنيث، ويقال بالتصغير: هي بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية الصحابية أخت أم سلمة أم المؤمنين، وكانت موصوفة بالجمال، وقد من عبد الرحمن عبد الله وأم حكيم وحفصة، ذكره ابن سعد، كذا قال الزرقاني.
(5) قوله: فَزُوِجَتْهُ، قال القاري: بصيغة المجهول، أي زوجها أهلها إياه(2/524)
ثُمَّ إِنَّهُمْ (1) عَتَبُوا (2) عَلَى (3) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ. وَقَالُوا: (4) مَا زَوَّجْنَا إِلا عَائِشَةَ فَأَرْسَلَتْ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَذَكَرَتْ (5) لَهُ ذَلِكَ (6) ، فَجَعَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَمْرَ قريبةَ بِيَدِهَا، فَاخْتَارَتْهُ. وَقَالَتْ (7) : مَا كُنْتُ لِأَخْتَارَ عَلَيْكَ أَحَدًا، فَقَرَّتْ (8) تَحْتَهُ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلاقًا.
568 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا زوَّجت (9) حَفْصَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرحمن بن أبي بكر
__________
أو بالمعلوم أي فصارت عائشة سبباً لتزويجها إياه. انتهى. وفي "موطأ يحيى" فزوجوه وهو أصغر.
(1) أي أولياء قريبة.
(2) أي غضبوا.
(3) لأمر فعله، وكان في خلقه شدة.
(4) قوله: وقالوا: ما زَوَجَنا إلا عائشة، أي ما صار سبب تزويجنا إلا هي وما زوجناها إلا لأجل خطبة عائشة واعتماداً عليها.
(5) حضوراً أو غيبة.
(6) أي عتبهم عليه وشكايتهم لها.
(7) قوله: وقالت، في رواية ابن سعد بسند صحيح عن ابن أبي مليكه قال: تزوج عبد الرحمن بن أبي بكر قريبة أخت أم سلمة، وكان في خلقه شدة فقالت له يوماً: أما والله لقد حذرتك، قال: فأمرك بيدك، فقالت: لا أختار على ابن الصديق أحداً، فأقام عليها.
(8) أي استقرت ودامت تحت عبد الرحمن ولم يكن مجرد التخيير طلاقاً.
(9) قوله: أنها زوجت حفصة، هي بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق،(2/525)
الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وعبدُ الرَّحْمَنِ (1) غَائِبٌ بالشَّام، فَلَمَّا قَدِمَ (2) عبدُ الرَّحمن قَالَ: وَمِثْلِي (3) يُصنع بِهِ هَذَا ويُفْتَات عَلَيْهِ بِبَنَاتِهِ؟ فَكَلَّمَتْ (4) عائشةُ المُنْذَرَ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: فَإِنَّ ذَلِكَ (5) فِي يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَا لِي (6) رَغْبَةٌ عَنْهُ وَلَكِنَّ مِثْلِي لَيْسَ يُفْتَات (7) عليه ببناتِه،
__________
من ثقات التابعيات روى لها مسلم والثلاثة، وزوّجها المنذر بن الزبير بن العوّام الأسدي شقيق عبد الله بن الزبير، ذكره ابن حبان في ثقات التابعين: ذكر الزبير بن بكار أنّ المنذر كان عند عبيد الله بن زياد لما امتنع عبد الله بن الزبير من بيعة يزيد بن معاوية، فكتب يزيد إلى ابن زياد أن يوجِّه إليه المنذر فبلغه فهرب إلى مكة فقتُل في الحصار الأول بعد وقعة الحرّة، سنة 64، كذا في "شرح الزرقاني".
(1) جملة معترضة حالية.
(2) أي من سفره.
(3) قوله: ومثلي يصنع هذا، أي تزويج بناته بغير أمره، ويقتات (هكذا في الأصل والصواب يُفتات بالفاء كما في الأوجز 10/41 قال صاحب مجمع البحار 4/180. يقال: تفوّت فلان على فلان في كذا وافتات عليه إذا تفرّد برأيه دونه في التصرف فيه وعُدِّي بعلى لتصرف معنى التغلب. يقال لكل من أحدث شيئاً في أمرك دونك فقد افتات عليك فيه) عليه أي يستبد برأيه وهو بصيغة المجهول من الإفتيات المأخوذ من الفوت قاله القاري.
(4) أي أخبرته بقول أخيها.
(5) أي أمرها بيد والدها.
(6) أي ليس لي إعراض عنه.
(7) أي لا يفعل شيء بدون أمره.(2/526)
وَمَا كُنْتُ لأَردّ أَمْرًا قَضَيْتِهِ (1) ، فَقَرَّتْ امرأُته تحتَه وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلاقًا.
569 - أَخْبَرَنَا مالكٌ، أَخْبَرَنَا نافعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يقولُ: إِذَا مَلَّكَ الرجلُ امرأَته أمرهَا فالقضاءُ مَا قَضَتْ (2) إِلا أنْ يُنكر عَلَيْهَا، فَيَقُولُ: لَمْ أُرِدْ إِلا تَطْلِيقَةً واحدةْ فَيُحَلَّفُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُ (3) أملَكَ بِهَا (4) فِي عِدَّتِها.
570 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: إذَا مَلَّك الرجلُ امرأتُه أمرَها فَلَمْ تُفارِقْه وَقَّرتْ (5) عِنْدَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِطَلاقٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (6) . إِذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِطَلاقٍ وَإِنِ اخْتَارَتْ (7) نَفْسَهَا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى الزَّوْجُ، فَإِنْ نوى واحدة
__________
(1) بكسر التاء: خطاب لعائشة.
(2) واحداً كان أو أكثر.
(3) في نسخة: فيكون.
(4) أي أحق بها من غيره.
(5) أي ثبتت.
(6) قوله: وبهذا نأخذ (إليه ذهب الأئمة الأربعة وجمهور الفقهاء خلافاً لبعض السلف. انظر الأوجز 10/39) إذا اختارت زوجها فليس ذلك بطلاق، وقد ورد ذلك عن عائشة كما في الصحيحين قالت: خيّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاخترناه، فلم يقدّره علينا شيئاَ وفي لفظ لهما: فلم يعدّ ذلك طلاقاً.
(7) قوله: وإن اختارت نفسها، أي في ذلك المجلس لما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن مسعود ومن(2/527)
فَهِيَ وَاحِدَةٌ (1) بَائِنَةٌ. وَإِنْ نَوَى ثَلاثًا فَثَلاثٌ. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
__________
طريقه أخرجه الطبراني في معجمه عنه قال: إذا ملّكها أمرها فتفرقا قبل أن ينقضي شيء فلا أمر لها. وفيه انقطاع بين مجاهد وابن مسعود قاله البيهقي. وأخرج عبد الرزاق: أنا ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال: إذا خيّر الرجل امرأته فلم تختر في مجلسها ذلك فلا خيار لها. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد الرزاق عن المثنى ابن الصباح عن عمرو بن شعيب عن جده عبد الله بن عمرو: أن عمر وعثمان قالا: أيّما رجلٍ ملّك امرأته أمرها، ثم افترقا من ذلك المجلس: فليس لها خيار وأمرها إلى زوجها. وفي الباب عن عبد الله بن عمرو بن العاص أخرجه ابن أبي شيبة، ونحوه أخرجه عن مجاهد وجابر بن زيد والشَّعبي والنَّخَعي وطاوس وعطاء. قال البيهقي: وقد تعلق بعض من يجعل لها الخيار ولو قامت من المجلس بحديث عائشة وهو في الصحيحين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك. وهذا غير ظاهر لأنه عليه السلام لم يخّيرها في إيقاع الطلاق بنفسها وإنما خيّرها على أنها إن اختارت نفسها أخذت لها طلاقاً، كذا في "تخريج أحاديث الهداية" للزيلعي.
(1) قوله: فهي واحدة بائنة، هذا قول أكثر أهل العلم والفقه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم. وهو قول عمر وعبد الله بن مسعود فإنهما قالا: إن اختارت نفسها فواحدة بائنة. ورُوي عنهما أنهما قالا: واحدة يملك الرجعة وإن اختارت زوجها فلا شيء. وروي عن علي أنه قال: إن اختارت نفسها فواحدة بائنة وإن اختارت زوجها فواحدة يملك الرجعة. وقال زيد بن ثابت: إن اختارت زوجها فواحدة وإن اختارت نفسها فثلاث. ومذهب أحمد موافق لقول علي رضي الله عنه، ويعارضه صريح حديث عائشة، كذا في "جامع الترمذي". وفيه أيضاً اختلف أهل العلم في: أمِرك بيدِك، فقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم: منهم عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود هي واحدة، وهو قول غير واحد من أهل العلم من التابعين ومن بعدهم، وقال عثمان(2/528)
10 - (بَابُ الرَّجُلِ يَكُونُ تَحْتَهُ (1) أَمَةٌ فَيُطَلِّقُهَا ثُمَّ يَشْتَرِيهَا)
571 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي (2)
__________
وزيد بن ثابت: القضاء ما قضت، وقال ابن عمر: إذا جعل أمرها بيدها وطلقت نفسها ثلاثاً وأنكر الزوج وقال: لم أجعل أمرها إلا في واحدة استُحلف الزوج وكان القول قوله في يمينه. وذهب سفيان وأهل الكوفة إلى قول عمر وعبد الله، وأما مالك فقال: القضاء ما قضت، وهو قول أحمد، وأما إسحاق فذهب إلى قول ابن عمر (إن قالت: اخترت نفسي فواحدة رجعية عند الثلاثة وعند الحنفية واحدة بائنة هذا إذا لم تنوِ أكثر منها، فإن نوت أكثر منها وقع ما نوت عند الثلاثة وعند الحنفية لا تقع إلا واحدة أو ثلاثة. فإن طلقت ثلاثاً وقال الزوج: لم أجعل إليها إلا واحدة فالقضاء ما قضت عند أحمد، وعند الثلاثة أنها تطليقة، لا تقدر أكثر ما نوى الزوج. انظر "هامش بذل المجهود" 10/210) .
(1) أي يكون زوجته أمة لرجل فيطلقها الزوج، ثم يشتريها من مالكها.
(2) قوله: عن أبي عبد الرحمن، فقال ابن عبد البر: اختلف في اسم أبي عبد الرحمن شيخ ابن شهاب. فقيل: سليمان بن يسار، وهو بعيد لأنه أجلّ من أن يستر عنه اسمه، ويكنى عنه، وقيل: هو أبو الزناد، وهو أبعد لأنه لم يرو عن زيد بن ثابت ولا رآه ولا روى عنه ابن شهاب، وقيل: هو طاوس وهو أشيه بالصواب، وإنما كتم اسمه مع جلالته لأن طاوساً كان يطعن على بني أمية. ويدعو عليهم في مجالسه، وكان ابن شهاب يدخل عليهم ويقبل جوائزهم، وقد سُئل مرة في مجلس هشام أتروي عن طاوس؟ فقال: للسائل لو رأيت طاوساً علمتَ أنه لا يكذب ولم يجبه بأنه يروي أو لا يروي. فهذا كله دليل على أن أبا عبد الرحمن في هذا الحديث هو طاوس. انتهى.(2/529)
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ تَحْتَهُ وَلِيدَةٌ (1) ، فَأَبَتَّ (2) طَلاقَهَا، ثُمَّ اشْتَرَاهَا، أَيَحِلُّ (3) أَنْ يمسَّها؟ فَقَالَ: لا يَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (4) . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
11 - (بَابُ الأَمَةِ تَكُونُ تحت العبد فَتُعْتَقُ)
572 - أخبرنا ملك، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الأَمَةِ (5) تَحْتَ الْعَبْدِ فَتُعْتَقُ: أَنَّ الْخِيَارَ لَهَا مَا لَمْ يمسَّها (6) .
573 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّ زَبراء (7) مَوْلاةً لِبَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ أخبرته أنها كانت تحت عبد،
__________
(1) أي جارية لغيره.
(2) قوله: فأبتَّ طلاقها، من البتَّ بتشديد التاء، يقال: بتَّ الرجل طلاق زوجته وأبتَّ إذا قطعها من الرجعة، والمراد ههنا البينونة المغلَّظة كما يفيده الجواب.
(3) بهمزة الاستفهام.
(4) قوله: وبهذا نأخذ، لعموم الآية، وبه قال الأئمة الأربعة والجمهور خلافاً لبعض السلف أنها تحلّ لعموم (وما ملكت أيمانكم) قال ابن عبد البر: هذا خطأ لأنها لا تبيح الأمهات والأخوات والبنات فكذا سائر المحرَّمات.
(5) أي أمة رجل تكون زوجة عبد الرجل.
(6) فإن بوطيها سقط الخيار لوجود الرضا بالقيام معه.
(7) قوله عن زبراء، بزاء مفتوحة ثم موحّة ساكنة فراء مهملة فألف ممدودة، كذا ضبطها ابن الأثير.(2/530)
وَكَانَتْ أَمَةً فاُعْتِقَتْ، فَأَرْسَلَتْ (1) إِلَيْهَا حَفْصَةُ وَقَالَتْ: إِنِّي مخبرتُكِ خَبَرًا، وَمَا أُحِبُّ أَنْ تَصْنَعِي شَيْئًا، إِنَّ أمرَكِ بِيَدِكَ مَا لَمْ يَمَسَّكِ، فإذا مَشَّكِ فليس لك من أمرك شيئاً، قالَتْ (2) : وفَارَقْتُه.
قَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا عَلِمَتْ أَنَّ لها خياراً، فأمْرُها (3) بيدها ما دامت
__________
(1) قوله فأرسلت إليها، أي أرسلت حفصة أم المؤمنين إليها رسولاً، واستدعتها فأتتها فقالت حفصة تعليماً لها: إني مخبرتك خبراً بصيغة اسم الفاعل من الإخبار، وما أحب أن تصنعي شيئاً من المفارقة وغيرها، وهو أن أمرك بيدك ولك خيار العتق ما لم يمسّك زوجك، فإن شئت تقرّي معهن وإن شئت تفارقيه، فإن وطيك بطل خيارك.
(2) قوله: قالت وفارَقْتُه، أي قالت زبراء: فارقت الزوج حين ما سمعت حكم الخيار من حفصة وفي "موطأ يحيى" قالت: فقلت: هو الطلاق ثم الطلاق ثم الطلاق، ففارقته ثلاثاً. قال ابن عبد البر: لا أعلم لابن عمر وحفصة في ذلك الحكم مخالفاً من الصحابة وقد روي في قصة بَريرة مرفوعا ًدليل واضح على أن ما ذهبا إليه وروى سعيد بن منصور عن ابن عباس لما خُيَّرت بريرة رأيت زوجَها يتبعها في سكك المدينة ودموعه تسيل على لحيته فكلم الناس له رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يطلب إليها فقال صلى الله عليه وسلّم لبريرة: زوجك وأبو ولدك، فقالت أتأمرني؟ فقال: إنما أنا شافع، فقالت: فلا حاجة لي فيه واختارت نفسها.
(3) قوله: فأمرها بيدها، أي لها خيار العتق إن شاءت فارقت وإن شاءت أقامت، سواء كان الزوج حرَّاً أو عبدً عند أصحابنا، وعند الشافعي وغيره لا خيار لها إذا كان الزوج حرّاً، وقد اختلفت الروايات (اختلفت الروايات في زوجها حين عتقت هل كان حراً أو عبداً؟ رجح الأئمة الثلاثة رواية كونه عبداً لكونها موافقة لأصلهم، ورجحت الحنفية رواية كونه حراً. وفي البذل: قال الشيخ ابن القيم في الهدي: إن حدث عائشة رضي الله عنها رواه ثلاثة: السود وعروة والقاسم، فأما الأسود فلم يختلف عنه أنه كان حراً، وأما عروة فعنه روايتان صحيحتان متعارضتان إحداهما أنه كان حراً، والثانية أنه كان عبداً، وأما عبد الرحمن بن القاسم فعنه روايتان صحيحتان، إحدهما أنه كان حراً، والثانية الشك. انتهى. قلت: الجزم قاضٍ ولا ترجيح لإحدى روايتي عروة للتعارض، فبقيت رواية الأسود سالمة ومعها رواية الجزم لابن القاسم. انظر هامش لامع الداري 9/270. وبذل المجهود 10/362) في زوج بريرة حين خيّرها(2/531)
فِي مَجْلِسِهَا مَا لَمْ تَقُمْ (1) مِنْهُ أَوْ تَأْخُذْ (2) فِي عَمَلٍ آخَرَ أَوْ يمسُّها، فَإِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا بَطُلَ خِيَارُهَا، فَأَمَّا إن مسّها وَ (3) لم تَعْلَمْ بِالْعِتْقِ أَوْ عَلِمَتْ بِهِ (4) وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ لَهَا الْخِيَارُ فَإِنَّ ذَلِكَ لا يُبْطِلُ (5) خيارَها. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فقهائنا.
__________
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كان عبداً أو حراً. وبمثل قولنا قال الجماعة من أهل العلم، فأخرج الطحاوي وابن أبي شيبة عن طاوس أنه قال: للأمة الخيار إذا أعتقت وإن كانت تحت قرشي. وفي رواية: لها الخيار تحت حرّ وعبد. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن سيرين قال: تُخَيَّر حراً كان زوجها أو عبداً. وأخرج عن مجاهد قال: تُخيَّر ولو كانت تحت أمير المؤمنين.
(1) فإن القيام من المجلس والشروع في عمل آخر دليل الإعراض.
(2) أي تشرع.
(3) الواو حالية.
(4) أي بالعتق.
(5) أي المس وغيره حينئذ لا يبطله بل يُبقي خيارها من حين العلم إلى المجلس.(2/532)
12 - (بَابُ (1) طَلاقِ الْمَرِيضِ)
574 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عن طلحة (2) بن
__________
(1) قوله باب طلاق المريض، اختُلف فيه على أقوال. الأول: أنه لا يقع طلاقه حكاه ابن حزم عن عثمان. الثاني: يقع وترثه بشرط قيام العدّة. وهو قول عمر وابنه وابن مسعود وأبيّ بن كعب وعائشة، وبه قال المغيرة والنَّخَعي وابن سيرين وعروة والشَّعبي وشُريح وربيعة بن عبد الرحمن وطاوس والأَوزاعي وابن شُبْرُمة والليث بن سعد والثوري وحماد بن أبي سليمان وأصحابنا. الثالث: ترثه ما لم تتزوج زوجاُ غيره وإن انقضت عدتها، وهو قول ابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق. والرابع: ترثه وإن تزوجت عشرة أزواج، وبه قال مالك والليث في رواية عنه. الخامس: ترثه ويرثها، وبه قال الحسن البصري. السادس: إن صح منه ومات من مرض آخر لا ترثه عندنا، وقال الزهري والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق: ترثه إن مات قبل انقضاء عدتها منه. السابع: ترثه ويرثها إذا كان لها حمل أو قصد المضارة وهو قول عروة. الثامن: ترثه وتنقل عدتها إلى عدة الوفاة ما لم تنكح، وبه قال الشعبي. التاسع: تعتد بأبعد الأجلين من ثلاث حيض وأربعة أشهر وعشراً، وهو قول أبي حنيفة ومحمد. العاشر: ترثه قبل الدخول وعليها العدة، وهو قول الحسن وإسحاق وأبي عبيد. الحادي عشر: لا ترثه أصلاً لا قبل الدخول ولا بعده، وهو قول الظاهرية وأبي ثور والجديد للشافعي، وفي القديم عنده الزوج فاّر وفي الميراث ثلاثة أقوال: الأول مثل قولنا، والثاني مثل قول أحمد، والثالث مثل قول مالك (قال الموفق: إذا طلق الرجل امرأته طلاقاً يملك رجعتها في عدتها لم يسقط التوارث بينهما ما دامت في العدة سواء كان في المرض أو الصحة بغير خلاف نعلمه، وإن طلقها في الصحة طلاقاً بائنا أو رجعياً فبانت بانقضاء؟؟ عدتها لم يتوارثا إجماعاً. وإن كان الطلاق في المرض المخوف ثم مات من مرضه ذلك في عدتها ورثته، ولم يرثها إن ماتت، يُروى ذلك عن أبي حنيفة ومالك وهو قول الشافعي القديم، وقوله الجديد: لا ترث مبتوتة، والمشهور عن أحمد أنها ترثه في العدة وبعدها ما لم تتزوج ورُوي عنه ما يدل على أنها لا ترث بعد العدة. انظر الأوجز 10/155) ، كذا ذكره العيني في "البناية شرح الهداية".
(2) قوله عن طلحة، هو ابن أخي عبد الرحمن بن عوف ثقة، مكثر، فقيه، تابعي، مات سنة 97 هـ. وعبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري أحد العشرة المبشّرة بالجنة مات سنة 32 هـ، كذا قال السيوطي والزرقاني.(2/533)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ (1) وَهُوَ مَرِيضٌ فورَّثها عُثْمَانُ مِنْهُ بَعْدَ مَا (2) انْقَضَتْ عِدَّتُهَا.
575 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ (3) ، عَنِ الأَعْرَجِ (4) ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَنَّهُ وَرَّثَ (5) نِسَاءَ (6) ابْنِ مُكْمِل مِنْهُ، كَانَ طلّق نساءه وهو مريض.
__________
(1) قوله: طلّق امرأته، هي تُماضر الكلبية بضم التاء فميم فألف فضاء معجمة فراء مهملة بنت الأصبغ الكلبية الصحابية، وكان فيها سوء خلق وكانت على تطليقتين، فلما مرض عبد الرحمن جرى بينه وبينها شيء، فطلّقها وهو آخر طلاقها، كذا في "موطأ يحيى" وشرحه.
(2) قوله: بعد ما انقضت عدتها، قال القاري: هذا بظاهره يوافق مذهب ابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق أنها ترثه بعد العدّة ما لم تتزوّج بزوج آخر والتحقيق أنه ظرف لورّثها، فتوريثها كان بعد انقضاء عدتها.
(3) ابن العباس بن عبد المطلب.
(4) عبد الرحمن بن هرمز.
(5) من التوريث.
(6) قوله: نساء بن مكمل، بضم الميم وسكون الكاف وكسر الميم اسمه(2/534)
قَالَ محمدٌ: يَرِِثْنَه مَا دُمْنَ فِي الْعِدَّةِ فَإِذَا انْقَضَتِ العدّةُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ فَلا مِيرَاثَ لَهُنَّ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ هُشَيْم (1) بْنُ بَشِيرٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ الضَّبِّيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعي عَنْ شُريح (2) أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إِلَيْهِ في رجل طلّق امرأته ثلاثاً و (3) هو مَرِيضٌ: أنْ وَرِّثها (4) مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا، فَإِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ فَلا مِيرَاثَ لَهَا. وَهُوَ قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى والعامة من فقهائنا.
__________
عبد الله بن مكمل بن عوف بن الحارث، ذكره الطبري وعمرو بن شبّة في الصحابة واستدركه ابن فتحون وقال: أكثر ما يأتي في الروايات ابن مكمل غير مسمى وسماه بعضهم عبد الرحمن وهو وهم، إنما عبد الرحمن ابنه ونشاء ابن مكمل اللاتي طلقهن كنّ ثلاثاً كما رواه عبد الرزاق، كذا في "شرح الزرقاني".
(1) قال في "التقريب" هُشيم بالتصغير ابن بَشير بوزن عظيم ابن القاسم بن دينار السلمي أبو معاوية بن ابي حازم الواسطي ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال الحنفي مات سنة 183.
(2) قوله: عن شُريح، مصغراً ابن الحارث بن قيس القاضي أبو أمية الكندي الكوفي، ويقال: شريح بن شرحبيل من ثقات المخضرمين استقضاه عمر على الكوفة ثم عليّ فمن بعده استعفى من القضاء قبل موته بسنة زمن الحجاج، وعاش مائة وعشرين سنة، ومات سنة 78 وقيل سنة 80، وثقه ابن معين وغيره، كذا في "تذكرة الحفاظ" للذهبي.
(3) الواو حالية.
(4) أمرمن التوريث أي كتب إليه بأن ورِّث مطلَّقة الفارّ ما دامت في العدّة.(2/535)
13 - (بَابُ الْمَرْأَةِ تطلَّق أَوْ يَمُوتُ عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ)
576 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، أَنَّ ابنَ عُمَرَ سُئل (1) عَنِ امْرَأَةٍ (2) يُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا؟ قَالَ: إِذَا وَضَعَتْ (3) فَقَدْ حَلَّتْ (4) ، قَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ (5) كَانَ عِنْدَهُ (6) : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: لَوْ وَضَعَتْ مَا فِي بَطْنِهَا وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ (7) لَمْ يُدْفن بعدُ حَلَّتْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (8) نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
__________
(1) قوله: سئل ... إلخ، كذا رواه الشافعي أيضاً في "مسنده" من طريق مالك، وكذلك رواه عبد الرزاق في " مصنفه" من معمر عن أيوب عن نافع به، وروى هو وابن شيبة عن ابن عُيَينة عن الزهري عن سالم قال: سمعت رجلاً من الأنصار يحدث ابن عمر يقول: سمعت أباكَ لو وضعت المتوفَّى عنها زوجها وهو على السرير حلّت، كذا ذكره الزيلعي.
(2) أي عن عدتها.
(3) ولو قبل أربعة أشهر وعشراً.
(4) أي خرجت من العدة.
(5) نقويةً لما أفتى به ابن عمر.
(6) أي في مجلس ابن عمر.
(7) أي الميت على نعشه لم يُكَفَّنْ ولم يُدْفَنْ.
(8) قوله: وبهذا نأخذ، وبه قال أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم أنّ المتوفَّى عنها زوجا والمطلَّقة الحاملة تنقضي عدتها بوضع الحمل، وروي عن علي وابن عباس أن المتوفَّى عناه الحاملة تنتظر آخر الأجلين من وضع(2/536)
577 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِذَا وضعتْ مَا فِي بَطْنِهَا (1) حَلَّتْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ فِي الطَّلاقِ (2) وَالْمَوْتِ جَمِيعًا، تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْوِلادَةِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة رحمه الله تعالى.
__________
الحمل وأربعة أشهر وعشراً، وقال عبد الله بن مسعود: أُنزلت سورة النساء القُصرى بعد الطولى، وأراد بالقصرى سورة الطلاق التي فيها: (وأولاتُ الأحمالِ أجلُهُنّ أن يضعن حملَهن) (سورة الطلاق: الآية 4) ، نزلت بعد قوله تعالى في سورة البقرة: {والذين يُتَوَفَّوْنَ منكم ويذرون أزواجاً يتربَّصْنَ بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} (سورة البقرة: الآية 234) ، فحُمل على النسخ. كذا قال البغوي في "معالم التنزيل"، ومن مستندات الجمهور ما روي أن سبيعة بنت الحارث الأسلمية مات عنها زوجها، فوضعت الحمل بعد خمسة وعشرين يوماً من موته فأفتاها النبي صلى الله عليه وسلّم بانقضاء عدتها كما ورد في رواية البخاري والترمذي والنسائي وغيرهم، وهو نصّ في الباب، ولعله لم يبلغ من خالف ذلك، وقد قال ابن عبد البر وغيره: إن هذا مما أجمع عليه جمهور العلماء من السلف والخلف إلا ما رُوي عن علي من وجه منقطع أن عدّتَها آخر الأجلين، ونحوه جاء عن ابن عباس. لكن جاء عنه أيضاً أنه رجع إلى حديث أمّ سلمة في قصة سبيعة ويصححه أن أصحابه عكرمة وعطاء وطاوس وغيرهم على أن عدّتها الوضع.
(1) ولو كان سقطاً تمّ بعض خلقته (قال مالك في "المدونة": ما ألقته المرأة من مضغة أو علقة أو شيء يستقين أنه ولد فإنه تنقضي به العدة وتكون به الأمة أم ولد. المنتقى للباجي 4/133) .
(2) قوله: في الطلاق والموت جميعاً، هذا الحكم في الطلاق متفق عليه، وفي الموت فيه خلاف غير معتدّ به كما مرّ.(2/537)
14 - (بَابُ (1) الإِيلاءِ)
578 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سعيد بن المسيّب
__________
(1) قوله: باب الإيلاء، قال عياض في "الإكمال": الإيلاء الحلف، وأصله الامتناع من الشيء، يُقال آلى يولي إيلاءً، وفي عرف الفقهاء: الحلف على ترك وطء الزوجة أربعة أشهر أو أكثر، فلو قال: لا أقربك، ولم يقل: والله لم يكن مُولياً، وقد فسَّر ابن عباس قوله تعالى: (للذين يُولون من نسائهم) بالقسم، أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر وعبد بن حميد، وفي مصحف أبيّ بن كعب (للذين يُقيمون) أخرجه ابن أبي داود في "المصاحف" عن حماد. ثم عند أبي حنيفة وأصحابه والشافعي في الجديد: إذا حلف على ترك قربان زوجته أربعة أشهر يكون مُولياً، واشترط مالك أن يكون مضرا بها أو يكون حالة الغضب فإن كان للإصلاح لم يكن موليا ووافقه أحمد. وأخرج نحوه عبد الرزاق عن علي، وكذلك أخرج الطبري عن ابن عباس وعلي والحسن. وحجة من أطلق بإطلاق قوله تعالى: (للذين يولون) الآية. واتفق الأئمة الأربعة وغيرهم على أنه لو حلف أن لا يتقرب أقل من أربعة أشهر لا يكون مولياً، وكذلك أخرجه الطبري وسعيد بن منصور وعبد بن حميد عن ابن عباس قال: كان إيلاء الجاهلية السنة فالسنتين، فوقَّت الله لهم أربعة أشهر وعشراً، فمن كان إيلاؤه أقلَّ فليس بإيلاء، وقال جماعة - منهم الحسن وابن ابي ليلى وعطاء - إنه إنْ حلف أن يطأها على يوم فصاعداً، ثم لم يطأها إنه يكون مًلياً. ثم في الإيلاء الشرعي إن جامع زوجته في أربعة أشهر فليس عليه إلاَّ كفارة يمين، وإن مضت أربعة اشهر، ولم يفء الجماع ولا بلسان طُلِّقت طلقة بائنة عن الحنفية، وبه قال ابن مسعود. أخرجه الطبري عنه وعلي وزيد بن ثابت وغيرهم، وقال سعيد بن المسيب وأبو بكر وعطاء وربيعة ومكحول والزهري والأوزاعي: طلقة رجعية. وذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أن المُولي إذا لم يفء ومضت أربعة أشهر لا يقع بمضيِّ هذه المدة طلاق، بل يوقف حتى يفيء أو يطلق.. وكذلك أخرجه ابن ابي شيبة وعبد الرزاق والشافعي عن عثمان وابن أبي شيبة عن عليّ، والبخاري عن ابن عمر؟، وسعيد بن منصور عن(2/538)
قَالَ: إِذَا آلَى الرجلُ مِنِ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ فَاء (1) قَبْلَ أَنْ تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهِيَ امْرَأَتُهُ لَمْ يَذْهَبْ مِنْ طَلاقِهَا شَيْءٌ، فَإِنْ مَضَتِ الأَرْبَعَةُ (2) الأَشْهُرُ قَبْلَ أَنْ يَفِيءَ (3) فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ وَهُوَ أَمْلَك (4) بِالرَّجْعَةِ مَا لَمْ تَنْقَضِ عدَّتُها. قَالَ (5) : وَكَانَ مَرْوَانُ يَقْضِي بِذَلِكَ.
579 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أيُّما رَجُلٍ آلَى مِنِ امْرَأَتِهِ فَإِذَا (6) مَضَتِ الأربعة الأشهر وُقِفَ (7) حتى يطلِّق
__________
عائشة، وابن أبي شيبة عن أبي الدرداء، كذا ذكره بعض الأعلام في "شرح مسند الإمام".
(1) قوله: فاء، أي رجع عن يمينه بأن جامع في أثناء أربعة أشهر وهي مدة الإيلاء للحرَّة أو شهرين وهي مدة الإيلاء للأمة.
(2) أي في الحرة.
(3) أي يرجع عن يمينه بالوطء أو ما قام مقامه.
(4) أي زوجها أحقّ بالرجعة في العدة.
(5) قوله: قال: وكان، أي قال سعيد بن المسيب: كان مروان بن الحكم يحكم بكونها رجعية، كذا قال القاري. وفي "موطأ يحيى": مالك عن ابن شهاب أن سعيد بن المسيب وأبا بكر بن عبد الرحمن كان يقولان في الرجل يُولي من امرأته: إنها إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة، ولزوجها الرجعة ما دامت في العدة. مالك أنه بلغه أن مروان بن الحكم كان يقضي في الرجل إذا آلى من امرأته أنها إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة وله عليها الرجعة ما دامت في عدتها. قال مالك: وعلى ذلك كان رأي ابن شهاب. انتهى.
(6) في نسخة: فإنه إذا.
(7) بصيغة المجهول: أي أُمسك(2/539)
أَوْ يَفِيءَ، وَلا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلاقٌ وَإِنْ مَضَتِ الأَرْبَعَةُ الأَشْهُرُ حَتَّى يُوقَفَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَنَا (1) عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا آلَى الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ قَبْلَ أَنْ يَفِيءَ فقد بانت بتطليقة بائنة وهو خاطب (2)
__________
(أي يُحبس عند الحاكم، فإمّا يطلِّق وإما يفيء، أي يرجع عن اليمين، ويكفِّر عن يمينه، فإن امتنع طلَّق القاضي، وهو المشهور عن مالك وبه قال الشافعي، وعن مالك رواية: لا يطلق القاضي عنه بل يُجبر على الجماع أو الطلاق ويعزَّر على ذلك إن امتنع، كذا حكاه النووي عن عياض. أوجز المسالك 10/47)
(1) قوله: بلغنا عن عمر. . . إلخ، هذا البلاغ أسنده عبد الرزاق وابن جرير وابن ابي حاتم والبيهقي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عمر وابن عباس قالوا: الإيلاء طلقة بائنة إذا مرت أربعة أشهر قبل أن يفيء، فهي أحق بنفسها، وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس قال: عزيمة الطلاق انقاضء أربعة أشهر. وأخرج عبد بن حميد، عن أيوب قال: قلت لابن جرير: أكان ابن عباس يقول في الإيلاء إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة؟ قال: نعم. وأخرج عبد بن حميد وعبد الرزاق والبيهقي عن ابن مسععود قال: إذا آلى الرجل من امرأته فمضت أربعة اشهر فهي تطليقة بائنة، وتعتدُّ بعد ذلك ثلاث قروء ويخطبها زوجها في عدَّتها ولا يخطبها غيره، فإذا انقضت عدتها خطبها زوجها وغيره. وأخرج عبد بن حميد عن علي في الإيلاء: إذا مضت أربعة اشهر فقد بانت منه بتطليقة ولا يخطبها هو ولاغيره إلاَّ بعد العدة، كذا أورده السيوطي في "الدر المنثور"، وفيه آثار أخر مبسوطة تدل على أن المسألة مختلَف فيها من عهد الصحابة إلى من بعدهم.
(2) أي إن شاء خطبها ونكحها بالعقد الجديد كغيره من الخُطّاب.(2/540)
مِنَ الخُطّاب وَكَانُوا (1) لا يَرَوْنَ أَنْ يُوْقَفَ بَعْدَ الأَرْبَعَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُون مِنْ نِسَائِهِمْ تربُّصُ (2) أربعة أشهر فإن فاؤوا (3) فإن الله غفور رحيم وَإِنْ عَزَمُوا (4) الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (5) ، قَالَ: الْفَيْءُ الْجِمَاعُ فِي الأَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ، وَعَزِيمَةُ الطَّلاقِ انْقِضَاءُ الأَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ، فَإِذَا مَضَتْ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ وَلا يوقَف بَعْدَهَا. وَكَانَ (6) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَعْلَمَ (7) بِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِهِ. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
__________
(1) أي الأصحاب المذكورون.
(2) أي انتظار.
(3) قوله: فإن فاؤوا (سورة البقرة: الآية 227) ، أي بالجماع، كذا أخرجه عبد بن حميد بن علي، وعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس، وابن المنذر عن ابن مسعود. وأخرج ابن ابي حاتم، عن ابن مسعود قال: إذا حال بينه وبينها مرض أوسفر أو حبس أو شيء يُعذَر به فإشهاده فيء.
(4) أي قصدوا.
(5) أعاده لطول الفصل، وفصلاً بين كلامه وكلام الله عزَّ وجلّ.
(6) قوله: وكان، أشار به إلى ترجيح تفسير ابن عباس وفتواه على فتوى من أفتى بالوقف أو بالتطليقة الرجعية.
(7) قوله: أعلم، ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلّم: اللَّهم علِّمه القرآن وفقِّهه في الدين. ومن ثَمَّ صار حبر المفسرين ورأس المتبحِّرين.(2/541)
15 - (باب الرجل يطلِّق امرأتَه ثلاثاً قَبْلَ (1) أَنْ يَدْخُلَ بِهَا)
580 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوبان، عَنْ مُحَمَّدِ (2) بْنِ إِيَاسِ بْنِ بُكير قَالَ: طلَّق رجلٌ امْرَأَتَهُ ثَلاثًا قَبْلَ أَنْ يدْخل بِهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ (3) أَنْ يَنْكِحَهَا فجاءَ يَستفتي، قَالَ (4) : فَذَهَبَتْ مَعَهُ، فَسَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالا: لا يَنْكحها (5) حَتَّى تنكحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ طَلاقِي إِيَّاهَا (6) وَاحِدَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرْسَلْتَ (7) مِنْ يَدِكَ مَا كَانَ لَكَ مِنْ فضْل.
قَالَ محمدٌ: وَبِهَذَا (8) نأخذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ والعامة من
__________
(1) قوله: قبل أن يدخل بها، اختُلف فيه،
فقال أصحابنا: يقع الثلاث، وهو قول أبي هريرة وعلي وعمر وابن عباس وجمهور العلماء،
وقال الحسن وعطاء وجابر بن زيد: يقع واحدة لأنها تبين بقوله أنت طالق.
ولنا أن الثلاث صفة للطلاق الذي أوقعه والموصوف لا يوجد بدون صفته، كذا قال القاري.
(2) تابعي. ثقة، ووهم من ذكره من الصحابة، قاله الزرقاني.
(3) أي ظهر له وخطر بباله أن ينكحها.
(4) أي ابن بكير.
(5) بصيغة الغَيْبة أو الخطاب.
(6) أي لأنها كانت غير مدخولة.
(7) قوله: أرسلت مِنْ يدك، أي كان لك ذلك لو اقتصرتَ على الواحدة والثنتين، فإذا أرسلت الثلاثة جملة واحدة ما بقي لك شيء.
(8) قوله: وبهذا نأخذ، لظاهر القرآن ولما مرَّ من فتوى أبي هريرة وابن عباس.(2/542)
فُقَهَائِنَا لأَنَّهُ (1) طلَّقها ثَلاثًا جَمِيعًا، فَوَقَعْنَ عَلَيْهَا جَمِيعًا مَعًا وَلَوْ فَرَّقَهُنَّ وَقَعَتِ الأُولَى خَاصَّةً لأَنَّهَا بَانَتْ بِهَا قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَلا عِدَّةَ (2) عَلَيْهَا فَتَقَعُ عَلَيْهَا الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ مَا دامت في العدَّة.
16 - (باب المرأة يطلِّقها زوجُها فتتزوَّجُ (3) رجلاً فيطلِّق (4) قبل الدخول)
581 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا المِسْور (5) بْنُ رِفاعة القُرَظي، عن
__________
(1) قوله: لأنه طلقها ثلاثاً جميعاً، أي مجموعاً لا متفرقاً، والوقوع فرع الإِيقاع، فإذا أوقع الثلاث دفعة وقع، ولو فرَّقهن بأن قال: أنت طالق وطالق وطالق، أو بالتكرير من غير عطف وقعت الأولى خاصة، لأن الواو لمطلق العطف، وليس في آخر الكلام ما يغيِّر أوَّلَه من شرط أو استثناء. وقال مالك والشافعي في القديم والأوْزاعي والليث بن سعد يطلق ثلاثاً، كذا قال القاري.
(2) يعني إن كانت له العدة كما للمدخولة تقع عليها الثانية والثالثة، وإذ ليست فليست.
(3) في نسخة: "فتزوّجُ".
(4) أي الزوج الآخر.
(5) قوله: المسور، بكسر الميم وإسكان المهملة وفتح الواو، ابن رفاعة بكسر الراء ابن أبي مالك القُرَظي - بضم القاف وفتح الراء نسبة إلى بني قريظة، المدني تابعي صغير، مقبول، له في "الموطأ" مرفوعاً هذا الحديث الواحد، وليس له رواية في الكتب الستة، وثقه ابن حبان، مات سنة 138 هـ. عن الزَّبير بن عبد الرحمن بن الزَّبير بن باطيا القرظي المدني، والزاء في الاسمين مفتوحة والباء مكسورة عند سائر رواة الموطأ عن مالك إلاَّ ابن بكير، فإنه روي عنه ضم الزاء في الأول وفتحها في الثاني، وقال ابن عبد البر: الصحيح فيهما الفتح أي عن مالك، وقال ابن حجر في "الإِصابة": هو بضم الزاء بخلاف جده فإنه بفتحها وكسر الموحدة. أن رفاعة بن سِمْوال، بكسر السين وإسكان الميم القرظي الصحابي كذا(2/543)
الزَّبير بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزَّبير: أَنَّ رِفَاعَةَ بْنَ سِمْوَالٍ طلَّق (1) امرأتَه تميمةَ بنتَ وَهْبٍ فِي عَهْدِ (2) رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاثًا، فَنَكَحَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَأَعْرَضَ (3) عَنْهَا، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يمسَّها، فَفَارَقَهَا (4) وَلَمْ يمسَّها، فَأَرَادَ رِفَاعَةُ أَنْ يَنْكِحَهَا، وَهُوَ زَوْجُهَا الأَوَّلُ الَّذِي طلَّقها، فَذَكَرَ ذَلِكَ (5) لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَهَاهُ عَنْ تَزْوِيجِهَا، وَقَالَ: لا تحلُّ لَكَ حَتَّى تذوقَ (6) العُسَيْلةَ.
__________
أرسله أكثر الرواة عن مالك، ووصله ابن وهب عن مالك، وتابعه ابن القاسم وعلي بن زيادة وإبراهيم بن طهمان وعبيد الله بن عبد الحميد كلهم عن مالك، عن المسور، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عن أبيه أَنَّ رِفَاعَةَ بْنَ سِمْوَالٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَميمة بفتح التاء، وقيل: بضمها، وقيل: اسمها أميمة، وقيل: سحيمة، وقيل: عائشة بنت وهب القرظية الصحابية ولا أعلم لها غير هذه القصة، فنكحها عبد الرحمن بن الزبير، كان صحابياً وأبوه الزبير قتل يهودياً في غزوة بني قريظة، كذا قال السيوطي والزرقاني.
(1) أي ثلاث تطليقات كما في رواية الصحيحين وغيرهما.
(2) أي في زمانه.
(3) أي لم يقدر على مجامعتها لعُنَّة.
(4) أي طلَّقها قبل الدخول.
(5) قوله: فذكر ذلك، الظاهر أنه معروف، أي ذكر رفاعة ذلك، ويحتمل أن يكون مجهولاً أي فذكره ذاكر. وفي رواية للبخاري أن المرأة هي التي ذكرت وقالت إنما معه مثل الهُدْبة وأخذت بهدبة جلبابها شبَّهته بذلك لصغر ذَكَرَه أو استرخائه.
(6) قوله: تذوق العسيلة، هو تصغير العسلة، والمراد به الجماع، وأفاد به أن مجرد النكاح الثاني لا يحلل، بل يُشترط معه وطء الزوج الثاني. وقد روى هذا(2/544)
قَالَ محمدٌ: وَبِهَذَا (1) نأخذُ، وَهُوَ قولُ أَبِي حنيفةَ والعامةِ مِنْ فُقَهَائِنَا لأَنَّ الثَّانِيَ لَمْ يُجَامِعْهَا فَلا يحلُّ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الأَوَّلِ حَتَّى يُجَامِعَهَا الثَّانِي.
17 - (بَابُ الْمَرْأَةِ تُسَافِرُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا)
582 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ الْمَكِّيُّ الأَعْرَجُ، عَنْ عَمْرِو (2) بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيِّب: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يردُّ المتوفَّى عنهنَّ أَزْوَاجَهُنَّ مِنَ البَيْداءِ (3) يمنعهنَّ الحج (4) .
__________
الحديث الذي فيه قصة العسيلة البخاري ومسلم والنسائي وابن جرير والبيهقي والشافعي وابن سعد والبزار والطبراني وأبو داود وغيرهم بألفاظ متقاربة بسطها السيوطي في "الدر المنثور".
(1) قوله: وبهذا نأخذ، وبه قال جمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم، بل قيل لم يخالف فيه أحد إلاَّ سعيد بن المسيب حيث حكم بكفاية النكاح الثاني للتحليل من غير وطء أخذاً بظاهر القرآن، والأحاديث الواردة في اشتراطه حجة عليه.
(2) قوله: عن عمرو بن شعيب، هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي، وكثيراً ما يأتي في كتب الحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. قال ابن القطان: إذا روى عنه الثقات فهو ثقة يُحتجُّ به، وقال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وإسحاق بن راهويه وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، ما تركه أحد من المسلمين، مات سنة 118، كذا في "إسعاف السيوطي".
(3) هو طرف ذي الحُلَيْفة قريب المدينة.
(4) في نسخة: من الحج.(2/545)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا لا يَنْبَغِي لامْرَأَةٍ أَنْ تسافرَ فِي عدَّتِها حَتَّى تَنْقَضِيَ مِنْ طَلاقٍ كَانَتْ (1) أَوْ مَوْتٍ.
18 - (بَابُ (2) الْمُتْعَةِ)
583 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (3) وَالْحَسَنِ
__________
(1) العدَّة (قال الموفق: المعتدة من الوفاة ليس لها أن تخرج إلى الحج ولا إلى غيره، روي ذلك عن عمر وعثمان وبه قال ابن المسيب والقاسم ومالك والشافعي وأبو عبيدة وأصحاب الرأي والثوري، وإن خرجت ومات زوجها في الطريق رجعت إن كانت قريبة وإن تباعدت مضت في سفرها. وقال مالك: تردُّ ما لم تحرم، والصحيح إن البعيدة لا تردُّ لأنه يضرُّ بها وعليها مشقة ولا بدَّ لها من سفر، ويحدُّ القريب بما لا تقصر فيه الصلاة، وهذا قول أبي حنيفة إلاَّ أنه لا يرى القصر إلاَّ في مسيرة ثلاثة أيام، فقال: إذا كان بينها وبين مسكنها دون ثلاثة أيام فعليها الرجوع إليه، وإن كان فوق ذلك لزمها المضيُّ إلى مقصدها. وقال الشافعي: إن فارقت البنيان فلها الخيار بين الرجوع والتمام. انظر أوجز المسالك 10/252) .
(2) قوله: باب المتعة، قال القاري: صورة نكاح المتعة أن يقول بحضرة الشهود: متَّعت نفسك بكذا وكذا ويذكر مدة من الزمان وقدراً من المال، وذلك لا يصح، لما روى مسلم عن إياس بن سلمة بن الأكوع قال: رخَّص رسول الله عام أوطاس في المتعة ثم نهى عنها. قال البيهقي: وعام أوطاس وعام الفتح واحد، لأنه بعده بيسير. قال النووي: إنها أُبيحت مرتين وحُرِّمت مرتين، فكانت حلالاً قبل خيبر، وحُرِّمت يوم خيبر، ثم أُبيحت يوم فتح مكة وهو يوم أوطاس وحُرِّمت بعد ذلك بعد ثلاثة أيام مؤبَّداً إلى يوم القيامة.
(3) قوله: عن عبد الله، هو ابن محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي المدني، وثقه العجلي وابن سعد والنسائي، مات سنة 98 هـ، وأخوه الحسن كان(2/546)
ابنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ جَدِّهِمَا: أَنَّهُ (1) قَالَ لابْنِ عَبَّاسٍ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُتْعَة النساءِ يومَ خيْبَر (2) وعن أكل (3) لحوم الحُمْر الإِنسيَّة.
__________
من أفاضل أهل البيت، وأعلم الناس بالاختلاف، وثَّقه العجلي، وقال الدارقطني: صحيح الحديث، مات سنة 95 هـ، وقيل: 101 هـ وأبوهما محمد المعروف بابن الحنفية وهي خولة من بني اليمامة زوجة علي رضي الله عنه، وثقه العجلي وغيره، ومات سنة 73 كذا في "إسعاف السيوطي".
(1) قوله: أنه قال لابن عباس، في رواية عبيد الله، عن ابن شهاب بإسناده عن علي أنه سمع ابن عباس يلين في متعة النساء، فقال: مهلاً يا ابن عباس، فإن رسول الله نهى عنها.
(2) قوله: يوم خيبر، هكذا اتفق مالك وسائر أصحاب الزهري، وروى عبد الوهاب الثقفي عن يحيى القطان عن مالك في هذا الحديث. فقال: حُنين. أخرجه النسائي والدارقطني، وقالا: وهم فيه القطان، وزعم ابن عبد البر: أن ذكر يوم خيبر غلط، وقال السهيلي: إنه شيء لا يعرفه أحد من أهل السير، وقال ابن عيينة، إن تاريخ خيبر في حديث علي: إنما هو في النهي عن لحوم الحُمُر الإِنسية، قال البيهقي: يشبه أنه كما قال، وتُعُقِّب هذا كله بأنه بعد اتفاق أصحاب الزهري عنه على ذلك لا ينبغي أن يقال نحو ذلك، وهم حفّاظ، ولهذا قال القاضي عياض: تحريمها يوم خيبر صحيح لا شك فيه، كذا في شرح الزرقاني.
(3) قوله: وعن أكل لحوم الحُمُر، بضمتين جمع حمار، والإِنسية رواه الأكثر بفتح الهمزة والنون، وقيل: بكسر الهمزة وهو احتراز عن الوحشية، وقد كان أكل الحمر الأهلية جائزاً، ثم نُسخ، قال كمال الدين الدَّميري محمد بن عيسى في كتابه "حياة الحيوان": يحرم أكله عند أكثر أهل العلم، وإنما رُويت الرخصة عن(2/547)
584 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّ خَوْلة (1) بِنْتِ حَكِيمٍ دخلَتْ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَتْ: إنَّ رَبِيعَةَ (2) بْنَ أميَّة اسْتَمْتَعَ بامرأةٍ موَلَّدةٍ فَحَمَلَتْ مِنْهُ، فَخَرَجَ عُمَرُ فَزِعاً (3) يجرُّ رِدَاءَهُ، فَقَالَ: هَذِهِ المُتْعَة لَوْ كنتُ تقدَّمتُ (4) فِيهَا لرجمتُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: المُتْعَة مكروهةٌ (5) ، فَلا يَنْبَغِي، فَقَدْ (6) نَهَى (7) عَنْهَا
__________
ابن عباس، وقال أحمد: كره أكلَه ستة عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم، وادَّعى ابن عبد البر الإِجماع الآن على تحريمه، ولو بلغ ابن عباس أحاديث النهي الصريحة الصحيحة في تحريمه لما صار إلى غيره.
(1) يقال لها أم شريك السلمية الصحابية زوجة عثمان بن مظعون، ذكره السيوطي.
(2) أسلم يوم الفتح، وشهد حَجَّة الوداع، ثم إن عمر غرَّبه في الخمر إلى خيبر، فلحق بهرقل فتنصَّر، فقال: لا أغرب بعده أبداً (وفي أوجز المسالك: لا أغرب بعده أحداً أبداً 4/307 ط. الهند) ، كما ذكره ابن حجر في "الإِصابة".
(3) أي خائفاً بالجملة.
(4) أي لو تقدمتُ فيها بالنهي والحكم العام، ثم فعله أحد بعد ذلك لرجمته.
(5) قوله: مكروهة، أي محرمة فإن عند محمد كل مكروه حرام.
(6) وفي نسخة: وقد.
(7) قوله: فقد نهى عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما جاء في غير حديث ولا اثنين، أي(2/548)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جَاءَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ وَلا اثْنَيْنِ، وَقَوْلُ عُمَرَ: لَوْ كُنْتُ تقدمتُ فِيهَا لرجمتُ إِنَّمَا نَضَعُهُ (1) مِنْ عُمَرَ عَلَى التَّهْدِيدِ (2) ، وَهَذَا (3) قَوْلُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
__________
جاء نهيه في أحاديث كثيرة: فعن سبرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم وهو قائم بين الركن والباب أيها الناس إني كنت أذنتُ لكم في الاستمتاع ألا وإن الله حرَّمها إلى يوم القيامة، أخرجه أحمد ومسلم. وعن مسلمة بن الأكوع: رخَّص لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام، ثم نهى بعده. أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم. وأخرج البيهقي عن علي: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المتعة، وإنما كانت لمن لم يجد فلما نزل النكاح والطلاق والعِدَّة والميراث نُسخ. وعن أبي ذر: إنما أُحلَّت لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أيام ثم نهى عنها، أخرجه البيهقي. وأخرج الطبراني في الأوسط عن سالم بن عبد الله قال: قيل لعبد الله بن عمر: إنَّ ابن عباس يأمر بنكاح المتعة، فقال: سبحان الله؟ ما أظنه يفعل هذا، قالوا: إنه يأمر به، قال: وهل كان ابن عباس إلاَّ غلاماً صغيراً في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، نهانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المتعة وما كنا مسافحين. وعن عمر أنه خطب حين استُخلف فقال: إن رسول الله أذن لنا في المتعة ثلاثاً ثم نهى عنه، أخرجه ابن المنذر والبيهقي. وفي الباب أخبار وآثار كثيرة مبسوطة في "الدر المنثور" وغيره (انظر مجمع الزوائد للهيثمي 4/264) ، ويُعلم من مجموعها أن المتعة أُحِلَّت مرات وحُرِّمت مرات ثم دام التحريم من زمن فتح مكة.
(1) أي نحمله على أنه قال ذلك زجراً لا أنه يرجم فاعلها لأن الحدود تُدرأ بالشبهات.
(2) ليرتدع الناس عن ذلك.
(3) قوله: وهذا قول أبي حنيفة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد والليث(2/549)
19 - (باب الرجل تكون عند امْرَأَتَانِ فَيُؤثِرُ (1) إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى)
585 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ رَافِعِ (2) بْنِ خَدِيج (3) : أَنَّهُ تزوَّج ابْنَةَ (4) مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمة، فَكَانَتْ تحته، فتزوّج
__________
والأَوْزاعي وغيرهم من فقهاء الأمصار، وما نُقل في "الهداية" عن مالك أنه أجاز ذلك فهو سهو تعقَّبه عليه شُرّاحُها، وقال الخطّابي في "المعالم": كان ذلك مباحاً في صدر الإِسلام ثم حُرِّم، ولم يبقَ فيه خلاف لأحد إلاَّ بعض الروافض، وكان ابن عباس يجوِّزه للمضطر ثم أمسك عنه كذا في "البناية". ونسب ابن حزم إلى جابر وابن مسعود وابن عباس ومعاوية وأبي سعيد الخدري وغيرهم الحكم بتحليلها، وتُعُقِّب بأنه لم يصح عنهم ذلك، والمشهور عن ابن عباس هو الحلُّ، لكن ثبت أنه رجع عنه، والقول الفيصل أنَّ من أفتى بحلِّه لم تبلغه أحاديث النهي، فهو معذور في ذلك ولا اعتداد، بقول أحد بعد قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقصة إنكار عليّ وابن عمر وابن الزبير على ابن عباس مشهورة مروية في كتب الأئمة (انظر المنتقى للباجي 3/334، وأوجز المسالك 9/401) .
(1) من الإِيثار بمعنى الاختيار أي يفضِّلها ويحبُّها.
(2) صحابي مشهور شهد أحداً وما بعدها، مات في أول سنة 74، ذكره السيوطي.
(3) بفتح الخاء.
(4) قوله: ابنة محمد بن سلمة، كذا في نسختين، ولعله محمد بن مسلمة كما في نسختين وهو معدود في الصحابة، مات سنة 46 أو سنة 47 أو غير ذلك، ذكره في "أسد الغابة".(2/550)
عَلَيْهَا امْرَأَةً شابَّة فَآثَرَ (1) الشابَّة عَلَيْهَا، فناشَدَتْه (2) الطَّلاقَ فطلَّقها وَاحِدَةً، ثُمَّ أَمْهَلَهَا (3) حَتَّى إِذَا كَادَتْ (4) تَحِلُّ ارْتَجَعَهَا، ثُمَّ عَادَ، فَآثَرَ (5) الشابَّة، فَنَاشَدَتْهُ الطَّلاقَ، فطلَّقها وَاحِدَةً، ثُمَّ أَمْهَلَهَا حَتَّى كَادَتْ أَنْ تحلَّ ارْتَجَعَهَا، ثُمَّ عَادَ فَآثَرَ الشابَّة، فناشدته الطلاق، فقال:
__________
(1) أي اختار (آثر: بالمد والفتح، اختار ومال بنفسه إليها، وذكر الباجي: أن الإِيثار على أربعة أضرب:
أحدها: الإِيثار بمعنى المحبة لأحدهما، فهذا لا يملك أحد دفعه ولا الامتناع عنه.
والثاني: إيثار إحداهما في سعة الإِنفاق والكسوة وسعة المسكن، ولكن ذلك بحسب ما تستحقه كل واحدة منهما نفقة مثلها ومؤونة مثلها ومسكن مثلها على قدر شرفها وجمالها وشبابها وسماحتها، فهذا الإِيثار واجب، ليس للأخرى الاعتراض فيه، ولا للزوج الامتناع منه، ولو امتنع لحكم به عليه.
الثالث: من الإِيثار أن يُعطي كل واحدة منهما من النفقة والكسوة ما يجب لها، ثم يؤثر إحداهما بأن يكسوها الخز والحرير والحلي، ففي "العُتبية" من رواية ابن القاسم عن مالك، أن ذلك له، فهذا الضرب من الإِيثار ليس لمن وفيت حقها أن تمنع الزيادة لضرّتها، ولا يجبر عليه الزوج، وإنما له فعله إذا شاء.
الرابع: أن يؤثر إحداهما بنفسه، مثل أن يبيت عند إحداهما أكثر، ويجامعها ويجلس عندها في يوم الأخرى أو ينقص إحداهما من نفقة مثلها ويزيد الأخرى، أو يجري عليها ما يجب لها، فهذا الضرب من الإِيثار لا يحل للزوج فعله إلاَّ بإذن المؤثر لها، فإن فعله كان لها الاعتراض فيه والاستعداء عليه. انظر المنتقى 3/353، والأوجز 9/460) الشابة في الاستمتاع.
(2) أي طلبته منه بالمبالغة.
(3) أي تركها منتظراً قرب العدَّة.
(4) أي قاربت أن تخرج من العدَّة.
(5) بيان للعود.(2/551)
مَا شئتِ (1) إِنَّمَا بقيتْ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ شِئْتِ اسْتَقْرَرْتِ (2) عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنَ الأَثَرَة (3) وَإِنْ شئتِ طَلَّقْتُكِ، قَالَتْ: بَلْ أَسْتَقِرُّ عَلَى الأَثَرَةِ فَأَمْسَكَهَا عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَرَ رافعٌ أَنَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إِثْمًا حِينَ رَضِيَتْ أَنْ تَسْتَقِرَّ عَلَى الأَثَرَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ بِذَلِكَ إِذَا رَضِيَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ وَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ (4) عَنْهُ إِذَا بَدَا لَهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
20 - (بَابُ (5) اللِّعان)
586 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (6) نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أن
__________
(1) أي أنت مخيَّرة في أمرك.
(2) أي أقمت عندنا على ما ترينه من اختياري للشابة.
(3) بفتح الهمزة والثاء، وبالكسر والسكون: بمعنى الاختيار.
(4) أي عن الرضاء إلى طلب حقها إذا ظهر له ذلك.
(5) قوله: باب اللِّعان، بالكسر من اللعن وهو الطرد والإِبعاد، وفي الشرع عبارة عن كلمات معروفة حجَّة للمضطر إلى قذف زوجته بالزنا. سُمِّي به لاشتماله على اللعن. واختير هذا اللفظ على لفظ الشهادة والغضب مع اشتماله (في الأصل: "اشتمالها"، وهو خطأ) عليهما أيضاً لأن اللعن واقع في جانب الرجل، والغضب في جانب المرأة، وجانب الرجل أقوى وأقدم، واللعن بالنسبة إلى الشهادة لفظ زاجر فاختص به.
(6) قوله: أخبرنا نافع، هكذا أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن من طريق مالك، وتابعه عبيد الله بن عمر عن نافع في الصحيحين وغيرهما، وتابعه في شيخه نافع سعيد بن جبير، عن ابن عمر عند الشيخين وغيرهما بنحوه، كذا قال الزرقاني.(2/552)
رَجُلا (1) لاعَنَ امرأَته فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْتَفَى (2) مِنْ وَلَدِهَا، ففرَّق (3) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقَ (4) الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. إِذَا نَفَى الرَّجُلُ وَلَدَ امْرَأَتِهِ ولاعَنَ فُرِّق بَيْنَهُمَا، وَلَزِمَ الْوَلَدُ (5) أمَّه. وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم الله تعالى.
__________
(1) قوله: أن رجلاً، هو عُوَيْمِر العجلاني وزوجته خولة بنت قيس العجلانية كما ذكره الحافظ ابن حجر في "مقدمة فتح الباري"، وقد وقع اللعان فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم من صحابيين: أحدهما عويمر بن أبيض - وقيل ابن الحارث - الأنصاري العجلاني رمى زوجته بشريك بن سحماء، فتلاعنا، وكان ذلك سنة تسع من الهجرة. وثانيهما: بلال بن أمية بن عامر الأنصاري، وخبرهما مرويّ في صحيح البخاري، ومسلم وغيرهما.
(2) أي أنكر الرجل انتساب الولد إليه.
(3) قوله: ففُرِّق، قال القاري: فيه تنبيه على أن التفرقة بينهما لا تكون إلاَّ بتفريق القاضي والحاكم، وقال زُفَر: تقع الفرقة بنفس تلاعنهما، وهو المشهور من مذهب مالك والمرويّ عن أحمد (وقال الشافعي: تقع الفرقة بلعان الزوج. الكوكب الدري 2/275) .
(4) قوله: وأُلحق الولد بالمرأة، أي في النسب والوراثة فيرث ولد الملاعنة منها، وترث منه، ولا وراثة بين الملاعن وبينه، وبه قال جمهور العلماء. وفي حديث مكحول قال: جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ميراث ولد الملاعنة لأمِّه ولورثتها من بعده وأخرج الترمذي وحسنه والنسائي وأبو داود وابن ماجه والحاكم عن واصلة مرفوعاً: تحرز المرأة ثلاثة مواريث عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت فيه.
(5) فيكون نسبه منها لا منه.(2/553)
21 - (بَابُ مُتْعَةِ (1) الطَّلاقِ)
587 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لِكُلِّ مطلِّقة مُتْعة إلاَّ الَّتِي تُطَلَّقُ وَقَدْ فُرض لَهَا صَدَاق وَلَمْ تُمَسّ فحسبُها (2) نصفُ مَا فُرض لَهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (3) . وَلَيْسَتِ (4) الْمُتْعَةُ الَّتِي يُجبر عليها
__________
(1) هي ما تُعطى المرأة عند الطلاق تتمتع بها حالاً.
(2) أي كافيها نصف مهرها.
(3) أي بل هي مستحبة جبراً لإِيحاش المرأة بالطلاق.
(4) قوله: وليست المتعة ... إلى آخره، المطلقة لا يخلو إما أن تكون مدخولةَ أو غير مدخولة وعلى كل تقدير لا يخلو من أن يكون المهر مسمَّىً في العقد أو لم يكن مسمى فإن كانت غير مدخولة والمهر غير مسمى وجبت المتعة عندنا لقوله تعالى: {ولا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسُّوهن أو تفرضوا لهن فرضة ومتِّعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} (سورة البقرة: الآية 236) . فإن ظاهر الأمر للوجوب، وبه قال ابن عمر وابن عباس والحسن وعطاء وجابر بن زيد والشَّعبي والنخعي والزهري والثوري والشافعي في رواية، وعنه أنه يجب نصف مهر المثل. وقال مالك والليث وابن أبي ليلى: ليست بواجبة، بل مستحبة. وإن كانت غير مدخولة والمهر مسمى فلا متعة لقوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسُّوهُنَّ وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} (سورة البقرة: الآية 237) ، وفي الصورتين الباقيتين تُستحب المتعة. وعند الشافعي تجب المتعة لكل مطلقة إلاَّ لغير المدخولة، والمهر غير مسمى، وقال مالك: إنها مستحبة في الجميع، كذا في "البناية" وغيرها.(2/554)
صَاحِبُهَا إلاَّ مُتْعَةً وَاحِدَةً، هِيَ مُتْعَةُ الَّذِي يطلِّق امْرَأَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، وَلَمْ يَفرض (1) لَهَا، فَهَذِهِ لَهَا الْمُتْعَةُ وَاجِبَةٌ، يُؤْخَذُ بِهَا فِي الْقَضَاءِ، وَأَدْنَى (2) الْمُتْعَةِ لِبَاسُهَا فِي بَيْتِهَا: الدِّرْعُ (3) والملحَفة والخِمار. وَهُوَ قولُ أَبِي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم الله.
__________
(1) أي لم يعين لها مهراً عند العقد.
(2) قوله: وأدنى المتعة (قال الموفق: إن المتعة معتبرة بحال الزوج في يساره وإعساره، نص عليه أحمد وهو وجه لأصحاب الشافعي، والوجه الآخر قالوا: معتبرة بحال الزوجة ... ثم اختلفت الرواية عن أحمد فيها فروي عنه أعلاها خادم، هذا إذا كان موسراً، وإن كان فقيراً متَّعها كسوتها درعاً وخماراً وثوباً تصلي فيه ونحو ذلك.
قال الثوري: والأَوْزاعي وعطاء ومالك وأبو عبيد وأصحاب الرأي قالوا: درع وخمار وملحفة، والرواية الثانية يُرجع إلى تقدير الحاكم وهو أحد قولي الشافعي، انظر أوجز المسالك 10/161) ، التقدير بثلاثة أثواب مرويّ عن عائشة وابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن والشعبي، وهي درع وملحفة وخمار، فالدرع بالكسر هو القميص، والخمار ما تغطي به رأسها، والمِلْحفة - بكسر الميم - الملاءة، تلتحف به المرأة، وقال في "المغني": أعلاها خادم، يُروى ذلك عن ابن عباس وأدناها كسوة تجوز فيها الصلاة، فإن كان فقيراً يمتِّعها درعاً وخماراً وثوباً تصلّي فيه، كذا في "البناية".
(3) بيراهن زن(2/555)
22 - (بَابُ مَا يُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ مِنَ الزِّينَةِ فِي الْعِدَّةِ)
588 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، أَنَّ صفيَّة (1) بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ اشْتَكَتْ عَيْنَيْهَا وَهِيَ حَادٌّ (2) عَلَى عَبْدِ اللَّهِ (3) بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَلَمْ تَكْتَحِلْ حَتَّى كَادَتْ عَيْنَاهَا أَنْ ترمَصَا (4) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ لا يَنْبَغِي أَنْ تَكْتَحِلَ بِكُحْلِ الزِّينَةِ وَلا تدَّهن (5) وَلا تتطيَّب، فَأَمَّا (6) الذُّرُور وَنَحْوُهُ فَلا بَأْسَ بِهِ، لأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِزِينَةٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فقهائنا.
__________
(بالفارسية) .
(1) زوجة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(2) قوله: وهي حادّ (حادّ: بغير هاء لأنَّه نعت للمؤنث، لا يشركه فيه المذكَّر كطالق وحائض. شرح الزرقاني 3/235) ، يقال حدَّ يحدُّ حداداً، وحداد المرأة ترك الزينة بعد وفاة زوجها.
(3) قوله: على عبد الله، قال الزرقاني: لا منافاة بينه وبين ما في الصحيحين أن ابن عمر رجع من الحج، فقيل له: إن صفية في السياق، فأسرَعَ السير، وجمع جمع تأخير وكان ذلك في إمارة ابن الزبير لأنها عُوفيت، ثم مات زوجها في حياتها كما ههنا.
(4) قوله: أن ترمَصا، بفتح الميم وبصاد مهملة، من الرمص وهو الوسخ الذي يجمد في موق العين.
(5) لأن الدهن لا يخلو عن نوع طيب.
(6) قوله: فأمَّا الذُّرور، بضم الذال المعجمة هو ما يذرُّ في العين ونحوه للدواء فلا بأس به، قاله القاري.(2/556)
589 - أخبرنا مالك، حدثنا نافع، عن صفيَّة بنت أَبِي عُبيد، عَنْ حَفْصَةَ أَوْ عَائِشَةَ أَوْ عَنْهُمَا (1) جَمِيعًا: أَنّ (2) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يحلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيْت فَوْقَ ثلاثِ ليالٍ إلاَّ عَلَى زَوْجٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. يَنْبَغِي (3) لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُحِدَّ على زوجها
__________
(1) قوله: أو عنهما، عند يحيى: عن حفصة وعائشة، وكذا لأبي مصعب ولابن بكير والقعنبي وآخرين عن عائشة أو حفصة على الشك، كذا في "التنوير".
(2) قوله: أن رسول الله قال لا يحلُّ لامرأة ... إلخ، هذا الحديث روي من رواية جماعة. فأخرج الجماعة إلاَّ الترمذي عن أم عطية مرفوعاً: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحدّ على ميت فوق ثلاث ليال إلاَّ على زوج أربعة أشهر وعشراً ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلاَّ ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمسّ طيباً إلاَّ إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار. وأخرج الجماعة إلاَّ ابن ماجه عن أم حبيبة أنه لما توفي أبوها أبو سفيان دعت بالطيب، ثم مست بعارضيها، ثم قالت: والله ما لي بالطيب حاجة غير أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لا يحلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد ... الحديث، وأخرجه مسلم من حديث حفصة وعائشة وزينب كما بسطه الزيلعي وغيره.
(3) قوله: ينبغي، أي يجب فإن الإِحداد على المعتدة سواء كانت مطلقة مبتوتة بالطلاق الواحد البائن أو الثلاث، وكذا المختلعة فإن الخلع طلاق بائن أو كانت توفي عنها زوجها. ووافقنا في الثانية الثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال الشعبي والحسن والحكم بن عيينة بعدم الوجوب، ووافقنا في الأولى الشافعي (قال الحافظ: الأصح عند الشافعية أن لا إحداد على المطلقة، أما الرجعية فالإِحداد عليها إجماعاً، وإنما الاختلاف في البائن فقال الجمهور: لا إحداد عليها وقالت الحنفية: عليها الإِحداد، وبه قال بعض الشافعية والمالكية، والمطلقة قبل الدخول لا إحداد عليها اتفاقاً. انظر فتح الباري 9/486) في رواية، وأحمد في رواية، وخالفا في رواية أخرى، كذا ذكره العيني في "البناية".(2/557)
حَتَّى تَنْقَضِيَ عدَّتها، وَلا تتطيَّب (1) وَلا تدَّهن لِزِينَةٍ، وَلا تَكْتَحِلُ لِزِينَةٍ، حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
23 - (بَابُ (2) الْمَرْأَةِ تَنْتَقِلُ مِنْ مَنْزِلِهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عدَّتها مِنْ مَوْتٍ أَوْ طَلاقٍ)
590 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرني (3) يحيى بن سعيد، عن
__________
(1) بيان لما ينبغي في الحداد.
(2) قوله: باب المرأة ... إلخ، اختلف العلماء في هذا الباب، فذهب عمر بن الخطاب من الصحابة وآخرون، وبه قال أصحابنا للمطلقة المبتوتة النفقة والسكنى في العدة وإن لم تكن حاملاً، أما النفقة للحامل فلقوله تعالى: {وإن كنَّ أولاتِ حملٍ فأنفقوا عليهنَّ حتى يضعن حملهن} (سورة الطلاق: الآية 6) . وأما غير الحامل فالسكنى لقوله تعالى: {أسكنوهنَّ من حيث سكنتم من وُجْدكم} (سورة الطلاق: الآية 6) والنفقة لأنها محبوسة عليه، وقال ابن عباس وأحمد: لا نفقة لها ولا سكنى، وحجتهم حديث فاطمة بنت قيس. وقال مالك والشافعي وغيرهما: يجب السكنى للآية دون النفقة لحديث فاطمة. وأما المتوفَّى عنها زوجها فلا نفقة لها بالإِجماع، والأصح وجوب السكنى، وأما المطلقة الرجعية فيجب لها النفقة والسكنى (انظر: أوجز المسالك 10/184) ، كذا ذكره النووي في "شرح صحيح مسلم".
(3) في نسخة: أخبرنا.(2/558)
الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَهُمَا يذكرانِ أَنَّ يَحْيَى (1) بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ طلَّق بِنْتَ (2) عَبْدِ الرَّحْمَنِ (3) بْنِ الحَكَمِ البتَّةَ، فَانْتَقَلَهَا (4) عبدُ الرَّحْمَنِ، فأرسلَتْ عائشةُ (5) إِلَى مَرْوَانَ (6) وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ: اتَّق اللَّهَ واردُدْ المرأةَ إِلَى بَيْتِهَا (7) ، فَقَالَ مَرْوَانُ فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ: إنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ (8) غَلَبَنِي (9) ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ الْقَاسِمِ: أوَما بَلَغَكِ (10) شأنُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قيس؟
__________
(1) قال الزرقاني: تابعي ثقة، مات في حدود سنة 80 هـ.
(2) قال ابن حجر في "مقدمة الفتح": أظنها عَمْرة.
(3) هو أخو مروان بن الحكم بن العاص.
(4) أي نقلها أبوها إلى مكانه.
(5) أم المؤمنين.
(6) وهو عم المرأة المطلقة.
(7) أي لتعتدَّ فيه.
(8) هذا مقول قول مروان في رواية سليمان بن يسار.
(9) أي لم أقدر على منعها.
(10) هذا قول مروان في رواية القاسم، قوله: أَوَما بلغك شأن فاطمة؟ هي بنت قيس بن خالد القرشية الفهرية أخت الضحاك بن قيس كانت من المهاجرات وزوجها أبو عمرو بن حفص بن عمرو بن المغيرة القرشي المخزومي، قيل: اسمه عبد المجيد، وقيل: أحمد، وقيل: اسمه كنيته، وكان خرج مع علي بن أبي طالب لما بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى اليمن، فبعث من هناك بتطليقة لفاطمة وكانت آخر تطليقاته، ثم خطبها معاوية وأبو جهم وحذيفة، فاستشارت النبي صلّى الله عليه وسلّم فأشار عليها بأسامة بن زيد، فتزوجت به، كذا ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب". وأشار مروان بشأن فاطمة إلى ما روي عنها أنها قالت: طلَّقني زوجي ثلاثاً فخاصمته إلى(2/559)
قَالَتْ عَائِشَةُ: لا يَضُرُّكَ (1) أَنْ لا تَذْكُرَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ، قَالَ مَرْوَانُ: إِنْ كَانَ بكِ الشَّرُّ فَحَسْبُكِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ مِنَ الشرِّ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (2) نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أن تنتقل من منزلها
__________
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وأمرني أن أعتدَّ في بيت ابن مكتوم، أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والطبراني وغيرهم مطوَّلاً ومختصراً. فإن خبرها هذا يدل على أن السكنى والنفقة ليستا بواجبتين إلاَّ للمطلَّقة الرجعية لا للمطلقة البائنة، بل ورد صريحاً في بعض طرق حديثها عند الطبراني: فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اسمعي يا بنت قيس، إنما النفقة للمرأة على زوجها ما كانت عليها رجعة، فإذا لم تكن عليها رجعة فلا نفقة لها ولا سكنى. وهذه الزيادة إن ثبتت كانت أيضاً في الباب لكنها لم تثبت كما بسطه الزيلعي وغيره.
(1) قوله: لا يضرك أن لا تذكر حديث فاطمة، لأنه لا حجة فيه لأنه كان لعلة. وفي البخاري: عابت عائشة على فاطمة بنت قيس أشدَّ العيب وقالت: إن فاطمة كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها، فلذلك رخَّص لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الانتقال. ولأبي داود عن سليمان بن يسار: إنما كان ذلك من سوء الخلق، فقال مروان لعائشة: إن كان بك الشر أي إن كان عندك أن سبب خروج فاطمة ما وقع بينها وبين أقارب زوجها من الشر فحسبك، أي يكفيك في جواز انتقال عمرة ما بين هذين أي عمرة ويحيى بن سعيد من الشر المجوِّز للانتقال، كذا في "شرح الزرقاني".
(2) قوله: وبهذا نأخذ، وبه قال جمع من الصحابة، وروي ذلك مرفوعاً أيضاً بسند ضعيف. فعن ابن مسعود وعمر قالا: المطلقة ثلاثاً لها السكنى والنفقة، أخرجه الطبراني في معجمه عن علي بن عبد العزيز، نا حجاج، نا أبو عوانة، عن سليمان، عن إبراهيم عنهما. وعن جابر قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: للمطلقة ثلاثاً السكنى والنفقة، أخرجه الدارقطني في "سننه" عن حرب بن أبي العالية، عن(2/560)
الَّذِي طلَّقها فِيهِ زوجُها طَلاقًا بَائِنًا (1) أَوْ غَيْرَهُ، أَوْ مَاتَ عَنْهَا فِيهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عدَّتها. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فُقَهَائِنَا.
591 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، أَنَّ ابْنَةَ (2) سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ نُفَيْلٍ طُلِّقت البتَّة، فَانْتَقَلَتْ (3) ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا ابْنُ عُمَرَ.
592 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا سَعْدُ (4) بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بن
__________
أبي الزبير، عن جابر. قال عبد الحق في "أحكامه": حرب لا يُحتجُّ به، ضعَّفه يحيى بن معين في رواية عنه والأشبه وقفه على جابر. وأخرج الترمذي عن عمر (وقد أنكر عمر رضي الله عنه بحضرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه منكر. بذلك المجهود 11/33) ، أنه كان يجعل لها النفقة والسكنى، كذا في "نصب الراية" وقد مرَّ بعض ما يتعلق بهذا المبحث سابقاً.
(1) واحداً كان أو أكثر.
(2) قوله: أن ابنة سعيد، هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيل - بضم النون - العدوي أحد العشرة المبشرة وكانت تحت عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي، لقبه المطرف بسكون الطاء وفتح الراء، كذا في الزرقاني.
(3) من بيت طُلِّقت فيه.
(4) قوله: أخبرنا سعد، قال السيوطي في "الإِسعاف": وسعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة القضاعي المدني حليف الأنصار وثقه ابن معين والنسائي وغيرهما، ومات بعد سنة 140، وعمتها زينب بنت كعب زوجة أبي سعيد الخدري وثّقها ابن حبان. انتهى. وفي "موطأ يحيى" مالك عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن عمته ... إلخ، قال ابن عبد البر: عند أكثر الرواة سعد بسكون العين(2/561)
عُجْرة، عَنْ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ ابْنَةِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، أَنَّ الفُرَيْعة (1) بِنْتَ مَالِكِ بْنِ سِنان (2) وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الخُدريّ أَخْبَرَتْهُ (3) : أَنَّهَا أتت
__________
وهو الأشهر، وهذا الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة، قال الترمذي حسن صحيح، وأحمد وإسحاق بن راهوية وأبو داود الطيالسي والشافعي وأبو يعلى، وأخرجه الحاكم من طريق سعد بن إسحاق المذكور، ومن طريق إسحاق بن سعد بن كعب بن عجرة عن عمّته زينب وقال: هذا الحديث صحيح الإِسناد من الوجهين جميعاً ولم يخرجاه، وقال محمد بن يحيى الذهلي: هو حديث صحيح محفوظ وهما اثنان سعد بن إسحاق، وهو أشهرهما وإسحاق بن سعد، وقد: رَوى عنهما جميعاً يحيى بن سعيد الأنصاري فارتفعت عنهما الجهالة. انتهى. كذا في "نصب الراية". وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" أعلّه عبد الحق في أحكامه تبعاً لابن حزم بجهالة حال زينب، وبأن سعد بن إسحاق غير مشهور بالعدالة، وتعقبه ابن القطان بأن سعداً وثقه النسائي وابن حبان، وزينب وثقها الترمذي، قلت: وذكرها ابن فتحون وابن الأثير في الصحابة. وقد رَوى عن زينب غير سعد، ففي مسند أحمد من رواية سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة عن عمته زينب، وكانت تحت أبي سعيد عن أبي سعيد حديث في فضل عليّ رضي الله عنه. انتهى.
(1) بضم الفاء وفتح الراء، سماها بعض الرواة عند النسائي الفارعة، وعند الطحاوي الفرعة.
قوله: أنَّ الفريعة، قال ابن عبد البر في "الاستيعاب": فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد الخدري، يقال لها الفارعة، شهدت بيعة الرضوان، وأمها حبيبة بنت عبد الله بن سلول روت حديثها زينب بنت كعب بن عجرة في سكنى المتوفّى عنها زوجها، استعمله أكثر فقهاء الأمصار.
(2) بكسر السين.
(3) قوله: أخبرته، كذا في عدة نسخ من هذا الكتاب، قال القاري: أي(2/562)
رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِي بَنِي خُدرة (1) ، فَإِنَّ زَوْجِي خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُد (2) لَهُ أَبَقُوا (3) حَتَّى إِذَا كَانَ بِطَرَفِ (4) القَدُّوم (5) أَدْرَكَهُمْ، فَقَتَلُوهُ، فَقَالَتْ: (6) فسألتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يأذنَ لِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي فِي بَنِي خُدرة فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ وَلا نَفَقَةٍ (7) فَقَالَ: نَعَمْ. فخرجتُ (8) حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِالْحُجْرَةِ دَعَانِي أَوْ (9) أَمَرَ مَنْ دَعَانِي، فدُعيتُ (10) لَهُ، فَقَالَ: كَيْفَ قلتِ؟ فرددتُ (11) عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذكرتُ له، فقال: امكثي (12) في بيتك
__________
أخاها. انتهى. وليس بظاهر فإن هذه القصة روتها زينب عن الفريعة لا عن أبي سعيد والظاهر ما في "الموطأ" ليحيى: أخبرتها أي زينب.
(1) بالضم قبيلة.
(2) بفتح الهمزة فسكون فضم: جمع العبد.
(3) بفتح الموحدة أي هربوا.
(4) بطريق.
(5) قال ابن الأثير: بالفتح والتشديد: موضع على ستة أميال من المدينة.
(6) الفريعة.
(7) أي ولا في نفقة.
(8) أي بعد قوله عليه السلام: نعم.
(9) شك من الفريعة.
(10) أي نوديت وطلبت عنده.
(11) أي أعدتُ عليه ما قلتُه سابقاً.
(12) أي اسكني.(2/563)
حَتَّى (1) يبلُغَ الْكِتَابُ (2) أجلَه، قَالَتْ: فاعتددتُ (3) فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ أَمْرُ عُثْمَانَ (4) أَرْسَلَ إِلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ (5) .
593 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمَرْأَةِ يُطَلِّقُهَا زَوْجُهَا وَهِيَ فِي بيت بكَراءٍ،
__________
(1) قوله: حتى يبلغ الكتاب أجله، أي حتى تنقضي العدة وهو اقتباس عن قوله تعالى: {ولا تعزموا عُقْدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} (سورة البقرة: الآية 235) ، ونظائر الاقتباس في الأخبار كثيرة ولا عبرة لقول من كرهه كما بسطه السيوطي في الإِتقان في علوم القرآن.
(2) يعني المكتوبة أي العدة.
(3) قوله: فاعتددت ... إلخ، قال البغوي: من قال بوجوب السكنى قال: إن أمره صلّى الله عليه وسلّم لفريعة أولى بالرجوع إلى أهلها صار منسوخاً بقوله آخراً: امكثي في بيتك، ومن لم يوجب السكنى قال: أمرها بالمكث استحباباً لا وجوباً. انتهى. ولا يخفى أن سياق القصة يقتضي أن الأمر للوجوب. وأما ما أخرجه الدارقطني عن محبوب عن أبي مالك النخعي عن عطاء عن علي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر المتوفّى عنها زوجها أن تعتدّ حيث شاءت، فقال الدارقطني فيه: لم يسنده غير أبي مالك، وهو ضعيف، وقال ابن القطان: ومحبوب بن محرر أيضاً ضعيف وعطاء مخلط وأبو مالك أضعفهم، ذكره الزيلعي.
(4) أي زمان خلافته.
(5) أي حكم به عثمان.(2/564)
عَلَى مَنِ الكرَاء (1) ؟ قَالَ: عَلَى زَوْجِهَا، قَالُوا: فإنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ زَوْجِهَا؟ قَالَ: فَعَلَيْهَا (2) ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا؟ قَالَ: فَعَلَى الْأَمِيرِ (3) .
594 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي مَسْكَنِ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ طَرِيقُهُ (4) فِي حُجْرَتِهَا، فَكَانَ يَسْلُكُ الطَّرِيقَ الأُخْرَى مِنْ أَدْبَارِ (5) الْبُيُوتِ إِلَى الْمَسْجِدِ، كَرَاهَةَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ عَلَيْهَا (6) حَتَّى رَاجَعَهَا (7) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا يَنْبَغِي (8) لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْتَقِلَ مِنْ مَنْزِلِهَا الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ زوجُها، إِنْ كَانَ الطلاقُ بَائِنًا أَوْ غيرَ بَائِنٍ، أَوْ مَاتَ عَنْهَا فِيهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدّتُها. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة والعامة من فقهائنا.
__________
(1) أي على من يجب عليه كراء البيت.
(2) أي فعلى المرأة.
(3) أي من بيت المال.
(4) أي طريق ابن عمر إلى المسجد كان من حجرة حفصة.
(5) بالفتح جمع دُبُر - بضمتين - أي من خلف البيت.
(6) فيه الموافقة للباب، فإنه يدل على أن المطلقة اعتدَّتْ في بيت حفصة.
(7) دل هذا على أن طلاقه كان رجعيّاً.
(8) قوله: لا ينبغي للمرأة ... إلخ، وأما حديث فاطمة بنت قيس أنه طلقها زوجها ثلاثاً فلم يفرض لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النفقة والسكنى، فقد أنكر عليها ذلك الخَبرَ جمعٌ من الصحابة، فلم يبق مما يُعتمد عليه حق الاعتماد. وقال بعضهم: إن ذلك كان لعذر، وسبب خاصّ كان بفاطمة لا عامّ، فأخرج أبو مسلم عن(2/565)
24 - (بَابُ عِدَّةِ أُمِّ (1) الْوَلَدِ)
595 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: عِدَّةُ أمِّ الْوَلَدِ إِذَا تُوفي عَنْهَا سيّدُها حيضة (2) .
__________
أبي إسحاق قال: حدث الشعبي بحديث فاطمة فأخذ الأسود كفّاً من حصى، فحصبه به فقال: ويلك تحدِّث بمثل هذا، قال عمر: لا ندع كتابَ ربِّنا ولا سنّة نبيّنا بقول امرأة لا ندري أنها حفظت أم نسيت، وزاد الترمذي فيه: وكان عمر يجعل لها النفقة والسكنى، وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: ما لفاطمة خير أن تذكر هذا، يعني قوله لا سكنى ولا نفقة، وفي لفظ البخاري: قالت: ما لفاطمة ألا تتّقي الله؟ وفي لفظ: أن عروة بن الزبير قال: ألم تسمعي من قول فاطمة؟ فقالت عائشة: ليس لها خير، وعند النسائي من طريق ميمون ابن مهران قال: قدمت المدينة فقلت لسعيد بن المسيب: إن فاطمة بنت قيس طُلِّقت فخرجت من بيتها؟ فقال: إنها كانت لَسِنَةً. ولأبي داود من طريق سليمان بن يسار: أن ذلك كان لسوء الخُلُق. وله أيضاً عن هشام عن أبيه: أن فاطمة عابت عليها عائشة أشدَّ العيب وقالت: إنها كانت في مكان وحش فخيف عليها ناحيتها. فلذلك رخَّص لها النبي صلّى الله عليه وسلّم. وأما قول ابن حزم: إن الراوي أبو الزناد عن هشام ضعيف جداً، فقد تُعُقِّب فيه بأن من طَعَن فيه لم يذكر ما يدل على ترك روايته، وقد جزم يحيى بن معين بأنه أثبت الناس في هشام بن عروة. وقد رد عليها زوجها أسامة بن زيد أيضاً، وهو الذي تزوجت به باستشارة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كذا في "شرح مسند الإِمام" و"فتح الباري" وغيرهما.
(1) هي الجارية التي ولدت من سيدها، فإنها بعد وفاة سيدها تصير حرّة.
(2) قوله: حيضة، أي واحدة، وبه قال الشافعي ومالك إلا أنها إذا لم تحض فشهر عند الشافعي وأشهر عند مالك، وبه قال أحمد. وقال أصحابنا: عدّتها عدة حرة وبه قال علي وابن سيرين وعطاء أخرجه الحاكم كذا قال القاري. ويؤيد الأول(2/566)
596 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي (1) الْحَسَنُ بْنُ عُمارة (2) ، عَنِ الحكم بن
__________
ما أخرجه ابن أبي شيبة عن يحيى بن سعيد قال: سمعت القاسم، وذُكر له أن عبد الملك بن مروان فرَّق بين نساء ورجالهن (أي ماتوا عنهن فعتقن لذلك. كذا في "الأوجز": 10/257) - كنّ أمهات أولاد نكحن بعد حيضة أو حيضتين - حتى تعتدن أربعة أشهر وعشراً، فقال: سبحان الله، إن الله يقول في كتابه: {والذين يُتَوَفَّوْنَ منكم ويذرون أزواجاً} (سورة البقرة: الآية 240) أتراهن من الأزواج (فكيف يعتدون عِدّة الأزواج، قال الباجي: وقول القاسم: يقول الله في كتاب ... إلخ. إنما يصح أن يحتج به على من يوجب ذلك من الآية ويتعلق بعمومها، فيصح من القاسم أن يمنعه من ذلك، ويقول: إن اسم الأزواج لا يتناول أمهات الأولاد، وإنما يتناول الزوجات. وأما من لم يتعلق بذلك فلا يصح أن يحتج عليه بما قال القاسم لجواز أن يثبت هذا الحكم لهن من غير الآية بقياس أو غير ذلك من أنواع الأدلة ويحتمل أن يكون القاسم يتعلق بدليل الخطاب من الآية. المنتقى 4/140) . ويؤيد الثاني ما أخرجه ابن أبي شيبة نا عيسى بن يونس عن الأَوْزاعي عن يحيى بن أبي كثير أن عمرو بن العاص أمر أمَّ ولد أعتقت أن تعتدّ بثلاث حيض، وكتب إلى عمر فكتب إليه بحسن رأيه. وأخرج أيضاً عن علي وعبد الله قالا: ثلاث حيض إذا مات عنها يعني أم الولد. وروى ابن حبان في صحيحه عن قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص قال: لا تلبسوا علينا سنة نبينا، عدة أم الولد المتوفَّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" وقال: على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وأخرجه الدارقطني ثم البيهقي في سننهمها، كذا ذكره الزيلعي.
(1) في نسخة: أخبرنا.
(2) بضم العين وتخفيف الميم.(2/567)
عُيَيَنة (1) ، عَنْ يَحْيَى (2) بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ ثَلاثُ حِيَضٍ.
597 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ثَوْرِ (3) بْنِ يَزِيدَ، عَنْ رَجَاءِ (4) بْنِ حَيْوَة، أَنَّ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ سُئِلَ عَنْ عِدَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ؟ فَقَالَ: لا تُلبِسُوا (5) عَلَيْنَا فِي دِينِنَا إنْ تكُ (6) أَمَةً فَإِنَّ عدّتها عدة حُرّةٍ (7) .
__________
(1) هكذا في النسخ والصحيح: عتيبة.
(2) قوله: عن يحيى بن الجزّار، بفتح الجيم وتشديد الزاي المعجمعة، بعد الألف وراء مهملة، قال في "التقريب" و"الكاشف": يحيى بن الجزار العُرَني - بضم المهملة وفتح الراء ثم نون - الكوفي، قيل اسم أبيه زبان - بزاي وموحدة - روى عن علي وعائشة، وعنه الحكم والحسن العرني، ثقة، صدوق رُمي بالغلوّ في التشيع.
(3) قوله: عن ثَوْر بن يزيد، بفتح الثاء المثلّثة وسكون الواو، ابن زياد الكلاعي، ويقال الرجبي أبو خالد الحمصي، روى عن مكحول ورجاء بن حَيْوة وعطاء وعكرمة وغيرهم. وعنه السفيانان ومالك وغيرهم، وثّقه ابن سعد وأحمد ابن صالح، ودحيم ويحيى بن سعيد ووكيع وغيرهم، مات سنة 55، كذا في "تهذيب التهذيب".
(4) قوله: عن رجاء، بالفتح، قال في "التقريب": رجاء بن حَيْوَة - بفتح المهملة وسكون التحتانية وفتح الواو - الكندي الفلسطيني، ثقة، فقيه، مات سنة 112.
(5) أي لا تخلطوا علينا أمر شرعنا.
(6) أي في ابتداء حالها.
(7) لأنها صارت حرة بعد موت سيدها.(2/568)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعي وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
25 - (بَابُ الخَلِيّة وَالْبَرِيَّةِ وَمَا يُشْبِهُ (1) الطَّلاقَ)
598 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الخَلِيّة (2) والبَرِيّة (3) ثَلاثُ (4) تَطْلِيقَاتٍ كل واحدة منهما.
__________
(1) قوله: وما يشبه الطلاق، أي من نحو بتّة وبتلة وحرام وغيرها من كنايات الطلاق التي لا يقع الطلاق فيها إلا بالنية، وقد اختُلف فيها، فقال الشافعي في الجديد: إن لفظ الطلاق والفراق والسراح صريح لورود ذلك في القرآن وما سواه كناية، وقال في القديم عنه: إن الصريح هو لفظ الطلاق وما يؤدي معناه وما سواه كناية، وقد رجح جماعة من الشافعية هذا القول وهو قول الحنفية، كذا في "فتح الباري".
(2) بفتح الخاء وكسر اللام وتشديد الياء.
(3) بفتح الباء وكسر الراء وتشديد الياء التحتانية.
(4) قوله: ثلاث تطليقات، قال القاري: هذا محمول على ما إذا نوى الثلاث فأما إذا لم ينو شيئاً أو نوى واحدة أو اثنتين يقع واحدة بائنة، وقال مالك والشافعي وأحمد: يقع بها رجعي إن لم ينوِ الثلاث. والمسألة مختلفة بين الصحابة، فقال عمر وابن مسعود: الواقع رجعي، وقال علي وزيد بن ثابت: الواقع بها بائن. انتهى. وفي "موطأ يحيى" (2/29. (يُدَيّنُ) ببناء المجهول من التديين أي يوكله إلى دينه ويصدَّق ديانة فيما بينه وبين الله. (أُحلف) من الإِفعال (لا يُخلي) بضم التحتانية وسكون الخاء وكسر اللام. بضم أولها مضارع من الإِخلاء (لا يُبينها ولا يُبرئها) بضم أولها مضارع من الإِبانة والإِبراء. كما في الأوجز 10/28) : قال مالك في الرجل يقول لامرأته أنت(2/569)
599 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: كَانَ رجلٌ تَحْتَهُ وَلِيدَةٌ (1) فَقَالَ لأَهْلِهَا: شأنَكم (2) بِهَا؟ قَالَ الْقَاسِمُ: فَرَأَى (3) النَّاسُ (4) أَنَّهَا تَطْلِيقَةٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا نَوَى الرَّجُلُ بالخَليّة (5) وَبِالْبَرِيَّةِ ثَلاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَهِيَ ثَلاثُ تَطْلِيقَاتٍ وَإِذَا أَرَادَ بِهَا وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنٌ، دَخَلَ بِامْرَأَتِهِ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة والعامة من فقهائنا.
__________
خَلِيّةٌ أو بريّةٌ أو بائنةٌ: إنّها ثلاثُ تطليقاتٍ للمرأة التي قد دخل بها، ويُدَيَّنُ في التي لم يدْخُل بها وَاحِدَةً أراد أم ثلاثاً، فإن قال: واحدة أُحْلِفَ على ذلك وكان خاطباً من الخُطَّابِ لأنّه لا يُخْلِي المرأة التي قد دخل بها زوجُها ولا يُبِيْنُها ولا يُبْرِئُها إلاّ ثلاث تطليقات والتي لم يدخل بها تُخْلِيها وتُبْرِئها الواحدة (فاعل للكل. والمعنى أن هذه الألفاظ تدل على قطع الوصلة والعصمة بينهما، وقطع العصمة لا يتفق في المدخول بها إلاّ بالثلاث لأن قبلها يقدر الزوج على رجعتها متى شاء فهي باقية على عصمتها فلم تخل عنه ولم تبن ولم تبرأ منه. وغير المدخول بها تبين بواحدة. فإن ادعى ذلك وحلف عليه يُصَدَّق قوله لأن اللفظ يحتملها لتحقق البينونة حينئذ أيضاً. أوجز المسالك 10/28) . قال مالك: وهذا أحسن ما سمعت في ذلك.
(1) أي جارية.
(2) قوله: شأنكم بها، أي الزموها واملكوها شأنها، وهو بمعنى قول الرجل لأهله: الحقي بأهلك.
(3) في نسخة: ورأى.
(4) أي فقهاء ذلك العصر.
(5) قوله: بالخلية والبرية، وكذا بقوله: أنت بائن، وبتّة، وبتلة، وحرام،(2/570)
26 - (بَابُ الرَّجُلِ يُولَد لَهُ فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ (1) الشَّبَه (2))
600 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ (3) رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَتَى رسولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم، فقال:
__________
والحقي بأهلك، وحبلك على غاربك، ولا ملك لي عليك، وفارقتك، وأمرك بيدك، وأنت حرة، وتقنّعي، وتخمّري، واخرجي، وقومي، وابتغي الأزواج، إلى غير ذلك من ألفاظ الكنايات فإن نوى بها واحدة فواحدة بائنة، وإن نوى ثلاثاً فثلاث، وإن نوى ثنتين فواحدة أيضاً. وقال زفر ومالك والشافعي: يقع ما نوى، وقال أحمد: هو عندي ثلاث، كذا في "الهداية" و"البناية".
(1) أي على الولد.
(2) بفتحتين أي مشابهة غيره.
(3) قوله: أنَّ رجلاً من أهل البادية، قال الحافظ ابن حجر في "مقدمة فتح الباري": هو ضمضم بن قتادة، رواه عبد الغني في "المبهمات" وابن فتحون من طريقه وأبو موسى في "الذيل". ولم أعرف اسم امرأته، لكن في الرواية الأخرى أنها امرأة من بني عجل، وفي الحديث: أن نسوة من بني عجل تقدَّمْنَ فأخبرن أنه كان لها جَدّة سوداء.
(1) أي لونه أسود مخالف للون أبويه، زاد في رواية الشيخين: وإني أنكرته (قال الحافظ ابن حجر: زاد في رواية يونس: وإني أنكرته،(2/571)
إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلامًا أَسْوَدَ (1) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا ألوانُها؟ قَالَ: حُمْر (2) ، قَالَ: فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَاقٍ (3) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (4) فَبِمَا (5) كَانَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أُراه (6) نَزَعَهُ عِرْقٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فلعل ابنَك (7) نزعه عِرق.
__________
أي استنكرته بقلبي، ولم يرد أنه أنكر كونه ابنه بلسانه وإلا لكان تصريحاً بالنفي لا تعريضاً. انظر بذل المجهود 10/419) .
(2) قوله: حُمْر، بضم الحاء وسكون الميم جمع أحمر أي هي على لون الحمرة.
(3) قوله: من أورق، أي آدم، كذا في "المُغرب" يعني أسمر اللون، وقيل: هو ما يكون فيه بياض إلى السواد ولونه يشبه الرماد.
(4) قوله: قال فبما كان ذلك، وفي نسخة قال: فأنّى له ذلك؟ وفي رواية الصحيحين: فأَنَّى ترى ذلك جاءها؟ أي من أين جاءها هذا اللون وأبواها ليسا بهذا اللون.
(5) أي فلِمَ كان هذا لونه أبويه خلافه.
(6) قوله: قال أراه، أي أظنه، نزعه عِرق - بكسر العين وسكون الراء - أي قلعها وأخرجها من ألوان فحلها ولقاحها عرق، ويقال: الأصل يقال فلان له عرق في الكرم، والمعنى أن ورقها إنما جاء لأنه كان في أصوله البعيدة ما كان بهذا اللون فاختلط لونه، كذا في "شرح المشكاة" للقاري.
(7) قوله: فلعل ابنك (قال الشوكاني: وفي الحديث دليل على أنه لا يجوز للأب أن ينفي ولده بمجرد كونه مخالفاً له في اللون، وقد حكى القرطبي وابن رشد الإِجماع على ذلك، وتعقَّبهما الحافظ بأن الخلاف في ذلك ثابت عند الشافعية، فقالوا: إن لم ينضم إلى المخالفة في اللون قرينة زنا لم يجز النفي، فإن اتَّهمها فأتت بولد على لون الرجل الذي اتهمها به جاز النفي على الصحيح عندهم، وعند الحنابلة يجوز النفي مع القرينة مطلقاً. بذل المجهود 10/418) ، أفاد الحديث عدم جواز نفي الولد بمجرد الوهم والخيال من دون دليل قوي وفيه إثبات القياس والاعتبار وضرب الأمثال.(2/572)
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ (1) أَنْ يَنْتَفِيَ (2) مِنْ وَلَدِهِ بِهَذَا وَنَحْوِهِ.
27 - (بابُ المرأةِ تُسْلِمُ قَبْلَ زوجِهَا)
601 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ: أَنَّ أمَّ حَكِيمٍ (3) بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ كَانَتْ تَحْتَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ فَأَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ (4) ، وَخَرَجَ (5) عِكْرِمَةُ هَارِبًا مِنَ الإِسلام حتى قدم اليمن،
__________
(1) هذا متفق عليه.
(2) في نسخة: ينفي.
(3) قوله: أم حكيم، قال ابن عبد البر في "الاستيعاب": أم حكيم بنت الحارث بن هشام المخزومي زوجة عكرمة، ذكر الواقدي: نا عبد الحميد بن جعفر نا أبي قال: كانت أم حكيم تحت عكرمة فقتل عنها بأجنادين، فاعتدّت وتزوجت بعده خالد بن سعيد بن العاص. وعكرمة بكسر العين وإسكان الكاف ابن أبي جهل عمرو بن هشام المخزومي وهو ابن عمها.
(4) أي فتح مكة.
(5) قوله: وخرج عكرمة، في رواية ابن مردويه والدارقطني والحاكم عن سعيد بن أبي وقاص: أن عكرمة لما ركب البحر أصابهم عاصف، فقال أصحاب السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني شيئاً، فقال عكرمة: والله لئن لم ينجني في البحر إلا الإِخلاص فلا ينجيني في البر غيره، اللَّهم إن لك عهداً عليّ إنْ عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً حتى أضع يدي في يده (في الأصل: يده في يدي، وهو تحريف) . وفي رواية البيهقي: أن امرأته قالت: يا رسول الله قد ذهب عكرمة إلى اليمن وخاف أن تقتله فآمِنْه، فقال:(2/573)
فَارْتَحَلَتْ (1) أمُّ حَكِيمٍ حَتَّى قَدِمَتْ فَدَعَتْه إِلَى الإِسلام فَأَسْلَمَ، فَقَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبَ (2) إِلَيْهِ فَرَحًا (3) وَمَا عَلَيْهِ رِدَاؤُهُ حَتَّى بَايَعَهُ (4) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا أَسْلَمَتِ الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ فِي دَارِ الإِسلام لَمْ يفرَّق بَيْنَهُمَا حَتَّى يُعرض عَلَى الزَّوْجِ الإِسلام، فَإِنْ أَسْلَمَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ (5) وإنْ أَبَى (6) أَنْ يُسلم فُرِّق بَيْنَهُمَا وَكَانَتْ فُرْقَتُهُمَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً. وهو قول (7) أبي حنيفة وإبراهيم النَّخَعي.
__________
هو آمن، فخرجتْ في طلبه، فأدركته، وركب سفينة وجاءت أم حكيم تقول: يا ابن عم، جئتك من عند أبرّ الناس وأوصل الناس وخير الناس، لا تُهلك نفسك، إني قد استأمنتُ لك رسولَ الله، فرجع معها وجعل يطلب جماعها فأبتْ، وقالت: أنا مسلمة وأنت كافر، فلما وافى مكة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: يأتيكم عكرمة مؤمناً فلا تسبوا أباه، فإن سبَّ الميت يؤذي الحيّ.
(1) من مكة بإذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
(2) أي قام إليه بسرعة.
(3) بكسر الراء: صفة مشبهة، أو بفتح الراء: مصدر.
(4) وقال له مرحباً بالراكب المهاجر.
(5) أي باقية على ما كانت.
(6) أي امتنع بعد العرض.
(7) قوله: وهو قول أبي حنيفة، قال في "الهداية" و"البناية": إذا أسلمت المرأة وزوجها كافر عرض القاضي عليه الإِسلام، فإذا أسلم فهي امرأته وإن أبى عن الإِسلام فرَّق بينهما، وكان ذلك طلاقاً عند محمد وأبي حنيفة لا فسخاً لأنه(2/574)
28 - (بَابُ انْقِضَاءِ الْحَيْضِ)
602 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُروة بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: انتقلَتْ (1) حفصةُ (2) بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ دَخَلَتْ (3) فِي الدَّم مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، فذكرتُ (4) ذَلِكَ لعَمْرة بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فقالَتْ: صَدَقَ عروةُ (5) ، وَقَدْ جادلَها (6) فِيهِ ناسٌ، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ عزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {ثلاثة قروء} ، فَقَالَتْ: صدَقْتُم (7) ، وَتَدْرُونَ مَا الأَقْرَاءُ؟ إِنَّمَا الأقراءُ الأطهار (8) .
__________
فات الإِمساك بالمعروف من جانبه فتعيَّن التسريح بإحسان، فإن طلَّق وإلا فالقاضي نائب منابه. وإن أسلم الزوج وتحته مجوسية عرض عليها الإِسلام، فإذا أسلمت فهي امرأته وإذا أبت فَرّق القاضي بينهما ولم تكن الفرقة طلاقاً، وقال أبو يوسف لا يكون طلاقاً في الوجهين (قد بسط الكلام على ذلك في الأوجز 9/415. وذكر فيه عدة مسائل في هذا الباب وِفاقية وخلافية. فارجع إليه) .
(1) في "موطأ يحيى": أنها حفصة أي عائشة نقلت حفصة من بيت العدَّة.
(2) زوجة المنذر بن العوّام.
(3) أي شرعت.
(4) هذا قول ابن شهاب، كذا صرح به في "موطأ يحيى".
(5) أي فيما روى.
(6) أي نازع عائشة.
(7) أي في قراءتكم القرآن.
(8) قوله: إنما الأقراء الأطهار، هو جمع قرءٍ وكذلك القروء، وهو بفتح(2/575)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
القاف وضمها لغتان حكاهما القاضي عياض وأشهرهما الفتح، وهو الذي اقتصر عليه أكثر أهل اللغة. واتفقوا على أنه من الأضداد، مشترك بين الحيض والطهر، ولهذا وقع الاختلاف بين الصحابة في تفسير القروء، وكذا ذكره النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" واختلاف الصحابة فيه على قولين، فمنهم من اختار أن القرء في الآية محمول على الطهر فتمضي العدة بمضيِّ ثلاثة أطهار وإن لم تنقض الحيضة الثالثة، منهم عائشة قالت: إنما الأقراء الأطهار، أخرجه عنها مالك والشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني والبيهقي، ومنهم ابن عمر وزيد بن ثابت كما أخرجه عبد الرزاق والبيهقي وابن جرير. وأخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والبيهقي عن زيد قال: إذا دخلت المطلقة في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها، وحلَّتْ للأزواج، وأخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والبيهقي عن عائشة قالت: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وحلَّت للأزواج، وأخرج مالك والشافعي والبيهقي عن ابن عمر، قال العيني. وبه قال الشافعي ومالك، وقال أحمد: كنت أقول بالأطهار، ثم رجعت إلى قول الأكابر (قال القاضي: الصحيح عن أحمد أن الأقراء: الحيض، وإليه ذهب أصحابنا ورجع عن قوله بالأطهار. انظر المغني 7/453) . انتهى. وذهب جمع من الصحابة إلى أن القرء هو الحيض، وقد بسط السيوطي رواياتهم في "الدر المنثور"، من ذلك ما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد والبيهقي عن علقمة أن رجلاً طلق امرأته، ثم تركها حتى إذا مضت حيضتان، وأتاها الثالثة وقد قعدت في مغتسلها لتغتسل فأتاها زوجها، وقال: قد راجعتك ثلاثاً، فأتيا عمر بن الخطاب، فقال عمر لابن مسعود: ما تقول فيها؟ قال: أرى أنه أحق بها حتى تغتسل من الثالثة ويحلُّ لها الصلاة، فقال عمر: وأنا أرى ذلك. وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: أرسل عثمان بن عفان إلى أبيّ يسأله عن رجل طلَّق امرأته، ثم راجعها حين دخلت في الحيضة الثالثة فقال أبي: إني أرى(2/576)
603 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ (1) .
604 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يُقَالُ لَهُ (2) الأَحْوَصُ طلَّق امْرَأَتَهُ (3) ، ثُمَّ مَاتَ حِينَ دَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثالثة، فقالت:
__________
أنه أحق بها ما لم تغتسل. وأخرج البيهقي من طريق الحسن، عن عمر بن عبد الله وأبي موسى قالا: هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. قال العيني: وبه قال الخلفاء الأربعة والعبادلة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وعبادة بن الصامت وأبو موسى الأشعري ومعبد الجهني، وهو قول طاوس وعطاء وابن المسيب، وسعيد بن جبير والحسن بن حَيّ وشريك القاضي والحسن البصري والثوري والأوزاعي وابن شبرمة وربيعة وأبي عبيدة ومجاهد ومقاتل وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي وإسحاق وأحمد وأصحاب الظاهر. انتهى.
(1) أي كقول عمرة وعائشة.
(2) قوله: يقال له الأحوص، بالحاء المهملة والصاد المهملة ابن عبد بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، ذكر ابن الكلبي والبلاذري: أنه كان عاملاً لمعاوية على البحرين. ومقتضاه أن يكون له صحبة وإنه عُمِّر لأن أباه مات كافراً، ومن ولده منصور بن عبد الله بن الأحوص له ذكر بالشام في أيام بني مروان، وكان ابنه عبد الله عاملاً أيضاً لمعاوية. وفي رواية ابن عيينة عن الزهري، عن سليمان بن يسار أن الأحوص بن فلان أو فلان بن الأحوص، قال ابن الحذّاء: الأقوى أن القصة للأحوص بن عبد، ويحتمل أن يكون لولده عبد الله، ولم يسمِّ في رواية الزهري، قاله في "الإصابة". وهذا الاحتمال لا يجري في رواية "الموطأ" فإن فيه تصريحاً باسم الأحوص، كذا في "شرح الزرقاني".
(3) طلقة أو طلقتين كما في رواية ابن أبي شيبة.(2/577)
أَنَا وَارِثَتُهُ (1) ، وَقَالَ بَنُوهُ: لا تَرِثِينَهُ (2) ، فَاخْتَصَمُوا إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَسَأَلَ مُعَاوِيَةُ فَضالة (3) بْنَ عُبيد وناساَ (4) مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ عِلْمًا فِيهِ، فَكَتَبَ إِلَى (5) زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَكَتَبَ إِلَيْهِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أَنَّهَا إِذَا دَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَإِنَّهَا لا تَرِثُهُ وَلا يَرِثُهَا، وقد برأت مِنْهُ وَبَرِئَ مِنْهَا (6) .
605 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِثْلَ ذَلِكَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: انْقِضَاءُ العِدَّة عِنْدَنَا (7) الطَّهَارَةُ مِنَ الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ إذا اغتسلت منها.
__________
(1) أي لأنه مات وأنا في العدة.
(2) أي لأنك خرجت من العدة، وفي نسخة لا ترثه.
(3) قوله: فضالة، بالفتح، ابن عُبيد - بالضم - من الصحابة الأنصار شهد أحداً وما بعدها ثم انتقل إلى الشام وسكن بها وكان قاضياً لمعاوية، ومات بدمشق سنة 53، كذا في "الاستيعاب".
(4) أي وعلماء آخرين.
(5) أي إلى المدينة.
(6) أي انقطعت العلاقة بينهما.
(7) قوله: عندنا، قد عرفت أن المسألة مختلف فيها من عهد الصحابة إلى من بعدهم، لكن ما اختاره أصحابنا من أن المراد بالقرء في قوله تعالى: {ثلاثة قروء} الحيض، وأن انقضاء العمدة بالاغتسال من الحيضة الثالثة مرجَّح لوجوهٍ، منها: أنه موافق لحديث طلاق الأمة تطليقتان وعدّتها حيضتان. كما مرَّ ذكره في "باب(2/578)
606 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادٍ (1) ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: أنَّ رجلاً امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً (2) يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى
__________
الحرة تكون تحت العبد" فإنه يدل على أن المراد بالقرء الواقع في عدة المطلقات الحرة الحيض، وإلاَّ لكانت عدة الأمة طهرين لا حيضتين، فإن عدة الأمة نصف عدة الحرة، ولمّا لم يكن التجزّي للحيضة جعلت حيضتين، يدل عليه قول عمر: لو استطعت أن أجعل عدة الأمة حيضاً ونصفاً فعلت، أخرجه عبد الرزاق والشافعي وابن أبي شيبة والبيهقي في"كتاب المعرفة"، ومنها: أن الله تعالى بعد ما عمَّم المطلقات بقوله في سورة البقرة: {والمطلَّقات يتربَّصنَ بأنفسهن ثلاثة قروء} (سورة البقرة: الآية 228) ، قال في سورة الطلاق: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر} (سورة الطلاق: الآية 4) ، فذكر فيه مقدار عدة الآيسة، وأشار بذكر المحيض إلى أن المراد بالقروء في الآية السابقة هو الحيض (لأن المعهود في لسان الشرع القرء بمعنى الحيض، ولم يعهد في لسانه استعماله بمعنى الطهر في موضع فوجب أن يحمل كلامه على المعهود في لسانه. انظر المغني 7/453) ، ومنها: أن الطلاق السنّي هو الطلاق في الطهر، فإن كان المراد بالقرء الطهر فإن احتسب الطهر الذي وقع فيه الطلاق كان المجموع أقل من ثلاثة قروء، وإن لم يحتسب كان أزيد منها، وهو خلاف قوله تعالى: {ثلاثة قروء} بخلاف ما إذا حُمل القرء على الحيض فإنه حينئذٍ لا يبطل مؤدى الثلاثة في الطلاق السنّي. وفي المقام أبحاث طويلة عريضة مذكورة في بحث الخاص من كتب الأصول. ومنها: أنه مذهب الخلفاء الأربعة والعبادلة وأكابر الصحابة فكان أولى بالقبول بالنسبة إلى قول أصاغر الصحابة.
(1) ابن أبي سليمان.
(2) أي طلاقاً رجعياً.(2/579)
انْقَطَعَ دَمُهَا مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَدَخَلَتْ مُغْتَسَلَها (1) وَأَدْنَتْ (2) مَاءَهَا، فَأَتَاهَا (3) فَقَالَ لَهَا: قَدْ رَاجَعْتُكِ، فَسَأَلَتْ (4) عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ ذَلِكَ وَعِنْدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ عُمَرُ: قُلْ فِيهَا بِرَأْيِكَ (5) ، فَقَالَ: أُراه (6) يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَحَقَّ بِرَجْعَتِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنْ حَيْضَتِهَا الثَّالِثَةِ، فَقَالَ: عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: كُنَيْفٌ (7) مُلئ عِلْمًا.
607 - أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُوَ (8) أَحَقُّ بِهَا حتى تغتسل من حيضتها الثالثة.
__________
(1) على المفعول: أي مكان غسلها.
(2) أي قرَّبت إليها ماءها لتغتسل.
(3) زوجها.
(4) تلك المرأة.
(5) لعدم التصريح الصريح بذلك في الكتاب.
(6) أي أظنه.
(7) قوله: كُنيف ملئ علماً، قال القاري: الكِنف بكسر القاف وسكون النون وعاء آلات الراعي. والكُنَيْف - كزبير - لُقِّب به ابن مسعود تشبيهاً له بوعاء الراعي، والتصغير للمدح والتعظيم على ما في "المغرب" و"المصباح"، ولا يبعد أن يكون للتشبيه، فإن ابن مسعود كان قصيراً جداً، والمعنى بأنه كان صغيراً في المبنى إلاَّ أنه كبير في المعنى.
(8) أي الزوج أحق بالمرأة للرجعة.(2/580)
608 - أَخْبَرَنَا عِيسَى (1) بْنُ أَبِي عِيسَى الْخَيَّاطُ الْمَدِينِيُّ (2) ، عَنِ الشَّعبي، عَنْ ثَلاثَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ قَالُوا: الرَّجُلُ أَحَقُّ بِامْرَأَتِهِ حَتَّى تَغْتَسِلَ مِنْ حَيْضَتِهَا الثَّالِثَةِ. قَالَ عِيسَى: وَسَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ المسيَّب يَقُولُ: الرَّجُلُ أحقُّ بِامْرَأَتِهِ حَتَّى تغتسلَ مِنْ حَيْضَتِهَا الثَّالِثَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
__________
(1) قوله: عيسى بن أبي عيسى الخياط، قال الذهبي في "الكاشف": عيسى بن أبي عيسى الخياط، روى عن أبيه والشعبي وعدة، وعنه وكيع وابن أبي فديك وعدة، ضعَّفوه، وهو كوفي سكن المدينة، وكان خيّاطاً، وحنّاطاً يبيع (في الأصل: "يباع"، وهو خطأ) الحِنْطة، مات سنة 151. انتهى. وفي "التقريب": عيسى بن أبي عيسى الحنّاط الغفاري أبو موسى المديني أصله من الكوفة واسم أبيه ميسرة، ويقال فيه الخياط بالمعجمة والتحتانية، وبالموحدة وبالمهملة والنون، وكان قد عالج الصنائع الثلاثة (هو كان كوفياً، انتقل إلى المدينة، كان خياطاً ثم ترك ذلك وصار حنّاطاً ثم ترك ذلك وصار يبيع الخبط، متروك الحديث. انظر تهذيب التهذيب 8/224) ، متروك من السادسة، مات سنة إحدى وخمسين، وقيل قبل ذلك.
(2) قوله: المديني، هو والمدني كلاهما نسبة إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم والقياس حذف الياء، ومن أثبتها فهو على الأصل، وروى أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي في كتاب "الأنساب المتَّفقة في الخط المتماثلة في النقط والضبط" بإسناده إلى البخاري أنه قال: المديني بالياء هو الذي أقام بالمدينة ولم يفارقها، والمدني الذي تحول عنها وكان منها، كذا ذكره النووي في "شرح صحيح مسلم".(2/581)
2 - (بَابُ الْمَرْأَةِ يطلِّقها زَوْجُهَا طَلاقًا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ (1) فَتَحِيضُ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ تَرْتَفِعُ حَيْضَتُهَا)
609 - أخبرنا مالك، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن (2) مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ: أنَّه (3) كَانَ (4) عند جَدَّه امرأتان
__________
(1) أي طلا قاً رجعياً.
(2) قوله: عن محمد بن يحيى بن حَبّان، بفتح الحاء المهملة وتشديد الموحدة، هو مدني ثقة فقيه، قال: كانت عند جَدِّي حبّان بن منقذ بذال معجمة، الأنصاري المازني الصحابي، كذا قال الزرقاني.
(3) ضمير الشان.
(4) قوله: أنه كان عند جده ... إلخ، هذا الأثر في هذا الباب غير موافق لما عنون به الباب، فإن المقصود في الباب ذكر حكم من ارتفع حيضها بعد حيضة أو حيضتين، وفي هذه القصة زوجة حبان لم تكن آيسة ولا كان ارتفع حيضها بعد حيضة أو حيضتين فإنها إن كانت آيسة فقد مضت عدتها بعد ثلاثة أشهر من وقت الطلاق، فكيف يمكن أن يحكم بتوريثها من حبان، وكان موته عند رأس السنة من وقت الطلاق، بل كانت هي مرضعة عند الطلاق، والمرضعة لا تحيض، فعدتها كانت بالحيض، فما لم تحض لم تخرج من العدة، فلذلك ورثها عثمان. ويوضحه ما أخرجه الشافعي عن عبد الرحمن بن أبي بكر أن رجلاً من الأنصار يقال له حبان بن منقذ طلَّق امرأته، وهو صحيح، وهي تُرضع ابنته، فمكثت سبعة عشر شهراً لا تحيض، يمنعها الرضاع أن تحيض، ثم مرض حبَان، فقلت له: إن المرأة تريد أن ترث، فقال لأهله: احملوني إلى عثمان، فحملوه إليه، فذكر له شأن امرأته وعنده علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت، فقال لهما عثمان: ما تريان؟ فقالا: نرى أنها ترثه إن مات، ويرثها إن ماتت، فإنها ليست من القواعد اللاتي (في الأصل: "التي"، وهو تحريف) قد يئسن من(2/582)
هاشميةٌ (1) وأنصاريةٌ (2) فطلَّق الأنصارية و (3) هي تُرضع (4) ، وَكَانَتْ لا تَحِيضُ (5) وَهِيَ تُرضع فمرَّ بِهَا قَرِيبٌ مِنْ سَنَةٍ، ثُمَّ هَلِكَ (6) زَوْجُهَا حِبَّانُ عِنْدَ رَأْسِ السَّنَةِ، أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ تَحِضْ، فَقَالَتْ: أَنَا أَرِثُه مَا لَمْ أَحِضْ (7) ، فَاخْتَصَمُوا (8) إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رضي الله عنه - فقضى لها
__________
المحيض، وليست من الأبكار اللاتي (في الأصل: "التي"، وهو تحريف) لم يبلغن المحيض، ثم هي على عدة حيضها ما كان من قليل أو كثير، فرجع حبان إلى أهله وأخذ ابنته، فلما فقدت الرضاع حاضت حيضة، ثم حاضت حيضة أخرى، ثم توفي حبان قبل أن تحيض الثالثة، فاعتدت عدة المتوفَّى عنها زوجها وورثته، كذا أورده السيوطي في "الدر المنثور". ويمكن أن يقال المقصود في الباب ذكر حكم من تأخر أو ارتفع حيضها مطلقاً آيسة كانت أو غير آيسة، وما ذكره في عنوان الباب ليس قيداً احترازياً.
(1) أي من قبيلة بني هاشم.
(2) أي من قبيلة الأنصار.
(3) الواو حالية.
(4) حال آخر.
(5) أي لأجل الرضاع.
(6) أي مات.
(7) لأنها لم تبلغ من الإِياس، فما دام لم تحض لم تنقض العدة (قال الباجي: وذلك أن ارتفاع حيض المطلَّقة يكون لسبب معروف أو غير معروف، فأما ما كان بسبب معروف كالرضاع والمرض فإنها تؤخر للرضاع فإنها لا تعتدُّ إلاَّ بالأقراء طال الوقت أو قصر، وقد احتج القاضي أبو محمد في ذلك بالإِجماع. المنتقى 4/87) .
(8) أي ورثة حبان معها.(2/583)
بِالْمِيرَاثِ فَلامَتِ الْهَاشِمِيَّةُ عُثْمَانَ (1) فَقَالَ: هَذَا عملُ ابنِ عمِّك (2) هُوَ أَشَارَ (3) عَلَيْنَا بِذَلِكَ، يَعْنِي (4) علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه.
610 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيط (5) وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ (6) عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّمَا امرأةٍ طُلِّقَت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم رُفِعَت (7)
__________
(1) في حكمه بالتوريث.
(2) خطاب إلى الهاشمية.
(3) أي أشار علينا بهذا الحكم ابنُ عمِّك علي، ولست أنا بمتفرِّد ومستقلّ في هذا الرأي.
(4) أي يريد عثمان بابن عمها علياً.
(5) مصغراً.
(6) قوله: قال عمر رضي الله عنه. . . إلخ، في "موطأ يحيى" وشرحه قال مالك: الأمر عندنا في المطلقة التي ترفع حيضتها أنها تنتظر تسعة أشهر، فإن لم تحض فيهن اعتدَّت ثلاثة أشهر بعد التسعة فإن حاضت قبل أن تستكمل الأشهر الثلاثة استقبلت الحيض لأنها صارت من ذوات القروء، فإن مرت بها تسعة أشهر قبل أن تحيض حيضة ثانية اعتدَّت ثلاثة أشهر، فإن حاضت الثانية قبل أن تستكمل أشهر الثلاثة استكملت عدَّة الحيض، وحلَّت، فإن لم تحض استكملت ثلاثة أشهر. ولزوجها عليها في ذلك أي مدة الانتظار والاستقبال الرجعة قبل أن تحل لبقاء عدتها إلاَّ أن يكون قد بتَّ طلاقها. انتهى. وفيه خلاف لأصحابنا كما بيَّنه المصنف بإيراد روايتين من غير طريق مالك.
(7) بصيغة المجهول.(2/584)
حَيْضَتُهَا فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ (1) تِسْعَةَ أَشْهُرٍ (2) فَإِنِ اسْتَبَانَ بِهَا حَملٌ فَذَلِكَ (3) وإلاَّ اعتدَّت (4) بَعْدَ التِّسْعَةِ ثلا ثة أَشْهُرٍ ثُمَّ حلَّت (5) .
611 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو حنيفة، عن حماد (6) عن
__________
(1) لإِتيان الحيضة.
(2) لأنه غالب وضع الحمل.
(3) أي فلا تحلُّ إلاَّ بوضع الحمل.
(4) لما أنه علم حينئذٍ أنها آيسة.
(5) أي خرجت من العدة (قال الباجي: التي تحيض في عدتها ثم ترفعها حيضتها تنتظر تسعة أشهر، وهو قول عامة أصحابنا على الإِطلاق غير ابن نافع فإنه قال: إن كانت ممن تحيض فحاضت حيضة أو حيضتين ثم رفعتها حيضتها فإنها تنتظر خمس سنين أقصى أمد الحمل، وإن كانت يائسة من المحيض اعتدَّت بالسنة تسعة أشهر ثم ثلاثة أقراء، قال سحنون: وأصحابنا لا يفرقون بينهما، وما قاله الجمهور أولى لأن التسعة أشهر هي أمد الحمل المعتاد، ثم قال: والمعتدة من الطلاق على ضربين: حائض وغير حائض، وأما الحائض فهي التي قد رأت الحيض ولو مرة في عمرها ثم لم تبلغ سنة الإِياس منها. فهذه إذا طلقت فحكمها أن تعتد بالأقراء، فإن لم ترَ حيضاً انتظرت تسعة أشهر، وهذا مذهب عمر رضي الله عنه، وبه قال ابن عباس والحسن البصري، وقال أبو حنيفة والشافعي: تنتظر الحيض أبداً، والدليل على ما نقوله أن هذا إجماع الصحابة لأنه روي عن عمر - رضي الله عنه - وابن عباس وليس في الصحابة مخالف. المنتقى للباجي 4/108. وبقول مالك قال أحمد وقال الشافعي في الجديد: تكون في عدّة أبداً حتى تحيض أو تبلغَ سن الإِياس فتعتد حينئذٍ بثلاثة أشهر، ومذهب أبي حنيفة في ذلك موافق لجديد قول الشافعي. انظر الأوجز 10/208) .
(6) ابن أبي سليمان.(2/585)
إتراهيم (1) : أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ قَيْسٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلاقًا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فَحَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ، ثُمَّ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا عَنْهَا ثَمَانِيَةَ (2) عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ مَاتَتْ (3) فَسَأَلَ علقمةُ عبدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: هَذِهِ امْرَأَةٌ حَبَسَ (4) اللَّهُ عَلَيْكَ مِيرَاثُهَا فَكُله.
612 - أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ أَبِي عِيسَى الْخَيَّاطُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ (5) : أَنَّ علقمةَ بْنَ قَيْسٍ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ (6) عَنْ ذَلِكَ (7) فَأَمَرَهُ بِأَكْلِ (8) مِيرَاثِهَا.
قَالَ محمدُ: فَهَذَا (9) أَكْثَرُ (10) مِنْ تسعة أشهر وثلاثة أشهر بعدها،
__________
(1) ابن يزيد النخعي.
(2) قوله: ثمانية عشر شهراً، أخرجه البيهقي أيضاً عن علقمة بسند صحيح، وقال فيه: سبعة عشر شهراً أو ثمانية، ذكره ابن حجر في "التلخيص".
(3) أي المرأة قبل أن تكمل العدة بالحيضة.
(4) أي أوقفه لك بتطويل العدة.
(5) اسمه عامر.
(6) في بعض النسخ: ابن معمر.
(7) أي عن حكم ما تقدم.
(8) في نسخة: بأكله.
(9) أي العدد المذكور في قصة علقمة.
(10) قوله: أكثر، يشير به إلى معارضة فتوى عمر بفتوى ابن مسعود وابن عمر، فإن عمر أفتى في مثل ذلك بأنها تنتظر تسعة أشهر، ثم تعتدُّ بثلاثة أشهر وابن مسعود أفتى بعدم انقضاء العدة، وإن مضت ثمانية عشر شهراً من وقت الطلاق(2/586)
فَبِهَذَا (1) نأخذُ. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ من فقهائنا، لأن (2) العدة
__________
ما لم تحض، وذلك لأنها ليست بآيسة بل ارتفع حيضها بالرضاع أو غيره، فلا تخرج من العدة ما لم تحض.
(1) أي بقول ابن مسعود.
(2) قوله: لأن العدة ... إلخ، توجيه لترجيح فتوى ابن مسعود، وحاصله أن العدة المذكورة في كتاب الله على أربعة أوجه لأربعة أقسام، أحدها: العدة للحامل سواء كانت مطلقة أو متوفَّى عنها زوجها، وهي وضع الحمل في قوله تعالى: {وأولاتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أن يضعنَ حملهنَّ} (سورة الطلاق: الآية 4) وثانيها: العدة للآيسة التي أيست لِكَبرِها فارتفع حيضها. ثالثها: العدة للصغيرة التي لم تبلغ مبلغ الحيض، وهي ثلاثة قروء، في قوله تعالى: {والائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتُم فعدَّ تُهُنَّ ثلاثةُ أشهر واللائي لم يحضن} (سورة الطلاق: الآية: 4) . ورابعها: العدة للمطلقة التي تحيض وهي ثلاثة قروء في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} (سورة البقرة: الآية 228) . وهذه كلها للمطلقة. ووجه خامس: وهو عدة المتوفى عنها زوجها غير الحامل في قوله تعالى: {والذين يُتَوَفَّون منكم ويذرون أزواجاً يتربَّصنَ بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} (سورة البقرة: الآية 240) . وهذا الذي أفتى به عمر في المطلَّقة التي ارتفع حيضها بعد حيضة أو حيضتين من الانتظار إلى تسعة أشهر، ثم الاعتداد ثلاثة أشهر ليس بعدَّة الحائض ولا غيرها، فالقول ما قال ابن مسعود(2/587)
فِي كِتَابِ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ عَلَى أَرْبَعَةِ أوجهٍ لا خَامِسَ لَهَا (1) : لِلْحَامِلِ (2) حَتَّى تَضَعَ، وَالَّتِي لَمْ (3) تَبْلُغِ الْحَيْضَةَ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ، وَالَّتِي (4) قَدْ يَئِسَتْ مِنَ الْمَحِيضِ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ، وَالَّتِي تَحِيضُ ثَلاثُ حِيَضٍ، فَهَذَا الَّذِي ذكرتُم (5) لَيْسَ بعدَّة الحائض ولاغيرها.
30 - (بَابُ عِدَّةِ الْمُسْتَحَاضَةِ (6))
613 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ: أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ قَالَ: عِدَّة المستحاضة سنة (7) .
__________
(قال البيهقي: رجع الشافعي في "الجديد" إلى قول ابن مسعود رضي الله عنه، وحمل كلام عمر على كلام عبد الله، فقال: قد يحتمل قول عمر رضي الله عنه، أن يكون في المرأة قد بلغت السن التي من بلغها من نسائها يئسن من المحيض، فلا يكون مخالفاً لقول ابن مسعود - رضي الله عنه - وذلك وجه عندنا. انظر: أوجز المسالك 10/208) .
(1) في نسخة: لهنَّ.
(2) قوله: للحامل حتى تضع، سواء كانت مطالَقة أو متوفَّى عنها زوجها.
(3) قوله: التي لم تبلغ الحيضة، إما لصِغَرها أو لبلوغها بالسن، فإنها إذا بلغت بالسن بخمس عشرة سنة فعدَّتها أيضاً بالشهور.
(4) قوله: والتي قد يئست، أي لكبرها. واختُلف في سن الإِياس، فقال محمد في الروميات خمس وخمسون سنة، وفي المولدات ستون سنة، وعن أبي حنيفة من خمس وخمسين إلى ستين، وقال الزعفراني: خمسون سنة، وبه قال سفيان الثوري وابن المبارك، وقيل: سبعون سنة، وقيل غير مقدَّر بشيء، بل هو مختلف بحسب اختلاف البلاد والأوقات، كذا في "البناية".
(5) من الاعتداد ثلاثة أشهر بعد انتظار تسعة أشهر.
(6) قوله: المستحاضة، التي ترى الدم أكثر من أكثر الحيض أو أكثر من النفاس أو أقلّ من أقل الحيض.
(7) قوله: سنة، به قال مالك في رواية، وفي أخرى أنَّه إن لم تُميِّز بين(2/588)
قَالَ محمدٌ: الْمَعْرُوفُ عِنْدَنَا أَنَّ عدَّتها عَلَى أَقْرَائِهَا (1) الَّتِي كَانَتْ تَجْلِسُ فِيمَا مَضَى، وَكَذَلِكَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَبِهِ نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا، أَلا تَرَى (2) أَنَّهَا تَتْرُكُ الصَّلاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا الَّتِي كَانَتْ تَجْلِسُ لأَنَّهَا فيهنَّ حَائِضٌ؟ فَكَذَلِكَ تعتدُّ بِهِنَّ، فَإِذَا مَضَتْ ثَلاثَةُ قُرُوءٍ منهنَّ (3) بَانَتْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ أقلُّ مِنْ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ.
31 - (بَابُ الرَّضاع (4))
614 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا نافع: أن عبد الله بن عمر كان
__________
الدمين فسنة. وإن ميَّزت فبالأقراء، ذكره الزرقاني (3/212) .
(1) قوله: أقرائها، بالفتح أي أيام حيضها التي كانت اعتادت الحيض فيها قبل أن تبتلى بالاستحاضة (قال الموفق: في عدة المستحاضة لا تخلو إما أن يكون لها حيض محكوم به بعادة أو تمييز أولا تكون؟ فإن كان لها حيض محكوم به بذلك فحكمها فيه حكم غير المستحاضة إذا مرّت لها ثلاثة قروء فقد انقضت عدتها، قال أحمد: المستحاضة تعتدُّ أيام أقرائها التي كانت تعرف وإن علمت أن لها في كل شهر حيضة ولم تعلم موضعها فعدتها ثلاثة أشهر، وإن شكَّت في شيء تربصت حتى تستيقن أن القروء الثلاث قد انقضت، وإن كانت مبتدأة لا تمييز لها أو ناسية لا تعرف لها وقتاً ولا تمييزاً فعن أحمد فيها روايتان إحداهما: أن عدتها ثلاثة شهور، والرواية الثانية: تعتدُّ سنة لا تدري ما رفعها وهو قول مالك وإسحاق. 1 هـ. انظر المغني 7/467) .
(2) تأييد لكون العدَّة بالأيام المعتادة.
(3) أي من تلك الأيام.
(4) قوله: باب الرضاع، بفتح الراء وكسرها لغة، وقال القاضي عياض:(2/589)
يَقُولُ: لا رَضَاعَةَ إلاَّ لِمَنْ أُرضِعَ (1) فِي الصٍّغَر (2) .
615 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ (3) ، عَنْ عَمرة بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَهَا، وَإِنَّهَا سَمِعَتْ رَجُلا يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فقلتُ (4) :
__________
الرضاع والرضاعة بفتح الراء وكسرها فيهما، وأنكر الأصمعيّ الكسر في الرضاعة، وهو مصُّ الرضيع من ثدي الآدمية في وقت مخصوص وهو يفيد التحريم قليلاً كان أو كثيراً إذا حصل في مدة الرضاع، كذا روي عن علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس، وبه قال الحسن البصري وسعيد بن المسيب وطاوس وعطاء ومكحول والزهري وقتادة وعمرو بن دينار والحكم وحماد والأَوزاعي والثوري وابن المبارك والليث بن سعد ومجاهد والشعبي والنخعي، وقال ابن المنذر: هو قول أكثر الفقهاء، وقال النووي: هو قول جمهور العلماء وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية، وقال الشافعي: لا يثبت التحريم إلاَّ بخمس رضعات، وبه قال أحمد في رواية وإسحاق، وعن أحمد ثلاث، ومدة الرضاع ثلاثون شهراً عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: سنتان، وبه قال الشافعي وأحمد، وقال: زفر ثلاث سنين (بسط في البذل 10/42 في تقدير المدة التي يقتضي الرضاع فيه التحريم تسعة مذاهب للعلماء فارجع إليه لو شئت التفصيل) ، كذا في "البناية".
(1) بصيغة المجهول.
(2) أي لا يثبت الرضاعة في الكِبَر حكمها.
(3) ابن محمد بن عمرو بن حزم.
(4) كأنها استبعدت استئذان الأجنبي في بيت حفصة، فأخبرت مريدةً الاطِّلاعَ على حقيقة الأمر.(2/590)
يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ (1) ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُراه (2) فُلانًا لعمٍّ (3) لِحَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، قَالَتْ (4) عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ كَانَ عمِّي فُلانٌ مِنَ الرَّضَاعَةِ حَيًّا دَخَلَ علَيَّ؟ قال (5) : نعم (6) .
__________
(1) الذي فيه حفصة.
(2) أي أظنه.
(3) قوله: لعمٍّ لحفصة، تفسير لفلاناً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم سماه أو ذكره بما تعرفه، ولم تذكر عائشة اسمه، ولا ما يعرف به في روايتها، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (فتح الباري 9/141) و"مقدمته": لم أقف على اسم عمِّ حفصة المذكور في هذه الرواية، وكذا على اسم عم عائشة المذكور في قوله: لو كان عمي فلاناً حياً، ووهم من فسره بأخي أبي القعيس والد عائشة من الرضاعة، فإنَّ أفلح وإن كان عمَّها من الرضاعة لكنه عاش حتى جاء يستأذن على عائشة فامتنعت، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تأذن له، والمذكور ههنا عمُّها أخو أبيها أبي بكر من الرضاعة أرضعتهما امرأة واحدة، ويحتمل أنها ظنت أنه مات لبُعد عهدها به، ثم قدم بعد ذلك فاستأذن.
(4) كأنها أرادت استكشاف أن هذا الحكم خاصّ بعمِّ حفصة أم عامّ.
(5) قوله: قال: نعم، زاد في "موطأ يحيى" بعده: إن الرضاعة تحرِّم ما تحرِّم الولادة، وكذا رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من طريق مالك. وفي رواية للبخاري ومسلم والنسائي عن عائشة، وأحمد ومسلم والنسائي والبخاري عن ابن عباس، يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، ذكره القاري.
(6) أي كان يجوز أن يدخل عليك(2/591)
616 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ (1) سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يحرِّم مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يُحرِّم مِنَ الْوِلَادَةِ (2) .
617 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ (3) ، عَنْ عَائِشَةَ أنَّه كَانَ يَدخُلُ عَلَيْهَا (4) مَنْ أَرْضَعَتْهُ أخواتُها وبناتُ أَخِيهَا، وَلا يدخل عليها من أرضعته نساء (5) إخواتها.
__________
(في رواية يحيى زيادة: "إن الرضاعة تُحرّم ما تحرّم الولادة"، فإذا أرضعت المرأة رضيعاً يحرم على الرضيع وعلى أولاده من أقارب المرضعة كل من يحرم على ولدها من النسب، ولا تحرم المرضعة على أبي الرضيع ولا على أخيه، ولا يحرم عليك أم أختك من الرضاع إذا لم تكن أمك ولا زوجة أبيك. ويتصوَّر هذا في الرضاع ولا يتصور في النسب. أوجز المسالك 10/296) .
(1) قوله: عن سليمان، في "موطأ يحيى": عن سليمان بن يسار، وعن عروة بن الزبير، عن عائشة، قال ابن عبد البر: هذا خطأ من يحيى: أي زيادة الواو، ولم يتابعه أحد من رواة الموطأ عليه، والحديث محفوظ في "الموطأ" وغيره عن سليمان، عن عروة، عن عائشة.
(2) أي مثل ما يحرم من النسب.
(3) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.
(4) أي في بيتها من غير حجاب.
(5) قوله: نساء إخوتها، لأن المرضع إنما هو المرأة دون الرجل فلا يحرم عند جماعة كابن عمر وجابر وجماعة من التابعين وداود وابن (في الأصل: داود بن علية، سقط الواو بين داود وبين ابن) علية، كما حكاه ابن عبد البر وقال: حجتهم أنَّ عائشة كانت تفتي بخلاف ما روي من قصة أفلح وهو ما روى مالك وغيره أن عمَّها أفلح أخا أبي القعيس والدها من الرضاعة جاء يستأذن عليها بعد ما أُنزل الحجاب، فأبت عائشة أن تأذن له، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تأذن(2/592)
618 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَمْرِو (1) بْنِ الشَّريد: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئل عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ (2) ، فَأَرْضَعَتْ إِحْدَاهُمَا غُلامًا، وَالأُخْرَى جَارِيَةً، فسُئل هَلْ يَتَزَوَّجُ الْغُلامُ الْجَارِيَةَ؟ قَالَ: لا، اللَّقاح (3) واحد.
__________
له، فقلت: إنما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرجل، فقال: تربت يمينك يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب. ومن المعلوم أن العبرة عند قوم برأي الصحابي إذا خالف مرويَّه. قال ابن عبد البر: ولا حجة لهم في ذلك لأن لها أن تأذن لمن شاءت من محارمها وتحجب ممن شاءت، ولكن لم يعلم أنها حجبت عمن ذُكر إلاَّ بخبر واحد كما علِمنا المرفوع بخبر واحد، فوجب علينا العمل بالسنَّة إذ لا يضر من خالفها. انتهى. وقد نسب المازري إلى عائشة القول بأن لبن الفحل لا يحرّم. واستبعده بعضهم مع مشافهة النبي صلى الله عليه وسلم إياها في حديث أفلح بأنه يحرّم، وقيل: الإِسناد إليها صحيح، وكثيراً ما يخالف الصحابيُّ مرويَّه لدليلٍ قام عنده، فيحتمل أنها فهمت أن ترخيصه لها في أفلح لا يقتضي تعميم الحكم في كل ذكر، كذا في شرح الزرقاني (انظر شرح الزرقاني 3/242؛ والأوجز 10/304) . وبه يظهر خطأ القاري حيث كتب تحت قوله نساء إخواتها أي إذا كان لبنُهنَّ من غير إخواتها.
(1) قوله: عن عَمرو، بفتح العين بن الشَّريد - بفتح المعجمة - الثقفي الطائفي، من ثقات التابعين، قاله الزرقاني وغيره.
(2) وفي رواية: جاريتان.
(3) قوله: اللَّقاح واحد، بفتح اللام أي ماء الفحل يعني أن سبب العلوق واحد، كذا قال ابن الأثير في "النهاية"، وفيه إخبار بأن لبن الفحل يُحَرِّم، وبه قال جمهور الصحابة ومَن بعدهم، وبه قال أبو حنيفة وتابعوه والأَوزاعي وابن جريج(2/593)
619 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ (1) ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ (2) بْنُ عُقبة (3) : أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ المسيَّب عَنِ الرَّضَاعَةِ؟ فَقَالَ: مَا كَانَ فِي الحَولين (4) وَإِنْ (5) كَانَتْ مصَّة (6) وَاحِدَةً فَهِيَ تحرِّم (7) وَمَا كَانَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ فإنما (8) طعام يأكله.
__________
ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم. وحجتهم حديث عائشة في قصة أفلح أخي أبي القعيس، وحُكي خلافه عن ابن عمر وابن الزبير ورافع بن خديج وزينب بنت أم سلمة، ونقله ابن بطال عن عائشة، وبه قال سعيد بن المسيب والقاسم وسليمان بن يسار وإبراهيم النخعي وأبو قلابة وإياس بن معاوية وغيرهم، ولا يخفى على ذوي العقول أن القول ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم والبحث مبسوط في شرح "مسند الإِمام" (هو كتاب "تنسيق النظام في مسند الإِمام" للعلاَّمة محمد حسن السنبهلي ص 142) لبعض الأعلام.
(1) وفي بعض النسخ: أخبرنا مالك، أخبرنا الزهري، عن إبراهيم بن عقبة.
(2) قال في "الإِسعاف": وثقه أحمد ويحيى والنسائي.
(3) بضم العين، المدني.
(4) هو مدة الرضاع.
(5) في نسخة: ولو.
(6) أي وإن كانت قطرة واحدة دخلت في جوف الطفل بمصة واحدة وقوله: مصة، في نسخة: قطرة المصَّة بفتح الميم وتشديد الصاد.
(7) من التحريم.
(8) قوله: فإنما هو طعام يأكله، أي هو في حكم الغذاء لا يحرّم شيئاً،(2/594)
620 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُقْبَةَ: أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ عُروة بْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ (1) مَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ المسيَّب.
621 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ثَور (2) بْنُ زَيْدٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ مصَّة وَاحِدَةً فَهِيَ تُحَرِّمُ.
622 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
__________
ولا يثبت حكم الرضاعة، فلا يكون رضاعة الكبير مفيدة بشيء، ويؤيده من الأخبار حديث: "لا رضاع إلاَّ ما أنبت اللحم وأنشز العظم". أخرجه أبو داود من حديث أبي موسى الهلالي عن أبيه، عن ابن مسعود، وأخرجه البيهقي من وجه آخر. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم، عن الزهري قال: سُئل ابن عمرو وابن عباس عن الرضاع بعد الحولين فقرأ: {والوالداتُ يُرضعن أولادهن ... } (سورة البقرة: الآية 233) ولا نرى رضاعاً يحرم بعد الحولين شيئاً. وأخرج ابن جرير من طريق أبي الضحى قال: سمعت ابن عباس يقول: لا رضاع إلاَّ في هذين الحولين، وأخرج الترمذي وصححه عن أم سلمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحرم من الرضاع إلاَّ ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام. وأخرج ابن عدي والدارقطني والبيهقي عن ابن عباس مرفوعاً: لا يحرم من الرضاع إلاَّ ما كان في الحولين وأخرج الطياليسي والبيهقي عن جابر مرفوعاً: لا رضاع بعد فصال، ولا يُتْمَ بعد احتلام (لا يُتْم: بسكون التاء. يعني أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام صغار الأيتام) . وأخرجه الطبراني في معجمه وعبد الرزاق عن علي مرفوعاً مثله، كذا ذكره الزيلعي والسيوطي.
(1) من أن ما كان في الحولين يحرم وما لا فلا.
(2) قوله: ثور بن زيد، الديلي مولاهم، المدني، وثقه ابن معين وأبو زرعة والنسائي، مات سنة 135، كذا في "الإِسعاف".(2/595)
أَرْسَلَتْ (1) بِهِ وَهُوَ يُرضَعُ إِلَى أُخْتِهَا أُمِّ كُلثوم (2) بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَتْ: أَرْضِعِيهِ عَشْرَ (3) رَضَعَاتٍ حَتَّى يَدْخُلَ عليَّ، فَأَرْضَعَتْنِي أُم كُلثوم بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ ثَلاثَ رَضَعَاتٍ، ثُمَّ مَرِضَت، فلم ترضعني غير ثلاث مِرار (4) ،
__________
(1) قوله: أرسلت به، أي أرسلت بسالم بن عبد الله بن عمر، والحال أنه كان يُرضَعُ بصيغة المجهول أي كان صغيراً يُرضَع إلى أختها لترضعه، فيكون لها محرماً، فيدخل عليها بعد البلوغ أيضاً.
(2) قوله: أم كلثوم، بضم الكاف، تابعية، مات أبوها أبو بكر رضي الله عنه وهي حمل، فوُضعت بعد وفاته، وقد أرسلت حديثاً فذكرها بسببه ابن منده وابن السكن في الصحابة فوهِمَا، كذا قال الزرقاني.
(3) قوله: عشر رضعات، قال السيوطي في "التنوير" (2/43) : هذه خصوصية لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة دون سائر النساء، قال عبد الرزاق في "مصنفه" عن معمر أخبرني ابن طاوس عن أبيه قال: كان لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم رضعات معلومات وليس لسائر النساء رضعات معلومات، ثم ذكر حديث عائشة هذا وحديث حفصة الذي بعده وحينئذٍ فلا يُحتاج إلى تأويل الباجي. وقوله: لعله لم يظهر لعائشة نسخ العشر بالخمس إلاَّ بعد هذه القصة. انتهى. قال الزرقاني: وبه يرد إشارة ابن عبد البر إلى شذوذ رواية نافع هذه بأن أصحاب عائشة الذين هم أعلم بها من نافع، وهم عروة والقاسم وعمرة رووا عنها خمس رضعات، فوهم من روى عنها عشر رضعات لأنه صحَّ عنها أن الخمس نسخن العشر، ومحال أن تعمل بالمنسوخ، كذا قال، وهذا سهوَ لأن نافعاً قال: إن سالماً أخبره عن عائشة، وكل منهما ثقة حجة حافظ وقد أمكن الجمع بأنها خصوصية للزوجات الشريفة، كما قاله طاوس.
(4) في نسخة: مرات.(2/596)
فَلَمْ أَكُنْ أَدْخُلُ (1) عَلَى عَائِشَةَ مِنْ أَجْلِ أنَّ أمَّ كُلْثُومٍ لَمْ تُتمَّ (2) لِي عَشْرَ رَضَعَاتٍ.
623 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ صفيَّة (3) ابْنَةِ أَبِي عُبيد: أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ حَفْصَةَ أَرْسَلَتْ بِعَاصِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ إِلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ عُمَرَ (4) تُرْضِعُهُ عَشْرَ رَضَعَاتٍ لِيَدْخُلَ (5) عَلَيْهَا، فَفَعَلَتْ (6) ، فَكَانَ يَدخل (7) عَلَيْهَا وَهُوَ (8) يَوْمَ أَرْضَعَتْهُ صَغِيرٌ يُرضَع (9) .
624 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمرة، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ (10) : كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحرِّمنَ، ثُمَّ نُسخن بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فتُوفي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهنَّ مِمَّا يُقرأ من القرآن.
__________
(1) أي من غير حجابٍ.
(2) حتى أكون محرماً لها.
(3) زوجة مولاه ابن عمر.
(4) ابن الخطاب.
(5) أي إذا بلغ.
(6) أي أرضعته فاطمة عشر رضعات.
(7) أي على حفصة بعد بلوغه.
(8) أي كان عاصم حين أرضعته فاطمة صغيراً يُرضَع.
(9) معروف من الرضاعة أو مجهول من الإِرضاع.
(10) قوله: قالت كان ... إلخ، أي كان سابقاً في القرآن هذه الآية: {عشر رضعات معلومات يُحرّمن} بضم الياء وتشديد الراء المكسورة متلوَّة، ثم نُسخن(2/597)
625 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ (1) إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَنَا مَعَهُ (2) عِنْدَ دَارِ الْقَضَاءِ، يَسْأَلُهُ عن
__________
تلك العشرة بخمس معلومات، ونزلت خمس رضعات معلومات يُحرّمن، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآية الخمس تُتلى في القرآن يعني أن العشر نسخت بخمس، وتأخر نسخ الخمس حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعض الناس لم يبلغه نسخه فصار يتلوه قرآناً، فالعشر على قولها منسوخة التلاوة والحكم، والخمس منسوخة التلاوة فقط كآية الرجم، قال ابن عبد البر: به تمسَّك الشافعي في قوله: لا يقع التحريم إلاَّ بخمس رضعات تصل إلى الجوف. وأُجيب عنه بأنه لم يثبت قرآناً وهي قد أضافته إلى القرآن، واختلف العمل عنها فليس بسنَّة ولا قرآن، وقال المازري: لا حجة فيه لأنه لم يثبت إلاَّ من طريقها، والقرآن لا يثبت بالآحاد، ولهذا لم يأخذ به الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، كذا في "شرح الزرقاني". وذكر ابن الهُمام وغيره ما حاصله: أنه لا يخلو إما أن يُقال بنسخ الخمس أيضاً أولا؟ على الثاني يلزم ذهاب شيء من القرآن لم يثبته الصحابة ولا يثبت بقول عائشة وحدها كونه من القرآن، وعلى الأول فلما ثبت نسخ التلاوة فبقاء حكمه يحتاج إلى دليل، وإلاَّ فالأصل أن النسخ الأول (في الأصل نسخ الدال، والظاهر ما أثبتناه) يرفعه. وأما ثبوت رجم الزاني مع كون آية منسوخة التلاوة فبإجماع الصحابة، وههنا لا إجماع من الصحابة، بل كثير من الصحابة أفتَوا بالتحريم بمصَّة واحدة، ويؤيده إطلاق قوله تعالى: {وأمهاتكم الاتي أرضعنكم} (سورة النساء: الآية 23) .
(1) قال الزرقاني: لم يسمِّ (قال الباجي: هو أبو عبس عبد الرحمن بن جبير الأنصاري، سأل ابن عمر عن رضاعة الكبير فأخبره ابن عمر بما عنده في ذلك عن أبيه، قلت: أبو عيسى رجل من أكابر الصحابة شهد بدراً وما بعدها، توفي سنة 24 هـ عن سبعين سنة، كما في "التقريب"، ولم يذكروا ابن عمر رضي الله عنه في مشايخه، وفسَّر الزرقاني 3/246 حكاية عن أبي عمر الرجل السائل عن عمر بذلك. أوجز المسالك 10/314)
(2) قوله: وأنا معه، أي مع عبد الله بن عمر عند دار القضاء بالمدينة، وهي(2/598)
رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: جَاءَ (1) رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: كَانَتْ لِي وَلِيدَةٌ (2) فَكُنْتُ أُصِيبُهَا (3) ، فعمدَت (4) امْرَأَتِي إِلَيْهَا، فَأَرْضَعَتْهَا، فَدَخَلْتُ عَلَيْهَا (5) ، فَقَالَتِ امْرَأَتِي: دُونَكَ (6) : وَاللَّهِ قَدْ أَرْضَعْتُهَا، قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أوجِعهَا (7) وائتِ جاريتَك (8) فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ رَضَاعَةُ الصغير (9) .
__________
دار كانت لعمر بن الخطاب، فلما استشهد كان عليه دَين فبيعت لقضاء دَينه فسميت دار القضاء، قاله ابن الصلاح، كذا قاله القاري) .
(1) قوله: جاء رجل، قال ابن عبد البر: الرجل هو أبو عبس بن جبير الأنصاري ثم الحارثي البدري.
(2) أي أمة.
(3) أي أجامعها.
(4) أي توجهت امرأتي إليها وقصدت أن تُحرّمَ عليَّ فأرضعتها.
(5) أي على امرأتي أو على الأمة.
(6) أي خذ حذرك منها، فإنها حرمت عليك.
(7) أي أدِّب امرأتك.
(8) أي يحلُّ لك أن تجامع الجارية.
(9) يعني رضاعة الكبير لا تُحَرِّم.(2/599)
626 - أخبرنا مالك، أخبرنا ابن شهاب، وسئل عن رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ؟ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي (1) عُروة بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ (2) أَبَا حُذيفة بْنَ عُتبة بْنِ رَبِيعَةَ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِدَ بَدْرًا (3) وَكَانَ تَبَنَّى (4) سَالِمًا (5) الذي يُقال له مولى أبي حُذيفة
__________
(1) قوله: أخبرني عروة، قال ابن عبد البر: هذا حديث يدخل في المسند أي الموصول للقاء عروة عائشةَ وسائر أزواجه صلى الله عليه وسلم، وللقائه سهلة بنت سهيل، وقد وصله جماعة، منهم معمر وعقيل ويونس وابن جرير عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة بمعناه، ورواه عثمان بن عمر وعبد الرزاق كلاهما عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة (قال الحافظ بعد ما بسط الكلام على طرق الرواية: لكنه عند أكثر الرواة عن مالك مرسل. انظر: أوجز المسالك 10/308) .
(2) قوله: أن أبا حذيفة، هو أبو حذيفة بضم الحاء ابن عُتبة بضم العين ابن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، اسمه هاشم، وقيل: هُشم بضم الهاء، كان من فضلاء الصحابة، هاجر الهجرتين وشهد بدراً وأحداً والخندق والحديبية والمشاهد كلها، وقُتل يوم اليمامة شهيداً في عهد ابي بكر رضي الله عنه. وزوجته سَهلة بفتح السين بنت سهل بن عمرو القرشية العامرية، وَلَدَت لأبي حذيفة محمد بن أبي حذيفة، وولدت لشماخ بن سعيد بكير بن شماخ، وولدت لعبد الرحمن بن عوف سالم بن عبد الرحمن، كذا في "الاستيعاب".
(3) أي حضر غزوة بدر وغيرها.
(4) أي جعله متبنَّى.
(5) قوله: سالماً، قال البخاري: كان مولى امرأة من الأنصار، قال ابن حبان: يقال لها ليلى ويقال ثُبَيتة بضم الثاء وفتح الباء وسكون الياء بنت يَعار(2/600)
كَمَا كَانَ تبنَّى (1) رسولُ اللَّهِ زيدَ (2) بْنَ حارثة،
__________
بفتح التحتية ابن زيد بن عبيد، وكانت امرأة أبي حذيفة بن عتبة، وبهذا جزم ابن سعد وقيل: اسمها سلمى، وقال ابن شاهين: سمعت ابن أبي داود يقول: هو سالم بن معقل مولى فاطمة بنت يعار الأنصارية أعتقته سائبة فوالى أبا حذيفة فتبنّاه أي اتخذه ابناً وكان مع أبي حذيفة في معركة اليمامة وكان معه لواء المهاجرين وقاتل إلى أن صُرع، فقال: ما فعل أبو حذيفة؟ فقيل: قُتل، فقال: فأضجِعوني بجنبه (في الأصل بجنبي، وهو تحريف) ، فمات فأرسل عمر ميراثه إلى معتقته ثبيتة، فقالت: إنما أعتقته سائبة. فجعله في بيت المال، رواه ابن المبارك، كذا في شرح الزرقاني (3/244) .
(1) أي أخذ ابناً.
(2) قوله: زيد بن حارثة، هو أبو أسامة زيد بن حارثة بن شرحبيل بن كعب بن عبد العزى القرشي نسباً الهاشمي ولاءً، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحِبّه وأبو حِبِّه، كان أمه خرجت به تزور قومها، فأغارت عليهم بنو القين، فأخذوا زيداً، وقدموا به سوق عكاظ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة فوهبته للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان سنين، فأعتقه وتبنّاه، قال ابن عمر رضي الله عنهما: ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل قوله تعالى: {ادعوهم لآبائهم} (سورة الأحزاب: الآية 5) وهاجر إلى المدينة وشهد بدراً والخندق والحديبية وغيرها، ولم يذكر الله في القرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء إلا زيداً بقوله: {فلما قضى زيدٌ منها وطراً} (سورة الأحزاب: الآية 37) الآية، استشهد في غزوة مؤتة سنة ثمان من الهجرة، كذا في "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي.(2/601)
فَأَنْكَحَ أَبُو حُذَيْفَةَ سَالِمًا وَهُوَ (1) يَرَى (2) أَنَّهُ ابْنُهُ أَنْكَحَهُ (3) ابْنَةَ (4) أَخِيهِ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهِيَ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَل (5) وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَفْضَلِ (6) أَيَامَى قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي زَيْدٍ مَا أَنْزَلَ: {اُدعُوهُم لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} (7) رُدَّ كُلُّ أَحَدٍ تُبُنِّي إِلَى أَبِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُعلم أَبُوهُ رُدَّ إِلَى مَوَالِيهِ (8) . فجاءَت سَهلة (9) بِنْتُ سُهَيل (10) امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ
__________
(1) قوله: وهو يرى أنه ابنه، لأنه كان التبني في الجاهلية وأوائل الإِسلام أمراً معتبراً، وكان من تبنَّى رجلاً دعاه الناس إليه وورث ميراثه إلى أن نزل قوله تعالى: {ادعوهم} أي المتبنين لآبائهم لا لمن تبناه {هو} أي دعاؤهم إلى آباءهم {أقسط} أي أعدل {عند الله، فإن لم تعلموا آباءهم} أي آباءهم الذين هم من مائهم {فإخوانكم} أي فهم إخوانكم في الدين. نزل ذلك في زيد بن حارثة متبنَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك رُدّ كل أحد تُبُنِّيَ إلى أبيه ولم يُنسب إلى من تبناه ولا حكم بوراثته منه بل من أبيه.
(2) أي أبو حذيفة يظن أن سالماً المتبنَّى ابنه.
(3) أعاده لوقوع الفصل.
(4) قوله: ابنة أخيه، فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وفي رواية يونس وشعيب عن الزهري: هند بنت الوليد، والصواب فاطمة، قاله ابن عبد البر.
(5) بضم الألف وخفّة الواو المفتوحة.
(6) قوله: من أفضل أيامي قريش، جمع أيّم هو من لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً.
(7) بيان لما أنزل.
(8) أي نُسب إلى مواليه.
(9) بفتح السين وسكون الهاء.
(10) بصيغة التصغير.(2/602)
وَهِيَ (1) مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بَلَغَنَا (2) ، فَقَالَتْ: كُنَّا نُرى (3) سَالِمًا وَلَدًا، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَا فُضل (4) وَلَيْسَ لَنَا إِلا بَيْتٌ واحدٌ، فَمَا تَرَى (5) فِي شَأْنِهِ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فيما بلغنا (6) أَرضعيه (7)
__________
(1) فهي قرشية عامرية، وأبوها صحابي شهير.
(2) هذا قول الزهري.
(3) أي نظن أنه ولد للتبني.
(4) قوله: وأنا فُضل، بضم الفاء وسكون الضاد، قال الباجي: أي مكشوفة الرأس، والصدر وقيل: عليها ثوب واحد لا إزار عليها، وقيل: متوشَّحة بثوب على عاتقها، خالفت بين طرفيها، قال ابن عبد البر: أصحها الثاني.
(5) قوله: فما ترى في شأنه؟ وفي رواية لمسلم عن القاسم عن عائشة قالت: إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه، وله من وجه آخر، قالت: إن سالماً قد بلغ ما يبلغ الرجال، وعقل ما عقلوه وإنه يدخل علينا، وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً.
(6) هذا قول الزهري.
(7) قوله: أرضعيه خمس رضعات، في روايةٍ يحيى بن سعيد عن ابن شهاب: عشر رضعات، والصواب رواية مالك، قاله ابن عبد البر. وفي رواية لمسلم: قالت: كيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: قد علمتُ أنه رجل كبير. قال النووي في "شرح صحيح مسلم": قال القاضي عياض: لعلها حلبته ثم شربه من غير أن يمس ثديها، وهذا حسن، ويحتمل أنه عفا عن مسهّ للحاجة كما خُصّ بالرضاعة مع الكِبَر. انتهى. وفي رواية ابن سعد عن الواقدي عن محمد بن عبد الله ابن أخي الزهري عن أبيه قال: كانت سهلة تحلب(2/603)
خمس رضعاتٍ، فتحرم (1) بِلَبَنِكَ أَوْ بِلَبَنِهَا، وَكَانَتْ تَرَاهُ (2) ابْنًا مِنَ الرضاعة، فأخذت (3) بذلك (4) عائشة (5)
__________
في مسعط قدر رضعة، فيشربه سالم في كل يوم حتى مضت خمسة أيام، فكان بعد ذلك يدخل عليها وهي حاسر رأسها رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لسهلة.
(1) قوله: فتحرم، قال القاري: بتشديد الراء المفتوحة أي فصار حراماً بلبنك أي بسبب رضاعك، والخطاب للمرأة، أو بلبنها شكّ من الراوي وهو إما التفات في المبنى أو نقل بالمعنى. انتهى. ولا يخفى ما في ضبطه، والظاهر أنّ تُحرم صيغة الحاضر خطاباً إلى سهلة، أي فتحرّمه عليك بلبنك هذا إذا كان من التفعيل، ويمكن أن يكون ثلاثياً ويمكن أن يكون على صيغة المجهول، وفي "موطأ يحيى" فيحرم بلبنها.
(2) أي كانت سهلة تظن سالماً ابناً لها من الرضاعة بعد ما أرضعته.
(3) أي استدلت به، وعملت بحسبه.
(4) أي بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة.
(5) قوله: عائشة، قال النووي في " شرح صحيح مسلم": قالت عائشة وداود الظاهري: يثبت حرمة الرضاع برضاع البالغ كما يثبت برضاع الطفل لهذا الحديث، وقال سائر العلماء من الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار إلى الآن: إنه لا يثبت الرضاع إلا برضاع من دون سنتين، إلا أبا حنيفة فقال: سنتين ونصف، وقال زفر: ثلاث سنين، وعن مالك رواية سنتين وأيام، واحتج الجمهور بقوله تعالى: {والوالداتُ يُرضعن أولادهن حولين كاملين} (سورة البقرة: الآية 233) وبالحديث الذي ذكره مسلم: إنما الرضاعة من المجاعة، وبأحاديث مشهورة، وحملوا حديث سهلة على أنه مختص بها وبسالم. انتهى. وذكر ابن عبد البر وغيره أن بقول عائشة قال عطاء والليث.(2/604)
فِيمَنْ (1) تحبُّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنَ الرِّجَالِ، فَكَانَتْ تَأْمُرُ أُمَّ كُلْثُومٍ (2) وبناتِ أَخِيهَا (3) يُرضِعن مَنْ أحبَبنَ (4) أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا، وَأَبَى (5) سَائِرُ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ أحدٌ مِنَ النَّاسِ، وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ: وَاللَّهِ مَا نَرَى الَّذِي أمَرَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ إِلا رُخْصَةً (6) لَهَا فِي
__________
وقال أبو بكر ابن العربي: لعمر الله إنه لقوي، كيف ولو كان ذلك خاصاً بسالم لقال لها: ولا يكون لأحد بعدك، كما قال لأبي بردة في الجذعة. وفيه ما لا يخفى على صاحب الفطنة.
(1) قوله: فيمن تحب، ظاهر الرواية شاهدة بأن عائشة أخذت به في باب الحجاب، وظنت أن رضاعة الكبير أيضاً تحل رفع الحجاب مطلقاً، لا خاصاً بسهلة وسالم، وقيل إنها ظنت بتحريم رضاعة الكبير مطلقاً.
(2) ابنة أبي بكر الصديق.
(3) عبد الرحمن بن أبي بكر.
(4) في نسخة: أحببت.
(5) قوله: وأبى، أي امتنعت بقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يدخل عليهن بالرضاعة في الكبر، وجعلن هذا الحكم خاصاً بسهلة وسالم، وفي رواية لمسلم عن زينب بنت أم سلمة أم المؤمنين عن أمها أنها كانت تقول: أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يُدخِلن عليهن أحداً بتلك الرضاعةِ، وقُلن لعائشة: والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة فما هو بداخلٍ علينا أحدٌ بهذه الرضاعة (انظر: صحيح مسلم، باب حكم رضاعة الكبير، 3/635) .
(6) وقد كان لرسول الله أن يخصّ من شاء بما شاء من الأحكام.(2/605)
رَضَاعَةِ سَالِمٍ وَحْدَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يَدْخُلُ عَلَيْنَا بِهَذِهِ الرَّضَاعَةِ أَحَدٌ. فَعَلَى (1) هَذَا كَانَ رَأْيُ أزواجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ.
627 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ (2) سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيَّب: أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: لا رَضَاعَةَ إِلا فِي الْمَهْدِ (3) ، وَلا رَضَاعَةَ إِلا مَا أَنْبَتَ (4) اللَّحْمُ وَالدَّمُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يُحرم (5) الرَّضَاعُ إِلا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ، فَمَا كَانَ فِيهَا مِنَ الرَّضَاعِ وَإِنْ كَانَ (6) مصَّةً وَاحِدَةً فَهِيَ تُحَرِّم كَمَا قَالَ
__________
(1) قوله: فعلى هذا، أي على عدم اعتبار رضاعة الكبير كان رأي أمهات المؤمنين غير عائشة، ويوافقهم ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: دخل عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعندي رجل قاعد فاشتدّ ذلك عليه، فقلت: يا رسول الله: إنه أخي من الرضاعة، فقال: انظرن إخواتكن من الرضاعة، فإنما الرضاعة من المجاعة. وفي الباب أخبار أُخَر قد مرّ نُبَذٌ منها.
(2) قوله: يحيى بن سعيد، هكذا في بعض النسخ، وهو الصحيح الموافق لما في "موطأ يحيى" وفي بعضها: مالك أخبرنا سعيد بن المسيّب أنه سمعه ... إلخ، وهو غلط واضح فإن مالكاً لم يدرك ابن المسيب. وكذا ما في بعضها: مالك أخبرنا يحيى بن سعيد بن المسيب أنه سمعه ... إلخ.
(3) أي في حالة الصغر أي حين يكون الطفل في المهد.
(4) وهو رضاعة الصغير ما لم يتغذّ.
(5) بصيغة المعروف الغائب من التحريم.
(6) قوله: وإن كان مصة واحدة، وأما حديث عائشة مرفوعاً: لا تحرِّم المصة ولا المصتان، أخرجه ابن حبان ومسلم وغيرهما فهو إما متروك بإطلاق الكتاب، وهو قوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} أو منسوخ. وعن(2/606)
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَمَا كَانَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ لَمْ يُحَرِّم شَيْئًا لأَنَّ اللَّهَ عزَّ وَجَلَّ قَالَ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعن (1) أولادَهن حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (2) فَتَمَامُ الرَّضَاعَةِ الْحَوْلانِ، فَلا رَضَاعَةَ بَعْدَ تَمَامِهِمَا تُحَرِّم (3) شَيْئًا. وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْتَاطُ (4) بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، فَيَقُولُ: يُحَرِّم (5) مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ وَبَعْدَهُمَا إِلَى تَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَذَلِكَ
__________
ابن عباس أنه قال: كان ذلك. فأما اليوم، فالرضعة الواحدة تحرِّم حكاه عنه أبو بكر الرازي ومثله رُوي عن ابن مسعود، وقال ابن بطّال: أحاديث عائشة في هذا الباب مضطربة، فوجب تركها والرجوع إلى كتاب الله تعالى، كذا في "البناية".
(1) خبر بمعنى الأمر أي ليرضعن.
(2) مفهومه ما ذكره تعالى بعده: {فإنْ أرادا فصالاً عن تراضٍ منهما وتشاوُرٍ فلا جُناح عليهما} (سورة البقرة: الآية 233) .
(3) قوله: تحرم شيئاً، وعليه يتفرع أن الزوج لو مصَّ ثدي زوجته ودخل في حلقه لبنها لا تحرم عليه إذا كان كبيراً، بذلك أفتى ابن مسعود، ورجع إليه أبو موسى الأشعري بعد ما أفتى خلافه، كما رواه مالك في "الموطأ" ليحيى.
(4) قوله: يحتاط، فيه إشارة إلى أنه حكمٌ مبني على الاحتياط وليس أمراً ثابتاً بالنص ولا يخفى أنه لا احتياط بعد ورود النصوص بالحولين مع أن الاحتياط هو العمل بأقوى الدليلين وأقواهما دليلاً قولهما.
(5) أي يحرم الرضاع في مدة حولين ونصف حول.
(1) أي مجموعة.(2/607)
(1) ثَلاثُونَ شَهْرًا، وَلا يُحَرِّم مَا كَانَ بَعْدَ ذلك. ونحن (2) لا نرى (3)
__________
(2) يعني به نفسه وأبا يوسف وغيرهما من العلماء.
(3) قوله: لا نرى ... إلخ، هذا هو الأصح المفتى به، وقول أبي حنيفة وإنْ ذَكروا في توجيهه أموراً فلا يخلو عن شيء قال ابن الهُمام في "فتح القدير": لهما قوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} ومدة الحمل أدناه ستة أشهر، فبقي للفصال حولان، وقال صلى الله عليه وسلم: لا رضاع بعد حولين، رواه الدارقطني عن ابن عباس يرفعه. وأظهر الأدلّة لهما قوله تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أولادَهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يُتِمّ الرضاعة} فجعل التمام بهما ولا مزيد على التمام بهما ولا مزيد على التمام. ولأبي حنيفة هذه الآية ووجهه أنه تعالى ذكر شيئين وضرب لهما مدة، فكانت لكل منهما بكمالها إلا أنه قام المنقص في أحدهما يعني في مدة الحمل، وهو قول عائشة: الولد لا يبقى في بطن أمه أكثر من سنتين، ولو بقدر فلكة مغزل، ومثله لا يقال إلا سماعاً، فبقي مدة الفصال على ظاهره غير أن هذا يستلزم كون لفظ ثلاثين مستعملاً في إطلاق واحد في مدلول ثلاثين، وفي أربعة وعشرين وهو الجمع بين الحقيقي والمجازي، ويمكن أن يُستدل له بقوله تعالى: {والوالدت يرضعن أولادهن} بناءً على أن المراد من الوالدات المطلَّقات بقرينة {وعلى المولود له رزقُهن وكسوتهن بالمعروف} (سورة البقرة: الآية 233) فإن الفائدة في جعلها نفقتها من حيث كونها ظئراً أوجه: منها في اعتباره إيجاب النفقة للزوجة لأن ذلك معلوم بالضرورة قبل البعثة، واللام في {لمن أراد} متعلِّق بيُرضعن أي يرضعن للآباء الذين أرادوا تمام الرضاعة وعليهم كسوتهن ورزقهن بالمعروف أجرة لهن، والحاصل حينئد يرضعن حولين كاملين لمن أراد من الآباء أن يتم الرضاعة بالأجرة، هذا لا يقتصي أن انتهاء مدة الرضاعة بالحولين، بل مدة استحقاق الأجرة بالإرضاع، ثم يدل على بقائها في الجملة قوله تعالى: {فإن أرادا فصالاً} عطفاً بالفاء على يُرضعن(2/608)
أَنَّهُ (1) يُحَرِّم، وَنَرَى (2) أَنَّهُ لا يُحَرِّم مَا كَانَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ. وَأَمَّا لَبَنُ الْفَحْلِ (3) فَإِنَّا نَرَاهُ يُحَرِّم، وَنَرَى أَنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، فَالأَخُ (4) مِنَ الرَّضَاعَةِ مِنَ الأَبِ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أُخْتُهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مِنَ الأَبِ وَإِنْ كَانَتِ الأُمَّانِ (5) مُخْتَلِفَتَيْنِ إِذَا كَانَ لَبَنُهُمَا مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اللَّقاح وَاحِدٌ. فَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قول أبي حنيفة رحمه الله.
__________
حولين، فعلّق الفصال بعد الحولين على تراضيهما، وقد يُقال: أين الدليل على انتهائها بستة أشهر بعد الحولين؟ وما ذُكر في وجه زيادتها لا يفيد سوى أنه إذا أُريد الفطام يحتاج إليها ليتعوّد فيها غير اللبن قليلاً قليلاً لتعذُّر نقله دفعة، وأما أنه يجب ذلك بعد الحولين ويكون من تمام مدة التحريم شرعاً فلا، ولا شك أن الشرع لم يحرم إطعامه من غير اللبن قبل الحولين ليلزم منها زيادة مدة التعود عليهما، فجاز أن يعود مع اللبن غيره قبل الحولين بحيث قد استقرّت العادة مع انقضائهما، فكان الأصح قولهما، وهو مختار الطحاوي. وقول زفر من ثلاث سنين على هذا أولى بالبطلان، وهوظاهر، وحينئذ فقوله تعالى: {فإن أرادا فِصالاً} المراد به قبل الحولين. انتهى. ملخصاً.
(1) أي ما كان بعد الحولين.
(2) تكرير تأكيدي.
(3) أي الرجل وهو زوج المرضعة الذي لبنها منه.
(4) تصوير للبن الفحل.
(5) أي أم الأخ وأم الأخت.(2/609)
(كِتَابُ الضَحايا (1) وَمَا يُجْزئ مِنهَا)
628 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا نافع: أن عبد الله بن عمر كَانَ يَقُولُ فِي الضَّحَايَا والبُدْن (2) الثَّنيّ فَمَا فَوْقَهُ.
629 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى (3) عَمَّا لَمْ تُسِنّ (4) من الضحايا والبدن
__________
(1) قوله: الضحايا، هي جمع ضحية كهدية وهدايا، وأما الأضاحي فهو جمع أضحية، وهي ما يُذبح في يوم من أيام النحر على وجه التقرُّب، كذا قال القاري.
(2) قوله: والبدن، بضم الباء وسكون الدال جمع بَدَنَة محرَّكة بمعنى الإِبل والبقر عندنا، فهو تخصيص بعد تعميم، والثنِيّ - ككريم - من الإِبل ما له خمس سنين وطعن في السادسة، ومن البقر ما له سنتان وطعن في الثالثة، ومن الغنم ما له سنة وطعن في الثانية، كذا قال القاري.
(3) وهو في "موطأ يحيى": كان يتقي.
(4) قوله: عما لم تُسِنّ، قال القاري: بضم التاء وكسر السين وتشديد النون، يقال أسنُّ الإِنسان وغيره إذا كبر، وقال الأزهري: ليس معنى إسنان البقر وغيره كِبَرهما، بل معناه طلوع الأسنان، وفي "شرح الزرقاني": رُوي لم تُسِنّ بكسر السين من السن لأنَّ معروف مذهب ابن عمر أنه لا يُضحَّى إلاَّ بثني المعز والضأن (قال الزرقاني: لا يجوز عنده الجذع من الضأن وهذا خلاف الآثار المرفوعة وخلاف الجمهور. شرح الزرقاني 3/72.
قال الموفق: ولا يجزئ إلاَّ الجذع من الضأن والثني من غيره، وبهذا قال مالك والليث والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي. المغني 6/622) والإِبل والبقر، وروي بفتح السين قال ابن قتيبة وهي التي لم تنبت أسنانها.(2/610)
وَعَنِ الَّتِي (1) نُقِصَ مِنْ خلْقها.
630 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ ضَحّى (2) مَرَّةً بِالْمَدِينَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَشْتَرِيَ لَهُ كَبْشاً فحِيلاً (3) أقرنَ (4) ثُمَّ أذْبحَه لَهُ (5) يومَ الأَضْحَى فِي مُصَلَّى (6) النَّاسِ فَفَعَلْتُ (7) ، ثُمَّ حُمِل
__________
(1) أي عن التي نقص من خلقتها نقصاناً يوجب نقصان القيمة وتأذِّي البهيمة.
(2) بتشديد الحاء أي أراد أن يضحِّي.
(3) قوله: فحيلاً، أي ذكراً لا أنثى، وفي زيادة ياء النسبة إشارة إلى تحقيق ذكورته وقيل: يحتمل أن يراد به لا خصياً، وقيل: أي قوياً عظيم الجثَّة.
(4) أي ذا قرن.
(5) معطوف على اشترى أي أذبح لابن عمر في مصلى العيد.
(6) قوله: في مصلى الناس، اتباعاً لما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينحر بالمصلى بعد صلاة العيد.
(7) قوله: ففعلت، أي فعلت ما أُمرت من الشراء والذبح في المصلى، ثم حمل الكبش المذبوح إلى ابن عمر فحلق ابن عمر رأسه حين حُمل إليه، والظرفية في قوله حين الذبح مجازية للقرب ويحتمل أن تكون حقيقة، والتجوُّز في التعقب الحاصل بثم.(2/611)
إِلَيْهِ، فَحَلَقَ رَأْسَهُ حِينَ ذُبح كَبْشُهُ وَكَانَ (1) مَرِيضًا لَمْ يشهَدِ الْعِيدَ مَعَ النَّاسِ، قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَيْسَ حِلاَقُ (2) الرَّأْسِ بواجبٍ عَلَى مَنْ ضَحَّى إِذَا لَمْ يَحُجّ وَقَدْ فَعَله (3) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ إلاَّ في خصلةٍ (4) واحدةٍ، الجَذَع (5)
__________
(1) قوله: وكان، أي ابن عمر مريضاً في تلك الأيام ولذا لم يشهد صلاة العيد ولم يذبح الأضحية بيده مع أنه الأفضل، بل أَمَرَ نافعاً به.
(2) بكسر أوله أي حلق شعر الرأس.
(3) وقد فعله: مقولة نافع. قوله: وقد فعله، والظاهر أن حلقه وقع اتفاقاً أو أراد به التشبُّه بالحاج استحباباً فلا ينافي نفيه إيجاباً، كذا قال القاري والأظهر أن يقال: إنه صدر اتباعاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من أراد أن يضحِّي ورأى الهلال ذي الحجة فلا يأخذ من شعره وأظفاره حتى يضحي، أخرجه مسلم وغيره، فلعل ابن عمر لم يأخذ شعره وأظفاره حتى ضحّى فحلق شعره وأخذ أظفاره، وفي الحديث إشارة إلى استحباب التشبُّه بالصالحين (في "البذل" عن الشوكاني: ذهب سعيد بن المسيَّب وربيعة وأحمد وإسحاق وداود وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه يحرم عليه أخذ شيء من شعره وأظفاره، حتى يضحّي في وقت الأضحية، وقال الشافعي وأصحابه: مكروه كراهة تنزيه، ومذهب الحنفية في ذلك ما في "شرح المنية". وما ورد في صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحِّي ... الحديث، محمول على الندب دون الوجوب بالإِجماع، فنفي الوجوب لا ينافي الاستحباب فيكون مستحباً إلاَّ أن يستلزم الزيادة وقت إباحة التأخير ونهايته ما دون الأربعين، فإنه لا يباح ترك قلم الأظفار ونحوه فوق الأربعين. انتهى. أوجز المسالك 9/239) .
(4) أي في صفة واحدة.
(5) قوله: الجَذَع من الضأن، هو ذوات الصوف من الغنم التي له ألية، كما(2/612)
مِنَ الضَّأْنِ إِذَا كَانَ (1) عَظِيمًا أَجْزَأَ، فِي الْهَدْيِ (2) وَالأُضْحِيَةِ، بِذَلِكَ (3) جَاءَتِ الآثَارُ: الْخَصِيُّ (4) مِنَ الأضحية يُجزئ مما يجزئ منه
__________
في "منح الغفار" وغيره، والجَذَع بفتح الجيم والذال المعجمة عند أهل اللغة من الشاة ما تمت له سنة وطعنت في الثانية، ومن البقر ابن سنة، ومن الإبل ابن أربع سنين، وفي اصطلاح الفقهاء الجذع من الضأن ماتمت له ستة اشهر، وهو المرجح عند الحنفية، وقال بعضهم: ما تمت سبعة أشهر، وقيل ستة أو سبعة، والتقييد بالضأن لأن الجذع من الإِبل والبقر والغنم لا يجزئ، بل لا يجزئ منها إلاَّ الثني كذا في "الهداية"و "البناية" وغيرهما.
(1) قوله: إذا كان عظيماً، أي عظيم الجثَّة بحيث لو خلط بالثنايا أشتبه على الناظر من بعيد، كذا فسَّره صاحب "الهداية" وغيره.
(2) أي في هدي الحاجّ وأضحية يوم الأضحى.
(3) قوله: بذلك، أي بإجزاء الجذع من الضأن أضحيته. وفي سنن أبي داود وابن ماجه عن هلال مرفوعاً: نعمت الأضحية الجذع من الضأن أضحيته. وفي جامع الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً: نعمت الأضحية الجذع من الضأن. وفي سنن أبي داود وابن ماجه عن مجاشع مرفوعاً: أن الجذع يوفي مما يوفي عنه الثنيّ. وفي صحيح مسلم عن جابر: لا تذبحوا إلاَّ مُسنَّة إلاَّ أن يَعْسُرَ عليكم، فتذبحوا جَذَعة من الضأن. وبهذه الآثار وغيرها قال الجمهور بجواز الجذع من الضأن لا من غيره، وحملوا التقييد المذكور في رواية مسلم على الأفضل، والمعنى: يستحب لكم أن لا تذبحوا إلاَّ مُسِنَّة إلاَّ أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن، وجوَّزوا الجذع من الضأن مع وجود غيره، وحكى ابن المنذر وغيره عن ابن عمر والزهري أن الجذع لا يجزئ مطلقاً من الضأن كان أو من غيره، وبه قال ابن حزم، وعزاه لجماعة من السلف، كذا في "شرح مسند الإِمام" لبعض الأعلام.
(4) قوله: والخصي، أي مقطوع الخصيتين يجزئ مما يجزئ منه الفحل(2/613)
الْفَحْلُ. وَأَمَّا الحِلاق فَنَقُولُ فِيهِ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى مَنْ لَمْ يَحُجَّ (1) فِي يَوْمِ النَّحْرِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
631 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا نافع، أن عبد الله بن عُمَرَ لَمْ يَكُنْ يُضَحِّي عَمَّا فِي بَطْنِ الْمَرْأَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ لا يُضَحَّى (2) عَمَّا فِي بَطْنِ الْمَرْأَةِ.
1 - (بَابُ مَا يُكره مِنَ الضَّحَايَا)
632 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو (3) بْنُ الحارث، أن عُبيد (4) بن فَيْرُوز
__________
أي غير المقطوع لما قد ثبت أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَبَحَ بكبشين موجوأين، أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم.
(1) وأما الحاج فيجب عليه الحلق والقصر.
(2) قوله: لا يضحي، أي لا يجب عليه أن يضحي عما في حمل المرأة لأنه لم يخرج إلى الآن إلى دار الأحكام، وأما بعد خروجه من بطن الزوجة فقد اختلف أصحابنا وغيرهم فيه، فمنهم من قال: يجب الأضحية عن نفسه وعن أولاده الصغار، ومنهم من قال: لا يجب إلاَّ عن نفسه. والمسألة مبسوطة في كتب الفقه.
(3) قوله: أخبرنا عمرو، هو ابن الحارث بن يعقوب بن عبد الله الأنصاري، مولاهم أبو أمية المصري، وثقه ابن معين والنسائي وغير واحد، مات سنة 148، وقيل 149، كذا في"الإِسعاف".
(4) قوله: أن عبيد بن فيروز، ضبطه القاري بفتح الفاء وسكون الياء وضم الراء وسكون الواو في آخره زاء، وذكر السيوطي أن عبيد بن فيروز أبو الضحاك(2/614)
أَخْبَرَهُ أَنَّ الْبَرَاءَ (1) بْنَ عَازِبٍ سَأَلَ (2) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَاذَا (3) يُتَّقَّى مِنَ الضَّحَايَا؟ فَأَشَارَ (4) بِيَدِهِ، وَقَالَ: أَرْبَعٌ (5) - وَكَانَ البراءُ بْنُ عَازِبٍ يُشِيرُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: يَدِي أقصر (6) من
__________
الكوفي وثقه النسائي وأبو حاتم، وقال ابن عبد البر: لم يختلف الرواة عن مالك في هذا الحديث وإنما رواه عمرو عن سليمان بن عبد الرحمن، عن عبيد فسقط لمالك ذكر سليمان، ولا يعرف الحديث إلاَّ له ولم يروِه غيره عن عبيد ولا يُعرف عبيد إلاَّ بهذا الحديث، وروى عن سليمان جماعة منهم شعبة والليث عن عمرو.
(1) قوله: أن البراء، هو بفتح الباء وتخفيف الراء المفتوحة وبالمدين، عازب بكسر الزاء المعجمة ابن الحارث بن عدي الأنصاري الأوسي. أول مشاهده الخندق، نزل الكوفة ومات بها في أيام مصعب بن الزبير سنة 72، كذا في "جامع الأصول".
(2) هذا الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة وأحمد والحاكم أيضاً من طريق عبيد.
(3) قوله: ماذا يُتَّقَى، أي يُجتنب، قال الباجي: دلَّ هذا على أن للضحايا صفاتٍ يُتَّقى بعضها، ولو لم يعلم أنها يُتَّقَى منها شيء لسئل هل يُتَّقى من الضحايا شيء؟
(4) في رواية أشار بأصبعه، وقال البراء: أصبعي أقصر من أصبع رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يشيرُ بأصبعه - ويقول: لا يجوز من الضحايا أربع، أورده ابن عبد البر.
(5) أي يُتَّقَى أربع (قال الزرقاني: وفي رواية قال: لا يجوز من الضحايا أربع. شرح الزرقاني 3/71؛ والأوجز 9/227) .
(6) أي حقيقةً أو فضلاً وشرفاً.(2/615)
يَدِهِ - وَهِيَ العَرْجاء (1) البيِّن ظَلْعُها، وَالْعَوْرَاءُ البيِّن عورها، والمريضة البيِّن مرضها، العَجْفاءُ الَّتِي لا تُنْقِي.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. فَأَمَّا العرجاءُ فَإِذَا مَشَتْ (2) عَلَى رِجلها فَهِيَ تُجْزِئُ (3) وَإِنْ كَانَتْ لا تَمْشِي لَمْ تُجْزِئْ، وَأَمَّا الْعَوْرَاءُ فَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنَ الْبَصَرِ الأَكْثَرُ (4) مِنْ نِصْفِ الْبَصَرِ أَجْزَأَتْ، وإنْ ذَهَبَ النِّصْفُ فَصَاعِدًا لَمْ تُجْزِئْ، وَأَمَّا الْمَرِيضَةُ الَّتِي فَسَدَتْ (5) لِمَرَضِهَا والعجفاءُ الَّتِي لا تُنْقِى فَإِنَّهُمَا لا يجزئان.
__________
(1) قوله: العَرْجاء، بفتح العين وسكون الراء البيِّن ظَلْعها بفتح الظاء وسكون اللام أي عرجها، والعوراء التي ذهبت إحدى عينيه - ويلحق به العمياء بدلالة النص - البيِّن عورها أي الظاهر، فإن كان به مانع حقير لا يمنع الإِبصار فلا بأس به، والمريضة البيَّن مرضها أي التي يتبيَّن أثر المرض عليها، وهو شامل لكل مرض، وقال الشافعي: المراد به الجرباء، قال العيني: هذا تقييد للمطلق وتخصيص للعموم، والعَجفاء بفتح العين مؤنث أعجف بمعنى الضعيفة التي لا تُنْقي - بضم التاء وكسر القاف - أي التي لا نِقْيَ لها، وهو بكسر النون وسكون القاف. . . إلخ، وقيل: الشحم، كذا قال الزرقاني والعيني.
(2) أي إلى المرعى أو المذبح.
(3) قوله: فهي تجزئ، لما يدل عليه قوله عليه السلام البيِّن ظَلْعها، وفيه أن ظهور العرج لا يتوقف على أن تصل إلى حد عدم المشي، بل مع المشي إذا لم تقدر على اللحوق بنفسها مع أبناء جنسها فهي عرجاء بيِّن عرجها.
(4) فإنَّ للأكثر حكم الكل.
(5) أي تغيَّرت.(2/616)
2 - (بَابُ لُحُومِ الأَضَاحِي)
633 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ (1) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (2) بْنِ وَاقِدٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أخبره: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلاثٍ (3) . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فذكرتُ ذَلِكَ (4) لعَمْرة بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَتْ: صدق (5) ، سمعتُ (6) عائشة
__________
(1) ابن محمد بن عمرو بن حزم.
(2) هو عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر العمري المدني، وثقه ابن حبان، مات سنة 119، قاله السيوطي.
(3) قوله: بعد ثلاث، اختلف في أول الثلاثة التي كان الادِّخار فيها جائزاً، فقيل: أولها يوم النحر فمن ضحّى فيه جاز له أن يُمسك يومين بعده، ومن ضحّى بعده أمسك ما بقي له من الثلاثة، وقيل: أولها يوم يضحِّي، فلو ضحّى من آخر أيام النحر جاز له أن يمسك ثلاثاً بعدها، وحكى البيهقي عن الشافعي قال: كان النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث للتنزيه، وهو كالأمر في قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ والمُعْتَرّ} (سورة الحج: الآية 36) قال المهلب: هو الصحيح لما أخرجه البخاري عن عائشة قالت: كنا نُملِّح الضحية فنقدم به على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقال: لا تأكلوا إلاَّ ثلاثة أيام وليست بعزيمة، ولكن أراد أن يطعم منه، كذا في "شرح المسند" (تنسيق النظام ص 198) .
(4) أي حديث ابن عمر.
(5) أي ابن عمر فيما أخبر به، أو عبد الله بن واقد في ما نقله.
(6) قوله: سمعت عائشة، كأنها أشارت إلى أن خبر النهي الذي رواه(2/617)
أمَّ الْمُؤْمِنِينَ تَقُولُ: دفَّ (1) ناسٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حضرةَ الأَضْحَى (2) فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ادَّخروا (3) الثُّلُثَ وتصدَّقوا (4) بما بقي،
__________
عبد الله بن واقد عن جده وإن كان صادقاً لكنه منسوخ بدليل خبر عائشة، قال الحازمي في " كتاب الناسخ والمنسوخ" بعد ما أخرج أحاديث النهي عن أكل لحم الأضحية فوق ثلاث من طريق ابن عمر وعلي غيرهما: ممن ذهب إلى هذه الأخبار علي بن أبي طالب وعبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر، وخالفهم في ذلك جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم ورأَوْا جواز ذلك، وتمسَّكوا في ذلك بأخبار تدل على نسخ ذلك. انتهى. ثم ذكر أخباراً تدل على النسخ من طريق جابر وأبي بريدة وعائشة، ونقل عن الشافعي أنه قال: حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي وحديث عبد الله بن واقد متفقان، وفيهما دلالتان أنَّ علياً سمع النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن النهي بلغ عبد الله بن واقد، ودلالة أن الرخصة من النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ عليّاً ولا عبد الله، ولو بلغتهما ما حدَّثا بالنهي، والنهي منسوخ.
(1) قوله: دفَّ، بتشديد الفاء وفتح الدال أي جاء، قال أهل اللغة: الدافَّة قوم يسيرون جماعة سيراً ليس بالشديد (ودافة الأعراب من يَرِد منهم المصر، والمراد ههنا ضعفاء الأعراب للمواساة. وفي "موطأ يحيى" زيادة: يعني بالدافة قوماً مساكين قدموا المدينة - تفسير من بعض الرواة - انظر الزرقاني 3/76؛ والأوجز 9/250) ، كذا قال ابن حجر.
(2) أي في وقت الأضحى.
(3) بتشديد الدال المهملة أي احبسوا اللحوم إلى ثلاث ليال وتصدَّقوا بما بقي بعد ذلك.
(4) قوله: وتصدقوا بما بقي، فيه إشارة إلى أن النهي عن الأكل فوق ثلاث كان خاصّاً بصاحب الأضحية، فأما من أُهدي له أو تُصُدِّق عليه فلا، وقد جاء في حديث الزبير عند أحمد وغيره: قلت: يا نبي الله، أرأيتَ قد نُهي المسلمون أن(2/618)
فَلَمَّا كَانَ (1) بَعْدَ ذَلِكَ قِيلَ (2) : يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ فِي ضَحَايَاهُمْ، يُجْمِلُوْن (3) مِنْهَا الوَدَك (4) ويتَّخذون مِنْهَا (5) الأسْقِيَةَ (6) ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا ذَاكَ (7) ؟ - كَمَا (8) قَالَ - قَالُوا: نَهَيْتَ عَنْ إِمْسَاكِ لُحُومِ الأَضَاحِي بَعْدَ ثَلاثٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ (9) الدافَّة الَّتِي كَانَتْ دفَّت حضرَة الأَضْحَى، فكلوا
__________
يأكلوا لحم نسكهم فوق ثلاث فكيف نصنع بما أُهدي إلينا؟ قال: أما ما أهْدِيَ إليكم فشأنكم.
(1) قوله: فلما كان بعد ذلك، أي في العام الذي بعد عام النهي كما ورد في حديث سلمة بن الأكوع عند البخاري، وورد عند أحمد وغيره ما يدل على أن حكم النسخ صدر أيضاً في حجة الوداع، ولعله إنما خطب به هناك ليشيع حكم النسخ ولا يبقى فيه ريب.
(2) قوله: قيل، الظاهر أنهم أرادوا توسيع الأمر، فذكروا له ذلك، وقيل: إنهم فهموا أن النهي كان بسبب خاص، وهو الدَّافة، وتردَّدوا في أنه هل اختص الحكم به أم صار عامّاً؟ فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم ما ذكروا، ففتح النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة.
(3) بالضم وبالجيم: أي يذيبون.
(4) بفتحتين: الشحم.
(5) أي من جلودها.
(6) جمع سقاء أي القِرْبة.
(7) أي: ما الذي منعهم من ذلك؟.
(8) شك من الراوي.
(9) أي من أجل الجماعة التي جاءت إليكم لتوسِّعوا عليهم.(2/619)
وتصدَّقوا (1) وادَّخروا.
634 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ الْمَكِّيُّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ أخبره: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلاثٍ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ (2) ذَلِكَ: كُلُوا وتزوَّدوا وادَّخروا (3) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا بَأْسَ بالادِّخار بَعْدَ ثَلاثٍ والتزوُّد، وَقَدْ رخَّص (4) فِي ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ كَانَ نَهَى عَنْهُ، فَقَوْلُهُ الآخِرُ (5) ناسخٌ للأوَّل، فَلا بَأْسَ بالادِّخار والتزوُّد مِنْ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
635 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ الْمَكِّيُّ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْهَى (6) عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلاثٍ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: كُلُوا وادَّخروا وتصدَّقوا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا بَأْسَ بِأَنْ يأكل (7) الرجل من
__________
(1) الأمر للاستحباب.
(2) أي بعد النهي في العام الآخر.
(3) بتشديد الدال المهملة. والأمر فيه وكذا في التزوُّد للإِباحة.
(4) فهو من قبيل نسخ السنَّة بالسنَّة.
(5) أي المتأخر.
(6) في نسخة: نهى.
(7) بل يستحب له ذلك كما فعله النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم.(2/620)
أُضْحِيَتِهِ ويدَّخر ويتصدَّق (1) ، وَمَا نُحِبُّ لَهُ أَنْ يتصدَّق بأقلَّ مِنَ الثُّلُث وَإِنْ تصدَّق بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ جَازَ (2) .
3 - (بَابُ الرَّجُلِ يَذْبَحُ أُضْحِيَتَهُ قَبْلَ أَنْ يغدوَ (3) يَوْمَ الأَضْحَى)
636 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ: أَنَّ عُوَيْمر (4) بْنَ أَشقَر ذَبَحَ أُضْحِيَتَهُ قَبْلَ أَنْ يغدوَ يَوْمَ الأَضْحَى، وأنَّه (5) ذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
__________
(1) لقوله تعالى: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمُعْتَرّ} (سورة الحج: الآية 36) .
(2) وكذا لو لم يتصدق بشيْ.
(3) أي قبل أن يذهب صباحاً إلى المصلّى.
(4) قوله: عويمر، هو عويمر - بضم العين وكسر الميم مصغَّراً - ابن أشقر - بفتح الألف وسكون الشين المعجمة بعدها قاف - بن عوف الأنصاري، وقيل: ابن أشقر بن عدي بن خنساء بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار الأنصاري المازني، شهد بدراً، وروى عنه عباد بن تميم المازني مرسلاً، كذا قال ابن الأثير في "جامع الأصول"، وقال ابن عبد البر في "شرح الموطأ": لم يُختلف عن مالك في هذا الحديث، وظاهره الانقطاع لأن عبّاداً لم يدرك ذلك الوقت، ولذا زعم ابن معين أنه مرسل، لكن سماع عباد بن تميم ممكن، وقد صرح به في رواية عبد العزيز الدراوردي عن يحيى بن سعيد، عن عبّاد أن عويمر بن أشقر أخبره.
(5) قوله: أنه ذكر ذلك، الظاهر أنه معروف والضميران يعودان إلى عويمر أي أن عويمراً ذكر ذبحه قبل الصلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يذبح بأخرى، وذهب القاري إلى أنه مجهول، والضمير للشأن.(2/621)
فَأَمَرَهُ أَنْ يَعُودَ بأضحيةٍ (1) أُخْرَى.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (2) نَأْخُذُ. إِذَا كَانَ الرَّجُلُ فِي مصرٍ يُصَلَّى (3)
__________
(1) قوله: بأضحية أخرى، وقع في رواية ابن ماجه وابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن عويمراً أن يضحّي بجذع من المعز، وهو محمول على الخصوصية أو على كونه منسوخاً بدليل ما في قصة أبي بردة المروية في الصحاح أن النبي عليه السلام أجاز له بجذعة وقال: لن يجزئ عن أحد بعدك (وقد ورد التخصيص لعقبة بن عامر أيضاً، فوُفِّق بينهما باحتمال صدورهما في وقت واحد، أو أن خصوصية الأول نُسخت بثبوت الخصوصية للثاني، قيل: ذكر بعضهم أن الذين ثبت لهم رخصة أربعة أو خمسة، لكن ليس التصريح بالنفي إلاَّ في قصة أبي بردة بن نيار في الصحيحين وعقبة بن عامر. تنسيق النظام ص 198. وبسط الشيخ الكلام في الأوجز 9/242، فارجع إليه.
(2) قوله: وبهذا نأخذ، قال شارح المسند: في الحديث أن الأضحية إنما تُذبح بعد فراغ الإِمام من صلاة العيد سواء ذبح أو لم يذبح، وسواء كان قبل الخُطبة أو بعدها، لكن بعدها أحبُّ وإن أخَّروا صلاة العيد لعذر إلى الغد جاز أن يضحّي بعد مضي وقت الصلاة، وهذه المراعاة إنما هي يوم النحر خاصة، وفي الثاني والثالث يجوز الذبح قبل الصلاة، وهذا كله لأهل الأمصار. وأما أهل القرى فيجوز لهم بعد طلوع فجر يوم النحر، ولو قبل طلوع الشمس، وهذا كله مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وقال مالك: وقت ذبح الأضحية إنما يدخل بعد الخطبة والصلاة وذبح الإِمام، وقال الشافعي: إذا مضى من يوم النحر بعد طلوع الشمس مقدار ما يُصلَّى فيه صلاة العيد والخطبتين بعدها، ويستوي في ذلك عنده أهل المصر والبوادي.
(3) بصيغة المجهول صفة للمصر.(2/622)
العيدُ فِيهِ، فَذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يصلِّي الإِمَامُ فَإِنَّمَا (1) هِيَ شاةُ لَحْمٍ، وَلا يُجْزِئُ مِنَ الأُضْحِيَةِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي مصرٍ وَكَانَ فِي بَادِيَةٍ (2) أَوْ نَحْوِهَا مِنَ الْقُرَى النَّائِيَةِ (3) عَنِ الْمِصْرِ فَإِذَا ذَبَحَ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ (4) وَحِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ أَجْزَأَهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
4 - (بَابُ مَا يُجْزِئ مِنَ الضَّحَايَا عَنْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ)
637 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عُمارة (5) بْنُ صَيّاد، أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ (6) صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُ قَالَ: كُنَّا نُضحِّي بِالشَّاةِ الْوَاحِدَةِ يَذْبَحُهَا الرَّجُلُ عَنْهُ (7) وعن أهل بيته، ثم
__________
(1) قوله: فإنما هي شاة لحم، أي: شاة ذبحت لأكل اللحم لا لتقرب النحر، يشير إلى ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: من صلّى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم، أخرجه أبو داود وغيره.
(2) أي صحراء.
(3) في نسخة: الغائبة أي البعيدة.
(4) أي فجر يوم النحر الصادق.
(5) قوله: عُمارة، بضم العين وفتح الميم، هو عمارة بن عبد الله بن صَيّاد بفتح الصاد وتشديد الياء الأنصاري، أبو أيوب المدني، وقد يُنسب إلى جدّه صيّاد، وأبوه هو الذي قيل عنه إنه الدجال، وثقه ابن معين والنسائي، مات بعد سنة 130، كذا في "إسعاف السيوطي".
(6) خالد بن زيد الأنصاري.
(7) أي عن نفسه.(2/623)
تَبَاهَى (1) النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَصَارَتْ مُبَاهَاةً (2) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: كَانَ (3) الرَّجُلُ يَكُونُ مُحْتَاجًا فَيَذْبَحُ الشَّاةَ الْوَاحِدَةَ يُضَحِّي بِهَا عَنْ نَفْسِهِ، فَيَأْكُلُ ويُطعم أَهْلَهُ، فَأَمَّا شاةٌ وَاحِدَةٌ تُذبح عَنِ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ أُضْحِيَةٌ (4) فَهَذَا لا يُجْزِئُ، وَلا يَجُوزُ شَاةٌ إِلا عَنِ الْوَاحِدِ. وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
__________
(1) أي تفاخر.
(2) أي ثم صارت الأضحية مفاخرة يتفاخرون بها ويذبحون لكل نفس واحدة فأكثر.
(3) قوله: كان الرجل ... إلخ، لمّا كان أثر أبي أيّوب دالاًّ على أن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهل بيته أوّله إلى أنه محمول على ما إذا كان الرجل محتاجاً إلى اللحم أو فقيراً لا يجب عليه الأضحية فيذبح الشاة الواحدة عن نفسه، ويُطعم اللحم أهل بيته أو يُشْركهم في الثواب، فذلك جائز، فأما الاشتراك في الشاة الواحدة في الأضحية الواجبة فلا، فإن الاشتراك خلاف القياس وإنما جُوِّز في البقر والإِبل لورود النص من طرق متكثرة أنهم اشتركوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في البقرة والإِبل ولا نص في الشاة فيبقى على الأصل، وأما ما أخرجه الحاكم عن أبي عقيل زهرة بن سعيد عن جده عبد الله بن هشام وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وذهبت به أمه زينب بنت حميد إليه، وهو صغير فمسح رأسه ودعا له، قال: كان رسول الله يُضَحِّي بالشاة الواحدة عن جميع أهله، قال الحاكم: صحيح الإِسناد، فلا يدلّ على وقوعه عن الجماعة، بل معناه أنه كان يُضَحِّي ويجعل ثوابها هبة لأهل بيته، وهذا كما ورد أنه ضحى كَبْشاً عن أمته. وبهذه الأخبار ذهب مالك وأحمد والليث والأَوْزاعي إلى جواز الشاة عن أكثر من واحد، كذا ذكره العيني في "البناية شرح الهداية".
(4) أي في الأضحية الواجبة.(2/624)
638 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ الْمَكِّيُّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَحَرْنَا (1) مَعَ (2) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحُدَيْبية (3) البَدَنة (4) عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. الْبَدَنَةُ وَالْبَقَرَةُ تُجزئ عَنْ سبعة (5) في
__________
(1) أي ذبحنا.
(2) أي حين حصروا بها ورفضوا إحرام العمرة هناك وذبحوا الهدايا.
(3) قوله: بالحديبية، بضم الحاء وفتح الدال المهملة وتخفيف الياء، كذا قال الشافعي وأهل اللغة وبعض أهل الحديث، وقال أكثر المحدثين: بتشديد الياء، وهما وجهان مشهوران، قال صاحب "مطالع الأنوار": هي قرية، ليست بكبير، وسُمِّيت ببئر هناك عند مسجد الشجرة على نحو مرحلة من مكة، وكان الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة بيعة الرضوان يوم الحديبية ألفاً وأربع مائة، وقيل: ألفاً وخمس مائة، وقيل غير ذلك، كذا في "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي.
(4) قوله: البَدَنة، بفتح الباء والدال، يُجمع على بُدْن - بضم الدال وسكونها - هي من البقر والإِبل، سُمِّيت بذلك لعظم أبدانها، ذكره الدَّميري في "حياة الحيوان"، وقال النووي في "التهذيب": حيث أُطلقت في كتب الحديث والفقه، فالمراد بها البعير ذكراً كان أو أنثى، وأكثر أهل اللغة أطلقوه على الإِبل والبقر.
(5) قوله: عن سبعة، وكذا عن ستة وثلاثة وخمسة بالطريق الأَوْلى، ولا يجوز عن ثمان لحديث جابر في قصة الحديبية، أخرجه الجماعة إلا البخاري، وفي لفظ لمسلم: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإِبل والبقر كل سبعة منا في بدنة، وفي رواية لأبي داود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: البقر عن سبعة والجَزور عن سبعة، وأما ما أخرجه الحاكم عن جابر: نحرنا يوم الحديبية سبعين بدنة، البدنة عن عشرة، وأخرج الترمذي - وقال: حسن غريب - والنسائي عن ابن عباس قال: كنا مع(2/625)
الأُضْحِيَةِ وَالْهَدْيِ (1) مُتَفَرِّقِينَ (2) كَانُوا أَوْ مُجْتَمِعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ (3) وَاحِدٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم الله.
5 - (بَابُ الذَّبَائِحِ)
639 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رَجُلا (4)
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر الأضحى فاشتركنا في البقرة سبعة وفي الجَزور عشرة، محمول على الاشتراك في القيمة، لا في التضحية، على أن البيهقي قال: حديث جابر في اشتراكهم في الجَزور سبعة أصح، كذا ذكره ابن حجر في "تخريج أحاديث الهداية" والعيني في "البناية".
(1) قوله: والهدي، أي هدي الحاج المحصر وغيره لحديث جابر فإنه نص فيه، والأضحية بمعناه.
(2) أي سواء كان السبعة متفرقين من الأجانب أو مجتمعين.
(3) قوله: من أهل بيت واحد أو غيره، أي من بيوت متعدِّدة، وفيه إشارة إلى الرد على ما حكاه بعض أصحابنا عن مالك أنه جوَّز اشتراك أهل بيت واحد وإن زادوا على السبعة ولم يُجِزْ اشتراك أهل بيتين وإن كانوا أقل. والذي يُفهم من "موطأ يحيى" وشرحه أنه يجوز الاشتراك في البقر والإِبل والغنم في الأجر بأن يذبحه أحد منهم ويُشركهم في الأجر، وفي هدي التطوع لا في الأضحية الواجبة والهدي الواجب، وحمل حديث جابر على الاشتراك في الأجر فإن المحصر بعدو لا يجب عليه عنده هدي فكان الهدي الذي نحروه تطوّعاً، لكن لا يخفى على ناظر كتب الحديث أن صريح بعض الأحاديث تردّه.
(4) قوله: أن رجلاً، أي من الأنصار من بني حارثة كما في "موطأ يحيى"، قال ابن عبد البر: هو مرسل عند جميع رواة "الموطأ" ووصله أبو العباس محمد بن(2/626)
كَانَ يَرْعَى َلِقْحةً (1) لَهُ بأُحُدٍ (2) ، فَجَاءَهَا (3) الموتُ فَذَكَّاهَا (4) بشِظَاظ (5) ، فَسَأَلَ (6) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِهَا، فَقَالَ: لا بَأْسَ بِهَا كُلُوهَا (7) .
640 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (8) نَافِعٌ، عَنْ رجل من الأنصار،
__________
إسحاق السراج من طريق أيوب، والبزار من طريق جرير بن حازم كلاهما عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً ...
(1) بكسر اللام وفتحها: ناقة ذات لبن، كذا ذكره السيوطي في "التنوير".
(2) بضمتين: جبل عظيم بقرب المدينة.
(3) أي قَرُب موتها، وجاءت مقدماته.
(4) بتشديد الكاف: أي ذبحها.
(5) قوله: شظاظ، بكسر الشين المعجمة وإعجام الظائين: العود المحدَّد الطَرَف. وفُسِّر في بعض طرق الحديث بالوتد، كذا في "التنوير".
(6) في رواية: فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فسأله فأمره بأكلها.
(7) أمر إباحة: إشارة إلى إباحة أكل ما ذبح المحدَّد.
(8) قوله: أخبرنا نافع، أي مولى ابن عمر عن رجل من الأنصار إلخ، روى البخاري هذا الحديث عن المقدمي عن معمر عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع أنه سمع ابن كعب بن مالك يخبر ابن عمر أن أباه أخبره أن جارية لهم كانت ترعى غنماً بسلع، فأبصرت بشاةٍ موتاً، فكسرت حجراً، فذبحتها فقال كعب لأهله: لا تأكلوا حتى آتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأسأله، فأتاه أو بعث إليه من سأله، فأمره بأكلها. ثم روى من طريق جويرية عن نافع عن رجل من بني سلمة أخبر عبد الله بن عمر أن جارية لكعب بن مالك ترعى غنماً ... الحديث. وابن كعب المذكور في الرواية(2/627)
أَنَّ مُعَاذَ بْنَ سَعْدٍ (1) أَوْ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ جَارِيَةً (2) لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا لَهُ بسَلْع (3) فَأُصِيبَتْ (4) مِنْهَا شَاةٌ، فَأَدْرَكَتْهَا (5) ، ثُمَّ ذَبَحَتْهَا بِحَجَرٍ، فسُئل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لا بَأْسَ بِهَا كُلُوهَا (6) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ كُلُّ شَيْءٍ أَفْرَى (7) الأَوْدَاجَ وَأَنْهَرَ الدم
__________
الأولى هو عبد الله بن كعب، جزم به المِزِّي في "الأطراف" ورجح الحافظ ابن حجر أنه عبد الرحمن بن كعب، وقال الدارقطني: رواه الليث عن نافع سمع رجلاً من الأنصار يخبر عبد الله، وقيل فيه عن نافع عن ابن عمر، ولا يصح، والاختلاف فيه كثير، وقد اختلف فيه على نافع وأصحابه، قال الحافظ في "مقدمة فتح الباري": هو كما قال.
(1) قال الزرقاني: كذا وقع الشك. وذكر معاذ بن سعد بن مندة وأبو نعيم في الصحابة، قاله في "الإِصابة".
(2) قال ابن حجر في "مقدمة الفتح": لا يُعرف اسمها.
(3) بفتح السين وسكون اللام: جبل بالمدينة.
(4) أي جاءته مقدمات الموت.
(5) الجارية.
(6) يُستنبط من الحديث جواز ذبيحة المرأة بلا كراهة.
(7) قوله: أفرى الأوداج، الإفراء القطع، والأوداج جمع وَدَج - بفتحتين - وهي عروق تحيط بالحلق، والإِنهار الإسالة، كذا ذكره العيني، وفي هذا التعبير إشارة إلى ما ورد: "أنهِر الدم بما شئت" متفق عليه من حديث عدي، وفي رواية لهما من حديث رافع: ما أنهر الدم، وذُكر اسم الله عليه فكلوا. وفي رواية ابن أبي شيبة عن رافع: كلُّ ما أفرى الأوداج إلا سنّاً أو ظفراً.(2/628)
فَذَبَحْتَ بِهِ فَلا بَأْسَ بِذَلِكَ إِلا السنَّ وَالظُّفْرَ وَالْعَظْمَ، فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ أَنْ تُذبح (1) بِشَيْءٍ مِنْهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
641 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: مَا ذُبح (2) بِهِ إِذَا بَضّع (3) فَلا بَأْسَ بِهِ إِذَا اضطُررت (4) إِلَيْهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا بَأْسَ بِذَلِكَ كلِّه عَلَى مَا فسّرتُ (5)
__________
(1) بصيغة المجهول أو المعروف المخاطب.
(2) بصيغة المجهول.
(3) قوله: إذا بَضّع، بفتح الباء وتشديد الضاد وتخفيفها أي قطع.
(4) قوله: إذا اضطررت (قال صاحب " المحلّى": بأن لم تجد السكِّين خرج مخرج الغالب لأن الإنسان لا يعدل من المدية ونحوها إلى القضيب إلا إذا لم يجدها. انتهى. انظر: الأوجز 9/136) إليه، بصيغة المجهول المخاطب. الظاهر أنه محمول على ذكاة الاضطرار، فإن ذكاة الاختيار هو قطع الأوداج، وذكاة الضرورة جرح في البدن أينما كان وهو لا يحلّ عند القدرة على ذكاة الاختيار، بل بحالة عدم القدرة عليه، فمعنى قوله ما ذبح به ... إلخ: أنّ ما يُذبح به إذا قطع موضعاً من مواضع الحيوان فلا بأس به إذا اضطر إليه، وإن لم يضطر إليه لا يجوز ذلك. وحمله الزرقاني على أن معنى البضع قطع الحلقوم والودجين وأنّ قوله إذا اضطرت إليه متعلق بتعميم مستفاد من كلمة "ما" أي ما ذبح به إذا قطع الأوداج، وإن كان غير حديد فلا بأس به إذا اضطررت إليه وإلا فالمستحب الحديد المشحوذ لحديث وليُحدّ شفرتّه.
(5) أي بيّنتُ سابقاً.(2/629)
لَكَ، وَإِنْ ذُبِحَ بِسِنٍّ أَوْ ظُفْرٍ مَنْزُوعَيْنِ (1) فَأَفْرَى الأَوْدَاجَ وَأَنْهَرَ الدَّمَ أُكل (2) أَيْضًا. وَذَلِكَ (3) مكروه، فإن كانا منزوعين (4) فإنما (5) قتلها
__________
(1) أي مقلوعين عن موضعهما.
(2) قوله: أكل أيضاً، لعموم الأحاديث التي مرّ ذكرها. ولأنّ كلاًّ من السنّ والظفر وكذا القرن والعظم آلة جارحة تخرج الدم فيحصل ما هو المقصود. وذكر العيني أن حلة أكل ما ذبح بالسن وغيره مذهب مالك (قال ابن رشد في البداية 2/484: أجمع العلماء على أن كل ما أنهر الدم وفرى الأوداج من حديد أو صخر أو غيرهما أن التذكية به جائزة، واختلفوا في ثلاثة: في السن والظفر والعظم، ولاخلاف في المذهب أن الذكاة بالعظم جائزة إذا أنهر الدم، واختلف في السن والظفر على الأقاويل الثلاثة أعني بالمنع مطلقاً، وبالفرق بين الانفصال والاتصال، وبالكراهة لا المنع) أيضاً. وقال الشافعي وأحمد: المذبوح به ميتة لحديث رافع بن خديج مرفوعاً: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سِنّاً أو ظفراً، سأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم. وأما الظفر فمُدى الحبشة" أخرجه الأئمة الستة وهو محمول عندنا على غير المنزوع فإن الحبشة كانوا يفعلون كذلك إظهاراً للجلادة.
(3) قوله: ذلك، أي ذلك الفعل يعني الذبح بالسن والظفر مكروه، أما السن فلأنّه عظم وهو زاد إخواننا من الجن، فيجب الاحتزار عن تنجيسه، ولهذا مُنع عن الاستنجاء به وذلك متصوَّر في الذبح وأما الظفر فلأنّ فيه تشبّهاً بالحبشة.
(4) بل قائمين في موضعهما.
(5) قوله: فإنما قتلها قتلاً، قال الطحاوي في "شرح معاني الآثار": قد روي في هذا عن ابن عباس ما قد حدثنا به سليمان بن شعيب، نا الحصيب بن ناصح، نا أبو الأشعث عن أبي العطاردي قال: خرجنا حُجّاجاً فصاد رجل من القوم أرنباً فذبحها بظفره، فأكلوها ولم آكل معهم، فلما قدمنا المدينة سألتُ ابنَ عباس،(2/630)
قَتْلًا (1) فَهِيَ مَيْتَةٌ لا تُؤْكَلُ. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
6 - (بَابُ الصَّيْدِ وَمَا يُكره أَكْلُهُ مِنَ السِبَاع (2) وَغَيْرِهَا)
642 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الخَوْلاني (3) ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ (4) الخُشَني: أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أَكْلِ كلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ.
643 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدّثنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ، عَنْ
__________
فقال: لعلك أكلتَ معهم؟ فقلت: لا. قال: أصبت إنما قتلها خنقاً. أفلا يرى أن ابن عباس قد بيّن في حديثه هذا المعنى الذي حَرُم به أكل ما ذُبح بالظفر أنه الخنق لأن ما ذُبح به فإنما ذُبح بكفّ فهو مخنوق، فدل ذلك على أنه إنما نُهي عن الذبح بالظفر المركب في الكف لا المنزوع وكذلك ما نُهي عنه مع ذلك من الذبح بالسن فإنما هو على السن المركبة في الفم لأن ذلك يكون عضّاً، فإما السِنّ المنزوعة فلا. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد.
(1) أي هو ليس بذبح شرعي.
(2) جمع سبُع بضم الباء وإسكانها: الحيوان المفترس، ذكره الدَّميري.
(3) بفتح الخاء نسبة إلى خَوْلان، قبيلة بالشام، اسمه عائذ الله، ذكره السمعاني.
(4) قوله: عن أبي ثعلبة، هو جرهم، وقيل: جرثوم بن ناشب، وقيل ابن ناشم، وقيل: اسمه عمرو بن جرثوم، وقيل: غير ذلك، كان ممن بايع تحت الشجرة وأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فأسلموا، ونزل الشام، ومات في زمن معاوية وقيل: في زمن عبد الملك سنة 75، كذا في "الاستيعاب". ونسبته إلى خُشين بضم الخاء المعجمة وفتح الشين المعجمة، قبيلة من قضاعة، ذكره السمعاني.(2/631)
عَبِيْدَة (1) بْنِ سُفْيَانَ الْحَضْرَمِيِّ (2) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: أكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. يُكره (3) أَكْلُ كلِّ ذِي نَابٍ (4) مِنَ السِّبَاع وكُلِّ ذِي مِخْلب مِنَ الطَّيْرِ، ويُكره مِنَ الطَّيْرِ أيضاً (5) ما يأكل
__________
(1) بفتح العين ثقة وثقة النسائي والعجلي، كذا في "الإِسعاف".
(2) بفتح الحاء وسكون الضاد نسبة إلى حضرموت من بلاد اليمن، ذكره السماني.
(3) أي يحرم.
(4) قوله: أكل كلِّ ذي ناب، هو الذي يفترس بأنيابه ويعدُو كالأسد والذئب والفهد وغير ذلك، وبه قال الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم، وعن بعض أصحاب مالك مباح، وبه قال الشعبي وسعيد بن جبير لعموم قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أَوْحِيَ إلَيّ محرَّماً} (سورة الأنعام: الأية 145) ، وكذا لا يجوز ذو مخلب من الطير - بكسر الميم - هو للطائر كالظفر للإنسان كالصقر والشاهين والعقاب، وبه قال الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم وقال مالك والليث والأَوْزاعي: لا يحرم من الطير شيء، وقد ورد النهي عن أكل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير من حديث ابن عباس أخرجه مسلم وأبو داود والبزار، وخالد بن الوليد أخرجه أبو داود، وعلي بن أبي طالب أخرجه أحمد في مسنده، وجابر أخرجه الكرخي في "مختصره". وورد من حديث أبي ثعلبة عند الأئمة الستة وأبي هريرة عند مسلم وغيره: النهي عن ذي ناب من السباع، وهذه الروايات حجة على من حكم بخلافها، وألحق أصحابنا بسباع البهائم سباعَ الطير، كذا في "البناية" للعيني.
(5) لدخوله في قوله تعالى: {ويُحَرِّم الخبائث}(2/632)
الجِيَفَ (1) مِمَّا لَهُ مِخْلب أَوْ لَيْسَ لَهُ مِخْلَبٌ. وَهُوَ قَوْلُ (2) أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.
7 - (بَابُ أَكْلِ الضَبّ (3))
644 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ خَالِدِ (4) بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: أَنَّهُ (5) دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيتَ مَيْمُونَةَ (6) زوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأُتي بضَبّ مَحْنُوذ (7) فَأَهْوَى (8) إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يده،
__________
(سورة الأعراف: الآية 157)
(1) الجِيَف بكسر الجيم وفتح الياء جمع جيفة.
(2) قوله: وهو قول، أخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي أنهم يعني الصحابة كانوا يكرهون ما يأكل الجِيَف. وعن مجاهد أنه سئل عنه فعافه، ذكره ابن حجر في "التلخيص".
(3) بفتح الضاد وتشديد الباء: حيوان معروف برّيّ، يقال له سوسمار كَوه باللغة الأردية.
(4) قوله: خالد، هو ابن خالة ابن عباس، أبو سفيان المخزومي، أسلم بعد الحديبية وقبل الفتح، وشهد غزوة مؤتة، مات بحمص سنة 21، وقيل: بالمدينة، كذا في "الإِسعاف".
(5) قال ابن عبد البر: كذا قال يحيى وجماعة من رواة "الموطأ". وقال ابن بكير عن ابن عباس وخالد: أنهما دخلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(6) هي خالة ابن عباس وخالد.
(7) بالذال المعجمة أي مشويّ.
(8) أي أمال إليه يده للتناول للأكل.(2/633)
فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ اللاتِي كنَّ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ: أَخبِرُوا (1) رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، فَقُلْنَ (2) : هُوَ ضَبٌّ، فَرَفَعَ (3) يدَه، فَقُلْتُ (4) : أَحَرَامٌ (5) هُوَ؟ قَالَ: لا (6) ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ (7) قَوْمِي، فأجِدُني أعافُه (8) . قَالَ (9) : فاجترَرْتُه (10) فأكلتُ وَرَسُولُ (11) اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظُرُ.
645 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: نَادَى رَجُلٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى (12) فِي أَكْلِ الضبّ؟
__________
(1) أي سَمُّوا له ليعرف حِلّه وحُرمته.
(2) قوله: فقلن، منهن ميمونة كما عند الطبراني وبقية النساء لم يسمَّيْن، كذا ذكره ابن حجر وغيره.
(3) معرضاً عن أكله.
(4) هذا قول خالد.
(5) أي أأعرضت عن أكله لحُرمته؟
(6) أي ليس بحرام.
(7) أي مكة وأطرافها.
(8) بفتح الهمزة أي أجد نفسي أكرهه.
(9) أي خالد.
(10) أي جررته إلى نفسي.
(11) الواو حالية والغرض منه بيان تقريره عليه السلام على أكله الدال على حله فإنه لو كان حراماً لمنعه عن أكله.
(12) أي ما حكمه؟.(2/634)
قال: لستُ (1) بآكله ولامُحَرِّمه.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَدْ جَاءَ (2) فِي أَكْلِهِ اخْتِلَافٌ، فأما نحن فلا نرى أن يؤكل.
__________
(1) أي لا أحرّمه ولكن لا آكله لا لتحريمه بل لما مرّ.
(2) قوله: قد جاء في أكله اختلاف، أي وردت في جواز أكله وعدمه أحاديث مختلفة، فإن حديث ابن عمر وكذا حديث خالد المذكورَيْن سابقاً يدلاّن على الحِلّ من غير كراهة، وحديث عائشة وعليّ المذكورَيْن لاحقاً يدلان على النهي والكراهة، وإذا تعارضت الأخبار في الحلّ وعدمه رُجِّحت أخبار عدمه (قد جمع الشيخ في بذل المجهود 16/121 بين هذه الروايات المتعارضة، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباحه أولاً، ولكن ترك أكله تقذُّراً واعتذر بأنه لم يكن في أرض قومي فأجدني أعافه، ثم تردّد فيه باحتمال كونه من الممسوخات فلم يأمر فيه بشيء ولم ينه عنه، فكان في حكم الإِباحة الأصلية، ثم بعد ذلك نهى عنه فصار حراماً، وهذا الوجه أولى لأن فيه تغليب الحظر على الإِباحة) احتياطاً.
قال بعض الأعلام في "شرح مسند الإِمام" (أي: تنسيق النظام ص 192) : أخرج أبو داود عن عبد الرحمن ابن شبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحم الضب. وفي إسناده إسماعيل بن عيّاش عن ضمضم بن زرعة عن عتبة عن أبي راشد عنه، قال الحافظ: وحديث (في الأصل هكذا. والظاهر أحاديث) ابن عياش عن الشاميين مقبولة، وهؤلاء ثقات شاميون، ولا يُلتفت إلى قول الخطابي: ليس بإسناده بذلك وبهذا تمسّك أبو حنيفة وأصحابه، وقالوا بامتناع أكل الضبّ، وقد وردت أحاديث في أكل الضّب بعضها تشتمل على النهي لعلة المسخ، وبعضها على أن النبي عليه السلام لم يأكل منه ولم ينه عنه، فمن الأول: ما أخرجه أحمد والبزار وأبو يعلى والطبراني بإسناد رجاله ثقات عن عبد الرحمن بن حسنة: كنّا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأسفر، فنزلنا منزلاً أرضاً كثيرة الضباب فأصبنا ضبّاً وذبحنا، فبينما القِدْرُ(2/635)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
يغلي إذ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن أمة من بني إسرائيل فُقدت وإني أخاف أن تكون هي، فاكْفَؤوها، فَكفأناها، وفي رواية: وإنا جياع.
ومن الثاني: ما أخرجه مسلم عن أبي سعيد أنّ أعرابياً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني في غائط مُضِبة (قال الحافظ: مُضِبة - بضم أوله وكسر المعجمة - أي كثيرة الضباب. فتح الباري 9/663) وإنّه عامُّ طعام أهلي، فلم يجبه، فقلنا: عاوِدْهُ فعاودَهُ، فلم يجبه ثلاثاً ثم ناداه في الثالثة، وقال: يا أعرابي، إنّ الله لعن على سبطٍ من بني إسرائيل، فمسخهم دوابّ يدبّون على الأرض فلا أدري لعل هذا منها، فلست آكلها ولا أنهى عنها. وعند أبي داود والنسائي من حديث ثابت بن وديعة نحو ذلك. فلما كانت الأحاديث في الضبّ كما ترى اختلف العلماء في أكله، فمنهم من حرّمه حكاه عياض عن قوم، ومنهم من كرهه وهو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، ونقله ابن المنذر عن علي، ومنهم من قال بإباحة أكله، وهو قول الجمهور. وقالوا في الأحاديث التي ورد النهيُ فيها لعلّة المسخ ليس فيها ما يدل على الجزم بأن الضبّ ممسوخ، وإنما توقف في ذلك وهذا لا يكون إلا قبل أن يُعلم اللَّهُ نبيَّه أن الممسوخ لا ينسل، وبهذا أجاب الطحاوي، ثم أخرج عن ابن مسعود: سئل رسول الله عن القرود والخنازير وهي ممّا مُسخ. قال: إن الله لا يُهللك قوماً فيجعل لهم نسلاً، فلما عُلم أن الممسوخ لا نسل له وكان صلى الله عليه وسلم يستقذره فلا يأكله، ولا يحرمه وأكل على مائدته دل على الإِباحة وتكون الكراهة تنزيهية في حق من يتقذّره، ورجح الطحاوي إباحة أكله، ونقل الشيخ بيري زاده في "شرح الموطأ" لمحمد عن العيني أنه قال: الأصح أن الكراهة عند أصحابنا تنزيهية لا تحريمية للأحاديث الصحيحة أنه ليس بحرام(2/636)
646 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النّخَعي، عَنْ عَائِشَةَ: (1) أَنَّهُ أُهْدِيَ (2) لَهَا ضَبّ، فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَتْهُ عَنْ أَكْلِهِ فَنَهَاهَا عَنْهُ، فَجَاءَتْ (3) سَائِلَةٌ فَأَرَادَتْ (4) أَنْ تُطْعِمَها إِيَّاهُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُطْعِمِينَها (5) مِمَّا لا تُأكلين؟
647 - أخبرنا عبد الجبار (6) ، عن ابن عبّاس الهمدانيّ، عن
__________
(قال الحافظ: والمعروف عن أكثر الحنفية فيه كراهة التنزيه وجنح بعضهم إلى التحريم ويبدو أن الطحاوي أيضاً فهم عن محمد أنّ الكراهية فيه للتحريم. انظر فتح الباري 9/666) .
(1) قوله: عن عائشة، هذه الرواية منقطعة، فإن النخَعي لم يسمع من عائشة شيئاً كما ذكره ابن حجر في "تهذيب التهذيب"، وقد وجدنا هذا الحديث في "مسند الإِمام أبي حنيفة" الذي جمعه الحصفكي، وفي "مسنده" الذي جمعه الخوارزمي هكذا: أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة، وكذا أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" ونقل عن محمد أنه احتج بهذا الحديث على كراهة أكل الضب، وقال: قد دلّ ذلك على أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كره لنفسه ولغيره أكلَ الضَّبَ، فبذلك نأخذ، ثم أجاب عنه الطحاوي بقوله: قيل له: ما في هذا دليل على ما ذكرت، فقد يجوز أن يكون كره أن تُطعمه السائل لأنها إنما فعلت ذلك من أجل أنها عافته، ولولا أنها عافته لما أطعمته إيّاه، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يكون ما يتقرب به إلى الله إلا من خير الطعام كما قد روي أنه نهى عن أن يُتَصَدّق بالتمر الرديء.
(2) بصيغة المجهول.
(3) في رواية الطحاوي: فجاء سائل.
(4) أي عائشة.
(5) من باب الإِطعام مع همزة الاستفهام للزجر والملام.
(6) قوله: أخبرنا عبد الجبار عن ابن عباس الهمداني، بالفتح نسبة إلى همدان،(2/637)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
قبيلة عن عزيز - على وزن فعيل بزائين معجمتين بينهما ياءً تحتية مثناة أولها عين مهملة - بن مَرْثَد - بفتح الميم والثاء المثلثة بينهما راء مهملة ساكنة - عن الحارث عن علي بن أبي طالب إلخ، هكذا وجدنا العبارة في كثير من النسخ وفي بعضها عن أبي عباس مكان عن ابن عباس، وفي بعضها مكانه عن ابن عيّاش بتشديد الباء المثناة التحتية بعد العين المهملة آخره شين معجمة، والذي أظن أن هذا كله تصحيف، والصحيح عبد الجبار ابن عباس الهمداني قال في "تهذيب التهذيب" عبد الجبار بن العباس الشِّبامي الهمداني الكوفي، وشبام جبل باليمن، روى عن أبي إسحاق السبيعي وعدي بن ثابت وسلمة بن كهيل وقيس بن وهب وعون وعثمان بن المغيرة الثقفي وعُرَيب بن مرثد المَشْرِقي وعدة، وعنه ابن المبارك وإسماعيل بن محمد بن جحادة ومسلم بن قتيبة وإبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق السبيعي. وأبو أحمد الزبيري والحسن بن صالح ووكيع وغيرهم قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: أرجو أن لا يكون به بأس وكان يتشيّع، وقال ابن معين وأبو داود: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: ثقة، وقال البزار: أحاديثه مستقيمة، وقال العجلي: صويلح، لا بأس به. انتهى ملخصاً. وفي "أنساب السمعاني" بعد ذكر أن الشبامي نسبة إلى شبام بلدة باليمن - بكسر الشين المعجمة بعدها باء موحدة - المشهور بالنسبة إليها عبد الجبار بن عباس الشبامي الهمداني من أهل الكوفة، يروي عن عون بن أبي جحيفة وعطاء بن السائب، وروى عنه ابن أبي زائدة والكوفيون، كان غالياً في التشيع. انتهى. وفيه أيضاً بعد ما ذكر المَشْرِقي وضبطه بفتح الميم وسكون الشين المعجمة وكسر الراء المهملة في آخره قاف، نسبة إلى مشرق بطن من همدان، والمشهور بالنسبة إليه عريب بن مرثد المَشْرِقي الهمداني، يروي المقاطيع، روى عنه عبد الجبار بن العباس الشبامي انتهى ملخصاً. ومنه يُعلم أنّ شيخ عبد الجبار اسمه عريب لا عزيز فليحرر هذا المقام: وأما الحارث فهو ابن عبد الله الأعور الهمداني الكوفي، روى عن علي وابن مسعود وزيد بن ثابت، وعنه الشَّعبي وأبو إسحاق السَّبيعي وعطاء بن أبي رباح وجماعة، كذَّبه الشعبي على ما أخرجه(2/638)
عَزِيزِ بْنِ مَرثَد، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْلِ الضَّبِّ والضّبُع (1) .
قَالَ محمدٌ: فَتَرْكُهُ أَحَبُّ إِلَيْنَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى.
__________
مسلم في "مقدمة صحيحة" وأبو إسحاق وعليّ بن المديني وغيرهم، ووثقه يحيى بن معين، وقال ابن حبان: كان غالياً في التشيع، واهياً في الحديث، مات سنة 65 هـ، وقال أحمد بن صالح المصري: الحارث الأعور ثقة ما أحفظه وما أحسن ما روى عن عليّ، وأثنى عليه، قيل له: فقد قال الشعبي: كان يكذب؟ قال: لم يكن يكذب في الحديث وإنما كان كذبه في رأيه. وقال الذهبي: النسائي مع تعنُّته في الرجال قد احتج به والجمهور على توهينه مع روايتهم لحديثه في الأبواب، وهذا الشعبي يكذِّبه ثم يروي عنه، والظاهر أنه يكذب في حكاياته لا في الحديث، كذا في "تهذيب التهذيب".
(1) قوله: والضَّبُع، هو كالسَّبُع وزناً ويقال له كفتار (بالفارسية) وهو حلال عند الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وكرهه مالك، والمكروه عنده ما يأثم آكله ولا يُقطع بتحريمه، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يحل أكله، وبه قال سعيد بن المسيب والثوري محتجِّين بأنه ذو ناب (إن الضبع سبع ذو ناب، وذهب الجمهور إلى التحريم لتحريم كل ذي ناب من السباع، ولحديث الترمذي من رواية خزيمة بن جزء. انظر الكوكب الدري 3/10 وبذل المجهود 16/128) كذا ذكره الدَّميري، وقد ورد النهي عن أكله في روايات عديدة أخرجها الترمذي وابن أبي شيبة وأحمد وإسحاق وأبو يعلى وغيرهم كما بسطه العيني في "البناية" مع الجواب عما استدَلّ به المخالفون.(2/639)
8 - (بَابُ مَا لَفَظَه (1) البحرُ مِنَ السَّمَك الطَّافِي (2) وَغَيْرِهِ)
648 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (3) بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ سَأَلَ عبدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ عَمَّا لَفَظَهُ (4) الْبَحْرُ؟ فَنَهَاهُ عنه، ثم انقلب (5) فدعا بمصحفٍ فقرأ:
__________
(1) أي رماه على الساحل ونحوه.
(2) قوله: الطافي، يقال: طفا الشيء فوق الماء يطفو طفواً إذا علا، ومنه السمك الطافي، وهو الذي يموت في الماء ويعلو على الماء ولا يرسب، كذا في "المغرب" وغيره.
(3) قوله: أن عبد الرحمن، قال القاري: قيل ليس لعبد الرحمن هذا حديث غير هذا في "الموطأ". انتهى. وقد ذكره ابن حِبّان في ثقات التابعين.
(4) قوله: عما لفظه البحر، أي رماه البحر على الساحل، من أكلتُ التمرةَ ولفظتُ النواة أي رميتُها، ومنه قوله تعالى: {ما يَلْفِظُ من قولٍ إلاّ لديه رقيب عتيد} (سورة ق: الآية 69) وإطلاق اللفظ على الملفوظ لأنه مرميّ من الفم.
(5) قوله: ثم انقلب، أي انصرف إلى بيته، ورجع إلى أهله كما يُعلم مما ذكره السيوطي في "الدر المنثور": أخرج عبد بن حُمَيد وابن جرير وابن المنذر وابن عساكر عن نافع أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابنَ عمر عن حيتان ألقاها البحر؟ فقال: أمَيْتَة هي؟ قال: نعم، فنهاه، فلما رجع عبد الله إلى أهله أخذ المصحف فقرأ سورة المائدة فأتى على هذه الآية {وطعامه} فقال: طعامه هو الذي ألقاه فالْحَقْه، فمره بأكله. انتهى. وبه يظهر ما في كلام القاري حيث فسر انقلب بقوله أي رجع عن قوله. انتهى.(2/640)
{أُحِلّ لَكُمْ (1) صَيْدُ (2) الْبَحْرِ وَطَعَامُه} (3) ، قَالَ نَافِعٌ: فَأَرْسَلَنِي إِلَيْهِ (4) أنْ (5) لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ فَكُلْه.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ الآخِرِ (6) نَأْخُذُ. لا بَأْسَ بِمَا لَفَظَهُ الْبَحْرُ وَبِمَا حَسَر (7) عَنْهُ الماءُ إِنَّمَا (8) يُكره مِنْ ذلك الطافي. وهو
__________
(1) الخطاب إلى المُحْرِمين.
(2) قوله: صيد البحر وطعامه، قال أبو هريرة: طعامه ما لفظه ميتاً، أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم مرفوعاً وموقوفاً، وقال أبو بكر الصدّيق: صيده ما حويت عليه وطعامه ما لفظه عليك، أخرجه أبو الشيخ، وفي رواية عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عنه: صيد البحر ما نصطاده بأيدينا، وطعامه ما لاثه البحر، ومثله أخرجه البيهقي وغيره عن ابن عباس. وفي الباب آثار أُخَر مذكورة في "الدر المنثور".
(3) بعده: {متاعاً لكم وللسيّارة وحُرِّم عليكم صيد البرِّ مادُمْتُمْ حرماً} (سورة المائدة: الآية 96) .
(4) أي إلى عبد الرحمن بن أبي هريرة.
(5) بيان للمرسل به أي بهذا الحكم.
(6) بكسر الخاء أي المتأخر.
(7) أي انكشف عنه ونضب وغار.
(8) قوله: إنما يُكره من ذلك الطافي، لما أخرجه أبو داود وابن ماجه عن يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن جابر مرفوعاً: ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوا: وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه. وأعله البيهقي بيحيى بن سليم، وقال: إنه كثير الوهم سيّئ الحفظ، وقد رواه غيره موقوفاً، وردّه العيني بأنه(2/641)
قول (1) أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم اللَّهُ.
9 - (بَابُ السَّمَكِ يَمُوتُ فِي الْمَاءِ)
649 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا زيد بن أسلم، عن سعيد الجاريّ بن الجار (2)
__________
أخرج له الشيخان وهو ثقة، وزاد الرفع، وأخرج الترمذي من حديث جابر مرفوعاً بلفظ: ما اصطدتموه وهو حيّ فكلوه وما وجدتموه ميتاً طافياً فلا تأكلوه. وفي رواية الطحاوي في "أحكام القرآن": ما جزر عنه البحر فكُلْ وما ألقى فكل، وما وجدته طافياً فوق الماء فلا تأكل.
(1) قوله: وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، وهو قول جابر وعليّ وابن عباس وسعيد بن المسيّب وأبي الشعثاء والنخَعي وطاوس والزهري، ذكر عنهم ذلك ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وغيرهما، وأخرج الدارقطني والبيهقي إباحة الطافي عن أبي بكر وأبي أيوب، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد وبعض التابعين أخذاً من إطلاق حديث: هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته، وحديث: أُحلَّت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فالسمك والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال، أخرجه ابن ماجه وأحمد وعبد بن حميد والدارقطني وابن مردويه وغيرهم، وأجاب عنه أصحابنا بأن ميتة البحر ما لفظه البحر أو انحسر الماء عنه ليكون موته مضافاً إلى البحر، لا ما مات فيه حتف أنفه من غير آفة وطفا على الماء، كذا في "البناية" و"الدراية" (انظر بذل المجهود 16/141) .
(2) قوله: عن سعيد الجاري بن الجار، هكذا وُجد في نسخ عديدة، وفي "موطأ يحيى" عن سعيد مولى عمر بن الخطاب، وذكره السَّمعاني في اسمه سعد بغير ياء، حيث ذكر أن الجاري نسبة إلى الجار بليدة على الساحل بقرب المدينة النبوية، والمنتسب إليها سعد بن نوفل الجاري، كان عامل عمر،(2/642)
قَالَ: سألتُ ابنَ عُمَرَ عَنِ الحِيْتَان (1) يقتُل بعضُها بَعْضًا، وَيَمُوتُ صَرَداً (2) وَفِي أَصْلِ ابْنِ الصَّوَّافِ: (3) وَيَمُوتُ (4) بَرْدًا - قَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. قَالَ: (5) وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. إِذَا مَاتَتِ (6) الحِيتْان مِنْ حَرّ أَوْ بردٍ أَوْ قتلِ (7) بعضِها بَعْضًا فَلا بَأْسَ بِأَكْلِهَا، فَأَمَّا إِذَا مَاتَتْ مِيْتَةَ (8) نفسِها فَطَفَتْ (9) فَهَذَا يُكْرَه مِنَ السَّمَكِ، فَأَمَّا سِوَى ذَلِكَ فلا بأس به.
__________
روى عن أبي هريرة وعبد الله بن عمر، وعنه زيد بن أسلم. انتهى. وكذا سماه ابن الأثير الجزري في "جامع الأصول".
(1) بكسر الحاء جمع الحوت.
(2) بفتحتين أي بردا. ً
(3) أي في نسخة "الموطأ" لابن الصوّاف وهو من المشايخ.
(4) أي مكان: ويموت صرداً (قال الباجي: ما قتل بعضه بعضاً من الحيتان أو مات صرداً يجوز أكله، وهو مما اتفق عليه مالك وأبو حنيفة والشافعي لأنه مات بسبب. انتهى. قلت: وكذلك عند أحمد. أوجز المسالك 9/174) .
(5) أي سعيد الجاري.
(6) في البحر.
(7) مصدر مضاف معطوف على حرّ أو فعل ماضٍ وما بعده فاعل معطوف على فعل سابق.
(8) بكسر الميم أي ماتت من غير آفة خارجة، بل بموتة نفسه.
(9) أي علت على الماء.(2/643)
10 - (بَابُ ذكاةُ (1) الْجَنِينِ (2) ذكاةُ أُمِّهِ)
650 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا نافع، أن عبد الله بن عمر كَانَ يَقُولُ: إِذَا نُحِرَت النَّاقَةُ فّذَكاةُ مَا فِي بَطْنِهَا (3) ذَكَاتُهَا (4) إِذَا كانَ قَدْ تمَّ خَلْقُه (5) ونَبَت شَعْرُهُ فَإِذَا خَرَجَ (6) مِنْ بَطْنِهَا ذُبحَ حَتَّى يخرجَ الدمُ مِنْ جَوْفِهِ.
651 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْط (7) ،
__________
(1) بمعنى الذبح.
(2) هو الولد ما دام في بطن أمه.
(3) من الولد. في "موطأ يحيى": فذكاة ما في بطنها في ذكاتها.
(4) لأنه جزء منها، فذكاتها ذكاة لجميع أجزائها.
(5) أي في أجزائها.
(6) قوله: فإذا خرج، حمله القاري على خروجه حالة الحياة حيث قال: فإذا خرج من بطنها أي حيّاً ذبح أي اتفاقاً حتى يخرج الدم أي دم المذابحة من جوفه أي جوف الجنين الشامل لحلقه وأوداجه. انتهى. والظاهر ما ذكره الزرقاني حيث قال: فإذا خرج من بطن أمه ذُبح أي ندباً كما يفيده السياق حتى يخرج الدم من جوفه، فذبحه إنما هو لإِنقائه من الدم لا لتوقّف الحل عليه، وهذا جاء بمعناه مرفوعاً: روى أبو داود والحاكم عن ابن عمر مرفوعاً: "ذكاةُ الجنين إذا أشعر ذكاة أمه" ولكنه يُذبح حتى ينصاب ما فيه من الدم، ويعارضه حديث ابن عمر رفعه: ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر، لكن فيه مبارك بن مجاهد ضعيف، ولتعارضهما لم يأخذ بهما الشافعية، فقالوا: ذكاة الجنين ذكاة أمه مطلقاً، ولا الحنفية فقالوا: لا مطلقاً، ومالك ألغى الثاني لضعفه وأخذ بالأول لاعتضاده بالموقوف، فقيّد به حديث ذكاة الجنين ذكاة أمه. انتهى.
(7) بصيغة التصغير.(2/644)
عن سعيد بن المسيَّب أنه كان يقول: ذكاةُ مَا كَانَ فِي بَطْنِ الذَّبِيحَةِ ذكاةُ أُمِّهِ إِذَا كَانَ قَدْ نَبَتَ شعرُه وتمَّ خَلْقه (1) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ إِذَا تَمَّ (2) خَلقه، فذكاتُه فِي ذَكَاةِ أمِّه فَلا بَأْسَ بِأَكْلِهِ. فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَكَانَ يَكره أكلَه حتى يخرجَ حيّاً
__________
(1) في أعضائه.
(2) قوله: إذا تمّ، يعني إذا خرج من بطن الذبيحة جنينٌ ميت فإن كان تامّ الخلق نابت الشعر يؤكل، وإن لم يكن تام الخلقة فهو مضغة لا تؤكل، وبه قال مالك والليث وأبو ثور، وقال أحمد والشافعي بحله مطلقاً، وقال أبو حنيفة: لا يؤكل مطلقاً وبه قال زفر والحسن بن زياد فأن خرج حيا ذبح اتفاقا ودليل من قال بالحل مطلقا أو مقيّداً بتمام الخلقة حديث ذكاة الجنين ذكاة أمه رواه أحد عشر نفساً من الصحابة، الأول: أبو سعيد الخدري، أخرج حديثه باللفظ المذكور أبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه وابن حبان وأحمد. والثاني: جابر، أخرج حديثه أبو داود وأبو يعلى. الثالث: أبوهريرة، أخرج حديثه الحاكم وقال: صحيح الإِسناد، وفي سنده عبد الله بن سعيد المقبري متفق على ضعفه، الدارقطني وفي سند عمرو بن قيس ضعيف. الرابع: ابن عمر، أخرج حديثه الحاكم والدارقطني وفي سنده ضعف. الخامس: أبو أيّوب، أخرج حديثه الحاكم. السادس: ابن مسعود، أخرج حديثه الدارقطني، ورجاله رجال الصحيح. السابع: ابن عباس، أخرجه الدارقطني. الثامن: كعب بن مالك، حديثه عند الطبراني. التاسع والعاشر: أبو أمامة وأبو الدرداء، حديثهما عند البزار والطبراني. الحادي عشر: عليّ رضي الله عنه، حديثه عند الدارقطني، وقال ابن المنذر: لم يُرْوَ عن أحد من الصحابة والتابعين وغيرهم أن الجنين لا يؤكل إلا باستيناف الذكاة إلا عن أبي حنيفة ولا أحسب أصحابه وافقوه، وفيه نظر، فقد وافقه من أصحابه زفر والحسن وشيخ شيخه إبراهيم النخعي. واختار هذا القول أيضاً ابن حزم الظاهري. وقال: لا يترك القرآن وهو قوله(2/645)
فَيُذَكَّى (1) ، وَكَانَ (2) يَرْوي عَنْ حَمَّادٍ (3) عَنْ إِبْرَاهِيمَ أنّه قال (4) : لا تكون ذكاةُ نس ذكاة نَفْسَيْن.
__________
تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ} بالخبر (بسط تخريج هذه الروايات كلها الزيلعي في نصب الراية: وقال: وقال عبد الحق في "أحكامه": هذا حديث لا يُحتج بأسانيده كلها، وأقره ابن القطان عليه. انظر: أوجز المسالك 9/140) المذكور وأجاب في "المبسوط" بأن حديث ذكاة الجنين ذكاة أمه لا يصح، وفيه نظر، فإن الحديث صحيح وضَعْفَ بعض طرقه غير مضرّ، وذكر في "الأسرار" أن هذا الحديث لعله لم يبلغ أبا حنيفة فإنه لا تأويل له ولو بلغه لما خالفه، وهذا حسن، وذكر صاحب "العناية" وغيرها أنه روي "ذكاةُ الجنين ذكاةَ أمه" بالنصب فهو على التشبيه أي كذكاة أمه كما يُقال: لسانُ الوزير لسانَ الأمير وفيه نظر، فإن المحفوظ عن أئمة الشأن الرفع، صرَّح به المنذري، يوضحه ما ورد في بعض طرق أبي سعيد الخدري قال السائل: يا رسول الله إنّا ننحر الإِبل والناقة ونذبح البقر فنجد في بطنها الجنين أفنلقيه أم نأكله؟ فقال: كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه. وبالجملة فقول من قال بموافقة الحديث أقوى. هذا ملخّص ما ذكره العيني في "البناية".
(1) أي يذبح.
(2) أي أبو حنيفة.
(3) ابن أبي سليمان.
(4) هذا استبعاد بمجرّد الرأي، فلا عبرة به بمقابلة النصوص، ولعلها لم تبلغه أو حملها على غير معناها.(2/646)
11 - (بَابُ أَكْلِ الجرَاد (1))
652 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا (2) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْجَرَادِ؟ فَقَالَ: وَدِدتُ (3) أَنَّ عِنْدِي قَفْعَةً (4) مِنْ جَرَادٍ فَآكُلُ مِنْهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (5) نأخذُ. فَجَرَادٌ ذُكِّي (6) كُلُّهُ لا بأس بأكله إن
__________
(1) قوله: باب أكل الجَراد، بفتح الجيم حيوان معروف، ذكر الترمذي في "نوادره" أنه خُلق من الطينة التي فَضُلت من خلق آدم، ومن ثَمَّ ورد أن أول الخلق هلاكاً الجراد، أخرجه أبو يعلى وغيره. الكلام فيه مبسوط في "حياة الحيوان".
(2) في نسخة: أخبرنا.
(3) أي تمنَّيْت.
(4) بفتح القاف وسكون الفاء، فعين مهملة، شيء شبيه بالزنبيل، قاله القاري.
(5) قوله: وبهذا نأخذ، قال الدميري في "حياة الحيوان": قالت الأئمة الأربعة بحله (وقد نقل النووي الإِجماع على حِلّ أكل الجراد، وخصّه ابن العربي بغير جراد الأندلس لما فيه من الضرر المحض. وملخّص مذهب مالك إن قطع رأسه حل وإلا فلا. تنسيق النظام ص 195) سواء مات حتف أنفه أو بذكاة أو باصطيادِ مجوسي أو مسلم قُطع منه شيء أو لا، وعن أحمد إذا قتلهُ البرد لم يؤكل، وعن مالك إن قطع رأسه حلّ وإلا فلا. والدليل على عموم حلّه حديث: أحِلّت لنا ميتتان ودمان الكبد والطحال والسمك والجراد، رواه الشافعي والبيهقي والدارقطني.
(6) ذُكِّي كله أي مذبوح كله أي في حكمه.(2/647)
أُخِذَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، وَهُوَ ذَكِيٌّ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
12 - (بَابُ ذَبَائِحِ (1) نَصَارَى الْعَرَبِ)
653 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ الدِّيلي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (2) بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذبائح (3) نصارى العرب؟ فقال:
__________
(1) ذبح الكتابي حلال، حربياً كان أو ذميّاً، عربياً كان أو غيره.
(2) قوله: عن عبد الله، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في الكافِ الشاف في تخريج أحاديث لكشاّف"قطع لأن ثوراً لم يلق ابن عباس، وإنما أخذه عن عكرمة فحذفه مالك، وروى ابن أبي شيبة من طريق عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس قال: كلوا ذبائح بني تغلب وتزوَّجوا نساءهم.
(3) قوله: عن ذبائح نصارى العرب، أي العرب الذين تنصَّروا ومنهم قوم معروفون ببني تغلب، وإنما سئل عنه وإنْ كان إطلاق قوله تعالى: {وطعام الذين أُوْتُوا الكتابَ حِلٌّ لَكُمْ} (سورة المائدة: الآية 5) أي ذبائحهم عامّاً لأنّ نصارى العرب ليسوا من أهل الكتاب حقيقةً، فإنهم ليسوا من بني إسرائيل الذين هم أهل التوراة والإِنجيل فكان مَظِنّة أن لا يحلّ ذبائحهم، فأجاب ابن عباس بأنه لا بأس بها أخذاً من عموم الآية، وقرأ قوله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} إشارة إلى أن الخطاب في هذه الآية إلى العرب، وغرضه سبحانه وتعالى منه أن من تولّى اليهود والنصارى من العرب وأخذ بشرائعهم وعمل حسب عملهم فهو منهم فنصارى العرب إذا تديّنوا بدين النصارى صاروا منهم حكماً وإن لم يكونوا منهم حقيقة، فدخلوا في عموم الآية(2/648)
لا بَأْسَ بِهَا، وَتَلا هَذِهِ الآيَةَ (1) {وَمَنْ يتولَّهم منكم فإنه منهم} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ.
13 - (بَابُ مَا قَتَل الْحَجَرُ (2))
654 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ قَالَ: رميْتُ طَائِرَيْنِ بِحَجَرٍ (3) وَأَنَا بالجُرُف (4) ، فأصبتُهما، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَمَاتَ (5) ، فَطَرَحَهُ (6) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَمَّا الآخَرُ فَذَهَبَ (7) عبد الله
__________
المذكورة، وبهذا ظهر سخافة ما قال الزرقاني (الزرقاني. 3/82 والأوجز. 9/131) : لعل مراده بتلاوتها أنها وإن جاز أكل ذبائحهم لكن لا ينبغي للمسلم أن يتخذهم ذبّاحين لأن في ذلك موالاةً لهم. انتهى. فإن هذا التوجيه يقتضي أن يكون قراءة الآية أمراً على حدة.
(1) تمامها: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهودَ والنصارى أولياءَ بعضُهم أولياءُ بعض ومن يتولّهم منكم فإنه منهم} (سورة المائدة: الآية 51)
(2) أي بسبب ثقله عليه.
(3) في نسخة: بحجرين.
(4) بضم الجيم وضم الراء وسكون الراء موضع بقرب المدينة.
(5) أي قبل ذبحه.
(6) لأنه صار ميتة (قال الخرقي: لا يؤكل ما قتل بالبندق أو الحجر، لأنه موقوذ، قال الموفق: يعني الذي لاحدّ له، فأما المحدود كالصوان فهو كالمعراض إن قتل بحدِّه أبيح وإن قتل بعرضه أو ثقله فهو وقيذ لا يُباح، ووهذا قول عامة الفقهاء. أوجز المسالك. 9/144) فإن الحجر أصابه بثقله.
(7) أي أراد أن يذبحه.(2/649)
يذكِّيه بقَدُوم (1) فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يذكِّيه فَطَرَحَهُ أَيْضًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. مَا رُمي بِهِ الطَّيْرُ، فقُتل بِهِ قَبْلَ أَنْ تُدْرَك (2) ذكاتُه لَمْ يُؤْكَلْ، إِلا أَنْ يُخْرَقَ (3) أَوْ يُبَضَّع فَإِذَا خُرِقَ وَبُضِعَ فَلا بَأْسَ بِأَكْلِهِ وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
14 - (بَابُ الشَّاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ تُذَكَّى (4) قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ)
655 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عن أبي مُرَّةَ (5) أنّه سأل (6)
__________
(1) بفتح القاف وضم الدال: آلة مشهورة للنّجار.
(2) بصغة المجهول، فما بعده مرفوع. أو بالمعروف فما بعده منصوب.
(3) من الخرق. بمعنى القطع وهو بالراء المهملة، وفي بعض النسخ خزق (أي طعن) بالمعجمة، وفي بعضها خزف بالمعجمة آخره فاء.
(4) أي تذبح.
(5) بضم الميم وتشديد الراء هو مولى أم هانئ، ويقال: مولى عقيل بن أبي طالب.
(6) قوله: أنه سأل أبا هريرة عن شاة، قال القاري: هي كانت مريضة أو مضروبة ونحوها. انتهى. وهذا مجرد احتمال لا يشفي (في الأصل: لا يسقى وهو تحريف) العليل، وحقيقة الواقعة في المتردِّية، ففي رواية عند ابن عبد البر عن يوسف بن سعد عن أبي مرّة قال: كانت عناق كريمة، فكرهتُ أن أذبحها فلم ألبث (في الأصل: (فلم ألبس) وهو تحريف) أن تردّدت، فذبحتها، فركضت(2/650)
أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ شاةٍ ذَبَحَهَا فَتَحَرَّكَ (1) بعضُها؟ فأمره (2) بأكلها، ثُمَّ سأل زيد ابن ثَابِتٍ فَقَالَ: إِنَّ الْمَيْتَةَ لَتَتَحَرَّكُ (3) ، وَنَهَاهُ (4) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا تحرّكتْ تَحَرُّكًا: أكبرُ الرَّأْيِ فِيهِ و (5) ، الظنُّ أَنَّهَا حَيَّةٌ (6) أُكلت (7) ، وَإِذَا كَانَ تحرُّكها شَبِيهًا بِالاخْتِلاجِ (8) ، وَأَكْبَرُ الرَّأْيِ وَالظَّنِّ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا ميتة لم تؤكل.
__________
برجلها (فتحرك بعضها) فأمره أبو هريرة أن يأكلها، ذكره الزرقاني (3/83 وكذا في الأوجز 9/137) .
(1) أي بعد ذبحها.
(2) قوله: فأمره بأكلها، أي لأن الحركة دليل الحياة فيكون مذكّى، ويوافقه ما أخرجه ابن جرير عن علي قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردّية والنطيحة وهي تتحرك يداً أو رجلاً فكلها.
(3) فلا يفيد ذبحها.
(4) قوله: ونهاه، أي عن أكلها. قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً من الصحابة وافق زيداً على ذلك. وقد خالفه أبو هريرة وابن عباس وعليه الأكثر.
(5) عطف تفسيري.
(6) أي كانت حيّة قبل الذبح.
(7) أي جاز أكلها.
(8) أي باضطراب الأعضاء.(2/651)
15 - (بَابُ الرَّجُلِ يَشْتَرِي اللحمَ فَلا يَدْرِي (1) أَذَكِيٌّ هُوَ أَمْ غَيْرُ ذَكِيّ)
656 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ (2) أَنَّهُ قَالَ سُئِل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ (3) : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ نَاسًا (4) مِنْ أهل البادية يأتون (5)
__________
(1) أي لا يَعلم أن ذلك اللحم من الحيوان المذبوح الشرعي أم لا.
(2) هو عروة بن الزبير بن العوّام. قوله: عن أبيه أنه قال ... إلخ، لم يختلف عن مالك في إرساله، وتابعه الحمّادان وابن عيينة ويحيى القطان عن هشام، ووصله البخاري في "الذبائح" من طريق أسامة بن حفص المدني، وفي "التوحيد" من طريق أبي خالد سليمان الأحمر، وفي "البيوع" من طريق الطفاوي محمد بن عبد الرحمن الإسماعيلي ومن طريق عبد العزيز الدراوردي وابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان والبزار من طريق أبي أسامة، الستة عن هشام عن أبيه عن عائشة، قال الدارقطني: وإرساله أشبه بالصواب يعني لأن رواته أضبط وأحفظ، وأجيب بأن الحكم للوصل إذا زاد عدد من وصل على من أرسل واحتفّ بقرينة تقوّي الوصل كما ههنا إذ عروة معروف بالرواية عن عائشة، والأولى أن يقال: إن هشاماً حدثه به على الوجهين مرسلاً وموصولاً، كذا في "شرح الزرقاني".
(3) بيان للسؤال. قوله: فقيل، عند البخاري في الذبائح: إن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوماً يأتونا باللحم، وفي آخره قالت عائشة: وكانوا أي القوم السائلون حديثي عهد بالكفر.
(4) عند النسائي: إن ناساً من الأعراب.
(5) قوله: يأتون بلُحمانٍ بضم اللام جمع لحم، وفي روايتنا: يأتوننا.(2/652)
بلُحْمانٍ فَلا نَدْرِي هَلْ سَمَّوْا (1) عَلَيْهَا أَمْ لا؟ قَالَ (2) فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَمُّوا (3) اللَّهَ عَلَيْهَا، ثُمَّ كُلُوهَا.
__________
(1) أي عند الذبح.
(2) الضمير إلى عروة.
(3) أي عند الأكل. قوله: سَمُّوا الله عليها، قال الطِّيبي في "حواشي المشكاة": هذا من أسلوب الحكيم كأنه قيل لهم لا تهتموا بذلك، ولا تسألوا عنه والذي يهمكم الآن أن تذكروا اسم الله عليه. انتهى. وقال القسطلاني: ليس المراد منه أنّ تسميتهم على الأكل قائمة مقام التسمية عند الذبح، بل طلب التسمية التي لم تفت وهي التسمية على الأكل. انتهى. واستَدلّ بهذا الحديث من ذهب إلى أن التسمية عند الذبح ليس بشرط للحلّ (قال الحافظ: اختلفوا في كونها شرطاً في حل الأكل فذهب الشافعي وطائفة وهي رواية عن مالك وأحمد: أنها سنّة فمن تركها عمداً أو سهواً لم يقدح في حِلّ الأكل، وذهب أحمد في الراجح عنه وأبو ثور وطائفة: إلى أنها واجبة لجعلها شرطاً في حديث عدي، وذهب أبو حنيفة والثوري ومالك وجماهير العلماء إلى الجواز لمن تركها ساهياً لاعمداً، لكن اختلف عن المالكية هل تحرم أو تكره؟ وعند الحنفية تحرم، وعند الشافعية في العمد ثلاثة أوجه، أصحها يكره الأكل. انظر فتح الباري 9/601) حتى لو ترك التسمية عامداً حلّ، فإنه لو كانت التسمية شرطاً لما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالأكل عند الشك فيها، وأجاب عنه العيني وغيره من أصحابنا أن هذا الحديث دليل لنا، فإنهم لما سألوا عن حالة اللحم الذي شكّ في التسمية فيه علم أنه كان من المعروف عندهم اشتراط التسمية وإلا لما سألوه، وإنما أمرهم بالأكل إشعاراً بأن الظاهر من حال الذابح المسلم أن لا يدع التسمية، فكأنه قال: إنكم لستم بمأمورين لحصول التيقن والتجسس لإِيراثه إلى الوسوسة والحرج، فسَمُّوا الله عند الأكل، وكلوا ولا تُلْقُوا أنفسكم في الشك والوسوسة.(2/653)
قَالَ (1) : وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الإِسلام (2) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ إِذَا كَانَ الَّذِي يَأْتِي بِهَا (3) مُسْلِمًا أَوْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (4) ، فَإِنْ أَتَى بِذَلِكَ مَجُوسِيٌّ (5) ، وَذَكَرَ أَنَّ مُسْلِمًا ذَبَحَهُ أَوْ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الكتاب لم يُصدَّق (6) ولم يُؤْكَلْ بقوله.
__________
(1) الضمير راجع إلى مالك كما صرح به في "موطأ يحيى". قال مالك: وذلك في أول الإِسلام.
(2) قوله: وذلك في أول الإِسلام، كأنه يشير إلى أنه لا يصح الاستدلال بهذا الحديث على عدم وجوب التسمية عند الذبح، فإنه كان في أول الإِسلام قبل نزول قوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يُذكَر اسمُ الله عليه وإنه لفسق} (سورة الأنعام: الآية 121) وقال ابن عبد البر: هذا قول ضعيف لا دليل عليه ولا يُعرف وجهه، والحديث نفسه يردّه لأنه أمرهم فيه بالتسمية عند الأكل، فدل على أن الآية كانت قد نزلت، وأيضاً اتفقوا على أن الآية مكّية، وأن هذا الحديث بالمدينة وأن المراد أهل باديتها. انتهى. أقول: في الوجه الأول نظر فإن الآية لا تدل على التسمية عند الآكل بل على التسمية عند الذبح فلا دلالة لسياق الحديث على ما ذكره، والحق أن سياق الحديث لا يُثبَت ما أثبتوه من عدم اشتراط التسمية بل اشتراطة كما ذكرنا.
(3) أي باللحمان.
(4) أي من اليهود والنصارى.
(5) وكذا الوثني وغيره من الكفار غير أهل الكتاب.
(6) قوله: لم يُصَدَّقْ، أي ذلك الكافر في قوله ولم يؤكل المذبوح بمجرد قوله فإن الكافر غير مقبول في باب الدِّيانة والحلّ والحرمة.(2/654)
16 - (بَابُ صَيْدِ الْكَلْبِ المعلَّم)
657 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نافع، أن عبد الله بن عمر كان يَقُولُ: فِي الْكَلْبِ (1) المعلَّم: كُلْ مَا أمْسَكَ عليك، وإن قَتَل (2) أَوْ لَمْ يَقْتُلْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. كُلُّ مَا قُتل وَمَا لَمْ يُقتل إِذَا ذكَّيْتَه (3) مَا لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ، فإنْ أَكَلَ فَلا تَأْكُلْ (4) فَإِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ (5) بَلَغَنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ من فقهائنا رحمهم الله.
__________
(1) قوله: في الكلب المعلَّم، بصيغة المفعول من التعليم، وهو الذي إذا زُجر انزجر، وإذا أُرسل أطاع، والأصل في هذا الباب قوله تعالى: {أُحِلَّ لكم الطيبات وما علّمتم من الجوارح مكلِّبين تعلِّمونهنّ مما علّمكم الله فكُلُوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه} (سورة المائدة: الآية 4) ذكر شيخنا في الأوجز حول هذه الآية عدة أبحاث فارجع إليه. 9/155) .
(2) لكن إذا لم يُقتل وأدركه صاحبه حيّاً يحتاج إلى التذكية.
(3) متعلِّق بما إذا لم يقتل أي ذبحته.
(4) قوله: فلا تأكل، وهو أصح قولي الشافعي لما في "الصحيح": وإن أكل فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه. ورخّص بعضهم في الأكل: منهم ابن عمر وسلمان الفارسي وسعد، وبه قال مالك والشافعي في رواية. والمسألة مبسوطة بتفاريعها ودلائلها في "الهداية" وشروحها.
(5) قوله: كذلك بلغنا عن ابن عباس، فإنه قال: آية المعلَّم من الكلاب أن يُمسك صيده فلا يأكل منه حتى يأتيه صاحبه. وقال أيضاً: إذا أكل الكلب فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه، أخرجهما ابن جرير، ذكره السيوطي في "الدّرّ المنثور"، ويوافقه من المرفوع حديث عديّ بن حاتم عند الأئمة الستة، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم:(2/655)
17 - (بَابُ (1) الْعَقِيقَةِ)
658 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أسلم،
__________
إن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه. ويخالفه حديث أبي ثعلبة الخشني عند أبي داود والنسائي وابن ماجه قال رسول الله: إذا أرسلتَ كلبك المعلَّم وذكرتَ اسمَ الله عليه فكُل، قال: وإن أكل، قال: وإن أكل (قال الجمهور: إذا قتل الكلب وأكل منه فهو حرام، وبه قال الحنفية، وهو أصح قولي أحمد وأصح قولي الشافعي، وعند مالك يجوز لحديث أبي ثعلبة. انظر هامش بذل المجهود 13/98) . وهو حديث معلول أعلّه البيهقي، كذا ذكره الحافظ في "التلخيص".
(1) قوله: باب العقيقة (في العقيقة عشرة أبحاث لطيفة. انظر أوجز المسالك 9/203 - 223) ، هي الذبيحة عن المولود يوم السابع، وقد اختُلف فيه، فعند مالك والشافعي هو سُنَّة مشروعة، وقال أبو حنيفة: هي مباحة ولا أقول: إنها مستحبة، وعن أحمد روايتان أشهرهما أنها سنة، والثانية أنها واجبة واختارها بعض أصحابه. وهي عن الغلام شاتان، وعن الجارية واحدة، وقال مالك: عن الغلام أيضاً شاة وهو في اليوم السابع بالاتفاق، ولا يُمَسّ رأس المولود بدم العقيقة بالاتفاق. وقال الشافعي وأحمد: يستحبّ أن لا تُكسر عظام العقيقة، بل يُطبخ أجزاؤها تفاؤلاً بسلامة المولود، كذا في "رحمة الأمة في اختلاف الأئمة". وقد ورد في هذا الباب أحاديث كثيرة تدل على مشروعيتها واستحبابها. من ذلك حديث عائشة: أمرنا رسول الله أن نعقّ عن الغلام بشاتين وعن الجارية بشاة، أخرجه الترمذي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي واللفظ لابن ماجه. ومن ذلك حديث سمرة مرفوعاً: الغلام مرتهن بعقيقة يُذبح عنه في اليوم السابع ويُحلَق رأسه ويسمَّى، أخرجه أحمد وأصحاب السنن والحاكم والبيهقي من حديث الحسن عن سَمُرة، وصححه الترمذي والحاكم وعبد الحق. وفي رواية لهم: ويُدَمَّى. قال أبو داود: يُسَمَّى أصح ويُدَمَّى غلط من همّام. ومن ذلك حديث أم كرز مرفوعاً: عن الغلام شاتان(2/656)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وعن الجارية شاة، أخرجه أبو داود وابن ماجه والنسائي والحاكم وابن حبان. وله طرق عند الأربعة والبيهقي. ومن ذلك حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه: كنّا في الجاهلية إذا وُلد لأحد غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الله بالإِسلام كنّا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران، أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث عائشة. ومن ذلك حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم عقّ عن الحسين والحسن كَبْشاً كَبْشاً، أخرجه أبو داود والنسائي وصححه عبد الحق وابن دقيق العيد، ورواه البيهقي والحاكم وابن حبان من حديث عائشة بزيادة: اليوم السابع وسمّاهما، وأمر أن يُماط عن رؤوسهما الأذى، وصححه ابن السكن بأتم من هذا، وفيه: وكان أهل الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة ويجعلونها على رأس المولود فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوا مكان الدم خلوقاً. ورواه أحمد والنسائي من حديث بريدة، وسنده صحيح، والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والطبراني في "المعجم الصغير" من حديث قتاده عن أنس، والبيهقي من حديث فاطمة، والترمذي والحاكم من حديث علي. هذا ملخص ما أورده الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير": وقال تلميذه شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السَّخاوي المصري في كتابه "ارتياح الأكباد بأرباح فَقْد الأولاد" بعد ذكر حديث: الغلام مرتهن بعقيقته: ذكر البيهقي عن سليمان بن شرحبيل نا يحيى بن حمزة قال: قلت لعطاء الخراساني: ما مرتهن بعقيقته؟ فقال: يحرم شفاعة ولده وكذا قال الإمام أحمد إنه مرتهن عن الشفاعة لوالديه، واستحسنه الخطابي حيث قال: تكلّم الناس في هذا، وأجود ما قيل فيه ما ذهب إليه أحمد أن هذا في الشفاعة يريد أنه إذا لم يعقّ عنه فمات طفلاً لم يشفع في والديه. وقيل: معناه أنه مرتهن بشعره. انتهى. وفي الباب أخبار وأحاديث أخر أيضاً مذكورة في مظانِّها وهي كلها تشهد بمشروعيته العقيقة، بل بعضها يدل على الوجوب، وبه استدل من قال به، لكن أكثرها يدل على حيث قال: إنها مباحة وليست بمستحبة، ولعل لكلامه وجهاً لست أحصّله. وستطّلع(2/657)
عَنْ رَجُلٍ (1) مِنْ بَنِي ضَمْرة عَنْ أَبِيهِ أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عَنِ الْعَقِيقَةِ؟ قَالَ: لا أُحِبُّ (2) الْعُقُوقَ، فَكَأَنَّهُ (3)
__________
على زيادة التفصيل عن قريب.
(1) قوله: عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ، قال ابن عبد البر: لا أعلمه رُوي معنى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه، ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أخرجه أبو داود والنسائي. قال: وأصل العقيقة كما قال الأصمعي وغيره: الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد، وسميت الشاة التي تذبح عنه عقيقة لأنه يُحلق عنه ذلك الشعر عند الذبح، قال أبو عبيد: فهو من تسمية الشيء باسم غيره إذا كان معه أو من سببه (شرح الزرقاني 3/96) . قال ابن عبد البر: وفي هذا الحديث كراهية ما يقبح معناه من الأسماء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن، قال: وكان الواجب بظاهر هذا الحديث أن يُقال لذبيحة المولود نسيكة، ولا يقال عقيقة، لكني لا أعلم أحداً من العلماء مال إلى ذلك، ولا قال به وأظنُّهم تركوا العمل به لما صحّ عندهم في غيره من الأحاديث من لفظ العقيقة. انتهى. كذا في "تنوير الحوالك على موطأ مالك" للسيوطي، وقال الزرقاني في"شرحه": لعل مراد ابن عبد البر من العلماء: المجتهدون، وإلا فقد قال ابن أبي الدم عن أصحابهم الشافعية يستحبّ تسميتها نسيكة أو ذبيحة، ويُكره تسميتها عقيقة كما يُكره تسمية العشاء عَتَمة.
(2) قوله: قال لا أحب العقوق، قال الخطّابي في"شرح سنن أبي داود": وليس فيه توهين العقيقة ولا إسقاط لوجوبها، وإنما استُبشع الاسم، وأحب أن يسمِّيَه بأحسن منه كالنسيكة والذبيحة. انتهى.
(3) قوله: فكأنه ... إلخ، هذا قول بعض الرواة يعني أنه لم يرد بقوله "لا أحب العقوق" كراهة العقيقة بدليل أنه رغَّب إليه بقوله: من وُلد له فأحب أن يَنسُك عن ولده فليفعل، بل إنما كره الاسم أي إطلاق لفظ العقيقة فإنه يُنبي(2/658)
إِنَّمَا كَرِهَ الاسْمَ، وَقَالَ (1) : مَنْ وُلد لَهُ ولدٌ فأَحَبُّ (2)
__________
ء عن العقوق، وهو مستعمل في العصيان وترك الإِحسان ومنه عقوق الوالدين. وهذا كما كره النبي صلى الله عليه وسلم تسمية العشاء بالعتمة وتسمية المدينة النبوية بيثرب، وحينئذ فلا يمكن أن يَستَدل به أحد على نفي مشروعية النسيكة للمولود أو على نفي استحبابها. أو على أنها كانت من عمل الجاهلية ثم نسخ كيف وهناك أخبار كثيرة قد مرّ نُبَذ منها تدل على مشروعيتها والترغيب إليها.
(1) أي النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) قوله: فأحب أن ينسك، استدل به جماعة من أصحابنا الحنفية منهم صاحب "البدائع" وغيره على أن العقيقة ليست بسنة لأنه علق العقّ بالمشيئة، وهذا أمارة الإِباحة وردّه علي القاري بقوله: لا يخفى أن المشيئة تنفي الفرضية دون السنية. انتهى. وأقول: هذا الحديث نظير حديث "من أراد منكم أن يضحِّي فلا يأخذن من أظفاره وشعره شيئاً حتى يضحِّي"، أخرجه الجماعة إلا البخاري، وقد استدل به الشافعية على عدم وجوب الأضحية بأنه علق الأضحية على الإِرادة والمشيئة ولو كان واجباً لما فعل كذلك، وأجاب عنه أصحابنا منهم صاحب "الهداية" و"البناية" وغيرهما بأنه ليس المراد به التخيير بين الترك والفعل، بل القصد فكأنه قال: من قصد منكم أن يضحي، وهذا لا يدل على نفي الوجوب كما في قوله: من أراد الصلاة فليتوضأ، وقوله: من أراد الجمعة فليغتسل، ولم يرد هناك التخيير، فكذا هذا. إذا عرفت هذا فلقائل أن يقول مثل ذلك في هذا الحديث بأنه ليس المراد بقوله من أحب أو من شاء كما في بعض الكتب التخيير والتعليق على المشيئة، بل المراد به القصد، وحينئد فلا يكون له دلالة على نفي الوجوب أيضاً فضلاً عن نفي السنية أو الاستحباب، وأيضاً لقائل أن يقول: ليس المراد بالحبّ الحبّ الطبعي والمشيئة التخييرية، بل المراد به الحب الشرعي، فالمعنى من وُلد له ولد فأحبّ أن ينسك عن ولده اتّباعاً للشريعة فليفعل، وحينئذ لا دلالة له على نفي السنية، على أنه لو سلّمنا أنه دالّ على نفي السنية فليس له دلالة على نفي(2/659)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الاستحباب الشرعي بوجه من الوجوه، فإنه معلّق بالمشيئة البتة إذ لا حرج في تركه فلا يثبت به الإِباحة المعرّاة عن الاستحباب، ومع عزل النظر عن ذلك كله نقول: هذا الحديث إن دلّ على نفي الاستحباب والسنية دلّ عليه بإشارته، وغيره من الأحاديث دلّ على الاستحباب بعبارته بل بعضها يدل على الوجوب والاستنان كما مرّ ذكرها، ومن المعلوم أن العبارة مقدّمة على الإِشارة. ومن النصوص الدالة على الاستحباب ما أخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط" في ترجمة أحمد بن القاسم من حديث عطاء عن ابن عباس أنه قال: سبع من السُّنّة في الصبي يوم السابع: يسمَّى، ويُختتن، ويُماط عنه الأذى، ويُثقب أذنه، ويُعقّ عنه، ويُحلق رأسه، ويلطّخ بدم عقيقته، ويُتَصَدّق بوزن شعره ذهباً أو فضة. فإن قلت فيه رواد بن جراح وهو ضعيف ؤكما ذكر ابن حجر قلت لا بأس فإن الضعيف يكفي في فضائل الأعمال، فإن قلت كيف يقول: ويُماط عنه الأذى مع قوله يُلطخ بدم؟ قلت: لا إشكال فيه، فلعل إماطة الأذى يقع بعد التلطّخ، والواو لا يستلزم الترتيب قاله الحافظ في "التلخيص": فإن قلت: ذكر في هذا الحديث التدمية؟ والجمهور على منعها، قلت: قد ذُكر ذلك في بعض الأخبار المرفوعة أيضاً، ففي "سنن أبي داود" من طريق همام قال: نا قتادة عن الحسن البصري عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل غلام رهينة بعقيقته تُذبح عنه يوم السابع ويُحلق رأسه ويُدمَّى. فكان قتاده إذا سُئل عن الدم كيف يصنع به؟ قال: إذا ذبحت العقيقة أُخذت منها صوفه واستقبلت به أوداجها ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل على رأسه مثل الخيط ثم يغسل بعد ويحلق. قال أبو داود (بذل المجهود 13/84) : هذا وهم من همام: ويُدمَّى. ثم أخرج من طريق سعيد عن قتاده عن الحسن عن سمرة مرفوعاً: كل غلام رهينة بعقيقته يُذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمَّى. ثم قال أبو داود: يسمَّى أصح، كذا قال سلام بن أبي مطيع عن قتاده وإياس بن دغفل وأشعث عن الحسن. انتهى كلامه.(2/660)
أَنْ يَنْسُكَ (1) عَنْ وَلَدِهِ فَلْيَفْعَلْ (2) .
659 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ (3) يَسْأَلُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ
__________
وقد ردّ عليه الحافظ في "التلخيص" بقوله: قال أبو داود: يُدمَّى غلط من همام، قلت: يدل على أنه ضبطها أنّ في رواية بهز عنه ذكَر الأمرين التسمية والتدمية، وفيه أنهم سألوا قتادة عن هيئة التدمية فذكرها لهم، فكيف يكون تحريفاً من التسمية، وهو يضبط أنه سأله عن كيفية التدمية. انتهى. ولعل هذا هو منشأ ذكر ابن عباس التدمية من جملة السنن، وإنما لم يأخذ الجمهور بهذا لما مرّ من حديث عبد الله بن بريدة أنه كان من أعمال الجاهلية وترك ذلك في الإِسلام، ولرواية ابن ماجه من حديث يزيد المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يعق عن الغلام ولا يُمَسّ رأسه بدم.
(1) بضم السين أي يُذبح.
(2) وفي رواية أبي داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فلينسك عن الغلام شاتين مكافئتين وعن الجارية شاة.
(3) قوله: إنه لم يكن يسأله ... إلخ، أي لم يكن يسأله أحد من أهل بيته ذبيحة عقيقة ليذبح بها في يوم العقيقة إلا أعطاها إياه، وكان ابن عمر يعقّ عن وَلَده - بفتحتين أو بضم الأول - أي من أولاده الذكور والإناث بشاة شاة قياساً على الأضحية واتباعاً لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً، وبه قال مالك. وقال غيره: عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة. ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرق عديدة قولاً كما مرّ ذكرها، واختلف في فعله فروي عنه في عقيقة الحسنين الواحد، وروي الاثنان (أخرج النسائي من حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس: عق عن الحسن والحسين بكبشين كبشين. الجوهر النقي 2/223، وفتح الباري 9/590) ، فالمرجح يكون هو التعدد للغلام ولهذا قال(2/661)
عَقِيقَةً إِلا أَعْطَاهُ (1) إِيَّاهُ، وَكَانَ يعِقّ عَنْ وَلَدِهِ بِشَاةٌ شَاةٍ عَنِ الذَّكَرِ وَالأُنْثَى.
660 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ (2) بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عن أبيه أنّه (3) قال:
__________
ابن رشد المالكي: من عمل به فما أخطأ بل أصاب، لما صححه الترمذي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يُعَقَّ عن الغلام شاتان، وعن الجارية بشاة، نقله الزرقاني، وقال القاري: لا يخفى أن الاكتفاء بواحد لا ينافي فضل التعدد.
(1) ذكر الضمير اعتباراً لما يُذبح منه، وفي رواية أعطاها.
(2) قوله: جعفر بن محمد ... إلخ، هو الإِمام أبو عبد الله جعفر الصادق الهاشمي المدني بن محمد المعروف بالباقر بن علي المعروف بزين العابدين بن حسين بن علي بن أبي طالب، كان من سادات أهل البيت وعُبّاد أتباع التابعين، وُلد سنة 80 هـ بالمدينة، ومات سنة 148 هـ بالمدينة، روى عن أبيه وعطاء وعروة وجماعة، وعنه مالك وأبو حنيفة ويحيى بن سعيد الأنصاري وشعبة والسفيانان وغيرهم، قال ابن معين: ثقة مأمون، وقال أبو حاتم: ثقة لا يسأل عن مثله، كذا في "إسعاف السيوطي". وأبوه محمد الباقر ثقة فاضل سُمِّي بالباقر لأنه تبقّر في العلوم أي توسّع، مات بالمدينة سنة 118 هـ، وقيل سنة 119 هـ، كذا في "التقريب" و"جامع الأصول".
(3) قوله: أنه قال، هذا حديث مرسل، فإن محمداً الباقر لم يدرك ذلك، ولا لقي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك رواه أبو داود في "في المراسيل" وأخرجه البيهقي فزاد عن أبيه عن جده، ورواه الترمذي والحاكم من حديث محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن علي قال: عقّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن شاة، وقال: يا فاطمة احلقي رأسه، وتصدّقي بزنة شعره فضة فوزنّاه، فكان وزنه درهماً أو بعض درهم، وعند الحاكم من حديث علي: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة، فقال: زني شعر الحسين وتصدّقي بوزنه فضة وأعطي القابلة رِجْل العقيقة، ذكره الحافظ في "التلخيص".(2/662)
وزنَتْ (1) فاطمةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَعْرَ حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ (2) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَزَيْنَبَ وأمِّ كُلثوم فتصدقتْ بِوَزْنِ ذَلِكَ فَضَّة.
661 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عبد الرحمن،
__________
(1) قال ابن عبد البر: أهل العلم يستحبّون ما فعلته فاطمة مع العقيقة أو دونها (وقال الموفق: إن تصدَّقَ بزنة شعره فضة فحسن، وقال ابن عابدين: يُستحب لمن وُلد له ولد أن يسميه يوم أسبوعه، ويحلق رأسه ويتصدق عند الأئمة الثلاثة بزنة شعره فضة أو ذهباً. وفي "المحلَّى" عن "الرسالة" لابن أبي زيد أنه يُستحب التصدق بوزنه من ذهب وفضة. أوجز المسالك 9/214) .
(2) قوله: شعر حسن وحسين، روى أحمد عن علي قال: لما وُلد الحسن سميته حرباً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أروني ابني ما سمَّيْتموه، قلنا: حرباً، قال: بل هو حسن، فلما وُلد الحسين، فذكر مثله، فقال بل هو حسين، فلما وُلد محسِّن ذكر مثله، فقال: بل هو محسن، ثم قال: سمَّيْتهم بأسماء ولد هارون شَبَّر وشَبِّير ومُبَشِّر (في الأصل: بسر وهو تحريف.)
والحديث أخرجه أحمد في "مسنده" رقم الحديث 768، والهيثمي في "مجمع الزوائد 8/52، قال في "اللسان" 4/393: شبر وشبير ومبشر: معناها: حسن وحسين ومحسن) وإسناده صحيح. ومحسن - بضم الميم وكسر السين المشددة - مات صغيراً، وزينب بنت فاطمة وُلدت في حياة جَدِّها، وكانت لبيبة عاقلة تزوّجها عبد الله ابن عمِّها جعفر فولدت له علياً وأم كلثوم وعوناً وعباساً ومحمداً، وأم كلثوم بنت فاطمة ولدت قبل وفاة جدها صلى الله عليه وسلم وتزوجها عمر بن الخطاب، فولدت له زيداً ورقية، ثم تزوجها بعد موته عون بن جعفر ثم مات فتزوجها أخوه محمد، ثم مات فتزوجها أخوهما عبد الله بن جعفر فماتت عنده فتزوج أختها زينب. وكان وزن فاطمة شعر الحسن والحسين بأمر أبيها صلى الله عليه وسلم، ووزن شعر زينب وأم كلثوم يحتمل أن يكون بأمره، ويحتمل أنها قاست ذلك على أمره لها في الحسن، كذا في "شرح الزرقاني".(2/663)
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ أَنَّهُ (1) قَالَ: وزنتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَعْرَ حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ فتصدقتْ بوزنهِ فِضَّةً.
قَالَ محمدٌ: أَمَّا الْعَقِيقَةُ (2) فَبَلَغَنَا أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ فُعلت فِي أَوَّلِ الإِسلام ثُمَّ نَسَخَ الأَضحى كلَّ ذَبْحٍ كان قبله ونَسَخَ صومُ
__________
(1) هذا أيضاً مرسل ووصله بعضهم، فقال: عن ربيعة عن أنس، وهو خطأ والصواب ما في "الموطأ" قاله ابن عبد البر؟.
(2) قوله: أما العقيقة ... إلخ، كأنه يشير إلى عدم مشروعية العقيقة الآن أو إلى كراهته كما تفيده عبارته في "الجامع الصغير" حيث قال: لا يُعَقّ لا عن الغلام ولا عن الجارية. انتهى.
وحاصل كلامه ههنا أنه بلغه أن العقيقة كانت في الجاهلية وفُعلت في ابتداء الإِسلام، ثم صار منسوخاً، وأنّ مشروعية الأضحى نسخت كل ذبح كان قبله، ومشروعية صوم رمضان نسخت كل صوم كان قبله ونسخت فرضية غسل الجنابة كلَّ غسل كان قبله، ونسخت الزكاة كل صدقة كانت قبلها.
وبلاغه الأول قد أخرجه في "كتاب الآثار" عن إبراهيم ومحمد بن الحنفية حيث قال محمد: أنا أبو حنيفة، عن حماد عن إبراهيم: كانت العقيقة في الجاهلية فلما جاء الإِسلام رفضت، محمد أنا أبو حنيفة، نا رجل عن ابن الحنفية أن العقيقة كانت في الجاهلية فلما جاء الإسلام رفضت قال محمد: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة. انتهى كلامه.
وبلاغه المشتمل على حديث النسخ أخرجه الدارقطني ثم البيهقي في سننهما عن المسيّب بن شريك عن عقبة بن اليقظان عن الشعبي عن مسروق عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نسخت الزكاة كل صدقة، ونسخ صوم رمضان كل صوم، ونسخ غسل الجنابة كل غسل، ونسخت الأضحى كل ذبح. وضعفاه. قال الدارقطني: المسيب بن شريك وعقبة متروكان، ورواه عبد الرزاق في "مصنفه" في أواخر النكاح موقوفاً على علي رضي الله تعالى عنه، كذا ذكره العيني في "البناية" للزيلعي وابن حجر في "تخريجهما" لأحاديث الهداية.
وذكر الذهبي في "ميزان الاعتدال"، والحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" حديث علي مرفوعاً من(2/664)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
رواية الدارقطني في ترجمة المسيّب بن شريك بن سعيد الكوفي، وذكرا أن يحيى قال في حقه: ليس بشيء، وقال أحمد: ترك الناس حديثه، وقال البخاري: سكتوا عنه، وقال مسلم وجماعة: متروك، وقال محمود بن غيلان: ضرب ابن معين وأحمد وأبو خثيمة على حديثه، وقال الساجي: متروك الحديث، له مناكير. انتهى.
إذاعرفت هذا كله فاعلم أن في المقام أبحاثاً عديدة:
- الأول: أنه ماذا أريد من كون العقيقة في الجاهلية وكونها متروكة مرفوضة في الإِسلام؟ إن أريد أنها كانت واجبة ولازمة في الجاهلية وكان أهل الجاهلية يوجبونها على أنفسهم فلما جاء الإِسلام رفض وجوبه ولزومه فهذا لا يدل على نفي الاستحباب أو المشروعية أو السنية، بل على نفي الضرورة فحسب، وهو غير مستلزم لعدم المشروعية أو الكراهة، وإن أريد أنها كانت في الجاهلية مستحبة أو مشروعة، فلما جاء الإِسلام رفض استحبابها وشرعيتها، فهو غير مسلّم. فهذه كتب الحديث المعتبرة مملوءة من أحاديث شرعية العقيقة واستحبابها، كما ذكرنا نُبَذاً منها.
- الثاني: الأحاديث الدالة على واستحبابها وشرعيتها، لا شك أنها واقعة في الإِسلام وهي معارضة لما بلغه من قول النخعي وابن الحنفية، ومن المعلوم أن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أحق بالأخذ من قول غيره كائناً من كان.
- الثالث: أنه لو كان مطلق مشروعية العقيقة مرتفعة عن الإِسلام لَمَا عقّ النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين، فإن ادَّعى أن ذلك كان في بدء الإِسلام احتيج إلى ذكر ما يدل على رفع كونه مشروعاً بعد ما كان مشروعاً في الإِسلام وإذ ليس فليس.
- الرابع: أنه لو كانت مشروعيتها المطلقة مرتفعة لما اختارها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعده، وقد اختاروها كما مرّ من رواية نافع عن ابن عمر، وفي "موطأ يحيى": مالك عن هشام بن عروة أن أباه عروة بن الزبير كان يعقّ عن بنيه الذكور والإِناث بشاة شاة.
- والخامس: أن مراد ابن الحنفية وإبراهيم من كون العقيقة مرفوضة يحتمل أن يكون رفض عقيقة الجاهلية فإنهم كانوا يذبحون ذبيحة ويلطِّخون صوفه في دمه، ويضعونها على رأس الصبي حتى تسيل عليه قطرات الدم، فلما جاء الإِسلام أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوا مكان الدم بزعفران ونحوه، وعلى هذا لا يدل كلامهما على نفي مشروعيتهما المطلقة بل على نفي الطريقة الخاصة.(2/665)
شَهْرِ رَمَضَانَ كلِّ صومٍ كَانَ قَبْلَهُ، ونَسَخَ غُسلُ الْجَنَابَةِ كلَّ غُسل كَانَ (1) قَبْلَهُ، ونَسَخَتِ الزكاةُ كل صدقة (2) كان قبلها. كذلك بَلَغَنَا.
__________
وبالجملة الحكم بنفي مشروعيتها في الإِسلام مطلقاً غير صحيح. وترك الأحاديث الصريحة المرفوعة والموقوفة الواردة في هذا الباب بقول محتمل غير متأصِّل غير نجيح.
- السادس: أن البلاغ الثاني لا يثبت من طريق محتَجّ به حتى يحتج به.
السابع: بعد تسليم ثبوته ظاهره يدل على منسوخية وجوب العقيقة ونحوها فإن معناه نسخ الأضحى لزوم كل ذبح كان قبله كالعقيقة، وكالعتيرة وكالرجبية، وكانتا في الجاهلية فإنهم كانوا إذا ولدت الناقة أو الشاة ذبحوا أول ولد، فأكل وأطعم، وكان بعضهم ينذر بأنه إذا بلغ شاته كذا ذبح من كلِّ عَشَرة شاةً، وكانوا يذبحون شاةً لتعظيم شهر رجب، ويدل عليه ضمّه بنسخ صوم شهر رمضان كل صوم كان قبله فإنه كان صوم يوم عاشوراء وأيام البيض فرضاً، فلما نزل صوم رمضان نسخ وجوب ذلك على ما بسطه الحازمي في "كتاب الناسخ والمنسوخ"، فكما أن نسخ صوم رمضان لما قبله لم يدل إلا على عدم لزومه، ولا على عدم مشروعيته وانتفاء فضيلته، كذلك نسخ الأضحى كلَّ ذبح كان قبله لا يدل على انتفاء استحبابه وشرعيته. وقال صاحب "البدائع": ذكر محمد في "الجامع الصغير": ولا يُعَقّ لا عن الغلام ولا عن الجارية، وإنه إشارة إلى الكراهة لأن العقيقة كانت فضيلة ونُسخ الفضل، فلا يبقى إلا الكراهة بخلاف الصوم والصدقة فإنهما كانتا من الفرائض، فإذا نسخت الفرضية يجوز التنفل بهما. انتهى. وردّه القاري بقوله: فيه بحث لأن الفضيلة إذا انتفت تبقى الإِباحة لأن النسخ ما توجّه إلا إلى زيادة. وهذا على تقدير أنه كان فضيلة، وإلا فالظاهر من ذكرها مع الصوم والصدقة أنهما على منوالهما في كونهما واجبة. انتهى.
فليتأمل في هذا المقام فإنه من مزال الأقدام، وانظر ما ذكرنا في هذا البحث في سلك نظائره التي لم يقف عليها الأعلام.
(1) قال القاري: لم أعرفه.
(2) قال القاري: هذا أيضاً غير معروف. انتهى. قلت: هو ما روي عن(2/666)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ابن عباس أنّ قبل فرض الزكاة كانت صدقة الفاضل من المال فرضاً
حتى نسخ، أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وغيرهم على ما في "الدر المنثور".(2/667)
كِتَابُ الدِّيات (1)
622 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن أبي بكر أن أباه (2) أخبره (3) عن الْكِتَابِ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَه (4) لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي
__________
(1) أي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزم المدني.
(2) أي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزم المدني.
(3) قوله: أخبره، قال ابن عبد البر: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث. وروي مسنداً من وجه صالح، ورواه معمر عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن جده، ورواه الزهري عن أبي بكر عن أبيه عن جده عن عمرو بن حزم.
(4) قوله: كتبه لعمرو بن حزم، هو أبو محمد، وقيل: أبو الضاحك عمرو بن حَزْم - بالفتح - بن زيد بن لوذان - بالفتح - بن عمرو بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجّار الأنصاري الخزرجي النجاري المدني. أول مشاهده مع رسول الله الخندق واستعمله رسول الله على نجران باليمن، وبعث معه كتابا فيه(3/5)
العُقُول (1) ؛ فَكَتَبَ أنَّ فِي النَّفْسِ (2) مِائَةً مِنَ الإِبل، وفي
__________
الفرائض والسنن والصدقات والجروح والديات، وكتابه هذا مشهور، أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما مفرَّقاً، وأكملهم له رواية النسائي في الديات، وكانت وفاته بالمدينة سنة 51 أو سنة 53 أو سنة 54 على الاختلاف، كذا في "تهذيب النوري".
(1) بضم العين جمع عقل بمعنى الدية.
(2) قوله: أن في النفس، أي في قتل الرجل المسلم إذا كان ذَكَراً مائة من الإِبل ومن الذهب ألف دينار، ومن الفضة عشرة آلاف درهم، وقال الشافعي: من الوَرِق اثنا عشر ألفاً، وبه قال أحمد وإسحاق، لما أخرجه أصحاب السنن عن ابن عباس: أنَّ رجلاً من بني عَدِيّ قُتل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دِيَته اثنا عشر ألفاً. ولنا - وهو قول الثوري - ما روى البيهقي من طريق الشافعي قال: قال محمد بن الحسن: بلغنا عن عمر أنه فرض من الذهب في الدية ألف دينار، ومن الوَرِق عشرة آلاف درهم، حدثنا بذلك أبو حنيفة عن العيثم، عن الشعبي عن عمر.
ودية المرأة عندنا نصف دية الرجل في النفس، وما دونها، وهو قول الثوري والليث وابن أبي ليلى وابن شُبْرمة وابن سيرين لما أخرجه البيهقي عن معاذ مرفوعاً: دية المرأة على النصف من دية الرجل. وفيه خلاف مالك وأحمد، كذا ذكر القاري.
(1) أي في قطع الأنف.
(2) قوله: إذا أُوعِيَتْ، في "موطأ يحيى": إذا أُوْعِيَ وهو من الوعي. يقال: وعى واستوعى من الاستعاب، وهو أخذ الشيء كله أي إذا استوصلت قطعاً بحيث لم يبقَ منه شيء، وفي بعض النسخ: أوعبت بالباء الموحَّدة، وهو بمعناه.
(3) بفتح الجيم بمعنى القطع.(3/6)
الأنف (1) إذا أو أُوعِيَتْ (2) جَدْعاً (3) مِائَةً مِنَ الإِبل، وَفِي الْجَائِفَةِ (4) ثُلُثَ النَّفْسِ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ مِثْلَهَا، وَفِي الْعَيْنِ (5) خَمْسِينَ، وَفِي الْيَدِ خَمْسِينَ، وَفِي الرِّجْل خَمْسِينَ، وفي كل إصبع (6) مما هنالك عشر من الإِبل، وفي السنّ (7) خمس من الإِبل، وفي المُوضحة (8) خمس من الإِبل.
__________
(4) قوله: وفي الجائفة، هي الطعنة التي بلغت الجوف، فإن لم تنفذ ففيها ثُلُث الدية وإن نفذت إلى جانب آخر ففيها ثلثا الدية. والمأمومة ويقال لها الآمّة - بالمد وتشديد الميم - الشجَّة الواصلة إلى أمّ الرأس الذي فيه الدماغ، كذا في "المغرب" وغيره.
(5) قوله: وفي العين خمسين، أي من الإِبل، وهي نصف دية النفس. وكذا في اليد الواحدة والرِّجْل الواحدة والشفة الواحدة. ففي الطرق الموصولة عن عمرو بن حزم عند أبي داود والنسائي وغيرهما، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصُّلْب الدية، وفي العينين الدية.
(6) قوله: في كل أصبع، أي في يد أو رجل، أي وإن كان خنصراً كما في رواية ابن عباس مرفوعاً: "هذه وهذه سواء" يعني الخنصر والإبهام، فيكون في كل منها عشر من الإبل، وهو خمس نصف الدية، ففي الأصابع الخمس يكون نصف الدية.
(7) أي في كل سِنّ من الأسنان سواء كان من الرباعية أو الأضراس.
(8) قوله: في الموضحة (قال صاحب "المحلى" في الموضحة خمس إن كان من الرأس والوجه اتفاقاً وإلاَّ ففيها حكومة عدل عند مالك والشافعي. انظر الأوجز 13/8) ، هي قسم من الشجاج، وهي التي توضح العظم أي تظهره وتكشفه، فإن كسرته سُمِّيت هاشمة.(3/7)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ، وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
1 - بَابُ الدِّيَةِ فِي الشَّفَتَيْن
663 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شهابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيِّب أنَّه قَالَ: فِي الشَّفَتَيْنِ (1) الدِّيَةُ، فَإِذَا قُطِعَتِ السُّفْلَى، فَفِيهَا (2) ثُلُثُ الدِّيَةِ.
قَالَ محمدٌ: ولَسْنا نَأْخُذُ بِهَذَا (3) ، الشَّفَتَانِ سَوَاءٌ (4) ، فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، أَلا تَرَى أَنَّ الْخِنْصَرَ وَالإِبْهَامَ سَوَاءٌ وَمَنْفَعَتُهُمَا مُخْتَلِفَةٌ. وَهَذَا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَأبي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
2 - بَابُ دِيَةِ الْعَمْدِ (5)
664 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، قَالَ: مَضَتِ (6) السُّنَّةُ
__________
(1) قوله: في الشفتين الدية، أي دية النفس كاملة، وقد جاء ذلك مرفوعاً عند النسائي في رواية كتاب عمرو بن حزم.
(2) قوله: ففيها ثلث الدية، قال الزرقاني: لأن النفع بها أقوى بالنسبة إلى العليا. لكن لم يأخذ بهذا مالك ولا الشافعي ومن وافقهما، قالوا: فيهما نصف الدية.
(3) أي بالتفريق.
(4) في حكم الدية مع أن منفعتهما مختلفة، فإن منفعة الخنصر اقلّ، فعلم أنه لا اعتبار - لها.
(5) قوله: مضت السُنَّة، أي السنة النبوية وسنَّة الصحابة. وقد روي ذلك موقوفاً ومرفوعاً، فأخرج الدارقطني والبيهقي من حديث عمر موقوفاً: العمد والعبد والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة. وفي إسناد عبد الملك بن حسين، وهو ضعيف، قال البيهقي: المحفوظ أنه عن عامر الشعبي قوله. وروي أيضاً عن ابن عباس، وروى البيهقي، عن أبي الزنَّاد عن الفقهاء من أهل المدينة نحوه، وأخرج الدارقطني والطبراني في " مسند الشاميين" من حديث عبادة مرفوعاً: لا تجعلوا على العاقلة من دية المعترف شيئاً. وإسناد واهٍ، فيه محمد بن سعيد المصلوب كذّاب، والحارث بن نبهان منكر الحديث، كذا في " تلخيص الحبير".
(6) قوله: مضت السُنَّة، أي السنة النبوية وسنَّة الصحابة. وقد روي ذلك(3/8)
أَنَّ الْعَاقِلَةَ لا تَحْمِلُ (1) شَيْئًا مِنْ دِيَة العَمْد إلاَّ أَنْ تَشَاءَ (2) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ.
665 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ (3) بْنُ أَبِي الزِّناد، عَنْ أَبِيهِ (4) ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتبة (5) بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لا تَعقِل (6) الْعَاقِلَةُ عَمْدًا، وَلا صُلْحًا، وَلا اعْتِرَافًا وَلا مَا جَنَى الْمَمْلُوكُ.
__________
موقوفاً ومرفوعاً، فأخرج الدارقطني والبيهقي من حديث عمر موقوفاً: العمد والعبد والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة. وفي إسناد عبد الملك بن حسين، وهو ضعيف، قال البيهقي: المحفوظ أنه عن عامر الشعبي قوله. وروي أيضاً عن ابن عباس، وروى البيهقي، عن أبي الزنَّاد عن الفقهاء من أهل المدينة نحوه، وأخرج الدارقطني والطبراني في " مسند الشاميين" من حديث عبادة مرفوعاً: لا تجعلوا على العاقلة من دية المعترف شيئاً. وإسناد واهٍ، فيه محمد بن سعيد المصلوب كذّاب، والحارث بن نبهان منكر الحديث، كذا في " تلخيص الحبير".
(1) أي لا تجب عليهم أداؤها، بل هي على القاتل.
(2) أي تشاء العاقلة تحمُّل الدية (بأن يتبرعوا بإعطاء الجاني شيئاً) .
(3) هو صدوق، فقيه، مدني، تغيَّر في حفظه لمّا قدم بغداد، مات سنة 74، كذا في "التقريب" (في نسخة: أخبرنا مالك، أخبرنا عبد الرحمن ... إلخ) .
(4) هو أبو الزِّناد - بكسر الزاي - عبد الله بن ذكوان.
(5) بضم العين.
(6) قوله: لا تعقل العاقلة عمداً، أي لا تحمل العاقلة دية القتل العمد كما(3/9)
قَالَ مُحَمَّدٌ وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ قولُ أَبِي حنيفة والعامة من فقهائنا.
__________
إذا قتل عمداً يجب فيه القصاص، وسقط فيه القصاص لشبهةٍ مثل ما إذا قتل الأب ابنه، وكذا لا تعقل العواقل الدية التي وجبت على القاتل بسبب الصلح بل هي في مال القاتل، وكذا لا تعقل دية قتل اعتراف به القاتل، وكذا ما جنى المملوك لا يعقل عنه عاقلة مولاه، بل هو على رقبته (قال الموفق: العاقلة لا تحمل العبد يعني إذا قتل العبدَ قاتلٌ وجبت قيمته في مال القاتل ولا شيء على عاقلته خطأ كان أو عمداً، وهذا قول ابن عباس والثوري ومكحول والنخعي ومالك والليث وإسحاق وأبي ثور، وقال عطاء والزهري والحكم وحماد وأبو حنيفة تحمله العاقلة، لأنه آدمي يجب بقتله القصاص والكفارة فحملت العاقلة بدله كالحر. وعن الشافعي كالمذهبين ووافقنا أبو حنيفة في دية أطرافه. وفي "المحلى": قال أبو حنيفة: إذا جنى الحر على العبد فقتله خطأ كان على عاقلته لأنه بدل النفس، وما دون النفس من العبد لا يتحمله العاقلة لأنه يسلك مسلك الأموال، كذا في " الهداية". انظر أوجز المسالك 13/88. وقال صاحب "القاموس": قول الشعبي: لا تعقل العاقلة عبداً ولا عمداً، وليس بحديث، كما توهم الجوهري. ومعناها أن يجني الحرّ على العبد لا العبد على الحرّ كما توهم أبو حنيفة لأنه لو كان المعنى كما توهمه لكان الكلام لا تعقل العاقلة عن العبد، ولم يكن ولا تعقل عبداً. قال الأصمعي: كلَّمت في ذلك أبا يوسف، وكان بحضرة الرشيد فلم يفرِّق بين عَقَلْتُه وعقلتُ عنه حتى فهَّمته. انتهى. وردَّه القاري بأن عقلته يُستعمل بمعنى عقلت عنه، وسياق الحديث وهو قوله: لا تعقل العاقلة عمداً ولا عبداً، وسياقه وهو قوله: ولا صلحاً ولا اعترافاً يدلاّن على ذلك، فإنَّ معناه عن عمد وعن صلح وعن اعتراف، وبأنَّ قول ابن عباس: ولا ما جنى المملوك، صريح في الأمر الذي فيه الإِمام. والأحاديث يفسر بعضها بعضاً، وبأنَّ قوله ليس بحديث مردود عليه بأنَّ المقطوع والموقوف أيضاً من أقسام الحديث وهو موقوف، له حكم الرفع إذ لا يُقال مثله بالرأي.(3/10)
3 - بَابُ دِيَةِ (1) الْخَطَأِ
666 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (2) ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ كَانَ يقول: في دية (3) الخطأ عشرون (4) بنتَ
__________
(1) قوله: أخبرنا ابن شهاب، هكذا في نسخ عديدة، والذي في "موطأ يحيى": مالك أن ابن شهاب وسليمان بن يسار وربيعة بن أبي عبد الرحمن كانوا يقولون: دية الخطأ ... إلخ.
(2) قوله: أخبرنا ابن شهاب، هكذا في نسخ عديدة، والذي في "موطأ يحيى": مالك أن ابن شهاب وسليمان بن يسار وربيعة بن أبي عبد الرحمن كانوا يقولون: دية الخطأ ... إلخ.
(3) قوله: دية، هي واجبة على العاقلة عندنا وعند الشافعي وأحمد والثوري وإسحاق والنخعي وحماد والشعبي وغيرهم، وعن ابن سيرين وابن شبرمة وأبي ثور وقتادة والزهري والحارث وأحمد في رواية أنه على القاتل، كذا ذكره العيني في "البناية".
(4) قوله: عشرون بنت مخاض، هي الناقة التي طعنت في السنة الثانية سُمِّيت بها، لأن أمها في الغالب يصير ذات مخاض بالفتح وهو وجع الولادة، والتي دخلت في السنة الثالثة تسمى بنت لبون - بفتح اللام - لأن أمها في الغالب تصير ذات لبن مرّة أخرى، والحِقَّة - بكسر الحاء وتشديد القاف التي دخلت في الرابعة، لكونها مستحقة للحمل والركوب، والجذعة - بفتحات - التي دخلت في الخامسة.(3/11)
مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بنتَ لَبون، وَعِشْرُونَ ابنَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ حِقَّة، وَعِشْرُونَ جَذَعة.
قَالَ محمدٌ: وَلَسْنَا (1) نأخذُ بِهَذَا، ولكنَّا نأخذُ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. وَقَدْ رَوَاهُ (2) ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: دِيَةُ الْخَطَأِ أَخْمَاسٌ، عِشْرُونَ (3) بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ حِقّة وعشرون جَذَعة أخماس، وإنما خَالَفَنا (4)
__________
(1) قوله: لسنا نأخذ بهذا، أي بما ذكره سليمان، ذكر صاحب "الهداية" والعيني في " شرحها " أن الصحابة أجمعوا على أن دية الخطأ مائة من الإبل، واختلفوا في أسنانها، فقال بعضهم: خمس وعشرون حِقَّة، وخمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون ابن لبون، وخمس وعشرون بنت مخاض. وقال عثمان وزيد: ثلاثون جذعة وثلاثون بنات لبون، وعشرون بنت مخاض وعشرون ابن لبون. ذكر ذلك أبو يوسف في "كتاب الخَراج": وإنما أخذنا بقول ابن مسعود لأنه أخفّ وأنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) قوله: وقد رواه، أخرج روايته أحمد، وأصحاب السنن، والبزار والدارقطني والبيهقي، وبسط الدارقطني في "السنن" الكلام في طرقه، ورواه من طريق أبي عبيدة، عن أبيه عبد الله بن مسعود، وفيه عشرون بني لبون، وقال: هذا إسناد حسن، وقواه بما أخرجه عن إبراهيم النخعي عنه على وفقه، وتعقبه البيهقي بأن الدارقطني وهم فيه، وقد رأيته في "جامع الثوري"، عن المنصور، عن إبراهيم، عنه، وعن أبي إسحاق، عن علقمة عنه، وعن عبد الحمن بن مهدي، عن يزيد بن هارون، عن سليمان التيمي، عن أبي مخلب، عن أبي عبيدة، عنه، وعند الجميع بنو مخاض، كذا ذكره الحافظ في "التلخيص".
(3) بيان للأخماس.
(4) قد وافقته رواية عن ابن مسعود، وإليه ذهب الشافعي.(3/12)