[مقدمات الطبع والتحقيق]
تقدِيم بقَلم سَمَاحَةِ الشَّيخ أبي الحَسَن عَلي الحَسَني النَّدوي
- الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
وبعد، فأبدأ هذا التقديم المتواضع لكتاب "التعليق الممجَّد على موطأ الإمام محمد" للإمام أبي الحَسَنات عبد الحي اللَّكنَويّ رحمه الله تعالى، تحقيق وأخراج أخينا الفاضل فضيلة الشيخ الدكتور تقيّ الدين النَّدْوي، بما قاله حكيمُ الإسلام الإمام أحمد بن عبد الرحيم المعروف بالشيخ وليّ الله الدهلوي (1114 هـ - 1176 هـ) في مقدمة كتابه "المصفّى شرح الموطأ" بالفارسية ما معناه بالعربية، قال - بعدَ ما ذكر حِيرتَه بسبب اختلاف مذاهب الفقهاء وكثرة أحزاب العلماء وتجاذيهم كلّ واحد عن الآخر إلى جانب - قال رحمه الله:
(أُلهمت الإشارة إلى كتاب "الموطأ" تأليف الإمام الهُمام حجة الإسلام مالك بن أنس، وعَظُم ذلك الخاطر رويداً فرويداً، وتيقَّنْتُ أنه لا يوجد الآن كتابٌ ما في الفقه أقوى من موطأ الإمام مالك، لأن الكتب تتفاضل فيما بينها: إما من جهة فضل المصنف، أو من جهة التزام الصحة، أو من جهة شهرة أحاديث، أو من جهة القبول لها من عامة المسلمين، أو من جهة حُسن الترتيب واستيعاب المقاصد المهمة أو نحوها، وهذه الأمور كلها موجودة في الموطأ على وجه الكمال بالنسبة إلى جميع الكتب الموجودة على وجه الأرض الآن) (نقلاً من "تسهيل دراية الموطّأ في كتاب المسوّي شرح الموطّأ"، إخراج دار الكتب العلمية - بيروت، ص 17 - 18) .
ومن كلامه فيه في نفس مقدمة المصفى:(1/5)
(لقد انشرح صدري وحصل لي اليقين بأن الموطأ أصح كتاب يوجد على وجه الأرض بعد كتاب الله، كذلك تيقَّنْت أن طريق الإجتهاد وتحصيل الفقه (بمعنى معرفة أحكام الشريعة من أدلتها التفصيلية) مسدود اليوم (على من رام التحقيق) إلاَّ من وجه واحد، وهو أن يجعل المحقِّق الموطّأ نصب عينيه ويجتهد في وصل مراسيله ومعرفة مآخذ أقوال الصحابة والتابعين (بتتبُّع كتب أئمة المحدثين) ، ثم يسلك طريق الفقهاء المجتهدين (في المذاهب) من تحديد مفهوم الألفاظ، وتطبيق الدلائل، وتبيين الركن والشرط والآداب، واستخلاص القواعد الكلية الجامعة المانعة، ومعرفة عِلَل الأحكام وتعميمها وتحقيقها، وفقاً لعموم العِلّة وخصوصها، وأمثال ذلك، ويجتهد في فَهْم تعقّبات الإمام الشافعيّ وغيره (كتفقّبات الإمام محمد في موطّئه، وكتاب الحجج) ، ثم يجتهد في تطبيق المختلفات أو ترجيح الأحسن منها، ويتمكَّن من تحصيل اليقين بدلالة الدلائل على تلك المسائل، وبغالب الظن للرأي لمعرفة أحكام الله تعالى) (المرجع السابق: ص 29) .
أما ما يتصل بمكانة الموطّأ للإمام محمد رحمه الله تعالى بالنسبة إلى موطّأ مالك برواية يحيى الأندلسي الليثي المصمودي وهو المتبادر بالموطّأ عند الإطلاق، وأكبّ عليه العلماء في القديم والحديث بالتدريس والشرح، فحسب القارئ ما يقوله الإمام عبدُ الحيّ بن عبد الحليم اللَّكنَوي صاحب "التعليق الممجَّد" في مقدمته لهذا الكتاب:
(له ترجيح على الموطّأ برواية يحيى وتفضيل عليه لوجوه مقبولة عند أولي الأفهام) (التعليق الممجّد، ص 35 طبع المطبع المصطفائي 1297 هـ) .
ثم ذكر هذه الأسباب وتوسَّع في عِّدها وشرحها (يُرجع إلى البحث في المقدمة، من ص 35 إلى ص 40) .
وقد كان الإمام عبد الحيّ اللَّكْنَويّ من أقدر الناس وأجدرهم بالتعليق على موطّأ الإمام محمد، لأنه كان يجمع بين الصلة العلمية القوية بالحديث والصلة العلمية القوية بفقه المذاهب الأربعة، وبصفة خاصة بالمذهب الحنفي، الذي كان(1/6)
الإمام محمد من أعلامه البارزين ومؤسِّسيه الأصيلين، فكان بذلك يجمع بين نسب علميّ معنوي قريب بصاحب الموطّأ إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس، ونسب معنوي علمي كذلك بالإمام محمد بن الحسن تلميذ الإمام مالك وصاحب الإمام أبي حنيفة. والنسب العلمي والمعنوي ليس أقلَّ قيمةً ولا أضعف تأثيراً من النسب الجسدي الظاهر، وبذلك استطاع أن يتغلب على ما يعتبره كثير من التناقض والجمع بين الأضداد واستطاع أن ينصف كل الإنصاف لصاحب الكتاب الأول الإمام مالك وراويه وناقله الراشد البار الفقيه المجتهد، والمحدث الواعي، الإمام محمد. هذا عدا ما اتصف به من اتِّساع الأُفق العلمي ورحابة الصدر، وسلامة الفكر، والذكاء النادر. يقول سَمِيُّه العلامة عبد الحيّ بن فخر الدين الحسني (م 1341 هـ) ، في كتابه المشهور: "نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر" في ترجمة الإمام عبد الحيّ اللَّكْنَوي يحكي قوله:
(ومن مِنَحِه أنه جعلني سالكاً بين الإفراط والتفريط لا تأتي مسألة معركة الآراء بين يديّ إلاَّ أُلهمت الطريق الوسط فيها، ولست ممّن يختار التقليد البَحْت بحيث لا يترك قول الفقهاء وإنْ خالَفَتْه الأدلة الشرعية، ولا ممن يطعن عليهم ويحقِّر الفقه بالكلّيّة) ("نزهة الخواطر" 8/235) .
وصاحب كتاب "نزهة الخواطر" قد أدرك الإمامَ عبدَ الحيّ اللَّكْنوي وحضر مجالسه أكثر من مرة، فشهادته له شهود عيان وانطباع معاصر خبير، يقول: (كان متبحراً في العلوم معقولاً ومنقولاً، مطَّلعاً على دقائق الشرع وغوامضه، تبحّر في العلوم، وتحرَّى في نقل الأحكام، وحرَّر المسائل وانفرد في الهند بعلم الفتوى، فسارت بذكره الرُّكبان، بحيث إن كل علماء إقليم يُشيرون إلى جلالته، وله في الأصول والفروع قوة كاملة وقدرة شاملة، وفضيلة تامة وإحاطة عامة ... والحاصل أنه كان من عجائب الزمن ومن محاسن الهند، وكان الثناء عليه كلمة إجماع، والاعتراف بفضله ليس فيه نزاع) ("نزهة الخواطر": 8/234 - 235) .(1/7)
و"التعليق الممجَّد" للإمام عبد الحيّ اللكنوي، يمثّل ما وُصف به من الجمع بين إتقان صناعة الحديث والاطّلاع على مراجعه، وبين المعرفة الدقيقة الواسعة بالمذاهب الفقيه، ثم ما اتّصف به من سعة الصدر من سعة العلم وإعطاء الحديث حقَّه من الإجلال والترجيح، والفقه من التقدير والاهتمام، والخروج من كل ذلك بكلام متَّزن مقتصد لا إفراط فيه ولا تفريط.
وقد اتفق لكاتب هذه السطور الاطّلاع على هذا الكتاب أيام طلبه لعلم الحديث وأيام التدريس، فأُعجب بسلامة فكره ورحابة صدره.
وقد كان هذا الكتاب "التعليق الممجد" في حاجة إلى أن يتناوله أحد المتوفِّرين على دراسة الحديث الشريف وتدريسه، بالعناية به تعليقاً وتصحيحاً، ونشره بالحروف العربية الحديثة حتى تتيسر قراءتُه لمن اعتاد ذلك من العلماء في العام العربي، فقد كان كتابُه بالخط الفارسي مطبوعاً كلَّ مرة على الحجر، غير واضح وغير شائق للمشتغلين بالحديث والفقه من العلماء الشباب والكهول والشيوخ في المشرق العربي.
وقد وُفِّق لذلك أخونا العزيز فضيلة الشيخ الدكتور تقيّ الدين النَّدْوي أستاذ الحديث بجامعة الإمارات العربية المتّحدة، وعُني بتصحيح نُسخ الكتاب والتعليق على مواضع كثيرة من الكتاب، والرجوع إلى المصادر التي نقل منها المؤلف عند التردد، ووضع الفهرس العام للكتاب، وقام بذلك بعمل علمي جليل وإحياء مأثرة من مآثر عالم مخلصٍ ربَّاني خادمِ العلوم الدينية وناشرها في ربوع الهند، ومؤلِّف كتب يبلغ عددُها إلى مئة وعشرة (110) كتب منها 86 كتاباً بالعربية، فاستحق بذلك الأخ العزيز الفاضل شكر المقدِّرين لكتاب الموطّأ، والمشتغلين بعلم الحديث والفقه، وثناء الجميع وتقديرهم، تقبَّل الله عمله ونفع به الداني والقاصي.
أبو الحسن علي الحسني الندوي 15 من ذي الحجة الحرام سنة 1409 هـ
دار العوم ندوة العلماء - الهند(1/8)
المجلد الأول
تَقدمة بقلم الأستاذ عَبد الفتاح أبو غُدّة
- وهي تتضمن بإيجاز:
كلماتٍ عن حفظ الله تعالى للسنة،
وتميز المدينة المنورة بأوفى نصيب منها،
وسبق علماء المدينة في تدوين الحديث،
وعن تأليف مالك للموطأ،
وتأريخ تأليف الموطأ،
وأن الموطأ أوَّل ما صُنِّفَ في الصحيح،
وعن مكانة الموطأ وصُعوبة الجمع بين الفقه والحديث،
وعن كبار الحفاظ الأقدمين وحدود معرفتهم بالفقه،
وأنَّ الإمامة في علم تجتمع معها العامية في علم آخر،
وعن يُسر الرواية وصُعوبة الفقه والاجتهاد.
وكلماتٍ عن مزايا الموطأ، وعن روايات الموطأ عن مالك،
وكلماتٍ في ترجمة محمد بن الحسن راوي الموطأ،
وكلماتٍ في رد الجَرح للراوي بالعمل بالرأي، وعن ظلم جملةٍ من المحدِّثين للإمامين: أبي يوسف ومحمد الفقيهين المحدِّثين،
وكلماتٍ للإمام ابن تيمية في دفع الجَرح بالعمل بالرأي، وعن تحجُّرِ جُلِّ الرُّواةِ وضِيقِهم من المشتغل بغير الحديث، والردِّ على من قَدَح في أبي حنيفة بدعوى تقديمه القياسَ على السُّنَّة،
وكلماتٍ في ترجمة الشارح الإمام اللَّكنوي، وأهمية طبع كتاب "التعليق المُمَجَّد".(1/9)
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمَةٌ وتقدِمةٌ إمَامَ مُوطّأ الإمام مَالك برواية الإمام محمَّد بن الحَسَن
وَهوَ المشْهُور بمُوطأ الإِمام محمَّد:
حفظ الله تعالى للسنة:
- لقد حَظِيَتْ سُنَّةُ النبي صلى الله عليه وسلم - وهي أحاديثه الشريفة: أقوالُه، وأفعاله، وتقريراتُه - من أول يوم بالعناية التامة، والحفظ والرعاية، والعمل بها من الصحابة الكرام والتابعين الأخيار، فحُفِظَت حفظاً تاماً، ونُقلتْ نقلاً دقيقاً، تحقيقاً لقول الله تعالى: {إنَّا نحنُ نَزَّلنا الذكرَ وإنّا لَهُ لَحافظون} .
فمن حفظِ الذكر والكتابِ الكريم حِفظُها، فإنها مفسِّرة له ومُعرِّفة بأحكامه ومَراميه، قال سبحانه: {وأنزلنا إليك الذكر لتبيِّنَ للناس ما نُزِّل إليهم} .
ولقد أقام الله سبحانه في القرون الثلاثة الأولى الخيِّرة: رجالاً تلقَّوْا هذا الدين بفَهم وبصيرة، وحُبِّ وولاء، وإعزاز وتكريم، فآثروه على أنفسهم وأهليهم وأولادهم وديارهم، وهاجروا في سبيل تحصيله وضبطه، وتلقيهِ وتبليغه، وهجروا الراحة والأوطان، وطافوا القرى والبلدان، لتحصيل الحديث النبوي الواحد وما يتصل به من آثار السلف الصالح، فبَلَغوا الغاية، وأتَوْا على النهاية، وكانوا بحق {خيرَ أُمَّة أُخرِجَتْ للناس} .
نصيب المدينة من السنة أوفى نصيب وسَبْقُها في تدوين السنة:
- وكان لكل بلد من البلدان التي فتحها الإسلامُ الحنيف واستقرَّ فيها المسلمون، نصيبٌ من العلم، يختلف عن الآخر قلةً وكثرة، بحسب كثرة الصحابة الواردين عليه(1/11)
والمقيمين فيه، فكان نصيبُ دارِ الهجرة النبوية: المدينةِ المنوَّرة أوفَى نصيب، لتوفر وجود الصحابة الكرام فيها، إذ كانت هي ومكةُ المكرَّمةُ بعدَ فتحها دارَ الإسلام الأولى ومَهْوَى أفئدة المؤمنين.
فعاشت فيها السنة وجاشت، وانتشرت في آفاق الإسلام، وتوارثها الناس جيلاً عن جيل، وقبيلاً عن قبيل، وكثر في دار الهجرة الفقهاء والمحدثون كثرة بالغة، فقد نُقل عن مالك، أنه قال: عرضتُ كتابي هذا على سبعين فقيهاً من فقهاء المدينة. فلمَّا نشأ مالك، كانت السنة قد أخذت طريقها إلى التدوين.
وكان تدوينها في المدينة المنورة قبلَ كل الأمصار، فألَّف فيها الإمام محمد بن شهاب الزهريُّ المدني، شيخ مالك، المتوفى سنة 124، وموسى بن عقبة المدني شيخ مالك أيضا المتوفي سنة 141، ومحمد بن إسحاق المُطَّلبي المدني، المتوفى سنة 151، وابن أبي ذئب محمد بن عبد الرحمن المدني، المتوفى سنة 158.
وألَّف في زمن هؤلاء وبعدَهم غيرُهم من أئمة الحديث والسنَّة، في مكة المكرمة، والكوفة، والبصرة، وخراسان، ولكنَّ السَّبْقَ الأول في تدوين السنَّة كان لعلماء المدينة الأعلام، ويأتي تأليفُ الإمام مالكٍ "الموطأ" في عِداد الكتب التي دَوَّنَتْ السنَّة في المدينة وغيرها: (الكتاب العاشر) تدويناً، والأولَ تصنيفاً على الأبواب الفقهية، كما يُستفاد من "الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنَّة المشرَّفة" (للعلامة السيد محمد بن جعفر الكتاني رحمه الله تعالى، ص 327، وص 4 من الطبعة الرابعة) ، فجاء الإمام مالك وقد تعقَّد التأليف في السنَّة بعضَ الشيء، وبَلَغ مالكٌ في الإمامة للمسلمين مبلغاً رفيعاً، فألَّف كتابَه العظيم: "الموطأ".
تأليف مالك الموطأ:
- وقد ذكر العلماء أن تأليف الإمام مالك "الموطأ"، إنما كان باقتراحٍ من الخليفة العباسي إبي جعفر المنصور - عبد الله بن محمد، ولد سنة 95، وتوفي سنة 158 رحمه الله تعالى -، في قَدْمَةٍ من قَدَماتِهِ إلى الحج، دعاه المنصور لزيارته فزاره، فأكرمه أبو جعفر وأجلسه بجانبه، وسأله أسئلة كثيرة، فأعجبه سَمْتُه وعلمه وعقله وسدادُ رأيه، وصِحةُ أجوبتهِ، فعَرَف له مقامَهُ في العلم والدين وإمامةِ المسلمين.(1/12)
فقد جاء أنَّ أبا جعفر قال لمالك: ضَعْ للناس كتاباً أَحمِلُهم عليه، فكَلَّمه مالك في ذلك - أي مانَعَه مالك في حملِ الناس على كتابة -، فقال ضَعْهُ فما أحدٌ اليومَ أعلمَ منك، فوضع"الموطأ"، فلم يَفرُغ منه حتى مات أبو جعفر.
وفي روايةٍ: قال مالك: دخلت على أبي جعفر بالغداة حين وقعت الشمسُ بالأرض، وقد نزل عن سريره إلى بساطه، فقال لي: حقيقٌ أنت بكل خير، وحقيقٌ بكل إكرام، فلم يزل يسألني حتى أتاه المؤذِّن بالظهر، فقال لي: أنت أعلمُ الناس، فقلت: لا واللهِ يا أمير المؤمنين، قال: بلى، ولكنك تكتمُ ذلك، فما أحدٌ أعلمَ منك اليومَ بعدَ أمير المؤمنين.
يا أبا عبد الله - كنية الإمام مالك -، ضَعْ للناس كُتُباً، وجنِّب فيها شدائدَ عبد الله بن عُمَر، ورُخَصَ ابن عباس، وشواذَّ ابن مسعود، واقصِد أوسط الأمور، وما اجتمع عليه الأمَّةُ والصحابة، ولئن بقيتُ لأكتبنَّ كتبك بماء الذهب، فأحمِلُ الناسَ عليها.
فقلت له: يا أمير المؤمنين، لا تفعل، فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورَوَوْا روايات، وأخذ كلُّ قوم بما سَبَقَ إليهم، وعملوا به، ودانوا له، من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهِم، وإنَّ رَدَّهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناسَ وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم، فقال: "لَعَمْري لو طاوعتني على ذلك لأمرتُ به". انتهى (هذا وما قبله من "ترتيب المدارك" للقاضي عياض 2: 71 - 73) .
وقال العلامة المؤرخ القاضي الإمام ابن خلدون، في أوائل "مقدمته" (ص 17 - 18، و"انتصار الفقير السالك"، للراعي الأندلسي ص 208) ، "وقد كان أبو جعفر لمكانٍ من العلم والدين قَبلَ الخلافةِ وبعدَها (أطال الإمام ابن جرير الطبري في ترجمة أبي جعفر المنصور أيَّ إطالة، في سنة تاريخ وفاته سنة 158، فترجم له وذكر أخباره ووصاياه ... في 54 صفحة، من 8: 54 - 108. قال العلامة الزرقاني في مقدمته لشرح "الموطأ"1: 9، "وذكروا أنَّ المهديَّ والهادي سَمِعا "الموطأ" من مالك، وأنَّ الرشيدَ وبنيه الأمينَ والمأمونَ والمؤتَمن، أخذوا عن مالكٍ "الموطأ أيضاً" انتهى.
فهكذا كانت نشأةُ الملوك في العلم في القرون الخَّيرة الأولى، ومنه تُدرَكُ نشأةُ جَدِّهم أبي جعفر المنصور في القرن الأفضل والأعلم، التي أشار إليها الإمام ابن خلدون) ، وهو القائل لمالكٍ حين أشار(1/13)
عليه بتأليف "الموطأ": يا أبا عبد الله، إنه لم يَبق على وجه الأرض أعلَمُ مني ومنك، وإني قد شغَلَتني الخلافة، فضَعْ أنت للناس كتاباً ينتفعون به، تجنَّبْ فيه رُخَص ابن عباس، وشدائدَ ابن عمر - وشوادَّ ابن مسعود -، ووطِّئْهُ للناس توطئة، قال مالك: فوالله لقد علَّمني التصنيف يومئذ". انتهى.
فألف مالك "الموطأ"على هذا المنهج، فالموطأ معناه: المسهَّل الميسَّر (يقال في اللغة: وَطُؤَ الموضعُ يَوْطُؤُ وَطاءةً ووُطوءةً: لانَ سَهُل، فهو وطيءٌ، ووطَّأ الموضعَ صَيَّرهُ وطيءاً، ووطَّأ الفرِاشَ: دَمَّثَهُ ودَثَّرهُ، والموطَّأ: المسهَّلُ الميسَّر. كما في "القاموس" و"المعجم الوسيط") .
وذكر العلماء أن الإمام ابنَ أبي ذئب مُعاصِرَ الإمام مالك وبلديَّه - قد صنَّف موطّأً أكبرَ من موطأ مالك، حتى قيل لمالك: ما الفائدة في تصنيفك؟ فقال: ما كان لله بقي (من "الرسالة المستطرفة" ص 9) .
تأريخ تأليف الموطأ:
- ذكر العلماء أن أبا جعفر المنصور حين حَجَّ بالناس أيام خلافته، طَلَب من الإمام مالك أن يُدوِّن كتاب "الموطأ".
وقد استقرأت حجات أبي جعفر بعد خلافته، في "تاريخ الطبري"، فتبيَّن أنها كانت خمسَ حجات، أولُها في سنةِ 140 ثم سنة 144، ثم سنةِ 147، ثم سنةِ 152، ثم سنةِ 158، التي توفي فيها بمكة حاجاً محرماً.
ولم يتعرض الإمام ابن جرير عند ذكره هذه الحجات لأبي جعفر، للحديث عن تدوين كتاب "الموطأ".
نعم تعرَّض لذلك ابن جرير في كتابه "ذيل المذيَّل" المطبوع بآخر تاريخه 11: 659، فذكر القصة عن المهدي أولاً، ثم ذكرها عن أبي جعفر ثانياً برواية الواقدي.
وتابعه على ذكرِ ذلك كذلك: بتقديم رواية أن المهدي هو المُقترحُ لتأليف "الموطأ"، على رواية أن المنصور هو المقترح تأليفه: الإمامُ ابن عبد البر في "الانتقاء" ص 40، فساق الروايتين من طريق ابن جرير، الأولى بسنده إلى إبراهيم بن حماد الزهري المدني، عن مالك. والثانية بسنده إلى محمد بن عمر الواقدي، عن مالك.(1/14)
وعلَّق عليه شيخنا العلامة الكوثري رحمه الله تعالى، ما يلي:
"وصنيعُ ابن جرير في "ذيل المذيَّل" كما هنا، يُؤذِنُ بترجيحِهِ الروايةَ الأولى، وتحاميهِ عن رواية الواقدي - أن القصة مع المنصور -، لكن ابن عساكر خرَّج في "كشف المغطَّا من فضل الموطَّا" بطرقٍ عن مالك ما يُؤيدُ روايةَ الواقدي، وإن لم تخلُ واحدُ منها عن مقال. وفيه - أي في "كشف المغطى" - سماعٌ الرشيد "الموطأ" عن مالك لمَّا حَجَّ مع أبي يوسف.
والذي يُستخلص من مختلِفِ الروايات في ذلك، أنَّ المنصور تحادث مع مالك في تدوين عِلم أهل المدينة عامَ ثمانية وأربعين ومئة محادثةً إجمالية، ولمَّا حَجَّ قَبْلَ حجتِهِ الأخيرة، أوصاه أن يتجنب فيما يدونه شدائدَ ابن عُمَر، ورُخَصَ ابن عباس، وشَوَاذَّ ابن مسعود رضي الله عنهم.
وأما إخراجهُ للناس ففي سنة تسع وخمسين ومئة في عهد المهدي، فلا تثبُتُ روايتُهُ ممَّن تقدَّم على ذلك". انتهى.
وقال شيخنا الكوثري أيضاً رحمه الله تعالى، في مقدمته لجزء "أحاديث الموطأ واتفاق الرواه عن مالك واختلافُهم فيها" للدار قطني، ما يلي: "ألَّف عبد العزيز بن عبد لله بن أبي سلمة الماجِشُون كتاباً فيما اجتمع عليه أهل المدينة، ولما اطلع عليه مالك بن أنس رضي الله عنه، استحسن صنيعَه، إلى أنه أخَذ عليه إغفاله ذكر الأخبار والآثار في الأبواب، حتى قرر أن يقوم هو بنفسه بجمع كتابٍ تحتوي أبوابُهُ صِحاحَ الأخبار وعملَ أهل المدينة، في أبواب الفقه، فيدأ يمهُدُ السبيل لذلك.
وكان المنصور العباسي بلغه شيء مما عَزَم عليه مالك، فاجتمع به في حجته - قَبْلَ - الأخيرة في التحقيق، وأوصاه أن يدون علمَ أهل المدينة، مجتنباً رُخَصَ ابن عباس، وشدائدَ ابن عمر، وشواذَّ ابن مسعود رضي الله عنهم، حيث كان جماعة من أصحاب هؤلاء ينشرون علومهم في المدينة المنورة، منهم الفقهاء العَشَرة في أيام عمر بن عبد العزيز، ولهم أصحابٌ وأصحابُ أصحاب أدركهم مالك.
فتقوَّتْ عزيمة مالك حتى تجرَّد لجمع الصفوة من الأحاديث والآثار المروية عند أهل المدينة، ولجمع العملِ المتوارثِ بينهم، مقتصراً في الرواية على شيوخ أهل المدينة سوى ستة، وهم: أبو الزبير من مكة، وإبراهيم بن أبي عَبْلَةَ من الشام، وعبد الكريم بن(1/15)
مالك من الجزيرة، وعطاء بن عبد الله من خراسان، وحُمَيدٌ الطويل وأيوبُ السِّختياني من البصرة، إلى أن أتم عملَه في عهد المهدي العباسي، كما بينتُ ذلك فيما علقتُ على "الانتقاء" لابن عبد البر". انتهى.
وهذا الذي رجحه شيخنا من أن المنصور تحدث مع مالك في سنة 148، بشأن تدوين علم أهل المدينة، وأوصاه قبل حجته الأخيرة أن يتجنب في التأليف شدائد ابن عمر.. غير ظاهر فإن حجته الأخيرة التي توفي فيها كانت سنة 158، والحجة التي قبلها كانت سنة 152 والتي قبلها سنة 147، والتي قبلها سنة 144، والتي قبلها سنة 140، كما أسلفته عن "تاريخ ابن جرير".
ولم يحج المنصور في سنة 148، وإنما حج بالناس ابنُهُ جعفر كما في غير كتاب فتكون سنةُ 148 سَبْقَ قلم عن 147.
ثم قوله: إن المنصور تحدث مع مالك في تلك السنة، وأوصاه بتجنبِ ما أوصاه بتجنبه في الحجة التي قبل الأخيرة، وهي - كما عند ابن جرير - سنة 152، فيه بُعدٌ أيضاً فإن المتبادر أن يقع ذلك من المنصور في أول حجة له بعد توليه الخلافة سنة 140، أو في ثاني حجة سنة 144، ويمكن أن يكون ذلك في ثالث حجة سنة 147، أما في رابع حجة سنة 152، ففيه بُعدٌ شديد لأنه يلزم أن يكون مالك ألَّف "الموطأ" بأقلَّ من سبع سنوات، لأنه قد سمعه منه المهدي سنة 159، على ما ذكره شيخنا، في حين أن المهديَّ إنما حجَّ بالناس سنة 160، وحجَّ الهادي سنة 161، كما عند ابن جرير.
والمذكور أن مالكاً ألَّف "الموطأ" في سنين كثيرة، ذُكر أنها أربعون، وذُكر أنها دون ذلك، وعلى كل حال يستبعد أن تكون مدة التأليف نحو سبع سنوات، لما عُرف من إتقان مالك وضبطه وانتقائه، وقلة تحديثه بالأحاديث في مجالسه، فلم يكن يحدث في مجلسه إلا ببضعة أحاديث معدودة فتأليفه "الموطأ" بعد سنة 140 جزماً أو بعد سنة 147، وفراغه منه بعد سنة 158 جزماً، والله تعالى أعلم.
وهكذا تم تأليف هذا الكتاب "الموطأ" فقد جمع فيه الإمام مالك - كما سبق نقلُ قوله - حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقوال الصحابة، وأقوال التابعين، ورأياً هو إجماعُ أهل المدينة، لم يخرج عنها، فجمع الحديثَ بأوسع معانيه - وما يتصلُ به من آثار الصدر الأول، لأنها كانت المرجع الأكبَر في الأحكام العملية.(1/16)
الموطأ أوَّلُ ما صُنِّف في الصحيح:
- قال العلامة الزرقاني في مقدمته لشرح "الموطأ" (12: 1) : "وأطلق جماعة على الموطأ اسم الصحيح، واعترضوا قول ابن الصلاح: أوَّلُ من صنَّف فيه البخاري، وإن عبر بقوله: الصحيح المجرَّد، للاحتراز عن الموطأ، فلم يُجرد فيه الصحيح بل أدخل المرسل والمنقطع والبلاغات، فقد قال الحافظ مُغُلْطاي: لا فرق بين الموطأ والبخاري في ذلك، لوجوده أيضاً في البخاري من التعاليق ونحوها.
ولكن فرَّق الحافظ ابن حجر: بأن ما في الموطأ كذلك مسموعٌ لمالك غالباً، قال: "وما في البخاري قد حَذَف إسنادَه عمداً، لأغراضٍ قررتها في "التغليق"، تظهر أن ما في البخاري من ذلك لا يخرجه عن كونه جّرَّد فيه الصحيح، بخلاف الموطأ" بل قال الحافظ مغلطاي: أوَّل من صَنَّف الصحيح مالك.
وقولُ الحافظ: هو صحيح عنده وعند من يقلده على ما اقتضاه نظرُه من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما، لا على الشرط الذي استقر عليه العمل في حد الصحة: تعقَّبَهُ السيوطي بأن ما فيه من المراسيل - مع كونها حجةً عنده بلا شرط، وعند من وافقه من الأئمة - هي حجةٌ عندنا أيضاً لأن المرسل حجة عندنا إذا اعتضد وما من مرسل في الموطأ إلا وله عاضد أو عواضد فالصوابُ إطلاقُ أن الموطأ صحيح لا يُستثنى منه شيء.
وقد صنف ابن عبد البر كتاباً في وصل ما في الموطأ من المرسل والمنقطع والمعضل، وقال: وجميعُ ما فيه من قوله: بلغني، ومن قوله: عن الثقة عنده، مما لم يُسنده أحدٌ وستون حديثاً كلُّها مسندة من غير طريق مالك، إلا أربعةً لا تعرف: أحدها: إني لا أَنسى ولكن أُنَسَّى لأسُنَّ. والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُرِيَ أعمارَ الناس قبلهُ أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا مثل الذي بلغه غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خيراً من ألف شهر والثالث قول معاذ: آخرُ ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد وضعتُ رجلي في الغَرز - أن قال: حَسِّن خُلُقَك إلى الناس. والرابع: إذا نشأت بَحريَّةً ثم تشاءَمَتْ فتلك عين غَدِيقة".(1/17)
وتعقَّب الحافظ ابن حجر أيضاً الشيخُ صالحٌ الفُلاَّنيُّ فقال (كما في "الرسالة المستطرفة" ص 5 - 6) : "وفيما قاله الحافظ ابن حجر من الفرق بين بلاغات الموطأ ومعلَّقات البخاري: نظر، فلو أمعن الحافظُ النظر في الموطأ كما أمعن النظر في البخاري لعلم أنه لا فرق بينهما، وما ذكره من أن مالكاً سمعها كذلك، غيرُ مسلَّم، لأنه يذكر بلاغاً في رواية يحيى مثلاً أو مرسلاً، فيرويه غيرُهُ عن مالك موصولاً مسنداً.
وما ذكَرَ من كون مراسيل الموطأ حجةً عند مالك ومن تبِعَه دون غيرهم: مردودٌ بأنها حجة عند الشافعي وأهلِ الحديث، لاعتضادها كلِّها بمسندٍ ذكره ابن عبد البر والسيوطي وغيرُهما.
وما ذكره العراقي أن من بلاغاته ما لا يعرف: مردودٌ بأن ابن عبد البر ذكر أن جميعَ بلاغاته ومراسليه ومنقطعاته كلَّها موصولةٌ بطرق صحاح إلا أربعة، فقد وَصَل ابن الصلاح الأربعة بتأليف مستقل وهو عندي وعليه خطه، فظهر بهذا أنه لا فرق بين "الموطأ والبخاري"، وصَحَّ أن مالكاً أوَّل من صَنَّف في الصحيح، كما ذكره ابن العربي وغيرُه".
مكانة "الموطأ" وصعوبة الجمع بين الفقه والحديث:
- تأليفُ الحديث وجمعه في كتاب على الأبواب الفقهية، لا ينهض به إلا فقيه يدري معاني الأحاديث، ويفقه مداركها ومقاصدها، ويميز بين لفظ ولفظ فيها، وهذا النمط من العلماء المحدِّثين الفقهاء يُعَدُّ نَزْراً يسيراً بالنظر إلى كثرة المحدثين الرواة والحفاظ الأثبات، إذ الحفظُ شيء والفقه شيء آخرُ أميَزُ منه وأشرف، وأهم وأنفع، فإن الفقه دِقَّةُ الفهم للنصوص من الكتاب والسنَّة - عبارةً أو إشارةً، صراحةً أو كنايةً - وتنزيلها منازلها في مراتب الأحكام، لا وَكسَ ولا شطط، ولا تهوُّر ولاجمود.
وهذه الأوصاف عزيزةُ الوجود في العلماء قديماً فضلاً عن شدة عزتها في الخلف المتأخر، ويخطئُ خطأ مكعباً من يظن أويزعم أن مجرد حفظ الحديث أو اقتناء كتبه والوقوف عليه، يجعل من فاعل ذلك فقيهاً عارفاً بالأحكام الشرعية ودقيق الاستنباط. قال محمد بن يزيد المستملي: سألت أحمد بن حنبل عن - شيخه - عبد الرزاق - صاحب(1/18)
المصنف المطبوع في أحد عشر مجلداً -: أكان له فقه؟ فقال: ما أقلَّ الفقه في أصحاب الحديث (كما في ترجمة (محمد بن يزيد المستملي) في "طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى 329: 1) .
وجاء في "تقدمة الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (ص 293) ، في ترجمة (أحمد بن حنبل) ، وفي "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص 63) ، وفي "تاريخ الإسلام" للذهبي - مخطوط - من طريق ابن أبي حاتم، في ترجمة (أحمد بن حنبل) أيضاً، ما يلي:
"قال إسحاق بن راهويه: كنتُ أجالس بالعراق أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأصحابَنا، فكنا نتذاكرُ الحديث من طريق وطريقين وثلاثة، فيقول يحيى بن معين من بينهم: وطريق كذا، فأقول: أليس قد صح هذا بأجماع منا؟ فيقولون: نعم، فأقول: ما مرادُهُ؟ ما تفسيرُهُ؟ ما فقهه؟ فيَبقون - أي يسكتون مُفحَمين - كلُّهم! إلا أحمد بن حنبل". انتهى.
كبار الحفاظ الأقدمين وحدود معرفتهم بالفقه:
- قال عبد الفتاح: هذا النص يفيدنا بجلاء أن المعرفة التامة بعلم الحديث - ولو من أولئك الأئمة الكبار أركان علم الحديث في أزهى عصور العلم - لا تجعل المحدث الحافظ (فقيهاً مجتهداً) إذ لو كان الاشتغال بالحديث يجعل (الحافظَ) : (فقيهاً مجتهداً) ، لكان الحفاظ الذين لا يُحصى عددهم، والذين بَلَغَ حفظ كل واحد منهم للمتون والأسانيد ما لا يحفظه أهل مصر من الأمصار اليوم: أولى بالاجتهاد ولكنهم صانهم الله تعالى فما زعموه لأنفسهم.
بل إن سيد الحفاظ الإمام (يحيى بن سعيد القطان) البصري، إمام المحدثين وشيخ الجرح والتعديل: كان لا يجتهد في استنباط الأحكام، بل يأخذ بقول الإمام أبي حنيفة، كما في ترجمة (وكيع بن الجراح) في "تذكرة الحفاظ" للحافظ الذهبي (307: 1) . وفي "تهذيب التهذيب" (450: 10) في ترجمة (أبي حنيفة النعمان بن ثابت) : "قال أحمد بن(1/19)
سعيد القاضي: سمعتُ يحيى بن معين - تلميذ يحيى القِطان - يقول: سمعتُ يحيى بن سعيد القطان يقول: لا نَكذِبُ اللَّهَ، ما سمعنا رأياً أحسن من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله". انتهى.
وكان إمام أهل الحفظ في عصره وكيع بن الجراح الكوفي، محدثُ العراق، لا يجتهدُ أيضاً، ويفتي برأي الإمام أبي حنيفة الكوفي، ففي "تذكرة الحفاظ" للحافظ الذهبي (307: 1) ، و"تهذيب التهذيب" (126: 11 - 127) : "قال حسين بن حبان، عن ابن معين - تلميذ وكيع -: "ما رأيت أفضل من وكيع، كان يستقبل القبلة، ويحفظ حديثه، ويقوم الليل، ويَسرُدُ الصوم، ويُفتي بقول أبي حنيفة".
وكذلك هؤلاء الحفاظ الأئمة الأجلة، الذين عناهم الإمام إسحاق بن راهويه في كلمته المذكورة، ومنهم يحيى بن معين، كانوا لا يجتهدون، وقد أخبر عنهم أنهم كانوا يفيضون في ذكر طرق الحديث الواحد إفاضةً زائدة، فيقول لهم: ما مُرادُ الحديث؟ ما تفسيره؟ ما فقهه؟ فيبقون كلُّهم إلا أحمد بن حنبل.
وهذا عنوان دينهم وأمانتهم وحصافتهم وورعهم، إذ وقفوا عند ما يُحسنون، ولم يخوضوا فيما لا يُحسنون، وذلك لصعوبة الفقه الذي يعتمد على الدراية وعُمق الفهم للنصوص من الكتاب والسنَّة والآثار، وعلى معرفة التوفيق بينها، وعلى معرفة الناسخ والمنسوخ، وما أُجمعَ عليه، وما اختلف فيه، وعلى معرفة الجرح والتعديل، وقُدرةِ الترجيح بين الأدلة، وعلى معرفة لغة العرب، ألفاظاً وبلاغةً ونحواً ومجازاً وحقيقةً ...
ومن أجلِ هذا قال الإمام أحمد، لمَّا سأله محمد بن يزيد المستملي - كما تقدم -، عن المحدث الحافظ الكبير (عبد الرزاق بن همام الصنعاني) صاحب التصانيف التي منها "المصنف"، وشيخ الإمام أحمد نفسِه، وشيخ إسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين، ومحمد بن يحيى الذهلي، أركان علم الحديث وروايته في ذلك العصر، وشيخ خلق سواهم، المتوفى سنة 211 عن 85 سنة: "أكان له فقه؟ فقال الإمام أحمد: ما أقلَّ الفقه في أصحاب الحديث! ".(1/20)
وروى الإمام البيهقي في "مناقب الشافعي" (152: 2) : "عن الربيع المُرادي قال: سمعت الشافعي يقول لأبي علي بن مِقلاص - عبد العزيز بن عمران، المتوفى سنة 234، الإمام الفقيه -: تريد تحفظ الحديث وتكونُ فقيهاً؟ هيهات! ما أبعَدك من ذلك - ولم يكن هذا لبلادة فيه حاشاه -.
قلت - القائل البيهقي -: وإنما أراد به حفظه على رَسم أهل الحديث، من حفظ الأبواب والمذاكرة بها، وذلك علم كثير إذا اشتغل به، فربما لم يتفرغ إلى الفقه، فأما الأحاديث التي يحتاج إليها في الفقه، فلا بد من حفظها معه، فعلى الكتاب والسنة بناء أصول الفقه، وبالله التوفيق.
وقد أخبرنا أبو عبد الله الحافظ - هو الحاكم النيسابوري - قال: أخبرني أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المؤذن، قال: سمعت عبد الله بن محمد بن الحسن يقول: سمعت إبراهيم بن محمد الصيدلاني يقول: سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي - هو إسحاق بن راهويه - يقول: ذاكرت الشافعي، فقال: لو كنتُ أحفظ كما تحفظ لغلبت أهل الدنيا.
وهذا لأن إسحاق الحنظلي كان يحفظه على رسم أهل الحديث، ويَسرد أبوابه سرداً وكان لا يهتدي إلى ما كان يهتدي إليه الشافعي من الاستنباط والفقه، وكان الشافعي يحفظُ من الحديث ما كان يحتاج إليه، وكان لا يستنكف من الرجوع إلى أهله فيما اشتَبَه عليه، وذلك لشدة اتقائهِ لله عز وجل، وخشيته منه، واحتياطه لدينه". انتهى.
قال عبد الفتاح: وفي كلٍ من هذين النصين الغاليين فوائد عظيمة جداً، ففيه أن الجمع بين الفقه والحديث على رسم أهل الحديث متعذر - إلا لمن أكرمه الله بذلك - إذ قال الشافعي في هذا: هيهات!.
وفيه بيانُ الإمام البيهقي لهذا المعنى بجلاء ووضوح وهو إمام محدث وفقيه، فلكلامه مَقامٌ رفيع في هذا الباب.
وفيه دَعم الإمام البيهقي رحمه الله تعالى هذا الذي قاله في تفسير كلمة الشافعي(1/21)
لابن مقلاص، بكلمة الشافعي لإسحاق بن راهويه رضي الله عنهما، بشكل يَقطع لسان كل مشاغب على الفقهاء من رواة الحديث، بدعوى أنه أهل للاستنباط والفقه والاجتهاد في الأحكام.
فهذا يحيى بن معين إمامُ الحفظ للحديث، وإمامُ الجرح والتعديل، يقفُ ساكتاُ في مسألة جواز تغسيل المرأة الحائض للمرأة الميتة، حتى يأتيَ الإمام أحمد بن حنبل فيُفتيَهم بجواز ذلك، ويذكُرَ لهم دليلَه مما هو محفوظ لديهم كل الحفظ من عِدَّة طرق. كما سيأتي نقلُه قريباً.
وهذا الإمام الشافعي يقول لإسحاق بن راهويه: لو كنتُ أحفظ ما تحفظ لغلبتُ أهل الدنيا. وفيه بيانً تميُّز الشافعي بالفقه، وتميُّزِ ابن راهويه بالحفظ، ولكنه لم يُمكِّي ابنَ راهويه أن يبلغ مبلغ الشافعي بالفقه، مع إقرار الشافعي له بالتفوق العظيم الباهر في الحفظ، لأنه كما قال البيهقي: كان يَسردُ الحديثَ سرداً، مع أنه قد ذكره بعضُهم في عدادِ من كان له مذهب فقهي.
فسَرْد الحديث وحفظه وروايتُه: غيرُ فهمه واستنباط معنايه على وجهها، إذْ خلق الله تعالى لكل علم أهلاً ينهضون به ويتميزون على سواهم.
الإمامة في علم تجتمع معها العامية في علم آخر:
- ولا غضاضة في هذا، فالعلم رزقٌ وعطاء من الله تعالى، وهو كثير وكبير وثقيل، ولا يَملك كلُّ إمام ناصيةَ كل علم أراد معرفَته، فقد قال الإمام أبو حامد الغزالي، وتَبِعَهُ الإمام ابن قدامة الحنبلي، في بعض مباحث الإجماع، في كتابيهما: "المستصفَى" و"روضة الناظر"، ما معناه: كم من عالم إمامٌ في علم، عاميٌّ في علم آخر.
قال الإمام أبو حامد الغزالي في آخر رسالته: "قانون التأويل": "واعلم أنَّ بضاعتي في علم الحديث مُزجاة". انتهى.
ومثلُ هذه الكلمة المملوءة بالتواضع، لا يقولها هذا الإمامُ العظيم والمحجاجُ الفريد حُجَّةُ الإسلام، لولا ما كان عليه من السلوك السَّنِي والخُلُق السَّنِي والخُلُق السُّنِّي: "أنتم أعلم بأمر دنياكم".(1/22)
فهل رأيت في هؤلاء الأدعياء المدَّعين للاجتهاد، من يُنصف الواقع والحق، فيقولُ عن نفسِهِ فيما لا يُحسنه مثلَ هذا؟!
خلق الله للعلوم رجالاً * ورجالاً لنَفْشَةٍ ودَعَاوي!
وقال الحافظ الإمام أبو عًمَر بن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (160: 2) ، تعقيباً على قول الإمام أحمد: "من أين يَعرفُ يحيى بنُ معين الشافعي؟! هو لا يعرف الشافعي ولا يعرف ما يقول الشافعي قال أبو عمر: صدق أحمد بن حنبل رحمه الله، إنَّ ابن معين لا يَعرفُ الشافعي. وقد حُكي عن ابن معين أنه سُئل عن مسألةٍ من التيمم، فلم يعرفها!
حدثنا عبدُ الوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا ابن زهير، قال: سُئل يحيى بن معين وأنا حاضر، عن رجل خيَّر امرأتَه، فاختارت نفسَها؟ فقال: "سَلْ عن هذا أهلَ العلم". انتهى.
وجاء في "ذيل طبقات الحنابلة" للحافظ ابن رجب (131: 1) ، و"المنهج الأحمد" للعُلَيمي (208: 2) ، في ترجمة (يحيى بن منده الأصبهاني) : "قال فُوْرَان: ماتت امرأة لبعض أهل العلم، فجاء يحيى بن معين والدَّوْرَقي، فلم يجدوا امرأةً تغسِلُها إلاَّ امرأةً حائضاً، فجاء أحمد بن حنبل وهو جلوس، فقال: ما شأنكم؟ فقال أهلُ المرأة: ليس يجدُ غاسلةً إلاَّ امرأةً حائضاً، فقال أحمد بن حنبل: أليس تَرْوُون عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، ناولِيني الخمْرة، قالت: إني حائض، فقال: إنَّ حَيضَتَك ليست في يدكِ"، يجوزُ أن تغسِلَها، فخجلوا وبَقُوا! ". انتهى.
يُسر الرواية وصعوبة الفقه والاجتهاد:
- فلا شك في يُسر الرواية بالنظر لمن توجه للحفظِ والتحملِ والأداء، وآتاه الله حافظةً واعية، فلهذا كان المتأهلون للرواية أكثَرَ جداً من المتأهلين للفقه والاجتهاد، روى الحافظ(1/23)
الرامَهُرْمُزِي، في كتابه "المحدِّث الفاصِل بين الراوي والواعي" (ص 560) ، بسنده عن أنس بنِ سِيرين، قال: "أتيتُ الكوفة، فرأيتُ فيها أربعةَ آلافٍ يطلبون الحديث، وأربعَ مئةٍ قد فَقهُوا". انتهى.
وفي هذا ما يدل على أن وظيفة الفقيه شاقةٌ جداً، فلا يكثُرُ عدَدُه كثرةَ عَدَدِ النَّقَلَةِ الرواة، وإذا كان مثلُ (يحيى القطانِ) ، و (وكيع بن الجراح) ، و (عبدا الرزاق) ، و (يحيى بن معين) ، وأضرابِهم، لم يجرؤوا أن يخوضوا في الاجتهاد والفقه، فما أجرأ المدَّعين للاجتهاد في عصرنا هذا؟! مع تجهيل السلف بال حياءٍ ولا خجل، نعوذ بالله من الخذلان.
وإنما أكثرت من هذه الوقائع، لأولئك الحفاظ الكبار والمحدثين الأئمة، التي تبين منها أن الحفظ شيء، والفقه وفهم النصوص شيء آخر، لأن عدداً من الناس في عصرنا، يخيَّل إليهم أن كثرة الكتب التي تَقذِفُ بها المطابع اليوم، ووفرة الفهارس التي تُصنَعُ لها: تجعل (الإجتهاد) أمراً ميسوراً لمن أراده، وهو خيال باطل، وتوهم خادع.
فالحفظ العجيب الذي كان عليه هؤلاء المحدثون الأكابر في القرون الأولى الزاهرة، مع سيلان أذهانهم المسعفة - وليست كالكتب الجامدة الصماء - والبيئة التي كانت تجيش فيها من حولهم حلقات التحديث والتفقيه، والسماع والتدريس ووفرة المحدثين والفقهاء، كل ذلك لم يخولهم أن يجتهدوا ويغالطوا أنفسهم فصدقوا مع الله ومع أنفسهم، ومع الناس.
ولم يكونوا بحال من الأحوال أقل ذكاء من (المتمجهدين) في هذا العصر، بل كانوا أهل ذكاء مشهور، وفطنة بالغة، ووعي شديد وانقطاع للعلم، ولكنهم لم يدخلوا أنفسهم فيما لا يحسنون، واقتصروا على ما يحسنون فحُمِدَتْ سِيرتُهم، وعَظُمَتْ مكانتهم في النفوس، ودل ذلك على حُسن إسلامهم وفَهمهم لواقعهم، فرحمة الله تعالى عليهم ورضوانه العظيم.
قال الحافظ الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (81: 2) : "وليُعلم أن الإكثار من(1/24)
كتب الحديث وروايته، لا يصيرُ بها الرجل فقيهاً، إنما يتفقه باستنباط معانيه، وإنعام التفكر فيه" وساق الشواهد الكثيرة الناطقة، على ذلك.
فكتاب "الموطأ" تأليفُ محدث فقيه، وإمام مجتهد بارع كبير تميز بمزايا لا توجد في سواه من الكتب المصنفة في الحديث الشريف.
مزايا "الموطأ":
- لكتاب "الموطأ" مزايا كثيرة تميز بها عن سواه من كتب الحديث الشريف، أتعرض هنا إلى جملة منها باختصار:
فمزية"الموطأ"
أولاً: أنه تأليفُ إمام فقيه محدث مجتهد متقدم كبير متبوع شهد له أئمة عصره ومن بعدهم بالإمامة في الفقه والحديث دون منازع. روى الحافظ ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (1/1: 25) "عن علي بن المديني قال: كان حديث الفقهاء أحبَّ إليهم من حديث المَشيَخَة".
وقال الإمام ابن تيمية في "منهاج السنَّة النبوية" (115: 4 من طبعة بولاق) : "قال أحمد بن حنبل: معرفة الحديثِ والفقهِ فيه أحبُّ إليَّ من حفظِه. وقال علي بن المديني: أشرَفُ العلم الفقهُ في متون الأحاديث، ومعرفةُ أحوال الرواة". انتهى.
وفي "تدريب الراوي للحافظ السيوطي (ص 8) : "قال الأعمش: حديثٌ يتداوله الفقهاء خيرٌ من حديث يتداوله الشيوخ". وعقد الحافظ الرامَهرْمُزِي باباً طويلاً في (فضل من جَمَع بين الرواية والدراية) (ص 238 وما بعدها) ، وعقد بعده الحافظ الخطيب البغدادي في آخر كتابه "الكفاية" (ص 433) : (بابَ القول في ترجيح الأخبار) ، وذكر فيه ما يتصل بتفضيل حديث الفقيه على غيره.
ومزيتُهُ ثانياً: أنه أطبق العلماء على الثناء عليه وتبجيله، وكثر كلامهم في مدحه(1/25)
وتقريظه، وأكتفي هنا بكلمات قالها إمام الأئمة الفقيه المحدث المجتهد المتبوع الإمام الشافعي رضي الله عنه، وحسبك به وكفى.
قال: ما على ظهر الأرض كتابُ أصحُّ بعد كتاب الله من كتاب مالك. وفي لفظ آخر: ماعلى الأرض كتابٌ هو أقرَبُ إلى القرآن من كتاب مالك. وفي لفظ آخر: ما بعدَ كتاب الله تعالى أكثَرُ صواباً من موطأ مالك. وفي لفظ آخر: ما بعدَ كتابِ الله كتابٌ أنفعُ من الموطأ.
وتنوُّعُ هذه العبارات يفيدُ تكرارَ ثناء الإمام الشافعي رضي الله عنه على كتاب الموطأ، أكثر من مرة في أوقات متعددة.
ومزيته ثالثاً: أنه من مؤلفات منتصف القرن الثاني من الهجرة، فهو سابقٌ غيرٌ مسبوق بمثله، إذ هو أوَّلُ كتاب في بابه، وللسابق فضل ومزية، إذ هو الإمامُ الذي سَنَّ التأليفَ الحديثيَّ على أبواب الفقه، واقتدى به المؤتمُّون من ورائه مثلُ عبد الله بن المبارك، والبخاريِّ، ومسلم، وسعيد بن منصور، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه وسواهم.
فهو بسَبْقٍ حائزٌ تفضيلا * مُستوجِبٌ ثناءنا الجميلا
ومزيتُهُ رابعاً: أنه يرويه عن مؤلفِهِ إمامٌ فقيه محدِّثٌ مجتهدٌ كبير متبوع، مشهود له بالإمامةِ في الفقه والحديث والعربية، الإمامُ محمد بن الحسن الشيباني، لازَمَ شيخَه مالكاً ثلاث سنين، وسمع منه الكتاب بلفظه، فتملأَ وتروَّى، ونَهَل وعَبَّ من فقهه وعلمه وروايته، مع ما كان عليه من الذكاء النادر، والفطنة التامة، وفقاهةِ النفس والبدن.
ومزيتُهُ خامساً: أنه من رواية الإمام محمد بن الحسن الشيباني، تلميذ الإمامين أبي حنيفة وأبي يوسف، وشيخ الإمام الشافعي، وقد أتقن روايتَهُ عن شيخه مالك، وأضاف بعدَ روايتِهِ أحاديثَ الباب بيانَ مذهبه في المسألة موافقاً أو مخالفاً، وبيانَ مذهب شيخة الإمام أبي حنيفة فيها، وموافَقَتَهُ له أو مخالفتَه، وبيانَ مذهب شيخة الإمام مالك أحياناً، ومذهبَ عامَّةِ فقهائنا أيضاً.
ويُعقِّبُ في كثير من الأبواب ببيان معنى الحديث، وتوجيهه، وما يستحسنه أو يستحبه أو يكرهه من وجوه المسألة. وقد يُفصِّلُ تفصيلاً وافياً الأقوال والفروق بين مذهبه(1/26)
ومذهب شيخة الإمام أبي حنيفة، أو مذهب شيخِهِ الإمام مالك، ويُبَيِّنُ أحوالَ المسألة وأحكامَها، كما في الباب 18 (باب الوضوء من الرٌّعَاف) . وقد يسوقُ تأييداً لما ذهب إليه مخالفاً جملةَ أحاديث في الباب - عن غير مالك - عن أبي حنيفة وغيره.
وذكر في بعض الأبواب 16 ستة عشر حديثاً من غير طريق مالك، كما في الباب 5 (باب الوضوء من مَسِّ الذكر) ، تأييداً لمذهبه من عدم نقض الوضوء بمَسِّه. وهذا عدد كبيرٌ جداً في الباب.
وقد يورد في بعض الأبواب - لتأييد مذهبه - ستةَ أحاديث أو سبعةَ أحاديث أو أكثَر أو أقل، من غير طريق مالك أيضاً، كما تراه في الباب 17 (باب الاغتسال يوم الجمعة) , وهذا عددٌ كبير في الباب أيضاً.
ولكثرة ما رواه من الأحاديث فيه، من غير طريق مالك، ولكثرة ماذكره فيه أيضاً من اجتهادِه وفقهِهِ، وفقهِ أبي حنيفة وغيره في كل باب تقريياً ومذاهبِ بعض الصحابة في بعض الأبواب، اشتَهَر هذا الكتاب باسم (موطأ الإمام محمد) .
ولا غرابة في ذلك، إذ لم يكن (موطأ محمد) مجرَّدَ كتاب يُروَى بحروفه، كما سَمِعَهُ راويه من مؤلفه دون زيادة أو تعليق أو استدراك، بل هو كتاب فيه فقهُ الإمام محمد، وفقهُ شيخه الإمام أبي حنيفة، وفقهُ عامَّةِ أصحابنا الحنفية قبلَ الإمام محمد، ومذاهبُ بعض الصحابة، ومناقَشَتُهُ أيضاً لما ذهب إليه مالك أو غيرُه.
فهو مدوَّنَةٌ من فقهِ أهل الحديث والاجتهاد والرأي، في الحجاز والعراق، مع الموازنة بين تلك الآراء والمذاهب في المسألة.
وهذه ميزة غالية جداً عند من يدركها ويعرفُ قيمتها، فلا غرابة أن يُضاف (الموطأ) هذا، إلى روايه، لأنه من طريقه يُروَى، ولأنه أضافَ إليه أحاديث كثيرة، وأدخل فيه علماً زائداً غيرَ قليل، يتصل بفقه الحديث، وأحكامِ الباب، ومقابلة الاجتهاد بمثله.
كلمةٌ عن روايات الموطأ عن مالك:
- قال شيخنا العلاَّمة الكوثري رحمه الله تعالى، في المقدمة التي كتبها لجزء الحافظ الدارقطني المسمّى: "أحاديثُ الموطأ واتفاقُ الرواة عن مالك، واختلافُهم فيها زيادةً ونقصاً"، ما يلي:(1/27)
"ألَّفَ عبدُ العزيز بن عبد الله بن أبي سَلَمة الماجِشُون كتاباً فيما اجتمع عليه أهل المدينة، ولما اطلع عليه مالك بن أنس رضي الله عنه استحسن صنعه إلا أنه أخذ عليه إغفاله ذكر الأخبار والآثار في الأبواب، حتى قرر مالك أن يقوم هو بنفسه بجمع كتاب تحتوي أبوابه صحاح الأخبار، وعمل أهل المدينة، في أبواب الفقه، فألَّف الموطأ، وأَخَذ يلقيه على أصحابه فيتلقونَهُ منه سماعاً.
ولم يكن تأليفُه الكتاب ليعطيَهُ الناسَ فينسخوه ويتداولوه بينهم، كعادة أهل الطبقات المتأخرة في تصانيفهم، بل كان التعويل حينذاك على السماع فقط.
وكان تأليفُهُ الكتابَ لنفسِهِ خاصة، لئلا يَغلَطَ فيما يُلقيه على الجماعة، كعادة أهل طبقته من العلماء في تآليفهم، ولذا كان يَزيدُ فيه وينقُصُ منه حسبَ ما يبدو له في كل دَورٍ من أدوار التسميع المختلِفة، فاختلفت نُسَخُ الموطأ ترتيباً وتبويباً وزيادة ونقصاً وإسناداً وإرسالاً على اختلاف مجالس المستملين.
فأصبح رواتُها على اختلاف الخَتَمات هم مُدوِّنُوها في الحقيقة، فمنهم من سَمِعَ عليه الموطأ سبعَ عشرةَ مرة، أو أكثرَ أو أقل، بأن لازَمَه مُدَداً طويلةً تَسَعُ تلك المرات، ومنهم من جالسه نحو ثلاثِ سنوات، حتى تمكن من سماع أحاديثه من لفظه ومنهم من سَمِعَهُ عليه في ثمانية أشهر، ومنهم من سَمِعَهُ في أربعين يوما؟ ً، ومنهم من سَمِعَه عليه في أيام هرمه في مدة قصيرة، ومنهم من سَمِعَه في أربعة أيام، إلى آخِرِ ما فُصِّل في موضعه.
ومنازلُ هؤلاء المستملين تتفاوَتُ فهماً، وضبطاً، وضعفاً، وقوةً، فتكونُ مواطنُ اتفاقهم في الذروة من الصحة عن مالك، ومواضعُ اختلافهم وانفرادهم متنازلةَ المنازلِ إلى الحضيض حسبَ مالهم من المقام في كتب الرجال.
وقد ذكر أبو القاسم الغافقي اثني عشر راوياً من رواة الموطأ في "مسند الموطأ" له، فيهم عبد الله بن يوسف التِّنِّيسِي، ومحمدُ بن المبارك الصُّورِي، وسليمان بن بُرْدَة. واستدرك السيوطيُّ عليه راويين نسختاهما من أشهر النُّسخ.
وساق ابنُ طولون في "الفهرس الأوسط" أسانيد الموطأ من أربع وعشرين طريقاً، وكذلك أبو الصَّبر أيوبُ الخَلْوَتي، حيثُ ساق أسانيده في "ثَبَتِه" من طريق ابن طولون ومن غير طريقه.(1/28)
قال عبد الفتاح بن محمد بن بشير أبو غدة - غفر الله لمشايخه، ولوالديه وتاب عليهم وعليه وأحسن إليهم وإليه -: إني أروي الموطأ إجازةً بطريق شيخنا الحافظ المحدِّث الناقد العلاَّمة محمد زاهد الكوثري رحمه الله تعالى، وهو يروي إجازةً بطريق الحَجَّار روايات:
-1 - محمد بن الحسن.
-2 - ويحيى بن يحيى النيسابوري.
-3 - وقتيبة بن سعيد.
-4 - وعبد الله بن عُمر بن غانم.
-5 - وعبد العزيز بن يحيى الهاشمي.
-6 - وعبد الملك بن عبد العزيز بن الماجِشُون.
-7 - وابن القاسم.
-8 - وعبد الله بن نافع الزبيري.
وبطريق أبي هريرة بن الذهبي روايات:
-9 - مُطَرِّف بن عبد الله اليَسَاري.
-10 - ومصعب بن عبد الله الزبيري.
-11 - وعلي بن زياد التونسي.
-12 - وأشهب.
وبطريق محمد بن عبد الله بن المحب روايةَ:
-13 - عبد الله بن وَهب وروايةَ:
-14 - إسحاق بن عيسى الطباع.
وبطريق إبراهيم بن محمد الأُرْمَوي رواية:
-15 - عبد الله بن مَسْلَمة القَعْنَبِي.
وبطريق زينب بنت الكمال المقدسية رواياتِ:
-16 - الشافعي.
-17 - ومحمد بن معاوية الأَطْرَابُلُسي.
-18 - وأَسَد بن الفُرات.(1/29)
وبطريق ابن حَجَر رواياتِ:
-19 - يحيى بن يحيى الليثي.
-20 - وأبي مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري.
-21 - ويحيى بن عبد الله بن بُكَير المصري.
-22 - وسُوَيد بن سعيد.
-23 - وسعيد بن كَثِير بن عُفَير.
-24 - ومَعْن بن عيسى القَزَّاز.
قال شيخنا الكوثري: "وهؤلاء أربعة وعشرون راوياً من أصحاب مالك.
وأحمدُ يُكثِرُ من طريق ابن مَهْدِي.
وأبو حاتم من طريق مَعْن بن عيسى.
والبخاري من طريق عبد الله بن يوسف التِّنِّيسِي.
ومسلم من طريق يحيى بن يحيى النيسابوري.
وأبو داود من طريق القَعْنَبي.
والنسائي من طريق قتيبة بن سعيد.
وقد أوصل الحافظ محمد بن عبد الله الدمشقي المعروفُ بابن ناصر الدين رواةَ الموطأ، إلى ثلاثةٍ وثمانين راوياً، في كتابه "إتحاف السالك برواة الموطأ عن مالك".
وأشهَرُ رواياته في هذا العصر روايةُ محمد بن الحسن بين المشارقة، وروايةُ يحيى الليثي بين المغاربة.
فالأولى: تمتازُ ببيان ما أخَذَ به أهلُ العراق من أحاديث أهل الحجاز المدونة في الموطأ، وما لم يأخذوا به لأدلةٍ أخرى ساقها محمد في موطئه، وهي نافعة جداً لمن يريد المقارنة بين آراءِ أهلِ المدينة وآراء أهل العراق، وبين أدلةِ الفريقين.
والثانية: تمتاز عن نُسَخ الموطأ كلِّها باحتوائها على آراءِ مالك، البالغةِ نحوَ ثلاثةِ آلاف مسألة في أبواب الفقه.
وهاتان الروايتان نُسَخُهما في غاية الكثرة في خزانات العالم شرقاً وغرباً.
وتوجَدُ رواية ابن وَهْب في مكتبتَي فيض الله وولي الدين بالآستانة. وروايةُ سُوَيد بن(1/30)
سعيد، وروايةُ أبي مصعب الزهري في ظاهرية دمشق. وأطرافُ الموطأ للداني في مكتبة الكبريلي في الآستانة.
وطالبُ الحديث إذا عُني بادئَ ذي بدء بمدارسة أحوال رجال الموطأ، فاحصاً عن الأسانيد والمتون فيه، تدرَّجَ - عن دوقٍ وخبرة - في مدارج معرفة الحديثِ والفقه في آن واحد بتوفيقِ الله سبحانه، فيصبحُ على نور من ربه في باقي بحوثه في الحديث، راقياً على مَرَاقي الاعتلاءِ في العلم نافعاً بعلمة منتفِعاً به، واللهُ سبحانه وليُّ التسديد".
كلمات في ترجمة محمد بن الحسن راوي الموطأ وكلمات في العمل بالرأي الذي يُغمَزُ به:
سيظهر للمطالع من قراءة هذا الموطأ وفرةُ شيوخ الإمام محمد بن الحسن ومكانته في الحديث، إلى جانب مكانته في الفقه والاجتهاد، فقد ظلمه جملةُ من المحدِّثين ظلماً شديداً، لما كان عليه من الاجتهاد والعمل بالرأي، والرأيُ عند الكثير منهم أو أكثرهم من خوارم الثقة بالراوي يذكرونه في ترجمة الراوي في جملة المغامز له ولو كان إماما ثقة كل الثقة في الحديث! مع أنه لا فقه بلا رأي، ولا أحد من الأئمة المتبوعين والمعتبرين لم يعمل بالرأي، فهم في نقد الراوي الذي لديه رأي يمشون على طريقة من لم يكن مثلَنا، فهو خصمٌ لنا، إنا لله!
فأذكُرُ هنا جُملاً يسيرة أقطِفها من ترجمة الإمام محمد بن الحسن، في "الجزء" المطبوع مع جزء "مناقب أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن" للحافظ الذهبي (ص 79، 80، 81، 82، 84، 93، 94، من الطبعة الثالثة في بيروت سنة 1408) ، للتعريف بَطَرَفٍ من سيرة هذا الإمام الجليل.
"انتهًتْ إليه رياسةُ الفقه بالعراق بعدَ أبي يوسف، وتفقَّهَ به أئمة، وصنَّف التصانيف، وكان من أذكياء العالم. وُلِّي قضاءَ القُضاة للرشيد، ونال من الجاه والحِشمة ما لا مزيد عليه. احتَجَّ به الشافعي في الحديث، يُحكَى عنه ذكاءٌ مفرط، وعقلٌ تام، وسُؤْدُد، وكثرةُ تلاوة(1/31)
(في "الآداب الشرعية" لابن مفلح الحنبلي 2: 165 بالسند إلى الربع المُرادي: "سمعتُ الشافعي يقول: لو أن محمد بن الحسن كان يكلمنا على قدر عقله ما فهمنا عنه، لكنه كان يكلمنا على قدر عقولنا فنفهمُهُ") .
محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وغيرُه، ثنا الشافعي، قال: قال محمد بن الحسن: أقمتُ على باب مالك ثلاث سنين، وسمعتُ منه لفظاً سبعَ مئةِ حديث ونيفاً لفظاً.
الربيعُ بن سليمان المُزني، سمعتُ الشافعي يقول: لو أشاءُ أن أقول: نَزَل القرآن بلغة محمد بن الحسن لقلته، لفصاحته، وسمعتُ الشافعي يقول: مارأيتُ سميناً أخفَّ روحاً من محمد بن الحسن، وما رأيت أفصحَ منه، كنتُ إذا رأيته يقرأ القرآن كأن القرآن نزل بلغته.
إدريس بن يوسف القراطيسي، سمعتُ الشافعي يقول: ما رأيت أعلمَ بكتاب الله من محمد بن الحسن، كأنه عليه نزل.
الطحاويُّ، سمعتُ أحمد بن أبي داود المكي، سمعتُ حرملة بن يحيى، سمعت الشافعي يقول: ما سمعتُ أحداً قط كان إذا تكلم رأيتُ أن القرآن نزل بلغته غيرَ محمد بن الحسن وقد كتبتُ عنه حِمْلَ بُخْتِيّ.
محمدُ بن إسماعيل الرَّقِّي، ثنا؟؟ الربيع ثنا الشافعي قال: حملتُ عن محمد الحسن حِمْلَ بُخْتِي كتباً، وما ناظرتُ أحداً إلاَّ تغيَّر وجههُ ما خلا محمد بنَ الحسن.
ابنُ أبي حاتم، ثنا الربيع سمعتُ الشافعي يقول: حملتُ عن محمد بن الحسن، حِمْلَ بُخْتي، ليس عليه إلا سَمَاعِي قال عبد الفتاح: كم يكون من الأحاديث في حِمل هذا البُختي: الجمل الطويل العنق الضخم الجسم؟ وكم هي قيمة هذه الشهادة الغالية من الشافعي؟
عباسُ بن محمد، سمعتُ ابن مَعين يقول: كتبتُ عن محمد بن الحسن "الجامع الصغير".
أبو خَازم القاضي، ثنا بَكرٌ العَمِّيُّ، سمعتُ محمد بن سَماعة يقول: كان محمد بن الحسن قج انقطع قلبُهُ مِن فكرِهِ في الفقه - يعني يقعُ له استغراق فكرٍ وخاطرٍ في مسائل(1/32)
الفقه يأخذه عمن حَوْلَه - حتى كان الرجلُ يُسَلِّمُ عليه، فيدعو له محمد، فيزيدُه الرجل في السلام، فيردُّ عليه ذلك الدعاءَ بعينه، الذي ليس من جواب الزيادة في شيء.
محمد بن سَمَاعة قال: كان محمد بن الحسن كثيراً ما يَتمثَّلُ بهذا البيت:
"مُحَسَّدون وشَرُّ منزلةً * مَن عاشَ في الناس يوماً غير محسود"
انتهى ما قطفتُه من جزء الحافظ الذهبي في ترحمة محمد بن الحسن رحمهما الله تعالى.
ومصداقاً لما وصفه به الإمام الشافعي، من سعة الصدر وكثرة الحِلم في المناظرة وعلى المخالفين والمعارضين، أوردُ هذه الواقعة، وفيها أكثرُ من شاهد وفائدة.
روى الحافظ الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (158: 11، وفي "أخبار أبي حنيفة وأصحابه" للقاضي أبي عبد الله الصيمري ص 128) ، في ترجمة (عيسى بن أبان) المحدِّث الفقيه، عن "محمد بن سَمَاعة قال " كان عيسى بن أبان يصلي معنا، وكنتُ أدعوه أن يأتي - مجلسَ - محمد بن الحسن، فيقول: هؤلاء قوم يخالقون الحديث، وكان عيسى حسَنَ الحفظ للحديث، فصلَّى معنا يوماً الصبح، وكان يومَ مجلسِ محمد، فلم أفارقه حتى جلس في المجلس.
فلما فرغ محمد - من المجلس - أدنيتُهُ إليه وقلتُ: هذا ابن أخيك أبانُ بنُ صدقة الكاتب، ومعه ذكاءٌ ومعرفةٌ بالحديث، وأنا أدعوه إليك فيأبى ويقول: إنَّا نخالفُ الحديث، فأقبَلَ عليه - محمد - وقال له: يابُنَيَّ، ما الذي رأيتنَا نخالفُهُ من الحديث، لا تَشهَد علينا حتى تَسمع منا.
فسأله يومئذٍ عن خمسةٍ وعشرين باباً من الحديث، فجعل محمد بن الحسن يُجيبه عنها، ويُخبره بما فيها من المنسوخ، ويأتي بالشواهد والدلائل. فالتفَتَ إليَّ عندما خرجنا فقال: كان بيني وبين النُّور سِتر، فارتفع عني، ما ظننتُ أنَّ في مُلكِ الله مِثلَ هذا الرجلِ يُظهِرُهُ للناس، ولَزِمَ محمد بن الحسن لزوماً شديداً حتى تفقَّه به". انتهى.
هذه لَمْعَةٌ من ترجمة محمد بن الحسن راوي"الموطأ" عن الإمام مالك رضي الله عنهما وجزاهما عن العلم والدين والمسلمين خيرَ الجزاء.(1/33)
كلماتٌ في العمل بالرأي الذي يُغمزُ به محمد بن الحسن والحنفيةُ وغيرهم:
- أشرتُ في أول الترجمة الموجزة لمحمد بن الحسن أنه كان يُغمَزُ بالعمل بالرأي.
وأقول: العملُ بالرأي مع العدالة والضبط لا يَجرح صحة الرواية، ولا يُضعفها، ولا يُخلُّ بصدق الراوي، لأن الأمانة في النقل منه قائمة تامة، وورَعُ العدل يمنعُهُ أن يزيد حرفاً أو يَنقُصَ حرفاً في الحديث الذي يرويه، لديانته بروايته، ولحفظِ سُمعتِهِ بسلامته.
وقد عَمِلَ بالرأي من لا يحصى كثرة من المحدثين والفقهاء من أهل المدينة والكوفة والبصرة والعراق وغيرها. بل اشتهر بعضهم بقَرْن الرأي في اسمه نَعتاً له، مثلُ الإمام ربيعةَ الرأي (أبي عثمان ربيعة بن أبي عبد الرحمن) التابعي المَدَني، شيخ مالكٍ والثوري وشعبة والليث بن سعد وهذه الطبقة، المتوفى سنة 136.
وأمَّا غمزُ الحنفية بالعمل بالرأي فقال الإمام فخر الدين البَزْدَوي في مقدمة كتابه "أصول الفقة" للحنفية أصحابَ الرأي: "وأصحابُنا هم السابقون في هذا الباب - أي الفقه -، وهم الربَّانيُّون في علم الكتابِ والسنَّة وملازمة القدوة، وهم أصحاب الحديث والمعاني.
أما المعاني فقد سَلَّم لهم العلماء، حتى سَمَّوهم أصحابَ الرأي، والرأيُ اسم للفقه - قال ابن تيمية: وتسمَّى كتبَ الفقه كتبَ الرأي، كما في "مجموع الفتاوي" 74: 18 -.
وهم أولى بالحديث أيضاً، ألا ترى أنهم جوَّزوا نسخ الكتاب بالسنَّة، لقوة منزلة السنَّة عندهم، وعملوا بالمراسيل تمسكاً بالسنَّة والحديث، ورأوا العمل بها مع الإرسال أولى من الرَّأي، ومَنْ رَدَّ المراسيل فقد رَدَّ كثيراً من السنة، وعَمِلَ بالفرع بتعطيل الأصل، وقدَّموا روايةَ المجهول على القياس، وقدَّموا قول الصحابي على القياس. وقال محمد رحمه تعالى في كتاب "أدب القاضي": لا يستقيمُ الحديثُ إلا بالرأي، ولا يستقيمُ الرأيُ إلا بالحديث". انتهى. كلام البزدوي.
قال العلاَّمة علاء الدين البخاري في شرحه: "كشف الأسرار" 17: 1: "معناه لا يستقمً الحديثُ إلاَّ باستعمال الرأي فيه، بأن يدرك معانيه الشرعية التي هي مناط(1/34)
الأحكام. ولا يستقيمُ إلاَّ بالحديث أي لا يستقيمُ العمل بالرأي والأخذ به إلاَّ بانضمام الحديث إليه".
قال عبد الفتاح: وقد أطلق هذا اللقب: (أصحابُ الرأي) على علماءِ الكوفة وفقهائها، من قِبَل أناس من رواة الحديث، كان علمهم أن يخدموا ظواهرَ ألفاظ الحديث، ولا يرومون فهمَ ما وراءَ ذلك من استجلاءِ دقائق المعاني وجليل الاستنباط، وكان هؤلاء الرواة يَضِيقُون صدراً من كل من أعملَ عقله في فهم النص وتحقيق العلة والمناط، وأَخَذَ يَبحثُ في غير ما يبدو لأمثالهم من ظاهر الحديث، ويَرَونه قد خرج عن الجادة، وتَرَك الحديثَ إلى الرأي، فهو بهذا - في زعمهم - مذمومٌ منبوذُ الرواية.
وقد جرحوا بهذا اللقب طوائف من الرواة الفقهاء الأثبات، كما تراه في كثير من تراجم رجال الحديث، وخذ منها بعض الأمثلة:
-1 - جاء في ترجمة (محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري) عند الحافظ ابن حجر في "هدي الساري" (161: 2) ، قولُ الحافظ: "من قُدَماءِ شيوخ البخاري، ثقة، وثَّقه ابن معين وغيرُه، قال أحمد: ما يُضعفه عند أهل الحديث إلا النظرُ في الرأي، وأما السماع فقد سَمِع" انتهى. قلت: انظر ترجمته في "تذكرة الحفاظ" للذهبي، (371: 1) و"تهذيب التهذيب" (274: 9 - 276) .
-2 - وقال الحافظ ابن حجر أيضاً في "هَدْي الساري" (170: 2) ، في ترجمة (الوليد بن كثير المخزومي) : "وثقه إبراهيم بن سعد وابنُ معين وأبو داود، وقال الساجي: قد كان ثقةً ثبتاً، يُحتَجُّ بحديثه، لم يُضعفه أحد، إنما عابوا عليه الرأي".
-3 - وقال الحافظ الذهبي في "المغني" (670: 2) : "مُعَلَّى بن منصور الرازي، إمامٌ مشهور، موثق، قال أبو داود: كان أحمد لا يروي عنه للرأي، وقال أبو حاتم: قيل(1/35)
لأحمد: كيف لم تكتب عنه؟ قال: كان يكتب الشروط، من كتبها لم يَخْلُ أن يكذب".
قلتُ: انظر ترجمته في "تذكرة الحفاظ" (377: 1) ، و"تهذيب التهذيب" (238: 10 - 240) ، وفي آخر ترجمته فيه: "قال أحمد بن حنبل: مُعلَّى بن منصور من كبار أصحاب أبي يوسف ومحمد، ومن ثقاتهم في النقل والرواية". أنتهى. فيكون أحمد ترك الكتابة عنه من أجل الرأي فقط.
وقد كثر هذا النبذُ لأهل الرأي، والنَّبذُ لروايات كثيرٍ منهم، حتى أثار مثل الإمام أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي وغيره من أئمة الحنابلة، أن يُتكلَّم بسبب هذا القول فيهم، أو بأويله على وجه محتمل، جاء في "مسودة آل تيمية في أصول الفقه" ص 265: "وقال والد شيخنا في قول أحمد: (لا يُروَى عن أهل الرأي) ، تكلَّم عليه ابن عقيل بكلام كثير، قال في رواية عبد الله: (أصحابُ الرأي لا يُروى عنهم الحديث) ، قال القاضي - أبو يعلى -: وهذا محمول على أهل الرأي من المتكلمين كالقدرية ونحوهم.
قلتُ - القائل الشيخ ابن تيمية -: ليس كذلك بل نصوصُه في ذلك كثيرة، وهو ما ذكرتُه في (المبتدع) (ص 264 في "المسودة") ، أنه نوع من الهجرة، فإنه قد صرَّح بتوثيق بعض من تَرَك الرواية عنه كأبي يوسف ونحوه، ولذلك لم يُرْوَ لهم في الأمَّهات كالصحيحين". انتهى.
ظلم جملة من المحدثين لأبي يوسف ومحمد الفقيهين المحدثين:
- قال العلاّمة الشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله تعالى، في كتابه: "الجرح والتعديل" (ص 24) : وقد تجافى أرباب الصحاح الرواية عن أهل الرأي، فلا تكاد تجد اسماً لهم في سند من كتب الصحاح أو المسانيد أو السنن، كالإمام أبي يوسف والإمام محمد بن الحسن، فقد ليّنهما أهل الحديث! كما ترى في "ميزان الاعتدال"! ولعمري لم ينصفوهما وهما البحران الزاخران، وآثارهما تشهد بسعة علمهما وتبحرهما، بل بتقدمهما على كثير من الحفاظ، وناهيك كتاب "الخراج" لأبي يوسف، و"موطأ" الإمام محمد.(1/36)
وإن كنتُ أَعُدُّ ذلك في البعض تعصباً، إذ يَرى المنصفُ عند هذا البعض من العلم والفقه ما يَجدرُ أن يُتحمّل عنه، ويستفاد من عقله وعلمه، ولكن العصبية!!
ولقد وُجد لبعض المحدثين تراجمُ لأئمة أهل الرأي، يخجل المرء من قراءتها فضلاً عن تدوينها وما السبب إلاّ تخالُفُ المشرب، على توهم التخالف ورفض النظر في المآخذ والمدارك، التي قد يكون معهم الحقُ في الذهاب إليها، فإن الحق يستحيل أن يكون وقفاً على فئة معيّنة دون غيرها، والمنصفُ من دقّق في المدارك غاية التدقيق ثم حكم.
نعم، كان وَلَعُ جامعي السنة بمن طوَّفَ البلاد، واشتَهَر بالحفظ، والتخصص بعلم السنّة وجمعها، وعلماءُ الرأي لم يشتهروا بذلك، وقد أُشيع عنهم أنهم يُحكِّمون الرأي في الأثر! وإن كان لهم مرويات مسندةٌ معروفة رضي الله عن الجميع، وحشرنا وإياهم مع الذين أنعم الله عليهم". انتهى.
وقال شيخنا العلاّمة أحمد شاكر، رحمه الله تعالى في تعليقه على "مسند الإمام أحمد" (11: 13) : "أبو يوسف القاضي: ثقة صدوق، تكلموا فيه بغير حق، ترجمه البخاري في "الكبير" 4/397: 2، وقال: تركوه! وقال في "الضعفاء" ص 38: تركه يحيى وابن مهدي وغيرُهما وترجمه الذهبي في "الميزان" 447: 4، والحافظ في "لسان الميزان" 300: 6، والخطيبُ في "تاريخ بغداد" ترجمة حافلة 242: 14 - 262، وأعدلُ ما قيل فيه قول أحمد بن كامل عند الخطيب: ولم يَختلف يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني في ثقته في النقل" انتهى.
كلمات للإمام ابن تيمية في دفع الجرح بالعمل بالرأي:
- قال عبد الفتاح "وقد رأيت للشيخ الإمام ابن تيمية كلاماً حسناً، جلّى فيه شأنَ الرأي، وما يُذَمُّ منه وما لا يُذَمُّ، فأحببتُ إيراده هنا استيفاءً للمَقام وإن طال الكلام، فإنه قاطع للشغب على العمل بالرأي من كل مشاغب.
قال رحمه الله تعالى في كتابه: "إقامة الدليل على إبطال التحليل" (227: 3، ضمنَ "الفتاوى الكبرى") : "ما ورد في(1/37)
الحديث والأثر من ذم الرأي وأهله، فإنما يتناوَلُ الحيل، فإنها أُحدِثَتْ بالرأي، وإنها رأيٌ محض، ليس فيه أثر عن الصحابة، ولا له نظير من الحِيَل ثَبَت بأصل فيقاسُ عليه بمثله، والحكمُ إذا لم يَثُبت بأصل ولا نظير، كان رأياً محضاً باطلاً.
وفي ذم الرأي آثار مشهورة عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عُمَر وغيرهم، وكذلك عن التابعين بعدَهم بإحسان، فيها بيان أن الأخذ بالرأي يُحلِّلٌ الحرام، ويُحرِّم الحلال.
ومعلوم أن هذه الآثار الذَامة للرأي، لم يُقصَد بها اجتهادُ الرأي على الأصولِ من الكتاب والسنة والإجماع، في حادثة لم توجد في كتاب ولا سنَّة ولا إجماع، ممن يَعرف الأشباه والنظائر، وفقهَ معاني الاحكام، فيقيسُ قياسَ تشبيه وتمثيل، أو قياسَ تعليل وتأصيل، قياساً لم يعارضه ما هو أولى منه، فإنَّ أدلة جواز هذا للمفتي لغيره والعاملِ لنفسِه، ووجوبه على الحاكم والإمام أشهَرُ من أن تُذكَر هنا، وليس في هذا القياس تَحليلٌ لما حرَّمه الله سبحانه، ولا تحريم لما حللَّه الله.
وإنما القياسُ والرأي الذي يَهدِمُ الإسلام، ويُحلِّل الحرام، ويُحرِّم الحلال: ما عارض الكتابَ والسنَّة، أو ما كان عليه سلفُ الأمة، أو معانيَ ذلك المعتبرة. ثم مخالفتُه لهذه الأصول على قسمين:
أحدُهما: أن يخالف أصلاً مخالفةً ظاهرة، بدون أصل آخر. فهذا لا يقعُ من مفتٍ إلاَّ إذا كان الأصل مما لم يبلغه علمُه، كما هو الواقع لكثير من الأئمة، لم يبلغهم بعض السُّنَن، فخالفوها خطأً. وأما الأصولُ المشهورة، فلا يخالفها مسلم خلافاً ظاهراً، من غير معارضة بأصل آخر، فضلاً عن أن يخالفها بعضُ المشهورين بالفتيا.
الثاني: أن يخالف الأصل بنوعِ تأويلٍ وهو فيه مخطئ، بأن يضَعَ الإسمَ على غير موضعه، أو على بعض موضعه، ويُراعي فيه مجرَّدَ اللفظِ دون اعتبار المقصود لمعنىً أو غيرِ ذلك.
وإنَّ من أكثر أهل الأمصار قياساً وفقهاً أهلَ الكوفة، حتى كان يقال: فقهٌ كوفي، وعبادةٌ بصريَّة. وكان عِظَمُ علمهم مأخوذاً عن عمر وعلى وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، وكان أصحابُ عبد الله، وأصحابُ عمر، وأصحابُ علي، من العلم والفقهِ بالمكان الذي لا يخفى.(1/38)
ثم كان أفقَههم في زمانه إبراهيمُ النخعي؟؟، كان فيهم بمنزلة سعيد بن المسيب في أهل المدينة، وكان يقول: إني لأسمعُ الحديث الواحد، فأقِيسُ به مئة حديث. ولم يكن يَخرج عن قول عبد لله وأصحابه. وكان الشعبيُّ أعلم بالآثار منه. وأهلُ المدينةِ أعلمُ بالسنةِ منهم.
وقد يوجد لقدماء الكوفيين أقاويلُ متعددة، فيها مخالفةٌ لسنة لم تبلغهم، ولم يكونوا مع ذلك مطعوناً فيهم، ولا كانوا مذمومين، بل لهم من الإسلام مكانٌ لا يخفى على من عَلِمَ سيرة السلف، وذلك لأن مثل هذا قد وُجِدَ لأصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، لأن الإحاطة بالسنَّة كالمتعذر على الواحِد أو النفرِ من العلماء. ومَنْ خالف ما لم يبلغه فهو معذور". انتهى.
قال عبد الفتاح: ولله دَرُّ الإمام ابن تيمية كيف جَلَّى هذه المسألة، واستوفاها ورَدَّ قول الجارح بها بمتانة وإقناع. وبهذه البيان الشافي الوافي يتبيَّنُ أن جرح الراوي بأنه (من أهل الرأي) مردود، ولا يصح غمزُ الثقات الأثبات والأعلام الكبار به.
تحجُّر الرواة وضيقهم من المشتغل بغير الحديث:
- ومأتى جَرحهم الراوي بهذا الجرح المردود: أنه كانت هِمّةُ أكثر أهل الحديث متوجهة إلى الرواية والسماع، ويرفضون النظر في المآخذ والمدارك، كما أشار إليه الشيخ القاسمي رحمه الله تعالى فيما تقدم من كلامه.
بل كان أولئك الرواة يَرون العلم كل العلم رواية الحديث ومتناً لا بحثاً وفقياً، ويرون إعمال الرأي في فهم الأثر خروجاً عليه، فإذا بلغهم عن فقيه أنه تكلّم في مسألةٍ باحثاً مجتهداً، أو عن متكلّم قال في صفةٍ من صفات الله تعالى قولاً، أو عن مُذكّرٍ تحدث عن حال النفس كاشفاً مُنَقّباً، أو عن محدثٍ روى شعراً: ثارَتْ لذلك حفيظتُهم، ونقموا عليه ما صنع، وقالوا فيه من الجرح ما يرونه ملاقياً للجارح الذي اتصف به في نظرهم.
وقد جاء في ترجمة الإمام الشافعي رضي الله عنه، في "معجم الأدباء" لياقوت الحموي (299: 17) ، ما نصه: "عن مصعب الزبيري قال: كان أبي والشافعي يتناشدان، فأتى(1/39)
الشافعي على شعر هُذيل حفظاً، وقال: لا تُعلِم بهذا أحداً من أهل الحديث، فإنهم لا يحتملون هذا". انتهى.
قلتُ: بل إنّ أهل الحديث لم يحتملوا أقل من هذا بكثير! لم يحتملوا تصنيفَ الحديث على الأبواب! جاء في "الحلية" لأبي نعيم (165: 8) ، في ترجمة الإمام الجليل القدوة عالِم خراسان الفقيه المحدث العابد المجاهد: (أبي عبد الرحمن عبد الله بن المبارك) المتوفى سنة 181 رحمه الله تعالى، ما يلي:
"قال أحمد بن أبي الحَوَارى: سمعتُ أبا أسامة - هو الحافظ الإمام الحجة حماد بن أسامة الكوفي - يقول: مررت بعبد الله بن المبارك بطرَسوس -ثغر من ثغور الجهاد في وجه الأعداء - وهو يُحدِّث، فقلتُ: يا أبا عبد الرحمن، إني لأنكر هذه الأبوابَ والتصنيف الذي وضعتمون ما هكذا أدركنا المشيخة! " انتهى.
فإذا كان هذا شأن أحد كبار المحدثين، مع شيخ المحدِّثين والزهاد، وإمام المجاهدين والعُبَّاد: عبد الله بن المبارك، وكلُّ الذي صنَعَهُ هو أنه جمع الأحاديث تحت عناوين (الأبواب والتصنيف عليها) ! فلا شك أنَّ شأنهم أشدُّ إنكاراً مئةَ مرةً مع الذي يُعمل رأيَه في فهم النص أو يؤوله لدليلٍ يقتضي ذلك عنده!
وقال الإمام الغزالي في "الإحياء" (79: 1 في مبحث (آفات العلم وبيان علامات علماء الآخرة والعلماء السوء)) : "كان الأولون يَكرهون كَتبَ الأحاديث وتصنيف الكتب، لئلا يشتغل الناس بها عن الحفظ، وعن القرآن، وعن التدبر والتذكر، وكان أحمد بن حنبل ينكر على مالك في تصنيفه "الموطأ"، ويقول: ابتدع ما لم يفعله الصحابة رضي الله عنهم". انتهى.
وانظر أقوالاً أخرى للإمام أحمد - في هذا الصدد أيضاً وعلى غِرار ما نقله الإمام الغزالي - في "مناقب الإمام أحمد " لابن الجوزي في (الباب الثامن والعشرون في ذكر كراهيته وَضْعَ الكتبِ المشتملة على الرأي، ليتوافر الالتفات إلى النقل)(1/40)
(وذلك في ص 249 من الثانية المحققة، وص 192 من الطبعة الأولى) .
الردُّ على من قدح في أبي حنيفة بدعوى تقديمه القياس على السنة:
- قال الإمام المحقق ابن حجر المكي الهَيتَمي الفقيه الشافعي رحمه الله تعالى، في كتابه: "الخيرات الحِسَان في مناقب الإمام أبي حنيفة النعمان" (ص 98) : (الفصلُ السابع والثلاثون في الرد على من قدح في أبي حنيفة، لتقديمه القياس على السنة) :
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر [الإمامُ المحدِّث الفقيه المالكي الأندلسي، في "جامع بيان العلم وفضله" (148: 2 وما تراه بين هاتين المعكوفتين [] هو من زيادتي على كلام ابن حجر الهيتمي من "جامع بيان العلم") ، في (باب ما جاء في ذم القول في دين الله بالرأي والظن والقياس على غير أصل) بعد أن نَقَل طائفةً من أقوال بعض المحدثين في الغَمز بأبي حنيفة] ، ما يلي:
أفرط أصحاب الحديث في ذم أبي، وتجاوزوا الحد في ذلك، لتقديمه الرأي والقياس على الآثار. وأكثَرُ أهل العلم يقولون: إذا صح الحديث بَطَل الرأي والقياس. وكان رَدُّهُ لما من أخبار الآحاد بتأويلٍ محتَمل. وكثيرٌ منه قد تقدَّمه إليه غيرُه، وتابَعَهُ عليه مثلُه [ممن قال بالرأي] .
وجُلُّ ما يُوجَدُ له من ذلك تَبِعَ فيه أهلَ علم بلدِه، كإبراهيم النخعي، وأصحاب ابن مسعود، إلاَّ أنه أكثَرَ من ذلك هو وأَصحابُه. وغيرُهُ إنما يوجد له ذلك قليلاً.
[وما أعلمُ أحداً من أهل العلم إلاَّ وله تأويلٌ في آية، أو مَذْهَبٌ في سُنة، فرَدَّ من أجل ذلك المذهب سُنَّةً أخرى بتأويلٍ سائغ، أو ادّعاء نَسخ، إلا أن لأبي حنيفة من ذلك كثيراً، وهو يوجَدُ لغيره قليلاً] .
قال الليث بن سعد: أَحصيتُ على مالك سبعين مسألةً، قال فيها برأيه، وكلُّها مخالفةٌ لسنةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كتبتُ إليه أعِظُهُ في ذلك.
ومِن ثمة لمَّا قيل لأحمد بن حنبل: ما الذي نَقَمتُم على أبي حنيفة؟ قال الرأي،(1/41)
قيل: أليس مالكٌ تكلَّم بالرأي؟ قال: بلى، ولكن أبو حنيفة أكثَرُ رأياً منه، قيل: فهلاَّ تكلَّمتم في هذا بحصته وهذا بحصته؟ فسكت أحمد.
قال أبو عمر: ولم نجد أحداً من علماء الأمة أثبَتَ حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رَدَّه إلاَّ بحُجَّة، كادِّعاءِ نسخ بأثرٍ مِثلِه، أو بإجماع، أو بعملٍ يجبُ على أصلِهِ الانقيادُ إليه، أو طعنٍ في سند. ولو رَدَّهُ أحدٌ من غير حجة لسقطَتْ عدالتُه فضلاً عن إمامتِه، ولَزِمَهُ اسمُ الفِسْق، ولقد عافاهم الله من ذلك.
ولقد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم من اجتهاد الرأي والقولِ بالقياس على الأصول، ما يطولُ ذكرُه، وكذلك التابعون. وعدَّدَ ابنُ عبد البر منهم خلقاً كثيرين.
انتهى كلامُ ابن عبد البر، وفيه جوابٌ شافٍ عن ذلك القَدْح. والحاصلُ أنَّ أبا حنيفة لم ينفرد بالقولِ بالقياس، بل على ذلك عمَلُ فقهاء الأمصار كما قاله ابن عبد البر، وبَسَط الكلامَ عليه رَدَّاً على من جَهِلَ فجعَلَ ذلك عَيْباً". انتهى كلام ابن حجر الهَيْتَمي.
وهذا القَدْرُ من كلام الإمامين: ابنِ حجر المكي الشافعي، ابن عبد البر الأندلسي المالكي - إلى جانب كلام الإمام ابن تيمية الحَرَّاني الحنبلى - كافٍ في تجليةِ رَدِّ جرح الراوي بالعمل بالرأي، والله سبحانه وتعالى أعلم.
كلمات في ترجمة الشارح الإمام اللكنوي:
- ترجَمَ الإمام اللكنوي رحمه الله تعالى لنفسه، في ستة كتب من كبار تآليفه، في خاتمة " النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير"، وفي مقدمة كتابه هذا: "التعليق الممجد" في آخر الفائدة التاسعة، وفي مقدمة "السعاية لكشف ما في شرح الوقاية"، وفي مقدمة "عمدة الرعاية لحل شرح الوقاية"، وفي "التعليقات السَّنِيَّة على الفوائد البهية"، وفي مقدمة "الهداية" للإمام المَرْغِيناني.
وقد جمعتُ له ترجمةً مطولة مستفيضة من هذه الكتب الستة، وأثتبُّها في أول كتابه "الرفع والتكميل في الجرح والتعديل"، الذي خدمتُه في طبَعاته الثلاث، وأوفاها ترجمةً له في الطبعة الثالثة، كما ترجمتُ له بتراجم منقولة عن بعض معاصريه أو تلامذته، ومنها الترجمة في أول كتابه "الأجوبة الفاضلة عن الأسئلة العشرة الكاملة"، في مباحث هامة شائكة من علوم مصطلح الحديث الشريف. ومنها في أول كتابه "تحفة الأخيار بإحياء سُنَّة سيد الأبرار" - صلى الله عليه وسلم - الذي قريب الصدور إن شاء الله تعالى.(1/42)
وقد تحقق عندي واستقَرَّ في نفسي، من تتبعي لكتب الإمام محمد عبد الحي اللكنوي رحمه الله تعالى ومؤلَّفاته: رسائلَ صغيرة في صفحات، أو كتباً كبيرة في مجلدات: أنَّ تصانيفَهُ دائماً - على اختلاف مواضيعها - تتميَّزُ بمزايا لا تجتمع عند غيره.
ففيها التميُّزُ بالضبط التام الدقيق للألفاظ المقتضية ذلك، والشرحُ الوافي للمعاني، وتبيينُ الأحكام الفقهية - إن كان الموضوع فقهاً - بما يكفي ويشفي.
وفيها تراجم العلماء الذين يأتي ذكرُهم في سياق البحثِ عنده، لزيادة التعريف بهم، بإيجاز في محله، وباستيعابٍ في محله.
وفيها الحديثُ عن رجال الإسناد أو بيانُ حاله إذا كان المقامُ يقتضي ذلك. وفيها تنوُّع مَعارفه المتوازِنُ المتينُ، في التفسير، والحديث وعلومهما، والفقه، والأصول، والفتاوي، والكلام، والتاريخ، والسِّيَر، والتراجم، والأنساب، واللغة، والنحو، والصرف، والمنطق، والمناظرة، والحكمة. وقلَّ أن يجتمع هذا كلُّه في العلماء.
وفيها التمكن التام من الولوج في كل علم أو فن يؤلِّفُ فيه، بل فيه التفوُّقُ والمهارة البارزة والإتقان الظاهر في كل ما يكتبه، وفيها من التواضع البالغ عند عرض المسائل والآراء، التي يختارها أو يرجحها أو يجزم بها ويخطِّئ سواها، فلا انتفاخ ولا صُراخ، ولا استكبار ولا استعلاء، ولا تكلف ولا مغالاة.
وفيها الإنصاف والاعتدال، والبعدُ عن التعصب لمذهب أو رأيٍ معيَّن، بوضوح وجلاء، اتباعاً منه للدليل ولوجاهة الرأي المختار. وفيها استيعابُ الاستدلال للمسألة التي يحققها حتى ينتهي بالقارئ إلى الحكم الذي قرَّره ويُقنعَه به.
وفيها الصبر والجَلَدُ القوي على مناقشة ما يَحتاج إلى المناقشة بتروٍّ وأناة، ليتميَّز الصوابُ من الخطأ في الموضوع.
وفيها كثرةُ المصادر المعروفة وغيرِ المعروفة، يَسردُها بلا كلل ولا ملل، وكأنها كلَّها كالخاتم في يده، أو السطورِ أمامَ عينيه، فينقلُ منها ما يريد، لدعم ما انتهى إلى تقريره بكل أمانة ودقة واستيفاء، وكثير من تلك المصادر التي ينقل منها ما سمع جلَّة العلماء المشتغلين في العلم بأسمائها فضلاً عن معرفتهم بذواتها وقراءتها، فلذا يَكثُر الجديدُ والمفيدُ في كل ما يكتبه.(1/43)
وإني لأتعجَّبُ كيف نَقَل تلك النقول من مكامنها، وهي في بطون الكتب البعيدة عن الأيدي والأنظار، التي لا فهارس لها ولا أدلةً على مضامِينها، وإني أتصور أنَّ بينه وبين تلك النقول شعاعاً مرشداً إليها ومغناطيساً دالاً عليها أصدَق الدلالة وأدقِّها.
نعم الأمرُ كذلك في تصوري، وذلك الشعاع والمغناطيس هو الذَّهنُ الفريدُ المتقد، العجيب، الذي أكرمه الله به، فهو يرشده إلى كل شاذة وفاذة في الباب، فتراهُ يُوردُها في تأليفه دِراكاً تباعاً، حتى كأنه قد استظهرها حفظاً، وتمثَّلها لفظاً.
وقد صار طابَعُ الوَلُوع بالتحقيق والتدقيق، وترجيح الراجح وتضعيفِ الواهي في المسألة: عفوياً في حجاه وسِمَةً بارزة في جميع كتبه ومؤلفاته، فقد أَلِفَ واستلذَّ التحقيق واستطعمه حتى صار طبعاً في خاطره وتفكيره، وأُوتيَ الصبرَ عليه، على أنه لم يَسلم من الخطأ الذي ما تنزه عنه إلا الأنبياء الكرامُ عليهم الصلاة والسلام، الذي عصمهم الله تعالى بفضله وكرمه.
وكنتُ في أول أمري لمَّا أُطالعُ في كتابه المتميز المفيد: "الفوائد البهية في تراجم الحنفية"، وأراه يقول في تراجم من يترجمهم: (وقد طالعت من كتبه كتاب كذا، وكتاب كذا، وكتاب كذا) .
كنتُ أقول هذا القول على التجوُّز، أي أنه يتصفح الكتاب وينظر فيه بالإجمال، لأن الكتب التي يذكر مطالعته لها كثيرة جداً جداً، وبعضها في مجلدات كبار، فهي إلى ندرة وجودها، وأنها من المخطوطات: واسعةٌ متسعة، لا يَصبُر على قراءة الكتاب الواحد منها أمثالُنا! إلا إذا دَفَعَتْه إلى ذلك رغبة حبٍّ وشوق، أو إلزام أتاه من فوق.
فلما قرأتُ جملةً من كتبه، واستنرتُ بتآليفه ومداركه العالية عملاً بوصية شيخي الإمام العلامة المحقن محمد زاهد الكوثري رحمه الله تعالى، تبيَّن لي أن قوله: (طالعت من كتبه كتاب كذا، وكتاب كذا....) : حقيقةٌ لا تجوُّز فيها، وأنها مطالعةُ العالم الذكي اللوذعي الذي يفهم ويعي، ويحفظ ما قرأ وطالع.
ويكون ما قرأهُ من سنين بعيدة منصوباً بين عينيه، ففي كثير من المواضِع والموضوعات، التي يكتبُ أو يؤلفُ فيها، تجدُهُ ينقلُ الكلمة القصيرة الصغيرة من الكتاب الطويل الكبير، فانبهرتُ من حَذَاقته وزكانته وشدةِ استيعابه للموضوع، الذي لا يصلُ إليه المطالعُ المطَّلعُ في مَظِنَّتِه إلى بصعوبة، تراهُ هو قد تناوله بسهولة ويُسر وانسجام.(1/44)
ومما أذكره مثالاً لهذه السِّمَةِ الساميةِ في كتبه: الكتابُ الكبيرُ الذي سمَّاه "ظفر الأماني في شرح مختصر السيد الجُرجاني"، في علم المصطلح الحديثي ومن أكبر ما أُلِّف فيه، فقد هالني حين حققته واعتنيت به لطبعه كثرةُ النقول فيه من مصادر بعيدة متباينة المواضيع والعلوم.
فتراه ينقل الجملة والجملتين، والكلمةً والكلمتين، ثم يُعَرِّحُ على كتاب آخر فينقل منه الصفحة أو نصفَها أو مثيلها، ثم ينتقل إلى كتاب آخر لا يُظَنُّ ولا يَرِدُ إلى الذهن أن يكون فيه الجملةُ التي يلتقطها منه، وتكون هي في موضعها الذي أثبتها فيه كحجرة الخاتم الثمينة في الخاتم النفيس.
فللَّه دَرُّه ما أعلمَهُ بالنصوص ومظانها وغيرِ مظانها، وما أصبرَهُ على نقلها وأنقَدَه لاختيارها، والكتبُ أغلبها لديه مخطوطة!
وإذا كان هذا شأنَه في الكتاب الكبير الضخم فلا يستغرب أن يكون هكذا شأنُه أيضاً في الكتب الصغيرة والرسائل اللطيفة، كرسالته: "تحفة الأخيار بإحياء سنة سيد الأبرار"، وهي من آخر ما اعتنيت بخدمته وتقديمه للطبع، فهذه الرسالةُ على لطافتها حجماً، نَقَل فيها من مصادر مخطوطة ما سمعتُ بأسماءِ كثيرٍ منها فضلاً عن رؤيتها، في الفقه الحنفي وفي غيره، فقد كان لديه مكتبة عامرة جامعة، تستجيبُ لكل علم يريدُ تحقيقَهُ والتأليفَ فيه.
فهذا الرجل إمامٌ في العلم، وإمام في كثرة التآليف المفيدة المتقنة، مع قِصَر العمر، فقد عاش تسعاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر، وخلَّفَ أكثر من خمسة عشر ومئةِ كتاب ورسالة، في مواضيع شتى في المنقول والمعقول، شرحاً أو تحشيةً أو تأليفاً مبتكراً مستأنفاً.
ولو حُسِبَتْ أيامُ حياته، وقُسِّمَتْ على صفحات مؤلفاته، لأتت بالمدهش العجاب، من وفرة ما يصنِّفُه كلَّ يوم، فأين وقتُ المطالعة والتفكير والنسخ والتسويد والتبييض إن كان لديه تسويد، والأكل والشرب والنوم والأسفار عنده؟
ولكنَّ هناك أناساً آتاهم الله تعالى المواهبَ النادرة الفَذَّة، والقدرةَ العجيبة الباهرة عل احتواء العلم، وتحقيقه، وتدوينه عَذْباً مُضيئاً وَضِيئاً، من شعاع الخاطر إلى رأس(1/45)
القلم، دون تردُّد أو تعثُّر، أو وهنِ ذهنٍ أو عبارة أو تكدُّر، أو فُتورِ بيان، فأنفاسُهم وخواطرهم تحمِلُ العلم مستقيماً، وأقلامُهم تستقبله كذلك فيَخرجُ عَسَلاً مصفَّى، وتأليفاً قويماً، ذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء، والإمام اللَّكْنَويُّ الشابُّ منهم، جزاهم الله عن العلم والدين والمسلمين خيرَ الجزاء.
أهميةُ طبع كتاب التعليق الممجد:
- هذا الكتاب العظيم والشرح الجليل أحَدُ الكتب الكبار التي ألَّفها الإمامُ عبد الحيّ اللَّكنوي، من كتبه الكثيرة البالغة 115 كتاب، وقد بدأ بتأليفه أواخر سنة 1292، وكانت سنه 27 سنة، ثم اعترضَتْهُ أسفار وأعراض وأشغال، فأتمَّ تأليفَه في شعبانِ سنة 1295.
فهي موهبة عجيبة، وقُدرة غريبة، أن يتسنم كتابَ الموطأ شابٌّ هنديٌّ اللغةِ والدارِ في هذه السن، وقد ضمَّنه زاهي علمه وأرقى معرفته في الحديث الشريف وعلومه، وفي الفقه الحنفي والمذاهب الأخرى وسائر ما يتصل بذلك من العلوم من بعيد أو من قريب، فجاء هذا الكتاب درة فريدة من درر العم، وجوهرةً نفيسة من أنفس الجواهر.
وسيجدُ القارئ المطالع فيه المزايا التي تميَّز بها الإمامُ اللكنوي وأشرتُ إليها قريباً، وسيُدهَشُ من قُوَّةِ ملكته ناصية التحقيق والتدقيق، والضبطِ والإتقان، ومناقشة المذاهب والآراء، والترجيح والتضعيف، والتجرُّد والإنصاف، دُونَ ليٍّ للنصوصِ ولا اعتساف.
هذا الكتاب النفيس طُبح أكثر من خمس مرات في الهند وباكستان، الطباعة الهندية الحجرية، ذات الحواشي الغواشي! والسطورِ المنمنمة، والعبارات المستديرة على جوانب الصفحة الثلاث، والعبارات القصيرة المتداخلة بين السطور، لضبط اسم أو كلمة، أو بيان عطفٍ على معطوف أو إعراب، أو لغة أو رواية، أو اختلاف فيها أو ما إلى ذلك. وبعضُ هذه العبارات القصيرة كُتبَتْ تحت السطر على امتداده ومستواه، وبعضها كُتبَتْ فوق السطر مقلوبة عليه مع قرب السطور وتداخل الكلمات، كما يراه القارئ المتأمل في الصورة المأخوذة عن النسخة المطبوعة في هذه التقدمة، فصارت قراءتُه - مع نفاسة مضمونه في كل جملة شارحة، أو تعليقةٍ موضَّحة - عسيرةً، لا يَصبرُ عليها إلا سادتُنا ومشايخثنا العلماءُ الهنود والباكستانيون، الذي ألِفوا هذه الطريقة في الطباعة الحجرية،(1/46)
وفي تداخل الكلمات في السطور، وإلا أفرادٌ قليلون من العلماء العرب، الذين يستهويهم التحقيق العلمي والفتوحات الربانية في المطبوعات الهندية، النفيسة المضمون والعلم.
وأمَّا عامَّةُ القراء العرب فما أبعدَهم من الصبر على قراءة مثلِ هذا الكتاب، ومن المطبوعات الهندية القديمة، فلذا حُرم من هذا الكتاب وأمثاله كثيرون من إخواننا العلماء العرب، وحيلَ بينهم وبين ما يشتهون.
وقد كنتُ منذ ثلاثين سنة نوَّهْتُ بفضل هذا الكتاب ومزاياه، في بعض تعليقاتي على كتاب "الرفع والتكميل"، وقلتُ: إنَّ خُلُوَّ مكتبة العالم منه حِرمانٌ كبير، فأخذت هذا الكلمةُ مأخذها من عَزائم كثير من العماء وبعض الجهات العلمية الرسمية، التي اعتادت نشر الكتب النادرة النفيسة النافعة، فعزمَتْ وزارة الأوقاف في دولة الإمارات العربية المتحدة على طبعه، واهتمت به، وكلَّفتني بتحقيق دولة مقدمته التي قدَّم بها المؤلف قبل الدخول في الشرح، والتي تبلغ كتاباً مستقلاً غير صغير، ونسخَتْها وبعثتها إليَّ، ثم توقَّفَتْ لبعض الأسباب، فوقف الكتاب كما هو!
ثم عزَمَتْ مؤسسة شهيرة كبيرة قديرة من دور النشر، على نشره، ونسخته إلى منتصفه، وقدَّمته لي وكلَّفتني بتحقيقه والعناية به، وكنتُ حينئذ في ارتباط علمي ودراسي جامعي ومشاغل زاحمة! لا يمكنني معها أن أتفرغ له كما أحب، ليَخرج كما يَستحق أن يُخرَج به، فتوقفَ نشرُه أيضاً!
وأخيراً توجهَتْ هِمَّةُ الأخ الفاضل الشيخ الدكتور تقي الدين النَّدْوي، الهنديُّ المنشأ والدار، العربيُّ المُقام والقرار، إلى نسخه وكتابته والصبر على خدمته بكل دقة وأمانة، ليَخرج إلى القراء بالطباعة الفائقة، والعناية الطبية، وتنزيلِ شروحه وتعليقاته في منازلها، وربطها بالألفاظ المتصلة بها، مع الضبط والإتقان.
وكان مما أعانه وشجّعه على ذلك اهتمامُ الأخ الأستاذ محمد على دولة، ناشِرِ الكتب النافعة المختارة المنتقاة، السليمة القويمة، فاستقبل هذا الكتابَ بترحاب واستعداد كامل لنشره، عملاً بثنائي عليه وحَضِّي على طبعه وإخراجه.
فلهذين الأخوين الأستاذين الفاضلين يعودُ فضلُ إخراج هذا الكتاب العظيم، ولهما مِنَّةٌ على من يقرأه بهذا العرض الرائق القشيب، وهذا الطبع الفصيح الجميل.(1/47)
وإني لأقدم شكري الجزيل لهما على تحقيق هذا الأمنية الغالية، التي كانت في نفسي، فحقَّقَاها على خير ما يُستطاع، جزاهما الله خيراً، وتقبل منهما هذا العمل الصالح الثمين بإخراج هذا الكتاب وأمثاله. وحينما تتناولُهُ أيدي القراء العلماء العرب، سيعرفون منه نبوغ العالمِ الشابِّ الهندي عبد الحي اللكنوي، صاحب التصانيف الزائدة على 115 مؤلَّف، ومانتهُ في صفوف العلماء الكبار والمؤلِّفين المكثرين الأخيار، رحماتُ الله تعالى عليه ورضوانُه العظيم.
في الرياض يوم الجمعة 27 من صفر سنة 1412 وكتبه عبدَ الفتَّاح أبو غُدَّة(1/48)
& بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المحقِّق [د. تقي الدين الندوي أستاذ الحديث الشريف بجامعة الإمارات العربية المتحدة]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله وأصحابه أجمعين.
أما بعد، فيَسُرّ المحقِّق ويسعده أن يقدِّم للقراء الكرام كتاب "التعليق الممجد على موطأ محمد" للإمام أبي الحسنات عبد الحي اللكنوي - رحمه الله تعالى رحمة واسعة - في الطبعة القشيبة المشرقة.
كتاب الموطّأ من أشهر ما دُوِّن في النصف الأول من القرن الثاني، هو تأليف إمام دار الهجرة - على صاحبها الصلاة والسلام - أبي عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأَصبحي الحمريري القحطاني، أحد أعلام الإسلام، وأحد أعيان هذه الأمة، وأحد أركان الملَّة، وأحد من وُضع له القَبول في الأرض، وأحد من سلَّمت له الأمة الإمامة في الحديث والفقه معاً.
وكتاب الإمام أبي عبد الله البخاري "الجامع الصحيح المسند من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُننِه وأيامه" وإن كان أصبح أصح كتاب بعد كتاب الله العزيز عند جمهور العلماء لما له من مزايا في التزام أمور وشروط، وآداب وعادات، في تخريجه الحديث، وانتقائه ما لم يشاركه فيه أحد من معاصريه، ولا ممن سبقه، مع ذلك فإن موطَّأ الإمام مالك أصبح قدوة وأسوة للبخاري، ولمن جاء بعده، فهو الذي انتهج هذا المنهج، وسلك مسلك الانتقاء والاصطفاء، وفتح هذا الباب من الجمع(1/51)
بين الحديث والفقه، وآثار الصحابة وأقوال التابعين، فللإمام مالك ولكتابه منَّة على رقاب الأمة جميعاً.
وتهافت على روايته وسماعه عن المؤلف الإمام محدِّثون وأئمة فقهاء، وعلماء وملوك، كما لم يتفق لغيره من الكتب ذلك، وقد أفرد له القاضي عياض باباً في المدارك ("ترتيب المدارك": 2/170) .
واشتهر من رواته جماعة نُسبت إليهم نُسَخ الموطَّأ: منهم الإمام محمد بن الحسن الشيباني الكوفي، صاحب الإمام أبي حنيفة النعمان، والإمام يحيى بن يحيى المصمودي الأندلسي، ونسخة يحيى هي المعروفة بين أهل العلم، قد شرحها جمع من المتقدمين والمتأخرين، ومنهم شيخنا المحدِّث الكبير محمد زكريا الكاندهلوي المتوفَّى سنة 1982 بالمدينة المنورة، على صاحبها الصلاة والسلام، وأسمى شرحه "أوجز المسالك إلى موطأ الإمام مالك"، طُبع في القاهرة في خمسة عَشَرَ مجلداً.
وقد قام باستيفاء من شرحه قديماً وحديثاً من أقدم عهد إلى عهده في الفائدة العاشرة من الفصل الثاني من مقدمة الكتاب.
وأما نسخة محمد بن الحسن الشيباني، فلم يشرحها إلا الشيخ بيرى زاده، والشيخ علي القاري، ثم جاء بعدهما الإمام عبد الحي اللّكنَوي، فقام بشرح الكتاب فكفى وشفى.
والكتاب كان بالخط الفارسي، وطُبع في الهند مراراً طباعة حجرية دقيقة بحيث لا تكاد تبدو للناظر، وقد كان ذلك من أسباب زهد كثير من فضلاء العرب في الاستفادة منه، وانصرافهم عنه، وقد طال طلب إخواننا طبْع هذا الكتاب على الحروف الجديدة وفي الحروف العربية وحدها كما ذكر الشيخ عبد الفتاح أبو غُدّة في هامش "الرفع والتكميل" (في ص 65) ، وقد طُبع هذا الكتاب العظيم مرات كثيرة، وكلها(1/52)
في الهند نسأل اللَّه أن ييسِّر لنا طبعه في بلادنا، فإن خلوَّ مكتبة العالم منه لَحِرمان كبير.
وقد أمرني سماحة الأستاذ الكبير أبو الحسن علي الندوي بتحقيق هذا الكتاب العظيم، وانتساخ هوامشه ووضعها في محلها، فاشتغلت به متوَكِلاً على الله تعالى.
إن هذا الشرح لموطأ مالك برواية الإمام محمد بن حسن الشيباني زينة الشروح، وصاحبه كان آية من آيات الله في العلم والإخلاص والتقوى، {واتَّقُوا اللَّهَ ويُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (سورة البقرة: آية 282) .
هذا ويرى القارئ في الكتاب مسلكَ مالكٍ في السنن، وروحَ أبي حنيفة في الاستنباط، وعلمَ الشافعي في التأصيل والتفريع، وورع أحمد في الاحتياط.
عملي في هذا الكتاب:
-1 - انتسختُ هوامش الكتاب ووضعتها في محلها.
-2 - صحَّحتُ الكتاب وإذا وجدت فيه تحريفاً أو تغايراً ذا بال، نبَّهت إليه.
-3 - علَّقتُ على مواضع كثيرة من الكتاب بما يستكمل مقاصده ويزيد فرائده وفوائده.
-4 - وإذا ترددت في كلمة من الشرح رجعت إلى المصادر التي نقل منها المؤلف، وتأكّدتُ من صحتها.
-5 - كان المؤلف عليه الرحمة والرضوان - كعادته في أكثر كتبه - قد علَّق في حواشي الكتاب تراجم لكثير ممَّن ذَكَرَهم من العلماء وختمها بقوله: (منه) .
فإني وضعت محله (ش) إيذاناً بأنها من المؤلف الشارح.
-6 - وضعت فِهْرساً عامّاً للكتاب.(1/53)
وفي الختام أسأله تعالى أن يتقبَّل منا ومن جمع من ساهم في إخراج هذا الكتاب، وأن يوفِّقنا لخدمة السُّنَّة المطهرة وعلومها، وأن يحسن ختامنا ويرحم والدينا ومشايخنا وسائر المسلمين، إنه وليُّنا ومولانا، ونعم النصير.
د. تقي الدين الندوي أستاذ الحديث الشريف بجامعة الإمارات العربية المتحدة(1/54)
تَرجمَة "العَلاّمة فَخر الهِند عبد الحَي اللَّكنَوي" (من "نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواطر"، للشيخ السيد عبد الحيّ الحَسَني (م 1341 هـ) : 8/234) .
الشيخ العالِم الكبير العلاّمة، عبد الحيّ، بن عبد الحليم، بن أمين الله بن محمد أكبر أبي الرحم، بن محمد يعقوب، بن عبد العزيز، بن محمد سعيد، بن الشيخ الشهيد قطب الدين الأنصاري السهالوي اللَّكْنوي: العالمُ الفاضلُ النحرير، أفضل من بثَّ العلوم، فأروى كلَّ ظمآن.
وُلد في سنة أربع وستين ومئتين وألف ببلدة باندا، وحفظ القرآن، واشتغل بالعلم على والده وقرأ عليه الكتب الدرسية معقولاً ومنقولاً، ثم قرأ بعض كتب الهيئة على خال أبيه المفتي نعمة الله بن نور الله اللكهنوي، وفرغ من التحصيل في السابع عشر من سنِّه، ولازم الدرس والإفادة ببلدة حيدر آباد مدّةً من الزمان، وفَّقه الله سبحانه للحج والزيارة مرتين: مرة في سنة تسع وسبعين مع والده، ومرة في سنة ثلاث وتسعين بعد وفاته، وحصلت له الإجازة عن السيد أحمد بن زيني دحلان الشافعي، والمفتي محمد بن عبد الله بن حميد الحنبلي بمكة المباركة، وعن الشيخ محمد بن محمد الغربي الشافعي، والشيخ عبد الغني بن أبي سعيد العمري الحنفي الدهولي بالمدينة المنورة، ثم إنه أخذ الرخصة (أي التقاعد من الوظيفة) من الولاة بحيدر آباد وقَنِع بمئتين وخمسين ربّيّة بدون شرط الخدمة، وقدم بلدته لكهنوء، فأقام بها مدة عمره، ودرّس وأفاد وصنّف وذكّر.
وإني حضرت بمجلسه غير مرة، فألفيته صبيح الوجه أسود العينين، نافذ اللحظ، خفيف العارضين، مسترسل الشعر، ذكيّاً فَطِناً، حادَّ الذهن، عفيف(1/55)
النفس، رقيق الجانب، خطيباً مصقعاً، متبحراً في العلوم معقولاً ومنقولاً، مطّلعاً على دقائق الشرع وغوامضه، تبحّر في العلوم، وتحرّى في نقل الأحكام، وحرّر المسائل، وانفرد في الهند بعلم الفتوى، فسارت بذكره الرُّكبان، بحيث إن علماء كل إقليم يشيرون إلى جلالته.
وله في الأصول والفروع قوة كامة، وقدرة شاملة، وفضيلة تامة، وإحاطة عامّة، وفي حسن التعليم صناعة لا يقدر عليها غيره، وكان إذا اجتمع بأهل العلم وجرت المباحثة في فنّ من فنون العلم لا يتكلم قط، بل ينظر إليهم ساكتاً، فيرجعون إليه بعد ذلك، فيتكلم بكلام يقبله الجميع، ويقنع به كل سامع، وكان هذا دأبه على مرور الأيام، لا يعتريه الطيش والخِفّة في شيء كائناً ما كان.
الحاصل أنه كان من عجائب الزمن، ومن محاسن الهند، وكان الثناء عليه كلمةَ إجماع، والاعترافُ بفضله ليس فيه نزاع.
وكان على مذهب أبي حنيفة في الفروع والأصول، ولكنّه كان غير متعصِّب في المذهب، يتتبع الدليل، ويترك التقليد إذا وَجد في مسألة نصّاً صريحاً مخالفاً للمذهب، قال في كتابه "النافع الكبير": (ومن مِنَحه - أي منح الله سبحانه - أني رُزقت التوجُّه إلى فن الحديث وفقه الحديث، ولا أعتمد على مسألة مالم يوجد أصلها من حديث أو آية، وماكان خلاف الحديث الصحيح الصريح أتركه، وأظن المجتهد فيه معذوراً، بل مأجوراً، ولكني لست ممّن يُشوّش العوام الذين هم كالأنعام، بل أُكلّم الناس على قدر عقولهم ... ) . انتهى. وقال بُعَيْدَ ذلك: (ومن مِنَحه أنه جعلني سالكاً بين الإفراط والتفريط، لا تأتي مسألة معركة الآراء بين يديّ إلاَّ أُلهمت الطريق الوسط فيها، ولست ممن يختار التقليد البحت بحيث لا يترك قول الفقهاء وإن خالفته الأدلة الشرعية، ولا ممّن يطعن عليهم، ويهجر الفقه بالكلية) . انتهى.
وقال في "الفوائد البهيّة" في ترجمة عصام بن يوسف: (ويُعلم أيضاً أن الحنفي لو ترك في مسألةٍ مذهبَ إمامه بقوة دليل خلافاً لا يخرج به عن ربقة التقليد، بل هو عين التقليد في صورة ترك التقليد، ألا تري أن "عصام بن يوسف"(1/56)
ترك مذهب أبي حنيفة في عدم الرفع، ومع ذلك هو معدود في الحنفية (قال الإمام وليّ الله الدهلوي - رحمه الله تعالى - في كتابه "حجة الله البالغة" (1/126) : "قيل لعصام بن يوسف رحمه الله: إنك تكثر الخلاف لأبي حنيفة رحمه الله؟ قال: لأن أبا حنيفة أُوتي من الفهم ما لم نُؤتَ، فأدرك بفهمه ما لم ندرك! ولا يسعنا أن نفتي بقوله ما لم نفهم") . ويؤيِّده ما حكاه أصحاب الفتاوى المعتمدة من أصحابنا من تقليد أبي يوسف يوماً الشافعيَّ في طهارة القُلَّتَيْن، وإلى الله المشتكى من جهلة زماننا حيث يطعنون على من ترك تقليد إمامه في مسألة واحدة لقوة دليلها، ويُخرجونه عن مقلِّديه! ولا عجب منهم فأنهم من العوامّ، وإنما العجب ممن يتشبّه بالعلماء، ويمشي مشيهم كالأنعام) . انتهى.
وكان مع تقدمه في علم الأثر وبصيرته في الفقه له بسطة كثيرة في علم النسب والأخبار، وفنون الحكمة، وكان ذا عناية تامّة بالمناظرة، يُنبِّه كثيراً في مصنفاته على أغلاط العلماء، ولذلك جرت بينه وبين العلامة عبد الحق بن فضل حق الخير آبادي مباحثات في تعليقات حاشية الشيخ غلام يحيى على "ميرزاهد رسالة" وكان الشيخ عبد الحق يأنف من مناظرته، ويريد أن لا يُذاع رده عليه.
وكذلك جرت بينه وبين السيد صِدِّيق حسن الحسني القِنَّوجي فيما ضَبَط السيد في "إتحاف النبلاء" وغيره من وَفَيَات الأعلام نقلاً عن "كشف الظنون" وغيره، وانجرّت إلى ما تأباه الفطرة السليمة، ومع ذلك لمّا توفي الشيخ عبد الحي المترجَم له تأسف بموته تأسَّفاً شديداً، وما أكل الطعام في تلك الليلة، وصلى عليه صلاة الغيبة، نظراً إلى سعة إطّلاعه في العلوم والمسائل.
وكذلك جرت بينه وبين العلاّمة محمد بشير السَّهسَواني في مسألة شد الرحل لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن مصنفاته رحمه الله تعالى ...(1/57)
(سَرَد المؤلف هنا مصنفات الإمام اللكنوي ويأتي ذكر أكثرها في (ترجمته في هذه المقدمة بقلمه) سوى أني زدت ما فات ذكرها في ترجمته:
في فن الصرف: 1 - تكملة الميزان، 2 - شرحها.
وفي فن المنطق والحكمة: 1 - الكلام الوهبي المتعلق بالقطبي، 2 - حاشية على شرح تهذيب المنطق لعبد الله اليزدي.
وفي فن المناظرة: 1 - حاشية على شرح الشريفية المشتهر بالرشيدية.
وفي علم التاريخ: 1 - مقدمة السعاية، 2 - ومقدمة عمدة الرعاية، 3 - وإبراز الغَيّ في شفاء العَيّ، 4 - وتذكرة الراشد بردّ تبصرة الناقد، 5 - وطربُ الأماثل بتراجم الأفاضل، 6 - ورسالة في الرؤيا المنامية التي وقعت لي، 7 - وفرحة المدرسين بذكر المؤلّفات والمؤلفين.
وفي فن الفقه والحديث: 1 - القول الجازم في سقوط الحد بنكاح المحارم، 2 - وتعليقه، 3 - وردع الإخوان عمّا أحدثوه في آخر جمعة رمضان، 4 - وعمدة الرعاية بحل شرح الوقاية، 5 - وجمع المواعظ الحسنة لخطب شهور السنة، 6 - والآيات البينات على وجود الأنبياء في الطبقات، 7 - وجمع الغرر في الرد على نَثر الدرر، 8 - ونفع المفتي والسائل بجمع متفرقات المسائل، 9 - والآثار المرفوعة في الأحاديث الموضوعة 10 - وغيث الغمام على حواشي إمام الكلام، 11 - ومجموعة الفتاوى (ثلاثة مجلدات كبار) ، 12 - وحاشية على شرح السيد الجرجاني للسراجية في الفرائض، 13 - وحاشية على الهداية، 14 - وظفر الأماني في شرح المختصر المنسوب للجرجاني في المصطلح، 15 - والرفع والتكميل في الجرح والتعديل، 16 - وتعليق على الجامع الصغير.
ومن مصنفاته التي لم تتم: منها 1 - خير العمل بذكر تراجم علماء فرنكي محلّ (لم يتم) ، 2 - والنصيب الأوفر في تراجم علماء المائة الثالثة عشر (لم يتم) .
وقال سماحة الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه: "المسلمون في الهند" (ص 40) : ويبلغ عدد مؤلفات علامة الهند فخر المتأخرين الشيخ عبد الحيّ اللكنوي (110) منها (86) كتاباً بالعربية.
وكانت وفاته لليلة بقيت من ربيع الأول سنة أربع وثلاثمئة وألف. ودفن بمقبرة أسلافه، وكنتُ حاضراً ذلك المشهد، وكان ذلك اليوم من أنحس الأيام، اجتمع الناس في المدفن من كل طائفة وفِرقة أكثر من أن يُحصروا، وقد صلُّوا عليه ثلاث مرات) .(1/58)
مقَدِّمَة الشَّارح
الحمد لله الذي اصطفى من عباده رسلاً وأنبياء، وجعل أفضلهم وأكملهم خاتَمَ الأنبياء، فهدى بهم الأمم الطاغيَة والفِرَق الباغِيَة، أحمده حمداً كثيراً، وأشكره شكراً جميلاً على أن اختار لأفضل أنبيائه وزراء ونقباء وخلفاء وأبدالاً ونجباء، من اقتدى بأحدهم اهتدى، ومن ترك سبيلهم ولم يتمسَّك بسننهم استحق الحفرة الحامية. أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسولُه، صاحب المعجزات الباهرة، اللهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه وتَبَعه إلى يوم الآخرة.
وبعد فيقول عبده الراجي عفو ربه (في الأصل: عفوه القوي، والظاهر عفو ربه القوي) القوي، معدن السيئات ومخزن المخالفات المكنّى بأبي الحسنات، المدعو بعبد الحي اللَّكنَوي، ابن مولانا الحاج الحافظ محمد عبد الحليم، أدخله الله دار النعيم: لا يخفى على أولي الألباب أنّ أفضل العلوم علمُ السُّنَّة والكتاب، وأن أفضل الأعمال القيام بخدمتها ونشر أسرارهما، وكثيراً ما كان يختلج في قلبي أن أشرح كتاباً في الحديث وأكشف أسراره بالكشف الحثيث، باعثاً لرضا نبينا شفيع المذنبين، ورضاه رضا رب العالمين، عسى الله أن يجعلني ببركته من الصالحين، ويحشرني في زمرة الحدِّثين مع الأنبياء والصديقين. إلاَّ أن ضيق باعي قد كان يثبّطني عن القيام في هذا المقام إلى أن أشار إلىَّ (في الأصل: "إليه" والظاهر "إليَّ") بعضُ من أمْرُهُ حتم وإرشاده غنم أن أحشِّيَ موطَّأ الإمام مالك الذي قال الإمام الشافعيُّ في حقه: (ما على ظهر الأرض كتابٌ بعد كتاب الله أصحّ من كتاب مالك) (تزيين الممالك: ص 43) ، وأعلق عليه حاشية وافية وتعليقات كافية. فتذكّرتُ ما رأيت في المنام في السنة الثامنة والثمانين والمائتين (في الأصل: "والمائتين" ساقطة) بعد الألف من الهجرة - على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم والتحية - كأنِّي دخلت في المسجد النبوي بالمدينة الطيبة، فإذا أنا بالإمام مالك(1/59)
جالساً فيه، فحضرت عنده، وصافحته، وقلت له: كتابكم "الموطأ" لي فيه اختلاجات وشكوك، أرجو أن أقرأه عليكم لتحل تلك الشكوك، فقال فرحاً ومسروراً: هات به واقرأه عندي، فقمت من هناك لآتي به من بيتي، فاستيقظتُ، وحمدت الله على هذه الرؤيا الصالحة، وشكرته. فكأنّ في هذه الرؤيا إشارة من الإمام مالك إلى توجُّهي إلى مؤطئه (في الأصل "بموطئه" وهو تحريف، والصواب: "إلى موطئه") والاشتغال بدرسه وتدريسه وشرحه.
فلما تذكَّرتُ هذا صمَّمت عزمي بتعليق تعليق عليه، وشدَّدت مِئزري لكتابة حاشية عليه، وكان في بلادنا في أعصارنا من نسخه نسختان متداولتان: نسخة يحيى الأندلسي، ونسخة محمد بن الحسن الشيباني من أجل تلامذة الإمام أبي حنيفة، لا زال مغبوطاً بالفضل الرحماني، فاخترت لتعليق التعليق النسخة الثانية لوجهين:
أحدهما: أن النسخة الأولى قد شرحها جمع من المتقدمين والمتأخرين، ونسخة محمد لم يشرحها إلاّ الفاضلان الأكملان بيرى زاده، وعلي القاري فيما بَلَغَنا، وأنا ثالثهما إن شاء ربنا، فاحتياجها إلى التحشِّي والشرح أكثر ونفعه أكمل وأظهر.
وثانيهما: أن نسخة محمد مرجَّحة على موطّأ يحيى لوجوه سيأتي ذكرها في المقدِّمة، ونافعة غاية النفع لأصحابنا الحنفية خصّهم بالألطاف الخفية.
فشرعت في كتابة تعليق عليه مسمّىً (في الأصل: "مسمِّياً") بـ "التعليق الممجَّد على موطّأ الإمام محمد"، وفي شهر شوال من السنة الحادية والتسعين حين إقامتي بحيدر أباد - الدكن، صانه الله عن البدع والفتن، وكتبت قريباً من النصف، وبلغت إلى كتاب الحج، ثم ببركته يسَّر الله لي سفر الحجّ وسافرت في شوال من السنة الثانية والتسعين إلى الحرمين الشريفين مرة ثانية، رزقنا الله العودة إليهما مرة ثالثة، ومرة بعد مرة إلى أن أُتوفَّى في المدينة الشريفة، ثم رجعت في الربيع الأول من السنة الثالثة والتسعين إلى الوطن - حُفظ عن شرور الزمن - وابتليت مدة بالأمراض العديدة التي ابتليت بها في تلك الأماكن الشريفة إلى أن رزقني الله النجاة منها ببركة الأدعية(1/60)
والأذكار المأثورة، لا بالأدوية المعمولة، فاشتغلت بإتمامه مع زيادات لطيفة فيما أسلفته، فجاء بفضل الله وعونه بحيث تنشرح به صدور الأفاضل، وتنشط به آذان الأماثل، وأرجو من إخوان الصفا وخِلاّن الوفا أن يطالعوه بنظر الإنصاف، لا بنظر الاعتساف، ويصلحوا ما وقع فيه من الخطأ والخلل، وما أبرِّئ نفسي من السهو والزلل، فإن البراء من كلِّ خطأ ليس من شأن البشر، إنما هو شأن خالق القوى والقَدَر، وأستغفر الله من زلّة القَدَم وطغيان القلم، مما علمتُ وما لم أعلم، ورحم الله امرءاً أصلح السهو والنسيان أو دعاني بخير الدنيا والآخرة بحضرة المَلِك المنَّان، وقد جنحتُ في هذا التعليق إلى أمور يُحسنها أرباب الشعور:
أحدها: أني لم أُبال بتكرار بعض المطالب المفيدة في المواضع المتفرقة ظناً مني أن الإعادة لا تخلو عن الإفادة، مع أني كلما أعدت أمراً ذكرتُهُ لم أجعله خالياً عن أمرٍ مفيدٍ زدته.
وثانيها: أني التزمتُ بذكر مذاهب الأئمة المختلفة مع الإشارة إلى دلائلها بقدر الضرورة وترجيح بعض على بعض، ولعمري إنها طريقة حسنة، قلَّ من يسلكها في زماننا، وإلى الله المشتكى من عادات جهلاء بلادنا، بل من صنيع كثير من فُضَلاء أعصارنا، حيث يظن بعضهم أن المذهب الذي تمذهب به مرجَّح في جميع الفروع، وأن كل مسألة منه بريئة عن الجروح، وبعضهم يسعى في هَدم بنيان المذاهب المشهورة، وينطق بكلمات التحقير في حق الأئمة المتبوعة، وأبرأ إلى الله من هؤلاء وهؤلاء، ضلَّ أحدهما بالتقليد الجامد، وثانيهما بالظن الفاسد والوهم الكاسد، يتنازعون فيما لا ينفعهم بل يضرّهم، ويبحثون في ما لا يعنيهم، وينادي منادي كلٍّ منهما في حق آخرهما بالتكفير والتضليل والتفسيق والتجهيل، ومع ذلك يحسبون أنهم يحسنون {وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (سورة الشعراء: آية 227) {إنَّما أَمرُهُم إلَى اللَّه ثُمَّ يُنَبِّئُهم بِما كانُوا يَفْعَلونَ} (سورة الأنعام: آية 159) ، ولعلمي أنّ (في الأصل: "هذه الاختلافات" بدون "أن") هذه الاختلافات الواقعة بين الأئمة(1/61)
في الفروع الفقهية المأخوذة من اختلافات الصحابة والروايات النبوية ليس فيها تفسيق ولا تضليل، ومن نطق بذلك فهو أحقّ بالتضليل.
وثالثها: أني أسندتُ البلاغات والأحاديث المرسلة وشيّدت الموقوفة بالمرفوعة.
ورابعها: أني أكثرت من ذكر مذاهب الصحابة والتابعين ومَن بعدَهم من الأئمة المجتهدين والمعتَبرين ليتنبه الهائم ويتيقّظ النائم، ويعلم أن اختلاف الأئمة رحمة، وأن لكل منهم قدوة.
وخامسها: أني ذكرت تراجم الرواة وأحوالهم وما يتعلق بتوثيقهم وتضعيفهم من دون عصبيَّة مذهبية وحميَّة جاهلية، وربما تجد فيه تكراراً لا يخلو عن الإفادة، فإن الإعادة لا يخلو عن ذكر اختلاف أو زيادة.
وسادسها: أني قد وجدت نسخ الموطأ مختلفة كثيرة الاختلاف، فذكرت اختلافها، وبينت الغير (هكذا جاء في الأصل، وهو استعمال خاطئ وغلط شائع، لما جمع فيه من إدخال "أل" على "غير" مع الإضافة إلى ما فيه "أل"، وصوابه أن يقال "غير الصحيح") ، الصحيح والصحيح منها من دون اعتساف.
وسابعها: أني نبَّهت على السهو والزلاَّت التي صدرت من عليٍّ القاريّ في "شرحه" في شرح المقصود أو تنقيد الرواة خوفاً من أن ينظره أحد ممن ليس له حظ في هذه الفنون، فيقع في الخطأ وسيء الظنون، لا تحقيراً لشأنه وكشفاً لنسيانه، فإني من بحار علمه مغترِف وبفضله معترِف، والمتأخر وإن كان علمه أوسع وكلامه أنفع إلاَّ أن الفضل للمتقدم والشرف للأقدم.
هذا، وأسأل الله تعالى خاشعاً متضرِّعاً أن يتقبَّل منِّي هذا التأليف وسائر تأليفاتي، ويجعلها خالصة لوجهه وذريعة لإقبال نبيه وسبباً لنجاتي، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وكان ذلك حين كنت مغبوطاً بين الأقران والأماثل ومحسوداً للأماجد والأفاضل بالمنن الفائضة عليّ، والإنعامات الواصلة إليّ من حضرة من هو قمر أقمار الوزارة، نور حديقة الرئاسة، سحاب ماطر الإنعام والإحسان، بحرُ زاخر الإكرام والامتنان، سدّته الرفيعة ملجأ للأماجد والأفاضل،(1/62)
وعتبته العلية محط الرجال (في الأصل: "رجال"، وهو تحريف.) الأماثل، يأتون إليه من كل مَرمَى سحيق، ويستفيضون من بحر فضله العميق، بأن ينشد في حقه ما أنشده التَّفْتازاني في حق ملكه:
أقامت في الرقاب له أيادي * هي الأطواق والناس الحمام
باسط بساط العدل والإنصاف، هادم قصر الجَور والاعتساف، هو الذي ضرب به (في الأصل: "ضربه" وهو تحريف) المثل في حسن الانتظام والأفضال، وذكر اسمه عند أرباب الإقبال آصف السلطنة النظامية، وزير الدولة الآصفية: النواب مختار الملك سالار جنك تراب عليخان بهادر، لا زالت أقمار دولته طالعة، وشموس إقباله بازغة، اللهم كما منحت على عبادك بفضله ولطفه فامنن عليه بعلوّ درجة في الدنيا والآخرة، واحفظه بحفاظتك من بليات الدنيا والآخرة بحرمة نبيك سيِّد الأنبياء وآله رؤوس الأتقياء.(1/63)
مقَدمة: فيهَا فوائد مُهمَّة
[الفائدة] الأولى: في كيفية شيوع كتابة الأحاديث وبَدْء تدوين التصانيف، وذكر اختلافها مَقصِداً، وتنوّعها مسلكاً، وبيان أقسامها وأطوارها.
- قال الحافظ ابن حجر العسقلاني (إمام الحفّاظ أحمد بن علي بن محمد العسقلاني المصري الشافعي، المتوفى سنة 852 هـ وقد ذكرت ترجمته في التعلقيات السنية على الفوائد البهية في تراجم الحنفية (ش)) : في "هدي الساري" (1/17 - 18 وفي الأصل: "الهدي الساري" وهو تحريف) . مقدمة شرحه لصحيح البخاري المسمّى بفتح الباري. أعلم - علمني الله وإياك - أن آثار النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعصر أصحابه وكبار تَبَعِهم مدوّنة في الجوامع ولا مرتَّبة، لوجهين: أحدهما: أنهم كانوا في ابتداء الحال قد نُهوا عن ذلك، كما ثبت في "صحيح مسلم" خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم، والثاني: سعة حفظهم وسيلان ذهنهم، ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة، ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار وتبويب الأخبار لمّا انتشر العلماء في الأمصار، وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار، فأول من جمع ذلك الربيع بن صبيح وسعيد بن أبي عَروبة وغيرهما، فكانوا يصنّفون كلّ باب على حدة إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة في منتصف القرن الثاني فدوّنوا الأحكام، فصنف الإمام مالك الموطأ، وتوخّى فيه القويّ من حديث أهل الحجاز، ومزجه بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وصنّف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج بمكة، وأبو عمرو عبد الرحمن الأَوزاعي بالشام، وأبو عبد الله سفيان الثوري بالكوفة، وحماد بن سلمة بن دينار بالبصرة، وهشيم بواسط، ومعمر باليمن، وابن المبارك بخراسان، وجرير بن عبد الحميد بالريّ، وكان هؤلاء في(1/64)
عصر واحد، فلا يدرى أيهم سبق، ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم الى أن رأى بعض الأئمة منهم أن يفرد حديث النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وذلك على رأس المئتين، فصنفوا المسانيد، فصنف عبد الله بن موسى العبسي مسندا، ثم صنف نعيم بن حامد الخزاعي نزيل مصر مسندا، ثم اقتفى الأئمة أثرهم في ذلك، فقلّ إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه في المسانيد كالإمام أحمد بن حنبل واسحاق ابن راهويه وعثمان ابن أبو شيبة وغيرهم، ومنهم من صنف على الأبواب والمسانيد معا" كأبي شيبة، فلما رأى البخاري هذة التصانيف، ووجدها بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل تحت التصحيح والتحسين، والكثير منها يشتمل على الضعيف، فحّرك همتّه لجمع الحديث الصحيح. انتهى كلامه (ليس غرض الحافظ أن كتابة الحديث لم تبدأ إلا في أواخر عصر النابعين، بل غرضه أن الكتابة بصورة الكتب والرسائل لم يشرع فيها إلى ذاك الوقت، وإلا فمجرد الكتابة كان من زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك روايات كثيرة صريحة في زمنه صلى الله عليه وسلم، واستقر الأجماع على جوازها انظر: مقدمة "أوجز المسالك". 1/13، 14) .
وقال ابن الأثير الجزري (هو مبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الجزري، نسبة الى جزيرة ابن عمر بلدة الشافعي، مؤلف "جامع الأصول" و "النهاية" في غريب الحديث، وله أخ معروف بابن الأثير مؤلف "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" وهو أبو الفتح نصر الله المتوفي سنة 627 هجري، وأخ آخر مؤلف "أسد الغابة في أخبار الصحابة" اسمة عز الدين علي المتوفي سنة 62. هجري، وكثيراً ما يشتبه أحدهم بالآخر، وقد سقطت تراجمهم في التعليقات (ش) ، في مقدمة كتابه "جامع الأصول" (1/43ـ46) : والناس في تصانيفهم التي جمعوها مختلفو الأغراض، فمنهم من قصر همته على تدوين الحديث مطلقا ليحفظ لفظه وليستنبط له الحكم، كما فعله عبيد الله بن موسى العبسي وأبو داود الطيالسي وغيرهما من أئمة الحديث أولاً، وثانياً الإمام أحمد بن حنبل ومن بعده، فإنهم أثبتوا الأحاديث في مسانيد رواتها، فيذكرون مسند أبي بكر الصديق مثلاً، ويثبتون فيه كل ما روي عنه، ثم يذكرون بعده الصحابة واحداً بعد(1/65)
واحد على هذا النسق، ومنهم من يثبت الأحاديث في الأماكن التي هي دليل عليها، فيضعون لكل حديث باباً يختص به، فان كان في معنى الصلاة ذكروه (في الأصل: فيه ذكروه) في باب الصلاة، وإن كان في معنى الزكاة ذكروه في باب الزكاة كما فعله مالك بن أنس في (الموطأ) ، إلا أنه لقلة ما فيه من الأحاديث قلت أبوابه، ثم اقتدى به من بعده، فلما انتهى الأمر إلى البخاري ومسلم وكثرت الأحاديث المودعة في كتابيهما كثرت أبوابهما وأقسامهما، واقتدى بهما من جاء من بعدهما وهذا النوع أسهل مطلباً من الأول، لوجهين:
الأول: أن الإنسان قد يعرف المعنى الذي يطلب الحديث من أجله وإن لم يعرف راويه ولا في مسند من هو، بل ربما لا يحتاج الى معرفة راويه.
والوجه الثاني: أن الحديث إذا ورد في كتاب الصلاة علم الناظر فيه أن هذا الحديث هو دليل ذلك الحكم من أحكام الصلاة، فلا يحتاج إلى أن يتفكر به. ومنهم من استخرج أحاديث تتضمن ألفاظاً لغوية ومعاني مشكلة، فوضع لها كتاباً على حدة، قصره على شرح الحديث وشرح غريبه وإعرابه ومعناه، ولم يتعرض لذكر الأحكام، كما فعله أبو عبيدة القاسم بن سلام وعبد الله بن مسلم بن قتيبة وغيرهما ومنهم من ضاف الى هذا ذكر الأحكام وآراء الفقهاء مثل أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي وغيره. ومنهم من قصد ذكر الغريب دون متن الحديث، واستخرج الكلمات الغريبة دونها كما فعله ابو عبيدة أحمد بن محمد الهروي وغيره. ومنهم من قصد استخراج أحاديث تتضمن ترغيبا وترهيبا وأحاديث تتضمن أحكاماً شرعية فدونها وأخرج متونها وحدها كما فعله أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي في كتاب "المصابيح". وغير هؤلاء المذكورين من أئمة الحديث لو رمنا أن نستقصي ذكر كتبهم واختلاف أغراضهم ومقاصدهم لطال الخطب ولم ينتهي إلى حد انتهى(1/66)
وقال أيضاً قبيل ذلك (1/ 40 - 43) : لما انتشر الإسلام، واتسعت البلاد، وتفرقت الصحابة في الأقطار وكثرت الفتوح، ومات معظم الصحابة وتفرق أصحابهم وأتباعهم، وقل الضبط، احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقيده بالكتابة، ولعمري إنها الأصل، فإن الخاطر يغفل، والذهن يغيب، والذكر يمل، والقلم يحفظ ولا ينسى، فانتهى الأمر إلى زمان جماعة من الأئمة مثل عبد الملك بن جريج ومالك بن أنس وغرهما ممن كان في عصرهما، فدونوا الحديث حتى قيل: إن أول كتاب صنف في الإسلام كتاب ابن جريج، وقيل موطأ مالك، وقيل: إن أول من صنف وبوب الربيع بن صبيح في البصرة، ثم انتشر جمع الحديث وتدوينه وسطره في الأجزاء والكتب، وكثر ذلك، وعظم نفعه إلى زمن الامامين أبي عبد الله محمد بن اسماعيل البخاري وأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، فدّونا كتابيهما، وأثبنا من الحديث ما قطعا بصحته، وثبت عندهما نقله، وسمياّ كتابيهما الصحيح من الحديث، وأطلقا هذا الإسم عليهما، وهما أوّل من سمىّ كتابه بذلك. ولقد صدقا فيما قالا وبرا فيما زعما، ولذلك رزقهما الله من حسن القبول في شرق الأرض وغربها وبرها بحرها والتصديق لقولهما والانقياد لسماع كتابيهما ما هو ظاهر مستغن عن البيان، ثم ازداد انتشار هذا النوع من التصنيف والجمع والتأليف وتفرقت أغراض الناس وتنوعت مقاصدهم إلى أن انقرض ذلك العصر الذي كانا فيه، وجماعة من العلماء قد جمعوا وألفوا مثل أبي عيسى الترمزي وأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي وغيرهم من العلماء الذين لا يحصون، وكان ذلك العصر خلاصة العصور في تحصيل هذا العلم، وإليه المنتهى، ثم من بعده نقص هذا الطلب، وقل ذلك الحرص وفترت تلك الهمم، وكذلك كل نوع من أنواع العلوم والصنائع والدول وغيرها فإنه يبتدئ قليلا قليلا، ولا يزال ينمي ويزيد ويعظم إلى أن يصل إلى غاية هي منتهاه ويبلغ إلى أمد أقصاه، فكان غاية هذا العلم إلى زمن البخاري ومسلم ومن كان في عصرهما، ثم نزل وتقاصر إلى زماننا هذا، وسيزداد تقاصراً والهمم قصوراً. انتهى.(1/67)
وقال السيوطي في كتابه "الوسائل إلى معرفة الاوائل" (ص 100 - 101) : أول من دون الحديث ابن شهاب الزهري في خلافة عمر بن عبد العزيز بأمره ذكره الحافظ ابن حجر في شرح البخاري، وأخرج أبو نعيم في"حلية الأولياء" (حلية الأولياء: 3/ 363) عن مالك بن أنس، قال: أول من دوّن العلم ابن شهاب، وقال مالك في الموطأ برواية محمد بن الحسن: أخبرنا يحيى بن سعيد بن عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى أَبِي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ سُنَّتِهِ أَوْ حَدِيثِ عُمَرَ أَوْ نَحْوِ هَذَا فَاكْتُبْهُ لِي، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء (انظر سنن الدارمي: 1/126؛ وتقييد العلم ص 105) . وأول من صنف في الحديث ورتبه على الأبواب مالك في المدينة وابن جريج بمكة، والربيع بن صبيح أو سعيد بن أبي عروبة أو حماد بن سلمة بالبصرة، وسفيان الثوري بالكوفة، والأوزاعي بالشام، وهشيم بواسط، ومعمر باليمن، وجرير بن عبد الحميد بالريّ، وابن مبارك بخراسان، قال الحافظان بن حجر والعراقي: وكان هؤلاء في عصر واحد، فلا يدرى أيهم سبق، وذلك في سنة بضع وأربعين ومائة.
وأول من أفرد الأحاديث المسندة دون الموقوفات والمقاطيع على رأس المائتين عبيد الله بن موسى بالكوفة، ومسدّد بالبصرة، وأسد بن موسى الأموي بمصر، ونعيم بن حماد الخزاعي (في الأصل: "الخراعي"، وهو تحريف) . واختلف في أول من صنف المسند من هؤلاء، فقال الدارقطني: نعيم، وقال الخطيب: أسد بن موسى، وقال الحاكم: عبيد الله، وقال العقيلي: يحيى الحماني، وقال ابن عدي: أول من صنف المسند بالكوفة عبيد الله، ومسدد أول من صنف المسند بالبصرة، وأسد أول من صنف المسند بمصر، وهو قبلهما، وأقدمهما موتاً (انظر الرسالة المستطرفة ص 36 - 37؛ وتدريب الراوي ص 89؛ ومنهج ذوي النظر ص 18) وأول من صنف في الصحيح المجرد البخاري، ذكره ابن الصلاح، واحترز بالمجرد الذي زاده عن الموطأ، فإنه أيضا صحيح لكنه محتوي على الموقوفات والمقاطيع. انتهى.(1/68)
وفي (تنوير الحوالك على الموطأ مالك للسيوطي) (1/4 - 5) : أخرج الهروي في "ذمم الكلام" من طريق الزهري، قال: أخبرني عروة ابن الزبير أن عمر ابن الخطاب أراد أن يكتب السنن، واستشار فيها أصحاب رسول الله، فأشار إليه عامتهم بذلك. فلبث عمر شهراً يستخير الله في ذلك شاكاً فيه، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له، فقال: إني كنت ذكرت لكم في كتاب السنن ما قد علمتم، ثم تذكرت، فإذا أناس من أهل الكتاب من قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتباً، فأكبّوا عليها، وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء، فترك كتاب السنن. وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا قبيصة بن عقبة، أنا؟؟ سفيان، عن معمر، عن الزهري، قال: أراد عمر أن يكتب السنن، فاستخار الله شهراً، ثم أصبح وقد عزم له، فقال: ذكرت قوماً كتبوا كتابا فأقبلوا عليه وتركوا كتاب الله، وأخرج الهروي من طريق يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دينار، قال: لم يكن الصحابة ولا التابعون يكتبون الحديث، إنما كانوا يؤدونها لفظاً، ويأخذونها حفظاً إلا كتاب الصدقات، والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء حتى خيف عليه الدروس، وأسرع في العلماء الموت، فأمر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أبي بكر الحزمي فيما كتب إليه أن انظر ما كان من سنة أو حديث عمر فاكتبه. وقال مالك في "الموطأ" برواية محمد بن الحسن عن يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العزيز كتب إلى أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزم أن انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ أو سنته (في الأصل: "سنة"، وهو تحريف) أَوْ نَحْوِ هَذَا فَاكْتُبْهُ لِي، فَإِنِّي قَدْ خفت دروس العلم وذهاب العلماء، علَّقه البخاري في صحيحه، وأخرجه أبو نعيم في "تاريخ أصبهان" بلفظ: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: انظروا حديث (في الأصل: "أحاديث"، وهو تحريف) رسول الله فاجمعوه، واخرج ابن عبد البر في "التمهيد" من طريق ابن وهب قال: سمعت مالكا يقول: كان عمر بن عبد العزيز يكتب الى الأمصار يعلمهم الفقه والسنن، وكتب الى المدينة يسالهم عما مضى، وأن يعلموا بما عندهم، ويكتب الى ابي بكر بن حزم أن يجمع السنن، ويكتب إليه بها، فتوفي عمر، وقد كتب ابن حزم كتابا قبل أن يبعث بها إليه. انتهى.(1/69)
وفي "تنوير الحوالك" (1/6) أيضاً: قال أبو طالب المكي في "قوت القلوب": هذة المصنفات من الكتب حادثة بعد سنة عشرين أو ثلاثين ومئة، ويقال: إن أول ما صنف في الإسلام كتاب ابن جريج في الأثار، وحروف من التفاسير، ثم كتاب معمر بن راشد الصنعاني باليمن، جمع فيه سنن منثورة مبوبة، ثم كتاب الموطأ بالمدينة لمالك؟، ثم جمع ابن عيينة كتاب الجامع والتفسير في أحرف من القرآن وفي الأحاديث المتفرقة، وجامع سفيان الثوري صنفه أيضاً في هذة المدة، وقيل أنها صنفت سنة ستين ومئة. انتهى.
الفائدة الثانية: في ترجمة الإمام مالك
- (انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء: 8/48، ترتيب المدارك: 1/102، 254؛ وفيات الأعيان: 4/135، 139؛ تهذيب التهذيب: 10/5 وطبقات الحفاظ ص 89؛ وتهذيب الكمال: 7/139؛ ومقدمة أوجز المسالك 1/17، 55.
وليس في الإمكان حصر الكتب التي ألفت في سيرته، أو ترجمت له، ولي كتاب "الإمام مالك ومكانة كتابه الموطأ" مطبوع) .
وما أدراك ما مالك؟! إمام الأئمة، مالك الأزمة، رأس أجلة دار الهجرة، قدوة علماء المدينة الطيبة، يعجز اللسان عن ذكر أوصافه الجليلة، ويقصر الإنسان عن ذكر محاسنه الحميدة.
وقد أطنب المؤرخون في تواريخهم والمحدثون في تواليفهم في ذكر ترجمته وثنائه، وصنف جمع منهم رسائل مستقلة في ذكر حالاته كأبي بكر أحمد بن مروان المالكي الدينوري المصري المتوفى سنة عشر وثلاث مائة على ما في "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون " (2/1841) ، وأبو الروح عيسى بن مسعود الشافعي المنوفى سنة أربع وسبعين وسبعمائة، والجلال السيوطي الشافعي المصري صنف رسالة سماها "تزيين الأرائك بمناقب الإمام مالك" ولنذكر ههنا نبذاً من أحواله ملخصا من "معدن اليواقيت الملتمعة، في مناقب الأئمة الأربعة" وغيره من كتب ثقات الأمة قاصداً فيه الاختصار، فالتطويل يقتضي الأسفار الكبار.
فأما اسمه ونسبه، فهو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن(1/70)
عمرو بن الحارث بن غيمان - بغين معجمة وياء تحتية - ويقال عثمان (قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: 8/71: وهذا لم يصح) بن جثيل بجيم وثاء مثلثة ولام - وقيل خثيل بخاء معجمة - بن عمرو بن الحارث الأصبحي المدني، نسبة إلى أصبح بالفتح قبيلة من يعرب بن قحطان. وجده الأعلى أبو عامر ذكره الذهبي في"تجريد الصحابة". وقال: كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ولابنه مالك رواية عن عثمان وغيره. وأما ولادته ووفاته. فذكر اليافعي في "طبقات الفقهاء" أنه ولد سنة أربع وتسعين، وذكر ابن خلِّكان وغيرُه انه ولد سنة خمسة وتسعين، وقيل سنة تسعين (قال الذهبي في المصدر السابق 8/49: الأصح في سنة ثلاثة وتسعين) ، وذكر المزِّي في "تهذيب الكمال" وفاته سنة تسعة وسبعون ومائة ضحوة رابع عشر من ربيع الأول، وحمل به في بطن أمه ثلاث سنين وكان دفنه بالبقيع وقبره يزار ويتبرك به. وأما مشايخه وأصحابه فكثيرون فمن مشايخه: إبراهيم بن أبي عبلة المقدسي، وإبراهيم بن عقبة، وجعفر بن محمد الصادق، ونافع مولى بن عمر، ويحيى بن سعيد، والزهري، وعبد الله بن دينار وغيرهم. ومن تلامذته سفيان الثوري، وسعيد بن منصور، وعبد الله بن المبارك، وعبد الرحمن الأوزاعي وهو أكبر منه، وليث بن سعد من أقرانه، والإمام الشافعي محمد بن ادريس، ومحمد بن الحسن الشيباني وغيرهم. وأما ثناء الناس عليه ومناقبه فهو كثير: قال أبو عمر (ذكر بعضهم في كنيته، أبو عمرو بالواو، وذكر الزرقاني في "شرح المواهب" أن كنيته أبوعمر بضم العين بدون الواو (ش)) بن عبد البَرّ في كتاب "الأنساب": أن الإمام مالك بن أنس كان إمام دار الهجرة، وفيها ظهر الحق وقام الدين، ومنها فُتحت البلاد وتواصلت الأمداد، وسمي عالم المدينة، وانتشر علمه في الأمصار، واشتهر في سائر الأقطار، وضربت له أكباد الإبل، وارتحل الناس إليه من كل فج عميق، وانتصب للتدريس، وهو ابن سبعة عشر سنة، وعاش قريباً من(1/71)
تسعين، ومكث يفتي الناس ويعلم الناس سبعين سنة، وشهد له التابعون بالفقه والحديث. انتهى.
وفي "الروض الفائق" أنه العالم الذي يشير إليه (في الأصل: "به"، وهو خطأ) النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمزي (أخرجه الترمزي في كتاب العلم، رقم الحديث 2680) وغيره، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ينقط العلم فلا يبقى عالم أعلم من عالم المدينة". وفي حديث آخر عن أبي هريرة: "يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل، فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة". قال سفيان بن عيينة: كانوا يرون مالكاً، وقال عبد الرزاق: كنا نرى أنه مالك فلا يعرف هذا الإسم لغيره، ولا ضربت أكباد الإبل إلى أحد مثل ما ضربت إليه. وقال مصعب: سمعت مالكاً يقول: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون شيخاً أني أهلٌ لذلك، وقال الشافعي: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز. وقال رجل للشافعي: هل رأيت أحداً ممن أدركت مثل مالك؟ فقال: سمعت من تقدّمنا في السن والعلم يقولون: ما رأينا مثل مالك، فكيف نرى مثله؟ وقال حماد بن سلمة: لو قيل لي اختر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من يأخذون عنه العلم لرأيت مالك بن أنس لذلك موضعاً ومحلاً. وقال محمد بن ربيع حججت مع أبي وأنا صبي فنمت في مسجد رسول الله فرأيت في النوم رسول الله كأنه خرج من قبره وهو متّكئ على أبي بكر وعمر، فقمت، وسلّمت، فردّ السلام، فقلت: يا رسول الله، أين أنت ذاهب؟ قال: أقيم لمالك الصراط المستقيم، فانتبهت وأتيت أنا وأبي إلى مالك، فوجدت الناس مجتمعين على مالك وقد أخرج لهم الموطّأ، وقال محمد بن عبد الحكيم: سمعت محمد بن السري، يقول: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، فقلت: حدّثني بعلم أحدّث به عنك. فقال: يا ابن السري، إني قد وصلت بمالك بكنز يفرقه عليكم، ألا وهو "الموطّأ"، ليس بعد كتاب الله ولا سنتي في إجماع المسلمين حديث أصح من "الموطأ"، فاستمعه تنتفع به. وقال يحيى بن سعيد: ما في القوم أصح حديثاً من مالك، ثم سفيان الثوريّ وابن عيينة. وقال أبو مسلم الخزاعي: كان مالك إذا أراد أن يجلس (أي للتحديث) توضأ وضوءه للصلاة، ولبس أحسن ثيابه، وتطيّب، ومشط لحيته، فقيل له في ذلك،(1/72)
فقال: أوقّر به حديث رسول الله. وقال ابن المبارك: كنت عند مالك وهو يحدثنا بحديث رسول الله، فلدغته عقرب ستّ عشرة مرة، وهو يتغير لونه، ويصفر وجهه، ولا يقطع الحديث، فلما تفرق الناس عنه قلت له: لقد رأيت اليوم منك عجباً، فقال: صبرت إجلالاً لحديث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه، وينحني، فقيل له في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم. وذكر ابن خلّكان (وفيات الأعيان: 4/136) : كان مالك لا يركب في المدينة مع ضعفه وكبر سنّه، يقول: لا أركب في مدينة فيها جثة رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفونة.
الفائدة الثالثة: في ذكر فضائل الموطّأ وسبب تسميته به وما اشتمل عليه.
- قال السيوطي في "تنوير الحوالك" (1/6، 8) : قال القاضي أبو بكر بن العربي في "شرح الترمزي": الموطّأ هو الأصل الأول واللباب، وكتاب البخاري هو الأصل الثاني في هذا الباب، وعليهما بنى الجميع كمسلم والترمزي. وذكر ابن الهيّاب (في الأصل: ابن الهباب، وهو تحريف) أن مالكاً روى مئة ألف حديث، جمع منها في الموطّأ عشر آلاف حديث، ثم لم يزل يعرضها على الكتاب والسنة، ويختبرها بالآثار والأخبار حتى رجعت إلى خمسمائة. وقال إِلْكيَا الهَرَّاسي في تعليقه في الأصول: إن موطّأ مالك كان اشتمل على تسعة ألاف حديث، ثم لم يزل ينتقي حتى رجع إلى سبعمائة. وأخرج أبوالحسن بن فهر في "فضائل مالك" عن عتيق بن يعقوب، قال: وضع مالك الموطّأ على نحو من عشرة آلاف حديث، فلم يزل ينظر فيه في كل سنة، ويسقط منه حتى بقي منه هذا ...
وأخرج ابن عبد البّر عن عمر بن عبد الواحد صاحب الأوزاعي، قال: عرضنا على مالك الموطّأ في أربعين يوماً فقال كتاب ألفته في أربعين سنة أخذتموه في أربعين يوما، ما أقل ما تفقهون فيه! ... وقال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الكناني الأصفهاني: قلت لأبي حاتم الرازيّ: لم سُمِّي موطّأ مالك بالموطّأ؟ فقال شيء قد صنّفه ووطّأه للناس، حتى قيل موطّأ مالك، كما قيل جامع سفيان، وقال أبو الحسن بن(1/73)
فهر: أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن فراس، سمعت أبي يقول: سمعت علي بن أحمد الخلنجي، يقول: سمعت بعض المشايخ يقول: قال مالك: عرضت كتابي هذا على سبعين فقيهاً من فقهاء المدينة، فكلُّهم واطأني عليه فسَّميتُه الموطأ، قال ابن فهر: لم يسبق مالكاً أحداً إلى هذه التسمية، فإن من ألف في زمانه سمى بعضهم بالجامع، وبعضهم بالمصنف، وبعضهم بالمألف، والموطأ: الممهد المنقح، وفي القاموس وطّأه هيّأه ودمّثه وسهَّله، ورجل الموطأ الأكناف سهل دمث كريم مضياف، أويتمكَّن في ناحيته صاحبه، غير مؤذ ولا ناب (وفي الأصل: "ثاب" وهو تحريف) به موضعه، وموطأ العقب سلطان يتبع، وهذه المعاني كلها تصلح في هذا الاسم على سبيل الاستعارة، وأخرج ابن عبد البر عن المفضل بن محمد بن حرب المدني، قال أول من عمل كتاباً بالمدينة على معنى الموطأ من ذكر ما اجتمع عليه أهل المدينة عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، وعمل ذلك كلاماً بغير حديث فأتي به مالك فنظر فيه، فقال: ما أحسن ماعمل هذا، ولو كنت أنا الذي عملت لابتدأت الآثار، ثم شدّدت ذلك بالكلام، ثم إنه عزم على تصنيف الموطأ، فصنفه، فعمل من كان بالمدينة يومئذ من العلماء الموطآت، فقيل لمالك: شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب، وقد شركك فيه الناس وعملوا أمثاله، فقال: ائتوني بماعملوا به، فأتي به فنظر في ذلك ثم نبذه وقال: لتعلمنّ أنه لا يرتفع إلا ما أريد به وجه الله، قال: فكأنما ألقيت تلك الكتب في الآبار، وقال الشافعي: ما على ظهر الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك، أخرجه ابن فهر من طريق يونس بن عبد الأعلى عنه، وفي لفظ: ما وضع على الأرض كتاب هو أقرب إلى القرآن من كتاب مالك، وفي لفظ: ما في الأرض بعد كتاب الله أكثر صواباً من موطّأ مالك، وفي لفظ: ما بعد كتاب الله أنفع من الموطّأ، وقال الحافظ مغلطاي أول من صنف الصحيح مالك (شرح الزرقاني: 1/8) .
وقال الحافظ بن حجر: كتاب مالك صحيح عنده وعند من يقلده على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما، قلت: ما فيه من(1/74)
المراسيل فإنها مع كونها حجة عنده بلا شرط، وعند من وافقه من الأئمة على الإحتجاج بالمرسل، فهي أيضا حجة عندنا، لأن المرسل عندنا حجة إذا اعتضد، وما من مرسل في الموطّأ إلا وله عاضد أو عواضد، فالصواب إطلاق أن الموطّأ صحيح كله، لا يستثنى منه شيء، وقد صنف ابن عبد البر كتاباً في وصل ما في الموطّأ من المرسل والمنقطع والمعضل، قال: وجميع ما فيه من قوله: بلغني، ومن قوله: عن الثقة عنده، مما لم يسنده: أحد وستون حديثاً كلها مسندة، من غير طريق مالك إلا أربع لا تعرف: أحدها: حديث إنِّي لأَنسى أَو أُنَسَّى لأَسُنَّ (وفي الأصل: "لا أنسى ولكن أنسى"، وهو تحريف؛ وأخرجه مالك في كتاب السهو: 1/100) ، والثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم أُري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر، والثالث: قول معاذ آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وضعت رجلي في الغرزان، قال: حسّن خلقك للناس، والرابع: إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة. انتهى.
وفي "سير النبلاء" للذهبي (هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان التركماني الدمشقي المتوفي سنة 748 هـ (ش)) في ترجمة الشيخ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح الشهير بابن حزم الظاهري الأندلسي القرطبي (سِيَر أعلام النبلاء: 18/184) المتوفى في شعبان سنة 456 هـ ست وخمسين بعد أربعمائة بعد ما ذكر مناقبة ومعائبة: وإني أنا أميل إلى محبة أبي محمد لمحبته بالحديث الصحيح، ومعرفة به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقوله في الرجال والعلل والمسائل البشعة في الأصول والفروع، وأقطع بخطئه في غير مسألة، ولكن لا أكفره، ولا أضلله، وأرجو له العفو والمسامحة، وأخضع لفرط ذكائه وسعة علمه، ورأيته ذكر قول من يقول: أجل المصنفات الموطّأ، فقال: بل أولى الكتب بالتعظيم صحيحا البخاري ومسلم، وصحيح ابن السكن، ومنتقى ابن الجارود، والمنتقى لقاسم ابن أصبغ، ثم بعدها كتاب أبي داود، وكتاب النسائي، ومصنف القاسم بن(1/75)
أصبغ، ومصنف أبي جعفر الطحاوي، قلت: ما ذكر سنن ابن ماجه ولا جامع أبي عيسى الترمزي، فإنه ما رآهما ولا أدخلا إلى الأندلس إلا بعد موته، قال: ومسند البزار، ومسند ابن أبي شيبة، ومسند أحمد بن حنبل، ومسند إسحق، ومسند الطيالسي، ومسند الحسن بن سفيان، ومسند ابن سنجر، ومسند عبد الله بن محمد المسندي، ومسند يعقوب بن شيبة، ومسند علي بن المديني، ومسند ابن أبي غرزة، وما جرى مجرى هذه الكتب التي أفردت بكلام رسول الله صرفاً، ثم الكتب التي فيها كلامه وكلام غيره، ثم مصنف عبد الرزاق، ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة، ومصنف بقيّ بن مخلد، وكتاب محمد بن نصر المروزي، وكتاب ابن المنذر الأكبر والأصغر، ثم مصنف حماد بن سلمة، وموطّأ مالك بن أنس، وموطّأ ابن أبي ذئب، وموطّأ ابن وهب، ومصنف وكيع، ومصنف محمد بن يوسف الفريابي، ومصنف سعيد بن منصور، ومسائل أحمد، وفقه أبي عبيد، وفقه أبي ثور، قلت ما أنصف ابن حزم، بل رتبة الموطّأ أن يذكر تلو الصحيحين مع سنن أبي داود النسائي (تدريب الراوي ص 54، والأجوبة الفاضلة ص 47. عدّ الجمهور الموطّأ في الطبقة الأولى من كتب الحديث منهم الإمام ولي الله الدهلوي وابنه العلامة عبد العزيز الدهلوي. مقدمة أوجز المسالك 1/32) ، لكنه تأدب، وقدم المسندات النبوية الصرفة، وإن للموطّأ لوقعاً في النفوس ومهابةً في القلوب، لا يوازيها شيء. انتهى كلام الذهبي (سِيَر أعلام النبلاء: 18/201 - 203) .
الفائدة الرابعة: قد يُتَوَهَّم التعارض بين ما مرَّ نقله عن الشافعي أن أصح الكتب بعد كتاب الله الموطّأ، وقول جمهور المحدثين أن أصح الكتب كتاب البخاري، ثم كتاب مسلم، وأن أعلى الأحاديث من حيث الأصحية ما اتفقا عليه ثم ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم، ثم ما كان على شرطهما، ثم ما كان على شرط البخاري، ثم ما كان على شرط مسلم، ثم باقي الصحاح على حسب مراتبها، ومنهم من فضل صحيح مسلم على صحيح البخاري فإن كان مراده من حيث الأصحية، فهو غلط، وأن كان من وجه آخر، فهو أمر خارج عن البحث،(1/76)
ولإبن الهمام في "فتح القدير" (3/186) حاشية الهداية كلام في هذا المقام، لكنه مدفوع بعد دقة النظر عند الأعلام، وتفصيل هذا البحث مذكور في شروح الألفية وشروح شرح النخبة ودراسات اللبيب في الأسوة الحسنة بالحبيب، وجوابه على ما في "فتح المغيث شرح ألفية الحديث" للسخاوي (هو شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي: نسبة إلى سخا قرية من أعمال مصر، تلميذ الحافظ ابن حجر، المتوفى سنة 902 هـ بالمدينة المنورة. (ش)) ، و"تدريب الراوي شرح تقريب النواوي" للسيوطي، وغيرهما أن قول الشافعي كان قبل وجود كتاب البخاري ومسلم (فتح المغيث 1/27، وتدريب الراوي 1/91) . وقال الحافظ ابن حجر في مقدمة " فتح الباري" (ص 10) نقلاً عن"مقدمة ابن الصلاح": أما ما روينا عن الشافعي أنه قال: ما أعلم في الأرض كتاباً في العلم أكثر صوابا من كتاب مالك، ومنهم من رواه بغير هذا اللفظ أصح من الموطّأ، فإنما قال ذلك قبل وجود كتابي البخاري ومسلم، ثم أن كتاب البخاري أصح الكتابين، وأكثرهما فوائد. انتهى. وقال أيضاً: قد استشكل بعض الأئمة إطلاق تفضيل البخاري على كتاب مالك مع اشتراكهما في اشتراط الصحة والتثبّت والمبالغة في التحري، وكون البخاري أكثر حديثاً لا يلزم منه أفضلية الصحة، والجواب عن ذلك أن ذلك محمول على شرائط الصحة، فمالك لا يرى الانقطاع في الإسناد قادحاً، فلذلك يخرج المراسيل والمنقطعات والبلاغات في أصل موضوع كتابه، البخاري يرى أن الانقطاع علّة، فلا يخرج ما هذا سبيله إلا في غير أصل موضوع كتابه، كالتعليقات والتراجم، ولا شك أن المنقطع وإن كان عند قوم مما يحتج به فالمتصل أقوى منه إذا اشترك رواتهما في العدالة والحفظ، فبان بذلك فضيلة صحيح البخاري، واعلم أن الشافعي إنما أطلق على الموطّأ فضيلة الصحة بالنسبة إلى الجوامع الموجودة في زمانه، كجامع سفيان الثوري ومصنف حماد بن سلمة وغير ذلك، وهو تفضيل مسلم لا نزاع فيه. انتهى.(1/77)
الفائدة الخامسة: من فضائل الموطّأ اشتماله كثيراً على الأسانيد التى حكم المحدثون عليها بالأصحية.
- وقد اختلف فيه، فقيل: أصح الأسانيد ما رواه محمد بن مسلم بن عبد الله بن شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر، عن أبيه عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهذا مذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، صرّح به ابن الصلاح، وقيل: أصحّها محمد بن سيرين، عن عبيدة بن عمرو السّلماني، عن علي بن أبي طالب، قاله علي بن المديني، وعمرو ابن علي الفلاّس. وقيل إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، قاله يحيى بن معين والنسائي. وقيل: الزهري عن زين العابدين علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب حكاه ابن الصلاح عن أبي بكرٍ بن أبي شيبة، والعراقي عن عبد الرازق، وقيل مالك عن نافع، عن ابن عمر، وهذا قول البخاري، وبه صدق العراقي كلامه وهو أمر تميل إليه النفوس، وتنجذب إليه القلوب، وبناءً على هذا قال أبو منصور عبد القاهر التميمي البغدادي: إن أجل الأسانيد: الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، لأنه لم يكن في الرواه عن مالك أجل من الشافعي، (انظر مقدمة ابن الصلاح ص 86، طبع بتحقيق الدكتور عائشة عبد الرحمن على هامشها محاسن الاصطلاح) . وبنى عليه بعضهم أن أجلَّها أحمد بن حنبل عن الشافعي عن مالك عن نافع عن إبن عمر، لكون أحمد أجلَّ من أخذ عن الشافعي، وتسمى هذه الترجمة سلسلة الذهب. وتعقب الحافظ مغلطاي أبا منصور التميمي في ذكره الشافعي، برواية أبي حنيفة، عن مالك إن نظرنا إلى الجلالة، وابن وهب والقَعْنَبِي إن نظرنا إلى الإتقان، وقال البلقيني في "محاسن الإصطلاح" (ص 86) : أما أبو حنيفة، فهو وإن روى عن مالك كما ذكره الدارقطني، لكن لم تشتهر روايته عنه كاشتهار رواية الشافعي، وقال العراقي: رواية أبي حنيفة عن مالك فيما ذكره الدارقطني في (غرائبه) ليست من روايته عن نافع ابن عمر، والمسألة مفروضة في ذلك، نعم ذكر الخطيب حديثا كذلك في روايته عن مالك، وقال الحافظ ابن حجر: أما اعتراضه(1/78)
بأبي حنيفة فلا يحسن، لأن أبا حنيفة لم يثبت روايته عن مالكك، وإنما أوردها الدارقطني ثم الخطيب لروايتين وقعتا لهما عنه، بإسنادين فيهما مقال، وأيضاً فإن رواية أبي حنيفة عن مالك إنما هي فيما ذكره في المذاكرة، ولم يقصد الرواية عنه كالشافعي الذي لازمه مدة طويلة، وقرأ عليه الموطأ بنفسه. وأما اعتراضه بابن وهب والقَعنَبي (ينسب إلى جده قعنب - بفتح القاف وسكون العين وفتح النون - وهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسلمة، أحد رواة الموطّأ عن مالك، توفي بالبصرة سنة 221 هـ) ، فلا شك أن الشافعي أعلم منهما، وقال غير واحد: إن ابن وهب غير جيد التحمُّل، فيحتاج إلى صحة النقل عن أهل الحديث أنه كان أتقن الرواية عن مالك، نعم كان كثير اللزوم به. انتهى ملخّصاً. وقيل: أصح الأسانيد شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب يعني عن شيوخه، وقيل: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عائشة، ذكره الخطيب عن ابن معين، وقيل يحيى بن أبي كثير بن أبي سلمة عن أبي هريرة، قاله سليمان بن داود الشاذكوني، وقيل: أيوب عن نافع عن ابن عمر، رواه خلف بن هشام البزار عن أحمد، وقيل: شعبة عن عمرو بن مرة عن مرة عن أبي موسى الأشعري نقله الخطيب عن وكيع، وقيل: سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود، قاله ابن مبارك والعجلي. هذا ما في "تدريب السيوطي" (انظر تدريب الراوي ص 74 - 77) و "شرح شرح نخبة الفكر" لملاّ أكرم السندي (ص 50 - 51) . وفي المقام تفصيل ليس هذا موضع ذكره.
الفائدة السادسة: قال السيوطي: في "تنوير الحوالك" (ص 1/10 - 12) : الرواة عن مالك فيهم كثرة جداً بحيث لا يعرف لأحد من الأئمة رواة كرواته، وقد أفرد الحافظ أبو بكر الخطيب كتاباً في الرواة عن مالك، أورد فيه ألف رجل إلا سبعة، وذكر القاضي عياض أنه ألف في رواته كتاباً، وذكر فيه نيفاً على ألف اسم وثلاثمائة، وأما الذين رووا عنه الموطّأ، فعقد لهم القاضي في المدارك باباً، وسمّى منهم غير الأربعة المشهورين -(1/79)
وسيأتي ذكرهم - الشافعي، ومطرف بن عبد الله، وعبد الله بن عبد الحكم، وبكار بن عبد الله الزبيري، ويحيى بن يحيى النيسابوري، وزياد بن عبد الله الأندلسي، وسبطون (هكذا في الأصل، والصحيح شبطون بشين معجمة موحدة وطاء مهملة: شرح الزرقاني 1/6) بن عبد الله الأندلسي، ومحمد بن شروس الصنعاني، وأبا قرة السكسكي، وأبا (في الأصل: "أبو فلان"، وهو تحريف) فلان السهمي البغدادي، وأحمد بن منصور النامزاني، وقتيبة بن سعيد وعتيق بن يعقوب الزبيري، وأسد بن الفرات القروي، وإسحق بن عيسى الطباع، وبديرةَ المغني البغدادي، وحفص بن عبد السلام الأندلسي وأخاه حسان، وحبيب بن أبي حبيب، وخلف بن جرير بن فضالة، وخالد بن نزارة الإيلي، والغازي بن قيس الأندلسي، وقرعوس بن العباس الأندلسي، ومحرزّ المدني، وسعيد ابن عبد الحكم الأندلسي، وسعيد بن أبي هند الأندلسي، وسعيد بن عبدوس الأندلسي، وعبد الأعلى بن مسهر الدمشقي، وعبد الرحيم بن خالد المصري، وإسماعيل بن أبي أويس وأخاه أبا بكر، وعلي بن زياد التونسي، وعباس بن ناصح الأندلسي، وعيسى بن شجرة التونسي، وأيوب بن صالح المدني، وعبد الرحمن بن هند الطليطلي (في الأصل: "الطيطلي"، وهو تحريف) ، وعبد الرحمن بن عبد الله الأندلسي، وعبيد بن حبان الدمشقي، وسعيد بن داود المدني، قال القاضي: فهؤلاء الذين حقّقنا أنهم رووا عنه الموطّأ، ونص على ذلك أصحاب الأثر والمتكلمون في الرجال، وقد ذكروا أيضاً أن محمد بن عبد الله الأنصاري البصري أخذ الموطّأ عنه كتابةً، وإسماعيل بن إسحق أخذه مناولة، وأما القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة فرواه عن رجل عنه، وذكروا أن هارون الرشيد وبنيه الأمين والمأمون والمؤتمن أخذوا عنه الموطّأ، وقد ذكر عن المهدي والهادي أنهما سمعا منه ورويا عنه، ولا مرية في أن رواة الموطّأ أكثر من هؤلاء، ولكن إنما ذكرنا منهم من بلغنا نصاً سماعه منه وأخذه له عنه، أو من اتصل إسنادنا له فيه منه، والذي اشتهر من نسخ الموطّأ عنه مما رويته أو وقفت عليه، أو كان في رواية شيوخنا أو نقل منه أصحاب اختلافات الموطّآت(1/80)
نحو عشرين نسخة، وذكر بعضهم أنها ثلاثون، وقد رأيت الموطأ برواية محمد بن حميد بن عبد الرحيم بن سروس الصنعاني عن مالك، وهو غريب ولم يقع لأصحاب اختلاف الموطَّآت. هذا كله كلام القاضي (تنوير الحوالك: ص 9) . وذكر الخطيب ممن روى عن مالك الموطأ: إسحاق بن موسى الموصلي مولى بني مخزوم. وقال الخليلي في الإرشاد وقال أحمد بن حنبل كنت سمعت الموطأ من بضعة عشر رجلا من حفاظ أصحاب مالك فأعدته على الشافعي لأني وجدته (في الأصل وجدت والظاهر وجدته) أقومهم وقال أبو بكر بن خزيمة: سمعت نصر بن مرزوق يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: وسألته عن رواة الموطأ، فقال أثبت الناس في الموطأ عبد الله بن مسلمة القعنبي، وعبد الله بن يوسف التنّيسي بعده، قال الحافظ: وهكذا أطلق المديني والنسائي، وقال أبو حاتم أثبت أصحاب مالك وأوثقهم معن بن عيسى. وقال بعض الفضلاء: اختار أحمد في "مسنده" رواية عبد الرحمن بن مهدي، والبخاري رواية عبد الله بن يوسف التِّنِّيسي، ومسلم رواية يحيى بن يحيى التميمي النيسابوري، وأبو داوود رواية القعنبي، والنسائي رواية قتيبة بن سعيد. قلت: يحيى المذكور ليس هو صاحب الرواية المشهورة، وهو يحيى بن يحيى بن بكير بن عبد الرحمن النيسابوري أبو زكريا مات سنة ستة وعشرين ومائتين في صفر، وأما يحيى صاحب الرواية المشهورة فهو يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس أبو محمد الليثي الأندلسي مات في رجب سنة أربع وثلاثين ومئتين. انتهى ملخصاً.
الفائدة السابعة: [نسخ الموطأ]
- قد أورد بعض أعيان دهلي (هو الشيخ عبد العزيز المحدث الدهلوي المتوفي 1239 هجري. في الاصل: "الدهلي"، وهو تحريف) في كتابه "بستان المحدثين" المؤلف باللسان الفارسي في ذكر حال الموطَّأ، وترجمة مؤلِّفه، واختلاف نسخه، تفصيلاً حسناً. وخلاصة ما ذكره فيه معرّباً أن نسخ الموطأ التي توجد في ديار العرب في هذه الأيام متعددة.(1/81)
النسخة الأولى: المروجة في بلادنا، المفهومة من الموطَّأ عند الإطلاق في عصرنا، هي نسخة يحيى بن يحيى المصمودي (انظر ترجمته في الإنتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء ص 58 60، وشذرات الذهب 2/83) ، هو أبو محمد يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس بفتح الواو وسكون السين المهملة، ابن شملل، بفتح الشين المعجمة والللام الأولى بينهما ميم، ابن منقايا، بفتح الميم وسكون النون، المصمودي، بالفتح نسبة إلى مصمودة، قبيلة من بربر وأول من أسلم من أجداده منقايا على يد يزيد بن عامر الليثي، وأول من سكن الأندلس منهم جده كثير، وأخذ يحيى الموطّأ أولاً من زياد بن عبد الرحمن بن زياد اللخمي المعروف بالشبطون، وكان زياد أول من أدخل مذهب مالك في الأندلس، ورحل إلى مالك للإستفادة مرتين، ورجع إلى وطنه واشتغل بإفادة علوم الحديث، وطلب منه أمير قرطبة قبول قضاء قرطبة فامتنع، وكان متورعاً زاهداً مشاراً إليه في عصره، وفاته في السنة التي مات فيها الإمام الشافعي، وهي سنة أربع ومائتين، وارتحل يحيى إلى المدينة، فسمع الموطّأ من مالك بلا واسطة إلا ثلاثة أبواب من كتاب الإعتكاف: باب خروج المعتكف إلى العيد، وباب قضاء الاعتكاف، وباب النكاح في الاعتكاف، وكانت ملاقاته وسماعه في السنة التي مات فيها مالك، يعني سنة تسع وسبعين بعد المائة، وكان حاضراً في تجهيزه وتكفينه، وأخذ الموطّأ أيضاً من أجل تلامذة مالك عبد الله بن وهب وأدرك كثيراً من أصحابه، وأخذ العلم عنهم، ووقعت له رحلتان من وطنه، ففي الأولى أخذ عن مالك، وعبد الله بن وهب، وليث بن سعد المصري، وسفيان بن عيينة، ونافع بن نعيم القاري وغيرهم، وفي الثانية أخذ العلم والفقه عن ابن القاسم صاحب المدونة من أعيان تلامذة مالك، وبعدما صار جامعاً بين الرواية والدراية عاد إلى أوطانه وأقام بالأندلس يدرس ويفتي على مذهب مالك، وبه وبعيسى بن دينار تلميذ مالك انتشر مذهبه في بلاد المغرب، وكانت وفاة يحيى في سنة أربعة وثلاثين بعد المائتين، وأول نسخته بعد البسملة، "وقوت الصلاة"، مالك ابن شهاب، أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوماً، فدخل عليه عروة بن الزبير فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوماً، وهو(1/82)
بالكوفة، فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري، فقال: ما هذا يا مغيرة؟ أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى معه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ صلى ... الحديث.
النسخة الثانية: نسخة ابن وهب (أنظر ترجمته في: ترتيب المدارك 2/ 421، تهذيب التهذيب 6/73، الديباج المذهب 133، طبقات الحفاظ ص 126) : أولها: أخبرنا مالك عن أبي الزناد، وعن الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ... الحديث، وهذا الحديث من متفردات ابن وهب، ولا يوجد في الموطآت الأُخر إلاّ موطأ ابن القاسم. وهو أبو محمد عبد الله بن سلمة الفهري المصري، ولد في ذي القعدة سنة خمس وعشرين بعد مائة، وأخذ عن أربع مائة شيخ، منهم مالك، وليث بن سعد، ومحمد بن عبد الرحمن، والسفيانان وابن جريج، وغيرهم، وكان مجتهداً لا يقلد أحداً، وكان تعلم طريق الاجتهاد والتفقه من مالك وليث، وكان في عصره كثير الرواية للحديث، وذكر الذهبي وغيره أنه وجد في تصانيفه مائة ألف حديث وعشرون ألف من رواياته، ومع هذا لا يوجد في أحاديثه منكر فضلاً عن ساقط وموضوع، ومن تصانيفه كتاب مشهور بجامع ابن وهب، وكتاب المناسك وكتاب المغازي، وكتاب تفسير الموطأ، وكتاب القدر وغير ذلك، وكان صنف كتاب أهوال القيامة، فقُرئ عليه يوماً، فغلب عليه الخوف، حتى عرض له الغشي، وتوفي في تلك الحالة يوم خامس شعبان سنة سبع وتسعين بعد مائة.
النسخة الثالثة: نسخة ابن القاسم، ومن متفرداتها: مالك عن العلاء بن عبد الرحمن، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله: من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري فهو له كلّه، أنا أغنى الشركاء". قال أبو عمر بن عبد البر: هذا الحديث لا يوجد إلا في موطأ ابن القاسم وابن عفير.
وهو أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم بن خالد المصري (انظر ترجمته في: وفيات الاعيان 1/276، الديباج المذهب 146، حسن المحاضرة 1/303، تذكرة الحفاظ 1/356، طبقات السيوطي 148.) ، ولد سنة(1/83)
اثنتين وثلاثين بعد مائة، أخذ العلم عن كثير من الشيوخ منهم مالك، وكان زاهداً، فقيهاً، متورعاً، كان يختم القرآن كل يوم ختمتين، وهو أول من دون مذهب مالك في"المدونة" وعليها اعتمد فقهاء مذهبه، وكانت وفاته في مصر سنة إحدى وتسعين بعد مائة.
النسخة الرابعة: معن بن عيسى، ومن متفرداتها: مالك، عن سالم أبي النضر، عن أبي سلمة، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم يصلي من الليل، فإذا فرغ من صلاته، فإن كنت يقظانة تحدث معي، وإلاّ اضطجع حتى يأتيه المؤذن.
وهو أبو يحيى معن (له ترجمة في: الانتقاء لابن عبد البر ص 61، تهذيب التهذيب 10/ 252، والديباج 347) ، بالفتح، ابن عيسى بن دينار المدني القّزاز، يعني بائع القز، الأشجعي، مولاهم، من كبار أصحاب مالك، ومحققيهم، ملازماً له، ويقال له: عصا مالك، لأن مالك كان يتكئ عليه حين خروجه من المسجد بعدما كبر وأسن، وتوفي بالمدينة سنة ثمانية وتسعين ومائة في شوال.
النسخة الخامسة: نسخة القعنبي، ومن متفرداتها: أخبرنا مالك عن ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تُطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبده ورسوله.
وهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسلمة بن قعنب الحارثي القعنبي (له ترجمة في: تذكرة الحفاظ 1/ 383، والديباج المذهب 131، والعبر 1/382) ، بفتح القاف وسكون العين، نسبة إلى جده. كان أصله من المدينة، وسكن البصرة، ومات بمكة، في شوال سنة إحدى وعشرون بعد المائتين، وكانت ولادته بعد ثلاثين ومائة، وأخذ عن مالك والليث وحماد وشعبة وغيرهم، قال ابن معين: ما رأينا من يحدث لله إلا وكيعاً، والقعنبي، له فضائل جمّة، وكان مجاب الدعوات، وعُدّ من الأبدال.(1/84)
النسحة السادسة: نسخة عبد الله بن يوسف (له ترجمة في: تهذيب التهذيب 6/88، تقريب التهذيب 1/463) الدمشقي الأصل التِّنِّيسي المسكن إلى تنّيس، بكسر التاء المثناة الفوقية وكسر النون الممشددة بعدها ياء مثناة تحتية آخره سين مهملة، بلدة من بلاد المغرب، وذكر السمعاني أنها من (في الأصل: "من بلاد"، وهو خطأ) بلاد مصر. وثقه البخاري وأبو حاتم، وأكثر عنه البخاري في كتبه، ومن متفرداتها إلاَّ بالنسبة إلى موطّأ ابن وهب: مالك عن ابن شهاب عن حبيب مولى عروة عن عروة: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ... الحديث.
النسخة السابعة: نسخة يحيى بن يحيى بن بكير أبو زكريا المعروف بابن بكير المصري (له ترجمة في: تذكرة الحفاظ 2/420، حسن المحاضرة 1/437، شذرات الذهب 2/71) ، أخذ عن مالك والليث وغيرهما، وروى عنه البخاري ومسلم بواسطة في صحيحيهما، ووثقه جماعة، ومن لم يوثقه لم يقف على مناقبه، مات في صفر سنة إحدى وثلاثين بعد المائتين. ومن متفرداتها: مالك عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَمْرَةَ، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه ليورثنّه". قلت: هذا الحديث موجود في موطّأ محمد أيضاً برواية مالك عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن حزم، عن عمرة، عن عائشة كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى (رقم الحديث 935) .
النسخة الثامنة: نسخة سعيد بن عفير (له ترجمة في: تذكرة الحفاظ 2/427، وتهذيب النهذيب 4/74، وميزان الاعتدال 2/155) ، وهو سعيد بن كثير بن عفير بن مسلم الأنصاري، أخذ عن مالك والليث وغيرهما، وروى عنه البخاري وغيره، ولد سنة ست وأربعين بعد مائة، توفي في رمضان سنة ست وعشرين بعد المائتين. ومن متفرداتها: مالك عن ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ ثابت بن قيس بن شمّاس، عن جده، أنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْتُ، قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: نَهَانَا الله أن نُحمَد بما لم نفعل، وأجدني أحب أن نحمد ... الحديث. قلت: هذا موجود في موطّأ محمد أيضاّ.(1/85)
النسخة التاسعة: نسخة أبو مصعب الزهري (له ترجمة في: شذرات الذهب 2/100، والانتقاء ص 62، وترتيب المدارك 3/347) ، أحمد بن أبي بكر القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، من شيوخ أهل المدينة وقضاتها، ولد سنة خمسين مائة، ولازم مالكاً وتفقَّه، وأخرج عنه أصحاب الكتب الستة إلاَّ أن النسائي روى عنه بواسطة، توفي في رمضان سنة اثنتين وأربعين بعد المائتين، وقالوا موطّأه آخر الموطآت التي عرضت على مالك، ويوجد في موطّئه وموطّأ أبو حذافة السهمي نحو مائة حديث زائداً على الموطّأت الأخر، ومن متفرداتها: مالك عن هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرقاب أيها أفضل؟ قال: أغلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها. وقال ابن عبد البر: هذا الحديث موجود في موطّأ يحيى أيضاً.
النسخة العاشرة: نسخة مصعب بن عبد الله الزبيري (له ترجمة في: ترتيب المدارك 3/170 - 172، توفي سنة 236 هـ، وطبقات ابن سعد 5/439) ، قال بعضهم من متفرداتها: مالك عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأَصْحَابِ الْحِجْر: "لا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاءِ الْقَوْمِ المعذّبين الإ أن تكونوا باكين ... " الحديث، وقال ابن عبد البر: هذا موجود في موطّأ يحيى بن بكير وسليمان أيضاً، قلت: وفي موطّأ محمد أيضاً.
النسخة الحادية عشر: نسخة محمد بن مبارك الصوري (له ترجمة في: تهذيب التهذيب 9/424، تقريب التهذيب 1/204) .
النسخة الثانية عشرة: نسخة سليمان بن برد (له ترجمة في: ترتيب المدارك 2/460) .
النسخة الثالثة عشرة: نسخة أبي حذافة السهمي أحمد بن إسماعيل (تهذيب التهذيب 1/16، وميزان الاعتدال 1/83) ، آخر أصحاب مالك موتاً، كانت وفاته ببغداد سنة تسع وخمسين بعد المائتين يوم عيد الفطر، لكنه لم يكن معتبراً في الرواية، ضعّفه الدارقطني وغيره.(1/86)
النسخة الرابعة عشرة: نسخة سويد بن سعيد أبي محمد الهروي (تهذيب التهذيب 4/272) ، روى عنه مسلم وابن ماجه وغيرهما، وكان من الحفاظ المعتبرين، مات سنة أربعين بعد المائتين، ومن مفرداتها: مالك عن هشام عن عروة، عن أبيه، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يقبض العلم إنتزاعاً.." الحديث.
النسخة الخامسة عشر: نسخة محمد بن حسن الشيباني تلميذ الإمام أبي حنيفة، ومن مفرداته على ما سيأتي ذكره حديث "إنما الأعمال بالنية". هذا خلاصة ما في "البستان" مع زيادات عليه. وقد ذكر في "البستان" أيضا.
النسخة السادسة عشر: وهي نسخة يحيى بن يحيى التميمي، وقال إنّ آخر أبوابه باب ما جاء في أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، وقال فيه مالك، عن ابن الشهاب، عن محمد بن جببير بن مطعم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لي خمسة أسماءٍ: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب.
وهو يحيى بن يحيى بن بكير بن عبد الرحمن التميمي الحنظلي النيسابوري المتوفَّي سنة اثنتين وعشرين بعد المائتين (قال الحافظ في تهذيب التهذيب 11/296: مات في آخر صفر سنة ست وعشرين بعد المائتين. وله ترجمة في المدارك 2/408، والديباج 349، والانتقاء ص 13، وتذكرة الحفاظ 2/415. قال السيوطي في "االتنوير": ويحيى بن يحيى هذا ليس هو صاحب الرواية المشهورة الآن. مقدمة "أوجز المسالك" 1/39) ، روى عنه البخاري ومسلم وغيرهما. قلت: هذا هو آخر (أي آخر أبواب نسخة المصمودي أيضاً) نسخة المصمودي الأندلسي المتعارفة في ديارنا وشرح عليها الزرقاني وغيره كما لا يخفى على من طالعه. وقد ذكر السيوطي في "تنوير الحوالك" (1/10) أربعة عشر نسخة، حيث قال في(1/87)
مقدمة "تنوير الحوالك": قال الحافظ صلاح الدين العلائي: روى الموطأ عن مالك جماعات كثيرة، وبين رواياتهم اختلاف في تقديم وتأخير، وزيادة ونقص، وأكثرها زيادةً رواية القعنبي، ومن أكبرها وأكثرها زيادة رواية أبي مصعب، فقد قال ابن حزم: في موطأ أبي مصعب زيادة عن سائر الموطآت نحو مائة حديث، وقال الغافقي في "مسند الموطأ" أي أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد الفقيه المالكي، المتوفي سنة إحدى وثمانين بعد ثلاث مائة (تزين الممالك ص 48، الديباج المذهب ص 148) : اشتمل كتابنا هذا على ستة مائة حديث وستة وستين حديثا، وهو الذي انتهى إلينا من مسند موطأ مالك، وذلك أني نظرت الموطأ من ثنتي عشرة رواية رويت عن مالك وهي رواية عبد الله بن وهب، وعبد الرحمن بن القاسم، وعبد الله بن مسلمة القعبني، وعبد الله بن يوسف التّنيسي، ومعن بن عيسى، وسعيد بن عفير، ويحيى بن عبد الله بن بكير، وأبي مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري، ومصعب عبد الله الزبيري، ومحمد بن المبارك الصوري، وسليمان بن برد، ويحيى بن يحيى الأندلسي، فأخذت الأكثر من رواياتهم، فذكرت اختلافهم في الحديث والألفاظ، وما أرسله بعضهم، أو أوقفه، وأسنده غيرهم، وما كان من المرسل اللاحق بالمسند وعدة رجال مالك الذين روى عنهم في هذا المسند خمسة وتسعون، وعدة من روي له فيه من رجال الصحابة خمسة وثمانون رجلاً، ومن نسائهم ثلاث وعشرون إمرأ ةً، ومن التابعين ثماني وأربعون رجلاً، كلهم من أهل المدينة إلا ستة رجالٍ: أبو الزبير من أهل مكة، وحميد الطويل وأيوب السختياني من أهل البصرة، وعطاء بن عبد الله من أهل خراسان، وعبد الكريم من أهل الجزيرة، وإبراهيم بن أبي عبلة من أهل الشام،. هذا كله كلام الغافقي.
قلت: وقد وقفت على الموطأ من روايتين أخريين سوى ما ذكره الغافقي، أحدهما: رواية سويد بن سعيد، والأخرى برواية محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، وفيها أحاديث يسيرة زائدة على سائر الموطآت، منها حديث "إنما الأعمال بالنية"، وبذلك تبين صحة قول ما عزا روايتة إلى الموطّأ، ووهم من(1/88)
خطّأه في ذلك، وقد بنيت في "الشرح الكبير" على هذه الروايات الأربعة عشر. انتهى كلام السيوطي.
قال الزرقاني في مقدمة شرحه (1/6) بعد نقل قوله: وفيها أحاديث يسيرة ... إلخ: مراده الرد على قول "فتح الباري": هذا الحديث متفق على صحته، أخرجه الأئمة المشهورون إلا صاحب الموطأ (في الأصل: "إلا الموطأ"، وهو خطأ) ، ووهم من زعم أنه في الموطأ مغتراً بتخريج الشيخين له، والنسائي بطريق مالك. انتهى. وقال في "منتهى الأعمال": لم يهم، فإنه وإن لم يكن في الروايات الشهيرة، فإنه في رواية محمد بن الحسن، أورده في آخر "كتاب النوارد" قبل آخر الكتاب بثلاث ورقات، وتاريخ النسخة التي وقفت عليها مكتوبة في صفر سنة أربع وخمسين وخمسمائة، وفيها أحاديث يسيرة زائدة عن الروايات المشهورة، وهي خالية من عدة أحاديث ثابتة في سائر الروايات. وانتهى كلام الزرقاني.
وفي "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" (لمصطفى بن القسطنطيني عبد الله الشهير بملاّ كاتب الجلبي المتوفي سنة 1067 هجري. (ش)) : قال أبو القاسم محمد بن حسين الشافعي (كشف الظنون 2/1908) : الموطآت المعروفة عن مالك إحدى عشر معناها متقارب، والمستعمل منها أربعة: موطأ يحيى بن يحيى، وابن بكير، وأبي مصعب الزهري، وابن وهب، ثم ضعف الإستعمال إلا في موطأ يحيى، ثم في موطأ ابن بكير. وفي تقديم الأبواب وتأخيرها اختلاف في النسخ، وأكثر ما يوجد فيها ترتيب الباجي، وهو أن يعقب الصلاة بالجنائز ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم اتفقت النسخ إلى الحج، ثم اختلفت بعد ذلك، وقد روى أبو نعيم في "حلية الأولياء" عن مالك أنه قال: شاوَرَني هارون الرشيد في أن يعلّق الموطأ على الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه، فقلت: لا تفعل، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكلٌّ مصيب، فقال: وفقك الله يا أبا عبد الله. وروى(1/89)
ابن سعد في"الطبقات" عن مالك أنه لما حجّ المنصور قال لي: عزمت على أن آمر بكتبك هذة التي وضعتها، فتُنسخ، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوا إلى غيرها فقلت لا تفعل هذا فإن الناس قد سبقت إليهم الأقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، ودانوا به، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم. كذا في عقود الجمان. انتهى.
الفائدة الثامنة: [عدد أحاديثه]
- قال الأبهري أبو بكر: جملة ما في الموطّأ من الآثار، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ الصحابة والتابعين ألف وسبعمائة وعشرون حديثاً المسند منها ستمائة حديث، والمرسل مائتان واثنان وعشرون، والموقوف ستمائة وثلاثة عشر، ومن قول التابعين مائتان وخمسة وثمانون. وقال ابن حزم في كتاب "مراتب الديانة" أحصيت ما في موطّأ مالك، فوجدت من المسند خمسمائة ونيفاً، وفيه ثلاث مائة ونيف مرسلاً، وفيه نيف وسبعون حديثاً قد ترك مالك نفسه العمل بها، وفيه أحاديث ضعيفة وهّاها جمهور العلماء. كذا أورده السيوطي (تنوير الحوالك 1/8) .
قلت: مراده بالضعف الضعف اليسير كما يعلم مما قد مر، وليس فيه حديث ساقط ولا موضوع كما لا يخفى على الماهر.
الفائدة التاسعة: في ذكر من علق على موطّأ الإمام مالك.
- لا يخفى أنه لم يزل هذا الكتاب مطرحاً لأنظار النبلاء، ومعركة لآراء الفضلاء، فكم من شارح له، ومحشٍّ، وكم من ملخص له، ومنتخب.
- فمنهم أبو محمد عبد الله بن محمد بن السّيد بكسر السين البطليوسي المالكي نزيل بلنسية، ذكره أبو نصر الفتح بن محمد بن عبد الله بن خاقان - المتوفى سنه خمس وثلاثين وخمسمائة على ما في "روضة المناظر في أخبار الأوائل والأواخر"، لمحمد بن الشحنة الحلبي - في كتابه "قلائد(1/90)
العقيان" (ص 221) . وبالغ في وصفه بعبارات رائقة كما هو دأبه في ذلك الكتاب، وذكر له كثيراً من النظم والنثر يدل على جودة طبعه وقوة بلاغته، وقال السيوطي أحد شراح الموطّأ - وسيأتي ذكره - في "بغية الوعاة في طبقات النحاة" في ترجمته: كان عالماً باللغات والآداب، متّبحراً فيهما، انتصب لإقراء علم النحو، وله يد طولى في العلوم القديمة، وكان لابن الحجاج صاحب قرطبة ثلاثة من الأولاد من أجمل الناس صورة، رحمون وعزون وحسون، فأولع بهم، وقال فيهم:
أخفيت سقمي حتى كاد يخفيني * وهمت في حب عزون فعزوني
ثم ارحموني برحمون فإن ظمئت * نفسي إلى ريق حسون فحسوني
ثم خاف على نفسه، فخرج من قرطبة، صنّف: 1 - شرح أدب الكاتب، 2 - شرح الموطّأ، 3 - شرح سقط الزند، 4 - شرح ديوان المتنبي، 5 - إصلاح الخلل الواقع في الجمل، 6 - الخلل في شرح أبيات الجمل، 7 - المثلث، 8 - المسائل المنثورة في النحو، 9 - كتاب سبب اختلاف الفقهاء، ولد سنة أربع وأربعين وأربعمائة، ومات في رجب سنة إحدى عشرة وخمسمائة. ومن شعره:
أخو العلم حيٌّ خالد بعد موته * وأوصاله تحت التراب رميم
وذو الجهل ميت وهو ماشٍ على الثرى * يُظَنّ من الأحياء وهو عديم
انتهى ملخصاً.
ونسبته إلى بطليوس: بفتح الباء الموحدة والطاء المهملة وسكون اللام وضم الياء المثناة التحتية بعدها واو بعدها سين مهملة: مدينة بالأندلس، وهو بفتح الألف وسكون النون وفتح الدال المهملة وضم اللام آخره سين مهملة، إقليم بلاد المغرب، مشتمل على بلاد كثيرة، كذلك ذكره أبو سعد السمعاني (هو أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور بن محمد بن عبد الجبار المتوفي سنة 563 هجري (ش)) في كتاب(1/91)
"الأنساب" (2/241، 242) ، والسيوطي في "لب اللباب في تحرير الأنساب" (1/ 160) . وذكر السيوطي في مقدمة شرحه "تنوير الحوالك" نقلا عن القاضي عياض أن اسم شرح البطليوسي "المقتبس". وقال: هو، في حواشيه على تفسير البيضاوي المسماة بنواهد الأبكار وشواهد الأفكار، في تفسير سورة البقرة: قد رأيت في "تذكرة الإمام تاج الدين" مكتوباً بخطه: قال الإمام أبو محمد عبد الله بن السيد البطليوسي في كتاب "المقتبس شرح موطأ مالك بن أنس": قد اختلف الناس في معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "اشتكت النار إلى ربِّها"، فجعله قوم حقيقة، وقالوا: إن الله قادر على أن ينطق كل شيء إذا شاء، وحملوا جميع ما ورد من نحوه في القرآن والحديث على ظاهره، وهو الحق والصواب، وذهب قوم إلى أن هذا كلَّه مجاز، وما تقدم هو الحق من حمل الشيء على ظاهره حتى يقوم دليل على خلافه، هذا لفظه بحروفه، مع أن البطليوسي المذكور كان من الأئمة المتبحرين في المعقولات والعلوم الفلسفية والتدقيقات، وهؤلاء هم الذين يقولون بالتأويل وإخراج الأحاديث عن ظواهرها، ويرون أن ذلك من التحقيق والتدقيق، انتهى كلامه.
- ومنهم: ابن رشيق القَيرواني المالكي المتوفّي سنة 456 هجري ذكره صاحب "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون"، وهو العلامة البليغ الشاعر أبو علي حسن بن رشيق، على وزن كريم، صاحب "العمدة في صناعة الشعر" و "الأنموذج في شعراء القيروان"، و "والشذوذ في اللغة"، قال ياقوت: كان شاعراً نحويا لغوياً أديباً حاذقاً، كثير التصنيف حسن التأليف، تأدب على محمد بن جعفر القيرواني النحوي، ولد سنة تسعين وثلاث مائة، ومات بالقيروان سنة ست وخمسين وأربع مائة. كذا في بغية الوعاة (2/109) . وذكره أبو عبد الله الذهبي في "سير النبلاء" (18 /325) ، وقال علمه أبوه صناعة الشعر، فرحل إلى قيروان، ومدح ملكها، فلما أخذته العرب واستباحوه دخل إلى صقلية، وسكن مازرا (من مدن صقلية "معجم البلدان" 5/ 40) إلى أن مات سنة ثلاث(1/92)
وستين وأربعمائة، ويقال: في ذي القعدة سنة ست وخمسين (وقد صحح ابن خلكان القول الأول، أما الثاني فقد قاله ياقوت في "معجمه" 8/ 111، وذكر أنه مات بالقيروان وتابعه على ذلك السيوطي في "بغية الوعاة" 2/ 109، وقال القفطي في "أنباه الرواة" 1/ 303، مات بمأزر في حدود سنة خمسين وأربعمائة) . انتهى.
ونسبته إلى القيروان، قال السمعاني (5/ 130) : بفتح القاف وسكون الياء المنقوطة باثنتين من تحت وفتح الراء المهملة والواو، في آخرها النون، بلدة في المغرب عند إفريقية.
- ومنهم: أبو مروان عبد الملك بن حبيب بن سليمان القرطبي نسبة إلى قرطبة: بضم القاف والطاء المهملة بينهما راء مهملة ساكنة، مدينة بالأندلس، المالكي (له ترجمة في: الديباج المذهب 154، ومرآة الجنان 2/122، وطبقات السيوطي 237)
قال السيوطي في "البغية" (2/109) ذكره الزبيدي في الطبقة الثانية من نحاة اندلس، وقال في "البلغة": إمام في النحو واللغة والفقه والحديث، وقال ابن الفرضي: كان نحوياً شاعراً حافظاً للأخبار والأنساب متصرفاً في فنون العلم حافظاً للفقه ولم يكن له في الحديث ملكة ولا يعرف صحيحه من سقيمه، صنف "الواضحة" و"إعراب القرآن" و"غريب الحديث" و"تفسير الموطأ" و"طبقات الفقهاء" وغير ذلك، مات سنة ثمان، وقيل سنة تسع وثلاثين ومائتين عن أربع وستين سنة. انتهى.
- ومنهم: الحافظ ابن عبد البرّ قد طالعت شرحه "الاستذكار" وهو نفيس جداً، يستحسنه الأخيار، مبسوط كاف مع اختصاره وبسيط واف مغن عن غيره، وقد بسط في ترجمته شيخ الإسلام الذهبي في "سير النبلاء" و"تذكرة الحفاظ" وغيرهما، وغيره في غيره، ولم يزل من جاء بعده من المحدثين يقرون بفضله، ويستمدون من تصانيفه. قال في "سير النبلاء" (سير أعلام النبلاء 18/153) : الإمام العلامة حافظ المغرب شيخ الإسلام أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري(1/93)
الأندلسي القرطبي المالكي، صاحب التصانيف الفائقة، مولده سنة ثمان وستين وثلاث مائة في الربيع الآخر، وقيل: في جمادى الأولى، وطلب العلم بعد سنة 390 هـ، وأدرك الكبار، وطال عمره، وعلا سنده وتكاثر عليه الطلبة، وجمع وصنف، ووثق وضعَّف، وسارت بتصانيفه الركبان، وخضع لعلمه علماء الزمان، وكان فقيهاً، عابداً، متهجِّداً، إماماً ديِّناً، ثقة، متقناً، علاّمة، متبحراً، صاحب سنة واتباع، وكان أولاً أثرياً ظاهراً فيما قيل، ثم تحولّ مالكياً مع ميل بيِّن إلى فقه الشافعي في مسائل، ولا ينكر له ذلك، فإنه ممن بلغ رتبة الأئمة المجتهدين، ومن نظر في مصنفاته بان له منزلته من سعة العلم وقوة الفهم وسيلان الذهن. وقال الحميدي: فقيه حافظ مكثر عالم بالقراآت والخلاف، وبعلوم الحديث والرجال. وقال أبو علي الغساني: لم يكن أحد ببلدنا في الحديث مثل قاسم بن محمد وأحمد بن خالد، ولم يكن ابن عبد البر بدونهما، وكان من النمر بن قاسط طلب، وتقدم ولزم أبا عمر أحمد بن عبد الملك الفقيه وأبا الوليد بن الفرضي، ودأب في الحديث وبرع براعة فاق بها من تقدم من رجال الأندلس، وكان مع تقدمه في علم الأثر وبصره بالفقه والمعاني له بسطةٌ كثيرةٌ في علم النسب والأخبار، جلا عن وطنه، فكان في المغرب مدة، ثم تحول إلى شرق الأندلس فسكن دانية وبلَنسِية وشاطبية (كذا في الأصل: وفي "سير أعلام النبلاء": "شاطبية"، قال ياقوت: هي مدينة في شرقي الأندلس وشرقي قرطبة، وهي مدينة كبيرة قديمة، يجوز أن يقال إن اشتقاقها من الشطبة، وهي السعفة الخضراء الرطبة") وبها توفي (انظر "الصلة" 2/ 678، و"وفيات الأعيان" 7/66 - 66) . وقال أبو داود المقرئ: مات ليلة الجمعة سلخ الربيع الآخر سنة ثلاث وستين وأربعمائة. قال أبو علي الغساني، ألف أبو عمر في "الموطّأ" كتباً مفيدة، منها: كتاب "التمهيد لما في الموطّأ من المعاني والأسانيد"، فرتبّه على أسماء شيوخ مالك على حروف المعجم، وهو كتاب لم يتقدمه أحد إلى مثله، وهو سبعون جزءً. قلت: هي أجزاء ضخمة جداً، قال ابن حزم: لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله، فكيف أحسن منه. ثم صنع كتاب "الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطّأ من معاني الرأي والأثار" هو مختصر التمهيد شرح(1/94)
فيه الموطّأ على وجهه، وجمع كتاباً جليلاً مفيداً، وهو "الاستيعاب في أسماء الصحابة"، وله "كتاب جامع في بيان فضائل العلم وما ينبغي في حمله وروايته" إلى غير ذلك، وكان موفقاً في التأليف معاناً عليه، ونفع الله بتواليفه. وله كتاب "الكافي" في مذهب مالك خمسة عشر مجلداً (قد طبع في جزأين باسم "كتاب الكافي في فقه أهل المدينة المالكي" في مكتبة الرياض) ، وكتاب "الاكتفاء في قراءة نافع وأبي عمرو"، وكتاب "التقصي في اختصار الموطّأ"، وكتاب "الإنباه عن قبائل الرواة"، وكتاب "الانتقاء لمذاهب علماء مالك وأبي حنيفة والشافعي"، وكتاب "البيان في تلاوة القرآن"، وكتاب "الكنى"، وكتاب "المغازي"، وكتاب "القصد والأمم في نسب العرب والعجم"، وكتاب "الشواهد في إثبات خبر الواحد"، وكتاب "الإنصاف في أسماء الله"، وكتاب "الفرائض"، وكتاب "أشعار أبو العتاهية". انتهى ملتقطاً.
وذكره السمعاني في "الأنساب" (10/98) في نسبة القرطبي وقال: هو بضم القاف وسكون الراء، وضم الطاء المهملة في آخره الباء، هذة النسبة إلى قرطبة وهي بلدة كبيرة من بلاد المغرب بالأندلس، وهي دار ملك السلطان. انتهى.
- ومنهم: أبو الوليد الباجي سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب التجيبي (نسبة إلى تجيب بالضم وكسر الجيم، قبيلة من كندة، قاله في "لب اللباب" (ش)) الأندلسي، القرطبي الباجي الذهبي المالكي، أصله من مدينة بطليوس فتحول جده إلى باجة (وهي من أقدم مدن الأندلس، وتقع اليوم في البرتغال على بعد 140 كم إلى الجنوب الشرقي من لشبونة) ، بليدة بقرب إشبيلية فنسب إليها وما هو من باجة المدينة التي بإفريقية التي ينسب إليها الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد بن علي الباجي، وابنه أحمد. ولد أبو الوليد سنة ثلاث وأربعمائة، وأخذ عن جماعة، وارتحل سنة ست وعشرين فحجّ، ولو مد الرحلة إلى أصفهان والعراق لأدرك إسنادا عالياً، ولكنه جاور بمكة ثلاثة أعوام ملازماً للحافظ أبي ذر الهروي، فأكثر عنه، ثم ارتحل إلى دمشق، وأخذ عن جماعة، وتفقه بالقاضي أبي الطيب، والقاضي أبي عبد الله(1/95)
الصيمري، وذهب إلى الموصل، فأقام بها على القاضي جعفر السمناني المتكلم، فبرز في الحديث والفقه والكلام والأصول والأدب، فرجع إلى الأندلس بعد ثلاث عشرة بعلم غزير، حصله مع الفقر والتقنع اليسير، حدث عنه أبو عمر بن عبد البر وأبو بكر الخطيب وغيرهما، وتفقه به أئمة، واشتهر اسمه، وصنف كتاب "المنتقى" في الفقه، وشرح الموطّأ، فجاء في عشرين مجلداً عديم النظير، وكتاباً كبيراً سماه "الاستيفاء"، وله كتاب "الإيماء" في الفقه خمس مجلدات، وكتاب "السراج" في الفقه ولم يتم، وكتاب "اختلاف الموطّآت" وكتاب "الجرح والتعديل"، وكتاب"التسديد إلى معرفة التوحيد"، وكتاب "الإشارة" في أصول الفقه، وكتاب "أحكام الفصول في إحكام الأصول"، وكتاب "الحدود"، وكتاب "سنن الصالحين وسنن العابدين"، وكتاب "سبل المهتدين"، وكتاب "فرق الفقهاء"، وكتاب "سنن المنهاج وترتيب الحجاج"، وغير ذلك. وقد وَلِيَ قضاء الأندلس وهنئت الدنيا به وعظم جاهه وكان يستعمله الأعيان في ترسيلهم، ويقبل جوائزهم، وحصل له مال وافر إلى أن توفي في المرية تاسع عشر رجب سنة أربع وسبعين وأربعمائة، وقال الإمام أبو نصر: أما الباجي ذو الوزارتين، فقيه، متكلم، أديب، شاعر، درس الكلام وصنّف، وكان جليل القدر، رفيع الخطر. هذا خلاصة ما في "سير النبلاء" ومن شاء الاطلاع على أزيد منه فليرجع إليه (سير أعلام النبلاء 18/535)
- ومنهم: القاضي أبو بكر بن العربي المالكي (له ترجمة في سير أعلام النبلاء 20/197) ، سمى شرحه "القبس في شرح موطأ مالك بن أنس". قال إبن خلِّكان (المتوفي سنة 681 هجري على مافي كشف الظنون، وترجمته مع وجه شهرته بابن خلكان مبسوطة في تعليقاتي على "الفوائد البهية في تراجم الحنفية" المسماة بالتعليقات السنية. (ش)) أبو العباس أحمد في تاريخه المسمى بـ "وفيّات الأعيان في أنباء أبناء الزمان"، مترجماً له: أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن العربي المعافري الأندلسي الإشبيلي الحافظ المشهور، ذكره ابن بشكوال في كتاب الصلة (2/591) ، فقال: هو الحافظ المتبحِّر ختام(1/96)
علماء الأندلس وآخر أئِمتها وحُفّاظها، لقيته بمدينة إشبيلية ضحوة يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الآخرة سنة ست عشرة وخمسمائة، فأخبرني أنه رحل مع أبيه إلى المشرق يوم الأحد مستهل الربيع الأول سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وأنه دخل الشام، ولقي بها أبا بكر محمد بن الوليد الطرطوشي، وتفقه عنده، ودخل بغداد، وسمع بها جماعة من أعيان مشايخها، ثم دخل الحجاز، فحج في موسم سنة 489 هـ، ثم عاد إلى بغداد، وصحب بها أبا بكر الشاشي وأبا حامد الغزالي، ولقي بمصر والإسكندرية جماعة من المحدثين، فكتب عنهم، ثم عاد إلى الأندلس سنة 493 هـ، وقدم إلى إشبيليا بعلم كثير لم يدخل أحد قبله بمثله ممن كانت له رحلة بالمشرق، وكان من أهل التفنن في العلوم والجمع لها، مقدَّماً في المعارف، متكلّماً في أنواعها، ثاقب الذهن في تمييز الصواب منها، ويجمع إلى ذلك كلِّه آداب الأخلاق مع حسن المعاشرة ولين الكنف، واستُقضي ببلده فنفع الله به أهله، ثم صُرف عن القضاء، وأقبل على نشر العلم وبثِّه، وسألته عن مولده، فقال: ليلة الخميس لثمان بقين من شعبان سنة ثمان وستين وأربعمائة، وتوفي بالعدوة، ودفن بمدينة فاس في الربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. انتهى كلام ابن بشكوال، قلت أنا: وهذا الحافظ له مصنفات، منها "عارضة الأحوذي في شرح جامع الترمذي" (طبع بمصر في (13) مجلداً سنة 1931 م؛ وطبع في الهند سنة 1299 هـ، ضمن مجموعة فيها أربعة شروح على جامع "الترمذي". انظر"معجم المطبوعات" (1977) وغيره، والعارضة: القدرة على الكلام، والأحوذي: الخفيف في الشيء لحذقه. انتهى كلام ابن خلكان بتلخيصه (وفيات الأعيان 4/296، 297) . ونسبته إلى إشبيلية بكسر الهمزة وسكون الشين المعجمة وكسر الباء الموحدة، بلدة من أمهات بلاد الأندلس. والمعافري: نسبة إلى معافر، بفتح الأول، وكسر الرابع، بطن من قحطان. كذا في "الأنساب". (2/19، 20) .
فائدة: رأيت في بعض شروح"مناسك النووي" أن ابن عربي اشتهر به اثنان: أحدهما: القاضي أبو بكر هذا، وثانيهما: صاحب الولاية العظمى والرواية الكبرى، محيي الدين بن عربي، مؤلف "الفتوحات المكية"، و"فصوص الحِكَم"(1/97)
وغيرهما من التصانيف الجليلة، ويُفَرَّق بينهما بأنه يقال للقاضي ابن العربي بالألف واللام، وللشيخ الأكبر ابن عربي بغيره (مقدمة أوجز المسالك 1/48) .
- ومنهم: الخطابي مؤلف "معالم السنن" شرح سنن أبي داود، وغيره، ذكره صاحب كشف الظنون ممن انتخب الموطأ، ولخّصه وهو بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الطاء المهملة، نسبة إلى الجد، فإنه حَمْد بن محمد بن إبراهيم البُستي، بالضم، نسبة إلى بُست بلدة من بلاد كابل، بين هراة وغزنة، أبو سليمان الخطابي الشافعي، وهو إمام فاضل كبير الشأن، جليل القدر، له "شرح صحيح البخاري"، و"شرح سنن أبي داود"، وكتاب "غريب الحديث"، وغيرها، سمع أبا سعيد بن الأعرابي بمكة، وأبا بكر بن داسة بالبصرة، وإسمعيل بن محمد الصفّار ببغداد وغيرهم، وروى عنه الحاكم أبو عبد الله الحافظ، وأبو الحسين عبد الغافر الفارسي، وجماعة كثيرة، وذكره الحاكم أبو في "تاريخ نيسابور"، وتوفي سنة ثمان وثمانين وثلاث مائة. كذا في "أنساب" السمعاني (5/175، 159. وله ترجمة في وفيات الأعيان 2/214، ومعجم المؤلفين 1/450) .
وفي "تاريخ ابن خلكان" (2/214) : كان فقيهاً محدثاً أديباً، له التصانيف المفيدة، منها: "غريب الحديث" (طبع الكتاب في جامعة أم القرى - مكة - سنة 1402 هـ، بتحقيق عبد الكريم إبراهيم العزباوي) ، و"معالم السنن في شرح سنن أبي داود" (طبع الكتاب في حلب 1920 - 1934، وطبع في القاهرة بتحقيق أحمد محمد شاكر وحامد الفقي) ، و"أعلام السنن في شرح صحيح البخاري"، وكتاب "الشجاج" (وقع في وفيات الأعيان 2/214، (الشحاح) بالحاء المهملة في الحرفين) ، وكتاب "شأن الدعاء" (طبع الكتاب في دار المأمون للتراث دمشق سنة 1404 هـ 1984 م) ، وكتاب"إصلاح غلط المحدثين" (طبع الكتاب في دمشق، بتحقيق الدكتور محمد علي عبد الكريم الرّديني سنة 1987 م) ، وغير ذلك، وكانت وفاته في(1/98)
الربيع الأول سنة 388 هـ بمدينة بست، والخطابي نسبة إلى جده، وقيل: إنه من ذرية عمر بن الخطاب، وقد سُمع في اسمه أحمد أيضاً بالهمزة، والصحيح الأول، قال الحاكم: سألت أبا القاسم المظفر بن طاهر بن محمد البستي الفقيه عن اسم أبي سليمان أحمد أو حمد، فقال: قال: اسمي الذي سُمِّت به حمد، ولكن الناس كتبوا أحمد فتركته عليه. انتهى ملخَّصاً.
وقد ذكر السيوطي في "تنوير الحوالك" نقلاً عن القاضي عياض جمعاً كثيراً ممن اعتنى بالموطأ شرحاً أو تلخيصاً أو غير ذلك ممن ذكرناه ومن لم نذكره، حيث قال: قال القاضي عياض في "المدارك": لم يُعتَنَ بكتاب من كتب الحديث والعلم اعتناء الناس بالموطأ، فممن شرحه ابن عبد البر في "التمهيد" و "الاستذكار"، وأبو الوليد بن الصفّار وسماه "الموعب"، والقاضي محمد بن سليمان بن خليفة، وأبو بكر بن سابق الصقلي وسماه "المسالك"، وابن أبي صفرة، والقاضي أبو عبد الله بن الحاج، وأبو الوليد بن الفؤاد، وأبو محمد السِّيْد البطليوسي النحوي وسماه "المقتبس"، وأبو القاسم بن أمجد الكاتب، وأبو الحسن الإشبيلي، وابن شراحيل، وابن عمر الطلمنكي، والقاضي أبو بكر بن العربي وسماه "القبس"، وعاصم النحوي، ويحيى بن مزين وسماه "المستقصية"، ومحمد بن أبي زمنين وسماه "المقرب"، وأبو الوليد الباجي، وله ثلاثة شروح: "المنتقى"، و "الإيماء" والاستيفاء"، وممّن ألف في شرح غريبه: البرقي، وأحمد بن عمران الأخفش، وأبو القاسم العثماني المصري، وممن ألف في رجاله: القاضي أبو عبد الله بن الحذَّاء، وأبو عبد الله بن مفرح، والبرقي، وأبو عمر الطلمنكي، وألّف "مسند الموطأ" قاسم بن أصبغ، وأبو القاسم الجوهري، وأبو الحسن القابسي في كتابه "الملخص"، وأبو ذر الهروي، وأبو الحسن علي بن حبيب السجلماسي، والمطرز، وأحمد بن بهزاد الفارسي، والقاضي ابن مفرج، وابن الأعرابي، وأبو بكر أحمد بن سعيد بن فرضخ الأخميمي، وألّف القاضي إسماعيل "شواهد الموطأ"، وألف أبو الحسن الدارقطني كتاب "اختلاف الموطآت"، وكذا القاضي أبو الوليد الباجي، وألَّف "مسند الموطأ" رواية القعنبي: أبو عمرو الطليطلي،(1/99)
وإبراهيم بن نصر السرقسطي، ولابن جوصا "جمع الموطأ" من رواية ابن وهب وابن القاسم، ولأبي الحسن بن أبي طالب كتاب "موطأ الموطأ"، ولأبي بكر بن ثابت الخطيب كتاب "أطراف الموطأ"، ولابن عبد البر "التقصي في مسند حديث الموطأ ومرسله"، ولأبي عبد الله بن عيشون الطليطلي "توجيه الموطأ"، ولحازم بن محمد بن حازم "السافر عن آثار الموطأ"، ولأبي محمد بن يربوع كتاب في الكلام على أسانيده، سماه، "تاج الحلية وسراج البغبة". انتهى كلام القاضي (2/80) والسيوطي (ص 12) .
وذكر صاحب "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" من شرّاح الموطأ زين الدين عمر بن الشماع الحلي. ولإِبراهيم بن محمد الأسلمي المتوفِّى سنة 784 هـ موطأ أضعاف موطأ مالك، ولخص موطأ مالك أبو الحسن علي بن محمد بن خلف القابسي، وهو المشهور بملخص الموطأ، مشتمل على خمسمائة وعشرين حديثاً متصل الإِسناد، واقتصر على رواية عبد الرحمن بن القاسم المصري من رواية أبي سعيد سحنون بن سعيد عنه. انتهى ملخصاً.
ومن المعتنين بالموطأ الجلال السيوطي الشافعي، فإنه أفرد لرجاله كتاباً سماه "إسعاف المبطَّأ برجال الموطَّأ"، وقد طالعته واستفدتُ منه، وصنّف شرحاً كبيراً سماه "كشف المغطا" وشرحاً آخر مختصراً منه، سماه "تنوير الحوالك" وقد طالعته، قال فيه: هذا تعليق لطيف على موطأ الإمام مالك على نمط ما علقته على صحيح البخاري المسمى "بالتوشيح"، وما علقته على صحيح مسلم المسمى بالديباج، وأوسع منهما قليلاً لخَّصته من شرحي الأكبر الذي جمع فأوعى، وعمد إلى الجَفْلى حين دعا، وقد سمَّيْت هذا التعليق "تنوير الحوالك على موطَّأ مالك". انتهى.
وهو خاتمة الحفاظ عبد الرحمن جلال الدين السُّيُوطي (انظر: حسن المحاضرة 1/335 - 344. وله ترجمة في: شذرات الذهب 8/51 - 55، البدر الطالع 1/328 - 335، معجم المؤلفين 5/128) بضم الأَوَّلَيْن، وقد(1/100)
يقال: الأُسيوطي، بضم الهمزة وسكون السين المهملة، نسبة إلى بلدة أسيوط من البلاد المصرية، ابن كمال الدين أبي بكر بن محمد بن سابق الدين بن الفخر عثمان بن ناظر الدين محمج بن يوسف الدين خضر بن نجم الدين أبي الصلاح أيوب بن ناصر الدين محمد ابن الشيخ همام الدين الهمام الخضيري كذا ساق نسبة هو في كتابه "حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة" وترجم لنفسه ترجمة طويلة، وذكر فيها (قد ذكر بعض الفضلاء المعاصرين في رسالته "الجنة بالأسوة الحسنة بالسنة" وغيرُه أنه من تلامذة ابن حجر العسقلاني، وتعقبتُه في منهيات "النافع الكبير" أن وفاة ابن حجر سنة 852 هـ وولادة السيوطي سنة 849 هـ فأنَّى يَصِحّ له التلمذة؟ ثم أصرّ على ما كتبه في رسالة أظنها "هدية السائل إلى أجوبة المسائل"، وكتب في منهيته: هكذا ذكره الشوكاني فقط. وهو أمر ليس بدافع للتعقّب، فإن التواريخ تكذّب الشوكاني، ثم ذكر في رسالة أخرى نحوه، وكتب في منهيّته عبارة لعلّي القاري في "المرقاة شرح المشكاة" دالّة على أن السيوطي روى عن الحافظ، وهو أيضاً لم يشفِ العليل، فإنَّ مثل هذا الإيراد وارد عليه أيضاً، ولو اكتفى على النقل عن الشوكاني أو القاري أولاً لسلم من الإيراد، فإن الناقل من حيث إنه ناقل لا يرد عليه شيء، والقول الفيصل أن السيوطي ليس له تلامذة ولا إجازة خاصة من الحافظ، بل لم يكن له قابلية لذلك عند وفاة الحافظ، لكنه أحضره والده مرة مجلس الحافظ، وهو ابن ثلاث سنين كما ذكره في "النور السافر"، ولعل الحافظ في ذلك المجلس أجاز إجازة عامَّة لمن فيه فدخل السيوطي فيها، ويشهد لما ذكرنا أن السيوطي ترجم نفسه في "حسن المحاضرة" وذكر أساتذته ومراتبه، ولم يذكر تلمذة من الحافظ مع أنه فخر عظيم أي فخر (ش)) أن ولادته كانت ليلة الأحد مستهل رجب سنة تسع وأربعين وثمان مائة، وحفظ القرآن، وله دون ثمان سنين، وشرع في الاشتغال بالعلم من سنة 864 هـ، فأخذ الفقه والنحو عن جماعة من الشيوخ، والفرائض عن فرضيّ زمانه شهاب الدين الشارمساحي، ولازم في الفقه شيخ الإسلام علم الدين البُلقيني إلى أن مات، ثم لازم ولده، وبعد وفاته سنة 878 هـ لازم شرف الدين المُناوي، ولزم في الحديث والعربية التقيّ الشُمُنِّي الحنفي شارح "مختصر الوقاية" وأخذ عن محيي الدين الكافِيَجي الحنفي جميعاً من الفنون، ولازمه أربع عشرة سنة، وذكر أن له إلى الآن ثلاث مائة تأليف سوى ما غسلت عنه ورجعت عنه، ثم ذكر تصانيفه في التفسير كالإتقان، والدر(1/101)
المنثور، وحاشية تفسير البيضاوي، وغيرها. وفي الحديث تعليقات الصحاح الستة وغيرها، وفي الفقه كثيراً من الرسائل المشتَّتة في المسائل المتفرقة، وفي فن العربية والتاريخ والأدب، وجملة ما ذكرها فيه: في التفسير خمسة وعشرون تأليفاً، وفي الحديث ومتعلَّقاته تسع وثمانون، وفي الفقه ومتعلَّقاته أربع وستون، وفي فن العربية ومتعلَّقاته اثنان وثلاثون، وفي الأصول والبيان والتصوُّف اثنان أو ثلاث وعشرون، وفي الأدب والتاريخ سبع وأربعون تصنيفاً. وقد طالعت كثيراً من هذه التصانيف وغيرها، وكلُّها مشتملة على فوائد لطيفة، وفرائد شريفة، وله تصانيف كثيرة لم يذكرها ههنا حتى إنه ذكر بنفسه في بعض رسائله أن مصنفاته بلغت خمسمائة. وتآليفه كلها تشهد بتبحُّره وسعة نظره، ودقة فكره، وأنه حقيق بأن يُعَدّ من مجدِّدي الملة المحمدية في بدء المائة العاشرة، وآخر التاسعة كما ادَّعاه بنفسه في "شرح سنن أبي داود" وغيره، وشهد بكونه حقيقاً به من جاء بعده كعليّ القاري المكي في "المرقاة شرح المشكاة" وغيره.
وقال عبد القادر العَيْدَروس (هو ابن عبد الله بن عبد الله أبو بكر اليمني الحضْرمَوْتي الهندي المتوفَّى بأحمد آباد سنة 1130 هـ) في "النور السافر في أخبار القرن العاشر" (ص 51 - 54. انظر ترجمته في: الضوء اللامع 4/65 - 70، شذرات الذهب 8/51 - 55، البدر الطالع 1/328 - 335، حسن المحاضرة 1/188 - 195) : في يوم الجمعة سنة إحدى عشرة أي بعد تسعمائة، وقت العصر تاسع الجمادى الأولى توفي الشيخ العلاّمة الحافظ أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن كمال الدين أبي بكر بن عثمان السيوطي الشافعي، ودُفن بشرقي باب القرافة، مرض ثلاثة أيام، وجد بخطه أنه سمع ممن يوثق به أن والده كان يذكر أن جده الأعلى كان عجمياً، أو من المشرق، وأمه أم ولد تركية، وكان يلقَّب بابن الكتب، لأن أباه كان من أهل العلم، واحتاج إلى مطالعة كتاب فأمر امرأته أن تأتي به من بين كتبه، فذهبت لتأتي به، فأجاءها المخاض، وهي بين الكتب، فوضعته، ثم سمّاه والده بعبد الرحمن، ولقَّبه جلال الدين، وكنّاه شيخه قاضي القضاة عز الدين أحمد بن(1/102)
إبراهيم الكناني، لما عرض عليه، وقال له: ما كنيتك؟ فقال: لا كنية لي، فقال: أبو الفضل، وتوفي والده ليلة الاثنين خامس صفر من سنة 865 هـ، وجعل الشيخ كمال الدين بن الهُمام وصيّاً عليه، فلحظه بنظره. وأحضره والده وعمره ثلاث سنين مجلس شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر وحضر هو وهو صغير مجلس المحدث زين الدين رضوان العقبي، ثم اشتغل بالعلم على عدة مشايخ، وحج سنة 869 هـ، ووصلت مصنفاته نحو ستمائة سوى ما رجع عنه وغسله، وَوُلِّيَ المشيخة في مواضع متعددة من القاهرة، ثم إنه زهد في جميع ذلك، وانقطع إلى الله بالروضة، وكانت له كرامات، وكان بينه وبين السخاوي منافرة كما يكون بين الأكابر. انتهى كلامه.
وقد ترجمه شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي المصري تلميذ الحافظ ابن حجر في كتاب "الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع" (4/65 - 70) ، بترجمة طويلة مشتملة على حطّ مرتبته ونقص رتبته، ولن يُقبل كلامه وكذا كلام تلميذه أحمد القسطلاني، صاحب "المواهب اللدنَّية" و"إرشاد الساري شرح صحيح البخاري" وغيرهما فيه، كما لا يُقبل كلامه على السخاوي في مقامته المسماة بـ"الكاوي على السخاوي" لما عُلم من المنافرة بينهم، ولا يُسمع كلام الأقران بعضهم في بعضهم.
ومن المعتنين به الزرقاني (انظر ترجمته في: هدية العارفين 2/311، سلك الدرر 4/32 - 33، فهرس الفهارس 1/342 - 343) المالكي، محمد بن عبد الباقي بن يوسف تلميذ أبي الضياء علي الشَّبْرَامَلِّسي، بشين معجمة فموحدة فراء مهملة، على وزن سَكْرى، مضافاً إلى مَلِّس، بفتح الميم وكسر اللام المشدَّدة والسين المهملة، نسبة إلى شبراملس، قرية بمصر، المتوفَّي سنة سبع وثمانين بعد الألف. وشَرْحه للموطأ شرح نفيس مشتمل على ما لا بُدَّ منه، ذكر في أوائله أنه ابتدأه سنة تسع بعد مائة وألف.
وقال في آخره (شرح الزرقاني على الموطأ: 4/436) : وقد أنعم الله الجواد الكريم الرؤوف الرحيم بتمام هذا(1/103)
الشرح المبارك على الموطأ لجامعه العبد الفقير الحقير محمد بن عبد الباقي بن يوسف بن أحمد شهاب الدين بن محمد الزرقاني المالكي، ووافق الفراغ من تسويده وقت أذان العصر يوم الاثنين حادي عشر ذي الحجة سنة ثنتي عشرة بعد مائة وألف ... إلخ. وله شرح نفيس على "المواهب اللدنَّية"
وكانت وفاته على ما في كشف الظنون في السنة الثانية والعشرين بعد ألف ومائة.
- ومنهم: الشيخ سلام الله الحنفي، من أولاد الشيخ عبد الحق المحدث الدهلوي، له شرح على الموطأ برواية يحيى، سماه "المحلَّى بأسرار الموطَّا" (فرغ من تأليفه في سنة 1215 هـ، لم يُطبع بعد، ونصفه الأخير موجود في مكتبة المدرسة العلية مظاهر علوم في سهارنفور - الهند. توفي - رحمه الله - سنة 1229 هـ على الراجح، وقيل سنة 1223 هـ. مقدمة أوجز المسالك 1/51) ، وله شرح شمائل الترمذي، وغير ذلك.
- ومنهم: الشيخ ولي الله المحدث الحنفي الدهلوي (انظر ترجمته في الجزء اللطيف، وأنفاس العارفين، والإمام الدهلوي تأليف سماحة الشيخ الندوي. طبع دار القلم - الكويت - سنة 1985 م) ، قطب الدين أحمد بن عبد الرحيم بن وجيه الدين الشهيد بن معظم بن منصور بن أحمد، وتنتهي سلسلة نسبه إلى عمر الفاروق رضي الله عنه. وُلِدَ رحمه الله كما ذكر في بعض رسائله يوم الأربعاء رابع شوال من سنة أربع عشرة بعد ألف ومائة، وختم حفظ القرآن وسنُّه سبع سنين، واشتغل بتحصيل العلوم على حضرة والده، وكان من تلامذة السيد الزاهد الهروي ولأجله صنف السيد الزاهد حواشيه المشهورة على "شرح المواقف"، وفرغ من جميع الفنون الرسمية حين كان عمره خمس عشرة سنة، وتوفي والده حين كان عمره سبع عشرة سنة، فجلس مجلسه في التدريس والإفادة، وراح إلى الحرمين الشريفين سنة ثلاث وأربعين، وأخذ عن جمع من المشائخ، منهم: الشيخ أبو طاهر المدني، وعاد إلى الوطن سنة خمس وأربعين، وكانت وفاته سنة ست وسبعين بعد مائة وألف، وقيل أربع وسبعين، وله تصانيف كثيرة كلها تدل على أنه كان من أَجِلَّة النبلاء وكبار العلماء، موفّقاً من الحق سبحانه بالرشد والإنصاف، متجنِّباً التعصب والاعتسافِ، ماهراً في العلوم الدينية متبحِّراً في(1/104)
المباحث الحديثية، منها: 1 - "إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء"، كتاب عديم النظير في بابه، 2 - و"حجة الله البالغة"، 3 - و"قرة العينين في تفضيل الشيخين"، 4 - و "الفوز الكبير في أصول التفسير"، 5 - و "عقد الجيد في أحكام التقليد"، 6 - و "الإنصاف في بيان سبب الاختلاف"، 7 - و "البدور البازغة" في الكلام، 8 - و "سرور المحزون"، 9 - و "فتح الرحمن ترجمة القرآن"، 10 - و "فتح الخبير"، 11 - و "فيوض الحرمين"، 12 - و "إنسان العين في مشائخ الحرمين"، 13 - و "الانتباه في سلاسل أولياء الله"، 14 - و "الدر الثمين في مبشرات النبي الأمين"، 15 - و "النوادر من أحاديث سيد الأوائل والأواخر"، 16 - و "القول الجميل"، 17 - و "الهمعات"، 18 - و "التفهيمات الإلهية"، 19 - و "ألطاف القدس"، 20 - و "المقالة الوضيئة في النصيحة"، 21 - و "تأويل الأحاديث"، 22 - و "اللمعات"، 23 - و "السطعات"، 24 - و "المقدمة السنية في انتصار الفرقة السنّية"، 25 - و "أنفاس العارفين"، 26 - و "شفاء القلوب"، 27 - و "الخير الكثير"، 28 - و "الزهراوين".. وغير ذلك. وقد شرح الموطَّأ برواية يحيى شرحين: 29 - أحدهما باللسان الفارسية سمّاه "المصفى"، جرّد فيه الأحاديث والآثار، وحذف أقوال مالك وبعض بلاغاته، وتكلم فيه ككلام المجتهدين، 30 - وثانيهما بالعربية وسمّاه بـ "المسوى"، اكتفى فيه على ذكر اختلاف المذاهب، وعلى قدر من شرح الغريب وغيره مما لابدَّ منه، كذا قاله ابنُهُ الشيخ عبد العزيز الدهلوي، صاحب التصانيف الشهيرة والفتاوى المشهورة، كتفسير فتح العزيز والتحفة الاثنا عشرية في الرد على الشيعة وغير ذلك، المتوفَّى على ما قيل سنة تسع وثلاثين بعد الألف والمائتين.
وكانت ولادته في سنة تسع وخمسين بعد مائة وألف في كتابه "بستان المحدثين".
- ومنهم العلامة إبراهيم الشهير ببيرى زاده الحنفي، شرح الموطَّأ برواية محمد شرحاً حسناً، قال الفاضل محمد بن فضل الله المحبي الدمشقي في كتابه "خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر" (خاصة الأثر 2/219 - 220، هدية العارفين 1/34، معجم المؤلفين 221) : الشيخ إبراهيم بن حسين بن أحمد بن(1/105)
محمد بن أحمد بن بيرى، مفتي مكة، أحد أكابر الفقهاء الحنفية وعلمائهم المشهورين، ومن تبحَّر في العلم وتحرَّى في نقل الأحكام وحرَّر المسائل، وانفرد في الحرمين بعلم الفتوى، وجدَّد من مآثر العلم مادثَر، له الهمة العلية في الانهماك على مطالعة الكتب، سارت بذكره الرُّكبان بحيث إن علماء كل إقليم يشيرون إلى جلالته، أخذ عن عمِّه العلاّمة محمد بن بيرى، وعبد الرحمن المرشدي، وغيرهما، وأخذ الحديث عن ابن علان، وأجازه كثير من المشائخ، وله مؤلفات ورسائل تنيف على السبعين، منها حاشية على الأشباه والنظائر، سمّاه "عمدة ذوي البصائر"، وشرح الموطَّأ رواية محمد بن الحسن (في مقدمة أوجز المسالك (1/53) قلت: وقد رأيت هذا الشرح الوجيز في البلدة الطاهرة الطيبة، سمي بالفتح الرحماني، أكثر فيه الأخذ عن العلامة العيني، وقد أخذت منه في بعض المواضع، وهو موجود في المكتبة المحمودية بالبلدة الطاهرة بخط المؤلف) في مجلدين، وشرح تصحيح القدوري للشيخ قاسم، وشرح "المنسك الصغير" لملاّ علي القاري رحمه الله، ورسالة في جواز العمرة في أشهر الحج، وشرح منظومة ابن الشحنة في العقائد، والسيف المسلول في دفع الصدقة لآل الرسول، ورسالة في المنسك والزيارة، وأخرى في جمرة العقبة، وأخرى في الإشارة في التشهد، ورسالة في بيض الصيد إذا أدخل الحرم، ورسالة جليلة في عدم جواز التلفيق ردّ فيها على عصريِّة مكي بن فروخ وغير ذلك، وكانت ولادته في المدينة المنورة في نيِّف وعشرين وألف، وتوفي يوم الأحد سادس عشر شوال سنة تسع وتسعين وألف، ودُفن بمعلاة قرب السيدة خديجة وكان قلقاً من الموت، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يقول له: يا إبراهيم مت، فإن لك بي أسوة حسنة، فقال: يارسول الله على شرط أن يُكتب لي ثواب الحج في كل سنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لك ذلك. انتهى ملخَّصاً.
- ومنهم: صاحب العلم الباهر والفضل الظاهر الشيخ علي القاري الهروي ثم المكي (خلاصة الأثر 3/186، سمط النجوم 4/394، البضاعة المزجاة لمن يريد مطالعة المرقاة شرح المشكاة، وأفراده الأستاذ خليل إبراهيم قوتلاي بتأليف كتاب "الإمام علي القاري وأثره في علم الحديث"، طبع في دار البشائر - بيروت - سنة 1987 م) ، له شرح على موطَّأ محمد في مجلدين مشتمل على نفائس لطيفة(1/106)
وغرائب شريفة إلاّ أن فيه في تنقيد الرجال مسامحات كثيرة، كما ستطَّلع عليها إن شاء الله تعالى في مواضعها، وله تصانيف كثيرة، فمنها ما طالعته: 1 - "شرح المشكاة المسمَّى بالمرقاة"، 2 - و "شرح الشمائل المسمَّى بجمع الوسائل"، 3 - و "شرح الشفاء"، 4 - و"شرح شرح نخبة الفكر"، 5 - و "شرح الحصن الحصين" المسمّى بالحرز الثمين، 6 - و "شرح الشاطبية" في القراءة، 7 - و "سند الأنام شرح مسند الإِمام الأعظم الهمام"، 8 - و "شرح مختصر الوقاية" في الفقه، 9 - و "الأثمار الجنَّية في طبقات الحنفية"، 10 - و "رسالة في الاقتداء بالمخالف" مسمّاة بالاهتداء، 11 - و "رسالة في الرد على إمام الحرمين وصلاة القفال المسماة بتشييع الفقهاء الحنفية بتشنيع السفهاء الشافعية"، 12 - و "رسالة في نصب أول في حديث البخاري أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أول ما قدم المدينة نزل على أجداده"، 13 - ورسالة مسمّاة بـ "إعراب القاري على أول باب البخاري"، 14 - و "المشرب الوردي في مذهب المهدي"، 15 - و"المقالة العَذْبَة في العِمامَة والعَذَبَة"، 16 - و "الإِنباء بأن العصا من سنن الأنبياء"، 17 - و "رفع الجناح في أربعين حديثاً في النكاح"، 18 - ورسالة في البسملة أول براءة، 19 - ورسالة في حب الهرة من الإِيمان، 20 - ورسالة في الإِشارة في التشهد مسمّاة بـ "تزيين العبارة لتحسين الإِشارة"، 21 - وأخرى فيه مسمّاة بـ "التدهين للتزيين"، 22 - و "الحظ الأوفر في الحج الأكبر"، 23 - و "التجريد في إعراب كلمة التوحيد"، 24 - و "أربعون حديثاً في القرآن"، 25 - و "أربعون في جوامع الكَلِم"، 26 - و "فرائد القلائد البهية تخريج أحاديث شرح العقائد النسفية"، 27 - و "تذكرة الموضوعات"، 28 - ورسالة مختصرة في الموضوع مسسمّاة بالمصنوع، 29 - و "تبعيد العلماء عن تقريب الأمراء"، 30 - وشم العوارض في ذم الروافض، 31 - و "المورد الروي في المولد النبوي"، 32 - و "الدرر المضيئة في الزيارة المصطفية"، 33 - و "المقدمة السالمة في خوف الخاتمة"، 34 - و "فعل الخير إذا دخل مكة مَنْ حَجَّ عن الغير"، 35 - و"تحقيق الاحتساب في الانتساب"، 36 - و "النافعة للنُّساك في الاستياك"، 37 - والمعدن العدني في فضل أويس القرني"، 38 - و "الاعتناء بالفناء"،(1/107)
39 - و "كشف الخِدْر (في الأصل: "الحذر"، وهو تحريف) عن أمر الخضر"، 40 - و "فرّ العون من مدعي إيمان فرعون"، 41 - ورسالة في النية، 42 - ورسالة في وحدة الوجود، 43 - وأخرى في تكفير الحج الذنوب، 44 - وأخرى في ليلة البراءة وليلة القدر، 45 - و "شرح المنسك المتوسط لملاّ رحمة الله السندي المسمَّى بالمسلك المتقسِّط"، 46 - وشرح الفقه الأكبر، 47 - وله شرح ثلاثيات البخاري، 48 - وشرح المقدمة الجزرية، 49 - و "الناموس ملخص القاموس"، 50 - و "نزهة الخاطر في ترجمة الشيخ عبد القادر"، 51 - ورسالة في إبطال إرسال اليدين في الصلاة، وغير ذلك. وتصانيفه كلها جامعة مفيدة حاوية على فوائد لطيفة، ولولا ما في بعضها من رائحة التعصب المذهبي لكان أجود وأجود.
قال في "خلاصة الأثر" (3/186) مترجماً له: علي بن محمد سلطان الهروي المعروف بالقاري الحنفي نزيل مكة، وأحد صدور العلم، فرد عصره، الباهر السمت في التحقيق وتنقيح العبارات، وشهرته كافية عن الإِطراء في وصفه، ولد بهراة ورحل إلى مكة، وأخذ بها عن الأستاذ أبي الحسن البكري والسيِّد زكريا الحسيني، والشهاب أحمد بن حجر المكي الهيثمي، والشيخ أحمد المصري تلميذ القاضي زكريا، والشيخ عبد الله السندي، والعلامة قطب الدين المكي، وغيرهم، واشتهر ذكره، وطار صيته، وألَّف التآليف الكثيرة اللطيفة، وكانت وفاته بمكة في شوال سنة أربع عشرة وألف، ودفن بالمعلاة، ولما بلغ خبرُ وفاته علماءَ مصر صلَّوا عليه بجامع الأزهر صلاة الغيبة في مجمع حافل يجمع أربعة آلاف نسمة فأكثر. انتهى ملخَّصاً.(1/108)
ترجَمة الشَّارح
ترجمة العبد الضعيف جامع هذه الأوراق، أُوردها ليكون مذكِّراً ومعرِّفاً عن أحوالي، لمن غاب عني أو يأتي بعدي، فيذكرني بدعاء حسن الخاتمة، وخير الدنيا والآخرة، وقد ذكرت نُبَذاً منها في مقدمة "الجامع الصغير" للإمام محمد في الفقه الحنفي المسمّاة "النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير" بعد ما ذكرتُ تراجم شُرّاحه، ليحشرني ربي معهم، ويجعلني معهم، ولست منهم، والبسط فيها مفوَّض إلى كتاب تراجم علماء الهند، الذي أنا مشتغل بجمعه وتأليفه، وفقني الله لختمه، ونذكر قدراً منها ههنا من غير اختصار مُخِلّ ولا تطويل مُمِلّ، رجاء أن يحشرني ربي في زمرة الشُرّاح السابقين، ويجعلني في الدنيا والآخرة في عداد المحدثين ويناديني معهم يوم يدعو كلَّ أناس بإمامهم، فأقول: أنا الراجي عفو ربه القوي، كنيتي أبو الحسنات، كناني به والدي بعد بلوغي، واسمي عبد الحي، سمّاني به والدي في اليوم السابع من ولادتي، وحين سمّاني به قال له بعض الظرفاء: حذفتم من اسمكم حرف النفي (يعني: حرف لم) ، فصار هذا فألاً حسناً، لأن يطول عمري، ويحسن عملي، أرجو من الله تعالى أن يصدق هذا الفأل، ويرزقني ببركة اسمه المضاف إليه حياة طويلة، مع حسن الأعمال، وعيشاً مرضياً يوم الزلزال. ووالدي مولانا محمد عبد الحليم صاحب التصانيف الشهيرة والفيوض الكثيرة، الذي كان بفتخر بوجوده أفاضلُ الهند والعرب والعجم، ويستند به أماثل العالم، الفائق على أقرانه وسابقيه في حسن التدريس والتأليف، البارع السابق على أهل عصره ومن سبقه في قبول التصنيف، المتوفّى في السنة الخامسة والثمانين بعد الألف والمائتين، من هجرة رسول الثقلين، ابن مولانا محمد أمين الله، ابن مولانا محمد أكبر، ابن المفتي أحمد أبي الرحم، ابن المفتي يعقوب، ابن مولانا عبد العزيز، ابن مولانا محمد(1/109)
سعيد ابن ملاّ قطب الدين الشهيد السهالوي، وينتهي نسبه إلى سيدنا أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم. وقد ذكرته في رسالتي التي ألفتها في ترجمة الوالد المرحوم المسماة بحسرة العالم في وفاة مرجع العالم، وتراجم كثير من أجدادي وأعزّتي مبسوطة في رسالتي "إنباء الخلان أنباء علماء هندوستان" فلتُطْلَب منها.
وكانت ولادتي في بلدة باندا، حين كان والدي مدرِّساً بمدرسة النواب ذي الفقار الدولة المرحوم، في السادس والعشرين من ذي القعدة، يوم الثلاثاء، من السنة الرابعة والستين بعد الألف والمائتين.
واشتغلت بحفظ القرآن المجيد من حين كان عمري خمس سنين، وقرأت في أثنائه بعض كتب الإِنشاء والخط وغير ذلك، وفرغت من الحفظ حين كان عمري عشر سنين، وصلَّيْتُ إماماً في التراويح حسب العادة عند ذلك، وكان ذلك في جونفور، حين كان والدي المرحوم مدرِّساً بها في مدرسة الحاج إمام بخش المرحوم.
ثم شرعت على حضرة الوالد في تحصيل العلوم، ففرغت من تحصيلها منقولاً ومعقولاً حين كان عمري سبع عشرة سنة، ولم أقرأ شيئاً من كتب العلوم على غيره إلاِّ كتباً عديدة من العلوم الرياضية قرأتها على خال والدي وأستاذه مولانا محمد نعمت الله ابن مولانا نور الله المرحوم، المتوفى في بنارس في المحرم سنة تسعين.
وقد ألقى الله في قلبي محبة التدريس والتأليف من بدء التحصيل، فصنفت الدفاتر الكثيرة في الفنون العديدة، ففي علم الصرف: 1 - "امتحان الطلبة في الصيغ المشكلة"، 2 - ورسالة أخرى مسماة بجاركَل، 3 - و "التبيان في شرح الميزان"، وفي علم النحو: 4 - "خير الكلام في تصحيح كلام الملوك ملوك الكلام"، 5 - و "إزالة الجمد عن إعراب أكمل الحمد"، وفي المنطق والحكمة: 6 - تعليقاً قديماً على حواشي غلام يحيى المتعلقة بالحواشي الزاهدية المتعلقة بالرسالة القطبية مسمى بهداية الورى إلى لواء الهدى، 7 - وتعليقاً جديداً عليها مسمّى بمصباح الدجى في لواء الهدى، 8 - وتعليقاً أجدّ مسمّى بنور الهدى لحملة لواء الهدى، 9 - و "التعليق العجيب لحل حاشية الجلال الدَّوَّاني على التهذيب"، 10 - و "حل المغلق في بحث المجهول المطلق"، 11 - و "الكلام المتين في تحرير البراهين" أي براهين إبطال(1/110)
اللاتناهي، 12 - و "ميسِّر العسير في بحث المثناة بالتكرير"، 13 - و "الإِفادة الخطيرة في بحث سبع عرض شعيرة"، 14 - وتكملة حاشية الوالد المرحوم على النفيسي شرح الموجز في الطب، وفي علم المناظرة: 15 - "الهدية المختارية شرح الرسالة العضدية"، وفي علم التاريخ: 16 - "حسرة العالم بوفاة مرجع العالم"، 17 - و "الفوائد البهية في تراجم الحنفية"، 18 - و"التعليقات السنية على الفوائد البهية"، 19 - ومقدمة الهداية، 20 - وذيله المسمى بمذيلة الدراية، 21 - ومقدمة الجامع الصغير المسماة بالنافع الكبير، وفي علم الفقه والحديث: 22 - هذه الحاشية المسماة بالتعليق الممجَّد، 23 - و "القول الأشرف في الفتح عن المصحف"، 24 - و "القول المنشور في هلال خير الشهور"، 25 - وتعليقه المسمى بالقول المنثور، 26 - و "زجر أرباب الريان عن شرب الدخان"، 27 - وجعلته جزءاً لرسالة أخرى مسماة بترويح الجنان بتشريح حكم شرب الدخان، 28 - و"الإِنصاف في حكم الاعتكاف"، 29 - و "الإِفصاح عن حكم شهادة المرأة في الرضاع"، 30 - و "تحفة الطلبة في مسح الرقبة"، 31 - وتعليقه المسمى بتحفة الكملة، 32 - وسباحة الفكر في الجهر بالذكر، 33 - و"أحكام القنطرة في أحكام البسملة"، 34 - و "غاية المقال في ما يتعلق بالنعال"، 35 - وتعليقه ظفر الأنفال، 36 - و "السهسهة بنقض الوضوء بالقهقهة"، 37 - و"خير الخبر بأذان خير البشر"، 38 - و "رفع الشر عن كيفية إدخال الميت وتوجيهه إلى القبلة في القبر"، 39 - و "قوت المغتذين بفتح المقتدين"، 40 - و "إفادة الخير في الاستياك بسواك الغير"، 41 - و"التحقيق العجيب في التثويب"، 42 - و "الكلام الجليل فيما يتعلق بالمنديل"، 43 - و "تحفة الأخيار في إحياء سنة سيد الأبرار"، 44 - وتعليقه المسمى بنخبة الأنظار، 45 - و "إقامة الحجة على أن الإِكثار في التعبُّد ليس ببدعة"، 46 - و "تحفة النبلاء فيما يتعلق بجماعة النساء"، 47 - و"الفلك الدوّار فيما يتعلق برؤية الهلال بالنهار"، 48 - و "زجر الناس على إنكار أثر ابن عباس"، 49 - و "الفلك المشحون في انتفاع المرتهن بالمرهون"، 50 - و "الأجوبة الفاضلة للأسئلة العَشَرة الكاملة"، 51 - و"إمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإِمام"، 52 - و "تدوير الفلك في(1/111)
حصول الجماعة بالجن والملك"، 53 - و "نزهة الفكر في سبحة الذكر الملقَّبة بهدية الأبرار في سبحة الأذكار"، 54 - وتعليقه المسمى بالنفحة بتحشية النزهة، 55 - و "آكام النفائس في أداء الأذكار بلسان فارس"، 56 - و "الكلام المبرم في نقض القول المحقق المحكم"، 57 - والكلام المبرور في رد القول المنصور"، 58 - و "السعي المشكور في رد المذهب المأثور"، هذه الرسائل الثلاثة ألّفتُها ردّاً على رسائل من حج ولم يزر قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وافترى على علماء العالم، 59 - و "هداية المعتدين في فتح المقتدين"، 60 - و "دافع الوسواس في أثر ابن عباس رضي الله عنهما"، 61 - و "الآيات البيّنات على وجود الأنبياء في الطبقات"، وهذه الرسائل الستة باللسان الهندية.
هذه تصانيفي المدوَّنة إلى هذا الآن، وأما تصانيفي التي لم تتم إلى الآن، وفَّقني الله لاختتامها كما وفقني لبَدْئها: 1 - "المعارف بما في حواشي شرح المواقف"، 2 - و "دافع الكلال عن طلاب تعليقات الكمال على الحواشي الزاهدية المتعلقة بشرح التهذيب للجلال"، 3 - و "تعليق الحمائل على حواشي الزاهد على شرح الهياكل"، 4 - وحاشية بديع الميزان، 5 - ورسالة في تفصيل اللغات، 6 - ورسالة مسماة بتبصرة البصائر في الأواخر، 7 - ورسالة في الأحاديث المشتهرة، 8 - ورسالة في تراجم فضلاء الهند، 9 - ورسالة في الزجر عن الغيبة، 10 - وشرح شرح الوقاية المسمى بالسعاية.
وأما تعليقات المتفرقة على الكتب الدرسية، فهي كثيرة، أسأل الله أن يجعل جميع تصنيفاتي وتحريراتي خالصة لوجهه الكريم، ينفع بها عباده، ويجعلها ذريعة لفوزي بالنعيم.
وقد أجازني بجميع كتب الحديث، ومنها هذا الكتاب وجميع كتب المعقول والمنقول والفروع والأصول، كثير من المشائخ العظام والفضلاء الأعلام، فمنهم والدي المرحوم أجازني بجميع ما أجازه شيخ الإسلام ببلد الله الحرام مولانا الشيخ جمال الحنفي، المتوفّى في سنة أربع وثمانين بعد الألف والمائتين، ومفتي الشافعية بمكة المعظمة مولانا السيد أحمد بن زيني دحلان، والمدرِّس بالمسجد النبوي(1/112)
مولانا الشيخ محمد بن محمد الغرب الشافعي، ونزيل المدينة الطيبة مولانا الشيخ عبد الغني ابن الشيخ أبي سعيد المجددي المتوفَّى في سادس المحرم من السنة السادسة والتسعين، ومولانا الشيخ علي ملك باشلي الحريري المدني، ومولانا حسين أحمد المحدث المليح آبادي المتوفي السنة السادسة والسبعين في ومضان، من تلامذة الشيخ عبد العزيز الدهلوي، وغيرهم، عن شيوخهم، وأساتذتهم على ما هو مبسوط في قراطيس إجازاتهم ودفاتر أسانيدهم، وأجازني أيضاً بلا واسطة مولانا السيد أحمد دحلان، عن شيوخه في السنة التاسعة والسبعين حين تشرفت بزيارة الحرمين (في الأصل: "بالحرمين") الشريفين، مع الوالد المرحوم، ومولانا الشيخ علي الحريري المدني شيخ الدلائل أجازني بدلائل الخيرات في أوائل المحرم من سنة ثمانين، حين دخلت المدينة الطيبة، وأيضاً مولانا الشيخ عبد الغني المرحوم تشرفت بملاقاته مرة ثانية في أوائل المحرم من السنة الثالثة والتسعين، ولم يتيسَّر لي طلب الإِجازة منه فلما وصلت إلى الوطن كتبت إليه رقعة بطلب الإِجازة، فكتب إليَّ إجازة بما أجازه به الشيخ مولانا محمد إسحق، والشيخ مخصوص الله ابن مولانا رفيع الدين، ومحدث المدينة مولانا الشيخ عابد السندي مؤلف "حصر (في الأصل: "الحصر الشارد"، وهو خطأ) الشارد" والشيخ إسماعيل أفندي، ووالده مولانا الشيخ أبو سعيد المجددي، وأيضاً أجازني مفتي الحنابلة بمكة المعظمة مولانا محمد بن عبد الله بن حميد المتوفى السنة الخامسة والتسعين، تشرفت بملاقاتة بمكة في ذي القعدة من السنة الثانية والتسعين، وبعث إليَّ ورقة إجازة في السنة الثالثة والتسعين بما أجازه السيد الشريف محمد بن علي السنوسي الحسني عن شيوخه، على ما هو مثبت في كتابه "البدور الشارقة في أثبات ساداتنا المغاربة والمشارقة"، والسيد محمد الأهدل، والسيد محمود أفندي الآلوسي، مفتي بغداد مؤلِّف التفسير المشهور بروح البيان، وغيرهم، وتفصيل أسانيد مشائخي وشيوخ مشائخي، موكول إلى رسالتي "إنباء الخلان بأنباء علماء هندوستان"، وفقني الله لإتمامه.(1/113)
الفائدة العاشرة: في نشر مآثر الإِمام محمد وشيخيه أبي يوسف وأبي حنيفة:
- وهم المراد بأئمتنا الثلاثة في كتب أصحابنا الحنفية، ويعرف الأوّلان بالصاحبين، والثانيان بالشيخين، والأول والثالث بالطرفين، وقد ذكرت تراجمهم في كثير من الرسائل، كمقدمة الهداية، ومقدمة الجامع الصغير، وطبقات الحنفية، وغيرها، والآن نذكر قدراً ضرورياً منها.
- أما محمد، فهو أبو عبد الله محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني (انظر ترجمته في: وفيات الأعيان 1/574، تهذيب الأسماء واللغات 1/80، البداية والنهاية 1/202، الكامل في التاريخ 6/14، طبقات الفقهاء للشيرازي 114، تاريخ بغداد 2/172 - 182، الفوائد البهية 163) نسبة ولاء إلى شيبان، بفتح الشين المعجمة، قبيلة معروفة، الكوفي، صاحب الإمام أبي حنيفة، أصله من دمشق، من أهل قرية يُقال لها حَرسَتا، بفتح الحاء المهملة وسكون الراء المهملة وفتح السين المهملة، قدم أبوه العراق، فوُلد له محمد بواسط، ونشأ بالكوفة، وتلمذ لأبي حنيفة، وسمع الحديث عن مسعر بن كدام، وسفيان الثوري، وعمرو بن دينار، ومالك بن مغول، والإمام مالك بن أنس، والأَوزاعي، وربيعة بن صالح، وبكير، والقاضي أبي يوسف، وسكن بغداد وحدّث بها، وروى عنه الإمام الشافعي محمد بن إدريس، وأبو سليمان موسى بن سليمان الجوزجاني، وهشام بن عبيد الله الرازي، وأبو عبيد القاسم بن سلاّم، وعلي بن مسلم الطوسي، وأبو حفص الكبير، وخلف بن أيوب. وكان الرشيد ولاّه القضاء بالرقة، فصنف كتاباً مسمّى بالرقيات، ثم عزله، وقدم بغداد، فلما خرج هارون الرشيد إلى الري الخرجة الأولى، أمره، فخرج معه، فمات بالري، سنة تسع وثمانين ومائة. وحُكي عنه أنه قال: مات أبي، وترك ثلاثين ألف درهم، فأنفقت خمسة عشرة ألفاً على النحو والشعر، وخمسة عشر ألفاً على الحديث والفقه، وقال الشافعي: ما رأيت سميناً أخف روحا من محمد بن الحسن، وما رأيت أفصح منه، كنت أظنّ إذا رأيتُه يقرأ القرآن كأن القرآن نزل بلغته، وقال أيضاً: ما رأيت أعقل من محمد بن الحسن، وروي عنه أن رجلاً سأله عن مسألة فأجابه،(1/114)
فقال الرجل: خالفك الفقهاء: فقال له الشافعي: وهل رأيتَ فقيهاً قط؟ اللهم إلاَّ أن يكون رأيت محمد بن الحسن. ووقف رجل على المزني، فسأله عن أهل العراق، فقال: ما تقول في أبي حنيفة؟ فقال: سيدهم، قال" أبو يوسف؟ قال: أتبعهم للحديث، قال: فمحمد بن الحسن؟ قال: أكثرهم تفريعاً؟ قال: فزفر أحدُّهم قياساً، وروي عن الشافعي أنه قال: ما ناظرتُ أحداً إلاَّ تغَّير وجهه ما خلا محمد بن الحسن، ولو لم يعرف لسانهم لحكمنا أنهم من الملائكة، محمد في فقهه، والكِسَائي في نحوه، والأصمعي في شعره، وروي عن أحمد بن حنبل أنه قال: إذا كان في المسألة قول ثلاثة لم يُسمع مخالفتهم، فقيل له: من هم؟ قال: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، فأبو حنيفة أبصرهم بالقياس وأبو يوسف أبصر الناس بالآثار، ومحمد أبصر الناس بالعربية. هذا كله أورده السمعاني في "كتاب الأنساب" (7/431 ط بيروت) .
وقال أبو عبد الله الذهبي في "ميزان الاعتدال" (3/513) : محمد بن الحسن الشيباني أبو عبد الله أحد الفقهاء ليَّنه النسائي وغيره من قِبَل حفظه، يروي عن مالك بن أنس وغيره، وكان من بحور العلم والفقه، قوياً في مالك. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" (5/121 - 122) : هو محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني مولاهم، ولد بواسط، ونشأ بالكوفة، وتفقّه على أبي حنيفة، وسمع الحديث من الثوري ومسعر وعمر بن ذر، ومالك بن مغول، والأوزاعي، ومالك بن أنس، وربيعة بن صالح، وجماعة، وعنه الشافعي، وأبو سليمان الجوزجاني، وهشام الرازي، وعلي بن مسلم الطوسي، وغيرهم، ولي القضاء في أيام الرشيد، وقال ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: قال محمد: أقمت على باب مالك ثلاث سنين، وسمعت منه أكثر من سبعمائة حديث، وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: حملت عن محمد وِقْر بعير كتباً، وقال عبد الله بن علي المديني، عن أبيه في حق محمد بن الحسن: صدوق. انتهى.(1/115)
وفي "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (هو يحيى بن شرف بن حسن النووي الدمشقي شارح "صحيح مسلم" المتوفى سنة 677 هـ) : قال الخطيب: وُلد محمد بواسط ونشأ بالكوفة، وسمع الحديث بها من أبي حنيفة ومسعر بن كدام وسفيان الثوري وعمر بن ذر، ومالك بن مغول، وكتب أيضاً عن مالك بن أنس، وربيعة بن صالح، وبكير بن عامر، وأبي يوسف، وسكن بغداد، وحدث بها، وروى عنه الشافعي وأبو سليمان الجوزجاني، وأبو عبيد وغيرهم، وقال محمد بن سعد كاتب الواقدي: كان أصل محمد من الجزيرة، وكان أبوه من جند الشام، فقدم واسطاً، فولد له (في الأصل: "فولد بها"، وهو تحريف) محمد سنة ثنتين وثلاثين ومائة، ونشأ بالكوفة، وطلب الحديث، وسمع سماعاً كثيراً، وجالس أبا حنيفة وسمع منه، ونظر في الرأي فغَلب (في الأصل: "فغلبت"، وهو تحريف) عليه، وعُرف به، وتقدم فيه، وقدم بغداد، فنزل بها، واختلف إليه الناس وسمعوا منه الحديث والرأي، وخرج إلى الرقة، وهارون الرشيد فيها، فولاه قضاءها، ثم عزله، فقدم بغداد، فلما خرج هارون إلى الريّ أمره فخرج معه، فمات فيها سنة تسع وثمانين. ثم روى الخطيب بإسناده إلى الشافعي، قال: قال محمد بن الحسن: أقمت على باب مالك ثلاث سنين وكسراً، قال: وكان يقول إنه سمع لفظاً أكثر من سبعمائة حديث، وكان إذا حدثهم عن مالك امتلأ منزله، وكثر الناس حتى يضيق عليهم الموضع، وبإسناده عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، قال: كان محمد يجلس في مسجد الكوفة وهو ابن عشرين سنة، وبإسناده عن الشافعي، قال: ما رأيت مبدناً قط أذكى من محمد بن الحسن، وعنه: كان إذا أخذ في المسألة كأنه قرآن ينزل، لا يقدّم حرفاً ولا يؤخِّره، وعنه كان محمد يملأ العين والقلب، وعنه قال: حملت عنه وِقْري بختي كتباً، وعن يحيى بن معين قال: كتبت "الجامع الصغير" عن محمد بن الحسن، وعن أبي عبيد: ما رأيت أعلم في كتاب الله منه، وعن إبراهيم الحربي، قال: قلت لأحمد: من أين لك هذه المسائل الدقيقة؟ قال: من كتب محمد بن(1/116)
الحسن، وبإسناده عن أبي رجاء عن محموية، قال: وكنا نُعدّه من الأبدال، قال: رأيت محمد بن الحسن في المنام، فقلت: يا أبا عبد الله، إلاَم صرتَ؟ قال: قال لي ربي: إني لم أجعلك وعاء للعلم وأنا أريد أن أعذّبك، قلت: ما فعل أبو يوسف؟ قال: فوقي (أي فوق محمد بن الحسن) قلت: فأبو حنيفة؟ قال: فوقه بطبقات كثيرة. انتهى (الأسماء واللغات 1/80 - 82) ملخصاً.
قلت: بهذه العبارات الواقعة من الأثبات وغيرها من كلمات الثقات التي تركنا ذكرها خوفاً من التطويل، يظهر جلالة قدره وفضله الجميل، فمن طعن عليه كأنه لم تَقْرَع سمْعَه هذه الكلمات، ولم يصل بصره إلى كتب النقاد الأثبات، وكفاك مدح الشافعي له بعبارات رشيقة وكلمات لطيفة، وروايته عنه. وقد أنكر ابن تيمية (يعني أحمد بن عبد الحليم الحَرَّاني الدمشقي المتوفى سنة 728 هـ. (ش)) في "منهاج السنة" الذي ألَّفه في ردّ "منهاج الكرامة" للحِلِّي (يعني الحسن بن يوسف بن مطهَّر الحِلِّي تلميذ الطوسي المتوفى سنة 726 هـ. (ش)) الشيعي تلمذَ الشافعي منه، وقد كذّبه مَنْ قبله كالنووي والخطيب والسمعاني وغيرهم وهم أعلم منه بحال إمامهم.
- أما أبو يوسف: فهو القاضي يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الكوفي، ذكره الذهبي في حفاظ الحديث في كتابه "تذكرة الحفاظ" (1/292 - 294. وله ترجمة في: وفيات الأعيان 6/378، الجواهر المضيّة 2/220، ومرآة الجنان 1/382، البداية والنهاية 10/180، وبروكلمان 3/245، وعبر الذهبي 1/284، النجوم الزاهرة 2/107) ، وقال في ترجمته: سمع هشام بن عروة، وأبا إسحق الشيباني، وعطاء بن السائب وطبقتهم، وعنه محمد بن الحسن الفقيه، وأحمد بن حنبل، وبشر بن الوليد، ويحيى بن معين وعلي بن الجعد، وعلي بن مسلم الطوسي، وخلق سواهم، نشأ في طلب العلم، وكان أبوه فقيراً، فكان أبو حنيفة يتعاهده، قال المزني: أبو يوسف أتبع القوم للحديث، وروى إبراهيم بن أبي داود عن يحيى بن معين، قال: ليس في أهل الرأي أحد أكثر(1/117)
حديثاً ولا أثبت منه، وروى عباس عنه قال: أبو يوسف صاحب حديث، وصاحب سنة، وقال ابن سماعة: كان أبو يوسف يصلي بعدما ولي القضاء في كل يوم مائتي ركعة، وقال أحمد: كان منصفاً في الحديث، مات سنة اثنتين وثمانين ومائة، وله أخبار في العلم والسيادة، وقد أفردته وأفردت صاحبه محمد بن الحسن في جزء. انتهى ملخصاً.
قال السمعاني (ص 439 ط قديم) : سمع أبا إسحق الشيباني، وسليمان التيمي، ويحيى بن سعيد (في الأصل: "سعد"، وهو تحريف) ، وسليمان الأعمش، وهشام بن عروة، وعبيد الله بن عمر العمري، وعطاء بن السائب، ومحمد بن إسحق، وليث بن سعد، وغيرهم، وتلمذ لأبي حنيفة، وروى عنه محمد بن الحسن، وبشر بن الوليد الكندي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين وغيرهم، وكان قد سكن بغداد، وولي قضاء القضاة، وهو أول من دُعي بقاضي القضاة في الإسلام، ولم يختلف يحيى بن معين وأحمد وابن المديني في كونه ثقة في الحديث، وهو أول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة، ونشر علمه في أقطار الأرض. انتهى.
- وأما أبو حنيفة: فله مناقب جميلة، ومآثر جليلة، عقل الإِنسان قاصر عن إدراكها، ولسانه عاجز عن تبيانها، وقد صنّف في مناقبه جمع من علماء المذاهب المتفرقة، ولم يطعن عليه إلاَّ ذو تعصُّبٍ وافرٍ أو جهالة مبيّنة، والطاعن عليه إن كان محدثاً أو شافعياً نعرض عليه كتب مناقبه التي صنفه علماء مذهبه، ونبرز عنده ما خفي عليه من مناقبه التي ذكرها فضلاء مسلكه، كالسيوطي مؤلِّف "تبييض الصحيفة في مناقب الإِمام أبي حنيفة"، وابن حجر المكي مؤلِّف "الخيرات الحسان في مناقب النعمان"، وكالذهبي ذكره في "تذكرة الحفاظ" و "الكاشف"، وأثنى عليه وأفرد في مناقبه رسالة (قد طُبعت هذه الرسالة بعنوان مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، بتحقيق الشيخ محمد زاهد الكوثري، والشيخ أبي الوفاء الأفغاني في بيروت سنة 1408 هـ) ، وابن خَلِّكان ذكر مناقبه في تاريخه، واليافعي(1/118)
مؤلِّف "مرآة الجنان" ذكر مناقبه فيه، والحافظ ابن حجر العسقلاني ذكره في "التقريب" وغيره، وأثنى عليه، والنووي شارح صحيح مسلم أثنى عليه في "تهذيب الأسماء واللغات"، والإِمام الغزالي أثنى عليه في "إحياء العلوم"، وغيرهم، وإن كان مالكياً نوقفه على مناقبه التي ذكرها علماء مشربه كالحافظ ابن عبد البر وغيره، وإن كان حنبلياً نطلعه على تصريحات أصحاب مذهبه كيوسف بن عبد الهادي الحنبلي مؤلف "تنوير الصحيفة في مناقب أبي حنيفة"، وإن كان من المجتهدين المرتفع عن درجة المقلّدين نسمعه ما جرى على لسان المجتهدين والمحدثين من ذِكْر مفاخره وسرد مآثره، وإن كان عامياً لا مذهب له، فهو من الأنعام، بل هو أضل نقوم عليه بالنكير، ونجعله مستحقاً للتعزيز. وكفاك من مفاخره التي امتاز بها بين الأئمة المشهورين كونه من التابعين، وهو وإن كان مختلَفاً فيه كما قال ابن نجيم المصري في "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" في بحث عدم قبول شهادة من يُظهر سب السلف: السب، الشتم، والسلف كما في "النهاية": الصحابة والتابعون وأبو حنيفة. انتهى. وزاد في "فتح القدير"، وكذا العلماء، والفرق بين السلف والخلف، أن السلف الصالح الصدر الأول من الصحابة والتابعين، والخلف: بفتح اللام، مَنْ بعدهم في الخير، وبالسكون في الشر. كذا في "مختصر النهاية" وعَطْفُ أبي حنيفة على التابعين إما عطف خاص على عام بناءً على أنه منهم كما في "مناقب الكردري"، وصرح به في "العناية"، أو ليس منهم بناء على ما صرح به شيخ الإِسلام ابن حجر، فإنه جعله من الطبقة السادسة ممن عاصر صغار التابعين، ولكن لم يثبت له لقاء أحد من الصحابة، ذكره في "تقريب التهذيب". انتهى كلام البحر، لكن الصحيح المرجَّح هو كونه من التابعين، فإنه رأى أنساً رضي الله عنه بناءً على أن مجرَّد رؤية الصحابة كافٍ للتابعية كما حققه الحافظ ابن حجر في غير "التقريب" والذهبي والسيوطي وابن حجر المكي وابن الجوزي والدارقطني وابن سعد والخطيب والولي العراقي وعلي القاري وأكرم السندي وأبو معشر وحمزة السهمي واليافعي والجزري والتوربشتي والسراج وغيرهم من المحدثين والمؤرخين المعتبرين، ومن أنكره فهو محجوج عليه بأقوالهم، وقد ذكرت تصريحاتهم وعباراتهم في رسالتي "إقامة الحجة على أن الإِكثار في التعبد ليس(1/119)
ببدعة" (طُبعت هذه الرسالة في حلب 1386 هـ) .
قال الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (1/168) : أبو حنيفة الإِمام الأعظم فقيه العراق النعمان بن ثابت هو زوطا التيمي الكوفي، مولده سنة ثمانين، رأى أنس بن مالك غير مرة لما قدم عليهم الكوفة، رواه ابن سعد عن سيف بن جابر عن أبي حنيفة أنه كان يقوله، وحدث عن عطاء ونافع وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وسلمة بن كهيل وأبي جعفر محمد بن علي وقتادة وعمرو بن دينار وأبي إسحق وخلق كثير، تفقّه به زفر بن هذيل وداود الطائي والقاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن وأسد بن عمرو والحسن بن زياد ونوح الجامع وأبو مطيع البلخي، وعدة، وكان تفقه بحماد بن أبي سليمان وغيره، وحدّث عنه وكيع ويزيد بن هارون وسعد بن الصلت وأبو عاصم وعبد الرزاق وعبيد الله بن موسى، وبشر كثير، وكان إماماً، ورِعاً، عالماً، عاملاً، متعبّداً، كبير الشأن، لا يقبلُ جوائز السلطان، بل يتّجر ويتكسب، قال ابن المبارك: أبو حنيفة أفقه الناس، وقال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة، وروى أحمد بن محمد بن القاسم عن يحيى بن معين، قال: لا بأس به، ولم يكن متّهماً، ولقد ضربه يزيد بن هبيرة على القضاء، فأبى أن يكون قاضياً، وقال أبو داود: إن أبا حنيفة كان إماماً، وقال بشر بن الوليد، عن أبي يوسف، قال: كنت أمشي مع أبي حنيفة، فقال رجل لآخر: هذا أبو حنيفة، لا ينام الليل، فقال: والله لا يتحدث الناس عني بما لم أفعل، فكان يُحيي الليل صلاةً ودعاءً وتضرُّعاً. قلت: مناقب هذا الإمام قد أفردتها في جزء. انتهى كلامه.
وقد ذكر النووي في "تهذيب الأسماء" (1/216 - 223) كثيراً من مناقبه في أربع ورقات، نقلاً عن الخطيب وغيره، وذكر أنه وُلد سنه ثمانين، وتوفي ببغداد سنة خمسين ومائة، على الصحيح المشهور بين الجمهور، وفي رواية غريبة أنه توفي سنة إحدى وخمسين، وعن مكي بن إبراهيم أنه توفي سنة ثلاث وخمسين.(1/120)
وقال ابن حجر المكي في "الخيرات الحسان" (ص 74) ، بعدما ذكر محاسنه ومحامده في ستةٍ وثلاثين فصلاً، في الفصل السابع والثلاثين، قال الحافظ ابن عبد البر ما حاصله: إنه أفرط بعض أصحاب الحديث في ذم أبي حنيفة، وتجاوزوا الحد في ذلك، لتقديمه القياس على الأثر، وأكثر أهل العلم يقولون: إذا صح الحديث بطل الرأي والقياس، لكنه لم يرو إلاَّ بعض أخبار الآحاد بتأويل محتمل، وكثير منه قد تقدمه إليه غيره وتابعه عليه مثله كإبراهيم النخعي وأصحاب ابن مسعود رضي الله عنه، إلاَّ أنه أكثر من ذلك هو وأصحابه، وغيره إنما يوجَد له ذلك قليلاً، ومن ثَمّ لما قيل لأحمد: ما الذي نُقم عليه؟ قال: الرأي، قيل: أليس مالك تكلم بالرأي، قال: بلى، ولكن أبو حنيفة أكثر رأياً منه، قيل: فهل أتكلم في هذا بحصته وهذا بحصته؟ فسكت أحمد، وقال الليث بن سعد: أحصيت على مالك سبعين مسألة، قال فيها برأيه، وكلها مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم نجد أحداً من علماء الأمة أثبت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ردَّه إلاَّ بحجة كادِّعاء نسخ أو بإجماع أو طعن في سنده، ولو ردَّه أحد من غير حجة لسقطت عدالته، فضلاً عن إمامته، ولزمه اسمُ الفسق، وعافاهم الله عن ذلك، وقد جاء عن الصحابة اجتهادهم بالرأي، القول بالقياس على الأصول ما سيطول ذكره، وكذلك التابعون. انتهى كلام ابن عبد البَرّ. والحاصل أن أبا حنيفة لم ينفرد بالقول بالقياس، بل على ذلك عامة عمل فقهاء الأمصار. انتهى.
وفي الخيرات الحسان، في الفصل الثامن والثلاثين (ص 84) : قال أبو عمر يوسف ابن عبد البر (في جامع بيان العلم وفضله 2/149) : الذين رَوَوْا عن أبي حنيفة، ووثّقوه، وأثنوا عليه أكثر من الذين تكلّموا فيه، والذين تكلموا فيه من أهل الحديث أكثر ما عابوا عليه الإغراق في الرأي والقياس، أي وقد مرّ (أي عند ابن عبد البر في جامع بيان العلم 2/148) أن ذلك ليس بعيب، وقد قال الإمام علي بن(1/121)
المديني: أبو حنيفة روى عنه الثوري، وابن المبارك، وحماد بن زيد، وهشام، ووكيع، وعباد بن العوام، وجعفر بن عون وهو ثقة لا بأس به، وكان شعبة حسن الرأي فيه، وقال يحيى بن معين: أصحابنا (يعني: أهل الحديث) يفرطون في أبي حنيفة وأصحابه، فقيل له: أكان يكذب؟ قال: لا.
وفي "طبقات شيخ الإسلام التاج السبكي" (1/188) ، الحذر كل الحذر أن تفهم أن قاعدتهم أن الجرح مقدَّم على التعديل، على إطلاقها، بل الصواب أن من ثبتت إمامته وعدالته، وكثر مادحوه وندر جارحه، وكانت هناك قرينة دالّة على سبب جرحه من تعصب مذهبيّ أو غيره لم يُلتفت إلى جرحه، ثم قال أي التاج السبكي (طبقات الشافعية 1/190) بعد كلام طويل: قد عرفناك أن الجارح لا يُقبل فيه الجرح وإن فسّره في حقّ من غلبت طاعاته على معصيته، ومادحوه على ذامِّيه، ومزكُّوه على جارحيه، إذا كانت هناك قرينة تشهد بأن مثلها حامل على الوقيعة فيه من تعصب مذهبي أو مناقشة دنيوية، وحينئذ فلا يلتفت لكلام الثوري (قول الثوري وغيره في أبي حنيفة غير موجود في "الطبقات" المطبوعة، وهو موجود في "الخيرات الحسان": (ص 74) نقلاً عن "الطبقات" فلعلها في بعض النسخ!) في (أبو حنيفة) ، وابن أبي ذئب وغيره في (مالك) ، وابن معين في (الشافعي) ، والنسائي في (أحمد بن صالح) ونحوه، قال: ولو أطلقنا تقديم الجرح لما سلم لنا أحد من الأئمة إذ ما من إمام إلاَّ وقد طعن فيه طاعنون، وهلك فيه هالكون. انتهى.
وفيه (الخيرات الحسان في مناقب النعمان ص 76) أيضاً في الفصل التاسع والثلاثين في رد ما نقله الخطيب في تاريخه من القادحين فيه (أي في أبي حنيفة رحمه الله تعالى (ش)) : علم أنَّه لم يقصد بذلك إلاَّ جمعَ ما قيل في الرجل على عادة المؤرِّخين، ولم يقصد بذلك انتقاصه، ولا حطّ مرتبته بدليل أنّه قدم كلام المادحين، وأكثر منه ومِن نَقْل مآثره، ثم عقبه بذكر كلام القادحين، ومما يدل على(1/122)
ذلك أيضاً أن الأسانيد التي ذكرها للقدح لا يخلو غالبها من متكلَّم فيه أو مجهول، ولا يجوز إجماعاً ثلمُ عِرض مسلم بمثل ذلك، فكيف بإمام من أئمة المسلمين، وبفرض صحة ما ذكره الخطيب من القدح عن قائله لا يُعتدّ به، فإنه إن كان من غير أقران الإمام فهو مقلِّد لما قاله أو كتبه أعداؤه، وإن كان من أقرانه فكذلك لما مرّ أن قول الأقران بعضهم في بعض غير مقبول، وقد صرح الحافظان: الذهبي وابن حجر بذلك، قالا: لا سيما إذا لاح أنه لعداوة أو لمذهب، إذ الحسد لا ينجو منه إلاَّ من عصمه الله، قال الذهبي: وما علمت أن عصراً سلم أهله من ذلك إلاَّ عصر النبيين والصدقين، وقال التاج السبكي: ينبغي لك أيها المسترشد أن تسلُكَ سبيل الأدب مع الأئمة الماضين، وأن لا تنظر إلى كلام بعضهم في بعض، إلاَّ إذا أُتي ببرهان واضح، ثم إن قدرت على التأويل وحسن الظن، فدونك، وإلاَّ فاضربْ صفحاً عما جرى بينهم، وإياك، ثم إياك أن تصغي إلى ما اتفق بين أبي حنيفة وسفيان الثوري، أو بين مالك وابن أبي ذئب، أو بين النسائي وأحمد بن صالح، أو بين أحمد والحارث بن أسد المحاسبي، وهلمّ جرّاً، إلى زمان العز بن عبد السلام والتقيّ بن الصلاح، فإنك إذا اشتغلت بذلك وقعت على الهلاك، فالقوم أئمة أعلام، ولأقوالهم محامل، وربما لم نفهم بعضها فليس لنا إلاَّ التراضي والسكوت عما جرى بينهم، كما نفعل فيما جرى بين الصحابة. انتهى.
وفيه أيضاً في "الفصل السادس": صح كما قاله الذهبي أنه رأى أنس بن مالك وهو صغير، وفي رواية مراراً، وكان يخضب بالحمرة، وأكثر المحدثين على أن التابعي من لقي الصحابي، وإن لم يصحبه، وصححه النووي كابن الصلاح، وجاء من طرق أنه روى عن أنس أحاديث ثلاثة (انظر أسماء الصحابة الذين سمع منهم أبو حنيفة في "الجواهر المضية في طبقات الحنفية" للقرشي 1/28) ، لكن قال أئمة الحديث: مدارها على من اتهمه الأئمة بالأحاديث، وفي "فتاوى شيخ الإِسلام ابن حجر" أنه أدرك جماعة من الصحابة كانوا بالكوفة، لأن مولده بها سنة ثمانين، فهو من طبقة التابعين، ولم يثبت ذلك لأحد من أئمة الأمصار المعاصرين له، كالأوزاعي بالشام، والحمّادَيْن(1/123)
بالبصرة، والثوري بالكوفة، ومالك بالمدينة، والليث بن سعد بمصر. انتهى كلام الحافظ، فهو من أعيان التابعين الذين شملهم قوله تعالى: (والَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإحْسَانٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَرَضُواعنه) (سورة التوبة: آية 100) . انتهى.
قلت: فهذه العبارات الواردة عن الثقات، لعلها لم تقرع سمع جهلاء عصرنا حيث يطعنون على أبي حنيفة ويحطّون درجته عن المراتب الشريفة، ويأبى الله إلاَّ أن يتم نوره ولو كره الكارهون: {وسيعلمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي مُنقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (سورة الشعراء: آية 227) . وخلاصة ما اشتهر بينهم، والعجب أنه أدرج بعضَها بعضُهُم في تصانيفهم، أمور: منها: أنه كان يقدم القياس على السنن النبوية، وهذا فرية بلا مرية، ومن شك في ذلك، فليطالع "الخيرات الحسان" و "الميزان" يظهر له أن زعمه موقع له في خسران.
ومنها: أنه كان كثير الرأي ولذا سمَّى المحدثون أصحابه بأصحاب الرأي. وهذا ليس بطعن بالحقيقة، فإن كثرة الرأي والقياس دالّة على نباهة الرجل ووفور عقله عند الأكياس، ولا يفيد العقل بدون النقل ولا النقل بدون العقل، واعتقادنا واعتقاد كل منصف في حقه أنه لو أدرك زماناً كثرت فيه رواية الأحاديث وكشف المحدثون عن جمالها القناع بالكشف الحثيث لقل القياس في مذهبه، كما حققه عبد الوهاب الشعراني في ميزانه (1/53) ، وملاّ معين في كتابه "دراسات اللبيب في الأسوة الحسنة بالحبيب".
ومنها: أنه قليل الرواية للأخبار النبوية، وهذا أيضاً ليس بطعن في الحقيقة، فإن مرتبته في هذا تُشابه المرتبة الصِّدِّيقّية، فإن كان هذا طعناً، كان أبو بكر الصديق أفضل البشر بعد الأنبياء بالتحقيق مطعوناً، فإنه أيضاً قليل الرواية بالنسبة إلى بقية الصحابة، حاشاهم، ثم حاشاهم عن هذه الوسمة.
ومنها: أنه كان كثير التعبُّد حتى إنه كان يُحيي الليل كلَّه، وهو بدعة ضلالة،(1/124)
وهذا قول صدر عن غفلة، ولقد قفَّ شعري من سماعه، ووقعت في التعجب من قائله، فإن كثرة العبادة حسب الطاقة كإحياء الليلة كلها وختم القرآن في ليلة، وأداء ألف ركعة، ونحو ذلك منقول بالنقول الصحيحة عن كثير من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الفقهاء والمحدثين، كعثمان، وعمر، وابن عمر، وتميم الداري، وعلي، وشداد بن أوس رضي الله عنهم، ومسروق، والأسود النخعي، وعروة بن الزبير، وثابت البناني، وزين العابدين علي بن الحسين، وقتادة، ومحمد بن واسع، ومنصور بن زاذان، وعلي بن عبد الله بن عباس، والإِمام الشافعي، وسعد بن إبراهيم الزهري، وشعبة بن الحجاج، والخطيب البغدادي، وغيرهم ممن لا يُحصى عددهم، فيلزم أن يكون هؤلاء كلُّهم من المبتدعين، ومن التزمه فهو أكبر المبتدعين الضالِّين، وقد حققت المسألة مع ما لها وما عليها في "إقامة الحجة" (طبع من حلب: كتاب "إقامة الحجة على أن الإكثار في التعبُّد ليس ببدعة" بتحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة) .
ومنها: أنه قد جرحه سفيان الثوري والدارقطني والخطيب والذهبي وغيرهم من المحدثين. وهذا قول صدر عن الغافلين، فإن مطلق الجرح إن كان عيباً يُترك به المجروح، فليترك البخاري ومسلم والشافعي، وأحمد ومالك ومحمد بن إسحق صاحب المغازي، وغيرهم من أجلّة أصحاب المعاني، فإن كلاًّ منهم مجروح ومقدوح، بل لم يسلم من الجرح أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل يقول قائل: بقبول الجرح فيهم؟ كلا، والله لا يقول به من هو من أرباب العقول، وإن كان بعض أقسام الجرح موجباً لترك المجروح، فالإِمام بريء عنه عند أرباب الإِنصاف والنصوح، فإن بعض الجروح التي جرح بها (في الأصل: "به"، وهو تحريف) مبهم، كقول الذهبي في "ميزان الاعتدال" (ميزان الاعتدال: 1/226) : إسماعيل بن حماد بن الإِمام أبي حنيفة ثلاثتهم ضعفاء. انتهى.
وقد تقرر في الأصول أنه لا يُقبل الجرح المبهم، لا سيما في حق من ثبتت عدالته، وفسرت تعديلاته، واستقرت إمامته، وقد بسطت الكلام في هذه المسألة(1/125)
في رسالتي "الكلام المبرور والسعي المشكور على رغم أنف من خالق الصحيح والجمهور"، وبعض الجروح صدر من معاصريه وقد تقرر في مقرِّه أن جرح المعاصر لا يُقبل في حق المعاصر، لا سيما إذا كانت لتعصب أو عداوة (قد بسطه المؤلف في كتابه الجرح والتعديل ص 189) ، وإلاَّ فليقبل جرح ابن معين في الشافعي، وأحمد في الحارث المحاسبي، والحارث في أحمد، ومالك في محمد بن إسحق صاحب حديث القُلّتين (قد استوفى المؤلف رحمه الله توثيق (محمد بن إسحاق) في كتابه (إمام الكلام) كل الاستيفاء حتى استوعب عشر صفحات: (ص 192 - 201)) ، والقراءة خلف الإِمام وغيرهم. كلا، والله لا نقبل كلامهم فيهم ونوفيهم حظهم، وبعض الجروح صدر من المتأخرين المتعصِّبين كالدارقطني، وابن عدي، وغيرهما، ممن تشهد القرائن الجلية بأنه في هذا الجرح من المتعسفين، والتعصب أمر لا يخلو منه البشر إلاَّ من حفظه خالق القُوى والقُدَر، وقد تقرر أن مثل ذلك غير مقبول من قائله، بل هو موجب لجرح نفسه، ولقد صدق شيخ الإِسلام بدر الدين محمود العيني في قوله في بحث قراءة الفاتحة من "البناية شرح الهداية"، في حق الدارقطني: من أين له تضعيف أبي حنيفة؟ وهو مستحِقّ للتضعيف، فإنه روى في "مسنده" أحاديث سقيمة، ومعلولة، ومنكرة، وغريبة، وموضوعة. انتهى،
وفي قوله في بحث إجارة أرض مكة ودورها: وأما قول ابن القطان: وعلّته ضعف أبي حنيفة، فإساءة أدب، وقلة حياء منه، فإن مثل الإِمام الثوري، وابن المبارك وأضرابهما وثّقوه وأثَنْوا عليه خيراً فما مقدار من يضعّفه عند هؤلاء الأعلام. انتهى.
وهناك خلق لهم تشدّد في جرح الرواة يجرحون الرواة من غير مبالاة ويدرجون الأحاديث الغير الموضوعة في الموضوعات، منهم: ابن الجوزي، والصغاني، والجوزقاني، والمجد الفيروزآبادي، وابن تيمية الحَرَّاني الدمشقي، وأبو الحسن بن القطان وغيرهم كما بسطته في "الكلام المبرم" و "الأجوبة الفاضلة" فلا يجترئ على قبول قولهم من دون التحقيق إلاَّ من هو غافل عن أحوالهم، ومنهم من عادتُهُ في تصانيفه كابن عدي في "كامله"، والذهبي في "ميزانه" أنه يذكر كل ما قيل في الرجل من دون الفصل بين المقبول والمهمل، فإيّاك، ثم إيّاك أن تجرح أحداً(1/126)
بمجرد قولهم من دون تنقيده بأقوال غيرهم، كما ذكرتُ كل ذلك في "السعي المشكور في ردّ المذهب المأثور"، وبعض الجروح لا تثبت برواية معتبرة كروايات الخطيب في جرحه، وأكثر من جاء بعده عيال على روايته، فهي مردودة ومجروحة.
ومنها: أن كثيراً من تلامذته كانوا من الوضّاعين والمجروحين: كنوح الجامع، وأبي مطيع البلخي، والحسن اللؤلؤي. وهذا جرح مخالف لقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ولو كان هذا جرحاً لكان كثير من سادات أهل البيت كجعفر الصادق، ومحمد الباقر، ومن فوقهما من المجروحين، فإن كثيراً من تلامذتهم كانوا رفاضاً كذابين.
ومنها: أنه روى كثيراً عن الضعفاء. وهذا أمر مشترك بين العلماء، فإن كثيراً من رواة الشافعي ومالك وأحمد والبخاري ومسلم ومن يحذو حذوهم كانوا ضعفاء.
ومنها: أنه كان قليل العربية، وهذا الطعن أدرجه بعضهم في تصانيفهم، مع كونه غير قادح عند أهل الحديث وحَمَلة الأخبار، ومع تصريح الثقات بجوابه والاعتذار كما في "تاريخ" ابن خَلَّكان بعد ذكر كثير من مناقبه، وكثير من مدائحه: وقد ذكر الخطيب في "تاريخه" شيئاً كثيراً منها، ثم أعقب ذلك بذكر ما كان الأليق تركه والإِضراب عنه، فمثل هذا الإِمام لا يُشَكّ في دينه، ولا في ورعه ولا تحفّظه، ولم يكن يُعاب بشيء سوى قلة العربية، فمن ذلك ما رُوي أن أبا عمرو بن العلاء المُقرئ النَّحْوي سأله عن القتل بالمُثَقَّل: هل يوجب القَوَد أم لا؟ كما هو عادة مذهبه خلافاً للشافعي، فقال له أبو عمرو: ولو قتله بحجر المنجنيق؟ فقال: ولو قتله بأبا قبيس يعني الجبل المُطِلّ بمكة، وقد اعتذروا عن أبي حنيفة أنه قال ذلك على لغة من يقول: إن الكلمات الست المعربة بالحروف وهي أبوه وأخوه وحَمُوه وهَنُوه وفُوه وذو مال، إعرابها يكون في الأحوال الثلاث بالألف، وأنشدوا في ذلك:
إن أباها وأبا أباها * قد بلغا في المجد غايتاها
انتهى.
وبالجملة فمناقب الإِمام لا تُحصى ولا تعد، ومعائبه وجروحه غير مقبولة على(1/127)
المعتمد، وما مَثَله في ذلك إلاَّ كمثل خاتم أنبياء بني إسرائيل سيدنا عيسى وخاتم الخلفاء الأربعة عليٍّ المرتضى، حيث هلك فيهما مُحِبٍّ مفرط ومبغض مفرط، وكمثل سعد حيث شكاه عند عمر أهلُ الكوفة في كل شيء، حتى قالوا: إنه لا يحسن يصلي، فبرّأه الله مما قالوا، وهلكوا بدعائه المستجاب، وخسروا كما لا يخفى على ناظر كتب الصحاح والسنن المسانيد. ومن أراد الاطلاع على التفصيل في محاسنه، فليرجع إلى كتب مناقبه وغيرها فتندفع بها المعائب التي توهَّمها، وفيما ذكرناه كفاية لأرباب الإِنصاف، وأما أهل الاعتساف، فهم مطروحون خامدون، لا يليق أن يخاطَب بهم أرباب الانتصاف، ولا حاجة لنا إلى أن نمدحه بمدائح كاذبة ومحاسن غير ثابتة كما ذكر جماعة من المحبَّين المفرطين أنه تعلم منه الخضر على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وأن عيسى حين ينزل في زمن الدجّال، والإِمام مهدي، يحكمان بمذهبه، وأنه بشّر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "يكون في أمتي رجل يُكنى بأبي حنيفة ويسمّى بالنعمان ... " الحديث، فإن أمثال هذه الأخبار كلها موضوعة، وأشباه تلك المناقب كلها مكذوبة كما حققه علي القاري في "المشرب الوردي بمذهب المهدي"، والسيوطي في "الإِعلام بحكم عيسى عليه السلام"، وابن حجر في "الخيرات الحسان في مناقب النعمان".
الفائدة الحادية عشرة: [أهمية رواية محمد، وترجيحها على رواية يحيى المشهورة]
- قد كثر الاعتماد على موطأ مالك برواية يحيى الأندلسي الليثي المصمودي الذي شرحه الزرقاني وغيره، ومر أنه المتبادر بالموطأ عند الإِطلاق، واشتهر فيما بين الموطأ (أي بين روايات الموطأ) اشتهاراً كثيراً في الآفاق، وأكبّ عليه العلماء ممن هو في عصرنا، وكثير ممن سبقنا بتدريسه ومدُّوا إليه الأعناق، وظن كثير منهم أن الموطأ برواية محمد بن الحسن الشيباني (اختلف العلماء في تسمية هذا الكتاب فمنهم من قال موطأ محمد، ومنهم من قال موطأ مالك برواية محمد بن حسن الشيباني، وهذا هو الأنسب عندي، وقد حقق ذلك أخونا الدكتور الفاضل محمد بن علوي المالكي الحسني في كتابه "أنوار المسالك إلى روايات موطأ مالك ص 172" طبع بدولة قطر) ليست بذاك، وأنها ليست معتبرة، ولا داخلة في ما هنالك.(1/128)
والذي أقول طالباً الإنصاف من نقاد الفحول: أن الوجوه التي تخطر بالأوهام باعثة على عدم الاعتماد عليه (في الأصل: "إليه"، والصواب: "عليه") كلها غير مقبولة عند الأعلام، بل له ترجيح على الموطّأ برواية يحيى، وتفضيل علية، لوجوه مقبولة عند أولي الإفهام.
الأول: أن يحيى الأندلسي إنما سمع الموطّأ بتمامه من بعض تلامذة مالك، وأما مالك فلم يسمعه عنه بتمامه، بل بقي قدر منه، وأما محمد فقد سمع منه بتمامه كما مرّ فيما مر، ومن المعلوم أن سماع الكل من مثل هذا الشيخ بلا واسطة أرجح من سماعه بواسطة.
الثاني: أنه قد مرّ أن يحيى الأندلسي حضر عند مالك في سنة وفاته، وكان حاضراً في تجهيزه، وأن محمداً لازمه ثلاث سنين من حياته ومن المعلوم أن رواية طويل الصحبة أقوى من رواية قليل الملازمة.
الثالث: أن موطّأ يحيى اشتمل كثيراً على ذكر المسائل الفقهية، واجتهادات الإمام مالك المرضية، وكثير من التراجم ليس فيه إلاّ ذكر اجتهاده واستنباطه، من دون إيراد خبر، ولا أثر، بخلاف موطأ محمد، فإنه ليست فيه ترجمة باب (في الأصل: "الباب"، والصواب: "باب") خالية عن رواية مطابقة لعنوان الباب، موقوفة كانت أو مرفوعة، ومن المعلوم أن الكتاب المشتمل على نفس الأحاديث من غير اختلاط الرأي أفضل من المخلوط بالرأي.
الرابع: أن موطّأ يحيى اشتمل على الأحاديث المروية من طريق مالك لا غيره، وموطّأ محمد مع اشتماله عليه مشتمل على الأخبار المروية من شيوخ أخر غيره، ومن المعلوم أن المشتمل على الزيادة أفضل من العاري عن هذه الفائدة.
الخامس: وهو بالنسبة إلى الحنفية خاصةً، أن موطّأ يحيى مشتمل كثيراً على اجتهاد مالك المخالفة لآراء أبي حنيفة وأصحابه، وعلى الأحاديث التي لم يعمل بها أبو حنيفة وأتباعهم بادعاء نسخ، أو إجماع على خلافه أو إظهار خلل في السند، أو أرجحيّة غيره، وغير ذلك من الوجوه التي ظهرت لهم، فيتحير الناظر فيها ويبعث(1/129)
ذلك العامي على (في الأصل: "إلى"، والصواب: "على") الطعن عليهم، أو عليها، بخلاف موطّأ محمد، فإنه مشتمل على ذكر الأحاديث التي عملوا بها بعد ذكر ما لم يعملوا به (في الأصل: "بعد ما ذكر ما لم يعملوا بها"، وهو خطأ) ، كما لا يخفي على من طالع بحث رفع اليدين، والقراءة خلف الإمام، وغيرها. وهذا نافع للعامي وللخاص، أما العامي فيصير محفوظاً عن سوء الظنون، وأما الخاص فيبرز بتنقيد أحاديث الطرفين الترجيح المكنون، وستطّلع في كتابي هذا إن شاء الله تعالى على ذكر الترجيح في مواضعه فيما بين المذاهب المختلفة، من دون الحميّة حميّة الجاهلية.
فإن قلت: إن موطّأ يحيى هو المتبادر (في الأصل: "هي المتبادرة"، وهو خطأ) من الموطّأ عند الإطلاق، وهذا آية ترجيحه على سائر الموطآت بخلاف موطّأ محمد، فإنه لا يتبادر منه عند الإطلاق.
قلت: يلزم منه ترجيح موطّأ يحيى على موطأ القعنبي والتنيسي أيضاً، وهما أثبت الناس في الموطأ عند ابن معين وابن المديني والنسائي، وموطأ معن بن عيسى أيضاً وهو أثبت الناس في الموطأ عند أبي حاتم كما مر ذكره في الفائدة السادسة، وليس كذلك.
فإن قلت موطأ يحيى هو المشهور (في الأصل: "هي المشهورة"، وهو خطأ) في الآفاق، وموطأ محمد ليس كذلك.
قلت: هذا لا يستلزم الترجيح في الشيء، فإن وجه شهرته على ما ذكره الزرقاني في شرحه أن يحيى لما رجع إلى الأندلس انتهت إليه رئاسة الفقه بها، وانتشر به المذهب وتفقّه به من لا يحصى وعرض عليه القضاء فامتنع، فعلت رتبته على القضاة، وقبل قوله عند السلطان، فلا يُولِّي أحداً قاضياً في أقطاره إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلاَّ بأصحابه، فأكب الناس عليه لبلوغ أغراضهم، وهذا سبب اشتهار الموطّأ بالمغرب من روايته دون غيره. انتهى.
فإن قلت: موطّأ مالك برواية يحيى مشتمل على الأحاديث التي من طريقه،(1/130)
وموطأ محمد مشتمل عليه وعلى غيره، فبهذا السبب موطأ يحيى صار مرجحاً على موطأ محمد.
قلت: هذا يقتضي ترجيح موطأ محمد كما مرَّ معنا ذكره، وإنما يصلح هذا سبباً لتبادر موطأ يحيى عند الإطلاق بالموطأ بالنسبة إلى موطأ محمد لا لترجيحه عليه.
فإن قلت: يحيى الأندلسي ثقة، فاضل، ومحمد ليس كذلك.
قلت: إن أريد به أنه لم يطعن على يحيى بشيء، فهو غير صحيح، لما قال الزرقاني في ترجمته: فقيه، ثقة، قليل الحديث، وله أوهام، مات سنة أربع وثلاثين ومائتين. انتهى. وإن أريد به أن الطعن عليه لا يقدح في وثاقته، فكذلك محمد لا يوجب طعن من طعن عليه تركه، والجواب عن الطعن عليه كالجواب عن الطعن على شيخه، على أنه مر عن "الميزان"، أنه كان من بحور العلم والفقه، قوياً في مالك: فإن ثبت ضعفه عن غير مالك فلا يضر فيما هنالك.
فإن قلت: كثير من شيوخ الأسانيد التي أوردها محمد ضعفاء (في الأصل: "ضعيفة"، وهو تحريف) .
قلت: أما الأسانيد التي أوردها من طريق مالك فشيوخها هم المذكورون في موطأ يحيى وغيره، فلا يضر الكلام فيهم، وأما التي أوردها من طريق غيره، فليس أن جميع رجالها ضعفاء، بل أكثرهم ثقات أقوياء، وكون بعضهم من الضعفاء لا يقدح في المرام، فإن هذا ليس أول قارورة كسرت في الإسلام، ومن ادّعى أن كلَّهم ضعفاء فليأت بالشهداء.
فإن قلت: جماعة من المتحدثين لا يعدّون موطأ محمد في عداد الموطآت، ولا يعتمدون عليه كاعتمادهم على سائر الموطآت.
قلت: إن كان ذلك لوجه وجيه، فعلى الرأس والعين، وإلاَّ فإيراد هذا الكلام خارج عن البين، وهناك جماعة من المحدثين قد عدُّوه في عداد الموطآت ونقدوا روايته كسائر الروايات.(1/131)
فإن قلت: كان يحيى وغيره من رواة الموطأ من المحدثين، ومحمد كان من أصحاب الرأي، لا من المحدثين.
قلت: ليس كذلك، فإن لمحمد تصانيف عديدةَ في الفقه والحديث منها: هذا الكتاب، وكتاب الآثار، وغيرهما، ويحيى لم يشتهر له تأليف سوى هذا الموطأ، وكلامنا فيه، لا في غيرهما (في الأصل: "كلامنا فيهما، لا في غيرهما"، وهو خطأ) ، وأما الطعن عليه بأنه كان من أصحاب الرأي، فغير مقبول عند أرباب العقل، وسلامة الرأي كما مرّ ذكره عند ذكر شيخه.
الفائدة الثانية عشرة: في تعداد الأحاديث والآثار التي في موطأ الإمام محمد [بالتفصيل] :
- وقد اجتهدت في جمعها وسهرت في عدّها، فأن كان وقع فيه الخطأ فأرجو من ربي العفو والعطاء.
من ابتداء الكتاب إلى باب الأذان والتثويب مائة (100) بعضها من طريق مالك وبعضها عن غير مالك.
أما من طريق مالك: فالمرفوعة اثنان وعشرون (22) ، وآثار أبي هريرة رضي الله عنه أربعة (4) ، وآثار أنس رضي الله عنه ثلاثة (3) ، وأثر عبد الله بن زيد رضي الله عنه واحد (1) ، وكذلك أثر عامر العدوي رضي الله عنه واحد (1) وأثر أبي بكر الصديق واحد (1) وأثر جابر رضي الله عنه واحد (1) ، وأثر صفية زوجة ابن عمر واحد (1) ، وأثر زيد بن ثابت رضي الله عنه واحد (1) ، وأثر أُبي بن كعب رضي الله عنه واحد (1) ، وأثر زيد بن أسلم مولى عمر واحد (1) ، وأثر إبنة زيد بن ثابت واحد (1) ، وأثر أبي قتادة رضي الله عنه واحد (1) ، وآثار عمر بن الخطاب رضي الله عنه سبعة (7) ، وآثار سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه اثنان (2) ، وآثار ابن عمر أحد عشر (11) ، وآثار عثمان اثنان (2) ، وآثار سعيد بن المسيب ثلاثة (3) ، وآثار سالم بن عبد الله بن عمر اثنان (2) ، وآثار سليمان بن يسار اثنان (2) ، وكذلك آثار عروة بن الزبير بن العوام اثنان (2) ، وآثار عائشة رضي الله عنها خمسة (5) ، وجملتها خمسة وسبعون (75) .(1/132)
وأما من غير طريق مالك، فالمرفوعة أربعة (4) : من طريق أيوب بن عتبة اليمامي واحد (1) ، وطريق الإمام أبي حنيفة (1) ، ومن طريق الربيع بن صبيع (1) ، وبلاغاً (1) ، من غير ذكر السند. وآثار عبد الله بن العباس رضي الله عنه أربعة (4) ، أيضاً: من طريق طلحة المكي (1) ، وطريق إبراهيم المدني (1) ، وطريق أبي العوام البصري (1) ، وطريق محمد بن أبان (1) ، وآثار علي بن أبي طالب رضي الله عنه اثنان (2) : من طريق الإمام أبي حنيفة (1) ، وطريق مسعر بن كدام (1) . وآثار عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ثلاثة (3) : من طريق أبي حنيفة (1) ، وطريق سلآّم بن سليم (1) ، وطريق أبي كدنية (1) ، وآثار حذيفة رضي الله عنه إثنان (2) من طريق سلام (1) وطريق مسعر (1) وآثار إبراهيم النخعي اثنان: من طريق محلّ الضبي (1) ، وطريق محمد بن أبان (1) . وكذلك آثار عائشة رضي الله عنه: اثنان (2) من طريق عباد بن العوام (1) وبلا سند. وأثر ابن المسيب واحد (1) من طريق إبراهيم المديني. وكذلك أثر عمار بن ياسر رضي الله عنه (1) من طريق مسعر، وأثر سعد رضي الله عنه (1) من طريق يحيى بن المهلّب. وأثر أبي الدرداء رضي الله عنه من طريق إسماعيل بن عياش، وأثر مجاهد (1) من طريق سفيان الثوري. وأثر علقمة بن قيس من طريق سلاّم (1) . وجملتها: خمسة وعشرون (25) .
ومن باب الأذان إلى باب الجلوس في الصلاة تسعة وستون (69) .
أما من طريق مالك فالمرفوعة أربعة عشر (14) ، وآثار عمر رضي الله عنه أربعة (4) ، وآثار ابن عمر رضي الله عنه ستة عشر (16) ، وآثار جابر رضي الله عنه اثنان (2) ، وآثار أبي هريرة ثلاثة (3) ، وأثر عثمان رضي الله عنه واحد (1) ، وكذلك أثر عبد الله بن عمرو بن العاص (1) ، وأثر عائشة رضي الله عنها (1) ، وأثر كعب الأحبار (1) ، وأثر أبي بكر بن عبد الرحمن (1) . وجملتها أربعة وأربعون (44) .
وأما من غيره، فالمرفوعة أربعة (4) : من طريق القاضي أبي يوسف (1) ، وطريق أبي حنيفة (1) ، وطريق أبي علي (1) ، وطريق إسرائيل (1) . وآثار علي(1/133)
رضي الله عنه اثنان (2) : من طريق محمد بن أبان (1) ومن طريق أبي بكر النهشلي (1) . وآثار ابن عمر رضي الله عنه أربعة (4) : من طريق ابن أبان (1) ، وطريق عبيد الله العمري (1) ، وطريق عبد الرحمن المسعودي (1) ، وطريق أسامة المدني (1) . وآثار ابن مسعود ستة (6) : من طريق الثوري اثنان (2) ، وطريق ابن عيينة (1) ، وطريق ابن أبان (1) ، وطريق محلّ الضبي (1) ، وبلا سند (1) . وأثر سعد رضي الله عنه واحد (1) من طريق داود بن قيس. وكذلك أثر عمر رضي الله عنه من طريقه (1) . وأثر زيد من طريقه (1) . وأثر أنس رضي الله عنه من طريق يحيى بن سعيد (1) . وأثر القاسم بن محمد بن أبي بكر (1) من طريق أسامة. وأثر علقمة (1) من طريق بكير بن عامر. وآثار إبراهيم النخعي ثلاثة (3) : من طريق أبان (1) ، وطريق أبي يوسف (1) ، وطريق إسرائيل (1) . وجملتها خمسة وعشرون (25) .
ومن باب الجلوس إلى باب وقت الجمعة ستة وسبعون (76) .
أما من طريق مالك، فالمرفوعة ثمانية وعشرون (28) ، وآثار ابن عمر اثنان وعشرون (22) ، وآثار عمر ستة (6) ، وأثر أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها واحد (1) ، وكذلك أثر أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها (1) ، وأثر معاذ رضي الله عنه (1) ، وأثر أبي هريرة رضي الله عنه (1) ، وأثر عائشة رضي الله عنها (1) ، وأثر زيد بن ثابت رضي الله عنه (1) ، وأثر أنس رضي الله عنه (1) ، وأثر أبي أيوب رضي الله عنه (1) ، وأثر سالم (1) ، وأثر ابن المسيّب (1) ، وجملتها ستة وستون (66) .
وأما من غيره، فالمرفوعة اثنان (2) : من طريق بشر، أو بسر، أو محمد بن بشر (1) على اختلاف النسخ، وطريق ابن أبان (1) . وآثار ابن عمر ستة (6) : بلاغاً (1) ، ومن طريق أبي حنيفة (1) ، وطريق عمر بن ذر (1) ، وطريق ابن أبان (1) ، وطريق خالد الضبي (1) ، وطريق الفضل بن غزوان (1) . وأثر عمر واحد (1) بلاغاً. وكذلك أثر عروة (1) عن ابن عيّاش وجملتها عشرة (10) .
ومن باب وقت الجمعة لإلى باب أمر القبلة سبعون (70) .(1/134)
أما من طريق مالك فالمرفوعة ثمانية عشرة (18) ، وآثار عمر ثمانية (8) ، وآثىر عثمان ثلاثة (3) ، وآثار ابن عمرثلاثة (3) ، وآثار أبي هريرة ثلاثة (3) ، وأثر علي واحد (1) ، وكذلك أثر أبي بكر (1) ، وأثر عبد الله بن عامر بن ربيعة (1) ، وأثر مسعود (1) ، وأثر ابن عباس (1) ، وأثر بن الصامت رضي الله عنه (1) ، وأثر كعب (1) ، وأثر الزهري (1) ، وآثار القاسم ثلاثة (3) ، وجملتها ستة وخمسة (56) .
وأما من غير طريق مالك، فالمرفوعة ثلاثة: بلا سند (1) ، ومن طريق أبي حنيفة (1) ، ومن طريق سعيد بن عروة (1) ، وآثار عمر اثنان (2) : بلا سند (1) ، ومن طريق أبي حنيفة (1) ، وآثار ابن مسعود خمسة (5) : بلا سند (1) ، ومن طريق عبد الرحمن المسعودي (1) ، ومن طريق أبي معاوية المكفوف (1) ، ومن طريق أبي يوسف (1) ، ومن طريق سلاّم (1) . وأثر ابن عمر (1) بلا سند. وكذلك أثر عمّار (1) بلاغاً. وأثار ابن عباس اثنان (2) : بلا سند (1) ومن طريق اسماعيل (1) . وجملتها أربعة عشر (14) .
ومن باب القبلة إلى فضل الجهاد ثمانية عشر (18) .
اثنتا عشرة (12) مرفوعة من طريق مالك، واثنان (2) من أثار ابن عمر من طريقه وأثر عمر واحد (1) من طريقه، وكذلك أثر زيد (1) .
والمرفوعة لمحمد اثنان (2) ، من طريق المبارك بن فضالة (1) ، ومن طريق بكير (1) .
ومن باب فضل الجهاد إلى كتاب الزكاة سبعة وعشرون (27) .
فالمرفوعة تسعة (9) ، وآثار ابن عمر ثمانية (8) ، وأثر أبي هريرة ثلاثة (3) ، وأثر أسماء زوجة أبي بكر واحد (1) ، وكذلك أثر عبد الله بن عمر (1) ، وأثر الخلفاء (1) ، وأثر عمر (1) ، وأثر عائشة (1) ، فهذه خمسة وعشرون (25) ، كلها من طريق مالك.
وأثر أبي هريرة (1) ، وأثر علي (1) كلاهما بلاغاً من محمد.
ومن كتاب الزكاة إلى أبواب الصيام ثلاثون (30) .(1/135)
فالمرفوعة ستة (6) ، وآثار عثمان ثلاثة (3) ، وآثار ابن عمر أربعة (4) ، وآثار عمر خمسة (5) ، وأثر أبي بكر رضي الله عنه واحد (1) ، وكذلك أثر عائشة (1) ، وأثر أبي هريرة (1) ، وأثر سليمان بن يسار (1) ، وأثر ابن المسيّب (1) ، وأثر عمر بن عبد العزيز (1) ، وأثر ابن شهاب (1) ، فهذه خمسة وعشرون (25) ، كلها من طريق مالك.
ولمحمد من المرفوعة ثلاثة (3) : اثنان (2) بلاغاً، واحد (1) بلا سند. وأثر عمر اثنان (2) بلا سند.
ومن كتاب الصيام إلى كتاب الحج تسعة وثلاثون (39) .
فالمرفوعة عشرون (20) ، وآثار أبي هريرة اثنان (2) ، وكذلك آثار عمر اثنان (2) ، وأثار ابن عمر ستة (6) ، وأثر سعد واحد (1) ، وكذلك أثر ابن عباس (1) ، وأثر عثمان (1) ، وأثر عمرو بن العاص (1) ، وأثر الزهري (1) ، وأثر عروة (1) ، وأثر عائشة (1) ، فهذه سبعة وثلاثون (37) من طريق مالك ولمحمد مرفوعان (2) بلاغاً.
ومن كتاب الحج إلى كتاب النكاح مائة وستة وسبعون (176) .
أما من طريق مالك فالمرفوعة تسعة وأربعون (49) ، وآثار ابن عمر ثلاثة وخمسون (53) ، وأثرعمر أو ابن عمر على الشك من المؤلف واحد (1) ، وآثار عائشة ستة (6) ، وآثار عمر ثلاثة وعشرون (23) ، وآثار ابن عباس أربعة (4) ، وآثار ابن المسيّب ثلاثة (3) ، وأثر الضحاك بن قيس واحد (1) ، وكذا أثر سعد (1) ، وأثر عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة (1) ، وأثر سالم (1) ، وأثر خارجة بن زيد بن ثابت (1) ، وأثر عروة (1) ، وأثر نافع (1) ، وأثر عثمان (1) ، وأثر المسور بن مخرمة (1) ، وأثر أبي أيوب (1) ، وأثر أبان بن عثمان (1) ، وأثر أبي الزبير المكي (1) ، وأثر أبي هريرة (1) ، وأثر كعب الأحبار (1) ، وأثر الزبير بن العوام (1) ، وأثر ابنه عبد الله (1) ، وأثر عمرة (1) ، وأثر علي (1) ، وأثر معاوية (1) ، وآثار القاسم ثلاثة (3) ، وجملتها مائة وواحد وستون (161) .
وأما عن غير مالك فالمرفوعة عشرة (10) : ثلاثة (3) بلا سند، وستة (6) بلاغاً، وواحد (1) من طريق أبي يوسف، وآثار عمر اثنان (2) بلا سند وأثر علي(1/136)
واحد (1) بلا سند وكذلك أثر زيد (1) ، وأثر ابن مسعود (1) . جملتها خمسة عشر (15) .
ومن كتاب النكاح إلى الطلاق ثمانية وثلاثون (38) .
أما من طريق مالك، فالمرفوعة تسعة (9) ، وآثار زيد ثلاثة (3) ، وآثار عمر ستة (6) ، وأثر عثمان (1) ، وكذا أثر سعد (1) ، وأثر أبي أيوب (1) ، وأثر عليّ (1) ، وأثر القاسم (1) ، وأثر عروة (1) ، وآثار ابن المسيب أربعة (4) ، وجملتها ثمانية وعشرون (28) .
وأما عن غيره فالمرفوع واحد (1) من طريق أبي حنيفة. وآثار عمر ثلاثة (3) : من طريق الحسن بن عمارة (1) ، وطريق محمد بن أبان (1) ، وطريق يزيد بن عبد الهاد (1) . وأثر علي واحد (1) من طريق الحسن بن عمارة. وكذا أثر ابن مسعود (1) من طريق أبي حنيفة. وأثر زيد بلاغاً (1) . وأثر عمار بن ياسر (1) بلا سند. وقول مسروق بلا سند (1) . وجملتها عشرة (10) .
ومن كتاب الطلاق إلى الرضاع ثمانون (80) .
فالمرفوعة ثمانية (8) ، وآثار ابن عمرسبعة عشر (17) ، وآثار عمر سبعة (7) ، وآثار عثمان أيضاً سبعة (7) ، وآثار زيد أربعة (4) ، وكذا آثار عائشة (4) ، وآثار ابن المسيّب (4) ، وآثار أم المؤمنين حفصة (1) ، وكذا أثر رافع بن خديج (1) ، وأثر أبي هريرة (1) ، وأثر ابن عباس (1) ، وأثر عمرو بن العاص (1) ، وأثر علي (1) ، وأثر صفية زوجة ابن عمر (1) ، وأثر مروان (1) ، وأثر القاسم (1) ، وأثر أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بن هشام (1) ، وهذه كلها من طريق مالك. وجملتها واحد وستون (61) .
ومن غير طريقه آثار عمر ثلاثة (3) : من طريق هشيم بن بشير (1) ، ومن طريق أبي حنيفة (1) ، وبلاغاً (1) ، وآثار علي أربعة (4) : من طريق الحسن بن عمارة (1) ، وطريق إبراهيم المكي (1) ، وطريق ابن عيينة (1) ، وبلا سند (1) . وآثار ابن مسعود ثلاثة (3) : اثنان (2) ، من طريق أبي حنيفة، وواحد (1) بلاغاً. وآثار ابن عمر اثنان (2) : بلا سند (1) ، ومن طريق عيسى الخيَّاط (1) . وآثار(1/137)
عثمان اثنان (2) : من غير سند (1) ، وبلاغاً (1) . وكذا آثار ابن عباس، بلا سند (1) ، وبلاغاً (1) . وأثر زيد واحد (1) بلاغاً. وكذا أثر ثلاثة عشر من الصحابة من طريق عيسى الخيَّاط. وأثر ابن المسيب (1) من طريقه. وجعلتها تسعة عشرة (19) .
ومن كتاب الرضاع إلى الأضحية أربعة عشر (14) .
كلها من طريق مالك، فالمرفوعة ثلاثة (3) ، وكذا آثار عائشة (3) ، وأثر ابن عباس اثنان (2) ، وكذا آثار ابن المسيّب (2) ، وأثر ابن عمر واحد (1) ، وكذا أثر عروة (1) ، وحفصة (1) ، وعمر (1) .
وفي كتاب الأضحية والذبائح، أربعة عشرة (14) .
أيضاً كلها عن مالك، فالمرفوعة ثمانية (8) ، وآثار ابن عمر أربعة (4) ، وأثر أبي أيوب واحد (1) ، وكذا قول ابن المسيّب (1) .
وفي كتاب الصيد والعقيقة اثنان وعشرون (22) .
المرفوعة ستة (6) ، وكذا آثار ابن عمر (6) ، وآثار فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم اثنان (2) ، وأثر عمر واحد (1) ، وكذا أثر ابن المسيّب (1) ، وأثر عبد الله بن عمرو (1) ، وأثر زيد (1) ، وأثر ابن عباس (1) ، وأثر أبي هريرة (1) ، هذه من طريق مالك عشرون (20) .
وأثر علي واحد من طريق عبد الجبار، ومرفوع من طريق أبي حنيفة.
وفي أبواب الدِّيات والقسامة اثنان وعشرون (22) أيضاً فالمرفوعة سبعة (7) ، وآثار عمر أربعة (4) ، ,آثار ابن عباس اثنان (2) ، وآثار ابن المسيّب ثلاثة (3) ، وآثار سليمان بن يسار اثنان (2) ، وأثر زيد واحد (1) ، وكذا قول ابن شهاب (1) ، هذه من طريق مالك عشرون (20) .
وأثر ابن مسعود (1) ، وأثر عمر كلاهما لمحمد بلا سند.
وفي كتاب الحدود في السرقة ثلاثة عشر (13) .
فالمرفوعة أربعة (4) ، وأثر عمر (1) ، وعائشة (1) ، وعثمان (1) ، وأبي بكر الصديق (1) ، وابن عمر (1) ، وزيد واحد (1) ، هذه من طريق مالك عشرة (10) .(1/138)
وآثار عمر وعلي وأبي بكر (3) ، وبلاغاً لمحمد.
وفي أبواب الحدود في الزنا ثلاثة وعشرون (23) .
فالمرفوعة ثمانية (8) ، وآثار عمر ستة (6) ، وآثار عثمان اثنان (2) ، وآثار أبي بكر (1) ، وابن عامر أو عمر (1) على اختلاف النسخ، وأثر علي (1) ، وأثر عبد الملك بن مروان (1) ، وأثر عمر بن عبد العزيز (1) ، وقول ابن شهاب واحد (1) ، هذه اثنان وعشرون من طريق مالك.
وأثر علي لمحمد بلا سند (1) .
وفي أبواب الأشربة ثلاثة عشر (13) .
كلهاعن مالك، فالمرفوعة سبعة (7) ، وآثار عمر ثلاثة (3) ، وأثر علي (1) ، وابن عمر (1) ، وأنس واحد (1) .
وفي أبواب الفرائض والوصايا ثلاثة وعشرون (23) ، فالمرفوعة خمسة (5) ، وآثار عمر ستة (6) ، وأثر عثمان واحد (1) ، وكذا أثر أبان بن عثمان (1) ، وأثر علي بن حسين (1) ، وأبي بكر (1) ، وقول سعيد بن المسيّب (1) ، هذه ستة عشر من طريق مالك.
وآثار عمر وعلي وابن مسعود لمحمد بلا سند (3) ، وكذا آثار أبي بكر وابن عباس وقول ابن شهاب (3) ، ومرفوع له بلا سند (1) .
وفي أبواب الأيمان والنذور عشرون (20) .
فالمرفوعة أربعة (4) ، وكذا آثار ابن عمر (4) وآثار عائشة اثنان (2) ، وكذا آثار ابن عباس (2) ، وآثار ابن المسيّب وابن يسار وعطاء بن أبي رباح كل منها واحد (1) ، هذة عن مالك خمسة عشر (15) .
وآثار عمر لمحمد ثلاثة (3) : من طريق سلاّم (1) ، ويونس (1) ، وسفيان (1) . أثر مجاهد واحد (1) من طريق سفيان. وكذا أثر علي من طريق شعبة (1) .
ومن كتاب البيوع إلى باب القضاء ستون (60) .
فمن طريق مالك المرفوعة ثلاثة وعشرون (23) ، وآثار عمر أربعة (4) ، وآثار(1/139)
ابن عمر ثلاثة (3) ، وكذا آثار عثمان ثلاثة (3) ، وآثار ابن المسيّب خمسة (5) ، وآثار زيد اثنان (2) ، وأثر عبد الرحمن بن عبد يغوث واحد (1) ، وكذا أثر سعد (1) ، وأثر علي (1) ، وأثر عمرة (1) ، وأثر القاسم (1) ، واثر محمد بن عمرو بن حزم (1) ، وأثر أبان (1) ، وأثر هشام بن اسماعيل (1) ، وأثر سليمان بن يسار (1) ، وأثر عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - (1) ، هذه خمسون.
ومن طريقه المرفوع اثنان (2) ، بلا سند، وأثر ابن عباس (1) بلا سند، وكذا أثر الحسن البصري (1) ، وقول عمر (1) ، وقول ابن عمر (1) ، وقول سعيد بن جبير (1) ، وأثر زيد (1) ، وأثر عمر من طريق يونس (1) ، وأثر علي من طريق ابن أبي ذئب (1) .
ومن باب القضاء إلى أبواب العتق ثمانية وثلاثون (38) .
فالمرفوعة خمسة عشر (15) ، وآثار عمر - رضي الله عنه - تسعة (9) ، وآثار ابن عمر ثلاثة (3) ، وآثار ابن المسيّب ستة (6) ، وأثر أبي بكر الصديق واحد (1) ، وكذا أثر عثمان (1) ، وأثر رافع بن خديج رضي الله عنه (1) ، هذه ستة وثلاثون (36) من طريق مالك.
وأثر شريح لمحمد بلاغاً (1) ، أثر ابن جبير (1) بلا سند.
ومن أبواب العتق إلى أبواب السِّير اثنان وثلاثون (32) .
فالمرفوعة سبعة (7) ، وآثار عائشة اثنان (2) ، وكذا آثار عمر (2) ، وآثار عثمان (2) ، وآثار ابن المسيّب (2) ، وآثار ابن عمر ثلاثة (3) ، وأثر الصديق واحد (1) ، وكذا أثر أم سلمة (1) ، وأثر مروان (1) ، وأثر زيد (1) ، وأثر عروة (1) ، وأثر عبد الملك بن مروان (1) ، وأثر سليمان بن يسار (1) ، هذة خمسة وعشرون (25) ، من طريق مالك.
والمرفوعة لمحمد اثنان (2) ، بلاغاً واحد (1) ، ومن طريق عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْلَى (1) ، وأثر ابن عباس واحد (1) بلاغاً، وكذا أثر زيد (1) بلا سند، وأثر ابن عمر (1) بلا سند، وأثر ابن شهاب (1) ، وأثر عطاء (1) .
ومن أبواب السِّير إلى آخر الكتاب مائة وثلاثة وستون (163) .(1/140)
فالمرفوعة اثنان وتسعون (92) ، وآثار ابن عباس أربعة (4) ، وآثار عمر أربعة عشر (14) ، وآثارابنه أحد عشر (11) ، وآثار عثمان اثنان (2) ، وكذا آثار الصديق (2) ، وآثار عمر بن عبد العزيز (2) ، وآثار ابن المسيّب ثمانية (8) ، وآثار عائشة خمسة (5) ، وأثر علي واحد (1) ، وكذا أثر سعد (1) ، وأثر أبي هريرة (1) ، وأثر زيد (1) ، وأثر أبي طلحة (1) ، وأثر سهل بن حنيف (1) ، وأثر أبي أيوب (1) ، وأثر عبد الرحمن بن يغوث (1) ، وأثر عامر (1) ، وأثر جمع من الصحابة لم يسمَّوا (1) ، وأثر عمر بن عبد الله (1) ، وأثر سيدنا عيسى على نبينا وعليه السلام (1) ، وأثر أبي الدرداء (1) ، وأثر حفصة (1) ، وأثر القاسم (1) ، وأثر مالك الأصبحي (1) ، هذه كلها من طريق مالك مائة وستة وخمسون (156) .
وأثر زيد من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد (في الأصل: (الرتاد) ، وهو تحريف) (1) . وأثر ابن مسعود (1) من طريق الثوري. وأثر عمر (1) بلاغاً. وأثر سعيد بن جبير كذلك، ومرفوع (1) كذلك، وأثر ابن مسعود (1) بلا سند، وكذلك أثر ابن عمر (1) .
فجميع ما في هذا الكتاب من الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة على الصحابة ومن بعدهم مسندة كانت أو غير مسندة ألف ومائة وثمانون (1180) ، منها عن مالك ألف وخمسة (1005) ، وبغير طريقه مائة وخمسة وسبعون (175) ، منها عن أبي حنيفة ثلاثة عشر (13) ، ومن طريق أبي يوسف أربعة (4) ، والباقي عن غيرهما.
وليعلم أني أدخلت في هذا التعداد كل ما في هذا الكتاب من الأخبار والآثار سواء كانت مسندة أو غير مسندة بلاغية أو غير بلاغية، وكثيراً ما تجد فيه آثاراً متعددة عن رجل واحد أو عن رجال الصحابة وغيرهم بسند واحد، وتجد أيضاً كثيراً المرفوع والآثار بسند واحد، فذكرت في هذا التعداد كل واحد على حدة، فليحفظ ذلك.(1/141)
الفائدة الثالثة عشر: في عادات الإمام محمد في هذا الكتاب وآدابه:
منها: أنه يذكر ترجمة الباب، ويذكر متصلاً به رواية عن الإمام مالك موقوفة كانت أو مرفوعة.
ومنها: أنه لا يذكر في صدر العنوان إلاَّ لفظ الكتاب أو الباب، وقد يذكر لفظ الأبواب، وليس فيه في موضع لفظ الفصل إلاَّ في موضع اختلفت فيه النسخ، ولعله من أرباب النسخ.
ومنها: أنه يذكر بعد ذكر الحديث أو الأحاديث مشيراً إلى ما أفادته: وبهذا نأخذ، أو به نأخذ، ويذكر بعده تفصيلاً ما، وقد يكتفي على أحدهما، ومثل هذا دال على اختياره والإفتاء به (في الأصل: "عليه"، وهو تحريف) .
كما قال السيد أحمد الحموي في "حواشي الأشباه والنظائر" في جامع المضطرات والمشكلات: أما العلامات المعلمة على الفتوى، فقوله: وعليه الفتوى، وبه يفتى، وبه يعتمد، وبه نأخذ، وعليه الاعتماد، وعليه عمل الأمة، وعليه العمل اليوم، وهو الصحيح، وهو الأصح، وهو الظاهر، وهو الأظهر، وهو المختار في زماننا، وفتوى مشائخنا، وهو الأشبه، وهو الأوجه. انتهى.
ومنها: أنه ينبّه على ما يخالف مسلكه مما (في الأصل: "ما"، والظاهر: "مما") أفادته روايته عن مالك، ويذكر سند مذهبه من غير طريق مالك.
ومنها: أنه لا يكتفي فيما يرويه عن غير مالك على شيخ معين كالإمام أبي حنيفة، بل يسند عنه وعن غيره، وعادته في "كتاب الآثار" أنه يسند كثيراً عن أبي حنيفة وعن غيره قليلاً.
ومنها: أنه لا يقول في روايته عن شيوخه إلاَّ أخبرنا، لا سمعت، ولا حدثنا، ولا غير ذلك، والشائع في اصطلاح المتأخرين الفرق بين حدثنا وأخبرنا بأن الأول خاص بما سمع من لفظ الشيخ، كسمعت، والثاني بما إذا قرأه بنفسه على الشيخ. قيل: هو مذهب الأوزاعي والشافعي ومسلم والنسائي وغيرهم، وعند جمع هما(1/142)
على نهج واحد، وهو مذهب الحجازيين والكوفيِّين ومالك وابن عيينة والبخاري وغيرهم، كذا في شروح شرح النخبة، وتفصيل هذا البحث ليطلب من رسالتي "ظفر الأماني".
ومنها: أنه يذكر بعد ذكر مختاره موافقة مع شيخه، بقوله: وهو قول أبي حنيفة إلاَّ نادراً فيما خالفه فيه أبو حنيفة.
ومنها: أنه يذكر كثيراً بعد قول أبي حنيفة، والعامة من فقهائنا، ويريد بالفقهاء، فقهاء العراق والكوفة، والعامة يستعمل في استعمالهم بمعنى الأكثر، قال ابن الهمام في "فتح القدير" في بحث إدراك الجماعة: ذهب جماعة من أهل العربية إلى أن العامة بمعنى الأكثر، وفيه خلاف، وذكر المشائخ أنه المراد في قولهم: قال به عامة المشائخ ونحوه. انتهى.
والظاهر أنه لا يريد في كل موضع من هذا اللفظ معنى الأكثر، بل يريد به معنى الجماعة والطائفة، فإن بعض المواضع التي وسمه به ليس بمسلك للأكثر.
ومنها: أنه قد يصّرح بذكر مذهب إبراهيم النخعي أيضاً، لكونه مدار مسلك الحنفية.
قال المحدث الدهلوي مؤلف "حجة الله البالغة"، وغيره في رسالته "الإنصاف في بيان سبب الاختلاف" (ص 11) : ولعمري إنها حقيقة بما سميت به، ومن طالعها بنظر صحيح خرج عن اعتسافه إذا اختلفت مذاهب الصحابة والتابعين في مسألة، فالمختار عند كل عالم مذهب أهل بلده وشيوخه، لأنه أعرف في الصحيح من أقاويلهم في السقيم. فمذهب عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وأصحابهم مثل سعيد بن المسيّب - فإن هكان أحفظهم لقضايا عمر وحديث أبي هريرة وسالم وعكرمة وعظاء وأمثالهم - أحق بالأخذ من غيره، عند أهل المدينة. ومذهب عبد الله بن مسعود وأصحابه وقضايا عليّ، وشريح، والشعبي، وفتاوى إبراهيم النخعي أحق بالأخذ عند أهل الكوفة من غيره. فإن اتفق أهل البلد على شيء أخذوا عليه بنواجذهم، وهو الذي يقول في مثله مالك: السنة التي(1/143)
لا اختلاف فيها عندنا كذا، وإن اختلفوا أخذوا بأقواها، وأرجحها. انتهى كلامه ملخَّصاً.
وقال أيضاً في تلك الرسالة (الإنصاف في بيان سبب الاختلاف: ص 13) : كان مالك أعلمهم بقضايا عمر وعبد الله بن عمر وعائشة وأصحابهم من الفقهاء السبعة، وكان أبو حنيفة ألزمهم بمذهب إبراهيم حتى لا يجاوزه إلاَّ ما شاء الله. وكان عظيم الشأن في التخريج على مذهبه، دقيق النظر في وجوه التخريجات، مقبلاً على الفروع أتم إقبال، وإن شئت أن تعلم حقيقة ما قلنا، فلخص أقوال النخعي من كتاب "كتاب الآثار" لمحمد، و "جامع" عبد الرزاق، و"مصنف" ابن أبي شيبة، ثم قايسه بمذهبه تجده لا يفارق تلك المحجة إلاَّ في مواضع يسيرة، وهو في تلك اليسيرة أيضاً لا يخرج عما ذهب إليه فقهاء الكوفة، وكان أشهر أصحابه أبو يوسف. تولى قضاء القضاة أيام هارون الرشيد، فكان سبباً لظهور مذهبه، والقضاء به في أقطار العراق، وخرسان، وما وراء النهر، وكان أحسنهم تصنيفاً وألزمهم درساً محمد بن الحسن، وكان من خبره أنه تفقه بأبي حنيفة وأبي يوسف، ثم خرج إلى المدينة، فقرأ الموطّأ على مالك، ثم رجع إلى نفسه، فطبق مذهب أصحابه على الموطّأ مسألة مسألة، فإن وافق فيها وإلاَّ فإن رأى طائفة من الصحابة والتابعين ذاهبين إلى مذهب أصحابه، فكذلك وإن وجد قياساً ضعيفاً أو تخريجاً ليناً يخالفه حديث صحيح مما عمل به الفقهاء، ويخالفه عمل أكثر العلماء تركه إلى مذهب من مذاهب السلف مما يراه أرجح مما هنالك، وهما لا يزالان على محجة إبراهيم ما أمكن كما كان أبو حنيفة يفعل ذلك، وإنما كان اختلافهم في أحد شيئين: إما أن يكون لشيخهما تخريج على مذهب إبراهيم يزاحمانه فيه أو يكون هناك لإبراهيم ونظرائه أقوال مختلفة يخالفان في ترجيح بعضها على بعض، فصنف محمد، وجمع رأي هؤلاء الثلاثة. ونفع كثيراً من الناس، فتوجه أصحاب أبي حنيفة إلى تلك التصانيف تلخيصاً وتقريباً وتخريجاً وتأسيساً واستدلالاً، ثم تفرقوا إلى خرسان، وما وراء النهر، فسمّي ذلك مذهب أبي حنيفة، وإنما عدّ مذهب أبي يوسف ومحمد واحداً مع أنهما مجتهدان مطلقان، لأن مخالفتهما غير قليلة في الأصول والفروع، لتوافقهم في هذا الأصل..(1/144)
ولتدوين مذهبهم حميعاً في "المبسوط" و"الجامع الكبير". انتهى كلامه ملتقطاً.
ومنها: أنه لا يذكر في هذا الكتاب وكذا في "كتاب الآثار" مذهب صاحبه أبي يوسف لا موافقاً ولا مخالفاً، فإيَّاك أن تفهم باقتصاره على ذكر مذهبه ومذهب شيخه على سبيل مفهوم المخالفة مخالفته كما فهمه القاري في بعض رسائله على ما ستطلع عليه في موضعه، أو بناءً على أنه لو كان مخالفاً لذكره موافقته، وعادته في "الجامع الصغير" وغيره من تصانيفه بخلافه.
ومنها: أن كثيراً ما يقول: هذا حسن، أو جميل، أو مستحسن، وأمثال ذلك، ويريد به معنى أعم مقابل الواجب بقرينة أنه يقول في بعض مواضعه: هذا حسن، وليس بواجب، فيشمل السنة المؤكدة وغير المؤكدة، فإياك أن تفهم في كل أمر وسمه به استحبابه وعدم سنيته.
ومنها: أنه قد يقول في بعض السنن: لفظة (لا بأس) كما في بحث التراويح وغيره، ويريد به نفس الجواز، لا غيره، وهو عند المتأخرين مستعمل غالباً في المكروه تنزيهاً، فإياك أن لا تفرق بين الاستعمالين وتقع في الشين.
ومنها: أنه كثيراً ما يقول: ينبغي كذا وكذا، فلا تفهم منه نظراً إلى استعمالات المتأخرين أن كل أمر صدَّره به مستحب، ليس بسنّة ولا واجب، فإن هذه (في الأصل: "هذا" وهو خطأ) اللفظة تستعمل في عرف القدماء في المعنى الأعم الشامل للسنة المؤكدة والواجب، ومن ثمَّ لما قال القدوري في مختصره: ينبغي للناس أن يلتمسوا الهلال في اليوم التاسع والعشرين أي من شعبان، فسّره ابن الهمام بقوله: أي يجب عليهم، وهو واجب على الكفاية. انتهى.
وقال ابن عابدين الشامي في "رد المحتار" حاشية الدر المختار في كتاب الجهاد: المشهور عند المتأخرين استعمال ينبغي بمعنى يندب، ولا ينبغي بمعنى يكره تنزيهاً، وإن كان في عرف المتقدمين استعماله في أعمّ من ذلك، وهو في القرآن كثير، لقوله تعالى: {ما كان ينبغي لنا أن نتَّخذ من دونك من أولياء} (سورة الفرقان: آية 25) . وقال(1/145)
في "المصباح": ينبغي أن يكون كذا وكذا، معناه يجب أو يندب بحسب ما فيه من الطلب. انتهى كلامه.
ومنها: أنه قد يذكر مذهب شيخه مالك أيضاً موافقاً أو مخالفاً، ومذاهب الصحابة مسندة أو غير مسندة.
ومنها: أنه يطلق لفظ الأثر، ويريد معنى أعم شاملاً للحديث المرفوع والموقوف على الصحابة ومن بعدهم، وهو كذلك في عرف القدماء، وخصه بعض من خلفهم بالموقوف، وهو مشهور عند متأخري الفقهاء كما حقّقه النووي في "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" وفصَّلته أنا في "ظفر الأماني بشرح المختصر المنسوب إلى الجرجاني" وفّقني الله لختمته كما وفّقني لبدئه.
ومنها: أنه يذكر بعض الآثار والأخبار غير مسندة، ويصدّر بعضها بقوله: بلغنا، وقد ذكروا كما في "رد المحتار" وغيره أن بلاغاته مسندة.
خاتمة:
- ليس في هذا الكتاب حديث موضوع، نعم فيه ضعاف، أكثرها يسيرة الضعف المنجبر بكثرة الطرق، وبعضها شديدة الضعف لكنه غير مضر أيضا لورود مثل ذلك في صحاح الطرق، وستطّلع على جميع ذلك إن شاء الله تعالى في مواضعها. هذا آخر المقدمة، ومن الله أرجو حسن الخاتمة، وعيش الدنيا والآخرة، والحمد لله رب العالمين، والصلاة على رسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.(1/146)
أبواب الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم (1)
_________
(1) قوله: بسم الله الرحمن الرحيم، مقتصراً عليها كأكثر المتقدِّمين دون الحمد والشهادة مع ورود قوله صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بحمد الله أقطع"، وقوله: "كل خُطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء"، أخرجهما أبو داود (انظر سنن أبي داود. كتاب الأدب 4/261) وغيره من حديث أبي هريرة. قال الحافظ (فتح الباري 1/8) : لأن الحديثين في كل منهما مقال، سلَّمنا صلاحتهما للحجة. لكن ليس فيهما أن ذلك متعِّين بالنطق والكتابة معاً، فلعلَّه حمد وتشهَّد نطقاً عند وضع الكتاب، ولم يكتب ذلك اقتصاراً على البسملة، لأن القدر الذي يجمع الأمور الثلاثة ذكر الله وقد حصل بها، ويؤيَّده أن أول شيء نزل من القرآن: {اقْرَأ بِاسمِ رَبِّكَ} (سورة العلق: آية 1) . فطريق التأسي به الافتتاح بالبسملة والاقتصار عليها. ويؤيِّده أيضاً وقوع كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وكتبه في القضايا مفتتحة بالتسمية دون الحمدلة وغيرها. هذا من "شرح موطأ مالك" (1/10. وفي بعض النسخ بعد التسمية: "أبواب الصلاة"، فأثبتناه في العنوان) ، للزرقاني محمد بن عبد الباقي المالكي.(1/149)
1 - (بَابُ (1) وُقُوتِ الصَّلاةِ) (2)
1 - قَالَ محمدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَخْبَرَنَا مالكُ بنُ أَنَسٍ، عَنْ يزيدَ (3) بْنِ زِيَادٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (4) بنِ رافعٍ مَوْلَى أمِّ سَلَمَة (5) رَضِيَ اللَّهُ عنها
_________
(1) قدَّمه لأنها أصل في وجوب الصلاة، فإذا دخل الوقت وجب الوضوء وغيره، قاله الزرقاني (1/11) .
(2) قوله: وقوت الصلاة، في رواية ابن بكير أوقات، جمع قلة، وهو أظهر لكونها خمسة: لكن وجه رواية الأكثرين وقوت جمع كثرة، وإنها وإن كانت خمسة، لكن لتكرارها كل يوم صارب كأنها كثيرة، كقولهم شموس وأقمار، ولأن الصلاة فُرضت خمسين وثوابها كثواب الخمسين، ولأن كل واحد من الجَمْعين قد يقوم مصام الآخر توسُّعاً أو لأنهما يشتركان في المبدأ من ثلاثة، ويفترقان في الغاية على ما ذهب إليه بعض المحقِّقين، أو لأن لكل صلاة ثلاثة أوقات: اختباري، وضروري، وقضاء. قاله الزرقاني (1/11) .
(3) قوله: عن يزيد، قال ابن حجر في "تقريب التهذيب" (2/364) : يزيد بن زياد أو ابن أبي زياد قد يُنسب إلى جدِّه مولى بني مخزوم مدنّي، ثقة.
(4) قوله عن عبد الله، قال ابن حجر (تقريب التهذيب 1/413) : عبد الله بن رافع المخزومي أبو رافع المدني مولى أم سلمة، ثقة.
(5) قوله: مولى أم سلمة، هي هند بنت أبي أمية، واسمه حذيفة، القرشية المخزومية، تزوَّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب وقعة بدر، وماتت في شوال سنة 62، كذا =(1/150)
زوجِ (1) النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ أَبِي هريرةَ (2) أنَّه (3) سَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ الصلاةِ (4) فَقَالَ أبو هُريرة (5)
_________
= في "إسعاف السيوطي" (ص 50) .
(1) قوله زوج النبي ... إلخ، الزوج: البعل والمرأة أيضاً، ومنه قوله تعالى: {اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} (سورة البقرة: آية 35) ، وقوله تعالى: {قُلُ لأزْوَاجِكَ} (سورة الأحزاب: آية 28) . كذا في جواهر القرآن لمحمد بن أبي بكر الرازي.
(2) قوله: عن أبي هريرة، هو حافظ الصحابة، اختلف في اسمه واسم أبيه على أقوال كثيرة، أرْجحها عند الأكثر عبد الرحمن بن صَخْر، مات سنة 59 هـ، وقيل: قبلها بسنة أو سنتين، كذا في "التقريب" (2/484) .
(3) أي أن أبا رافع سأل أبا هريرة.
(4) الواحدة أو الجنس.
(5) قوله: فقال أبو هريرة ... إلخ، هذا الحديث موقوف (الموقوف من الحديث مايُروى عن الصحابة رضي الله عنهم من أقوالهم أو أفعالهم أو تقريرهم. وسُمِّي موقوفاً لأنه وقف عليهم، ولم يتجاوزهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
(قال ابن عبد البر بعدما ذكر أثر أبي هريرة المذكور وفقه رواة الموطأ، والمواقيت لا تُؤخذ بالرأي ولا تُدرك إلاَّ بالتوقيف. يعني فهو موقوف لفظاً، مرفوع حكماً. أماني الأحبار 2/275) . من رواية مالك عن أبي هريرة، وقد ذُكر عنه مرفوعاً (المرفوع من الحديث: ما أُضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله أو أفعاله أو تقريره) في "التمهيد". واقتَصر فيه على ذكر أواخر الأوقات المستحبة دون أوائلها، فكأنَّه قال: الظهر من الزوال إلى أن يكون ظلُّك =(1/151)
أنا أُخْبِرُكَ: صلِّ الظهرَ (1) إذا كان
_________
= مثلك، والعصر من ذلك الوقت إلى أن يكون ظلك مثليك، وجعل للمغرب وقتاً واحداً، وذكر من العشاء أيضاً آخر الوقت المستحب، كذا في "الاستذكار" (1/69) ، لابن عبد البر المالكي.
(1) قوله صَلِّ الظُّهر....إلخ، أجمع علماء المسلمين على أنَّ أول وقت صلاة الظهر زوال الشمس عن كبد السماء ووسط الفلك إذا استوقن ذلك في الأرض بالتأمل، واختلفوا في آخر وقت الظهر، فقال مالك وأصحابه: أخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثله بعد القدر الذي زالت عليه الشمس وهو أول وقت العصر بلا فصل. وبذلك قال ابن المبارك وجماعة. وفي الأحاديث الواردة بإمامة جبريل ما يوضِّح لك أن آخر وقت الظهر هو أول وقت العصر، وقال الشافعي وأبو ثور وداود: آخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثله، إلاّ أن بين آخر وقت الظهر وأول وقت العصر فاصلة، وهو أن يزيد الظل أدنى زيادة على المثل، وقال الحسن بن صالح بن حَيّ والثوري وأبو يوسف ومحمد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ومحمد بن جرير الطبري: آخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثله، ثم يدخل وقت العصر ولم يذكروا فاصلة.
وقال أبو حنيفة: آخر وقت الظهر حين يصير ظل كل شيء مثليه. وخالفه أصحابه في ذلك، وذكر الطحاوي رواية أخرى عنه أنه قال: آخر وقت الظهر أن يصير ظل كل شيء مثله مثل قول الجماعة، ولا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه، وهذا لم يتابع عليه.
وأما أول وقت العصر، فقد تبيَّن من قول مالك ما ذكرناه فيه، ومن قول الشافعي ومن تابعه ما وصفناه، وقال أبو حنيفة: أول وقت العصر من حين يصير =(1/152)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= الظل مثلين، وهذا خلاف الآثار (حديث أبي هريرة المذكور في الباب صريح فيما ذهب إليه الإمام الأعظم أبي حنيفة - رضي الله عنه - في ظاهر الرواية عنه أنه يخرج وقت الظهر ويدخل وقت العصر بالمثلين، وبهذا الأثر استدلَّ الإمام محمد على مسلك الإمام، لأنه أمر بصلاة الظهر إذا تحقَّق المثل والعصر إذا صار المثلان، فما قال صاحب "الاستذكار"، أنه اقتصر على أواخر الأوقات تأويل لتاييد مذهبه وتوهم من نقله من الحنفيه في شرح كلام محمد رحمه الله تعالى، فإنه يخالف صريح قول الإمام محمد، ويكون من تأويل الكلام بما لا يرضى به قائله. أوجز المسالك 1/159) وخلاف الجمهور، وهو قول عند الفقهاء من أصحابه وغيرهم مهجور.
واختلفوا في آخر وقت العصر، فقال مالك: آخره حين يصير ظلّ كل شيء مثليه، وهو عندنا محمول على وقت الاختيار وما دامت الشمس بيضاء نقية فهو وقت مختار أيضاً للعصر عنده وعند سائر العلماء.
وقال ابن وهب، عن مالك: الظهر والعصر آخر وقتهما غروب الشمس وهذا كله لأهل الضرورة كالحائض تطهر. وقال أبو يوسف ومحمد: وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله إلى أن تتغير الشمس، وقال أبو ثور: إلى أن تصفر الشمس، وهو قول أحمد بن حنبل، وقال إسحاق: آخر وقته أن يدرك المصلِّي منها ركعة قبل الغروب، وهو قول داود لكل الناس معذور وغير معذور.
واختلفوا في آخر وقت المغرب بعدما اتَّفقوا على أن أول وقتها غروب الشمس، فالظاهر من قول مالك أنه عند مغيب الشفق، وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد وأبو يوسف والحسن بن صالح وأبو ثور، والشفق عندهم الحمرة. وقال الشافعي في وقت المغرب قولين، أحدهما: أنه ممدود إلى مغيب الشفق، والثاني: أن وقتها وقت واحد في حالة الاختيار. وأجمعوا على أن أول وقت العشاء مغيب الشفق، واختلفوا في آخر وقتها، فالمشهور من مذهب مالك لغير أصحاب الضرورات ثلث الليل، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تفوت إلاَّ بطلوع الفجر. =(1/153)
ظِلُّكَ مِثْلَكَ (1) ،
_________
= وأجمعوا على أن أول وقت الصبح طلوع الفجر وانصداعه، وهو البياض المعترض في الأفق الشرقي. وروى القاسم, عن مالك أن آخر وقتها الإسفار، وقال ابن وهب، عن مالك: آخر وقتها طلوع الشمس، وهو قول الثوري والجماعة، إلاَّ أن منهم من شرط إدراك ركعة منها قبل الطلوع. هذا ملخَّص من الاستذكار (1/26، 46) شرح الموطأ لابن عبد البر رحمه الله.
(1) قوله: إذا كان ظلك مثلك، قال الزرقاني (شرح الزرقاني: 1/23) : أي مثل ظلك يعني قريباً منه بغير فيء الزوال. انتهى. ووجه تفسيره أنه إذا كان الظل مثلاً يخرج وقت الظهر، فلذا فسَّره بالقرب، وهذا الوقت هو الذي صلّى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بجبريل في اليوم الثاني من يومَيْ إمامته، وصلّى في ذلك اليوم العصر إذا صار الظل مثلين، وأما في اليوم الأول، فصلّى الظهر حين زالت الشمس وصار الفيء مثل الشراك، والعصر حين كان ظل كل شيء مثله، وهكذا ورد في رواية أبي داود والحاكم، وصحَّحه من حديث ابن عباس، وفي روايتهم من حديث جابر، وفي رواية البيهقي والطبراني وإسحاق بن راهويه، من حديث أبي مسعود الأنصاري، وفي رواية البزار والنسائي من حديث أبي هريرة، وفي رواية عبد الرزاق من حديث عمرو بن حزم، وفي رواية أحمد من حديث أبي سعيد الخدري وغيرهم.
وقال الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (شرح معاني الآثار 1/89) ، بعد ذكر الروايات: ذُكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلّى الظهر حين زالت الشمس، وعلى ذلك اتفاق المسلمين أن ذلك أول وقتها. وأما آخر وقتها، فإن ابن عباس وأبا سعيد وجابراً وأبا هريرة روَوْا أنه صلاّها في اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثله، فاحتمل أن يكون ذلك =(1/154)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= بعدما صار ظل كل شيء مثله، فيكون هو وفت الظهر، ويحتمل أن يكون ذلك على قرب أن يصير ظل كل شيء مثله.
وهذا جائز في اللغة، فما روي أنه صلّى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله، يحتمل أن يكون على قرب أن يصير ظل كل شيء مثله، فيكون الظل إذا صار مثله فقد خرج وقت الظهر، والدليل على ما ذكرنا من ذلك أن الذين ذكروا هذا عنه قد ذكروا عنه أيضاً أنه صلّى العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله، ثم قال: ما بين هذين وقت، فاستحال أن يكون مابينهما وقت، وقد جمعهما في وقت واحد، وقد دلَّ على ذلك أيضاً ما في حديث أبي موسى، وذلك أنه قال في ما أخبر عن صلاته صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني: "ثم أخَّر الظهر حتى كان قريباً من العصر"، فأخبر أنه صلاّها في ذلك اليوم في قرب دخول وقت العصر لا في وقت العصر، فثبت بذلك إذا أجمعوا في هذه الروايات أن بعدما يصير ظل كل شيء مثله وقت العصر، وأنه محال أن يكون وقت الظهر. وأما ما ذُكر عنه في صلاة العصر، فلم يختلف عنه أنه صلاّها في اليوم الأول في الوقت الذي ذكرناه عنه، فثبت بذلك أنه أول وقتها، وذكر عنه أنه صلاّها في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه، فاحتمل أن يكون هو آخر وقتها الذي خرج، واحتمل أن يكون هو الوقت الذي لا ينبغي أن يؤخِّر الصلاة عنه، وأن من صلاّها بعده إن كان قد صلاّها في وقتها مفرِّط، وقد دلَّ عليه ما حدَّثنا ربيع المؤذِّن، نا أسد، نا محمد بن الفضل، عن الأعمش، عن أبي صالح، علن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للصلاة أولاً وآخراً، وإن أول وقت العصر حين يدخل وقتها، وإن آخر وقتها حين تصفرُّ الشمس". ففي هذا أن آخر وقتها حين تصفر الشمس، غير أن قوماً ذهبوا إلى أنَّ آخر وقتها إلى غروب الشمس، واحتجّوا بما حدَّثنا ابن مرزوق، نا وهب بن جرير، نا شعبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً: من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل طلوع الشمس فقد أدرك =(1/155)
وَالْعَصْرَ (1) إِذَا كَانَ ظِلُّك مِثلَيْكَ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا غَرَبَتِ الشَمسُ (2) ، والعِشاء مَا بَيْنَكَ (3)
_________
= الصبح، ومن أدرك ركعة مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسِ فَقَدْ أدرك العصر. انتهى كلام الطحاوي ملخَّصاً.
(1) بالنصب، أي وصلِّه.
(2) قوله: إذا غربت الشمس، قال الطحاوي (شرح معاني الآثار 1/91، 92) وقد ذهب قوم (قال العلامة العيني: وذهب طاوس وعطاء ووهب بن منبِّه إلى أن أول وقت المغرب حين طلوع النجم، وقال أبو بكر الجصاص الرازي: وقد ذهب شواذ من الناس إلى أنَّ أول وقت المغرب حين يطلع النجم. أماني الأحبار 2/921) . إلى خلاف ذلك، فقالوا: أول وقت المغرب حين يطلع النجم، واحتجّوا بما حدَّثنا فهد، نا عبد الله بن صالح، أخبرني الليث بن سعد، عن جبير بن نعيم، عن ابن هبيرة الشيباني، عن أبي تميم، عن أبي نصر الغفاري، قال: صلّى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، فقال: "إن هذه الصلاة عُرضت على من كان قبلكم فضيَّعوها، فمن حافظ عليها منكم أوتي أجره مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد، ويحتمل أن يكون الشاهد هو الليل، وقد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي المغرب إذا توارت الشمس بالحجاب.
(3) قوله: ما بينك وبين ثلث الليل، تكلم الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/93، باب مواقيت الصلاة) ها ههنا كلاماً حسناً ملخَّصه، أنه قال: يظهر من مجموع الأحاديث أن آخر وقت العشاء حين يطلع الفجر، وذلك أن ابن عباس وأبا موسى وأبا سعيد رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخَّرها إلى ثلث الليل، وروى أبو هريرة وأنس أنه أخَّرها حتى انتصف الليل، وروى ابن عمر أنه أخَّرها حتى ذهب ثلث الليل، وروت عائشة أنه أعتم بها حتى ذهب عامة الليل، وكل هذه الروايات في "الصحيح"، قال: فثبت بهذا كله أن =(1/156)
وبَيْنَ ثُلُثِ اللَّيْلِ (1) ، فَإنْ نِمْتَ إِلَى نصفِ اللَّيلِ فَلا نامَتْ عَيْنَاكَ (2) ، وَصَلِّ (3) الصُّبْحَ بِغَلَسٍ (4) .
_________
= الليل كله وقت لها، ولكنه على أوقات ثلاثة، فأما من حين يدخل وقتها إلى أن يمضي ثلث الليل فأفضل وقت صُلِّيت فيه، وأما بعد ذلك إلى نصف الليل ففي الفضل دون ذلك، وأما بعد نصف الليل فدونه، ثم ساق بسنده، عن نافع بن جبير، قال: كتب عمر إلى أبي موسى: وصلِّ العشاء أيَّ الليل شئت ولا تغفلها.
ولمسلم في قصة التعريس (صحيح مسلم بشرح النووي 5/184، باب قضاء الفائتة، ط دار الفكر) ، عن أبي قتادة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في النوم تفريط، وإنما التفريط أن يؤخِّر صلاةً حتى يدخل وقت الأخرى"، فدلَّ على أن بقاء وقت الأولى إلى أن يدخل وقت الأخرى، كذا في "نصب الراية لتخريج أحاديث الهداية"، للزيلعي (1/234، 235) .
(1) قوله: ثلث الليل، بضمتين وقد يسكَّن الوسط، وقد جاءت على الوجهين أخواته إلى العشر، ذكره النووي في شرح صحيح مسلم.
(2) قوله: فلا نامت عيناك، وهو دعاء بنفي الاستراحة على من يسهو عن صلاة العشاء وينام قبل أدائها، كذا في "مجمع البحار" (4/804) لمحمد طاهر الفَتَّني.
(3) أعاد العامل اهتماماً أو لطول الكلام فصلاً.
(4) قوله: بغَلَس، هو بفتح الغين المعجمة والباء الموحَّدة وشين معجمة في رواية يحيى بن يحيى وزاد يعني الغلس، وفي رواية يحيى بن بكير والقعنبي وسويد بن سعيد بغلس، قال الرافعي: هي ظلمة آخر الليل، وقيل اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل. وقال الخطابي: الغبش بالباء والشين المعجمة قيل الغبس =(1/157)
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا قولُ أَبِي حنيْفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ (1) في وَقْتِ
_________
= بالسين المهملة وبعده الغلس باللام، وهي كلها في آخر الليل، كذا في "تنوير الحوالك على موطأ مالك" (1/18، 20) ، للسيوطي رحمه.
(1) قوله: هذا قول أبي حنيفة ... إلخ، إشارة إلى ما يشهد به ظاهر حديث أبي هريرة، فأنه يدل على بقاء وقت الظهر إلى المثل حيث جوَّز الظهر عند كون الظل بقدر المثل، وعلى أن وقت التصر حين يدخل ظل كل شيء مثليه حيث أخبر عن وقت العصر بأنه إذا صار ظل كل شيء مثليه، والذي يقتضيه النظر، أنه ليس غرض أبي هريرة من هذا الكلام بيان أوائل أوقات الصلاة ولا بيان أواخرها، فإنه لو حمل على الأول لم يصح كلامه في الظهر، فإن أول وقته عند دلوك الشمس ولو حمل على الثاني لم يصح كلامه في العصر والصبح، فإن صيرورة الظل مثلين ليس آخر وقت العصر، ولا الغلس آخر وقت الصبح، بل غرضه بيان الأوقات التي صلّى فيها النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم بجبريل في اليوم الثاني من يومَيْ إمامته ليعرف به منتهى الأوقات المستحبة، فإنه قد ورد في روايات من أشرنا إليه سابقاً وغيرهم أن جبريل أمَّ النبي صلى الله عليه وسلم في يومين، فصلَّى معه الظهر في اليوم الأول حين زوال الشمس، والعصر حين صار ظل كل شيء مثله، والمغرب عند الغروب، والعشاء عند غيبوبة الشفق، والصبح بغَلَس، ثم صلَّى معه في اليوم الثاني الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، والعصر حين صار ظل كل شيء مثليه، والمغرب في الوقت الأول، والعشاء عند ثلث الليل، والصبح بحيث أسفر جداً، فبيَّن أبو هريرة تلك الأوقات مشيراً إلى ذلك، وزاد في العشاء ما يشير إلى أن وقته إلى نصف الليل، آخذاً ذلك مما سمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن للصلاة أوَّلاً وآخراً، وأن أول وقت العشاء حين يغيب الشفق، وأن آخر وقتها حين ينتصف الليل، أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (أخرجه الطحاوي في باب مواقيت الصلاة، 1/93) من حديثه، والترمذي أيضاً في جامعه =(1/158)
الْعَصْرِ، وكان يَرى الإِسْفَارَ في الْفَجْرِ (1) ،
_________
= (أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة، رقم 151) ، وأما الصبح فإن كان قد صلاّها جبريل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني حين أسفر، لكن لما كان النبي صلى الله عليه وسلم داوم على الغلس بعد ذلك إلاَّ أحياناً أشار إلى كونه مستَحبّاً واكتفى بذكره.
وإذا تحقَّق هذا فليس في هذا الأثر ما يفيد مذهب أبي حنيفة، أنه يجوز الظهر إلى الظل، ولا يدخل وقت العصر إلاَّ عند الظلين.
(1) في نسخة: بالفجر، قوله: وكان يرى الإسفار بالفجر، أي كان يعتقد أبو حنيفة استحباب الإسفار بالفجر، وقد اختلفت فيه الأخبار القولية والفعلية والآثار، أما اختلاف الأخبار فمنها ما ورد في الإسفار، ومنها ما ورد في التغليس.
أما أحاديث الإسفار، فأخرج أصحاب السنن الأربعة (أخرجه أبو داود في المواقيت 1/162، والترمذي في باب ما جاء في الإسفار بالفجر 1/290، والنسائي 1/94، وابن ماجه، في باب وقت الفجر 1/119، الطحاوي 1/105، والبيهقي في السنن الكبرى 1/277، والتلخيص الحبير: 1/182) وغيرهم من حديث محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر". قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأخرجه ابن حبان بلفظ: "أسفروا بصلاة الصبح، فإنه أعظم للأجر". وفي لفظٍ له: "فكلما أصبحتم بالصبح، فإنه أعظم لأجوركم"، وفي لفظ للطبراني: "وكلما أسفرتم بالفجر، فإنه أعظم للأجر".
وأخرجه أحمد في مسنده "من حديث محمود بن لبيد مرفوعاً، والبزار في مسنده من حديث بلال نحوه.
وأخرجه البزار من حديث أنس بلفظ: "أسفروا بصلاة الفجر، فإنه أعظم للأجر". =(1/159)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= وأخرجه الطبراني والبزَّار من حديث قتادة بن النعمان، والطبراني أيضاً من حديث ابن مسعود، وابن حبان في "كتاب الضعفاء" من حديث أبي هريرة، والطبراني من حديث حوّا الأنصارية بنحو ذلك.
وأخرج ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه والطبراني، عن رافع بن خديج سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: "يا بلال، نوِّرْ بصلاة الصبح حتى يُبْصر القوم مواضع نَبْلهم من الإسفار".
وأخرجه أيضاً ابن أبي حاتم في "علله" وابن عَدِيّ في "كامله"، وأخرج الإمام أبو محمد القاسم بن ثابت السرقسطي في "غريب الحديث"، عن أنس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح حين يفسح البصر".
وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" من حديث رافع مرفوعاً: "نوّروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر، وعن بلال مثله، وعن عاصم بن عمرو، عن رجال من قومه من الأنصار من الصحابة أنهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصبحوا الصبح فكلما أصبحتم فهو أعظم للأجر".
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما، عن أبي هريرة: أنَّه صلى الله عليه وسلم كان ينصرف من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه".
وأخرجا أيضاً، عن ابن مسعود، قال: "مارأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى صلاةً لغيرِ وقتها إلاَّ بجَمْعٍ، فإنه جمع بين المغرب والعشاء بجَمْع، وصلّى صلاة الصبح من الغد قبل وقتها، يعني وقتها المعتاد، فإنه صلّى هناك في الغلس.
وأخرج أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبيد، عن أبي الدرداء مرفوعاً: "أسفروا بالفجر تغنموا".
وأما أحاديث الغلس، فأخرج ابن ماجة، عن مغيث: صليت بعبد الله بن الزبير الصبح بغلس، فلما سلَّمت أقبلتُ على ابن عمر، فقلت: ما هذه الصلاة؟ =(1/160)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= قال: هذه كانت صلاتنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وعمر، فلما طُعن عمر أسفر بها عثمان.
وأخرج مالك والبخاري ومسلم وغيرهم، عن عائشة: كنَّ نساءَ المؤمنين يصلِّين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم ينصرفن متلفِّفات بمروطهن ما يُعْرَفْن من الغَلَس.
وأخرج أبو داود وابن حبان في "صحيحه" والحازمي في "كتاب الناسخ والمنسوخ"، عن أبي مسعود أنه صلى الله عليه وسلم صلّى الصبح بغلس، ثم صلّى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك بالغلس إلى أن مات، ولم يعد إلى أن يسفر.
وأخرج الطبراني في "معجمه" من حديث جابر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس حيَّة، والمغرب إذا وجبت الشمس، والعشاء إذا كثر الناس عجَّل، وإذا قلّوا أخَّر، والصبح بغلس.
وفي الباب أحاديث كثيرة مرويَّة في كتب شهيرة.
وأما اختلاف الآثار، فأثر أبي هريرة المذكور في الكتاب يدل على اختيار الغلس.
وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/106) ، عن قرة بن حبان: تسحَّرنا مع عليّ، فلما فرغ من السحور أمر المؤذن، فأقام الصلاة. وعن داود بن يزيد الأودي، عن أبيه: كان علي يصلي بنا الفجر ونحن نتراءى بالشمس مخافة أن يكون قد طلعت. وعن عبد خير: كان عليّ ينوِّر بالفجر أحياناً ويغلس بها أحيانا. وعن حرشة: كان عمر بن الخطاب ينوِّر بالفجر ويغلِّس، ويصلّي في ما بين ذلك، ويقرأ بسورة يوسف ويونس وقصار المثاني والمفصّل. وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة: =(1/161)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= صلينا وراء عمر بن الخطاب صلاة الصبح، فقرأ فيها بسورة يوسف والحج قراءة بطيئة فقلت: والله إذاً لقد كان يقوم حين يطلع الفجر؟ قال: أجل. وعن السائب: صلَّيت خلف عمر الصبح، فقرأ فيها بالبقرة، فلما انصرفوا استشرفوا الشمس، فقالوا: طلعت، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين. وعن زيد بن وهب: صلى بنا عمر صلاة الصبح، فقرأ بني إسرائيل والكهف حتى جعلتُ أنظر إلى جدار المسجد هل طلعت الشمس. وعن محمد بن سيرين، عن المهاجر، أن عمر كتب إلى أبي موسى: أن صلِّ الفجر بسواد، أو قال فغلّس، وأطِل القراءة.
وعن أنس بن مالك: صلّى بنا أبو بكر صلاة الصبح، فقرأ بسورة آل عمران، فقالوا: كادت الشمس تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين.
وعن عبد الرحمن بن يزيد: كنا نصلّي مع ابن مسعود، فكان يسفر بصلاة الصبح.
وعن جبير بن نفير: صلّى بنا معاوية الصبح فغلّس فقال أبو الدرداء: أسفروا بهذه الصلاة.
وعن إبراهيم النخعي، قال: ما اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء ما اجتمعوا على التنوير.
وفي الباب آثار كثيرة، وقد وقع الاختلاف باختلاف الأخبار والآثار. فذهب الكوفيون: أبو حنيفة وأصحابه والثوريُ والحسن بن حَيّ وأكثر العراقيين إلى أن الإسفار أفضل من التغليس في الأزمنة كلها، وذهب مالك والليث بن سعد والأوزاعي والشافعي وأحمد وأبو ثور وداود بن علي وأبو جعفر الطبري إلى أن الغلس أفضل، كذا ذكره ابن عبد البر (الاستذكار 1/51) .
وقد استدلَّ كل فرقة بما يوافقها وأجابه عما يخالفها، فمن المغلِّسين من قال: تأويل الإسفار حصول اليقين بطلوع الصبح، وهو تأويل باطل يردّه اللغة. =(1/162)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= ويردُّه أيضاً بعض ألفاظ الخبر الدالة صريحاً على التنوير كما مر ومنهم من قال: الإسفار منسوخ، لأنه صلى الله عليه وسلمـ أسفر، ثم غلَّس إلى أن مات، وهذا أيضاً باطل، لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال والاجتهاد ما لم يوجد نص صريح على ذلك ويتعذَّر الجمع ومنهم من قال: لو كان الإسفار أفضل لما داوم النبي صلى الله عليه وسلم على خلافه، وهذا جواب غير شافٍ بعد ثبوت أحاديث الإسفار. ومنهم من ناقش في طرق أحاديث الإسفار، وهي مناقشة لا طائل تحتها، إذ لا شك في ثبوت بعض طرقها، وضَعْفُ بعضها لا يضرّ، على أن الجمع مقدَّم على الترجيح على المذهب الراجح.
ومن المُسفرين من قال: التغليس كان في الابتداء ثم نُسخ، وفيه أنه نَسْخٌ اجتهاديّ مع ثبوت حديث الغلس إلى وفاته صلى الله عليه وسلم ومنهم من قال: لو كان الغلس مستحباً لما اجتمع الصحابة على خلافه، وفيه أن الإجماع غير ثابت لمكان الاختلاف فيما بينهم. ومنهم من ادعى انتفاء الغلس عن النبي صلى الله عليه وسلم أخذاً من حديث ابن مسعود وغيره. وهذا كقول بعض المغلِّسين أن الإسفار لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم باطل، فإن كلاًّ منهما ثابت، وإن كان الغلس أكثر. ومنهم من قال: لمّا اختلفتْ الأحاديث المرفوعة تركناها، ورجعنا إلى الآثار في الإسفار، وفيه أن الآثار أيضاً مختلفة، ومنهم من سلك مسلك المناقشة في طرق أحاديث الغلس، وهي مناقشة أخرى (في نسخة: أخزى) من المناقشة الأولى.
ومنهم من سلك مسلك الجمع باختيار الابتداء في الغلس والاختتام في الإسفار بتطويل القراءة، وبه يجتمع أكثر الأخبار والآثار. وهذا الذي اختاره الطحاوي (شرح معاني الآثار 1/109) ، وحكم بأنه المستحب، وأن أحاديث الإسفار محمولة على الاختتام في الإسفار، وأحاديث الغلس على الابتداء فيه، وقال: هذا هو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وهو جَمع حسن لولا ما دلَّ عليه حديث عائشة من انصراف النساء بعد الصلاة بمروطهن لا يُعرَفنَ من الغلس، إلا أن يقال إنه كان أحياناً =(1/163)
وَأَمَّا فِي قولِنا فإِنّا نقوْل: إِذَا زَادَ الظِّلُّ عَلَى المِثْلِ فَصَارَ مِثْلَ الشَّيْءِ وَزِيَادَةً (1) مِن حِينَ زَالتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ دخلَ (2) وَقْتُ العَصْرِ. وَأَمَّا أَبو حنيفةَ فَإنَّه قَالَ (3) : لاَ يَدْخُلُ وَقْتُ العصرِ حتَّى يَصِيرَ الظلُّ مِثلَيْهِ (4) .
_________
= والكلام في هذا المبحث طويل لا يتحمَّله هذا التعليق، بل المتكفِّل له شرحي لشرح الوقاية.
(1) التنوين للتحقير والتقليل، وهي كمية الفيء باختلاف الفصول والأمكنة.
(2) قوله: فقد دخل وقت العصر، به قال أبو يوسف والحسن وزفر والشافعي وأحمد والطحاوي وغيرهم، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة على ما في عامة الكتب، ورواية محمد عنه على ما في "المبسوط"، كذا في "حلية المحلّى شرح منية المصلّى" (هكذا في الأصل: هنا وفيما سيأتي مراراً، وهو تحريف قطعاً، والصواب: "حَلْبَة المجلّي شرح منية المصلي" بفتح الحاء من "حَلبة" وسكون اللام، يليها باء موحدة، والمجلي بضم الميم وفتح الجيم وكسر اللام المشددة، انظر هامش الأجوبة الفاضلة: ص 197) . لمحمد بن أمير حاج الحلبي، وفي "غرر الأذكار:: هو المأخوذ به، وفي "البرهان شرح مواهب الرحمن": هو الأظهر، وفي "الفيض" للكركي: عليه عمل الناس اليوم، وبه يُفتى. كذا في "الدر المختار" والاستناد لهم بأحاديث: منها أحاديث التعجيل التي ستأتي في الكتاب.
ومنها أحاديث إمامة جبريل التي مرَّت الإشارة إليها، وهي أصرح من أحاديث التعجيل.
ومنها حديث جابر المرويّ في سنن النسائي وغيره أنه صلى الله عليه وسلم صلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله.
وفي الباب آثار وأخبار كثيرة تدل على ذلك مبسوطة في موضعها.
(3) قد ذكر جمع من الفقهاء رجوعه عنه إلى المثل.
(4) قوله: حتى يصير الظل مثليه، أي سوى فيء الزوال في بلدة يوجد هو فيها، واستدلاله أحاديث: =(1/164)
2 - أخبرَنا مالك، أخبرني ابن شهابٍ (1)
_________
= منها حديث علي بن شيبان: قَدِمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فكان يؤخِّر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية. رواه أبو داود وابن ماجة. وهذا يدلُّ على أنه كان يصلي عند المثلين.
ومنها حديث جابر: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صار ظل كل شيء مثليه. رواه ابن أبي شيبة بسند لا بأس به، كذا ذكره العيني في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (5/33) . وفيه أنهما إنما يدلاّن على جواز الصلاة عند المثلين، لا على أنه لا يدخل وقت العصر إلاَّ عند ذلك.
ومنها أثر أبي هريرة المذكور في الكتاب، وقد مرَّ ما له وما عليه.
والإنصاف في هذا المقام أن أحاديث المثل صريحة صحيحة. وأخبار المثلين ليست صريحة في أنه لا يدخل وقت العصر إلى المثلين، وأكثر من اختار المثلين إنما ذكر في توجيهه أحاديث استنبط منها هذا الأمر، والأمر المستنبط لا يعارض الصريح، ولقد أطال الكلام في هذا المبحث صاحب "البحر الرائق" فيه وفي رسالة مستقلَّة، فلم يأتِ بما يفيد المدَّعى ويُثبت الدعوى فتفطَّنْ.
(1) قوله: ابن شهاب الزهري، قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (1/90) : محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زُهرة بن كِلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤيّ أبو بكر القرشي الزهري المدني. سكن الشام وكان بأَيْلة، ويقولون: تارة الزهري، وتارة ابن شهاب، ينسبونه إلى جدّ جدّه، تابعي صغير، سمع أنساً وسهلَ بنَ سعد والسائبَ بن زيد وأبا أمامة وأبا الطفيل، وروى عنه خلائق من كبار التابعين وأتباعهم، روينا عن الليث بن سعد، قال: ما رأيت قطّ عالماً أجمع من ابن شهاب، ولا أكثر علماً منه، =(1/165)
الزُّهْري (1) ، عَن عُروةَ (2) قَالَ: حَدَّثَتْنِي عائشةُ (3) رضيَ الله عَنْها، أنَّ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ والشمسُ (4) فِي حُجْرَتِهَا (5)
_________
= وقال الشافعي: لولا الزهري لذهبت السنن من المدينة، توفي في رمضان سنه 124 هـ، ودُفن بقرية أطراف الشام، يقال لها شغب. انتهى ملخَّصاً.
(1) بضم الزاي وسكون الهاء نسبة إلى زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي، كذا في "الأنساب".
(2) قوله: عن عروة، هو ابن الزبير بن العَوَّام الأسدي أبو عبد الله المدني، قال ابن عُيَيْنة: أعلم الناس بحديث عائشة ثلاثة: القاسم وعروة وعَمْرة بنت عبد الرحمن، مات سنة 94 هـ، كذا في "إسعاف السوطي" (ص 29) .
(3) قوله: حدَّثتني عائشة، هي بنت أبي بكر الصدِّيق زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وأحبَّ أزواجه إليه، تزوجها وهي ابنة ست سنين قبل الهجرة بسنتين أو ثلاث وبنى بها بالمدينة وهي ابنة تسع، وتوفيت سنة 57 هـ، وقيل: سنة 58 هـ، قال الزهري: لو جُمع علم عائشة إلى جميع علم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل، كذا في "استيعاب ابن عبد البر".
(4) قوله: والشمس، المراد من الشمس، ضَوْءُها، لا عينها، والواو في قوله والشمس للحال، كذا في "إرشاد الساري شرح صحيح البخاري" للقسطلاني.
(5) أي: في داخل بيتها، قال السيوطي: الحُجْرة: بضم الحاء وسكون الجيم: البيت سُمِّي به لمنعها المال.
قوله: في حجرتها، أي بيت عائشة، كأنها جرّدت واحدة من النساء وأثتتت لها حجرة وأخبرت بما أخبرت به، وإلاَّ فالقياس التعبير "بحجرتي"، كذا في "إرشاد الساري".(1/166)
قَبْلَ (1) أَنْ تَظْهَرَ (2) .
3 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابنُ شهابٍ (3) الزُّهْرِيُّ، عَنْ أنسِ (4) بنِ مالكٍ أنَّه قال:
_________
(1) قوله: قبل ... إلخ، فإن قال قائل: ما معنى قولها قبل أن تظهر الشمس، والشمس ظاهرة على كل شيء من طلوعها إلى غروبها، فالجواب أنها أرادت: والفيء في حجرتها قبل أن تعلو على البيوت، فكنَّتْ بالشمس عن الفيء، لأن الفيء عن الشمس كما سمِّي المطر سماء، لأنه ينزل من السماء، وفي بعض الروايات لم يظهر الفيء، كذا في "الكواكب الدراري شرح صحيح البخاري" للكرماني.
(2) أي: قبل أن يعلو على الجدار، كذا في "الكواكب الدراري"، يقال ظهرت السطح، أي: علوته.
قوله: تظهر، قال الطحاوي: لا دلالة فيه على التعجيل لاحتمال أن الحجرة كانت قصيرة الجدار، فلم تكن الشمس تحتجب (في الأصل: "فلم يكن الشمس يحتجب"، وهو خطأ) عنها إلاَّ بقرب غروبها، فيدل على التأخير. وتُعَقِّب بأن الذي ذكره من الاحتمال إنما يتصوَّر مع اتساع الحجرة، وقد عرف بالاستفاضة والمشاهدة أن حُجَر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن متَّسعة، ولا يكون ضوء الشمس باقياً في قعر الحجرة الصغيرة إلاَّ والشمس قائمة مرتفعة، كذا في "فتح الباري شرح صحيح البخاري" (2/21. ولكن ردَّ عليه العيني في عمدة القاري (2/539) ، بقوله: قلت لا وجه للتعقُّب فيه، لأن الشمس لا تحتجب عن الحجرة الصغيرة الجدار إلاَّ بقرب غروبها، وهذا يُعلم بالمشاهدة، فلا يُحتاج إلى المكابرة ولا دخل لاتِّساع الحجرة ولا لضيقها، وإنما الكلام في قصر جدرها) للحافظ ابن حجر.
(3) هو محمد بن مسلم الزهري.
(4) قوله: عن أنس بن مالك، هو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمه عشر سنين، =(1/167)
كنّا نصلِّي العصرَ (1) ثمَّ يَذْهَبُ الذاهبُ (2)
_________
= ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "اللَّهم أكثِرْ مالَه وولدَه، وأدخِلْه الجنة"، مات سنه 102 هـ وقيل سنة 92 هـ وقد جاوز المئة، كذا في "إسعاف المبطأ، برجال الموطأ" (ص 7) للسيوطي.
(1) قوله: كنا نصلي العصر، قال ابن عبد البر: هكذا هو في "الموطأ"، ليس فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه عبد الله بن نافع وابن وهب في رواية يونس بن عبد الأعلى عنه؛ وخالد بن مخلد وابنه عامر العقدي كلهم عن مالك، عن الزهري، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلِّي العصر، ثم يذهب الذاهب ... الحديث. وكذلك رواه عبد الله بن المبارك عن مالك، عن الزهري وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة جميعاً عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلِّي العصر، ثم يذهب الذاهب إلى قباء، قال أحدهما: فيأتيهم وهم يصلون، وقال الآخر: فيأتيهم والشمس مرتفعة. ورواه أيضاً كذلك معمر وغيره من الحفاظ عن الزهري، فهو حديث مرفوع.
قلت: هو كذلك عند البخاري من طريق شعيب عن الزهري، وعند مسلم وأبي داود وابن ماجه من طريق الليث عن الزهري، وعند الدارقطني من طريق إبراهيم بن أبي عَبْلة عن الزهري، كذا في "تنوير الحوالك على موطأ مالك" (1/26) للسيوطي.
(2) أي ممن صلَّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: ثم يذهب الذاهب، قال الحافظ ابن حجر: أراد نفسه لما أخرجه النسائي والطحاوي من طريق أبي الأبيض عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا العصر والشمس بيضاء محلّقة؛ ثم أرجع إلى قومي فأقول لهم: قوموا فصلوا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلّى. =(1/168)
إلى (1) قُباء (2)
_________
= قلت: بل أعم من ذلك لما أخرجه الدارقطني والطبراني من طريق عاصم بن عمر بن قتادة عن أنس قال: كان أبعد رجلين من الأنصار من رسول الله صلى الله عليه وسلم داراً أبو لبابة بن عبد المنذر، وأهله بقباء، وأبو عبس بن جبر، ومسكنه في بني حارثة، فكانا يصلّيان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يأتيان قومهما، وما صلّوا لتعجيل رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، كذا في "تنوير الحوالك" (1/26) .
(1) إلى قُبا، قال النسائي: لم يتابَع مالك على قوله "إلى قبا" والمعروف "إلى العوالي". وقال الدارقطني: رواه إبراهيم بن أبي عبلة عن الزهري فقال إلى العوالي، وقال ابن عبد البر: الذي قاله جماعة أصحاب ابن شهاب عنه "إلى العوالي" وهو الصواب عند أهل الحديث، وقول مالك "إلى قبا" وهم لا شك فيه إلاَّ أن المعنى متقارب، فإن العوالي مختلفة المسافة، فأقربها إلى المدينة ما كان على ميلين أو ثلاثة، ومنها ما يكون على ثمانية أميال، ومثل هذا هي المسافة بين قبا والمدينة. وقد رواه خالد بن مخلد عن مالك، فقال: إلى العوالي، وسائر رواة "الموطأ" يقولون: إلى قباء، وقال الحافظ ابن حجر: نسبه الوهم فيه إلى مالك منتقد، فإنه إن كان وهماً احتمل أن يكون منه، وأن يكون من الزهري حين حدث به مالكاً، فإن الباجيّ نقل عن الدارقطني أن ابن أبي ذئب رواه عن الزهري "إلى قبا" كذا في "تنوير الحوالك" (1/26 - 27) .
(2) قوله: قباء، قال النووي: يُمَدّ ويُقصر ويُصرف ولا يُصرف ويُذكَّر ويؤنَّث، والأفصح التذكير والصرف والمدّ، وهو على ثلاثة أميال من المدينة، كذا في "تنوير الحوالك" (1/26) .(1/169)
فيأتيهم (1) و (2) الشمسُ مُرْتَفِعَةٌ (3) .
4 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا إسحاقُ بنُ عبدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ (4) ، عَنْ أَنَسِ بنِ مالك (5) ، قال: كنا (6)
_________
(1) أي يأتي الذاهب إلى أهل قبا.
(2) الواو حالية.
(3) أي ظاهرة عالية.
قوله: والشمس مرتفعة، المعنى الذي أدخل مالك هذا الحديث في "موطَّئه" تعجيل العصر خلافاً لأهل العراق الذي يقولون بتأخيرها، نقل ذلك خَلَفُهم عن سلفهم بالبصرة والكوفة، قال الأعمش: كان إبراهيم يؤخِّر الصلاة جدَّاً، وقال أبة قلابة: وإنما سمِّيت العصر لتعصر. وأما أهل الحجاز فعلى تعجيل العصر سَلَفُهم وخَلَفُهم، كذا في "الاستذكار" (1/70) .
(4) قوله: أخبرنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، قال السيوطي (الإسعاف: ص 6) : وثَّقه أبو زرعة وأبو حاتم والنسائي، وقال ابن معين: ثقة حجة، مات سنة 134 هـ.
(5) هذا الحديث قد أخرجه البخاري ومسلم من طريق مالك والنسائي وغيرهم.
(6) قوله: كنا نصلي العصر....إلخ، قال ابن عبد البر: هذا يدخل عندهم في المسند، فصرَّح برفعه ابن المبارك وعتيق بن يعقوب الزهري، كلاهما عن مالك بلفظ كنا نصلي العصر مع النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. وهذا اختيار الحاكم أن قول الصحابي كنا نفعل كذا مسند ولو لم يصرِّح بإضافته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال =(1/170)
نُصَلِّي (1) الْعَصْرَ، ثُمَّ يَخْرُجُ الإِنْسَانُ (2) إِلَى بَنِي عمرِو بنِ عَوْفٍ (3) فيجدُهم (4) يُصَلُّونَ الْعَصْرَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: تَأخِيْرُ الْعَصْرِ (5) أَفْضَلُ (6)
_________
= الدارقطني والخطيب: وهو موقوف، قال الحافظ عبد الحق: إنه موقوف لفظاً مرفوع حكماً، قاله الزرقاني (1/24) .
(1) أي في مسجد المدينة.
(2) ممن صلَّى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(3) قال العيني في "عمدة القاري شرح البخاري" (5/36) كانت منازلهم على ميلين بقبا.
(4) قوله: فيجدهم يصلون، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجِّل (في الأصل: "يعجل"، والظاهر: "يعجل العصر") في أوَّل وقتها، ولعلَّ تأخيرهم لكونهم كانوا أهل أعمال في زروعهم وحوائطهم، فإذا فرغوا من أعمالهم تأهَّبوا للصلاة بالطهارة وغيرها، ثم اجتمعوا لها فتأخَّرت صلاتهم إلى وسط الوقت.
قال النووي: هذا الحديث حجة على الحنفية حيث قالوا: لا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه، كذا في "الكواكب الدراري".
(5) أي لا في يوم غيم.
(6) قوله: أفضل، علَّله صاحب "الهداية" وغيره من أصحابنا بأن في تأخيره تكثير النوافل لكراهتها بعده، وهو تعليل في مقابلة النصوص الصحيحة الصريحة =(1/171)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= الدالَّة على فضيلة التعجيل، وهو كثيرة مرويَّة في الصحاح الستَّة وغيرها (إن تعليل صاحب "الهداية" بتكثبر النوافل ليس بمقابلة النصوص الصحيحة الصريحة في أفضلية التعجيل، وما روي منها في الصحاح الستة وغيرها ليس شيء منها مما يُشير إلى أفضلية أول الوقت، وما روى أبو داود عن شيبان بن علي صريح في التأخير ونفي التعجيل، وأنه يُقطع منه بالتأخير الكامل إلى آخر الوقت المستحب، وأنه غير مستحب عندنا حتى يحتمل وقوعها في شيء من الوقت المكروه على أنّا بصدد المنع. (تنسيق النظام ص 43)) ، وقد مرَّ نُبَذٌ منها في الكتاب، وذكر العيني في "البناية شرح الهداية" لأفضلية التأخير أحاديث:
الأول: ما أخرجه أبو داود عن عبد الرحمن بن عليّ بن شيبان، عن أبيه، عن جده، قال: قَدِمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فكان يؤخِّر العصر مادامت الشمس بيضاء نقية.
والثاني: ما أخرجه الدارقطني عن رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بتأخير هذه الصلاة يعني العصر.
والثالث: ما أخرجه الترمذي عن أم سلمة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ تعجيلاً للظهر منه.
والرابع: ما أخرجه الطحاوي عن أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلّي العصر والشمس بيضاء.
ولا يخفى على الماهر ما في الاستناد بهذه الأحاديث.
أما الحديث الأول، فلا يدل إلاَّ على أنه كان يؤخر العصر ما دام كون الشمس بيضاء، وهذا أمر غير مستنكر، فإنه لم يقل أحد بعدم جواز ذلك، والكلام إنما هو في أفضلية التأخير وهو ليس بثابت منه.
لا يقال: هذا الحديث يدل على أن التأخير كان عادته يشهد به لفظ "كان" =(1/172)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= المستعمل في أكثر الأحاديث لبيان عادته المستمرة، لأنا نقول: لو دلَّ على ذلك لعارضه كثير من الأحاديث القويَّة الدالَّة على أن عادته كانت التعجيل، فالأوْلى أن لا يُحمل هذا الحديث على الدوام دفعاً للمعارضة واعتباراً لتقديم الأحاديث القوية.
وأما الثاني فقد رواه الدارقطني في "سننه" عن عبد الواحد بن نافع قال: دخلت مسجد الكوفة فأذَّن مؤذَّن بالعصر وشيخ جالس، فلامه وقال: إنَّ أبي أخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بتأخير هذه الصلاة، فسألت عنه، فقالوا: هذا عبد الله بن رافع بن خديج. ورواه البيهقي في "سننه" وقال: قال الدارقطني في ما أخبرنا عنه أبو بكر بن الحارث: هذا حديث ضعيف الإسناد، والصحيح عن رافع ضده، ولم يروه عن عبد الله بن رافع غير عبد الواحد بن نافع، وهو يروي عن أهل الحجاز المقلوبات، وعن أهل الشام الموضوعات، لا يحل ذكره في الكتب إلاَّ على سبيل القدح فيه. انتهى. ورواه البخاري في "تاريخه الكبير" في ترجمة عبد الله بن رافع: حدثنا أبو عاصم، عن عبد الواحد بن نافع، وقال..لا يُتابَع عليه يعني عن عبد الله بن رافع، وقال ابن القطان: عبد الواحد بن نافع مجهول الحال مختلف في حديثه (في الجوهر النقي (1/441 - 442) : قلت: ذكر ابن حبان في ثقات التابعين عبد الله بن رافع، وذكر في ثقات أتباع التابعين عبد الواحد بن نافع، وأخرجه الحاكم بسنده، وقال: صحيح على شرط البخاري) . كذا ذكره الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية".
وأما الثالث فإنما يدل على كون التعجيل في أظهر أشد من التعجيل في العصر لا على استحبابه تأخير العصر.
وأما الرابع فلا يدل أيضاً على استحباب التأخير.
ومن الآثار المقتضية للتأخير ماروي عن زياد بن عبد لله النخعي: كنا جلوساً =(1/173)
عِنْدَنا (1) مِنْ تَعْجِيلِها إِذَا صَلَّيْتَهَا (2) وَالشَّمسُ (3) بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ (4)
_________
= مع عليّ رضي الله عنه في المسجد الأعظم فجاء المؤذِّن فقال: الصلاة، فقال اجلس، فجلس، ثم عاد فقال له ذلك، فقال عليّ: هذا الكلب يعلِّمنا الصلاة، فقام عليّ، فصلَّى بنا العصر، ثم انصرفنا فرجعنا إلى المكان الذي كنّا فيه جلوساً، فجثَوْنا للرُّكَب لنزول الشمس للغروب نتراآها.
أخرجه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأخرجه الدارقطني، وأعلَّه بأن زياد بن عبد الله مجهول (ذكره ابن حبان في ثقات التابعين: الثقات لابن حبان 4/256) ، ومما يدل على التأخير ما أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" عن عكرمة قال: كنا في جنازة مع أبي هريرة، فلم يصلِّ العصر حتى رأينا الشمس على رأس أطول جبل بالمدينة.
وقد أورد الطحاوي آثاراً أخر أثبت بها ألتأخير، وأجاب عن أحاديث التعجيل بجوابات، لا يخلو واحد منها عن مناقشة، وليس هذا موضع بسطه (قلت: أحاديث التبكير والتعجيل ليست بألفاظها مفسّرة، بل نصوصاً في الأداء لأول وقتها، بل ظاهرة فيه لولا قرائن صارفة عن هذا المعنى، بل التعمق يرشد إلى أن المراد منها التعجيل والتقدم على صفرة الشمس ودخول وقت الكراهة، وبيان التبكير والتأكيد فيه لأنه لا يقع في هذا الوقت المكروه، أو ينقضي وقتها كما يشير إليه كثير من ألفاظ الأحاديث كحديث صلاة المنافق فيه فنقر أربعاً، وغير ذلك، وذلك لأن الأخبار بعد الاستقصاء في باب التعجيل عامتها ترجع إما إلى ما فيه ألفاظ مبهمة ككون الشمس حيَّة ونقيَّة بيضاء وككونها في حجرة عائشة وغير ذلك مما لا قاطع فيه بالأداء في أول الوقت، بل هو شامل إلى آخر مايدخلها الصفرة أي آخر الوقت المستحب، "تنسيق النظام" ص 43) .
(1) معاشر الحنفية أو معاشر أهل الكوفة.
(2) أيها المصلِّي.
(3) الواو حالية.
(4) أي مطهَّرة من اختلاط الاصفرار.(1/174)
لَمْ تَدْخُلْهَا صُفْرَةٌ (1) ، وَبِذَلِكَ (2) جَاءَتْ عَامَّةُ الآثارِ (3) ، وهو (4) قولُ أبي حَنِيفةَ (5) .
_________
(1) قوله: لم تدخلها صفرة، فإن دخلتها صفرة كرهت الصلاة. ذكره الطحاوي في "شرح معاني الآثار". واختلفوا في مقدار تغير الشمس، فقدَّره بعضهم بأنه إذا بقي مقدار رمح لم يتغير، ودونه يتغير، وعن إبراهيم النخعي وسفيان الثوري الأوزاعي أنه يعتبر التغير في ضوئها، وبه قال الحاكم الشهيد، وعليه ظاهر ما في "محيط رضي الدين" وذكر محمد في "النوادر" عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يُعتبر التغير في قرص الشمس، لا في الضوء، ونسبه شمس الأئمة السرخسي إلى الشعبي، كذا في "حلبة المجَلّي شرح مُنْيَة المصلّي".
(2) أي بالتأخير.
(3) قوله: عامة الآثار، أي أكثر الأخبار المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أصحابه، فإن الأثر (1/63. وانظر تدريب الراوي 1/43) في عرف القدماء يَكلق على كلِّ مروي مرفوعاً كان أو موقوفاً، ومن ثم سمِّى الطحاويٌّ كتابه "شرح معاني الآثار" وكتاباً آخر سمّاه "مشكل الآثار" مع أنه ذكر فيه الأحاديث المرفوعة أكثر، وقال النووي في شرح صحيح مسلم: المذهب المختار الذي قاله المحدثون وغيرهم واصطلح عليه السلف وجماهير الخلف أن الأثر يُطلق على المروي مطلقاً، وقال الفقهاء الخراسانيون: الأثر: ما يُضاف إلى الصحابي موقوفاً عليه. انتهى. وقد بسطتُ الكلام فيه في شرح رسالة أصول الحديث المنسوبة إلى السيد الشريف المسمَّى بـ"ظفر الأماني (ص 4، 5) في المختصر المنسوب إلى الجُرْجاني"، فليُطالَع.
(4) أي التأخير.
(5) قوله: قول أبي حنيفة، وبه قال أبو قلابة محمد بن عبد الملك وإبراهيم =(1/175)
وَقَدْ قَالَ (1) بَعْضُ الفُقَهَاءِ (2) : إِنَّما سُمِّيتِ العَصْرٌ لأَّنَّها (3) تُعْصَرُ وَتُؤَخَّر (4) .
_________
= النخعي والثوري وابن شبرمة وأحمد في رواية، وهو قول أبي هريرة وابن مسعود، وقال الليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق وغيرهم: إن الأفضل التعجيل، كذا في "البناية" للعيني، وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/115) عن صالح بن عبد الرحمن، نا سعيد بن منصور، نا هشيم، أنا خالد، عن أبي قلابة: إنما سميت العصر لتعصر وتؤخر ثم قال الطحاوي: فأخبر أبو قلابة أن اسمها هذا لأن سببها أن تعصر، وهذا الذي استحسنّاه من تأخير العصر من غير أن يكون ذلك إلى وقت قد تغيَّرت فيه الشمس، أو دخَلَتْها صفرة، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وبه نأخذ. انتهى.
وأخرج أيضاً عن أبراهيم النخغي استحباب التأخير، وأن أصحاب عبد الله بن مسعود كانوا يؤخِّرون.
(1) تأييد لما ذهب إليه بالاستنباط من لفظ العصر التأخير.
(2) المراد به أبو قلابة كما يُعلم من "الاستذكار" (1/70) .
(3) أي صلاة العصر.
(4) قوله: لأنها تعصر وتؤخر، قد يقال: إنما سمِّي العصر عصراً لأنها تعصر وتقع في آخر النهار، فهي مؤخّرة عن جميع صلوات النهار ووقتها مؤخر عن جميع أوقات صلوات النهار لا لأنها تُعصر عن أول وقتها.(1/176)
2 - (بَابُ ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ)
5 - أَخْبَرْنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَمرو (1) بنُ يَحْيى بنِ عُمَارة (2) بنِ أَبِي حَسَنٍ المازِنيُّ (3) ، عَنْ أَبِيهِ يَحْيَى (4) أنَّه سَمِعَ (5) جدَّهُ أبا حَسَن (6) يَسألُ (7)
_________
(1) بفتح العين، وثَّقه النّسائي وأبو حاتم، قاله السيوطي.
(2) بضم العين وخفَّة الميم.
(3) بكسر الزاي من بنى مازن، صفة لعمرو.
(4) وثَّقه النسائي، قاله السيوطي.
(5) قوله: سمع، وقع في رواية يحيى الأندلسي، عن مالك أنه - أي: يحيى بن عمارة - قال لعبد الله بن زيد، فنسب السؤال إليه وهو على المجاز.
(6) قوله: جدَّه أبا حسن، قيل: اسمه كنيته، لا اسم له غير ذلك، وقيل اسمه تميم بن عبد عمرو، وهو جد يحيى بن عمارة والد عمرو بن يحيى شيخ مالك، مدني له صحبة، يقال: إنه ممَّن شهد العقبة وبدراً، كذا في "الاستيعاب في أحوال الأصحاب" لابن عبد البر (الاستيعاب 7/43) .
(7) قوله: يسأل....إلخ، كذا ساقه سحنون في "المدوَّنة"، ولأبي مصعب وأكثر رواة الموطأ أن رجلاً قال لعبد الله، ولمعن بن عيسى، عن عمرو، عن أبيه يحيى، أنه سمع أبا حسن وهو جدّ عمرو بن يحيى، وعند البخاري من طريق وهيب، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، قال: شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد، وعنده أيضاً من طريق سليمان بن (كذا في الأصل والصواب "عن") عمرو بن يحيى، عن أبيه قال: كان عمرو يكثر الوضوء، فقال لعبد الله، وفي المستخرج لأبي نعيم من طريق =(1/177)
عبدَ اللَّهِ بنَ زَيْد بْنِ عَاصِمٍ (1) وَكَانَ (2) مِنْ أصحابِ رسولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: هل تستطيعُ (3)
_________
= الدراوردي، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عمه عمرو بن أبي حسن. قال الحافظ ابن حجر: الذي يجمع هذا الاختلاف أن يقال: اجتمع عند عبد الله بن زيد أبو حسن الأنصاري وابنه عمرو وابن ابنه يحيى، فسألوه عن صفة الوضوء وتولّى السؤال منهم عمرو بن أبي حسن، فحيث نُسب إليه السؤال كان على الحقيقة، وحيث نُسب إلى أبي حسن فعلى المجاز لكونه أكبر، وحيث نُسب ليحيى، فعلى المجاز أيضاً، كذا في "تنوير الحوالك" (1/39، 40 وفي "أوجز المسالك" 1/189: والأوجه عندي أن يرجع الضمير إلى جد عمرو المذكور، إذ كون عبد الله بن زيد من الصحابة ظاهر، وكون السائل من الصحابة في حيِّز الخفاء بعد، مع أنه قريب لفظاً، وكونه سائلاً لصفة وضوئه صلى الله عليه وسلم أيضاً يوهم عدم صحبته، فإذاً التنبيه على كونه صحابياً أشدّ احتياجاً من التنبيه على بيان صحبة عبد الله، والله أعلم) .
(1) قوله: عبد الله بن زيد بن عاصم، وقع في رواية يحيى الأندلسي، عن مالك ها هنا: وهو جد عمرو بن يحيى، فظنوا أن الضمير يعود إلى عبد الله، وبناءً عليه قال صاحب الكمال وتهذيب الكمال في ترجمة عمرو بن يحيى بن عمارة أنه ابن بنت عبد الله بن زيد بن عاصم وليس كذلك، بل الضمير يعود إلى السائل، عن عبد الله، كذا في "تهذيب التهذيب" للحافظ ابن حجر.
(2) قوله: وكان، أي: عبد الله بن زيد بن عاصم وهو غير عبد الله بن زيد بن عبد ربه راوي حديث الأذان، ووهم من قال باتحادهما، وذكر السيوطي أن عبد الله المازني هذا مات سنة 63 هـ.
(3) قوله: هل تستطيع أن تريني، أي: أرني، قال الحافظ: فيه ملاطفة الطالب للشيخ، وكأنه أراد الإراءة بالفعل ليكون أبلغ في التعليم، وسبب الاستفهام ما قام عنده من احتمال أن يكون نسي ذلك لبُعد العهد، قاله الزرقاني (1/43) .(1/178)
أَنْ تُرِيَني (1) كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ قَالَ عبدُ اللَّه بنُ زَيْدٍ: نَعْمَ (2) ، فَدَعَا بِوَضُوْءٍ (3) فَأَفْرَغَ (4) عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْن (5) ، ثُمَّ مَضْمَضَ (6) (7) (8) ،
_________
(1) من الإراءة، أي: تبصرني وتعلِّمني.
(2) أي: أستطيع.
(3) قوله: بوضوء، هو بالفتح الماءُ الذي يُتَوَضَّأ به، وبالضم إذا أردت الفعل. وقال الخليل: الفتح في الوجهين، ولم يعرف الضم، وكذا عندهم الطُّهور والطَّهور والغُسل والغَسل، وحكى غسلا وغُسلاً بمعنى، وقال ابن الأنباري: الأوجه هو الأوَّل، أي: التفريق بينهما وهو المعروف الذي عليه أهل اللغة، كذا في "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض.
(4) أي: صبّ.
(5) قوله: مرتين، قال الحافظ: كذا لمالك، ووقع في رواية وهيب عند التخاري، وخالد بن عبد الله عند مسلم، والدراوردي عند أبي نعيم: "ثلاثاً" فهؤلاء حفاظ وقد اجتمعوا، ورواياتهم مقدَّمة على رواية الحافظ الواحد، وفي رواية أبي مصعب "يده" بالإفراد على إرادة الجنس، كذا في "التنوير" (1/40 وانظر منتقى الباجي: 1/64) .
(6) المضمضة تحريك الماء، وفي الاصطلاح استيعاب الماء في الفم (قال النووي: وأقلها أن يجعل الماء في فيه، ولا يُشترط الإدارة على المشهور عند الجمهور. شرح صحيح مسلم 1/505 باب صفة الوضوء) .
(7) يحتمل مرتين نظراً لما قبله، ويحتمل ثلاثاً اعتباراً بما بعده.
(8) قوله: ثم مضمض، واستنثر كذا في رواية يحيى، وفي رواية أبي مصعب بدله استنشق. قال الشيخ ولي الدين: فيه إطلاق الاستنثار على =(1/179)
ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثَاً، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ إلَى المِرْفَقَيْن (1) مَرَّتَيْن (2) ، ثُمَّ مَسَحَ (3)
_________
= الاستنشاق، وفي "شرح مسلم" للنووي: الذي عليه الجمهور من أهل اللغة وغيرهم أن الاستننثار غير الاستنثاق، وأنه إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق، مأخوذ من النثرة وهي طرف الأنف، وأما الاستنشاق: فهو إيصال الماء إلى داخل الأنف وجذبه بالنَّفَس إلى أقصاه، كذا في "التنوير" (1/40) .
(1) تثنية مرفق بكسر الميم وفتح الفاء وبالعكس: العظم الناتئ في آخر الذراع.
(2) قوله: مرتين مرتين، قال الشيخ وليّ الدين: المنقول في علم العربية أن أسماء الأعداد والمصادر والأجناس، إذا كُرِّرت كان المراد حصولها مكرَّرة لا التوكيد اللفظي، فإنه قليل الفائدة. مثال ذلك: جاء القوم اثنين اثنين أو رجلاً رجلاً، وهذا الموضع منه، أي: غسلهما مرتين بعد مرتين، أي: أفرد كل واحدة منهما بالغسل مرتين، وقال الحافظ: لم تختلف الروايات عن عمرو بن يحيى في غسل اليدين مرتين ولكن في مسلم من طريق حبان بن واسع، عن عبد الله بن زيد، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، وفيه وغسل يده اليمنى ثلاثاً ثم الأخرى ثلاثاً، فيُحمل على أنه وضوء آخر لكون مخرج الحديثين غير متَّحد، كذا في "تنوير الحوالك" (1/41) .
(3) قوله: ثم مسح....إلخ، قال ابن عبد البر: روى سفيان هذا الحديث فذكر فيه مسح الرأس مرتين (قال النووي: مسح جميع الرأس مستحب باتفاق العلماء. شرح مسلم 1/520. والمشهور عند المالكية أن الاستيعاب واجب، وبعض الرأس عند الشافعي، وهما روايتان عن أحمد، وقال الموفق: ظاهر مذهب أحمد الاستيعاب في حق الرجل، ويكفي المرأة أن تمسح مقدَّم رأسها، وربع الرأس أو مقدار الناصية عند الحنفية. أوجز المسالك 1/193) وهو خطأ لم يذكره أحد غيره، وقال القرطبي: =(1/180)
مِنْ مُقَدَّمِ رأسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا (1) إِلَى قَفَاه (2) ، ثُمَّ رَدّهُما إِلَى المكانِ الَّذِي مِنْهُ بَدَأَ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْه (3) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا حَسَنٌ (4) والوُضوءُ ثَلاثاً ثلاثاً (5) أفْضَلُ (6)
_________
= لم يجيء في حديث عبد الله بن زيد للأذنين ذكر، ويمكن أن يكون ذلك لأن اسم الرأس يضمهما، وتعقَّبه الشيخ ولي الدين بأن الحاكم والبيهقي أخرجا من حديثه: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتوضأ فأخذ ماءً لأذنيه خلاف الماء الذي مسح به رأسه.
وقالا صحيح، كذا في "التنوير" (1/42) .
(1) أي: اليدين.
(2) بالفتح منتهى الرأس من المؤخر.
(3) زاد وهيب في روايته عند البخاري إلى الكعبين.
(4) قوله: هذا حسن، إشارة إلى ما ورد في رواية عبد الله بن زيد من تثليث غسل بعض الأعضاء وتثنية غسل بعضها، وقد اختلفت الروايات، عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك باختلاف الأحوال: ففي بعضها تثليث غسل الكُلّ، وفي بعضها تثنية غسل الكُلّ، وفي بعضها إفراد غسل الكُلّ، وفي بعضها تثليث البعض وتثنية البعض، وكذا مسح الرأس ورد في بعضها الإفراد، وفي بعضها التعدّد، والكل جائز ثابت، غاية ما في الباب أن يكون بعضها أقوى ثبوتاً من بعض.
(5) أي: في المغسولات دون المسح.
(6) قوله: أفضل، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وقال: هذا وضوءٌ لا يقبل الله الصلاة إلا به، وتوضأ مرتين مرتين وقال: هذا وضوءُ مَن يُضاعَفُ له الأجر مرتين، وتوضأ ثلاثاً وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، أخرجه الدارقطني والبيهقي، وروى نحوه ابن ماجه وأحمد والطبراني وابن حبان وغيرهم =(1/181)
وَالاثْنَانِ يُجْزِيان، والواحدةُ إِذَا أَسْبَغَتْ (1) تُجزئ أَيْضًا (2) وَهُوَ (3) قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
6 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أبو الزِّناد (4) ،
_________
= بأسانيد يقوِّي بعضها بعضاً، والمتكفّل لبسطه شرحي شرح الوقاية المسمّى "بالسعاية في كشف ما في شرح الوقاية" (1/49) .
(1) قوله: أسبغت، بصيغة الخطاب أو بالتأنيث مجهولاً، أي: إذا استوعبت، كذا في "شرح الموطأ" لعليّ القارئ.
(2) قوله: تجزئ أيضاً (والكل جائز إذا استوعب ولا إثم عليه، لأن الإثم بترك الواجب دون السنَّة، واختاره صاحب الهداية 1/6 وقال القاري: إن الواجب هو المرة الواحدة وتثليث الغسل سنَّة، مرقاة المفاتيح 2/15) ، أي: بلا كراهة كما في "جامع المُضْمَرَات" عن شرح الطحاوي، أو مع كراهة كما هو ظاهر كلام الجمهور حيث عدّوا التثليث من السنن المؤكدة، وذُكر في "البناية" و"جامع المضمرات" و"المجتبى" و"الخلاصة" وغيرها أنه إ، اعتاد الاكتفاء بالواحدة أو الاثنين أثم وإلا لا.
(3) قوله وهو، كون الثلاث أفضل، وجواز الاكتفاء بالواحدة والثِّنْتَين.
(4) قوله: أبو الزِّناد، بكسر الزاي، هو عبد الله بن ذكوان وأبو الزناد لقبه، وكان يغضب منه لما فيه من معنى يلازم النار، ولكنه اشتهر به لجودة ذهنه، قال البخاري: أصح أسانيد أبي هريرة: أبو الزناد عن الأعرج عنه، قال الواقدي: مات سنة 130 هـ، كذا قال السيوطي وغيره (إسعاف المبطأ ص 22) .(1/182)
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (1) الأعْرَج (2) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: إِذَا توضَّأ أحدُكُم فلْيَجْعَلْ فِي أنفِهِ (3) ، ثُمَّ لِيَستَنثِر (4) .
7 - أَخْبَرَنَا مالكٌ، حَدَّثنا الزُّهري، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ (5) الخَولانيِّ (6) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "من توضَّأ فَلْيَسْتَنثِر (7)
_________
(1) هو عبد الرحمن بن هرمز، اشتهر بالأعرج، وثَّقه يحيى والعجلي، مات سنة 117 هـ بالإسكندرية، كذا قال السيوطي وغيره (إسعاف المبطأ ص 27) .
(2) قوله: الأعرج: قال السَّمعاني في "الأنساب": الأعرج بفتح الألف وسكون العين المهملة وفتح الراء في آخره جيم، هذه النسبة إلى العرج، والمشهور بها أبو حازم عبد الرحمن بن هرمز بن كيسان الأعرج مولى محمد بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب يروي عن أبي هريرة روى عنه الزهري وأبو الزِّناد.
(3) رواه القعنبي وابن بكير وأكثر الرواة، فقالوا: في أنفه ماء، قاله السيوطي.
(4) في نسخة: لينتثر. قال الفراء: يقال نثر وانتثر واستنثر إذا حرّك النثرة في الطهارة، وهي طرف الأنف.
(5) قوله: أبي إدريس، اسمه عائذ الله بن عمرو القاري العابد أبوه صحابي، وُلد هو في العهد النبوي ثقة حجة، مات سنة 80 هـ، قاله السيوطي وغيره.
(6) نسبة إلى قبيلة بالشام.
(7) أي فليبالغ في استنشاقه فإن الشيطان يبيت على خياشيمه.
استنبطوا منه أن الاستنثار سنّة على حدة غير الاستنشاق. =(1/183)
وَمَنِ اسْتَجْمَرَ (1) فَلْيُوتِر (2) ".
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (3) نأخُذُ، ينبغي (4)
_________
= وليس في الموطأ في حديث مسند لفظ الاستنشاق ولا يكون الاستنثار إلا بعد الاستنشاق، كذا في "الاستذكار".
(1) الاستجمار المسح بالجمار، وهي الأحجار الصغار.
(2) قوله: فليوتر، أي ندباً لزيادة أبي داود وابن ماجة بإسناد حسن: من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج. وبهذا أخذ مالك وأبو حنيفة في أن الإيتار مستحب لا شرط، كذا قال الزرقاني.
(3) أي بما أفاده هذا الخبر.
(4) قوله: ينبغي....إلخ، المضمضة والاستنشاق سنتان في الوضوء، فرضان في الجنابة عند أبي حنيفة وأصحابه والثوري، وعند الشافعي ومالك والأوزاعي والليث بن سعد والطبري سنتان فيهما، وعند ابن أبي ليلى وإسحاق بن راهويه فرضان فيهما، وعند أبي ثور وأبي عبيد المضمضة سنة والاستنشاق واجب، كذا في "الاستذكار" (1/159) ، وذكر ابن حجر في "فتح الباري": أن ظاهر أمر الاستنثار للوجوب فيلزم من قال بوجوب الاستنشاق لورود الأمر به القول بوجوبه، وهو ظاهر كلام "المغني" من الحنابلة. وصرح ابن بطال بأن بعض العلماء قال بوجوبه. انتهى. إذا عرفت هذا فنقول: استعمال محمد "ينبغي" هاهنا مبنيّ على أنه أراد به المعنى الأعم لا الذي شاع في المتأخرين من كونه بمعنى "يُستحب". القدماء في ما هو أعلم من الاستحباب والاستنان والوجوب، وقس عليه أكثر المواضع التي استعمل فيها محمد "ينبغي" فتفسير ينبغي ها هنا بيُستحب كما صدر عن القارئ ليس كما ينبغي.(1/184)
للمتوضِّئ أَنْ يَتَمَضْمَضَ ويَسْتَنْثِرَ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَسْتَجمر (1) . والاستجمارُ: الاسْتِنْجَاءُ (2) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (3) .
8 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نُعَيْمُ (4) بْنُ عَبْدِ الله المُجْمر (5) ،
_________
(1) قبل أن يشرع في التوضؤ.
(2) قوله: الاستنجاء، هو إزالة النجو أي الأذى من المخرج بالماء أو الأحجار.
وقال ابن القصار: يجوز أن نقول: إنه مأخوذ من الاستجمار (أو المراد بالاستجمار التبخر كما يكون في الأكفان، وكان مالك يقوله أولاً ثم رجع عنه، انظر هامش "بذل المجهود" 1/85) بالبُخور الذي به يطيب الرائحة. وقد اختلف قول مالك في معنى الاستجمار المذكور في الحديث، فقيل: الاستنجاء، وقيل: المراد به في البخور أن يأخذ منه ثلاث قطع، أو يأخذ ثلاث مرات يستعمل واحدة بعد الأخرى. قال عياض: والأول أظهر، وقال النووي: إنه الصحيح المعروف، كذا في "التنوير".
(3) وهو قول أبي حنيفة، اختلف الفقهاء في الاستنجاء: هل هو واجب أم سنة؟ فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلى أن ذلك ليس بواجب، وأنه سنة لا ينبغي تركها، فإن صلى كذلك فلا إعادة عليه، إلاّ أن مالكاً يستحب الإعادة في الوقت وأبو حنيفة يراعي ما خرج على فم المخرج مقدار الدرهم على أصله، وقال الشافعي وأحمد: الاستنجاء واجب لا يجزئ صلاة من صلى من دون أن يستنجي بالاحجار أو بالماء، كذا في "الاستذكار" (1/173) .
(4) هو أبو عبد الله المدني، وثّقه ابن معين وأبو حاتم وغيرهما، قاله السيوطي.
(5) قوله: المُجْمر، بضم الميم وسكون الجيم وكسر الميم صفة لنُعيم، بضم النون، لأنه كان يأخذ المجمر قُدّام عمر رضي الله عنه إذا خرج إلى الصلاة =(1/185)
أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ (1) : مَنْ توضَّأَ فَأَحْسَنَ (2) وَضَوءَهُ ثمَّ خَرَجَ (3) عَامِداً (4) إِلَى الصلاةِ (5) فهو في صلاةٍ (6)
_________
= في رمضان، قاله ابن حبان، وقال ابن ماكولا: كان يُجمر المسجد، لزم نعيم أبا هريرة عشرين سنة، وروى عنه كثيراً، كذا في "أنساب السمعاني" وفي "فتح الباري": وُصف (في الأصل: "وصنف" وهو خطأ، والصواب: "وصف") هو وأبوه عبد الله بذلك لأنهما كانا يبخران مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وزعم بعض العلماء أنه وصف أبيه حقيقة ووصف ابنه نعيم بذلك مجاز، وفيه نظر.
(1) قوله: يقول، أي موقوفاً، قال ابن عبد البر: كان نعيم يوقف كثيراً من حديث أبي هريرة، ومثل هذا لا يقال بالرأي فهو مسند، وقد ورد معناه من حديث أبي هريرة وغيره بأسانيد صحاح، كذا قال علي (في الأصل: "العلي القاري"، وهو تحريف) القاري.
(2) قوله: فأحسن وضوءَه، بإتيانه بفرائضه وسننه وفضائله وتجنّب منهياته.
(3) أي من بيته، وفيه دلالة على فضل الوضوء قبل الخروج،
(4) أي قاصداً لها دون غيرها.
(5) قوله: إلى الصلاة، فإن قلت: لو أراد الاعتكاف هل يدخل في هذا الحكم أم لا؟ قلت: نعم، إذ المراد أنه لا يريد إلا العبادة، ولما كان الغالب منها الصلاة فيه ذكر لفظ الصلاة، كذا في "الكواكب الدراري".
(6) قوله: فهو في صلاة، أي في حكمها من جهة كونه مأموراً بترك العبث وفي استعمال الخشوع، وللوسائل حكم المقاصد، وهذا الحكم مستمر "ما دام يَعْمِد" بكسر الميم يقصد، وزناً ومعنىً، وما ضيه عَمَد كقَصَد، وفي لغة قليلة من باب فرح، ثم المراد أن يكون باعث خروجه قصد الصلاة وإنْ عرض له في خروجه أمر دنيوي فقضاه، والمدار على الإخلاص، وفي معناه ما روى الحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً: إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد كان في صلاة حتى =(1/186)
مَا كَانَ يَعْمِدُ (1) وَأَنَّهُ (2) تُكْتَبُ (3) لَهُ بِإِحدى (4) خَطْوَتَيْهِ (5) حَسَنَةٌ، وتُمحى (6) عنه بالأخرى (7)
_________
= يرجع فلا يفعل هكذا وشبّك بين أصابعه. وروى أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان عن كعب بن عجرة مرفوعاً: إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءَه ثم خرج عامداً إلى الصلاة فلا يشبكن بين يديه فإنه في صلاة، كذا قال الزرقاني.
(1) قوله: ما كان يعمد، أي ما دام مستمراً على ما يريده، وفيه إشارة إلى ما ورد أن الحسنة تكتب بقصدها ونيتها وإن لم يفعلها، فإذا خرج عامداً إلى الصلاة فهو في صلاة حيث الثواب ما لم يبطل قصدها بعمل آخر مناف له.
(2) بفتح الهمزة وكسرها.
(3) مجهول من الكتابة.
(4) هي اليمنى.
(5) قوله: خطوتيه، بضم الخاء ما بين القدمين، وبالفتح المرة الواحدة، قاله الجوهري، وجزم اليعمري أنها ها هنا بالفتح، والقرطبي والحافظ بالضم، كذا قال الزرقاني.
(6) قوله: وتمحي عنه....إلخ، قال الباجي: يحتمل أن يريد أنّ لخُطاه حكمين فيكتب له ببعضها حسنات، ويمحى عنه ببعضها سيآت، وأن حكم زيادة الحسنات غير حكم محو السيآت، وهذا ظاهر اللفظ، ولذلك فرّق بينهما، وقد ذكر قوم أن معنى ذلك واحد، وأن كتابة الحسنات بعينه محو السيآت، كذا في "التنوير".
(7) قوله: بالأخرى، فيه إشعار بأن هذا الجزاء للماشي لا للراكب، أي بلا عذر، وروى الطبراني والحاكم وصححه البيهقي عن ابن عمر رفعه: إذا توضأ أحدكم، فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا ينزعه إلاّ الصلاة لم تزل رجله اليسرى تمحو عنه سيئة وتكتب له اليمنى حسنة حتى يدخل المسجد، كذا قال الزرقاني.(1/187)
سيِّئة، فإنْ سَمِعَ أحدُكم (1) الإقامةَ فَلا يَسْعَ (2) (3) ، فإنَّ أعظَمَكم أَجْراً (4) أبعَدُكُم داراً (5) قالوا (6) :
_________
(1) وهو ماشٍ إليها.
(2) أي لا يسرع، بل يمشي على هيئته.
(3) قوله: فلا يسع، فإن قلت قال الله تعالى: {فَاسْعَوا إلى ذِكْرِ اللَّهِ} ، وهو يشعر بالإسراع، قلت: المراد بالسعي الذهاب، يقال: سعيت إلى كذا أي ذهبت إليه، كذا في "الكواكب".
(4) قوله: فإن أعظمكم....إلخ، تعليل لما حكم به من عدم السعي لما يستبعد ذلك من أجل أن الإسراع والرغبة إلى العبادة أحسن، وحاصله أن أعظمكم أجراً من كان داره بعيدة من المسجد، وما ذلك إلا لكثرة خطاه الباعثة لكثرة الثواب فلهذا الوجه بعينه يحكم بعدم السعي لئلا تقلّ خطاه فيقلّ ثوابه، وقد ورد في "صحيح مسلم" من طريق جابر، قال: خَلَتْ البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد؟ قالوا: نعم، قال: يا بني سلمة، دياركم تُكْتَبْ آثارُكُم، ديارَكم تُكْتَب آثارُكم. وورد مثله من حديث أنس في "صحيح البخاري" وغيره. وأخرج البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم بالسكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلّوا وما فاتكم بأتموا. هذا لفظ البخاري.
(5) قوله: أبعدكم داراً، ولا ينافيه ما ورد من قوله عليه السلام: "شؤم الدار بُعدُها عن المسجد"، لأن شؤمها من حيث أنه قد يؤدي إلى تفويث الصلاة بالمسجد، وفضلها بالنسبة إلى من يتحمّل المشقة ويتكلّف المسافة، فشؤمها وفضلها أمران اعتباريان، قاله علي القاري.
(6) أي الحاضرون في مجلسه.(1/188)
لِمَ (1) يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: مِنْ أَجْلِ كَثْرةِ (2) الخُطَا (3) .
3 - (بَابُ غَسْلِ الْيَدَيْنِ (4) فِي الْوُضُوءِ) (5)
9 - أخبرنا مالك، أخبرنا أبو الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة (6) أنَّ رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُم (7) من نومِهِ (8)
_________
(1) أي لأي شيء بُعد الدار أعظم أجراً؟
(2) أي بسبب كثرة الأقدام في المشي.
(3) بضم الخاء وفتح الطاء جمع خطوة بالضم.
(4) قوله غسل اليدين، بفتح الغين بمعنى إزالة الوسخ ونحوه بإمرار الماء عليه، وأما بالضم، فهو اسم للاغتسال، وهو غسل تمام الجسد، واسم للماء الذي يُغتسل به، وبالكسر، اسم لما يُغسل به الرأس، كذا في "المُغْرب".
(5) أي: في اتبدائه، وهو غسلهما إلى الرسغين.
(6) قوله: عن أبي هريرة، هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة الطحاوي وأحمد وغيرهم من حديثه بألفاظ متقاربة، وأخرج بنحوه ابنُ ماجه والدارقطني من حديث ابن عمر وجابر. وقد استنبط الفقهاء من هذا الحديث استنان تقديم غسل اليدين إلى الرسغين عند بداية الوضوء، وقالوا: قيد الاستيقاظ من النوم اتِّفاقي.
(7) فيه رمز إلى أن نوم النبي صلى الله عليه وسلم غير ناقض للوضوء.
(8) قوله: من نومه، أخذ بعمومه الشافعيُّ والجمهور، فاستحبوه عقيب كل نوم، وخصَّه أحمد بنوم الليل لقوله في آخر الحديث: "باتت يده"، لأن حقيقة المبيت تكون بالليل، وفي رواية لأبي داود ساق مسلمٌ إسنادها: "إذا قام أحدكم =(1/189)
فَلْيَغْسِل يَدَه (1)
_________
= من الليل"، وكذا للترمذي من وجه آخر صحيح، ولأبي عَوَانة في روايةٍ ساق مسلمٌ إسنادَها أيضاً: "إذا قام أحدكم إلى الوضوء حين يصبح". لكن التعليل يقتضي إلحاق نوم النهار بنوم الليل، وإنما خُصَّ نوم الليل بالذكر للغلبة، قال الرافعي في "شرح المسند": يمكن أن يقال: الكراهة في الغمس لمن نام ليلاً أشدّ منها لمن نام نهاراً، لأن الاحتمال في نوم الليل أقرب لطوله عادةً.
ثم الأمر عند الجمهور للندب، وحمله أحمد على الوجوب في نوم الليل دون النهار، وعنه في روايةٍ استحبابُهُ في نوم النهار.
واتفقوا على أنه لو غمس يده لم يضر الماء، وقال إسحاق وداود والطبري: ينجس. واستُدِلَّ لهم بما ورد من الأمر بإراقته. لكنه حديث أخرجه ابن عَدِيّ، والقرينة الصارفة للأمر عن الوجوب للجمهور التعليل بأمر يقتضي الشك، لأن الشك لا يقتضي وجوباً في الحكم استصحاباً لأصل الطهارة. واستَدلَّ أبو عَوَانة على عدم الوجوب بوضوئه صلى الله عليه وسلم من الشنّ المعلَّق بعد قيامه من النوم. وتُعُقِّب بأن قوله: "أحدكم" يقتضي اختصاصَه بغيره صلى الله عليه وسلم. وأجيب بأنه صحَّ عنه غسل يديه قبل إدخالهما الإناء في حال اليقظة، فاستحبابه بعدم النومِ أَوْلى، ويكون تركه لبيان الجواز. وأيضاً فقد قال في هذا الحديث، في روايات مسلم وأبي داود وغيرهما: "فليغسِلْها ثلاثاً"، وفي رواية: "ثلاث مرات" والتقييد بالعدد في غير النجاسة العينية يدل على النَّدْبِيَّة. ووقع في رواية همّام، عن أبي هريرة عند أحمد: "فلا يضع يده في الوضوء حتى يغسِلَها" والنهيُ فيه للتنزيه. والمراد باليد ها هنا الكفّ دون مازاد عليها، كذا في "فتح الباري".
(1) قوله: فليغسل يده، في هذا الحديث من الفقه إيجاب الوضوء من النوم لقوله: "فليغسل يده قبل أن يدخلها". وهذا أمر مجمع عليه في النائم والمضطجع إذا غلب عليه النوم واستثقل نوماً أن الوضوء عليه واجب، كذا في "الاستذكار".(1/190)
قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَها (1) فِي وَضُوئِهِ (2) ، فإنَّ أَحَدَكم (3) لا يَدري (4) أين باتت يَدُه (5) .
_________
(1) قوله: قبل أن يدخلها، لمسلم وابن خُزيمة وغيرهما من طرق: "فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسِلَها"، وهو أبين في المراد من رواية الإدخال لأن مطلق الإدخال لا يترتَّب عليه كراهة كمن أدخل يده في إناء واسع، فاغترف منه بإناء صغير من غير أن يلامس يده الماء، كذا في "فتح الباري".
(2) قوله: في وضوئه، أي: الماء الذي أُعدَّ للوُضوء، وفي رواية مسلم: "في الإناء" ولابن خزيمة: "في إنائه أو وضوئه" على الشك. والظاهر اختصاص ذلك بإناء الوضوء، ويلتحق به إناء الغسل وكذا باقي الآنية قياساً، وخرج بذكر الإناء الحياضُ التي لا تفسد بغمس اليد فيها على تقدير نجاستها. كذا في "الفتح".
(3) قوله: فإن أحدكم، قال البيضاوي: فيه إيماء إلى أن الباعث على الأمر بذلك احتمال النجاسة، لأن الشارع إذا ذكر حكماً وعقبه بعلَّة دلَّ على أن ثبوت الحكم لأجلها، ومثله قوله في حديث المُحْرِم الذي سقط فمات، "فإنه يُبعث مُلَبِّياً" بعد نهيهم عن تطييبه، فنبَّه على علة النهي. وعبارة الشيخ أكمل الدين: إذا ذكر الشارع حكماً وعقبه أمراً مصدَّراً بالفاء كان ذلك إيماءً إلى أن ثبوت الحكم لأجله. نظيره الهرة ليست بنجسة، فإنها من الطوّافين عليكم والطوّافات.
وقال الشافعي: كانوا يستجمرون وبلارهم حارَّة، فربما عرق أحدهم إذا نام، فيحتمل أن تطوف يده على المحل أو على بثرة أو دم حيوان أو قذر أو غير ذلك. وذكر غير واحد أن "باتت" في هذا الحديث، بمعنى صارت، منهم ابن عصفور كذا في التنوير.
(4) أي: لا يدري تعيين الموضع الذي باتت يده فيه، فلعلها أصابتها نجاسة.
(5) زاد ابن خزيمة والدارقطني "منه"، أي: من جسده.(1/191)
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا (1) حَسَن (2) ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يفعَلَ (3) وَلَيْسَ مِنَ الأَمْرِ الْوَاجِبِ الَّذِي إنْ تركه تاركٌ أَثِم (4) ،
_________
(1) قوله: هذا حسن، أي: تقديم غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء عند الاستيقاظ على ما دلَّ عليه الحديث (وذكر العينيُّ في عمدة القاري (1/755 إلى 761) عشرين فائدة مستنبطة من هذا الحديث) .
(2) أي: مستحسن.
(3) قوله: وهكذا ينبغي أن يفعل، إشارة إلى أن الأمر محمول على الندب كما صرَّح به، بقوله: وليس من الأمر الواجب، ولذا روى سعيد بن منصور في "سننه"، عن ابن عمر: أنه أدخل يده في الإناء قبل أن يغسل. وروى ابن أبي شيبة، عن البراء: أنه أدخل يده في المطهرة قبل أن يغسلها. وروى عن الشَّعبي: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُدخِلون أيدِيَهم في الماء قبل أن يغسلوها. وهذا عند عدم تيقُّن النجاسة على يده وظنها، وأما عند ذلك، فلا يجوز إدخال اليد قبل الغسل لئلا يتنجَّس الماء.
(4) قوله: الذي إن تركه تاركٌ أثم، قد زعم بعض من في عصرنا بأن الإثم منوط بترك الواجب وما فوقه، ولا يلحق الإثم بترك السنَّة المؤكَّدة، واغترَّ بهذه العبارة وأمثالها، وليس كذلك فقد صرَّح الأصوليّون كما في "كشف أصول البزدوي" وغيره أن تارك السنَّة المؤكَّدة يلحقه إثم دون إثم تارك الواجب، وصرَّح صاحب "التلويح" وغيره بأن ترك السنَّة قريب من الحرام. وهذا هو الصحيح لما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أنس، ومسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "من رغب عن سنَّتي فليس مني"، وأخرج الطبراني في "المعجم الكبير" وابن حبّان والحاكم، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستَّة لعنتهم: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمتسلِّط على أمتي بالجَبَرُوت ليُذلَّ من أعزَّه الله ويعزَّ من أذلَّه الله، والمستحِلّ لحرم الله، والمستحلّ من عِترتي، والتارك لسنَّتي"، =(1/192)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= وأخرج مسلم، عن ابن مسعود: (من سرَّه أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث يُنادى بهنّ ... الحديث، وفيه ولو أنَّكم صلَّيتم في بيوتكم كما يُصلِّي هذا الرجل المتخلِّف في بيته لتركتم سنَّة نبيكم، ولو تركتم سنَّة نبيكم لَضَلَلْتُم) ، وأخرج أبو نعيم في "حلية الأولياء"، عن معاذ بن جبل: (لا تقل إن لي مصلَّى في بيتي، فأصلّي فيه، فإنكم إن فعلتم ذلك تركتم سنَّة نبيكم، ولو تركتم سنَّة نبيكم لضللتم) .
والأخبار المفيدة لهذا المطلب كثيرة شهيرة، وقد سلك ابن الهُمام في "فتح القدير" على أن الإثم منوط بترك الواجب، وردّه صاحب "البحر الرائق" وغيره بأحسن ردّ.
وإذا عرفت هذا كلَّه، فنقول: المراد من الواجب في الكتاب اللازمُ، أعمُّ من أن يكون لزومَ سنَّة أو لزومَ وجوب أو لزومَ افتراض، فإن اللزوم مختلف، فلزوم الفرض أعلى، ولزوم الواجب أوسط، ولزوم السنَّة أدنى، وعلى هذا الترتيت ترتيب الإثم، لا الوجوب الاصطلاحي الذي جعلوه قسيماً للافتراض والاستنان، وحينئذٍ فلا دلالة لكلام محمد على قصر الإثم على الواجب.
أو نقول: بعد تسليم أن المراد بالواجب في كلامه هذا مايشمل الفرض، والواجب دون السنَّة، إن التنوين في قوله "تاركٌ" للتنكير فلا يُستفاد منه، إلاَّ أن الواجب يَلحق تاركَهُ أيَّ تاركٍ كان، ولو تركه مرة: إثمٌ، وهو أمر لا ريب فيه، فإن الفرض والواجب يلزم من تركهما ولو مرَّة بشرط أن يكون لغير عذر إثم، ولا كذلك السنَّة، فإنَّه لو تركها (في الأصل: "تركه"، والظاهر: "تركها") مرة أو مرَّتين لا بأس به، لكن إن اعتاد ذلك أو جعل الفعلَ وعدمَه متساويَيْن أَثِم كما صرَّح به في "شرح تحرير الأصول" لابن أمير الحاج. فلا يفيد حينئذٍ كلامُه إلاَّ قصْرَ الإثم على سبيل العموم والإطلاق على الواجب لا قصر مطلق الإثم عليه. =(1/193)
وهو (1) قول أبي حنيفة رحمه الله.
- (باب الْوُضُوءِ (2) فِي الاسْتِنْجَاءِ)
10 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى (3) بنُ مُحَمَّدِ بنِ طَحلاء (4) ، عَنْ عثمانَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَاهُ (5) أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ سَمِعَ عمرَ بنَ الخطاب (6)
_________
= أو نقول: المراد بالإثم مقابل الملامة التي تلزم بترك السنَّة المؤكَّدة، فلا يفيد كلامُه حينئذٍ إلاَّ قصر الإثم العظيم على الواجب لا مطلق الإثم.
وهذا كلُّه إذا سُلِّم دلالة كلامه على القصر، وإلاَّ فالافتراض (في الأصل: "فالاغترار"، وهو تحريف، والصواب: "فالافتراض") ساقط من أصله، وقد استدلَّ من لم يوجب بترك السنَّة إثماً بأحاديث لا تفيد مدَّعاه عند الماهر، ولولا خشيةُ التطويل لطوًّلتُ الكلام في ما له وما عليه.
(1) أي: كونه حسناً لا واجباً.
(2) قوله: الوضوء، بالفتح قد يُراد به غسل بعض الأعضاء، من الوضاءة وهي الحسن، كذا في "النهاية" وهو المراد ها هنا، والمقصود به غسل موضع الاستنجاء بالماء.
(3) قوله: يحيى ... إلخ، هو يحيى بن محمد بن طَحلاء المدني التيمي روى عن أبيه وعثمان، وعنه مالك والدَّراوردي وآخرون، ذكره ابن حبّان في ثقات التابعين، كذا ذكره الزرقاني.
(4) بفتح الطاء ممدوداً.
(5) قوله: أن أباه، هو عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي المدني، صحابي قتل مع ابن الزبير، وابنه عثمان من الخامسة ثقة، كذا في "التقريب".
(6) قوله: عمر بن الخطاب، هو أبو حفص عمر بن الخطاب العَدَويّ =(1/194)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَتَوَضَّأُ (1) (2) وُضُوءً (3) لِمَا تَحْتَ إِزَارِهِ (4) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخَذُ وَالاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ أحبُّ (5) إلينا من غيره (6)
_________
= القرشي أحد العشرة، وأحد الخلفاء الراشدين الملقّب بالفاروق، أسلم سنة ست من النبوة، وقيل سنة خمس، وظهر الإسلام بإسلامه، قال ابن مسعود: والله إني لأحسب لو أن علم عمر وُضع في كفة الميزان ووُضع علم سائر أهل الأرض في كفة لرجِّح علم عمر. له فضائل كثيرة، استُشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين. كذا في "أسماء رجال المشكاة"، لصاحب المشكاة.
(1) أي: يتطهَّر.
(2) قوله يتوضأ، أدخل مالك هذا الحديث في "الموطأ" ردّاً على من قال: إن عمر كان لا يستنجي بالماء، وإنما كان استنجاؤه وسائر المهاجرين بالأحجار، وذَكَرَ قول سعيد بن المسيّب في الاستنجاء بالماء: إنما ذلك وضوء النساء، وذَكَرَ أبو بكر بن أبي شيبة: نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همّام، عن حذيفة: أنه سئل عن الاستنجاء بالماء؟ فقال: إذاً لا يَزال في يدي نتن. وهو مذهب معروف عند المهاجرين.
وأما الأنصار، فالمشهور عنهم أنهم كانوا يتوضَّؤون بالماء، ومنهم من كان يجمع بين الطهارتين، فيستنجي بالأحجار ثم يُتبع بالماء، كذا في "الاستذكار".
(3) زاد يحيى "بالماء".
(4) كناية عن موضع الاستنجاء، أي: إنه بالماء أفضل منه بالحجر.
(5) والجمع بينهما أفضل إجماعاً خلافاً للشيعة حيث لم يكتفوا بغير الماء.
(6) قوله: من غيره، أي من الاكتفاء بالأحجار خلافاً للبعض أخذاً مما أخرجه ابن أبي شيبة عن حذيفة أنه سئل عن الاستنجاء بالماء؟ فقال: إذن لا يزال =(1/195)
وَهُوَ (1) قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
_________
= في يدي نتن. وعن نافع أن ابن عمر كان لا يستنجي بالماء. وعن ابن الزبير: ما كنا نفعله.
ووجه كون الاستنجاء بالماء أفضل كونه أكمل في التطهير، وثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ففي صحيح البخاري عن أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج لحاجته أجيء أنا وغلام معنا إداوة من ماء يعني يستنجي به. وللبخاري أيضاً عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم إذا تَبَرَّزَ لحاجته أتيتُه بماء فيغسل به. ولابن خزيمة عن جرير: أنه صلى الله عليه وسلم دخل الغيضة فقضى حاجته فأتاه جرير بأداوة، فاستنجى بها. وللترمدي عن عائشة قال: مُرْن أزواجَكُنَّ أن يغسلوا أثر البول والغائط: فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله. ولابن حبان من حديث عائشة: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من غائط قط إلاَّ استنجى من ماء.
وبهذه الأحاديث يُرَدُّ على من أنكر وقوع الاستنجاء بالماء من النبي صلى الله عليه وسلم، كذا في "فتح الباري" و"إرشاد الساري".
وأما الجمع بين الماء والحجر فهو أفضل الأحوال، وفيه نزلت {فيه} أي في مسجد قُبا {رجالٌ يُحبون أن يتطَّهروا} وكان أهل قُبا يجمعون بينهما. أخرجه ابن خزيمة والبزار وغيرهما. وقد سقت الأخبار فيه في رسالتي "مذيلة الدراية لمقدمة الهداية" والمعلوم من الأحاديث المروية في الصحاح أن الجمع كان غالب أحواله صلى الله عليه وسلم وهذا كله في الاستنجاء من الغائط، وأما الاستنجاء من البول فلم نعلم فيه خبراً يدل على الإنقاء بالحجر إلا ما يحكىعن عمر أنه بال ومسح ذكره على التراب، وقد فصَّلته في رسالتي المذكورة.
(1) أي كونه أحبّ.(1/196)
5 - (بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ مسِّ الذَّكر)
11 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (1) بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ مصعبِ (2) بنِ سَعْدٍ (3) قَالَ: كنتُ أمسكُ (4) (5)
_________
(1) قال ابن معين: ثقة حجة مات سنة 134 هـ، كذا قال السيوطي.
(2) قوله عن مصعب بن سعد، هو مصعب بن سعد بن أبي وقّاص الزّهري أبو زرارة المدني، ثقة مات سنة 103 هـ، وأبوه سعد بن أبي وقّاص مالك بن وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب الزهري أبو إسحاق أحج العشرة المبشّرة بالجنة، مناقبه كثيرة، وهو آخر العشرة وفاة، مات على المشهور سنة 55 هـ وابن ابنه إسماعيل بن محمد بن سعد أبو محمد المدني ثقة حجة من التابعين، مات سنة 134 هـ، كذا في "تقريب التهذيب".
(3) ابن أبي وقّاص.
(4) أي آخذه.
(5) قوله: قال كنت أمسك....إلخ، هذا الأثر أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" عن أبي بكرة، عن أبي داود، ثنا شعبة، عن الحكم قال: سمعت مصعب بن سعد بن أبي وقّاص يقول: كنت أمسكُ المصحف على أبي فمسست فرجي فأمرني أن أتوضأ، ثم روى عن إبراهيم بن مرزوق. نا أبو عامر، نا عبد الله بن جعفر، عن إسماعيل بن محمد، عن مصعب بن سعد: كنت أمسك المصحف على أبي، فاحتككت فأصبت فرجي، فقال: أصبتَ فرجك؟ قلت: نعم، قال: اغمس يَدَك بالتراب، ولم يأمرني أن أتوضأ. ثم روى عن خزيمة، نا عبد الله بن رجاء، نا زائدة، عن إسماعيل، عن أبي خالد، عن الزبير ابن عدي، عن مصعب بن سعد مثله غير أنه قال: قُم فاغسل يدك، ثم قال الطحاوي: فقد يجوز أن يكون الوضوء الذي رواه الحكم في حديثه عن مصعب هو غسل اليد على ما بيَّنَه عنه الزبير حتى لا تتضاد الروايتان.(1/197)
المصحفَ عَلَى سَعْدٍ (1) فَاحْتَكَكْتُ (2) فَقَالَ: لعلّكَ مسستَ (3) ذَكَرَكَ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: قُمْ فَتَوَضَّأْ (4) قَالَ: فقُمتُ فتوضَّأتُ (5) ثُمَّ رَجَعْتُ.
12 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي ابن شهاب، عن سالمِ (6) بن عبد الله (7) ، عَنْ أَبِيهِ (8) أَنَّهُ كَانَ يغتسِلُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ،
_________
(1) أي لأجله حال قراءته.
(2) أي تحت إزاري.
(3) بكسر السين الأولى وفتحها أي لمست بكف يدك.
(4) لأنه لا يمس القرآن إلا طاهر.
(5) قوله: فتوضأت، يحتمل أن يُراد به الوضوء اللغوي دفعاً لشبهة ملاقاة النجاسة، قاله القاري وهو مستبعد.
(6) قوله: عن سالم، هو سالم بن عبد الله بن عمر أبو عمرو، أو أبو عبد الله، المدني الفقيه، قال مالك: لم يكن أحد في زمانه أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والفضل منه، وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه: أصح الأسانيد ابن شهاب الزهري عن سالم، عن أبيه، وقال العِجلي: مدني تابعي ثقة، مات سنة 106 هـ على الأصح. وأبوه علد الله بن عمر بن الخطاب بن نُفَيل القرشي أبو عبد الرحمن، أسلم قديماً وهو صغير وهاجر مع أبيه، وشهد الخندق والمشاهد كلّها، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعبد الصالح، وله مناقب جمّة، مات سنة 73 هـ وقيل 74 هـ، كذا في "تهذيب التهذيب" للحافظ ابن حجر.
(7) ابن عمر.
(8) قوله: عن أبيه، هذا الأثر يكشف أن ابن عمر كان يرى الوضوء من مسّ الذكر، ويشيده ما رواه مالك في "الموطأ" عن نافع، عن سالم قال: كنت مع =(1/198)
فَقَالَ (1) لَهُ: أَمَا يُجْزيك الغُسلُ مِنَ الْوُضُوءِ (2) ؟ قال: بلى (3)
_________
= ابن عمر في سفر فرأيته بعد أن طَلَعَتْ الشمس توضَّأ ثم صلّى، فقلت له: إن هذه الصلاة ما كنت تصليها، قال: إني بعد أن توضأت لصلاة الصبح مسست فرجي، ثم نسيت أن أتوضأ، فتوضأت وعدتُ لصلاتي. وقال الطحاوي في "شرح معاني الآثار": لم نعلم أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتى بالوضوء منه غير ابن عمر وقد خالفه في ذلك أكثر الصحابة. انتهى.
أقول: ليس كذلك فقد علمنا أن جمعاً من الصحابة أفتى بمثله، منهم عمر بن الخطاب، وأبو هريرة على اختلافٍ عنه، وزيد بن خالد الجُهني، والبراء بن عازب، وجابر بن عبد الله، وسعد بن أبي وقاص في رواية أهل المدينة عنه، كذا في "الاستذكار" وفيه أيضاً: ذهب إليه من التابعين سعيد بن المسيب في رواية عبد الرحمن بن حرملة رواه عنه ابن أبي ذئب وحاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن عنه: أن الوضوء واجب على من مسّ ذكره، وروى ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن سعيد بن المسيب: أنه كان لا يتوضأ منه. وهذا أصح عندي من حديث ابن حرملة، لأنه ليس بالحافظ عندهم كثيراً. وكان عطاء بن أبي رباح، وطاووس، وعروة بن الزبير، وسليمان بن يسار، وأبان بن عثمان، ومجاهد، ومكحول، الشّعبي، وجابر بن زيد، والحسن، وعكرمة، وجماعة من أهل الشام والمغرب كانو يَرَون الوضوء من مسّ الذكر وبه قال الأوزاعي والليث بن سعد الشافعي وأحمد وإسحاق، واضطرب قول مالك، والذي تقرر عنه عند أهل المغرب من أصحابه أن من مَسّ ذَكره أمره بالوضوء ما لم يصلِّ، فإن صلى أمره بالإعادة في الوقت فإن خرج فلا إعادة عليه. انتهى.
(1) أي ابنه سالم.
(2) أي أما يكفيك لا سيما مع سبق الوضوء الذي هو السنة.
(3) أي يجزي.(1/199)
وَلَكِنِّي أَحْيَانًا (1) أَمَسُّ ذَكَرِي فَأَتَوَضَّأُ (2) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا وضوءَ فِي مسِّ الذَّكَرِ (3) وَهُوَ (4) قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (5) ، وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ (6) كَثِيرَةٌ.
13 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ (7) بْنُ عُتبة التَّيْميّ قَاضِي
_________
(1) أي في بعض الأوقات بعد الغسل.
(2) لا لأن الغسل لا يُجزي.
(3) أي لا يجب، نعم يُستحب اعتباراً لموضع الخلاف.
(4) أي عدم الوضوء.
(5) قوله: قول أبي حنيفة، وإليه ذهب أصحابه وجمهور علماء العراق، وروي ذلك عن علي وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وأبي الدرداء وعمران بن حصين، لم يُختلف عنهم في ذلك، واختلف في ذلك عن أبي هريرة وسعد، وبه قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن وسفيان الثوري وشريك والحسن بن صالح بن حيّ، كذا في الاستذكار. وفي جعله ابن عباس ممن لم يُختلف عنه نظر، فقد روى الطحاوي عن سليمان بن شعيب، نا عبد الرحمن بن زياد نا شعبة عن قتادة كان ابن مسعود وابن عباس يقولا في الرجل يمس ذكره يتوضأ، فقلت لقتادة: عمّن هذا؟ قال: عن عطاء ابن أبي رباح. ثم روى بإسناده عن ابن عباس: أنه كان لا الوضوء منه. فثبت الاختلاف عنه. وروى الطحاوي عن سعيد بن المسيب والحسن البصري أيضاً أنهما كانا لا يريان الوضوء.
(6) المراد بالأثر أعمّ من المرفوع والموقوف كما مرّ.
(7) قوله: أيوب، هو أيوب بن عُتبة - بضم العين - أبو يحيى قاضي اليمامة من بني قيس بن ثعلبة، مختلف في توثيقه وتضعيفه، قال ابن حجر في =(1/200)
اليَمَامة (1) ، عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ (2) أَنَّ أَبَاهُ (3) حدَّثه: أَنَّ رَجُلا (4) سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم عن رجلٍ
_________
= "تهذيب التهذيب": روى عن يحيى بن أبي كثير وعطاء وقيس بن طلث الحنفي وجماعة، وعنه أبو داود الطيالسي وأسود بن عامر ومحمد بن الحسن وأحمد بن يونس وغيرهم، قال حنبل، عن أحمد: ضعيف، وقال في موضع آخر: ثقة إلا أنه لا يقيم حديث يحيى بن أبي كثير، وقال الدُّوري عن ابن معين: قال أبو كامل: ليس بشيء، وقال ابن المديني والجوزجاني وعمرو بن على ومسلم: ضعيف، زاد عمرو: وكان سيِّئ الحفظ، وهو من أهل الصدق، وقال العجلي: يُكتب حديثه وليس بالقويّ، وقال البخاريّ: هو عندهم ليِّن. انتهى ملخَّصاً. وشيخ أيوب قيس بن طلق من التابعين صدوق، وأبوه طلق بن علي بن المنذر الحنفي نسبة إلى قبيلة بني حنيفة أبو على اليمامي معدود في الصحابة، ذكره ابن حجر في "التقريب" وغيره.
(1) بالفتح اسم بلدة.
(2) ابن علي.
(3) أي: طلق.
(4) قوله: أن رجلاً....إلخ، قال محيي السُّنَّة البغويّ في "المصابيح": حديث طَلْق منسوخ، لأن طلقاً قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبني المسجد النبوي وذلك في السنة الأولى، وقد روى أبو هريرة وهو أسلم سنةَ سبع، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أفضى أحدُكُم بيده إلى ذكَرِه ليس بينه وبينها شيء فليتوضأ. انتهى. وتعقَّبه شارح "المصابيح" فضل الله التوربشتي على ما نقله الطيبي في "شرح المشكاة" بأن ادِّعاء النسخ فيه مبنيّ على الاحتمال، وهو خارج عن الاحتياط إلاّ أن يثبت أن طلقاً توفي قبل إسلام أبي هريرة أو رجع إلى أرضه ولم يبقَ له صحبة بعد ذلك، وما يدري أن طلقاً سمع هذا الحديث بعد إسلام أبي هريرة. وقد ذكر الخطابي أن أحمد بن حنبل كان يرى الوضوء من مس الذكر، وكان ابن معين يرى خلاف ذلك، وفي ذلك =(1/201)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= دليل ظاهر على أن لا سبيل إلى معرفة الناسخ والمنسوخ منهما. انتهى. قلت: فيه ما فيه، فإن احتمال أن يكون طلقاً سمع هذا الحديث بعد إسلام أبي هريرة مردود بما جاء في رواية النِّسائي عن هناد، عن ملازم، نا عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق بن علي، عن أبيه، قال: خرجنا وفداً حتى قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعناه وصلَّينا معه، فلما قضى الصلاة جاء رجل كأنه بدوي، فقال: يا رسول الله ما تَرى في رجلٍ مسَّ ذَكَرَه في الصلاة؟ قال: "وهل هو إلاّ مضغة منك أو بَضعة منك". ومثله في رواية ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وغيرهما. فظاهر هذه الروايات أن سماع طلق هذا الحديث كان عند قدومه في المجلس النبوي، ومن المعلوم أن قدومه كان في السنة الأولى من الهجرة، ولم يثبت أنه قدم مرة ثانية أيضاً وسمع الحديث عند ذلك.
وتَعَقَّبَ العينيُّ في "البناية" كلامَ محيي السُّنَّة، بأن دعوى النسخ إنما يصح بعد ثبوت صحة حديث أبي هريرة ونحن لا نسلم صحته. انتهى.
وفيه أيضاً ما فيه، فإن حديث أبي هريرة أخرجه الحاكم في "المستدرك" وصحَّحه، وأحمد في "مسنده" والطبراني، والبيهقي، والدارقطني، وفي سنده يزيد بن عبد الملك متكلَّم فيه، لكن ليس بحيث يُترك حديثه، مع أن حديث النقض مرويّ من طرق عن جماعة الصحابة، منهم أم حبيبة، وعائشة، وعبد الله بن عمر، وبُسْرة، وأبو أيوب، بل قد روي عن طلق بن علي راوي عدم النقض، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مسَّ ذكره فليتوضأ". أخرجه الطبراني في "معجمه"، عن الحسن بن على، عن حماد بن محمد الحنفي، عن أيوب بن عتبة، عن قيس بن طلق، عن أبيه، والأَوْلى أن يُتَعَقَّب كلام محيي السُّنَّة بما في "فتح المنان" وغيره أن رواية الصحابي المتأخر الإسلام لا يستلزم تأخُّر حديثه، فيجوز أن يكون المتأخِّر سمعه من صحابي متقدم، فرواه بعد ذلك، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال. =(1/202)
مسَّ ذَكَرَه، أَيَتَوَضَّأُ؟ قَالَ: هَلْ هُوَ إِلا بَضْعة (1) من جسدك (2) .
_________
= والإنصاف في هذا البحث أن يُقال: لا سبيل إلى الجزم بالنسخ في هذا البحث في طرف من الطرفين، لكن الذي يقرب أنه إن كان هناك نسخ فهو لحديث طلق لا بالعكس.
(1) هو بالفتح: القطعة من اللحم. وقد تُكسر، ومنه "فاطمة بَضعة مني"، ومنه: "وهل هو إلاَّ بضعة"، كذا في "مجمع البحار".
(2) قوله: من جسدك، هذا الحديث رواه عن قيس بن طلق الحنفي جماعة، منهم أيوب بن عتبة، كما أخرجه محمد ها هنا، وأخرجه الطحاوي أيضاً، عن محمد بن العباس اللؤلؤي، نا أسد، نا أيوب. ومنهم محمد بن جابر، أخرجه ابن ماجه، عن على بن محمد، نا وكيع، نا محمد بن جابر، سمعت قيس بن طلق الحنفي، عن أبيه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن نس الذكر" قال: "ليس فيه وضوء إنما هو منك". وأخرج الطحاوي، عن يونس، نا سفيان، عن محمد بن جابر، عن قيس، وعن أبي بكرة، نا مسدد، نا محمد بن جابر. ومنهم الأسود أخرجه الطحاوي، عن أبي أمية، نا الأسود عن عامر، وخلف بن الوليد وأحمد بن يونس وسعيد بن سليمان، عن أسود عن قيس. وذكر أبو داود أنه قد رواه هشام بن حسان وسفيان الثوري وشعبة، وابن عيينة وجرير الرازي، عن محمد بن جابر، عن قيس. ومنهم عبد الله بن بدر، أخرجه النسائي عن هناد، عن ملازم عنه، عن قيس، عن أبيه: خرجنا وفداً حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعناه وصلَّينا معه، فلما قضى الصلاة جاء رجل كأنه بدوي، فقال: يا رسول الله ما ترى في رجلٍ مسَّ ذكره في الصلاة؟ قال: "وهل هو إلاَّ مضغة منك أو بضعة منك". وأخرج الترمذي، عن هناد بإساند النسائي، وقال: هذا الحديث أحسن شيء في الباب. وقد روى هذا الحديث أيوب بن عتبة ومحمد بن جابر، عن جابر. وقد تكلَّم أهل الحديث في أيوب ومحمد، وحديث ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر، عن قيس، عن أبيه: أصح وأحسن. انتهى. ورواه أبو داود، عن مسدد، عن ملازم بالسند المذكور =(1/203)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= ولفظه: قدمنا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاء رجل كأنه بدوي، فقال: يا نبيّ الله، ما ترى في مسِّ الرجل ذكَرَه بعدما يتوضأ؟ فقال: "هل هو إلاّ مضغة منك أو بضعة منك؟ " وقال الطحاوي: حديث ملازم مستقيم الإسناد غير مضطرب في إسناده ولا في متنه. انتهى.
وفي رواية ابن أبي شيبة وعبد الرزاق، عن طلق: خرجنا وفداً حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعناه وصلَّينا معه، فجاء رجل، فقال: يا رسول الله، ماترى في مسِّ الذكر في الصلاة؟ فقال: "وهل هو إلاّ بضعة منك". وفي رواية ابن حبّان عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إن أحدنا يكون في الصلاة فيحك فيصيب بيده ذكره قال لا بأس به، إنه كبعض جسدك، فهذه طرق حديث طلق وألفاظه، ومما يشيِّده ما أخرجه ابن منده من طريق سلام بن الطويل، عن إسماعيل بن رافع، عن حكيم بن سلمة، عن رجل من بني حنيفة يقال له خُريسة: أن رجلاً أتيى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أكون في صلاتي، فتقع يدي على فرجي، فقال: "امضِ في صلاتك". قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة في أحوال الصحابة": سلام ضعيف، وكذا إسماعيل. انتهى. وأخرج ابن ماجه، عن أبي أمامة: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسِّ الذكر؟ فقال: "إنما هو جزء منك". وفي طريقه جعفر بن الزبير الراوي، عن القاسم الراوي، عن أبي أمامة. قال شعبة: كذّاب، وقال النسائي والدارقطني متروك الحديث كذا في تهذيب التهذيب، وأخرج الدارقطني عن عِصْمة بن مالك الخَطْميّ (في الأصل: "الحطمي"، وهو تحريف) رضي الله عنه أن رجلاً قال يا رسول الله، إني احتككت في الصلاة، فأصابت يدي فرجي، فقال: وأنا أفعل ذلك، وفي سنده الفضل بن مختار، قال ابن عَدي: أحاديثه منكرة، كذا قال الزيلعي، وأخرج أبو يعلى في مسنده، عن سيف بن عبد الله، قال: دخلت أنا ورجل معي على عائشة، فسألناها عن الرجل، يمس فرجه أو المرأة؟ فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أبالي إياه مسست أو أَنْفي".(1/204)
14 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو المكِّي (1) ، أَخْبَرَنَا عطاءُ بنُ أَبِي رَباح (2) ، عَنِ ابْنِ عباس (3) قال: في مسِّ
_________
(1) قوله: أخبرنا طلحة بن عمرو....إلخ، هو طلحة بن عمرو بن عثمان الحضرمي المكي متكلَّم فيه، قال في "تهذيب التهذيب": روى عن عطاء بن أبي رباح ومحمد بن عمرو بن علقمة وابن الزبير وسعيد بن جبير وغيرهم، وعنه جرير بن حازم والثوري وأبو داود الطيالسي ووكيع وغيرهم، قال أحمد: لا شيء، متروك الحديث، وقال ابن معين: ليس بشيء ضعيف، وقال الجوزجاني: غير مرضيّ في حديثه، وروى له ابن عدي أحاديث، وقال: روى عنه قوم ثقات وعامة ما يرويه لا يُتابَع عليه، وقال عبد الرزاق: سمعت معمراً يقول: اجتمعت أنا وشعبة والثوري وابن جريح، فقَدِم علينا شيخ، فأملى علينا أربعة آلاف حديث عن ظهر قلب، فما أخطأ إلاَّ في موضعين ونحن ننظر الكتاب، ولم يكن الخطأ منّا ولا منه، إنما كان من فوق، وكان الرجل طلحة بن عمرو. انتهى ملخَّصاً. وهذا الضعف لا يضر في أصل المقصود، فقد تابعه عن عطاء وعكرمةُ بن عمار، وتابع عطاء سعيد بن جبير في رواية الطحاوي.
(2) قوله: عطاء بن أبي رباح، بفتح الراء المهملة، هو عطاء بن أبي رباح أسلم، أبو محمد القُرشي المكي، روى عن عائشة وابن عباس وأبي هريرة وخلق، وعنه الأَوزاعي وابن جريج وأبو حنيفة والليث وغيرهم، ثقة، فقيه، فاضل، مات سنة 114 هـ على المشهور، كذا في "كاشف" الذهبي و"تقريب" ابن حجر.
(3) قوله: عن ابن عباس، هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له الحبر والبحر لكثرة علمه، وله فضائل شهيرة مذكورة في كتب الصحابة، "كأسد الغابة" و"الإصابة" وغيرهما، مات سنة 68 هـ، وقيل سنة 69 هـ، وقيل سنة سبعين، ذكره في "التهذيب". قال العيني في "البناية شرح الهداية" في كتاب الحج في بحث الوقوف بمزدلفة: إذا أطلق ابن عباس لا يُراد به إلاَّ عبد الله بن عباس. انتهى. وذكر أيضاً =(1/205)
الذكرِ وأنتَ (1) فِي الصَّلاةِ، قَالَ: مَا أُبالي (2) مسستُهُ أَوْ مَسَسْتُ أَنْفي.
15 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا إبراهيم (3)
_________
= في "البناية" في كتاب "الحظر والإباحة": أن المحدثين اصطلحوا على أنهم إذا ذكروا عبد الله من غير نسبة يريدون به عبد الله بن مسعود، وإن كان يتناول غيره بحسب الظاهر، وكذلك يقولون: قال ابن عمر ويريدون به عبد الله بن عمر، مع أن عمر له أولاد غير عبد الله. انتهى. وقال عليّ القاري المكي في "جمع الوسائل بشرح الشمائل" أي: شمائل الترمذي: اصطلاح المحدثين على أنه إذا أُطلق عليّ في آخر الأسماء فهو علي بن أبي طالب، وإذا أُطلق عبد الله فهو ابن مسعود، وإذا أُطلق الحسن فهو الحسن البصري، ونظيره إطلاق أبي بكر وعمر وعثمان، انتهى.
وقال القاري أيضاً في كتابه "الأثمار الجنية في طبقات الحنفية": إذا أُطلق ابن عباس لا يُراد به إلاَّ عبد الله، وكذا إذا أطلق ابن عمر وابن الزبير، وأما إذا أطلق عبد الله، فهو ابن مسعود في اصطلاح العلماء من الفقهاء والمحدثين. انتهى. فَلْيُحفظ هذا، فإنه نافع.
(1) خطاب عام.
(2) قوله: ما أبالي، متكلِّم من المبالاة، أي: لا أخاف، يعني مسّ الذكر ومس الأنف متساويان في عدم انتقاض الوضوء به، فلا أُبالي مسست ذَكَري أو أنفي. وبمثله أخرج الطحاوي عن أبي بكرة، نا يعقوب بن إسحاق. نا عكرمة بن عمار، نا عطاء، عن ابن عباس، أنه قال: ما أبالي إياه مسست أو أنفي، وأخرج أيضاً، عن صالح بن عبد الرحمن، نا سعيد بن منصور، نا هشيم، أنبأنا الاعمش، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه كان لا يرى في مس الذكر وضوء.
(3) قوله: إبراهيم بن محمد، هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، واسمه سمعان الأسلمي، أبو إسحاق المدني مختلف في توثيقه وتضعيفه. قال في "تهذيب =(1/206)
ابن محمد المَدَني (1) (2) ، أخبرنا صالح (3)
_________
= الكمال" و"تهذيب التهذيب": روى عن الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وصالح مولى التَّوأمة، ومحمد بن المنكدر، وغيرهم، وعنه الثوري والشافعي، وأبو نعيم، قال أبو طالب، عن أحمد: لا يُكتب حديثه، كان يروي أحاديث منكرة لا أصل لها، وقال الشافعي: ثقة في الحديث، وقال ابن عدي: سألت أحمد بن محمد بن سعيد، يعني ابن عقدة: هل تعلم أحداً أَحسن القول في إبراهيم غير الشافعي، فقال: نعم، نا أحمد بن يحيى، سمعت حمدان بن الأصبهاني قلت: أتدين بحديث إبراهيم؟ قال: نعم، قال لي أحمد بن محمد بن سعيد: نظرت في حديث إبراهيم كثيراً وليس بمنكر الحديث، قال ابن عدي: وهذا الذي قاله كما قال، وقد نظرت أنا أيضاً في حديثه الكثير، فلم أجد فيه منكراً إلاَّ عن شيوخ يحتملون، وهو في جملة من يُكتب حديثه، وله "الموطأ" أضعاف "موطأ مالك" مات سنة 184 هـ، وقيل: سنة 191 هـ. انتهى ملخصاً.
(1) وفي نسخة محمد بن المدني.
(2) هو بفتحتين نسبة إلى المدينة السكنية.
(3) قوله: صالح، هو صالح بن أبي صالح نبهان المديني، روى عن ابن عباس، وعائشة، وأبي هريرة، وغيرهم، وعنه ابن أبي ذئب، وابن جريج، والسفيانان، وغيرهم، قال بشر بن عمر: سألت مالكاً عنه، فقال: ليس بثقة، وقال أحمد بن حنبل: كأن مالكاً أدركه وقد اختلط، فمن سمع منه قديماً فذاك، وقد روى عنه أكابر أهل المدينة وهو صالح الحديث ما أعلم به بأساً، وقال أحمد بن سعيد بن أبي مريم: سمعت ابن معين يقول: صالح مولى التوأمة ثقة حجة، قلت إن مالكاً ترك السماع منه، فقال: إن مالكاً إنما أدركه بعد أن كَبِرَ وخرَّف، وقال الجوزجاني: تغيَّر أخيراً، فحديث ابن أبي ذئب عنه، مقبول لسماعه القديم، والثوري جالسه بعد التغيُّر، وقال ابن عدي: لا بأس به، إذا روى القدماء عنه مثل =(1/207)
مولى التَّوأَمة (1) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَيْسَ (2) فِي مَسِّ الذَّكَرِ وُضُوءٌ.
16 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَارِثُ (3) بْنُ أَبِي ذُبَابٍ (4) ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ (5) بْنَ المسيِّب (6) يَقُولُ: لَيْسَ في مسِّ الذَّكَر وضوء.
_________
= ابن أبي ذئب وابن جريج، وزياد بن سعد، وقال العجلي: تابعي ثقة، مات سنة 125 هـ. كذا في "تهذيب التهذيب".
(1) قوله: مولى التوأمة، بفتح التاء المثناة الفوقية، ثم الواو الساكنة بعدها همزة بعدها ميم ثم تاء، هي بنت أمية بن خلف المدني أخت ربيعة بن أمية بن خلف، وكانت معها أخت لها في بطنها، فسُمِّيَت تلك باسم التوأمة، وإليها يُنسب صالح نبهان المدني، كذا قال أبو سعد السمعاني في كتاب "الأنساب".
(2) أي: لا يجب.
(3) قوله: الحارث بن أبي ذباب، هو الحارث بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد، وقيل المغيرة بن أبي ذباب الدَّوْسي المدني، روى عن أبيه وعمه وسعيد بن المسيب، ومجاهد وغيرهم، وعنه ابن جريج وإسماعيل بن أمية وغيرهم، قال أبو زرعة: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من المُتْقنين، مات سنة 126 هـ، كذا في "تهذيب التهذيب".
(4) بضم الذال المعجمة، كذا في "التقريب".
(5) قوله: سعيد بن المسيب، هو أبو محمد القرشي المدني، من سادات التابعين، قال مكحول: طفتُ الأرض كلَّها فلم ألقَ أعلم من ابن المسيب، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر، ومات سنة 93 هـ، كذا ذكره صاحب المشكاة في "أسماء رجال المشكاة".
(6) بفتح الياء أشهر من كسرها.(1/208)
17 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو العوَّام الْبَصْرِيُّ (1) ، قَالَ: سَأَلَ رجلٌ عطاءَ بنَ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ (2) رَجُلٌ مسَّ فرجَه (3) بَعْدَ مَا تَوَضَّأَ؟ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ (4) : إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُولُ: إن كنتَ
_________
(1) قوله: ابو العوام البصري، قال ابن حجر في "التقريب": عبد العزيز بن الرُّبَيِّع - بالتشديد - الباهلي أبو العَوَّام البصري ثقة من السابعة، وفي "تهذيب التهذيب": عبد العزيز بن الرُّبَيِّع الباهلي أبو العوّام البصري، روى عن أبي الزبير المكي وعطاء، وعنه الثوري والنضر بن شميل ووكيع وروح بن عبادة، قال ابن معين: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات". انتهى.
وظن بعض أفاضل عصرنا أن أبا العوّام البصري المذكور في هذه الرواية هو عمران بن دَاوَرَ أبو العوّام القطّان البصري، قال في " تهذيب التهذيب" في ترجمته: روى عن قتادة ومحمد بن سيرين وأبي إسحاق الشيباني وحُمَيد الطويل، وعنه ابن مهدي وأبو داود الطيالسي وأبو علي الحنفي وغيرهم، قال عبد الله عن أبيه أحمد: أرجو أنه صالح الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال البخاري: صدوق يهم، وقال العجلي: بصري، ثقة. انتهى ملخصاً.
(2) كنية لعطاء.
(3) قوله: مسَّ فرجَه، بفتح الفاء وسكون الراء، قال النووي في "التهذيب"، قال أصحابنا: الفرج يُطلق على القبل والدبر من الرجل والمرأة، ومما يُستدل به لإطلاق الفرج على قُبُل الرجل حديث عليّ قال: أرسلنا المقداد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن المذي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توضَّأ وانضح فرجك" رواه مسلم.
(4) أي الحاضرين في ذلك المجلس.(1/209)
تَسْتَنْجِسُه (1) (2) فاقطَعْهُ، قَالَ عَطَاءُ (3) بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: هَذَا واللهِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
18 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ حَمَّادٍ (4) ، عن إبراهيم (5) النَّخعي،
_________
(1) أي الفرج.
(2) أي تعتقده نجساً ذاته.
(3) لما سمع من الرجل هذا الكلام.
(4) قوله: عن حماد، هو حماد بن أبي سليمان مسلم الأشعري أبو إسماعيل الكوفي الفقيه، قال معمر: ما رأيت أحداً أفقه من هؤلاء الزهري وحماد وقتادة، وقال ابن معين: حماد ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال العجلي: كوفي ثقة كان أفقه أصحاب إبراهيم، وقال النِّسائي: ثقة إلاّ أنه مرجئ، مات سنة 120 هـ، وقيل سنة 119 هـ، كذا في "تهذيب التهذيب".
(5) قوله إبراهيم النَّخَعي، بفتح النون والخاء المعجمة بعدها عين مهملة، نسبة إلى نخَع قبيلة من العرب نزلت الكوفة، ومنها انتشر ذكرهم، قال ابن ماكولا: من هذه القبيلة علقمة والأسود وإبراهيم، كذا في "أنساب" السمعاني، وذكر في "تهذيب التهذيب": إن إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود بن عمرو أبو عمران النخعي الكوفي مفتي أهل الكوفة كان رجلاً صالحاً فقيهاً، قال الأعمش: كان خيراً في الحديث، وقال الشعبي: ما ترك أحداً أعلم منه، وقال أبو سعيد العلائي: وهو مكثر من الإرسال وجماعة من الأئمة صحَّحو امراسيله، وقال الأعمش قلت لإبراهيم: أَسْنِدْ لي عن ابن مسعود فقال: إذا حدَّثتكُم عن رجل عن عبد الله فهر الذي سمعت، وإذا قلت: قال عبد الله فهو عن غير واحج، وقا لا, حاتم: لم يلق النخعي أحداً من الصحابة إلاَّ عائشة ولم يسمع منها، وأدرك أنساً ولم يسمع منه، مات سنة 96 هـ، وولادته سنة 55 هـ.(1/210)
عَنْ عَلِيِّ (1) بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مسِّ الذَّكَر، قَالَ: مَا أُبَالِي (2) مسستُهُ أَوْ طرفَ أَنْفِي (3) .
19 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: أَنَّ ابنَ مَسْعُودٍ (4) سُئِلَ عَنِ الْوُضُوءِ مِنْ مسِّ الذكر؟
_________
(1) قوله: عن عليّ، هو ابن أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب القرشي الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، له مناقب كثيرة، استشهد سنة 40 هـ كما في "أسد الغابة" وغيره، وبه يُعلم أن رواية إبراهيم النخعي عنه مرسلة لأنه لم يدرك زمانه.
(2) قوله: ما أبالي، هكذا رواه محمد في كتاب "الآثار" أيضاً. وأخرج الطحاوي بسنده عن قابوس عن أبي ظبيان عن علي أنه قال: ما أبالي أنفي مسست أو أذني أو ذكري. وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" عن قيس بن السكن أن علياً وابن مسعود وحذيفة وأبا هريرة لا يَرَوْن من مَس الذكر وضوء.
(3) أي حيث هما عضوان طاهران وفي حق المسِّ متساويان.
(4) قوله: أن ابن مسعود..إلخ، وكذا أخرجه الطحاوي عن قيس بن السكن قال: قال ابن مسعود: ما أبالي ذكري مسست في الصلاة أم أذني أم أنفي. وأخرج ابن أبي شيبة عن وكيع، عن سفيان، عن أبي قيس، عن هذيل أن أخاه سأل ابن مسعود، فقا: إنّي أحكّ بيدي إلى فرجي فقال: إنْ علمتَ أنَّ منك بضعة نجسة فاقطعها. وأخرج عن قيس بي السكن قال: قال عبد الله: ما أبالي مسست ذكري أو أذني أو إبهامي أو أنفي. وابن مسعود هو عبد الله بن مسعود أبو عبد الرحمن الهذلي من خواصّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحب نعليه وسواكه، هاجر الحبشة وشهد بدرا وما بعدها، وولي قضاء الكوفة في خلافة عمر إلى صدر خلافة عثمان، ثم صار إلى المدينة فمات بها سنة 32 هـ، كذا في "أسماء رجال المشكاة".(1/211)
فَقَالَ: إنْ كَانَ نَجِسًا (1) فاقْطَعْه.
20 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا مُحلٌّ (2) الضَّبِّي (3) ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعي فِي مسِّ الذَّكَرِ فِي الصَّلاةِ، قَالَ: إِنَّمَا هُوَ بَضْعة منك (4) .
_________
(1) قوله: نجساً، بفتح الجيم هو المشهور عند الفقهاء ويُراد به عين النجاسة بخلاف كسرها فإنه المتنجس عندهم وهما مصدران في أصل اللغة.
(2) قوله: محل الضبي، قال القاري في "شرحه" بكسر الميم والحاء المهملة كسجل اسم جماعة من المحدثين. انتهى. وهذا القدر لا يكفي في هذا المقام، وفي "التقريب" مُحِلّ - بضم أوله وكسر ثانيه وتشديد اللام - ابن خليفة الطائي الكوفي، ثقة من الرابعة، ومُحِل بن مُحرز الضَّبي الكوفي لابأس به، من السادسة، سنة 53 هـ أي بعد المائة. انتهى. وهو يؤذن أن محل الضبي بضم أوله وكسر الثاني وتشديد الثالث، وبه صرَّح محمد طاهر الفَتَّني حيث قال في "المغني": محل بن خليفة بمضمومه وكسر حاء مهملة، وقيل بفتحها وشدة لام، وكذا محل بن محرز. انتهى. وبه ظهر خطأ القاري والعلم عند الباري، وفي "كاشف" الذهبي: محل بن خليفة الطائي عن جده عدي بن حاتم وأبي السمح، وعنه شعبة وسعد أبو مجاهد، فأما محل بن محرز الضبي عن الشعبي فإنه أصغر منه. انتهى.
(3) بتشديد الموحدة.
(4) قوله: إنما هو بضعة منك، هذه الآثار كلها تشهد بصحة حديث طلق وتوافقه، وهناك أحاديث مرفوعة معارضة لها. فمن ذلك ما أخرجه ابن ماجة عن أم حبيبة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مس فرجه فليتوضأ. ونقل الترمذي عن أبي زرعة أنه قال: إن حديث أم حبيبة أصح في هذا الباب، وهو حديث العلاء، عن مكحول، عن عنبسة، عن أم حبيبة، ونقل صاحب "الاستذكار" عن أحمد بن حنبل أنه قال: هو حسن الإسناد، وأعلَّه الطحاوي بأن فيه انقطاعاً فإن مكحولاً لم يسمعه عن عنبسة، بل سمع أبا مسهر عنه. =(1/212)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= ومنها ما أخرجه ابن حبان في "صحيحه" والحاكم في "المستدرك" وصححه وأحمد والطبراني والدارقطني من حديث أبي حريرة مرفوعاً " من أفضى (هكذا في الأصل وفي "المستدرك" (1/136) : إذا أفضى..إلخ) أحدكم بيده إلى فرجه وليس بينهما ستر ولا حائل فليتوضأ. ولفظ البيهقي: من أفضى بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب فعليه وضوء الصلاة. وفي سنده يزيد بن عبد الملك، قال البيهقي: تكلموا فيه، وقال أحمد: لا بأس به، وقال الطحاوي: هو منكر الحديث لا يساوي حديثه شيئاً.
ومنها ما أخرجه ابن ماجة عن أبي أيوب مرفوعاً: من مسّ فرجه فليتوضأ. وفيه إسحاق بن أبي فروة، قال أحمد لا تحل الرواية عنه، وقال النسائي: متروك الحديث، كذا في "تهذيب التهذيب".
ومنها ما أخرجه ابن ماجة عن جابر مرفوعاً: إذا مس أحدكم ذكره فعليه الوضوء. ولفظ البيهقي: إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه فليتوضأ.
ومنها ما أخرجه أبو نعيم وابن منده والدارقطني عن أروى بنت أنيس مرفوعاً: من مسّ فرجه فليتوضأ وفي سنده هشام بن زياد ضعيف، كذا في "الإصابة".
ومنها ما أخرجه الدارقطني عن عائشة مرفوعاً: ويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون ولا يتوضَّؤون، قالت بأبي وأمي هذا للرجال أفرأيت النساء؟ قال: إذا مست إحداكن فرجها فلتتوضأ للصلاة. وفي سنده عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر العمري، قال النسائي: متروك، كذا في "ميزان الاعتدال".
ومنها ما أخرجه الدارقطني والطحاوي عن ابن عمر مرفوعاً: من مسّ ذكره فليتوضأ وضوءه للصلاة. وفي سنده صدقة بن عبد الله ضعيف، قاله الطحاوي.
ومنها ما أخرجه أحمد والبزار والطبراني عن زيد بن خالد مرفوعاً: من مسّ فرجه فليتوضأ. =(1/213)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= ومنها ما أخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" عن طلق بن علي مرفوعاً: من مسّ ذكره فليتوضأ. وفيه حماد بن محمد الحنفي ضعيف.
ومنها ما أخرجه أحمد والبيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً: أيما رجل مسّ فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مسّت فرجها فلتتوضأ.
وقد أخرج ابن عدي من حديث ابن عباس، والحاكم من حديث سعد بن أبي وقاص وأم سلمة. وأحاديثهم لا تخلو من علة، ذكره العيني.
ومنها - وهو أجودها - ما أخرجه مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع عروة بن الزبير يقول: دخلت على مروان بن الحكم فتذاكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان: ومن مسّ الذكر الوضوء، قال عروة " ما علمتُ بهذا، فقال مروان: أخبرتني بُسْرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مَسّ أحدكم ذكره فليتوضأ. وأخرجه ابن ماجة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن مروان، عن بسرة (في الأصل: "البسرة" وهو تحريف) بنت صفوان مثله، وأخرجه الترمذي بلفظ: من مسّ ذكره فلا يصل حتى يتوضأ. وقال هذا حديث حسن صحيح، ونقل عن البخاري أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث بسرة. وأخرج حديث بسرة أبو داود والنسائي والطبراني والدارقطني وابن حبان والبيهقي وغيرهم بألفاظ متقاربة، وذكر ابن عبد البر في "الاستذكار" أن أحمد كان يصحح حديث بسرة، وأن يحيى بن معين صححه أيضاً.
وفي الباب أخبار أُخَر توافق هذه الأحاديث لولا قصد الاختصار لأتيتُ بها، وقد طال الكلام في هذا المبحث من الجانبين والنزاع من الفريقين، أما الكلام من القائلين بعدم الانتقاض على قائلين الانتقاض فمن وجوه:
منها: أن أحاديث النقض ضعيفة. وفيه أن ضعف أكثرها لا يضرّ بعد صحة بعضه وضعف الكل ممنوع. =(1/214)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= ومنها أن حديث بسرة الذي صححوه مروي من طريق مروان، ومعاذ الله أن نحتج به. وفيه أنه صرّح ابن حجر في مقدمة "فتح الباري" أنه كان لا يتهم (في الأصل: "لا يهتم في الحديث" وهو خطأ) في الحديث.
ومنها: أن بسرة مجهولة. وفيه أنها بسرة بنت صفوان بن نوفل القرشية الأسدية، لها سابقة قديمة وهجرة، وروى عنها جماعة من الصحابة وغيرهم كما لا يخفى على من طالع"الإصابة" وغيره من الكتب المصنفة في أحوال الصحابة.
ومنها: أن خبر الآحاد فيما يعم به البلوى غير مقبول. وفيه أنه قد رواه جمع من الصحابة مع أن في ثبوت هذه القاعدة نظراً.
ومنها: أن الحكم بالنقض منسوخ بحديث طلق، وفيه أن النسخ لا يُحكم به بالاحتمال، بل إذا ثبت أن حديث طلق مؤخر، وليس كذلك بل الأمر بالعكس لأن قدوم طلق كان أول سنة من الهجرة كما صرح به ابن حبان وغيره، وكان سماعه الحديث في عدم النقض في ذلك المجلس، وحديث النقض رواه أبو هريرة الذي أسلم سنة سبع، وغيره من أحداث الصحابة.
ومنها: أن النقض خلاف القياس. وفيه أنه لا دخل له بعد ورود الأخبار.
أما الكلام من القائلين بالنقض فمن وجوه أيضاً:
منها: تضعيف رواة أخبار عدم النقض كأيوب ومحمد بن جابر، وفيه أنه لا عبرة به بعد ثبوت طريق عبد الله بن بدر.
ومنها: كثرة طرق أحاديث النقض وهي من وجوه الترجيح.
ومنها: كون حديث طلق منسوخاً. وفيه أن رواية الصحابي المتأخر الإسلام لا تدل على النسخ لجواز أن يكون سمع من متقدم الإسلام، فيجوز أن تكون أحاديث النقض. مقدمة على حديث العدم. =(1/215)
21 - قال محمد: أخبرنا سلام بن سُلَيْم الحنفي (1) ،
_________
= هذا ملخص الكلام فيما بينهم، وقد سلك جماعة مسلك الجمع:
فمنهم: من حمل الوضوء في أحاديث النقض على غسل اليدين، وفيه أنه يأباه صريح ألفاظ بعض الروايات.
ومنهم من قال: مسُّ الذكر كناية عن البول. وفيه أنه يُنكره صريح كثير من الروايات.
ومنهم من قال: أمر التوضُّؤ للاستحباب، وفيه أيضاً ما فيه.
وسلك جماعة أخرى مسلك التعارض وقالوا: إذا تعارضت الأخبار المرفوعة تركناها ورجعنا إلى آثار الصحابة، وفيه أن آثار الصحابة أيضاً مختلفة، والإنصاف في هذا المبحث أنه إن اختير طريق النسخ فالظاهر انتساخ حديث طلق لا العكس، وإن اختير طريق الترجيح ففي أحاديث النقض كثرة وقوة، وإن اختير طريق الجمع فالأَولى أن يُحمل الأمر على العزيمة، وعدم النقض على الضرورة (ويمكن التطبيق بينهما بأن الأمر للاستحباب تنظيفاً والنفي لنفي الوجوب فلا حاجة إلى النسخ، كما قال في الدر المختار (1 - 152) ولكن يندب للخروج من الخلاف لا سيما للإمام) .
(1) قوله: سلاّم بن سُليم الحنفي، الاسم الأول بتشديد اللام وفتح السين، والثاني بضم السين وفتح اللام، والنسبة إلى بني حنيفة قبيلة، قال السمعاني في "الأنساب": الحنفي بفتح الحاء المهملة والنون نسبة إلى بني حنيفة، هم قوم أكثرهم نزلوا اليمامة وكانوا تبعوا مُسَيْلَمة الكذاب المتنبئ، ثم أسلموا زمن أبي بكر، والمشهور بالنسبة إليها جماعة كثيرة. انتهى. وفي "تهذيب التهذيب": سلام بن سليم الحنفي مولاهم أبو الأحوص الكوفي، روى عن أبي إسحاق السبيعي وسماك بن حرب وزياد بن علاقة والأسود بن قيس ومنصور وغيرهم، وعنه وكيع وابن مهدي وأبو نعيم وسعيد بن منصور وغيرهم، قال العجلي: كان ثقةً صاحب سنَّة واتِّباع، وقال أبو زرعة والنسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات". =(1/216)
عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ (1) ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ (2) ، عن أرقمَ (3) بنِ شُرَحْبِيل،
_________
= قال البخاري: حدَّثني عبد الله بن أبي الأسود قال: مات سنة 79 هـ يعني ومائة. انتهى ملخَّصاً. وفي "مغني" الفَتَّني: سلام كله بالتشديد إلاَّ عبد الله بن سلام، وأبو عبد الله محمد بن سلام شيخ البخاري، وشدَّده جماعة، وفي غير الصحيحين ثلاثة أيضاً: سلام بن محمد، ومحمد بن عبد الوهاب بن سلام، وسلام بن أبي الحقيق. انتهى. وفيه أيضاً: سليم كله بالضم إلاَّ سليم بن حيان. انتهى.
ورأيت في "شرح القاري" أنه وجّه نسبة الحنفي بقوله: منسوب إلى أبي حنيفة بحذف الزوائد كالفرضي. انتهى. وهو خطأ واضح، الظن أنه من نُساخ كتابه لامنه.
(1) قوله: عن منصور بن المعتمر، بضم الميم وسكون العين وفتح التاء وكسر الميم الثانية، هو أبو عَتّاب بفتح العين وتشديد التاء السلمي الكوفي ثقة ثبت، مات سنة 132 هـ، روى عنه الثوري وشعبة وسليمان التيمي وغيرهم، كذا في "جامع الاصول" لابن الأثير الجزري "وتقريب" ابن حجر.
(2) قوله: عن أبي قيس، اسمه عبد الرحمن بن ثروان الأَودي، بفتح الهمزة وسكون الواو في آخرها دال مهملة، نسبة إلى أود قبيلة من مذحج، كذا في "الأنساب"، وفي "كاشف" الذهبي: عبد الرحمن بن ثروان أبو قيس الأودي عن شريح، وعنه شعبة وسفيان ثقة. انتهى. وفي "التقريب": عبد الرحمن بن ثروان بمثلثة مفتوحة وراء ساكنة أبو قيس الأودي الكوفي، صدوق مات سنة عشرين ومائة.
(3) قوله: عن أرقم بن شرحبيل، الاسم الأول بفتح الهمزة وسكون الراء المهملة وفتح القاف، والثاني بضم الشين وفتح الراء وسكون الحاء وكسر الباء وسكون الياء بعدها لام، كذا ضبطه الفتَّني وغيره، وقال في "تهذيب التهذيب": أرقم بن شرحبيل الكوفي الأودي روى عن ابن عباس وابن مسعود، وعنه أبو إسحاق وأخوه هذيل بن شرحبيل، قال أبو زرعة: ثقة، واحتج أحمد بن حنبل بحديثه، وقال ابن عبد البَرّ: هو حديث صحيح وأرقم ثقة جليل، وأورد العقيلي بسند صحيح عن =(1/217)
قَالَ: قلتُ: لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: إِنِّي أحكُّ جسدي و (1) أنا فِي الصَّلاةِ فأمسُّ ذَكَرِي، فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ بَضْعةٌ (2) منك.
22 - قال محمد: أخبرنا سلاَّم بن سُلَيم، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنِ السَّدُوسيِّ (3) ، عَنِ الْبَرَاءِ (4) بْنِ قيسٍ، قَالَ: سألتُ حذيفةَ (5)
_________
= أبي إسحاق السَّبيعي قال: كان هذيل وأرقم ابنا شُرحبيل من خيار أصحاب ابن مسعود. انتهى ملخصاً.
(1) الواو حالية.
(2) بفتح الباء.
(3) قوله: عن السدوسي، هو بالفتح فضم نسبة إلى سدوس بن شيبان، وبضمتين إلى سدوس بن أصبغ بن أبي عبيد بن ربيعة بن نضر بن سعد الطائي، وليس في العرب سدوس بالضم غيره، كذا ذكره السيوطي في كتابه "لب اللباب في تحرير الأنساب"، والمراد به ههنا هو إياد بن لَقيط كما صرح به في الرواية الآتية، ضبطه الفَتَّني في "المغني" بكسر الهمزة وفتح الياء المثنّاة التحتية في آخره دال مهملة، واسم أبيه بفتح اللام، وقال في "تهذيب التهذيب": إياد ين لقيط السدوسي، روى عن البراء بن عازب والحارث بن حسان العامري وأبي رمثة وغيرهم، وعنه ابنه عبيد الله والثوري ومسعر وغيرهم، قال ابن معين والنسائي: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال يعقوب بن سفيان: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات". انتهى.
(4) قوله: عن البراء بن قيس، قال ابن حبان في ثقات التابعين: البراء بن قيس أبو كبشة الكوفي، عداده في أهل الكوفة يروي عن حذيفة وسعد، وروى عنه الناس.
(5) قوله: حُذَيفة بن اليمان، بضم الحاء المهملة بعدها ذال مفتوحة، واسم =(1/218)
ابن اليمانِ (1) ، عَنِ الرجُلِ مسَّ ذكَرَه، فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ كمسِّه رأسَه.
23 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا مِسعَرُ (2) بْنُ كِدَام، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَعْدٍ (3) النَّخَعي، قَالَ: كنتُ فِي مجلسٍ فِيهِ عَمّارُ بنُ ياسر (4) فذكر مسَّ الذَّكر،
_________
= اليمان حِسْل بكسر الحاء وإسكان السين المهملتين، ويقال حُسَيْل - بالتصغير - بن جابر بن عمرو بن ربيعة العبسي حليف بني عبد الأشهل من الانصار، ولُقِّب والده باليمان لأنه أصاب دماً في قومه فهرب إلى المدينة وحالف الأنصار فسماه قومه اليمان لأنه حالف الأنصار وهم من اليمن، أسلم حذيفة وأبوه وشهدا أحداً وقُتل اليمان في غزوة أحد، قتله المسلمون خطأً، فوهب حذيفة لهم دمه، وكان حذيفة صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم وله مناقب كثيرة، مات بالمدائن سنة ست وثلاثين، كذا في "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي.
(1) كذا أخرجه عنه الطحاوي وابن أبي شيبة أيضاً.
(2) قوله: مِسعَر بنِ كِدام، بكسر الميم وسكون السين وفتح العين بعدها راء وبكسر الكاف وفتح الدال، ابن ظهير الهلالي أبو سلمة الكوفي، ثقة ثبت فاضل، مات سنة 153 هـ وقيل سنة 155 هـ، كذا في "التقريب" وغيره.
(3) قوله: عن عمير بن سعد، وقيل سعيد النخعي الصُّهباني - بضم الصاد المهملة وسكون الهاء - نسبة إلى صُهبان بطن من النخع، كنيته أبو يحيى، ثقة ثبت، مات سنة سبع وقيل خمس عشرة ومائة، كذا في "الأنساب" و"التقريب".
(4) قوله: عمار بن ياسر، هو أبو اليقظان عَمَّار - بفتح العين وتشديد الميم - ابن ياسر - بكسر السين - ابن عامر بن مالك بن كنانة، أسلم وهاجر إلى الحبشة والمدينة، وشهد بدراً والمشاهد كلَّها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقتلك الفئة الباغية، فقُتل بالصفّين مع علي رضي الله عنه، قتله أصحاب معاوية سنة سبع ثلاثين، كذا في "جامع الأصول" لابن الأثير (في الأصل: "أثير") الجزري.(1/219)
فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ بَضْعةٌ مِنْكَ (1) وإنَّ لكَفَّك لَمَوْضِعًا غَيْرَهُ (2) .
24 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا مِسْعَر بْنُ كِدام، عَنْ إِيَادِ بنِ لَقيط (3) ، عَنِ الْبَرَّاءِ بنِ قيسٍ قَالَ: قَالَ حذيفةُ بنُ الْيَمَانِ فِي مسِّ الذَّكَرِ مِثْلُ أَنْفِكَ.
25 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا مِسْعَرُ بنُ كِدام، حَدَّثَنَا قَابُوسُ (4) ، عَنْ أَبِي ظَبيان (5) ، عَنْ عليِّ بنِ أَبِي طالبٍ رضي الله عنه، قال: ما
_________
(1) وفي رواية الطحاوي: إنما هو بضعة منك مثل أنفي وأنفك.
(2) يعني الأَولى أن لا يمس من غير ضرورة.
(3) على وزن كريم.
(4) قوله: حدثنا قابوس، قال الحافظ ابن حجر في "التقريب": قابوس بن أبي ظبيان - بفتح المعجمة وسكون الموحدة بعدها تحتانية - الجَنْبي - بفتح الجيم وسكون النون بعدها باء موحدة - الكوفي، فيه لين. انتهى. وفي "أنساب" السمعاني: الجنبي بفتح الجيم وسكون النون في آخرها الباء المنقوطة بواحدة، نسبة إلى جنب عدة قبائل، وقيل قبيلة من مذحج، والمنتسب إليه أبو ظبيان الجنبي، واسمه حُصَين بن جندب، يروي عن علي رضي الله عنه وابن مسعود، وابنه قابوس بن أبي ظبيان الجنبي، انتهى ملخَّصاً.
(5) قوله: عن أبي ظبيان، قال عبد الغَنيّ وابن ماكولا: هو بكسر الظاء المعجمة وسكون الباء الموحدة بعدها ياء تحتانية مثناة. وقال الحازمي: أكثر أهل الحديث واللغة يقولونه بفتح الظاء وسكون الباء، اسمه حُصَين - بضم الحاء المهملة وفتح الصاد المهملة - ابن جندب بن عمرو بن الحارث بن وحشي بن مالك بن ربيعة الجَنْبي المَذْحِجِي - بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وكسر الحاء المهملة - نسبة إلى مذحج قبيلة من أهل الكوفة، تابعي مشهور سمع علياً =(1/220)
أُبَالِي إِيَّاهُ (1) مسستُ أَوْ أَنْفِي أَوْ أُذُني.
26 - قال محمد: أخبرنا أو كُدَيْنة (2) يَحْيَى بنُ المُهَلَّب، عَنْ أَبِي إسحاقَ الشَّيْباني (3) ،
_________
= وعماراً وأسامة بن زيد، وروى عنه ابنه قابوس والأعمش، مات بالكوفة سنة 90 هـ، كذا ذكره ابن الأثير الجزري في "جامع الأصول"، وفي "تهذيب التهذيب": روى عن عمر وعلي وابن مسعود وسلمان وأسامة بن زيد وعمار وحذيفة وأبي موسى وابن عباس وابن عمر وعائشة، ومن التابعين عن علقمة وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ومحمد بن سعد بن أبي وقاص وغيرهم، وعنه ابنه قابوس وأبو إسحاق السَّبيعي وسلمة بن كهيل والأعمش وسماك بن حرب، قال ابن معين والعجلي وأبو زرعة والنسائي والدارقطني: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وسُئل الدارقطني: " أَلَقي أبو ظبيان عمر وعليّاً؟ قال: نعم، قال ابن أبي عاصم: مات سنة 89 هـ، وقال ابن سعد وغيره: مات سنة 90 هـ، وقيل غير ذلك انتهى.
(1) أي الذَّكَر.
(2) قوله: أبو كُدّيْنة، بضم الكاف وفتح الدال المهملة وسكون المثناة التحتية بعدها نون يحيى بن المُهّلَّب بضم الميم وفتح الهاء وتشديد اللام المفتوحة، كذا ضبطه الفَتَّني في "المغني"، قال في " التقريب": يحيى بن المهلب أبو كدينة البجلي الكوفي ثقة صدوق من أثبات التابعين.
(3) قوله: عن أبي إسحاق الشيباني، نسبة إلى شيبان بفتح الشين المعجمة وسكون الباء المثَّناة التحتية بعدها باء موحدة، قبيلة في بكر بن وائل، ذكره السمعاني في "الأنساب"، وهو سليمان بن أبي سليمان أبو إسحاق الشيباني مولاهم الكوفي، روى عن عبد الله بن أبي أوفى، وزرّ بن حُبَيش، وأبي بردة بن أبي موسى، وعبد الله بن شدّاد بن الهاد، وعبد العزيز بن رفيع، وعكرمة، وإبراهيم =(1/221)
عَنْ أَبِي قَيسٍ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ ثَرْوان (1) ، عَنْ عَلْقَمَةَ (2) ، عَنْ قَيْسٍ، قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: إِنِّي مسستُ ذَكَرِي وأنا في
_________
= النخعي، وغيرهم، وعنه ابنه إسحاق، وأبو إسحاق السبيعي، وإبراهيم بن طهمان، وابن عيينة، وغيرهم. قال ابن معين: ثقة حجة، وقال ابن أبي حاتم: صدوق صالح الحديث، وقال العجلي: كان ثقة من كبار أصحاب الشعبي، قال يحيى بن بكير: مات سنة 129 هـ، وقال ابن نمير: مات سنة 139 هـ، واسم أبيه فيروز، ويقال: خاقان، وقيل: مهران، كذا في "تهذيب التهذيب".
(1) بفتح الثاء المثلثة وسكون الراء المهملة بعدها واو ثم ألف ثم نون، كذا ضبطه الحافظ عبد الغني في كتاب "مشتبه النسبة".
(2) عن علقمة، قال القاري في "شرحه": هو علقمة بن أبي علقمة بلال مولى عائشة أم المؤمنين، روى عن أنس بن مالك عن أمه، وعنه مالك بن أنس وغيره. انتهى. والذي في ظني أنه غيره، لأن علقمة بن بلال عداده في أهل المدينة، والرواة في هذا السند من تقدم ومن تأخر كلُّهم من أهل الكوفة، فالظنّ أن علقمة هذا أيضاً من أهل الكوفة، وقد ذكر في "تهذيب التهذيب" و"تقريب التهذيب" رجالاً من أهل الكوفة مسمَّوْن بعلقمة، أحدهم: علقمة بن وائل بن حجر الحضرمي الكندي الكوفي، روى عن أبيه، والمغيرة بن شعبة، وعنه أخوه عبد الجبار، وابن أخيه سعيد، وعبد الملك بن عمير، وعمر بن مرة، وسماك بن حرب، وسلمة بن كهيل ... وغيرهم، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وثانيهم: علقمة بن مرثد الحضرمي أبو الحارث الكوفي، روى عن سعد بن عبيدة، وزرّ بن حبيش، وكارق بن شهاب، والمستورد بن الأحنف، وسليمان بن بريدة، وحفص بن عبد الله بن أنيس، والقاسم بن مخيمرة.. وغيرهم. وروى عنه شعبة، والثوري، ومسعر، المسعودي، وإدريس بن يزيد الأودي، والحكم بن ظهير، وأبو حنيفة، وحفص بن سليمان القاري.. وغيرهم. قال =(1/222)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثَبْت في الحديث، وقال أبو حاتم: صالح في الحديث، وقال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات". وثالثهم: علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك بن علقمة أبو شبيل النخعي الكوفي عم الأسود النخعي، وُلد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عن عمر، وعثمان، وعلي، وسعد، وحذيفة، وأبي الدرداء، وابن مسعود، وأبي موسى، وخالد بن الوليد، وسلمة بن يزيد الجعفي، وعائشة.. وغيرهم. وعنه ابن أخيه عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي، وابن أخته إبراهيم بن يزيد النخعي، وابراهيم بن سويد النخعي، وعامر الشعبي، وأبو وائل شقيق بن سلمة، وأبو إسحاق السبيعي، وغيرهم، قال ابن المديني: أعلم الناس بعبد الله بن مسعود علقمة والأسود وعبيدة والحارث، وثَّقه ابن معين وشعبة وابن سيرين وغيرهم وأثثَوْا عليه خيراً، وهو من أجلّ أصحاب ابن مسعود. مات سنة 161 هـ، وقيل سنة 162 هـ، وقيل سنة 163 هـ، وقيل سنة 165 هـ، وقيل سنة 172 هـ، وقيل بعده.
هذا فلينظر في أن علقمة المذكور في هذه الرواية أيّهم، ولم يظهر لي إلى الآن تشخيصه، لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً، والظاهر أنه علقمة بن قيس وإن "عن" في الكتاب من النُّسَّاخ، وعبارته علقمة بن قيس كما هو في بعض النسخ، وإن كان عن قيس كما وجدنا في أكثر النسخ، فالظاهر أن المراد بقيس هو قيس ابن السكن الكوفي بدليل ما في "شرح معاني الآثار": حدثنا أبو بكرة، ثنا يحيى بن حماد، نا أبو عوانة، عن سليمان، عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن السكن، قال عبد الله بن مسعود: ما أبالي مسست في الصلاة ذَكَري أم أُذُني أم أَنْفي.
حدثنا بكر بن إدريس، قال نا آدم بن أبي إياس، نا شعبة، نا أبو قيس، قال: سمعت هُذَيلاً يحدث عن عبد الله نحوه.
حدثنا صالح، نا سعيد، نا هشيم، أنا الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن =(1/223)
الصَّلاةِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَفَلا قطعتَه؟ (1) ، ثُمَّ قال: وهل ذكَرُكَ إلاَّ كسائر (2)
_________
= قيس بن السكن، عن عبد الله مثله. انتهى.
قال في "التهذيب" و"تهذيبه": قيس بن السكن الأسدي الكوفي روى عن ابن مسعود والأشعث بن قيس، وعنه ابن النعمان وأبو إسحاق السبيعي، وعمارة بن عمير، وسعد بن عبيدة، والمنهال بن عمرو وأبو الشعثاء المحاربي، قال ابن معين: ثقة، وعدّه أبو الشَّعثاء في الفقهاء من أصحاب ابن مسعود، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو حاتم: توفي في زمن مصعب بن الزبير، له عندهما حديث واحد في صوم عاشوراء، وقال ابن سعد: توفي في زمن مصعب بالكوفة وله أحاديث، وكان ثقة. انتهى.
قوله: عن علقمة، بعدما كتبت ما كتبت سالفاً مَنَّ الله عليَّ بمطالعة كتاب الحج، فإذا فيه هذا الأثر بعينه سنداً ومتناً وفيه: عن علقمة بن قيس فظهر قطعاً صحة ما في بعض النسخ، وأن المراد بعلقمة هو ثالث الثلاثة الذين ذكرناهم، وتُيقِّن أنَّ ما فسَّره به القاري خطأ بلا شبهة. ولله الحمد على إظهاره ما تمنَّيْتُ ظهوره.
(1) أي إنْ كنتَ تزعم أنه نجس العين فإن وجوده مانع لصحة الصلاة.
(2) قوله: إلاَّ كسائر جسدك، قد يعارض ما يفيده هذا الأثر وغيره من الآثار المتقدمة من تسوية الذكَر مع سائر الأعضاء وكونه كسائر الجسد بما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا بال أحدكم فلا يأخذنَّ ذَكَرَه بيمينه. أخرجه البخاري وأبو داود وغيرهما. فلو كان الذكر بمنزلة الإبهام والأنف والأذن وسائر الجسد بكان لا بأس علينا أن نمسَّه بأيماننا. ويُجاب عنه بأنَّ النهي عن مَسّ الذكَر باليمين ليس مطلقاً بل إذا بال، بناء على أن مجاور الشيء يُعطى حكمه، وما ورد من الأحاديث المطلقة في النهي محمول على ذلك، كذا حقَّقه ابن أبي جمرة في "بهجة النفوس" شرح مختصر صحيح البخاري، واستدل على الإباحة في غير حالة البول بحديث طلق "إنما هو بضعة منك". لكن قد ذهب جماعة من العلماء إلى أن النهي عنه مطلق غير مقيَّد بحالة البول.(1/224)
جَسَدِكَ (1) ؟
27 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بنُ المهلَّب، عَنْ إسماعيلَ بنِ أَبِي خَالِدٍ (2) ، عَنْ قيسِ بنِ أَبِي حَازِمٍ (3) ، قَالَ: جَاءَ رجلٌ إِلَى سعدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: أيحلُّ لِي أَنْ أمسَّ ذَكَري وَأَنَا فِي الصَّلاةِ؟ فَقَالَ: إنْ علمتَ أنَّ مِنْكَ (4) بِضْعَةً نَجِسَةً فَاقْطَعْهَا (5) .
__________
(1) لا بأس بمسّه.
(2) قوله: عن إسماعيل، هو إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي مولاهم الكوفي، نسبة إلى أَحْمس - بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة - طائفة من بجلة نزلوا الكوفة كما ذكره السَّمعاني، روى عن أبيه وأبي جحيفة وعبد الله بن أبي أوفى، وقيس بن أبي حازم - وأكثر عنه - وغيرهم، وعنه شعبة، والسفيانان، وابن المبارك، ويحيى القطان، وغيرهم. قال ابن معين، وابن مهدي، والنسائي: ثقة، وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وقال أبو حاتم: لا أقدم عليه أحداً من أصحاب الشعبي، وهو ثقة مات سنة 126 هـ، كذا في "تهذيب التهذيب".
(3) قوله: عن قيس بن أبي حازم، هو أبو عبد الله البجلي الكوفي تابعي كبير، هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفاتته الصحبة بليالٍ، وروى عن أبي بكر، وعمر، وغيرهما، وعنه بيان بن بشر، وإسماعيل بن أبي خالد وخلق، وثقوه. ويقال: إنه اجتمع له أن يروي عن العشرة المبشَّرة، مات بعد التسعين أو قبلها وجاوز المائة، كذا في "التقريب والكاشف"، وذكر ابن الأثير في "جامع الأصول"، أنه روى عن العشرة المبشرة إلاَّ عن عبد الرحمن بن عوف، قال ابن عيينة: ما كان بالكوفة أروى عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من قيس بن أبي حازم، واسم أبي حازم - بكسر الزاي - حصين بن عون، ويقال عبد عوف بن الحارث، وقيل عوف بن الحارث من بني أسلم بن أحمس بن الغوث بن أنمار الأحمسي البجلي.
(4) أي: من جملة أعضائك.
(5) وفي رواية الطحاوي، عن إسماعيل بن قيس سُئل سعد عن مسّ الذكر، فقال: أن كان نجساً فاقطعه.(1/225)
28 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا إسماعيلُ بنُ عيَّاش (1) ، قَالَ: حدثني جَريرُ بنُ عثمان (2) ، عن حبيب (3) ،
__________
(1) قوله إسماعيل بن عياش، هو إسماعيل بن عياش - بفتح العين وتشديد الياء - العنبسي أبو عتبة الحمصي، قال يعقوب بن سفيان: تكلم فيه قوم وهو ثقة، عدل أعلم الناس بحديث أهل الشام (في الأصل: "الشام"، والظاهر: "أهل الشام") ، وأكثر ما قالوا: يُغرب عن ثقات المدنيين والمكيين، وقال يزيد بن هارون: ما رأيت أحفظ من إسماعيل بن عياش، ما أدري ما سفيان الثوري، وقال عثمان الدارمي: أرجو أن لا يكون به بأس، وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن يحيى بن معين: ثقة فيما روى عن الشاميين، وأما روايته عن أهل الحجاز فإنّ كتابه ضاع فخلط في حفظه عنهم، مات سنة 181 هـ، وقيل سنة 182 هـ، كذا في "تهذيب التهذيب".
(2) قوله: حدَّثني جرير بن عثمان، بفتح الجيم وكسر الراء المهملة الأولى، ذكره السمعاني في "الأنساب" في نسبة الرَّحَبي - بفتحتين - نسبة إلى بني رَحَبة بطن من حمير، فقال: ومن المنتسبين إليه أبو عثمان جرير بن عثمان بن جبر بن أحمر بن أسعد الرحبي الحمصي، ويقال أبو عون، سمع عبد الله بن بسر الصحابي، وراشد بن سعد، وعبد الرحمن بن ميسرة وغيرهم، وروى عنه بقية، وإسماعيل بن عيَّاش، وعيسى بن يونس، ومعاذ بن معاذ العنبري، والحكم بن نافع، وجماعة سواهم، كان ثقة ثَبْتاً، قال العجلي: جرير شاميّ ثقة، وحَكى عنه أنه كان يشتمُ عليَّ بن أبي طالب: وحكَى رجوعَه عنه، وُلد سنة 80 هـ، ومات سنة 163 هـ. انتهى ملخَّصاً.
(3) قوله: عن حبيب، قال في "تهذيب التهذيب": حبيب بن عبيد الرحبي أبو حفص الحمصي، روى عن العرباض بن سارية، والمقدام بن معديكرب،(1/226)
عن عُبيد (1) ، عَنْ أَبِي الدَّردَاءِ (2) أَنَّهُ سُئل عَنْ مسِّ الذكر، فقال: إنما هو بَضعَةٌ منك.
__________
وجبير بن نفير، وبلال بن أبي الدرداء، وغيرهم، وعنه جرير بن عثمان، وثور بن يزيد، ومعاوية بن صالح، قال النسائي: ثقة، وقال حبيب بن عبيد أركت سبعين رجلا من الصحابة وقال العجلي ثقة وذكره ابن حبان في الثقات. انتهى ملخَّصاً.
(1) قوله: عن عبيد، بضم العين، لعله والد حبيب أو غيره، وفي كتاب "ثقات التابعين" لابن حبان كثير من الكوفيين والشاميين ممَّن اسمه عبيد ولم أدرِ إلى الآن تعيينه ها هنا، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمراً. وهذا على ما وجدنا في بعض النسخ ولا أظنه صحيحاً، والصحيح ما في بعض النسخ المعتمدة "عن حبيب بن عبيد"، فالراوي عن أبي الدرداء هو حبيب بلا واسطة.
(2) قوله: عن أبي الدرداء، بفتح الدالين المهملتين بينهما راء مهملة ساكنة عويمر بن عامر، وقيل عامر من بني كعب بن الخزرج الأنصاري، الخزرجي، وقد اختلفوا كثيراً في اسمه ونسبه، واشتهر بكنيته، والدرداء بنته، كان فقيهاً عالماً، شهد ما بعد أُحُد، وسكن الشام ومات بدمشق سنة 32 هـ، وقيل 31 هـ، وقيل سنة 34 هـ، كذا في "جامع الأصول".(1/227)
6 - (بَابُ الْوُضُوءِ (1) مِمَّا غيَّرت النَّارُ) (2)
29 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا وَهْبُ (3) بْنُ كَيْسان، قَالَ: سمعتُ جابرَ (4) بن عبد الله يقول: رأيتُ (5)
__________
(1) قوله: الوضوء مما غيَّرت النار، قد اختلف أهل العلم في هذا الباب، فبعضهم ذهب إلى الوضوء مما مسَّت النار، وممن ذهب إلى ذلك: ابن عمر، وأبو طلحة، وأنس، وأبو موسى، وعائشة، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، وعمر بن عبد العزيز، وأبو مجلز، وأبو قلابة، والحسن البصري، والزهري. وذهب أكثر أهل العلم وفقهاء الأمصار إلى ترك الوضوء مما مسَّت النار، ورأوْه آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وممَّن لم برَ منه وضوءاً: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وابن مسعود، وابن عباس، وعامر بن ربيعة، وأُبَيّ بن كعب، وأبو أمامة، وأبو الدرداء، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن عبد الله، ومن التابعين: عَبيدة السَّلْماني، وسالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، ومالك، والشافعي، وأهل الحجاز عامَّتهم، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، كذا في "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الأخبار" للحازمي.
(2) أي: طعام غيَّرته النار، ووصل فيه أَثَرُه.
(3) قوله: وهب بن كَيسان، بفتح الكاف، قال في "الإسعاف": وهب بن كيسان القرشي مولاهم أبو نعيم المدني، وثَّقه النسائي وابن سعد، مات سنة 127 هـ.
(4) قوله: جابر، هو أبو عبد الله جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرَام بن عمرو بن سواد بن سلمة الأنصاري، من مشاهير الصحابة، شهد بدراً - على ما قيل - وما بعدها، وأبوه أحد النقباء الاثني عشر، وكُفَّ بصر جابر آخر عمره، مات بالمدينة سنة 74 هـ وقيل سنة 77 هـ، وقيل سنة 78 هـ، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة، كذا في "جامع الأصول".
(5) قوله: رأيت....إلخ، أعلم مالكٌ الناظر في موطَّئه، أن عمل الخلفاء(1/228)
أَبَا بكرٍ (1) الصِّدِّيق أَكَلَ لَحْمًا (2) ثُمَّ صلَّى وَلَمْ يتوضَّأْ.
30 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا زيدُ (3) بنُ أَسْلَمَ، عَنْ عطاءِ (4) بنِ يَسار، عَنِ ابْنِ عباس: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أكل (5)
__________
الراشدين بترك الوضوء مما مسَّته النار دليل على أنه منسوخ، وقد جاء هذا المعنى، عن مالك نصاً: روى محمد بن الحسن، عن مالك، أنه سمعه يقول: إذا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثان مختلفان وبَلَغَنا أنَّ أبا بكر وعمر عَمِلا بأحد الحديثين وتركا الآخر، كان ذلك دليلاً على أن الحق في ما عملا به، كذا في "الاستذكار".
(1) قوله: أبا بكر الصدّيق، هو أبو بكر عبد الله بن عثمان أبي قُحافة - بضم القاف - ابن عامر بن عمرو بن كعب، الملقَّب بالعتيق، رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، الشاهد معه المشاهد كلّها، وهو أول من أسلم من الرجال، وله مناقب مشهورة، مات سنة 13 هـ، كذا في "أسماء رجال المشكاة".
(2) أي: مطبوخاً.
(3) قوله: زيد بن أسلم، هو أبو أسامة، وقيل أبو عبد الله زيد بن أسلم المدني الفقيه مولى عمر، قال أحمد وأبو زرعة وأبو حاتم ومحمد بن سعد والنسائي وابن خراش: ثقة، وقال يعقوب بن شيبة: ثقة من أهل الفقه والعلم، وكان عالماً بالتفسير، مات سنة 136 هـ وقيل غير ذلك، كذا في "تهذيب التهذيب".
(4) قوله: عطار بن يَسار، بفتح الياء أبو محمد الهلالي المدني مولى ميمونة أمّ المؤمنين، ثقة فاضل صاحب عبادة ومواعظ، من التابعين، مات سنة 94 هـ، وقيل بعد ذلك، كذا في "التقريب".
(5) قوله: أكل جَنْب شاة، أي: لحمه، وللبخاري في الأطعمة "تعرق"، أي: أكل ما على العَرْق - بفتح العين وسكون الراء - هو العظم، وأفاد القاضي إسماعيل أن ذلك كان في بيت ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أنه كان في بيت ميمونة، كما عند البخاري من حديثها أنه صلى الله عليه وسلم(1/229)
جَنْبَ (1) شاةٍ، ثُمَّ صلَّى وَلَمْ يتوضَّأ (2) .
31 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا محمدُ بنُ المُنْكَدِر (3) ، عَنْ محمدِ (4) بنِ إبراهيم التَّيمي،
__________
أكل عندها كتفاً ثم صلّى ولم يتوضَّأ، وهو خالة ابن عباس، كما أن ضباعة بنت عمه، كذا في "فتح الباري".
(1) بفتح الجيم: القطعة من الشيء.
(2) قوله: ولم يتوضأ، كان الزهري يرى أن الأمر بالوضوء مما مسَّت النار ناسخ لأحاديث الإباحة، والإباحة سابقة، واعتُرض عليه بحديث جابر: "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مسَّت النار"، رواه أبو داود والنسائي وغيرهما، وصحَّحه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما، لكن قال أبو داود وغيره: إن المراد بالأمر ههنا الشأن والقصة لا مقابل النهي، وإن هذا الحديث مختصر من حديث جابر المشهور في قصة المرأة التي صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة، فأكل منها ثم توضأ وصلى الظهر، ثم أكل منها وصلى العصر ولم يتوضأ، فيحتمل أن تكون القصة وقعت قبل الأمر بالوضوء مما مسّت النار، وأن وضوء الظهر كان لأجل حدث لا لأكل الشاة. وحكى البيهقي عن عثمان الدارمي أنه قال: لما اختلفت أحاديث الباب ولم يتبيَّن الراجح نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون، فرجحنا به أحد الجانبين. وجمع الخطَّابي بأن أحاديث الأمر محمولة على الاستحباب لا على الوجوب، كذا في "الفتح".
(3) قوله: محمد بن المنكدر، بضم الميم وسكون النون وفتح الكاف وكسر الدال المهملة، ابن عبد الله بن الهُدَير - بالتصغير - التيمي المدني ثقة فاضل، مات سنة 130 هـ أو بعدها، كذا في "التقريب".
(4) قوله: عن محمد بن إبراهيم، ابن الحارث بن خالد التيمي أبو عبد الله المدني، ثقة، مات سنة 120 هـ على الصحيح، كذا في "التقريب".(1/230)
عن ربيعةَ (1) ، عن عبدِ اللَّهِ (2) : أَنَّهُ تعشَّى (3) (4) مَعَ عُمَرَ بنِ الخطاب (5) ،
__________
(1) قوله: عن ربيعة، هو ربيعة بن عبد الله بن الهُدَير - بالتصغير - التيمي المدني، روى عن عمر، وطلحة، وأبي سعيد الخدري، وعنه ابنا أخيه محمد وأبو بكر ابنا المنكدر بن عبد الله، وابن أبي مليكة، ذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال ابن سعد: وُلد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ثقة قليل الحديث، وقال العجلي: تابعي مدني ثقة، مات سنة 93 هـ، كذا في "تهذيب التهذيب" والدليل على أن المراد بربيعة المذكور ههنا هو هذا كلام الطحاوي في "شرح معاني الآثار": نا يونس، قال: نا ابن وهب، أن مالكاً حدَّثه، عن محمد بن المنكدر وصفوان بن سليم أنهما أخبراه، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن ربيعة بن عبد الله بن الهُديْر أنه تعشى مع عمر بن الخطاب ثم صلّى ولم يتوضَّأ، انتهى.
وقد أخطأ القاري حيث فسره بربيعة الرأي شيخ مالك حيث قال عن ربيعة أي ابن أبي عبد الرحمن تابعي جليل القدر أحد فقهاء المدينة سمع أنس بن مالك والسائب بن يزيد وروى عنه الثوري ومالك مات سنة 136 هـ انتهى.
(2) عن عبد الله هكذا في بعض النسخ، وعليه كتب القاري: "إذا أُطلق عبد الله عند المحدثين، فهو عبد الله بن مسعود. انتهى. فأشار إلى أنّ المتعشي مع عمر بن الخطاب هو ابن مسعود وأن ربيعة روى عنه ذلك، وفي بعض النسخ الصحيحة ربيعة بن عبد الله، أنه تعشى مع عمر، وهو الموافق لما ذكره الطحاوي من رواية مالك، فحينئذ يكون المتعشي مع عمر هو ربيعة بن عبد الله بن الهدير.
(3) أي: أكل العشاء، وهو بفتح العين، الطعام الذي يؤكل في المساء، كذا في "النهاية".
(4) طعاماً مسَّته النار.
(5) قوله: مع عمر بن الخطاب ... إلخ، قد أخرج الطحاوي، عن جابر: أكلنا مع أبي بكر خبزاً ولحماً ثم صلّى ولم يتوضأ، وأكلنا مع عمر خبزاً ولحماً ثم قام إلى الصلاة ولم يمس ماءاً، وأخرج عن إبراهيم، أن ابن مسعود وعلقمة خرجا من بيت عبد الله بن مسعود يريدان الصلاة، فجيء بقصعة من بيت علقمة فيها ثريد(1/231)
ثمَّ صَلَّى (1) وَلَمْ يتوضَّأ.
32 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي ضَمْرَةُ (2) بنُ سعيدٍ المازنيّ، عن أبانَ (3)
__________
ولحم فأكلا، فمضمض ابن مسعود وغسل أصابعه، ثم قام إلى الصلاة.
وأخرج عن عبيد، قال: رأيت عثمان أتي بثريد فأكل، ثم تمضمض ثم غسل يديه، ثم قام فصلّى بالناس ولم يتوضأ. أخرج عن أبي نوفل: رأيت ابن عباس أكل خبزاً ولحماً حتى سال الودك على أصابعه فغسل يديه وصلّى المغرب. وأخرج عن سعيد بن جبير أن ابن عباس أتي بجفنة من ثريد ولحم عند العصر، فأكل فغسل أطراف أصابعه، ثم صلّى ولم يتوضأ. أخرج عنه: دخل قوم على ابن عباس فأطعمهم طعاماً، ثم صلّى بهِم على طنفسة، فوضعوا عليها وجوههم وجباههم وما توضؤوا. وأخرج عن مجاهد، عن ابن عمر قال: لا نتوضأ من شيء نأكله. وأخرج عن أبي أمامة: أنه أكل خبزاً ولحماً، فصلّى ولم يتوضأ، وقال: الوضوء مما يخرج وليس مما يدخل. وأخرج عن أنس: أكلنا أنا وأبو طلحة وأبو أيوب طعاماً قد مسَّته النار، فقمت لأتوضَّأ، فقال: أتتوضأ من الطيِّبات لقد جئت بها عراقية. وأخرج عن ابن مسعود، قال: لأن أتوضأ من الكلمة الخبيثة أحب إليَّ من أن أتوضأ من اللقمة الطيبة.
فهذه الآثار ونحوها تشيّد عدم انتقاض الوضوء مما مسَّته النار.
(1) أي: عمر.
(2) قوله: ضمرة بن سعيد، بفتح الضاد المعجمية، ابن أبي حَنَّة بالفتح والنون المشددة، عمرو بن غزية الأنصاري المازني، نسبة إلى مازن بكسر الزاي قبيلة من الأنصار، وثقه ابن معين والنسائي، وأبو حاتم والعجلي، وذكره ابن حبّان في "الثقات" كذا في "تهذيب التهذيب".
(3) قوله: عن أبان، بفتح الهمزة وخفة الباء الوحَّدة، هو ابن عثمان بن عفان أمير المؤمنين ثالث الخلفاء المهديين، أبو عبد الله المدني، تابعي له روايات(1/232)
ابن عُثْمَانَ: أَنَّ عُثْمَانَ بنَ عفّانَ أَكَلَ لَحْمًا وخُبزاً (1) فتمضمضَ وغسَلَ يَدَيْهِ (2) ، ثُمَّ مَسَحَهُمَا (3) بِوَجْهِهِ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
33 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى (4) بنُ سَعِيدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عبدَ اللَّهِ بنَ عامرِ (5) بنِ ربيعة
__________
كثيرة، ثقة مات سنة 105 هـ. وأبوه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، ذو النورين، له مناقب جمَّة، استشهد في ذي الحجة، 35 هـ، كذا في "التقريب" و"جامع الأصول".
(1) بالضم.
(2) قوله: غسل يديه، في استحباب غسل اليدين بعد الفراغ من الأكل، وورد استحبابه أيضاً عند بَدْء الأكل في عدة روايات، وأخطأ من أنكر استحبابه.
(3) قوله: ثم مسحهما بوجهه، لعله خشي أن يعلق به شيء من الطعام.
(4) قوله أخبرنا يحيى بن سعيد، هو شيخ الإسلام أبو سعيد يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو الأنصاري المدني قاضي المدينة، حدث عن أنس، والسائب بن يزيد، وأبي أمامة، وسعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد وغيرهم، وعنه شعبة، ومالك، والسفيانان، والحمّادان، وابن المبارك وخلق سواهم، قال أيوب السختياني: ما تركت بالمدينة أفقه منه، وقال يحيى القطان: هو مقدَّم على الزهري، وقال أبو حاتم: ثقة يوازي الزهرن، وقال العجلي: ثقة فقيه فاضل، مات بالهاشمية سنة 143 هـ، كذا في "تذكرة الحفاظ" للذهبي.
(5) قوله: عبد الله بن عامر بن ربيعة، هو عبد الله بن عامر بن ربيعة بن عامر بن مالك بن ربيعة بن حجير بن سلامان بن مالك بن ربيعة بن رُفيدة - بالضم مصغراً - بن عَنز - بالفتح ثم السكون - بن وائل بن قاسط العنزي، وفي نسبه خلاف، أبو محمد، توفي النبي صلى الله عليه وسلم وله أربع أو خمس سنين، وله أخ أكبر منه يسمى بعبد الله واستشهد الأكبر يوم الطائف، ومات الأصغر سنة 85 هـ وقيل سنة(1/233)
العَدَوي (1) ، عَنِ الرَّجُلِ يَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يُصِيبُ الطَّعَامَ (2) قَدْ مسَّته النَّارُ (3) أَيَتَوَضَّأُ (4) مِنْهُ؟ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ أَبِي (5) يفعلُ ذَلِكَ (6) ، ثُمَّ لا يَتَوَضَّأُ.
34 - أخبرنا مالك، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن بُشَير بْنِ يَسَارٍ (7) مَوْلَى بَنِي حَارِثَةَ (8) ، أَنَّ سُويد (9)
__________
70 هـ، وأبوهما عامر كان حليفاً لبني عدي بن كعب، ولذلك يقال له العدوي، هاجر الهجرتين وشهد بدراً وما بعده، مات سنة 32 هـ وقيل سنة 33 هـ وقيل سنة 35 هـ، كذا في "جامع الأصول" لابن الأثير الجزري.
(1) بفتحتين نسبة إلى بني عدي.
(2) أي: يأكله.
(3) صفة للطعام بجعل لامه للعهد الذهني.
(4) بهمزة الاستفهام.
(5) أي: عامر بن ربيعة، وهو ممن هاجر الهجرتين.
(6) أي: يأكل ما مسّته النار.
(7) قوله: عن بشير، هو بشير - بالضم - بن يَسار - بالفتح - الحارثي الأنصاري مولاهم المدني، قال ابن معين: ثقة، وقال ابن سعد: كان شيخاً كبيراً فقيهاً قد أدرك عامة الصحابة وكان قليل الحديث، وقال النسائي: ثقة، كذا في "تهذيب التهذيب".
(8) من الأنصار.
(9) قوله: سويد، هو بالضم ابن نعمان بن مالك بن عائد بن مجدعة بن حشم بن حارثة الأنصاري الأوسي، شهد بَيْعة الرضوان، وقيل أحداً وما بعدها، يُعَدّ في أهل المدينة وحديثه فيهم، كذا في "جامع الأصول".(1/234)
ابن نُعْمَانَ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ (1) خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَر (2) (3) حَتَّى إِذَا كَانُوا بالصَّهباء (4) - وَهِيَ (5) أَدْنَى خَيْبَرَ - صلَّوا الْعَصْرَ، ثُمَّ دَعَا (6) رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأَزْوَادِ (7) ، فَلَمْ يُؤْتَ إلاَّ بالسَّويق، فَأَمَرَ بِهِ (8) فثُرِّيَ (9) لَهُمْ بِالْمَاءِ، فَأَكَلَ (10) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأكَلنا، ثُمَّ قام إلى المغرب، فمضمض (11)
__________
(1) أي: سويد.
(2) أي: عام غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي سنة سبع من الهجرة.
(3) قوله: خيبر، بخاء معجمية مفتوحة وتحتية ساكنة وموحدة مفتوحة وراء، غير منصرف، مدينة كبيرة على ثمانية بُرد من المدينة إلى جهة الشام.
(4) بفتح المهملة والمدّ.
(5) قوله: وهي أدنى خيبر، أي: طرفها مما يلي المدينة، وقال أبو عبيد البكري في "معجم البلدان": هي على بريدين من خيبر، وبيَّن البخاري من حديث ابن عبيد أن هذه الزيادة من قول يحيى بن سعيد أدرجت، كذا في "فتح الباري".
(6) فيه جمع الرفقاء على الزاد في السفر وإن كان بعضهم أكثر أكلاً.
(7) جمع زاد: وهو ما يؤكل في السفر.
(8) أي: بالسويق.
(9) قوله: فثُرِّي، بلفظ مجهول الماضي من التثرية، أي: بُلَّ، يقال: ثريت السويق إذا بلَّلته، والسويق: ما يؤخذ من الشعير والحنطة وغيرها للزاد، كذا في "الكواكب الدراري".
(10) أي: منه.
(11) قوله: فمضمض، أي: قبل الدخول في الصلاة، وفائدة المضمضة من السويق وإن كان لا دسم له أنه يحتبس بقاياه بين الأسنان ونواحي الفم فيشغله، كذا في "الفتح".(1/235)
وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ (1) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (2) نَأْخُذُ، لا وُضُوءَ مِمَّا مسَّته النَّارُ وَلا مِمَّا دَخَلَ (3) (4) ، إِنَّمَا الوضوءُ (5) مِمَّا خَرَجَ مِنَ الْحَدَثِ (6) ، فَأَمَّا مَا دَخَلَ مِنَ الطَّعَامِ مِمَّا مسَّته النَّارُ أَوْ لَمْ تمسَسه فَلا وضوءَ فيه (7) ،
__________
(1) قوله: ولم يتوضأ: قال الخطابي: فيه دليل على أن الوضوء مما مسَّت النار منسوخ لأنه متقدم. وخيبر كانت سنة سبع، قلت: لا دلالة فيه، لأن أبا هريرة حضر بعد فتح خيبر وروى الأمر بالوضوء كما في "صحيح مسلم"، وكان يُفتي به بعد النبي صلى الله عليه وسلم كذا في "الفتح".
(2) أي بما أفادته (في الأصل: "أفاده"، والظاهر: "أفادته") هذه الأخبار.
(3) في جوف الآدمي.
(4) من غير ما مسَّته النار.
(5) قوله: إنما الوضوء مما خرج، كأنه يشير إلى ماروي عن عباس، أنه قال: الوضوء مما خرج وليس مما دخل، أخرجه الدارقطني، وأخرج أيضاً في كتاب "غرائب مالك" عن ابن عمر مرفوعاً: لا ينقض الوضوء إلاَّ ما خرج من قُبُل أو دبر. قال ابن الهُمام في "فتح القدير": ضُعِّف بشعبة مولى ابن عباس، وقال في الكمال: بل بالفضل بن المختار، وقال سعيد بن منصور: إنما يحفظ هذا من قول ابن عباس، وقال البيهقي: رُوي عن عليّ من قوله. انتهى.
(6) قوله: من الحدث، كالغائط والبول والدم السائل والمذي والقيء وغير ذلك مما هو مبسوط في كتب الفقه.
(7) قوله: فلا وضوء فيه، لما مرَّ من الأخبار المرفوعة والآثار الموقوفة، ويعارضها أحاديث الأمر بالوضوء مما مسَّته النار، فروى ابن ماجه، عن أبي هريرة مرفوعاً: توضَّؤوا مما غيَّرت النار، فقال ابن عباس: أتوضأ من الحميم؟ فقال: يا ابن أخي إذا سمعتَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلا تضربْ له الأمثال.
وروي عن عائشة مرفوعاً: توضؤوا مما مسَّت النار.
وروى أبو داود، عن أبي هريرة مرفوعاً: الوضوء مما أنضجت النار.
وروي عن سعيد بن المغيرة: أنه دخل على أم حبيبة، فسقته قدحاً من سويق فدعا بماء، فمضمض، فقالت: يا ابن أختي ألا توضأ؟ إن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: توضَّؤوا مما غيَّرت النار.
وروى الترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعاً: الوضوء مما مسَّت النار ولو من ثور أقط. فقال له ابن عباس: أنتوضأ من الدهن، أنتوضأ من الحميم؟ فقال: يا ابن(1/236)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
أخي، إذا سمعت حديثاً فلا تضرب له مثلاً.
وروى النسائي عن المطلب بن عبد الله، قال: قال ابن عباس: أنتوصَّأ من طعام أجده حلالاً في كتاب الله، لأن النار مسَّته؟ فجمع أبو هريرة حَصى وقال: أشهد عدد هذا الحصى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "توضؤوا مما مسَّت النار".
وروى النسائي، عن أبي أيوب مرفوعاً: توضؤوا مما غيَّرت النار.
وعن أبي طلحة مرفوعاً مثله.
وعن زيد بن ثابت مرفوعاً: توضؤوا مما مسَّت النار.
وروى الطحاوي، عن أبي طلحة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل ثور أقط، فتوضأ منه.
وروى عن زيد بن ثابت مرفوعاً: توضؤوا مما غيَّرت النار.
وعن أم حبيبة مرفوعاً: توضؤوا مما مسَّتْ النار.
وعن القاسم مولى معاوية: أتيتُ المسجد، فرأيت الناس مجتمعين على شيخ يحدِّثهم، قلت: من هذا؟ قالوا: سهل بن الحنظلة، فسمعته يقول: قال(1/237)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكل لحماً فليتوضأ".
وعن أبي قلابة، عن رجل من الصحابة قال: كنا نتوضَّأ مما غيَّرت النار، ونمضمض من اللبن.
وعن أبي هريرة بأسانيد متعددة نحو ما مرَّ.
وعن جابر أن رجلاً قال: يا رسول الله، أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: "إن شئت فعلت وإن شئت لا تفعل"، قال: يا رسول، أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: "نعم".
وروى ابن ماجه، عن البراء: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل؟ فقال: "توضؤوا منها".
ورُوي عن جابر: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتوضأ من لحوم الإبل، ولا نتوضأ من لحوم الغنم.
ومثله في سنن أبي داود وغيره، عن البراء وغيره.
ولاختلاف الأخبار في هذا الباب اختلف العلماء فيه، فمنهم من جعله ناقضاً، بل جعله الزهري ناسخاً لعدم النقض، ومنهم من لم يجعله ناقضاً وحكموا بأنَّ الأمر منسوخ بحديث جابر وغيره وعليه الأكثر، ومنهم من قال: من أكل لحم الإبل خاصة وجب عليه الوضوء وليس عليه الوضوء في غيره أخذاً من حديث البراء وغيره، وبه قال أحمد وإسحاق وطائفة من أهل الحديث وهو مذهب قوي من حيث الدليل، وقد رجَّحه النووي وغيره.
وقد سلك بعض العلماء مسلك الجمع، فاختار بعضهم أن الأمر للاستحباب، واختار بعضهم أن الأمر عزيمة والترك رخصة، واختار بعضهم أن الوضوء في أحاديث الأمر محمول على غسل اليدين. وهو قول باطل أبطله(1/238)
وهو (1) قول أبي حنيفة رحمه الله.
7 - (باب الرجل والمرأة يتوضأان (2) مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ)
35 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ (3) ،
__________
ابن عبد البَرّ وغيره، والكلام في هذا المبحث طويل (انظر السعاية في كشف ما في "شرح الوقاية" 1/268) .
(1) أي: عدم الوضوء فيه.
(2) بأن يكون الماء موضوعاً في إناء واحد ويغترفان منه.
(3) قوله: حدَّثنا نافع، قال شيخ الإسلام الذهبي في "تذكرة الحفاظ": نافع أبو عبد الله العدوي المدني حدَّث عن مولاه ابن عمر، وعن عائشة، وأبي هريرة، وأم سلمة، ورافع بن خديج، وطائفة، وعنه أيوب، وعبيد الله، وابن جريج، والأوْزاعي، ومالك، والليث، وخلق، قال البخاري وغيره: أصح الأسانيد مالك، عن نافع، عن ابن عمر، قال ابن وهب: حدَّثني مالك، قال: كنت آتي نافعاً وأنا غلام حديث السنّ فيحدِّثني، وكان يجلس بعد الصبح في المسجد لا يكاد يأتيه أحد، قال حماد بن زيد ومحمد بن سعد: مات نافع سنة 117 هـ، وقال يحيى بن معين: نافع ديلمي، وعن نافع، قال: خدمت ابن عمر ثلاثين سنة، فأُعطي ابن عمر فيَّ ثلاثين ألفاً، فقال: إني أخاف أن تفتني دراهم، فأعتقني. انتهى ملخَّصاً.
وفي "جامع الأصول": نافع بن سَرْجِس - بفتح السن المهملة الأولى وسكون الراء المهملة وكسر الجيم - مولى ابن عمر كان ديلمياً من كبار التابعين المدنّيين من المشهورين بالحديث، ومن الثقات الذي يُجمع على حديثهم ويُعمل به، ومعظم حديث ابن عمر عليه دار، قال مالك: كنت إذا سمعت حديث نافع، عن ابن عمر لا أبالي أن لا أسمعه من أحد، مات سنة 117 هـ، وقيل سنة 120 هـ.(1/239)
عن ابنِ عمر (1) :
__________
انتهى. ومثله في "إسعاف المبطَّأ برجال الموطأ" للسيوطي، فإنه قال: نافع بن سرجس الديلمي مولى ابن عمر المدني عن مولاه، ورافع بن خديج، وأبي هريرة، وعائشة، وأم سلمة، وطائفة، وعنه بنوه عبد الله، وأبو بكر، وعمر، والزهري، وموسى بن عقبة، وأبو حنيفة، ومالك، والليث، وخلق.
قال البخاري: أصح الأسانيد مالك، عن نافع، عن ابن عمر، مات سنة 117 هـ. انتهى. والذي يعلم من ثقات ابن حبان أن نافعاً مولى ابن عمر ليس بابن سرجس بل هو غيره، فإنه قال أولاً في حرف النون نافع مولى ابن عمر، أصابه ابن عمر في بعض غزواته، كنيته أبو عبد الله، اختُلف في نسبه ولم يصح فيه عندي شيء فأذكره، يروي عن ابن عمر، وأبي سعيد، روى عنه الناس، مات سنة 117 هـ. انتهى. ثم قال: نافع بن سرجس الحجازي مولى بني سباع كنيته أبو سعيد، يروي عن أبي واقد الليثي، روى عنه عبد الله بن عثمان بن خشيم. انتهى وذكر صاحب المشكاة في "أسماء رجال المشكاة" في نسبه مثل ما في "جامع الأصول"، حيث قال: نافع بن سرجس - بفتح السين الأولى وسكون الراء وكسر الجيم - كان ديلمياً من كبار التابعين، سمع ابن عمر وأبا سعيد، وعنه خلق كثير، منهم مالك والزهري. انتهى. وذكر في "التقريب" و"التهذيب" و"تهذيبه" و"الكاشف": نافع أبو عبد الله المدني مولى ابن عمر، مات سنة 117 هـ، من غير ذكر نسبه.
(1) قوله: عن ابن عمر، المراد به حيث أُطلق عبد الله بن عمر بن الخطاب وإن كان له أبْناء آخرون أيضاً، كما أنه يُراد بابن عباس وابن مسعود وابن الزبير عند الإطلاق هو عبد الله. ترجمته مبسوطة في "تذكرة الحفاظ" للذهبي وغيره، وفي "الإسعاف" عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي أبو عبد الرحمن المكي، أسلم قديماً مع أبيه وهو صغير، بل روي أنه أوَّل مولود وُلد في الإسلام، واستُصغر يوم أحد، وشهد الخندق وما بعدها، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه رجل صالح"، ورى(1/240)
كان الرجالُ (1) والنساءٌ يتوضَّؤون (2) جميعاً (3)
__________
عنه بنوه: سالم، وحمزة، وعبد الله، وبلال، وعبيد الله، وعمر، وزيد، وحفيده محمد بن زيد، وأبو بكر بن عبيد، ومولاه نافع، وزيد بن أسلم، وعطاء، وخلق، ومسنده عند بقيّ بن مخلد ألفا حديث وستمائة وثلاثون حديثاً، توفي سنة 73 هـ وقيل سنة 74 هـ. انتهى.
(1) قوله: كان الرجال.... إلخ، فإن قلت: يعارضه ما رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل وَضوء المرأة، قلت: حديث الإباحة أصح، كذا في "الكواكب الدراري".
(2) قوله: يتوضؤون، قال الرافعي: يريد كل رجل مع امرأته، وأنهما كانا يأخذان من إناء واحد، وكذلك ورد في بعض الروايات. قلت: ما تكلم على هذا الحديث أحسن من الرافعي، فلقد خلط فيه جماعة، كذا في "التنوير".
(3) زاد ابن ماجه، عن هشام بن عروة، عن مالك في هذا الحديث: من إناء واحد. وزاد أبو داود من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: ندلي فيه أيدينا. وظاهر قوله "جميعاً" أنهم كانوا يتناولون الماء في حالة واحدة، وحكى ابن التِّين عن قوم أن معناه أن الرجال والنساء كانوا يتوضؤون جميعاً في موضع واحد، هؤلاء على حده وهؤلاء على حده، والزيادة المتقدمة في قوله: من إناء واحد تردّ عليه. وإن كان هذا القائل استبعد اجتماع الرجال والنساء الأجانب، فقد أجاب ابن التِّين عنه بما حكاه عن سحنون أن معناه: كان الرجال يتوضؤون فيذهبون، ثم تأتي النساء فتتوضأن. وهو خلاف الظاهر من قوله جميعاً، وقد وقع مصرَّحاً بوحدة الإناء في صحيح ابن خزيمة في هذا الحديث من طرق معتمر، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: أنه أبصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتطهرون والنساء معهم من إناء واحد كلهم يتطهَّر منه، والأَولى في الجواب أن يقال: لا مانع من الاجتماع قبل نزول الحجاب، وأما بعده بالزوجات والمحارم، كذا في "فتح الباري".(1/241)
فِي زمنِ (1) رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ (3) بِأَنْ تتوضَّأ المرأةُ وتغتسلُ مع الرجلُ من
__________
(1) قوله: في زمن ... إلخ، يُستفاد منه أن الصحابي إذا أضاف فعلاً إلى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكون حكمه الرفع وهو الصحيح، كذا في "الفتح".
(2) وفي نسخة زيادة " من إناء واحد".
(3) قوله: لا بأس..إلخ، قد وردت بذلك أخبار كثيرة: فمن ذلك ما أخرجه أصحاب السنن والدارقطني وصححه الترمذي وابن خزيمة وغيرهما من حديث ابن عباس، عن ميمونة قالت: أجنبتُ فاغتسلتُ من جفنة، فبقيَتْ فيها فضلة، فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم يغتسل منه، فقت له، فقال: الماء ليس عليه جنابة واغتسل منه. هذا لفظ الدارقطني، وقد أعلَّه قوم بأن فيه سماك بن حرب الراوي عن عكرمة، وكان يَقبل التلقين. وردَّه ابن حجر في "فتح الباري" بأنه قد رواه عنه شعبة وهو لا يحمل عن مشايخه إلاَّ صحيح حديثهم.
وروى الشيخان وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم وميمونه كانا يغتسلان من إناء واحد.
وأخرج الطحاوي، عن عائشة: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد.
وعن أم سلمة: كنت إغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من مركن واحد نفيض على أيدينا حتى ننقيها، ثم نفيض علينا الماء.
وعن عائشة: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد يبدأ قبلي، وفي رواية: من إناء واحد تختلف فيه أيدينا من الجنابة.
وعن عروة: أن عائشة والنبي صلى الله عليه وسلم كانا يغتسلان من إناء واحد يغترف قبلها وتغترف قبله.
وعن ابن عباس، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: اغتسلتُ من جنابة، فجاء(1/242)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ، فقالت له، فقال: "إن الماء لا ينجسه شيء".
وهناك أخبار وردت بالمنع عن الوضوء بفضل المرأة: ففي سنن أبي داود والنسائي، عن داود بن عبد الله قالت: لقيتُ رجلاً صحب النبي صلى الله عليه وسلم كما صحبه أبو هريرة أربع سنين، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو يغتسل الرجل بفضل المرأة، وليغترفا جميعاً.
وفي سنن أبي داود، عن الحكم، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طَهور المرأة.
ولابن ماجه، عن عليّ: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأهله يغتسلون من إناء واحد، ولا يغتسل أحدهما بفضل صاحبه.
وله، عن عبد الله بن سَرْجِس: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل وضوء المرأة، والمرأة بفضل وضوء الرجل (وفي الأصل: "الرجل"، والظاهر: "وضوء الرجل") ، ولكن يشرعان جميعاً.
ولاختلاف الأخبار اختلفت الآراء على خمسة أقوال:
الأول: كراهة تطهُّر المرأة بفضل الرجل وبالعكس.
والثاني: كراهة تطهر الرجل بفضل طهور المرأة وجواز العكس.
والثالث: جواز التطهر إذا اغترفا جميعاً وإذا خلت المرأة فلا خير في الوضوء بفضلها.
والرابع: أنه لا بأس بتطهُّر كل منهما بفضل الآخر شَرَعا (في الأصل: "شرعاً"، وهو خطأ، والصواب: "شَرَعا") جميعاً أو تقدّم أحدهما وعليه عامة الفقهاء.
والخامس: جواز ذلك ما لم يكن الرجل جنباً والمرأة حائضاً.
وقد رُوي عن ابن عباس وزيد وجمهور الصحابة والتابعين جواز الوضوء(1/243)
إناءٍ (1) واحدٍ (2) إِنْ بدأتْ قَبْلَهُ أَوْ بَدَأَ قَبْلَهَا (3) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (4) رَحِمَهُ اللَّهُ.
__________
بفضل المرأة إلاَّ ابن عمر، فإنه كره فضل وضوء الجنب والحائض، كذا في "الاستذكار".
والجواب للجمهور عن أحاديث النهي بوجوه: أحدها: أنها ضعيفة بالنسبة إلى أحاديث الإباحة، والثاني: أن المراد النهي عن فضل أعضائها، أي: المتساقط منها. والثالث: أن النهي للاستحباب والأفضل، كذا قال النووي في شرح صحيح مسلم.
(1) بأن يأخذا الماء منه لا أنهما يتوضأان فيه.
(2) قوله: من إناء واحد، نقل الطحاوي ثم القرطبي والنووي الاتفاق على جواز اغتسال المرأة والرجل من الإناء الواحد، وفيه نظر لما حكاه ابن المنذر، عن أبي هريرة أنه كان ينهى عنه، ونقل النوويّ أيضاً الاتفاق على جواز وضوء المرأة بفضل الرجل دون العكس، وفيه نظر أيضاً، فقد أثبت الخلاف فيه الطحاوي، وثبت عن ابن عمر والشعبي والأوزاعي المنع، لكن مقيَّداً بما إذا كان جنباً، وأما عكسه فصحَّ عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه وسعيد بن المسيب والحسن البصري أنهم منعوا عن التطهير بفضل المرأة، وبه قال أحمد وإسحاق، لكن قيَّده بما إذا خَلَتْ به، كذا في "الفتح".
(3) أي: سواء كانت بداية المرأة قبل الرجل أو بالعكس.
(4) وأبي يوسف، ذكره الطحاوي.(1/244)
8 - (بَابُ الْوُضُوءِ مِنَ الرُّعاف) (1)
36 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا رعفَ (2) رَجَعَ فتَوَضَّأَ (3) وَلَمْ يتكلَّمْ، ثُمَّ رَجَعَ (4) فَبَنَى عَلَى مَا صَلَّى.
37 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا يزيدُ (5) بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ قُسيط، أَنَّهُ رَأَى سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ رَعَفَ وَهُوَ يصلِّي فَأَتَى حُجْرة (6) أمِّ سَلَمَةَ زوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأُتي (7) بوَضوءٍ (8) فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَجَع فَبَنَى عَلَى مَا قَدْ صَلَّى.
38 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الَّذِي يَرْعُفُ فيَكْثُرُ (9) عَلَيْهِ الدَّمُ كَيْفَ يصلِّي؟ قَالَ: يُومئ إيماءً
__________
(1) قوله: الرعاف، قال المجد: رعف كنصر ومنع وكرم وعني وسمع، وخرج من أنفه الدم رعفاً ورعافاً كغراب، والرعاف أيضاً الدم بعينه.
(2) بفتح العين وضمها.
(3) حالية، ولو تكلم بال عذر بطلت صلاته.
(4) إلى مُصَلاَّه.
(5) قوله: يزيد، قال في "التقريب": يزيد بن عبد الله بن قسيط - بقاف وسين مهملتين مصغَّراً - ابن أسامة الليثي أبو عبد الله المدني الأعرج ثقة، مات سنة 122 هـ. انتهى.
(6) لأنها أقرب موضع إلى المسجد ليقلّ المشي.
(7) أي: أتاه آتٍ بالماء.
(8) بالفتح ماء الوضوء.
(9) أي: يكثر سيلانه ولا يحتبس.(1/245)
بِرَأْسِهِ (1) فِي الصَّلاةِ.
39 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ المُجَبَّر (2) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ رَأَى سَالِمَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ يُدْخِلُ إِصْبَعَهُ فِي أَنْفِهِ أَوْ (3) إِصْبَعَيْهِ ثُمَّ يُخْرِجُهَا وَفِيهَا (4) شَيْءٌ من دم (5) فيَفْتِلُهُ (6)
__________
(1) مخافة تلويث ثيابه وتنجيس موضع سجوده.
(2) قوله: المُجَبَّر، بضم الميم وفتح الجيم وتشديد موحدة مفتوحة فراء، وإنما قيل له المجبَّر لأنه سقط فتكسَّر فجُبِّر، كذا قاله ابن عبد البر، وفي "جامع الأصول": المجبر بن عبد الرحمن الأصغر بن عمر، يقال اسمه عبد الرحمن. انتهى. وفي "مشتبه النسبة" للحافظ عبد الغني: مجبر بالجيم والباء، والمجبر بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب، روى مالك عن ابنه عبد الرحمن. وفي "شرح الموطأ" للزرقاني: عبد الرحمن بن المجبر القرشي العدوي، روى عن أبيه وسالم، وعنه ابنه محمد ومالك وغيرهما، ووثقه الفلاس وغيره، وقال ابن ماكولا: لا يُعرف في الرواة عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الرحمن، ثلاثة في نسق واحد إلاَّ هذا، فإن اسم المجبر عبد الرحمن، وأبوه عبد الرحمن الأصغر. قال الزبير بن بكار: إنه مات وهو حمل، فلما وُلد سمته حفصة باسم أبيه وقالت: لعل الله يجبره. وقال في "الاستيعاب": كان لعمر ثلاثة أولاد كلهم عبد الرحمن، أكبرهم صحابي، وأوسطهم يكنى أبا شحمة، وهو الذي ضربه أبوه عمر في الخمر، والثالث والد المجبر بالجيم والموحدة الثقيلة. انتهى ملتقطاً.
(3) شك من الراوي.
(4) أي: في الأصبع.
(5) خرج من أنفه.
(6) بكسر التاء، أي: يحرّكه.(1/246)
ثُمَّ يصلِّي وَلا يتوضَّأ (1) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كلِّه (2) نَأْخُذُ، فَأَمَّا الرُّعَاف فَإِنَّ مالكَ بْنَ أَنَسٍ كَانَ لا يَأْخُذُ بِذَلِكَ (3) ، وَيَرَى (4) إِذَا رَعَفَ الرجُلُ في صلاته أن
__________
(1) قوله: ولا يتوضَّأ، لأنه دم غير سائل. ونظيره ما ذكره البخاري تعليقاً أن عبد الله بن أبي أوفى بزق دماً فمضى في صلاته، وذكر أيضاً عن الحسن أنه قال: ما زال المسلمون يُصَلُّون في جراحاتهم، وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن يونس، عن الحسن: أنه كان لا يرى الوضوء من الدم إلاَّ ما كان سائلاً. قال العيني في "عمدة القاري": وإسناده صحيح وهو مذهب الحنفية وحجة لهم على الخصم.
(2) من انتقاض الوضوء بالرعاف والبناء به إذا حدث في الصلاة والاكتفاء بالإيماء إذا كثر، وعدم نقض غير السائل.
(3) قوله: بذلك، أي: بانتقاض الوضوء بالرعاف، فإن عنده لا يُتَوَضَّأ من رعاف ولا قيء ولا قيح يسيل من الجسد، ولا يجب الوضوء إلاَّ من حدث يخرج من ذكر أو دبر أو قبل، ومن نوم، وعليه جماعة أصحابه. وكذلك الدم عنده يخرج من الدبر لا وضوء فيه، لأنه يَشترط الخروج المعتاد، وقول الشافعيّ في الرعاف وسائر الدماء الخارجة من الجسد كقوله إلاَّ ما يخرج من المخرجين سواءٌ كان دماً أو حصاةً أو دوداً أو غير ذلك، وممن كان لا يرى في الدماء الخارجة من غير المخرجين الوضوء طاووس ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة بن أبي عبد الرحمن وأبو ثور، كذا قال ابن عبد البر في "الاستذكار". وذكر العيني في "البناية شرح الهداية" أنه قول ابن عباس وعبد الله بن أبي أوفى وجابر وأبي هريرة وعائشة.
(4) أي: يعتقد ويظن مالك.(1/247)
يغسل (1) الدَّمَ ويستقبِلَ الصلاة (2) .
__________
(1) قوله: إن يغسل الدم، وحمل الآثار الواردة في ذلك على أن المراد بالوضوء غسل الدم، فإنه يسمّى وضوءاً لكونه مشتقاً من الوضاءة، بمعنى النظافة. وأيَّده أصحابه بأنه نُقل عن ابن عباس أنه غسل الدم وصلى، فحَملُ أفعالهم على الاتفاق منهم أَوْلى، كذا قال ابن عبد البر. ثم قال: وخالفهم أهل العراق في هذا التأويل فقالوا: إن الوضوء إذا أُطلق ولم يقيَّد بغسل دم أو غيره، فهو الوضوء المعلوم للصلاة وهو الظاهر من إطلاق اللفظ مع أنه معروف من مذهب ابن عمر وأبيه عمر إيجاب الوضوء من الرعاف، وأنه كان عندهما حدثاً من الاحداث الناقضة للوضوء إذا كان سائلاً، وكذلك كل دم سائل من الجسد. انتهى ("الاستذكار" 1/287) .
(2) قوله: ويستقبل الصلاة، ظاهره أنه لا يجوِّز مالك البناء مطلقاً وليس كذلك لما يظهر من كلام ابن عبد البر، حيث قال: أما بناء الراعف على ما قد صلّى ما لم يتكلم، فقد ثبت ذلك عن عمر، وعليّ، وابن عمر، ورُوي عن أبي بكر أيضاً، ولا يخالف لهم من الصحابة إلاَّ المسور بن مخرمة وحده، ورُوي أيضاً البناء للراعف على ما قد صلّى ما لم يتكلم عن جماعة من التابعين بالحجاز والعراق والشام، ولا أعلم بينهم خلافاً إلاّ الحسن البصري، فإنه يذهب في ذلك مذهب المسور أنه لا يبني من استدبر القبلة في الرعاف ولا في غيره، وهو أحد قولي الشافعي، وقال مالك: من رعف في صلاته قبل أن يصلّي بها ركعة تامَّة، فإنه ينصرف فيغسل عنه الدم، فيرجع فيبتدئ الإقامة والتكبير والقراءة، ومن أصابه الرعاف في وسط صلاته أو بعد أن يركع منها ركعة بسجدتيها، انصرف فغسل الدم وبنى على ما صلّى حيث شاء إلا الجمعة، فإنه لا يصلّيها إلاّ في الجامع، قال مالك: ولولا خلاف من مضى لكان أحب إليّ للراعف أن يتكلَّم ويبتدئ صلاته من أولها، قال مالك: ولا يبني أحد في القيء ولا في شيء من الأحداث ولا يبني إلاَّ الراعف وحده، وعلى ذلك جمهور أصحابه. وعن الشافعي في الراعف روايتان: إحداهما يبني والأخرى لا يبني. انتهى كلامه، فهذا يوضِّح أن مالك بن أنس(1/248)
فَأَمَّا أَبُو حنيفةَ فَإِنَّهُ يَقُولُ بِمَا رَوَى (1) مالكٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ إنَّه (2) ينصرفُ فيتوضّأ (3) ،
__________
يجوز البناء للراعف في بعض الصور.
(1) أي: مستنداً بما روى.
(2) فاعل يقول.
(3) قوله فيتوضأ، بناءً على أن الخارج من غير السبيلين ناقض للوضوء إذا كان سائلاً، وبه قال العشرة المبشرة، وابن مسعود، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وأبو الدرداء، وثوبان، كذا ذكر العيني في "البناية"، وهو قول الزهري، وعلقمة، والأسود، وعامر الشعبي، وعروة بن الزبير، والنخعي، وقتادة، والحكَم بن عيينة، وحماد، والثوري، والحسن بن صالح بن حَيّ، وعبيد الله بن الحسين، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، كذا ذكره ابن عبد البر.
ويشهد له من الأخبار ما أخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأبو داود، والترمذي، وغيرهم، عن أبي الدرداء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضَّأ، قال معدان بن أبي طلحة الراوي، عن أبي الدرداء: فلقيت ثوبان في مسجد دمشق، فذكرت ذلك له، فقال: صدق، وأنا صببت له وضوءاً. قال الترمذي: هو أصح شيء في الباب، وحملُ الوضوء في هذا الحديث على غسل الفم، كما نقل البيهقي عن الشافعي غيرُ مسموع، إذ الظاهر من الوضوء الوضوء الشرعي، ولا يُصرف عنه الكلام إلاَّ عن ضرورة، وهي مفقودة ههنا.
ومن ذلك ما أخرجه ابن ماجه، عن عائشة مرفوعاً: من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي، فلينصرف فليتوضأ، ثم ليبنِ على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم. وفي سنده إسماعيل بن عياش متكلَّم فيه (وأجاب عنه الحافظ الزيلعي بأنَّ إسماعيل بن عياش قد وثقه ابن معين، وزاد في الإسناد "عن عائشة" والزيادة من الثقة مقبولة. نصب الراية (1/37)) .(1/249)
ثُمَّ يَبني (1) عَلَى مَا صلَّى إنْ لَمْ يتكلَّم (2) (3) ،
__________
ومن ذلك، ما أخرجه الدارقطني، عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: إذا قاء أحدكم أو رعف وهو في الصلاة، فلينصرف فليتوضأ، ثم ليجئْ فليبنِ على ما مضى، وفي طريقه ضعف (قال الحافظ في "التلخيص الحبير" (1/275، رقم 430) : رواه الدارقطني وإسناده حسن) حقَّقه ابن الجوزي في "التحقيق".
ومن ذلك ما أخرجه الدارقطني عن علي مرفوعاً: القلس حدث. وفي سنده سوار بن مصعب متروك.
ومن ذلك ما أخرجه ابن عدي في "الكامل" عن زيد مرفوعاً: الوضوء من كل دم سائل، وأعلَّه بأحمد بن الفرج الحمصي (قال ابن أبي حاتم في كتاب "العلل": أحمد بن الفرج كتبنا عنه ومحلّه عندنا الصدق. نصب الراية (1/37)) .
وفي الباب أحاديث كثيرة أكثرها ضعيفة السند، لكن بجمعها تحصل القوة، كما حقَّقه ابن الهُمام في "فتح القدير" والعيني في "البناية"، والمتكفِّل للبسط في ذلك شرحي لشرح الوقاية المسَّى بالسعاية.
(1) قوله: ثم يبني، وكذلك في سائر الأحداث العارضة في أثناء الصلاة، وبه قال ابن أبي ليلى وداود والزهري وغيرهم، ذكره ابن عبد البر.
(2) قوله: إن لم يتكلم، وأما إذا تكلم فسدت صلاته لما مرَّ من حديث عائشة. وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن عمر، أنه قال: من رعف في صلاته فلينصرف، فليتوضأ، فإن لم يتكلم بنى على صلاته، وإن تكلم استأنف، وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر مثله، وذكر عن سعيد بن المسيب، أنه قال: إن رعفت في الصلاة فاشدد منخريك، وصلِّ كما أنت، فإن خرج من الدم شيء فتوضأ وأتم على مامضى ما لم تتكلم.
(3) ولو قرأ القرآن في طريقه فسدت صلاته أيضاً، كذا في "الذخائر الأشرفية".(1/250)
وَهُوَ (1) قولُنا (2) .
وَأَمَّا إِذَا كَثُرَ (3) الرُّعَاف (4) عَلَى الرجُل فَكَانَ إنْ أَوْمَأَ (5) بِرَأْسِهِ إِيمَاءً، لَمْ يَرْعَُفُ وَإِنْ سَجَدَ رَعَفَ. أَوْمَأَ (6) (7) برأسِهِ إِيمَاءً،
__________
(1) أي: قول أبي حنيفة.
(2) أي: أصحاب أبي حنيفة.
(3) شرط.
(4) بحيث لم يمكنه دفعه.
(5) أي: إن أشار.
(6) جزاء.
(7) قوله: أومأ برأسه، هذه المسألة من فروع قاعدة من ابتُلي ببليَّتين يختار أهونهما، فمن كثر رعافه وصار بحال لا ينقطع رعافه إذا سجد، فلو سجد يلزم انتقاض الوضوء به من غير خلف، ولو أومأ يلزم ترك السجدة لكن بخلف وهو الإيماء، فيختار الأهون وهو الإيماء، فإن في اختيار السجدة انتقاض الوضوء وتلويث الثياب والمكان، وفي اختيار الإيماء نجاة من كل ذلك، وقد وافَقَنا مالك في هذه المسألة كما قال ابن عبد البر في شرح أثر سعيد بن المسيب إذ أجاز لمن في الطين والماء الميحط به أن يصلي إيماء من أجل الطين، فالدم أولى بذلك. ولا أعلم مالكاً اختلف قوله في الراعف الذي لا ينقطع رعافه أنه يصلي بالإيماء، واختلف قوله في الصلاة، في الطين والماء الغالب، وفي الصلاة في الطين حديث مرفوع من حديث يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتهى إلى مضيق ومعه أصحابه والسماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم وحضرت الصلاة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤذن، فإذَّن وأقام وتقدَّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلّى بهم على راحلته وهم على رواحلهم يومئ إيماءً ويجعل السجود أخفض من الركوع، وقد(1/251)
وَأَجْزَاهُ (1) ، وَإِنْ كَانَ يَرْعَُفُ كُلَّ حَالٍ (2) سَجَدَ.
وَأَمَّا إِذَا أَدْخَلَ الرجُلُ إصبَعَهُ فِي أَنْفِهِ فَأَخْرَجَ عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْ دَمٍ فَهَذَا لا وضوءَ فِيهِ (3) لأَنَّهُ غَيْرُ سَائِلٍ (4) وَلا قَاطِرٍ، وَإِنَّمَا الْوُضُوءُ فِي الدَّمِ مِمَّا سَالَ أَوْ قطر، وهو قولُ أبي حنيفة (5) .
__________
ذكرناه بإسناده في التمهيد. وعن أنس بن مالك وجابر بن زيد وطاووس أنهم صلّوا في الماء والطين بالإيماء. والدم أحرى بذلك، وذكر ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: إذا غلبه الرعاف، فلم يقدر على القيام والركوع والسجود أومأ برأسه إيماءً. انتهى.
(1) أي: الإيماء.
(2) في نسخة: على كل. أي: سواء أومأ أو سجد.
(3) قوله: فهذا لا وضوء فيه، وكذا إذا عرض شيئاً بأسنانه، فرأي أثر الدم فيه، أو استنثر فخرج من أنفه الدم علقاً علقاً، وكذا إذا بزق ورأى في بزاقه أثر الدم، بشرط أن لا يكون الدم غالباً، إلى غير ذلك من الفروع المذكورة في كتب الفقه، وفيه خلاف زفر، فإنه يوجب الوضوء من غير السائل أيضاً لظاهر بعض الأحاديث، وقد ردَّه الحنفية في كتبهم بأحسن ردّ.
(4) من مخرجه.
(5) قوله: وهو قول أبي حنيفة، بل هو قول الكل إلاّ مجاهداً كما قال ابن عبد البر، فإن كان الدم يسيراً غير خارج ولا سائل فإنه لا ينقض الوضوء عند جميعهم، وما أعلم أحداً أوجب الوضوء من يسير الدم إلاّ مجاهداً وحده، واحتجَّ أحمد بن حنبل في ذلك بأن عبد الله بن عمر عصر بثرة فخرج منها دم ففتله بإصبعه، ثم صلّى ولم يتوضأ، قال: وقال ابن عباس: إذا فحش، وعبد الله بن أبي أوفى بصق دماً ثم صلَّى ولم يتوضأ.(1/252)
9 - (بَابُ الغَسل (1) مِنْ بَوْلِ الصَّبِيِّ) (2)
40 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهري، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ (3) بْنِ عَبْدِ الله، عن أمِّ قيس (4)
__________
(1) بفتح الغين، أي غسل ما أصابه بوله.
(2) قوله: بول الصبي، قال ابن عبد البر: أجمع المسلمون على أن بول كل صبي يأكل الطعام ولا يرضع نجس كبول أبيه، واختلفوا في بول الصبي والصبية إذا كانا يرضعان ولا يأكلان الطعام، فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما: بول الصبيّ والصبية كبول الرجلين مرضعين كانا أو غير مرضعين، وقال الأوزاعي: لا بأس ببول الصبيّ ما دام يشرب اللبن، وهو قول عبد الله بن وهب صاحب مالك. وقال الشافعي: بول الصبيّ الذي لم يأكل الطعام ليس بنجس حتى يأكل الطعام، وقال الطبري: بول الصبية يغسل غسلاً، وبول الصبيّ يُتبع ماءً، وهو قول الحسن البصري، وذكر عبد الرزاق عن معمر وابن جريج، عن ابن شهاب، قال: مضت السنَّة أن يُرش بول الصبي ويُغسل بول الجارية، وقد أجمع المسلمون على أنه لا فرق بين بول المرأة والرجل في القياس، فكذلك بول الغلام والجارية، وقد رُويت التفرقة بينهما في أن بول الصبي لا يُغسل، وبول الصبية يُغسل في آثار ليست بالقوية، وقد ذكرتها في التمهيد. انتهى. وفيه ما فيه.
(3) قوله: عن عبيد الله بن عبد الله، هو عبيد الله بن عبد الله بن عبتة بن مسعود الهذلي أبو عبد الله، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، روى عن أبيه، وابن عباس، وابن عمر، والنعمان بن بشير، وعنه الزهري، وسالم أبو النضر، وطائفة، وثقه أبو زرعة، والعجلي وغير واحد، مات سنة أربع أو خمس وتسعين، وقيل ثمان وتسعين، كذا في "إسعاف المبطأ برجال الموطأ".
(4) قوله: أم قيس، هو أخت عكاشة، أسلمت قديماً وهاجرت إلى المدينة، روى عنها مولاها عدي بن دينار، ووابصة بن معبد وغيرهما كذا في "الإسعاف"، وقال الزرقاني: اسمها جذامة وقيل: آمنة.(1/253)
بنتِ مِحْصَن (1) : أَنَّهَا جاءتْ بابنٍ لَهَا (2) صغيرٍ لَمْ يَأْكُلِ الطعامَ (3) إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَضَعَهُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجْره (4) ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ (5) فدعا بماءٍ فنضح (6) (7)
__________
(1) بكسر الميم وإسكان الحاء وفتح الصاد المهملتين ابن حرثان الأسدي.
(2) قوله: بابن لها صغير، قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على تسميته، قال: وروى النسائي أن ابنها هذا مات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير.
(3) قوله: لم يأكل الطعام، المراد بالطعام ماعدا اللبن التي ترضعه، والتمر الذي يُحنَّك به، والعسل الذي يلعقه للمداواة، وغيرها، فكأنّ المراد لم يحصل له الإغتذاؤ بغير اللبن على الاستقلال، هذا مقتضى كلام النووي في شرح صحيح مسلم وشرح المهذب، وقال ابن التين: يحتمل أنها أرادت أنه لم يتقوّت بالطعام ولم يستغن عن الرضاع.
(4) بفتح الحاء على الأشهر، تكسر وتضم: الحضن.
(5) قوله: ثوبة، أي ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، وأغرب ابن شعبان من المالكية، فقال: المراب به ثوب الصبي، والصواب الأول، قاله ابن حجر.
(6) النضح هو رش الماء من غير دَلْك، والغسل إنما يكون بصب الماء من غير مبالغة.
(7) قوله: فنضح، قال النووي في شرح صحيح مسلم: قد اختلف العلماء في كيفية طهارة بول الصبي والجارية على ثلاثة مذاهب وهي ثلاثة أوجه لأصحابنا، الصحيح المشهور المختار أنه يكفي النضح في بول الصبي، ولا يكفي في بول الجارية، بل لا بد من غسله كسائر النجاسات، والثاني أنه يكفي النضح فيهما، والثالث لا يكفي النضح فيهما، وهذان الوجهان حكاهما صاحب "التتمة" من أصحابنا، وهما شاذّان، وممن قال بالفرق: عليّ وعطاء بن أبي رباح والحسن(1/254)
عليه (1) ولم يَغْسِلْه (2) .
__________
البصري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وجماعة من السلف وأصحاب الحديث، وابن وهب من أصحاب مالك، وروي عن أبي حنيفة، وممن قال بوجوب غسلهما أبو حنيفة ومالك في المشهور عنهما.
واعلم أن هذا الخلاف إنما هو في كيفية تطهير الشيء الذي بال عليه الصبيّ، ولا خلاف في نجاسته، ونَقل بعض العلماء الإجماع على نجاسة بول الصبي، وأنه لم يخالف فيه إلاَّ داود الظاهريّ، قال الخطابيّ وغيره: وليس تجويز في جوّز النضح في الصبي من أجل أن بوله ليس بنجس، ولكنه من أجل التخفيف في إزالته، فهذا هو الصواب، وأما ما حكاه أبو الحسن بن بطّال ثم القاضي عياض عن الشافعية وغيرهم أنهم قالوا بطهارة بول الصبي فيُنضح فحكاية باطلة، وأما حقيقة النضح ههنا فقد اختلف أصحابنا فيها، فذهب الشيخ أبو محمد الجويني والبغوي إلى أن معناه أن الشيء الذي أصابه البول يُغمر بالماء كسائر النجاسات بحيث لو عُصر لا يُعصر، قالوا: وإنما يخالف هذا غيره في أن غيره يُشترط عصره على أحد الوجهين وهذا لا يُشترط، وذهب إمام الحرمين والمحققون إلى أن النضح أني غمر ويكاثر بالماء مكاثرة لا يبلغ جريان الماء وتقاطره، وهذا هو الصحيح المختار، ويدلّ عليه "فنضحه ولم يغسله" (انظر "شرح مسلم" للنووي (باب حكم بول الرضيع) (1/139)) .
(1) قوله: عليه، لمسلم من طريق الليث عن ابن شهاب فلم يزد على أن نضح بالماء، وله من طريق ابن عيينة عن ابن شهاب: فرشّه، وزاد أو عَوانة (في الأصل: "ابن عَوانة"، وهو خطأ) في صحيحه: "عليه".
(2) قوله: ولم يغسله، قال ابن حجر: ادّعى الأصيلي أن هذه الجملة من كلام ابن شهاب وأن الحديث انتهى عند قوله: "فنضحه"، قال: وكذلك روى معمر عن ابن شهاب، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة، قال: فرشّه، ولم يزد على ذلك.(1/255)
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَدْ جَاءَتْ رخصةٌ (1) فِي بَوْلِ الغلام إذا كان لم يأكل الطعام،
__________
انتهى. وليس في سياق معمر ما يدل على ما ادّعاه من الإدراج، وقد أخرجه عبد الرزاق عنه بنحو سياق مالك، لكنه لم يقل: ولم يغسله، وقد قالهما مع مالك: الليثُ وعمرو بن الحارث ويونس بن يزيد، كلهم عن ابن شهاب، أخرجه ابن خزيمة والإسماعيلي وغيرهما من طريق ابن وهب عنهم، وقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب هي أوجه للشافعية، أصحها الاكتفاء بالنضح في بول الصبي لا الجارية، وهو قول علي، وعطاء، والحسن، والزهري، وأحمد، وإسحاق، ورواه الوليد بن مسلم عن مالك، وقال أصحابه: هي رواية شاذة. والثاني يكفي النضح فيهما، وهو مذهب الأوزاعي وحكي عن مالك والشافعي. والثالث هما سواء في وجوب الغسل وبه قال الحنفية والمالكية: قال ابن دقيق العيد: اتبعوا في ذلك القياس وقالوا: المراد بقولها: لم يغسله أي غسلاً مبالغاً فيه، وهو خلاف الظاهر. ويُبعده ورود الأحاديث الأُخر في التفرقة، وقال الخطابي: ليس تجويز من جوّز النضح من أجل أن بول الصِّبيان غير نجس، وأثبت الطحاوي الخلاف، وكذا جزم به ابن عبد البَرّ وابن بطّال ومن تبعهما عن الشافعي وأحمد وغيرهما، ولم يعرف ذلك الشافعية ولا الحنابلة، وكأنهم أخذوا ذلك من طريق اللازم، وأصحاب المذهب أعلم بمرادهم من غيرهم.
(1) قوله: قد جاءت رخصة، أي بالنضح في بول الغلام ما لم يطعم الطعام دون الجارية كما في حديث أم قيس: "فنضحه ولم يغسله"، وفي سنن ابن ماجة من حديث علي مرفوعاً: يُنضح بول الغلام ويُغسل بول الجارية، وفيه عن لبابة قالت: بال الحسين بن علي في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أعطني ثوبك والبَس ثوباً غيره، فقال: إنما يُنضح من بول الذكر ويُغسل من بول الأنثى، وفي سنن أبي داود عن علي ولبابة مثل ما مر، وعن أبي السَّمح قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا أراد أن يغتسل قال: ولّني قفاك فأستره به، فأتي بحسن(1/256)
وَأَمَرَ بغَسْلِ بَوْلِ الْجَارِيَةِ، وغَسْلُهما (1) جَمِيعًا أحبُّ إلينا وهو
__________
أو حسين فبال على صدره، فجئت أغسله، فقال: يُغسل من بول الجارية ويُرشّ من بول الغلام، وللنسائي من حديث أبي السمح مثله.
فهذه الأحاديث وأمثالها تشهد بالرخصة في بول الغلام بالنضح، والفرق (في الأصل: و"الرق"، وهو خطأ) بينه وبين بول الجارية، وحَمَل أصحابُنا النضحَ والرشَّ على الصبّ الخفيف بغير مبالغة ودَلك، والغسل على الغسل مبالغة، فاستويا في الغسل. وقالوا: النضح يُستعمل في الغسل كما في حديث عليٍّ في المذي من قوله صلى الله عليه وسلم: "فينضح فرجه"، أي يغسله، ويؤيده ما روى أبو داود عن الحسن عن أمه أنها أبصرت أم سلمة تصب على بول الغلام ما لم يطعم فإذا طعم غسلَته، وكانت تغسل من بول الجارية.
(1) قوله: وغسلهما جميعاً أحب إلينا، لأنه يحتمل أن يكون المراد بالنضح صبّ الماء عليه، فقد يُسمى ذلك نضحاً، وإنما فُرِّق بينهما لأن بول الغلام يكون في موضع واحد لمخرجه، وبول الجارية يتفرَّق لسعة مخرجه، فأمر في الغلام بالنضح أي صب الماء عليه في موضع واحد، وأراد بغسل بول الجارية أن ينقع في الماء لأنه يقع في مواضع متفرقة، كذا ذكره الطحاوي وأيّده بما أخرجه عن سعيد بن المسيب أنه قال: الرش بالرش، والصب بالصب، ثم أخرج حديث عائشة وفيه: فأتبعه الماء، وقال: وإتباع الماء حكمه حكم الغسل، ألا يرى أن رجلاً لو أصاب ثوبه نجاسة فأتبعه الماء طهر ثوبه، ثم أخرج عن أم الفضل قالت: لما وُلد الحسين أتيت (في الأصل: "أتيتُه به"، والظاهر"أتيتُ") ، به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوضعته على صدره فبال عليه، فأصاب إزاره، فقلت: يا رسول الله أعطني إزارك أغسله، فقال: إنما يُصَبّ من بول الغلام، ويغسلُ من بول الجارية، ثم قال: فثبت أن النضح أراد به الصب حتى لا يتضاد الحديثان المختلفان (انظر: "عمدة القاري" للعيني (1/893)) .(1/257)
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (1) .
41 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هشامُ (2) بنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ (3) ، عَنْ عَائِشَةَ (4) رَضِيَ الله عنها، أنها قالت:
__________
(1) وكذا أبي يوسف، ذكره الطحاوي.
(2) قوله: هشام بن عروة، هو هشام بن عروة بن الزبير بن العوام الأسدي المدني، عن أبيه وعمِّه عبد الله بن الزبير، وعنه مالك وأبو حنيفة وشعبة، وثّقه أبو حاتم وغيره، مات سنة خمس وأربعين ومائة، كذا في "إسعاف المبطّأ برجال الموطأ" للسيوطي.
(3) قوله: عن أبيه، عروة بن الزبير أبو عبد الله، عن أبيه وأخيه عبد الله، وعلي، وابنيه، وعائشة، وعنه بنوه عبد الله ومحمد وعثمان وهشام، مات سنة أربع وتسعين، كذا في "الإسعاف".
(4) قوله: عن عائشة، بنت أبي بكر الصديق زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أمها أمّ رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس، تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة بسنتين، هذا قول أبي عبيدة: بثلاث سنين، وابتنى بها بالمدينة وهي بنت تسع، وقال أبو الضحى عن مسروق: رأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض، وقال عطاء: كانت عائشة أفقه الناس وأعلم الناس، توفيت سنة سبع وخمسين، وقيل سنة ثمانية وخمسين، لسبع عشرة خَلَتْ من رمضان، كذا في "الاستيعاب في أحوال الأصحاب" لابن عبد البر.(1/258)
أُتي (1) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَبِيٍّ (2) فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فأَتْبَعَه (3) (4) إِيَّاهُ (5) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ: تُتْبِعُه (6) إِيَّاهُ غَسْلا (7) حَتَّى تُنْقِيَهُ (8) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ الله.
__________
(1) مجهول.
(2) قوله: بصبيّ، يظهر لي أن المراد به ابن أم قيس، ويحتمل أن يكون الحسن بن عليّ أو الحسين، كذا في "الفتح".
(3) بإسكان المثناة.
(4) الضمير المتصل للبول والمنفصل للماء، ويجوز العكس.
(5) قوله: إيّاه، زاد مسلم من طريق عبد الله بن نمير عن هشام: "ولم يغسله". ولابن المنذر من طريق الثوري عن هشام: "فصبّ عليه الماء". وللطحاوي "فنضحه عليه".
(6) بصيغة الخطاب وكذا قرينه والخطاب عام، وفي بعض النسخ ننقيه ونتبعه بصيغة المتكلم.
(7) أي غسلاً خفيفاً.
(8) من الإنتقاء أو التنقية.(1/259)
10 - (بَابُ الْوُضُوءِ مِنَ الْمَذْيِ) (1)
42 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ (2) (3) أَبُو النَّضر (4) مَوْلَى عُمَرَ (5) بْنِ عُبَيْدِ بْنِ معمرِ التَّيمي (6) ، عَنْ سُلَيْمَانَ (7) بنِ يَسَار، عن المِقدادِ (8) بنِ الأسود،
__________
(1) قوله: من المذي، بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وتخفيف الياء على الأفصح، ثم بكسر الذال وشدّ الياء، ثم الكسر مع التخفيف، ماء أبيض رقيق لَزِج يخرج عند الملاعبة، أو تذكّر الجماع، أو إرادته.
(2) ابن أبي أمية القرشي.
(3) قوله: سالم أبو النضر، المدني، روى عن أنس والسائب بن يزيد، وعنه مالك والليث والسفيانان، وثّقه أحمد وغيره، مات سنة 129 هـ، كذا في "الإسعاف".
(4) بالضاد المعجمة.
(5) بضم العين.
(6) قوله: ابن معمر، بن عثمان بن عمرو بن سعد بن تيم القرشي، كان أحد وجوه قريش وأشرافها، مات بدمشق سنة اثنين وثمانين، وجدُّه معمر صحابي ابن عم أبي قحافة والد أبي بكر الصديق، قاله الزرقاني.
(7) قوله: سليمان بن يسار، أحد الأعلام، قال النسائي: كان أحد الأئمة، وقال أبو زرعة: ثقة مأمون فاضل، مات سنة 107 هـ، كذا في "الإسعاف".
(8) قوله: عن المقداد، بن عمرو بن ثعلبة الكندي، المعروف بابن الأسود كان الأسود بن عبد يغوث، قد تبناه وهو صغير فعُرف به، شهد بدراً والمشاهد كلّها، مات سنة 33 هـ كذا في "الإسعاف". وقال ابن عبد البر: هذا الإسناد ليس بمتصل لأن سليمان بن يسار لم يسمع من المقداد ولا من علي، ولم يرَ واحداً(1/260)
أَنَّ عليَّ (1) بنَ أَبِي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَهُ (2) أنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ إِذَا دَنَا (3) مِنْ أَهْلِهِ فَخَرَجَ مِنْهُ المَذْيُ مَاذَا عَلَيْهِ (4) ؟ فإن عندي (5)
__________
منهما، فإنه ولد سنة أربع وثلاثين، ولا خلاف أن المقداد توفي سنة ثلاث وثلاثين، وبين سليمان وعلي في هذا الحديث ابن عباس أخرجه مسلم، كذا في "التنوير".
(1) قوله: أن عليّ بن أبي طالب، اسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب، نشأ عليّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى معه أول الناس، وشهد المشاهد كلها سوى تبوك، ومناقبه كثيرة، قُتل ليلة الجمعة لثلاث عشرة بقيت من رمضان سنة 40 هـ بالكوفة، كذا في "الإسعاف".
(2) قوله: أمره، وللنسائي أن عليّاً أمر عمّاراً أن يسأل، ولابن حبان أن عليّاً، قال: سألت (وبسط العيني اختلاف الروايات في ذلك (عمدة القاري 2/36) . واختلف العلماء في الجمع بينها بأقوال: فجمع ابن حبان بأن علياً رضي الله عنه أمر عماراً أن يسأل ثم أمر المقداد بذلك ثم سأل بنفسه، قال الحافظ في الفتح (1/263) وهو جمع جيد إلا آخره فيخالفه قوله: "وأنا أستحيي" فتعيَّن حملهُ على المجاز بأن بعض الرواة أطلق أنه سأله لكونه الآمر بذلك، وبه جزم الإسماعيلي والنووي.
وجمع بعضهم بأن السؤال بالواسطة كان لخصوص نفسه وباشر بنفسه عن مطلق حكم المذي، وقيل غير ذلك. انظر "الكوكب الدرّيّ على جامع الترمذي 1/146") .
(3) أي قرب.
(4) أي ما يجب عليه.
(5) أي تحت عقدي.(1/261)
ابنَته (1) (2) وأنا أَستَحي (3) أَنْ أسأَلهُ، فَقَالَ المِقداد: فسألتُه، فَقَالَ: إِذَا وَجَدَ أحدُكم ذَلِكَ فلينضَح (4) فَرْجَهُ، وليتوضَّأ وُضوءَهُ (5) لِلصَّلاةِ (6) .
43 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي زيدُ (7) بنُ أسلَمَ،
__________
(1) فاطمة.
(2) علة لأمره بالسؤال وعدم سؤاله بنفسه.
(3) قوله: وأنا أستحيي ... إلخ، ذكر اليافعي في "الإرشاد والتطريز بفضل تلاوة القرآن العزيز" أن الحياء على أقسام: حياء جناية كآدم لما قيل له أفِراراً منا؟ قال: بل حياء منك، وحياء التقصير كحياء الملائكة يقولون: ما عبدناك حق؟؟ عبادتك، وحياء الإجلال كإسرافيل تسربل بجناحه حياءً من الله، وحياء الكرم كحياء النبي عليه السلام كان يستحيي من أمته أن يقول: اخرجوا، فقال الله: {ولاَ مُسْتَأنسين لِحَديثٍ} . وحياء حشمة كحياء عليّ حين أمر المقداد بالسؤال عن المذي لمكان فاطمة. وحياء الاستحقار كموسى قال: لتعرض لي الحاجة من الدنيا فأستحيي أن أسألك يارب. فقال له: سلني حتى ملح عجينك وعلف شاتك. وحياء هو حياء الرب جل جلاله حين يستر على عبده يوم القيامة. هذا ما نقله اليافعي، عن "رساله" القشيري.
(4) قوله: فلينضح، ضبطه النووي بكسر الضاد، وقال الزركشي: كلام الجوهري يشهد له (في الأصل: "يشهده"، والظاهر: "يشهد له") ، لكن نقل عن صاحب الجامع أن الكسر لغة والأفصح الفتح.
(5) أي مثل وضوئه.
(6) قوله: للصلاة، قال الرافعي: لقطع احتمال حمل التوضؤ على الوضاءة الحاصلة بغسل الفرج.
(7) قوله: زيد، أبو عبد الله، قال يعقوب بن شيبة: ثقة من أهل الفقه والعلم، كان عالماً بالتفسير له فيه كتاب، توفي سنة 136 هـ، كذا في "الإسعاف".(1/262)
عَنْ أَبِيهِ (1) ، عَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنِّي لأَجِدُهُ (2) يتحدَّرُ (3) مِنِّي مثلَ الخُرَيْزة (4) ، فَإِذَا وَجَدَ أَحدُكم ذَلِكَ فليَغْسِلْ فَرْجَهُ وليتوضَّأْ وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ: يَغْسِلُ موضعَ (5) المذْيِ (6) وَيَتَوَضَّأُ (7) وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله.
__________
(1) أسلم، مولى عمر ثقة مخضرم، مات سنة 87 هـ، كذا في "الإسعاف" وغيره.
(2) أي المذي.
(3) من الحدور ضد الصعود.
(4) تصغير الخرزة وهو الجوهرة، وفي رواية عنه مثل الجمانة وهي اللؤلؤة.
(5) الذي خرج منه المذي.
(6) قوله: موضع المذي، يشير إلى أن المراد بغسل الفرج هو موضع المذي لا غسل الفرج كاملاً (قد ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد إلى غسل موضع النجاسة من الذكر، وعن مالك وأحمد رواية غسل كل الذكر، وعن أحمد رواية ودوب غسل الذكر والإنثيين كما في "المغني" (1/166) و"شرح المهذب" (2/144)) ، وإنما أطلق بناءً على أنه غالباً يتفرّق في مواضع من الذكر فيغسل كله احتياطاً، وأما إذا علم موضعه فيكتفي بغسله.
(7) قوله: ويتوضأ، لا رخصة لأحد من علماء المسلمين في المذي الخارج على الصحة، وكلهم يوجب الوضوء منه، وهي سنة مجمع عليها بلا خلاف، فإذا كان خروجه لفساد أو علة فلا وضوء فيه عند مالك (خلافاً للأئمة الثلاثة إذ قالوا بنقض الوضوء إلاَّ أن الشافعي يقول: يتوضأ لكل صلاة، وقالت الحنفية: يتوضأ لوقت كل صلاة. انظر (أوجز المسالك 1/267)) ولا عند سلفه وعلماء بلده لأن ما لا يرقأ ولا ينقطع فلا وجه للوضوء منه، كذا في "الاستذكار".(1/263)
44 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الصَّلْتُ (1) بنُ زُيَيْد أَنَّهُ سَأَلَ سليمانَ (2) بنَ يَسَارٍ عَنْ بللٍ (3) يَجِدُهُ فَقَالَ: انْضَحْ (4) مَا تَحْتَ ثوبِكَ (5) والْهَ (6) عَنْهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (7) نَأْخُذُ، إِذَا كَثُرَ ذَلِكَ (8) مِنَ الإِنْسَانِ، وَأَدْخَلَ الشيطانُ عَلَيْهِ فِي الشَّكِّ، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله.
__________
(1) الصلت، بفتح الصاد المهملة وسكون اللام ابن زُيَيْد مصغر زيد أو زياد الكندي، وثقه العجلي وغيره. قاله الزرقاني.
(2) أبو أيوب الهلالي المدني.
(3) أراد به المذي. وفي نسخة: البلل.
(4) أي اغسل.
(5) أي إزارك أو سروالك.
(6) قوله: والْهَ، أمر من لهي يلهى كرضي يرضى: اشتغل عنه بغيره دفعاً للوسواس، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأت فانتضح". رواه ابن ماجه عن أبي هريرة، أي لدفع الوسواس حتى إذا أحسّ ببلل قدّر أنه بقية الماء لئلا يشوِّش الشيطان فكره ويتسلّط عليه بالوسوسة.
(7) أي بنضح الماء والإعراض عنه.
(8) أي خروج المذي.(1/264)
11 - (بَابُ الْوُضُوءِ مِمَّا يَشْرَبُ مِنْهُ السِّبَاعُ (1) وَتَلِغُ فِيهِ) (2)
45 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ (3) ، عَنْ محمدِ بنِ إبراهيمَ (4) بنِ الْحَارِثِ التَّيْمي، عَنْ يَحْيَى (5) بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حاطبِ بنِ أَبِي بَلْتَعَةَ (6) أنَّ عُمَرَ (7) بنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه خرج في ركبٍ (8)
__________
(1) قوله: السباع، هي ما يفترس الحيوان ويأكله قهراً كالأسد والنمر والذئب ونحوها، كذا في "النهاية".
(2) يقال: ولغ يلغ ولغاً وولوغاً أي شرب منه بلسانه وأكثر ما يكون الولوغ في السباع، كذا في "النهاية".
(3) قوله: يحيى بن سعيد، بن قيس الأنصاري أبو سعيد المدني قاضيها، عن أنس وعدي بن ثابت وعلى بن الحسين، وعنه وأبو حنيفة ومالك وشعبة، قال ابن سعد: ثقة كثير الحديث، حجة ثبت، مات سنة 143 هـ، كذا في "الإسعاف".
(4) قوله: محمد بن إبراهيم، وثقه ابن معين وأبو حاتم والنسائي وغيرهم، وقال أحمد: في حديثه شيء، يروي مناكير، مات سنة 120 هـ، وهو راوي حديث: "إنما الأعمال بالنيات" في رواية محمد بن الحسن، كذا في "الإسعاف".
(5) ثقة من التابعين، مات سنة 104 هـ، روى له مسلم والأربعة، قاله الزرقاني.
(6) قوله: بلتعة، بفتح الباء وسكون اللام بعده تاء فوقية مثناة مفتوحة ثم عين مهملة.
(7) منقطع فإن يحيى لم يدرك عمر.
(8) الركب اسم جمع كنفر ورهط، وقيل هو جمع راكب كصاحب وصحب.(1/265)
فِيهِمْ عمرُو (1) بنُ الْعَاصِ، حَتَّى وَرَدُوا حَوْضًا، فَقَالَ عمرُو بنُ الْعَاصِ: يَا صاحبَ الحوضِ هل تَرِدُ (2) حوضَكَ السباع (3) ؟
__________
(1) قوله: فيهم عمرو بن العاص، هو عَمرو - بالفتح - ابن العاص بن وائل السهمي الصحابي، أسلم عام الحديبية، وولي إمرة مصر مرتين، ومات بها سنة نيّف وأربعين، وقيل: بعد الخمسين، كذا ذكره الزرقاني في "شرح المرطأ"، وقال هو في "شرح المواهب اللدنية": العاص بالياء وحذفها، والصحيح الأول عند أهل العربية، وهو قول الجمهور، كما قال النووي وغيره.
وفي "تبصير المنتبه": قال النحاس: سمعتُ الأخفش يقول: سمعت المبرد يقول: هو بالياء لا يجوز حذفها، وقد لهجت العامة بحذفها، قال النحاس: هذا مخالف لجميع النحاة، يعني أنه من الأسماء المنقوصة، فيجوز فيه إثبات الياء وحذفها، والمبرد لم يخالف النحويين في هذا، وإنما زعم أنه سمي العاصي لأنه أعيص بالسيف، أي: أقام السيف مقام العصا، وليس هو من العصيان، كذا حكاه الآمدي هنا، قلت: وهذا إن مشى في العاصي بن وائل، لكنه لا يطرّد لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم غيَّر اسم العاصي بن الأسود والد عبد الله، فسمَّاه مطيعاً، فهذا يدل على أنه من العصيان، وقال جماعة: لم يسلم من عصاة قريش غيره، فهذا يدل لذلك أيضاً.
(2) قوله: هل ترد، أي: هل تأتي إليه فتشرب منه سباع البهائم كالذئب، والضبع، والثعلب، ونحوها، فإن سؤرها نجس كسؤر الكلب لاختلاطه بلعاب نجس متولِّد من لحمٍ حرامٍ أكلُهُ، ولعله كان حوضاً صغيراً يتنجَّس بملاقاة النجاسة، وإلاَّ فلو كان كبيراً لما سأل، ومعنى قوله "لا تخبرنا"، أي: ولو كنتَ تعلم أنه ترده السباع، لأنّا نحن لا نعلم ذلك، فالماء طاهر عندنا، فلو استعملناه استعملنا ماءً طاهراً، كذا في "الحديقة النديَّة" لعبد الغني النابلسي شرح "الطريقة المحمدية" للبركلي.
(3) لأجل الشرب حتى تمتنع منه.(1/266)
فَقَالَ عمرُ بْنُ الخطابْ: يَا صاحبَ الْحَوْضِ، لا تُخْبِرْنا (1) ، فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّباع (2) وتَرِدُ علينا (3) .
__________
(1) قوله: لا تخبرنا، الأظهر أن يُحمل على إرادة عدم التنجيس وبقاء الماء على طهارته الأصلية، ويدل عليه سؤال الصحابي، وإلاَّ فيكون عبثاً، ثم تعليله بقوله: "فإنّا" إشارة إلى أنَّ هذا الحال من ضرورات السفر، وما كُلِّفنا بالتحقيق، فلو فتحنا هذا الباب على أنفسنا لوقعنا في مشقة عظيمة، كذا في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" لعلي القاري رحمه الله.
(2) هذا بظاهره يؤيِّد مذهب مالك أن الماء طهور لا ينجسه شيء إلاَّ ما غيَّر لونه أو طعمه أو ريحه.
(3) قوله: وترد....إلخ، قال ابن الأثير في "جامع الأصول": زاد رزين قال: زاد بعض الرواة في قول عمر: "وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لها ما أخذت في بطونها، وما بقي فهو لنا طهور وشراب. انتهى. ونظيره ما رواه ابن ماجه، عن أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة، تَرِدُها السباع والكلاب والحمر، وعن الطهارة منها، فقال: "لها ما حملت في بطونها، ولنا ما غبر (معناه: "بقي". انظر مجمع بحار الأنوار 4/3) طهور". وروى الدارقطني في سننه، عن جابر، قيل: يا رسول الله، أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: "نعم، وبما أفضلت السباع". وفي سندهما متكلم فيه.
وبهذه الأحاديث ذهب الشافعية والمالكية إلى أن سؤر السباع طاهر لا يضر مخالطته بالماء، وأما أصحابنا الحنفية فقالوا بنجاسته (سؤر السباع طاهر عند مالك، وكذلك عند الشافعي، وسؤر سباع الوحش نجس عند الإمام وهما روايتان عن الحنابلة (أوجز المسالك: 1/211)) ، وحملو أثر عمر على أن غرضه من قوله: "لا تخبرنا" أنك لو أخبرتنا لضاق الحال فلا تخبرنا، فإنا نرد على(1/267)
قَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا كَانَ الحوضُ عَظِيمَا إنْ (1) حُرِّكتْ (2) مِنْهُ ناحيةٌ (3) لَمْ تتحرَّكْ بِهِ الناحيةُ الأُخْرَى لَمْ يُفسِدْ (4) ذَلِكَ الماءَ مَا وَلِغَ فِيهِ مِنْ سَبُع، وَلا مَا وَقَعَ فِيهِ من قَذَر (5)
__________
السباع وترد علينا، ولا يضرنا ورودها عند عدم علمنا، ولا يلزمنا الاستفسار عن ذلك. ولو كان سؤر السبع طاهراً لما منع صاحب الحوض عن الإخبار، لأن إخباره حينئذٍ لا يضر، وأما حمله على أن كل ذلك عندنا سواء أخبرتنا أو لم تخبرنا، فلا حاجة إلى إخبارك كما ذكره المالكية والشافعية فهو وإن كان محتملاً لكن ظاهر سياق الكلام يأباه.
وأما قول ابن عبد البر: المعروف عن عمر في احتياطه في الدَّين أنه لو كان ولوغ السباع والحمير والكلب يفسد ماء الغدير لسأل عنه، ولكنه رأى أنه لا يضرّ الماء. انتهى. فمنظور فيه بأن مقتضى الاحتياط ليس أن يسأل عن كل أمر عن نجاسته وطهارته، فإنَّ في الدين سعة (قلت: وإذا كان الغدير عظيماً فولوغ السباع لا يفسده اتفاقاً، فلا حجة فيه لهم ما لم يثبت كون الغدير صغيراً) .
(1) الجملة صفة مبيِّنة لمعنى العِظَم.
(2) بصيغة الخطاب العام، وما بعده مفعول، أو بصيغة المجهول وما بعده فاعل.
(3) أي: جانباً.
(4) قوله: لم يفسد، أي: لم ينجسه شيء من النجاسات الواقعة فيه، لأنه كالماء الجاري لعدم وصول النجاسة من جانب وقع فيه إلى جانب آخر، فيجوز الوضوء من الجانب الآخر، ووسّع متأخِّرو أصحابنا، فجوَّزوا الوضوء من كل جوانبه إلحاقاً له بالجاري.
(5) بفتحتين، أي: عين النجاسة.(1/268)
إلاَّ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى رِيحٍ أَوْ طَعْمٍ (1) ، فَإِذَا كَانَ حَوْضاً صَغِيرًا إنْ حُرِّكت مِنْهُ نَاحِيَةٌ تحرَّكَتْ الناحيةُ الأُخْرَى فَوَلَغَ (2) فِيهِ السِّبَاعُ أَوْ وَقَعَ فِيهِ الْقَذَرُ لا يَتَوَضَّأُ (3) مِنْهُ، أَلا يُرَى (4) (5) أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَرِهَ أَنْ يُخْبِرَهُ وَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ (6) ، وَهَذَا كلُّه قولُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ الله (7) .
__________
(1) قوله: أو طعم، وكذا لون لحديث: "الماء طهور لا ينجسه شيء إلاَّ ما غير طعمه أو لونه أو ريحه"، أخرجه الدارقطني والطحاوي وغيرهما من طريق راشد بن سعد مرسلاً، فإن هذا الحديث محمول عند أصحابنا على الماء الجاري أو ما في حكمه.
(2) أي: شربت منه بلسانها.
(3) قوله: لا يتوضأ منه، لاختلاط النجاسة به، وقد قال الله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (الأعراف: آية 157) والنجاسة من الخبائث، ولم يفرِّق بين حالَتيْ انفرادها واختلاطها، فوجب تحريم استعمال كل ما تيقَّنَا فيه اختلاط النجاسة، وورد في السنَّة: "لا يبولّنَّ أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل منه"، ومعلوم أن البول في الماء الكثير لا يغيِّر طعمه ولونه وريحه، كذا في "البحر الرائق".
(4) في نسخة "ألا ترى".
(5) قوله: ألا يرى ... إلخ، سند لعدم جواز التوضّؤ من الحوض الصغير عند وقوع النجاسة فيه بأن عمر منع صاحب الحوض عن الإخبار لئلاّ يشكل عليه الأمر، وما ذلك إلاَّ لأنه لو أخبر به لَلَزمه (في الأصل: "لزمه"، والظاهر "لَلَزمه") تركه.
(6) أي: عن الإخبار.
(7) قوله: قول أبي حنيفة، المذاهب في هذا الباب خمسة عشر:(1/269)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الأول: مذهب الظاهرية: أن الماء لا يتنجَّس مطلقاً وإن تغيَّر لونه أو طعمه أو ريحه، لحديث: "الماء طهور لا ينجِّسه شيء". أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم.
والثاني: مذهب المالكية: أنه لا يتنجَّس إلاَّ ما تغيَّر لونه أو طعمه أو ريحه، لما مرَّ من حديث فيه الاستثناء.
والثالث: مذهب الشافعية: أنه إن كان قلتين لا يتنجَّس وإلاَّ يتنجَّس لحديث: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث. أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما.
هذه ثلاثة مذهب والباقية لأصحابنا.
الأول: ما ذكره محمد ههنا، وهو التحديد بالتحريك، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه القدماء، وغلط من نسب إليه غيره.
والثاني: التحديد بالكدرة.
والثالث: التحديد بالصبغ.
والرابع: التحديد بالسبع في السبع.
والخامس: التحديد بالثمانية في الثمانية.
والسادس: عشرين في عشرين.
والسابع: العشر في العشر، وهو مذهب جمهور أصحابنا المتأخِّرين.
والثامن: خمسة عشر في خمسة عشر.
والتاسع: اثنا عشر في اثنا عشر.(1/270)
12 - (بَابُ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ) (1)
46 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا صفوانُ بنُ سُلَيم، عَنْ سعيدِ بنِ سلمةَ بنِ (2) الأَزْرَقِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي بُردة، عن أبي هريرة (3) : أن
__________
وفي المذهب الأول ثلاث روايات: التحريك باليد، والتحريك بالغسل، والتحريك بالوضوء.
فالمجموع اثنا عشر مذهباً لأصحابنا، فإذا ضممته إلى ما تقدَّم، صار المجموع خمسة عشر، ولقد خضت في بحار هذه المباحث وطالعت لتحقيقها كتب أصحابنا المبسوطة، وكتب غيرهم المعتمدة، فوضع لنا ما هو الأرجح منها، وهو الثاني، ثم الثالث، ثم الرباع، وهو مذهب قدماء أصحابنا وأئمتنا، والباقية مذاهب ضعيفة، وقد أشبعنا الكلام فيها في السعاية (ص 280) .
(1) قوله: بماء البحر، قد جاء عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو كراهة الوضوء بماء البحر، وليس فيه لأحد حجة مع خلاف السنَّة، وقد روى قتادة عن موسى بن سلمة الهذلي: سألت ابن عباس، عن الوضوء بماء البحر، قال: هما البحران لا تبالي بأيهما توضَّأت. كذا في "الاستذكار".
(2) في نسخة آل بني.
(3) قوله: عن أبي هريرة، هذا الحديث أخرجه الشافعي من طريق مالك، وأصحابُ السنن الأربعة، وابن خزيمة، وابن حبان، وابن الجارود، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، وصححه البخاري، وتعقَّبه ابن عبد البر بأنه لو كان صحيحاً لأخرجه في صحيحه، وردَّه ابن دقيق العيد وغيره بأنه لم يلتزم استيعاب كل الصحيح، ثم حكم ابن عبد البر بصحته لتلقّي العلماء له بالقبول. فقبله من حيث المعنى وردَّه من حيث الإسناد، وقد حكم بصحة جملة من الأحاديث التي لا تبلغ درجة هذا، ورحج ابن مَنْدَهْ صحته، وصحَّحه الضياء وابن المنذر والبغوي، ومداره على صفوان بن سليم، عن سعيد بن سلمة، عن المغيرة بن أبي بردة، عن(1/271)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
أبي هريرة. قال الشافعي: في إسناده من لا أعرفه، قال البيهقي: يحتمل أنه يريد سعيداً، أو المغيرة، أو كليهما، مع أنه لم يتفرَّد به سعيد، فقد رواه عن المغيرة يحيى بن سعيد الأنصاري، إلاَّ أنه اختلف عليه، فرواه ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن رجل من العرب يقال له المغيرة بن عبد الله بن أبي بردة، أن ناساً من بني مدلج أتَوْا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذكره، وقيل: عنه، عن المغيرة، عن رجل من بني مدلج، وقيل: عنه، عن المغيرة عن أبيه، وقيل: عنه، عن المغيرة بن عبد الله أو عبد الله بن المغيرة، وقيل عنه عن عبد الله بن المغيرة عن أبيه عن رجل من بني مدلج اسمه عبد الله وقيل عنه عن المغيرة عن عبد الله بن المغيرة عن أبي بردة مرفوعاً، وقيل: عنه، عن المغيرة، عن عبد الله المدلجي، ذكر هذا كلَّه الدراقطني، وقال: أشبهها بالصواب قول مالك، فأما المغيرة فقد روى عن أبي داود، أنه قال: المغيرة، عن أبي بردة معروف، وقال ابن عبد البر: وجدت اسمه في مغازي موسى بن نصير، ووثَّقه النسائي، فمن قال: إنه مجهول لا يعرف فقد غلط. واما سعيد بن سَلَمة - بفتحتين - فقد تابع صفوان على روايته له عنه أبو كثير الجلاّح، رواه عنه الليث بن سعد، وعمرو بن الحارث وغيرهما، ومن طريق الليث رواه أحمد والحاكم والبيهقي، وسياقه أتم، واختُلف في اسم السائل في هذا الحديث، فوقع في بعض الطرق التي ذكرها الدارقطني أن اسمه عبد الله المدلجي، وأورده الطبراني في من اسمه عبد، وتبعه أبو موسى فقال: اسمه عبد بن زمعة البلوي، وقال ابن مَنيع: بلغني أن اسمه عبد، وقيل: عبيد - مصغراً -، وقال السمعاني في الأنساب إن اسمه العركي وهو غلط فإنما العركي وصف له وهو ملاح السفينة، وقال البغوي: اسمه حميد بن صخر. هذا ملخَّص ما في: "التلخيص الحبير (في الأصل: "تلخيص الحبير"، وهو تحريف) في تخريج أحاديث شرح الرافعي الكبير" للحافظ ابن حجر العسقلاني. وفي "إسعاف المبطأ": صفوان بن سُليم - بالضم - المدني الزهري مولاهم الفقيه، روى عن مولاه حميد بن عبد الرحمن بن عوف، وابن عمر، وأنس،(1/272)
رجلا سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا نركبُ البَحْرَ (1) ونحمِلُ معنا القليلَ من الماء،
__________
وجماعة، وعنه مالك وزيد بن أسلم ومحمد بن المنكدر والليث والسفيانان، قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث عابداً، وقال: هو رجل يستشفى بحديثه، وينزل القطر من السماء بذكره، مات سنة 184 هـ، وسعيد بن سلمة - بفتحتين - المخزومي روى عنه صفوان والجلاح، وثقه النسائي، والمغيرة بن أبي بردة حجازي من بني عبد الدار، وثقه النسائي. انتهى. وقال الترمذي في جامعه: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال: صحيح، فقلت. إن هشيماً يقول: فيه المغيرة بن بَرْزة - أي: بفتح الباء الموحَّدة وسكون الراء المهملة ثم زاي معجمة - فقال: وهم فيه، إنما هو المغيرة بن أبي بردة - أي بضم الباء وسكون الراء المهلمة بعدها دال مهملة. انتهى. وفي الإكمال: سئل أبو زرعة عن اسم والد المغيرة، فقال: لا أعرفه. انتهى. وفي "الإلمام بأحاديث الأحكام" لابن دقيق العيد: ذكرنا في كتاب "الإمام" وجوهَ التعليل التي يُعلَّل بها هذا الحديث، وحاصلها راجع إلى الاضطراب في الإسناد. والاختلاف في بعض الرواة، ودعوى الجهالة في سعيد بن سلمة، لكونه لم يروِ عنه إلاَّ صفوان فيما زعم بعضهم، وفي المغيرة بن أبي بردة، وأيضاً فمن العلل الاختلاف في الإسناد والإرسال. ويقدم الأحفظ المرسل على المسند الأقل حفظاً.
وهذا الأخير إذا ثبتت عدالة المسند غير قادح على المختار عند أهل الأصول، وأما الجهالة المذكورة في سعيد، فقد قدمنا من كلام ابن منده ما يقتضي رواية الجلاّح عنه مع صفوان، وذلك - على المشهور عند المحدثين - يرفع الجهالة عن الراوي، وأما المغيرة، فقد ذكرنا من كلام ابن منده أيضاً موافقة يحيى بن سعيد لسعيد بن سلمة في الرواية، عن المغيرة أيضاً، ووقع لنا ثالث يروي عن المغيرة، وهو يزيد بن يحيى القرشي، وأما الاختلاف والاضطراب، فقد ذكرنا ما قيل في الجواب عنه في "الإمام".
(1) المَلِح لأنه المتوهَّم فيه، لأنه مالح وريحه منتن.(1/273)
فإنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشنا (1) (2) ، أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هُوَ (3) الطَّهورُ (4) مَاؤُهُ الحَلالُ مَيْتَتُهُ (5) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخُذُ: ماءُ البحرِ طهورٌ كغيرِه (6) مِنَ المياه،
__________
(1) بكسر الطاء.
(2) أي: نحن ورفقاؤنا.
(3) قوله: هو الطهور ... إلخ، كذا أخرجه النسائي والترمذي وأبو داود وابن ماجة وابن حبّان، وفي رواية الدارمي في سننه من حديثه: أتى رجال من بني مُدلِج، فقالوا: يا رسول الله، إنّا أصحاب هذا البحر نعالج الصيد على رمث فنغرب فيه الليلة والليلتين والثلاث والأربع، ونحمل معنا من العَذب لشفاهنا، فإن نحن توضَّأنا خشينا على أنفسنا، وإن نحن آثرنا بأنفسنا وتوضأنا من البحر وجدنا في أنفسنا من ذلك، فقال: "توضؤوا منه، فإنه الطاهر ماؤه الحلال ميتته"، أخرج نحوه ابن ماجة والحاكم وابن حبان والدارقطني وأحمد وأبو نعيم من حديث جابر والحاكم من حديث علي، وعبد الرزاق من حديث أنس، والحاكم والدارقطني من حديث ابن عباس، وابن عبد البر من حديث الفِرَاسي، والدارقطني والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو، وابن حبان والدارقطني من حديث أبي بكر.
(4) أي: الطاهر في ذاته المطهِّر لغيره.
(5) قوله: الحلال ميتته، قال الرافعي: لما عرف النبي صلى الله عليه وسلم اشتباه الأمر على السائل في ماء البحر أشفق أن يشتبه عليه حكمُ ميتته، وقد يُبتلى بها راكب البحر فعقَّب الجواب عن سؤاله ببيان حكم الميتة، كذا في "التنوير".
(6) قوله: كغيره من المياه، من ماء السماء والثلج والبرَد وغير ذلك، وأما كراهة التوضّؤ به كما هو منقول عن ابن عمر وابن عمرو فليس لأمر في طهارته، بل لأن تحت البحر ناراً، البحار تسجر يوم القيامة ناراً، كما ذكره عبد الوهاب الشعراني في "اليواقيت".(1/274)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْعَامَّةِ (1) .
13 - (بَابُ الْمَسْحِ (2) عَلَى الخُفَّين)
47 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شهابٍ الزُّهري، عَنْ عبَّادِ بنِ زِيَادٍ (3) مِن وُلْدِ (4)
__________
(1) أي: عامة العلماء.
(2) قوله: المسح على الخفين، نقل ابن المنذر، عن ابن المبارك: ليس في مسح الخفين عن الصحابة اختلاف، فإنَّ كلّ من رُوي عنه إنكاره رُوي عنه إثباته، وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً أنكره إلاَّ مالكاً في رواية، أنكرها أكثر أصحابه، والروايات الصحيحة عنه مصرّحة بإثباته، وموطؤُه يشهد للمسح، وعليها جمع أصحابه وجميع أهل السنَّة، كذا قال الزرقاني.
(3) أبو حرب، وثَّقه ابن حبان، ولاّه معاوية سجستان، ومات سنة 100 هـ، كذا في "الإسعاف".
(4) قوله: من وُلد ... إلخ، وهم من مالك وإنما هو مولى المغيرة، قاله الشافعي ومصعب الزبيري وأبو حاتم والدارقطني وابن عبد البر، قال: وانفرد يحيى وعبد الرحمن بن مهدي بوهم ثانٍ فقالا "عن أبيه" ولم يقُله من رواة الموطأ غيرهما. وإنما يقولون عن المغيرة بن شعبة ثم هو منقطع فعبّاد لم يسمع المغيرة ولا رآه وإنما يرويه الزهري، عن عباد، عن عروة حمزة ابنَي المغيرة، عن المغيرة، وربما حدَّث الزهري، عن عرو وحده. قال الدارقطني: فوهم مالكٌ في إسناده في موضعين، أحدهما قوله عباد من وُلد المغيرة، والثاني إسقاطه عروة وحمزة، كذا في "تنوير الحوالك".
وههنا وهم آخر من صاحب هذا الكتاب أو من نسّاخه، وهو إسقاط المغيرة بن شعبة، فإن هذا الحديث معروف من حديثه، ومرويّ كذلك في جميع(1/275)
المغيرةِ (1) بنِ شُعْبَةَ: أَنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَب لحاجتِهِ (2) فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ (3) ، قال (4) : فذهبت معه بماء (5) ، قال: فجاء
__________
كتب الحديث، ونُسَخ هذا الكتاب على ما رأينا ستّ نُسخ، والسابعة التي عليها شرح القاري ليس فيها ذكر المغيرة بل عبارتها عن عباد بن زيد مِنْ وُلْد المغيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم....الحديث، مع أن نفس عبارة الحديث تشهد بأن القصة مع صحابيّ لا مع عباد، كما يُستفاد بسبب سقوط ذكر المغيرة.
(1) قوله: المغيرة: هو ابن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب الثقفي، يُكنى أبا عبد الله أو أبا عيسى، أسلم عام الخندق وقدم مهاجراً، وقيل: أول مشاهده الخندق، توفي سنة خمسين بالكوفة، كذا في "الاستيعاب".
(2) أي: لقضاء حاجة الإنسان.
(3) قوله: في غزوة تبوك، زاد مسلم وأبو داود "قبل الفجر" وكانت غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة، وهي آخر غزواته صلى الله عليه وسلم، وهي من أطراف الشام المقاربة للمدينة، وقيل: سمِّيت بذلك لأنه عليه السلام رأى أصحابه يبوكون عين تبوك، أي يُدخلون فيها القدح ويحرِّكون ليخرج الماء، فقال: ما زلتم تبوكونها بوكاً.
(4) أي: الراوي وهو المغيرة.
(5) قوله: بماء، وللبخاري في الجهاد: أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره أن يتبعه بالإداوة وأنه انطلق حتى توارى عني، فقضى حاجته، ثم أقبل فتوضأ، وعند أحمد عن المغيرة أن الماء الذي توضأ به أخذه المغيرة من أعرابية من قربة كانت جلد ميتة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: سلها إن كانت دبغتها فهو طهورها، وأنها قالت: والله دبغتها، كذا في "ضياء الساري" شرح "صحيح البخاري" لعبد الله بن سالم البصري المكيّ.(1/276)
النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) ، فسكبتُ (2) عَلَيْهِ (3) ، قَالَ: فغسَلَ وجْهَهُ ثُمَّ ذَهَبَ يُخْرِجُ (4) يَدَيْهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ (5) مِنْ ضيقِ كُمَّي (6) جُبَّتِهِ (7) فَأَخْرَجَهُمَا (8) مِنْ تَحْتِ (9) جُبَّتِهِ فغسَلَ يَدَيْهِ ومسَحَ برأسهِ (10) ومسَحَ عَلَى الخفَّين، ثُمَّ جَاءَ (11) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ يؤمُّهم (12) قَدْ صلى بهم
__________
(1) بعد قضاء حاجته.
(2) سكب الماء يسكبه: صبّه.
(3) فيه جواز الاستعانة في الوضوء.
(4) أي: من كُمَّيْه.
(5) قوله: فلم يستطع، فيه لُبس الضَّيِّق من الثياب، بل ينبغي أن يكون ذلك في الغزو مستحباً لما في ذلك من التأهُّب والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في لباسه مثل ذلك في السفر، وليس به بأس في الحضر، وفيه أن العمل الذي لا طول فيه جائز في أثناء الوضوء، ولا يلزم من ذلك استئناف الوضوء.
(6) بضم الكاف.
(7) هي ما قطع من الثياب مشمَّراً.
(8) زاد مسلم: وألقى الجُبَّة على منكبيه.
(9) أي: من داخلها من طرف الذيل.
(10) في رواية مسلم: بناصيته.
(11) قوله: جاء، لابن سعد: فأسفر الناس بصلاتهم حتى خافوا الشمس، فقدَّموا عبد الرحمن.
(12) قوله: يؤمهم، فيه أنه إذا خِيف فوت وقت الصلاة أو فوت الوقت المختار لم يُنتظر الإمام وإن كان فاضلاً جداً، وقد احتج الشافعي بأنَّ أول الوقت أفضل بهذا الحديث.(1/277)
سَجْدَةً (1) ، فَصَلَّى مَعَهُمْ (2) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) ، ثُمَّ صَلَّى الرُّكعة (4) الَّتِي بَقِيَت، ففزِعَ الناسُ (5) لَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: قَدْ أَحْسَنْتُمْ (6) .
48 - أَخْبَرَنَا مالكٌ: حدَّثنا سعيدُ (7) بنُ عَبْدِ الرحمن بنِ رُقَيش (8) أنه قال:
__________
(1) أي: ركعة، زاد مسلم وأبو داود: "من صلاة الفجر".
(2) زاد مسلم وأبو داود وراء عبد الرحمن بن عوف. قوله: فصلّى معهم، أخرج ابن سعد في "الطبقات" بسند صحيح، عن المغيرة أنه سئل: هل أمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أحد من الأمة غير أبي بكر، قال: نعم، كنا في سفر، فلما كان من السَّحَر انطلق وانطلقتُ معه حتى تبرَّزنا عن الناس. فنزل عن راحلته فتغيَّب عني حتى ما أراه، فمكث طويلاً، ثم جاء، فصببت عليه، فتوضأ ومسح على خفيه، ثم ركبنا، فأدركنا الناس وقد أقيمت الصلاة فتقدَّمهم عبد الرحمن بن عوف وقد صلّى ركعة وهم في الثانية، فذهبت أوذنه فيها فنهاني، فصلَّينا الركعة التي أدركنا وقضينا التي سبقنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين صلّى خلف عبد الرحمن: "ماقُبض نبيٌّ قطّ حتى يصلي خلف رجل صالح من أمته"، كذا في "التنوير".
(3) فيه جواز صلاة الفاضل خلف المفضول.
(4) قوله: ثم صلّى الركعة ... إلخ، كان فعله هذا كقوله: "إنما الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه".
(5) قوله: ففزع الناس، لسبقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة، وأكثروا التسبيح رجاء أن يشير إليهم (في الأصل: "بهم"، وهو خطأ) هل يعيدونها أم لا.
(6) فيه دليل على أنه ينبغي أن يُحمد ويُشكر كل من بدر إلى أداء فرضه.
(7) الأشعري المدني، ثقة من صغار التابعين، قاله الزرقاني.
(8) بضم الراء، وبالقاف والشين.(1/278)
رَأَيْتُ أَنَسَ (1) بنَ مالكٍ أَتَى قِبَاءَ، فَبَالَ، ثُمَّ أَتَى بِمَاءٍ، فتوضأَ، فغسَلَ وجهَهُ ويدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ومسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ (2) ، ثُمَّ صَلَّى.
49 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نافعٌ وعبدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ (3) : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَدِمَ الكوفَة عَلَى سعدِ (4) بْنِ أبي وقّاص (5) وهو أميرها (6) ،
__________
(1) قوله: رأيت ... إلخ، لم يُرْوَ عن أحد من الصحابة إنكارُ المسح على الخفين إلاَّ عن ابن عباس وأبي هريرة وعائشة، أما ابن عباس وأبو هريرة فقد جاء عنهما بالأحاديث الحسان خلاف ذلك وموافقة سائر الصحابة، ولا أعلم أحداً من الصحابة جاء عنه إنكار المسح على الخُفَّين ممن لم يُختلف عنه فيه إلا عائشة (ولا يثبت عنها أيضاً. انظر (معارف السنن 1/332) . وقال القاري في (المرقاة 2/78) : أما عائشة، ففي صحيح مسلم أنها أحالت ذلك على علم عليّ رضي الله عنه. وفي رواية، قالت - وسئلت عنه أعني المسح -: مالي بهذا علم) ، كذا في "الاستذكار".
(2) في الاستدلال بفعل الصحابة بعده عليه السلام إيماء إلى أن المسح على الخفين ليس من منسوخ الأحكام.
(3) أبو عبد الرحمن المدني، مولى عبد الله بن عمر، وثقه أحمد، مات سنة 127 هـ كذا في "الإسعاف"..
(4) أبو إسحاق أحد العشرة المبشَّرة، مات سنة خمس وخمسين، وقيل سنة ست، وقيل: سبع، وقيل: ثمان، وقيل أربع.
(5) مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب.
(6) من قبل عمر.(1/279)
فَرَآهُ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ يمسَحُ عَلَى الخفَّين، فَأَنْكَرَ (1) ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: سَلْ أَبَاكَ إِذَا قَدِمتَ (2) عَلَيْهِ، فَنَسِيَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَسْأَلَهُ حَتَّى قَدِم (3) سَعْدٌ، فَقَالَ (4) : أسألتَ أَبَاكَ؟ فَقَالَ: لا (5) ، فَسَأَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ، فَقَالَ (6) : إِذَا أدْخَلْتَ (7) رجليكَ
__________
(1) قوله: فأنكر ذلك عليه، فيه أن الصحابي القديم الصحبة قد يخفى عليه من الأمور الجليَّة في الشرع ما يطَّلع عليه غيره، لأن ابن عمر أنكر المسح على الخفين مع قِدَم صحبته وكثرة روايته، قال الحافظ: ويحتمل أن يكون ابن عمر إنما أنكر المسح في الحضر لا في السفر ومع ذلك فالفائدة بحالها زاد القسطلاّني: وأما السفر، فقد كان ابن عمر يعلمه كما رواه ابن أبي خيثمة في "تاريخه الكبير" وابن أبي شيبة في "مصنفه" من رواية عاصم، عن سالم، عنه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين في السفر، كذا في "ضياء الساري".
(2) المدينة.
(3) أي: المدينة.
(4) لابن عمر.
(5) قوله: فقال لا، وفي رواية لأحمد من وجه آخر: فلما اجتمعنا عند عمر قال لي سعد: سل أباك.
(6) ولابن خزيمة، فقال عمر: كنا ونحن مع نبيِّنا صلى الله عليه وسلم نمسح على خفافنا لا نرى بذلك بأساً.
(7) قوله: إذا أدخلتَ ... إلخ، قد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث الشعبي، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه عن الشعبي يونس، وابن أبي إسحاق، وزكريا بن أبي زائدة، وقال الشعبي: شهد لي عروة على أبيه، وشهد أبوه على النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمع الفقهاء على أنه لا يجوز المسح على الخفين إلاَّ لمن لبسهما على طهارة، إلاَّ أنهم اختلفوا في من قدَّم في وضوئه غَسْل رجليه، ولبس خُفَّيْه، ثم أتمَّ وضوءه هل يمسح عليهما أم لا، وهذا إنما يصح على قول من أجاز تقديم أعضاء الوضوء بعضهما على بعض ولم يوجب النسق ولا الترتيب، كذا في "الاستذكار".(1/280)
فِي الخُفين وُهَمَا (1) طَاهِرَتَانِ (2) فَامْسَحْ عَلَيْهِمَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ (3) : وَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ مِنَ الْغَائِطِ (4) ؟ قَالَ: وَإِنْ جَاءَ أحدُكُم مِنَ الْغَائِطِ.
50 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ: أَنَّ ابنَ عُمَرَ بَالَ بِالسُّوقِ (5) (6) ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ برأسه، ثم دُعي
__________
(1) قوله: وهما طاهرتان، استدلَّ الشافعية على اشتراط اللُّبْس على طهارة كاملة بأحاديث، منها ما في الصحيحين من حديث المغيرة "دعهما فإني أدخلتُهما طاهرتين". ومحل الخلاف يظهر في مسألتين: إحداهما: إذا أحدث ثم غسل رجليه ثم لبس الخفين ثم مسح عليهما ثم أكمل وضوءه. الثانية: إذا أحدث ثم توضأ، فلما غسل إحدى رجليه لبس عليها الخُف، ثم غسل الأخرى ثم لبس الخُف، فإن هذا المسح جائز عندنا في الصورتين خلافاً لهم، وهم يطلقون النقل عن مذهبنا ويقولون: الحنفية لا يشترطون كمال الطهارة في المسح، كذا في "نصب الراية لتخريج أحاديث الهداية" للزيلعي رحمه الله.
(2) أي: عند وجود الحدث بعد المسح.
(3) قوله: قال عبد الله وإن جاء أحدنا ... إلخ، وفي البخاري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن ابن عمر، عن سعد: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، وابن عمر سأل أباه عن ذلك فقال: نعم، إذا حدَّثك شيئاً سعدٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تسأل عنه غيره.
(4) قوله: من الغائط، الغوط عمق الأرض الأبعد، ومنه قيل للمطمئنّ من الأرض غائط، ومنه قيل لموضع قضاء الحاجة الغائط، لأن العادة أن تُقضى في المنخفض من الأرض حيث هو أستر له، ثم اتُّسع فيه حتى صار يُطلق على النَّجو نفسه، وقد تكرر في الحديث بمعنى الحدث والمكان، كذا في "النهاية".
(5) لعله في موضع أُعِدَّ هناك لذلك.
(6) سُمِّي السوق به لأن الناس يُساقون إليه، وقيل: هو بالفتح اسم موضع.(1/281)
لِجَنَازَةٍ (1) حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ (2) لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ (*) ، فمَسَح (3) عَلَى خُفَّيْهِ (4) ثُمَّ صَلَّى (5) (6) .
51 - أَخْبَرَنَا مالكٌ، أَخْبَرَنِي هشامُ بنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ رَأَى (7) أباه يمسَحُ على الخُفَّين
__________
(1) أي: للصلاة على جنازة.
(2) النبوي.
(*) هكذا في الأصل، والصواب: "عليها" كما في نسخ الموطأ. انظر (الأوجز: 1/249)
(3) قوله: فمسح على خفيه، قال أبو عمر: تأخير مسح الخفين محمول عند أصحابنا أنه نسي، وقال غيره: لأنه كان برجليه علَّة، فلم يمكنه الجلوس حتى أتى المسجد، فجلس ومسح، والمسجد قريب من السوق، وقال الباجي: يُحتمل أنه نسي، وأنه اعتقد جواز تفريق الطهارة، وأنه لعجز الماء عن الكفاية، وقد قال ابن القاسم في "المجموعة": لم يأخذ مالك ابن عمر في تأخير المسح، كذا قال الزرقاني، وفيه ما لا يخفى.
(4) فيه جواز تفريق فرائض الوضوء خلافاً للمالكية، فإن الولاء عندهم ضروري، وقد أوَّلوا هذا الأثر بتأويلات ركيكة.
(5) على الجنازة.
(6) ومن المعلوم أنه لا فرق بين صلاة الجنازة وغيرها في اعتبار شرائطها
(7) قوله: أنه رأى أباه، قال القاري: أي الزبير بن العوام أحد العشرة المبشرة. انتهى. وهو مبني على أن ضمير "أباه" راجع إلى عروة المذكور في قوله عن أبيه وكذا ضمير أنه لكن في موطأ يحيى وشرحه للزرقاني مالك عن هشام بن عروة، أنه رأى أباه يمسح على الخفين قال هشام وكان عروة لا يزيد إذا مسح على الخفين على أن يمسح ظهورهما ولا يمسح بطونهما. انتهى. ومثله في "استذكار" ابن عبد البر، فعلى هذا، الضميران راجعان إلى هشام، والمراد(1/282)
عَلَى ظهورِهما (1) لا يَمْسَحُ بُطُونَهُمَا، قَالَ: ثُمَّ يرفعُ العمامة فيمسَحُ برأسِه.
__________
بالأب في كلا الموضعين هو عروة بن الزبير والد هشام، لا الزبير والد عروة، ويكون قوله: "أنه رأى أباه" بياناً لقوله: "عن أبيه"، والمعنى: أخبرني هشام عن حال أبيه عروة وهو أنه أي هشام رآه يمسح على الخفين ... إلخ.
(1) قوله: على ظهورهما ... إلخ، لم يختلف قول مالك أن المسح على الخفين على حسب وصفه ابن شهاب أنه يدخل إحدى يديه تحت الخف والأخرى تحته (هكذا في الأصل والصواب فوقه. انظر (الاستذكار 1/284)) ، إلا أنه لا يرى الإعادة على من اقتصر على مسح ظهور الخفين إلاَّ في الوقت. وأما الشافعي فقد نصَّ أنه لا يجزئه المسح على أسفل الخف ويجزئه على ظهره فقط، ويُستحب أن لا يُقْصر أحد عن مسح ظهور الخفين وبطونهما معاً كقول مالك. وهو قول عبد الله بن عمر، ذكره عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يمسح ظهور خُفِّيه وبطونهما، والحجة لمالك والشافعي حديث المغيرة بن شعبة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يمسح أعلى الخف وأسفله، رواه ثور بن يزيد عن رجاء بن حيوة، عن كاتب المغيرة، عن المغيرة، ولم يسمعه ثور من رجاء، وقد ذكر علَّته في "التمهيد:، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: يمسح ظهور (قال أبو حنيفة: يجزئه قدر ثلاثة أصابع، وقال مالك بالاستيعاب، وقال الشافعي: ما يقع عليه اسم المسح، وقال أحمد: الأكثر"أوجز المسالك 1/254) الخفين دون بطونهما، وبه قال أحمد وإسحاق وداود، وهو قول عليّ بن أبي طالب وقيس بن سعد بن عبادة والحسن البصري وعروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح، وجماعة، والحجة لهم ما ذكره أبو داود، عن عليّ، قال لو كان الدين بالرأي لكان أسفلُ الخف أَولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهره. وروى ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن المغيرة، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح ظهور الخفين. وهذان الحديثان يدلان على بطلان قول أشهب ومن تابعه أنه يجوز الاقتصار في المسح على باطن الخف، كذا في "الاستذكار".(1/283)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كلِّه (1) ، نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَنَرَى (2) المسحَ لِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً (3) وثلاثَةَ أيامٍ ولياليَها للمسافر.
__________
(1) من نفس المسح، وكونه على الظهر، وجواز التفريق بينه وبين باقي الفرائض، وجوازه في الحضر والسفر بعد لُبسه على طهارة كاملة، وغير ذلك.
(2) أي: نعتقد.
(3) قوله: يوماً وليلة هكذا ورد في حديث عليّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه جعل المسح ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم. أخرجه مسلم وأبو داود، وأخرج الترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجة، عن صفوان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنَّا سَفراً أن لا ننزعَ خفافنا ثلاثة أيام وليالِيَهن إلا عن جنابة، وأخرج أبو داود والترمذي، عن خزيمة مرفوعاً: المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يوم وليلة. وأخرج نحوَه أحمد وإسحاق والبزّار والطبراني من حديث عوف بن مالك، وابن خزيمة، والطبراني من حديث أبي بكرة.
فبهذه الأخبار وأمثالها قال أصحابنا بالتوقيت، وبه قال سفيان الثوري والأوزاعي، والحسن بن حَيّ، والشافعي، وأحمد، وداود، كذا في "الاستذكار". وفيه أيضاً "ثبت التوقيتُ عن عليّ، وابن مسعود، وابن عباس، وسعد بن أبي وقاص على اختلاف عنه، وعمار بن ياسر، وحذيفة، وأبي مسعود، والمغيرة، وهو الاحتياط عندي. انتهى.
وقالت طائفة: لا توقيت في المسح، يُروى ذلك عن الشعبي وربيعة والليث وأكثر أصحاب مالك، كذا ذكره العيني. وذكر ابن عبد البَرّ، أنه رُوي مثله عن عمر وسعد وعقبة بن عامر، وابن عمر، والحسن البصري. والحجة لهم في هذا حديث أبي بن عمارة، قلت: يا رسول الله، أَمْسَحُ على الخفين؟ قال: نعم، قلت: يوماً، قال: نعم، قلت: ويومين، قال: نعم، قلت: وثلاثة، قال: نعم، وما شئت. أخرجه أبو داود وابن ماجة والدارقطني، وهو حديث ضعيف ضعَّفه البخاري، وقال أبو داود: اختُلف في إسناده وليس بالقوي، وقال أبو زرعة: رجاله(1/284)
وَقَالَ مالكُ بنُ أَنَسٍ (1) : لا يمسَحُ الْمُقِيمُ عَلَى الخُفَّين.
وعامَّةُ هَذِهِ الآثَارِ (2) الَّتِي رَوَى مَالِكٌ فِي الْمَسْحِ إِنَّمَا هِي فِي الْمُقِيمِ، ثُمَّ (3) قَالَ: لا يَمْسَحُ الْمُقِيمُ (4) عَلَى الخُفَّين.
__________
لا يعرفون، وقال ابن حبان: لستُ أعتمد على إسناد خبره، وقال ابن عبد البر: لا يثبت وليس إسناده بقائم، كذا ذكره الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث شرح الوجيز للرافعي (ونقل النووي في شرح المهذب (1/484) اتفاق الأئمة على ضَعْفه. وانظر أحاديث عدم التوقيت في نصب الراية (1/175) وما بعدها) .
(1) قوله: وقال مالك بن أنس ... إلخ، هذا الذي حكاه عنه إنما هو رواية عنه غير معتمدة، فقد روي عنه في ذلك ثلاث روايات: إحداها: وهي أشد نكارة من إنكار المسح في الحضر والسفر، والثانية: كراهة المسح في الحضر وجوازه في السفر، والثالثة: إجازة المسح في الحضر والسفر، كذا ذكره ابن عبد البر. وذكر العيني نقلاً، عن النووي، أنه رُوي عنه ست روايات: إحداها: لا يجوز المسح أصلاً، ثانيها: يكره، ثالثها: يجوز من غير توقيت وهي المشهورة عند أصحابه، ورابعها: يجوز مؤقتاً، وخامسها: يجوز للمسافر دون المقيم، وسادسها: يجوز لهما. وقال ابن عبد البر: موطأ مالك يشهد للمسح في الحضر والسفر.
(2) قوله: وعامة هذه الآثار ... إلخ، ردّ عل مالك بأن أثر ابن عمر وسعد وأنس وعمر التي ذكرها في الموطأ دالّة عل جواز المسح في الحضر، فكيف يجوز إنكاره مع ورودها. واحتج بعض أصحابه بأن المسح شُرع لمشقة السفر وهي مفقودة في الحضر، ورده ابن عبد البر بأن القياس والنظر لا يعرّج عليه مع صحة الأثر. ومنهم من قال: أحاديث المسح في الحضر لا يثبت شيء منها، وفيه مبالغة واضحة.
(3) أي بعدما رواها.
(4) قوله: المقيم، قال عبد الله بن سالم المكي في "ضياء الساري":(1/285)
14 - (بَابُ الْمَسْحِ عَلَى العِمامة (1) والخِمار) (2)
52 - أَخْبَرَنَا مالكٌ، قَالَ: بَلَغَنِي (3) عَنْ جَابِرِ (4) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (5) أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْعِمَامَةِ (6) ؟ فَقَالَ: لا، حَتَّى يمسَّ (7) الشعرَ الماءُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (8) نَأْخُذُ، وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
53 - أَخْبَرَنَا مالكٌ، حدَّثنا نَافِعٌ قَالَ: رَأَيْتُ صفيَّة (9) ابنةَ
__________
المعروف عن المالكية الآن قولان: الجواز مطلقاً، والجواز للمسافر دون المقيم، وجزم بهذا ابن الحاجب، وصحح الباجي الأول، ونقل أن مالكاً إنما كان يتوقّف فيه في خاصة نفسه مع إفتائه بالجواز.
(1) بكسر العين ما يعتم به الرجل رأسه.
(2) بالكسر ما تقنّع به المرأة رأسها.
(3) قوله: بلغني، قال سفيان: إذا قال مالك بلغني فهو إسناد قويّ، كذا قال القاري.
(4) قوله: عن جابر، أبو عبد الله، وقيل أبو عبد الرحمن، وقيل أبو محمد، غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعَ عَشْرَةَ غزوة، ولم يشهد بدراً، ومات بالمدينة، وقيل بمكة سنة ثمان وسبعين، وقيل تسع، وقيل أربع، كذا في "الإسعاف".
(5) ابن عمرو بن حَرام بن ثعلبة الأنصاري المدني.
(6) أي عن المسح عليها.
(7) قوله: حتى يمسّ، من الإمساس أو المسّ أي يصيب (الشعرَ) بالنصب على أنه مفعول مقدّم، (الماء) بالرفع أو النصب.
(8) أي بعدم جواز المسح على العمامة.
(9) قوله: صفية، امرأة عبد الله بن عمر، تزوّجها في حياة أبيه، وأصدقها عمر عنه أربع مائة درهم، ووَلَدَت له واقداً، وأبا بكر، وأبا عبيدة، وعبيد الله، وعمر، وحفصة، وسودة، قال ابن مندَه: أدركت النبي صلى الله عليه وسلم ولم تسمع منه، وأنكره الدارقطني، وذكرها العجلي وابن حبان في ثقات التابعين، كذا قال الزرقاني.(1/286)
أَبِي عُبيد (1) تتوضَّأُ وتنزِعُ خِمَارَها (2) ، ثُمَّ تمسَحُ بِرَأْسِهَا.
قَالَ نَافِعٌ: وَأَنَا يَوْمَئِذٍ صَغِيرٌ (3) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا يُمسَحُ عَلَى الخِمار وَلا العِمامة (4) ، بَلَغَنا (5) أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى العِمامة كان (6) فتُرك، وهو قول
__________
(1) ابن مسعود، الثقفية.
(2) بكسر المعجمة: ما تغطي به المرأة رأسها.
(3) لم يبلغ فلذلك رآها.
(4) قوله: لا يمسح على الخمار ولا العمامة، اختلفت فيه الآثار، فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على عمامته من حديث عمرو بن أمية الضمري وبلال بن المغيرة بن شعبة وأنس، وكلها معلولة، وروي عن جماعة من الصحابة والتابعين ذكرهم المصنفون: ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وابن المنذر وغيرهم. وبه قال الأَوزاعي وأبو عبيد القاسم بن سلاّم وأحمد بن حنبل وإسحاق، وللآثار الواردة في ذلك وقياساً على الخفّين؟ وقالت طائفة من هؤلاء بجواز مسح المرأة على الخمار، ورووا عن ام سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تمسح على خمارها.
وأما الذين لم يروا المسح على العمامة والخمار فعروة بن الزبير والقاسم بن محمد والشَّعبي والنَّخَعي وحمّاد بن أبي سليمان. وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم، والحجة ظاهر قوله تعالى: {ومسحوا برؤوسكم} ، ومن مسح على العمامة لم يمسح برأسه. كذا في "الاستذكار" (وقال في بذل المجهود في حل أبي داود (1/359) والحديث في العمامة محتمل التأويل فلا يُترك المتيقن للمحتمل والمسح على العمامة ليس بمسح على الرأس. انظر تفصيل أطراف هذا البحث في فتح المُلهِم (1/434) وما بعدها) .
(5) قوله: بلغنا ... إلخ لم نجد إلى الآن ما يدل على كون مسح العمامة منسوخاً، لكن ذكروا أن بلاغات محمد مسندة، فلعل عنده وصل بإسناده.
(6) أي في بَدء الأمر.(1/287)
أَبِي حَنِيفَةَ والعامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنِا (1) .
15 - (بَابُ الاغْتِسَالِ مِنَ الْجَنَابَةِ)
54 - أَخْبَرَنَا مالكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا اغتسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ أَفرغ (2) عَلَى يَدِهِ اليُمنى فغسَلَها، ثُمَّ غَسل فَرْجَه (3) ومَضْمَضَ (4) وَاسْتَنْشَقَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ، وَنَضَحَ (5) فِي عَيْنَيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ يدَهُ اليُمنى ثُمَّ اليُسرى، ثم غَسَل رأسه، ثم اغتسل و (6) أفاض الماءَ على جلده.
__________
(1) قوله: والعامة من فقهائنا، إلى عدم الاقتصار على المسح على العِمامة ذهب الجمهور، وقال الخطابي: فرض الله المسح بالرأس والحديث في مسح العِمامة محتمل للتأويل، فلا يترك المتيقَّن للمحتمل، قال: وقياسه على الخف بعيد، لأنه يشق نزعها. وتُعُقِّب بأن الذين أجازوا شرطوا فيه المشقة في نزعها، وقالوا: الآية لا تنفي ذلك، ولا سيما عند من يحمل المشترك على حقيقته ومجازه، إلى هذا ذهب الأوزاعي والثوري - في رواية عنه - وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن خزيمة وابن المنذر، وقال ابن المنذر: ثبت ذلك عن أبي بكر وعمر. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن يُطِعِ الناسُ أبا بكر وعمر يرشدوا". كذا في "فتح الباري".
(2) أي صب الماء.
(3) بشِماله.
(4) بيمينه.
(5) قوله: ونضح، أي رشّ في عينيه هذا شيء لم يُتابع عليه، لأن الذي عليه غسل ما ظهر لا ما بطن، وله رحمه الله شدائد شذ فيها، حمله الورع عليها، وفي أكثر الموطآت: سئل مالك عن نضح ابن عمر الماء في عينيه؟ فقال: ليس على ذلك العمل عندنا، كذا في "الاستذكار".
(6) عطف تفسير.(1/288)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (1) كلِّه نأخُذُ إلاَّ النَّضْحَ فِي الْعَيْنَيْنِ، فإنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بواجبٍ (2) عَلَى النَّاسِ فِي الْجَنَابَةِ، وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ ومالِك بنِ أنس والعامَّة.
16 - (باب الرجل تصيبه (3) الجنابة من الليل)
55 - أَخْبَرَنَا مالكٌ، أَخْبَرَنَا عبدُ اللَّهِ (4) بنُ دِينَارٍ (5) ، عن
__________
(1) قوله: وبهذا كله نأخذ، أي بما أفاده هذا الحديث من الأفعال فبعضها فرائض عندنا، كالمضمضة والاستنشاق وغسل سائر البدن، وباقيها من تقديم غسل اليدين وتعقيبه بغسل الفرج وإن لم يكن عليه نجاسة والتوضُّئ غير ذلك سنن.
(2) قوله: ليس بواجب، بل ليس بسنة أيضاً (قال الطحطاوي على "المراقي": ولا يجب إيصال الماء إلى باطن العينين ولو في الغسل للضرر، هذه العلة تنتج الحرمة، وبه صرح بعضهم وقالوا: لا يجب غسلها من كحل نجس ولو أعمى لأنه مضر مطلقاً، وفي ابن أمير الحاج: يجب إيصال الماء إلى أهداب العينين وموقَيهما. قلت: وما يخطر في البال - والله أعلم - أن ابن عمر رضي الله عنه استنبطه من قوله صلى الله عليه وسلم: "أشربوا الماء أعينكم". أخرجه الدارقطني بسند ضعيف كما ذكره ابن رسلان، وكأن معنى قوله صلى الله عليه وسلم عند العامة هو تعاهد الماقين لكن ابن عمر رضي الله عنه حمله على ظاهره فكان ينضح في عينيه، فتأمل وتشكر (أوجز المسالك 1/283)) .
(3) بالاحتلام أو غيره.
(4) مولى عبد الله بن عمر.
(5) قوله: عبد الله بن دينار، هكذا رواه مالك في الموطأ، باتفاق من روات الموطأ، ورواه خارج الموطأ عن نافع بدل عبد الله بن دينار، قال أبو علي: والحديث لمالك عنهما جميعاً، وقال ابن عبد البر: الحديث لمالك عنهما جميعاً، لكن المحفوظ عن عبد الله بن دينار، وحديث نافع غريب. انتهى. وقد رواه عنه كذلك خمسة أو ستة فلا غرابة، وإن ساقه الدارقطني فمراده خارج الموطأ، فهي غرابة خاصة بالنسبة إلى رواية الموطأ، كذا في "الفتح".(1/289)
ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذكَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ (2) تُصيبُهُ الجنابةُ مِنَ اللَّيْلِ، قَالَ: تَوَضَّأْ (3) واغسل ذكرَك (4) ونَمْ.
__________
(1) قوله: أن عمر ذكر، مقتضاه أنه من مسند ابن عمر، كما هو عند أكثر الرواة، ورواه أبو نوح عن مالك فزاد فيه عن عمر، وقد بيَّن النسائي سبب ذلك في روايته من طريق ابن عون عن نافع، قال: أصاب ابن عمر جنابة، فأتى عمر فذكر ذلك له. فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فاستأمره، فقال: "ليتوضأ ويرقد"، وعلى هذا فالضمير في قوله في حديث الباب" أنه يصيبه" يعود إلى ابن عمر، لا على عمر، وقوله في الجواب "توضأ" يحتمل أن يكون ابن عمر حاضراً فوجه الخطاب إليه، كذا قال الزرقاني.
(2) روى ابن أبي شيبة بسند رجاله ثقات عن شداد بن أوس الصحابي: إذا أجنب أحدكم من الليل ثم أراد أن ينام فليتوضأ، فإنه نصف غسل الجنابة، كذا في "الفتح".
(3) قوله: توضأ، قال ابن الجوزي: الحكمة فيه أن الملائكة تبتعد عن الوسخ والريح الكريهة، وأن الشياطين تقرب من ذلك.
وقال النووي: اختُلف في حكمة هذا الوضوء، فقال أصحابنا: لأنه يخفِّف الحدث، وقيل: لعله أن ينشط إلى الغسل إذا بلَّ أعضاءه، وقيل: ليبيت على إحدى الطهارتين خشية أن يموت في منامه، وأخرج الطبراني في "الكبير" بسند لا بأس به عن ميمونة بنت سعد، قلت: يا رسول الله، هل يأكل أحدنا وهو جنب؟ قال: لا، حتى يتوضأ، قلت: هل يرقد الجنب؟ قال: ما أحب أن يرقد وهو جنب حتى يتوضأ، فإني أخشى أن يُتَوَفَّى فلا يحضره جبريل. وقال الباجي: لا يبطل هذا الوضوء ببول ولا غائط، قلت: يخرج من هذا لُغز لطيف، فيقال: لنا وضوء لا يبطله الحدث وإنما يبطله الجماع. كذا في "التنوير".
(4) قوله: اغسل ذكرك، في رواية أبي نوح: ذكرك ثم توضأ ثم نم، وهو يردّ على من حمله على ظاهره، فقال: يجوز تقديم الوضوء على غسل الذكر، لأنه(1/290)
قال محمد: وإن لم يوضَّأ وَلَمْ يغسِل ذَكَرَهُ حَتَّى يَنَامَ فَلا بَأْسَ (1) بذلك أيضاً.
__________
ليس بوضوء يُنقض بالحدث، وإنما هو للتعبّد، إذ الجنابة أشدّ من مس الذكر، وقال ابن دقيق العيد: جاء الحديث بصيغة الأمر، وجاء بصيغة الشرط، وهو متمسِّك لمن قال بوجوبه، وقال ابن عبد البر: ذهب الجمهور إلى أنه للاستحباب، وذهب أهل الظاهر إلى إيجابه، وهو شذوذ، وقال ابن العربي: قال مالك والشافعي: لا يجوز للجنب أن ينام قبل أن يتوضأ، واستنكر بعض المتأخرين هذا النقل وقال: لم يقل الشافعي بوجوبه ولا يَعرف ذلك أصحابه، وهو كما قال، لكن كلام ابن العربي محمول على أنه أراد نفي الإباحة المستوية الطرفين، لا إثبات الوجوب، أو أراد وجوب سنة أي متأكد الاستحباب، ونقل الطحاوي عن أبي يوسف أنه ذهب إلى عدم الاستحباب، وتمسك بما رواه أبو إسحاق السبيعي عن الأسود عن عائشة أنه عليه السلام كان يجنب ثم ينام ولا يمس ماءً، رواه أبو داود وغيره، وتُعُقِّب بأن الحفاظ قالوا: إن أبا إسحاق غلط فيه، وبأنه لو صح حُمل على أنه تَرَك الوضوء لبيان الجواز لئلا يُعتمد وجوبه، أو أن معنى قولها (في الأصل: "قوله"، وهو تحريف) : "لم يمس ماءً"، أي للغسل، وأورد الطحاوي ما يدل على ذلك، ثم جنح الطحاوي إلى أن المراد بالوضوء التنظيف، واحتج بأن ابن عمر راوي الحديث: كان يتوضأ وهو جنب، ولا يغسل رجليه، كما رواه مالك في الموطأ عن نافع. وأجيب بأنه ثبت تقييد الوضوء بالصلاة من رواية عائشة فيُعتمد ويحمل ترك ابن عمر غسل رجليه على أنه كان لعذر. وقال جمهور العلماء: المراد بالوضوء ههنا الوضوء الشرعي، كذا في "الفتح".
(1) قوله: فلا بأس بذلك أيضاً، يشير إلى أنه ليس بضروري حتى لو ترك(1/291)
56 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعي (1) ، عَنِ الأسودِ (2) بنِ يَزِيدَ، عَنْ عائشة رضي الله عنها قالت: كان
__________
لزمه إثم، بل هو أمر مستحب مَن فَعَل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، وهذا هو قول الثوري كما قال ابن عبد البر. قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: لا بأس أن ينام الجنب على غير وضوء وأحب إليهم أن يتوضأ، وقال الليث: لا ينام الجنب حتى يتوضأ رجلاً كان أو امرأة، ولا أعلم أحداً أوجبه إلا طائفة من أهل الظاهر، وسائر الفقهاء لا يوجبونه وأكثرهم يأمرون به ويستحبونه، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وجماعة من الصحابة والتابعين. انتهى ملخصاً. فظهر من ههنا أنه لا خلاف في هذه المسألة بين أصحابنا وبين الشافعية وغيرهم ما عدا الظاهرية إلاَّ أن يكون الاستحباب عندهم متأكداً وعند أصحابنا غير متأكد.
(1) قوله: عن أبي إسحاق السبيعي، هو عمرو بن عبد الله بن عبيد، ويقال علي، السبيعي نسبه إلى سَبيع بالفتح قبيلة من همدان، الكوفيّ، وُلد لسنتين بَقِيتا من خلافة عثمان، وروى عن عليّ بن أبي طالب، والمغيرة بن شعبة، وقد رآهما ولم يسمع منهما، وعن سليمان بن صُرد، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وجابر بن سمرة، والنعمان بن بشير، والأسود بن يزيد النَّخَعي، وأخيه عبد الرحمن بن يزيد، وابنه عبد الرحمن بن الأسود، وسعيد بن جبير، والحارث الأعور، وغيرهم، وعنه ابنه يونس، وابن ابنه إسرائيل بن يونس، وابن ابنه الآخر يوسف بن اسحق وقتادة وسليمان التيمي ومسعر والثوري وسفيان بن عيينة وآخرون، قال أحمد وابن معين والنسائي والعجلي وأبو حاتم: ثقة، وله مناقب جمّة مبسوطة في "تهذيب التهذيب"، وكانت وفاته سنة 128 هـ أو سنة 129 هـ أو سنة 126 هـ أو سنة 127 هـ، قاله غير واحد.
(2) قوله: عن الأسود بن يزيد، هو الأسود بن يزيد بن قيس النخعي. نسبة إلى نَخَع قبيلة بالكوفة، روى عن أبي بكر، وعمر، وحذيفة، وبلال، وعائشة، وأبي محذورة، وأبي موسى، وابن مسعود وكان فقيهاً زاهداً، مفتياً من أصحابه،(1/292)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصيبُ (1) مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَنَامُ وَلا يَمَسَّ مَاءً (2) ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ عَادَ (3) وَاغْتَسَلَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا الْحَدِيثُ أَرْفَقُ بِالنَّاسِ (4) وَهُوَ قول أبي حنيفة رحمه الله.
__________
روى عنه أبو إسحاق السَّبيعي، وإبراهيم النخعي، وهو ابن أخته، وأبو بردة بن أبي موسى وجماعة، وثقه أحمد ويحيى وابن سعد والعجلي، توفي بالكوفة سنة 75 هـ، وقيل سنة 74 هـ، قاله ابن أبي شيبة، كذا في "تهذيب التهذيب".
(1) أي يجامع.
(2) ولا يمسَّ ماء (في نسخة سقطت هذه العبارة) ، قال يزيد بن هارون: هذا الحديث خطأ. وقال الترمذي: يريد أن قوله من غير أن يمسّ ماء خطأ من السبيعي. وقال البيهقي: طعن الحفاظ في هذه اللفظة وتوهَّموها مأخوة من غير الأسود، وأن السبيعي دلَّس. قال البيهقي: وحديث السبيعي بهذه الزيادة صحيح من جهة الرواية، لأنه بيَّن سماعه من الأسود، والمدلس إذا بيَّن سماعه ممن روى عنه وكان ثقة فلا وجه لردِّه. قال النووي: فالحديث صحيح، وجوابه من وجهين، أحدهما: ما رواه البيهقي عن ابن شريح واستحسنه أن معناه لا يمس ماء للغسل، والثاني: أن المراد كان يترك الوضوء في بعض الأحوال لبيان الجواز وهذا عندي حسن أو أحسن، كذا في مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود للسيوطي.
(3) إلى الوطء.
(4) لكن الحديث الأول أصح وأرجح.(1/293)
17 - (بَابُ الاغْتِسَالِ يَوْمِ الجُمُعة) (1)
57 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا نافع، عن ابنِ عمر، أنَّ رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا أَتَى (2) أحدُكم (3) الجمعةَ (4) فليغتسِلْ (5) .
58 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ (6) بْنُ سُلَيم (7) ، عَنْ عَطَاءِ (8) بْنِ يَسَارٍ،
__________
(1) بضم الجيم والميم لغة الحجاز، وفتح الميم لغة تميم، وإسكانها لغة عقيل.
(2) أي أراد أن يجيء كما في رواية الليث عن نافع عند مسلم: إذا أراد أحدكم أن يأتي.
(3) قوله: أحدكم، بإضافة أحد إلى ضمير الجمع، وذلك يعم الرجال والنساء والصبيان.
(4) قوله: الجمعة، أي الصلاة أو المكان الذي تُقام فيه، وذكر المجيء لكونه الغالب، وإلاَّ فالحكم شامل لمن كان مقيماً بالجامع.
(5) قوله: فليغتسل، قال الحافظ ابن حجر: رواية نافع عن ابن عمر لهذا الحديث مشهور (هكذا في الأصل: والصواب: "مشهورة") جداً قد اعتنى بتخريج طرقه أبو عَوانة في صحيحه فساقه من طريق سبعين نفساً، رووه عن نافع، وقد تتبعت ما فاته وجمعت ما وقع لي من طرقه في جزء مفرد فبلغت أسماءُ من رواه عن نافع مائةٌ وعشرون نفساً.
(6) المدني أبو عبد الله الزهري.
(7) بضم السين.
(8) قوله: عطاء بن يسار، الهلالي أبو محمد المدني، عن ابن مسعود وزيد وابن عمر، وعنه أبو حنيفة، وزيد بن أسلم وآخرون، وثَّقه ابن معين وأبو زرعة والنسائي وغيرهم، مات سنة أربع وتسعين، وقيل سنة ثلاث ومائة كذا في "الإسعاف".(1/294)
عن أبي سعيد (1) الخدري: أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: غُسْل يومِ الجُمعةِ (2) واجبٌ (3) عَلَى كُلِّ مُحْتَلِم (4) .
59 - أَخْبَرَنَا مالكٌ، حدَّثنا الزُّهْرِيُّ، عَنِ ابْنِ (5) السَّبَّاق (6) : أَنّ (7) رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) قوله: أبي سعيد، اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة الأنصاري الخدري، وخدره وخداره بطنان من الأنصار، كان من الحفاظ المكثرين الفضلاء العقلاء، مات سنة 74 هـ، كذا في "الاستيعاب".
(2) قوله: غسل يوم الجمعة، ظاهر إضافته لليوم حجة لأنَّ الغُسل لليوم لا للجمعة، وهو قول جماعة، ومذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم أنه للصلاة لا لليوم، وقد روى مسلم هذا الحديث بلفظ: "الغسل يوم الجمعة"، وكذا رواه الشيخان من وجه آخر عن أبي سعيد، قاله الزرقاني.
(3) قوله: واجب، أي متأكِّد، قال ابن عبد البر: ليس المراد أنه واجب فرضاً، بل هو مؤول أي واجب في السنة، أو في المروءة، أو في الأخلاق الجميلة، كما تقول العرب: وجب حقُّك.
(4) قوله: محتلم، أي بالغ، وهو مجاز، لأن الاحتلام يستلزم البلوغ والقرينة المانعة عن الحمل على الحقيقة أن الاحتلام إذا كان معه الإنزال موجِبٌ للغسل سواء كان يوم الجمعة أم لا، كذا في "الكواكب الدراري".
(5) عبيد المدني الثقفي وثَّقه ابن حبان.
(6) بفتح السين المهملة وتشديد الموحدة.
(7) قوله: أنّ، قال السيوطي: وصله ابن ماجه من طريق صالح بن أبي الأخضر عن الزهري، عن ابن السباق عن ابن عباس به. واسم ابن السباق عبيد، وهو من ثقات التابعين بالمدينة، كذا قاله القاري.(1/295)
قَالَ (1) : يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ (2) ، هَذَا يومٌ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى (3) عِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَاغْتَسِلُوا (4) ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طِيبٌ فَلا يضرُّه أَنْ يمسَّ مِنْهُ (5) وَعَلَيْكُمْ (6) بِالسِّوَاكِ (7) (8) .
60 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي المَقْبُرِيُّ (9) ، عَنْ أبي هريرة أنه
__________
(1) في جمعة من الجمع.
(2) قوله: يا معشر المسلمين، قال النووي في شرح مسلم: المعشر الطائفة الذين يشملهم وصف، فالشباب معشر، والشيوخ معشر، والنساء معشر، والأنبياء معشر، وكذا ما أشبهه.
(3) أي لهذه الأمة خاصَّة، جزم به أبو سعد في "شرف المصطفى"، وابن سراقة.
(4) قوله: فاغتسلوا، الأمر عندنا محمول على الندب والفضل بدليل قول عائشة: كان الناس عُمّال أنفسهم، وكانوا يشهدون الجمعة بهيآتهم، فقيل لهم: لو اغتسلتم، لئلا يؤذي بعضهم بعضاً بريحه، كذا في "الاستذكار".
(5) قوله: أن يمس منه، فيه استحباب مسّ الطيب لمن قدر عليه يوم الجمعة والعيدين، وذلك مندوب إليه حسن مرغوب فيه، وقد كان أبو هريرة يوجب الطيب، ولعله وجوب سنَّة أو أدب، كذا في "الاستذكار".
(6) أي الزموه.
(7) قوله: وعليكم بالسواك، العلماء كلُّهم يندبون إليه ويستحبونه وليس بواجب عندهم، قال الشافعي: لو كان واجباً لأمرهم به شقَّ أو لم يشقّ وقد قال: "لولا أن أَشُقَّ على أمَّتي لأمرتهم بالسواك".
(8) قوله: بالسواك، قال الرافعي في شرح المسند: السواك فيما حكى ابن دُريد من قولهم: سُكْت الشيء إذا دلكته سوكاً.
(9) قوله: المقبُري، هو بضم الموحدة وفتحها، كان مجاوراً للمقبرة فنُسب إليها، اختلط قبل موته بأربع سنين، وكان سماع مالك ونحوه قبله، قاله الزرقاني،(1/296)
قَالَ غُسْلُ يومِ الْجُمُعَةِ واجبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ كغُسل الْجَنَابَةِ (1) .
61 - أَخْبَرَنَا مالكٌ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ: أنَّ ابنَ عُمَرَ كَانَ لا يَرُوح (2) إِلَى الْجُمُعَةِ إلاَّ اغْتَسَلَ (3) .
62 - أَخْبَرَنَا مالكٌ، أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (4) عَنْ أَبِيهِ: أنَّ رَجُلا (5) مِنْ أصحابِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم دخل المسجد يومَ
__________
واسمه سعيد بن أبي سعيد كيسان المدني، اتفقوا على توثيقه، مات سنة ثلاث وعشرين ومائة، كذا في "الإسعاف".
(1) قوله: كغسل الجنابة، قد حكى ابن المنذر عن أبي هريرة وعن عمار بن ياسر وغيرهما الوجوب الحقيقي وهو قول الظاهرية ورواية عن أحمد، فلا يؤَوَّل قول أبي هريرة بأنه في الصفة لا في الوجوب، لأنه مذهبه، كذا قال الزرقاني.
(2) أي لا يذهب.
(3) قوله: إلاَّ اغتسل، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يغتسل يوم الجمعة والعيدين، ويوم عرفة، أخرجه أحمد والطبراني من حديث الفاكه ولأبي داود من حديث عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت. وبهذه الأخبار ذهب محقِّقو أصحابنا إلى الاستنان.
(4) ابن عمر بن الخطاب أبو عمر، أحد الأئمة الفقهاء السبعة بالمدينة، قال مالك: لم يكن أحد في زمن سالم أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والفضل، مات سنة 106 هـ وقيل سنة سبع.
(5) قوله: أن رجلاً، سماه ابن وهب وابن القاسم في روايتهما للموطأ: عثمان بن عفان، وقال ابن عبد البّر: لا أعلم فيه خلافاً، قال: وكذا وقع في رواية ابن وهب، عن أسامة بن زيد الليثي، عن نافع، عن ابن عمر، ورواية معمر عن(1/297)
الجمعة و (1) عمرُ بنُ الْخَطَّابِ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَقَالَ: أيَّة (2) ساعةٍ هَذِهِ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: انقلبتُ (3) مِنَ السُّوقِ فسمعتُ النِّدَاءَ (4) فَمَا زدتُ (5) عَلَى أَنْ توضَّأْتُ ثُمَّ أَقْبَلْتُ، قَالَ عُمَرُ: والوضوءَ (6) أَيْضًا (7) ! وَقَدْ علمتَ (8)
__________
الزهري عن عبد الرزاق، وفي حديث أبي هريرة في روايته لهذه القصة عند مسلم، كذا في "التنوير".
(1) الواو حالية.
(2) بتشديد الياء، تأنيث أيّ، استفهام إنكار وتوبيخ على تأخُّره إلى هذه الساعة (كان غرض عمر رضي الله عنه التنبيه على ساعات التبكير التي وقع فيها الترغيب لأنها إذا انقصت طوت الملائكة الصحف، ولذا بادر عثمان رضي الله عنه إلى الاعتذار) .
(3) قوله: انقلتب، أي رجعت، روى أشهب عن مالك قال: إن الصحابة كانوا يكرهون ترك العمل يوم الجمعة على نحو تعظيم اليهود السبت، والنصارى الأحد، كذا في "التنوير".
(4) أي الأذان بين يَدَيْ الخطيب.
(5) أي لم أشتغل بشيء إلاَّ بالوضوء.
(6) قوله: والوضوء، قال النووي: أي توضأت الوضوء فقط، قاله الأزهري، وقال الحافظ ابن حجر: أي الوضوء أيضاً اقتصرتَ عليه، أو اخترته دون الغسل. والمعنى ما اكتفيت بتأخير الوقت وتفويتِ الفضيلة حتى تركتَ الغسل واقتصرتَ على الوضوء. وجوّزَ القرطبي الرفع على أن خبره محذوف، أي والوضوء أيضاً يقتصر عليه.
(7) فيه دليل على عربية "أيضاً" وقد توقَّف فيه جمال الدين بن هشام، كذا في "مرقاة الصعود".
(8) ومع علمك تركت الغسل واكتفيت (في الأصل: "على الوضوء"، وهو تحريف) بالوضوء.(1/298)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ (1) بالغُسْل.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الغُسْلُ أفضلُ (2) يومَ الجمعة، وليس بواجبٍ (3) .
__________
(1) قوله: كان يأمر بالغسل، استَدل بهذا اللفظ وبزجر عمر لعثمان في أثناء الخطبة على ترك الغسل من قال بوجوبه. وأجاب عنه الطحاوي بأن عمر لم يأمر عثمان بالرجوع للغسل وذلك بحضرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك إجماعاً على نفي وجوب الغسل، ولولا ذلك ما تركه عثمان، ولما سكت عمر من أمره إياه بالرجوع، وذكره نحوه ابن خزيمة وابن عبد البر والطبري والخطّابي وغيرهم، وارتضاه كثير من شرّاح صحيح البخاري وغيرهم. ولا يخفى ما فيه فإنه إنما ينهض دليلاً على من قال باشتراط الغسل لصحة صلاة الجمعة، وهم قوم من الظاهرية، وأما من قال بوجوبه مستقلاً بدون الاشتراط فلا، لأن له أن يقول الغسل وإن كان واجباً لكنْ تَرَكَه عثمان لشغله بأمر وضيق وقت فهو معذور في تركه، ولا يلزم من تركه أن لا يكون واجباً، وإنما لم يأمره عمر بالرجوع لأنه قد وجب عليه أمر آخر وهو سماع الخطبة فلو أمر بالرجوع لزم اختيار الأدنى وترك الأعلى.
وبالجملة وجوب الغسل مقيَّد بسعة الوقت، وعند ضيقه وخوف فوت واجب آخر يسقط وجوبه، فالأولى أن يُمنع دلالة قصة عمر على الوجوب بأن زجرَه عثمانَ على ترك الغسل وترك الخطبة لأجله يُحتمل أن يكون لتركه سنَّة مؤكدة، فإن الصحابة كانوا يبالغون في الاهتمام بالسنن.
(2) قوله: أفضل، هذا يشمل الاستنان والاستحباب، والأول مختار كثير من أصحابنا، والثاني رأي بعض أصحابنا، والأول أرجح.
(3) قوله: وليس بواجب، وذهب الظاهرية إلى وجوبه أخذاً من ظاهر الأحاديث المارَّة، وبه قال الحسن وعطاء بن أبي رباح، والمسيب بن رافع، ذكره(1/299)
وَفِي هَذَا (1) آثَارٌ كَثِيرَةٌ.
63 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا الرَّبيع بن صَبِيحٍ (2) ، عن سعيدٍ الرَّقَاشي (3) ،
__________
العيني، وهو المروي عن أحمد في رواية والمحكيّ عن أبي هريرة وعمار بن ياسر، كذا قال القسطلاني. وذكر النووي في شرح صحيح مسلم أن ابن المنذر حكى الوجوب عن مالك، وكلام مالك في الموطأ وأكثر الروايات عنه تردّه. وقال ابن حجر: حكى ابنُ حزم الوجوب عن عمر وجمَّ غفير من الصحابة ومن بعدهم، ثم ساق الرواية عنهم، لكن ليس فيها عن أحد منهم التصريح بذلك إلاَّ نادراً، وإنما اعتمد ابن حزم في ذلك على أشياء محتملة كقول سعد: ما كنت أظن مسلماً يدع الغسل يوم الجمعة.
(1) أي عدم الوجوب.
(2) قوله: أخبرنا الربيع هو الربيع بن صَبيح - بفتح أولهما - السعدي البصري، صدوق سيِّئ الحفظ، وكان عابداً مجاهداً، قال الرَّامَهُرْمُزي: هو أول من صنَّف الكتب بالبصرة، مات سنة ستين بعد المائة، كذا في "التقريب". وذكر في "تهذيب التهذيب" أنه روى عن الحسن البصري، وحُميد الطويل، ويزيد الرقاشي، وأبي الزبير، وأبي غالب، وغيرهم، وعنه الثوري، وابن المبارك، ووكيع، وغيرهم، قال العجلي وابن عدي: لا بأس به.
(3) قوله: عن سعيد الرقاشي، بفتح الراء المهملة وخفة القاف وآخره شين معجمة، نسبة إلى رقاش اسم امرأة كثر (في الأصل: "كثرت"، وهو تحريف) أولادها حتى صاروا قبيلة، وهو بنت سبيعة بن قيس بن ثعلبة، وذكره السمعاني وابن الأثير، وسعيد هذا لعله سعيد بن عبد الرحمن الرقاشي، ذكره الذهبي في "ميزان الاعتدال"، وقال: ليَّنه يحيى القطان ووثَّقه جماعة، وقال ابن عدي: توقَّف فيه ابن القطان، ولا أرى به بأساً، وقد رُوي عن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب قال: أتقوا الله واتقوا الناس. انتهى، فلْيُحَرَّر.(1/300)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ (1) ، كِلاهُمَا يَرْفَعُهُ (2) إِلَى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه قال:
__________
والذي أظن أنَّ هذا من النُّسّاخ، فإن هذه الرواية بعينها وجدتها في كتاب الحجّ وفيه: محمد أخبرنا الربيع بن صبيح البصري، عن يزيد الرّقاشي، عن أنس وعن الحسن البصري كلاهما يرفعه ... إلخ، وقال الذهبي في "الكاشف" في ترجمته: يزيد بن أبان الرقاشي العابد، عن أنس والحسن، وعنه صالح المُرِّي وحماد بن سلمة، ضعيف. انتهى. وذكر في "تهذيب التهذيب" في ترجمة الربيع: يزيد الرقاشي من شيوخه، وليس لسعيد فيه ذكر، (زاد في نسخة) [وقال أبو عيسى الترمذي في آخر شمائله - عندما روى حديثاً من طريق يزيد الفارسي، عن ابن عباس -: يزيد الفارسي، هو يزيد بن هرمز، وهو أقدم من يزيد الرقاشي، وروى يزيد الفارسي عن ابن عباس أحاديث، ويزيد الرقاشي لم يدرك ابن عباس، وهو يزيد بن أبان الرقاشي، وهو يروي عن أنس بن مالك، ويزيد الفارسي، ويزيد الرقاشي كلاهما من أهل البصرة، انتهى] .
(1) قوله: وعن الحسن البصري، هو من أَجِلَّة التابعين الحسن بن أبي الحسن يسار، أمه مولاة لأم سلمة، وُلد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وقدم من المدينة إلى البصرة بعد مقتل (في الأصل: "قتل"، والصواب: "مقتل") عثمان، روى عن جماعة من الصحابة، وروى عنه جمع من التابعين، كان إماماً ثقة ذا علم وزهد وورع وعبادة، مات في رجب سنة 110 هـ، كذا في "جامع الأصول"، وله ترجمة طويلة في "تهذيب التهذيب" وغيره.
(2) وفي نسخة يرفعانه. قوله: كلاهما يرفعه، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الترمذي: حسن صحيح، وقد روي عن الحسن مرسلاً، وأخرجه أحمد في مسنده والبيهقي في سننه وابن أبي شيبة في مصنفه، وأعلَّه بعض المحدثين بأن الحسن لم يسمع من سمرة،(1/301)
مَنْ توضَّأ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا ونِعْمَتْ (1) وَمَنِ اغتسل فالغُسْل أفضل.
__________
كما قال ابن حبان في النوع الرابع من القسم الخامس: الحسن لم يسمع من سمرة شيئاً، وكذا قال ابن معين وشعبة، وقال الدارقطني: الحسن اختُلف في سماعه عن سمرة، والحسن لم يسمع من سمرة إلاَّ حديث العقيقة.
والجواب عنه أنه نَقل البخاري في أول "تاريخه الوسط"، عن على بن المديني أن سماع الحسن من سمرة صحيح. ونقله الترمذي عن البخاري وسكت عليه. واختاره الحاكم في المستدرك، والبزار، فيُقدَّم إثبات هؤلاء على نفي أولئك، وأما مرسله فهو مقبول، فإنَّ مراسيل الحسن معتمدة، وقد روى هذا الحديث جمع من الصحابة غير سمرة، أخرجه أصحاب الكتب المعتمدة، وضَعْفُ بعضها ينجبر بالبعض، منهم أنس أخرجه ابن ماجه عنه مرفوعاً: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونِعْمَتْ تجزئ عنه الفريضة، ومن اغتسل فالغسل أفضل: وأخرجه الطحاوي والبزار والطبراني في "المعجم الوسط". ومنهم أبو سعيد الخدري أخرج حديثه البيهقي والبزار. ومنهم أبو هريرة أخرج حديثه البزار وابن عدي ومنهم جابر أخرجه عبد بن حميد وعبد الرزاق وابن عدي، ومنهم عبد الرحمن بن سمرة أخرجه الطبراني والعُقَيلي. ومنهم ابن عباس أخرجه البيهقي.
وبالجملة هذا الحديث له أصل أصيل، وهو دالّ على أن الغُسل ليس بواجب، وإلاَّ فكيف يكون مجرَّد الوضوء حسناً، واستدلَّ به بعضهم على الاستحباب، وهو كذلك لولا ثبوت مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على الغسل يوم الجمعة فإنها دالَّة على الاستنان.
(1) قوله: فبها ونعمت، قال الأصمعي: معناه فبالسنَّة أخذ ونعمت السنَّة، وقال أبو حامد: معناه فبالرخصة أخذ لأن السنَّة الغسل، وقال الحافظ أبو الفضل العراقي: أي فبطهارة الوضوء حصل الواجب في التطهير للجمعة ونِعْمَت الخصلة هي، أي الطهارة، وهو بكسر النون وسكون العين في المشهور، ورُوي بفتح النون وكسر العين، وهو الأصل في هذه اللفظة، ورُوي نَعِمتَ بفتح النون وكسر العين(1/302)
64 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ أبانَ (1) بنِ صَالِحٍ، عَنْ حَمَّادٍ (2) ، عَنْ إبراهيمَ النَّخَعي، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الغُسْل يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْغُسْلِ مِنَ الْحِجَامَةِ، وَالْغُسْلِ فِي الْعِيدَيْنِ؟ قَالَ: إِنِ اغتسلتَ فحسنٌ، وإنْ تركتَ فليسَ عَلَيْكَ (3) ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَاحَ (4) إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ (5) ؟ قَالَ: بَلَى، ولكنْ لَيْسَ مِنَ الأُمُورِ الْوَاجِبَةِ، وَإِنَّمَا (6)
__________
وفتح التاء، أي نعمك الله، قال النووي في "شرح المهذب": هذا تصحيف نبَّهتُ عليه لئلا يُغترّ به، كذا في "زهر (في الأصل: "زهرة الربى"، وهو تحريف) الربى على المجتبى" للسيوطي.
(1) قوله: محمد بن أبان بن صالح، بفتح الألف وخفة الباء الموحدة، هو ممن ضعفه جمع من النقّاد، ففي "ميزان الاعتدال" للذهبي: محمد بن أبان بن صالح القرشي ويقال له الجعفي الكوفي حدَّث عن زيد بن أسلم وغيره، ضعَّفه أبو داود وابن معين، وقال البخاري: ليس بالقويّ، وقيل كان مرجئاً، انتهى. وفي "لسان الميزان" للحافظ ابن حجر: قال النسائي: محمد بن صالح القرشي كوفي، ليس بثقة. وقال ابن حيان: ضعيف. وقال أحمد: لم يكن ممن يكذب. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: ليس بالقوي، يُكتب حديثه ولا يحتج به، وقال البخاري في "التاريخ": يتكلمون في حفظه لا يُعتمد عليه.
(2) ابن أبي سليمان.
(3) أي: لا يلزم عليك من تركه شيء.
(4) أي: ذهب.
(5) فإنه أمر، وظاهر الأمر للوجوب.
(6) يريد أنه ليس كل أمر في الشرع فهو للُّزوم والوجوب، بل قد يكون الأمر للاستحسان والإباحة.(1/303)
وهو كقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} ، فَمَنْ أَشْهَدَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ تَرَك (1) فَلَيْسَ عَلَيْهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى (2) : {فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} ، فَمَنِ انْتَشَرَ فَلا بَأْسَ وَمَنْ جَلَسَ فَلا بَأْسَ.
قَالَ حَمَّادٌ (3) : وَلَقَدْ رأيتُ إبراهيمَ النَّخَعي يَأْتِي الْعِيدَيْنِ (4) وَمَا يَغْتَسِلَ (5) .
65 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا محمد بن أبان، عن ابن جُرَيْج (6) ،
__________
(1) قوله: ومن ترك فليس عليه، أي: من ترك الإشهاد على المبايعة، فليس عليه شيء، فإنَّ الأمر للندب والاستحباب، لا للإلزام والإيجاب، هذا هو قول الجمهور. وقال الضحاك: هو عزم من الله تعالى، والإشهاد واجب في صغير الحق وكبيره. كذا نقله البغوي في "معالم التنزيل".
(2) قوله: وكقوله تعالى: {فإذا قُضِيَتِ ... } ، أي: أُدِّيت، فإن القضاء يُستعمل لمعنى الأداء {الصلاة} ، أي: صلاة الجمعة {فَانتَشِرُوا في الأَرْضِ} للتجارة والتصرّف في حوائجكم {وَابْتَغُوْا مِنْ فَضْلِ الله} يعني الرزق، وهذا أمر إباحة، كقوله تعالى: {وإذا حَلَلْتُم فاصطادوا} . وقال ابن عباس: إن شئتَ فاخرج، وإن شئتَ فاقعد، وإن شئتَ فصلِّ إلى العصر. كذا قال البغوي.
(3) يريد تأييد قول النخعي بفعل.
(4) أي: إلى المصلَّى لصلاة العيدين.
(5) ظناً منه أنه من الأمور المستحبة فمن ترك فلا حرج.
(6) قوله: عن ابن جُرَيْج، بضم الجيم مصغراً آخره جيم أيضاً، هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي، مولاهم المكي الفقيه، ثقة فاضل، توفي سنة خمسين بعد المائة أو بعدها، كذا في "التقريب" و"الكاشف".(1/304)
عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاح قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا (1) عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَحَضَرَتِ الصلاةُ (2) ، أَيْ الْجُمُعَةُ، فَدَعَا بوَضوء (3) فتوضَّأ (4) ، فَقَالَ لَهُ بعضُ أَصْحَابِهِ: أَلا تَعْتَسِلُ؟ قَالَ: اليومَ يومٌ بارِدٌ (5) ، فَتَوَضَّأَ (6) .
66 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا سَلاّم (7) بْنُ سُلَيْمٍ (8) الْحَنَفِيُّ (9) ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ (10) قَالَ: كَانَ علقمةُ بْنُ قَيْسٍ إِذَا سَافَرَ لَمْ يصلِّ الضُّحَى (11) وَلَمْ يغتسِل يومَ الْجُمُعَةِ (12) .
__________
(1) أي: جالسين.
(2) أي: جاء وقتها.
(3) أي: ماء يَتوضأ به.
(4) أي: أراد أن يتوضأ.
(5) يورث الغسل فيه الكُلْفة.
(6) قوله: فتوضأ، تأكيد لتوضأ الأول إن كان الأول على معناه، وإن كان على معنى الإرادة فهو تأسيس، ويمكن أن يكون معناه، فثبت على وضوئه ولم يتوجَّه إلى الغسل.
(7) بفتح الأول وتشديد الثاني.
(8) بصيغة التصغير.
(9) نسبة إلى قبيلة بني حنيفة، لا إلى الإمام أبي حنيفة كما ظنَّه القاري.
(10) أي: النخعي.
(11) قوله: لم يصلِّ، قال القاري: أي: لم يصلَّ الضحى، فإنها مستحبة، وقد تصدَّق الله عن المسافر ببعض الفرائض فكيف بالسنَّة.
(12) قوله: ولم يغتسل يوم الجمعة، فيه دلالة على أن غُسل يوم الجمعة(1/305)
67 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا سفيانُ الثَّوْرِيُّ (1) ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ (2) ، عن مجاهد (3)
__________
لصلاة الجمعة لا لنفس اليوم فيسقط استنانه عمَّن تسقط عنه صلاة الجمعة كالمسافر، وقد اختُلف فيه، فقيل: إنه لليوم ونسبة إلى الحسنِ بن زياد صاحب "الهداية" وغيره، ونسبة العيني في "شرحه" إلى محمد وداود الظاهري. والثاني وهو الصحيح عند الجمهور أنه للصلاة لظاهر الأحاديث: "إذا جاء أحدكم الجمعة ... "، ونحو ذلك. ومنشأ الخلاف أنّ من لا تجب عليه الجمعة ليس لهم الغسل على القول الأول دون الثاني.
(1) قوله: سفيان الثوري، هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، نسبة إلى ثور - بالفتح - بن عبد مناة بن أد بن طانجة، قبيلة، روى عن جماعة كثير، وعنه جماعة غفيرة، كما بسطه المِزِّي في "تهذيب الكمال"، وذكر في ترجمته: قال شعبة وابن عيينة وأبو عاصم وابن معين: هو أمير المؤمنين في الحديث، وقال ابن المبارك: كتبتُ عن ألف ومائة شيخ ما كتبتُ عن أفضل من سفيان، وقال شعبة: سفيان أحفظ مني، وقال ابن مهدي: كان وهب يقدِّم سفيان في الحفظ على مالك، وقال الدُّوري: رأيت يحيى بنَ معين لا يقدِّم على سفيان في زمانه أحداً في الفقه والحديث والزهد وكلِّ شيء، مولده سنه 97 هـ، وتوفي بالبصرة سنة 161 هـ. انتهى ملخَّصاً.
(2) أي: ابن المعتمر الكوفي.
(3) قوله: عن مجاهد، هو ابن جَبْر - بفتح الجيم وسكون الباء الموحدة - أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي المقرئ المفسِّر الحافظ، سمع سعداً وعائشة وأبا هريرة، وابن عباس، ولزمه مدة، وقرأ عليه القرآن، وروى عنه الأعمش ومنصور وابن عون وقتادة وغيرهم، قال قتادة: أعلم من بقي بالتفسير مجاهد، وقال ابن جريج: لأن أكون سمعت من مجاهد أحبُّ إليَّ من أهلي ومالي، وكان من أعيان الثقات، كذا في "تذكرة الحفاظ للذهبي، وذكر في التقريب وغيره أن وفاته كانت سنة إحدى، أو اثنتين أو ثلاث أو أربع ومائة.(1/306)
قَالَ: مَنِ اغْتَسَلَ يومَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ (1) أَجَزَأَهُ (2) عَنْ غُسْلِ يومِ الْجُمُعَةِ.
68 - قَالَ محمد: أخبرنا عبّادُ بنُ العوّام (3) ،
__________
(1) وأما إن اغتسل قبل طلوع الفجر فظاهر الأخبار أنه لا يكفي في إحراز الفضيلة.
(2) قوله: أجزأه، يشير إلى أنه لا يُشترط اتصال الغسل بذهبه إلى المسجد، بل لو اغتسل بعد طلوع الفجر الصادق من الجمعة كفى ذلك، وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": استدل مالك بالحديث في أنه يُعتبر أن يكون الغسل متصلاً بالذهاب، ووافقه الأوزاعي والليث، والجمهور قالوا: يجزئ من بعد الفجر، وقال الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل سئل عمن اغتسل ثم أحدث هل يكفيه الوضوء؟ فقال: نعم، ولم أرَ فيه أعلى من حديث ان أَبْزى. يشير إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أَبْزى، عن أبيه، وله صحبة: أنه كان يغتسل يوم الجمعة ثم يحديث فيتوضأ ولا يعيد الغسل. انتهى. وذكر صاحب "خلاصة الفتاوى" و"البناية" وغيرهما: أنه لو اغتسل يوم الجمعة ثم أحدث وصلّى بوضوء مستحدث لا ينال ثواب غسل الجمعة عند أبي يوسف، وعند الحسن ينال. وفيه نظر بأن هذا الغسل كما هو مقتضى الأحاديث للنظافة ودفع الرائحة لا للطهارة فلا يضر تخلُّل الحدث، وذكر في "الخلاصة" أيضاً أنه لو اغتسل قبل الصبح ودام على ذلك حتى صلّى به الجمعة ينال فضل الغسل عند أبي يوسف وعند الحسن لا. وفيه نظر ذكره الزيلعي في "شرح الكنز" وهو أنه لا يشترط وجود الاغتسال في ما سُنَّ الاغتسال لأجله، وإنمّا يشترط أن يكون متطهِّراً، فينبغي الإجزاء في الصورة المذكورة عند الحسن أيضاً. وقد صرح به قاضي خان في "فتاواه".
(3) قوله: أخبرنا عبّاد (في نسخة، قال محمد: أخبرنا سفيان الثوري، عن عبّاد بن العوام) بن العوّام، بتشديد الباء الموحدة والواو، قال(1/307)
أَخْبَرَنَا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرة (1) ، عَنْ عائشة، قالت (2) :
__________
الذهبي في "تذكرة الحفاظ": عباد بن العوام الإمام المحدث أبو سهل الواسطي. وثَّقه أبو داود وغيره، قال ابن سعد: كان من نبلاء الرجال في كل أمر، وكان يتشيَّع فحبسه الرشيد زماناً، ثم خلّى عنه، فأقام ببغداد، واختُلف في وفاته بعد سنة ثمانين ومائة على أقوال: سنة ثلاثٍ، أو خمس، أو ست، أو سبع، وهو متفق على الاحتجاج به. انتهى ملخَّصاً.
(1) قوله: عن عَمرة، بالفتح. بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، كانت في حجر عائشة وربتها، وروت عنها كثيراً من حديثها وعن غيرها (في الأصل: "وغيرها"، والظاهر: "عن غيرها") وروى عنها جماعة، منهم يحيى بن سعيد الأنصاري، وابنه أبو الرجال محمد بن عبد الرحمن بن حارثة، وأبو بكر محمد بن عمرو بن حزم، ماتت سنة ثلاث ومائة، وهي من التابعيات المشهورات، كذا قال ابن الأثير الجزري في "جامع الأصول".
(2) قوله: قالت ... إلخ، أخرجه أبو داود عنها بلفظ: كان الناس مهّانَ أنفسهم، فيروحون إلى الجمعة بهيآتهم، فقيل لهم: لو اغتسلتم. وروي عن عكرمة أن ناساً من أهل العراق جاؤوا إلى ابن عباس، فقالوا: أترى الغسل يوم الجمعة واجباً؟ قال: لا، ولكنه أطهر، وسأخبركم كيفَ بَدْءُ الغسل: كان الناس مجهودين يَلْبسون الصوف ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيِّقاً مقارب السقف، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حار، وعرق الناس في ذلك الصوف، حتى ثارت منهم رياح آذى بذلك بعضهم بعضاً، فلما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الريح قال: أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا وليمسَّ أحدكم أفضل ما يجد من دُهنه وطيبه، قال ابن عباس: ثم جاء الله بالخير، ولبسوا غير الصوف، وكُفُوا العمل، ووسِّع مسجدهم، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضاً من العرق. وفي رواية النسائي، عن عائشة: إنما كان الناس يسكنون العالية فيحضرون الجمعة وبهم وسخ، فإذا أصابهم الريح سطعت أرواحهم فيتأذى به الناس، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أولا: يغتسلون؟ وفي لفظ مسلم: كان الناس ينتابون الجمعة(1/308)
كَانَ الناسُ عُمّالَ أنفسِهِم (1) ، فَكَانُوا يَرُوحون إِلَى الجمعة (2) بهيآتهم، فكان يقال لهم (3) : لواغتسلتُم (4) (5) .
__________
من منازلهم ومن العوالي، فيأتون في العباء ويصيبهم الغبار، فيخرج منهم الريح، فَأُتِيَ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنسانٌ منهم وهو عندي، فقال: لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا. وقال الطحاوي بعد ما رَوى عن ابن عباس نحو ما مرَّ: فهذا ابن عباس يُخبر أن الأمر الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به لم يكن للوجوب عليهم، وإنما كان لعلَّة، ثم ذهبت تلك العلّة، فذهب الغسل، هو أحد من روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بالغسل، وقال بعد رواية قول عائشة: فهذه عائشة تخبر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نَدَبَهم إلى الغسل للعلّة كما أخبر بها ابن عباس وأنه لم يجعل ذلك عليهم حتماً. انتهى.
(1) أي يعملون بأيديهم لأنفسهم بالمزارعة وغيرها ولم يكن لهم خوادم.
(2) قوله: إلى الجمعة، أي: يذهبون لصلاة الجمعة على هيآتهم ولباسهم المعتاد من غير غسل، ولا استعمال طيب ولا تغيير لباس.
(3) أي: من حضرة الرسالة (أي من رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
(4) أي: لكان أَولى.
(5) قوله: لو اغتسلتم، دلَّ هذا الخبر على أن الغسل إنما يُعتدُّ به إذا كان قبل الصلاة، فإن اغتسل بعد الصلاة لا يُعتدُّ به، وقد حكى ابن عبد البر الإجماع عليه، وذهب ابن حزم الظاهري ومن تبعه إلى أنه يُكتفى بالغسل يوم الجمعة سواء كان قبل الصلاة أو بعدها، وهو خلاف الأحاديث الواردة في شرعية الغسل، وقد ردَّه ابن حجر في "فتح الباري" بأحسن ردّ.(1/309)
18 - (بَابُ الاغْتِسَالِ يومَ الْعِيدَيْنِ)
69 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَغْتَسِلُ قَبْلَ أَنْ يَغْدُوَ (1) (2) إِلَى الْعِيدِ.
70 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (3) نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَغْدُوَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الغُسْلُ يومَ الْعِيدِ حَسَنٌ (4) وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهُوَ قول أبي حنيفة رحمه الله.
__________
(1) أي: يذهب بالغداء.
(2) قوله: قبل أن يغدو، استنبط منه صاحب "البحر الرائق" أن غُسل العيد للصلاة لا لليوم، وذكر الياس زاده في "شرح النقاية": لم يُنقل في هذا الغسل أنه لليوم أو للصلاة. وينبغي أن يكون مثل الجمعة، لأن في العيدين أيضاً الاجتماع، فيُستحبّ الاغتسال دفعاً للرائحة الكريهة. انتهى.
(3) وفي نسخة: أخبرني.
(4) قوله: حسن، هذا يشتمل الاستنان والاستحباب، فمن قال باستنان غسل يوم الجمعة، قال باستنان غسل العيدين، ومن قال باستحبابه، قال باستحبابه. والأرجح هو الأول لما روى ابن ماجه عن الفاكه بن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الفطر ويوم الأضحى. قال الحافظ ابن حجر في"تخريج أحاديث شرح الوجيز" للرافعي: رواه البزار والبغوي وابن قانع وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند من حديث الفاكه، وإسناده ضعيف، ورواه البزار من حديث أبي رافع، وإسناده ضعيف أيضاً، وفي باب من الموقوف عن علي رواه الشافعي. وعن ابن عمر رواه مالك، وروى البيهقي عن عروة بن الزبير أنه اغتسل للعيد وقال: إنه السُّنَّة.(1/310)
19 - (بَابُ التيمُّم (1) بالصَّعِيد)
71 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، أَنَّهُ أَقْبَلَ هُوَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مِنَ الجُرف (2) حَتَّى إِذَا كَانَ بالمِرْبَد (3) نَزَلَ عبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ فَتَيَمَّمَ (4) صَعِيدًا طَيِّبًا، فَمَسَحَ وجهَه ويدَيه إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ (5) ، ثُمَّ صَلَّى (6) .
__________
(1) قوله: التيمُّم، هو في اللغة القصد، وفي الشرع القصد إلى الصعيد لمسح الوجه واليدين بنيَّة استباحة الصلاة وغيرها.
(2) بضم فسكون، أو بضمتين: موضع على ثلاثة أميال من المدينة.
(3) قوله: المِرْبَد، بكسر الميم وسكون الراء وموحدة مفتوحة ودال مهملة على ميل (قلت: لعله أزيد من ميل وأقل من ميلين، فحذف الكسر مرة، واعتبر به أخرى، لأن المِرْبَد مجلس الإبل وفضاء وراء البيوت ترتفق به كذا في "عمدة القاري"، وهو لا يكون إلاّ بقرب المدينة متصلاً بها، جزم الحافظ في "الفتح" بأنه من المدينة على ميل (1/374) . والميل: هو ثلاث فراسخ بغلبة الظن، وفي "الطحطاوي على مراقي الفلاح" (ص 66) : الميل في اللغة منتهى مدّ البصر) ، أو ميلين من المدينة، قاله الباجي.
(4) قوله: فتيمم، قال الباجي: فيه التيمّم في الحضر لعدم الماء، إذ ليس بين الجرف والمدينة مسافة القصر، قال محمد بن مسلمة: وإنما تيمّم بالمربد، لأنه خاف فوات الوقت يعني المستحب، وروى في البخاري أنه دخل المدينة والشمس مرتفعة ولم يُعِد، وإلى جوازه في الحضر ذهب مالك وأصحابه وأبو حنيفة والشافعي، وقال زفر وأبو يوسف: لا يجوز التيمم في الحضر بحال، كذا قال الزرقاني.
(5) أي: معهما.
(6) حفظاً للوقت.(1/311)
72 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عبدُ الرَّحْمَنِ (1) بنُ الْقَاسِمِ، عن أبيه (2) ، عن عائشة رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم في بعض أسفاره (3)
__________
(1) قوله: عبد الرحمن، هو ابن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق المدني الفقيه، وثَّقه أحمد وغير واحد، مات بالشام سنة 126 هـ، كذا في "الإسعاف".
(2) قوله: عن أبيه، هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق المدني، قال ابن سعد: ثقة رفيع، عالم فقيه ورع، مات سنة ست ومائة على الصحيح، كذا قال السيوطي وغيره.
(3) في نسخة "الأسفار" قوله: في بعض أسفاره، قال ابن حجر في "فتح الباري": قال ابن عبد البر في "التمهيد": يُقال إنه كان في غزاة بني المصطلق، وجزم بذلك في "الاستذكار" وسبقه إلى ذلك ابن سعد وابن حبان، وغزاة بني المصطلق هي غزاة المُرَيْسيع، وفيها (في الأصل: "وفيه" والظاهر: "وفيها") وقعت قصة الإفك لعائشة، وكان ابتداء ذلك بسبب وقوع عِقدها، فإن كان ما صرَّحوا به ثابتاً حُمل على أنه سقط منها في تلك السفرة مرتين. لاختلاف القصتين كما هو بيَّن في سياقهما، واستبعد بعض شيوخنا ذلك، قال: لأن المريسيع من ناحية مكة بين قديد والساحل، وهذه القصة كانت من ناحية خيبر لقولها في الحديث: حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش، وهما بين المدينة وخيبر. جزم به النووي.
قلت: وما جزم به مخالف لما جزم به ابن التِّين، فإنه قال: البيداء هي ذو الحُليفة بالقرب من المدينة من طريق مكة، وذات الجيش وراء ذي الحليفة، وقال أبو عُبيد البكري في "معجمه": البيداء أدنى إلى مكة من ذي الحليفة، ثم ساق حديث عائشة، ثم ساق حديث ابن عمر قال: بيداؤكم هذه التي تكذبون فيها: ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ من عند المسجد ... الحديث. قال: والبيداء هو الشرف(1/312)
حَتَّى إِذَا كُنَّا بالبيداءِ أَوْ (1) بذاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ (2) عِقدي (3) ، فَأَقَامَ (4) رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التماسِهِ (5) ، وَأَقَامَ الناسُ وَلَيْسُوا عَلَى ماءٍ (6) وَلَيْسَ مَعَهُمْ ماءٌ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ (7) فَقَالُوا: أَلا تَرَى إِلَى ما صنعت عائشة؟ أقامت (8)
__________
الذي قُدّام ذي الحُليفة في طريق مكة، وذات الجيش من المدينة على بريد، وبينها وبين العقيق سبعة أميال، والعقيق من طريق مكة، لا من طريق خيبر، فاستقام ما قاله ابن التين.
(1) الشك من عائشة.
(2) قوله: انقطع، في التفسير من رواية عمرو بن الحارث: سقطت قِلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل وهذا مشعر بأن ذلك كان عند قربهم من المدينة كذا في الفتح.
(3) قوله عقد بكسر المهملة كل ما يعقد ويعلق في العنق ويسمى قلادة ولأبي داود من حديث عمار أنه كان من جزع ظفار، وفي رواية عمرو بن الحارث: سقطت قلادة لي، وفي رواية عروة عنها: أنها استعارت قلادة من أسماء فهلكت، أي: ضاعت. والجمع بيهما أن إضافة القلادة إلى عائشة لكونها في يدها وتصرُّفها، وإلى أسماء لكونها مِلْكَها، كذا في "الفتح".
(4) قوله: فأقام، فيه اعتناء الإمام بحفظ حقوق المسلمين وإن قلَّت، فقد نقل ابن بطّال أن ثمن العقد كان اثني عشر درهماً، قاله في "الفتح".
(5) أي: لأجل طلبه.
(6) استدل بذلك على جواز الإقامة في المكان الذي لا ماء فيه.
(7) فيه شكوى المرأة إلى أبيها وأن كان لها زوج.
(8) أُسند الفعل إليها، لأنه كان بسببها.(1/313)
بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى ماءٍ (1) وَلَيْسَ مَعَهُمْ ماءٌ، قَالَتْ: فَجَاءَ أَبُو بكرٍ (2) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ورسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واضعٌ رأسَه عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حبستِ (3) رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والناسَ وَلَيْسُوا عَلَى ماءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ ماءٌ، قَالَتْ: فعاتَبَني وَقَالَ مَا شاءَ اللَّهُ (4) أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطعُنُني (5) بيدِهِ فِي خَاصِرَتِي (6) ، فَلا يمنعُني مِنَ التحرُّكِ إلاَّ رأسُ (7) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَصْبَحَ (8) عَلَى غير ماءٍ، فأنزل الله
__________
(1) جملة حالية.
(2) فيه جواز دخول الرجل على بنته، وإن كان زوجها عندها إذا علم رضاه بذلك.
(3) منعتِ.
(4) أي: من كلمات الزجر والعتاب.
(5) قوله يطعنني، بضم العين وكذا جميع ما هو حسّي، وأما المعنوي فيقال: يطعَن بالفتح، هذا هو المشهور فيهما، وحُكي فيهما معاً الفتح والضم، كذا في "التنوير".
(6) خصر الإنسان بفتح المعجمة وسكون المهملة: وسط الإنسان.
(7) أي كونه واستقراره.
(8) قوله: حتى أصبح، قال بعضهم: ليس معناه بيان غاية النوم إلى الصباح، بل بيان غاية فقد الماء إلى الصباح، لأنه قيَّد قوله "حتى أصبح" بقوله: "على غير ماء"، أي: آل أمره إلى أن أصبح على غير ماء. وأما رواية عمرو بن الحارث فلفظها: ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح، فإن أعربت الواو حالية كان دليلاً على أن الاستيقاظ وقع حال وجود الصباح وهو الظاهر، واستُدِلَّ به(1/314)
تَعَالَى آيَةَ التيمُّم (1) فتيمَّمُوا (2) ، فَقَالَ أُسَيد (3) (4) (5) بن حُضَير (6) : ما هي بأوَّل بركتكم (7)
__________
على أن طلب الماء لا يجب إلاّ بعد دخول الوقت لقوله في رواية عمر بعد قوله حضرت الصبح: فالتمس الماء فلم يوجد، وعلى أن الوضوء كان واجباً عليهم قبل نزول آية الوضوء، ولذا استعظموا نزولهم على غير ماء، كذا في "الفتح".
(1) قوله: آية التيمم، قال ابن العربي: هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء، لأنّا لا نعلم أي الآيتين عَنَتْ، وقال ابن بطال: هي آية النساء أو آية المائدة وقال القرطبي: هي آية النساء، ووجهه بأن آية المائدة تسمى آية الوضوء، وأورد الواحدي في "أسباب النزول" الحديث عند ذكر آية النساء أيضاً، وخفي على الجميع ما ظهر للبخاري من أن المراد آية المائدة بغير تردد لرواية عمرو بن الحارث إذ صرَّح فيها بقوله: "فنزلت: {يَا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ ... } الآية، كذا في "الفتح".
(2) يحتمل أن يكون حكاية عن فعل الصحابة، ويحتمل أن يكون حكاية لبعض الآية.
(3) بالتصغير.
(4) أبو يحيى الأنصاري الصحابي الجليل، مات سنة عشرين أو إحدى وعشرين.
(5) قوله: فقال أسيد، إنما قال ما قال دون غيره، لأنه كان رأس مَن بُعث في طلب العقد الذي ضاع، كذا في "الفتح".
(6) بمهملة ثم معجمة مصغراً.
(7) قوله ما هي بأول بركتكم، أي: بل هي مسبوقة بغيرها من البركات، وفي رواية هشام بن عروة: فوالله ما نزل بكِ أمر تكرهينه إلاّ جعل الله للمسلمين فيه خيراً. وهذا يُشعر بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك، فيقوى قول من ذهب إلى(1/315)
يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ (1) ، قَالَتْ: وَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّتِي كنتُ عَلَيْهِ (2) فَوَجَدْنَا (3) العِقدَ تَحْتَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، والتيمُّمُ ضَرْبَتَانِ، ضربةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة (4) رحمه الله.
__________
تعدُّد ضياع العقد، وممن جزم بذلك محمد بن حبيب الأخباري، فقال: سقط عقد عائشة في عزوة ذات الرقاع وغزوة بني المصطلق. وقد اختلف أهل المغازي في أن أي هاتين الغزوتين كانت أولاً، وقد روى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة: لما نزلت آية التيمم لم أدرِ كيف أصنع. فهذا يدل على تأخرها عن غزوة بني المصطلق، لأن إسلام أبي هريرة كان سنة سبع، ومما يدل على تأخر القصة عن قصة الإفك، أيضاً ما رواه الطبراني من طريق عبّاد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة، قالت: لما كان من أمر عِقْدي ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا، خرجتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أخرى، فسقط أيضاً عِقدي حتى حبس الناس على التماسه، فقال لي أبو بكر: يا بُنيَّة في كل سفرة تكونين عناءً وبلاءً على الناس. فأنزل الله الرخصة في التيمم، فقال أبو بكر: إنك لمباركة. وفي إسناده محمد بن حميد الرازي، وفيه مقال: كذا في "الفتح".
(1) المراد به نفسه وأهله وأتباعه.
(2) حالة السير.
(3) ظاهر في أن الذين توجَّهوا في طلبه أولاً لم يجدوه.
(4) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال الثوري والليث بن سعد والشافعي وابن أبي سلمة وغيرهم، أنه لا يجزيه إلاَّ ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين. وبه قال مالك، إلاَّ أنه لا يرى البلوغ إلى المرفقين فرضاً (روي عن مالك، أنه يجعل مسح الكفين مفروضاً وما زاد إلى المرفقين سنة، عمدة القاري 2/172) ، وممن روي(1/316)
20 - (بَابُ الرَّجُلِ يُصِيبُ مِنَ امْرَأَتِهِ أَوْ يُبَاشِرُهَا (1) وَهِيَ حَائِضٌ)
73 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ (2) أَرْسَلَ إِلَى عَائِشَةَ يسألُها هَلْ يُبَاشِرُ (3) الرجلُ امرأتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ؟ فقالت (4) :
__________
عنه التيمم إلى المرفقين: عبد الله بن عمر، والشعبي، والحسن البصري، وسالم بن عبد الله بن عمر، وقال الأوزاعي: ضربتان، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الكوعين، وبه قال أحمد وإسحاق بن راهويه وداود والطبراني، وقال ابن أبي ليلى والحسن بن حَيّ: التيمم ضربتان، يمسح بكل ضربة وجهه وذراعيه. وقال الزهري: يبلغ بالمسح إلاّ الآباط، ورُوي عنه إلى الكوعين، ورُوي عنه ضربة واحدة، كذا ذكره ابن عبد البر. وقد اختلفت الأخبار والآثار في كيفية التيمم: هل هي ضربة أم ضربتان؟ وهل ضربة اليدين إلى الآباط أو إلى المرفقين أو إلى الكوعين؟ وباختلافه تفرَّقت الفقهاء وصار كلٌّ إلى ما رواه أو أدى الاجتهاد في نظره ترجيحه، والذي يتحقَّق بعد غموض الفكر وغوص النظر ترجيح تعدّد الضربة على توحدها، وترجيح افتراض بلوغ مسح اليدين إلى الكوعين، واستحباب ما عدا ذلك إلى المرفقين، كما حققه ابن حجر في "فتح الباري" والنووي في "شرح صحيح مسلم" وغيرهما، والكلام ههنا طويل لا يسعه هذا المقام.
(1) مباشرة الرجل امرأته، التقاء بشرَتَيهما إلاَّ الجماع، كذا في "إرشاد الساري".
(2) قوله: أن عبد الله بن عمر، هكذا في أكثر نسخ موطأ محمد، وفي رواية يحيى للموطأ: أن عُبيد الله بن عبد الله بن عمر أرسل.. الحديث. وهو بضم العين شقيق سالم، ثقة، مات سنة ست ومائة.
(3) أي: بالعناق، ونحوه.
(4) قوله: فقالت، أفتته بفعله صلى الله عليه وسلم مع أزواجه، كما في الصحيحين عنها، وعن ميمونة أيضاً.(1/317)
لِتَشُدَّ (1) إِزْارَهَا عَلَى أسفَلِها (2) ، ثُمَّ يُبَاشِرْهَا إِنْ شَاءَ (3) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا بَأْسَ بذلك (4) وهو قول أبي حنيفة (5)
__________
(1) بكسر اللام وشدّ الدال المفتوحة، أي: لتربط.
(2) أي: ما بين سُرَّتها وركبتيها.
(3) أي: أراد.
(4) أي: بالمباشرة بما فوق الإزار.
(5) قوله: وهو قول أبي حنيفة، قال مالك والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف: له منها ما فوق الإزار، وهو قول سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد، وحجَّتُهم تواطؤ الآثار، عن عائشة وميمونة وأمِّ سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر إحداهن إذا كانت حائضاً أن تشد عليها إزارها، ثم يباشرها. وقال سفيان الثوري ومحمد بن الحسن وبعض أصحاب الشافعي: يجتنب موضع الدم. وممَّن رُوي عنه هذا المعنى ابنُ عباس ومسروق بن الأجدع وإبراهيم النخعي وعكرمة، وهو قول داود بن علي، وحجتهم حديث ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "اصنعوا كلَّ شيء ما خلا النكاح"، وفي رواية ما خلا الجماع، كذا في "الاستذكار" وفي "فتح الباري": ذهب كثير من السلف والثوري وأحمد وإسحاق إلى أنّ الذي يمتنع من الاستمتاع بالحائض الفرج فقط، وبه قال محمد بن الحسن من الحنفية. ورجحه الطحاوي، وهو اختيار أصبغ من المالكية وأحد القولين أو الوجهين للشافعية، واختاره ابن المنذر، وقال النووي: هو الأرجح دليلاً، لحديث أنس في مسلم: اصنعوا كلَّ شيء إلاَّ النكاح. وحملوا حديث الباب وشبهه على الاستحباب جمعاً بين الأدلة(1/318)
والعامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا (1) .
74 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ عِنْدِي، عَنْ سَالِمِ (2) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسُلَيْمَانَ (3) بْنِ يَسَارٍ: أَنَّهُمَا سُئِلا عَنِ الْحَائِضِ هَلْ يُصِيبُهَا (4) زَوْجُهَا إِذَا رَأَتِ الطُّهرَ قَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ؟ فَقَالا: لا حَتَّى تَغْتَسِلَ (5) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (6) ، لا تُباشَرُ حائضٌ عِنْدَنَا حَتَّى تحلَّ
__________
(انظر فتح الملهم (1/457) ، ففيه بحث نفيس حول هذه المسألة) .
(1) أي: فقهاء الكوفة.
(2) أحد الفقهاء السبعة.
(3) أحد السبعة.
(4) أي يجامعها.
(5) قوله: لا حتى تغتسل، فإن قيل: إن في قول الله عز وجلَّ: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} دليلاً على أنهن إذا طهرن من المحيض حلَّ ما حَرُمَ عليهن من المحيض (هكذا في الأصل: وفي الاستذكار: (2/26) : "ما حرم منهن من أجل المحيض") ، لأن حتى غاية، فما بعدها بخلاف ما قبلها، فالجواب أن في قوله تعالى: {فإذا تطهَّرن} دليلاً على تحريم الوطء بعد الطهر حتى يتطهَّرن بالماء، لأن تطَهرن تَفَعّلن من الطهارة، كذا في "الاستذكار".
(6) قوله: وبهذا نأخذ، قال مالك وأكثر أهل المدينة: إذا انقطع عنها الدم لم يجز وطيها حتى تغتسل، وبه قال الشافعي والطبري، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام كان له أن يطأها قبل الغسل، وإن كان انقطاعه قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل، أو يدخل عليها وقت الصلاة.
قال أبو عمر: هذا تحكُّم لا وجه له كذا في "الاستذكار"، وظاهر إطلاق محمد ههنا عدم التفصيل، لكن المشهور في كتب أصحابنا التفصيل بين ما إذا انقطع الدم لعشرة أيام، فيحل وطيها قبل الاغتسال وبين ما إذا انقطع لأقل منه، فلا يحل قبل أن تتطهر أو يمضي عليه وقت ذلك، ووجَّهوه بأنه قد قُرئ قوله تعالى:(1/319)
لَهَا الصَّلاةُ (1) أَوْ تَجِبَ عَلَيْهَا (2) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
75 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ (3) (4) : أَنَّ رَجُلا (5) سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَحِلُّ لِي مِنَ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ؟ قَالَ: تَشُدُّ (6) عَلَيْهَا (7) إزارها،
__________
{حتَّى يَطْهُرْنَ} بالتخفيف وبالتشديد، والقراءتان كالآيتين، فيُحمل الأولى على الأول، والثاني على الثاني، وههنا مذهب آخر وهو أنه يحل الوطئ بمجرد الانقطاع مطلقاً، لكن بعد إصابة الماء بالوضوء، أخرجه ابن جرير عن طاووس ومجاهد، قالا: إذا طهرت أمرها بالوضوء وأصاب منها، وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد وعطاء، قالا: إذا رأت الطهر فلا بأس أن تستطيب بالماء ويأتيها قبل أن تغتسل.
(1) بأن تطهر وتغتسل.
(2) بأن يمضي وقت تقدر فيه أن تغتسل وتشرع في الصلاة.
(3) كذا أخرجه البيهقي أيضاً عن زيد بن أسلم، ذكره السيوطي في "الدر المنثور" وكذلك أخرجه الدارمي مرسلاً.
(4) قوله: أخبرنا زيد بن أسلم، قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً روى هذا مسنداً بهذا اللفظ ومعناه صحيح ثابت.
(5) قوله: أن رجلاً، قد روى أبو داود، عن عبد الله بن سعد، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: لك ما فوق الإزار.
وأخرجه أحمد وابن ماجه كذلك، وأخرج أحمد وأبو داود، عن معاذ بن جبل، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يحل للرجل من امرأته، وهي حائض؟ قال: "ما فوق الإزار، والتعفف عن ذلك أفضل". وبه عُلم اسم السائل.
(6) في نسخة: لتشد (بفتح التاء وضم الشين المعجمة آخره دال معناه الأمر، أوجز المسالك: 1/226)
(7) قوله: تشدّ عليها، بفتح التاء وضم الشين والدال، خبر معناه الأمر،(1/320)
ثُمَّ شَأْنَكَ (1) بِأَعْلاهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ جَاءَ مَا هُوَ أَرْخَصُ (2) مِنْ هَذَا (3) عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قالت (4) :
__________
أو أريد به الحدث مجازاً، أو بتقدير أنه مؤول بالمصدر، فإن قلت: كيف يستقيم هذا جواباً عن قوله ما يحلّ لي؟ قلت: يستقيم مع قوله: "ثم شأنك بأعلاها" كأنه قيل له: يحلّ لك ما فوق الإزار، وشأنَك منصوب بإضمار فعل، ويجوز على الابتداء والخبر محذوف، تقديره مباح أو جائز، كذا في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" لعلي القاري.
(1) بالنصب، أي: دونك.
(2) أي: أيسر وأسهل.
(3) أي: مما ذكر من حل ما فوق الإزار.
(4) قوله: أنها قالت، يؤيده ما أخرجه أبو داود والبيهقي عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً ثم صنع ما أراد. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير والبيهقي، عن عائشة: أنها سُئلت ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ فقالت (وفي الأصل: "فقال"، وهو تحريف) : "كل شيء إلاّ فرجها"، وأخرج ابن جرير، عن مسروق: قلت لعائشة: ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضاً؟ قالت: كل شيء إلا الجماع. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والدارمي ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والبيهقي وابن حبان، عن أنس: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت، ولم يواكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت. فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله: {ويَسْأَلُونَكَ عن المَحِيضِ ... } الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جامعوهنَّ في البيوت واصنعوا كل شيء إلاّ النكاح ... " الحديث.(1/321)
يَجْتَنِبَ (1) شِعَارَ (2) الدَّمِ، وَلَهُ مَا سِوَى ذَلِكَ.
21 - (بَابُ إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ (3) هَلْ يَجِبُ الْغُسْلِ؟)
76 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهري، عَنْ سَعِيدِ (4) بْنِ الْمُسَيِّبِ (5) : أَنَّ عمرَ وعثمانَ (6) وعائشةَ كَانُوا يَقُولُونَ (7) :
__________
(1) مجهول أو معروف.
(2) قوله: شعار، بالكسر، بمعنى العلامة وبمعنى الثوب الذي يلي الجسد، ذكره في "النهاية" والمراد موضع الدم أو الكرسف.
(3) قوله: الختانان، المراد به ختان الرجل وهو مقطع جلدته، وخفاض المرأة. وهو مقطع جليدة في أعلى فرجها تشبه عرف الديك بينها وبين مدخل الذكَر جلدة رقيقة.
(4) قوله: عن سعيد بن المسيب، أبو محمد المخزومي المدني، سيِّد فقهاء التابعين. قال قتادة: ما رأيت أحداً قطّ أعلمَ بالحلال والحرام منه، مات سنة ثلاث وتسعين، كذا في "الإِسعاف".
(5) ابن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم.
(6) قوله: عثمان، بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، أمير المؤمنين، ذو النورين، قُتل يوم الجمعة لثمان عشرة خَلَت من ذي الحجة سنة 35 هـ، كذا في "الإِسعاف".
(7) قوله: كانوا يقولون ... إلخ، هذا حديث صحيح، عن عثمان بأن الغسل يوجبه التقاء الختانين، وهو يدفع حديث يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، أن عطاء بن يسار أخبره أن زيد بن خالد الجُهَني أخبره أنه سأل عثمان، قال: قلت: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته ولم يُمْنِ؟ قال عثمان: يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره، سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: وسأل ذلك عليّاً والزبير وطلحة(1/322)
إِذَا مسَّ (1) الخِتانُ (2) الخِتانَ (3) فَقَدْ وَجَبَ الغُسْل (4) .
77 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو النَّضْرِ (5) مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ (6) بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّهُ سَأَلَ عائشةَ مَا يُوجِبُ الغسل؟ فقالت (7) : أتدري ما مَثَلُكَ (8)
__________
وأبيّ بن كعب، فأمروه بذلك. هذا حديث منكر لا يُعرف من مذهب عثمان ولا من مذهب عليّ ولا مذهب المهاجرين، انفرد به يحيى بن أبي كثير، وهو ثقة إلاَّ أنه جاء بما شذَّ فيه، وأنكر عليه، كذا في "الاستذكار".
(1) قوله: إذا مسَّ، المراد بالمسَّ والالتقاءِ في خبر: "إذا التقى ... " المجاوزةُ، كرواية الترمذي: "إذا جاوز"، وليس المراد حقيقة المسّ، لأنه لا يتصور عند غيبة الحشفة، فلو وقع مسٌّ بلا إيلاج لم يجب الغُسل بالإِجماع.
(2) أي: موضع القطع من الذكر.
(3) أي: موضع القطع من فرج الأنثى.
(4) وإن لم ينزل.
(5) سالم بن أبي أمية.
(6) قوله: أبي سلمة، ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري، قيل اسمه عبد الله، وقيل إسماعيل، وقيل اسمه كنيته، وثَّقه ابن سعد وغيره، مات بالمدينة سنة 94 هـ، كذا في "الإِسعاف".
(7) تلاطفه وتعاتبه.
(8) قوله: ما مثلك ... إلخ، فيه دليل على أن أبا سلمة كان عندها ممن لا يقول بذلك، وأنه قلَّد فيه من لا علم له به، فعاتَبَتْه بذلك، لأنها كانت أعلم الناس بذلك المعنى، وقد تقدَّم عن أبي سلمة روايته، عن عطاء بن يسار، وعن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: "الماء من الماء"، وأن أبا سلمة كان يفعل ذلك، فلذلك نفرته عنه، قاله ابن عبد البر.(1/323)
يَا أَبَا سَلَمَةَ (1) ؟ مَثَلُ (2) الفَرّوجِ (3) يَسْمَعُ الدِّيَكَة (4) تَصْرُخُ (5) فَيَصْرُخُ مَعَهَا إِذَا جَاوَزَ (6) الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلَ.
78 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ (7) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ (8) مَوْلَى عثمانَ بنِ عَفَّانَ: أَنَّ محمودَ (9) بْنَ لَبيد (10) :
__________
(1) وكأنه قال: لا، فقالت: مَثَل ...
(2) قوله: مثل الفروج، قال الباجي: يحتمل معنيين، أحدهما أنه كان صبياً قبل البلوغ، فسأل عن مسائل الجماع الذي لا يعرفه ولم يبلغ حده، والثاني أنه لم يبلغ مبلغ الكلام في العلم.
(3) قال المجد: كتنّور ويضم كسُبّوح فرخ الدجاج.
(4) بوزن عِنَبَة جمع ديك، ويَجمع أيضاً على ديوك ذَكَرَ الدجاج.
(5) تصيح.
(6) بيَّنت الحكم بعد ما زجرته.
(7) ابن قيس الأنصاري. ولِقَيس صحبة.
(8) الحميري المدني صدوق، روى له مسلم والنسائي، قاله الزرقاني.
(9) قوله: أن محمود بن لبيد، الأنصاري الأشهلي من بني عبد الأشهل، وُلد على عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وحدَّث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بأحاديث، وذكره مسلم في الطبقة الثانية من التابعين، فلم يصنع شيئاً ولا علم منه ما علم غيره، مات سنة ست وتسعين، كذا في "الاستيعاب".
(10) بفتح اللام وكسر الموحَّدة، ابن عقبة بن رافع.(1/324)
سَأَلَ زيدَ (1) بنَ ثَابِتٍ عَنِ الرجلِ يُصيبُ أهلَه ثُمَّ يُكْسِل (2) ؟ فَقَالَ زيدُ بنُ ثَابِتٍ: يغتسلُ (3) ، فَقَالَ لَهُ محمودُ بنُ لَبِيدٍ: فإنَّ أُبيَّ بنَ كَعْبٍ لا يَرى الغُسْل، فَقَالَ زيدُ بنُ ثَابِتٍ: نَزَعَ (4) قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ (5) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ إِذَا الْتَقَى الخِتانان و (6)
__________
(1) النجاري المدني أبو سعيد، وقيل: أبو خارجة، كاتب الوحي أحد من جمع القرآن عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، مات سنة 45 هـ وقيل: سنة 48 هـ، وقيل: سنة 51 هـ، كذا في "الإِسعاف".
(2) أكسل الرجل، إذا جامع ثم أدركه فتور فلم ينزل.
(3) قوله: يغتسل، روى ابن أبي شيبة والطبراني بإسناد حسن، عن رفاعة بن رافع، قال: كنت عند عمر، فقيل له: إن زيد بن ثابت يفتي الناس في المسجد بأنه لا غُسل على من يجامع ولم ينزل، فقال عمر: عَلَيَّ به، فأتي به، فقال: يا عدوَّ نفسه، أوَبَلَغَ من أمرك أن تفتي برأيك؟ قال: ما فعلت، وإنما حدَّثني عمومتي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: أيّ عمومتك؟ قال: أُبيّ بن كعب وأبو أيوب ورفاعة، فالتفت عمر إليّ، قلت: كنّا نفعله على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجمع عمر الناس فاتَّفقوا على أن الماء لا يكون إلاَّ من الماء إلاَّ عليَّ ومعاذ فقالا: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل، فقال عمر: قد اختلفتم وأنتم أهل بدر، فقال عليّ لعمر: سل أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأرسل إلى حفصة، فقالت: لا أعلم، فأرسل إلى عائشة، فقالت: إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل. فتحطَّم عمر - أي: تغيَّظ - وقال: لا أُوتى بأحد فعله ولم يغتسل إلاَّ أنْهَكْتُهُ عقوبة، فلعل إفتاء زيد لمحمود بن لبيد، كان بعد هذه القصة، كذا في شرح الزرقاني.
(4) أي: أقلع ورجع عنه.
(5) في رجوعه دليل على أنه قد صح (في الأصل: "صح"، والظاهر: "قد صحّ") عنده أنه منسوخ.
(6) عطف بياني للالتقاء.(1/325)
توارَتْ (1) الْحَشَفَةُ (2) وَجَبَ الغُسْلُ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِل، وهو قول أبي حنيفة (3) رحمه الله.
__________
(1) أي غابت.
(2) رأس الذكر المختون.
(3) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال مالك والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور والطبري وأبو عبيد وغيرهم من علماء الأمصار، وإليه ذهب جمهور أصحاب داود، وبعضهم قالوا: لا غسل ما لم يُنزل، تمسُّكاً بحديث "الماء من الماء" وغيره. واختلف الصحابة فيه، فذهب جمع كثير إلى وجوب الغسل وإن لم يُنزل. وبعضهم قالوا بالوضوء عند عدم الإِنزال، ومنهم من رجع عنه، فممن قال بوجوب الغسل عائشة وعمر وعثمان وعلي وزيد كما ذكره مالك. وابن عباس وابن عمر أخرجه ابن أبي شيبة عنهما. وأبو بكر أخرجه عبد الرزاق، والنعمان بن بشير وسهل بن سعد وعامة الصحابة والتابعين ذكره ابن عبد البر، ولم يُختلف في ذلك عن أبي بكر وعمر، واختُلف فيه عن عليّ وعثمان وزيد، وقد صحَّ عن أبيّ بن كعب أنه قال: كان ذلك - أي وجوب الوضوء فقط بالإِكسال - رخصة في بَدْء الإِسلام ثم نُسخ، ولذلك رجع عنه أبيّ بعد ما أفتى به، وروى عائشة وأبو هريرة وعمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، وغيرهم مرفوعاً: "إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل" (انظر نصب الراية 1/84 أيضاً.
قد اتفق الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب على وجوب الغسل بغيبوبة الحشفة وإن لم ينزل، وكان فيه خلاف في الصدر الأول، فقد رُوي عن جماعة من الصحابة ومن الأنصار أنهم لم يروا غسلاً إلاّ من الإِنزال، ثم رُوي أنهم رجعوا عن ذلك، وصحَّ عن عمر أنه قال: من خالف في ذلك جعلته نكالاً، فانعقد الإِجماع في عهده، وخالف فيه داود الظاهري ولا عبرة بخلافه عند المحقِّقين، كما تجد تحقيقه في "شرح التقريب" للسبكي. وقد وقعت عبارة البخاري في صحيحه موهمة للخلاف حيث قال: قال أبو عبد الله: الغسل أحوط. فأوهم أنه يقول باستحباب الغسل دون الوجوب، وهذا مخالف لما أجمع عليه جمهور الأئمة، ويحتمل قول البخاري: "الغسل أحوط"، يعني في الدين من حديثين تعارضا، فقدَّم الذي يقتضي الاحتياط في الدين، وهو باب مشهور في أصول الدين، وهو الأشبه، لا أنه ذهب إلى الاستحباب والندب. هذا ملخَّص ما قاله القاضي في "العارضة". فهكذا وجه القاضي في "العارضة" وقال: والعجيب من البخاري أن يساوي بين حديث عائشة في إيجاب الغسل ... وبين حديث عثمان وأُبَيّ في نفي الغسل ... إلخ، ثم علَّل عدم صحة التعلّق بحديثهما. وراجع "عمدة القاري" 2/77.
والذي اختاره ابن حجر في "فتح الباري" 1/275 أن الخلاف كان مشهوراً بين التابعين ومن بعدهم، لكن الجمهور على إيجاب الغسل وهو الصواب، والله أعلم. انتهى كلامه. ولكنه يقول في "التلخيص" ص 49: لكن انعقد الإِجماع أخيراً على إيجاب الغسل قاله القاضي وغيره. اهـ، فكأنه هنا غير ما اختاره في "الفتح"، وانظر "عمدة القاري" من 2/69، 2/72، و 76 و 77) ، ذكر كل ذلك مع زيادات نفيسة ابن عبد البر(1/326)
22 - (بَابُ الرَّجُلِ (1) يَنَامُ هَلْ يُنْقِضُ ذَلِكَ وُضُوءَهُ؟)
79 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زيدُ (2) بنُ أَسْلَمَ، قَالَ: إِذَا نَامَ (3) أَحَدُكُمْ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ فليتوضَّأْ.
80 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرني نافع، عن ابن عمر: أنه كان ينام وهو قاعد فلا يتوضأ (4) .
__________
في "التمهيد" و"الاستذكار"، وقد بسط الكلام فيه الطحاويُّ في "شرح معاني الآثار"، وأثبت وجوب الغسل بالالتقاء بالأخبار المرفوعة والآثار الموقوفة، فليُراجع.
(1) قيد اتفاقي، فإن الرجل والمرأة في ذلك سواء.
(2) العدوي وكان من العلماء بالتفسير وله كتاب فيه.
(3) قوله: قال إذا نام ... إلخ، ليحيى: مالك بن زيد بن أسلم: أن عمر بن الخطاب قال: إذا نام أحدكم مضطجعاً فليتوضأ.
(4) لأن النوم ليس بحدث وإنما هو سبب، وقد كان نومه خفيفاً.(1/327)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ (1) فِي الْوَجْهَيْنِ جَميعاً نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ (2) .
23 - (بَابُ الْمَرْأَةِ تَرَى (3) فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ)
81 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أنَّ (4) أمَّ سُلَيْم
__________
(1) قوله: وبقول ابن عمر ... إلخ، فيه أنه لم يذكر قول ابن عمر في الوجه الأول، فتأمَّل، كذا قال القاري.
(2) قوله: وهو قول أبي حنيفة، اختلف العلماء فيه فقال مالك: من نام مضطجعاً أو ساجداً فليتوضأ، ومن نام جالساً فلا، إلاَّ أن يطول نومه، وهو قول الزهري وربيعة والأَوْزاعي وأحمد. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا وضوء إلاَّ على من نام مضطجعاً أو متورِّكاً، وقال أبو يوسف: إن تعمد النوم في السجود فعليه الوضوء. وقال الثوري والحسن بن حَيّ وحماد بن أبي سليمان والنخعي: إنه لا وضوء إلاَّ على من اضطجع، وقال الشافعي: على كلِّ نائمٍ الوضوء إلاَّ الجالس وحده. ورُوي عن أبي موسى الأشعري ما يدل على أن النوم عنده ليس بحدث على أي حال كان، كذا ذكره ابن عبد البر.
وقد أجمل في بيان مذهب الحنفية، والذي يُفهم من كتب أصحابنا أن كل نوم يسترخي فيه المفاصل كالاضطجاع والاستلقاء والنوم على الوجه والبطن ومتَّكئاً على أحد وركيه فهو ناقض، وما ليس كذلك فليس بناقض، وكذلك النوم قاعداً وساجداً وراكعاً وقائماً، ومن الأخبار المرفوعة المؤيدة لكون النوم من النواقض قوله صلّى الله عليه وسلّم: "وكاء السَّه العينان، فمن نام فليتوضَّأ" أخرجه أبو داود وأحمد من حديث عليّ، والطبراني والدارمي من حديث معاوية بألفاظ متقاربة.
(3) أي في حكم احتلامها.
(4) قوله: أن أم سليم، قال ابن عبد البر: كذا هو في الموطأ، وقال فيه:(1/328)
قَالَتْ (1) لرسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ (2) ، المرأةُ تَرَى فِي الْمَنَامِ مثلَ مَا يَرَى الرجلُ أَتَغْتَسِلُ (3) ؟ فَقَالَ (4) رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم:
__________
ابن أبي أويس عن عروة عن أم سليم، وكل من رَوى هذا الحديث عن مالك لم يَذكر فيه "عن عائشة" في ما علمت إلاَّ ابن أبي الوزير وعبد الله بن نافع فإنهما روياه عن مالك، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن أم سليم انتهى. وقد وصله مسلم وأبو داود من طريق عروة عن عائشة وأم سليم هي بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب، واختلف في اسمها فقيل سهلة، وقيل رميلة، وقيل مليكة، وقيل الغميضاء، كانت تحت مالك بن النضر أبي أنس بن مالك في الجاهلية، فولدت له أنساً فلما أسلمت عرض الإِسلام على زوجها، فغضب وهلك هناك، وخلف عليها بعده أبو طلحة الأنصاري فولدت له عبد الله بن أبي طلحة، كذا في "الاستيعاب".
(1) ولمسلم عن أنس جاءت أم سليم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت له وعائشة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
(2) ولأحمد قالت: يا رسول الله إذا رأت المرأة أن زوجها يجامعها في المنام.
(3) أي أيجب عليها الغسل؟ وفيه استحباب عدم الحياء في المسائل الشرعية.
(4) قوله: فقال ... إلخ، وعند ابن أبي شيبة فقال: هل تجد شهوة؟ قالت: لعله، قال: هل تجد بللاً؟ قالت: لعله، قال: فلتغتسل، فلقيتها النسوة فقلن: فَضَحْتِينا عند رسول الله، قالت: ما كنت لأنتهي حتى أعلم في حلٍّ أنا أم في حرام، ففيه وجوب الغسل على المرأة بالإِنزال، ونفى ابن بطال الخلاف فيه، لكن رواه ابن أبي شيبة عن إبراهيم النَّخَعي وإسناده جيد، فيدفع استبعاد النووي صحته عنه، كذا في شرح الزرقاني.(1/329)
نَعَمْ (1) فَلْتَغْتَسِلْ، فَقَالَتْ (2) لَهَا عَائِشَةَ (3) : أفٍّ لَكِ (4) ، وَهَلْ تَرَى (5) ذلكِ (6) الْمَرْأَةُ؟ قَالَ (7) : فالتفَت إِلَيْهَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: تَرِبَتْ يمينُك (8) ،
__________
(1) إذا رأت ماءاً.
(2) قوله: فقالت، قال الوليّ العراقي: أنكرت مع جواب المصطفى لها، لأنه لا يلزم من ذكر حكم الشيء تحققه.
(3) قوله: عائشة، في حديث آخر أن أم سلمة هي القائلة ذلك، قال القاضي عياض: يحتمل أن كلتيهما أنكرتا عليها وإن كان أهل الحديث يقولون: إن الصحيح ههنا أم سلمة لا عائشة، قال ابن حجر: وهذا جمع حسن لأنه لا يمتنع حضور عائشة وأم سلمة عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في مجلس واحد.
(4) قوله: أفٍّ لك، قال عياض: أي استحقاراً لك، وهي كلمة تستعمل في الاستحقار، وأصل الأف وسخ الأظافير، وفيه عشر لغات: أف بالكسر والضم والفتح دون تنوين وبالتنوين أيضاً، وذلك مع ضمّ الهمزة فهذه ستة. وأفه بالهاء. وإف بكسر الهمزة وفتح الفاء، وأف بضم الهمزة وتسكين الفاء، وأفى بضم الهمزة والقصر، قلت: فيه نحو أربعين لغة حكاها أبو حيان في "الارتشاف"، كذا في "التنوير".
(5) قوله: وهل ترى، قال ابن عبد البر: فيه دليل على أنه ليس كل النساء يحتلمن وإلاَّ لَمَا أنكرت ذلك عائشة وأم سلمة، قال: وقد يوجد عدم الاحتلام في بعض الرجال، قلت: وأي مانع من أن يكون ذلك خصيصة لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم أنهنَّ لا يحتلمن كما أن الأنبياء لا يحتلمون، لأن الاحتلام من الشيطان فلم يسلَّط عليهم وكذلك على أزواجه تكريماً له، كذا في "التنوير".
(6) بكسر الكاف.
(7) في نسخة: قالت.
(8) قوله: تربت يمينك، قال النووي: في هذه اللفظة خلاف كثير منتشر(1/330)
وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَه (1) ؟!
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (2) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
__________
للسلف والخلف، والأصحّ الأقوى الذي عليه المحققون أنها كلمة معناها افتقرت، ولكن العرب اعتادت استعمالها غير قاصدة حقيقة معناها الأصلي، فيذكرون تربت يداك، وقاتله الله، ولا أمَّ لك، وثكلته أمه، وويل أمه، وما أشبهَهُ، يقولونها عند إنكارهم الشيء أو الزجر عنه، كذا في "زهر الربى على المجتبى" للسيوطي.
(1) قوله: الشبه، بكسر الشين وسكون الباء، وشبه بفتحهما لغتان مشهورتان، قال النووي: معناه أن الولد متولد من ماء الرجل وماء المرأة، فأيهما غلب كان الشبه له، وإذا كان للمرأة مني فإنزاله وخروجه (في الأصل: "فإنزالها وخروجها"، وهو خطأ، والصواب: "فإنزاله وخروجه" كما في "زهر الربى" 1/131) منها ممكن، كذا في "زهر الربى".
(2) قوله: وبهذا نأخذ، أي بوجوب الغسل على المرأة إذا رأت مثل ما يرى الرجل ورأت بللاً، ورُوي عنه في غير رواية الأصول أنها إذا تذكرت الاحتلام والإنزال والتلذل [لعله "والتلذذ" فليراجع؟؟] ولم تر البلل كان عليها الغسل (قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم أن الرجل إذا رأى في منامه أنه احتلم أو جامع ولم يجد بللاً أن لا غسل عليه، واختلفوا فيمن رأى بللاً، ولم يتذكر احتلاماً، فقالت طائفة: يغتسل، روينا ذلك عن ابن عباس، وعطاء والشعبي وسعيد بن جبير والنخعي، وقال أحمد: أحبّ إليَّ أن يغتسل إلاَّ رجل به أبردة: وقال أكثر أهل العلم: لا يجب عليه الاغتسال حتى يعلم أنه بلل الماء الدافق، وإليه ذهب مالك والشافعي وأبو يوسف، وظاهر الباب يؤيِّد الفريق الأول، هذا ملخَّص ما في "العمدة" 2/56 و 57 و"معالم السنن" 1/79، وراجع "المغني" لابن قدامة 1/205، فقد قيَّد البلل بالمني في وجوب الغسل ونسب ذلك إلى مالك والشافعي، وهذا خلاف ما في "المعالم" و"العمدة" وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن الشيباني) ، لكن قال شمس الأئمة الحلواني: لا تؤخذ بهذه الرواية، ذكره صدر الشريعة، وقد عوَّل على تلك الرواية صاحب "الهداية" في مختارات النوازل وفي التجنيس والمزيد، لكنه تعويل ضعيف لأن(1/331)
24 - (بَابُ الْمُسْتَحَاضَةِ (1))
82 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَار، عَنْ أمِّ سَلَمَةَ (2) زوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ امْرَأَةً (3) كانت تُهراقُ (4) الدَّمَ (5) على
__________
سياق النصوص الواردة في هذه المسألة شاهد على أن وجوب الغسل برؤية البلل لا بمجرد التذكر.
(1) قال الجوهري: استُحيضت المرأة أي استمر بها الدم بعد أيَّامها فهي مستحاضة (إن الروايات في المستحاضة مختلفة جداً. يشكل الجمع بينها وقد جمع بينها شيخنا في "أوجز المسالك" 1/240، فارجع إليه) .
(2) قوله: عن أم سلمة، قال ابن عبد البر: هكذا رواه مالك وأيوب، ورواه الليث بن سعد وصخر وعبيد الله بن عمر، عن نافع، عن سليمان أن رجلاً أخبره عن أم سلمة، وقال النووي في الخلاصة: حديث صحيح رواه مالك والشافعي وأحمد وأبو داود والنسائي بأسانيد على شرط البخاري ومسلم فلم يعرِّج على دعوى الانقطاع.
(3) قوله: أنَّ امرأة، قال الباجي: يقال هي فاطمة بنت أبي حُبَيْش، وقد بيَّن ذلك حماد بن زيد وسفيان بن عيينة في حديثهما عن أيوب، عن سليمان بن يسار، قلت: وكذا هو مبيَّن في "سنن أبي داود" من رواية وهيب عن أيوب، كذا في "التنوير".
(4) قوله: تُهراق، قال الباجي: الهاء في "هراق" بدل من همزة "أراق" يقال أراق الماء يريقه وهراقه يهريقه هراقة، كذا في "التنوير".
(5) منصوب أي تهراق هي الدم، وهي منصوبة على التمييز، قال الباجي: ويجوز رفعه على تقدير تهراق دماؤها.(1/332)
عهدِ رَسُولِ اللَّهِ (1) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستفتتْ (2) لَهَا أمُّ سلَمَة (3) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لِتَنْظُر اللياليَ (4) وَالأَيَّامَ (5) الَّتِي كَانَتْ تحيضُ (6) مِنَ الشَّهْرِ قَبْلَ أَنْ يُصيبَها الَّذِي أَصَابَهَا (7) ، فلتتركْ (8) الصلاةَ (9) قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الشَّهْرِ، فَإِذَا خَلَّفَتْ (10) ذَلِكَ فلتغتسِلْ ثُمَّ لِتَسْتَثْفِر (11) بثوبٍ فلْتُصَلِّ.
__________
(1) أي في زمانه.
(2) بأمرها لذلك، ففي رواية الدارقطني: فأمرت فاطمة أن تسأل لها.
(3) وإنما لم تستفتِ بنفسها للحياء.
(4) قوله: لتنظر الليالي والأيام ... إلخ، احتج به من قال إن المستحاضة المعتادة تُرَدّ لعادتها ميَّزتُ أم لا، وافق تمييزُها عادَتَها أم لا، وهو مذهب أبي حنيفة وأحد قولَي الشافعي، وأشهر الروايتين عن أحمد. وأصح قولَي الشافعي وهو مذهب مالك أنها تُرَدُّ لعادتها إذا لم تكن مميِّزة، وإلاَّ رُدَّت إلى تمييزها، ويدل له قوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث فاطمة: "إذا كان دمُ الحيض فإنه دمٌ أسودُ يُعرف" رواه أبو داود. وأجابوا عن هذا الحديث باحتمال أنه صلّى الله عليه وسلّم علم أنها غير مميِّزة فحكم عليها بذلك، ولعلها كانت لها أحوال كانت في بعضها مميِّزة وفي بعضها ليست بمميِّزة، كذا قال الزرقاني.
(5) قوله: والأيام، قد يُستنبط منه أن أقل مدة الحيض ثلاثة وأكثرة عشرة، لأن أقل ما يطلق عليه لفظ الأيام ثلاثة وأكثره عشرة، وأما ما دون ثلاثة فيقال يومان، وفوق عشرة يقع التمييز يوماً، وهو استنباط لطيف لفظي.
(6) أي في تلك الأيام.
(7) أي من الاستحاضة.
(8) قوله: فلتترك الصلاة، فيه دلالة على ترك الصلاة للحائض ولا قضاء عليها، وهذا أمر إجماعي خلافاً للخوارج، ذكره ابن عبد البر.
(9) والصوم ونحوهما.
(10) أي تركتْ أيّامَ الحيض التي كانت تعهد وراءها.
(11) قوله: ثم لتستثفر، قال في النهاية: هو أن تشدّ فرجها بخرقة عريضة بعد أن تحتشي قطناً وتوثق طرفَيْها في شيء تشدّه على وسطها، هو مأخوذ من ثفر الدابَّة الذي يجعل تحت ذنبها.(1/333)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (1) وتتوضَّأ لوقتِ كلِّ صَلاةٍ وتصلِّي (2) إِلَى الوقتِ الآخَرِ وَإِنْ سَالَ دمُها، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
83 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا سُميّ (3) مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ القَعْقاع (4) بنَ حَكِيمٍ وزيدَ بْنَ أَسْلَم أَرْسَلاهُ (5) إِلَى سَعِيدِ بْنِ المسيَّب يَسْأَلُهُ عَنِ الْمُسْتَحَاضَةِ كَيْفَ تَغْتَسِلُ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: تغتسلُ مِنْ طُهْرٍ إِلَى طُهْرٍ (6) وتتوضَّأ
__________
(1) قوله: وبهذا نأخذ، أي بوجوب الغسل مرة عند ذهاب الأيام المعهودة، وقال قوم: يجب عليها أن تغتسل للظهر والعصر غسلاً واحداً، والمغرب والعشاء غسلاً واحداً، وللصبح غسلاً واحداً، ورُوي مثله عن علي وابن عباس، وقال آخرون: تغتسل في كل يوم مرة في أي وقت شاءت، روي ذلك عن علي، وقال قوم تغتسل من ظهر إلى ظهر، ولكلٍّ وجهة هو مولِّيها، وقد بسط الكلام فيه ابن عبد البر في "التمهيد" وحمل أصحابنا الأخبار الواردة في الغسل لكل صلاة ونحو ذلك على الاستحباب بدليل الأخبار الدالَّة على كفاية الغسل الواحد.
(2) ما شاءت من الفرائض والنوافل.
(3) أبو عبد الله القرشي المخزومي المدني، وثَّقه أحمد وأبو حاتم، كذا في "الإِسعاف".
(4) الكناني المدني، وثَّقه أحمد ويحيى وغيرهما، كذا في "الإِسعاف".
(5) فيه جواز إرسال رسول للاستفتاء من العالم وقَبول خبر الواحد.
(6) قوله: من طهر إلى طهر، قال ابن سيِّد الناس: اختلف فيه، فمنهم من رواه بالطاء المهملة، ومنهم من رواه بالظاء المعجمة، وقال ابن العراقي: المرويُّ إنما هو بالإِعجام، وأما الإِهمال فليس رواية مجزوماً بها، وقال ابن عبد البر: قال مالك: ما أرى الذي حدَّثني به من ظهر إلاَّ وقد وهم، قال أبو عمر: ليس ذلك(1/334)
لِكُلِّ صلاةٍ (1) فإنْ غَلَبَها الدَّمُ استثفرتْ بِثَوْبٍ (2) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: تغتسلُ إِذَا مضتْ أيامُ أَقرائها (3) ثم تتوضَّأُ لكل صلاةٍ (4) وتصلِّي،
__________
بوهم لأنه صحيح عن سعيد معروف من مذهبه. وقد رواه كذلك السفيانان، عن سميّ به بالإِعجام، وقال الخطابيّ: ما أحسن ما قاله مالك، لأنه لا معنى للاغتسال في وقت صلاة الظهر إلى مثلها من الغد ولا أعلمه قولاً لأحد، وتعقَّبه ابن العربي بأن له معنى، لأنه إذا سقط لأجل المشقة اغتسالها لكل صلاة فلا أقل من الاغتسال مرة في كل يوم للتنظيف، وقال ابن العراقي: قوله لا أعلمه قولاً لأحد، فيه نظر لأن أبا داود نقله عن جماعة من الصحابة والتابعين، كذا في "شرح الزرقاني".
(1) قوله: لكل صلاة، أي: لوقت كل صلاة، فاللام للوقت كما في قوله تعالى: {أَقِمِ الصلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أي: وقت دلوكها.
(2) رواه أبو داود بلفظ: "استذفرت بثوب"، فقيل: قلب الثاء ذالاً، وقيل معناه فلتستعمل طيباً.
(3) قوله: أقرائها، بالفتح جمع قَرء بالفتح، ويُجمع على قروء أيضاً، وهو من الأضداد يقع على الطهر، وإليه ذهب الشافعي وأهل الحجاز في قوله تعالى: {ثلاثةَ قروء} ، وعلى الحيض وإليه ذهب أبو حنيفة وأهل العراق، كذا في "النهاية" لابن الأثير الجزري، والمرادُ هاهنا بأيام أقرائها أيام حيضها، كما في حديث: "تدعُ الصلاة أيّام أَقرائها".
(4) قوله: لكل صلاة، أي: لوقت كل صلاة كما مرَّ ويأتي، ويصلي ما شاء من الفرائض والنوافل، وبه قال الأَوْزاعي والليث وأحمد، ذكره عن أحمد أبو الخطاب في "الهداية"، وفي "مغني ابن قدامة": تتوضأ لكل صلاة، وبه قال الشافعي وأبو ثور، وقال ابن تيمية: هذه رواية عن أحمد، وقال مالك: لا يجب الوضوء على المستحاضة ومن به سَلِسُ البول ونحوُه، وهو قول ربيعة وعكرمة وأيوب، وإنما هو مستحب لكل صلاة عنده، كذا ذكره العيني في "البناية"، وقال(1/335)
حَتَّى تأتِيَها أيامُ أَقْرَائِهَا، فَتَدَعُ (1) الصلاةَ، فَإِذَا مضَت اغتسلتْ غُسلاً وَاحِدًا، ثُمَّ توضَّأَتْ لكلِّ وقتِ صلاةٍ وَتُصَلِّي، حَتَّى يدخُلَ الوقتُ الآخَرُ (2)
__________
ابن عبد البر في "الاستذكار": ممَّنْ أوجب الوضوء لكل صلاة سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والليث والشافعي والأوزاعي. انتهى. وفيه مسامحة حيث سوّى بين مذهبي (في الأصل: "مذاهب"، والظاهر: "مذهبي") أبي حنيفة والشافعي، وليس كذلك كما عرفت. أما الذين قالوا بالوضوء لكل صلاة، فاستدلوا بظاهر قوله صلّى الله عليه وسلّم: توضَّئي لكل صلاة وصلِّي". أخرجه أبو داود في حديث فاطمة بنت أبي حبيش، وهو معلق في صحيح البخاري ومخرج في سنن ابن ماجه، وصحيح ابن حبان وجامع الترمذي بألفاظ متقاربة، وأخرج أبو يعلى، والبيهقي، عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة. وأما أصحابنا فاستندوا بقوله صلّى الله عليه وسلّم: "المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة" رواه أبو حنيفة. وذكر ابن قُدامة في "المغني" في بعض ألفاظ حديث فاطمة: "وتوضَّئي لوقت كل صلاة"، وروى أبو عبد الله بن بطة بإسناده، عن حمنة بنت جحش أن النبي صّلى الله عليه وسلّم أمرها أن تغتسل لوقت كل صلاة، كذا ذكره العيني، وقالوا: الأول محتمل لاحتمال أن يراد بقوله: "لكل صلاة" وقت كل صلاة، والثاني: محكم فأخذنا به، وقوّاه الطحاوي بأن الحدث إما خروج خارج وإما خروج الوقت، كما في مسح الخفين، ولم نعهد الفراغ من الصلاة حدثاً، فرجحنا هذا الأمر المختلف فيه إلى الأمر المجمع عليه.
(1) أي: تترك.
(2) قوله: حتى يدخل الوقت الآخر، ظاهره أن الناقض هو دخول الوقت الآخر، فلو توضأت في وقت الصبح ينبغي أن تجوز به الصلاة إلى أن يدخل وقت الظهر، لكن المذكور في كتب أصحابنا المعتمدة أن الناقض هو خروج الوقت فحسب عند أبي حنيفة ومحمد، ودُخوله فحسب عند زفر، وأيهما كان عند أبي يوسف.(1/336)
مَا دَامَتْ تَرَى الدَّمَ (1) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ والعامَّة مِنْ فُقَهَائِنَا.
84 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَيْسَ عَلَى المستحاضةِ (2) أَنْ تغتسلَ إلاَّ غُسلاً وَاحِدًا (3) ، ثُمَّ تتوضَّأ (4) بَعْدَ ذَلِكَ لِلصَّلاةِ.
25 - (باب المرأة ترى الصُّفرة والكُدْرة (5) (6))
85 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَلْقَمةُ (7) (8) بْنُ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أمِّه (9) مولاةِ عائشةَ زوجِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ النساءُ يبعثن (10)
__________
(1) أي: المتوالي، فإذا ذهب ذلك عاد الحكم المقرَّر للكل.
(2) أي: لا يجب عليها.
(3) عند القضاء: المدة التي كانت تحيض فيها.
(4) وجوباً عند الجمهور، واستحباباً عند مالك.
(5) بضم الكاف: هي التي لونها كلون الماء الكدر، قاله العيني.
(6) وفي نسخة: أو الكدرة.
(7) مات سنة بضع وثلاثين ومائة.
(8) المدني. وثقه أبو داود والنسائي وابن معين واسم أبيه هلال، كذا في "الإِسعاف".
(9) اسمها مرجانة وثقها ابن حبان، كذا في "الإِسعاف".
(10) قوله: كان النساء يبعثن ... إلخ، في هذا الحديث من الفوائد:
جواز معاينة كرسف المرأة للمرأة، يؤخذ ذلك من بعثهن الكرسف لرؤية عائشة.
وأنه ينبغي للنساء الاستفتاء في أمورهن من أعلمهن.(1/337)
إِلَى عَائِشَةَ بالدُّرْجِةِ (1) (2) فِيهَا الكُرْسُف (3) فِيهِ الصُّفْرة مِنَ الْحَيْضِ فَتَقُولُ: لا تَعْجَلَنَّ (4) حَتَّى تَرَيْنَ (5) القَصَّة البيضاء.
__________
وجواز الحياء في مثل هذه الأمور من الرجال إذا لم يُحتج إليه، ولذلك بعثن الكرسف إلى عائشة لا إلى رجال الصحابة.
وجواز وضع كرسف في ظرف.
وعدم التعجيل في أداء العبادة قبل أوانه، بحيث يفوت شرط من شروطه.
وجواز التعليم بالإِشارة حيث لم يُخِلّ بالمقصود.
وغير ذلك مما لا يخفى على الماهر.
(1) قوله: بالدُّرجة، بضم دال فسكون، حُقَّة تضع المرأة فيها طيبها ونحوه، والحُقَّة بالضم: وعاء من خشب، وقال الشيخ ابن حجر في "فتح الباري": الدِّرَجَة بكسر أوله وفتح الراء والجيم جمع دُرْج بضم فسكون، قال ابن بطال: كذا يرويه أصحاب الحديث، وضبطه ابن عبد البر في "الموطأ" بضم وسكون، وقال: إنه تأنيث درج.
(2) المراد ما تحتشي به المرأة من قطنة وغيرها، لتعرف هل بقي من أثر الحيض شيء أم لا.
(3) بضم الكاف والسين المهملة بينهما راء مهملة هو القطن.
(4) بالتاء والياء خطاباً وغَيْبة.
(5) قوله: ترين القصة، بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة: الجص هي لغة حجاز. وفي الحديث: "الحائض لا تغتسل حتى ترى القصة البيضاء"، أي: حتى تخرج القطنة التي تحشى (في الأصل: "تجيء"، والظاهر: "تحشى") كأنها جصة لا تخالطها صفرة، يعني أفتت عائشة للمستفتيات (في الأصل: "للمتنقبات"، وهو تحريف) عن وقت الطهارة عن الحيض، بأنه لا بد من رؤيتهن القطنة شبيهة(1/338)
تُرِيدُ (1) بِذَلِكَ (2) الطُّهْرَ مِنَ الْحَيْضِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا تطهرُ المرأةُ مَا دامتْ تَرَى حُمْرَةً أَوْ صُفرةً أَوْ كُدرة (3) ، حَتَّى ترى البياض (4) خالصاً،
__________
بالجصة، كذا في "الكواكب الدراري" و"فتح الباري"، وذكر العيني في "البناية" أن القصة هي الجصة، شبّهت عائشة الرطوبة الصافية بعد الحيض بالجص، وقيل: القصة شيء يشبه الخيط الأبيض يخرج من قُبُل النساء في آخر أيّامهن يكون علامة لطهرهن.
(1) أي: عائشة.
(2) أي: برؤية القصة البيضاء.
(3) قوله: أو كدرة، خرجت قبل الدم أو بعده خلافاً لأبي يوسف في كدرة خرجت قبل الدم، وبه قال أبو ثور وابن المنذر، حكاه العيني.
(4) قوله: حتى ترى البياض، لقول عائشة حتى ترين القصة البيضاء، فجعلت علامة الطهر البياض الخالص. فعُلم أن ما سواه حيض، ومثله لا يُعرف إلاَّ سماعاً، لأنه ليس مما يهتدي إليه العقل.
وقد ذَكَرَ ها هنا ثلاثة ألوان وترك ثلاثة أخرى، وهي الخضرة والسواد والتربيّة.
والكل حيض إذا كانت في أيام الحيض عندنا. أما كون الصفرة حيضاً، فقد ثبت من أثر عائشة. وأما كون السواد حيضاً فثبت من قوله صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة: "إذا كانت دم الحيضة، فإنه دم أسود يعرف، فأمسكي عن الصلاة". أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما. وأما الحمرة، فهي أصل لون الدم، ووقع في رواية العقيلي عن عائشة: "دم الحيض أحمر قاني، ودم الاستحاضة كغسالة اللحم"، ذكره العيني. وأما الخضرة، فاختلفوا فيه، والصحيح أن المرأة إذا كانت من ذوات الأقراء يكون حيضاً، وكذا الكدرة والتربيّة. وعند أبي يوسف الكدرة ليس بحيض إلاَّ بعد الدم.(1/339)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ (1) .
86 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا عبد الله (2) بن أبي بكر (3) ، عَنْ عمَّته (4) ، عَنِ ابْنَةِ (5) زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أنه (6) بلغها (7) أن (8) نساءً كُنَّ
__________
(1) قوله: وهو قول أبي حنيفة، رأيت في "الاستذكار": أما قول الشافعي والليث بن سعد فهو أن الصفرة والكدرة لا تُعَدُّ حيضاً وهو قول أبي حنيفة ومحمد. انتهى. وأظن أن كلمة "لا" من زيادة الناسخ.
(2) وثقه ابن معين وأبو حاتم والنسائي وابن سعد، مات سنة 135 هـ، وقيل: سنة 136 هـ، كذا في "الإِسعاف".
(3) ابن محمد بن عمرو بن حزم.
(4) قوله: عن عمته، قال ابن الحذاء: هي عمرة بنت حزم عمة جد عبد الله بن أبي بكر، وقيل لها عمته مجازاً، قلت: لكنها صحابية قديمة، روى عنها جابر الصحابي، ففي روايتها عن بنت زيد بُعد، فإن كانت ثابتة فرواية عبد الله عنها منقطعة لأنه لم يدركها، ويحتمل أن يكون المراد عمته الحقيقية وهي أم عمرو أو أم كلثوم كذا في "الفتح".
(5) قوله: عن ابنة زيد، ذكروا أن لزيد من البنات حسنة وعمرة وأم كلثوم وغيرهن. ولم أرَ الرواية لواحدة إلاَّ لأم كلثوم زوج سالم بن عبد الله بن عمر، فكأنها هي المبهمة ها هنا، وزعم بعض الشُّرّاح أنها أم سعد، لأن ابن عبد البر ذكرها في الصحابة. وليس في ذكره لها دليل على المدَّعى، لأنه لم يقل إنها صاحبة هذه القصة، كذا في "الفتح".
(6) ضمير شأن.
(7) أي: عمة عبد الله أو ابنة زيد.
(8) فاعل لبلغ.(1/340)
يدعُونَ (1) بِالْمَصَابِيحِ (2) مِنْ جوفِ اللَّيْلِ فَيَنْظُرْنَ إِلَى الطُّهْر (3) ، فَكَانَتْ (4) تَعِيبُ (5) عَلَيْهِنَّ (6) وَتَقُولُ (7) : مَا كَانَ النساءُ (8) يَصْنَعْنَ هذا.
__________
(1) أي: يطلبن.
(2) السُّرُج.
(3) أي: إلى ما يدل على الطهر.
(4) ابنة زيد.
(5) قوله: تعيب. فإن قلت: لمَ عابتْ وفعلُهُنَّ يدل على حرصهن بالطاعة، قلت: لأن فعلهن يقتضي الحرج وهو مذموم، لأن جوف الليل ليس إلاَّ وقت الاستراحة، كذا في "الكواكب الدراري".
(6) قوله: عليهن، يحتمل أن يكون العيب لكون الليل لا يتبيَّن به البياض الخالص من غيره، فيحسبن أنهنَّ طهرن وليس كذلك، فيصلِّين قبل الطهر.
(7) قوله: وتقول ما كان النساء ... إلخ، تشير إلى أن ما يفعلن لو كان فيه خير لابتدرت إليه نساء الصحابة، فإنهن كنَّ ممن يتسارع إلى الخيرات، فإذا لم يفعلن عُلم أنه لا خير فيه، وليس في الدين حرج، وإنما يجب النظر إلى الطهر إذا حانت الصلاة لا في جوف الليل.
ويُستنبط من الحديث جواز العيب على من ابتدع أمراً ليس له أصل، وجواز الاستدلال بنفي شيء مع عموم البلوى في زمن الصحابة على عدم كونه خيراً، والتنبيه على حسن الاقتداء بالسلف، وجواز إسراج السرج بالليل.
(8) اللام للعهد، أي: نساء الصحابة.(1/341)
26 - (بَابُ الْمَرْأَةِ تَغْسِل بعضَ أعضاءِ الرَّجُلِ وَهِيَ حَائِضٌ)
87 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ تَغْسِلُ جَوَارِيهِ (1) رجلَيْه ويُعطينَهُ الخُمرة (2) وهنَّ حُيَّض (3) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ (4) بِذَلِكَ، وهو قولُ أبي حنيفة رحمه الله.
__________
(1) جمع جارية بمعنى الأمة والبنت (قوله كان يغسل جواريه رجليه: لعله كان لشغل أو ضعف أو لبيان الجواز إلاَّ أنه يشكل عليه ما تقدَّم في الوضوء من القُبلة أن ابن عمر كان يقول: جسُّها بيده من الملامسة، ويحتمل أنه رضي الله عنه كان يفرق بين ملامسة الرجل المرأة وملامسة المرأة الرجل كما هو مقتضى ألفاظ الأثرين، لكن لم أره عند أحد، أو يقال: إنه يرى الملامسة الناقضة مقيَّدة بالشهوة كما هو مذهب بعضهم، وإلاَّ فبين عموم الأثرين تعارض كما لا يخفى. أوجز المسالك 1/308) .
(2) قوله: الخُمْرة، بضم الخاء المعجمة وسكون الميم، سجّادة صغيرة منسوجة من سعف النخل، مأخوذة من الخمر بمعنى التغطية، لأنها تغطي جبهة المصلي من الأرض، هذا حاصل ما في الضياء. وأغرب ابن بطال حيث قال: فإن كان كبيراً قدر الرجل أو أكبر يقال له حصير لا خمرة. انتهى. وغرابته لا تخفى، كذا قال القاري.
(3) جمع الحائض حيض وحوائض.
(4) قوله: لا بأس بذلك، لأن أعضاء الحائض طاهرة، ولذلك لا يُكره مضاجعتها، ولا الاستمتاع بها بما فوق السرة، ولا يُكره وضع يدها في شيء من المائعات، وغَسْلُها رأس زوجها وترجيلُه، وطبخها وعجنها، وغير ذلك من الصنائع. وسؤرها وعرقها طاهران، وكل هذا متفق عليه، وقد نقل أبو جعفر محمد بن جرير الطبري إجماع المسلمين في ذلك، كذا ذكره النووي في "شرح صحيح مسلم".(1/342)
88 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ (1) ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كنتُ (2) أُرجِّل (3) رأسَ (4) رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأنا حَائِضٌ (5) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ والعامَّةِ مِنْ فقهائنا.
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي والبخاري من طريق مالك.
(2) قوله: كنت: في ترجيل عائشة لرأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهي حائض دليل على طهارة الحائض، وأنه ليس موضع منها نجساً غير موضع الحيض، وفي ترجيله صلّى الله عليه وسلّم لشعره وسواكه وأخذه من شاربه ونحو ذلك دليل على أنه ليس من السّنَّة والشريعة ما خالف النظافة وحسن الهيئة في اللباس والزينة. ويدل على أن قوله صلّى الله عليه وسلّم: "البذاذة من الإِيمان" أراد به طرح الشهرة في اللباس والإِسراف فيه الداعي إلى التبختر والبطر، لتصحّ معاني الآثار ولا تتضادّ، كذا في "الاستذكار".
(3) بضم الهمزة وشدة الجيم: أمشّط.
(4) قوله: رأس، أي: شعر رأس، فهو من مجاز الحذف ومن إطلاق المحل على الحال مجازاً.
(5) قوله: وأنا حائض، فيه تفسير لقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في المَحيضِ} ، لأن اعتزالهنَّ يحتمل أن يكون بأن لا يجتمع معهن ولا يقربهن، ويحتمل أن يكون اعتزال الوطئ خاصة، فأتت السُّنَّة بما في الحديث أنه أراد به الجماع.(1/343)
27 - (باب الرجل يغتسلُ أو يتوضأ بِسُؤْرِ الْمَرْأَةِ (1))
89 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: لا بَأْسَ بِأَنْ يغتَسلَ (2) الرجلُ بفضلِ وَضوء الْمَرْأَةِ (3) مَا لَمْ تكن (4) جُنُباً أو حائضاً.
__________
(1) قوله: بسؤر المرأة، بضم السين وهمز العين، اسم للبقية، من سأر يسأر كفتح يفتح، أفضل فضلة، ذكره العيني.
(2) في نسخة: يتوضأ.
(3) أي: ما فضل من الماء بعدما توضأت المرأة منه.
(4) قوله: ما لم تكن جنباً أو حائضاً، يخالفه ما ورد عن عائشة: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم من إناء واحد ونحن جنبان. وورد عنها: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم من إناء واحد، فيبادرني حتى أقول: دع لي دع لي ونحن جنبان. وعن أم سلمة: أنها كانت تغتسل ورسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم من الجنابة. وعن ميمونة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اغتسل من فضل ماء اغتسلت به من الجنابة. وعن عائشة: كنت أشرب وأنا حائض ثم أُناوله النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم، فيضع فاه على موضع فيّ، فيشرب. وأتعرَّق العَرَق وأنا حائض ثم أُناوله، فيضع فاه على موضع فيّ. أخرجها مسلم وأصحاب السنن وغيرهم.
إلى غير ذلك من الأخبار الدَّالة على طهارة سؤر الحائض والجنب، وطهارة فضل وضوئهما وغسلهما. وقول الصحابي إذا خالف فعلَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أو قولَه، فالحجة في المرفوع، ويُعذر بأنه لعله لم يبلغه ذلك أو ترجَّح عنده دليل آخر، فلذلك أعرض أكثر العلماء في هذا الباب عن قول ابن عمر وأخذوا بالأحاديث المجوِّزة.(1/344)
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ بِفَضْلِ وَضوء الْمَرْأَةِ وَغُسْلِهَا وَسُؤْرِهَا وَإِنْ كَانَتْ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا (1) .
بَلَغَنا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) كَانَ يَغْتَسِلُ هُوَ وَعَائِشَةُ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ لِيَتَنَازَعَانِ (3) الْغُسْلَ (4) جَمِيعًا، فَهُوَ (5) فَضْلُ غُسْلِ الْمَرْأَةِ الْجُنُبِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ (6) .
__________
(1) قوله: وإن كانت جنباً أو حائضاً، قال العيني في "البناية": ممن قال بطهارة سؤر الجنب الحسن البصري ومجاهد والزهري ومالك والأَوزاعي والثوري وأحمد والشافعي، ورُوي عن النخعي، أنه كره فضل شرب الحائض، وروى عن جابر، أنه سئل عن سؤر الحائض هل يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا، ذكره ابن المنذر في "الإِشراف" (وفي الأصل: "الإِشراق"، وهو تحريف. ذكر فؤاد سزكين "كتاب الإِشراف في اختلاف العلماء على مذاهب أهل العلم على مذاهب الأشراف" لابن المنذر. انظر: تاريخ التراث العربي 2/185) .
(2) قوله: بلغنا ... إلخ، يشير إلى أن تقليدَ الصحابي واجبٌ، وقولَه حجةٌ عندنا ما لم ينفِه شيء من السُّنَّة، وقد صرح به ابن الهُمام في كتاب الجمعة من "فتح القدير"، وها هنا قد نفى قولَ ابن عمر ورودُ سُنَّة، فالعبرة بالسنة لا به.
(3) فيبادرها فتقول: دع لي، دع لي، أخرجه مسلم، وفي رواية الطحاوي: ابق لي ابق لي. وفي نسخة: يتنازعان.
(4) قوله: الغَسل، بفتح الغين، فهو مصدر أي: يتبادران فيه، ويجوز أن يكون بضم الغين، أي: في مائها أو استعماله.
(5) في نسخة: فهذا.
(6) وهو قول الجمهور.(1/345)
28 - (بَابُ الْوُضُوءِ بِسُؤْرِ الهِرّة)
90 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ (1) بنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي طَلْحَةَ (2) أنَّ امرأتَه حُمَيدةَ (3) (4) ابنةَ (5) عبيدِ بْنِ رِفَاعَةَ، أَخْبَرَتْهُ عَنْ خَالَتِهَا (6) كَبْشة (7) (8) ابْنَةِ كَعْبِ بْنِ مالك وكانت تحت ابنِ
__________
(1) وثقه أبو زرعة وأبو حاتم والنسائي، وقال ابن معين: ثقة حجة، مات سنة 134 هـ، كذا في "الإسعاف".
(2) زيد بن سهل الأنصاري.
(3) الأنصارية الزرقية أم يحيى المدنيَّة، وثَّقها ابن حبان، كذا في "الإسعاف".
(4) قوله: حُميدة، بضم الحاء المهملة وفتح الميم عند رواة الموطأ إلاَّ يحيى الليثي، فقال: بفتح الحاء وكسر الميم، نبَّه عليه أبو عمر (في الأصل: "أبو عمرو"، وهو تحريف.) ، قاله الزرقاني.
(5) قوله: ابنة عبيد بن رفاعة، قال يحيى: بنت أبي عبيدة بن فروة، وهو غلط منه، وأما سائر رواة الموطأ، فيقولون: بنت عبيد بن رفاعة إلاَّ أن زيد بن الحباب قال فيه، عن مالك: بنت عبيد بن رافع، والصواب رفاعة بن رافع الأنصاري، قاله ابن عبد البر.
(6) قوله: عن خالتها، قال ابن مندة: حميدة وخالتها كبشة لا يعرف لهما رواية إلاَّ في هذا الحديث، ومحلهما محل الجهالة، ولا يثبت هذا الخبر من وجه من الوجوه. ونقل الزيلعي، عن تقي الدين بن دقيق العيد: أنه إذا لم يُعرف لهما رواية، فلعلَّ طريق من صحَّحه أن يكون اعتمد على إخراج مالك لروايتهما مع شهرته بالتثبُّت. انتهى. وقال العيني: لا نسلم ذلك، فإن لحميدة حديثاً آخر في تشميت العاطس رواه أبو داود، ولها ثالث رواه أبو نعيم، ورورى عنها إسحاق بن عبد الله، وهو ثقة، وأما كبشة، فيقال: إنها صحابية، فإن ثبت فلا يضر الجهل بها.
(7) وثَّقها ابن حبان.
(8) قوله: كبشة، بفتح الكاف والشين المعجمة بينهما موحَّدة، الأنصارية.(1/346)
أَبِي قَتَادَةَ (1) : أنَّ أَبَا قَتَادَةَ (2) أَمَرَهَا فسكَبَتْ (3) لَهُ وَضُوءًا (4) فَجَاءَتْ هِرَّةٌ فَشَرِبَتْ مِنْهُ، فَأَصْغَى (5) لَهَا الإِناءَ فَشِرِبَتْ، قَالَتْ كَبْشَةُ: فَرَآنِي أَنْظُرُ (6) إِلَيْهِ فَقَالَ: أتعجبينَ يَا ابْنَةَ أَخِي (7) ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بنَجَسٍ (8) إنها من الطوافين (9)
__________
قال ابن حبان: لها صحبة. وتبعه (في الأصل: "تبعها"، وهو تحريف) المستغفري، قاله الزرقاني (مثله في التقريب أيضاً 2/612، وفيه 2/595: "حميدة بنت عبيد بن رفاعة الأنصارية مقبولة". وفي تهذيب التهذيب 2/412، ذكرها ابن حبان في الثقات) .
(1) قوله: ابن أبي قتادة، عبد الله بن أبي قتادة، المدني الثقة التابعي، المتوفى سنة 95 هـ. وقال ابن سعد: تزوَّجها ثابت بن أبي قتادة، فولدت له. وفي رواية ابن المبارك، عن مالك: وكانت امرأة أبي قتادة، قال ابن عبد البر: وهو وهم منه وإنما هي امرأة ابنه، قاله الزرقاني.
(2) قيل: اسمه الحارث، وقيل: النعمان. وقيل: عمرو بن ربعي السلمي، شهد أحداً وما بعدها، مات سنة 94 هـ، كذا في "الإِسعاف".
(3) قوله: فسكبت، قال الرافعي: يقال سكب يسكب سكباً، أي: صبَّ، فسكب سكوباً، أي: انصبَّ.
(4) الماء الذي يُتوضأ به.
(5) بالغين المعجمة، أي: أمال.
(6) انظر المنِكر أو المتعجِّب.
(7) من حيث الصحبة لأن أباها صحابي مثله، وسلمى من قبيلته.
(8) قوله: بنجس، قرئ بكسر الجيم، وقال المنذري، ثم النووي ثم ابن دقيق العيد ثم ابن سيِّد الناس: بفتح الجيم من النجاسة، كذا في "زهر الربى على المجتبى".
(9) قوله: من الطوافين، قال الخطابيّ: هذا يُتأوَّل على وجهين، أحدهما أنه شبَّهها بخدم البيت ومن يطوف على أهله للخدمة ومعالجة المهنة، والثاني: أن(1/347)
عليكم و (1) الطوّافات (2) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ (3) بِأَنْ يتوضَّأَ بِفَضْلِ سُؤْر الهرة، وغيرُهُ
__________
يكون شبَّهها بمن يطوف للحاجة والمسألة، يريد أن الأجر في مؤاساتها كالأجر في مؤاساة من يطوف للحاجة، كذا في "مرقاة الصعود".
(1) قوله: والطوافات، ورد في بعض الروايات أو الطوافات بكلمة "أو". قال ابن ملك: هو للشك من الراوي، وقال ابن حجر: ليست للشك لوروده بالواو في روايات أُخَر، بل هي للتنويع، كذا في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح".
(2) قوله: الطوافات، الطوافون هم بنو آدم يدخل بعضهم على بعض بالتكرار، والطوافات هي المواشي التي يكثر وجودها عند الناس مثل الغنم والبقر والإِبل، جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم الهرة من القبيلتين لكثرة طوافها واختلاطها (في الأصل: "طوافه واختلاطه"، وهو تحريف) ، كذا ذكره العيني في "البناية"، وفي الحديث من الفوائد:
جواز استخدام زوجة ابنه.
وإصغاء الإِناء للهرة وغيرها من الحيوانات، فإن في كل ذات كبد رطبة أجراً كما ورد به الخبر.
وجواز إطلاق ما يُطلق على المحارم على امرأة الإِبن.
ويُستنبط من قوله صلّى الله عليه وسلّم: "فإنها من الطوّافين"، عدم نجاسة سؤر جميع سواكن البيوت لوجود هذه العلة فيها.
(3) قوله: لا بأس، لأن سؤر الهرة ليس بنجس فلا بأس بشربه والوضوء منه، وهو مذهب عباس وعلي وابن عباس وابن عمر وعائشة وأبي قتادة والحسن والحسين، واختُلف فيه عن أبي هريرة، فَرَوى عطاء عنه: أن الهر كالكلب يُغسل منه الإِناء سبعاً، وروى أبو صالح عنه: أن السِّنَّوْر من أهل البيت، كذا ذكره ابن عبد البر، وقال: لا نعلم أحداً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم روى عنه في الهرّ أنه لا يتوضأ بسؤره إلاَّ أبا هريرة على اختلاف عنه. انتهى.
قلت: قد علمت ما لم يعلمه، فقد أخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، عن يزيد بن سنان، نا أبو بكر الحنفي، نا عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، أنه كان لا يتوضأ بفضل الكلب والهر، وما سوى ذلك فليس به بأس. وأخرج أيضاً عن ابن أبي داود، نا الربيع بن يحيى، نا شعبة، عن واقد بن محمد، عن نافع، عن ابن عمر، أنه قال: لا توضؤوا من سؤر الحمار ولا الكلب ولا السّنَّور. وأما التابعون ومن بعدهم فاختلفوا فيه أيضاً بعد اتفاقهم على أن سؤر الهرة ليس بنجس إلاَّ ما يُستفاد مما حكاه صاحب "رحمة الأمة في اختلاف الأئمة"، عن الأَوْزاعي والثوري، أن سؤر ما لا يؤكل لحمه نجس غير الآدمي، فإنه يقتضي أن يكون سؤر الهرة نجساً عندهما. والأحاديث الواردة في ذلك تردّهما، ومن عداهما بعدما اتفقوا على الطهارة، منهم: من كره سؤر الهرة، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وبه قال طاووس وابن سيرين وابن أبي ليلى ويحيى الأنصاري، حكاه عنهم العيني، وبه أخذ الطحاوي (شرح معاني الآثار: 1/12) حيث روى عن إبراهيم بن مرزوق، نا وهب بن جرير، نا هشام بن أبي عبد الله، عن قتادة، عن سعيد، قال: إذا ولغ السِّنَّوْر في الإِناء، فاغسله مرتين أو ثلاثاً. ثم روى عن محمد بن خزيمة، نا حجاج، نا حماد، عن قتادة، عن الحسن وسعيد بن المسيب في السِّنَّوْر يلغ في الإِناء، قال أحدهما: يغسله مرة، وقال الآخر: يغسله مرتين. ثم روى عن سليمان بن سعيد، نا الخصيب بن ناصح (في الأصل: "الحصب بن نافع"، وهو تحريف. وفي "تهذيب التهذيب" 3/143: الخصيب بن ناصح الحارثي البصري ت 208) ، نا هشام، عن قتادة، قال: كان سعيد بن المسيب والحسن يقولان: اغسل الإِناء ثلاثاً ثلاثاً، يعني من سؤر الهرة. ثم روى عن روح العطار، نا سعيد بن كثير بن عفير، حدَّثني يحيى أنه سأل يحيى بن سعيد عمّا لا يُتوضأ(1/348)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
بفضله من الدوابّ، فقال: الكلب والخنزير والهرة، ثم قال بعد ما ذكر دليلاً عقلياً على الكراهة: فبهذا نأخذ وهو قول أبي حنيفة. انتهى. ومنهم من طهر من غير كراهة وهو قول مالك وغيره من أهل المدينة، والليث وغيره من أهل مصر، والأَوْزاعي وغيره من أهل الشام، والثوري ومن وافقه من أهل العراق، والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيد، وعلقمة وعكرمة وإبراهيم وعطاء بن يسار، والحسن في ما روى عنه الأشعث، والثوري في ما روى عنه أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي، كذا ذكره(1/349)
أحبُّ (1) إلينا منه،
__________
ابن عبد البر، وبه قال أبو يوسف، حكاه العيني والطحاوي وهو رواية عن محمد، ذكره الزاهدي في "شرح مختصر القدوري" والطحاوي.
(1) قوله: أحب، ظاهر كلامه أن الكراهة في سؤر الهرة تنزيهية، وهو ظاهر كلامه في "كتاب الآثار"، حيث روى عن أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم في السِّنَّوْر يشرب في الإِناء، قال: هي من أهل البيت، لا بأس بشرب فضلها، فسألته أيُتطهَّر بفضلها للصلاة؟ فقال: إن الله قد رخَّص الماء. ولم يأمره ولم ينهه، ثم قال: قال أبو حنيفة: غيره أحبُّ إليَّ منه، وإن توضأ به أجزاه وإن شربه فلا بأس به، وبقول أبي حنيفة نأخذ. انتهى.
وبه صرَّح جمع من أصحابنا، فقال الزاهدي في "المجتبى": الأصح أن كراهة سؤره عندهما كراهة تنزيه، وقال أبو يوسف لا يكره، وعن محمد مثله. انتهى. وقال يوسف بن عمر الصوفي في "جامع المضمَرات"، نقلاً عن الخلاصة: سؤر حشرات البيت كالحية والفأرة والسِّنَّوْر مكروه كراهة تنزيه، وهو الأصح. انتهى.
وفي "البناية": اختلفوا في تعليل الكراهة، فقال الطحاوي: كون كراهة سؤر الهرة لأجل أن لحمها حرام، لأنها عُدَّتْ من السباع وهو أقرب إلى التحريم، وقال الكرخي: لأجل عدم تجانبها النجاسة، وهو يدل على أن سؤرها مكروه كراهة تنزيه، وهو الأصح والأقرب إلى موافقة الحديث. انتهى ملخَّصاً. قلت: لقد صدق في قوله إنه أقرب إلى موافقة الحديث، وأشار به إلى أن القول بعدم الكراهة أوفق بالأحاديث:(1/350)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
منها حديث أبي قتادة الذي أخرجه مالك، ومن طريقه أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح، وأبو داود ولفظه: أن أبا قتادة دخل فسكبت له وضوءاً فجاءت هرة، فشربت منه، فأصغى لها الإِناء ... الحديث. وابن ماجه ولفظ، عن كبشة، وكانت تحت بعض ولد أبي قتادة: أنها صبَّت لأبي قتادة ماء يتوضأ به، فجاءت هرة تشرب فأصغى لها الإِناء، فجعلت أنظر إليه، فقال: يا ابنة أخي، أتعجبين؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إنها ليست بنجس هي من الطوافين أو الطوافات". والنسائي والدارمي في سننه، وابن حبان في النوع السادس والستين من القسم الثالث من صحيحه، والحاكم والدارقطني والبيهقي والشافعي وأبو يعلى وابن خزيمة وابن منده في صحيحهما.
ومنها ما أخرجه أبو داود من طريق داود بن صالح بن دينار التمار، عن أمه أن مولاتها أرسلتها بهريسة إلى عائشة، فوجدتها تصلّي، فأشارت إلى أنْ ضَعيها، فجاءت هرة فأكلت منها، فلما انصرفت أكلت من حيث أكلت الهرة وقالت: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم"، وقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ بفضلها، وأخرجه الدارقطني وقال: تفرَّد به عبد الرحمن الدراوردي، عن داود بن صالح بهذه الألفاظ.
ومنها ما أخرجه الدارقطني من حديث حارثة، وقال: إنه لا بأس به، عن عَمْرة، عن عائشة، قالت: كنت أتوضأ أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم من إناء واحد، وقد أصابت الهرة منه قبل ذلك. وكذلك أخرجه ابن ماجه، وأخرجه الخطيب من وجه آخر وفيه سلمة بن المغيرة ضعيف، قاله ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي، وأخرجه الطحاوي، عن عمرة، عن عائشة: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الإِناء الواحد وقد أصابت الهرة منه قبل ذلك.
ومنها ما أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، عن عائشة، قالت: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "إنها ليست بنجس، إنها كبعض أهل البيت". أخرجه عن سليمان بن مشافع بن شيبة الحجبي، قال: سمعت منصور بن صفية بنت شيبة(1/351)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
يحدّث عن أمه صفية، عن عائشة. ورواه الحاكم في "المستدرك" وقال: على شرط الشيخين، ورواه الدارقطني بلفظ: كبعض متاع البيت.
ومنها ما أخرجه الطحاوي، عن عائشة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يُصغي الإِناء للهرّ ويتوضأ بفضلها. وفي إسناده صالح بن حسان البصري المديني متروك، قاله العيني. وأخرجه الدارقطني، عن يعقوب بن إبراهيم، عن عبد ربه بن سعيد، عن أبيه، عن عروة، عن عائشة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تمرّ به الهرة فيصغي لها الإناء، فتشرب ثم يتوضأ بفضلها، وضعَّف عبد ربه. وعن محمد بن عمر الواقدي، نا عبد الحميد بن عمران بن أبي أنس، عن أبيه، عن عروة، عن عائشة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصغي للهرة الإِناء حتى تشرب منه ثم يتوضأ بفضلها. قال ابن الهُمام في "فتح القدير": ضعَّفه الدارقطني بالواقدي، وقال ابن دقيق العيد في "الإِمام": جمع شيخنا أبو الفتح (هو ابن سيِّد الناس في كتابه "عيون الأثر" 1/17 - 21، وقال الإِمام ابن الهمام في "فتح القدير" 5/49: الواقدي عندنا حسن الحديث. ولكن انتقد عليه المحدثون. "المغني" 2/619) ابن سيِّد الناس في أول كتابه "المغازي والسِّيَر" من ضعَّفه ومن وثَّقه، ورجَّح توثيقه، وذكر الأجوبة عما قيل فيه. انتهى.
ومنها ما أخرجه ابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" من طريق محمد بن إسحاق، عن صالح، عن جابر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصغي الإناء للسنّور يلغ فيه ثم يتوضأ من فضله ومنها ما أخرجه الطبراني في (معجمه الصغير) نا عبد الله بن محمد بن الحسن الأصبهاني نا جعفر بن عنبسة الكوفي، نا عمرو بن حفص المكي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، علي بن الحسين، عن أنس: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أرضٍ بالمدينة يقال لها بطحان، فقال: "يا أنس، اسكب لي وضوءاً" فسكبت له، فلما أقبل أتى الإِناءَ وقد أتى هرّ فولغ في الإِناء، فوقف له وقفة حتى شرب الهر، ثم سألته، فقال: "يا أنس، إن الهر من متاع البيت لن يقذر شيئاً ولن ينجسه".(1/352)
وهو قولُ أبي حنيفة (1) رحمه الله.
29 - (باب الأَذَانِ وَالتَّثْوِيبِ (2))
91 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابنُ شِهَابٍ، عَنْ عطاءِ (3) بنِ يزيدَ الليثيِّ، عَنْ أَبِي سعيد (4) الخُدْري (5)
__________
(1) قوله: وهو قول أبي حنيفة، قال ابن نصر (في الأصل: "أبو نصر المروزي"، وهو تحريف. وفي "سير أعلام النبلاء": 14/33: محمد بن نصر الحجاج المَرْوزي، أبو عبد الله، ت 294 هـ) المروزي: خالفه أصحابه فقالوا: لا بأس به. انتهى. قال ابن عبد البر: ليس كذلك وإنما خالفه من أصحابه أبو يوسف، وأما محمد وزفر والحسن بن زياد وغيرهم، فإنهم يقولون بقول أبي حنيفة، ويحتجّون لذلك بما يروون عن أبي هريرة، وابن عمر، أنهما كرها الوضوء بسؤر الهر، وهو قول ابن أبي ليلى، ولا أعلم لمن كره سؤر السِّنَّوْر حجة أحسن من أنه لم يبلغه حديث قتادة، أو لم يصح عنده. انتهى ملخَّصاً.
قلت: الكراهة التنزيهية، بسبب غلبة اختلاطها النجاسة لا تُنافي حديث أبي قتادة وغيره، نعم يشكل الأمر على من اختار كراهة التحريم، وأما كراهة التنزيه فأمر سهل.
(2) هو الإِعلام بعد الإِعلام.
(3) قوله: عطاء، المدني من ثقات التابعين ورجال الجميع، مات سنة خمس أو سبع ومائة، واسم أبيه يزيد، كذا في "الإِسعاف" و"التقريب"، وفي بعض النسخ: زيد.
(4) سعد بن مالك بن سنان الأنصاري، شهد ما بعد أُحُد، ومات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين، وقيل أربع وسبعين، كذا في "جامع الأصول".
(5) قوله: الخُدْري، بضم الخاء المعجمة وسكون الدال المهملة، نسبة إلى خدرة وهو الأَبْجَر بفتح الألف وسكون الباء الموحَّدة وفتح الجيم ثم راء مهملة. ابن عوف بن الحارث بن الخزرج، وبنو خدرة قبيلة من الأنصار الخزرجيين منسوبة إلى خدرة، ومنهم أبو سعيد الخدري، كذا في "أنساب" السمعاني،
و"جامع الأصول".(1/353)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا سمعتُمُ (1) النِّداءَ (2) فقولوا (3) مثلَ (4)
__________
(1) قوله: إذا سمعتم، ظاهره أنه لو لم يسمع لصممٍ أو بُعْدٍ لا إجابة عليه، وبه صَرَّح النوويّ في "شرح المهذَّب".
(2) أي: الأذان، سُمِّي به لأنه نداء ودعاء إلى الصلاة.
(3) قوله: فقولوا، استُدلَّ به على وجوب إجابة المؤذن، حكاه الطحاوي، عن قوم من السلف، وبه قال الحنفية والظاهرية وابن وهب، واستدل الجمهور بحديث مسلم وغيره: أنه صلّى الله عليه وسلّم سمع مؤذناً فلمّاً كَبَّر قال: على الفطرة، فلما تشهَّد قال: خرج من النار. فلما قال صلّى الله عليه وسلّم غيرَ ما قال المؤذن عُلم أن الأمر للاستحباب. وتُعُقِّب بأنه ليس في الحديث أنه لم يقل مثل ما قال، فيجوز أنه قاله ولم ينقُلْه الراوي اكتفاءً بالعادة، قاله الزرقاني.
(4) قوله: مثل ما يقول، ظاهره أنه يقول مثله في جميع الكلمات، لكن حديث عمر وحديث معاوية في البخاري وغيره دلَّ على أنه يُستثنى من ذلك (حَيَّ على الصلاة حَيَّ على الفلاح) ، فيقول بدلهما: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، وهو المشهور عند الجمهور، وقال ابن الهمام في "فتح القدير": الحوقلة في الحيعلتين وإن خالفت ظاهر قوله: فقولوا مثل ما يقول المؤذن، لكنه ورد فيه حديث مفسّر كذلك عن عمر، رواه مسلم. فحملوا ذلك العامَّ على ما سوى هاتين الكلمتين، وهو غير جارٍ على قاعدتنا، لأن عندنا المخصص الأول ما لم يكن متصلاً به لا يخصص بل يعارض فيجري فيه حكم المعارضة، أو يقدَّم العامّ، والحق هو الأول. انتهى.
ثم قال: قد رأينا من مشائخ السلوك من يجمع بينهما ليعمل بالحديثين. انتهى.
قلت: الجمع حسن عملاً بالحديثين.
وذكر بعض أصحابنا مكان حيّ على الفلاح (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) ، ذكره في "المحيط" وغيره، لكن لا أصل له في الأحاديث، ولا أعلم من أين اخترعوه، وقد نبَّه على ذلك المحدث عبد الحق الدهلوي في "شرح سفر السعادة".(1/354)
مَا يَقُولُ المؤذِّنُ (1) .
قَالَ مَالِكٌ، بَلَغَنا (2) أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَهُ
__________
(1) قوله: المؤذن، ادَّعى ابن وضّاح أن هذا مدرج وأن الحديث انتهى بقوله: ما يقول. وتُعُقِّب بأن الإِدراج لا يثبت بمجرَّد الدعوى، كذا في "شرح الزرقاني".
(2) قوله: بلغنا، قال ابن عبد البر: لا أعلم أنه رُوي من وجه يُحتج به وتُعلم صحَّتُه، وإنما فيه حديث هشام بن عروة، عن رجل يقال له إسماعيل لا أعرفه، ذكر ابن أبي شيبة: نا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن رجل يقال له إسماعيل، قال: جاء المؤذِّن يؤذن عمر لصلاة الصبح، فقال: الصلاة خير من النوم، فأعجب به عمر، وقال للمؤذِّن: أقرها في أذانك. انتهى. وردَّه الزرقاني بأنه قد أخرجه الدارقطني في السنن من طريق وكيع في مصنَّفه، عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، وأخرج أيضاً، عن سفيان عن محمد بن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، أنه قال لمؤذِّنه: إذا بلغتَ حيّ على الفلاح في الفجر، فقل: الصلاة خير من النوم. انتهى. قلت: وها هنا أخبار وآثار أُخَر تدل على صحة ما أمر به عمر من تقرير هذه الزيادة في الأذان، فذكر ابن أبي شيبة: نا أبو خالد الأحمر، عن حجّاج، عن عطاء، كان أبو محذورة يؤذّن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وكان يقول في أذانه: الصلاة خير من النوم. قال: ونا حفص بن غياث عن طلحة، عن سويد، عن بلال، وعن حجّاج، عن عطاء، عن أبي محذورة: أنهما كانا يثوِّبان في صلاة الفجر الصلاة خير من النوم. قال: ونا وكيع، عن سفيان، عن عمران بن مسلم، عن سويد: أنه أَرسل إلى مؤذِّنه إذا بلغتَ حَيّ على الفلاح فقل: الصلاة خير من النوم، فإنه أذان بلال. وذكر ابن المبارك وعبد الرزاق في مصنَّفه، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أن بلالاً أذن ذات ليلة ثم جاء يؤذن للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فنادى الصلاة خير من النوم، فأُقرَّت في صلاة الصبح. وفي "شرح معاني الآثار" للطحاوي: كره قوم أن يقال في أذان الصبح الصلاة خير من النوم، واحتجّوا بحديث عبد الله بن زيد في(1/355)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الأذان الذي أمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتعليمه بلالاً، وخالفهم في ذلك آخرون، فاستحبّوا أن يقال ذلك في التأذين، وكان من الحجة لهم أنه وإن لم يكن في تأذين عبد الله فقد علَّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا محذورة بعد ذلك، وأمره أن يجعله في أذان الصبح: نا علي بن معبد، نا روح بن عبادة، نا ابن جريج، أخبرني عثمان بن السائب، عن أم عبد الملك بن أبي محذورة، عن أبي محذورة: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم علَّمه في الأذان الأول من الصبح الصلاة خير من النوم. نا علي، نا الهيثم بن خالد، نا أبو بكرة بن عياش، عن عبد العزيز بن رفيع، سمعت أبا محذورة قال: كنت غلاماً صبيّاً فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قل: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم. قال أبو جعفر: فلما علَّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا محذورة ذلك كان ذلك زيادة على ما في حديث عبد الله بن زيد ووجب استعمالها، وقد استعمل ذلك أصحابه من بعده. نا ابن شيبة، نا أبو نعيم، نا سفيان، عن محمد بن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان في الأذان الأول بعد حَيّ على الفلاح الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم. نا علي بن شيبة، نا يحيى بن يحيى، نا هيثم، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن أنس، قال: كان التثويب في صلاة الغداة إذا قال المؤذن حَيّ على الفلاح، قال: الصلاة خير من النوم. فهذا ابن عمر وأنس يخبران أن ذلك مما كان المؤذِّن يؤذِّن به في أذان الصبح، فثبت بذلك ما ذكرناه. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. انتهى كلامه. وفي سنن النسائي، عن أبي محذورة: كنت أؤذِّن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكنت أقول في أذان الفجر: حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلاَّ الله. وفي "معجم الطبراني"، عن بلال أنه أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوماً يؤذنه لصلاة الصبح فوجده راقداً، فقال: الصلاة خير من النوم مرتين، فقال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أحسن هذا يا بلال، اجعله في أذانك. وروى ابن خزيمة والبيهقي، عن ابن سيرين، قال: من السنَّة أن يقول المؤذِّن في أذان الفجر حي على الفلاح، قال: الصلاة خير من النوم(1/356)
المؤذِّن يُؤْذِنُهُ (1) لصلاةِ الصُّبْحِ فَوَجَدَهُ نَائِمًا فَقَالَ المؤذِّنُ (2) : الصَّلاةُ خيرٌ مِنَ النَّوْمِ، فَأَمَرَهُ عُمَرُ أن يجعلها في نداء الصبح.
__________
(قلت: إسناده صحيح. رواه الدارقطني 1/243) .
(1) أي يخبره من الإِيذان أو من التأذين.
(2) قوله: فقال المؤذّن ... إلخ، يُستنبط من هذا الأثر أمور:
أحدها: جواز التثويب وهو الإِعلام بعد الإِعلام لأمراء المؤمنين وبه قال أبو يوسف، واستبعده محمد، لأن الناس سواسية في أمر الجماعة، ويُدفع استبعاده بما رُوي في الصحاح أن بلالاً كان يؤذن الفجر ثم يأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على باب الحجرة، فيؤذنه بصلاة الصبح، وكذا في غير صلاة الفجر. لكن قد يُخدش ذلك بما أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة، عن مجاهد، أن أبا محذورة قال: الصلاة الصلاة، فقال عمر: ويحك أمجنون أنت؟ أما كان في دعائك الذي دعَوتنا ما نأتيك؟ وقد حقَّقت الأمر في هذه المسألة في رسالتي "التحقيق العجيب في التثويب".
وثانيها: جواز النوم بعد طلوع الصبح أحياناً.
وثالثها: كون الصلاة خير من النوم في نداء الصبح.
ورابعها: كون ذلك بأمر عمر. وقد يُستشكل هذا بأن دخوله في نداء الصبح كان بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبلال، وكان ذلك شائعاً في أذان بلال وأذان أبي محذورة وغيرهما من المؤذنين في عصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما هو مخرَّج في سنن ابن ماجه وجامع الترمذي وأبي داود ومعجم الطبراني ومعاني الآثار وغيرهما، وقد فصَّلته في رسالتي المذكورة، فما معنى جعله في نداء الصبح بأمر عمر؟ وأُجيب عنه بوجوه: أحدها: أنه من ضروب الموافقة ذكره الطيبي في "حواشي المشكاة: وردَّه عليّ القاريّ بأن هذا كان في زمان خلافة عمر، ويبعد عدم وصوله إليه سابقاً.(1/357)
92 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يكبِّر فِي النِّدَاءِ (1) ثَلاثًا (2) ويتشهَّدُ ثَلاثًا، وَكَانَ أَحْيَانًا (3) إِذَا قَالَ حيَّ على الفلاح قال على إِثْرِها (4)
__________
وثانيها: أنه لعله بلغه ثم نسيه فأمره، وفيه بُعد أيضاً.
وثالثها: أن معنى أمره أن يجعلها في نداء الصبح أن يبقيها فيه ولا يجاوزها إلى غيره. قال ابن عبد البر: المعنى فيه عندي والله أعلم أنه قال: اجعل هذا في الصبح لا ها هنا، كأنه كره أن يكون نداء الفجر عند باب الأمير كما أحدثه الأمراء، وإنما حملني على هذا التأويل، وإن كان الظاهر من الخبر خلافه، لأن قول المؤذن الصلاة خير من النوم أشهر عند العلماء والعامة من أن يُظَنّ بعمر أنه جهل ما سنَّ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم وأمر به مؤذِّنَه بالمدينة بلالاً وبمكة أبا محذورة.
(1) أي: الأذان.
(2) قوله: ثلاثاً، اختلفت الروايات في عدد التكبير والتشهّد، ففي بعضها ورد التكبير في ابتداء الأذان أربع مرات، وفي بعضها مرتين، والأول هو المشهور في بَدْء الأذان وأذان بلال وغيره، وبه قال الجمهور والشافعي وأحمد وأبو حنيفة، ومالك اختار الثاني.
وأما الشهادتان، فورد في المشاهير أن كلاًّ منهما مرتين مرتين، وبه أخذ أبو حنيفة ومن وافقه، وورد في أذان أبي محذورة الترجيع وهو أن يخفض صوته بهما ثم يرفع، وبه أخذ الشافعي ومن وافقه، وأما فعل ابن عمر من تثليث التشهّد والتكبير فلم أَطَّلع له في المرفوع أصلاً، ولعله لبيان الجواز.
(3) فيه إشارة إلى أنه ليس بسنَّة بل هو لبيان الجواز.
(4) بكسر الهمزة، أي: على عقبها.(1/358)
حَيَّ على خير العمل (1) .
__________
(1) قوله: حي على خير العمل، أخرجه البيهقي كذلك عن عبد الوهاب بن عطاء، عن مالك، عن نافع، وعن الليث بن سعد، عن ابن عمر: أنه كان إذا قال حي على الفلاح قال على إثرها: حي على خير العمل، قال البيهقي: لم يثبت هذا اللفظ، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ما علَّم بلالاً ولا أبا محذورة، ونحن نكره الزيادة فيه. وروى البيهقي أيضاً، عن عبد الله بن محمد بن عمار وعمر ابني سعد بن عمر بن سعد، عن آبائهم، عن أجدادهم، عن بلال: أنه كان ينادي بالصبح، فيقول: حيّ على خير العمل، فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل مكانها الصلاة خير من النوم، وترك حي على خير العمل. قال ابن دقيق العيد: رجاله مجهولون يُحتاج إلى كشف أحوالهم، كذا في "تخريج أحاديث الهداية" للزيلعي. وقال النووي في "شرح المهذب": يُكره أن يُقال في الأذان: حيَّ على خير العمل، لأنه لم يثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والزيادة في الأذان مكروهة عندنا. انتهى. وفي "منهاج السنَّة" لأحمد بن عبد الحليم الشهير بابن تيمية: هم أي الروافض زادوا في الأذان شعاراً لم يكن يُعرف على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي حي على خير العمل، وغاية ما يُنقل إنْ صح النقلُ أن بعض الصحابة كابن عمر كان يقول ذلك أحياناً على سبيل التوكيد كما كان بعضهم يقول بين النداءين: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وهذا يُسمَّى نداء الأمراء، وبعضهم يسمّيه التثويب، ورخَّص فيه بعضهم وكرهه أكثر العلماء، ورووا عن عمر وابنه وغيرهما كراهة ذلك، ونحن نعلم بالاضطرار أن الأذان الذين كان يؤذِّنه بلال وابن أم مكتوم في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، وأبو محذورة بمكة، وسعد القرظي في قباء لم يكن في آذانهم هذا الشعار الرافضي، ولو كان فيه لنقله المسلمون ولم يُهملوه، كما نقلوا ما هو أيسر منه، فلمّا لم يكن في الذين نقلوا الأذان من ذكر هذه الزيادة علم أنها بدعة باطله وهؤلاء الأربعة كانوا يؤذِّنون بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومنه تعلَّموا الأذان، وكانوا يؤذِّنون في أفضل المساجد مسجد مكة والمدينة ومسجد قباء، وأذانهم متواتر عند العامة والخاصة. انتهى كلامه.(1/359)
قَالَ مُحَمَّدٌ: الصلاةُ خيرٌ مِنَ النَّوْمِ يَكْوُنُ ذَلِكَ فِي نِدَاءِ الصبح بعد الفراغ (1) من النداء،
__________
(1) قوله: بعد الفراغ من النداء، فيه أنه قد ثبت هذه الزيادة في الأذان بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتعارف ذلك المؤذِّنون من غير نكير، ففي حديث أبي محذورة في قصة تعليم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الأذان له، قال فيه: إذا كنتَ في أذان الصبح، فقلت: حَيَّ على الفلاح، فقل: الصلاة خير من النوم مرتين. أخرجه أبو داود وابن حبان مطوَّلاً، وفي سنده محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة، وهو غير معروف الحال، والحارث بن عبيد، وفيه مقال. وقال بقي بن مخلد: نا يحيى بن عبد الحميد، نا أبو بكر بن عياش، ثني عبد العزيز بن رفيع، سمعت أبا محذورة يقول: كنت غلاماً صبيّاً أذَّنت بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفجر يوم حنين، فلما انتهيتُ إلى حي على الفلاح قال: ألحِقْ فيها الصلاة خير من النوم. ورواه النسائي من وجه آخر، وصحَّحه ابن حزم. وروى الترمذي وابن ماجه وأحمد من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن بلال، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "لا تثوبنَّ في شيءٍ من الصلاة إلاَّ صلاة الفجر". وفي سنده الملائي وهو ضعيف مع الانقطاع بين عبد الرحمن وبلال. ورواه الدارقطني من طريق آخر، عن عبد الرحمن، وفيه أبو سعد البقال (في نسخة: "أبو سعيد البقال"، وهو تحريف. وهو سعيد بن المرزبان العبسي أبو سعد، البقال الكوفي ت 140 هـ. انظر: "تهذيب التهذيب" 4/79) وهو ضعيف. وروى ابن خزيمة والدارقطني والبيهقي، عن أنس، قال: من السنَّة إذا قال المؤذن في أذان الفجر: حيَّ على الفلاح، قال: الصلاة خير من النوم. وصحَّحه ابن السكن ولفظه: كان التثويب في صلاة الغداة إذا قال المؤذِّن: حي على الفلاح. وروى ابن ماجه من حديث ابن المسيِّب، عن بلال، قال: أنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم يؤذنه لصلاة الفجر، فقيل هو نائم، فقال: الصلاة خير من النوم مرتين، فأُقِرَّتْ في تأذين الفجر، فثبت الأمر على ذلك. وفيه انقطاع مع ثقة رجاله. وذكره ابن السكن من طريق آخر، عن بلال، وهو في معجم الطبراني من طريق الأزدي، عن حفص بن عمر، عن بلال، وهو منقطع أيضاً. ورواه البيهقي في "المعرفة" من(1/360)
وَلا يَجِبُ (1) أَنْ يُزاد فِي النِّدَاءِ مَا لم يكن منه (2) .
__________
هذا الطريق، فقال: عن الزهري، عن حفص بن عمر بن سعد المؤذن: أن سعداً كان يؤذن، قال حفص: فحدَّثني أهلي أن بلالاً فذكره. وروى ابن ماجه، عن سالم، عن أبيه، قصة اهتمامهم بما يجمعون به الناس قبل أن يشرع الأذان، وفي آخره زاد بلال في نداء صلاة الغداة الصلاة خير من النوم، فأقرَّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وإسناده ضعيف جداً. وروى السَّرَّاج والطبراني والبيهقي من حديث ابن عجلان، عن نافع عن ابن عمر، قال: كان الأذان الأول بعد حي على الفلاح الصلاة خير من النوم مرتين، وسنده حسن. هذا ما ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني في "تخريج أحاديث شرح الرافعي" (1/201) .
وفي الباب أخبار وآثار أُخَر قد مر نبذٌ منها، فيثبت بضم بعضها ببعض - وإن كان طرق بعضها ضعيفة - كون هذه الزيادة في أذان الصبح لا بعده هو مذهب الكافَّة.
(1) قوله: ولا يجب، هكذا بالجيم في الأصل، والمعنى لا ينبغي، والظاهر أنه تصحيف "لا يحب" أي: لا يستحسن، كذا قال القاري.
(2) قوله: ما لم يكن منه، يشير إلى حديث "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ"، وكأنه أشار إلى أن الصلاة خير من النوم ليس من الأذان، أو إلى أنَّ حيَّ على خير العمل ليس من الأذان، أي: من الأذان المعروف بين مؤذِّني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المأثور عنه، فإن كان المراد هو الأول كما يقتضيه ضم جملة ولا يجب ... إلخ، بقوله: يكون في نداء الصبح بعد الفراغ من النداء، فقد عرفتَ ما فيه من أن زيادة الصلاة خير من النوم وإن لم تكن في حديث بَدْء الأذان لكنها ثبت الأمر بها بعد ذلك، فليست زيادته زيادة ما ليس منه. وإن كان المراد هو الثاني وهو الأَوْلى بأن يجعل قوله ولا يجب إلى آخره بياناً لعدم زيادة حي على خير العمل فيخدشه ما أخرجه الحافظ أبو الشيخ بن حَيّان (في الأصل: "ابن حبان"، وفي "سير أعلام النبلاء" 16/267، و"طبقات الحفاظ" ص 381: "ابن حيّان"، هو أبو محمد عبد الله بن جعفر بن حيان الأصبهاني المعروف بأبي الشيخ ت 369 هـ) في كتاب "الأذان"، عن سعد القَرَظ،(1/361)
30 - (بَابُ الْمَشْيِ إِلَى الصَّلاةِ وَفَضْلِ الْمَسَاجِدِ)
93 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَلاءُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (1) بنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ (2) ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: إذ ثُوِّبَ بالصلاةِ (3)
__________
قال: كان بلال ينادي بالصبح فيقول: حي على خير العمل، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجعل مكانها الصلاة خير من النوم، وترك حي على خير العمل. ذكره الشيخ عبد الحق الدهلوي في "فتح المنان"، وقد مرَّ من رواية البيهقي، مثله، وذكر نور الدين علي الحلبي في كتابه "إنسان العيون في سيرة النبي المأمون" نقل عن ابن عمر، وعن علي بن الحسين أنهما كانا يقولان في أذانهما بعد حيّ على الفلاح حي على خير العمل. انتهى. فإن هذه الأخبار تدل على أن لهذه الزيادة أصلاً في الشرع فلم تكن مما ليس منه، ويمكن أن يُقال: إن رواية البيهقي وأبي الشيخ قد تُكُلِّم في طريقهما، فإن كانت ثابتةً دلَّت على هجران هذه الزيادة وإقامة الصلاة خير من النوم مقامه، فصارت بعد تلك الإِقامة مما ليس منه، وأما فعل ابن عمر وغيره فلم يكن دائماً بل أحياناً لبيان الجواز، ولو ثبت عن واحدٍ منهما دوامُه أو عن غيرهما، فالأذان المعروف عن مؤذِّني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الثابت بتعليمه الخالي عن هذه الزيادة يُقدَّم عليه، فافهم فإن المقام حقيق بالتأمل.
(1) هو تابعي كابنه.
(2) هو عبد الرحمن بن يعقوب الجهني المدني، قال النسائي: ليس به بأس. وابنه العلاء أبو شِبْل - بالكسر - المدني صدوق، كذا في "الإِسعاف" و"التقريب".
(3) قوله: إذا ثُوِّب، أي: أقيم، وأصل ثاب رجع، يقال: ثاب إلى المريض جسمه، فكأن المؤذِّن رجع إلى ضرب من الأذان للصلاة، وقد جاء هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ: "إذا أقيمت الصلاة"، وهو يبيِّن أن التثويب ها هنا(1/362)
فَلا تأتُوها تسعَوْن (1) وأْتُوها وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ (2) ، فَمَا أدركتُمْ (3) فصلُّوا وما فاتَكُم (4)
__________
الإِقامة، وهي رواية الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة، وفي رواية لهما أيضاً: "إذا سمعتم الإِقامة". وهي أخص من قوله في حديث أبي قتادة عندهما أيضاً: "إذا أتيتم الصلاة".
(1) قوله: تسعَوْن، السعي ها هنا المشي على الأقدام بسرعة والاشتداد فيه، وهو مشهور في اللغة، ومنه السعي بين الصفا والمروة، وقد يكون السعي في كلام العرب العمل بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخرةَ وَسَعى لَهَا سَعْيَهَا} ، وقوله تعالى: {إِنَّ سعيَكم لشتى} ونحو هذا كثير، قاله ابن عبد البر.
(2) بالرفع على أنها جملة في موضع الحال، وضبطه القرطبي بالنصب على الإِغراء.
(3) قوله: فما أدركتم فصلوا، جواب شرط محذوف، أي: إذا فعلتم ما أمرتكم به من السكينة فما أدركتم ... إلخ.
(4) قوله: وما فاتكم فأتمّوا، قال الحازمي في كتاب "الناسخ والمنسوخ": أخبرنا محمد بن عمر بن أحمد الحافظ، أنا الحسن بن أحمد القاري، أنا أبو نعيم، نا سليمان بن أحمد، نا أبو زرعة، نا يحيى بن صالح، نا فليح، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل، قال: كنا نأتي الصلاة، أو يجيء رجل وقد سُبق بشيء من الصلاة أشار إليه الذي يليه: قد سُبقت بكذا وكذا، فيقضي، قال: فكنا بين راكع وساجد وقائم وقاعد، فجئتُ يوماً وقد سُبقت ببعض الصلاة وأُشير إليَّ بالذي سُبقت به، فقلت: لا أجده على حال إلاَّ كنت عليها، فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قمت وصلَّيت، فاستقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الناس وقال: من القائل كذا وكذا، قالوا: معاذ بن جبل، فقال: "قد سنَّ لكم معاذ فاقتدوا به، إذا جاء أحدكم وقد سُبق بشيء من الصلاة فليصل مع الإِمام بصلاته، فإذا فرغ الإِمام فليقضِ ما سبقه به".(1/363)
فَأَتِمُّوا (1) ، فإنَّ أحدَكم فِي صَلاةٍ مَا كَانَ (2) يَعْمِدُ (3) إلى الصلاة.
__________
قال الشافعي: إذا سبق الإِمام الرجل الركعة فجاء الرجل فركع تلك الركعة لنفسه ثم دخل مع الإِمام في صلاته حتى يكملها فصلاته فاسدة وعليه أن يعيد الصلاة، ولا يجوز أن يبتدئ الصلاة لنفسه ثم يأتم بغيره، وهذا منسوخ قد كان المسلمون يصنعونه حتى جاء عبد الله بن مسعود أو معاذ بن جبل، وقد سبقه النبي صلّى الله عليه وسلّم بشيء من الصلاة، فدخل معه ثم قام يقضي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إن ابن مسعود - أو معاذاً - سنَّ لكم فاتبعوها".
(1) قوله: فأتمّوا، فيه دليل على أن ما أدركه فهو أول صلاته، وقد ذكر في "التمهيد" من قال في هذا الحديث "فاقضوا".
وهذان اللفظان تأوَّلهما العلماء في ما يدركه المصلّى من صلاته مع الإِمام هل هو أول صلاته أو آخرها؟ ولذلك اختلفت أقوالهم فيها (أوجز المسالك 2/12) ، فأما مالك، فاختلفت الرواية عنه، فروى سحنون، عن جماعة من أصحاب مالك، عنه أن ما أدراك فهو أول صلاته ويقضي ما فاته، وهذا هو المشهور من مذهبه، وهو قول الأَوْزاعي والشافعي ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل، وداود والطبري، وروى أشهب، عن مالك، أن ما أدرك فهو آخر صلاته، وهو قول أبي حنيفة والثوري والحسن بن حَيّ، وذكر الطحاوي، عن محمد عن أبي حنيفة أن الذي يقضى هو أول صلاته ولم يحكِ خلافاً. وأما السلف فرُوي عن عمر وعليّ وأبي الدرداء: ما أدركتَ فاجعله آخر صلاتك، وليست الأسانيد عنهم بالقوية، وعن ابن عمر ومجاهد وابن سيرين مثل ذلك، وصحَّ عن سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومكحول وعطاء والزهري والأَوْزاعي وسعيد بن عبد العزيز ما أدركت فاجعله أول صلاتك، واحتجَّ القائلون بأن ما أُدرك فهو أول صلاته بقوله صلّى الله عليه وسلّم: "ما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتمّوا"، قالوا: والتمام هو الآخر، واحتجَّ الآخرون بقوله: "وما فاتكم فاقضوا"، فالذي يقضيه هو الفائت، كذا في "الاستذكار".(1/364)
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا تَعْجَلَنَّ (1) بركوعٍ وَلا افتتاحٍ حَتَّى تَصِلَ (2) إِلَى الصَّفِّ وتقومَ فِيهِ، وَهُوَ قولُ أبي حنيفة رحمه الله.
__________
(2) قوله: ما كان يعمد إلى الصلاة، يدل على أن الماشي إلى الصلاة كالمنتظر لها وهما من الفضل سواء بالمصلّي إن شاء الله تعالى على ظاهر الآثار، وهذا يسير في فضل الله ورحمته لعباده، كما أنه من غلبه نوم عن صلاةٍ كانت عادة له، كُتب له أجر صلاة، وكان نومه عليه صدقة، كذا قال ابن عبد البر.
(3) بكسر الميم، أي: يقصد.
(1) أيها المصلّي.
(2) قوله: حتى تصل إلى الصف وتقوم فيه، استُنبط من النهي عن الإِتيان ساعياً وكون عامِدِ الصلاة في الصلاة من حيث الثواب، وذلك لأن العَجَلة في الاشتراك قبل الوصول إلى الصف يفوِّت كثرة الخطا، وامتداد زمان العمد إلى الصلاة مع لزوم قيامه خلف صف مع غير إتمامه، وقد ورد فيه نص صريح هو ما أخرجه البخاري وغيره، عن أبي بكرة أنه دخل المسجد ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم راكع، فركع دون الصف، ثم دبَّ حتى انتهى إلى الصف، فلمّا سَلَّم قال: "إني سمعت نَفَساً عالياً فأيُّكم الذي ركع دون الصف ثم مشى إلى الصف، فقال أبو بكرة: أنا يا رسول الله، خشيت أن تفوتني الركعة فركعت دون الصف ثم لحقت بالصف، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: "زادك الله حرصاً ولا تعد". قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية": إرشاد إلى المستقبل بما هو أفضل منه، ولو لم يكن مجزئاً لأمره بالإِعادة، والنهي إنما وقع عن السرعة والعجلة إلى الصلاة، كأنه أَحَبَّ له أن يدخل الصف ولو فاتته الركعة، ولا يعمل بالركوع دون الصف، يدل عليه ما رواه البخاري في كتابه المفرد في "القراءة خلف الإِمام": ولا تعد، صلِّ ما أدركتَ واقضِ ما سبقتَ. فهذه الزيادة دلَّتْ على ذلك، ويقوّيها حديث: وعليكم السكينة فما أدركتم فصلّوا وما فاتكم فاقضوا.(1/365)
94 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَمِعَ الإِقامة وَهُوَ بِالْبَقِيعِ فأَسْرَعَ الْمَشْيَ (1) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهَذَا (2) لا بَأْسَ بِهِ مَا لَمْ يُجْهِدْ نفسَه (3) .
__________
(1) قوله: فأسرع المشي، وروُي عنه أنه كان يهرول إلى الصلاة، وعن ابن مسعود أنه قال: لو قرأت: {فَاسْعَوْا إلى ذِكرِ اللَّهِ} لسَعَيْتُ حتى يسقط ردائي، وكان يقرأ: {فَامْضُوا إلى ذِكْرِ اللَّهِ} ، وهي قراءة عمر أيضاً. وعن ابن مسعود أيضاً: أحق ما سَعَيْنا إليه الصلاة. وعن الأسود بن يزيد وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن يزيد، أنهم كانوا يهرولون إلى الصلاة.
فهؤلاء كلهم ذهبوا إلى أنَّ من خاف فوت الوقت سعى، ومن لم يخف مشى على هيأة، وقد رُوي عن ابن مسعود خلاف ذلك، أنه قال: إذا أتيتم الصلاة فأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلّوا وما فاتكم فأتمّوا، وروى عنه أبو الأحوص، أنه قال: لقد رأيتُنا وإنا لنقارب بين الخطا. وروى ثابت، عن أنس، قال: خرجت مع زيد بن ثابت، إلى المسجد، فأسرعت المشي فحبسني. وعن أبي ذرّ، قال: إذا أقيمت الصلاة فامشِ إليها كما كنت تمشي فصلِّ ما أدركت واقضِ ما سبقك.
وهذه الآثار كلها مذكورة بطرقها في "التمهيد" وقد اختلف السلف في هذا الباب كما ترى، وعلى القول بظاهر حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا الباب جمهور العلماء وجماعة الفقهاء، كذا في "الاستذكار".
(2) أي الإِسراع.
(3) قوله: ما لم يُجهد نفسه، أي: لا يكلف نفسه ولا يحمل عليه مشقة، ويشير بقوله لا بأس به إلى الجواز وإلى أن النهي عن الإِتيان ساعياً في الحديث المرفوع ليس نهي تحريم بل نهي استحباب إرشاداً إلى الأليق الأفضل.(1/366)
95 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا سُمَيٌّ (1) أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرٍ (2) يَعْنِي ابنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (3) يَقُولُ: مَنْ غَدَا (4) أَوْ رَاحَ (5) إِلَى الْمَسْجِدِ لا يُرِيدُ غيرَه ليتعلَّمَ خَيْرًا أَوْ يُعَلِّمه ثُمَّ رجَعَ إِلَى بَيْتِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ كَانَ (6) كَالْمُجَاهِدِ في سبيل الله رَجَع (7) غانماً.
31 - (باب الرجل يصلِّي وقد أخذ (8) المؤذِّنُ في الإِقامة)
96 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا شَرِيك (9) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن
__________
(1) مولى أبي بكر.
(2) قوله: أبا بكر، قيل اسمه محمد، وقيل: أبو بكر وكنيته أبو عبد الرحمن، والصحيح أن اسمه وكنيته واحد، وكان مكفوفاً، وثقه العجلي وغيره، مات سنة 93 هـ، كذا في "الإِسعاف".
(3) ابن الحارث بن هشام.
(4) ذهب وقت الغداة أوَّلَ النهار.
(5) من الزوال.
(6) في الثواب.
(7) إلى بيته بعد الفراغ من الجهاد وأخذ الغنيمة.
(8) أي شرع.
(9) قوله: شَريك بن عبد الله بن أبي نمر، أبو عبد الله المدني، وثقه ابن سعد وأبو داود، وقال ابن معين والنسائي: لا بأس به، وقال ابن عدي: إذا روى عنه ثقة فلا بأس به، كذا في "هدي (في الأصل: "الهدي الساري"، وهو تحريف) الساري" مقدمة "فتح الباري" للحافظ ابن حجر.(1/367)
أَبِي نَمَيْر (1) ، أنَّ أَبَا سَلَمَةَ بنَ عبدِ الرحمنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ (2) : سَمِعَ قومٌ (3) الإِقامةَ فقالوا يصلُّون، فَخَرَجَ عَلَيْهِمُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَصَلاتَانِ (4) مَعًا (5) ؟!
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُكره (6) إذا أُقيمت الصلاة أن يُصلِّيَ الرجلُ
__________
(1) قوله: أبي نمير، بضم النون وفتح الميم مصغراً، كذا وجدناه في بعض النسخ، وفي نسخة يحيى "أبي نمر" وضبطه الزرقاني بفتح النون وكسر الميم.
(2) قوله: قال، ابن عبد البر، لم يختلف الرواة، عن مالك في إرسال هذا الحديث إلاَّ الوليد بن مسلم، فإنه رواه، عن مالك، عن شريك، عن أنس. ورواه الدراوردي، عن شريك، فأسنده عن أبي سلمة، عن عائشة. ثم أخرجه ابن عبد البر من الطريقين وقال: قد رُوي هذا الحديث بهذا المعنى من حديث عبد الله بن سَرْجِس وابن بُحَيْنة وأبي هريرة.
(3) أي: بعض من كان في المسجد النبوي.
(4) قوله: أصلاتان معاً، قال ابن عبد البر: قوله هذا وقوله في حديث ابن بحينة: "أتصلّيهما أربعاً"، وفي حديث ابن سرجس: "أيتهما صلاتك"، كل هذا إنكار منه لذلك الفعل.
(5) أي: أتجمعون الصلاتين معاً.
(6) قوله: يكره، لما أخرجه مسلم وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "إذا أُقيمت الصلاة فلا صلاة إلاَّ المكتوبة"، وفي رواية للطحاوي: "إلاَّ التي أُقيمت لها"، وفي رواية ابن عَدِيّ، قيل: يا رسول الله، ولا ركعتي الفجر؟ قال: ولا ركعتي الفجر، وإسناده حسن، قاله الزرقاني. وقد يعارض هذه الزيادة بما رُوي: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلاَّ المكتوبة إلاَّ ركعتي الصبح"، لكنه من رواية عبّاد بن كثير وحجّاج بن نصير وهما ضعيفان، ذكره الشوكاني.(1/368)
تَطَوُّعًا (1) غَيْرَ ركعَتَيْ الْفَجْرِ (2) خَاصَةً، فَإِنَّهُ لا بأس بأن يصلِّيَهُما
__________
(1) أي: نفلاً أو سُنَّة، فإن الكل يُسمّى تطوُّعاً لكونه زائداً على الفرائض.
(2) قوله: غير ركعتي الفجر، أي: الركعتين اللتين تصلَّيان قبل فرض الصبح، لما رُوي، عن عبد الله بن أبي موسى، عن أبيه: دعا سعيد بن العاص، أبا موسى وحذيفة وابن مسعود قبل أن يصلي الغداة، فلما خرجوا من عنده أقيمت الصلاة، فجلس عبد الله بن مسعود إلى أسطوانة من المسجد يصلي ركعتين، ثم دخل المسجد ودخل في الصلاة. وعن أبي مخلد: دخلت مع ابن عمر وابن عباس والإِمام يصلّي، فأما ابن عمر فقد دخل في الصف، وأما ابن عباس، فصلّى ركعتين ثم دخل مع الإِمام، فلمّا سلَّم الإِمام قعد ابن عمر، فلما طلعت الشمس ركع ركعتين. وعن محمد بن كعب: خرج ابن عمر من بيته، فأُقيمت صلاة الصبح، فركع ركعتين قبل أن يدخل المسجد وهو في الطريق، ثم دخل المسجد فصلّى الصبح مع الناس. وعن زيد بن أسلم، أن ابن عمر جاء والإِمام يصلّي صلاة الصبح ولم يكن صلّى الركعتين قبل صلاة الصبح، فصلاهما في حُجرة حفصة، ثم صلّى مع الإِمام. وعن أبي الدرداء: أنه كان يدخل المسجد والناس صفوف في صلاة الفجر، فيصلّي الركعتين في ناحية، ثم يدخل مع القوم في الصلاة. أخرج هذه الآثار الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، وأخرج أيضاً عن مسروق وأبي عثمان النهدي والحسن إجازة أداء ركعتي الفجر إذا أُقيمت الصلاة. وذكر أن معنى فلا صلاة إلاَّ المكتوبة: النهي عن أداء التطوُّع في موضع الفرض، فإنه يلزم حينئذٍ الوصل، وبَسَط الكلام فيه. لكن لا يخفى على الماهر أن ظاهر الأخبار المرفوعة هو المنع، من ذلك حديث أبي سلمة المذكور في الكتاب، فإن القصة المذكورة فيه قد وقعت في صلاة الصبح كما صرَّح به الشراح، ووقع في موطأ يحيى بعد هذه الرواية: وذلك في صلاة الصبح في الركعتين اللتين قبل الصبح. ومن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، عن عبد الله بن مالك بن بُحَينة: مرَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم برجل وقد أُقيمت الصلاة يصلّي ركعتين، فلما انصرف لاث به الناس،(1/369)
الرَّجُلُ (1) إنْ (2) أخذَ المؤذِّنُ فِي الإِقامة، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ (3) .
32 - (باب تسوية (4) الصف (5))
__________
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: آلصبح أربعاً؟ آلصبح أربعاً؟ قال القسطلاّني: الرجل هو عبد الله الراوي كما عند أحمد بلفظ: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرَّ به وهو يصلّي. ولا يعارضه ما عند ابن حبان وابن خزيمة أنه ابن عباس، لأنهما واقعتان. انتهى.
وأخرج الطحاوي، عن عبد الله بن سرجس، أن رجلاً جاء ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في صلاة الصبح، فركع ركعتين خلف الناس، ثم دخل مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاته، قال: يا فلان، أجعلتَ صلاتك التي صلَّيتَ معنا أو التي صلَّيتَ وحدك؟ وكذلك أخرجه أبو داود وغيره. وحمل الطحاوي هذه الأخبار على أنهم صلّوا في الصفوف لا فصل بينهم وبين المصلّين بالجماعة، فلذلك زجرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم، لكنه حَمْل من غير دليل معتدٍّ به، بل سياق بعض الروايات يخالفه.
(1) خارج المسجد، أو في ناحية المسجد خارج الصفوف.
(2) وَصْلية.
(3) وبه قال أبو يوسف، ذكره الطحاوي.
(4) هو اعتدال القامة بها على سمت واحد (ويستحب للإِمام تسوية الصفوف كذا في المغني 1/458، ولعله متفق عند الكلّ ويُكره تركها، وراجع للتفصيل فتح الباري 2/175، وعمدة القاري 2/789) .
(5) قوله: تسوية الصف، قال ابن حزم بوجوب تسوية الصفوف لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: "لَتُسَوُّنَّ صفوفكم أو ليخالِفَنَّ اللهُ بين وجوهكم"، متفق عليه، لكن ما رواه البخاري: "سوُّوا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة" يصرفه إلى السّنَّة، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك.(1/370)
97 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَأْمُرَ (1) رِجَالاً (2) بتسوية الصفوف، فَإذا جاؤوه فأخْبَرُوه بِتَسْوِيَتِهَا كَبَّرَ (3) بعدُ.
98 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو سُهَيْل بْنِ مَالِكٍ (4) وأَبو النَّضر مولَى عُمر بْنِ عُبيد اللَّهِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الأَنْصَارَيِّ (5) : أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عفَّان كَانَ يَقُولُ فِي خُطبته: إِذَا قَامَتِ الصلاةُ، فاعْدِلُوا (6) الصفُوفَ، وحَاذُوا (7) بالمَناكِب، فإنَّ اعْتِدَالِ الصُّفُوفِ من تمام
__________
(1) قوله: كان يأمر، قال الباجي: مقتضاه أنه وكّل من يُسَوِّي الناس في الصفوف، وهو مندوب.
(2) أي: من أصحابه.
(3) أي قال: الله أكبر.
(4) قوله: أبو سهيل بن مالك، هو عمّ مالك بن أنس، اسمه نافع، وثَّقه أحمد وأبو حاتم والنسائي، كذا في "الإِسعاف".
(5) الأصبحي من كبار التابعين، ثقة، روى له الجميع، مات سنة 74 هـ على الصحيح، وهو جَدّ الإِمام مالك والد أبي سهيل، كذا قال السيوطي وغيره.
(6) أي: سوّوا.
(7) قوله: حاذُوا، أي: قابلوا المناكب بأن لا يكون بعضُها متقدِّماً وبعضُها متأخِّراً، وهو المراد بقول أنس: (كان أحدُنا يُلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه(1/371)
الصَّلاةِ (1) . ثُمَّ لا يكبِّر حَتَّى يَأْتِيَهُ رِجَالٌ قَدْ وكَّلهم (2) بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ، فَيُخْبِرُونَهُ أَنْ قَدِ استوتْ فيكبِّر.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَنْبَغِي لِلْقَوْمِ إِذَا قَالَ المؤذِّن حيَّ عَلَى الْفَلاحِ أَنْ يَقُومُوا (3) إلى الصلاة (4) فيصُفّوا
__________
بقدمه) ، وقول النعمان بن بشير: (رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه) (زعم بعض الناس أنه على الحقيقة، وليس الأمر كذلك، بل المراد بذلك مبالغة الراوي في تعديل الصف، وسدّ الخلل كما فتح الباري، 2/176، والعمدة 2/294. وهذا يردّ على الذين يدَّعون العمل بالسنَّة في بلادنا حيث يجتهدون في إلزاق كعابهم بكعاب القائمين في الصف ويفرجون جداً للتفريج بين قدميهم مما يؤدي إلى تكلّف وتصنُّع، وقد وقعوا فيه لعدم تنبُّههم للغرض، ولجمودهم بظاهر الألفاظ، (معارف السنن) 1/292) ، ذكرهما البخاري في صحيحه.
(1) أي: من كمال صلاة الجماعة.
(2) بخفة الكاف وتشديدها.
(3) في "ن": يقدموا.
(4) قوله: أن يقوموا، إلى الصلاة، اختلفوا فيه: فقال الشافعي والجمهور: يقومون عند الفراغ من الإِقامة، وهو قول أبي حنيفة، وعن مالك: يقومون عند أوَّلها، وفي "الموطأ" أنه يرى ذلك على طاقة الناس، فإن فيهم الثقيل والخفيف، كذا ذكره القسطلاّني في "إرشاد الساري" وفي "الاستذكار": قد ذكرنا في "التمهيد" بالأسانيد، عن عمرو بن مهاجر: رأيت عمر بن عبد العزيز ومحمد بن مسلم الزهري وسليمان بن حبيب يقومون إلى الصلاة في أول نداء (في الاستذكار 2/103، بدله (بدء)) من الإِقامة، قال: وكان عمر بن عبد العزيز، إذا قال المؤذِّن: قد قامت الصلاة عدّل الصفوف بيده عن يمينه(1/372)
ويُسَوُّوا (1) الصُّفُوفَ ويحاذُوا (2) بَيْنَ الْمَنَاكِبِ، فَإِذَا أقامَ (3) الموذن الصلاةَ كبَّر الإِمامُ، وَهُوَ قولُ أَبِي حنيفةَ - رحمه الله -.
__________
وعن يساره، فإذا فرغ كبَّر، وعن أبي يعلى (في الأصل أبي العلاء. وهو تحريف) : رأيت أنس بن مالك إذا قيل: قد قامت الصلاة قام فوثب، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا لم يكن معهم الإِمام في المسجد، فإنهم لا يقومون حتى يروا الإِمام لحديث أبي قتادة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: "إذا أُقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتى تروني" وهو قول الشافعي وداود، وإذا كان معهم فإنهم يقومون إذا قال: حيّ على الفلاح. انتهى ملخَّصاً (الاستذكار 2/103 - 104) .
(1) من تسوية.
(2) من المحاذاة، أي: يقابلوا بين مناكبهم.
(3) فإذا أقام، أي: قال: قد قامت الصلاة، وهو محتمل لأمرين: الشروع فيه والفراغ منه، وذكر في "جامع الرموز"، عن "المحيط" و"الخلاصة" أن الأول قول الطرفين والثاني قول أبي يوسف، والصحيح هو الأول كما في "المحيط" والأصح هو الثاني كما في "الخلاصة". قلت: روى أبو داود، عن أبي أمامة أن بلالاً أخذ في الإِقامة، فلما أن قال: قد قامت الصلاة، قال رسول الله: أقامها الله وأدامها، وقال في سائر الإِقامة كنحو حديث ابن عمر في الأذان، أي: أجاب كل كلمة بمثلها إلاّ الحيعلتين. فهذا يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كبَّر بعدما تمَّت الإِقامة بجميع كلماتها. وأخرج ابن عبد البرّ في "الاستذكار"، عن بلال، أنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تسبقني بآمين (السنن الكبرى للبيهقي 2/23) ، وقال: فيه دليل على أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان(1/373)
33 - (بَابُ افْتِتَاحِ (1) الصَّلاةِ)
99 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا الزُّهريُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عبدِ اللَّهِ بْنِ عُمر أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ عُمَر قَالَ: كَانَ (2) رسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا افْتَتح (3)
__________
يكبِّر، ويقرأ، وبلال في إقامة الصلاة (الاستذكار 2/105) . انتهى.
وفيه نظر لا يخفى، والأمر في هذا الباب واسع، ليس له حد مضيق في الشرع، واختلاف العلماء في ذلك لاختيار الأفضل بحسب ما لاح لهم (وذهب عامة العلماء إلى أنه يُستحب أن لا يكبِّر الإِمام حتى يفرغ المؤذن من الإِقامة، ومذهب الشافعي وطائفة أنه يُستحب أن لا يقوم حتى يفرغ المؤذن من الإِقامة، وهو قول أبي يوسف، وعن مالك: السنَّة في الشروع في الصلاة بعد الإِقامة وبداية استواء الصف، وقال أحمد: إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة يقوم. وقال أبو حنيفة ومحمد: يقومون في الصف إذا قال: حي على الصلاة، فإذا قال: قد قامت الصلاة كبَّر الإِمام لأنه أمين الشرع، وقد أخبر بقيامها فيجب تصديقه، وإذا لم يكن الإِمام في المسجد فقد ذهب الجمهور إلى أنهم لا يقومون حتى يروه، كذا في "عمدة القاري" 5/676) .
(1) أي: ابتدائها.
(2) قوله: كان....إلخ، هذا أحد الأحاديث الأربعة التي رفها سالم، عن أبيه ووقفها نافع، عن ابن عمر، والقول فيها قول سالم، والثاني: "من باع عبداً وله مال ... "، جعله نافع، عن ابن عمر، عن عمر، والثالث: "الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة"، والرابع: "في ما سقت السماء والعيون أو كان بَعْلاً العشر، وما سُقي بالنضح نصف العشر". كذا في "التنوير".
(3) قال ابن المنذرك لم يختلف أهل العلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يرفع يديه إذا افتتح، نقله ابن دقيق العيد في "الإِمام".(1/374)
الصلاة (1) رفع (2) يديه (3)
__________
(1) قوله: افتتح الصلاة (قال الباجي: افتتاح الصلاة يكون بالنطق، ولا يكون بمجرَّد النيّة، لمن يقدر على النطق. أوجز المسالك 2/41) : استند به صاحب "البحر" أن وقت الرفع قبل التكبير، وفيه نظر لأنه يحتمل أن يكون معناه إذا كبَّر رفع يديه، لأن افتتاح الصلاة إنما هو بالتكبير، نعم، إن كان المراد بالافتتاح إرادة الافتتاح لتم الاستشهاد.
(2) هذا مستحب عند جمهور العلماء، لا واجب كما قال الأَوْزاعي والحُمَيْدي وابن خزيمة وداود وبعض الشافعية والمالكية.
(3) قوله: رفع يديه، معنى رفع اليدين عند الافتتاح وغيره خضوع، واستكانة، وابتهال، وتعظيم الله تعالى، واتِّباع لسنَّة نبيه صلّى الله عليه وسلّم (الاستذكار 2/122) .
(1) بالكسر: أي: مقابله.
(2) قوله: إذا كبَّر ... إلخ، رواه يحيى ولم يذكر فيه الرفع عند الانحطاط إلى الركوع، وتابعه على ذلك جماعة من الرواة، للموطأ عن مالك، ورواه جماعة عن مالك، فذكروا فيه الرفع عند الانحطاط، وهو الصواب، وكذلك رواه سائر مَن رواه مِن أصحاب ابن شهاب عنه (في الأوجز 2/44، قال ابن عبد البر: هو الصواب. قلت: هو وهم منه وكذلك "إن سائر من رواه، عن ابن شهاب ذكره" سهو منه، فإن الحديث أخرجه الزبيدي عن الزهري عند أبي داود وليس فيه ذكر الرفع عند الركوع، وأيضاً لم يختلف فيه على الزهري فقط، بل اختلف سالم ونافع على ابن عمر رضي الله عنهما، كما لا يخفى على من سهر الليالي في تفحّص كتب الحديث) . كذا في "التنوير".
(3) أي: حذو منكبيه.(1/375)
حِذاءَ (1) مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا كَبَّر (2) للرُّكوعِ رَفَعَ يَدَيْهِ (3) ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكوع رَفَعَ يديْه، ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللهُ (4) لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ قال (5) : ربَّنا ولك الحمد (6) .
__________
(4) معنى سمع ها هنا: أجاب.
(5) قوله: ثم قال، قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وجماعة من أهل الحديث: إن الإِمام يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، وحجَّتهم حديث ابن عمر: ورواه أبو سعيد الخُدْري وعبد الله بن أبي أوفى وأبو هريرة، وقال جماعة: يقتصر على سمع الله لمن حمده، وحجّتهم حديث أنس: عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: فإذا رفع الإِمام فارفعوا: وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد. كذا في "الاستذكار" (2/128) .
(6) قوله: ربنا ولك الحمد، قال الرافعي: روينا في حديث ابن عمر: ربنا لك الحمد، بإسقاط الواو وبإثباتها والروايتان معاً صحيحتان. انتهى.
قلت: الرواية بإثبات الواو متفق عليها، وأما بإسقاطها ففي صحيح أبي عوانة: وقال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الواو في: "ربنا ولك الحمد"، فقال: زائدة، وقال النووي: يحتمل أنها عاطفة على محذوف، أي: أطعنا لك وحمدناك، ولك الحمد، كذا في "التلخيص (في الأصل: "تلخيص الحبير"، وهو تحريف) الحبير في تخريج أحاديث الشرح الكبير"، للحافظ ابن حجر، وعند البخاري، عن المقبري، عن أبي هريرة: كان رسول الله إذا قال: سمع الله لمن حمده، قال: اللهم ربنا ولك الحمد. وعند أبي داود الطيالسي، عن ابن أبي ذئب عنه: كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: اللهم ربنا لك الحمد، كذا في "ضياء الساري"(1/376)
100 - أخبرَنا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نافعٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: كَانَ (1) إِذَا ابتدأَ الصَّلاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكبَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الركوع (2) رفعهما دون ذلك (3) .
__________
(هو شرح على البخاري للشيخ عبد الله بن سالم البصري المكي، المتوفى سنة 1134. مقدمة "لامع الدراري"، ص 457) .
(1) قوله: كان ... إلخ، الثابت، عن ابن عمر بالأسانيد الصحيحة هو أنه كان يرفع عند الافتتاح، وعند الرفع من الركوع، وعند الركوع حسبما رواه مرفوعاً، وأخرج الطحاوي بسنده، عن أبي بكر بن أبي عيّاش، عن حصين، عن مجاهد، قال: صليت خلف ابن عمر، فلم يكن يرفع يديه إلاَّ في التكبيرة الأولى، ثم قال الطحاوي: فلا يكون هذا من ابن عمر إلاّ وقد ثبت عنده نسخ ما رأى النبي صلّى الله عليه وسلم. انتهى.
وفيه نظر لوجوه: أحدها: أنه سند معلول لا يوازي الأسانيد الصحيحة، فقد أخرجه البيهقي من الطريق المذكور في كتاب "المعرفة"، وأسند، عن البخاري أنه قال: ابن عياش قد اختلط بآخره، وقد رواه الربيع وليث وطاووس وسالم ونافع وأبو الزبير ومحارب بن دثار وغيرهم قالوا: رأينا ابن عمر يرفع يديه إذا كبَّر وإذا رفع، وكان أبو بكر بن عيّاش يرويه قديماً، عن حصين، عن إبراهيم، عن ابن مسعود مرسلاً موقوفاً: أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، ثم لا يرفعهما بعد. وهذا هو المحفوظ، عن ابن عياش، والأول خطأ فاحش لمخالفته الثقات، عن ابن عمر. انتهى. وثانيها: أنه لو ثبت، عن ابن عمر ترك ذلك فلا يثبت منه نسخ فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الثابت بالطرق الصحيحة، عن الجمع العظيم إلاّ إذا كان فيه تصريح، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإذ ليس فليس. وثالثها: أن ترك ابن عمر لعله يكون لبيان الجواز، فلا يلزم منه النسخ.
(2) في نسخة: ركوعه.
(3) قوله: دون ذلك، يعارضه قول ابن جريج: قلت لنافع، أكان ابن عمر يجعل الأولى أرفعهنّ؟ قال: لا. ذكره أبو داود.(1/377)
101 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا وهبُ بْنُ كَيْسان (1) ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ: أنهُ يُعَلِّمُهم (2) التَّكْبِيرَ فِي الصَّلاةِ، أَمَرَنَا (3) أَنْ نكبِّر كُلَّمَا خَفَضْنَا وَرَفَعْنَا.
102 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (4) بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالبٍ أَنَّهُ قَالَ (5) : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكبِّر كُلَّمَا (6) خَفَضَ، وَكُلَّمَا رَفَعَ، فَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ صَلاتُهُ حَتى لقي (7) اللَّهَ عزّ وجلّ.
__________
(1) هو أبو نعيم المدني، وثقه النسائي وابن سعد، مات سنة 127 هـ، كذا في "الإِسعاف".
(2) أي: أصحابه التابعين، وفي نسخة: كان يعلِّمهم.
(3) بيان للتعليم.
(4) هو أبو الحسين زين العابدين، قال ابن سعد: كان ثقةً مأموناً كثير الأحاديث، مات سنة 92 هـ، كذا في "الإِسعاف".
(5) قوله: أنّه قال ... إلخ، قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافاً من رواة الموطأ في إرسال هذا الحديث. رواه عبد الوهاب بن عطاء، عن مالك، عن ابن شهاب، عن علي بن حسين، عن أبيه موصولاً: ورواه عبد الرحمن بن خالد، عن أبيه، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عليّ بن الحسين، عن عليّ، ولا يصح فيه إلاَّ ما في "الموطأ" مرسلاً.
(6) ظاهر الحديث عمومه في جميع الانتقالات، لكن خُصَّ منه الرفع من الركوع بالإِجماع.
(7) بارتحاله من الدنيا.(1/378)
103 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أنَّه أَخْبَرَهُ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ: كَانَ يصلِّي بِهِمْ، فكبَّر كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ، ثُمَّ انْصَرَفَ (1) قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي (2) لأَشْبَهُكُمْ (3) صَلاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
104 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي نُعَيْمٌ المُجْمر (4) وَأَبُو جَعْفَرٍ الْقَارِئُ (5) ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ: كان يصلي بهم، فكبَّر كلما خفض وفع، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِينَ يكبِّرُ وَيَفْتَحُ (6) الصَّلاةَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: السنَّة أَنْ يكبِّر الرجل في صلاته كلما خفض (7)
__________
(1) من الصلاة.
(2) قال الرافعي: هذه الكلمة مع الفعل المأتي به نازلةٌ منزلة حكاية فعله صلّى الله عليه وسلّم.
(3) قوله: لأشبهكم ... إلخ، هذا يدلُّك على أن التكبير في الخفض والرفع لم يكن مستعملاً عندهم ولا ظاهراً فيهم، كذا في "الاستذكار".
(4) هو نعيم المُجْمر بن عبد الله، أبو عبد الله المدني، وثَّقه ابن معين وأبو حاتم وغيرهما.
(5) أبو جعفر القارئ: اسمه يزيد بن القعقاع المدني المخزومي، وقيل: جندب بن فيروز، وقيل: فيروز، ثقة، مات سنة سبع وعشرين ومائة، وقيل: سنة ثلاثين، كذا قال الزرقاني.
(6) في نسخة: يفتتح.
(7) كلما خفض وكلما رفع لما أخرجه الترمذي والنسائي من حديث ابن مسعود: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكبِّر في كل خفض ورفع وقيام وقعود وأبو بكر وعمر.(1/379)
وكلما رفع، وإذا انحطّ (1) للسجود كبَّر،
__________
وأخرجه أحمد والدارمي وإسحاق بن راهويه والطبراني وابن أبي شيبة. وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام إلى الصلاة يكبِّر حين يقوم، ثم يكبِّر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركوع، ثم يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد، ثم يكبر حين يهوي ساجداً، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبِّر حين يسجد، ثم يكبِّر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلِّها، ويكبِّر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس، وفي "الصحيحين"، عن عمرانَ بن حُصين أنه صلّى خلف علي بن أبي طالب بالبصرة، فقال: ذكَّرنا هذا الرجل صلاةَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكر أنه كان يكبِّر كلما رفع وكلما خفض، وفي الباب عن أبي موسى عند أحمد والطحاوي، وابن عمر عند أحمد والنسائي، وعبد الله بن زيد عند سعيد بن منصور، ووائل بن حُجْر عند ابن حِبَّان، وجابر عند البزار، وغيرهم عند غيرهم.
(1) قوله: وإذا انحط ... إلخ، مصرَّح به لكونه محل الخلاف أخذاً مما أخرجه أبو داود، عن عبد الرحمن بن أَبْزَى أنه صلّى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان لا يتم التكبير، قال أبو داود: ومعناه إذا رفع رأسه من الركوع، وأراد أن يسجد لم يكبِّر وإذا قام من السجود لم يكبِّر. وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" وقال: فذهب قوم إلى هذا، فكانوا لا يكبِّرون في الصلاة إذا خفضوا، ويكبِّرون إذا رفعوا، وكذلك كان بنو أمية يفعلون ذلك (في الأصل: "يفعل ذلك") ، وخالفهم في ذلك آخرون، فكبَّروا في الخفض والرفع جميعاً، فذهبوا في ذلك إلى ما تواترت به الآثار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. انتهى. ثم أخرج عن عبد الله بن مسعود، قال: أنا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكبِّر في كل خفض ورفع. وأخرج عن عكرمة، قال: صلّى بنا أبو هريرة، فكان يكبِّر إذا رفع، وإذا خفض، فأتيتُ ابن عباس، فأخبرته، فقال: أوليس سنَّة أبي القاسم صلّى الله عليه وسلّم؟ وأخرج عن أبي موسى، قال: ذكَّرنا عليٌّ صلاةً كنّا نصلّيها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إما نسيناها، وإما تركناها عمداً، كان يكبِّر كلّما خفض ورفع، وكلَّما سجد. وأخرج عن أنس:(1/380)
وإذا انحطّ (1) للسجود الثاني
__________
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر يُتمّون التكبير، يكبِّرون إذا سجدوا، وإذا رفعوا، وإذا قاموا من الركعة. وأخرج عن أبي هريرة نحو ما أخرجه مالك، ثم قال الطحاوي (1/130) : فكانت هذه الآثار المروية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في التكبير في كل خفض ورفع أظهر من حديث عبد الرحمن بن أبزى (ضعّف الحافظ في الفتح 2/223 حديث عبد الرحمن بن أبْزى، وقال: وقد نفى البخاري في "التاريخ"، عن أبي داود الطيالسي أنه قال: هذا عندنا باطل، وقال الطبري والبزّار: تفرد به الحسن بن عمران وهو مجهول: قال: وأجيب على تقدير صحته بأنه فعل ذلك لبيان الجواز، أو المراد لم يتم الجهر به، أو لم يمدّه. اهـ) ، وأكثر تواتراً، وقد عمل بها أبو بكر وعمر وعلي، وتواتر بها العمل إلى يومنا هذا. انتهى كلامه. وفي "الوسائل إلى معرفة الأوائل" للسيوطي: أول من نقص التكبير معاوية، كان إذا قال: سمع الله لمن حمده انحطّ إلى السجود ولم يكبِّر، أسنده العسكري، عن الشعبي. وأخرج ابن أبي شيبة، عن إبراهيم أنه قال: أول من نقص زياد. انتهى. وفي "الاستذكار" بعد ذكر حديث أبي هريرة، وحديث أبي موسى: (إما نسيناها وإما تركناها عمداً) ، وغير ذلك. هذا يدلك على أن التكبير في غير الإِحرام لم يتلقَّه السلف من الصحابة والتابعين على الوجوب، ولا على أنه من مؤكَّدات السنن، بل قد قال قوم من أهل العلم: إن التكبير هو إذن بحركات الإِمام، وشعار الصلاة، وليس بسنَّة إلا في الجماعة، ولهذا ذكر مالكٌ في هذا الباب حديثَه، عن علي بن حسين وأبي هريرة مرفوعين، وعن ابن عمر وجابر فعلهما، ليُبيِّن بذلك أن التكبير في كل خفض ورفع سنَّة مسنونة، وإن لم يعمل بها بعض الصحابة، فالحجة في السنَّة، لا في ما خالفها. انتهى ملخَّصاً (الاستذكار 2/131) .
(1) أي: انخفض.(1/381)
كبَّر. فَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلاةِ فَإِنَّهُ يَرْفَعُ الْيَدَيْنِ (1) حَذْوَ الأذنين (2)
__________
(1) من دون مطأطأة الرأس عند التكبير كما يفعله بعض الناس، فإنه بدعة، ذكره محمد بن محمد الشهير بابن أمير الحاج في "حَلْبة المجلِّي شرح منية المصلي" (في الأصل: "حلية المحلي"، وهو تحريف) .
(2) قوله: حذو الأذنين، لما روى مسلم، عن وائل أنه رأى النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم رفع يديه حين دخل في الصلاة حيال أذنيه، ثم التحف بثوبه ... الحديث. وأخرج أحمد وإسحاق بن راهويه والدارقطني والطحاوي، عن البراء: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا صلّى رفع يديه حتى تكون إبهاماه حذاء أذنيه. وأخرج الحاكم - وقال: صحيح على شرط الشيخين - والدارقطني والبيهقي، عن أنس: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كبَّر، فحاذى بإبهاميه أذنيه ... الحديث. وأخرج أبو داود ومسلم والنسائي وغيرهم، عن مالك بن الحُوَيرث: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرفع يديه إذا كبَّر، وإذا رفع رأسه من الركوع حتى يَبلغ بهما فروع أذنيه. ويعارض هذه الأحاديث رواية ابن عمر التي أخرجها مالك وأبو داود والنسائي ومسلم والطحاوي وغيرهم. وأخرج الجماعة إلاّ مسلماً من حديث أبي حُمَيد الساعدي: "رفع يديه حتى يحاذيَ بهما مَنْكِبيه". وأخرج أبو داود والطحاوي من حديث عليٍّ نحوه. وباختلاف الآثار اختلف العلماء، فاختار الشافعي وأصحابه كما هو المشهور حذو المنكبين، واختار أصحابنا حذو الأذنين، وسلك الطحاوي على أن الرفع حذوَ المنكبين كان لعذر حيث أخرج، عن وائل: أتيتُ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم فرأيته يرفع يديه حذاء أذنيه، إذا كبَّر، وإذا ركع وإذا سجد، ثم أتيته من العام المقبل وعليهم الأكسية والبرانس، فكانوا يرفعون أيديهم فيها وأشار شريك الراوي عن عاصم عن كليب عن وائل إلى صدره، ثم قال الطحاوي: فأخبر وائل في حديثه هذا أن رفعهم إلى مناكبهم إنما كان لأن أيديهم تحت ثيابهم، فعملنا بالروايتين، فجعلنا الرفع إذا كانت اليدان(1/382)
في ابتداء الصلاة (1) مرَّةً واحدة،
__________
تحت الثياب لعلَّة البرد إلى منتهى ما يُستطاع إليه الرفع، وهو المنكبان، وإذا كانا باديتين رفعهما إلى الأذنين، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. انتهى. وقال العيني في "البناية": لا حاجة إلى هذه التكلُّفات، وقد صحَّ الخبر في ما قلنا وفي ما قاله الشافعي، فاختار الشافعي حديث أبي حميد، واختار أصحابنا حديث وائل وغيره، وقد قال أبو عمر (في الأصل: "أبو عمرو"، وهو تحريف) بن عبد البر: اختلفتْ الآثار، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن الصحابة ومن بعدهم، فروي عنه عليه السلام الرفع فوق الأذنين، وروي عنه أنه كان يرفع حذاء الأذنين، وروي عنه حذوَ منكبيه، وروي عنه إلى صدره، وكلُّها آثار مشهورة محفوظة، وهذا يدل على التوسعة في ذلك. انتهى (قال الشيخ في الأوجز 2/42: الاختلاف فيه كأنه لفظيّ، لأن ابن الهمام من الحنفية قال: لا تعارض بين الروايتين) ، وفي "شرح مسند الإِمام" لعلي القاري: الأظهر أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يرفع يديه من غير تقييد إلى هيئة خاصة، فأحياناً كان يرفع إلى حيال منكبيه، وأحياناً إلى شَحْمَتي أذنيه. انتهى.
(1) قوله: في ابتداء الصلاة، إما قبل التكبير كما أخرجه النسائي، عن ابن عمر: رأيت رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه، حتى يكونا حذو منكبيه، ثم يكبِّر. وأخرج ابن حِبّان، عن أبي حميد: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام إلى الصلاة استقبل القبلة، ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم قال: الله أكبر. وإما مع التكبير كما أخرجه أبو داود، عن وائل: أنه رأى رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم يرفع يديه مع التكبير. وإما بعد التكبير كما أخرجه مسلم، عن أبي قلابة: أنه رأى مالك بن الحويرث إذا صلّى كبَّر، ثم رفع يديه، وحدَّث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يفعل هكذا. والكل واسع ثابت إلا أنه رجَّح أكثر مشائخنا (والأصح عند الشافعية والمالكية المقارنة، وفي المغني عند الحنابلة المقارنة كذا في الأوجز 2/43) تقديم الرفع.(1/383)
ثُمَّ لا يَرْفَعُ (1) فِي شيْء مِنَ الصَّلاةِ (2) بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (3) - رحمه الله تعالى - وفي
__________
(1) قوله: ثم لا يرفع: ولو رفع لا تفسد صلاته كما في "الذخيرة" وفتاوى الولوالجي وغيرهما من الكتب المعتمدة، وحكى بعض أصحابنا عن مكحولٍ النسفي أنه روي، عن أبي حنيفة فساد الصلاة به، واغترَّ بهذه الرواية أمير الكاتب الإِتقاني صاحب "غاية البيان" فاختار الفساد، وقد ردَّ عليه السبكي في عصره أحسن ردّ كما ذكره ابن حجر في "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة"، وصنَّف محمود بن أحمد بن مسعود القونوي الحنفي رسالة نفيسة في إبطال قول الفساد، وحقق فيها أن رواية مكحول شاذة مردودة، وأنه رجل مجهول لا عبرة لروايته، وقد فصلتُ في هذا الباب تفصيلاً حسنً في ترجمة مكحول في كتاب: "طبقات الحنفية" المسمَّى بالفوائد البهية في تراجم الحنفية، فليرجع إليه.
(2) أي: في جزء من أجزاء الصلاة.
(3) قوله: قول أبي حنيفة، ووافقه في عدم الرفع إلاَّ مرة الثوريُّ والحسنُ بن حَيّ وسائر فقهاء الكوفة قديماً وحديثاً، وهو قول ابن مسعود وأصحابه، وقال أبو عبد الله محمد بن نصر المَرْوزي: لا نعلم مصراً من الأمصار تركوا بإجماعهم رفعَ اليدين عند الخفض والرفع إلا أهل الكوفة، واختلفت الرواية فيه، عن مالك، فمرة قال: يرفع، ومرة قال: لا يرفع، وعليه جمهور أصحابه، وقال الأوزاعي والشافعي وأحمد وأبو عبيد وأبو ثور وابن راهويه ومحمد بن جرير الطبري وجماعة أهل الحديث بالرفع إلا أن منهم من يرفع عند السجود أيضاً، ومنهم من لا يرفع عنده. ورُوي الرفع في الرفع والخفض، عن جماعة من الصحابة، منهم ابن عمر وأبو موسى وأبو سعيد الخدري وأبو الدرداء وأنس وابن عباس وجابر، وروى الرفعَ، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم نحو ثلاثة وعشرين رجلاً من الصحابة كما ذكره جماعة من أهل الحديث، كذا في "الاستذكار" (2/123 - 125) لابن عبد البر. وذكر السيوطي في رسالته(1/384)
ذلك (1) آثار كثيرة (2) .
__________
"الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة" أن حديث الرفع متواتر (قال في "نيل الفرقدين" ص 22: إن الرفع متواتر إسناداً وعملاً، ولا يُشك فيه، ولم يُنسخ ولا حرف منه، وإنما بقي الكلام في الأفضلية، وصرَّح أبو بكر الجصاص في "أحكام القرآن" أنه من الاختلاف المباح، وفي ص 123: حكى ذلك من الحافظ أبي عمر (أي: ابن عبد البر) من المالكية، ومن الحافظ ابن تيمية والحافظ ابن القيم من الحنابلة. وأما الترك، فأحاديثه قليلة ومع هذا هو ثابت بلا مرية، وهو متواتر عملاً لا إسناداً عند أهل الكوفة، وقد كان في سائر البلاد تاركون وكثير من التاركين في المدينة في عهد مالك، وعليه بنى مختاره، وكان أكثر أهل مكة يرفعون فبنى عليه الشافعي. "معارف السنن" 2/459) ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه الشيخان، عن ابن عمر ومالك بن الحويرث، ومسلم، عن وائل بن حُجْر، والأربعة، عن عليّ، وأبو داود، عن سهل بن سعد، وابن الزبير وابن عباس ومحمد بن مسلمة وأبي أسيد وأبي قتادة وأبي هريرة وابن ماجه، عن أنس وجابر وعمير الليثي، وأحمد، عن الحكم بن عمير، والبيهقي، عن أبي بكر رضي الله عنه والبراء، والدارقطني، عن عمر. وأبي موسى، والطبراني، عن عقبة بن عامر ومعاذ بن جبل.
(1) أي: في عدم رفع اليدين إلا مرَّة.
(2) قوله: آثار كثيرة، عن جماعة من الصحابة: منهم ابن عمر وعلي وابن مسعود، كما أخرجه المؤلف وسيأتي ذكر مالها وما عليها. ومنهم: عمر بن الخطاب، روى الطحاوي والبيهقي من حديث الحسن بن عيّاش، عن عبد الملك بن الحسن، عن الزبير بن عدي، عن إبراهيم، عن الأسود، قال: رأيت عمر يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود، ورأيت إبراهيم والشعبي يفعلان ذلك. قال الطحاوي: فهذا عمر لم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى، والحديث صحيح لأن الحسن بن عيّاش وإن كان هذا الحديث دار عليه، فإنه ثقة، حجة،(1/385)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وذكر ذلك يحيى بن معين وغيره. انتهى.
واعترضه الحاكم على ما نقله الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية"، بأنها رواية شاذه، لا يعارَض بها الأخبار الصحيحة عن طاووس، عن كيسان، عن ابن عمر أن عمر (في معارف السنن 2/470، قال: أعله المحدثون، وصححوه عن ابن عمر، عنه صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عن عمر غير هذا) كان يرفع يديه في الركوع، وعند الرفع منه، انتهى. ومنهم أبو سعيد الخدري، وأخرج البيهقي، عن سوار بن مصعب، عن عطية العوفي أن أبا سعيد الخدري وابن عمر كانا يرفعان أيديهما أول ما يكبِّران، ثم لا يعودان. وأعله البيهقي بأن عطية سيِّئ الحال، وسوار أسوأ منه، قال البخاري: سوار منكر الحديث، وعن ابن معين غير محتج به. ويخالف هذا الأثر ما أخرجه البيهقي، عن ليث، عن عطاء، قال: رأيت جابر بن عبد الله وابن عمر وأبا سعيد وابن عباس وابن الزبير وأبا هريرة يرفعون أيديهم إذا افتتحوا الصلاة، وإذا ركعوا، وإذا رفعوا. وفيه ليث بن أبي سليم مختلف فيه، وأخرج أيضاً عن سعيد بن المسيَّب، قال: رأيت عمر يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع. وفي سنده من استضعف. ومنهم عبد الله بن الزبير كما حكاه صاحب "النهاية" وغيرُه من شراح "الهداية" أنه رأى رجلاً يرفع يديه في الصلاة عند الركوع، وعند الرفع، فقال له: لا تفعل، فإن هذا شيء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تركه، لكن هذا الأثر لم يجده المخرجون المحدثون مسنداً في كتب الحديث، مع أنه أخرج البخاري في رسالة "رفع اليدين"، عن عبد الله بن الزبير أنه كان يرفع يديه عند الخفض والرفع، وكذا أخرجه، عن ابن عباس وابن عمر وأبي سعيد وجابر وأبي هريرة وأنس أنهم كانوا يرفعون أيديهم. وأخرج البيهقي، عن الحسين، قال: سألت طاووساً عن رفع اليدين في الصلاة، فقال: رأيت عبدَ الله بنَ عباس وابنَ الزبير وابنَ عمر يرفعون أيديهم إذا افتتحوا الصلاة، وإذا ركعوا، وإذا سجدوا. وأخرج أيضاً، عن عبد الرزاق قال: ما رأيت أحسنَ صلاةً من ابن جريج رأيته يرفع(1/386)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
يديه إذا افتتح، وإذا رفع. وأخذ ابن جريج صلاته عن عطاء بن أبي رباح وأخذ عطاء، عن عبد الله بن الزبير، وأخذ ابن الزبير، عن ابي بكر الصديق رضي الله عنه. ومنهم ابن عباس، حكى عنه بعض أصحابنا أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه كلما ركع، وكلما رفع، ثم صار إلى افتتاح الصلاة، وترك ما سوى ذلك. لكنه أثر لم يثبته المحدثون، والثابت عندهم خلافه، قال ابن الجوزي في "التحقيق"، بعد ذكر ما حكاه أصحابنا، عن ابن عباس وابن الزبير: هذان الحديثان لا يُعرفان أصلاً، وإنما المحفوظ عنهما خلاف ذلك، فقد أخرج أبو داود، عن ميمون أنه رأي ابن الزبير يشير بكفيه حين يقوم، وحين يركع، وحين يسجد، وحين ينهض للقيام، فانطلقتُ إلى ابن عباس، فقلت" إني رأيتُ ابن الزبير صلّى صلاة لم أرَ أحداً يصلّيها، فوصفت له، فقال: أنْ أحببتَ أن تنظر إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقتدِ بصلاة عبد الله بن الزبير. انتهى. وردَّه العينيّ بأن قوله: لا يُعرفان، لا يَستلزم عدم معرفة أصحابنا، هذا ودعوى النافي ليست بحجة على المثتب، وأصحابنا أيضاً ثقات، لا يَرَوْن الاحتجاج بما لم يثبت عندهم صحته. انتهى. وفيه نظر ظاهر، فإنه ما لم يوجد سند أثر ابن عباس وابن الزبير في كتاب من كتب الأحاديث المعتبرة كيف يعتبر به بمجرَّد حسن الظن بالناقلين، مع ثبوت خلافه عنهما، بالأسانيد العديدة. ومنهم أبو بكر الصديق أخرج الدارقطني وابن عدي، عن محمد بن جابر، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: صلَّيْتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلم يرفعوا أيديهم إلاَّ عند استفتاح الصلاة. وفيه محمد بن جابر، متكلَّم فيه، ويخالفه ما أخرجه أبو داود، عن ميمون كما مرَّ نقلاً عن "التحقيق". ومنهم العشرة المبشرة، كما حكى بعض أصحابنا، عن ابن عباس أنه قال: لم يكن العشرة المبشرة يرفعون أيديهم إلاَّ عند الافتتاح، ذكره الشيخ عبد الحق الدهلوي في "شرح سفر السعادة"، ولا عبرة بهذا الأثر ما لم يوجد سنده عند مهرة الفن، مع ثبوت خلافه في كتب الحديث مما يؤيد عدم الرفع من الأخبار المرفوعة ما أخرجه الترمذي وحسّنه والنسائي وأبو داود، عن(1/387)
105 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ بْنِ صالح، عن عاصم بن كٌلَيْب (1) الجَرْمي،
__________
علقمة قال: قال عبد الله بن مسعود: ألا أصلّي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلّى، فيم يرفع يديه إلا أول مرة. وأخرج أبو داود، عن البراء: كان رسول الله صلى الله عليه وسلمإذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب أذنيه، ثم لا يعود. وأخرج البيهقي من حديث ابن عمر وعباد بن الزبير مثله. وللمحدثين على طرق هذه الأخبار كلمات تدل على عدم صحتها، لكن لا يخفى على الماهر أن طرق حديث ابن مسعود تبلغ درجة الحسن.
والقدر المتحقَّق في هذا الباب هو ثبوت الرفع وتركه كليهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن رواة الرفع من الصحابة جم غفير، ورواة الترك جماعة قليلة، مع عدم صحة الطرق عنهم إلا عن ابن مسعود، وكذلك ثبت الترك، عن ابن مسعود وأصحابه بأسانيد محتجّة بها، فإذن نختار أن الرفع ليس بسنَّة مؤكدة يُلام تاركها إلا أن ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر وأرجح. وأما دعوى نسخه كما صدر عن الطحاوي مغتراً بحسن الظن بالصحابة التاركين، وابن الهمام والعيني، وغيرهم من أصحابنا، فليست بمبرهن عليها بما يشفي العليل ويروي الغليل.
(1) قوله: عن عاصم بن كليب، هو عاصم بن كليب مصغراً، ابن شهاب بن المجنون الجرمي الكوفي، روى عن أبيه وأبي بريدة وعلقمة بن وائل بن حجر وغيرهم، وعنه شعبة، والسفيانان، وغيرهم، وثَّقه النسائي، وابن معين، وقال أبو داود: كان من أفضل أهل الكوفة، وذكره ابن حبان في الثقات، وأرَّخ وفاته سنة 137 هـ. وأبوه كليب بن شهاب ثقة، كذا في "تهذيب التهذيب" و"الكاشف"، وفي "أنساب السمعاني": الجرمي: بفتح الجيم وسكون الراء المهملة نسبة إلى جَرْم، قبيلة باليمن، ومنها من الصحابة: شهاب بن المجنون الجَرْمي جَدّ عاصم بن كليب.(1/388)
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ علىَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (1) رَفَعَ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرَةِ الأُولَى (2) مِنَ الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَلَمْ يَرْفَعْهُمَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ.
106 - قَالَ مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ بْنِ صالح، عن
__________
(1) قوله: رأيت على بن أبي طالب، كذا أخرجه الطحاوي، عن أبي بكر النهشلي، عن عاصم، عن أبيه، أن علياً كان يرفع في أول تكبيرة من الصلاة، ثم لا يعود، وقال الدارقطني في "علله": اختلف علي أبي بكر النهشلي فيه، فرواه عبد الرحيم بن سليمان عنه، عن عاصم، عن أبيه مرفوعاً، ووهم في رفعه، وخالفه جماعة من الثقات: منهم عبد الرحمن بن مهدي وموسى بن داود وأحمد بن يونس وغيرهم. فَرَوَوْه، عن أبي بكر النهشلي موقوفاً على علي، وهو الصواب. وكذلك رواه محمد بن أبان عن عاصم موقوفاً. انتهى. وقال عثمان بن سعيد الدارمي: قد روي من طرقٍ واهية، عن علي أنه كان يرفع يديه في أول تكبيرة، ثم لا يعود، وهذا ضعيف، إذ لا يُظَنّ بعليٍّ أنه يَختار فعلَه على فعلِ النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قد روي عنه أنه كان يرفع يديه عند الركوع والرفع. انتهى. وتعقَّبه ابن دقيق العيد في "الإمام" بأن ما قاله ضعيف، فإنه جعل روايته مع حسن الظن بعليّ في ترك المخالفة دليلاً على ضعف هذه الرواية، وخصمه يعكس الأمر، ويجعل فعل عليّ رضي الله عنه بعد الرسول دليلاً على نسخ ما تقدم، انتهى. وذَكَر الطحاوي بعد روايته، عن عليّ: لم يكن عليّ ليرى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع، ثم يتركه إلاّ وقد ثبت عنده نسخه. انتهى.
وفيه نظر، فقد يجوز أن يكون ترك عليّ وكذا ترك ابن مسعود، وترك غيرهما من الصحابة إنْ ثبت عنهم، لأنهم لم يروا الرفع سنَّةً مؤكَّدة يلزم الأخذ بها ولا ينحصر ذلك في النسخ، بل لا يُعتبر بنسخ أمر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجرد حسن الظن بالصحابي مع إمكان الجمع بين فعل الرسول وفعله.
(2) عند افتتاح الصلاة.(1/389)
حَمَّادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعي، قَالَ: لا تَرْفَعْ يَدَيْكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّلاةِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الأُولَى.
107 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (1) ، أخبرنا حُصَين بن عبد الرحمن (2) ،
__________
(1) قوله: يعقوب بن إبراهيم، هو الإمام أبو يوسف القاضي صاحب الإمام أبي حنيفة، قال الذهبي في "تذكرة الحفاظ": القاضي أبو يوسف فقيه العراقيين يعقوب بن إبراهيم الأنصاري الكوفي، صاحب أبي حنيفة، سمع هشام بن عروة وأبا إسحاق الشيباني وعطاء بن السائب وطبقتهم. وعنه محمد بن الحسن الفقيه وأحمد بن حنبل وبشر بن الوليد ويحيى بن معين، نشأ في طلب العلم، وكان أبوه فقيراً، فكان أبو حنيفة يتعاهده قال المزني: هو أتبع القوم للحديث. وقال يحيى بن معين: ليس في أصحاب الرأي أحد أكثر حديثاً ولا أثبت من أبي يوسف، وقال أحمد: كان منصفاً في الحديث، مات في ربيع الآخر سنة 182 هـ عن سبعين سنة إلا سنة وله أخبار في العلم والسيادة، قد أفردته وأفردت صاحبه محمد بن الحسن في جزء، وأكبر شيخ له حصين بن عبد الرحمن. انتهى ملخّصاً. وله ترجمة طويلة في "أنساب السمعاني"، قد ذكرته في مقدمة هذه الحواشي وذكرت ترجمتَه أيضاً في "مقدمة الهداية" وفي "النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير" وفي "الفوائد البهية في تراجم الحنفية".
(2) قوله: أخبرنا حصين بن عبد الرحمن، هو حصين، بالضم، ابن عبد الرحمن السلمي، الكوفي، أبو الهذيل، ابن عم منصور بن المعتمر، حدث عن جابر بن سمرة، وعمارة بن رويبة وابن أبي ليلى، وأبي وائل، وعنه شعبة، وأبو عوانة، وآخرون، كان ثقةً حجةً حافظاً عالي الإسناد. قال أحمد: حصين ثقة، مأمون من كبار أصحاب الحديث، عاش ثلاثاً وتسعين سنة، ومات سنة 136 هـ، كذا في "تذكرة الحفاظ".(1/390)
قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعَمْرُو بْنُ مُرَّةَ (1) عَلَى إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، قَالَ عَمْرُو: حَدَّثَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ وائل الحضرمي، عن
__________
(1) قوله: وعمرو بن مرّة، هو أبو عبد الله عَمرو، بالفتح، بن مُرَّة، بضم الميم، وتشديد الراء، ابن عبد الله بن طارق بن الحارث بن صلمة بن كعب بن وائل بن جمل بن كنانة بن ناجية بن مراد الجملي المرادي الكوفي الأعمى. روى عن عبد الله بن أبي أوفى وأبي وائل وسعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعمرو بن ميمون الأودي، وسعيد بن جبير، ومصعب بن سعد والنَّخَعي وغيرهم، وعنه ابنه عبد الله وأبو إسحاق السبيعي والأعمش ومنصور وحصين ابن عبد الرحمن والثوري وشعبة وغيرهم. قال ابن معين: ثقة، وأبو حاتم: صدوق، ثقة، وشعبة: كان أكثرهم علماً، وما رأيت أحداً من أصحاب الحديث إلا يدلّس إلا ابنَ عون، وعمرو بن مرة، ومسعر، لم يكن بالكوفة أحبّ إليّ، ولا أفضل منه، ذكره ابن حبان في كتاب "الثقات"، وقال: كان مرجئاً، مات سنة 116 هـ، وثَّقه ابن نمير ويعقوب بن سفيان كذا في "تهذيب التهذيب" و"الكاشف" و"تذكرة الحفاظ" وقد أخطأ القاريّ حيث قال: دخلت أنا وعمرو بن مرّة، بضم الميم وتشديد الراء، يُكنى أبا مريم الجهني، شهد أكثر المشاهد، وسكن الشام، مات في أيام معاوية، وروى عنه جماعة، كذا في "اسماء رجال المشكاة" لصاحب المشكاة في فصل الصحابة. انتهى كلامه. وجه الخطأ من وجوه:
أحدها: أنه لو كان الداخل على النخعي مع حصين عمرو بن مُرّة الصحابي لذَكَرَ رؤيتَه الرفع أو عدمه، فإنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد معه المشاهد، وصلى معه غير مرة، فكيف يصحّ أن يروي عن وائل بواسطة ابنه الرفعَ ثم يسكت على ردّ النخعي بفعل ابن مسعود وروايته ولا يذكره ما رآه رفعاً كان أو غير رفع؟!
ثانيها: عن (في الأصل: "عن"، وهي زائدة) عمرو بن مرّة هذا لم يذكره أحد من نقّاد الرجال في ما علمنا من جملة الرواة، عن علقمة بن وائل.(1/391)
أَبِيهِ (1) : أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، فَرَآهُ يرفع يديه إذا كبَّر، وإذا ركع،
__________
وثالثها: أنه لم يذكره أحد في علمنا ممن روى عنه حصين، بل المذكور في شيوخ حصين ورواة علقمة هو الذي ذكرناه.
ورابعها: أن هذا الصحابي مات في أيام معاوية، ووفاة معاوية كانت سنة ستين أو تسع وخمسين على ما في "استعياب ابن عبد البر" وغيره من كتب أخبار الصحابة، فلا بد أن يكون وفاة عمرو بن مرّة قبله، وقد ذكر ابن حبان في "كتاب الثقات"، أن ولادة إبراهيم النخعي سنة خمسين، وكذا ذكره غيره، فعلى هذا يكون النخعي يوم موت معاوية ابن تسع أو عشر سنين، وعند موت عمرو بن مرة الجهني أصغر منه، فهل يتصور أن يحضر عمرو بن مرّة عند هذا الصبي صغير السن بكثير، ويروي عنده الرفع، عن علقمة، عن أبيه، ويرد عليه هذا الصبي؟! وأما الحوالة إلى "أسماء رجال المشكاة" فلا تنفع، فإنه لم يذكر صاحب "المشكاة" أن عمرو بن مرّة أينما ذكره هو هذا، بل إنما هو عمرو بن مرّة المذكور في "المشكاة" وإني أتعجب من العلاّمة القاري كيف يخطئ خطأً كثيراً في تعيين الرواة في شرحه" الموطأ"، وشرحه لمسند الإمام الأعظم وغيرهما، مع جلالته وتوغُّله في فنون الحديث ومتعلقاته، والله يسامح عنا وعنه.
(1) قوله: عن أبيه، أي: وائل الحَضرمي، بفتح الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة وفتح الراء المهملة نسبة إلى حضرموت، بلدة في اليمن، وكان وائل بن حُجر - بضم الحاء المهملة وسكون الجيم - ملكاً عظيماً بها، فلما بلغه ظهور النبي صلى الله عليه وسلم ترك ملكه، ونهض إليه، فبشَّر النبي صلى الله عليه وسلم بقدومه قبل قدومه بثلاثة أيام، ولما قدم قرَّبه من مجلسه وقال: هذا وائل أتاكم من أرض اليمن - أرض بعيدة - طائعاً، غير مُكرَه، راغباً في الله ورسوله، اللهم بارك في وائل وولده، ثم أقطع له أرضاً، كانت وفاته في إمارة معاوية، حدّث عنه بنوه علقمة وعبد الجبار، كذا في "أنساب السمعاني". وفي "جامع الأصول" لابن الأثير: أبو هنيدة وائل بن حجر بن ربيعة بن وائل الحضرمي كان قَيلاً من أقيال حضرموت، وأبوه كان من(1/392)
وَإِذَا رَفَعَ (1) ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: مَا أَدْرِي (2) لعلَّه لَمْ يَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي
__________
ملوكهم وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، وبشَّر به قبل قدومه. انتهى. وفي "تهذيب التهذيب": علقمة بن وائل بن حجر الحضرمي الكندي الكوفي، روى عن أبيه والمغيرة بن شعبة وطارق بن سويد، وعنه أخوه عبد الجبار وابن أخيه سعيد وعمرو بن مرَّة وسماك بن حرب، وغيرهم، ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال ابن سعد: كان ثقةً، قليل الحديث. وحكى العسكري عن ابن معين أنه قال: علقمة، عن أبيه مرسل. انتهى.
(1) رأسه من الركوع.
(2) قوله: ما أدري ... إلخ، استبعاد من إبراهيم النخعي رواية وائل بأن ابن مسعود كان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر ومصاحبته أتمّ وأزيد من مصاحبة وائل، فكيف يعقل أن يحفظ رفع اليدين وائل ولا يحفظ ابن مسعود، فلو كان رفع اليدين من رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفظه ابن مسعود ولم يتركه مع أنه لم يرفع إلا مرة، ولم يرو الرفعَ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل رُوي عنه تركه، وهذا الأثر عن النخعي قد أخرجه الدارقطني أيضاً عن حصين، قال: دخلنا على إبراهيم النخعي، فحدثه عمرو بن مرّة، قال: صلينا في مسجد الحضرميين فحدّثني علقمة بن وائل، عن أبيه، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حين يفتتح، وإذا ركع، وإذا سجد، فقال إبراهيم: ما رأى أباه رسول الله إلا ذلك اليوم، فحفظ عنه ذلك، وعبد الله بن مسعود لم يحفظه إنما رفع اليدين عند افتتاح الصلاة. ورواه أبو يعلى في "مسنده" ولفظه: أحفظ وائل ونسي ابن مسعود، ولم يحفظه؟! إنما رفع اليدين عند افتتاح الصلاة. وأخرجه الطحاوي، عن حصين، عن عمرو بن مرّة قال: دخلت مسجد حضرموت، فإذا علقمة بن وائل يحدّث، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه قبل الركوع وبعده، فذكرت ذلك لإبراهيم فغضب، وقال: رآه هو لم يَرَه ابن مسعود ولا أصحابه. وأخرج عن المغيرة قال: قلت لإبراهيم: حدّث وائل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا افتتح، وإذا ركعَ، وإذا رفع؟ فقال: إنْ كان رآه مرة يفعل،(1/393)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
فقد رآه عبد الله خمسين مرة، لا يفعل ذلك. وههنا أبحاث:
الأول: ما نقله البيهقي في كتاب "المعرفة"، عن الشافعي أنه قال: الأَولى أن يُؤخذ بقول وائل لأنه صحابي جليل، فكيف يُرَدُّ حديثه بقول رجل ممن هو دونه؟!
والثاني: ما قاله البخاري في رسالة "رفع اليدين": إن كلام إبراهيم هذا ظن منه لا يرفع به رواية وائل، بل أخبر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فرفع يديه، وكذلك رأى أصحابه غير مرة يرفعون أيديهم، كما بيّنه زائدة، فقال: نا عاصم، نا أبي، عن وائل بن حجر: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فرفع يديه في الركوع، وفي الرفع منه، قال: ثم أتيتهم بعد ذلك، فرأيت الناس في زمان برد عليهم جُلّ الثياب تتحرك أيديهم من تحت الثياب.
والثالث: ما نقله الزيلعي، عن الفقيه أبي بكر بن إسحاق أنه قال: ما ذكره إبراهيم علّة لا يساوي سماعها، لأن رفع اليدين قد صحّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن الخلفاء الراشدين، ثم الصحابة والتابعين، وليس في نسيان ابن مسعود لذلك ما يُستغرب، فقد نسي من القرآن ما لم يختلف فيه المسلمون فيه وهو المعوِّذتان، ونسي ما اتفق العلماء على نسخه كالتطبيق في الركوع، وقيام الاثنين خلف الإمام، ونسي كيفية جمع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة، ونسي ما لم يختلف العلماء فيه من وضع المرفق والساعد على الأرض في السجود، ونسي كيف قرأ رسول الله: {وما خَلَقَ الذكر والأنثى} ، وإذا جاز على ابن مسعود أن ينسى مثل هذا في الصلاة كيف لا يجوز مثله في رفع اليدين؟ انتهى.
والرابع: أن وائلاً ليس بمتفرِّد في رواية الرفع، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد اشترك معه جمع كثير كما مرّ ذكره سابقاً، بل ليس في الصحابة من روى ترك الرفع فقط إلاّ ابن مسعود، وأما من عداهم، فمنهم من لم تُرو عنه إلاّ رواية الرفع، ومنهم من روى عنه حديث الرفعِ وتركِه كليهما كابن عمر والبراء إلاَّ أن أسانيد رواية الرفع(1/394)
إلاَّ ذلك اليوم فحفظ هذا (1)
__________
أوثق وأثبت، فعند ذلك لو عُورض كلام إبراهيم بأنه يُستبعد أن يكون ترك الرفع حفظه ابن مسعود فقط ولم يحفظه من عداه من أجلَّة الصحابة الذين كانو مصاحِبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مصاحبة ابن مسعود أو أكثر لكان له وجه.
والخامس: أنه لا يلزم من ترك ابن مسعود الرفع وأصحابه عدم ثبوت رواية وائل، فيجوز أن يكون تركهم لأنهم رأوا الرفع غير لازم، لا لأنه غير ثابت، أو لأنهم رجَّحوا أحد الفعلين الثابتين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرفع والترك فداوموا عليه وتركوا الآخر، ولا يلزم منه بطلان الآخر.
السادس: أنه قد أخذ ابن مسعود بالتطبيق في الركوع، وداوم عليه أصحابه، وكذلك أخذوا بقيام الإمام في الوسط إذا كان من يقتدي به اثنين مع ثبوت ترك ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جمهور أصحابه بعده بأسانيد صحاح. فلِمَ لا يُعتبر فعل ابن مسعود في هذين الأمرين. وأمثال ذلك؟
فما هو الجواب هناك هو الجواب ههنا (قد ردَّ الحافظ ابن التركماني جميع إيرادات البيهقي في الجوهر النقي 1/139 - 140، فارجع إليه) ، والإنصاف في هذا المقام أنه لا سبيل إلى ردّ روايات الرفع برواية ابن مسعود وفعلِه وأصحابه ودعوى عدم ثبوت الرفع ولا إلى رد روايات الترك بالكلية ودعوى عدم ثبوته، ولا إلى دعوى نسخ الرفع ما لم يثبت ذلك بنص عن الشارع، بل يُوفى كلٌّ من الأمرين حظّه، ويقال: كل منهما ثابت، وفعل الصحابة والتابعين مختلف، وليس أحدهما بلازم يُلام تاركه، مع القول برجحان ثبوت الرفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) أي: الرفع.(1/395)
مِنْهُ، وَلَمْ يَحْفَظْهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ (1) مَا سَمِعْتُهُ (2) مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، إِنَّمَا كَانُوا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي بَدْء (3) الصَّلاةِ حِينَ يكبِّرون.
108 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ حَكِيمٍ (4) ، قَالَ: رَأَيْتُ ابن عمر (5) يرفع يديه حذاء أذنيه
__________
(1) قال القاري: أي: وسائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. وفيه ما فيه، والظاهر أنَّ ضمير أصحابه راجح إلى ابن مسعود.
(2) أي: الرفع.
(3) البَدْ بالفتح، الإبتداء.
(4) قوله: عن عبد العزيز بن حكيم، ذكره ابن حبان في "ثقات التابعين" (انظر ترجمته في كتاب الثقات 5/125، والتاريخ الكبير: 3/2/11) ، حيث قال: عبد العزيز بن حكيم الحضرمي كنيته أبو يحيى، يروي عن ابن عمر، عداده في أهل الكوفة، روى عنه الثوري وإسرائيل، مات بعد سنة 130 هـ، وهو الذي يقال له ابن أبي حكيم. انتهى. وفي "ميزان الاعتدال" قال ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي.
(5) قوله: قال: رأيت ابن عمر ... إلخ، المشهور في كتب أصول أصحابنا أن مجاهداً قال: صحبت ابن عمر عشر سنين، فلم أره (في الأصل: "فلم أر" والظاهر: "فلم أره") ، يرفع يديه إلاَّ مرة. وقالوا: قد روى ابن عمر حديث الرفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركه والصحابي الراوي إذا ترك مروياً ظاهراً في معناه غير محتمل للتأويل، يُسقط الاحتجاج بالمروي، وقد روى الطحاوي من حديث أبي بكر بن عيّاش، عن حصين، عن مجاهد أنه قال: صلِّيت خلف ابن عمر، فلم يكن يرفع يديه إلاَّ في التكبيرة الأولى من الصلاة، ثم قال: فهذا ابن عمر قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع، ثم قد ترك هو الرفع بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يكون ذلك إلاَّ وقد ثبت عنده نسخه.(1/396)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وههنا أبحاث: الأول: مطالبته إسناد ما نقلوه عن مجاهد من أنه صحب عشر سنين، ولم يرَ ابن عمر فيها يرفع يديه إلاَّ في التكبير الأول.
والثاني: المعارضة بخبر طاووس وغيره من الثقات أنهم رأوا ابن عمر يرفع.
والثالث: أن في طريق الطحاوي أبو بكر بن عيّاش، وهو متكلَّم فيه لا توازي روايته رواية غيره من الثقات. قال البيهقي في كتاب "المعرفة" بعد ما أخرج حديث مجاهد من طريق ابن عيّاش، قال البخاري: أبو بكر بن عياش اختلط بآخره، وقد رواه الربيع وليث وطاووس وسالم ونافع وأبو الزبير ومحارب بن دثار وغيرهم قالوا: رأينا ابن عمر يرفع يديه إذا كبَّر، وإذا رفع، وكان يرويه أبو بكر قديماً، عن حصين عن إبراهيم، عن ابن مسعود مرسلاً موقوفاً أن ابن مسعود كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، ثم لا يرفعهما بعد، وهذا هو المحفوظ عن أبي بكر بن عيّاش، والأول خطأ فاحش لمخالفته الثقات عن ابن عمر. انتهى.
فإن قلت آخذاً من "شرح معاني الآثار" أنه يجوز أن يكون ابن عمر فعل ما رآه طاووس قبل أن يقوم الحجة بنسخه، ثم لمّا ثبت الحجة بنسخه عنده تركه، وفَعَل ما ذكره مجاهد، قلتُ: هذا مما لا يقوم به الحجة، فإن لقائل أن يعارِض ويقول: يجوز أن يكون فعل ابن عمر ما رواه مجاهد قبل أن تقوم الحجة بلزوم الرفع، ثم لما ثبتت عنده التزم الرفع على أن احتمال النسخ احتمال من غير دليل، فلا يُسْمعْ. فإن قال قائل: الدليل هو خلاف الراوي مرويَّه، قلنا: لا يوجب ذلك النسخ كما مرّ.
والثالث: وهو أحسنها أنا سلَّمنا ثبوتَ الترك عن ابن عمر لكن يجوز أن يكون تركه لبيان الجواز، أو لعدم رؤيته الرفع سنَّة لازمة، فلا يقدح ذلك في ثبوت الرفع عنه، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الرابع: أن ترك الراوي مرويّه إنما يكون مسقطاً للاحتجاج عند الحنفية إذا كان خلافُه بيقين، كما هو مصرَّح في كتبهم وههنا ليس كذلك، لجواز أن يكون(1/397)
فِي أَوَّلِ تَكْبِيرَةِ افْتِتَاحِ الصَّلاةِ، وَلَمْ يَرْفَعْهُمَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ (1) .
109 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَهْشَليُّ (2) ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيب الجَرْمي، عَنْ أَبِيهِ - وَكَانَ (3) مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ -: أنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - كرَّم اللَّهُ وَجْهَهُ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرَةِ الأُولَى الَّتِي يَفْتَتِحُ بِهَا الصَّلاةَ، ثُمَّ لا يرفعهما في شيء من الصلاة.
__________
الرفع الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمله ابن عمر على العزيمة، وتَرَكَ أحياناً بياناً للرخصة، فليس تركه خلافاً لروايته بيقين.
الخامس: أنه لا شبهة في أن ابن عمر قد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث الرفع، بل ورد في بعض الروايات عنه أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه، وإذا ركع، وإذا رفع، وكان لا يفعل ذلك في السجود، فما زالت تلك صلاته حتى لقي الله، أخرجه البيهقي. ولا شك أيضاً في أنه ثبت عن ابن عمر بروايات الثقات فعل الرفع، وورد عنه برواية مجاهد وعبد العزيز بن حكيم الترك، فالأَولى أن يُحمل الترك المرويّ عنه على وجه يستقيم ثبوت الرفع منه، ولا يخالف روايته أيضاً، إلا أن يُجعل تركه مضاداً لفعله، ومُسقطاً للأمر الثابت، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بروايته ورواية غيره.
(1) أي: في الركوع والرفع وغير ذلك.
(2) قوله: أخبرنا أبو بكر بن عبد الله النهشلي، نسبة إلى بني نَهْشل، بفتح النون وسكون الهاء، وفتح الشين المعجمة بعدها لام، قبيلة. ذكره السمعاني في "الأنساب". وفي "التقريب" و"الكاشف": أبو بكر النهشلي الكوفي، قيل: اسمه عبد الله بن قطاف أو ابن أبي قطاف، وقيل: وهب، وقيل: معاوية صدوق ثقة، توفي سنة 166. انتهى. لعله هو.
(3) الضمير إلى كُليب.(1/398)
110 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ (1) ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ (2) يديه إذا افتتح الصلاة.
__________
(1) هو: إبراهيم بن يزيد النخعي.
(2) قوله: أنه كان يرفع ... إلخ، أخرجه الطحاوي من طريق حصين عن إبراهيم قال: كان عبد الله لا يرفع يديه في شيء من الصلاة إلاّ في الافتتاح. وقال: فإن قالوا ما ذكرتموه عن إبراهيم عن عبد الله غير متصل، قيل لهم: كان إبراهيم إذا أرسل عن عبد الله لم يرسله إلاّ بعد صِحّتِه عنده وتَوَاتُرِ الرواية، عن عبد الله، قد قال له الأعمش: إذا حدثتني فأسند، فقال: إذا قلتُ لك: قال عبد الله،، فلم أقل ذلك حتى حدثّنيه جماعة عن عبد الله، وإذا قلتُ: حدثني فلان، عن عبد الله فهو الذي حدثني، حدثنا بذلك إبراهيم بن مرزوق، قال: نا ابن وهب، أو بشر بن عمر - شك أبو جعفر الطحاوي - عن سعيد، عن الأعمش بذلك، فكذلك هذا الذي أرسله إبراهيم عن عبد الله، لم يرسله إلاّ ومخرجه عنده أصح من مخرج ما يرويه رجل بعينه عن عبد الله. انتهى كلامه.
وفي "الاستذكار" لابن عبد البر: لم يُروَ عن أحد من الصحابة تركُ الرفع ممن لم يُختلف عنه فيه إلاّ ابن مسعود وحده. وروى الكوفيون عن علي مثلَ ذلك، وروى المدنيون عنه الرفع، من حديث عبيد الله بن أبي رافع. وكذلك اختُلف عن أبي هريرة، فروى عنه أبو جعفر القاري ونُعيم المُجمر أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، ويكبِّر في كل خفض رفع، ويقول: أنا أشبهكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه عبد الرحمن بن هرمز الأعرج أنه كان يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رأسه، وهذه الرواية أَولى لما فيها من الزيادة. ورُوى الرفع عن جماعة من التابعين بالحجاز والعراق والشام منهم القاسم بن محمد والحسن وسالم وابن سيرين وعطاء وطاووس ومجاهد ونافع مولى ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وابن أبي نَجيح وقتادة. انتهى ملخصاً.(1/399)
34 - (باب القراءة في الصلاة خلف الإمام (1))
__________
فائدة: قال صاحب "الكنز المدفون والفلك المشحون": وقفت على كتاب لبعض المشايخ الحنفية ذكر فيها مسائل خلاف، ومن عجائب ما فيه الاستدلال على ترك رفع اليدين في الانتقالات بقوله تعالى: {ألم ترَ إلى الذين قِيلَ لَهُم كُفّوا أَيْدِيَكُمْ وَأقِيمُوا الصَّلاةَ} (سورة النساء: آية 77) وما زلتُ أحكي ذلك لأصحابنا على سبيل التعجب إلى أن ظفرت في "تفسير الثعلبي" بما يهوِّن عنده هذا العظيم، وذلك أنه حكى في سورة الأعراف، عن التنّوخي القاضي أنه قال في قوله تعالى: {خُذُوا زِيْنَتَكُمُ عنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (سورة الأعراف: آية 31) : إن المراد بالزينة رفع اليدين في الصلاة. فهذا في هذا الطرف، وذاك في الطرف الآخر.
(1) قوله: خلف الإمام، اختلف فيه العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أقوال: الأول: أنه يقرأ مع الإمام في ما أسرّ، ولا يقرأ في ما جهر، وإليه ذهب مالك، وبه قال سعيد بن المسيب، وعبيد الله بن عتبة بن مسعود وسالم بن عبد الله بن عمر، وابن شهاب، وقتادة، وعبد الله بن المبارك، وأحمد وإسحاق، والطبري، إلا أن أحمد قال: إن سمع في الجهرية لا يقرأ وإلاّ قرأ. واختُلف عن علي وعمر وابن مسعود، فرُوي عنهم أن المأموم لا يقرأ وراء الإمام لا في ما أسرَّ ولا في ما جهر، وروي عنهم أنه يقرأ في ما أسرّ لا في ما جهر، وهو أحد قولي الشافعي كان يقوله بالعراق، وهو المرويّ عن أبي بن كعب وعبد الله بن عمر.
والثاني: أنه يقرأ بأم الكتاب في ما جهر وفي ما أسرّ، وبه قال الشافعي بمصر، وعليه أكثر أصحابه، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأبو ثور. وهو قول عبادة بن الصامت، وعبد الله بن عباس، واختُلف فيه عن أبي هريرة، وبه قال عروة بن الزبير وسعيد بن جبير والحسن البصري ومكحول.(1/400)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
والثالث: أنه لا يقرأ شيئاً في ما جهر ولا في ما أسرَّ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول جابر بن عبد الله وزيد بن ثابت، ورُوي ذلك عن علي وابن مسعود. وبه قال الثوري وابن عيينة وابن أبي ليلى والحسن بن صالح بن حَيّ وإبراهيم النخعي وأصحاب ابن مسعود، كذا ذكره ابن عبد البر في "الاستذكار" و"التمهيد".
وأما حجة أصحاب القول الأول، فاستدلوا بقوله تعالى: {وإذَا قُرئ القُرْآنُ فَاستَمِعُوا لهُ وأنْصِتُوا} (سورة الأعراف: رقم الآية 204) ، وقالوا: إن نزوله كان في شأن القراءة خلف الإمام (وذكر الزيلعي أخباراً في أنَّ هذه الأية نزلت في القراءة خلف الإمام 1/432) ، فقد أخرج ابن مردويه والبيهقيّ، عن ابن عباس، قال: صلّى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ خلفه قوم، فخلطوا عليه، فنزلت هذه الآية. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والبيهقي، عن محمد بن كعب القُرَظي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ في الصلاة أجابه من وراءه، إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم، قالوا مثلَ ما يقول حتى تنقضي فاتحة الكتاب والسورة، فنزلت. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي، عن مجاهد قال: قرأ رجل من الأنصار خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في كتاب "القراءة"، عن عبد الله بن مغفَّل: أنه سُئل: أكلّ من سمع القرآن وجب عليه الاستماع والإنصات؟ قال: إنما أُنزلت هذه الآية: {فَاستَمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا} في قراءة الإمام. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، والبيهقي، عن ابن مسعود: أنه صلّى بأصحابه، فسمع ناساً يقرؤون خلفه، فقال: أما أن لكم أن تفهمون؟ أما آن لكم أن تعقلون؟ {وإذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَه} . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر عن أبي هريرة أنه قال: نزلت هذه الآية في رفع الأصوات، وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة. وأخرج ابن جرير والبيهقي عن الزهري: نزلت هذه الآية في فتىً من الأنصار كان رسولُ الله كلما قرأ شيئاً قرأه.(1/401)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ والبيهقي، عن أبي العالية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلّى بأصحابه، فقرأ، فقرأ أصحابه، فنزلت. وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنَّف"، عن أبراهيم: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ، ورجل يقرأ، فنزلت.
وإذا ثبت هذا، فنقول: من المعلوم أن الاستماع إنما يكون في ما جهر به الإمام، فيَتْرُك المؤتمّ فيه القراءة، ويؤيده من الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: "وإذَا قَرَأَ الإمام فأنْصِتُوا"، أخرجه أبو داود وابن ماجه والبزار وابن عديّ من حديث أبي موسى، والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة، وأخرجهما ابن عبد البر في "التمهيد"، ونقل عن أحمد أنه صححه، ولأبي داود وغيره في صحته كلام، قد تعقَّبه المنذري وغيره. فهذا في ما جهر الإمام، وأما في ما أسرَّ، فيقرأ أخذاً بعموم لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب، وغير ذلك من الأحاديث.
وأما أصحاب القول الثاني، فأقوى حججهم حديث عبادة: كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، فقرأ فثَقُلَتْ عليه القراءة، فلما فرغ قال: لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم، يا رسول الله، فقال: فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها. أخرجه أبو داود والترمذي وحسَّنه والنسائي والدارقطني وأبو نعيم في "حلية الأولياء"، وابن حبان والحاكم.
وأما أصحاب القول الثالث، فاستدلوا بحديث: "من كان له إمام فقراءه الإمام قراءة له" وسنذكر طرقه إن شاء الله تعالى، وبآثار الصحابة التي ستأتي.
والكلام في هذا المبحث طويل وموضعه شرحي لشرح الوقاية المسمَّى بـ"السعاية في كشف ما في شرح الوقاية"، وفقنا الله لاختتامه (بلغ الكتاب إلى (فروع مهمة متعلِّقة بالقراءة في الصلاة) ، وقد انتقل مؤلِّفه إلى جوار رحمة الله تعالى، وطبع الكتاب في مجلد ضخم في جزأين من باكستان سنة 1976 م) . وقد أفردتُ لهذه المسألة رسالة سميتها بـ "إمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإمام"(1/402)
111 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ (1) ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنِ ابْنِ أُكَيْمة (2) اللَّيْثِيِّ (3) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنْ صَلاةٍ (4) جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَقَالَ: هَلْ قَرَأَ مَعِيَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يَا رسول، قَالَ (5) : فَقَالَ: إِنِّي أقُول (6) مَا لِي أُنازَع (7) القرآن (8) ؟
__________
(وطُبع الكتاب من مدينة لكنؤ بالهند سنة 1304 هـ) .
(1) قوله: مالك، قال ميرك نقلاً عن ابن الملقن: حديث أبي هريرة هذا رواه مالك والشافعي والأربعة، وصححه ابن حبان، وضعفه البيهقي والحميدي، وبهذا يُعلم أن قول النووي اتفقوا على ضعف هذا الحديث غير صحيح، كذا في "مرقاة المفاتيح شرح المشكاة".
(2) قوله: ابن أُكيْمة، بضم الهمزة وفتح الكاف مصغر أكمة، واسمه عمارة، بضم المهملة، والتخفيف، والهاء، وقيل: عَمَار بالفتح والتخفيف، وقيل: عمرو، بفتح العين، وقيل: عامر الليثي أبو الوليد المدني، ثقة، مات سنة إحدى ومائة، قاله الزرقاني.
(3) ولابن عبد البر من طريق سفيان، عن الزهري، قال: سمعت ابن أكيمة يحدث سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.
(4) رواه أبو داود، عن سفيان، عن الزهري بسنده، فقال: نظن أنها صلاة
(5) أي: أبو هريرة.
(6) هو بمعنى التثريب واللوم لمن فعل ذلك.
(7) بفتح الزاء، والقرآن منصوب على أنه مفعول ثانٍ، نقله ميرك، وفي نسخة بكسر الزاء.
(8) قوله: مَالي أُنازَعُ القرآن، قال الخطابي: أي أُداخل فيه، وأُشارَك(1/403)
فَانْتَهَى النَّاسُ (1) عَنِ الْقِرَاءَةِ (2) مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَهَرَ بِهِ مِنَ الصَّلاةِ (3) حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ.
111- أَخْبَرَنَا مَالِكٌ (4) ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنِ ابْنِ أُكَيْمَةَ (5) اللَّيْثِيِّ (6) عَنْ أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنْ صَلاةٍ (7) جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَقَالَ: هَلْ قَرَأَ مَعِيَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ (8) : فَقَالَ: إِنِّي أَقُولُ (9) مَا لِي أُنازَع (10) الْقُرْآنَ (11) ؟ فَانْتَهَى النَّاسُ (12) عَنِ الْقِرَاءَةِ (13) مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَهَرَ بِهِ مِنَ الصَّلاةِ (14) حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ.
112 - أَخْبَرَنَا مالك، حدثنا نافع، عن ابن عمر: أنه كَانَ إِذَا سُئِلَ هَلْ يَقْرَأُ أَحَدٌ مَعَ الإِمَامِ؟ قَالَ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ مَعَ الإِمَامِ فحسبُه (15)
__________
وأغالَب عليه، وقال في "النهاية": أي: أجاذب في قراءته كأنهم جهروا بالقراءة خلفه، فشغلوه، كذا في "مرقاة الصعود".
(1) قوله: فانتهى الناس، أكثر رواة ابن شهاب عنه لهذا الحديث يجعلونه كلام ابن شهاب، ومنهم من يجعله من كلام أبي هريرة.
وفقه هذا الحديث الذي من أجله جيء به هو ترك القراءة مع الِإمام في كل صلاة يجهر فيها الِإمام بالقراءة، فلا يجوز أن يقرأ معه إذا جهر بأم القرآن، ولا غيرها، على ظاهر الحديث وعمومه، كذا قال ابن عبد البر.
(2) قوله: عن القراءة، قال المجوزون لقراءة أم القرآن في الجهرية أيضاً، معناه عن الجهر بالقراءة أو عن قراءة السورة، لئلا يخالف حديث عبادة، فإنه صريح في تجويز قراءة أم القرآن في الجهرية، وقال بعضهم: انتهاء الناس إنما كان برأيهم لا بأمر الرسول، فلا حجة فيه. وفيه نظر ظاهر، لأن انتهاءهم كان بعد توبيخِ النبي صلى الله عليه وسلم لهم (1) ، والظاهر اطلاعُه عليه وإقراره بالانتهاء. وأما المانعون مطلقاً، فمنهم من أخذ بظاهر ما ورد في بعض الروايات: فانتهى الناس عن القراءة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أخذ غير ظاهر، لورود قيد "فيما جهر فيه" في بعضها، وبعض الروايات يفسر بعضاً.
والحق أن ظاهر هذا الحديث مؤيد لما اختاره مالك.
(3) في نسخة: الصلوات.
(4) قوله: مالك، قال ميرك نقلاً عن ابن الملقَّن: حديث أبي هريرة هذا رواه مالك والشافعي والأربعة، وصححه ابن حبان، وضعَّفه البيهقي والحميدي، وبهذا يُعلم أن قول النووي اتفقوا على ضعف هذا الحديث غير صحيح، كذا في "مرقاة المفاتيح شرح المشكاة".
(5) قوله: ابن أٌكَيْمة، بضم الهمزة وفتح الكاف مصغر أكمة، واسمه عمارة، بضم المهملة، والتخفيف، والهاء، وقيل: عَمَار بالفتح والتخفيف، وقيل: عمرو، بفتح العين، وقيل: عامر الليثي أبو الوليد والمدني، ثقة، مات سنة إحدى ومائة، قال الزرقاني.
(6) ولابن عبد البر من طريق سفيان، عن الزهري، قال: سمعت ابن أكيمة يحدث سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.
(7) رواه أبو داود، عن سفيان، عن الزهري بسنده، فقال: نظنّ أنها صلاة الصبح.
(8) أي: أبو هريرة.
(9) هو بمعنى التثريب واللوم لمن فعل ذلك.
(10) بفتح الزاء، والقرآن منصوب على أنه مفعول ثانٍ، نقله ميرك، وفي نسخة بكسر الزاء.
(11) قوله: مَالي أُنازَعُ القرآن، قال الخطابي: أي أُداخل فيه، وأُشارَك
وأغالَب عليه، وقال في "النهاية": أي: أُجاذب في قراءته كأنهم جهروا بالقراءة خلفه، فشغلوه، كذا في "مرقاة الصعود".
(12) قوله: فانتهى الناس، أكثر رواة ابن شهاب عنه لهذا الحديث يجعلونه كلام ابن شهاب، ومنهم من يجعله من كلام أبي هريرة.
وفقه هذا الحديث الذي من أجله جيء به هو ترك القراءة مع الإمام في كل صلاة يجهر فيها الإمام بالقراءة، فلا يجوز أن يقرأ معه إذا جهر بأم القرآن، ولا غيرها، على ظاهر الحديث وعمومه، كذا قال ابن عبد البر.
(13) قوله: عن القراءة، قال المجوِّزون لقراءة أم القرآن في الجهرية أيضاً، معناه عن الجهر بالقراءة أو عن قراءة السورة، لئلا يخالف حديث عبادة، فإنه صريح في تجويز قراءة أم القرآن في الجهرية، وقال بعضهم: انتهاء الناس إنما كان برأيهم لا بأمر الرسول، فلا حجة فيه. وفيه نظر ظاهر، لأن انتهاءهم كان بعد توبيخ النبي صلى الله عليه وسلم لهم (في الأصل: "عليهم"، والظاهر: "لهم") ، والظاهر اطَّلاعُه عليه وإقراره بالانتهاء. وأما المانعون مطلقاً، فمنهم من أخذ بظاهر ما ورد في بعض الروايات: فانتهى الناس عن القراءة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أخذ غير ظاهر، لورود قيد "فيما جهر فيه" في بعضها، وبعض الوايات يفسِّر بعضاً.
والحق أن ظاهر الحديث مؤيِّد لما اختاره مالك.
(14) في نسخة: الصلوات.
(15) أي: يكفيه.(1/404)
قِرَاءَةُ الإِمَامِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يَقْرَأُ مَعَ الإِمَامِ (1) .
113 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ أَنَّهُ سَمِعَ (2) جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: مَنْ صَلَّى رَكْعَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بأمّ الْقُرْآنِ، فَلَمْ يَصُلِّ (3) إلاَّ وَرَاءَ الإِمَامِ (4) .
114 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي الْعَلاءُ (5) بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يعقوب مولى الحُرَقَة (6)
__________
(1) قوله: لا يقرأ مع الإمام، قال ابن عبد البر: ظاهر هذا أنه كان لا يرى القراءة في سر الإمام ولا جهره، ولكنْ قيَّده مالك بترجمة الباب أن ذلك في ما جهر به الإمام بما علم من المعنى. ويدل على صحته ما رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن الزهري، عن سالم: أن ابن عمر كان يُنصت للإمام في ما جهر فيه، ولا يقرأ معه، وهو يدل على أنه كان يقرأ معه في ما أسرَّ فيه.
(2) قوله: سمع، قال أبو عبد الملك: هذا الحديث موقوف، وقد أسنده بعضهم، أي: رفعه، ورواه الترمذي من طريق معن عن مالك به موقوفاً، وقال: حسن صحيح.
(3) لأنه ترك ركناً من أركان الصلاة، وفيه وجوبها في كل ركعة.
(4) قال أحمد: فهذا صحابي تأوَّل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" على ما إذا كان وحده، نقله الترمذي.
(5) قوله: أخبرني العلاء، هكذا في "الموطأ" عند جميع رواته وانفرد مطرف في غير "الموطأ"، فرواه عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي السائب، وليس بمحفوظ، قاله الزرقاني.
(6) قوله: مولى الحُرَقة، بضم الحاء المهملة، وفتح الراء المهملة بعدها قاف، قبيلة من همدان، قاله ابن حبان، أو من جهينة، قاله الدارقطني، وهو الصحيح، كذا في "أنساب السمعاني".(1/405)
أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا السَّائِبِ (1) مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مَنْ صَلَّى صَلاةً (2) لَمْ يَقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِداج (3) هِيَ خِداج هِيَ خِداج (4)
__________
(1) قوله: أبا السائب، قال الحافظ: يقال: اسمه عبد الله بن السائب الأنصاري، المدني، ثقة، روى له مسلم، والأربعة، والبخاري في "جزء القراءة" وهو مولى هشام بن زهرة، ويقال: مولى عبد الله بن هشام بن زهرة، ويقال: مولى بني زهرة.
(2) قوله: من صلى صلاة ... إلخ، فيه من الفقه إيجاب قراءة فاتحة الكتاب في كل صلاة، وأن الصلاة إذا لم يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج وإن قرئ فيها بغيرها من القرآن، والخداج، النقصان والفساد، من ذلك قولهم: أخدجت الناقة، وخدجت إذا ولدت قبل تمام وقتها، قبل تمام الخلق، وذلك نتاج فاسد، وقد زعم من لم يوجب قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة أن قوله: خداج يدل على جواز الصلاة لأنه النقصان، والصلاة الناقصة جائزة. وهذا تحكُّم فاسد (والظاهر أنّ هذا رد على الحنفية لأن عامتهم يزعمون أن الحنفية قالوا بجواز الصلاة بدون الفاتحة، ولذا تعجَّب الحافظ في "الفتح" أشدّ التعجب، والحقيقة ليست كذلك لأن الحنفية قالوا بوجوب الفاتحة، انظر أوجز المسالك 2/97) ، والنظر يوجب أن لا يجوز الصلاة، لأنها صلاة لم تتم، ومن خرج من صلاته قبل أن يعيدها، فعليه إعادتها.
وأما اختلاف العلماء في هذا الباب، فإن مالكاً والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور وداود قالوا: لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب، وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: إن تركها عامداً وقرأ غيرها أجزأه، على اختلاف عن الأوزاعي، وقال الطبري: يقرأ المصلي بأم القرآن في كل ركعة، فإن لم يقرأها لم يُجْز إلا مثلها من القرآن عدد آياتها وحروفها، كذا في "الاستذكار" (2/145) .
(3) بكسر الخاء المعجمة، أي: ذات خداج، أي: نقصان.(1/406)
غَيْرُ تَمَامٍ (1) . قَالَ (2) : قُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إِنِّي أَحْيَانًا أَكُونُ وَرَاءَ الإِمَامِ؟ قَالَ: فَغَمَزَ ذِرَاعِي (3) وَقَالَ: يَا فَارِسِيُّ، اقْرَأْ بِهَا (4) فِي نَفْسِكِ (5) ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قُسِمت (6)
__________
(4) ذكره ثلاثاً للتأكيد.
(1) قوله: غير تمام، هو تأكيد، فهو حجة قوية على وجوب قراءتها في كل صلاة، لكنه محمول عند مالك ومن وافقه على الأمام والفذّ، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأ فأنصتوا"، رواه مسلم.
(2) أبو السائب.
(3) قوله: فغمز ذراعي، قال الباجي: هو على معنى التأنيس له، وتنبيهه على فهم مراده والبعث له على جمع ذهنه وفهمه لجوابه.
(4) قوله: اقرأ بها، أي سرّاً، وبه استدل من جوَّز قراءة أم القرآن خلف الإمام، في الجهرية أيضاً، وظاهر القرآن والأحاديث يردّه إلا أن يَتتَبَّع سكتات الإمام، ويقرأ بها فيها سرّاً، فحينئذٍ لا يكون مخالفاً للقرآن والحديث.
(5) قوله: في نفسك، قال الباجي: أي بتحريك اللسان، بالتكلم، وإن لم يُسمع نفسه، رواه سحنون، عن أبي القاسم: قال: ولو أسمع نفسه يسيراً كان أحبَّ إليّ.
(6) قوله: قُسمت الصلاة، قال العلماء: أراد بالصلاة ههنا الفاتحة، سُمِّيت بذلك لأنها لا تصح إلاّ بها، كقولهم: الحج عرفة، والمراد قسمتها من جهة المعنى لأن نصفها الأول تحميد الله وتمجيده، وثناء عليه وتفويض إليه، والثاني سؤال وتضرُّع وافتقار، واحتجَّ القائلون بأن البسملة ليست من الفاتحة بهذا الحديث، قال النووي: وهو من أوضح ما احتجوا به لأنها سبع آيات بالإجماع، فثلاث في أولها ثناء، أوَّلها الحمد، ثلاث دعاء أولها: {اهدِنا الصِّراط المُستَقيمَ}(1/407)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
والسابعة متوسطة، وهي: {إياك نعبد وإياك نستعين} . قالوا: ولأنَّه لم يذكر البسملة في ما عدّدها، ولو كانت منها لذكرها، كذا في "التنوير". وقال الزيلعي في "نصب الراية": هذا الحديث ظاهر في أن البسملة ليست من الفاتحة وإلاَّ لابتدأ بها لأن هذا محل بيان واستقصاء لآيات السورة، والحاجة إلى قراءة البسملة أمسّ.
واعترض بعض المتأخرين على هذا الحديث بوجهين:
أحدهما: قال: لا تغترّ بكون هذا الحديث في مسلم، فإن العلاء بن عبد الرحمن قد تكلم فيه ابن معين فقال: الناس يتقون حديثه وليس حديثه بحجة، مضطرب الحديث، ليس بذاك، هو ضعيف، رُوي عنه جميع هذه الألفاظ، وقال ابن عدي: ليس بالقوي، وقد انفرد بهذا الحديث، فلا يُحتج به.
الثاني: قال: وعلى تقدير صحته، فقد جاء في بعض الروايات عنه ذكر التسمية، كما أخرجه الدارقطني، عن عبيد الله بن زياد بن سمعان، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، يقول العبد إذا افتتح الصلاة: بسم الله الرحمن الرحيم، فيذكرني عبدي، ثم يقول: الحمد لله رب العالمين، فأقول حمدني عبدي ... الحديث، وهذا القائل حمله الجهل والتعصب على أَن تَرَكَ الحديث الصحيح وضعَّفه لكونه غير موافق لمذهبه، مع أنه روى عن العلاء الأئمة الثقات، كمالك، وسفيان بن عيينة، وابن جريج، وشعبة، وعبد العزيز الدراوردي، وإسماعيل بن حفص، وغيرهم، والعلاء نفسه ثقة صدوق. وهذه الرواية مما انفرد بها ابن سمعان، وهو كذاب، ولم يخرجها أحد من أصحاب الكتب الستة، ولا المصنفات المشهورة، ولا المسانيد المعروفة، وإنما رواه الدارقطني في "سننه" التي يروي فيها غرائب الحديث، وقال عَقيبه: وعبيد الله بن زياد بن سمعان متروك الحديث، وذكره في "عِلَلِه" وأطال الكلام. انتهى. وقد بسطت المسألة في رسالتي: "إحكام القنطرة في أحكام البسملة".(1/408)
الصَّلاةَ بَيْنِي (1) وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي (2) ، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي (3) ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ (4) ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: اقرؤا (5) ، يقول العبد: الحمد لله رب العالمين، يَقُولُ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، يَقُولُ الْعَبْدُ: الرَّحْمَنِ الرحيم، يَقُولُ اللَّهُ أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي (6) ، يَقُولُ الَعَبْدُ: مالِكِ يوم الدين، يَقُولُ اللَّهُ مجَّدني (7) عَبْدِي، يَقُولُ الْعَبْدُ: إِيَّاكَ نعبد وإياك نستعين، فهذه الآية (8) بيني ووبين عَبْدِي، وَلِعَبْدِي (9) مَا سَأَلَ، يَقُولُ الْعَبْدُ: اهْدِنَا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت
__________
(1) قدَّم نفسه لأنه الواجب الوجود لنفسه، وإنما استفاد العبد الوجود منه.
(2) هو: {الحمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، مَالِكِ يَومِ الدِّينِ} .
(3) وهو من {اهدِنَا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ} إلى آخره.
(4) أي: مني إعطاءه.
(5) قوله: اقرؤا، لمسلم من رواية ابن عيينة، عن العلاء إسقاط هذه الجملة، وقال لعقب قوله: ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد ... إلخ.
(6) جاء جواباً لقوله: الرحمن الرحيم (في الأصل "للرحمن الرحيم" والظاهر لقوله: " الرحمن الرحيم") لاشتمال اللفظين على الصفات الذاتية والفعلية.
(7) قوله: مجَّدني: التمجيد الثناء بصفات الجلال، والتحميد والثناء بجميل الفعال، ويقال أثنى في ذلك كلِّه.
(8) قوله: بيني وبين عبدي، قال الباجي: معناه أن بعض الآية تعظيم الباري وبعضها استعانة على أمر دينه ودنياه من العبد به.
(9) من العون.(1/409)
عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضآلين، فَهَؤُلاءِ (1) لِعَبْدِي (2) وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ (3) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا قِرَاءَةَ (4) خَلْفَ الإِمَامِ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ وَلا فِيمَا لَمْ يَجْهَرْ، بِذَلِكَ جَاءَتْ عَامَّةُ الآثار (5) .
__________
(1) أي: مختصه بالعبد.
(2) قوله: لعبدي، لأنها دعاؤه بالتوفيق إلى صراط من أنعم عليهم والعصمة من صراط المغضوب عليهم ولا الضالين.
(3) من الهداية وما بعدها.
(4) قوله: لا قراءة ... إلخ، كلام محمد هذا وكلامه في "كتاب الآثار" بعد إخراج قول إبراهيم، قال: ما قرأ علقمة بن قيس قط فيما يجهر فيه، ولا في الركعتين الأخريين أم القرآن ولا غيرها خلف الإمام، أخرجه عن أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم، ثم قال: وبه نأخذ، لا نرى القراءة خلف الإمام في شيء من الصلاة يجهر فيه أولا يجهر فيه. انتهى. وكلامه فيه بعد ما أخرج عن أبي حنيفة، عن حماد، عن سعيد بن جبير أنه قال: اقْرأ خلف الإمام في الظهر والعصر، ولا تقرأ في ما سوى ذلك، قال محمد: لا ينبغي أن يقرأ خلف الإمام في شيء من الصلوات. انتهى. صريح في بطلان قول عليٍّ القاري في "شرح المشكاة": الإمام محمد من أئمتنا يوافق الشافعيَّ في القراءة خلف الإمام في السرية، وهو أظهر في الجمع بين الروايات الحديثية، وهو مذهب مالك. انتهى. وقد ذكر صاحب "الهداية". و"جامع المضمرات" وغيرهما أيضاً أن على قول محمد يُستحسن قراءة أم القرآن خلف الإمام على سبيل الاحتياط، ولكن قال ابن الهُمام: الأصح أن قول محمد كقولهما، فإن عباراته في كتبه مصرِّحة بالتجافي عن خلافه، والحق أنه وإن كان ضعيفاً رواية لكنه قوي دراية.
(5) قوله: عامة الآثار، أي: عن الصحابة والتابعين، بل وعن النبي صلى الله عليه وسلم(1/410)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
أيضاً. فمنهم: زيد بن ثابت، أخرجه مسلم في باب سجود التلاوة بسنده، عن عطاء بن يسار أنه سأل زيداً عن القراءة مع الإمام، فقال: لا قراءة مع الإمام في شيء. وأخرجه الطحاوي، عن عطاء أنه سمع زيد بن ثابت يقول: لا يقرأ خلف الإمام في شيء من الصلاة وأخرج أيضاً عن حيوة بن شريح، عن بكر بن عمر، عن عبد الله بن مقسم أنه سأل عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وجابراً قالوا: لا يقرأ خلف الإمام في شيء من الصلاة. وعارض بعضهم بما رُوي عن زيد أنه قال: من قرأ خلف الإمام فصلاته تامة، ولا إعادة عليه، وجعله دليلاً على فساد ما رُوي عنه من تركه القراءة. وفيه نظر، فإنه لا معارضة لأنه لا يلزم من كون الصلاة تامة وعدم وجوب الإعادة إلاَّ عدم كون الترك لازماً، وهو أمر آخر.
ومنهم: عليّ، كما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق أنه قال: من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة، وأخرجه الدارقطني من طرق، وقال: لا يصح إسناده، وقال ابن حبان في "كتاب الضعفاء": هذا يرويه ابن أبي ليلى الأنصاري، وهو باطل، ويكفي في بطلانه إجماع المسلمين، وعبد الله بن أبي ليلى هذا رجل مجهول. انتهى. وقال ابن عبد البر. هذا لو صحَّ احتُمل أن يكون في صلاة الجهر لأنه حينئذ يكون مخالفاً للكتاب والسنَّة، فكيف وهو غير ثابت عن عليّ رضي الله عنه. انتهى.
ومنهم: جابر بن عبد الله، كما ذكره محمد سابقاً، وقد أخرجه الترمذي أيضاً وقال: حسن صحيح، والطحاوي، وأخرجه الدارقطني، عن جابر مرفوعاً، وأعلَّه بأنه في سنده يحيى بن سلام، وهو ضعيف، والصواب وقفه. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنَّفه"، عن جابر قال: لا يقرأ خلف الإمام، لا إن جهر، ولا إن خافت. وأخرج عبد الرزاق، والطحاوي، عن عبد الله بن مقسم، قال: سألت جابر بن عبد الله: يقرأ خلف الإمام في الظهر العصر؟ قال: لا.
ومنهم: أبو الدرداء، أخرج النسائي بسنده، عن كثير بن مرة، عن(1/411)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
أبي الدرداء سمعه يقول: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفي كل صلاة قراءة؟ قال نعم، قال رجل من الأنصار: وجبت هذه، فالتفت إليّ، وكنت أقرب القوم منه، فقال: ما أرى الإمام إذا أمَّ القوم إلاَّ قد كفاهم، قال النسائي: هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطأ، إنما هو قول أبي الدرداء. وقال الطحاوي بعد ما أخرج عن عائشة مرفوعاً: كل صلاة لم يُقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، وعن أبي هريرة حديثه الذي مر برواية محمد: فذهب إلى هذه الآثار قوم، وأوجبوا القراءة خلف الإمام في سائر الصلوات بفاتحة الكتاب، وخالفهم في ذلك آخرون، وكان من الحجة لهم أن حديثي أبي هريرة وعائشة اللَّذين رَوَوْهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في ذلك دليل على أنه أراد بذلك الصلاة التي تكون فيها قراءة الإمام، وقد رأينا أبا الدرداء سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك مثل هذا، فيم يكن عنده على المأموم، حدثنا بحر بن نصر، نا عبد الله بن وهب، حدَّثني معاوية بن صالحن عن أبي الزاهرية، عن كثير بن مرَّة الحضرمي، عن أبي الدرداء أن رجلاً قال: يا رسول الله في الصلاة قرآن؟ قال: نعم، فقال رجل من الأنصار: وجبت، قال: وقال أبو الدرداء: ما أرى أن الإمام إذا أمَّ القوم فقد كفاهم. انتهى ملخصاً.
ومنهم ابن عمر وابن مسعود وعمر وسعد، كما أخرج محمد عنهم، وسيأتي ماله وما عليه.
ومنهم: ابن عباس، كما أخرجه الطحاوي، عن أبي حمزة، قلت لابن عباس: أَقْرأُ والإمام بين يدي؟ فقال: لا. وذكر العيني في "شرح الهداية": قد رُوي منع القراءة عن ثمانين نفراً من الصحابة، منهم: المرتضى والعبادلة الثلاثة، وذكر الشيخ الإمام السبذموني في "كشف الأسرار"، عن عبد الله بن زيد بن أسلم، عن أبيه أنه قال: عشرة من الصحابة ينهون عن القراءة خلف الإمام أشد النهي: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد، وابن مسعود، وزيد، وابن عمر، وابن عباس. انتهى.(1/412)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (1) - رَحِمَهُ اللَّه -.
115 - قَالَ مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ (2) بْنُ عُمَرَ بْنِ حفص بن
__________
وهذا كله محتاج إلى تحقيق الأسانيد إليهم، وقال الحافظ ابن حجر في "الدراية في تخريج أحاديث الهداية": إنما يثبت ذلك، أي: المنع، عن ابن عمر وجابر وزيد بن ثابت وابن مسعود، وجاء عن سعد وعمر وابن عباس وعلى، وقد أثبت البخاري، عن عمر وأبيّ بن كعب وحذيفة وأبي هريرة وعائشة وعبادة وأبي سعيد في آخرين أنهم كانوا يرون القراءة خلف الإمام. انتهى. وقال ابن عبد البر: ما أعلم في هذا الباب من الصحابة من صحَّ عنه ما ذهب إليه الكوفيون فيه من غير اختلاف عنه إلاَّ جابر وحده. انتهى.
(1) قوله: وهو قول أبي حنيفة، قد مرَّ معنا ذِكْر من وافقه في هذا في ما مرَّ، وذَكَر أكثر أصحابنا أن القراءة خلف الإمام عند أبي حنيفة وأصحابه مكروه تحريماً، بل بالغ بعضهم، فقالوا بفساد الصلاة به، وهو مبالغة شنيعة يكرهها من له خبرة بالحديث، وعلَّلوا الكراهية بورود التشدد عن الصحابة، وفيه أنه إذا حقق آثار الصحابة بأسانيدها فبعد ثبوتها إنما تدل على إجزاء قراءة الإمام عن قراءة المأموم، لا على الكراهة، والآثار التي فيها التشدد لا تثبت سنداً على الطريق المحقق. فإذن القول بالإجزاء فقط من دون كراهة أو منع أسلم، وأرجو أن يكون هو مذهب أبي حنيفة وصاحبيه كما قال ابن حبان في كتاب "الضعفاء": أهل الكوفة إنما اختاروا تَرْكَ القراءة لا أنهم لم يجيزوه. انتهى.
(2) قوله: أخبرنا عبيد الله، مصغَّراً ابن عمر بن حفص بن عاصم ابن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، أبو عثمان العمري العدوي المدني من أجلّة الثقات، روى عن أم خالد بنت خالد الصحابية حديثاً، وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعطاء، ونافع، والمَقْبُري، والزهري، وغيرهم، وعنه شعبة والسفيانان ويحيى القطان، وغيرهم، قال النسائي: ثقة(1/413)
عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: مَنْ صَلَّى خَلْفَ الإمام (1) كَفَتْه قراءته.
__________
ثبت، وقال أبو حاتم: سألت أحمد عن عبيد الله، ومالك، وأيوب: أيهم أثبت في نافع؟ فقال: عبيد الله أحفظهم وأثبتهم، وأكثرهم رواية، وقال أحمد بن صالح: عبيد الله أحبّ إليّ من مالك في نافع، مات سنة 147 هـ بالمدينة، كذا ذكر الذهبي في "تذكرة الحفاظ".
(1) قوله: خلف الإمام ... إلخ، ظاهرُ هذا وما بعده، وما أخرجه سابقاً من طريق مالك: أن ابن عمر كان لا يرى القراءة خلف الإمام في السرية والجهرية كليهما. لكن أخرج عبد الرزاق عن سالم أن ابن عمر كان ينصت للإمام في ما جهر فيه، ولا يقرأ معه، أخرج الطحاوي عن مجاهد قال: سمعت عبد الله بن عمر يقرأ خلف الإمام في صلاة الظهر من سورة مريم. وأخرج أيضاً عنه: صليت مع ابن عمر الظهر والعصر، وكان يقرأ خلف الإمام، وهذا دالّ صريحاً على أنه ممّن يرى القراءة في السرية دون الجهرية، ويمكن الجمع بأن كفاية قراءة الإمام لا يستلزم أن تمتنع، فيجوز أن يكون رأيه كفاية القراءة من الإمام في الجهرية والسرية كليهما، وجوازها في السرية دون الجهرية لئلا تُخلّ بالاستماع.
وهذا هو الذي أميل إليه وإلى أنه يُعمل بالقراءة في الجهرية لو وجد سكتات الإمام، وبهذا تجتمع الأخبار المرفوعة، فإن حديث: "وإذا قرأ فأنصتوا" مع قوله تعالى: {فاستمعوا له وأنصتوا} صريح في منع القراءة خلف الإمام حين قراءته لإخلاله بالاستماع، وحديث عبادة صريح في تجويز قراءة أم القرآن في الجهرية، وحديث" قراءة الإمام قراءة له" صريح في كفاية قراءة الإمام، فالأَولى أن يُختار طريق الجمع، ويُقال: تجوز القراءة خلف الإمام في السرية، وفي الجهرية إن وجد الفرصة بين السكتات، وإلا لا، لئلا يُخِلَّ بالاستماع المفروض، ومع ذلك لو لم يقرأ فيهما أجزأ لكفاية قراءة الإمام. والحقّ أن المسألة مختلَفٌ فيها بين الصحابة والتابعين، واختلاف الأئمة مأخوذ من اختلافهم، فكُلُّ اختار ما ترجّح عنده، ولكلٍّ وجهة هو مولّيها فاستبقوا الخيرات.(1/414)
116 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَسْعُودِيُّ (1) ، أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ (2) ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ سَأَلَ عَنِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الإِمَامِ، قَالَ: تَكْفِيكَ قِرَاءَةُ الإِمَامِ (3) .
117 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ
__________
(1) قوله: المسعودي نسبة إلى مسعود والد عبد الله بن مسعود، وقد اشتهر به جماعة من أولاده كما ذكره السمعاني، منهم: عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الهذلي الكوفي، روى عن أبيه وعليّ والأشعث بن قيس ومسروق، وعنه أبناه القاسم ومعاً، وسماك بن حرب، وأبو إسحاق السبيعي، وغيرهم، قال يعقوب بن شيبة: كان ثقة، قليل الحديث، مات سنة 79 هـ، ومنهم: وهو المذكور ههنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الكوفي المسعودي هكذا ذكر في نسبه في "تهذيب التهذيب" و"تذكرة الحفاظ" والذي في "التقريب"، و"الأنساب": عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، روى عن أبي إسحاق السبيعي وأبي إسحاق الشيباني والقاسم بن عبد الرحمن المسعودي وعلي بن الأقمر وعون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وغيرهم، وعنه السفيانان، وشعبة، وجعفر بن عون، وعبد الله بن المبارك، وغيرهم، وثَّقه ابن معين وابن المديني وأحمد وغيرهم، وكان قد اختلط في آخر عمره، توفي في سنة 160 هـ.
(2) قوله: أنس بن سيرين، هو أبو موسى، أنس بن سيرين الأنصاري المدني، مولى أنس أخو محمد بن سيرين، روى عن مولاه وابن عباس، وابن عمر، وجماعة، وعنه شعبة، والحمّادان، وثّقه ابن معين، والنسائي، وأبو حاتم، وابن سعد، والعِجلي، مات سنة 118 هـ، وقيل: 125 هـ، كذا في "تهذيب التهذيب".
(3) كذا أخرجه الطحاوي من طريق شعبة عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر.(1/415)
مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ (1) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ (2) ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: (3) مَنْ صَلَّى خَلْفَ الإِمَامِ
__________
(1) قوله: أبو الحسن موسى بن أبي عائشة، قال القاري في"سند الأنام شرح مسند الإمام": وهو من أكابر التابعين. انتهى. وفي "تقريب التهذيب": موسى بن أبي عائشة الهَمداني، بسكون الميم، مولاهم أبو الحسن الكوفي، ثقة عابد، وفي"الكاشف" موسى بن أبي عائشة الهَمداني الكوفي، عن سعيد بن جبير، وعبد الله بن شدّاد وعنه شعبة وجرير، وعبيدة، وكان إذا رئي ذُكرَ الله. انتهى.
(2) قوله: عن عبد الله بن شداد، هو أبو الوليد الليثي المدني عبد الله بن شداد بتشديد الدال الأولى قيل: اسمه أسامة، وشداد، ولقبه ابن الهاد، اسمه عمرو، ولقبه الهادي، وقيل: اسمه أسامة بن عمرو بن عبد الله بن جابر بن بشر، روى شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وله صحبة، ذكره ابن سعد في من شهد الخندق، وكان سكن المدينة ثم تحول إلى الكوفة وابنه عبد الله روى عن أبيه وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وخالته أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر الصديق، وخالته لأمه ميمونة أم المؤمنين، وعائشة، وأم سلمة وغيرهم، وعنه جماعة، قال العِجلي والخطيب: هو من كبار التابعين، وثقاتهم، وقال أبو زرعة والنسائي وابن سعد: ثقة. وذكر ابن عبد البر في "الاستيعاب" أنه ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الميموني: سئل أحمد هل سمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً؟ قال: لا، مات سنة 81 هـ، وقيل سنة 82 هـ، كذا في "تهذيب التهذيب".
(3) قوله: أنه قال ... إلخ، هذا الحديث قد روي عن طريق جماعة من الصحابة: فمنهم أبو سعيد الخدري. أخرج ابن عدي في" الكامل"، عن اسماعيل بن عمرو بن نجيح، عن الحسن بن صالح، عن أبي هارون العبدي عنه مرفوعاً "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة". وأعله ابن عدي بأنه لا يُتابع عليه اسماعيل، وهو ضعيف. وردَّه الزيلعي بأنه قد تابعه النضر بن عبد الله، أخرجه الطبراني في "الأوسط"، عن محمد بن إبراهيم بن عامر بن إبراهيم الأصبهاني، قال: حدثني أبي عن جدي، عن النضر بن عبد الله، عن الحسن بن صالح، به سنداً ومتناً.(1/416)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ومنهم: أنس. روى ابن حبان في "كتاب الضعفاء"، عن ابن سالم، عن أنس مرفوعاً: "من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة له". وأعلَّه بابن سالم، وقال: إنه يخالف الثقات، ولا يعجبني الرواية عنه، فكيف الاحتجاج به، وروى عنه المجاهيل والضعفاء.
ومنهم: أبو هريرة. أخرج الدارقطني في "سننه"، عن محمد، عن عبّاد الرازي، عن إسماعيل بن إبراهيم التيمي، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة نحوه مرفوعاً. قال الدارقطني: تفرد به محمد بن عباد الرازي، وهو ضعيف.
ومنهم: ابن عباس. أخرج الدارقطني، عن عاصم بن عبد العزيز المدني، عن عون بن عبد الله بن عتبة، عنه مرفوعاً: "تكفيك قراءة الإمم خافت أو جهر". قال الدارقطني: قال أبو موسى: قلت لأحمد في حديث ابن عباس هذا، فقال: حديث منكر، ثم قال الداقطني في موضع آخر: عاصم بن عبد العزيز ليس بالقوي ورفْعُه وهم.
ومنهم: ابن عمر. أخرج الدارقطني، عن محمد بن الفضل بن عطية، عن أبيه، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه مرفوعاً: "من كان له إمام فقراءته له قراءة". وأعلَّه بأن محمد بن الفضل متروك. ثم أخرجه عن خارجة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً، وقال: رفْعُه وهم. ثم أخرجه عن أحمد بن حنبل: نا إسماعيل بن علية، عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً عليه: "يكفيك قراءة الإمام"، وقال الوقف هو الصواب.
ومنهم: جابر بن عبد الله، ولحديثه طرق منها: طريق محمد، عن أبي حنيفة، عن موسى بن أبي عائشة، عن ابن شدّاد، عن جابر، وهو أحسن طرقه، حكم عليه ابن الهُمام بأنه صحيح، على شرط الشيخين، وقال العيني: هو حديث صحيح، أما أبو حنيفة فأبو حنيفة، وموسى بن أبي عائشة الكوفي من الثقات الأثبات من رجال الصحيحين، وعبد الله بن شدّاد من كبار الشاميين وثقاتهم، وهو(1/417)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
حديث صحيح. انتهى. وأخرجه الدارقطني من طريق أبي حنيفة، وعن الحسن بن عمارة بسنده، عن جابر مرفوعاً، وقال: هذا الحديث لم يسنده، عن جابر غير أبي حنيفة، وابن عمارة، وهما ضعيفان، وقدر رواه الثوري، وأبو الأحوص، وشعبة، وإسرائيل، وشريك، وأبو خالد، وابن عيينة، وجرير بن عبد الحميد، وغيرهم، عن موسى مرسلاً، وهو الصواب. انتهى. وردّه العيني بأن الزيادة من الثقة مقبولة، والمراسيل عندنا حجة، وسئل يحيى بن معين عن أبي حنيفة؟ فقال: ما سمعت أحداً ضعَّفه، فقد ظهر لنا من هذا تحامل الداقطني، وتعصبه، ومن أين له تضعيف أبي حنيفة، وهو مستحق التضعيف، وقد روى في "مسنده" أحاديث سقيمة ومعلولة، ومنكرة وموضوعة. انتهى. وقال ابن الهُمام في "فتح القدير": قولهم: الحفاظ الذين عدّوهم لم يرفعوه غير صحيح، قال أحمد بن منيع في "مسنده": نا إسحاق الأزرق، نا سفيان الأزرق، نا سفيان وشريك، عن موسى بن أبي عائشة، عن ابن شدّاد، عن جابر (قال النيموي: رجالهم كلهم ثقات فثبت متابعة الإمام أبي حنيفة باثنين، احدهما: سفيان، وثانيهما: شريك، والثقة يسند الحديث ويرسله أخرى. ولهذا الحديث طرق أخرى عند الدارقطني وغيره يشد بعضها بعضاً وإن ضعفت "آثار السنن مع التعليق الحسن" [1 - 87] ) ، قال: ونا جرير، عن موسى بن أبي عائشة مرفوعاً، ولم يذكر عن جابر ورواه عبد بن حميد، نا أبو نعيم، نا الحسن بن صالح، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعاً، فهؤلاء سفيان وشريك وجرير وابو الزبير رفعوه بالطرق الصحيحة، فبطل عدّهم في من لم يرفعه. انتهى. ومنها طريق محمد الذي ذكره بعد الطريق المذكور وهو طريق سهل بن العباس، عن ابن عُليَّة، عن أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر، وقد أخرجه الطبراني أيضاً في "الأوسط" من هذا الطريق، وقال: لم يرو أحدٌ عن ابن علية مرفوعاً إلاَّ سهل، ورواه غيره موقوفاً. وأخرجه الدارقطني، وأعلَّه بأن سهل متروك، ليس بثقة. وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" من طريق الحسن بن صالح، عن جابر الجعفي والليث بن أبي سليم، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعاً، وكذلك أخرجه ابن عدي، وأعلَّه(1/418)
فإنَّ قِرَاءَةَ الإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ (1) .
118 - قَالَ مُحَمَّدٌ: حَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ (2) ، قَالَ حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ العباس الترمذي،
__________
الدارقطني بأن الحسن قرن جابراً بالليث، والليث ضعفه أحمد والنسائي وابن معين، ولكنه مع ضعفه يُكتب حديثه، فإن الثقات رووا عنه، كشعبة والثوري وغيرهما، وأخرجه ابن ماجه من طريق جابر الجعفي عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعاً: "من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة له"، وفيه جابر الجعفي متكلَّم فيه، قد وثَّقه سفيان وشعبة ووكيع، وضعَّفه أبو حنيفة والنسائي وعبد الرحمن بن مهدي وأبو داود، وكما بسطه الذهبي في "ميزان الاعتدال". وأخرج الداقطني في "غرائب مالك" من طريق مالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر مرفوعاً نحوه، فقال: هذا باطل عن مالك، لا يصح عنه، ولا عن وهب، وفيه عاصم بن عصام لا يُعرف.
هذا خلاصة الكلام في طرق هذا الحديث، وتلخَّص منه أن بعض طرقه صحيحة أو حسنة، ليس فيه شيء يوجب القدح عند التحقيق، وبعضها صحيحة مرسلة وإن لم تصح مسندة، والمراسيل مقبولة، وبعضها ضعيفة ينجبر ضعفها بضمّ بعضها إلى بعض، وبه ظهر أن قول الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث الرافعي" أن طرقه كلها معلولة ليس على ما ينبغي، وكذا قال البخاري في رسالة "القراءة خلف الإمام" أنه حديث لم يثبت عند أخل العلم من أهل الحجاز والعراق، لإرساله، وانقطاعه، أما إرساله، فرواه عبد الله بن شدّاد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما انقطاعه فرواه الحسن بن صالح، عن جابر (الجعفي) ، عن أبي الزبير، عن جابر، ولا يُدرى أسمع من أبي الزبير أم لا؟ انتهى. ولا يخلو عن خدشات واضحة.
(1) فلا يحتاج المؤتم أن يقرأ خلف الإمام، لأن الإمام قد قام مقامه.
(2) حدثنا الشيخ أبو علي ... إلخ، رجال هذا السند من إسماعيل إلى جابر(1/419)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ثقات. أما جابر، فجابر من أجلَّة الصحابة، وقد مرَّت ترجمته غير مرة. وأما الراوي عنه على ما في نسخ هذا الكتاب الموجودة ابن الزبير، والمشهور الموجود في غير هذا الكتاب أبو الزبير وهو محمد بن مسلم بن تّدْرُس، بفتح التاء وسكون الدال على صيغة المصارع، المكي، مولى حكيم بن حزام، من تابعي مكة، سمع جابراً، وعائشة، وابن عباس، وابن عمر، وغيرهم، وعنه مالك، والسفيانان، وأيوب السختياني، وابن جريج، وشعبة، والثوري، وغيرهم، حافظ ثقة، توفي سنة 128 هـ، كذا في "جامع الأصول" و"الكاشف". وأما الراوي عنه، فهو أيوب بن أبي تميمة كيسان السختياني أبو بكر البصري، رأى أَنساً، وروى عن عطاء وعكرمة وعمرو بن دينار والقاسم بن محمد وعبد الرحمن بن القاسم وغيرهم، وعنه شعبة والحمّادان والسفيانان ومالك وابن علية وغيرهم، قال ابن سعد: كان ثقةً ثبتاً في الحديث، جامعاً، كبيرَ العلم، حجةً، عدلاً، وقال أبو حاتم: هو ثقة لا يُسأل عن مثله، وقال علي: أثبت الناس في نافع أيوب وعبيد الله ومالك، وقد أكثر الثقات في الثناء عليه كما بسطه في "تهذيب الكمال" و"تهذيب التهذيب" و"تذكرة الحفاظ"، مات سنة 131 هـ. وأما الراوي عنه، فهو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي مولاهم أبو بشر البصري، واشتهر بابن علية، وهو بضم العين وفتح اللام وتشديد الياء، مصغراً اسم أمه، وقيل: جدته أم أمه، وكان يكره أن يقال له ذلك حتى كان يقول: من قال لي: ابن علية فقد اغتابني. ورى عن عبد العزيز بن صهيب، وحُمَيْد الطويل، وأيوب وابن عون وغيرهم، وعنه شعبة، وابن جريج، وغيرهم، وثَّقه ابن سعد والنسائي وغيرهما، مات سنة 93 هـ، وله ترجمة طويلة مشتملة على ثناءٍ كبير في "تهذيب التهذيب" وغيره. وأما الراوي عن إسماعيل بن علية يعني سهل بن العباس الترمذي نسبة إلى ترمذ بكسر التاء والميم بينهما راء ساكنة أو بضم التاء أو بفتحها والأول هو المشهور، مدينه مما يلي (في الأصل: "يلي"، والصواب "مما يلي") بلخ، قاله السمعاني. فقد قال الذهبي في "ميزان الاعتدال": تركه الدارقطني، وقال: ليس بثقة، انتهى.(1/420)
قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عليَّة، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى خَلْفَ الإِمَامِ، فَإِنَّ قِرَاءَةَ الإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ.
119 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أسامة بن زيد المدني (1) ، حدثنا
__________
وأما الراوي عنه محمود بن محمد المروزي نسبة إلى مرو، بفتح الميم وسكون الراء، وألحقوا الزاء المعجمة في النسبة إليها، للفرق بينهما وبين المروي، وهو ثوب مشهور بالعراق، منسوب إلى قرية بالكوفة، كذا قال المسعاني، والراوي عنه أبو علي شيخ صاحب الكتاب، فلم أقف إلى الآن على تشخيصهما حتى يعرف توثيقهما أو تضعيفهما، ولعل الله يتفضَّل عليَّ بالاطّلاع عليه بعد ذلك (قلت: إن هذا الحديث ليس من رواية محمد بن الحسن، ولا وجود له في النسخ الصحيحة، وقد خلت منه النسخة المنقولة عن نسخة الإتقاني (المحفوطة في دار الكتب المصرية رقم ج 439) ، وإنما هو حديث كان بنسخة أبي علي الصواف فأدخل في الصلب خطأ من بعض الناسخين، وليس أبو علي هذا بشيخ المصنف، بل هو الصواف، محمد بن أحمد بن الحسن الصواف من رجال القرن الرابع، وشيخه المروزي، مترجم له في تاريخ بغداد للخطيب 13/94، ويسوق الخطيب هذا الحديث: وليس للإمام محمد بن الحسن دخل في هذا الحديث أصلاً، (بلوغ الأماني: 2/181)) .
(1) قوله: أخبرنا أسامة بن زيد المدني، قال الذهبي في "ميزان الاعتدال": أسامة بن زيد الليثي مولاهم المدني، عن طاووس، وطبقته، وعنه ابن وهب، وزيد بن الحباب، وعبيد الله بن موسى، قال أحمد: ليس بشيء، فراجعه ابنه فيه، فقال: إذا تدبَّرتَ حديثه تعرف فيه النُّكرة، وقال يحيى بن معين: ثقة، وكان يحيى القطان يضعِّفه، وقال النسائي: ليس بالقويّ، وقال ابن عدي: ليس به بأس، وروى عباس، وأحمد بن أبي مريم، عن يحيى: ثقة، زاد ابن مريم عنه: حجة، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يُحتج به، مات سنة 153 هـ. انتهى ملخَّصاً. وفي "التقريب" هو صدوق، يهم. انتهى وله ترجمة طويلة في "تهذيب التهذيب".(1/421)
سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يَقْرَأُ خَلْفَ الإِمَامِ، قَالَ: (1) فَسَأَلْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إنْ تركتَ (2) فَقَدْ تَرَكَهُ نَاسٌ (3) يُقتدى بِهِمْ، وَإِنْ قَرَأْتَ فَقَدْ قَرَأَهُ نَاسٌ يُقتدى بِهِمْ. وَكَانَ (4) الْقَاسِمُ مِمَّنْ لا يَقْرَأُ (5) .
120 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ (6) ، عَنْ مَنْصُورِ بن
__________
(1) أي: أسامة.
(2) يشير إلى سعة الأمر في ذلك، وأنه أمر مختلف فيه بين الصحابة، وكلّهم على هدى، فبأيِّهم اقتدى اهتدى.
(3) أي: من الصحابة.
(4) هو قول أسامة.
(5) قال القاري: ولكن كان يجوِّز القراءة.
(6) قوله: سفيان بن عيينة، بضم العين وفتح الياء الأولى بعد الياء الساكنة الثانية نون، مصغراً، هو الحافظ شيخ الإسلام، أبو محمد سفيان بن عيينة الهلالي الكوفي، محدِّث الحرم المكي، ولد سنة 107 هـ، وسمع من الزهري وزيد بن أسلم، ومنصور بن المعتمر وغيرهم، وعنه الأعمش وشعبة وابن جريج وابن المبارك والشافعي وأحمد ويحيى بن معين وإسحاق بن راهويه وخلق لا يُحْصَوْن، قال الذهبي في "تذكرة الحفاظ": كان إماماً، حجةً، حافظاً، واسع العلم، كبير القدر، قال الشافعي: لولا مالكٌ وسفيان لذهب علم الحجاز، وقال العِجْلي: كان ثبتاً في الحديث، وقال ابن معين: هو أثبت الناس في عمرو بن دينار، واتفقت الأئمة على الاحتجاج به، وقد حجَّ سبعين حجة، مات سنة 198 هـ. انتهى ملخصاً.(1/422)
الْمُعْتَمِرِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ (1) ، قَالَ: سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الإِمَامِ، قَالَ: أَنْصِتْ (2) ، فإنَّ فِي الصَّلاةِ شُغْلا (3) سَيْكَفِيكَ (4) ذاك (5) الإمام.
__________
(1) قوله: عن أبي وائل، هو شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي، قال الذهبي في "التذكرة": مخضرم، جليل، روى عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وعائشة وجماعة، وعنه الأعمش ومنصور وحصين، يقال: أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، قال النخعي: إني لأحسب أبا وائل ممن يُدفع عنّا به، مات سنة 82 هـ. انتهى.
(2) أي اسكت، قوله: أنصت، كذا أخرجه ابن أبي شيبة والطحاوي عنه وأخرج الطحاوي، عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن ابن مسعود قال: ليتَ الذي يقرأ خلف الإمام مُلئ فوه تراباً.
(3) شغلاً: قال القاري: بفتحتين، وبضم وسكون وقد يفتح، فيسكن، أي: اشتغالاً للبال في تلك الحال مع الملك المتعال يمنعها القيل والقال.
(4) يشير إلى حديث "قراءة الإمام قراءة له"، أي: كافية له (وأُورد عليه ما رواه البيهقي، عن أشعث بن سليم، عن عبد الله بن زياد الأسدي، قال: صليت إلى جنب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه خلف الإمام فسمعته يقرأ في الظهر والعصر، (جزء القراءة خلف الإمام، ص 64) . قلتُ: ويعارضه ما سيأتي، عن علقمة أن عبد الله بن مسعود كان لا يقرأ خلف الإمام فيما يجهر به وفيما يخافت فيه في الأوليين ولا في الأخريين، ورجاله ثقات إلى محمد بن أبان ضعفه بعضهم، ولكن احتج محمد بن الحسن بحديثه وهو إمام مجتهد واحتجاج المجتهد بحديث تصحيح له، والمشهور الثابت عن ابن مسعود أنه كان لا يقرأ خلف الإمام وينهى عنها، وعلى ذلك كان أصحابه. وما روي عنه قرأ في الظهر والعصر خلف الإمام محمول على أن الإمام كان لحّاناً، لا يقرأ بالصحة. (عمدة القاري: 3/69)) .
(5) أي: القراءة.(1/423)
121 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ الْقُرَشِيُّ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ لا يَقْرَأُ خَلْفَ الإِمَامِ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ (1) وَفِيمَا يُخَافِتُ فِيهِ (2) فِي الأُولَيَيْن، وَلا فِي الأُخْرَيَيْن، وَإِذَا صلَّى وحدَه (3) قَرَأَ فِي الأُولَيَيْن بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ، وَلَمْ يَقْرَأْ (4) فِي الأُخْرَيَيْن شَيْئًا (5) .
122 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، حدَّثنا مَنْصُورٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: أَنْصِتْ لِلْقِرَاءَةِ (6) ، فَإِنَّ فِي الصَّلاةِ شُغْلا، وَسَيَكْفِيكَ الإِمَامُ.
123 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا بُكَيْرُ بْنُ عَامِرٍ (7) ، حَدَّثَنَا إبراهيم
__________
(1) أي: في الفجر والعشاء والمغرب.
(2) أي: العصر والعصر الظهر.
(3) أي: منفرداً.
(4) قوله: ولم يقرأ، به أخذ أصحابنا، فقالوا: لا تجب قراءة في الأُخريين في الفرائض، فإن سبَّح فيهما أو قام ساكتاً أجزأه، به قال الثوري والأوزاعي وإبراهيم النخعي وسلف أهل العراق، وأما مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود فقالوا: إن القراءة فيهما بفاتحة الكتاب واجب على الإمام والمنفرد، كذا ذكره ابن عبد البر، وسيجيء تفصيله إن شاء الله تعالى في موضعه.
(5) أي: من القرآن.
(6) أي: لاستماع قراءة الإمام.
(7) قوله: أخبرنا بكير بن عامر، هو أبو إسماعيل بكير، مصغراً، بن عامر البجلي الكوفي، مختلف فيه، روى عن قيس بن أبي حازم وأبي زرعة بن(1/424)
النَّخَعِيُّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنَ قَيْسٍ، قَالَ: لأَنْ أَعُضَّ (1) عَلَى جَمْرَةٍ أَحَبُّ إِلَى مِنْ أَنْ أَقْرَأَ خَلْفَ الإِمَامِ.
124 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ بن يونس (2) ، حدثنا منصور (3) ،
__________
عمرو بن جرير، وغيرهما، وعنه الثوري ووكيع وغيرهما، قال أحمد مرة: صالح الحديث ليس به بأس، ومرة: ليس القوي (في نسخة: ليس بقوي) ، وضعَّفه النسائي، وأبو زرعة، وابن معين، وقال ابن عدي: ليس كثير الرواية وروايته قليلة، ولم أجد له متناً منكراً، وهو ممن يُكتب حديثه، وقال ابن سعد والحاكم: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات" كذا في "تهذيب التهذيت".
(1) قوله: لأن أعضّ على جمرة، الجمرة بالفتح قطعة النار، والعضّ بافتح أصله عضض الإمساك بالأسنان والفم، يقال: عضّ بالنواجذ، أي: أمسك بجميع الفم والأسنان، كذا في "النهاية" وغيره. والمعنى عضّي بفمي وأسناني قطعة من نار مع كونه مؤلماً ومحرقاً أحبّ إليّ من القراءة خلف الإمام. وهذا تشديد بليغ على القراءة خلف الإمام، ولا بد أن يُحمل على القراءة المشوِّشة لقراءة الإمام والقراءة المفوِّتة لاستماعها، وإلاَّ فهو مردود، مخالف لأقوال جمع من الصحابة والأخبار المرفوعة من تجويز الفاتحة خلف الإمام.
(2) قوله: إسرائيل بن يونس، هو أبو يوسف إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الهمداني الكوفي، روى عن جده، وقد مرَّ ذكره سابقاً، وزياد بن علاقة وعاصم الأحوال وغيرهم، وعنه عبد الرزاق ووكيع وجماعة، قال أحمد: كان شيخاً ثقة، وقال أبو حاتم: ثقة صدوق، ووثقه العجلي ويعقوب بن شيبة وأبو داود والنسائي وغيرهم، مات سنة 162 هـ أو سنة 165 هـ أو سنة 161 هـ على اختلاف الأقوال، كذا في "تهذيب التهذيب"
(3) هو منصور بن المعتمر.(1/425)
عَنْ إِبْرَاهِيمَ (1) قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ (2) مَنْ قَرَأَ خَلْفَ الإِمَامِ رَجُلٌ اتُّهم (3) .
125 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ (4) قَالَ: أمَّ (5)
__________
(1) هو إبراهيم بن يزيد النخعي.
(2) يشير إلى أن القراءة خلف الإمام بدعة محدثة، وفيه ما فيه.
(3) قوله: رجل اتّهم، قال القاري: بصيغة المجهول، أي: نسب إلى بدعة أو سمعة، وقد أخرج عبد الرزاق، عن علي، قال: من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة، ذكره ابن الهمام.
(4) في نسخة: الهادي بالياء، وهما لغتان، كالعاص والعاصي (قال العلامة محمد طاهر الفتني: يقول المحدثون بحذف الياء، والمختار في العربية إثباته. المغني (ص 83)) .
(5) قوله: قال أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ... إلخ، هكذا وجدنا في نسخ الموطَّأ مرسلاً، وهو الأصح، وأخرجه في "كتاب الآثار"، عن أبي حنيفة، نا أبو الحسن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شدّاد، عن جابر بن عبد الله قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل خلفه يقرأ، فجعل رجل من أصحاب رسول الله ينهاه عن القراءة في الصلاة، فقال: أتنهاني عن الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنازعا حتى سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من صلّى خلف الإمام، فإن قراءة الإمام قراءة له. وأخرجه الدارقطني من طريق أبي حنيفة، وقال: زاد فيه أبو حنيفة، عن جابر بن عبد الله، وقد رواه جرير والسفيانان وأبو الأحوص وشعبة وزائدة وزهير وأبو عوانة وابن أبي ليلى وقيس وشريك وغيرهم، فأرسلوه، ورواه الحسن بن عُمارة كما رواه أبو حنيفة: وهو يضعَّف. انتهى. وفي "فتح القدير" بعد ذكر رواية أبي حنيفة: هذا يفيد أن أصل الحديث هذا، غير أن جابراً روى منه محل الحكم تارةً، والمجموع(1/426)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
تارةً، ويتضمَّن ردّ القراءة خلف الإمام، لأنه خرج تأييداً لنهي ذلك، خصوصاً في رواية أبي حنيفة أن القصة كانت في الظهر والعصر، فيعارض ما رُوي في بعض روايات حديث. ما لي أنازَع القرآن؟ قال: إن كان لا بد فبالفاتحة. وكذا ما رواه أبو داود والترمذي، عن عبادة: "ولا تفعلوا إلاَّ بفاتحة الكتاب"، يقدَّم لتقدّم المنع على الإطلاق عند التعارض، ولقوة السند، فإن حديث: "من كان له إمام" أصح، فبطل رد المتعصبين وتضعيف بعضهم لمثل أبي حنيفة مع تضعيفه في الرواية إلى الغاية حتى إنه شرط التذكُّر لجواز الرواية بعد علمه أنه خطه، ولم يشترط الحفاظ هذا، ثم قد عُضِّد بطرق كثيرة، عن جابر غير هذه، وإن ضُعِّفت، وبمذاهب الصحابة حتى قال المصنف: إن عليه إجماع الصحابة. انتهى. وفيه نظر، وهو أنه لم يَرِد في حديث مرفوع صحيح النهي عن قراءة الفاتحة خلف الإمام، وكل ما ذكروه مرفوعاً فيه إما لا أصل له، وإما لا يصح.
كحديث: "من قرأ خلف الإمام مُلئ فوه ناراً"، أخرجه ابن حبان في "كتاب الضعفاء" واتُّهم به مأمون بن أحمد أحد الكذَّابين، وذكره ابن حجر في "تخريج أحاديث الهداية"، وكحديث: "من قرأ خلف الإمام ففي فِيه جمرة"، ذكره صاحب "النهاية" وغيره مرفوعاً ولا أصل له.
وكحديث عمران بن حصين: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، ورجل يقرأ خلفه، فلما فرغ، قال: من ذا الذي يُخالجني سورة كذا؟ فنهاهم عن القراءة خلف الإمام، أخرجه الدارقطني وأعلَّه بأنه لم يقل هكذا غير حجَّاج بن أرطاة عن قتادة، وخالفه أصحاب قتادة، منهم: شعبة وسعيد وغيرهما، فلم يذكروا فيه النهي، وحجاج لا يُحتج به. انتهى. وقال البيهقي في كتاب "المعرفة": قد رواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة، عن قتادة، عن زرارة، عن عمران: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى بأصحابه الظهر، فقال: أيّكم قرأ بسبِّح اسم ربك الأعلى؟ فقال رجل: أنا، فقال: قد عرفتُ أن رجلاً خالجَنيها، قال شعبة: فقلت لقتادة: كأنه كرهه، فقال: لو كرهه لنهى عنه. ففي سؤال شعبة وجواب قتادة في هذا الرواية الصحيحة يُكذَّب(1/427)
رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصر (1) ،
__________
من قَلَبَ الحديث، وزاد فيه، فنهى عن القراءة خلف الإمام. انتهى.
وكحديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى بأصحابه، فلما قضى صلاته أقبل عليهم بوجهه، فقال: أتقرؤون خلف إمامكم والإمام يقرأ؟ فسكتوا، فقالها ثلاث مرات، فقالوا: إنا لنفعل ذلك، فقال: لا تفعلوا، فإنه ... رواه ابن حبان في "صحيحه" وزاد في آخره: "وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه"، فعُلم أن رواية الطحاوي مختصرة، والحديث يفسِّر بعضه بعضاً، فظهر أنه لا يوجد معارض لأحاديث تجويز القراءة خلف الإمام مرفوعاً. فإن قلتَ: هو حديث "وإذا قرأ فأنصتوا"، قلتُ: هو لا يدل إلاَّ على عدم جواز القراءة مع قراءة الإمام في الجهرية، ولا على امتناع القراءة في السرية أو في الجهرية عند سكتات الإمام. فإن قلتَ: هو حديث من كان له إمام قلت: هو لا يدل على المنع بل على الكفاية فإن قلت: هو آثار الصحابة، قلتُ: بعضها لا تدل إلاَّ على الكفاية وبعضها لا تدل إلاَّ على المنع في الجهرية عند قراءة الإمام، فلا تعارض بها، وإنما يعارض بما كان منها دالاً على المنع مطلقاً، وهو أيضاً ليس بصالح لذلك، لأن المعارضة شرطها تساوي الحجتين في القوة، وأثر الصحابي ليس بمساوٍ في القوة لأثر النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان سند كل منهما صحيحاً. وبالجملة لا يظهر لأحاديث تجويز القراءة خلف الإمام معارض يساويها في الدرجة، ويدل على المنع حتى يُقَدَّم المنع على الإباحة. وأما ما ذكره صاحب "الهداية" في إجماع الصحابة على المنع فليس بصحيح لكون المسألة مختلَفاً فيها بين الصحابة، فمنهم من كان يجِّوز القراءة مطلقاً، ومنهم من كان يجوِّز في السرية، ومنهم من كان لا يقرأ مطلقاً، كما مرَّ سابقاً، فأين الإجماع؟! فتأمل لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً.
(1) هذا صريح في أن كفاية قراءة الإمام ليس مختصاً بالجهرية، بل هو كذلك في السرية.(1/428)
قَالَ: فَقَرَأَ رَجُلٌ (1) خَلْفَهُ فَغَمَزَهُ (2) الَّذِي يَلِيهِ، فَلَمَّا أَنْ صَلَّى قَالَ: لِمَ غَمَزْتَنِي؟ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُدّامَك (3) ، فَكَرِهْتُ أَنْ تَقْرَأَ خَلْفَهُ، فَسَمِعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قال (4) : من كان لَهُ إِمَامٌ فَإِنَّ قِرَاءَتَهُ لَهُ قِرَاءَةٌ.
126 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ الْفَرَّاءِ (5) الْمَدَنِيُّ (6) ، أَخْبَرَنِي بَعْضُ (7) وُلْد سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أنه (8) ذكر له أن سعداً قال:
__________
(1) في بعض رواياته أنه قرأ: {سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} كما بسطها السيد مرتضى الزبيدي في "الجواهر المنيفة في أدلة أبي حنيفة".
(2) أي: أشار بإصبعه أن اسكت.
(3) قوله: قُدّامك، بضم القاف، وتشديد الدال المهملة، أي: أمامك، كذا نقله بعضهم عن ضبط خطّ القاري، ويجوز أن يكون "قد" حرفَ تحقيق و"أمَّك" ماضٍ مع كاف الخطاب.
(4) في نسخة: فقال.
(5) قوله: أخبرنا داود بن قيس الفرّاء، بفتح الفاء وتشديد الراء، نسبة إلى بيع الفرو وخياطته، ذكره السمعاني، وهو أبو سليمان داود بن قيس الفرّاء الدبّاغ المدني، روى عن السائب بن يزيد وزيد بن أسلم ونافع مولى ابن عمر ونافع بن جبير بن مطعم وغيرهم، وعنه السفيانان وابن المبارك ويحيى القطّان ووكيع وغيرهم، وثَّقه الشافعي وأحمد وابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والساجي وابن المديني وغيرهم. ذكر عباراتهم صاحب "التهذيب" و"تهذيبه"، وكانت وفاته في ولاية أبي جعفر.
(6) في نسخة المديني.
(7) قوله: بعضُ وُلْد، بضم الواو وسكون اللام، أي: أولاده، ولم يعرف اسمه، قال ابن عبد البر في "الاستذكار": هذا حديث منقطع لا يصح. انتهى.
(8) ضمير الشأن أو هو يرجع إلى بعض ولد سعد كضمير (ذكر) ، وضمير (له) راجع إلى داود.(1/429)
وَدِدْتُ (1) أنَّ الَّذِي يَقْرَأُ خَلْفَ الإِمَامِ فِي فِيه (2) جمرةٌ.
127 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ الْفَرَّاءُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلانَ (3) : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ (4) : لَيْتَ فِي فَمِ الذي
__________
(1) أي: أحببت.
(2) قوله: في فِيه جمرة، قال البخاري في رسالته "القراءة خلف الإمام" بعدما ذكر هذا الأثر وأثر عبد الله بن مسعود: وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام مُلئ فوه نَتِناً: هذا كله ليس من كلام أهل العلم لوجهين: أحدهما: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تلاعنوا بلَعنة الله ولا بالنار، ولا تعذِّبوا بعذاب الله". فكيف يجوز لأحد أن يقول في الذي يقرأ خلف الإمام: في فمه جمرة، والجمرة من عذاب الله؟ والثاني: أنه لا يحِلّ لأحد أنْ يتمنّى أن تُملأ أفواه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل عمر، وأبيّ بن كعب، وحذيفة، وعلي، وأبي هريرة، وعائشة، وعبادة بن الصامت، وأبي سعيد، وعبد الله بن عمر في جماعة آخرين ممن رُوي عنهم القراءة خلف الإمام رضفاً ولا نتناً ولا تراباً. انتهى. وفيه أنه لا بأس بأمثال هذا الكلام للتهديد والتشديد، والتعذيب بعذاب الله ممنوع، لا التهديد به، فالأوْلَى أن يُتكلَّم في أسانيد هذه الآثار الدالة على أمثال هذه التشديدات، فإن صحَّت تُحمل على القراءة مع قراءة الإمام الذي يوجب ترك امتثال قوله تعالى: {وإذا قُرِئ القرآنُ فَاستَمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا} (سورة الأعراف: رقم الآية 204) وحديث: "وإذا قرأ فأنصتوا" (أخرجه مسلم في التشهد، رقم الحديث 404) لئلا يحصل التخالف بين الآثار والأخبار.
(3) قوله: محمد بن عجلان، قال الذهبي في "الكاشف": محمد بن عجلان المدني الفقيه الصالح، عن أبيه وأنس وخَلْق، وعنه شعبة ومالك والقطان وخلق، وثقه أحمد وابن معين، وقال غيرهما: سيِّئ الحفظ، توفي سنة 143 هـ. انتهى.
(4) قوله: قال، يخالفه ما أخرجه الطحاوي، عن يزيد بن شريك أنه قال:(1/430)
يَقْرَأُ خَلْفَ الإِمَامِ حَجَرًا.
128 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ قَيْسٍ (1) ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، يحدِّثه عَنْ جدِّه أنه قال (2) :
__________
سألت عمر بن الخطاب عن القراءة خلف الإمام، فقال لي: اقرأ، فقلت: وإن كنتُ خلفك؟ فقال: وإن كنتَ خلفي؟ فقلتُ: وإن قرأت، قال: وإن قرأت.
(1) قوله: أخبرنا داود بن سعد بن قيس، هكذا في بعض النسخ المصحَّحة، وفي بعض النسخ المصححة داود بن قيس، ولعله داود بن قيس الفرّاء المدني الذي مرَّ ذكره: حدثنا عَمرو بن محمد بن زيد هكذا في بعض النسخ، وفي بعض النسخ الصحيحة عُمر بن محمد بن زيد، بضم العين، بدون الواو، وهو عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي المدني، نزيل عسقلان، روى عن أبيه وجَدَّه زيد وعمَ أبه سالم وزيد بن أسلم ونافع وغيرهم، وعن شعبة ومالك والسفيانان وابن المبارك، قال ابن سعد: كان ثقة، قليل الحديث، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: شيخ ثقة، ليس به بأس، وقال حنبل، عن أحمد: ثقة، وكذا قال ابن معين والعِجلي وأبو داود وأبو حاتم، كان أكثر مقامه بالشام، ثم قدم بغداد، ثم قدم الكوفة، فأخذوا عنه، مات بعد أخيه أبي بكر، ومات أبو بكر بعد خروج محمد بن عبد الله بن حسن، وكان خروجه سنة 145 هـ، كذا في "تهذيب التهذيب"، عن موسى بن سعد بن زيد بن ثابت. قال الذهبي في "الكاشف": موسى بن سعد أو سعيد عن سالم، وربيعة الرأي وعنه عمر بن محمد، وُثِّق. انتهى. وفي "التقريب": موسى بن سعد أو سعيد بن زيد بن ثابت الأنصاري المدني، مقبول.
يحدّثه، أي: يحدِّث موسى عمر بن محمد، عن جده زيد بن ثابت الصحابي الجليل كاتب الوحي والتنزيل.
(2) قوله: أنه قال، ذكره البخاري في رسالة "القراءة"، وقال: لا يُعرف لهذا(1/431)
مَنْ قَرَأَ (1) خَلْفَ الإِمَامِ فَلا صَلاةَ لَهُ.
35 - (باب الرجل يُسبَق (2) ببعض الصلاة)
129 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ الصَّلاةِ مَعَ الإِمَامِ الَّتِي يُعلن (3) فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَإِذَا سلَّم (4) قَامَ ابْنُ عُمَرَ، فَقَرَأَ لِنَفْسِهِ فِيمَا (5) يَقْضِي.
قال محمد: وبهذا نأخذ، لأنه (6)
__________
الإسناد سماع بعضهم عن بعض ولا يصح مثله. انتهى. وقال ابن عبد البر: قول زيد بن ثابت: "من قرأ خلف الإمام فصلاته تامة ولا إعادة" يدل على فساد ما رُوي عنه. انتهى (وقد أجاب عن هذين الإيرادين على أثر زيد بن ثابت الشيخ محمد حسن السنبلي في كتابه: "تنسيق النظام في سند الإمام"، ص 86، فارجع إليه) .
(1) كأنه محمول على القراءة المُخِلَّة بالاستماع، والنفي محمول على نفي الكمال.
(2) بصيغة المجهول، أي: يصير مسبوقاً بأن يفوته أول صلاة الإمام.
(3) بصيغة المعلوم، أي: يجهر فيها الإمام، أو المجهول. وهو قيد واقعي، لا احترازي.
(4) أي: الإمام.
(5) أي: فيما يؤدّي من بقية صلاته.
(6) قوله: لأنه يقضي أول صلاته، وبه قال الثوري والحسن بن حيّ ومالك على رواية، وهو المرويّ، عن عمر وعليّ وأبي الدرداء وابن عمر ومجاهد وابن سيرين، وخالفهم الشافعي وأحمد وداود والأوزاعي ومالك في المشهور عنه، وسعيد بن المسيب وعمر (في الأصل: "عمرو"، وهو تحريف) بن عبد العزيز ومكحول عطاء والزهري، فقالوا:(1/432)
يَقْضِي أَوَّلَ صَلاتِهِ (1) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رحمه الله -.
130 - أخبرنا مالك، أخبرنا نافع، عن ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَاءَ إِلَى الصَّلاةِ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ رَفَعُوا (2) مِنْ رَكْعَتِهِمْ (3) سَجَدَ مَعَهُمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: بِهَذَا نَأْخُذُ، وَيَسْجُدُ معهم (4) ولا يَعتدّ بها (5) وهو
__________
المسبوق يقضي آخر صلاته، كذا في "الاستذكار" (2/95 وبسط الشيخ في "أوجز المسالك" 2/13: اختلاف العلماء في صلاة المسبوق) .
(1) أي: في حق القراءة، وفي حق التشهد هو آخر صلاته.
(2) أي: رؤوسهم.
(3) أي: من ركوعهم.
(4) قوله: ويسجد معهم ... إلخ، لحديث أبي هريرة مرفوعاً: "إذا جئتم ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدّوها شيئاً". أخرجه أبو داود وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، وزاد: ومن أدرك الركعة فقد أرك الصلاة. وأخرج الترمذي من حديث على ومعاذ بن جبل مرفوعاً: إذا أتى أحدكم الصلاة، والإمام على حال، فليصنع كما يصنع الإمام". وفيه ضعف، وانقطاع ذكره ابن حجر في "تخريج أحاديث الرافعي"، وأخرج أبو داود وأحمد من حديث ابن ليلى، عن معاذ، قال: أُحيلت الصلاة ثلاثة أحوال: ... الحديث، وفيه قال معاذ: لا أجده على حال أبداً إلا كنتُ عليها ثم قضيت ما سبقني، فجاء وقد سبقه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ببعضها، فقال: قمت معه، فلما قضى صلاته قام معاذ يقضي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد سنَّ لكم معاذ، فهكذا فاصنعوا".
(5) أي: لا يُعتبر بها في وجدان تلك الركعة.(1/433)
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رحمه الله -.
131 - أخبرنا مالك، أخبرنا نافع، عن ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا وَجَدَ الإِمَامَ قَدْ صَلَّى بَعْضَ الصَّلاةِ صَلَّى (1) مَعَهُ مَا أَدْرَكَ مِنَ الصَّلاةِ، إِنْ كَانَ قَائِمًا قَامَ، وَإِنْ كَانَ قَاعِدًا قَعَدَ حَتَّى يَقْضِي الإِمَامُ صَلاتَهُ، لا يُخَالِفُ (2) فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّلاةِ (3) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
132 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ (4) ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ (5) (*) ، ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (6) ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أردك (7)
__________
(1) لإدراك زيادة الفضيلة.
(2) أي: الإمام.
(3) لحديث: "إنما جُعلَ الإمامُ ليؤتمّ به".
(4) الزهري.
(5) قوله: أبي سلمة، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، وقيل: اسمه كنيته، ثقة، فقيه، كثير الحديث، وُلد سنة بضع وعشرين ومائة، ومات سنة أربع وتسعين، أو أربع ومائة، كذا قال الزرقاني.
(*) في نسخة: عن أبي سلمة بن سلمة بن عبد الرحمن، وهو تحريف. وفي "تهذيب التهذيب" 12/115: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، قيل: اسمه عبد الله، وقيل إسماعيل، وقيل اسمه كنيته.
(6) وهو: ابن عوف الزهري المدني.
(7) قوله: من أدرك ... إلخ، هكذا هذا الحديث في "الموطأ" عند جماعة الرواة، وروى عبيد الله بن عبد المجيد أبو علي الحنفي، عن مالك، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الفضل". وهذا لا أعلم أحداً قاله عن مالك غيره، وقد رواه عمّار بن مطر،(1/434)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
عن مالك، عن الزهري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة ووقتها"، وهذا أيضاً لم يقله عن مالك غيره، وهو مجهول لا يحتجّ به، والصواب، عن مالك ما في "الموطأ" وكذلك رواه جماعة من رواة ابن شهاب كما رواه مالك إلا ما رواه نافع بن يزيد، عن يزيد، عن عبد الوهاب بن أبي بكر، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة وفضلها:، وهذ أيضاً لم يقله أحد عن ابن شهاب غير عبد الوهاب.
وقد اختلف الفقهاء في معنى الحديث.
فقالت طائفة منهم: أراد أنه أدرك وقتها، حكى ذلك أبو عبد الله أحمد بن محمد الداوودي، عن داود بن علي وأصحابه، قال أبو عمر (في الأصل: "أبو عمرو"، والظاهر: "أبو عمر") : هؤلاء قوم جعلوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" في معنى قوله: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح"، وليس كما ظنوا، لأنهما حديثان، فكل واحد منهما بمعنى.
وقال آخرون: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك فضل الجماعة، وأصّلوا من أصولهم على ذلك أنه لا يعيد في جماعة من أدرك ركعة من الصلاة الجمعة.
وقال آخرون: معنى الحديث أن مدرك ركعة من الصلاة مدرك لحكمها كلِّه، وهو كمن أدرك جميعها من سهو الإمام وسجوده وغير ذلك، كذا في "الاستذكار"، وقال: الحافظ مُغلطاي (في الأصل "مغلطائي") : إذا حملناه على إدراك فضل الجماعة، فهل يكون ذلك مضاعفاً كما يكون لمن حضرها من أولها أو يكون غير مضاعف قولان؟ وإلى التضعيف ذهب أبو هريرة وغيره من السلف، وقال القاضي عياض: يدل على أن المراد فضل الجماعة ما في رواية ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، من زيادة قوله: "مع الإمام" وقال ابن ملك في "مبارق الأزهار شرح مشارق الأنوار": قوله: "(1/435)
مِنَ الصَّلاةِ (1) رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاةَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رحمه الله -.
133 - أخبرنا مالك، أخبرنا نافع، عن ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا فَاتَتْكَ الركعة (2) فاتتك السجدة (3) .
__________
فقد أدرك الصلاة" محتاج إلى تأويل، لأن مدرك ركعة لا يكون مدركاً لكل الصلاة إجماعاً، ففيه إضمارٌ تقديره: فقد أدرك وجوب الصلاة، يعني من لم يكن أهلاً للصلاة، ثم صار أهلاً، وقد بقي من وقت الصلاة قدر ركعة لزمته تلك الصلاة، وكذا لو أدرك وقت تحريمة، فتقييده بالركعة على الغالب. وقيل: تقديره: فقد أدرك فضيلة الصلاة، يعني من كان مسبوقاً، وأدرك ركعة مع الإمام فقد أدرك فضل الجماعة. وقيل: معنى الركعة، ههنا الركوع ومعنى الصلاة الركعة يعني من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك تلك الركعة. انتهى.
(1) أي: مع الإمام.
(2) قوله: فاتتك: الركعة، يشير إلى أنه إذا لم تفت (في الأصل: "لم يفت"، وهو تحريف) الركعة لم تفت (في الأصل: "لم يفت"، وهو تحريف) السجدة، ويؤيده ما أخرجه مالك أنه بلغه أن ابن عمر وزيد بن ثابت كانا يقولان: من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة، وبلغه أيضاً أن أبا هريرة كان يقول: من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة، ومن فاته قراءة أم القرآن فقد فاته خير كثير. ويخالفه ما أخرجه البخاري في رسالة "القراءة خلف الإمام"، عن أبي هريرة أنه قال: إذا أدركتَ القوم وهم ركوع لم يُعتدّ بتلك الركعة، ذكره ابن حجر في "تخريج أحاديث الرافعي" وقال ابن عبد البر (في الأصل: "ابن البر"، وهو خطأ) : هذا قول لا نعلم أحداً من فقهاء الأمصار قال به، وفي إسناده نظر. انتهى. وقد فصّلت المسألة في "إمام الكلام في ما يتعلق بالقراءة خلف الإمام".
(3) قوله: فاتتك السجدة، معنى إدراك الركعة أن يركع المأموم قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع، وروى عن جماعة من التابعين أنهم قالوا: إذا أحرم والناس في ركوع أجزأه، وإن لم يدرك الركوع، وبهذا قال ابن أبي ليلى والليث بن سعد وزفر بن الهذيل، وقال الشعبي: إذا انتهيت إلى الصف المؤخر ولم يرفعوا رؤوسهم وقد رفع الإمام رأسه، فركعت فقد أدركت. وقال جمهور الفقهاء: من أدرك الإمام راكعاً، فكبّر وركع، وأمكن يديه من ركبتيه قبل أن يرفع(1/436)
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ سَجَدَ السَّجْدَتَيْنِ مَعَ الإِمَامِ لا يُعتدّ بِهِمَا (1) ، فَإِذَا سلَّم الإِمَامُ قَضَى رَكْعَةً تَامَةً بِسَجْدَتَيْهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
36 - (بَابُ الرَّجُلِ (2) يَقْرَأُ السُّورَ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْفَرِيضَةِ)
134 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا صلى وحده (3)
__________
الإمام رأسه فقد أدرك الركعة، ومن لم يدرك ذلك فقد فاتته الركعة، ومن فاتته الركعة فقد فاتته السجدة، أي: لا يُعتد بها، ويسجدها، هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والثوري والأَوزعي وأبي ثور وأحمد وإسحاق، وروي ذلك عن علي وابن مسعود وزيد وابن عمر، وقد ذكرت الأسانيد عنهم في "التمهيد"، كذا في "الاستذكار".
(1) أي: لا يُعتبر بهما في وجدان الركعة.
(2) قوله: باب الرجل، الظاهر أنه مجرور لإضافة الباب إليه، و"يقرأ" إما حال منه أو صفة، لكون اللام الداخلة على الرجل للعهد الذهبي، فيكون في حكم النكرة أي: باب حكم الرجل الذي يقرأ، أو حال كونه يقرأ. واختار القاريّ أنه مرفوع "يقرأ" خبره والباب مضاف إلى الجملة.
(3) أي منفرداً.(1/437)
يَقْرَأُ فِي الأَرْبَعِ (1) جَمِيعًا مِنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَسُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَكَانَ أَحْيَانًا يَقْرَأُ (2) بِالسُّورَتَيْنِ أَوِ الثَّلاثِ (3) فِي صَلاةِ الْفَرِيضَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ وَيَقْرَأُ في الركعتين
__________
(1) من ركعات الصلاة (يحتمل أن يفعل ذلك عبد الله بن عمر إذا صلّى وحده حرصاً على التطويل في الصلاة إن كانت فريضة، ويحتمل أن يكون نافلة غير أن لفظ الأربع ركعات في الفريضة أظهر. 1 هـ. "المنتقى للباجي" 1/146 ... قلت: الظاهر كونها فريضة، والأوجه أن يقال: إن هذا مذهب ابن عمر رضي الله عنهما، وهو مجتهد، قال الزرقاني 1/165: هذا لم يوافقه مالك ولا الجمهور بل كرهوا قراءة شيء بعد الفاتحة في الأخريين وثالثة المغرب) .
(2) بجوازه قال الأئمة الأربعة.
(3) قوله: بالسورتين أو الثلاث، قد يعارَض بما أخرجه الطحاوي أنه قال رجل لابن عمر: إني قرأت المفصل في ركعة أو قال في ليلة، فقال ابن عمر: إن الله لو شاء لأنزله جملة، ولكن فصله لُتعطى كل سورة حظها من الركوع والسجود. ويُجاب بأن فعلَه لبيان الجواز، وقوله لبيان السنية والزجر عن الاستعجال في القراءة مع فوات التدبر والتفكر فلا منافاة، ومما يؤيد جواز القرآن في السور في ركعة ما أخرجه الطحاوي، عن نهيك بن سنان أنه أتى عبد الله بن شقيق إلى ابن مسعود، فقال: إني قرأت المفصل الليلة في ركعة، فقال ابن مسعود: هذا كهذّ الشعر، إنما فُصِّل ليفصلوا، لقد علمنا النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن: عشرين سورة، النجم والرحمن في ركعة، وذكر الدخان وعمّ يتساءلون في ركعة. فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يجمع أحياناً، وقد ثبت ذلك بروايات متعددة في كتب مشهورة وأما قول ابن مسعود: إنما فُصّل ليفصلوه، فقال الطحاوي: إنه لم يذكره، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يُحتمل أن يكون ذلك من رأيه، فقد خالفه في ذلك(1/438)
الأُولَيَيْنِ مِنَ الْمَغْرِبِ، كَذَلِكَ (1) بِأُمِّ الْقُرْآنِ وسورةٍ سورة.
قال محمد: السنَّة (2)
__________
عثمان لأنه كان يختم القرآن في ركعة (وفي "المغني" لا بأس بالجمع بين السور في الصلاة النافلة، وأما الفريضة فالمستحب أن يقتصر على سورة مع الفاتحة من غير زيادة عليها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا كان يصلي أكثر صلاته. وإن جمع بين السورتين ففيه روايتان: إحداهما يُكره، والثانية لا يكره. أنظر: أوجز المسالك: 2/72.) . ثم أخرج عن ابن سيرين قال: كان تميم الداري يُحيي الليل كلّه بالقرآن كله في ركعة. وأخرج، عن مسروق قال: قال لي رجل من أهل مكة هذا مقام أخيك تميم الداري، فقد رأيته قام ليلة حتى أصبح، وكان يصبح بقراءة آية يركع فيها، ويسجد، ويبكي {أَم حَسِبَ الَّذينَ اجتَرَحُوا السَّيِّئاتِ} (الجاثية: 41) . وأخرج ابن سعيد أن عبد الله بن الزبير قرأ القرآن في ركعة، وأخرج نافع، عن ابن عمر أنه كان يجمع بي السورتين في الركعة الواحدة من صلاة المغرب. وأخرج عنه أيضاً أن ابن عمر كان يجمع بين السورتين والثلاث في ركعة، وكان يقسم السورة الطويلة في الركعتين من المكتوبة.
وبهذا يظهر أنه لا بأس بقراءة القرآن كلَّه في ركعة واحدة أيضاً، بشرط أن يُعطي حَظه من التدبر، ولقد قفَّ شعري مما قال بعض علماء عصرنا إنه بدعة ضلالة، لأنه لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ألَّفت في ردِّه رسالة شافية سمَّيتها "إقامة الحجة على أن الإكثار في التعبد ليس ببدعة" فلتُطالع.
(1) بيان للتشبيه.
(2) قوله: السنَّة، السُّنِّيَّة راجعة إلى توحُّد السورة بعد الفاتحة في الأوليين، والاكتفاء بالفاتحة في الأُخريين، وأما نفس قراءة الفاتحة وسورة أو قدرها في الأوليين فواجب عندنا.(1/439)
أَنْ تَقْرَأَ (1) فِي الْفَرِيضَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ (2) وَسُورَةٍ، وَفِي الأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وإن لم تقرأ فيهما (3) أجزأك (4)
__________
(1) قوله: أن تقرأ ... إلخ، هذا هو غالب ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه الستة إلاَّ الترمذي، عن أبي قتادة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورتين، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب. وأخرج الطبراني في معجمه، عن جاب بن عبد الله، قال: سنَّة القراءة في الصلاة أن يقرأ في الأوليين بأم القرآن وسورة، وفي الأخريين بأم القرآن. وأخرج الطحاوي، عن أبي العالية، قال: أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لكل ركعة سورة. وروى الطبراني من حديث عائشة وإسحاق بن راهويه، من حديث رفاعة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة وفي الأخريين بفاتحة الكتاب.
(2) قوله: بفاتحة الكتاب، ولو زاد على ذلك في الأخريين لا بأس به، لما ثبت في صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمسة عشر آية. وأغرب بعض أصحابنا حيث حكموا على وجوب سجود السهو بقراءة سورة في الأخريين، وقد ردَّه شراح "المنية" - إبراهيم الحلبي وابن أمير حاج الحلبي وغيرهما - بأحسن ردّ ولا أشكُّ في أن من قال بذلك لم يبلغه الحديث، ولو بلغه لم يتفوَّه به.
(3) أي في الأخريين.
(4) قوله: أجزاك، لما مرَّ من رواية ابن مسعود أنه كان لا يقرأ في الأخريين شيئاً، وأخرج ابن أبي شيبة، عن عليّ وابن مسعود أنهما قالا: اقْرَأْ في الأولّيَيْن وسبِّح في الأُخريين. وفي "حلية المجلّي (في الأصل: "حلية المحلي"، وهو تحريف) شرح منية المصلّي": هذا التخيير أي: بين القراءة والتسبيح والسكوت مرويّ، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة ذكره في "التحفة" و"البدائع" وغيرهما، وزاد في "البدائع": هذا جواب ظاهر الرواية وهو(1/440)
وَإِنْ سبَّحت فِيهِمَا أَجْزَأَكَ (1) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
37 - (بَابُ الْجَهْرِ فِي الْقِرَاءَةِ في الصلاة وما يُسْتحبُّ (2) من ذلك)
__________
قول أبي يوسف ومحمد. وهذا يفيد أنه لا حرج في ترك القراءة والتسبيح عامداً، ولا سجود سهو عليه في تركهما ساهياً، وقد نصَّ قاضيخان في "فتاواه" على أن أبا يوسف روى ذلك، عن أبي حنيفة، ثم قال قاضيخان: وعليه الاعتماد، وفي "الذخيرة": هذا هو الصحيح من الروايات، لكن في "محيط رضي الدين السرخسي" وفي "ظاهر الرواية": أن القراءة سنَّة في الأخريين، ولو سبَّح فيهما ولم يقرأ لم يكن مسيئاً لأن القراءة فيهما شُرعب على سبيل الذكر والثناء وإن سكت فيهما عمداً يكون مسيئاً لأنه ترك السنَّة. وروى الحسن، عن أبي حنيفة أنها فيهما واجبة حتى لو تركها ساهياً يلزمه سجود السهو، ثم في "البدائع": الصحيح جواب "ظاهر الرواية؟ لما روينا، عن على وابن مسعود، أنهما كانا يقولان: المصلّي بالخيار، وهذا باب لا يدرك بالقياس، فالمروي عنهما كالمروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. ويمكن أن يقال: وبهذا يندفع ترجيح رواية الحسن بما في "مسند أحمد"، عن جابر قال: "لا صلاة إلاَّ بقراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة إلاَّ وراء الإمام". وبما اتفق عليه البخاري ومسلم، عن أبي قتادة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب"، لأن كون الأول مفيداً للوجوب، والثاني مفيداً للمواظبة المفيدة للوجوب، إنما هو إذا لم يوجد صارف عنه إما إذا وُجد صارف فلا، وقد وُجد ههنا، وهو أثر علي وابن مسعود لأنه كالمرفوع، والمرفوع صورة ومعنى يصلح صارفاً، فكذا ما هو مرفوع معنى. انتهى كلام صاحب "الحَلْية" (في الأصل: "الحلية"، وهو تحريف) . وفيه شيء لا يخفى على المتفطن.
(1) أي: كفاك.
(2) أي: المقدار المستحب من الجهر.(1/441)
135 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي عَمِّي أَبُو سُهَيْلٍ (1) أَنْ أَبَاهُ (2) أَخْبَرَهُ أَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ (3) فِي الصَّلاةِ وَأَنَّهُ (4) كَانَ يَسْمَعُ (5) قِرَاءَةَ عُمر بْنَ الْخَطَّابِ عِنْدَ دَارِ أَبِي جَهم (6) .
__________
(1) اسمه نافع.
(2) مالك بن أبي عامر.
(3) أي: في المسجد النبوي.
(4) قوله: وأنه؛ قال القاري: بفتح الهمزة، ويجوز كسره والضمير للشأن، ويسمع بصيغة المجهول. انتهى. وهذا تكلّف بحت والصحيح أن ضمير أنه ويسمع معروفان راجعان إلى مالك بن أبي عامر الأصبحي جَدّ الإمام مالك، وأنه أخبر ابنه أبا سهيل عن سمعه قراءة عمر بدليل ما في "موطأ يحيى": مالك، عن عمّه أبي سهيل من مالك، عن أبيه، قال: كما نسمع قراءة عمر بن الخطاب عند دار أبي جهم.
(5) كان عمر مديد الصوت، فيسمع صوته حيث ذكره (المقصود أن عمر كان جَهْوري الصوت، فيسمع صوته في هذا المحل لجهره بالقراءة، قال الباجي: يُحتمل أن عمر بن الخطاب كان الإمام في الصلاة، فلذلك كان له أن يجهر بالقراءة فيها، والصلاة التي كان يفعل ذلك فيها هي الفريضة التي كان يجتمع أهل المسجد على الاقتداء به فيها، فلا يبقى أحد ينكر أن عمر بن الخطاب قد جهر عليه بالقراءة المتقى 1/151 ويحتمل أن يكون عمر بن الخطاب كان يجهر ذلك في نافلته بالليل وتهجده فكان يسمع من ذلك الموضع 1/152) .
(6) قوله: أبي جهم (اختلفت نسخ موطأ يحيى في ذكر هذا الاسم ففي النسخة المصرية أبو جهم وفي النسخ الهندية أبو جهيم بزيادة الياء هما صحابيان، أما في نسخة محمد فهو أبو جهم المكبّر فهو ابن حذيفة، وبهذا جزم العلاّمة الزرقاني في شرحه 1/169) ، بفتح الجيم وإسكان الهاء، واسمه عامر، وقيل:(1/442)
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاةِ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ بِالْقِرَاءَةِ حَسَنٌ (1) مَا لَمْ يُجهد (2) الرَّجُلُ نَفْسَهُ.
38 - (بَابُ آمِينَ (3) فِي الصَّلاةِ)
136 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا (4) أمَّن الإمام (5)
__________
عبيد بن حذيفة صحابي، قرشي من مُسْلمة الفتح، ومشيخة قريش، وداره بالبَلاط، بفتح الموحَّد بزنة سحاب، موضع بالمدينة، بين المسجد والسوق، كذا قال الزرقاني.
(1) بل واجب في حالة الجماعة.
(2) أي: لم يحمتل على نفسخ جهراً ومشقة بالجهر المفرط، لقوله تعالى: {ولاَ تَجْهَر بصَلاتِكَ وَلاَ تُهَافِتْ بِهَا وَابتغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} (سورة الإسراء: آية 110) .
(3) في نسخة: التأمين، بالمد والتخفيف، ومعناه عند الجمهور: اللهم استجب، وقيل غير ذلك مما يرجع إليه (انظر عمدة القاري 3/106 و 107) .
(4) قوله: إذا أمَّن، قال الباجي: قيل: معناه إذا بلغ موضع التأمين، وقيل: إذا دعا، والأظهر عندنا أن معناه قال: آمين كما أن معنى فأمِّنوا قولوا: آمين. انتهى. والجمهور على القول الأخير. لكن أوَّلوا قوله: إذا أمَّن على أن المراد إذا أراد التأمين ليقع تأمينُ الإمام والمأموم معاً، فإنه يُستحب فيه المقارنة، قال الشيخ أبو محمد الجويني: لا تستحب مقارنة الإمام في شيء من الصلاة غيره.
(5) قوله: الإمام، فيه دليل على أن الإمام يقول: آمين، وهذا موضع(1/443)
فَأمَنِّنوا (1) ، فَإِنَّهُ (2) مَنْ وَافَقَ (3) تأمينُه تأمينَ الْمَلائِكَةِ (4) غُفر له (5)
__________
اختلف فيه العلماء، فروى ابن القاسم، عن مالك أن الإمام لا يقول: آمين، وإنما يقول: ذلك مَنْ خلفه، وهو قول المصريين من أصحاب مالك، وقال جمهور أهل العلم: يقولها كما يقول المنفرد، وهو قول مالك في رواية المدنيين، وبه قال الشافعي والثوري والأوزاعي وابن المبارك وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وداود والطبري، وحجَّتهم أن ذلك ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة ووائل بن حجر وحديث بلال: "لا تسبقني بآمين"، كذا في "الاستذكار".
(1) قوله: فأمنوا، حكي عن بعض أهل العلم وجوبه على المأموم بظاهر الأمر، وأوجبه الظاهرية على كل مصلٍّ، لكن جمهور العلماء على أن الأمر للندب، كذا في "فتح الباري".
(2) في رواية الصحيحين: فإن الملائكة تؤمِّن، فمن وافق....إلخ.
(3) قوله: من وافق، أي: في الإخلاص والخشوع، وقيل: في الإجابة، وقيل: في الوقت، وهو الصحيح، ذكره ابن ملك، كذا في "مرقاة المفاتيح".
(4) قوله: تأمين الملائكة، ظاهره أن المراد بالملائكة جميعهم، واختاره ابن بزيزة وقيل: الحفظة منهم، وقيل: الذين يتعاقبون منهم. قال الحافظ: والذي يظهر أن المراد من يشهد تلك الصلاة من في الأرض أو في السماء للحديث الآتي: إذا قال أحدكم آمين وقالت الملائكة آمين في السماء فوافقت إحداهما الأخرى، وروى عبد الرزاق، عن عكرمة قال: صفوف أهل الأرض على صفوف أهل السماء، فإذا وافق آمين في الأرض آمين في السماء غُفر للعبد ومثله لا يٌقال بالرأي، فالمصير إليه أولى، كذا في "التنوير".
(5) قوله: غُفر له، قال الباجي: يقتضي غفرانَ جميع ذنوبه المتقدِّمة،(1/444)
مَا تقدَّم (1) مِنْ ذَنْبِهِ، قَالَ (2) : فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ (3) : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: آمِينَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، يَنْبَغِي إِذَا فَرَغَ الإِمَامُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ أَنْ يُؤَمِّنَ الإِمَامُ وَيُؤَمِّنَ مَنْ خَلْفَهُ، وَلا يَجْهَرُونَ (4) بذلك، فأما أبو حنيفة،
__________
وقال غيره: هو محمول عند العلماء على الصغائر (قلت: لو حصل كمال الندم عند القيام بحضرته عزَّ شأنه وجلَّ برهانه، فلا مانع من التعميم. أوجز المسالك 2/109) .
(1) وقع في "أمالي الجرجاني" في آخر هذا الحديث زيادة: "وما تأخر"، كذا في التنوير.
(2) أي: مالك.
(3) قوله: فقال ابن شهاب، هذا من مراسيل ابن شهاب، وقد أخرجه الدارقطني في "غرائب مالك" و"العلل" موصولاً من طريق حفص بن عمر العدني، عن مالك، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة به، وقال: تفرَّد به حفص، وهو ضعيف، وقال ابن عبد البر: لم يُتابَع حفص على هذا اللفظ بهذا الإسناد، وكذا قال السيوطي.
(4) قوله: ولا يجهرون بذلك، به قال الشافعي في قوله الجديد، ومالك في رواية، ومذهب الشافعي وأصحابه وأحمد وعطاء وغيرهم أنهم يجهرون، كذا ذكر العيني، وحجة القائلين بالجهر حديث وائل بن حجر: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: {غَيرَ المَعْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّالِّينَ} ، قال: آمين، ورفع بها صوته. أخرجه أبو داود، وفي رواية الترمذي عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {ولا الضآلين} ، قال: آمين، ومدّ بها صوته. وفي رواية النسائي عنه: صليت خلف رسول الله.. الحديث، وفيه ثم قرأ فاتحة الكتاب، فلما فرغ منها قال: آمين يرفع بها صوته.(1/445)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وفي رواية لأبي داود والترمذي عنه: أنه صلّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجهر بأمين. وروى أبو داود وابن ماجه، عن أبي هريرة: كان رسول الله إذا تلا {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّالِّينَ} ، قال: آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول، زاد ابن ماجه، فيرتجّ بها المسجد. وروى إسحاق بن راهويه عن امرأة أنها صلَّت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قال: {ولا الضآلين} قال: آمين، فسمعته، وهو في صف النساء. وروى ابن حبان في "كتاب الثقات" في ترجمة خالد بن أبي نوف، عنه، عن عطاء بن أبي رباح، قال: أدركت مائتين من أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد يَعني المسجدَ الحرام إذا قال الإمام: {ولا الضالين} رفعوا أصواتهم بأمين. وفي "صحيح البخاري"، عن عطار تعليقاً: أمَّن عبد الله بن الزبير ومَن وراءه حتى أن للمسجد لَلَجّه (قال القاري في (مرقاة المفاتيح: 2/292) : جمل أئمتنا ما ورد من رفع الصوت على أول الأمر اللتعليم، ثم لما استقرَّ الأمر عمل بالإخفاء والله أعلم.. ثم إن الأصل في الدعاء الإخفاء لقوله تعلى: {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية} ، ولا شك أن آمين دعاء، فعند التعارض يُرجَّح الإخفاء بذلك وبالقياس على سائر الأذكار والأدعية) .
وحجة القائلين بالسر ما أخرجه أحمد وأبو يعلى والحاكم من حديث شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن حجر أبي العنبس، عن علقمة بن وائل، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّالِّينَ} ، قال: آمين، وأخفى صوته. ولفظ الحاكم: خفض صوته. لكن قد أجمع الحفاظ منهم البخاري وغيره أن شعبة وَهِم في قوله خفض صوته، إنما هو مدّ صوته، لأن سفيان كان أحفظ من شعبة، وهو ومحمد بن سلم وغيرهما رووه عن سلمة بن كهيل هكذا، وقد بسط الكلام في إثبات عِلَل هذا الرواية الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية" وابن الهُمام في "فتح القدير" وغيرهما من محدثي أصحابنا.
والإنصاف أنَّ الجهر قويّ من حيث الدليل، وقد أشار إليه ابن أمير حاج في "(1/446)
فَقَالَ (1) : يُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَ الإِمَامِ، وَلا يُؤَمِّنُ الإمام (2) .
39 - (باب السهو في الصلاة)
137 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بن
__________
الحَلبة" (في الأصل: "الحلية"، وهو تحريف) حيث قال: السرّ هو السنة، وبه قالت المالكية، وفي قول عندهم يجهر في الجهرية، وعند الشافعي إن كانت جهرية جهر به الإمام بلا خلاف، والمنفرد على المعروف، والمأموم في أحد قوليه، ونصّ النووي على أنه الأظهر، وقد ورد في السنَّة ما يشهد لكل من المذهبين، ورجح مشايخنا ما للمذهب بما لا يعرى عن شيء لمتأمِّله. فلا جرم أنْ قال شيخنا ابن الهمام (فتح القدير 1/257) : ولو كان إليّ في هذا شيء لوفَّقت بأن رواية الخفض يراد بها عدم القرع العنيف ورواية الجهر بمعنى قولها: في زبر الصوت وذيلها. انتهى.
(1) قوله: فقال، وجَّهوا قوله بحديث: "إذا قال الإمام: {وَلاَ الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين"، فإنه يدل على القسمة وهو تنافي الشركة، ولا يخفى ما فيه، والأحاديث الصريحة في قول الإمام آمين واردة عليه، فلهذا لم يأخذ المشايخ بهذه الرواية.
(2) قوله: ولا يؤمِّن الإمام، قد يقال: يخالفه قوله في كتاب "الآثار": فإنه أخرج فيه عن أبي حنيفة، عن حمّاد، عن إبراهيم النخعي قال: أربع يخافت بهن الإمام: سبحانك اللَّهم، والتعوُّذ، وبسم الله، وأمين، ثم قال: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة. فهذا يدل على أن أبا حنيفة أيضاً قائل بقول الإمام آمين سرّاً، أو يجاب عنه بوجهين: أحدهما: أن الرواية عنه مختلفة، فذكر إحداهما ههنا، وذكر الأخرى هناك. وثانيهما: إن أبا حنيفة فرَّع الجواب في المسألة على قولهما كما فرَّع مسائل المزارعة على قول من يرى جوازها، وإن كان خلاف مختاره.(1/447)
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) : إن أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي الصَّلاةِ جَاءَهُ الشَّيْطَانُ، فَلَبسَ (2) عَلَيْهِ حَتَّى لا يَدري كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ (3) أَحَدُكُمْ ذَلِكَ، فَلْيَسْجُدْ (4) سَجْدَتَيْنِ (5) وَهُوَ جَالِسٌ.
138 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ (6) بْنُ الحُصَين (7) ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ (8) مَوْلَى (9) ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ،
__________
(1) هذا حديث متفق عليه، ورواه الأربعة، كذا في "مرقاة المفاتيح".
(2) بفتح الباء الموحدة الخفيفة، أي: خلط.
(3) قوله: فإذا وجد، قال أبو عمر (في الأصل: "أبو عمرو"، وهو تحريف) : هذا الحديث محمول عند مالك وابن وهب وجماعة على الذي يكثر عليها السهو، ويغلب على ظنه أتم، لكن يوسوس الشيطان له، وأما من غلب على ظنه أنه لم يكمل، فيبنيه على يقينه.
(4) ترغيماً للشيطان.
(5) بعد السلام، كما في حديث عبد الله بن جعفر مرفوعاً: من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعد ما يسلِّم، رواه أحمد وأبو داود.
(6) وثَّقه ابن معين، مات سنة 135، كذا في "الإسعاف".
(7) بمهملتين مصغراً.
(8) قوله: أبي سفيان، اسمه وهب، قاله الدارقطني، وقال غيره: اسمه قُزْمان، بضم القاف، قال ابن سعد: ثقة، قليل الحديث، روى له الستة، كذا في "شرح الزرقاني" و"التقريب".
(9) هو عبد الله بن أبي أحمد بن جحش القرشي الأسدي، ذكره جماعة في ثقات التابعين، كذا قال الزرقاني.(1/448)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صَلَّى (1) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاةَ الْعَصْرِ (2) ، فسلَّم (3) في ركعتين، فقام ذو اليدين (4)
__________
(1) قوله: صلّى، قال أبو عمر في (الأصل أبو عمرو) بن عبد البر: كذا رواه يحيى ولم يقل "لنا"، وقال ابن القاسم وابن وهب والقعنبي وقتيبة، عن مالك قالوا: صلّى لنا.
(2) قوله: صلاة العصر، ورد في طريق البخاري الظهر أو العصر على الشك، وفي (أبواب الإمامة) ، عن أبي الوليد، عن شعبة: الظهر، بغير شك، وكذا لمسلم من طريق أبي سلمة، وله من طريق آخرى، عن أبي هريرة: العصر وفي (باب تشبيك الأصابع في المسجد) من صحيح البخاري، من طريق محمد بن سيرين، عن أبي هريرة بلفظ: إحدى صلاتي العشيّ، قال ابن سيرين: سماها أبو هريرة، ولكن نسيت أنا. قال الحافظ ابن حجر: الظاهر أن الاختلاف فيه من الرواة، وأبعَدَ من قال يُحمل على أن القصة وقعت مرتنين، بل روى النسائي من طريق ابن عون، عن ابن سيرين أن الشك فيه من أبي هريرة، فالظاهر أن أبا هريرة رواه كثيراً على الشك، وكان ربما غلب على ظنه أنها الظهر، فجزم بها، وتارة العصر فجزم بها، ولم يختلف الرواة في حديث عمران في قصة الخرباق أنها العصر، فإن قلنا: إنهما قصة واحدة، فيترجَّح رواية من روى العصر في حديث أبي هريرة. انتهى. كذا في "ضياء الساري شرح صحيح البخاري".
(3) سهواً.
(4) قوله: ذو اليدين، قال ابن حجر: ذهب الأكثر إلى أن اسمه الخِرْباق، بكسر المعجمة وسكون الراء، بعدها موحَّدة، آخره قاف، اعتماداً على ما وقع في حديث عمران بن حصين عند مسلم، ولفظه: فقام إليه رجل، يقال له الخرباق، وكان في يديه طول، وهذا صنيع من يوحِّد حديث أبي هريرة بحديث عمران، وهو الراجح في نظري، وإن كان ابن خزيمة ومن تبعه جنحوا إلى التعدّد، والحامل لهم على ذلك الاختلاف الواقع في السياق، ففي حديث أبي هريرة أن السلام كان من(1/449)
فَقَالَ (1) : أَقَصُرَتِ (2) الصَّلاةُ (3) يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ نَسِيتَ؟ فَقَالَ: كُلُّ ذَلِكَ (4) لَمْ يَكُنْ، فَقَالَ: يا رسول الله قد كان بعض
__________
اثنتين، وفي حديث عمران أنه كان من ثلاث (قال الحافظ في "فتح الباري": 3/78: والظاهر أن الاختلاف من الرواة، وأبعد من قال يُحمل على أن القصة وقعت مرتين ... إلخ. وقال العيني في "عمدة القاري" 3/644: قلت: الحمل على التعدّد أولى من نسبة الرواة إلى الشك) .
(1) قوله: فقال، أي: ذو اليدين: وهو غير ذي الشمالين المقتول في بدر، بدليل ما في حديث أبي هريرة ومن ذكرها معه من حضورهم تلك الصلاة ممن كان إسلامه بعد بدر، وقول أبي هريرة في حديث ذي اليدين: صلّى لنا رسول الله وصلّى بنا، وبينما نحن جلوس مع رسول الله، محفوظ من نقل الحفاظ، وأما قول ابن شهاب الزهري في هذا الحديث: إنه ذو الشمالين، فلم يُتابَع عليه، وحمله الزهري على أنه المقتول يوم بدر، وغلط فيه (قلت: لم ينفرد به الزهري بل تابعه على ذلك عمران بن أنس، عند النسائي والطحاوي. انظر: نصب الراية 1/182، وبذل المجهود 5/360) والغلط لا يسلم منه أحد، كذا في "الاستذكار".
(2) قوله: أقصرت، بفتح القاف وضم الصاد المهملة، أي: صارت قصيرة، وبضم القاف وكسر الصاد أي: أن الله قصَّرها، والثاني أشهر، وأصح، وفيه دليل على ورعهم إذ لم يجزموا بوقوع شيء بغير علم، وإنما استفهموا لأن الزمان زمان نسخ، قاله الحافظ.
(3) بالرفع على الفاعلية أو النيابة.
(4) قوله: كل ذلك لم يكن، قال النووي: فيه تأويلان، أحدهما: أن معناه لم يكن المجموع، والثاني: وهو الصواب أن معناه: لم يكن ذاك، ولا ذا في(1/450)
ذَلِكَ (1) ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ (2) ، فَقَالَ: أَصَدَقَ (3) ذُوُ الْيَدَيْنِ؟ فَقَالُوا (4) : نَعَمْ. فأَتَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا (5) بَقِيَ عَلَيْهِ (6) مِنَ الصلاةَ ثُمَّ سلَّم، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ بعد التسليم.
__________
ظني، بل ظني أني أكملت أربعاً، ويدل على صحة هذا التأويل أنه ورد في بعض روايات البخاري أنه قال: لم تُقْصر، ولم أَنسَ.
(1) وأجابه في رواية أخرى بقوله: بلى، قد نسيت.
(2) الذين صلّوا معه.
(3) في رواية لأبي داود بإسناد صحيح: أن الجماعة أومؤوا، أي: نعم.
(4) قوله: فقالوا: نعم، احتجَّ مالك وأحمد بقولهم: نعم، على جواز الكلام لمصلحة الصلاة، وليس كما قالا لما مرَّ أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم كما صرَّحت به الأحاديث الصحيحة أنه يجب إجابته في الصلاة بالقول والفعل، ولا تبطل به الصلاة، وحينئذٍ لا حاجة إلى ماروي، عن ابن سيرين أنهم لم يقولوا: نعم، بل: أومؤوا بالإشارة، كذا في "مرقاة المفاتيح".
(5) وهو الركعتان.
(6) قوله: ما بقي عليه، اختلفوا في الكلام في الصلاة بعد ما أجمعوا على أن الكلام عامداً إذا كان المصلي يعلم أنه في صلاة، ولم يكن ذلك لإصلاح صلاته مفسدٌ إلاَّ الأوزاعي فإنه قال: من تكلم في صلاته لإحياء نفس ونحو ذلك من الأمور الجسام لم يفسدها (في الأصل: "لم يفسد"، والظاهر: "لم يفسدها") . وهو قول ضعيف يردّه السنن والأصول؟ فالمشهور من مذهب مالك وأصحابه: إذا تكلم على ظنِّ أنه أتمَّ الصلاة لم يفسد عامداً كان الكلام أو ساهياً، وكذا إذا تعمَّد الكلام إذا كان في صلاحها وبيانها، وهو قول ربيعة وإسماعيل بن إسحاق. وقال الشافعي وأصحابه وبعض أصحاب مالك: إن المصلّي إذا تكلم ساهياً أو تكلم وهو يظن أنه أكمل صلاته لا يفسد وإن تعمَّد عالماً بأنه(1/451)
139 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عن عطاء بن يسار أن (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم،
__________
لم يتمَّها يفسد وإن كان لإصلاحها. وذهب الكوفيون أبو حنيفة وأصحابه والثوري وغيرهم: إلى أن الكلام في الصلاة مفسد على كل حال، سهواً كان أو عمداً، لصلاح الصلاة أو لا، على ظن الإتمام أو لا، كذا ذكره ابن عبد البر. أما حجة المالكية والشافعية، فحديث ذي اليدين. وأما الحنفية، فاحتجّوا بقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (سورة البقرة: رقم الآية 238) ، أي: ساكتين، فإنه نزل نسخاً لما كانوا يتكلَّمون في الصلاة، كما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة والطحاوي وغيرهم من حديث زيد بن أرقم. وطرقه مبسوطة في "الدر المنثور" للسيوطي، وأجابوا عن حديث ذي اليدين، بوجوه: منها، أنه كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وفيه مطالبة ما يدل على الاختصاص. ومنها، أنه كان حين كان الكلام مباحاً، وفيه أن تحريم الكلام كان بمكة على المشهور، وهذه القصة قد رواها أبو هريرة، وهو أسلم سنة سبع، وقال بعضهم: إن أبا هريرة لم يحضرها، وإنما رواها مرسلاً، بدليل أن ذا الشمالين قتل يوم بدر، وهو صاحب القصة، وردوه بأن رواية مسلم وغيره صريحة في حضور أبي هريرة تلك القصة والمقتول ببدر هو ذو الشمالين وصاحب القصة هو ذو اليدين وهو غيره (قلت: مدار البحث والاستدلال في هذه المسألة موقوف على أن ذا اليدين وذا الشمالين واحد، وأنه استشهد ببدر، ولم يدركه أبو هريرة لأن إسلامه كان سنة سبع من الهجرة. وقد استوفى أدلة الفريقين الشيخ ظهير النيموي في "آثار السنن" (1/144) ، فارجع إليه) ، كما بسطه ابن عبد البر، وفي المقام كلام طويل لا يتحمّله المقام.
(1) قوله: أنَّ، قال ابن عبد البر: هكذا روي الحديث عن مالك مرسلاً، ولا أعلم أحداً أسنده عن مالك إلاَّ الوليد بن مسلم، فإنه وصله، عن أبي سعيد الخدري.(1/452)
قَالَ: إِذَا شكَّ (1) أحدُكم فِي صلاتِه، فَلا يَدْري كَمْ صَلَّى ثَلاثًا أَمْ أَرْبَعًا، فلْيَقُم (2) ، فليصلِّ (3) رَكْعة، ولْيَسْجُدْ (4) سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ التَّسْلِيمِ. فَإِنْ كَانَتِ الرَّكْعَةُ الَّتِي صلَّى خَامِسَةً شَفَعها (5) (6)
__________
قلت: وصله مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن أبي سعيد، كذا في "تنوير الحوالك".
(1) أي: تردَّدَ من غير رجحان، فإنه مع الظن يبني عليه عندنا خلافاً للشافعي، كذا في "مرقاة المفاتيح".
(2) وفي رواية مسلم: "فليطرح الشك وليبنِ على ما استيقن".
(3) قوله فليصلِّ، قال ابن عبد البر: في الحديث دلالة قوية لقول مالك والشافعي والثوري وغيرهم أنَّ الشاكَّ يبني على اليقين، ولا يجزيه التحرِّي، قال أبو حنيفة: إن كان ذلك في أول مرة استقبل، وإن كان غير مرة تحرّى، وليس في الأحاديث فرق (وللإمام أحمد في ذلك ثلاث روايات: إحداها" البناء على اليقين. والثانية: البناء على التحرّي مطلقاً، والثالثة: البناءعلى اليقين للمنفرد والتحرّي للإمام وهو ظاهر مذهبه. وقالت الحنفية: إذا شكَّ أحد وهو مبتدئ بالشك لا مبتلىّ به استأنف الصلاة، وإن كان يعرض له الشك كثيراً بنى على أكبر رأيه، وإن لم يكن رأي بنى على اليقين. "عمدة القاري" 3/749، و"أوجز المسالك" 2/176) ، كذا قال الزرقاني.
(4) قوله: وليسجد، قال القاضي عياض: القياس أن لا يسجد إذ الأصل أنه لم يزد شيئاً، لكن صلاته لا تخلو عن أحد خللين، إما الزيادة، وإما إداء الرابعة على التردد، فيسجد جبراً للخلل ولما كان من تسويل الشيطان وتلبيسه سمى جبره ترغيماً له، كذا في "مرقاة المفاتيح".
(5) أي: ردَّها إلى الشفع.
(6) قوله: شفعها، لأنها تصير ستّاً بهما، حيث أتى معظم أركان الصلاة. وقول ابن ملك ههنا: (وبه قال مالك، وعند أبي حنيفة: يصلّي ركعة سادسة) سهو(1/453)
بِهَاتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ رَابِعَةً فَالسَّجْدَتَانِ ترغيمٌ (1) لِلشَّيْطَانِ.
140 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَج، عَنِ ابْنِ بُحَينَة (2) أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ (3) وَلَمْ يَجْلِس، فَقَامَ الناسُ فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ وَنَظَرْنَا (4) تَسْلِيمَهُ كَبَّر وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ التَّسْلِيمِ (5) ثم سلَّم.
__________
ظاهر لأنّ الكلام ههنا في المقدر، والخلاف إنما هو في المحقق كذا في "مرقاة المفاتيح" (3/23) .
(1) أي: إغاظة له وإذلال.
(2) قوله: عن ابن بُحَيْنة، بضم الباء بعده حاء مهملة مفتوحة ثم ياء ساكنة مصغّراً: هي اسم أمّه اشتهر به، وهو عبد الله بن مالك بن القشب الأزدي، من أجلَّة الصحابة، مات بعد سنة 50 هـ، كذا في "التقريب" وغيره.
(3) زاد الضحاك بن عثمان، عن الأعرج: (فسّبحوا به فمضى) . أخرجه ابن خزيمة.
(4) أي: انتظرنا.
(5) قوله: قبل التسليم، فيه دليل على أن وقت السجود قبل السلام وهو مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة والثوري: موضعُه بعد السلام. وتمسَّكَا بحديث ابن مسعود وأبي هريرة (وقال مالك وهو قول قديم للشافعي: إن كان السجود لنقصان قُدِّم، وإن كان لزيادة أُخِّر: "مرقاة المصابيح" 3/22) ، كذا في "الكاشف عن حقائق السنن"، حاشية المشكاة للطِّيبي.(1/454)
141 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَفِيفُ بْنُ عَمْرِو (1) بْنِ الْمُسَيِّبِ السَّهْمِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَار قَالَ: سَأَلْتُ عبدَ اللَّهِ (2) بنَ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ وَكَعْبًا (3) عَنِ الَّذِي يَشُكُّ كَمْ صَلَّى ثلاثاُ أَوْ أَرْبَعًا، قَالَ: فَكِلاهُمَا قَالا: فليقُمْ وَلْيُصَلِّ (4) رَكْعةً أُخْرَى قَائِمًا ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ إِذَا صَلَّى.
142 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنِ النِّسْيَانِ، قَالَ: يَتَوَخَّى (5) أَحَدُكُمُ الَّذِي يَظُنُّ أَنَّهُ نَسِيَ من
__________
(1) قوله: عَمرو، بفتح العين. قرأت بخط الذهبي: لا يُدرى من هو؟ أي: عفيف بن عمرو. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال النسائي: ثقة، كذا في "تهذيب التهذيب" لابن حجر.
(2) قوله: عبد الله، هو أبو عبد الرحمن أو أبو محمد عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هشام السهمي، لم يكن بينه وبين أبيه في السن إلاَّ إحدى عشر سنة، وأسلم قبل أبيه، وكان مجتهداً في العبادة، غزيرَ العلم، من أجلَّة الصحابة، مات سنة 63 هـ أو سنة 65 هـ أو سنة 68 هـ أو سنة 73 هـ أو سنة 77 هـ بمكة أو بالطائف أو بمصر أو بفلسطين: أقوال، كذا في "تهذيب التهذيب" وغيره.
(3) هو من كبار التابعين، هو كعب بن قانع، أبو إسحاق المعروف بكعب الأحبار من مُسْلمة أهل الكتاب، مات سنة 32 هـ، كذا في "الإسعاف".
(4) بانياً على ما تيقَّن.
(5) يُقال: توخَّيْت الشيء أتوخأ إذا قصدت إليه، وتعمَّدت فعلَه، وتحرَّيْتُ فيه، كذا في "النهاية".
قوله: يتوخّى، هذا ظاهر في أنه يبني على اليقين، كذا قال ابن عبد البر وغيره، وفيه تأمُّل، بل هو ظاهر في التحرِّي والبناء عليه، وعليه حمله الطحاوي بعدما أخرجه من طرق.(1/455)
صَلاتِهِ (1) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، إِذَا نَاءَ (2) لِلْقِيَامِ وتغيَّرتْ حالُه عَنِ الْقُعُودِ وَجَبَ (3) عَلَيْهِ لِذَلِكَ سَجْدَتَا السَّهْوِ. وكلُّ سهوٍ وجبتْ فِيهِ سَجْدَتَانِ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانِ فَسَجْدَتَا السَّهْوِ فيه بعد التسليم (4) . ومن
__________
(1) في بعض النسخ: في الآخر، ثم يسجد سجدتين.
(2) أي: بَعُد.
(3) قوله: وجب عليه، فإن سبَّح به المؤتم أو تذكرَّ وهو قريب من القعود عاد، وإلا لا، لما روى أبو داود من حديث المُغيرة بن شعبة مرفوعاً: إذا قام الإمام في الركعتين فإن ذَكر قبل أن يستوي قائماً، فليجلس وإن استوى قائماً، فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو. وأخرج ابن عبد البر في "التمهيد": أن المغيرة قام من ثنتين واعتدل فسبحوا به فلم يرجع وقال لهم كذلك صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن سعد بن أبي وقاص مثله.
(4) قوله: بعد التسليم، قد ورد في هذا الباب ما يدل على السجود بعد التسليم وأحاديث تدل على السجود قبل التسليم.
فمن الأولى ما أخرجه أبو داود والطبراني وأحمد، عن ثوبان مرفوعاً: "لكل سهو سجدتان بعد السلام". وثبت السجود بعد السلام من فعل النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين، ومن حديث المغيرة أخرجه أبو داود والترمذي، ومن حديث أنس أخرجه الطبراني في "الصغير"، ومن حديث ابن عباس أخرجه ابن سعد في "الطبقات".
وورد السجود قبل التسليم في حديث أبي هريرة. أخرجه أحمد وأبو داود، ومن حديث عبد الرحمن بن عوف أخرجه الترمذي وابن ماجه، ومن حديث ابن بُحَيْنة أخرجه مالك والبخاري وغيرهما، ومن حديث أبي سعيد الخدري أخرجه مسلم، ومن حديث معاوية أخرجه الحازمي.
ومن ثَم اختلف العلماء في ذلك على ما بسطه الحازمي في كتاب "الاعتبار":(1/456)
أَدْخَلَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ الشكَّ (1) فِي صَلاتِهِ فَلَمْ يدرِ (2) أَثَلاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا، فَإِنْ كَانَ ذلك أولَ (3) ما لقي تكلَّمَ (4)
__________
فمنهم من رأى السجود كله بعد السلام، وهو المروي، عن علي وسعد وابن مسعود وعمار بن ياسر وابن عباس وابن الزبير والحسن وإبراهيم وابن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح بن حَيّ وأبي حنيفة (في الأصل: "أبو حنيفة"، وهو خطأ والصواب أبي حنيفة) وأصحابه، ومنهم من قال: كلّه قبل التسليم، وبه قال أبو هريرة ومعاوية ومكحول والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة والأوزاعي والليث والشافعي وأصحابه. وقال مالك ونفر من أهل الحجاز: إن كان السهو بالزيادة فالسجود بعد السلام أخذاً من حديث ذي اليدين، وإن كان بالنقصان فقبلَه أخذاً من حديث ابن بُحَيْنة. وطريق الإنصاف أن الأحاديث في السجود قبل السلام وبعده ثابتة قولاً وفعلاً، وتقدّم بعضها على بعض غير معلوم. فالكلّ جائز، وبه صرّح أصحابنا أنه لو سجد قبل السلام لا بأس به.
(1) قوله: الشك في صلاته، ليس المراد به التردد مع التساوي بل مطلق التردد، وقال السيد أحمد الحَمَوي في "حواشي الأشباه والنظائر": اعلم أنّ مراد الفقهاء بالشك في الماء والحدث والنجاسة والصلاة والطلاق وغيرها هو التردد بين وجود الشيء وعدمه، سواء كان الطرفان سواء أو أحدهما راجحاً فهذا معناه في اصطلاح الفقهاء. أما أصحاب الأصول، فإنهم فرّقوا بين ذلك فقالوا: التردد إن كان على السواء فهو الشك، فإن كان أحدهما راجحاً، فالراجح ظن والمرجوح وهم. انتهى كلامه نقلاً عن "فتح القدير".
(2) (في نسخة) ليس المراد به نفي الدراية مطلقاً، بل مراده نفي اليقين، ويجوز أن يراد نفي دراية أحدهما بخصوصه فقط.
(3) أي: كان الشك عرض له أول مرة وليس بعادة له.
(4) قوله: تكلم واستقبل صلاته، لما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر، أنه قال في الذي لا يدري صلى ثلاثاً أم أربعاً قال: يعيد حتى يحفظه.(1/457)
وَاسْتَقْبَلَ (1) صَلاتَهُ، وَإِنْ كَانَ يُبتلى بِذَلِكَ (2) كَثِيرًا مَضَى عَلَى أَكْثَرِ ظَنِّهِ (3) ورَأيِهِ (4) وَلَمْ يَمْضِ (5)
__________
وفي لفظ: أما أنا إذا لم أدر كم صلّيتُ، فإني أعيد، وأخرج نحوه عن سعيد بن جبير وابن الحنفية وشريح. وأخرج محمد في كتاب "الآثار" نحوه، عن إبراهيم النَّخَعي.
(1) أي استأنف صلاته وترك ما صلّى.
(2) أي: بالشك.
(3) قوله: مضى على أكثر ظنه، فإن لم يكن له ظن بنى على اليقين لحديث ابن مسعود مرفوعاً: "إذا شكَّ أحدكم فليتحرَّ الصواب فليتم عليه". أخرجه البخاري ومسلم، وأخرج محمد في "الآثار"، عن ابن مسعود موقوفاً: إذا شك أحدكم في صلاة ولا يدري أثلاثاَ صلى أم أربعاً، فليتحرّ فلينظر أفضل ظنه، فإن كان أكبرُ ظنه أنها ثلاث قام فأضاف إليها الرابعة، ثم يتشهد، ثم يسلم، ويسجد سجدتي السهو، وإن كان أكبر رأيه أنه صلّى أربعاً تشهد وسلم وسجد سجدتي السهو. وأخرج الطحاوي، عن عمرو بن دينار قال: سئل ابن عمر وأبو سعيد الخدري، عن رجل سها فلم يدرِ كم صلّى، قالا: يتحرى أصوب ذلك فيتمَّه ثم يسجد سجدتين.
(4) ورأيه عطف تفسيري على الظن أو أكثر الظن، فإن الرأي يُطلق على المظنون وعلى ما يحصل بغلبة الظن، قال الحَمَوي في "حواشي الأشباه": اليقين هو طمأنينة القلب على حقيقة الشيء، والشك لغة مطلق التردد، وفي إصطلاح الأصول استواء طرفي الشيء وهو الموقوف بحيث لا يميل القلب إلى أحدهما فإن ترجّح أحدهما ولم يطرح الآخر فهو ظن، فإن طرحه فهو غالب الظن وهو بمنزلة اليقين، وأما عند الفقهاء فهو كاللغة لا فرق بين المساوي والراجح. انتهى.
(5) قوله: ولم يمضِ على اليقين، وفيه خلاف الشافعي ومالك والثوري وداود والطبري، فإنهم قالوا: يَبني على اليقين ولا يلزمه التحري لأحاديث (في الأصل: "لحديث"، والظاهر: "لأحاديث") أبي سعيد الخدري وابن عُمر وعبد الرحمن بن عوف الواردة في البناء على الأقلّ، وحملوا(1/458)
عَلَى الْيَقِينِ (1) ، فَإِنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ ينجُ فِيمَا يَرَى مِنَ السَّهْوِ الَّذِي يُدخل عَلَيْهِ الشيطانُ، وَفِي ذَلِكَ (2) آثَارٌ كَثِيرَةٌ.
143 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ (3) أَنَّ أَنَسَ بن
__________
حديث ابن مسعود: "فليتحرّ الصواب"، على أن معناه فليتحرّ الذي يظن أنه نقصه فيتمّه (وفي: "فتح الباري" 3/76، قال الشافعية: هو البناء على اليقين ... إلخ، وهذا المعنى لا تساعده اللغة أصلاً. وذلك حيث قال العلامة الفتني: التحري القصد والاجتهاد في الطلب، والعزم على تخصيص الشيء والقول، "مجمع بحار الأنوار" 1/501) ، فيكون التحري أن يعيد ما شك فيه ويبني على ماستيقن، وأصحابنا سلكوا مسلك الجمع بين الأحاديث بدون صرف إلى الظاهر، فإن بعضها تدل على البناء على الأقل مطلقاً، وبعضها تدل على تحري الصواب، فحملوا الأولى على ما إذا لم يكن له رأي. والثانية على ما إذا كان له رأي، وقد بسطه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، بأحسن بسط فلْيُراجعْ.
(1) قوله: على اليقين، قد يقال: لا يقين مع الشك، ويُجاب بأن المراد به المتيقَّن، مثلاً إذا شك ثلاثاً صلّى أم أربعاً؟ فالثلاث هو المتيقَّن، والتردد إنما هو في الزيادة. فلا يمضي على المتيقَّن، فإنه إن فعل ذلك - أي الإمضاء على الأقل المتيقَّن - من غير أن يتحرّى ويعمل بغالبِ ظنه لم ينجُ بضم الجيم، أي: لم يحصل له النجاة في ما يرى في ما يذهب إليه من أخذ المتيقن من السهو أي: الاشتباه الذي يُدخِلُ عليه الشيطان، فإنه وإن بنى على الأقل وأتمَّ صلاته بأداء ركعة أخرى، لكن لا يزول منه التردد والاشتباه الذي يُبتلى به كثيراً بوسوسة الشيطان، فيقع في حرج دائم وتردد لازم بخلاف ما إذا تحرّى وبنى على غالب رأية وطرح الجانب الآخر فإنه حينئذٍ يحصل له الطمأنينة، ولا يغلب عليه الشيطان في تلك الواقعة.
(2) والظاهر أنه إشارة إلى جميع ما ذكر.
(3) ابن قيس الأنصاري أبو سعيد المدني.(1/459)
مَالِكٍ صَلَّى بِهِمْ فِي سفرٍ كَانَ (1) مَعَهُ فِيهِ فَصَلَّى سَجْدَتَيْنِ (2) ثُمَّ نَاءَ لِلْقِيَامِ، فسبَّح بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَرَجَعَ (3) ثُمَّ لَمَّا قَضَى (4) صَلاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ.
قَالَ (5) : لا أَدْرِي أَقْبَلَ التَّسْلِيمِ أو (6) بعده.
40 - (باب العبث (7) بالحصى فِي الصَّلاةِ وَمَا يُكره مِنْ تَسْوِيَتِهِ)
144 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الْقَارِئُ (8) قَالَ: رأيتُ ابْنَ عُمَرَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يسجدَ سَوَّى (9)
__________
(1) أي: كان يحيى مع أنس.
(2) أي: ركعتين.
(3) لعله لم يكن تباعد عن القعود، بل كان قريباً منه.
(4) أي: أتمّ.
(5) أي: يحيى بن سعيد.
(6) في نسخة: أم.
(7) بفتحتين: عمل لا فائدة فيه. الحصى: هي الحجارة الصغار تُفرش في المساجد ونحوها.
(8) بالهمز في الآخر، ويجوز حذفه تخفيفاً، فيسكن الياء، نسبةً إلى قراءة القرآن، ذكره السمعاني، وذكره عند المنتسبين به، وأبو جعفر يزيد بن القعقاع القارئ المدني مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، يروي عن ابن عمر، وعنه مالك، توفي سنة 132 هـ. انتهى.
(9) ليزيل شغله عن الصلاة بما يتأذّى.(1/460)
الْحَصَى (1) تَسْوِيَةً (2) خَفِيفَةً.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: كُنْتُ يَوْمًا أُصَلِّي، وَابْنُ عُمَرَ وَرَائِي (3) ، فالتفتُّ فَوَضَعَ يده في قفاي فغمزني (4) .
__________
(1) الحصى جمع حصاة (سنكريزة) (بالفارسية) . قوله: سوّى الحصى، حكى النووي اتفاق العلماء على كراهة مسح الحصباء وغيرها في الصلاة، وفيه نظر، لحكاية الخطابي، عن مالك أنه لم يَرَ به بأساً فكأنه لم يبلغه الخبر، كذا في الفتح والأَولى إن صح ذلك عن مالك أنه كان يفعله مرة واحدة مسحاً خفيفاً كفعل ابن عمر.
(2) قوله: تسوية، أي: مرةً واحدة خفيفة تحرزاً عن الإيذاء، وعن العمل الكثير، وقد ورد ذلك مرفوعاً، فأخرج الأئمة الستة عن مُعَيْقيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تمسح الحصى وأنت تصلي، فإن كنتَ لا بد فاعلاً فواحدة. وأخرج ابن أبي شيبة، عن جابر، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسح الحصى، قال واحدة ولئن تمسك عنها خير لك من مائة ناقة كلها سود الحدق وروى عبد الرزاق عن أبي ذر سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن مسح الحصى فقال: واحدة أو دعْ. وكذلك رواه ابن شيبة وأبو نعيم في "الحلية". وكذلك أخرجه أحمد عن حذيفة.
(3) أي: واقفاً أو قاعداً خلفي.
(4) الغمز: العصر والكبس باليد، قوله: فغمزني، تنبيهاً على كراهة الالتفات في الصلاة، أي: النظر يميناً وشمالاً، لما أخرجه أبو داود والنسائي عن أبي ذر مرفوعاً: لا يزال الله مُقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه. وأخرج البخاري عن عائشة: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في الصلاة؟ فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد، وأخرج الطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة مرفوعاً: إياكم والالتفات في الصلاة، فإن أحدكم يناجي ربَّه ما دام في الصلاة.(1/461)
145 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُسلم (1) بْنُ أَبِي مَرْيَمَ (2) ، عَنْ عَلِيِّ (3) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ المُعاوي (4) أَنَّهُ قَالَ: رَآنِي عبدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَنَا أَعْبَثُ بِالْحَصَى فِي الصَّلاةِ، فَلَمَّا انصرفتُ (5) نَهَانِي (6) وَقَالَ: اصْنَعْ كَمَا كَانَ (7) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ، فَقُلْتُ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ؟ قَالَ: كَانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إذا جلس في الصلاة
__________
(1) وثَّقه أبو داود والنسائي وابن معين، مات في خلافة المنصور، كذا في "الإسعاف".
(2) اسمه يسار المدني.
(3) وثَّقه أبو زرعة والنسائي، كذا قال السيوطي.
(4) بضم الميم، قال ابن عبد البر: منسوب إلى بني معاوية، فخذ من الأنصار، تابعي، مدني، ثقة، روى له مسلم وأبو داود، قاله الزرقاني.
(5) أي: فرغت من الصلاة.
(6) قوله: نهاني (عن ذلك لكراهته في الصلاة، ولم يأمر بالإعادة لأن العمل إذا لم يكثر لا يكون مفسداً، وهذا إجماع من الأئمة الأربعة، وإن كان العمل يسيراً، لم يبطلها، والمرجع في ذلك إلى العرف، مختصراً من أوجز المسالك 2/115) ، وإنما لم يأمره بالإعادة لأن ذلك والله أعلم كان منه يسيراً لم يشغله عن صلاته، ولا عن حدودها، والعمل اليسير في الصلاة لا يفسدها، كذا قال ابن عبد البر (الاستذكار 2/200) .
(7) لعل عبثه كان في حالة الجلوس، فلذلك علَّمه كيفية الجلوس النبوي.(1/462)
وَضَعَ كفَّه الْيُمْنَى (1) عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَقَبَضَ أصابعَه كلَّها (2) ، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ (3) الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ، ووضع كفَّه اليسرى على فخذه اليسرى.
__________
(1) قوله: وضع كفه اليمنى، قال ابن الهُمام في "فتح القدير". لا شك أن وضع الكف مع قبض الأصابع لا يتحقق حقيقةً، فالمراد - والله أعلم - وضعُ الكف ثم قبض الأصابع بعد ذلك للإشارة. وهو المرويّ عن محمد، وكذا عن أبي يوسف في "الأمالي". انتهى. وقال عليّ القاريّ في رسالته "تزيين العبارة لتحقيق الإشارة": المعتمد عندنا أنه لا يَعقد يُمناه إلا عند الإشارة لا ختلاف ألفاظ الحديث وأصناف العبارة، وبما ذكرنا يحصل الجمع بين الأدلة، فإن البعض يدل على أن العقد من أول وضع اليد على الفخذ، وبعضها يشير إلى أنه لا عقد أصلاً، فاختار بعضهم أنه لا يعقد ويشير بعضهم أنه يعقد عند قصد الإشارة ثم يرجع إلى ما كان عليه. والصحيح المختار عند جمهور أصحابنا أن يضع كفيه على فخذيه ثم عند وصوله إلى كلمة التوحيد يعقد الخنصر والبنصر ويحلق الوسطى والإبهام، ويشير بالمسبِّحة رافعاً لها عند النفي واضعاً عند الإثبات ثم يستمر ذلك لأنه ثبت العقد عند ذلك بلا خلاف ولم يوجد أمر بتغييره. فالأصل بقاء الشيء على ما هو عليه. انتهى.
(2) قوله: وقبض أصابع كلها، ظاهره العقد بدون التحليق، وثبت التحليق بروايات أخر صحيحة فيُحمل الاختلاف الأحوال والتوسع في الأمر، وظاهر بعض الأخبار الإشارة بدون التحليق والعقد، والمختار عند جمهور أصحابنا هو العقد والتحليق، والثاني أحسن كما حققه عليَّ القاري في رسالته: "تزيين العبارة" بعد ما أورد نُبَذاً من الأخبار.
(3) قوله: بإصبعه (وفي الحديث استحباب الإشارة بالسبابة وهو مجمع عليه عند الأئمة الأربعة. "أوجز المسالك" 2/116) ، وهي السبابة، زاد سفيان بن عُيَيْنة، عن مسلم بإسناده(1/463)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِصَنِيعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يأخذ، وَهُوَ (1) قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
__________
المذكور وقال: هي مذبَّة للشيطان لا يسهو أحدكم ما دام يشير بإصبعه. قال الباجي: فيه أن معنى الإشارة دفع السهو وقمع الشيطان.
(1) قوله: وهو قول أبي حنيفة، قال القاري في رسالته: مفهومه أن أبا يوسف مخالف لما قام عنده من الدليل وما ثبت لديه من التعليل والله أعلم بصحته. وإن لم يكن لنا معرفة بثبوته. انتهى. وفيه نظر، فإن من عادة محمد في هذا الكتاب وكذا في كتاب "الآثار" أنه ينص على مأخوذه ومأخوذ أستاذه أبي حنيفة فحسب، ولا يتعرض لمسلك أبي يوسف لا نفياً ولا إثباتاً فلا يكون تخصيصه بذكر مذهبه ومذهب الإمام دالاً على أن أبا يوسف مخالفٌ لهما، وقد ذكر ابن الهُمام في "فتح القدير" والشُّمُنِّي في "شرح النقاية" وغرهما أنه ذكر أبو يوسف في "الأمالي" مثل ما ذكر محمد، فظهر أن أصحابنا الثلاثة اتفقوا على تجويز الإشارة (اختلفت الأئمة فيما بينهم في مسألتين: أولاهما في كيفية الإشارة، في "المغني" ثلاث صور: الأولى التحليق، والثانية العقد، والثالثة الإشارة باسطاً يديه ثم قال: والأول أولى وذكر في المندوبات في نيل المآرب وفي الروض المربع التحليق فقط دون غيره وأما الثانية: فهي تحريك الأصابع، فلا يحرك الإصبع عندنا الحنفية وكذا عند الحنابلة، وهي المفتى به عند الشافعية. وبه قال ابن القاسم من المالكية والمشهور عند المالكية التحريك. انظر أوجز المسالك 2/117) لثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بروايات متعددة وطرق متكثِّرة لا سبيل إلى إنكارها ولا إلى ردّها، وقد قال به غيرهم من العلماء، حتى قال ابن عبد البر: إنه لا خلاف في ذلك، وإلى الله المشتكى من صنيع كثير من أصحابنا من أصحاب الفتاوى كصاحب "الخلاصة" و"البزازية الكبرى" و"العتابية" و"الغياثية" و"الولوالجية" و"عمدة المفتي" و"الظهيرية" وغيرها حيث ذكروا أن المختار هو عدم الإشارة، بل ذكر بعضهم أنها مكروهة، والذي حملهم على ذلك سكوت أئمتنا عن هذه المسألة(1/464)
فَأَمَّا تَسْوِيَةُ الْحَصَى فَلا بَأْسَ بِتَسْوِيَتِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَتَرْكُهَا أَفْضَلُ (1) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
41 - (بَابُ التَّشَهُّدِ (2) فِي الصَّلاةِ)
146 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تتشهَّد فَتَقُولُ: التحياتُ (3) الطيباتُ
__________
في ظاهر الرواية، ولم يعلموا أنه قد ثبت عنهم بروايات متعددة ولا أنه ورد في أحاديث متكثرة، فالحذر الحذر من الاعتماد على قولهم في هذه المسألة مع كونه مخالفاً لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بل وعن أئمتنا أيضاً، بل لو ثبت عن أئمتنا التصريح بالنفي وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الإثبات لكان فعل الرسول وأصحابه أحق وألزم بالقبول، فكيف وقد قال به أئمتنا أيضاً؟!
(1) قوله: أفضل، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يمسح الحصى فإن الرحمة تواجهه". أخرجه أصحاب السنن الأربعة من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه.
(2) هو تفعّل من تشهد، سمِّي به لاشتماله على النطق بالشهادة، والتشهُّد: ليس عند مالك في التشهد شيء مرفوع وإن كان غيره قد رفع ذلك، ومعلوم أنه لا يقال بالرأي. ولمّا علم مالك أن التشهد لم يكن إلاَّ توقيفاً، اختار تشهد عمر لأنه كان يعلِّمه الناس وهو على المنبر من غير نكير (قال الباجي 1/170: فإن قال قائل فقد أثبتم أن تشهد عمر بن الخطاب هو الصواب المأمور به وأن ما عداه ليس بمأمور به..فالجواب أن مالكاً رحمه الله اختار تشهُّد عمر بن الخطاب على سائر ما روي فيه بالدليل الذي ذكرناه إلاَّ أنه مع ذلك يقول: من أخذ بغيره لا يأثم ولا يكون تاركاً للتشهد في الصلاة ... إلخ) ، كذا في "الاستذكار".
(3) فسرها بعضهم بالمُلك وبعضهم بالبقاء وبعضهم بالسلام.(1/465)
الصلواتُ (1) الزاكياتُ لِلَّهِ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسولُه، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النبيُّ وَرَحْمَةُ الله وركاته، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، السَّلامُ عَلَيْكُمْ.
147 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (2) بْنِ عَبْدِ (3) الْقَارِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ يعلِّم النَّاسَ التَّشَهُّدَ، وَيَقُولُ: قُولُوا: التَّحِيَّاتُ (4) لِلَّهِ، الزَّاكِيَّاتُ (5) لِلَّهِ الطَّيِّبَاتُ (6) الصَّلَوَاتُ (7) لِلَّهِ السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وركاته، السلام (8)
__________
(1) أي: الدعوات الصافيات.
(2) قوله: عبد الرحمن، عامل عمر على بيت المال، ذكره العجلي في ثقات التابعين، واختلف قول الواقدي فيه، قال تارة: له صحبة وقال تارة: تابعي، مات سنة 88 هـ، كذا قال ابن حجر.
(3) بغير إضافة (القاري) بتشديد الياء نسبة إلى قارة بطن من خزيمة بن مدركة، كذا قال الزرقاني.
(4) قوله: التحيات، عن القتبي أن الجمع في لفظ التحيات سببه أنهم كانوا يحيون الملوك بأثنية مختلفة كقولهم: أنعم صباحاً، وعش كذا سنة، فقيل: استحقاق الأثنية كلها لله تعالى، كذا في "التنوير".
(5) قال ابن حبيب: هي صالح الأعمال.
(6) أي: طيبات القول.
(7) قوله: الصلوات، قال القاضي أبو الوليد: معناه أنها لا ينبغي أن يُراد بها غير الله، وقال الرافعي: معناه الرحمة لله على العباد.
(8) قوله: السلام، قيل السلام هو الله، ومعناه الله على حفظنا، وقيل هو جمع سلامة.(1/466)
عَلَيْنَا (1) وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ (2) ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه.
148 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَتَشَهَّدُ فَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ (3) ، التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، وَالزَّاكِيَّاتُ لِلَّهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ (4) أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ شهدتُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَشِهِدْتُ أَنْ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.
يَقُولُ (5) هَذَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُوليَين، ويدعو (6) بما بدا
__________
(1) يريد به المصلِّي نفسه والحاضرين من الإمام والمأمومين والملائكة.
(2) استنبط منه السبكي أن في الصلاة حقاً للعباد مع حق الله.
(3) قوله: بسم الله، قد ذكر السخاوي في "المقاصد الحسنة" أن زيادة البسملة في التشهد غير صحيحة، وقد أوضحته في رسالتي "إحكام القنطرة في أحكام البسملة"، لكن لا يخفى أن سند مالك صحيح، وفيه الزيادة موجودة فيُحمل على كونها أحياناً ولا يُنكر أصل الثبوت.
(4) قوله: السلام عليك، كذا رأيتُه في نسخ هذا الكتاب، وذكر الزرقاني في "شرح الموطأ"، برواية يحيى: "السلام على النبي" بإسقاط كاف الخطاب ولفظ: أيها.
(5) أي: ابن عمر.
(6) أي: ابن عمر، أجازه مالك في رواية ابن نافع، والمذهب كراهة الدعاء في التشهد الأول.(1/467)
لَهُ (1) إِذَا قَضَى تشهُّدَه، فَإِذَا جَلَسَ فِي آخِرِ صَلاتِهِ تَشَهَّدَ كَذَلِكَ (2) إلاَّ أَنَّهُ يقدِّم التَّشَهُّدَ ثُمَّ يَدْعُو بِمَا بَدَا لَهُ (3) ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَ قَالَ: السَّلامُ (4) عَلَى النَّبِيِّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. السَّلامُ عَلَيْكُمْ عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ يَرُدُّ (5) عَلَى الإِمَامِ، فَإِنْ سلَّم عَلَيْهِ (6) أَحَدٌ عن يساره ردَّ (7) عليه.
__________
(1) قوله: ويدعو بما بدا له (ظاهر الحديث أن المصلي يدعو بما شاء، قال العيني: اعلم أن العلماء اختلفوا فيما يدعو به الإنسان في صلاته، فعند أبي حنيفة وأحمد لا يجوز الدعاء إلاّ بالأدعية المأثورة أو الموافقة للقرآن العظيم، وقال الشافعي ومالك: يجوز أن يدعو فيها بكلّ ما يجوز أن يدعو به خارج الصلاة من أمور الدنيا والدين. انظر: "أوجز المسالك" 2/137) ، فيه جواز الدعاء في التشهد الأول، وبه أخذ ابن دقيق العيد حيث قال: المختار أن يدعو في التشهد الأول كما في التشهد الأخير لعموم الحديث: "إذا تشهَّد أحدكم فليتعوذ بالله من أربع". وتُعُقِّب بأنه ورد في الصحيح، عن أبي هريرة بلفظ: "إذا فَرَغَ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ ... "، وروى أحمد وابن خزيمة، عن ابن مسعود: علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في أول الصلاة وآخرها: فإذا كان في وسط الصلاة نهض إذا فرغ من التشهد، وإذا كان في آخره دعا لنفسه ما شاء، وقال القاري: هذا عندنا محمول على السنن والنوافل.
(2) أي: مثل ما مرَّ.
(3) أي: ظهر له.
(4) هذه زيادة، كان ابن عمر اختاره ليختمه بالسلام على النبي وعلى الصالحين.
(5) أي: ينوي في سلامه الرد عليه.
(6) بأن كان مصلياً مع الإمام.
(7) أي: نواه في سلامه عن يساره.(1/468)
قَالَ مُحَمَّدٌ: التشهُّد الَّذِي ذُكر كلُّه حَسَنٌ (1) وليس يشبه تشهُّد
__________
(1) قوله: الذي ذُكر كلُّه حسن، قد رُوي عن جماعة (جملة من روى التشهد بألفاظ مختلفة من الصحابة أربعة وعشرون صحابياً كما في "التلخيص" وأشار إلى رواياتهم ومثله في "عمدة القاري" 3/178) ، من الصحابة التشهد مرفوعاً، وموقوفاً بألفاظ مختلفة عل ما بسطه الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث الرافعي".
فمنهم أبو موسى الأشعري، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا وبيَّن لنا سنَّتنا وعلَّمنا صلاتنا فقال: إذا صلَّيتم فكان عند القعدة فليكن من أول قول أحدكم: التحيات الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والطبراني.
ومنهم ابن عمر، أخرج أبو داود عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد: التحيات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله - قال ابن عمر: زدتٌ فيها وبركاته - السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله - قال ابن عمر: زدت وحده لا شريك له - وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ورواه الدارقطني، عن ابن أبي داود، عن نصر بن علي، عن أبيه، عن شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد، عنه، وقال: إسناده صحيح، وقد تابعه على رفعه ابن أبي عدي، عن شعبة، ووقفه غيرهما، ورواه البزار، عن نصر بن علي، وقال: رواه غير واحد، عن ابن عمر ولا أعلم أحداً رفعه، عن شعبة غيره، وقول الدارقطني يرد عليه، وقال يحيى بن معين: كان شعبة يضعِّف حديث أبي بشر، عن مجاهد، وقال: ما سمع منه شيئاً، إنما رواه ابن عمر، عن أبي بكر موقوفاً.
ومنهم عائشة، وروى الحسن بن سفيان في مسنده والبيهقي، عن القاسم بن(1/469)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
محمد قال: علَّمتني عائشة قالت: هذا تشهُّد النبي صلى الله عليه وسلم: التحيات لله والصلوات والطيبات ... إلخ، ووقفه مالك، ورجَّح الدارقطني في "العلل" وقفَه، ورواه البيهقي من وجه آخر وفيه التسمية، وفيه محمد بن إسحاق وقد صرح بالتحديث لكن ضعَّفها البيهقي لمخالفته من هو أحفظ منه.
ومنهم سمرة، روى أبو داود عنه مرفوعاً: قولوا: التحيات لله، الطيبات والصلوات، والمُلك لله، ثم سلِّموا على النبي وسلِّموا على أقاربكم وأنفسكم، وإسناده ضعيف.
ومنهم علي، أخرج الطبراني في "الأوسط" من حديث عبد الله بن عطاء عن النهدي: سألت الحسن بن علي، عن تشهُّد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: سلني عن تشهد علي، فقلت: حدِّثني بتشهد علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: التحيات لله والصلوات والطيبات والغاديات والرائحات (في الأصل: "الرابحات"، وهو تحريف) والزاكيات والناعمات السابغات الطاهرات لله، وإسناده ضعيف، وأخرجه ابن مردويه من طريق آخر ولم يرفعه وفيه زيادة: ما طاب فهو لله وما خبث فلغيره.
ومنهم ابن الزبير، أخرج الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" من حديث ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد سمعت أبا الورد، سمعت ابن الزبير يقول: إن تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بسم الله وبالله خير الأسماء، التحيات لله والصلوات والطيبات أشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداًعبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، اللهم اغفر لي واهدني في الركعتين الأوليين.
ومنهم معاوية، أخرج الطبراني في "الكبير" مثل تشهُّد ابن مسعود.
ومنهم سلمان، أخرج الطبراني والبزّار مثل تشهد ابن مسعود، وقال في(1/470)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
آخره: قلها في صلواتك، ولا تزد فيها حرفاً ولا تنقص منها حرفاً، وإسناده ضعيف. ومنهم أبو حميد أخرج الطبراني عنه مرفوعاً مثله، ولكن زاد بعد الطيبات: الزاكيات، وأسقط واو الطيبات، وإسناده ضعيف.
ومنهم ابن عباس، أخرج مسلم والشافعي والترمذي عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّمنا التشهُّد كما يعلِّمنا السورة من القرآن، فكان يقول التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ... إلخ، وأخرجه الدارقطني وابن ماجه وابن حبان وغيرهم.
ومنهم ابن مسعود، أخرج تشهُّدَه الأئمة الستة، ورواه أبو بكر بن مردويه في كتاب "التشهد" له من حديث أبي بكر مرفوعاً وإسناده حسن، ومن رواية عمر مرفوعاً وإسناده ضعيف، ومن حديث الحسين بن علي، ومن حديث طلحة بن عبيد الله وإسناده حسن. ومن حديث أنس وإسناده صحيح، ومن حديث أبي هريرة وإسناده صحيح، ومن حديث أبي سعيد وإسناده صحيح، ومن حديث الفضل بن عباس وأم سلمة وحذيفة والمطلب بن ربيعة وابن أبي أوفى، وفي أسانيدهم مقال، ومنهم عمر أخرجه مالك ومن طريقه الشافعي ورواه الحاكم والبيهقي، وفي رواية للبيهقي في أوله: (بسم الله خير الأسماء) وهي منقطعة، وقال الدارقطني: لم يختلفوا في أن هذا موقوف على عمر، ورواه البعض، عن ابن أبي أويس، عن مالك مرفوعاً، وهو وهم.
ومنهم جابر. أخرج النَّسائي وابن ماجه والطبراني والحاكم كلهم من طريق أيمن، عن أبي الزبير، عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن: بسم الله وبالله، التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أسأل الجنة وأعوذ بالله من النار، ورجاله ثقات إلاّ أن أيمن أخطأ في إسناده، وخالفه الليث وهو من أوثق الناس في أبي الزبير، فقال: عن أبي الزبير، عن طاووس وسعيد بن جبير، عن ابن عباس، وقال(1/471)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعِنْدَنَا (1) تشهُّدُه لأَنَّهُ (2) رَوَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وعليه العامة عندنا.
__________
حمزة بن محمد الحافظ: قوله، عن جابر خطأ، ولا أعلم أحداً قال في التشهد باسم الله وبالله إلاَّ أيمن، وقال الدارقطني: ليس بالقويّ، خالف الناس.
هذا خلاصة ما ذكره ابن حجر، فهذه التشهدات المروية مرفوعة أو موقوفة كلها حسنة دالة على كون الأمر موسَّعاً، وقد ذكر ابن عبد البر أنَّ الاختلاف في التشهُّد وفي الأذان والإقامة وعدد التكبير على الجنائز وعدد التكبير في العيدين ورفع الأيدي عند الركوع والرفع في الصلاة ونحو ذلك كله اختلاف في مباح، وبمثله ذكر أحمد بن عبد الحليم بن تيمية في "منهاج السنة" فليُحفَظ.
(1) قوله: وعندنا، أي: المختار عندنا تشهُّد ابن مسعود، وعند الشافعي تشهد ابن عباس، وعند مالك تشهد عمر، ولكلٍّ وجوه توجب الترجيح ما ذهب إليه، والخلاف إنما هو في الأفضلية (وقد أجمع العلماء على جواز كل واحد منها، كذا قال النووي في "شرح المهذب" 3/457) كما صرح به جماعة من أصحابنا، ويشير إليه كلام محمد ههنا، فما اختاره صاحب "البحر" من تعيين تشهد ابن مسعود وجوباً وكون غيره مكروهاً تحريماً مخالف الدراية والرواية فلا يُعوَّل عليه.
(2) قوله: لأنه رواه ... إلخ، هذا الوجه إنما يستقيم بالنسبة إلى ما رواه مالك من تشهد ابن عمر وعمر وعائشة موقوفاً وإلا فقد روى غير أبن مسعود أيضاً تشهده عن النبي صلى الله عليه وسلم كما مر بسطه، وهناك وجوه أُخر ترجح تشهد ابن مسعود على غيره، منها: أن حديثه أصح كما قال الترمذي: هو أصح حديث روي في التشهد، وقال البزّار: أصح حديث عندي في التشهد حديث ابن مسعود، روي عن نيِّف وعشرين وجهاً ولا يُعلم روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثبتَ منه ولا أصح إسناداً ولا أشهر رجالاً ولا أشد تضافراً بكثرة الأسانيد، وقال مسلم: إنما اجتمع الناس على تشهد ابن مسعود لأن أصحابه لا يخالف بعضهم بعضاً، وغيره قد اختلف أصحابه، وقال(1/472)
149 - قَالَ مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا مُحِلّ بْنُ مُحرِز الضَّبِّي، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ وَائِلٍ الأَسْدِيِّ (1) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كُنَّا (2) إِذَا صلَّينا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم
__________
محمد بن يحيى الذهلي: حديث ابن مسعود أصح ما روي في التشهد، وروى الطبراني في "الكبير"، عن بريدة بن الخصيب قال: ما سمعتُ أحسن من تشهُّد ابن مسعود، كذا ذكره الحافظ ابن حجر ومنها: أن الأئمة الستَّة اتفقوا على تخريجه لفظاً ومعنى، وهو نادر، وتشهد ابن عباس من أفراد مسلم، وغيره في غيرهما، ذكره الزيلعي. ومنها: أن فيه تأكيد التعليم كما أخرجه أبو حنيفة، عن القاسم، قال: أخذ علقمة بيدي، فحدثني أن ابن مسعود أخذ بيده وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وعلَّمه التشهد، وليس ذلك في غيره، ذكره ابن الهمام. ومنها: أن فيه زيادة الواو وهي لتجديد الكلام بخلاف تشهد ابن عباس ذكره صاحب "الهداية" وغيره. ومنها: ما ذكره الزيلعي وابن الهُمام وابن حجر أن الترمذي أخرج بسنده عن خُصَيْف أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال: [ (زاد في نسخة) يا رسول الله إن الناس قد اختلفوا في التشهد، فقال:] عليك بتشهد ابن مسعود. ومنها: أنه وافقه جمع من الصحابة دون غيره (عدَّ الشيخ محمد حسن السنبهلي اثنين وعشرين وجهاً للترجيح ولكنها مدخولة. من شاء فليراجع "تنسيق النظام": ص 77) .
(1) نسبة إلى أسد، بفتحتين، اسم عدة قبائل.
(2) قوله: كنا ... إلخ، فيه دليل على أن أوَّل ما فُرضت الصلاة لم يكن التشهُّد مشروعاً فيها لا فرضاً ولا سنَّة، يؤخذ ذلك من قوله: كنا إذا صلينا ... إلخ، فدل على أنهم بقُوا زماناً كذلك إلى اليوم الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاهم وأمرهم بالتحيات لله والصلوات ... إلخ، وفيه دليل على أن ما كان من زيادة ذكر أو دعاء في الصلاة لا يفسدها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بإعادة الصلاة التي تقدَّمت، كذا في "بهجة النفوس شرح مختصر البخاري" لابن أبي جَمرة.(1/473)
قُلْنَا (1) السَّلامُ عَلَى اللَّهِ (2) ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاتَه ذاتَ يَوْمٍ (3) ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: لا تَقُولُوا (4) السَّلامُ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ (5) هُوَ السَّلامُ (6) ، وَلَكِنْ قولوا (7) : التحياتُ لله والصلواتُ والطيباتُ، السلام
__________
(1) أي: في قعود التشهد.
(2) قوله: على الله، وفي رواية البخاري ومسلم وغيرهما: السلام على الله قبل عباده، والسلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان أي على ملك من الملائكة أو نبي من الأنبياء، كذا في "المرقاة". (1/556) .
(3) أي: في يوم من الأيام.
(4) قوله: لا تقولوا، كان الصحابة يسلِّمون في القعود على الله وعلى الملائكة فنهاهم من التسليم على الله، وأما السلام على الملائكة فلم ينكر عليهم بل أرشدهم إلى ما يعمّ المذكورين وغيرهم بقوله: " وعلى عباد الله الصالحين"، وقال: "إذا قلتموها أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض"، وهذا من جوامع الكلام، كذا في "التوشيح شرح صحيح البخاري" للسيوطي.
(5) في نسخة: فالله.
(6) أي هو الذي يعطي السلام لعباده، فأنى يُدعى له، قوله: فإن الله هو السلام، بقي ههنا بحث وهو أنه: لِمَ نهاهم عن أن يقولوا: السلام على الله من عباده، ثم أمرهم أن يقولوا: التحيات؟ والانفصال عنه أن السلام هو الأمان وليس على الله خوفٌ من أحد فنهاهم لأنه تعالى يُطلب منه الأمان وهو الذي يؤمن، كذا في "بهجة النفوس".
(7) قوله: قولوا، الأمر فيه للوجوب كما قاله ابن ملك فينجبر بسجود السهو، وكذا القعود الأول واجب، وأما الأخير ففرض عندنا، كذا في "مرقاة المفاتيح".(1/474)
عَلَيْكَ (1) أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله
__________
(1) قوله: السلام عليك ... إلخ، ورد في بعض طرق حديث ابن مسعود ما يقتضي المغايرة بين زمانه صلى الله عليه وسلم وما بعده في الخطاب (في بذل المجهود 5/283: لو كان كذلك كان ينبغي أن يُقال في حياته صلى الله عليه وسلم عند الغَيْبَة في السفر وغيره بدون لفظ الخطاب ولم يثبت بعد، بل كانوا يقولون في الحضور والغيبة بلفظ الخطاب، فينبغي أن يُقال بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أيضاً كذلك) ، ففي الاستئذان من صحيح البخاري من طريق أبي معمر عنه بعد أن ساق حديث التشهّد، قال: وهو بين أظهرنا (هكذا في أصل الكتاب والصواب بين ظهرانينا. وقال الحافظ جمال الدين الملطي في معتصره: 1/35 بعد ذكر الحديث المذكور من قوله: بين ظهرانينا - إلى - على النبي: منكر لا يصح، وذلك مخالف لما عليه العامة) ، فلما قُبض قلنا: السلام يعني على النبي. وأخرجه أبو عَوَانة في صحيحه وأبو نعيم والبيهقي من طرق متعددة بلفظ: فلما قُبض قلنا السلام على النبي، وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة. قال السبكي في "شرح المنهاج" بعد أن ساقه مسنداً إلى أبي عوانة وحده: إن صح عن الصحابة هذا دلَّ على أن الخطاب في السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير واجب. انتهى. قلت: قد صحَّ بلا ريب، وقد وجدتُ له متابعاً قوياً، قال عبد الرزاق: أنا ابن جريج، أخبرني عطاء أن الصحابة كانوا يقولون والنبي صلى الله عليه وسلم حيّ: السلام عليك أيها النبي، فلما مات قالوا: السلام على النبي، وإسناده صحيح. وأما ما روى سعيد بن منصور من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّمهم (في الأصل: "علَّمه"، والظاهر: "علَّمهم" كما في "فتح الباري" 2/314) التشهد فذكره، قال: فقال ابن عباس: إنما كنا نقول: السلام عليك أيها النبي إذا كان حياً، فقال ابن مسعود: هكذا علَّمناه، وهكذا نعلِّم، فظاهره أن ابن عباس قاله بحثاً، وأن ابن مسعود لم يرجع إليه، لكن رواية أبي معمر أصح لأن أبا عُبيدة لم يسمع من أبيه والإسناد إليه مع ذلك ضعيف، فكذا في "فتح الباري".(1/475)
وأشهد (1) أن محمداً عبد وَرَسُولُهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَكره (2) أَنْ يُزاد فيه حرف أو يُنقص (3) منه حرف.
__________
(1) قوله: أشهد أن، قال الرافعي: المنقول أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يقول في تشهده أشهد أني رسول الله، ولا أصل لذلك، بل ألفاظ التشهد متواترة عنه صلى الله عليه وسلم، كان يقول: أشهد أن محمداً رسول الله أو عبده ورسوله، كذا في "التلخيص (في الأصل: "تلخيص الحبير"، وهو تحريف) الحبير في تخريج أحاديث الشرح الكبير" لابن حجر رحمه الله.
(2) قوله: يَكره أن يُزاد، لأنه تلقّاه من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلَّمه كما كان يعلِّم السورة من القرآن، فأحب أن لا يُزاد فيه ولا ينقص. وقد أخرج الطحاوي عن المسيّب بن رافع أنه سمع عبد الله بن مسعود رجلاً يقول في التشهد: بسم الله، التحيات لله، فقال له: أتأكل؟ وأخرج أيضاً، عن الربيع بن خيثم أنه لقي علقمة فقال: إنه قد بدا لي أن أزيد في التشهد "ومغفرته"، فقال علقمة: ننتهي إلى ما عُلّمناه. وأخرج عن أبي إسحاق قال: أتيت أبا الأسود، فقلت إن أبا الأحوص قد زادَ "والمباركات"، قال: فأته، فقل له: إن الأسود ينهاك ويقول لك: إن علقمة بن قيس تعلَّمهن من عبد الله كما يتعلم السورة من القرآن عدَّهن عبد الله في يده (في "شرح معاني الآثار" 1/156: "إن أبا الأحوص قد زاد في خطبة الصلاة") .
(3) قوله: أو ينقص، هذا ينافي ما روي أنه كان يقول بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم "على النبي"، وكذا روي عن غيره كما بسطه ابن حجر في "فتح الباري" ولعله كَرِه نقصاناً يخلُّ بالمعنى لا مطلقاً.(1/476)
42 - (بَابُ السُّنَّةِ فِي السُّجُودِ)
150 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَجَدَ وَضَعَ كفَّيه عَلَى الَّذِي (1) يَضَعُ جَبهتَه عَلَيْهِ، قَالَ: ورأيتُهُ فِي بَرْدٍ شَدِيدٍ وَإِنَّهُ (2) لَيُخْرِجُ كَفَّيه (3) مِنْ بُرْنُسِهِ (4) حَتَّى يضَعَهما عَلَى الْحَصَى.
151 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ وَضَعَ (5) جَبْهَتَهُ بِالأَرْضِ (6) فليَضَع كفَّيه، ثُمَّ إِذَا رَفَعَ جَبْهَتَهُ فَلْيَرْفَعْ كَفَّيْهِ، فَإِنَّ الْيَدَيْنِ (7) تَسْجُدَانِ (8) كَمَا يَسْجُدُ الوجه.
__________
(1) أي على المكان الذي يضع جبهته عليه يعني بقربه.
(2) بكسر الهمزة، أي: والحال أنه.
(3) تحصيلاً للأفضل.
(4) قوله برنسه، البُرنُس كل ثوب رأسه منه مُلتزق به (سقط في الأصل: "به" انظر: "مجمع بحار الأنوار" 1/168) . من درَّاعة أو جبَّة أو ممطر أو غيره كذا في النهاية.
(5) أي: أراده.
(6) في نسخة: في الأرض.
(7) فيه إشارة إلى أنه يستحب أن يستقبل بأصابعه القبله، كذا في "مرقاة المفاتيح".
(8) قوله: فإنَّ اليدين تسجدان، يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سجد العبد سجد معه سبعةُ آراب: وجهه وكفّاه وركبتاه وقدماه، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو نعيم وابن حبان وغيرهم من حديث عباس. وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، عن سعد مرفوعاً: "أُمر العبد أن يسجد على سبعة آراب: وجهه وكفّيه وركبتيه وقدميه".(1/477)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ إِذَا وَضَعَ (1) جَبْهَتَهُ سَاجِدًا أَنْ يَضَعَ (2) كَفَّيْهِ بِحَذَاءِ (3) أُذُنَيْهِ (4) وَيَجْمَعَ (5) أَصَابِعَهُ نَحْوَ القِبلة، وَلا يَفْتَحْهَا، فإذا رفع رأسه رفعهما مع ذلك (6)
__________
(1) أي: قصده مريداً للسجدة.
(2) قبل وضع الجبهة.
(3) قوله: بحذاء أذنيه، كل من ذهب إلى أن الرفع في افتتاح الصلاة إلى المنكبين جعل وضع اليدين في السجود حيال المنكبين، وقد ثبت في ما تقدم تصحيح قول من ذهب في الرفع في الافتتاح إلى حيال الأذنين، فتحقق بذلك أيضاً قول من ذهب في وضع اليدين في السجود بحيال الأذنين وهو قول أبي حنيفة ومحمد وأبي يوسف، كذا في "شرح معاني الآثار" للطحاوي.
(4) قوله: أذنيه، هكذا رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وضع وجهه بين كفَّيه من حديث وائل. أخرجه مسلم وأبو داود وأسحاق بن راهويه وابن أبي شيبة والطحاوي، ومن حديث البراء أخرجه الترمذي. وأخرج البخاري وأبو داود والترمذي من حديث أبي حميد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع اليدين حذو المنكبين. وبه أخذ الشافعي ومن تبعه، وقال ابن الهُمام في "فتح القدير": لو قال قائل: إن السنَّة أن تفعل أيهما تيسَّر جمعاً للمرويات بناءً على أنه عليه السلام كان يفعل هذا أحياناً وهذا أحياناً إلاّ أن بين الكفين أفضل، لأن فيه تخليص المجافاة المسنونة ما ليس في الآخر كان حسناً. انتهى. وأقرّه تلميذُه ابنُ أمير حاج في "الحِلبة" (في الأصل: "الحلية"، وهو تحريف) .
(5) لما أخرجه ابن حبان في صحيحه، عن وائل: أنه عليه السلام كان إذا سجد ضمَّ أصابعه.
(6) قوله: مع ذلك، أي: بدون زيادة التأخير، وإلا فرفع اليدين بعد رفع الجبهة.(1/478)
فَأَمَّا (1) مَنْ أَصَابَهُ بَرْدٌ يُؤْذِي، وَجَعَلَ يَدَيْهِ عَلَى الأَرْضِ مِنْ تَحْتِ كِسَاءٍ أَوْ ثَوْبٍ فَلا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
43 - (بَابُ الْجُلُوسِ فِي الصَّلاةِ)
152 - أَخْبَرَنَا مالك، حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ صَلَّى إِلَى جَنْبِهِ رَجُلٌ (2) ، فَلَمَّا جَلَسَ الرَّجُلُ تربَّع وَثَنَّى (3) رِجْلَيْهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ ابنُ عُمَرَ عَابَ (4) ذَلِكَ عَلَيْهِ، قَالَ الرَّجُلُ: فَإِنَّكَ تَفْعَلُهُ! قَالَ إِنِّي أَشْتَكِي (5) .
153 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ (6)
__________
(1) قوله: فأما من، يشير إلى أن ما اختاره من إخراج اليدين عن البرنس في البرد الشديد ليس مما لا بدَّ منه.
(2) قوله: رجل، لعله هو ابنه عبد الله على ما في الرواية الآتية، فقد أخرجها البخاري أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَبَاهُ يتربَّع فِي الصَّلاةِ ... الحديث وفي آخره: فقلت: إنك تفعل ذلك؟ فقال: إن رجليَّ لا تحملاني، وكذلك أخرجه أبو داود والنسائي.
(3) أي: عطف إحداهما إلى الأخرى.
(4) قوله عاب، فيه: أن التربُّع لا يجوز للجالس في صلاته من الرجال إذا كانوا أصحّاء، واختُلف فيه النسائي، وفيه دليل على أن من لم يَقدر على الإتيان بسنَّة الصلاة أو فريضة جاء بما يقدر عليه منها مما يناسبها، كذا في "الاستذكار".
(5) قال الباجي: لأنه كان فُدِع بخيبر فلم تعد رجلاه إلى ما كانت عليه.
(6) قوله: عن، في رواية معن وغيره، عن مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عبد الله، وكان عبد الرحمن سمعه من أبيه، عنه، ثم لقيه أو سمعه من معه، ذكره الحافظ.(1/479)
عَبْدِ اللَّهِ (1) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَبَاهُ (2) يتربَّع فِي الصَّلاةِ إِذَا جَلَسَ (3) ، قَالَ (4) : ففعلتُه (5) وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حديثُ السِّنِّ (6) فَنَهَانِي (7) أَبِي، فَقَالَ (8) : إِنَّهَا لَيْسَتْ بسنَّةِ الصَّلاةِ، وَإِنَّمَا سُنّة (9) الصَّلاةِ أَنْ تَنْصِبَ (10) رجلَكَ اليمنى وتثني (11) رجلَكَ اليُسرى.
__________
(1) قوله: عبد الله بن عبد الله، بتكبير الإسمين، وهو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بن الخطاب القرشي العدوي، أبو عبد الرحمن المدني تابعي ثقة باتفاق. كان وصيّ أبيه، مات بالمدينة سنة 105 هـ، روى له الجماعة ما عدا ابن ماجه، كذا في "ضياء الساري"، وقد وُجد في كثير من نسخ هذا الكتاب، عن عبيد الله بن عبد الله.
(2) وهو عبد الله بن عمر بن الخطاب.
(3) للتشهُّد.
(4) أي: عبد الله.
(5) أي: التربُّع.
(6) أي: شابّ.
(7) عن التربُّع.
(8) وفي رواية: وقال، وفي رواية: قال.
(9) هذه الصيغة حكمها الرفع.
(10) أي: لا تلصقها بالأرض.
(11) بفتح المثنّاة، أي: تعطفها، وقوله: وتثني رجلك اليسرى، لم يبيّن في هذه الرواية ما يصنع بعد ثنيها: هل يجلس فوقها أو يجلس على وركه؟ ووقع في "الموطأ"، عن يحيى بن سعيد: أن القاسم بن محمد أَراهم الجلوس في(1/480)
قال محمد: وبهذا (1) نأخذ،
__________
التشهُّد، فنصب رجله اليُمنى وثنى اليسرى وجلس على وركه اليسرى، ولم يجلس على قدمه، ثم قال: أراني هذا عبد الله بن عبد الله بن عمر وحدَّثني أن أباه كان يفعل ذلك. فتبيَّن (قلت: إن رواية القاسم لا تكون بياناً لفعل ابن عمر، لأن هذا قول منه - رضي الله عنه - وإرشاد إلى فعل السنَّة، ورد نكير على من اقتدى بفعله، ولذا اعتذر عن فعله بأنه شكوى في رجله، لا يستطيع الجلوس على هذا النهج، فليتَ شعري كيف يكون فعلُهُ بياناً لقوله هذا، ولو كان كذلك لكان نكيره وردّه على ابنه عبد الله عبثاً، فلا يمكن أن يكون تفسير هذا القول إلاّ حديث النسائي القولي فتأمل. انظر: أوجز المسالك 2/122) من رواية القاسم ما أُجمل في رواية ابنه، كذا في "الفتح" (في نسخه: "كذا في فتح القدير") .
(1) قوله: وبهذا نأخذ، حمل أثر ابن عمر على نصب اليمنى والقعود على اليسرى بعد ثَنْيِها وفَرشها كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه في جميع القعدات. وأقول: فيه نظر، فإن أثر ابن عمر هذا الذي رواه ههنا مجمل لا يكشف المقصود لأنّ ثَنْيَ الرِّجل اليسرى عام من أن يجلس عليها أو يجلس على الورك، وقد أوضحه ما أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، عن يحيى بن سعيد: أن القاسم بن محمد أراهم الجلوس، فنصب اليمنى وثنى رجله اليسرى وجلس على وركه اليسرى ولم يجلس على قدميه، ثم قال: أراني هذا عبدُ الله بن عبد الله بن عمر وقال: إن أباه كان يفعل ذلك. وكذا أخرجه مالك في "الموطأ"، عن يحيى، فهذا يدل على أن ثَنْيَ الرجل المذكور في رواية عبد الرحمن بن القاسم، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر محمول على عطفها من غير جلوس عليها، بل على وركه. وهذا هو التورُّك المسنون عند الشافعية. فإذن الأثر المذكور ههنا صار شاهداً لمذهب الشافعية لا لمذهبنا، وعليه حمله شُرّاح "الموطأ"، وجعلوه شاهداً لمذهب مالك وهو التورُّك في جميع القعدات، وكذا حمله الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، حيث قال بعد إخراج أثر القاسم بن محمد وأثر عبد الله بن عبد الله: فذهب قوم إلى أن القعود في الصلاة كلِّها أن تنصب رجله اليمنى وتثنى اليسرى، وتقعد على(1/481)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة (1) - رحمه الله -
__________
الأرض، واحتجوا في ذلك بما وصفه يحيى بن سعيد في حديثه من القعود، وبقول عبد الله بن عمر في حديث عبد الرحمن أن تلك سُنَّة الصلاة. انتهى. إلاّ أن يُقال: قد روى النسائي، عن يحيى، عن القاسم بن محمد، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه أنه قال: من سنة الصلاة أن تضجع رجلَك اليسرى وتنصب اليمنى، وفي رواية له بالطريق المذكور: من سُنة الصلاة أن تنصب القدم اليمنى واستقباله بأصابعها القبلة والجلوس على اليسرى. فهذا يكشف لك أن المراد بالثَني في رواية مالك وغيره المختصرة هو عطفها والجلوس عليها، وأما ما أراه القاسم يحيى من صفة القعود وأسنده عن عبد الله بن عبد الله بن عمر أن أباه كان يفعل ذلك فهو محمول على الهيئة التي كان ابن عمر يقعد عليها بسبب العلة وعدم حمل رجله القعدة المسنونة، لكن يبقى حينئذٍ أنه يخالف ما ورد في رواية مالك وغيره أن القعود الذي كان ابن عمر يرتكبه لأجل العلة هو التربع، وهو مستعمل في معنيين:
أحدهما: أن يخالف بين رجليه فيضع رجله اليمنى تحت ركبته اليسرى ورجله اليسرى تحت ركبته اليمنى، والثاني: أن يثني رجليه في جانب واحد فتكون رجله اليسرى تحت فخذه وساقه اليمنى ويثني رجله اليمنى فتكون عند أليته اليمنى، كذا ذكره الباجي في "شرح الموطأ"، وقال: يشبه أن يكون هذه أي الأخيرة هي التي عابها ابن عمر على رَجُل تربَّع، وما أراه القاسم يحيى فيه نصب اليمنى فهو ليس بتربع، بأي معنى أُخذ فلا يمكن حمله على قعود ابن عمر للعلة (قلت: يمكن حمله على ذلك لأن ابن عمر لأجل شكوى في رجله يجلس كيفما تيسّر عليه، طوراً يجلس مُقعياً، وطوراً يجلس متربعاً، ويجلس متوركاً، وإن الجالس المعذور يجلس كيفما تيسر عليه، "أوجز المسالك" 2/123) .
(1) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال ابن المبارك والثوري وأهل الكوفة ذكره الترمذي، وذكر ابن عبد البر أنه مذهب حسن بن حيّ، وكذلك قال الشافعي في الجلسة الوسطى، وقال في الأخيرة: إنه إذا قعد في الرابعة أماط رجليه جميعاً(1/482)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
فأخرجهما من وركه اليمنى وأفضى بمقعدته إلى الأرض. وأضجع اليسرى ونصب اليمنى، وقال أحمد كما قال الشافعي إلاّ في جلسة الصبح. انتهى. وحجتهم في ذلك ما رواه الجماعة إلاّ مسلماً من حديث أبي حميد في وصفه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإذا جلس، جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة أخَّر رجله اليسرى وقعد على شقِّه متوركاً، ثم سلم. وحمل أصحابنا هذا على العذر وعلى بيان الجواز وهو حمل يحتاج إلى دليل، ومال الطحاوي إلى تضعيفه، وتعقَّبه البيهقي وغيره في ذلك بما لا يزيد عليه، وذكر قاسم بن قطلوبغا في رسالته "الأسوس في كيفية الجلوس" في إثبات مذهب الحنفية أحاديث: كحديث عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرش رجله اليسرى (في الأصل: "رجله" والصواب: "رجله اليسرى" كما في "صحيح مسلم" (1/358)) وينصب اليمنى، وحديث وائل: صلَّيت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قعد وتشهد فرش رجله اليسرى. أخرجه سعيد بن منصور، وحديث المسيء صلاتَه أنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا جلست فاجلس على فخذك اليسرى. أخرجه أحمد وأبو داود، وحديث ابن عمر رضي الله عنه: من سنة الصلاة ... إلخ. ولا يخفى على الفطن أن هذه الأخبار وأمثالها بعضها لا تدل على مذهبنا صريحاً، بل يحتمله وغيره وما كان منها دالاًّ صريحاً لا يدل على كونه في جميع القعدات على ما هو المدَّعى، وأخرج الطحاوي، عن وائل: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: لأحفظنَّ صلاةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فلما قعد للتشهد فرش رجله اليسرى ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى ووضع مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم عقد أصابعه وجعل حلقة الإبهام والوسطى، ثم جعل يدعو بالأخرى. قال الطحاوي: في قول وائل: ثم عقد أصابعه يدعو، دليل على أنه كان في آخر الصلاة. انتهى. وهذا يقضي (في الأصل: "يفضي"، والظاهر: "يقضي") منه العجب، فإن معنى يدعو بالأخرى: يشير بالإصبع الأخرى أي السبابة لا الدعاء الذي يكون في آخر الصلاة، فليس فيه دليل على ما ذكره، والإنصاف أنه لم يوجد حديث يدل صريحاً(1/483)
وَكَانَ مَالِكُ (1) بْنُ أَنَسٍ يَأْخُذُ بِذَلِكَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُوليين (2) ، وَأَمَّا فِي الرَّكْعَةِ الرَّابِعَةِ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: يُفْضِي (3) الرَّجُلُ بأَلْيَتَيْه إِلَى الأَرْضِ، وَيَجْعَلُ رِجْلَيْهِ إِلَى الْجَانِبِ الأَيْمَنِ.
154 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا صَدَقَة (4) بْنُ يَسَار، عَنِ الْمُغِيرَةِ (5) بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: رأيتُ ابنَ عُمَرَ يجلِسُ عَلَى عقِبيه (6) بين
__________
على استنان الجلوس على الرجل اليسرى في القعدة الأخيرة، وحديث أبي حميد مفصل فَليُحمل المبهم على المفصل.
(1) قوله: وكان مالك، هذا الذي نسبه قد نسبه غيره إلى الشافعي وأصحابه، وأما مذهب مالك، فالذي رأيته في كتب أصحابه المعتمدة كاستذكار ابن عبد البر وشرح الزرقاني ورسالة ابن أبي زيد وغيرها هو التورك في جميع القعدات، وذكروا في استناده أثر ابن عمر المذكور يحمله على التورك، فلعل محمداً اطَّلع على أن مذهب مالك هو التفصيل وهو أعلم منّا، وإن لم نجده في موضع من المواضع لا في كتب أصحابنا ولا في كتب المالكية ولا في كتب الشافعية، فإن الكل يذكرون أن التفصيل مذهب الشافعي، ومذهب مالك التورّك مطلقاً، ومذهب أصحابنا الافتراش مطلقاً.
(2) أي: في القعدة الأولى.
(3) أي: يمس أليته اليسرى بالأرض.
(4) قوله: صدقة بن يسار، قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: هو ثقة من الثقات، وقال ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح وقال الآجرِّي، عن أبي داود: ثقة، قلت: من أهل مكة؟ قال: من أهل الجزيرة، سكن مكة، كذا في "تهذيب التهذيب".
(5) قوله: عن المغيرة بن حكيم، روى عن أبي هريرة وابن عمر، وعنه نافع وابن جريج وجرير بن حازم، ثقة، كذا في "الكاشف" للذهبي.
(6) قوله: عقبيه، بفتح العين وكسر القاف وبفتح عين وكسرها مع سكون القاف: مؤخَّر القدم إلى موضع الشراك، كذا في "مجمع البحار".(1/484)
السَّجْدَتَيْنِ فِي الصَّلاةِ، فَذَكَرْتُ (1) لَهُ فَقَالَ (2) : إِنَّمَا فَعَلْتُهُ (3) مُنْذُ اشْتَكَيْتُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا يَنْبَغِي أَنْ يَجْلِسَ عَلَى عَقِبَيْهِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَلَكِنَّهُ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا كَجُلُوسِهِ (4) فِي صَلاتِهِ،
__________
(1) أي: ذكرت لابن عمر ذلك الجلوس مستفسراً عن حقيقة الأمر.
(2) قوله: فقال: إنما فعلته منذ اشتكيت، كره الإقعاء في الصلاة مالك، وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم وبه قال إسحاق وأبو عبيد، إلاّ أن أبا عبيد قال: الإقعاء جلوس الرجل على أليته، ناصباً فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع، وهذا إقعاء مجتمع عليه لا يُختلف فيه. وأما الذين أجازوا رجوع المصلي على عقبيه وجلوسه على صدور قدميه بين السجدتين فجماعة، قال طاووس: رأيت العبادلة يُقعون: ابن عمر وابن عباس وابن الزبير، قال أبو عمر (في الأصل: "أبو عمرو") : أما ابن عمر فقد ثبت عنه أنه لم يفعل ذلك إلاّ أنه كان يشتكي، وأن رجليه كانتا لا تحملاته، وقد قال: إن ذلك ليس سنَّة الصلاة، وكفى بهذا، وأما ابن عباس، فذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه: أنه رأى ابن عمر وابن الزبير وابن عباس يُقعون. وذكر أبو داود: نا يحيى بن معين، نا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع طاووساً يقول: قلنا لابن عباس في الإقعاء بين السجدتين؟ قال: هي السنَّة، فقلنا: إنّا لنراه جفاء بالرجل، فقال ابن عباس: هي السنَّة سنَّة نبيك، كذا في "الاستذكار".
(3) المعنى أنه خلاف السنَّة إلاَّ أني فعلتُهُ لعذر.
(4) قوله: كجلوسه في صلاته، أي: الافتراش والجلوس على اليسرى كما في حديث أبي حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كان يهوي إلى الأرض فيجافي ثم يرفع رأسه، ويثني رجليه اليسرى، فيعتمد عليها، متفق عليه. وعن ميمونة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد أهوى بيديه وإذا قعد اطمأن على فخذه اليسرى أخرجه النسائي، كذا ذكره قاسم بن قطلوبغا في "الأسوس في كيفية الجلوس".(1/485)
وهوقول أبي حنيفة (1) - رحمه الله -.
__________
(1) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال الشافعي وأحمد ومالك وقتادة، وهو مذهب ابن عمر وعلي وأبي هريرة، وجوَّزه عطاء وطاووس وابن أبي مُلَيكة ونافع والعبادلة، كذا نقل العيني، عن ابن تيمية، وقد روى الترمذيُّ وابن ماجه عن علي مرفوعاً: نهى أن يُقعي الرجل في صلاته، وأخرج مسلم من حديث عائشة مرفوعاً: كان ينهى عن عُقبة الشيطان، وأخرج أحمد والبيهقي، عن أبي هريرة: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرةٍ كنقرة الدِّيك والتفاتٍ كالتفات الثعلب وإقعاء كإقعاء الكلب، وروى ابن ماجه، عن أنس مرفوعاً: إذا رفعت رأسك من السجود فلا تُقِع كما يُقعي الكلب.
ويعارض هذه الأخبار ما أخرجه مسلم والترمذي وغيرهما، عن ابن عباس أن الإقعاء بين السجدتين سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف العلماء في ذلك: فمهم من قال حديث ابن عباس منسوخ، وردّه النووي بأنه غلط فاحش لعدم تعذّر الجمع، ولا تاريخ، فكيف يصح النسخ؟! ومنهم من سلك مسلك الجمع، وقالوا: الإقعاء على نوعين: أحدهما مستحَبّ وهو أن يضع أليتيه على عقبيه وركبتاه على الأرض وهو الذي روى مسلم عن ابن عباس، والثاني أن يضع أليتيه ويديه على الأرض وينصب ساقيه، وهو إقعاء الكلب المنهيّ عنه. كذا ذكره النوويُّ، واختاره ابن الهُمام وغيره من أصحابنا، ولا يخفى على الفطن أن أثر ابن عمر الذي أخرجه محمد صريح في نهي الإقعاء بالمعنى الثاني أيضاَ ولذلك نص محمد بعده على أنه لا ينبغي، والقول الفيصل في هذا المقام أن الإقعاء بالمعنى الأول لا خلاف في كراهيتها، وبالمعنى الثاني مختلف فيه بين الصحابة، فأثبت ابن عباس كونه سنَّة ونفاه ابن عمر، والذي يظهر أن الجلوس بين السجدتين بالافتراش عزيمة، والإقعاء فيه بالمعنى الثاني رخصة، قد ظنَّها ابن عباس سنَّة، وقد أخذ أكثر العلماء في هذا البحث بما دلَّ عليه أثر ابن عمر من العزيمة، وللتفصيل موضعٌ آخر من تآليفي المبسوطة(1/486)
44 - (بَابُ صَلاةِ الْقَاعِدِ)
155 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهري، عَنِ السَّائِبِ (1) بْنِ يَزِيدَ، عَنِ المطَّلب (2) بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ (3) السَّهْمِيِّ، عَنْ حفصةَ (4) زَوْجِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي سُبحته (5) قَاعِدًا (6) قطُّ حَتَّى كَانَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِعَامٍ (7) ، فَكَانَ يصلِّي فِي سُبْحَتِهِ قَاعِدًا (8) وَيَقَرْأُ بِالسُّورَةِ ويرتِّلها (9) حَتَّى تَكُونَ أطولَ مِنْ أطول منها (10) .
__________
(راجع للتفصيل أيضاً: "أوجز المسالك": 2/120، و"فتح الملهم": 1/103) .
(1) آخر من مات بالمدينة من الصحابة سنة إحدى وتسعين أو قبلها، ذكره الزرقانيّ وغيرهُ.
(2) قوله: المطَّلب، هو عبد الله السهمي، صحابيٌّ أسلم يوم الفتح، ونزل بالمدينة، ومات بها، وأمّه أروى بنت الحارث بن عبد المطلب، بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم، كذا ذكره الزرقاني.
(3) بفتح الواو والدال، اسمه الحارث بن صبرة بن سُعَيد بالتصغير.
(4) قوله: حفصة، بنت عمر بن الخطاب تزوجها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث من الهجرة عند أكثرهم، وقال أبو عبيدة: سنة اثنتين، وتوفي سنة إحدى وأربعين، وقيل: سبع وعشرين، كذا في "الاستيعاب".
(5) بضم السين وسكون الباء الموحدة، سميت النافلة بذلك لا شتمالها على التسبيح.
(6) بل قام حتى تَورَّمت قدماه.
(7) هذا الحديث رواه مسلم والترمذي، وقال: بعام واحد أو اثنين بالشك.
(8) ليستديم.
(9) يقرأها بتمهّل وترسّل.
(10) إذا قُرئت بلا ترتيل.(1/487)
156 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (1) بنُ مُحَمَّدِ بنِ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ مَوْلَى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمرو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عَمرو: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: صلاةُ أحدِكم وَهُوَ قَاعِدٌ مثلُ (2) نصفِ (3) صلاتِهِ وَهُوَ قَائِمٌ.
157 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهري، أَنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ عمرٍو (4) قَالَ: لَمَّا قَدِمنا الْمَدِينَةَ نَالَنَا (5) وباءٌ (6)
__________
(1) ثقة، حجة، روى له الخمسة، مات سنة 134 هـ، كذا ذكره الزرقاني.
(2) قوله: مثل نصف صلاته، إلاّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فإنَّ صلاته قاعداً لا ينقص أجرها عن صلاته قائماً لحديث عبد الله بن عمرو المروي في صحيح مسلم وأبي داود والنسائي، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: "صلاة الرجل قاعداً على نصف أجر الصلاة"، فأتيته فوجدتُه يصلي جالساً، فوضعتُ يدي على رأسي، فقال: مالَكَ يا عبد الله؟ فأخبرته، فقال: "أجل، ولكني لست كأحدكم"، وقد عدَّ الشافعية هذه المسألة من خصائصه، كذا في "إرشاد الساري".
(3) قوله: مثل نصف صلاته، قال ابن عبد البر: لِمَا في القيام من المشقَّة أو لِمَا شاء الله أن يتفضَّل به، المراد بالصلاة النافلة لأن الفرض إن أطاق القيام فقعد فصلاته باطلة عند الجميع، وإن عجز عنه ففرضه الجلوس اتفاقاً فليس القائم بأفضل منه.
(4) قوله: أن عبد الله بن عمرو، قال ابن عبد البر: هو منقطع لأن الزهري وُلد سنة ثمان وخمسين وابن عمرو مات بعد الستين فلم يَلْقَه.
(5) أي: أَخَذنا ووصل إلينا.
(6) بالمد: سرعة الموت وكثرته في الناس.(1/488)
مِنْ وَعْكها (1) شديدٌ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يُصَلُّون فِي سُبْحتهم (2) قُعُودًا فَقَالَ: صلاةُ الْقَاعِدِ (3) عَلَى نِصْفِ صَلاةِ الْقَائِمِ.
158 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَنَسِ (4) بْنِ مَالِكٍ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ فَرَسًا فصُرع (5) عنه (6)
__________
(1) قوله: من وعكها، بفتح الواو وسكون العين، قال أهل اللغة: الوعك لا يكون إلاّ من الحمى دون سائر الأمراض، قاله ابن عبد البر.
(2) يعني نافلتهم.
(3) قوله: فقال: صلاة القاعد، قد عُلم أن هذا محمول عند الأكثر على النافلة ولا يلزم منه أن تزاد صورتها التي ذكرها الخطابيّ، وهو أن يُحمل الحديث على مريض مفترض يمكنه القيام بمشقَّة، فجعل أجر القاعد على النصف ترغيباً له في القيام مع جواز قعوده، ويشهد له ما رواه أحمد من طريق ابن جُريج، عن ابن شهاب، عن أنس: قدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ وهي محمَّة فحُمَّ الناس، فدخل المسجد، والناس يصلون من قعود، فقال رسول الله: صلاة القاعد نصف صلاة القائم، ورجاله ثقات، وله متابع في النسائي من وجه آخر، كذا ذكره الزرقاني (1/281، وفتح الباري 2/585) .
(4) قوله: عن أنس، قال ابن عبد البرّ: لم تختلف رواة "الموطأ" في مسنده، ورواه سويد بن سعيد، عن مالك، عن الزهري، عن الأعرج، عن أبي هريرة، وهو خطأ لم يتابعه عليه أحد.
(5) بضم الصاد، وكسر الراء، أي: سقط من الفرس، وفي أبي داود وابن خزيمة بسند صحيح، عن جابر، ركب صلى الله عليه وسلم فرساً فصرعه على جذع نخلة.
(6) قال ابن حجر: أفاد ابن حبان أن هذه القصة كانت في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة.(1/489)
فجُحِشَ شقُّه (1) الأَيْمَنُ، فَصَلَّى (2) صَلاةً (3) مِنَ الصَّلَوَاتِ وهو جالس، فصلَّينا (4) جلوساً، فلما
__________
(1) قوله: فجُحِش، بضم الجيم ثم حاء مهملة مكسورة أي: خُدش قاله النووي، وقال ابن عبد البر: الجحش فوق الخدش، وقال الرافعي: يقال جحش فهو مجحوش إذا أصابه مثل الخدش أو أكثر وانسجح جلده. وكانت قدمه صلى الله عليه وسلم انفكَّت من الصرعة كما في رواية بشر بن المفضل، عن حميد، عن أنس، عن الإسماعيلي، قال ابن حجر: ولا ينافي ما ههنا لاحتمال وقوع الأمرين، قال: وأخرج عبد الرزاق في الحديث، عن الزهري قال: فجُحِش ساقُه الأيمن، فزعم بعضهم أنها مصحَّفة من شقه وليس كذلك لموافقة رواية حميد لها وإنها مفسَّرة لمحلّ الخّدْش، كذا في "التنوير" (1/155) .
(2) قوله: فصلى صلاة، لم أقف على تعيينها إلاّ أنَّ في حديث أنس: فصلّى بنا يومئذٍ صلاتها نهارية الظهر أو العصر، كذا في "الفتح".
(3) في أبي داود وابن خزيمة الجزم بأنها فرض.
(4) قوله: فصلينا جلوساً، قد روى البخاري في "صحيحه" حديث أنس من رواية حميد الطويل عنه مخالفاً لرواية الزهري عنه، ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط عن فرسه، فجحشت ساقه أو كتفه، وآلى من نسائه شهراً. فجلس في مشربة له فأتاه أصحابه يعودونه، فصلّى بهم جالساً وهم قيام فلما سلَّم، قال "إنما جُعل الإمام ليؤتمّ به" الحديث، ذكره في أوائل الصلاة في (باب الصلاة على السطوح) . وتكلف القرطبي في "شرح صحيح مسلم" الجمع، فقال: يُحتمل أن يكون البعض صلوا قياماً، البعض جلوساً، فأخبر أنس بالحالتين، وهذا مع ما فيه من التعسُّف ليس في شيء من الروايات ما يساعده. وقد ظهر لي فيه وجهان: أحدهما أنهم صلّوا خلفه قياماً، فلما شعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَهم بالجلوس فجلسوا، فأخبر أنس بكلِّ منهما، يدل عليه حديث عائشة أخرجاه عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه، فصلّى جالساً،(1/490)
انْصَرَفَ قَالَ: إِنَّمَا جُعل (1) الإِمَامُ لِيُؤتَمَّ بِهِ (2) ، إِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا رَكَعَ فاركعوا وإذا قال: سمع الله لم حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ (3) الْحَمْدُ، وإنْ صَلَّى قاعداً فصلوا (4)
__________
فصلّوا بصلاته قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا فجلسوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "إِنَّمَا جُعل الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ به" الحديث، والثاني: هو الأظهر أنهما كانا في وقتين، وإنما أقرّه رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى الواقعتين على قيامهم خلفه لأن تلك الصلاة كانت تطوّعات، والتطوّعات يُحتمل فيها ما لا يُحتمل في الفرائض، وقد صرَّح بذلك في بعض طرقه كما أخرجه أبو داود عن أبي سفيان عن جابر: ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً بالمدينة فصرعه على جذع نخلة، فانفكت قدماه، فأتيناه نعوده فوجدناه في مشربة لعائشة يسبِّح جالساً، فقمنا خلفه، فسكت عنّا، ثم أتيناه مرة أخرى نعوده فصلى المكتوبة جالساً، فقمنا خلفه، فأشار إلينا فجلسنا، فلما قضى الصلاة، قال: "إذا صلى الإمام جالساً، فصلوا جلوساً". الحديث، كذا في "نصب الراية لتخريج أحاديث الهداية" للزيلعي (2/44، وأخرجه أبو داود في سننه، من (باب يصلّي الإمام من قعود) 1/164، وقد استدل بهذا الحديث الحافظ في فتح الباري 2/151، على تعدد قصة الصلاة من النافلة في المرة الأولى والمكتوبة في الثانية، وأما واقعة السقوط من الفرس كانت في السنة الخامسة، كما في فتح الباري 2/149، وعمدة القاري 2/747) .
(1) قال الرافعي: أي نُصب أو اتُّخذ أو نحوهما، ويجوز أن يريد إنما جعل الإمام إماماً.
(2) قوله: ليؤتمّ به، معناه عند الشافعي ليُقتدَى به في الأفعال الظاهرة، ولهذا يجوز أن يصلِّي المفترض خلف المتنفل، وبالعكس وعند غيره أنه في الأفعال الباطنة والظاهرة.
(3) بالواو لِجميع الرواة، عن أنس في حديثه هذا إلاّ في رواية شعيب، عن الزهري رواها البخاري بدونها.
(4) قوله: فصلّوا قعوداً، قد اختلف أهل العلم في الإمام يصلِّي بالناس(1/491)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
جالساً من مرض، فقالت طائفة: يصلّون قعوداً اقتداءً به، وذهبوا إلى هذه الأحاديث، ورأوها محكمة، وممن فعل ذلك جابر بن عبد الله وأبو هريرة وأُسيد بن حُضَير، وبه قال أحمد وإسحاق وطائفة من أهل الحديث، وقال أحمد: كذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله أربعة من أصحابه، والرابع: هو في خبر قيس بن فهد أنه شكى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يؤمُّنا جالساً، ونحن جلوس. وقال أكثر أهل العلم: يصلُّون قياماً، ولا يتابعون الإمام في الجلوس. ورأوا أنَّ هذه الأحاديث منسوخة بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى بالناس في مرض وفاته، وهو جالس والناس قيام كما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة، كذا ذكره الحازمي في "الاعتبار" (ص 109) والزيلعيُّ وجمعٌ من العلماء، وقد أنكر ابنُ حبان النسخ، فقال في "صحيحه" بعد ما أخرج حديث: "وإذا صلّى جالساً فصلُّوا جلوساً" فيه بيان واضح أن الإمام إذا صلّى قاعداً كان على المؤتَمِّين أن يصلُّوا قعوداً، وأفتى به من الصحابة جابر وأبو هريرة وأُسيد بن حُضَير وقيس بن فهد، ولم يُروَ عن غيرهم خلاف هذا بإسناد متصل ولا منقطع فكان إجماعاً سكوتيّاً. وقد أفتى به من التابعين جابر بن زيد ولم يروِ عن غيره من التابعين خلافه، وأول من أبطل ذلك في الأمة المغيرة بن مقسم وأخذ عنه حماد بن سليمان، ثم أخذه عن حماد أبو حنيفة وأصحابُه، وأعلى ما احتجوا به حديث رواه جابر الجعفي، عن الشعبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يُؤّمَّن بعدي جالساً. وهذا لو صحَّ إسناده لكان مرسلاً. والمرسل لا يقوم به حجة، والعجب أن أبا حنيفة يجرح جابر الجعفي ويكذِّبه ثم يحتج بحديثه. انتهى ملخصاً.
أقول: وفيه نظر، من وجوه: أحدها: أنه قد ثبت نسخ ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في آخر أيامه، فلا يُعتبر بما خالفه، وثانيها: أن فتوى الصحابة لم يكن إلا لأنه لم يبلغهم الناسخ، قال الشافعي بعد ما أخرج بسنده عن جابر وعن أسيد أنهما فعلا ذلك: في هذا ما يدل على أن الرجل يعلم الشيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم خلافه عنه، فيقول بما علم، ثم لا يكون في قوله بما علم وروى حجَّةٌ على أحد(1/492)
قُعُودًا (1) أَجْمَعِينَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، صَلاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا لِلتَّطَوُّعِ مِثْلُ نِصْفِ (2) صَلاتِهِ قَائِمًا، فَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ: إِذَا صَلَّى الإِمَامُ جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعِينَ، فَقَدْ رُوِيَ ذلك وقد جاء (3) ما قد نسخه.
__________
علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قولاً أوعملاً ينسخ الذي قال به غيره. انتهى. وثالثها: أن نسبة إبطال ذلك أولاً إلى المغيرة بن مقسم غلط، بل أول من أبطله رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه. ورابعها: أن جعل حديث الشعبي أعلى ما احتجَّت به الحنفية غير صحيح، فإن أعلى ما يدل على النسخ عندهم وعند غيرهم هو حديث عائشة، وأما حديث الشعبي، فهو وإن كان ضعيفاً يُذكر للتقوية.
(1) ولو قادرين على القيام.
(2) أي: في الأجر.
(3) قوله: وقد جاء ما قد نسخه، وقد أخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" من طريق أبي الزبير، عن جابر، قال: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر وأبو بكر خلفه فإذا كبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم كبَّر أبو بكر ليُسمعنا وكنا قياماً، فقال: اجلسوا أَوْمى بذلك إليهم، فلما قَضَى الصلاةَ قال: كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم تعظيماً لهم (في الأصل: "بهم"، وهو تحريف) ائتمُّوا بأئمتكم، فإن صلُّوا قياماً فصلّوا قياماً وإن صلّوا جلوساً فصلّوا جلوساً. ثم أخرج من طريق ابن وهب، عن مالك حديثَه المذكور في هذا الباب، ومن طريق ابن وهب، عن الليث ويونس، عن ابن شهاب، عن أنس، ومن طريق هيثم، عن حميد، عن أنس مثله، ومن طريق ابن وهب، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاكٍ، فصّلى جالساً وصلّى قوم خلفه قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، فذكر مثله. ومن طريق شعبة عن يعلى بن عطاء قال: سمعت أبا علقمة يحدث، عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني، فإذا صلّى قائماً فصلّوا قياماً،(1/493)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وإن صلّى قاعداً فصلوا قعوداً. ومن طريق أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعاً: إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به، فإذا صلّى قاعداً فصلّوا قعوداً. ومن طريق سالم، عن ابن عمر مثله، ثم قال: فذهب قوم إلى هذا، فقالوا: من صلّى قاعداً من عذر صلّوا خلفه قعوداً، وإن كانوا مطيقين للقيام. وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: بل يصلّون خلفه قياماً ولا يسقط عنهم فرض القيام لسقوطه (في الأصل: "لسكوته"، وهو تحريف) عن إمامهم، ثم ذكر في حجتهم ما أخرجه بسنده، عن أبي إسحاق، عن أرقم بن شرحبيل قال: سافرتُ مع ابن عباس من المدينة إلى الشام، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا مرض مرضه الذي مات فيه كان في بيت عائشة، فقال: ادعوا لي عليّاً، فقالت عائشة: ألا ندعو لك أبا بكر؟ فقال ادعوه، ثم قالت حفصة: ألا ندعو لك عمر؟ قال: ادعوه، فقالت أم الفضل: ألا ندعو لك عمَّك العباس؟ قال: ادعوه، فلما حضروا، قال: ليصلِّ بالناس أبو بكر، فتقدم أبو بكر، فصلّى بالناس ووجد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفَّة، فخرج يُهادي بين رجلين، فلما أحسَّه أبو بكر ذهب يتأخر، فإشار إليه مكانَك، فاستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث انتهى أبو بكر من القراءة وأبو بكر قائم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فأتّمَّ أبو بكر به وائتمَّ الناس بأبي بكر. قال الطحاوي: ففي هذا الحديث أن أبا بكر ائتم برسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً وهو قاعد. وهذا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قوله ما قال، ثم أخرج من طريق موسى بن عائشة، عن عبيد الله، عن عائشة نحوه، وفيه أن الصلاة التي كان خرج فيها كانت صلاة الظهر، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومى إليه أن لا يتأخَّر، وقال لهما: أجلساني إلى جنبه، فجعل أبو بكر يصلّي وهو قائم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد. ومن طريق الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة نحوه، ثم ذكر وجه النظر في عدم سقوط القيام من المؤتمّ، وقال بعد ذلك: فثبت بذلك أن الصحيح أن القيام واجب عليه في الصلاة إذا دخل مع من قد سقط عنه فرض القيام في صلاته لم تسقط عنه بدخوله من القيام ما كان واجباً عليه قبل ذلك. وهذا قول أبي حنيفة ومحمد(1/494)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وأبي يوسف غير أن محمد بن الحسن يقول: لا يجوز لصحيح أن يأتم بمريض يصلّي قاعداً، وإن كان يركع ويسجد، ويذهب إلى أن ما كان من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً في مرضه بالناس وهم قيام كان مخصوصاً لأنه قد فعل فيها ما لا يجوز لأحد بعده أن يفعله من أخذه القرآن من حيث انتهى أبو بكر وخرج أبي بكر من الإمامة إلى أن صار مأموماً في صلاة واحدة، وهذا لا يكون لأحدٍ بعده باتفاق المسلمين. انتهى كلام الطحاوي ملخصاً.
وفي "الهداية وشرحه البناية" للعيني: ويصلي القائم خلف القاعد عند أبي حنيفة وأبي يوسف، والمراد من القاعد الذي يركع ويسجد، أما القاعد الذي يومئ فلا يجوز اقتداء القائم به اتفاقاً، وبه قال الشافعي ومالك في رواية استحساناً، وقال أحمد والأوزاعي: يصلون خلفه قعوداً، وبه قال حماد بن زيد وإسحاق وابن المنذر: وهو المروي عن أربعة من الصحابة، لكن عند أحمد بشرطين: الأول أن يكون المريض إمام حيّ، والثاني أن يكون المرض مما يُرجى زواله بخلاف الزمانة. واحتجوا على ذلك بحديث أنس مرفوعاً: "إنما جُعل الإمام ليؤتمّ به" الحديث، وقال محمد: لا يجوز وبه قال مالك في رواية ابن القاسم عنه قياساً، أشار إليه بقوله: وهو القياس لقوة حال القائم، فيكون اقتداء كاملِ الحال بناقص الحال فلا يجوز كاقتداء القارئ بالأميّ ونحن تركناه بالنص وهو ماروي أنه صلى الله عليه وسلم صلّى آخر صلاته قاعداً والقومُ خلفه قيام. وفي كلام البخاري ما يقتضي الميلَ إلى أن حديث: "وإذا صلّى جالساً فصلّوا جلوساً" منسوخ، فإنه قال بعد ما رواه قال الحميدي: هذا منسوخ بأنه عليه السلام آخِر ما صلّى صلّى قاعداً والناس خلفه قيام، وإنما يؤخذ بالآخر من فعله. انتهى ملخصاً. وهذه العبارات وغيرها من كلمات الفقهاء الأثبات دالَّة صريحاً على أن محمداً مخالفٌ لهما في هذه المسألة، فعندهما اقتداء الصحيح بالمريض القاعد جائز قياماً ولا يجوز له القعود أخذاً من الصلاة النبوية في آخر عمره وقولاً بنسخ: "إذا جلس فاجلسوا". وعند محمد لا يسقط عن الصحيح القيام لكن لا يجوز اقتداؤه بالمريض، بل قال: أخذاً بالقياس(1/495)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
فهو موافق لهما في عدم سقوط القيام من المقتدي الصحيح بمتابعة إمامه ومخالف في جواز اقتداء القائم بالقاعد، كيف ولو كان القيام عنده يسقط عن القاعد بمتابعة الإمام لما خلفهما في جواز اقتدائه بالمريض، بل قال بجوازه مع سقوط القيام كما قال به أحمد وغيره. إذا عرفت هذا، فنقول: معنى قوله ههنا وقد جاء ما قد نسخه أنه قد روي ما قد نسخ ما استفيد بالحديث السابق من جواز اقتداء القادر بالمعذور الجالس وسقوط القيام عن القادر وهو حديث: "لا يَؤُمَّنَّ الناسَ أحدٌ بعدي جالساً"، فإنه يدل على منع إمامة المعذور الجالس لغيره وإنه خصوصية له صلى الله عليه وسلم، ويدل أيضاً على عدم سقوط القيام عن المقتدي بمتابعة إمامه، فإنه لو كان كذلك لما كان للمنع وجه، ويدل على ما ذكرنا أنه جعل الناسخ هذا الحديث الدالّ على عدم جواز إمامة المعذور ليكون موافقاً لمذهبه، ولو كان مقصوده نسخَ سقوط القيام فحسب مع جواز الاقتداء لاستدل بخبر الصلاة النبوية في مرض وفاته، وقد تسامح القاري حيث فهم التنافي بين كلام محمد ههنا وبين ما في عامّة الكتب، فقال بعد ما نقل عن "شرح مختصر الوقاية" للشُمُنِّي ما يدلّ على الخلاف: وفي "الهداية": يصلِّي القائم خلف القاعد خلافاً لمحمد، فهذا يدلّ على أن محمداً مخالف في المسألة وعبارة محمد مشيرة إلى أنه موافق، ولعلَّ منه روايتين، أو مراده بالنسخ نسخ وجوب قعود المأمومين من غير عذر مع الإمام قاعداً بعذر، فإن الإجماع على خلافه. انتهى كلامه. ومنشأ فهمه أنه رأي ههنا أن محمداً قائل بنسخ الحديث السابق، وهما أيضاً يقولان به، ففهم أنه موافق لهما وليس كذلك، فإنهما قائلان بنسخ سقوط القيام عن المأموم القادر مع جواز اقتدائه بالمعذور القاعد، ومحمد قائل بنسخ جواز الاقتداء المستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: "وإن صلّى قاعداً فصلّوا قعوداً"، أيضاً، كيف لا، ولو كان مراده نسخ سقوط القيام فحسب على طبق قولهما لما صحَّ الاستدلال بالحديث الذي ذكره، فإنه يدل على عدم صحة إمامة الجالس بعده صلى الله عليه وسلم، وهو مخالف لقولهما. وبالجملة فكون عبارة محمد ههنا مشيرة إلى الموافقة غير صحيح، وأما ما وجَّهه به من أن المراد به نسخ وجوب قعود المأمومين لكونه خلاف(1/496)
159 - قَالَ مُحَمَّدٌ: حَدَّثَنَا (1) بِشْرٌ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبيعي، عن جابر بن يزيد الجُعْفي،
__________
الإجماع، ففيه أولاً أن كونه مخالفاً للإجماع غير صحيح ولو كان لعرفه أحمد وحمّاد وغيرهما على ما مرّ، وثانياً فلأن الحديث الذي ذكره لا يدلّ على هذا النسخ، وثالثاً أن الحكم بنسخ الوجوب يشير إلى بقاء الجواز مع أنه أيضاً ليس بباقٍ عند محمد، ورابعاً أن الوجوب والجواز في سقوط قيام المأموم فرع جواز ائتمامه وهو ليس بجائز عنده، فاحفظ هذا، فإنه مما ألهمني الله تعالى في هذا الوقت فله الحمد على هذا.
(1) قوله: حدثنا بشر (والسند هنا فيه اضطراب لسقوط بعض الرواة منه، وإدخال بعض الرواة فيه خطأ من الناسخ مما كان سبباً في عدم تعيين الرواة وجهالتهم. فالمراد بمحمد في أول السند: هو أبو علي الصوّاف وبشر شيخه، فهو بشر بن موسى الأسدي، والمراد بأحمد هو أحمد بن مهران النسوي، صاحب محمد، وراوي الموطأ عنه، وإسرائيل هو شيخ محمد بن الحسن الإمام، وقد سقط من السند "محمد" من بين أحمد وإسرائيل، كما يظهر من المخطوطة بدار الكتب المصرية رقم (ب) . وأدخل الناسخ في الحديث هنا خاصة عدة من الرواة المتأخرين عن محمد في صلب السند، وهي عادة كثير من المتقدمين (بلوغ الأماني للعلاّمة زاهد الكوثري، ص 66) ... إلخ، هكذا في بعض النسخ، وفي بعضها: حدثنا بسر بالسين المهملة، وفي بعضها: حدثنا محمد بن بشر، ولم أعرف إلى الآن تعيُّنه وتعيّن شيخه أحمد حتى أعرف من كتب الرجال توثيقهما أو عدمه، فلعلَّ الله يتفضَّل عليَّ بعد هذا بمعرفته. وإسرائيل بن يونس قد مرَّت ترجمته، أومّا جابر الجعفي هو متكلَّم فيه وبعض النقاد وإن ويَّقوه لكن جمهورهم - منهم أبو حنيفة - جرَّحوه وتركوه، فذكر السمعاني في "الأنساب" بعد ما ذكر أنَّ الجُعْفي - بالضم ثم السكون - نسبة إلى قبيلة بالكوفة وهي جعفي بن سعد من مذحج أبو يزيد جابر الجعفي من أهل الكوفة يروي، عن عطاء والشعبي، وروى عنه الثوري وشعبة مات سنة 128 هـ كان سبائياً من أصحاب عبد الله بن سبأ. وكان يقول: إن علياً رضي الله عنه يرجع إلى الدنيا، قال يحيى بن معين: كان كذّاباً،(1/497)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
يؤمن بالرجعة. انتهى. وذكر في "تهذيب التهذيب": جابر بن شعبة بن الحارث أبو عبد الله الجعفي، ويقال: أبو يزيد الكوفي، روى عن أبي الطفيل وأبي الضحى وعكرمة وعطاء وكاووس وجماعة، وعنه شعبة والثوري وإسرائيل والحسن بن حَيّ وشَريك ومسعر وغيرهم، قال ابن علية، عن شعبة: جابر صدوق في الحديث، وقال وكيع: مهما شككتم في شيء فلا تشكّوا في أنَّ جابراً ثقة، وقال الثوري لشعبة: لئن تكلَّمتَ في جابر لأتكلَّم فيك، وقال ابن معين: كان كذّاباً، وقال مرة: لا يكتب حديثه، وقال يحيى بن سعيد، عن إسماعيل بن أبي خالد قال الشعبي لجابر: لا تموت حتى تكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال إسماعيل: فما مضت الأيام والليالي إلاَّ اتُّهم بالكذب، وقيل لزائدة: لم لا تروي عن ابن أبي ليلى وجابر الجعفي والكلبي؟ فقال: أما الجعفي فكان والله كذّاباً يؤمن بالرجعة، وقال أبو يحيى الحِمّاني، عن أبي حنيفة ما لقيت فيمن لقيت أكذب من الجعفي، ما أتيته بشيءٍ من ورائي إلاَّ أتى فيه بأثر، وزعم أن عنده ثلاثين ألف حديث لم يظهرها، وقال أحمد: تركه يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال مرة: ليس بثقة، لا يُكتب حديثه، وقال الحاكم: ذاهب الحديث، وقال ابن عَدِيّ: له أحاديث صالحة، وهو إلى الضعف أقرب من الصدق، وقال أيوب وليث بن أبي سليم والجوزجاني: كذاب، وكذا قال ابن عيينة وأحمد وسعيد بن جبير. انتهى ملخصاً. وأما عامر الشعبي فهو عامر بن شراحيل - بالفتح - الشعبي الكوفي نسبة إلى شَعب - بالفتح - بطن من همدان، كان من كبار التابعين، فقيهاً، شاعراً، روى عن مائة وخمسين من الصحابة، مات سنة 104 هـ وقيل: سنة 109 هـ، ذكره السَّمعاني. وذكر في "تهذيب التهذيب": قال مكحول: ما رأيت أفقه منه، وقال ابن عيينة: كان الناس بعد الصحابة: الشعبيُّ في زمانه والثوريُّ في زمانه، وقال ابن معين: إذا حدَّث الشعبي، عن رجل فسماه فهو ثقة، وقال هو وأبو زرعة: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجلي: لا يكاد يرسل الشعبي إلاَّ صحيحاً، وقال أبو داود: مرسل الشعبي عندي أحب من مرسل النَّخَعي. انتهى ملخصاً.(1/498)
عَنْ عَامِرٍ الشَّعبي قَالَ (1) : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يؤُمَّنَّ الناسَ أحدٌ بعدي جالساً.
فأخذ (2) الناس بهذا.
__________
(1) قوله: قال، كذا أخرجه الدارقطني والبيهقي في سننهما، عن جابر، عن الشعبي، وقال الدارقطني لم يروه عن الشعبي إلاَّ الجعفي وهو متروك، والحديث مرسل، وقال عبد الحق في "أحكامه": رواه عن الجعفي مجالد وهو أيضاً ضعيف، وقال اليهقي في "المعرفة": فيه جابر الجعفي، متروك، ثم قد اختُلف عليه فيه، فرواه ابن عيينة عنه كما تقدَّم، ورواه ابن طهمان، عنه، عن الحكم، قال: كتب عمر لا يؤمَّن أحد جالساً بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مرسل موقوف، كذا ذكر الزيلعي، وفي "إرشاد السَّاري"، عند ذكر حديث الصلاة النبوية قاعداً والناس قاموا خلفه في مرض موته: هو حجة واضحة لصحة إمامة القاعد المعذور للقائم، وخالف ذلك مالك في المشهور (رواه ابن القاسم كما قاله ابن رشد. واحتجَّ برواية فيها الجعفي مع إرسالها، كما في عمدة القاري 2/275، 2/746، وفتح الباري 2/176، وإليه ذهب محمد بن الحسن من أصحاب إمامنا أبي حنيفة، بل كره ابن القاسم ومحمد بن الحسن، وأكثر المالكية إمامة القاعد للقاعدين من المرض أيضاً، ومنعها بعضهم كما في شرح التقريب للعراقي 2/3136) عنه ومحمد بن الحسن في ما حكاه الطحاوي، وقد أجاب الشافعي عن الاستدلال بحديث جابر، عن الشعبي مرسلاً مرفوعاً: "لا يؤمَّنَّ أحد بعد جالساً"، فقال: قد علم من احتج بهذا أن لا حجة له فيه لأنه مرسل، ومن رواية رجل يرغب أهل العلم عن الرواية عنه، أي: جابر الجعفي. انتهى. ولا يخفى أن المرسل مقبول عند جمهور العلماء لا سيَّما مراسيل الشعبي كما مرَّ فالقدح بالإرسال ليس بشيء، نعم القدح بجابر لا سيَّما على رأي أبي حنيفة له اعتداد.
(2) هذا من كلام الشعبي أو من كلام محمد، والظاهر الاحتمال الأخير.(1/499)
45 - (بَابُ الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ)
160 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (1) بكيُر (2) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ بُسْر (3) بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ (4) الخَوْلاني قَالَ: كَانَتْ ميمونةُ (5) زوجُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصَلِّي (6) فِي الدِّرع والخِمار، وَلَيْسَ عَلَيْهَا إِزَارٌ.
161 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شهاب، عن سعيد بن المسيّب،
__________
(1) قوله: أخبرنا، بكير، هكذا في نسخ عديدة، وفي "موطأ يحيى": مالك عن الثقة عنده وهو الليث بن سعد، ذكره الدارقطني، وقال منصور بن سلمة: هذا مما رواه مالك عن الليث، ذكره ابن عبد البر وقال: أكثر ما في كتب مالك عن بكير يقول أصحابه: إنه أخذه من كتب بكير كان أخذها من مخرمة ابنه، فنظر فيها. انتهى. لكن هذا لا يتأتّى ههنا كذا ذكره الزرقاني (1/291) .
(2) ثقة روى له الستة، مات سنة عشرين ومئة أو بعدها، كذا قال الزرقاني.
(3) المدني العابد، ثقة حافظ، من رجال الجميع، قاله الزرقاني.
(4) ربيب ميمونة، ثقة، روى له الشيخان ذكره الزرقاني.
(5) قوله: كانت ميمونة، هي بنت الحارث الهلالية، كان اسمها برة، فسمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة، توفيت بسرف سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة ست وستين، وقيل: ثلاث وستين، كذا في "الاستيعاب في أحوال الأصحاب"، لابن عبد البر.
(6) قوله: تصلي، لأن ذلك جائز، وإن كان الأفضل أن يكون تحت الثوب مئزر.(1/500)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنَّ سَائِلا (1) سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلاةِ في ثوب واحد؟ قال: أو (2) لكلَّكم ثَوْبَانِ (3) ؟
162 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُوسَى (4) بْنُ مَيْسَرَةَ، عن أبي مرّة (5) مولى (6)
__________
(1) قوله: أن سائلاً، قال ابن حجر: لم أقف على اسمه، لكن ذكر شمس الأئمة السرخسي الحنفي في كتابه "المبسوط" أنه ثوبان، كذا في "إرشاد الساري".
(2) استفهام وتعجُّب وإنكار على السائل حيث سأل ما لا ينبغي أن يسأل عنه لوضوحه.
(3) قوله: ثوبان (الصلاة في الثوب الواحد لم يخالف فيه إلاَّ ابن مسعود، وجازت الصلاة به ولو لم يكن على عاتق المصلّي من الثوب شيء إلاَّ عند أحمد نَيْل الأوطار 2/59) ، قال الخطابي: لفظه استخبار ومعناه الإخبار عمّا هم عليه من قلة الثياب، ووقع في ضمنه الفتوى من طريق الفحوى لأنه إذا لم يكن لكل ثوبان، والصلاة لازمة، فكيف لم يعلموا أنَّ الصلاة في الثوب الواحد الساتر للعورة جائز، وهو مذهب الجمهور من الصحابة كابن عباس وعليّ ومعاوية وأنس وخالد بن وليد وأبي هريرة وعائشة وأم هانئ، ومن التابعين الحسن البصري وابن سيرين والشعبي وابن المسّيب وعطاء وأبو حنيفة، ومن الفقهاء أبو يوسف ومحمد والشافعي ومالك وأحمد في رواية وإسحاق، كذا في "إرشاد الساري".
(4) قوله: موسى بن ميسرة، الدِّيلي بكسر الدال مولاهم أبي عروة المدني ثقة، كان مالك يثني عليه، ويصفه بالفضل، مات سنة 133 هـ، قاله الزرقاني.
(5) اسمه يزيد، وقيل: عبد الرحمن المدني، الثقة من رجال الجميع، ذكره الزرقاني.
(6) قوله: مولى عقيل، قال الحافظ: هو مولى أم هانئ حقيقة، ونسب إلى ولاء عقيل مجازاً بأدنى ملابسة لأنه أخوها أو لأنه كان يكثر ملازمة عقيل.(1/501)
عُقَيْلِ (1) بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ (2) بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَامَ الْفَتْحِ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ (3) مُلْتَحِفًا (4) بِثَوْبٍ.
163 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي أَبُو النَّضْرِ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عُقَيْلٍ (5) أَنَّهُ سَمِع أمَّ هَانِئِ بنتَ أَبِي طالب تحدِّث أنها (6) ذهبتْ إلى
__________
(1) قوله: عقيل، هو علقل بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم القرشي يكنى أبا يزيد، روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا يزيد، إني أحبك حبَّيْن: حباً لقرابتك مني، وحباً لِما كنتُ أعلم من حب عمِّي إيّاك، قدم عقيل البصرة ثم أتى الكوفة، ثم أتى الشام، وتوفي في زمن معاوية، كذا في "الاستيعاب".
(2) قوله: عن أم هانئ، هي أخت عليّ شقيقةً، أمُّهما فاطمة بنت أسد وهو أم طالب وعقيل وجعفر، واختلف في اسمها، فقيل: هند، وقيل: فاختة، وكانت تحت هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وأسلمت عام الفتح، كذا في "الاستيعاب".
(3) وذلك ضحى.
(4) أي: متغطياً بثوب. وفي نسخة: بثوبه.
(5) وللأويسي والقعنبي والتنيسي: مولى أم هانئ.
(6) قوله: أنها ذهبت، في "الصحيح"، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أم هانئ: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة، واغتسل وصلّى ثمان ركعات، فظاهر هذا أن الاغتسال وقع في بيتها، قال الحافظ: ويجمع بينهما بأن ذلك تكرَّر منه ويؤيده ما رواه ابن خزيمة عن أم هانئ أنَّ أبا ذر كان سَتَره لم اغتسل، ويُحتمل أنه نزل في بيتها بأعلى مكة، وكانت هو في بيت آخر بمكة، فجاءت إليه(1/502)
رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ الْفَتْحِ (1) فوجَدَتْه يَغْتَسِلُ وفاطمةُ ابنتُهُ تستُرُهُ بثوبٍ، قَالَ: فسلَّمت، وَذَلِكَ (2) ضُحَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ (3) هَذَا (4) ؟ فقلتُ: أَنَا (5) أمُّ هَانِئِ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: مَرْحَبًا (6) بأمِّ هَانِئِ (7) فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسله قام فصلَّى ثمانيَ (8)
__________
فوجدته يغتسل فيصح القولان، أما الستر، فيحتمل أنَّ أحدهما ستره في ابتداء الغسل والآخر في انتهائه.
(1) أي: فتح مكة في رمضان سنة ثمان.
(2) أي: كان ذلك وقت ضحى.
(3) أي: الشخص أو المسلم، وهذا يدل على أن الستر كان كثيفاً.
(4) في نسخة: هذه.
(5) فيه إيضاح الجواب غايته التوضيح.
(6) أي: لقيت رحباً وسعة، وقيل: معناه: رحب الله بك مرحباً، فجعل الرحب موضع الترحيب، كذا في "النهاية".
(7) وفي رواية يا أم هانئ.
(8) قوله: ثماني ركعات، قال الباجي: هذا أصل في صلاة الضحى على أنه يُحتمل أن يكون فعل ذلك لما اغتسل لوجود طهارته لا لقصد الوقت، إلاَّ أنه روي إنها سألته، فقالت: ما هذه الصلاة؟ فقال: صلاة الضحى، فأضافها إلى الوقت. قال السيوطي: قلت: أخرجه ابن عبد البر من طريق عكرمة بن خالد، عن أم هانئ، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم صلّى الضحى من حديث جابر، وعتبان بن مالك، وأنس، وعبد الله بن أبي أوفي، وجبير بن مطعم، وحذيفة، وأبي سعيد، وعائذ بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وعلي، وعبد الله بن بسر، وقدامة، وحنظلة، وابن عباس، وغيرهم، وقد ألَّفتُ فيه جزءاً استوعبتُ فيه ما ورد فيها.(1/503)
رَكَعَاتٍ (1) مُلْتَحِفًا (2) فِي ثَوْبٍ (3) ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ (4) ابنُ أمِّي (5) أَنَّهُ قاتَلَ (6) رَجُلا أَجَرْتُهُ (7) ، فُلانُ ابْنُ هُبَيْرَةَ (8) ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد
__________
(1) زاد كُريب، عن أم هانئ: يسلِّم من كل ركعتين، أخرجه ابن خزيمة.
(2) أي: ملتفاً.
(3) في نسخة: صمّ في ثوب أي اشتمل اشتمال الصماء وسيجيء تفسيره في موضعه.
(4) أي: قال وادَّعى.
(5) قوله: ابن أمي، أي: عليٌّ، وخُصَّت الأم لأنها آكد في القرابة، ولأنها بصدد الشكاية في إخفار ذمتها، فذكرت ما بعثها على الشكوى حيث أُصيبت من محلٍّ يقتضي أن لا تُصاب منه.
(6) قوله: إنه قاتل، فيه إطلاق اسم الفاعل على من عَزَم على التلبُّس بالفعل.
(7) أي: آمنته.
(8) قوله: فلان بن هبيرة، قال الحافظ: عند أحمد والطبراني من طريق أخرى، عن أبي مرة عن أم هانئ: إني قد أجرت حَمَوَين لي، قال أبو العباس بن شريح وغيرهما: جعدة بن هبيرة، ورجل آخر من مخزوم، كان فيمن قاتلا خالد بن الوليد، ولم يقبلا الأمان فأجارتهما، فكان من أحمائها، قال ابن الجوزي: إن كان ابن هبيرة منها فهو جعدة، كذا قال. وجعدة في من له رؤية ولم يصح له صحبة فكيف يتهيَّأ لمن هذا سبيله في صغر السن أن يكون عام الفتح مقاتلاً حتى يحتاج إلى الأمان؟ وجوَّز ابن عبد البر أن يكون ابناً لهبيرة مع نقله أن أهل النسب لم يذكروا لهبيرة ولداً من غير أم هانئ، وجزم ابن هشام في "تهذيب السيرة"، بأنَّ(1/504)
أَجَرْنا (1) مَنْ أجرتِ يَا أمَّ هَانِئِ.
164 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ (2) بْنُ زَيْدِ التَّيْمِيُّ، عَنْ أمِّه (3) أَنَّهَا سألتْ (4) أمَّ سَلَمَةَ زوجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاذَا (5) تُصَلِّي فِيهِ المرأة؟ قالت في الخِمار والدِّرع (6) السابغ (7)
__________
الذين أجارتهما الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية المخزوميان. وروى الأزرقي أنهما الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة. وحكى بعضهم أنهما الحارث وهبيرة بن أبي وهب، وليس بشيء لأن هبيرة هرب عند فتح مكة إلى نجران، ولم يزل بها مشركاً حتى مات، والذي يظهر أنَّ في رواية الباب حذفاً كأنه كان فيه: فلان ابن عم هبيرة أو كان فيه فلان قريب هبيرة.
(1) أي: أمَّنَّا من أمَّنْتِ، فيه جواز أمان المرأة وإن لم تقاتل وبه قال الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة.
(2) وهو ثقة، روى له مسلم والأربعة، كذا ذكره الزرقاني.
(3) هو أم حرام، قال في "التقريب": يقال اسمها آمنة.
(4) قوله: أنها سألت أم سلمة، هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله، كانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أبي سلمة بن عبد، فولدت له عمر وسلمة، كذا في "الاستيعاب".
(5) قوله: ماذا تصلّي، قال ابن عبد البر في "الاستذكار": هو في "الموطأ" موقوف، ورفعه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار.
قلت: أخرجه أبو داود من طريقه، كذا في "التنوير".
(6) القميص.
(7) أي: الساتر.(1/505)
الَّذِي يُغَيِّبُ ظَهْرَ (1) قَدَمَيْهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ (2) نَأْخُذُ، فَإِذَا صَلَّى الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ توشَّح (3) بِهِ تَوَشُّحًا جَازَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (4) - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
46 - (بَابُ صَلاةِ اللَّيْلِ)
165 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أن رجلاً (5)
__________
(1) في نسخة: ظهور. قوله: ظهر قدميها، قال الأشرف: فيه دليل على أن ظهر قدمها عورة يجب سترها، وفي "شرح المنية" أن في القدمين اختلاف المشايخ، والأصح أنهما ليستا بعورة، كذا ذكره في "المحيط". وهو مختار صاحب "الهداية" و"الكافي"، ولا فرق بين ظهر القدم وبطنه خلافاً لما قيل إن بطنه ليس بعورة وظهره عورة.
قلت: ظاهر الحديث يؤيد ما قيل، كذا في "مرقاة المفاتيح".
(2) من المطالب التي أفادته الأحاديث المذكورة.
(3) أي: اشتمل به اشتمالاً.
(4) وبه قال الجمهور.
(5) للنسائي: من أهل البادية، قوله: أن رجلاً، قال الحافظ: لم أقف على اسم السائل، ووقع في "المعجم الصغير" للطبراني أنه ابن عمر، لكنه يعكِّر عليه رواية عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر: أن رجلاً سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأنا بينه وبين السائل، وفيه: ثم سأله رجل على رأس الحول وأنا بذلك المكان منه، قال: فما أدري أهو ذلك الرجل أم غيره؟ ووقع عند محمد بن نصر في "كتاب الوتر" - وهو كتاب نفيس - من رواية عطية، عن ابن عمر أن أعرابياً سأل، قال: فيُحتمل أن يُجمع بتعدّد من سأل، كذا في "ضياء الساري".(1/506)
سَأَلَ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ الصلاةُ بِاللَّيْلِ؟ قَالَ (1) : مَثْنَى مَثْنَى (2) ، فَإِذَا خشي أحدُكم أن يُصْبحَ (3)
__________
(1) يتبيَّن من الجواب أن السؤال وقع عن عددها أو عن الفصل والوصل.
(2) أي: اثنين اثنين، فإعادته للمبالغة في التأكيد، قوله: مثنى مثنى، استُدلَّ به على تعيُّن الفصل بين كل ركعتين من صلاة الليل، قال ابن دقيق العيد: وهو ظاهر السياق لحصر المبتدأ في الخبر وحَمَله الجمهور على أنه لبيان الأفضل (انظر فتح الباري 2/398) ، لما صحَّ من فعله صلى الله عليه وسلم بخلافه، واستُدِلَّ به أيضاً على عدم النقصان من ركعتنين في النافلة ما عدا الوتر، وقد اختلف العلماء فيه (اتفق أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد على أفضلية الرباعية نهاراً كما في "شرح المهذَّب" 5/75 و"المغني" 1/765، واتفق الشافعي وأحمد وأبو يوسف والثوري والليث على أفضلية الثنائية ليلاً والشافعي وأحمد منهم على أفضليتها نهاراً أيضاً، وشذَّ مالك في القول بعدم جواز الرباعية ليلاً استدلالاً بإفادة التركيب القصر، كما حكاه ابن دقيق العيد في "العمدة") : فذهبت طائفة إلى المنع وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، وطائفة إلى الجواز وصحَّحه الرافعي واستدلَّ بمفهومه على أن الأفضل في صلاة النهار أن تكون أربعا، وبه قال أبو حنيفة، تُعُقِّب بأنه مفهوم لقب وليس بحجة، وبأنه ورد في السنن وصحَّحه ابن خزيمة من طريق عليَّ الأزدي، عن ابن عمر مرفوعاً: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى"، لكن تَعَقَّب ابن عبد البر ذكر النهار (قال في "فتح الباري": أكثر أئمة الحديث أعلّو هذه الزيادة وهو قوله: "والنهار إلخ". وقال ابن قدامة في "المغني" 1/765: وقد رواه عن ابن عمر نحو من خمسة عشر نفساً، لم يقل ذلك أحدٌ سواه، وكان ابن عمر يُصلي أربعاً، فيدلّ ذلك على ضعف روايته، أو على أن المراد بذلك الفضيلة مع جواز غيره، والله أعلم. اهـ) بأنه من تفرُّد الأزدي، وحكم النسائي بأنه أخطأ فيها، وكذا يحيى بن معين، كذا في "الضياء".
(3) استدل به على خروج وقت الوتر بدخول وقت الفجر.(1/507)
فليصلِّ (1) رَكْعةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ (2) مَا قَدْ صَلَّى.
166 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا الزُّهري، عَنْ عُرْوَةَ، عن عائشة: أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يصلِّي (3) مِنَ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَة ركعة، يوتر
__________
(1) قوله: فليصلِّ ركعة، فيه أن الركعة الواحدة هو الوتر، وأن كل ما تقدَّمها شفع، وسَبْقُ الشفع شَرطُ الكمال لا في صحة الوتر، وهو المعتمد عند المالكية، وقد صحَّ عن جمع من الصحابة أنهم أوتروا بواحدة دون تقدُّم نفل قبلها، وروى محمد بن نصر وغيره: أن عثمان رضي الله عنه قرأ القرآن ليلةً في ركعة لم يصلِّ قبلها ولا بعدها. وفي البخاري: أن سعداً أوتر بركعة وأن معاوية أوتر بركعة، وصوَّبه ابن عباس، وقال: إنه فقيه، كذا في "شرح الزرقاني".
(2) قوله: توتر له ما قد صلّى، قال ابن ملك: أي تجعل هذه الركعة الصلاةَ التي صلاّها في الوتر وتراً بعد أن كانت شفعاً، والحديث حجة للشافعي في قوله: الوتر ركعة واحدة. انتهى. وفيه أن نحو هذا قبل أن يستقر أمر الوتر، قاله ابن الهُمام. وهذا جواب تسليمي، فإنه قال أيضاً: ليس في الحديث دلالة على أنَّ الوتر واحدة بتحريمة مستأنفة ليحتاج إلى الاشتغال بجوابه إذ يَحتمل كلاَّ من ذلك، ومن أنه إذا خشي الصبح صلّى واحدة متصلة. انتهى.
وأغرب ابن حجر حيث قال: خالف أبو حنيفة السنَّة الصحيحة، وأنت قد علمتَ أن الدليل مع الاحتمال لا يصلح للاستدلال، ومن أعجب العجاب أنَّ بعضهم كره وصلّى الثلاث، وأعجب منه أن القفّال قال ببطلان الثلاث، وبه أفتى القاضي حسين أخذاً من حديث لا يُعرف له أصل صحيح "لا توتروا بثلاث وأوتروا بخمسٍ أو سبع، ولا تشبهوا الوتر بصلاة المغرب"، ولا يوجد مع الخصم حديث يدل على ثبوت ركعة مفردة في حديث صحيح ولا ضعيف فيؤول ما ورد من مجملات الأحاديث للجمع بينها في "مرقاة المفاتيح" وفيه ما لا يخفى.
(3) زاد يونس والأوزاعي، عن الزهري بإسناده: يسلِّم من كل ركعتين.(1/508)
مِنْهُنَّ بِوَاحِدَةٍ، فَإِذَا فَرَغَ (1) مِنْهَا اضْطَجَعَ (2) عَلَى شِقِّه الأَيْمَنِ (3) .
167 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عبدُ اللَّهِ بنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ (4) ؛ عَنْ عبدِ الله (5) بن قيس بن مخرمة،
__________
(1) قوله: فإذا فرغ منها، قال ابن عبد البر: كذا في رواية يحيى، وتابعه جماعة من رواة "الموطأ". وأما أصحاب ابن شهاب فروَوْا هذا الحديث بإسناده، فجعلوا الاضطجاع بعد ركعتي الفجر لا بعد الوتر، وزعم محمد بن يحيى الذهلي أن ما ذكروا في ذلك هو الصواب دون ما قاله مالك. قال ابن عبد البر: ولا يُدفع ما قاله مالك لموضعه من الحفظ والإتقان ولثبوته في ابن شهاب وعلمه بحديثه.
(2) قوله: اضطجع، قال ابن حجر: من هذا الأحاديث أخذ الشافعي أنه يُندَب (إنه مستحبّ لمن يقوم بالليل لأجل الاستراحة لا مطلقاً، واختاره ابن العربي. فتح الباري 3/43) لكل أحد أن يفصل بين سنَّة الصبح وفرضه بضجعة على شقه الأيمن ولا يتركه ما أمكن، بل في حديث صحيح على شرطهما: أنه صلى الله عليه وسلم أمر بها. وأغرب ابن حزم حيث قال بوجوب الاضطجاع وفساد صلاة الصبح بتركه، كذا في "مرقاة المفاتيح".
(3) للاستراحة من طول القيام.
(4) هو أبو بكر اسمه وكنيته واحد، وقيل: يكنى أبا محمد، ثقة، عابد، ذكره الزرقاني.
(5) قوله: عن عبد الله، قال العسكري: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن أبي خيثمة والبغوي وابن شاهين في "الصحابة"، وذكره البخاري وابن أبي حاتم في كبار التابعين وأبوه صحابي، كذا في "شرح الزرقاني".(1/509)
عَنْ (1) زَيْدِ (2) بْنِ خَالِدٍ الجُهَني (3) قَالَ: قُلْتُ: لأَرْمُقَنَّ (4) صلاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فتوسَّدتُ (5) عَتْبَته (6) أَوْ فُسطاطَه، قَالَ: فقام فصلّى ركعتَيْن خفيفتَنْن، ثُمَّ صَلَّى ركعَتَيْن طويلتَيْن، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ دُونَهُمَا ثُمَّ صَلَّى ركعتَين دُونَ (7) اللَّتَيْن قَبْلَهُمَا، ثم أَوْتَر (8) .
__________
(1) قوله: عن زيد، هذا هو الصواب، ووقع في رواية أبي أويس، عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ: أن عبد الله بن قيس قال: لأرمقن ... رواه ابن أبي خيثمة (في الأصل: "ابن خيثمة"، والصواب: "ابن أبي خيثمة") وهو خطأ.
(2) قوله: زيد، أبو عبد الرحمن المدني. وقيل: أبو طلحة، وقيل: أبو زرعة، وكان صاحب لواء جهينة يوم الفتح مات سنة ثمان وسبعين بالمدينة، وقيل: سنة ثمان وستين، وقيل: سنة خمسين بمصر، وقيل بالكوفة في آخر خلافة معاوية، كذا في "الإسعاف".
(3) بالضم، نسبة إلى جهينة.
(4) أصل الرمق: النظر إلى الشيء شزراً.
(5) أي: جعلتها كالوسادة يُوضع الرأس (في الأصل: "رأس"، وهو تحريف) عليها.
(6) قوله: عتبته أو فسطاطه، قال الباجي: العَتَبَة محرّكة: موضع الباب، والفسطاط نوع من القباب، والخبر بالتفسير الأول أشبه. ويحتمل أن ذلك شكٌ من الراوي.
(7) قال الباجي: يعني في الطول.
(8) قوله: ثم أوتر، اختلفت نسخ هذا الكتاب في هذا المقام، ففي بعضها كما في هذه النسخة، وعليها يكون عدد ركعاته قبل الوتر ثمانية، وفي بعضها قال: فقام، فصلّى ركعتين خفيفتين، ثم صلّى ركعتين طويلتين طويلتين، ثم صلّى ركعتين دونهما، ثم صلّى ركعتين دونهما، ثم صلّى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم(1/510)
168 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المنكدِر (1) ، عَنْ سَعِيدِ (2) بْنِ جُبَيْرِ (3) ، عَنْ عَائِشَةَ (4) رَضِيَ اللَّهُ عنها: أن
__________
أوتر، وعلى هذه النسخة يكون عدد الركعات قبل الوتر عشرة. وفي "موطأ" يحيى: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلّى ركعتين طويلتين طويلتين، ثم صلّى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلّى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلّى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلّى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم أوتر، فتلك ثلاث عشرة ركعة. قال في "المحلّى"، قوله: وهما دون اللتين قبلهما أربع مرات، قال صاحب "المشكاة": هكذا في مسلم والموطأ وسنن أبي داود وجامع الوصول: انتهى. وفي "شمائل الترمذي" كرر خمس مرات، وكذا وُجدت في نسخ هذا الكتاب يعني "الموطأ"، فقوله: ثم أوتر، على التقدير الأول بثلاث، وعلى الثاني بواحدة. انتهى ما في "المحلَّى". وذكر ابن عبد البر أن يحيى لم يذكر ركعتين خفيفتين، ولم يتابَع هو على ذلك، والذي عند جميع رواة "الموطأ" تقديم ركعتين خفيفتين (انظر أوجز المسالك 3/343، والزرقاني 1/427) .
(1) وثَّقه ابن معين وأبو حاتم مات سنة 130 هـ، كذا في "الإسعاف".
(2) قوله: عن سعيد بن جبير، هو أبو عبد الله الكوفي أحد الأئمة الأعلام، كان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه يقول: أليس فيكم سعيد بن جبير، قتله الحجاج في شعبان سنة خمسة وتسعين، كذا في "الإسعاف".
(3) وقع في رواية يحيى ههنا: عن رجل عنده رضاً. وفسره الشُّراح بأنه الأسود بن يزيد.
(4) قوله: عن عائشة، جزم الحافظ بأن رواية سعيد، عن عائشة مرسلاً، وأخرج النسائي من طريق ابن جعفر الرازي، عن محمد بن المنكدر، عن سعيد بن جبير، عن الأسود بن يزيد النخعي، عن عائشة، وقال الحافظ العراقي: قد جاء من حديث أبي الدرداء بنحو حديث عائشة. وأخرج النسائي وابن ماجه والبزّار بإسناد صحيح.(1/511)
رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: مَا مِنَ امرئٍ تَكُونُ لَهُ صلاةٌ (1) بالليلِ يَغْلِبُهُ (2) عَلَيْهَا نومٌ إلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُ أجرَ صَلاتِهِ (3) وَكَانَ نومُهُ عَلَيْهِ صَدَقَةً (4) .
169 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ حُصَين، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (5) الأَعْرَجِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ (6) قَالَ: مَنْ فَاتَهُ مِنْ حِزْبِهِ (7) شَيْءٌ مِنَ اللَّيْلِ،
__________
(1) أي معتادة.
(2) قوله: يغلبه، قال الباجي ("شرح الموطأ" للباجي: 1/211) : يحتمل وجهين: أحدهما أن يذهب به النوم فلا يستيقظ، والثاني أن يستيقظ ويمنعه غلبة النوم من الصلاة.
(3) قال الباجي: يريد التي (في الأصل: "الذي"، وهو تحريف) اعتادها. قوله: أجر صلاته، قال الباجي: يحتمل ذلك عندي وجوهاً: أحدها أن يكون له أجرها غير مضاعف، ولو عملها لكان له أجرها مضاعفاً، لأنه لا خلاف أن الذي يصلّي أكمل حالاً. ويحتمل أن يريد أن له أجر نيَّته. ويحتمل أن يكون له أجر من تمنّى أن يصلّي مثل تلك الصلاة، ويحتمل أنه أراد أجر تأسُّفه على ما فاته منها، كذا في "التنوير".
(4) قال الباجي: يعني أنه لا يحتسب به (في الأصل: "لا يحتسب به"، والصواب: "لا يحتسب عليه به" كما في "المنتقى" 1/211) يكتب له أجر المصلين.
(5) قوله: عبد الرحمن الأعرج، في "الموطأ" برواية يحيى ذُكر عبد الرحمن بن عبدٍ القاريّ واسطة بين الأعرج وعمر.
(6) قد أخرجه مسلم وأصحاب السنن، عن عمر مرفوعاً.
(7) الحزب بالكسر، الورد يعتاده من قراءة أو صلاة أو نحوهما.(1/512)
فَقَرَأَهُ مِنْ حِينِ (1) تَزُولُ الشَّمْسُ إِلَى صَلاةِ الظُّهْرِ فكأنَّه لَمْ يَفُتْهُ شَيْءٌ.
170 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يصلِّي كلَّ لَيْلَةٍ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُصَلِّي حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أَيْقَظَ أَهْلَهُ للصلاة (2) ويتلو (3) هذه الآية: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ
__________
(1) قوله: من حين ... إلخ، قال ابن عبد البر: هذا وهم من داود لأن المحفوظ من حديث ابن شهاب، عن السائب بن يزيد، وعبيد الله بن عبد الله، عن عبد الرجمن بن عبدٍ القاريّ، عن عمر: من نام عن حزبه، فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتب له كأنما قرأه من الليل. ومن أصحاب ابن شهاب من رفعه عنه بسنده، عن عمر. وهذا عند العلماء أَوْلى بالصواب من رواية داود حيث جعله من زوال الشمس إلى صلاة الظهر لأن ذلك وقتٌ ضيِّق، قد لا يسع الحزب ورُبَّ رجُلٍ حزبه نصف القرآن أو ثلثه أو ربعه ونحوُه، لأن ابن شهاب أتقن حفظاً وأثبت نقلاً.
(2) قوله: للصلاة، أي: لإدراك شيء من صلاة السحر والاستغفار فيه، ويُحتمل أن يكون إيقاظه لصلاة الصبح، وأيما كان فإنه امتثل الآية.
(3) قوله: ويتلو هذه الآية، أخرج ابن مردويه وابن النجار وابن عساكر، عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت: {وأمرْ أهلَكَ} (سورة طه: رقم الآية 132) الآية، كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيء إلى باب علي رضي الله عنه صلاة الغداة ثمانية أشهر، فيقول: الصلاة، رحمكم الله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيراً. وأخرج ابن مردويه، عن أبي الحمراء قال: حين نزلت هذه الآية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي باب عليّ فيقول: الصلاة، رحمكم الله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيراً، كذا في "الدر المنثور في تفسير القرآن بالمأثور" للسيوطي.(1/513)
بالصَّلاةِ وَاصطَبِرْ (1) عَلَيْهَا، لا نَسْأَلُكَ (2) رِزْقاً، نحنُ نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ (3) للِتَّقْوَى} .
171 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مَخْرمةُ (4) بنُ سُلَيْمَانَ الوالِبي (5) ، أَخْبَرَنِي كُرَيْب مَوْلَى (6) ابْنِ عَبَّاسٍ (7) أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَاتَ (8) عِنْدَ ميمونةَ زوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ خَالَتُهُ، قَالَ: فاضطجعتُ (9) فِي
__________
(1) أي: اصبر.
(2) لنفسك ولا لغيرك، أخرج ابن أبي حاتم، عن الثوري: معناه: لا نكلِّفك الطلب.
(3) أخرج ابن أبي حاتم، عن السدّي، قال: العاقبة، الجنة.
(4) بفتح الميم وسكون الخاء. قوله: مخرمة، الأسدي المدني وثَّقه ابن معين، قال الواقدي: قتلته الحَرُوريّة سنة 130 هـ بقُديد، كذا في "الإسعاف".
(5) بكسر اللام نسبة إلى والبة، حيّ من أسد، ذكره السَّمعاني.
(6) هو كريب بن أبي مسلم أبو رشد بن الحجازي، وثقه النسائي وابن معين وابن سعد، مات 98 هـ، كذا في "الإسعاف".
(7) قوله: ابن عباس، هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجمان القرآن كان يقال له: الحبر والبحر، مات بالطائف سنة 68 هـ.
(8) قوله: أنه بات، في بعض طرق أبي عَوَانة قال: بعثني أبي العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حاجةٍ فوجدتُه جالساً في المسجد، فلم أستطع أن أكلِّمه، فلما صلّى المغرب قام فركع حتى أذَّن المؤذِّن لصلاة العشاء، زاد محمد بن نصر في "قيام الليل"، فقال لي: يا بُنيّ بتْ الليلةَ عندنا.
(9) أي: وضعت جنبي بالأرض.(1/514)
عَرْضِ (1) الْوِسَادَةِ (2) وَاضْطَجَعَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأهلُه فِي طُولِهَا (3) قَالَ: فَنَامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا اتنصفَ الليلُ أو قبله (4) بقليل أو بعده
__________
(1) قوله: في عرض، بفتح العين على المشهور، وبضمِّها أيضاً، وأنكره الباجيّ نقلاً، ومعنىً، قال: لأن العرض هو الجانب، وهو لفظ مشترك، ورده العسقلاني بأنه لما قال في طولها تعيَّن المراد، وقد صحَّت به الرواية فلا وجه للإنكار.
(2) لمحمد بن نصر: وسادة من أدم حشوها ليف، قوله الوسادة، المراد به الوسادة المعروفة التي تكون تحت الرؤوس، ونقل القاضي عياض، عن الباجي والأصيلي وغيرهما أن الوسادة ههنا الفراش لقوله اضطجع في طولها. وهذا ضعيف أو باطل. وفيه دليل على جواز نوم الرجل مع امرآته من غير مواقعة بحضرة بعض محارمها وإن كان مميَّزاً، قال القاضي: وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث، قال ابن عباس: بتُّ عند خالتي في ليلة كانت فيها حائضاً، قال: وهذه الكلمة وإن لم تصح طريقاً فهي حسنة المعنى جداً، كذا في "شرح صحيح مسلم" للنووي.
(3) قوله: في طولها، قال ابن عبد البر: كان ابن عباس - والله أعلم - مضطجعاً عند أرجلهما أو عند رأسهما، وقال الباجي: هذا ليس بالبيّن لأنه لو كان كذلك لقال: توسَّدت عرضها، وقوله: فاضطجعت في عرض يقتضي أن العرض محل لاضطجاعه، ولأبي زرعة الرازي في "العلل"، عن ابن عباس أتيت خالتي ميمونة، فقلت: إني أريد أن أبيت عندكم، فقالت (في الأصل: "فقال"، والصواب: "فقالت") : كيف والفراش واحد، فقلت: لا حاجة لي بفراشكم، أفرش نصف إزاري وأما الوسادة فإني أضع رأسي مع رأسكما من وراء الوسادة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثته ميمونة بما قلت، فقال أصبح هذا شيخ قريش، كذا في شرح الزرقاني.
(4) قوله أو قبله: جزم في بعض طرقه بثلث الليل الأخير، قال الحافظ: ويجمع بينهما بأن الاستيقاظ وقع مرتين، ففي الأولى نظر إلى السماء، ثم تلا الآيات، ثم عاد لمضجعه، فقام في الثانية وأعاد ذلك، ثم توضأ وصلّى.(1/515)
بِقَلِيلٍ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ النومَ (1) عَنْ وَجْهِهِ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ (2) بِالْعَشْرِ (3) الآيَاتِ (4) الْخَوَاتِيمِ (5) مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ (6) ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ (7) معلَّق، فتوضَّأ منه (8) ،
__________
(1) قوله: فمسح النوم، أي: أثر النوم من باب إطلاق السبب على المسبِّب أو عينيه من باب إطلاق اسم الحالّ على المحل.
(2) قوله: ثم قرأ، قال النووي: فيه جواز القراءة للمحدث، وهذا إجماع المسلمين، وإنما تحرم الجنب والحائض. انتهى، وكذا ذكر جماعة من العلماء منهم: ابن بطّال وابن عبد البر، وفيه نظر، وهو أن نوم النبي صلى الله عليه وسلم ليس بناقض وتجديده الوضوء بعد الاستيقاظ إنما هو لزيادة الفضل كما صرَّحوا به في مواضع، فلا يدل قراءة القرآن بعد النوم منه على ما ذكروا إلاَّ إذا ثبت في هذا الحديث وقوع حدث آخر منه صلى الله عليه وسلم.
(3) قوله: بالعشر، قال الباجي: يحتمل أن يكون ذلك ليبتدئ يقظته بذكر الله كما ختمها بذكره عند نومه، ويحتمل أن يكون ليذكر ما ندب إليه من العبادة وما وعد على ذلك من الثواب.
(4) أولها: {إنَّ في خلق السموات....} إلى آخر السورة.
(5) في نسخة: الخواتم، وبالنصب صفة للعشر.
(6) قوله: من سورة....إلخ، فيه استحباب قراءة هذا الآيات عند القيام من النوم، وفيه جواز قول سورة البقرة وسورة آل عمران ونحوها، وكرهه بعض المتقدمين، وقال: إنما يُقال السورة التي يُذكر فيها آل عمران والتي يُذكر فيها البقرة. والصواب هو الأول، وبه قال عامة العلماء من السلف والخلف، وتظاهرت عليه الأحاديث الصحيحة، كذا في "شرح صحيح مسلم" للنووي.
(7) قوله: إلى شَنٍّ معلَّق، بفتح الشين وتشديد النون: قِرْبَةٌ خَلِقَهٌ من أدم، وذكر الوصف باعتبار لفظه، وفي رواية للبخاري معلقة.
(8) قوله: منه، ولمحمد بن نصر: ثم استفرغ من الشنّ في إناء ثم توضأ.(1/516)
فَأَحْسَنَ (1) وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ (2) يُصَلِّي: قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: فقمتُ فصنعتُ مثلَ (3) مَا صَنَعَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذهبتُ فقمتُ إِلَى جَنْبِهِ (4) فَوَضَعَ (5) رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدَه الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي، وأخَذ (6) بأُذُنِي اليمنى بيده اليمنى؛ فَفَتَلَها (7)
__________
(1) قوله: فأحسن وضوءَه، وفي بعض طرقه، فأسبغ الوضوء، قال الحافظ: ويجمع بين هذا والرواية التي سبقت في باب تخفيف الوضوء: "فتوضأ وضوءاً خفيفاً" برواية الثوري، فإن لفظه: فتوضَّأ وضوءاً بين وضوءَين، ولم يكثر، وقد أبلغ، ولمسلم: فأسبغ الوضوء ولم يمسّ من الماء إلاَّ قليلاً، وزاد فيها: فتسوَّك.
(2) قوله: ثم قام يصلي، لمحمد بن نصر: ثم أخذ برداء له حضرميّ، فتوشَّحه، ثم دخل البيت، فقام يصلّي.
(3) قوله: مثل ما صنع، يقتضي أنه صنع جميع ما ذُكر من القول، والنظر إلى السماء، والوضوء والسواك، والتوشُّح، ويحتمل أن يُحمل على الأغلب، وزاد في رواية الدعوات في أوله: فقمت فتمطّيت كراهية أن يرى أني كنت أرقبه، كذا في "الفتح".
(4) أي: الأيسر.
(5) قال ابن عبد البر: يعني أنه أداره فجعله على يمينه، وهكذا ذكره أكثر الرواة في هذا الحديث ولم يذكره مالك.
(6) فيه أن قليل العمل لا يفسد.
(7) أي: دلكها، إمّا لينتبه من النعاس، أو إظهاراً لمحبته أو ليستعد لهيئة الصلاة، قوله: ففتلها، في بعض طرقه: فعرفت أنه إنما صنع ذلك ليؤنسني في ظلمة الليل وفي بعضها: فجعلت إذا أَغْفَيتُ أخذ بشحمة أذني، وفي هذا رد على من زعم أن أخذ الأذن له إنما كان في حال إدارته له من اليسار إلى اليمين متمسكاً بما في بعضها: فأخذ بأذني فأدارني، لكن لا يلزم من إدارته على هذا الصفة أن لا يعود(1/517)
ثُمَّ قَالَ: فَصَلَّى (1) رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ سِتَّ مَرَّاتٍ (2) ، ثُمَّ أَوتَرَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ (3) حِينَ جَاءَهُ المؤذِّن (4) ، فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ (5) فَصَلَّى الصُّبْحَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: صلاةُ الليلِ (6) عِنْدَنَا مَثْنَى مَثْنَى، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
__________
إلى مسك أذنه لما ذكر من تأنيسه وإيقاظه لأن حاله كان يقتضي ذلك لصغر سِنِّه، كذا في "الفتح".
(1) زاد ابن خزيمة: يسلِّم من كل ركعتين.
(2) أي: ذكرها ستَّ مرات، فالجملة ثنتا عشرة ركعة، قوله: ست مرات رواية الباب يقتضي أنه صلّى ثلاث عشرة ركعة، وقد صرَّح بذلك في رواية الدعوات للبخاري وصرَّح بعضهم بأن ركعتي الفجر من غيرها، لكن رواية شريك للبخاري في التفسير، عن كريب تخالف ذلك، ولفظه: فصلّى إحدى عشرة ركعة، ثم أذَّن بلال، فصلّى ركعتين، ثم خرج، فهذا ما في رواية كريب من الاختلاف، وقد عرف أن الأكثر خالفوا شريكاً وروايتهم مقدّمة على روايته لما معهم من الزيادة ولكونهم أحفظ، وقد حمل بعضهم هذا الزيادة على سنَّة العشاء ولا يخفى بُعدُه، كذا في "الفتح".
(3) للبخاري في رواية: فنام حتى نفخ ثم قام.
(4) هو بلال.
(5) من الحجرة إلى المسجد.
(6) قوله: صلاة الليل مثنى مثنى، أي: الأفضل في صلاة الليل أن تؤدَّى ركعتين ركعتين، وأما صلاة النهار، فالأفضل فيها الأربع، وبه قال أبو يوسف، وحجَّته ما مرًّ من حديث صلاة الليل مثنى مثنى، وقال الشافعي وأصحابه: الأفضل فيهما مثنى مثنى، له قوله عليه السلام: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، أخرجه(1/518)
صَلاةُ الليلِ إنْ شئتَ صلَّيتَ (1) رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ شئتَ صلَّيتَ أَرْبَعًا (2) ، وَإِنْ شئتَ سِتًّا، وَإِنْ شئتَ ثَمَانِيًا، وَإِنْ شئتَ (3) مَا شئتَ بِتَكْبِيرَةٍ
__________
أصحاب السنن الأربعة وابن خزيمة وابن حبان من طريق على بن عبد الله الأزدي، عن ابن عمر، لكن قال الترمذي: رواه الثقات، عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر، فلم يذكروا النهار، وقال النسائي: هذا الحديث عندي خطأ، وقال في "سننه الكبرى": إسناده جيد إلاَّ أن جماعة من أصحاب ابن عمر خالفوا الأزدي، فلم يذكروا فيه النهار، منهم: سلم ونافع وطاووس، وقال ابن عبد البر: لم يقله أحد عن ابن عمر غير علي، وأنكروه عليه، وكان يحيى بن معين يُضعف حديثه هذا ولا يحتج به ويقول: نافع وعبد الله بن دينار وجماعة روَوْه بدون ذكر النهار، وقال الدارقطني في "العلل": ذكر النهار فيه وهم، ولهذا الحديث طرق أخر أيضاً وشواهد لا يخلو أكثرها عن علة كما بسطه الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية"، وابن حجر في "تخريج أحاديث الرافعي" (1/119، وانظر عمدة القاري 3/403) وغيرهما.
(1) هذا هو المشهور من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل الثابت من حديث جماعة.
(2) قوله: صلَّيت أربعاً، لما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة في وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل: يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حُسنِهنّ وطولهن، ثم يصلّي أربعاً فلا تسأل عن حُسنِهِنَ وطولهن، ثم يصلِّي ثلاثاً. وأخرج أبو داود والنسائي في "سننه الكبرى" من حديث عائشة، وأحمد والبزّار، من حديث ابن الزبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلّي بعد العشاء أربع ركعات.
(3) قوله: وإن شئت ما شئت، هذا صريح في أنه لا يُكره الزيادة على ثماني ركعات بتسليمة واحدة خلافاً لما ذهب إليه بعض أصحابنا من أن ذلك مكروه، وعلَّلوه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد على ذلك بتحريمة واحدة، ويردّهم حديث(1/519)
وَاحِدَةٍ (1) ، وَأَفْضَلُ (2) ذَلِكَ أَرْبَعًا أَرْبَعًا. وَأَمَّا الْوِتْرُ فَقَوْلُنَا وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ وَاحِدٌ (3) ، وَالْوِتْرُ ثلاث (4)
__________
عائشة: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي تسع ركعات لا يجلس فيهن إلاَّ في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلِّم ثم يقوم، فيصلّي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليماً يسمعنا (أخرجه مسلم 1/256) .
(1) أي: بتحريمة.
(2) قوله: وأفضل ذلك، يعني أن الكل جائز، لكن الأفضل في الليل هو الأربع بتحريمة واحدة كما في النهار، وذكر أصحابنا في وجهه المنقول أحاديث دالَّة على صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات في الليل والنهار، وأيَّدوه بالمعقول بأنه أكير مشقَّة، فيكون أزيد فضيلة. ولا يخفى ما فيه فإن أداء النبي عليه السلام أربع ركعات بتحريمة واحدة في الليل والنهار مما لا يُنكر لثبوته بالأحاديث الثابتة، لكن الكلام في ما يدلّ على أنه الأفضل وهو مفقود، والفضائل في مثل هذا الباب إنما يثبت بالتوقيف من الشارع لا من الأمر المعقول فقط.
(3) قوله: واحد، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبيّ وأنس وابن عباس وأبي أمامة وعمر بن عبد العزيز وحذيفة والفقهاء السبعة وابن المسيّب، وهو أحد أقوال الشافعي، والقول الثاني: إنه يوتر ثلاثاً بتسليمتين تسليمة بعد ركعتين وتسليمة بعد ركعة وبه قال مالك، والقول الثالث: إن شاء أوتر بركعة وإن شار بثلاث بتسليمة واحدة أو بخمس أو بسبع أو بتسع أو بإحدى عشرة كذا في "البناية".
(4) قوله: ثلاث، ... إلخ، لما أخرجه النسائي، عن عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يسلم في ركعتي الوتر، ورواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين بلفظ: كان يوتر بثلاث لا يسلم إلاَّ في آخرهن. وأخرج محمد في "كتاب الآثار"، عن ابن مسعود أنه قال: ما أجزأت ركعة قط، وأخرجه الطبراني عن(1/520)
لا يُفصل بينهنَّ بتسليم (1) .
__________
إبراهيم قال: بلغ ابن مسعود أن سعداً يوتر بركعة فقال: ما أجزأت ركعة قط. وأخرج الطحاويّ، عن أنس أنه قال: الوتر ثلاث ركعات. وأخرج عن ثابت قال صلّى بي أنس الوتر أنا عن يمينه، وأم ولده خلفنا ثلاث ركعات، لم يسلِّم إلاَّ في آخرهن. وأخرج عن المِسْور، قال: دفنّا أبا بكر، فقال عمر: إني لم أوتر، فقام، فصففنا وراءه، فصلّى بنا ثلاث ركعات، لم يسلِّم إلا في آخرهن. وأخرج عن أبي الزناد عن الفقهاء السبعة سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبي بكر بن عبد الرحمن وحارثة بن زيد وعبيد الله بن عبد الله وسليمان بن يسار في مشيخة سواهم: أن الوتر ثلاث، لا يسلم إلاَّ في آخرهن. فهذه الآثار والأخبار كلَّها مؤِّيدة لمذهبنا. ويخالفها آثار أخر، فأخرج الطحاوي عن عبد الرحمن التيمي: وحدتُ حِسّ رجل من خلف ظهري، فنظرت فإذا عثمان بن عفان، فتقدَّم فاستفتح القرآن حتى ختم، ثم ركع وسجد، فقلت: أَوَهِمَ الشيخ؟ فلما صلّى قلت: يا أمير المؤمنين إنما صليتَ ركعة واحدة، قال: أجل هي وِتري. وأخرج أيضاً عن سعد بن أبي وقاص، أنه كان يوتر بركعة. وفي "صحيح البخاري"، عن معاوية وسعيد بن جبير أنه أوتر بركعة. وفي "سنن سعيد بن منصور" أن ابن عمر صلّى ركعتين من الوتر، ثم قال: يا غلام ارحل لنا، ثم قام فصلّى ركعة. والقول الفيصل في هذا المقام أن الأمر في ما بين الصحابة مختلف، فمنهم من كان يكتفي على الركعة الواحدة، ومنهم من كان يصلّي ثلاثاً بتسليمتين، ومنهم من كان يصلي ثلاثاً بتسليمة، والأخبار المرفوعة أيضاً مختلفة بعضها شاهدة للاكتفاء بالواحدة، وبعضها بالثلاث، والكل ثابت، لكن أصحابنا قد ترجَّحت عندهم روايات الثلاث بتسليمة بوجوه لاحت لهم، فاختاروه وحملوا المجمَل على المفصل.
(1) أي: في القعدة الأولى.(1/521)
7 - (بابُ الحدَثِ فِي الصَّلاةِ)
172 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا إسماعيلُ (1) بنُ أَبِي الْحَكِيمِ، عَنْ عَطَاءِ (2) بْنِ يسارْ: أَنَّ (3) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كبَّر فِي صَلاةٍ (4) مِنَ الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ أَشَارَ (5) إِلَيْهِمْ بِيَدَهِ أَنِ امْكُثُوا، فَانْطَلَقَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَجَعَ (6) وَعَلَى جِلْدِهِ أَثَرٌ فصلَّى (7) .
__________
(1) القرشي، وثَّقه ابن معين والنسائي، مات سنة 130 هـ، كذا ذكره الزرقاني.
(2) قوله: عطاء، أخو سليمان وعبد الله وعبد الملك موالي ميمونة أم المؤمنين كاتَبَتهم وكلُّهم أخذ عنها العلم، وعطاء أكثرهم حديثاً، وكلهم ثقة، ذكره الزرقاني.
(3) قوله: أنَّ، قال ابن عبد البر: هذا مرسل، وقد رُوي متَّصلاً مسنَداً من حديث أبي هريرة وأبي بكرة. قلت: حديث أبي هريرة أخرجه البخاري (أخرجه البخاري في 5 - كتاب الغسل، 17 - باب إذا ذَكَر في المسجد أنه جنب يخرج كما هو ولا يتيمَّم، ومسلم في: 5 - كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 29 - باب متى يقوم الناس للصلاة، حديث 157، 158) ومسلم وأبو داود والنسائي، وحديث أبي بكرة. أخرجه أبو داود، وكذا في "التنوير".
(4) هو الصبح كما في رواية أبي داود من حديث أبي بكرة.
(5) قوله: ثم أشار، مثله في رواية أبي هريرة، فقوله في رواية الصحيحن: (فقال لنا: مكانَكم) من إطلاق القول على الفعل.
(6) وفي رواية أبي هريرة: فاغتسل ثم رجع إلينا ورأسه يقطر فكبَّر.
(7) زاد الدارقطني فقال: إني كنت جنباً فنسيتُ إن أغتسل.(1/522)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، مَنْ سَبَقَهُ حَدَثٌ فِي صَلاةٍ، فَلا بَأْسَ (1) أَنْ يَنْصَرِفَ وَلا يتكلم فيتوضأ،
__________
(1) قوله: فلا بأس ... إلخ، أقول: استنباط هذه المسألة من حديث الباب كما فعله محمد غير صحيح.
أما أوَّلاً: فلأنه قد رُويت قصة انصراف النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة من حديث أبي هريرة بلفظ: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أُقيمت الصلاة وعُدِّلت الصفوف حتى إذا قام في مصلاّه انتظرنا أن يكبر فانصرف، وفي رواية: فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب، فقال لنا مكانكم. وهذا دليل على أنه انصرف قبل أن يدخل في الصلاة، نعم ورد في "سنن أبي داود" من حديث أبي بكرة أنه دخل في صلاة الفجر، فكبَّر ثم أومأ إليهم، والجمع بينهما بحمل قوله كبر على أنه أراد أن يكبِّر، وأبدى عياض والقرطبي احتمال أنهما واقعتان، وقال النووي: إنه الأظهر، وجزم به ابن حبان، فإن ثبت التعدّد فذاك، وإلاَّ فما في "الصحيحين" أصح كذا في "فتح الباري". إذا عرفت هذا فنقول: إن اختير طريق الجمع وحمل المجمل على المفصل فقوله: (كبَّر) في حديث الباب يكون محمولاً على إرادة التكبير فلا يكون له دلالة على انصراف من سبقه حدث في الصلاة.
وأما ثانياً: فلأن انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم المرويّ في حديث الباب إنما كان لأجل أنه كان جنباً فنسي ودخل في الصلاة قبل الغسل كما أوضحه ما في رواية الدارقطني، ثم رجع وقد اغتسل فقال: إني كنت جنباً فنسيتُ أن أغتسل. وقد ورد في "صحيح البخاري" وغيره أيضاً التصريح بأنه اغتسل ثم رجع ورأسه يقطر ماءً. فعُلم أن انصرافه كان لحدثٍ سابق على الصلاة، لا لحدث في الصلاة، والمقصود هذا لا ذاك.
وأما ثالثاً: فلأنه قد ورد في "صحيح البخاري" وغيره أنه رجع بعد ما اغتسل ورأسه يقطر ماءً، والحدث الذي يجوز بحدوثه في الصلاة البناء إنما هو الحدث(1/523)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الذي يوجب الوضوء لا الذي يوجب الغسل.
وأما رابعاً: فلأن الإمام إذا أحدث في الصلاة فذهب للتوضؤ فلا بدَّ له أن يستخلف فلو لم يستخلف فسدت صلاته وصلاة من اقتدى به كما هو مصرَّح في موضعه، ولم يُنقل في الأخبار أنه عليه السلام استخلف أحداً، فكيف يستقيم الأمر.
وأما خامساً: فلأنه ورد في حديث أبي هريرة: ثم رجع إلينا ورأسه يقطر ماءً فكبَّر. وهذا نص في أنه لم يبنِ على ما سبق، بل استأنف التكبير. وكيف يجوز له البناء على التكبير السابق إن ثبت أنه خرج بعد ما كبَّر؟ فإنه كان قد أدّاه على غير طهارة، ولا يجوز البناء على ما أداه بغير طهارة، بل على ما أدّاه بطهارة.
وبالجملة إذا جُمعت طرق حديث الباب ونُظر إلى ألفاظ رواياته وحُمل بعضها على بعض عُلم قطعاً أنه لا يصلح لاستنباط ما استنبطه محمد رحمه الله. وبه يظهر أنه لا يصح إدخال هذا الحديث في باب الحدث في الصلاة (قال شيخنا في الأوجز 1/294: إن رواية الموطأ هذه ورواية الصحيحين المذكورة لو حملتا على أنهما واقعة واحدة فلا إشكال أصلاً، إلاَّ أن الظاهر عندي أنهما واقعتان مختلفتان، ولما كان عند الإمام مالك حكم الحدث السابق واللاحق واحداً، يعني إذا صلّى الإمام ناسياً محدثاً أو جنباً ثم تذكَّر، وكذلك إذا أحدث في وسط الصلاة ففي كلا الحالين تفسد صلاته عند المالكية، ولا يجوز البناء، فلذا ذكر هذا الحديث في إعادة الصلاة لأن (كبّر) لو حمل على ظاهره بطلت الصلاة عند المالكية أيضاً وتجب الإعادة فيصح إدخال الحديث في باب الإعادة.
وأما عند الحنفية، فحديث الباب ليس من باب الجنابة بل من باب سبق الحدث في الصلاة ولذا أدخله الإمام محمد في "موطئه".. وليست هذه قصة الجنابة المذكورة في الصحيحين وغيرهما، وإيرادات العلاّمة عبد الحيّ في حاشية "الموطأ"، من المستغربات. وقد تقدم أنَّ عياضاً والقرطبي والنووي وابن حبان كلهم قالوا بتعدد القصة، وما أورد الشيخ عبد الحيّ على استنباط الإمام محمد، فمبنيّ على وحدة القصتين إلاّ قوله: ولم ينقل أنه استخلف أحداً، وأنت خبير بأنَّ اتحاد القصتين خلاف ما عليه الجمهور وعدم النقل لشيء يغاير نقل العدم والحجة في الثاني دون الأول، وحديث الباب في حمله على قصة الجنابة مع شروع الصلاة مشكل على الجمهور كلهم كما تقدم من أقوال الحنفية والمالكية، وقال الشافعي: لو أن إماماً صلّى ركعة ثم ذكر أنه جنب، فخرد واغتسل وانتظره القوم وبنى على الركعة الأولى فسدت عليه وعليهم صلاتهم لأنهم يأتمّون به عالمين أن صلاته فاسدة وليس له أن يبني على ركعة صلاها جنباً، ولو علم بعضهم دون بعض فسدت صلاة من علم. اهـ. وكذلك عند الحنابلة، فعُلم أنَّ حديث الباب في حمل قوله: (كبَّر) على معناه الحقيقي لا يوافق أحداً من الأئمة، فإما أن يحمل على المجاز من قوله أراد (أن يكبر) ، أو يحمل على تعدُّد القصَّة. اهـ. مختصراً) ، لأنه لم يكن هناك(1/524)
ثُمَّ يَبْنِيَ (1) عَلَى مَا صَلَّى، وَأَفْضَلُ ذَلِكَ أَنْ يَتَكَلَّمَ ويتوضَّأ وَيَسْتَقْبِلَ صَلاتَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (2) - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
8 - (بَابُ فَضْلِ الْقُرْآنِ وَمَا يُستحبُّ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)
173 - أخبرنا مالك، أخبرنا (3)
__________
حدث في الصلاة، ولعلَّ محمداً نظر إلى قوله: (كبَّر) ، فحمله على الدخول في الصلاة وإلى قوله: (ثم رجع وعلى جلده أثر الماء) ، فحمله على أنه توضأ، وحمل قوله: (فصلّى) على أنه بنى، وأيَّده بأنه أشار إليهم أن امكثوا، ولم يتكلَّم كما هو شأن الباني، فاستنبط منه ما استنبط.
(1) قد ذكرت الأحاديث الدالة على هذا في باب الوضوء من الرعاف، فانظر هناك.
(2) وبه قال جماعة، وخالفهم جماعة في البناء كما مرَّ منّا ذكره في باب الوضوء من الرعاف.
(3) قوله: أخبرنا عبد الرحمن، قال الحافظ ابن حجر: هذا هو المحفوظ، رواه جماعة عن مالك، فقالوا عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن أبيه، أخرجه النسائي والإسماعيلي والدارقطني وقالوا: الصواب الأول.(1/525)
عبدُ الرَّحْمَنِ (1) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ (2) أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (3) الخُدْري أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلا (4) مِنَ اللَّيْلِ يَقْرَأُ: {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يردِّدها (5) ، فَلَمَّا أَصْبَحَ حدَّث النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأنَّ (6) الرَّجُلَ (7) يُقَلِّلُها (8) ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إنها (9)
__________
(1) قوله: عبد الرحمن، الأنصاري المازني، وثقه النسائي وأبو حاتم، مات في خلافة المنصور كذا في "الإسعاف".
(2) هو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة التابعي الثقة، كذا قال الزرقاني.
(3) سعد بن مالك بن سنان.
(4) هو قتادة بن النعمان أهو أبي سعيد الخدري لأمِّه كما صرح به في رواية "مسند أحمد".
(5) لأنه لم يحفظ غيرها، أو لما رجاه من فضيلتها قاله أبو عمر (في الأصل: "أبو عمرو") .
(6) بفعل ماض أو بشد النون.
(7) بالنصب أو الرفع الذي جاء وذكر، وهو أبو سعيد.
(8) أي: يعتقد أنها قليلة.
(9) قوله: إنها لتعدل (أخرجه البخاري في: 66 - كتاب فضائل القرآن، 13 - باب فضل: قل هو الله أحد) ، أي: تساوي ثلث القرآن لأن معاني القرآن ثلاثة علوم: علم التوحيد، وعلم الشرائع، علم تهذيب الأخلاق. وسورة الإخلاص يشمل على القسم الأشرف منها الذي هو كالأصل للقسمين، وهو علم التوحيد، وقال الطِّيبي: ذلك لأن القرآن على ثلاثة أنحاء: قصص، وأحكام، وصفات الله و {قل هو الله ... } متمحِّضة للصفات فهي ثلث القرآن، وقيل:(1/526)
لَتَعْدِلُ ثُلُثَ (1) القرآن".
__________
ثوابها يضاعف بقدر ثلث القرآن، فعلى الأول لا يلزم من تكريرها استيعاب القرآن وختمه وعلى الثاني يلزم، وقال ابن عبد البر: من لم يتأوَّل هذا الحديث أخلص ممن اختار الرأي، وإليه ذهب أحمد وإسحاق، فإنهما حَمَلا الحديث على أن معناه أن لها فضلاً في الثواب تحريضاً على تعلُّمها لا أن قراءتها ثلاث مرات كقراءة القرآن، قال: وهذا لا يستقيم ولو قرأها مائتي مرة، كذا في "مرقاة المفاتيح" (4/349، وانظر: فتح الباري 8/60) .
(1) قوله: ثلث القرآن، قد وقع النزاع بين طَلَبَتي المستفيدين مني بحضرتي سنة إحدى وتسعين بعد الألف والمائتين في أنه إذا قرأ سورة الإخلاص هل يجد ثواب قراءة تمام القرآن؟ فقال بعضهم: نعم، مستنداً بهذا الحديث، ورده بعضهم بأن جميع الأثلاث إنما يبلغ إلى الواحد التام إذا كانت من جنس واحد، وإلا فلا، وليس في الحديث تصريح بشيء من ذلك، فحضروا لديّ سائلين تحقيق الحق في ذلك، فقلت: قد صرّح جمع من الفقهاء والمحدثين بذلك فقالوا: غرضنا أنه هل يُستنبط ذلك من هذا الحديث أم لا؟ فقلت: إن كانت الثلثية معللة باشتمالها على ثلث معاني القرآن، وهو التوحيد كما هو رأي جماعة. فلا دلالة لهذا الحديث على حصول ثواب ختم القرآن بالتثليث لأن التثليث حينئذٍ يكون تثليثاً لآيات التوحيد فقط ولا يشتمل على ما (في الأصل: "ما في القرآن"، والصواب: "على ما في القرآن") في القرآن، وإن حُمل ذلك على كون ثوابه بقدر ثواب ثلث القرآن مع قطع النظر عن ما ذكر يمكن ثواب الختم التام بالتثليث، فانقطع النزاع منهم. ثم وجدت في "معجم الطبراني الصغير "أنه أخرج عن أحمد بن محمد البزار الأصبهاني، نا الحسن بن علي الحلواني، نا زكريا بن عطية، نا سعد بن محمد بن المسور بن إبراهيم، حدثني عمي سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ {قل هو الله أحد} بعد صلاة الصبح اثني عشر مرة، فكأنما قرأ القرآن أربع مرات، وكان أفضل أهل الأرض يومئذٍ إذا اتقى، فصار هذا أدل على المقصود قاطعاً للنزاع.(1/527)
174 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ سعيدَ بنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: قَالَ معاذُ بْنُ جَبَلٍ (1) : لأَنْ أذكرَ اللهَ مِنْ بُكرة (2) إِلَى اللَّيْلِ أحبُّ (3) إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْمِلَ عَلَى جِياد (4) الْخَيْلِ مِنْ بُكرة حَتَّى اللَّيْلِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: ذِكْرُ اللَّهِ حَسَنٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ (5)
175 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) قوله: معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن المدني شهد العقبة وبدراً والمشاهد كلها، وكان أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، ومات في طاعون عَمَواس، كذا في "الإسعاف".
(2) أي: من أول النهار.
(3) قوله: أحبّ إليَّ ... إلخ، فيه تفضيل الذكر على الجهاد وهو أمر توقيفي لا يُدرك بالرأي، وقد ورد به حديث مرفوع أيضاً، وورد بعض الأحاديث بتفضيل الجهاد على جميع الأعمال، والجمع بينهما أن الجهاد الكامل المتضمِّن لبذل المال وإظهار الحجة والبيان وتدبير الأمور بالرأي والتوجه بالدعاء والقلب والقتال باليد أفضل الأعمال مطلقاً، وما سواه من أنواعه يفضل عليه الذكر، كذا حققه برهان الدين إبراهيم بن أبي القاسم بن إبراهيم بن عبد الله بن جعمان الشافعي في "عمدة المتحصنين شرح عدة الحصن الحصين".
(4) بالكسر جمع جيد.
(5) قوله: على كل حال، حتى حالة التغوط والجماع فإنه وإن كان الذكر اللساني منهياً عنه عند ذلك لكن لا شبهة في حُسن الذكر القلبي، وقد ورد من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه.(1/528)
قَالَ: إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ (1) الإِبِلِ المُعَلَّقة (2) ، إِنْ عاهَدَ (3) عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ.
49 - (بَابُ الرَّجُلِ يُسلَّم (4) عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي)
167 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عمرَ مرَّ عَلَى رجلٍ يصلِّي، فسلَّم عَلَيْهِ (5) فردَّ (6) عَلَيْهِ السَّلامُ، فَرَجَع إِلَيْهِ ابنُ عمرَ، فَقَالَ: إِذَا سُلِّم عَلَى أَحَدِكُمْ وَهُوَ يصلِّي فلا يتكلَّم (7)
__________
(1) قال الطِّيبي: وذلك لأن القرآن ليس من كلام البشر، بل كلام خالق القُوى والقُدر، وليس بينه وبين البشر مناسبة قريبة لأنه حادث، وهو قديم، والله سبحانه بلطفه منَّ عليهم ومنحهم هذه النعمة.
(2) العقال: الحبل الذي يُشدّ به ذرع البعير، كذا في "مرقاة المفاتيح".
(3) المعاهدة: المحافظة وتجديد العهد.
(4) بصيغة المجهول.
(5) أي: سلّم ابن عمر عليه، ولعله لم يدرِ أنه يصلي.
(6) أي: كلاماً.
(7) برد السلام لأنه مفسد، قوله: فلا يتكلم، فيه إشارة إلى أن السلام كلام لأن فيه خطاباً ومواجهة بالغير، والكلام في الصلاة منهي عنه، وقد دلَّت عليه أحاديث مرفوعة أيضاً، فأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود قال: كنا نقوم في الصلاة، فنتكلم ويسارّ الرجل صاحبه، ويخبره، ويردّون عليه إذا سلَّم حتى أتيتُ فسلَّمت فلم يردوا عليَّ، فاشتدَّ ذلك عليَّ، فلما قضي النبيُّ صلى الله عليه وسلم صلاته قال: أما إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلاّ أنّا أُمرنا أن نقوم قانتين. وأخرج أيضاً عنه:(1/529)
وَلْيُشِرْ (1) بيدِهِ.
__________
كنا نتكلم في الصلاة، فسلَّمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يردّ عليَّ، فلما انصرفت قال: لقد أحدث الله أن لا تكلموا في الصلاة، ونزلت: {وقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} (سورة البقرة: آية 238) . وأخرج أيضاً عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عوّدني أن يردَّ عليَّ السلام في الصلاة فأتيتُهُ ذات يوم فسلَّمت فلم يردَّ عليّ، وقال: إنَّ الله يحدث في أمره ما شاء، وإنه قد أحدث لكم أن لا يتكلم أحد إلا بذكر الله وما ينبغي من تسبيح وتمجيد {وقوموا للَّهِ قَانِتِينَ} ، وأخرج البخاريّ ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عنه: كنا نسلِّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلَّمنا عليه فلم يردّ علينا، فقلنا: كنا نسلِّم عليك، فتردّ علينا، فقال: إنَّ في الصلاة شغلاً.
(1) قوله: وليشر بيده، أي: بأصبعه لما أخرج أبو داود والترمذي، عن صهيب: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلِّي، فسلَّمت عليه فردَّ إليَّ إشارةً، وأخرج البزار، عن أبي سعيد أن رجلاً سلَّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فردّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إشارة، فلما سلّم قال له: إنّا كنا نرد السلام في صلاتنا، فنُهينا عن ذلك، وأخرج ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني، عن أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير في الصلاة.
وبه أخذ الشافعي، فاستحب الرد إشارة، وعن أحمد كراهة الرد بالإشارة في الفرض دون النفل، وعن مالك روايتان، ذكره العيني. واختلف أصحابنا: فمنهم من كرهه ومنهم الطحاوي وحملوا الأحاديث على أن إشارته صلى الله عليه وسلم كان للنهي عن السلام لا لرده، وهو حَملٌ يحتاج إلى دليل مع مخالفته لظاهر بعض الأخبار، ومنهم من قال لا بأس به(1/530)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي أَنْ يردَّ السَّلامَ إِذَا سُلِّم عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلاةِ، فَإِنْ فَعَلَ (1) فسدتْ صلاتُهُ، وَلا يَنْبَغِي (2) أَنْ يسلَّم عَلَيْهِ وَهُوَ (3) يصلِّي، وَهُوَ قولُ أبي حنيفة - رحمه الله -.
50 - (باب الرجلان يصلِّيانِ جَمَاعَةً)
177 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهري، عَنْ عُبيدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ (4) قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عمرَ بنِ الْخَطَّابِ
__________
(جمع في بذل المجهود 5/207 بين الحديثين، بأن الحديث الأول محمول على الأولوية، وأما الثاني، فعلى تعليم الجواز) .
(1) قوله: فعل، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد وأبو ثور وأكثر العلماء، وكان ابن المسيب والحسن وقتادة لا يَرَون به بأساً، كذا ذكره العيني، ولعلّ من أجازه لم يبلغه الأحاديث فإنها صريحة في أن السلام كلام ممنوع عنه.
(2) قوله: ولا ينبغي، لأنه في شغل عن ردِّه، إنما السلام على من يمكنه الرد، وأجازه بعضهم لحديث: كان الأنصار يدخلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويسلمون فيردَّ عليهم إشارة بيده، كذا في "الاستذكار".
(3) قوله: وهو يصلي، فإن سلَّم عليه هل يجب عليه الرد؟ فذكر العيني وغيره أن عند أبي يوسف لا يردّ في الحال ولا بعد الفراغ، وعند أبي حنيفة يردّه في نفسه، وعند محمد يرد بعد السلام، لما أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى، عن ابن مسعود كنا نسلِّم بعضنا على بعض في الصلاة فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم فسلَّمت عليه، فلم يردّ عليَّ، فوقع في نفسي أنه نزل فيه شيء، فلما قضى رسولُ الله صلاته، قال: وعليك السلام. وأخرج الطحاوي، عن جابر: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فبعثني في حاجة، فانطلقت إليها، ثم رجعت وهو يصلي على راحلته فسلمتُ عليه فلم يردّ عليّ، ورأيته يركع ويسجد فلما سلَّم ردّ.
(4) قوله: عن أبيه، هو عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي ابن أخي(1/531)
بالهاجِرَةِ (1) فوجدتُهُ يسبِّحُ (2) فقمتُ (3) وراءَه فَقَرَّبَنِي، فَجَعَلَنِي بحذائِهِ (4) عن يمينه، فلما جاء يَرْفَاءُ (5) تأخَّرتُ فَصَفَفْنا وراءَه (6) .
178 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ أنه قام عن يسار ابنِ عمرَ فِي صلاتهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ (7) .
179 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا إسحاقُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ
__________
عبد الله بن مسعود، ووثّقه جماعة وهو من كبار التابعين، مات بعد السبعين، كذا في "التقريب" وغيره.
(1) وقت الحر.
(2) قوله: يسبح، يُطلَق التسبيح على صلاة النافلة، ويقال للذِّكر ولصلاة النافلة سُبحة، يقال: قضيت سُبحتي، وإنما خُصَّت النافلة بالسبحة وإن شاركتها الفريضة في التسبيح لأن التسبيحات في الفرائض نوافل، فقيل لصلاة النافلة: سبحة، لأنها نافلة كالتسبيحات، كذا في "النهاية"، والمراد ههنا: نافلة الظهر إن كان الهاجر بمعنى ما بعد الزوال أو صلاة الضحى إن حُمل على الحرّ.
(3) فيه جواز الإمامة في النافلة.
(4) بكسر الحاء وفتح الذال والمدّ، أي: بمقابلته.
(5) قوله: يرفاء، حاجب عمر أدرك الجاهلية، وحج مع عمر في خلافة أبي بكر، وله ذكر في "الصحيحين" في قصة منازعة علي والعباس في صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذا قال الزرقاني.
(6) أي: خلف عمر.
(7) أي: ابن عمر.(1/532)
أَبِي طَلْحَةَ (1) ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مالكٍ: أَنَّ جَدَّتَهُ (2) دَعَتْ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
__________
(1) هو زيد بن سهل.
(2) قوله: أن جدته، قال ابن عبد البر: إن جدّته مليكة، يقوله مالك، والضمير في جدته عائد إلى إسحاق، وهي جَدَّة إسحاق أمُّ أبيه عبد الله بن أبي طلحة، وهي أم سليم بنت ملحان زوج أبي طلحة الأنصاري، وهي أم أنس بن مالك كانت تحت أبيه مالك بن النضر، فولدت له أنس بن مالك والبراء بن مالك، ثم خلف عليها أبو طلحة، قال: وذكر عبد الرزاق هذا الحديث، عن مالك، عن إسحاق، عن أنس، أن جدَّته مليكة، يعني جدة إسحاق، وساق الحديث بمعنى ما في "الموطأ". انتهى. وقال النووي: الصحيح أنها جدة إسحاق فتكون أم أنس، لأن إسحاق ابن أخي أنس لأمه، وقيل: إنها جدّة أنس وهي بضم الميم وفتح اللام، وهذا هو الصواب، وعن الأصيلي: بفتح الميم وكسر اللام، وهذا غريب مردود، وقال الحافظ ابن حجر: الضمير في جدَّته يعود إلى إسحاق، جزم به ابن عبد البر وعبد الحق وعياض، وصححه النووي، وجزم ابن سعد وابن مندة بأنها جدة أنس، وهو مقتضى كلام إمام الحرمين في "النهاية" ومن تبعه وكلام عبد الغني في "العمدة" وهو ظاهر السياق، ويؤيِّده ما رويناه في فوائد العراقيين لأبي الشيخ من طريق القاسم بن يحيى المقدسي، عن عبيد بن عمر، عن إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس، قال: أرسلَتني جدّتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمها مليكة، فجاءنا فحضرت الصلاة، الحديث قال: ومقتضي من أعاد الضمير إلى إسحاق، أن يكون اسم أم سليم مليكة، ومستندهم في ذلك ما رواه ابن عيينة، عن إسحاق، عن أنس، قال: صففت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأمي أم سليم خلفنا. هكذا أخرجه البخاري والقصة واحدة، طوَّلها مالك، واختصرها سفيان، قال: ويحتمل تعدّدها، وقد ذكر ابن سعد في "الطبقات" أمَّ أنس وهي أم سليم بنت ملحان وقال: هي الغميصا، ويقال: الرميصا، ويقال: اسمها سهلة، ويقال أنيفا، ويقال: رُميثة، ويقال: رميلة، وأمها مليكة بنت مالك، كذا في "التنوير". (ص 169) .(1/533)
لِطَعَامٍ، فَأَكَلَ (1) ثُمَّ قَالَ: قُومُوا فَلْنُصَلِّ بِكُمْ (2) . قَالَ أَنَسٌ: فقمتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسوَدَّ من طوال مَا لُبِسَ (3) فنضحتُهُ (4) بماءٍ، فَقَامَ (5) عَلَيْهِ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فصففتُ أنا واليتيم (6)
__________
(1) قوله: فأكل، زاد فيه إبراهيم بن طحان وعبد الله بن عون، عن مالك وأكلت منه، ثم دعا بوَضوء فتوضأ، ثم قال: قم فتوضأ ومُرْ العجوز فلتتوضأ، ولأصلِّ لكم.
(2) قال السهيلي: الأمر ها هنا بمعنى الخبر. قوله: فلنصلِّ بكم، قال الحافظ: أورد مالك هذا الحديث في ترجمة صلاة الضحى، وتُعقِّب بما رواه البخاري، عن أنس أنه لم يرَ النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى إلا مرة واحدة في دار الأنصاري الضخم الذي دعاه ليصلّي في بيته. وأجاب صاحب "القبس" بأن مالكاً نظر إلى الوقت الذي وقعت فيه تلك الواقعة وهو وقت صلاة الضحى.
(3) أي: استعمل. ولُبْسُ كلِّ شيء بحبسه، قال الرافعي: يريد فُرش، فإن ما فُرش فقد لبسته الأرض.
(4) قوله: فنضحته، لِيَلِين لا لنجاسة، قاله إسماعيل القاضي، وقال غيره: النضح طهور لما شكَّ فيه لتطييب النفس.
(5) قوله: فقام عليه، فيه جواز الصلاة على الحصير، وما رواه ابن أبي شيبة وغيره، عن شريح بن هانئ أنه سأل عائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير والله يقول: {وَجَعَلنا جَهنم للكافرين حَصيراً} (سورة الإسراء: الآية 8) .؟! فقالت: إنه لم يكن ليصلّي على الحصير. ففيه يزيد بن المقدام ضعيف، وهو خبر شاذٌّ مردود بما هو أقوى منه كحديث الباب، ولما في البخاري، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حصير يبسطه ويصلي عليه.
(6) بالرفع عطفاً على الضمير المرفوع، وبالنصب مفعول معه. قوله: واليتيم، هو ضميرة بن أبي ضمرة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذا سمّاه عبد الملك بن(1/534)
وراءَه والعجوزُ (1) وراءَنا، فَصَلَّى بِنَا ركعتينِ ثُمَّ انْصَرَفَ (2) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كلِّه نَأْخُذُ، إِذَا صلَّى الرَّجُلُ الواحدُ مَعَ الإِمَامِ قَامَ عَنْ يَمِينِ الإِمَامِ، وَإِذَا صَلَّى الاثْنَانِ قَامَا (3) خَلْفَهُ وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله -.
__________
حبيب، وجزم البخاري بأن اسم أبي ضمرة سعد الحميري، ويقال: سعيد، ونسبه ابن حبان ليثياً، ويقال: اسمه روح، ووهم من قال اسم اليتيم روح كأنه انتقل ذهنه من الخلاف في اسم أبيه، وكذا وهم من قال: اسمه سليم، كما بيَّنه في الفتح، كذا في "شرح الزرقاني" (1/309) .
(1) قال النووي: هي أم سليم، وقال الحافظ: هي مليكة المذكورة.
(2) أي: إلى بيته أو من الصلاة.
(3) قوله: قاما (لا خلاف في أن سنّة النساء القيام خلف الرجال ولا يجوز لهن القيام معهم في الصف أوجز المسالك 3/141) خلفه: هذا هو مذهب أكثر العلماء، وبه قال عمر وعلي وابن عمر وجابر والحسن وعطاء ومالك وأهل الحجاز الشام والشافعي وأصحابه وأكثر أهل الكوفة، ومذهب ابن مسعود أنهم إذا كانوا ثلاثة قام الإمام وسطهم، فإن كانوا أكثر من ذلك قدموا أحدهم، وبه قال النخعيُّ ونفر يسير من أهل الكوفة، كذا في "الاعتبار" للحازمي. وفي "صحيح مسلم" أن ابن مسعود صلى بعلقمة والأسود، فقام بينهما، وكذا أخرجه أبو داود والبيهقي ومحمد في كتاب "الآثار" والطحاوي وغيرهم، وفي بعضها أنه قال: هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل وأجاب الجمهور عنه بوجوه: منها أنه لم يبلغه حديث أنس وغيره الدالّ صريحاً على تقدّم الإمام على الاثنين، وفيه بُعد، ومنها أنه فعل ما فعل لعذر، أو لبيان الجواز، لا لبيان أنه السنّة، ومنها أنه منسوخ بأحاديث أخر.(1/535)
51 - (بابُ الصَّلاةِ فِي مرابضِ (1) الْغَنَمِ (2))
180 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ محمدِ (3) بْنِ عمرِو بْنِ حَلْحَلَةَ الدُّؤَلي (4) ، عَنْ حُميد (5) بنِ مالكِ بنِ الخيثَمِ، عَنْ أبي هريرة أنَّه
__________
(1) هي المواضع التي تربض فيها الغنم، قوله: في مرابض، من ربض في المكان يربض إذا لصق بها وأقام ملازماً لها، يقال: حتى تربَّض الوحش في كناسها، كذا في "النهاية".
(2) قوله: الغنم، قال الجوهري: هو اسم مؤنث موضوع للجنس يقع على الذكور والإناث من الشأة، وثبت في "صحيح البخاري" - سنن ابن ماجه - واللفظ له، عن أبي هريرة مرفوعاً: "ما بعث الله نبياً إلاّ راعي غنم، فقال أصحابه: وأنت يارسول الله؟ قال: وأنا كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط، كذا في "حياة الحيوان" لكمال الدين محمد بن موسى الدَّميري الشافعي.
(3) هو المدني، وثقه ابن معين والنسائي، ذكره السيوطي.
(4) قوله: الدؤلي، بضم الدال وفتح الهمزة وذكر في "التقريب" في نسبته الدَّيلي بكسر الدال بعدها ياء، وهما نسبتان إلى قبيلة.
(5) قوله: عن حميد بن مالك بن الخيثم، هكذا وجدنا العبارة في بعض النسخ، وعليه شرح القاري، وضبطه بفتح الخاء المعجمة وسكون التحتية ففتح المثلَّثة، وضبطه ابن حجر في "التقريب" بصيغة التصغير حيث قال: حميد بن مالك بن خُثَيم بالمعجمة والمثلثة مصغراً، ويقال مالك جَدّه، واسم أبيه عبد الله ثقة. انتهى. وذكر في "تهذيب التهذيب" في ضبطه اختلافاً حيث قال في ترجمته: قال ابن سعد: كان قديماً قليل الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات" وجَدّه ذكره البخاري في "التاريخ" فضبطه في الرواة عنه بلفظ الخُتَم بضم المعجمة وفتح المثناة الخفيفة، وضبطوه في رواية ابن القاسم في "الموطأ" كذلك، لكن بالمثلثة"، وضبطه مسلم كذلك، لكن بتشديد المثناة، وضبطوه في "الأحكام" لإسماعيل(1/536)
قَالَ: أحسِنْ إِلَى غَنَمِك، وأطِبْ مُراحَها (1) ، وصلِّ (2) في (3) ناحيتها، فإنها من دوابِّ الجنة.
__________
القاضي بتشديد المثلثة. انتهى ملخصاً. وضبطه ابن الأثير في "النهاية" بمثل ما في "التقريب".
(1) بضم الميم، موضع تروح إليه الماشية، أي: تأوي إليه ليلاً، كذا في "النهاية".
(2) قوله: وصلِّ في ناحيتها، روى أبو داود والترمذي وابن ماجه، عن البراء: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل؟ توضَّؤوا منها، وسئل عن لحوم الغنم، فقال: لا توضؤوا منها، وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل؟ فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها مأوى الشياطين، وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: صلّوا فيها، فإنها مباركة. وروى النسائي وابن حبان من حديث عبد الله بن المغَفَّل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الإبل خُلقت من الشياطين، كذا في "حياة الحيوان".
(3) قوله: في ناحيتها، روى يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن ابن عمر مرفوعاً: "صلّوا في مُراح الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل" (الحديث الصحيح: "جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" يدلّ: بعمومه على جواز الصلاة في أعطان الإبل وغيرها بعد أن كانت طاهرة، وهو مذهب جمهور العلماء وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأبو يوسف وأحمد وآخرون وكرهها الحسن البصري وإسحاق وأبو ثور، وعن أحمد في رواية مشهورة عنه أنه إذا صلى في أعطان الإبل فصلاته فاسدة، وهو مذهب أهل الظاهر. أوجز المسالك 3/281) ، ووردت هذه الرواية عن جماعة من الصحابة وأصح ما قيل في الفرق أن الإبل لا تكاد تهدأ ولا تقرّ بل تثور، فربما تقطع الصلاة، وجاء في الحديث: "إنها خُلقت من جنّ".(1/537)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا بَأْسَ بِالصَّلاةِ فِي مُراح (1) الْغَنَمِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ (2) أبوالُها وبعرُها (3) مَا أكلتَ (4) لَحْمَهَا فَلا بَأْسَ (5) بِبَوْلِهَا.
__________
(1) بضم الميم، موضع تروح إليه الماشية، أي: تأوي إليه ليلاً، كذا في "النهاية" وقال الباجي: مُراح الغنم مجتمعها من آخر النهار ذكره السيوطي، وهما متقاربان قاله القاري.
(2) قوله: وإن كان فيه ... إلخ، قال القاري: فيه أنه لا دلالة في الحديث على أنه يصلّي فوق بولها وبعرها من غير سجّادة ونحوها، بل قول أبي هريرة صلّ في ناحية، تأبى عن هذا المعنى، وأيضاً فلا يحصل الفرق حينئذ بين مرابض الغنم وأعطان الإبل، والشارع فرَّق بينهما. انتهى. وقد يُقال أيضاً: لا وجه لذكر البعر فإنه نجس عند صاحب الكتاب أيضاً، فليتأمل.
(3) بسكون العين وفتحها، هو للإبل والغنم، والروث للفرس والحمار، والخثي بالكسر للبقر، ذكره العيني.
(4) بصيغة الخطاب. وفي نسخة: ما أكل لحمه فلا بأس ببوله.
(5) قوله: فلا بأس ببولها، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر العرينيين بشرب أبوال الإبل، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف (وبه قال الشافعي، وعند مالك وأحمد ومحمد بول ما يؤكل لحمه طاهر. أوجز المسالك 3/282) بول ما يؤكل كبول ما لا يؤكل نجس، وأما البعرة، فاتفق الثلاثة على نجاستها إلاَّ أنهما قالا: نجاسة خفيفة، وقال أبو حنيفة: غليظة، وزفر خفّف في مأكول اللحم وغلّظ في غير المأكول اللحم، وتفضيله في كتب الفقه.(1/538)
52 - (بَابُ الصلاةِ عِنْدَ طلوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا)
181 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: لا يتحرَّى (1) أحدُكُم فيصَلِّيَ (2) عِنْدَ (3) طلوعِ الشمسِ وَلا عِنْدَ غروبِها.
182 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زيدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عطاءِ بنِ يَسَارٍ، عن عبدِ الله (4)
__________
(1) قوله: لا يتحرى، بلا ياء عند أكثر رواة "الموطأ" على أن لا ناهية، وفي رواية التنّيسي والنيسابوري بالياء على أن لا نافية، قال الحافظ، كذا وقع بلفظ الخبر، وقال السهيلي: يجوز الخبر عن مستقر أمر الشرع أي: لا يكون إلاَّ هذا، وقال العراقي: يحتمل أن يكون نهياً والألف إشباع.
(2) بالنصب، في جواب النفي أو النهي والمراد نفي التحري. والصلاة معاً.
(3) قوله: عند ... إلخ، قال الحافظ: اختلف في المراد به، فقيل: هو تفسير لحديث الصحيحين، عن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب. فلا تكره الصلاة بعدهما إلاَّ لمن قصد بصلاته طلوع الشمس وغروبها، وإلى هذا احتجَّ بعض أهل الظاهر، وقوّاه ابن المنذر، وذهب الأكثر إلى أنه نهي مستقل، وكره الصلاة في الوقتين قَصَد أم لم يقصد.
(4) قوله: عن عبد الله الصنابحي، هكذا قال جمهور الرواة، وقال مطرِّف وإسحاق بن عيسى الطباع، عن أبي عبد الله الصنابحي، قال ابن عبد البر: هو الصواب، وهو عبد الرحمن بن عسيلة، تابعي، ثقة، ورواه زهير بن محمد، عن زيد، عن عطاء، عن عبد الله الصنابحي قال: سمعت رسول الله، وهو خطأ، فإن الصنابحي لم يلقه، قال الحافظ في "الإصابة": ظاهره أنَّ عبد الله الصنابحي(1/539)
الصُّنابحي (1) : أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إنَّ الشمسَ تطلُعُ وَمَعَهَا (2) قَرْنُ
__________
لا وجود له، وفيه نظر، فقد قال يحيى بن معين: عبد الله الصنابحي روى عنه المدنيون يشبه أن يكونَ له صحبة، وقال ابن السَّكَن: يقال: إنه له صحبة، ورواية مطرِّف والطباع عن مالك شاذَّة، ولم ينفرد به مالك، بل تابعه حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن عبد الله الصنابحي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا زهير بن محمد عند ابن مندة، وكذا تابعه محمد بن جعفر بن أبي كثير وخارجة بن مصعب، الأربعة عن زيد به، وأخرجه الدارقطني من طريق إسماعيل بن الحارث وابن مندة، من طريق إسماعيل الصائغ، عن مالك، عن زيد به، مصرِّحاً بالسماع، كذا ذكره الزرقاني.
(1) بضم المهملة وفتح النون وكسر الباء نسبةً إلى صنابح، بطن من مراد، ذكره الزرقاني.
(2) قوله: ومعها قرن الشيطان، للعلماء في معنى الحديث قولان: أحدهما: أن هذا اللفظ على حقيقته وإنها تطلع وتغرب على قرن شيطان، وعلى رأس شيطان وبين قرني شيطان على ظاهر الحديث حقيقة لا مجازاً، وقال آخرون: معناه عندنا على المجاز واتساع الكلام، وأنه أريد بقرن الشيطان ههنا أمَّة تعبد الشمس وتسجدها وتصلّي حين طلوعها وغروبها تقصد بذلك الشمس من دون الله كذا في "آكام المرجان في أحكام الجان"، وفي "الكاشف"، ذكر فيه وجوهاً: أحدها أن الشيطان ينتصب قائماً في وجه الشمس عند طلوعها ليكون طلوعها (في الأصل: "طلوعه"، والصواب: "طلوعها") بين قرنيه، أي" فوديه (أي رأسه أي ناحيتيه، أي كل واحد منهما فود. مجمع بحار الأنوار 4/181) فيكون مستقبلاً لمن يسجد الشمس، فيصير عبادتهم له، فنهوا عن الصلاة في ذلك الوقت مخالفة لعبدة الشيطان، وثانيهما: أن يُراد بقرنيه حزباه اللذان يبعثهما حينئذٍ لإغواء الناس، وثالثها: أنه من باب التمثيل شبّه الشيطان في =(1/540)
الشَّيْطَانِ، فَإِذَا ارتفعتْ زَائَلَهَا (*) ، ثُمَّ إِذَا استوتْ (1) قارَنَها، ثُمَّ إِذَا زالتْ فَارَقَهَا، ثُمَّ إِذَا دنَتْ (2) للغروبِ قارَنَها، فَإِذَا غرَبَتْ فَارَقَهَا، قَالَ: وَنَهَى (3) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلاةِ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ.
183 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي عبدُ اللَّهِ بنُ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ عبدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَقُولُ (4) : كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: لا تَحَرَّوْا بصلاتِكم طلوعَ الشَّمْسِ وَلا غُرُوبَهَا، فَإِنَّ الشيطانَ يطلُعُ قَرْنَاهُ من
__________
= ما سوَّله لعَبَدة الشمس بذوات القرون التي يعالج الأشياء ويدافعها بقرونها، ورابعها: أن يُراد بالقرن القوة، والمختار هو الوجه الأول لمعاضدة الرواية. وصحَّح النووي حمله على الحقيقة (انظر شرح مسلم 2/258، وتأويل مختلف الحديث ص 154 و 155، ومعالم السنن 1/130 و 131، وأوجز المسالك 4/186) .
(1) على نصف النهار.
(2) قوله: ثم إذا دنت، وقد وردت آثار مصرِّحة بغروبها على قرني الشيطان، وأنها تريد عند الغروب السجود لله، فيأتي الشيطان أن يصدّها، فتغرب بين قرنيه ويحرقه الله عزَّ وجل.
(3) نهي تحريم في الطرفين وكراهة في الوسط عند الجمهور.
(4) هكذا رواه موقوفاً، ومثله لا يقال رأياً، فحكمه الرفع، وقد رفعه ابنه عبد الله، أخرجه البخاري ومسلم (أخرجه البخاري ضمن حديث في: 59 - كتاب بدء الخلق 11 - باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم في: 6 - كتاب صلاة المسافرين 51 - باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها حديث 290) .
(*) هكذا في الأصل، والأظهر: "فارقها"، اتفقت عليه جميع نسخ الموطأ.(1/541)
طُلُوعِهَا، وَيَغْرُبَانِ عِنْدَ غُرُوبِهَا، وَكَانَ يضرِبُ (1) النَّاسَ عَنْ (2) تِلْكَ الصَّلاةِ (3) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (4) كلِّه نأخذ، ويوم الجمعة وغيره عندنا في
__________
(1) قال ابن عباس: كنت أضرب الناس مع عمر على الركعتين بعد العصر.
(2) في نسخة بدله: على.
(3) قوله: عن تلك الصلاة، أي: لأجل تلك الصلاة، روى عبد الرزاق، عن زيد بن خالد أن عمر رآه وهو خليفة ركع بعد العصر، فضربه، الحديث، وفيه: فقال عمر: لولا أني أخشى أن يتخذها الناس سُلَّماً إلى الصلاة حتى الليل لم أضرب فيهما. وروى عن تميم الداري نحوه، وفيه لكني أخاف أن يأتي بعدكم قوم يصلّون ما بين العصر إلى الغروب حتى يمرّوا بالساعة التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلّى فيها، ومراده نهى التحريم فلا ينافي أحاديث نهيه عن الصلاة بعد العصر، فإنه للتنزيه، قال الزرقاني.
(4) قوله: وبهذا كله نأخذ، أي: بالمنع عن الصلاة وقت الطلوع والغروب والاستواء أيَ صلاةٍ كان، نفلاً كان أو فرضاً أو صلاةَ جنازة، لأن الحديث لم يخصّ شيئاً إلاَّ عصر يومه (وإلاَّ جنازة حضرت في هذه الأوقات الثلاثة، وأما بعد الفجر والعصر لا يجوز فيهما النوافل. انظر الكوكب الدري 1/213 - 214) ، فإنه يجوز عند الغروب. وقال مالك والشافعي وغيرهما من علماء الحجاز: معنى هذه الاحاديث النهي عن النافلة دون الفريضة، واختُلف عن مالك في الصلاة عند الاستواء، فروى عنه ابنُ القاسم أنه قال: لا أكره الصلاة إذا استوت الشمس لا في يوم جمعة ولا في غيره، قال ابن عبد البر: ما أدري هذا، وهو يوجب العمل بمراسيل الثقات، ورجال حديث الصنابحي ثقات، وأحسبه مال إلى حديث ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنهم كانوا في زمان عمر يصلّون يوم الجمعة(1/542)
وذلك سَوَاءٌ (1) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
53 - (بابُ الصلاةِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ)
184 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي عبدُ اللَّهِ (2) بْنُ يزيدَ مَوْلَى الأسودِ (3) بْنِ سُفْيَانَ (4) ، عَنْ أَبِي سلمةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَنْ محمدِ (5) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ ثَوْبَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا كَانَ الحرُّ فأبرِدُوا (6)
__________
حتى يخرج عمر، ومعلوم أنَّ خروج عمر كان بعد الزوال، فكانوا يصلّون وقتَ استواء الشمس، ويوم الجمعة وغيره سواء لأن الفرق لم يصح عنده في نظر ولا أثر. انتهى. وذكر ابن عبد البر أيضاً أنه ممن رخَّص الصلاة وقت الاستواء الحسن البصري وطاووس، وهو رواية عن الأوزاعي، وقال الشافعي وأبو يوسف: لا بأس بالتطوع نصف النهار يوم الجمعة خاصة، وحجَّتهم حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلاَّ يوم الجمعة.
(1) قوله: سواء، لأن الاحاديث مطلقة، والعلَّة المستفادة منها، وهي اقتران قرن الشيطان مع الشمس عامة، والأحاديث المفيدة لجواز التنفل يوم الجمعة وقت الاستواء لا تساوي أحاديث النهي من حيث السند.
(2) المخزومي المقبر، وثَّقه أحمد ويحيى، مات سنة 148 هـ. كذا في "الإسعاف".
(3) القرشي المخزومي ابن أخي أبي سلمة بن عبد الأسد زوج أم سلمة رضي الله عنها، ذكره ابن عبد البر وقال: في صحبته نظر، وأشار في "الإصابة" إلى ترجيح أنه صحابي.
(4) هو ابن عبد الأسد بن هلال.
(5) العامري المدني، وثَّقه النسائي وابن سعد، وقال أبو حاتم: لا يُسأل عن مثله، كذا في "الإسعاف".
(6) قوله: فأبردوا، قال في " النهاية": الإبراد انكسار الوهج والحرّ، وهو من الإبراد: الدخول في البرد.(1/543)
عَنِ الصَّلاةِ (1) ، فإنَّ (2) شدَّة الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ (3) جَهَنّم. وذكر (4)
__________
(1) أي: عن صلاة الظهر، وبه صرح في حديث أبي سعيد عند البخاري وغيره بلفظ: "أبردوا بالظهر"، وحمله بعضهم على عمومه، فقال به أشهب في العصر، وأحمد في العشاء في الصيف. قوله: عن الصلاة، قال عياض: معناه بالصلاة كما جاء في رواية. وعن تجيء بمعنى الباء، وقد تكون زائدة أي: أبردوا الصلاة، والأول جزم به النووي، والثاني جزم به ابن العربي في "القبس". وقال القاضي: اختلف العلماء في الجمع بين هذا الحديث وبين حديث خبّاب: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرَّ الرمضاء، فلم يشكُنا، فقال بعضهم: الإبراد رخصة، والتقديم أفضل، وقال بعضهم: حديث خبّاب منسوخ، وقال بعضهم: الإبراد مستحب وحديث خباب محمول على أنهم طالبوا تأخيراً زائداً على قدر الإبراد، وهذا هو الصحيح. انتهى. ومن الغريب تفسير بعضهم "أبردوا"، أي: صلّوا لوقتها الأول رداً إلى حديث خبّاب، نقله عياض، عن حكاية الهروي، وتفسير آخر: "فلم يشكنا"، أي: لم يحوجنا ردّاً إلى حديث الإبراد، نقله ابن عبد البر، عن ثعلب، كذا في "التنوير".
(2) تعليل مشروعية الإبراد.
(3) قوله: من فيح جهنم، أي: وهجها، ويُروى من فوح جهنم، وقال صاحب "العين" وغيره، الفيح سطوع الحرّ في شدة القيظ.
وأما قوله: اشتكت النار....إلخ، فإنَّ أهل العلم اختلفوا في معناه، فحمله جماعة منهم على الحقيقة، وقالوا: أنطقها الله الذي أنطق كلَّ شيء، وحمله جماعة منهم على المجاز، والقول الأول يعضده عموم الخطاب وظاهر الكتاب، وهو أولى بالصواب، كذا في "الاستذكار".
(4) قوله: وذكر، أي: النبي صلى الله عليه وسلم فهو بالإسناد المذكور ووهم من جلعه موقوفاً على أبي هريرة أو معلَّقاً، وقد أفرده أحمد في مسنده ومسلم من طريق آخر، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر.(1/544)
أَنَّ النارَ (1) اشتكَتْ (2) إِلَى ربِّها عَزَّ وَجَلَّ، فإذِنَ لَهَا فِي كلِّ بنَفَسَيْن (3) : نَفَس (4) فِي الشِّتَاءِ ونَفَس فِي الصَّيْفِ (5) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، نُبْرد لِصَلاةِ الظُّهْرِ فِي الصَّيْفِ وَنُصَلِّي فِي الشِّتَاءِ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة (6) - رحمه الله -.
__________
(1) وفي مسلم: قالت النار: يارب أكل بعضي بعضاً، فأْذَنْ لي التنفس، فأَذِن لها بنَفَسَيْن.
(2) قوله: اشتكت، حقيقة بلسان الحال، كما رجَّحه من فحول الرجال ابن عبد البر وعياض والقرطبي وابن المنير والتوربشتي، ولا مانع منه سوى ما يخطر للواهم من الخيال، قاله الزرقاني.
(3) تثنية نَفَس بالفتح.
(4) قوله: نفس في الشتاء ... إلخ، لمسلم زيادة فما ترون من شدة البرد فذلك من زمهريرها، وما ترون من ششدة الحر فهو من سمومها. قال عياض: قيل: معناه إذا تنفَّسَتْ في الصيف قوّى لَهَبُها حرَّ الشمس، وإذا تنفَّستْ في الشتاء دفع حرُّها شدة البرد إلى الأرض. وقال ابن التين: فإنْ قيل كيف يجمع بين البرد والحر في النار؟ فالجواب أن جهنم فيها زوايا فيها نار، وزوايا فيها زمهرير، وقال مغلطائي: لقائل أن يقول الذي خلق الملك من ثلج ونار قادر على جمع الضدَّين في محل واحد، كذا في "التنوير".
(5) بفتح الفاء.
(6) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال مالك في رواية عنه، وأحمد وزاد الإبراد في العشاء في الصيف، وقال الليث والشافعي ومن تبعهم: أول الوقت أولى في جميع الصلوات، كذا ذكره ابن عبد البر، وحجَّتهم في ذلك حديث خباب شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرَّ الرمضاء، فلم يشكنا أي لم يُزِل شكوانا،(1/545)
54 - (بَابُ الرَّجُل يَنْسَى الصلاةَ أَوْ تفوتُهُ عَنْ وَقْتِهَا)
185 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابنُ شِهَابٍ (1) ، عَنْ سعيد بن
__________
أخرجه مسلم وابن المنذر والطحاوي وابن ماجه والنسائي وغيرهم. وفي الباب أحاديث دالَّة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهاجرة، أخرجها الطحاوي وغيره.
ولنا حديث الإبراد رواه جماعة من الصحابة، فأخرجه البخاري ومسلم ومالك وغيرهم من حديث أبي هريرة، والطبراني من حديث عمرو بن عقبة، والبخاري من حديث أبي سعيد، وأحمد وابن ماجه والطحاوي من حديث المغيرة، وابن خزيمة من حديث عائشة، وروى البزّار من حديث ابن عباس، والبخاري من حديث أنس إبرادَ النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً. وروى الطحاويّ عن ابن عمر أنَّ عمر قال لأبي محذورة بمكة: أنت بأرضٍ حارَّة شديدة الحر، فأبرِد.
والكلام في هذا البحث طويل، فمنهم من أمال حديث الإبراد إلى حديث خباب، ومنهم من عكس، وكل منهما ليس بذلك، ومال الطحاوي إلى نسخ التعجيل لما رواه عن المغيرة: صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر بالهجير، ثم قال: إن شدة الحر من فيح جهنم، فأبردوا بالصلاة. والقدر المحقق أن الترغيب إلى الإبراد ثابت قولاً، ومؤيَّد فعلاً وأثراً، والتعجيل ليس كذلك (قال ابن قدامة في "المغني" 1/389: ولا نعلم في استحباب تعجيل الظهر في غير الحرّ والغيم خلافاً، قال الترمذي: وهو الذي اختاره أهل العلم من أصحابه صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، وأما في شدة الحرّ، فكلام الخرقي يقتضي استحباب الإبراد على كل حال، وهو ظاهر كلام أحمد، وهو قول إسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذر، وقال القاضي: إنما يُستحب الإبراد بثلاثة شروط: شدة الحر وأن يكون في البلدان الحارة ومساجد الجماعات، فأما من صلاّها في بيته أو مسجد في فناء بيته فالأفضل تعجيلها، وهذا مذهب الشافعي رحمه الله. انتهى مختصراً من أوجز المسالك 1/185) .
(1) هو الزهري.(1/546)
المسيب: أن (1) رسولَ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ حِينَ قَفَل (2) مِنْ خَيْبَرَ (3) أَسْرَى (4) حَتَّى إذا كان من آخر الليل عرّس (5) ،
__________
(1) قوله: أن رسول الله ... إلخ، هذا حديث مرسل تبيَّن وصلُه، فأخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه، عن ابن شهاب، عن سعيد، عن أبي هريرة.
(2) القفول الرجوع من السفر، قوله: حين قفل من خير، في مسلم من حديث أبي هريرة أنه وَقع عند رجوعهم من خيبر، وفي أبي داود من حديث ابن مسعود: أقبل النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الحديبية ليلاً، فقال: من يكلؤنا؟ فقال بلال: أنا. وفي "الموطأ"، عن زيد بن أسلم أن ذلك كان بطريق تبوك، وللبيهقي في "الدلائل" نحوه من حديث عقبة، ووقع في رواية لأبي داود أن ذلك كان في غزوة جيش الأمراء، وتعقَّبه ابن عبد البر بأنها غزوة مؤتة، ولم يشهدها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو كما قال.
وقد اختلف العلماء هل كان نومهم عن الصبح مرة أو أكثر؟ فجزم الأصيلي بأن القصة واحدة، وتعقَّبه عياض بأن قصة أبي قتادة مغايرة لقصة عمران بن حصين وهو كما قال، فإن في قصة أبي قتادة فيها أنَّ أبا بكر وعمر كانا معه، وأيضاً فإن قصة عمران فيها أن أول من استيقظ أبو بكر. ولم يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أيقظه عمر بالتكبير، وفي قصة أبي قتادة: أن أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذا في "فتح الباري" 1/379، وإلى تعدُّد القصة جنح العيني أيضاً. عمدة القاري 2/180) .
(3) وكانت غزوة خيبر سنة ست.
(4) يقال: سريت وأسريت بمعنى إذا سرت ليلاً.
(5) التعريس: النزول آخر الليل.(1/547)
وَقَالَ (1) لِبِلالٍ: اكلأْ (2) لَنَا الصُّبْحَ، فَنَامَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه، وكلأْ (3) بلالٌ مَا قُدِّر (4) لَهُ، ثُمَّ اسْتَنَدَ إِلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ مُقَابِلُ (5) الْفَجْرِ، فغلَبَتْه عَيْنَاهُ (6) ، فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا بلالٌ وَلا أَحَدٌ مِنَ الرَّكب، حَتَّى ضرَبَتْهم (7) الشَّمْسُ، ففَزعَ (8) رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا بِلالُ (9) ، فَقَالَ بِلالٌ يا رسول الله أخذ (10)
__________
(1) قوله: وقال لبلال، هو ابن رباح المؤذن وأمه حمامة، مولى أبي بكر رضي الله عنه، شهد بدراً والمشاهد كلها، مات بالشام سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة، وقيل: عشرين، وله بضع وستون سنة، كذا في "الإصابة" وغيره.
(2) أي: ارقب لنا واحفظ علينا وقتَ الصبح، وأصل الكلأ: الحفظ والمنع والرعاية.
(3) وفي مسلم: فصلّى بلال ما قُدِّر له.
(4) بالبناء للمفعول أي ما يسَّره الله له.
(5) أي: مواجهة الجهة التي يطلع منها.
(6) زاد مسلم: وهو مستند إلى راحلته.
(7) قال عياض: أي أصابهم شعاعها.
(8) قوله: ففزع، قال النووي: أي انتبه وقام، وقال الأصيلي: فزع لأجل عدوِّهم خوفا أن يكون تبعهم، وقال ابن عبد البر: يحتمل أن يكون تأسُّفاً على ما فاتهم من وقت الصلاة. وفيه دليل على ان ذلك لم يكن من عادته منذُ بعث، قال: ولا معنى لقول الأصيلي. لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتبعه عدوّ في انصرافه من خيبر ولا من حنين، ولا ذكر ذلك أحد من أهل المغازي، بل انصرف من كلا الغزوتين غانماً ظافراً، كذا في "التنوير".
(9) وفي رواية ابن إسحاق، ماذا صنعتَ بنا يا بلال؟ وفي نسخة: ما هذا.
(10) قوله: أخذ بنفسي ... إلخ، قال ابن عبد البر: معناه قبض نفسي الذي(1/548)
بِنَفْسِي (1) الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِكَ، قَالَ (2) : اقْتَادُوا (3) فَبَعَثُوا رواحلّهم، فاقتادوها (4)
__________
قبض نفسك، فالباء زائدة أي توفّاها متوفياً به نفسك، قال: وهذا قول من جعل النفس والروح واحداً، لأنه قال في الحديث الآخر: إن الله قبض أرواحنا، فنصَّ على أن المقبوض هو الروح ومن قال: النفس غير الروح تأوَّل قوله أخذ بنفسي أي: النوم الذي أخذ بنفسك. قال النووي: فإن قيل: كيف نام صلى الله عليه وسلم مع قوله: إن عينيَّ تنامان ولا ينام قلبي، فجوابه من وجهين: أصحهما وأشهرهما أنه لا منافاة بينهما، لأن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلِّقة به، كالحزن والألم وغيرهما، ولا يدرك طلوع الفجر وغيره، وإنما يدرك ذلك العين، والعين نائمة، والثاني: أنه كان له حالان: أحدهما: ينام فيه القلب، والثاني: لا ينام، وهو غالب أحواله، كذا في "التنوير".
(1) قال ابن رشيق: إن الله استولى بقدرته عليَّ كما استولى عليك مع منزلتك، قال: ويحتمل أن يكون المراد أن النوم غلبني كما غلبك.
(2) قوله: قال: اقتادوا، قال القرطبي، أخذ بهذا بعض العلماء، فقال: من انتبه عن نوم في فائتة في سفر، فليتحوَّلْ عن موضعه، وإن كان وادياً فليخرج عنه، وقيل: هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.
(3) قوله: اقتادوا، أي ارتحلوا، زاد مسلم: فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان، قال ابن رشيق: قد علَّله بذلك ولا يعلمه إلاَّ هو، قال عياض: هذا أظهر الأقوال في تعليله.
(4) قوله: فقتادوها شيئاً، اختلفوا في معنى اقتيادهم وخروجهم من ذلك الوادي، فقال أهل الحجاز تشاءم بالموضع الذي نابهم فيه ما نابهم، فقال: هذا وادٍ فيه شيطان، وذكر وكيع، عن جعفر، عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس، فقال لأصحابه: تزحزحوا عن المكان الذي أصابتكم فيه الغفلة. وأما أهل العراق، فزعموا أن ذلك كان لأنه انتبه حين طلوع الشمس، ومن السُّنَّة أن لا يصلي عند طلوعها ولا عند غروبها، كذا في "الاستذكار".(1/549)
شَيْئًا (1) ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلالا، فَأَقَامَ الصَّلاةَ (2) فصلَّى (3) بِهِمُ الصُّبْحَ، ثُمَّ قَالَ حِينَ قَضَى الصَّلاةَ: مَنْ نسي (4) صلاة فليصلِّها إذا ذكرها (5) ،
__________
(1) للطبراني من حديث عمران، حتى كانت الشمس في كبد السماء.
(2) قوله: فأقام الصلاة، لأحمد فأمر بلالاً فأذَّن، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلّى ركعتين قبل الصبح وهو غير عجل، ثم أمره فأقام الصلاة، وقال عياض: أكثر رواة "الموطأ" في هذا الحديث اكتفوا على "أقام" وبعضهم قال: "فأذَّن أو أقام بالشك".
(3) قوله: فصلّى بهم، الصبح زاد الطبراني من حديث عمران: فقلنا يا رسول الله أنعيدها من الغد لوقتها؟ فقال نهانا الله عن الربا ويقبله منا؟!.
(4) زاد في رواية القعنبي: أو نام عنها. قوله: من نسي ... إلخ، فإن قيل: فلم خصَّ النائم والناسي بالذكر في قوله: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها، قيل: خصَّ النائم والناسي ليرتفع التوهّم والظنّ فيهما لرفع القلم في سقوط المأثم عنهما، فأبان سقوط المأثم عنهما غير مسقط لما لزمَهما من فرض الصلاة، وأنها واجبة عليهما عند الذكر بها يقضيها كل واحد إذا ذكرها، ولم يحتج إلى ذكر العامد معهما لأن العلة المتوهَّمة في النائم والناسي ليست فيه ولا عذر له في ترك فرض، وإذا كان النائم والناسي وهما معذوران يقضيانها بعد خروج وقتها، فالمتعمِّد أولى بأن لا يسقط عنه فرض الصلاة، وقد شذَّ بعض أهل الظاهر، وأقدم على خلاف جمهور علماء المسلمين وسبيل المؤمنين، فقال: ليس على المتعمِّد في ترك الصلاة في وقتها بأن يأتي بها في غير وقتها لأنه غير نائم ولا ناس، كذا في "الاستذكار".
(5) قوله: إذا ذكر، لأبي يعلى والطبراني من حديث أبي جحيفة، ثم(1/550)
فإن الله (1) عز وجل يقول: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} .
قال محمد: وبهذا نأخذ، إلاَّ (2)
__________
قال: إنكم كنتم أمواتاً، فردَّ الله إليكم أرواحَكم، فمن نام عن صلاةٍ فليصلِّها إذا استيقظ، ومن نسي عن صلاة فليصلها إذا ذكرها، كذا في "التنوير".
(1) قوله: فإن الله ... إلخ، قال عياض: فيه تنبيه على ثبوت هذا الحكم وأخذه من الآية التي تضمَّنت الأمر لموسى وأنه مما يلزمنا اتِّباعه. وقال غيره: استُشكل وجه الأخذ بأن معنى لذكري إما لتذكرني فيها، وإما لأذكرك على اختلاف القولين، وعلى كلٍّ فلا يعطى ذلك، قال ابن جرير: ولو كان المراد حين تذكّرها لكان التنزيل فيه لذكرها، وأصَح ما أُجيب به أن الحديث فيه تغييرمن الراوي، وإنما هو للذكرى بلام التعريف وألف القصر كما في "سنن أبي داود"، وفي مسلم زيادة: وكان ابن شهاب يقرؤها للذكرى، فبان منه أن استدلاله صلى الله عليه وسلم إنما كان بهذه القراءة، فإن معناه للتذكر أي لوقت التذكر، كذا في "التنوير".
(2) قوله: إلا أن يذكرها في الساعة ... إلخ، يعني أن ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم وإن كان مفيداً لجواز أداء الصلاة لمن نام أو نسي عند ذكره، ولو كان عند الطلوع والغروب والاستواء، لكن أحاديث النهي عن الصلاة فيها وهي مطلقة، قد خصصته بما عدا ذلك، فلا يجوز أداء الفائتة في هذه الساعات لأحاديث النهي هذا هو مذهب أصحابنا وذهب مالك والشافعي وغيرهم غلى أن أحاديث النهي مختصة بالنوافل التي لا سبب لها، والتفصيل في هذا المقام أن ظاهر أحاديث النهي يقتضي العموم وظاهر حديث: "فليصلِّها إذا ذكرها"، يقتضي عموم جواز قضاء الفائتة (في الأصل: "جواز الفائتة"، والظاهر هو: "جواز قضاء الفائتة") . مع أحاديث "أدرك الصلاة"، فجمع بينها جماعة بأن حملوا أحاديث النهي على النوافل وغيرها على غيرها، فأجازوا أداء الوقتيات والفوائت في هذه الأوقات، وأصحابنا لمَّا رأَوا أن علَّةَ النهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة عامة جعلوها عامة في النوافل والفوائت وغيرها، وخصوا الذكر بالذكر في غير هذه الأوقات وجوَّزوا أداء عصر يومه وقت(1/551)
أَنْ يذكُرَها (1) فِي الساعةِ الَّتِي نَهَى رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلاةِ فِيهَا: حِينَ (2) تَطْلُعُ الشَّمْسُ حَتَّى ترتفعَ وتبيضَّ، وَنِصْفَ النَّهَارِ حَتَّى تَزُولَ، حِينَ تحمَّر الشَّمْسُ حَتَّى تغيبَ إِلا عَصْرَ يَوْمِهِ (3) فَإِنَّهُ يصلِّيها وَإِنِ احمرَّتْ الشمسُ قَبْلَ أَنْ تغرُبَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
186 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي زَيْدُ (4) بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ
__________
الغروب بحديث: "من أدرك ركعة مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسِ فَقَدْ أدركها" لكن يشكل عليهم ورود: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها"، وأجابوا عنه بأنه قد تعارض هذا الحديث وحديث النهي، فأسقطناهما، ورجعناه إلى القياس، وهو يقتضي جواز أداء عصر يومه عند الغروب، لأنه صار مؤدىً كما وجب وعدم جواز صبح يومه في وقت الطلوع لأن وجوبه كامل فلا يتأدى بالناقص، وزيادة تحقيقه في كتب الأصول، لكن لا مناص عن ورود أن التساقط إنما يتعيَّن عند تعذر الجمع وهو ههنا ممكن بوجوه عديدة لا تخفى للمتأمل.
(1) قوله: أن يذكُرَ، قد أيَّده جماعة من أصحابنا منهم العينيّ، وغيره بما ورد في حديث التعريس أنه صلى الله عليه وسلم ارتحل من ذلك الموضع وصلّى بعد ذلك ولم يكن ذلك إلاّ لأنه كان وقت الطلوع، وفيه نظر: أمّا أولاً، فلأنه قد ورد تعليل الاقتياد صريحاً بأنه موضع غفلة وموضع حُضور الشيطان، فلا يُعدل عنه، وأما ثانياً: فلأنه ورد في رواية مالك وغيره حتى ضربتهم الشمس، وفي بعض روايات البخاري: لم يستيقظوا حتى وجدوا حرَّ الشمس، وذلك لا يمكن إلا بعد الطلوع بزمان وبعد ذهاب وقت الكراهة.
(2) بيان لتلك الساعات.
(3) احتراز عن عصر أمس لأن وجوبه كامل، فلا يتأدّى بالناقص.
(4) العدوي المدني.(1/552)
يَسَارٍ وَعَنْ بُسْرِ (1) بْنِ سَعِيدٍ، وَعَنِ الأَعْرَجِ (2) يحدَّثونه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ أدركَ مِنَ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَهَا (3) . وَمَنْ أَدْرَكَهَا مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا.
55 - (بَابُ الصَّلاةِ فِي اللَّيْلَةِ الْمُمْطِرَةِ (4) وَفَضْلِ الْجَمَاعَةِ)
187 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ نَادَى (5) بِالصَّلاةِ فِي سَفَرٍ فِي ليلةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وريح، ثم قال (6) : ألا صلُّوا في
__________
(1) المدني العابد، ثقة من التابعين، كذا قال الزرقاني وغيره.
(2) عبد الرحمن بن هرمز المدني.
(3) أي: تمَّتْ صلاتُهُ وإن وقعت ركعة عند الطلوع وبعده.
(4) من الإمطار.
(5) قوله: نادى، وكان مسافراً، فأذَّن بمحلٍّ يقال له ضَجْنان، بفتح الضاد المعجمة، وسكون الجيم ونونين، بينهما ألف، جبل بينه وبين مكة خمسة وعشرون ميلاً، وقد أخرجه البخاري من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، قال: أذَّن ابن عمر في ليلة باردة بضجنان، كذا قال الزرقاني.
(6) قوله: ثم قال، أي: بعد فراغ الأذان، ألا: حرف تنبيه، صلوا في الرحال أي: البيوت والمنازل، قال الطيبي: أي: الدُّور والمساكن، رحل الرجل منزله، ومسكنه، كذا في "مرقاة المفاتيح". وقال الرافعي: ليس في الحديث بيان أنه متى ينادي المنادي بهذه الكلمة في خلال الأذان أم بعده، لكن الشافعي عرف في سائر الروايات أنه لا بأس بإدخالها في الأذان، فإنه قال في "الأم" أحب للإمام أن يأمر بهذا إذا فرغ المؤذن من الأذان وإن قاله في أذانه فلا بأس.(1/553)
الرِّحَالِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ (1) يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةً بَارِدَةً ذَاتَ مَطَرٍ يَقُولُ (2) : أَلا صلّوا (3) في الرحال.
قال محمد: هذا (4)
__________
(1) وفي البخاري: كان يأمر مؤذِّناً يؤذِّن ثم يقول على أثره: ألا صلّوا في الرحال، في الليلة المطيرة، والباردة في السفر، وفي صحيح أبي عوانة: في ليلة باردة أو ذات مطر أو ريح.
(2) قوله: يقول، من الفقه الرخصة في التخلُّف عن الجماعة في الليلة المطيرة والريح الشديدة، وفي معنى ذلك كل عذر مانع وأمر مؤذٍ، والسفر والحضر في ذلك سواء، واستدل قوم (في الأصل: "قومه" والظاهر: "قوم") على أن الكلام في الأذان جائز بهذا الحديث إذا كان مما لا بدَّ منه، وذكروا حديث الثقفي أنه سمع منادي النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مطيرة يقول إذا قال: حي على الفلاح قال: ألا صلوا في الرحال.
واختلف أهل العلم فيه، فروى عن مالك جماعة من أصحابه كراهته، وقال: لم أعلم أحداً يُقتدى به تكلم في أذانه، وكره رد السلام في الأذان، وكذلك لا يشمّت عاطساً، فإن فعل شيئاً من ذلك، وتكلم في أذانه فقد أساء ويبني على أذانه، وقول الشافعي وأبي حنيفة والثوري في ذلك نحو قول مالك، ورخصت طائفة الكلام في الأذان منهم الحسن وعروة وعطاء وقتادة، وإليه ذهب أحمد بن حنبل كذا في "الاستذكار".
(3) أمر إباحة.
(4) قوله: هذا حسن، أي: الإعلام بقوله: ألا صلّوا في الرحال خارج الأذان، وأما في الأذان، فظاهر كلام أصحابنا المنعُ منه، لكن قد ثبت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، منهم ابن عباس، كما رواه أبو داود والبخاري وغيرهما،(1/554)
حَسَنٌ وَهَذَا (1) (2) رُخْصَةٌ وَالصَّلاةُ فِي الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ.
188 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ (3) ، عَنْ بُسر (4) بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْدِ (5) بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ (6) : إِنَّ أَفْضَلَ (7) صَلاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ (8) إِلا صَلاةَ الجماعة.
__________
وقد خلط من استنبط منه جواز الكلام في الأذان لأن هذه الزيادة قد ثبتت في الأذان في محلها، فصارت كأنها من الأذان كزيادة الصلاة خير من النوم.
(1) وفي نسخة: هي.
(2) قوله: وهذا، أي: ترك الجماعة في البرد والريح ونحو ذلك رخصة (هي من الأعذار المبيحة لترك الجماعة عند الجمهور، أوجز المسالك 2/33) للترفيه منّاً من صاحب الشرع، واختيار العزيمة أفضل، لورود كثير من الأحاديث بالتشديد في ترك الجماعة والترغيب البالغ إليها.
(3) هو سالم بن أبي أمية، تابعي، ثقة، ذكره الزرقاني.
(4) المدني.
(5) هو أحد كتّاب الوحي، من الراسخين في العلم.
(6) قوله: قال، قال ابن عبد البر: كذا هو في جميع الموطآت، موقوف على زيد، وهو مرفوع عنه من وجوه صحاح، قلت: أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من طرق عن سالم أبي النضر، عن بسر، عن زيد مرفوعاً به، فيه قصة هي سبب الحديث، كذا في "التنوير".
(7) لبعدها عن الرياء أو لتحصل البركة في البيوت، فتنزل بها الرحمة ويخرج عنها الشيطان.
(8) قوله: في بيوتكم، ظاهره يشمل كل نفل، لكنه محمول على ما لا يشرع له التجميع، كالتراويح والعيدين، وما لا يخصّ المسجد كالتحية.(1/555)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وكلٌّ حَسَنٌ (1) .
189 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَضْلُ (2) صَلاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ بسبع (3) وعشرين درجة.
__________
(1) كأنه يشير إلى أنه لا بأس بأداء النوافل في المسجد أيضاً، إلا أن الأحسن المأخوذ به هو هذا.
(2) قوله: فضل صلاة الجماعة، قال الشيخ سراج الدين البلقيني، ظهر لي شيء لم أسبق إليه لأن لفظ ابن عمر صلاة الجماعة. ومعناه الصلاة في الجماعة كما وقع في حديث أبي هريرة: صلاة الرجل في الجماعة، وعلى هذا فكلُّ واحد من المحكوم له بذلك صلّى في جماعة، وأدنى الأعداد التي تتحقق فيها الجماعة ثلاثة، وكل واحد منهم أتى بحسنة وهي بعشرة، فتحصّل من مجموعه ثلاثون، فاقتصر في الحديث على الفضل الزائد، وهي سبعة وعشرون دون الثلاثة التي هي أصل ذلك. وقال السيوطي في "التنوير": قد أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف"، عن ابن عباس قال: فضل صلاة الجماعة على صلاة الواحدة خمس وعشرون درجة، فإن كانوا أكثر فعلى عدد من في المسجد، فقال رجل: وإن كانوا عشرة ألاف؟ قال: نعم، وإن كانوا أربعين ألفاً، وأخرج عن كعب قال: على عدد من في المسجد، وهذا يدل على أن التضعيف المذكور مرتَّب على أقل عدد تحصل به الجماعة، وأنه يزيد بزيادة المصلّين.
(3) قوله: بسبع وعشرين درجة، قال الترمذي: عامة من رواه قالوا خمساً وعشرين إلاّ ابن عمر، فإنه قال: سبعاً وعشرين. قال الحافظ ابن حجر: وعنه أيضاً رواية "خمس وعشرين" عند أبي عوانة في "مستخرجه" وهي شاذة، وإن كان راويها ثقة، وأما غيره فصح عن أبي هريرة وأبي سعيد في "الصحيح" وعن ابن مسعود عن أحمد وابن خزيمة، وعن أبيّ عند ابن ماجه والحاكم، وعن عائشة وأنس عند(1/556)
56 - (بَابُ قَصْرِ الصَّلاةِ فِي السَّفَرِ)
190 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي صَالِحُ (1) بْنُ كَيسان، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا أَنَّهَا قالت: فُرِضَتْ الصلاة (2) ركعتين (3)
__________
السرّاج وورد أيضاً من طرق ضعيفة، عن معاذ وصهيب وعبد الله بن زيد وزيد بن ثابت وكلها عند الطبراني. واتفق الجميع على خمس وعشرين سوى رواية أبيّ، فقال: أربع أو خمس على الشك، وسوى رواية أبي هريرة لأحمد قال فيها: سبع وعشرون. قال: واختُلف في أيّ العددين أرجح؟ فقيل: رواية الخمس لكثرة رواتها، وقيل: رواية السبع لأن فيها زيادة من عدل حافظ، قال: ووقع الاختلاف أيضاً في مميز العدد، ففي رواية "درجة" وفي أخرى"جزء" وفي أخرى"ضِعفاً"، والظاهر أن ذلك من تصرّف الرواة. قال: ثم إن الحكمة في هذا العدد الخاص غير محقّقة المعنى. انتهى. وقد جمع بين روايتَي الخمس والسبع، بأنَّ ذِكرَ القليل لا ينفي الكثير، وبأنه أخبر بالخمس ثم أعلمه الله بالزيادة، وبالفرق بحال المصلي كأن يكون أعلم أو أخشع وبإيقاعها في المسجد أو في غيره.
(1) هو المدني مولى غفار، وثَّقه أحمد وابن معين، مات بعد سنة 140 هـ كذا في "الإسعاف".
(2) وللتنّيسي: فرض الله الصلاة حين فرضها.
(3) قوله: ركعتين ركعتين، لم تختلف الآثار، ولا اختلف أهل العلم بالأثر والخبر أن الصلاة إنما فرضت بمكة حين أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عُرج به إلى السماء، ثم أتاه جبريل من الغد، فصلّى به الصلوات لأوقاتها، إلا أنهم اختلفوا في هيئاتها حين فُرضت، فرُوي عن عائشة أنها فُرضت ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر فأكملت أربعاً، وبذلك قال الشعبي والحسن البصري في رواية ميمون، وروى ابن عباس أنها فُرضت في الحضر أربعاً وفي(1/557)
رَكْعَتَيْنِ (1) فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فَزِيدَ (2) فِي صَلاةِ الْحَضَرِ (3) وأُقِرَّت (4) صلاةُ السَّفَرِ.
191 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ
__________
السفر ركعتين، وقال نافع بن جبير بن مطعم - وكان أحد علماء قريش بالنسب وأيام العرب والفقه، وهو راويه عن ابن عباس، وهو روى عنه حديث إمامة جبريل -: إنّ الصلاة فُرضت في أول ما فُرضت أربعاً إلاّ المغرب والصبح، وكذلك قال الحسن البصري في رواية، ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس بن مالك القشيري ما يدل على ذلك وهو قوله: إن الله وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة، والوضع لا يكون إلا من تمام قبله، وفي حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمر قال: فرضت الصلاة في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين، كذا في "الاستذكار".
(1) زاد أحمد في "مسنده": إلا المغرب، فإنها كانت ثلاثاً.
(2) بعد الهجرة. ففي البخاري عنها: فرضت الصلاة ركعتين، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فرضت أربعاً.
(3) قوله: صلاة الحضر، لابن خزيمة وابن حبان: فلما قَدِمَ المدينةَ زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتُركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب لأنها وتر النهار.
(4) قوله: وأقرَّت، احتجَّ بظاهر هذا الحنفيةُ وموافقوهم على أن القصر في السفر عزيمة لا رخصة، وأجاب مخالفوهم بأنه غير مرفوع، وبأنها لم تشهد زمانَ فرض الصلاة، قاله الخطابي وغيره. قال الحافظ: وفيه نظر لأنه مما لا مجال للرأي فيه، فله حكم الرفع، وعلى تسليم أنها لم تدرك القصة يكون مرسل صحابي وهو حجة كذا في "شرح الزرقاني".(1/558)
اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى خَيْبَرَ (1) قَصر الصَّلاةَ.
192 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا خَرَجَ حَاجًّا (2) أَوْ مُعْتَمِرًا قَصَرَ (3) الصَّلاةَ بِذِي الحُلَيْفَة (4) .
193 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ خَرَج إِلَى رِيم (5) فقَصَر الصلاةَ فِي مَسيرِهِ (6) ذَلِكَ.
194 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّهُ كَانَ يُسافرُ (7) مع ابنِ
__________
(1) وبين خيبر والمدينة ستة وتسعون ميلاً.
(2) أي: قاصداً الحج والعمرة من المدينة إلى مكة.
(3) قوله: قصر الصلاة بذي الحليفة، قال ابن عبد البر: كان ابن عمر يتبرَّك بالمواضع التي كان رسول الله ينزلها، ولما علم أنه عليه السلام قصر العصر بذي الحليفة حين خرج إلى حجة الوداع فعل مثله.
(4) قوله: بذي الحُلَيفة، بضم الحاء المهملة وفتح اللام وإسكان الياء، ميقات أهل المدينة وهو على نحو ستة أميال من المدينة، وقيل: سبعة، كذا في "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي.
(5) بكسر الراء وإسكان التحتية وميم، قوله: إلى ريم، قال مالك: وذلك نحو من أربعة برد من المدينة، ولعبد الرزاق عن مالك ثلاثون ميلاً من المدينة، ورواه ابن عقيل عن ابن شهاب، قال: هي ثلاثون ميلاً، فيحتمل أن ريم موضع متسع فيكون تقدير مالكٍ عند آخره، وعقيل عند أوله، كذا قال الزرقاني.
(6) أي: سيره ذلك القدر.
(7) قال الباجي: سمّى الخروج إلى البريد ونحوه سفراً مجازاً أو اتِّساعاً.(1/559)
عُمَرَ البريدَ (1) فَلا يَقْصُرُ الصَّلاةَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا خَرَجَ الْمُسَافِرُ أَتَمَّ الصَّلاةَ (2) إِلا أَنْ يريد مسيرةَ
__________
(1) قوله البريد: هو كلمة فارسيَّة يُراد بها في الأصل البَغل، وأصلها بُرِيدَة دُم، أي: محذوف الذنب لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها، فأعربت وخُفِّفت، ثم سمِّي الرسول الذي يركب البريد بريداً والمسافة التي بين السكنين بريداً، والسكنة موضع كان يسكنه الفيوج المرتَّبون من بيت أو قُبَّة أو رباط، وكان يرتب في كل سكنة بغال، وبُعد ما بين السكنين فرسخان، وقيل أربعة، ومنه الحديث: "لا تُقتصر الصلاة في أقل من أربعة بُرُد"، وهي ستة عشر فرسخاً، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع كذا في "نهاية ابن الأثير".
(2) قوله: أتم الصلاة إلاّ أن يريد ... إلخ، اختلفوا فيه: فقالت طائفة من أهل الظاهر يقصر في كل سفر ولو في ثلاثة أميال لظاهر قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض} ، وروى مسلم وأبو داود عن أنس: كان رسول الله إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ قصر الصلاة. وهو أصح ما ورد في ذلك وأصرحه. وروى سعيد بن منصور، عن أبي سعيد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخاً يقصر فيه الصلاة. وحمله أكثر العلماء على أن المراد به المسافة التي يبتدأ منها القصر لا مسافة السفر، وذهب مالك إلى أن أقل مدة السفر التي يقصر فيها أربعة برود، وبه قال الشافعي وأحمد وجماعة، وهي ستة عشر فرسخاً أي: ثمانية وأربعون ميلاً، والمستند لهم حديث: "يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برود". أخرجه الدارقطني والبيهقي والطبراني. وسنده متكلم فيه، لكنه مؤيد بفعل ابن عمر وابن عباس، كما أخرجه مالك والبيهقي وغيرهما أنهما كانا يقصران في أربعة برود. وذهب أصحابنا إلى التقدير بثلاثة أيام أخذاً من حديث الصحيحين: "لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي رحم محرم"، ومن حديث يمسح المقيم يوماً وليلةً والمسافر ثلاثة أيام ولياليها"، وأخرج محمد في كتاب "الآثار"، عن سعد بن عبيد الله(1/560)
ثلاثةِ أيّامٍ كَوَامِلَ (1) بسيرِ الإبلِ ومَشيِ الأَقْدَامِ، فَإِذَا أَرَادَ ذَلِكَ قصرَ الصَّلاةَ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ مِصْرِهِ، وَيَجْعَلَ الْبُيُوتَ (2) خَلفَ ظَهره، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
57 - (بَابُ الْمُسَافِرِ يَدْخُلُ المِصْرَ أَوْ غيرَه مَتَى يُتِمّ الصلاةَ)
195 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سالمِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: أُصلِّي صَلاةَ الْمُسَافِرِ مَا لَمْ أُجمع (3)
__________
الطائي، عن علي بن ربيعة قال: سألت ابن عمر إلى كم تقصر الصلاة؟ قال: تعرف السويداء؟ قلت: لا، ولكني قد سمعت بها، قال: هي ثلاث ليالٍ فواصل، فإذا خرجنا إليها قصرنا الصلاة.
ولما كان السير مختلفاً باختلاف السائر والمركب اعتبروا السير الوسط وهو سير الأبل ومشي الأقدام، ولم يعتبروا سرعة القطع وبطؤه بغير ذلك، وتفصيله في كتب الفقه.
(1) جمع كامل.
(2) قوله: ويجعل البيوت خلف ظهره، هذا وقت جواز القصر (المسافر إذا فارق بيوت بلده قصر في الطريق عندنا كما في عامة متون الحنفية، وفيه خلاف يسير في عبارات المشائخ، راجع له عمدة القاري 3/545، وفي "المغني" 2/259 لابن قدامة: ليس لمن نوى السفر القصر حتى يخرج من بيوت مصره أو قريته ويخلفها وراء ظهره، قال: وبه قال مالك والأوزاعي وأحمد والشافعي وإسحاق وأبو ثور) ، لما روى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق أن علياً خرج من البصرة فصلى أربعاً، وقال: إنّا لو جاوزنا هذا الخص لصلَّينا ركعتين وهو بيت من قصب.
(3) مِن أجمع على الأمر، عزم وصَمَّم.(1/561)
مُكثاً (1) وَإِنْ حَبَسَنِي ذَلِكَ اثْنَتَيْ عَشْرَة لَيْلَةً.
196 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ كَانَ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ صَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ (2) ، ثُمَّ قَالَ (3) يَا أَهْلَ مَكَّةَ أتمُّوا صَلاتَكُمْ فإنَّا قومٌ سَفْرٍ (4) .
197 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي نَافِعُ، عَنِ ابن عمر: أنه كان
__________
(1) إقامةً، لأن حكم السفر لم ينقطع (قال المجد: المكث ثلاثاً ويحرِّك: اللبث، يعني يقصر المسافر ما لم يعزم على اللبث، قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافاً فيمن سافر سفراً يقصر الصلاة، أنه لا يلزمه أن يتمَّ الصلاة في سفره إلاّ أن ينوي الإقامة في مكان من سفره ويجمع نيته على ذلك، قال الترمذي: أجمع أهل العلم على أنَّ للمسافر أن يقصر ما لم يُجمع إقامة وإن أتى عليه سنون. 1 هـ. أوجز المسالك 3/107) .
(2) قال الباجي: كان عمر لا يستوطن مكة، لأن المهاجري ممنوع من استيطانها.
(3) قوله: ثم قال ... إلخ، قال أبو عمر (في الأصل: "أبو عمرو") : امتثل عمر فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، قال عمران بن حصين: شهدت مع رسول الله الفتح، فأقام بمكة ثمان عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، ثم يقول لأهل البلد: صلّوا أربعاً، فإنا قوم سفر. انتهى.
وهذا رواه الترمذي، وفي إسناده ضعيف، كذا قال الزرقاني. وقال القاري بعد ذكر حديث عمران: لعل وجه قصره عليه السلام أنه كان على قصد سفر مع أن من جملة هذه المدة أيام منى وعرفة، ويُشترط أن يكون نية الإقامة في بلدة واحدة. انتهى. أقول: فيه خطأ واضح، فإن حديث عمران في فتح مكة وأيام منى إنما تكون في موسم الحج وكذا يوم عرفة، ولم يكن هناك حج.
(4) بفتح فسكون، جمع مسافر كرَكب وراكب.(1/562)
يُقِيمُ بِمَكَّةَ عَشْرًا فيَقْصُرُ الصَّلاةَ (1) إلاَّ أَنْ يشهدَ (2) الصَّلاةَ مَعَ النَّاسِ فَيُصَلِّي بِصَلاتِهِمْ (3) .
198 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، أَنَّهُ سَأَلَ سالمَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْمُسَافِرِ إِذَا كَانَ لا يَدْرِي مَتَى يَخْرُجُ (4) يَقُولُ: أَخْرُجُ الْيَومَ (5) ، بَلْ أَخْرُجُ غَداً، بَلِ السَّاعَةَ، فَكَانَ كَذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهِ لَيَالٍ كَثِيرَةٌ أَيَقْصُرُ (6) أم ما يصنع؟ قال: يقصر (7)
__________
(1) لأنه لم ينوِ الإقامة.
(2) أي: يحضر صلاة الجماعة مع المقيم.
(3) أي: صلاة تامَّة.
(4) أي: من بلد هو فيه.
(5) أي: يقصد الخروج اليوم، فلا يتمّ له ويقصد الغد أو الساعة فلا يتيسّر له.
(6) بهمزة الاستفهام.
(7) قوله: يقصر وإن تمادى به ذلك شهراً، لأن من هو على عزم السفر لم يُجمع بالإقامة وإن وقعت له ذلك مدة، والاعتبار للأعمال بالنيات فيُباح له القصر، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصر عام الفتح إذا أقام على حرب هوازن مع أنه أقام سبعة عشر يوماً، كما أخرجه أبو داود وابن حبان، من حديث ابن عباس، أو تسعة عشر يوماً كما أخرجه أحمد والبخاريّ من حديثه، أو ثمانية عشر يوماً كما أخرجه أبو داود، والترمذي من حديث عمران، وأخرج البيهقي عنه قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدتُ معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشر يوماً، لا يصلي إلاركعتين، يقول: يا أهل البلد صلّوا أربعاً فإنّا قوم سفر، أو عشرين يوماً كما أخرجه عبد بن حميد في "مسنده" من حديث ابن عباس، وقال البيهقي: أصح الروايات في ذلك رواية(1/563)
وَإِنْ تَمَادَى (1) بِهِ ذَلِكَ شَهْرًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: نَرَى قَصْرَ الصَّلاةِ إِذَا دَخَلَ المسافرُ مِصْراً (2) مِنَ الأَمْصَارِ وإنْ (3) عَزَمَ عَلَى المُقام إلاَّ أنْ يعزم على المقام خمسة عشرة يَوْمًا فَصَاعِدًا فَإِذَا عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ أَتَمَّ الصَّلاةَ.
199 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَطَاءُ (4) الْخُرَاسَانِيُّ قَالَ: قال
__________
تسع عشرة يوماً، وجُمع بين الروايات السابقة باحتمال أن يكون في بعضها لم يُعَدّ يومي الدخول والخروج وهو رواية سبعة عشر، وعدّها في بعضها وهي رواية تسع عشرة، وعدّ يوم الدخول دون الخروج وهي رواية ثمانية عشرة. قال الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث الرافعي": هو جمع متين: وبقي رواية خمسة عشر شاذة لمخالفتها، ورواية عشرين وهو صحيحة الأسناد إلاَّ أنها شاذة، ورواية ثمانية عشر ليست بصحيحة من حيث الإسناد. انتهى. وقد وردت بذلك آثار كثيرة، فأخرج عبد الرزاق أن ابن عمر أقام بآذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة، ورُوي عن الحسن: كنا مع الحسن بن سمرة ببعض بلاد فارس سنتين، فكان لا يجمع ولا يزيد على ركعتين، ورٌوي أن أنس بن مالك أقام بالشام شهرين مع عبد الملك بن مروان يصلّي ركعتين، وفي الباب آثار أخر ذكرها الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية".
(1) أي: استمر ذلك ولو إلى مدة كثيرة.
(2) قوله: مصراً، وإن كان وطنه الأصلي إذا كان هجره، ولذا لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح وعام حجة الوداع قصر، فإن لم يهجر أتم بمجرد دخوله.
(3) الواو وصليَّة.
(4) قوله: أخبرنا عطاء الخراساني، هو عطاء بن أبي مسلم ميسرة وقيل: عبد الله الخراساني أبو عثمان مولى المهلب بن أبي صفرة على الأشهر، وقيل: مولى لهذيل، أصله من مدينة بَلْخ من خراسان، وسكن الشام، ولد سنة خمسين، وكان فاضلاً عالماً بالقرآن، عالماً، وثَّقه ابن معين، ومات سنة خمس وثلاثين ومائة، أدخله البخاري في الضعفاء لنقل القاسم بن عاصم ابن المسيب أنه كذبه،(1/564)
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: مَنْ أَجْمَعَ (1) عَلَى إِقَامَةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فلْيُتِمّ الصَّلاةَ (2) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا، يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ حَتَّى يُجْمع عَلَى إِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ (3) وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.
__________
وردَّه ابن عبد البر بأن مثل القاسم لا يجرح بروايته مثل عطاء أحد العلماء الفضلاء، كذا ذكره الزرقاني.
(1) أي: عزم ونوى.
(2) قال مالك: ذلك أحب مما سمعت إليَّ، وبه قال الشافعي وأبو ثور وداود وجماعة.
(3) قوله: وهو قول ابن عمر ... إلخ، أما أثر ابن عمر فأخرجه المصنف، في كتاب "الآثار" (ص 39) ، عن أبي حنيفة، نا موسى بن مسلم، عم مجاهد عنه أنه قال: إذا كنتَ مسافراً فرطَّنت على نفسك على إقامة خمسة عشر يوماً فأتم الصلاة فإن كنت لا تدري فاقصر. وأخرجه ابن أبي شيبة، عن وكيع، نا عمر بن ذر، عن مجاهد أن ابن عمر كان إذا أجمع على إقامة خمسة عشر يوماً أتم الصلاة. وأما أثر سعيد بن المسيب، فهر ما روى عن إبراهيم، عن داود عنه أنه قال: إذا أقام المسافر خمس عشرة أتم الصلاة، وما كان دون ذلك فليقصر ذكره العيني، وعارض به ما روي عنه من التحديد بأربعة أيام، وذكر صاحب الهداية أنه المأثور عن ابن عباس، قال الزيلعي والعيني: أخرجه الطحاوي عنه. وعن ابن عمر قال: إذا قدمتَ بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقوم خمسة عشر يوماً فأكمل الصلاة وإن كنت لا تدري فاقصرها.
ومما يدل على فساد التحديد بأربعة أيام ما أخرجه الأئمة الستة، عن أنس قال: خرجنا من المدينة إلى مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يصلي ركعتين حتى رجعنا(1/565)
200 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ (1) كَانَ يُصَلِّي مَعَ الإِمَامِ (2) أَرْبَعًا (3) ، وَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ (4) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ إِذَا كَانَ الإِمَامُ مُقِيمًا وَالرَّجُلُ (5) مُسَافِرًا وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله -.
58 - (باب الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاةِ فِي السَّفَرِ)
201 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أنَّ ابنَ عُمَرَ كَانَ يَقْرَأُ في
__________
إلى المدينة، قلت: كم أقمتم بها؟ قال: أقمنا بها عشراً، ولا يقال: لعلهم عَزموا على السفر في اليوم الأول أو في الثاني أو الثالث وهكذا واستمرَّ بهم ذلك عشراً، لأن الحديث إنما هو في حجة الوداع فتعيَّن أنهم نووا الإقامة أكثر من أربعة أيام لأجل قضاء النسك.
(1) في نسخة: أنه إذا صلّى كان يصلّي مع الإمام بمنى يصلي أربعاً.
(2) لوجوب متابعة الإمام وترك الخلاف له، وإن اعتقد المأموم أنَّ القصر أفضل، ولكنَّ فضيلةَ الجماعة آكد.
(3) قوله: أربعاً (قال ابن عبد البر في "الاستذكار": اختلفوا في المسافر يصلّي وراء مقيم، فقال مالك وأصحابه: إذا لم يدرك معه ركعة تامة صلّى ركعتين، فإذا أدرك معه ركعة بسجدتيها صلّى أربعاً، وذكر الطحاوي أن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمداً قالوا: يصلّي صلاة المقيم وإن أدركه في التشهد، وهو قول الثوري والشافعي: أوجز المسالك 3/112) ، هذا هو السنَّة المأثورة كما أخرجه أحمد، عن موسى بن سلمة، قال: كنا مع ابن عباس بمكة، فقلت: إنّا إذا كنا معكم صلّينا أربعاً، وإذا رجعنا صلَّينا ركعتين، فقال: تلك سنَّة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم.
(4) لأنه مسافر.
(5) أي: المقتدي به.(1/566)
الصُّبْحِ بِالْعَشْرِ السُّوَرِ مِنْ أَوَّلِ المفصَّل (1) يردِّدهن (2) فِي كُلِّ رَكْعَةٍ سُورَةً.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَقْرَأُ (3) فِي الْفَجْرِ فِي السَّفَرِ {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} وَنَحْوِهِمَا (4) .
59 - (بَابُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْمَطَرِ)
202 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عن ابن عمر: أن
__________
(1) وهي من أول سورة الحجرات على الأشهر.
(2) أي: يكرِّرها.
(3) قوله: يقرأ ... إلى أخره، يشير إلى دفع ما يُتوهَّم من أثر ابن عمر أن السنَّة في السفر كالسنَّة في الحضر من قراءة طوال المفصَّل وهو من {الحُجُرَاتِ} إلى {والسَّمَاءِ ذَاتِ البُروجِ} وليس كذلك، فإن للسفر أثراً في التخفيف، فينتقل الوظيفه فيه من الطوال إلى الأوساط، وقد أخرج ابن أبي شيبة، عن سويد قال: خرجنا حجاجاً مع عمر فصلّى بنا الفجر ب {ألم تر كيف} و {لإيلاف} وعن ابن ميمون صلى بنا عمر الفجر في السفر، فقرأ: {قل يا أيها الكافرون} ، و {قل هو الله أحد} . وعن الأعمش، عن أبراهيم: كان أصحاب رسول الله يقرؤون في السفر بالسور القصار.
(4) قوله: ونحوهما، بل إن قرأ أقصر من ذلك جاز لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى الصبح بالمعوذتين، أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وأحمد والطبراني من حديث عقبة بن عامر.(1/567)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا (1) عَجِلَ (2) بِهِ السَّيْر جَمَعَ (3) بَيْنَ المغرب والعشاء.
__________
(1) قوله: إذا عجل به السير، أورد البخاري في الباب ثلاثة أحاديث: حديث ابن عمر وهو مقيد بما إذا جدَّ به السير، وحديث ابن عباس، وهو مقيَّد بما إذا كان سائراً، وحديث أنس وهو مطلق، واستعمل البخاري الترجمة المطلقة إشارة إلى العمل بالمطلق، فكأنه رأى جواز الجمع بالسفر سواء كان سائراً أم لا، كان سيره مجدّاً أم لا. وهذا مما وقع الاخلاف فيه، فقال بالإطلاق كثير من الصحابة والتابعين، ومن الفقاء الثوريّ والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال قوم: لا يجوز الجمع مطلقاً إلاَّ بعرفة والمزدلفة وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه، وأجابوا عما ورد من الأحاديث في ذلك بأن الذي وقع جَمْع صوري، وتعقَّبه الخطّابي وغيره بأن الجمع رخصة، فلو كان على ما ذكروه لكان أعظم ضيِّقاً، لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلاً عن العامة، وقيل: يختص الجمع بمن يجدُّ في السير، قاله الليث وهو القول المشهور عن مالك، وقيل: يختص بالسائر دون النازل، وهو قول ابن حبيب، وقيل: يختص بمن له عذر، حُكِي ذلك عن الأوزاعي، وقيل: يجوز جمع التأخير دون التقديم، وهو مروي عن مالك وأحمد، واختاره ابن حزم، كذا في "فتح الباري".
(2) بفتح العين وكسر الجيم، أسرع وحضر، ونسبة الفعل إلى السير مجاز، تعلَّق به من اشترط في الجمع الجدّ في السير، وردّه ابن عبد البر بأنه إنما حكى الحال التي رأى ولم يقل لا يجمع إلا أن يجدّ به.
(3) قوله: جمع بين المغرب والعشاء، جمع تأخير، ففي "الصحيح" من رواية الزهري، عن سالم عن أبيه: رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير في السفر يؤخر المغرب حتى يجمع بينهما. وبيَّنه مسلم من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر بعد أن يغيب الشفق. ولعبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، وموسى بن عقبة، عن نافع: فأخَّر المغرب بعد ذهاب الشفق حتى ذهب هوى من الليل.(1/568)
203 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ (1) حِينَ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فِي السَّفَرِ سَارَ حَتَّى غَابَ الشَّفَقُ.
204 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ أَخْبَرَهُ (2) ، قَالَ: كَانَ رسولُ اللَّهِ يَجْمَعُ (3) بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي سَفَرٍ (4) إِلَى تَبُوكَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَالْجَمْعُ (5) بَيْنَ الصلاتين أن تُؤخَّرَ
__________
والبخاري في "الجهاد" من طريق أسلم عنه: حتى إذا كان بعد غروب الشفق نزل، فصلّى المغرب والعشاء. ولأبي داود، عن عبد الله بن دينار، عنه فسار حتى غاب الشفق وتصوَّبت النجوم.
(1) قوله: إن ابن عمر حين جمع..إلخ، أخرج البخاري في باب السرعة في السير من كتاب الجهاد من رواية أسلم مولى عمر: كنت مع ابن عمر بطريق مكة فبلغه عن صفية بنت عبيد شدة وجَعٍ، فأسرع السير حتى إذا كان بعد غروب الشفق نزل، فصلّى المغرب والعتمة، فأفادت هذه الرواية تعيين السفر وقت انتهاء السير والجمع.
(2) قوله: أخبره قال ... إلخ، قال ابن عبد البر: هكذا رواه أصحاب مالك مرسلاً إلاّ أبا مصعب في غير الموطأ ومحمد بن المبارك الصوري ومحمد بن خالد ومطرفاً والحنيني وإسماعيل بن داود المخراقي، فإنهم قالوا: عن مالك، عن داود، عن الأعرج، عن أبي هريرة مسنداً.
(3) جَمْعَ تقديم إنْ ارتحل بعد زوال الشمس، وجَمْعَ تأخير إن ارتحل قبل الزوال على ما روى أبو داود وغيره عن معاذ،
(4) أي: في سفره في غزوة تبوك، وهو اسم موضع على وزن شكور، وهي آخر غزواته وقعت سنة تسع.
(5) قوله: والجمع بين الصلاتين ... إلخ، هذا هو الجمع الصُّوري الذي(1/569)
الأُولى مِنْهُمَا، فتُصلَّى فِي آخِرِ وَقْتِهَا وتُعجَّل الثَّانِيَةُ فتُصلَّى فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا.
وَقَدْ بَلَغَنا (1) عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ أخَّر الصلاة قبل أن تغيب الشفق (2) ، خلاف ما روى مالك.
__________
حمل عليه أصحابنا الأحاديث الواردة في الجمع، وقد بسط الطحاوي الكلام فيه في "شرح معاني الآثار" لكن لا أدري ماذا يُفعل بالروايات التي وردت صريحاً بأن الجمع كان بعد ذهاب الوقت، وهي مرويّة في صحيح البخاري وسنن أبي داود وصحيح مسلم وغيرها من الكتب المعتمدة على ما لا يخفى على من نظر فيها، فإن حُمل على أن الرواة لم يحصل التمييز لهم فظنوا قرب خروج الوقت خروج الوقت، فهذا أمر بعيد عن الصحابة الناصِّين على ذلك، وإن اختير ترك تلك الروايات بإبداء الخَلَل في الإسناد فهو أبعد وأبعد مع إخراج الأئمة لها، وشهادتهم بتصحيحها، وإ، عُورض بالأحاديث التي صرحت بأن الجمع كان بالتأخير إلى آخر الوقت والتقديم في أول الوقت، فهو أعجب، كان الجمع بينها بحملها على اختلاف الأحوال ممكن، بل هو الظاهر، وبالجملة فالأمر مشكل، فتأمل لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً.
(1) قوله: وقد بلغنا ... إلخ، لما ورد على تأويل الجمع الصُّوري بأنه وإن تيسَّر في حديث ابن عمر والأعرج بحسب الظاهر لكنه لا يتيسر في أثر ابن عمر. أجاب عنه، بأنه قد بلغنا أنه جمع قبل غروب الشفق، فيكون جمعه أيضاً جمعاً صورياً، ولقائل أن يقول: ما أخرجه مالك سنده أصح الأسانيد لا اشتباه في طريقه، فيجمع بينه وبين هذا البلاغ باختلاف الأحوال ولا يقدح ثبوت أحدهما في ثبوت الآخر.
(2) قوله: قبل أن تغيب الشفق، أخرج الطحاوي، عن أسامة بن زيد، عن نافع أن ابن عمر جدّ به السير فراح روحة لم ينزل إلاّ للظهر والعصر، وأخَّر المغرب، حتى صرخ سالم: الصلاة، فصمت ابن عمر حتى إذا كان عند غيبوبة الشفق نزل(1/570)
205 - أخبرنا مالك، حدثنا نافع، عن ابن عمر: أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَمَعَ الأُمَرَاءُ (1) بَيْنَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ (2) جَمَعَ مَعَهُمْ فِي الْمَطَرِ.
قَالَ: لَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا، لا نَجْمَعُ (3) بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ فِي وقتٍ
__________
فجمع بينهما، ففي هذا الحديث أن نزوله للمغرب كان قبل أن يغيب الشفق فاحتمل أن يكون قول نافع بعدما غاب الشفق إنما أراد به قُربه من غيبوبة الشفق لئلا يتضادّ ما روي في ذلك، ثم أخرج عن العطاف بن خالد، عن نافع: أقبلنا مع ابن عمر حتى إذا كان ببعض الطريق استصرخ على زوجته بنت عبيد فراح مسرعا حتى غابت الشمس فنودي بالصلاة فلم ينزل، حتى إذا كاد الشفق أن يغيب نزل فصلى المغرب وغاب الشفق فصلى العشاء، وقال: هكذا كنا نفعل مع رسول الله إذا جدّ بنا السير.
(1) جمع أمير، قال القاري: وكانوا هم الأئمة في الصدر الأول.
(2) قال القاري: أي حذراً من فوات الجماعة.
(3) قوله: لا نجمع ... إلخ، استدل له أصحابنا منهم الطحاوي بأحاديث، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر حتى يدخل وقت صلاة الأخرى". أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي قتادة في قصة ليلة التعريس، ومنها ما أخرجه البخاري ومسلم، عن ابن مسعود، قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى صلاةً لغير وقتها إلا بجَمع فإنه جمع بين المغرب والعشاء بجَمع وصلى صلاة الصبح من الغد قبل وقتها - أي: قبل وقتها المعتاد - ومنها حديث: "من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى باباً من أبواب الكبائر"، أخرجه الترمذي والحاكم من حديث ابن عباس مرفوعاً. وفي طريقه حسين بن قيس الرحبي. قال أحمد: متروك الحديث. وقال ابن معين وأبو زرعة: ضعيف، وقال البخاري: أحاديثه منكرة جداً ولا يُكتب حديثه، وقال الدارقطني: متروك، وقال أحمد في ما نقله ابن الجوزي: كذاب، وفيه أقوال أخر بسطها ابن حجر في(1/571)
واحدٍ إلاَّ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ (1) بعرَفَةَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بمُزدلفة، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قال محمد: بَلَغَنا عن عمر بن الخطاب أَنَّهُ كَتَبَ فِي الآفَاقِ (2) يَنْهَاهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ، وَيُخْبِرُهُمْ أنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ فِي وَقْتٍ واحدٍ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ. أَخْبَرَنَا بذلك الثقات (3) عن العلاء بن
__________
"تهذيب التهذيب"، وقال: حديثُهُ من جمع بين صلاتين الحديث لا يُتابع عليه ولا يُعرف إلا به ولا أصل له وقد صحَّ عن ابن عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمع بين الظهر والعصر. انتهى. ومنها ما أخرجه الحاكم، عن أبي العالية، عن عمر قال: جَمعُ الصلاتين من غير عذر من الكبائر، قال: وأبو العالية لم يسمع عن عمر، ثم أسند عن أبي قتادة أن عمر كتب إلى عامل له: ثلاث من الكبائر الجمع بين الصلاتين إلاّ من عذر والفرار من الزحف ... الحديث، قال: وأبو قتادة أدرك عمر فإذا انضمَّ هذا إلى الأول صار قوياً. وأجاب المجوِّزون للجمع عن حديث ابن عباس وأثر عمر أنه على تقدير صحتهما لا يضرّنا، فإنهما يدلان على المنع من الجمع من غير عذر والعذر قد يكون بالسفر وقد يكون بالمطر وبغير ذلك ونحن نقول به إلاّ أن هذا لا يتمشّى في ما ذكره محمد ههنا من أثر عمر، فإنه ليس فيه التقييد بالعذر، وقالوا أيضاً: من عرَض له عذر يجوز له الجمع إذا أراد ذلك وأما إذا لم يكن له ذلك ولم يُرد الجمع بل ترك الصلاة عمداً إلى أن دخل وقت الأخرى فهو إثم بلا ريب وبه يجتمع الأخبار والآثار. والكلام في هذا المقام طويل ليس هذا موضعه، والقدر المحقق هو ثبوت الجمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حالة السفر ولعذر فليتدبَّر.
(1) لورود جمع التقديم بعرفة وجمع التأخير بمزدلفة بالأحاديث الصحيحة.
(2) أي: أطراف مملكته.
(3) أي: الرواة العدول.(1/572)
الْحَارِثِ (1) ، عَنْ مَكْحُولٍ (2) .
60 - (بَابُ الصَّلاةِ عَلَى الدَّابَةِ فِي السَّفَرِ)
206 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عبدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ (3) قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يصلِّي (4)
__________
(1) قوله: عن العلاء، ابن العلاء بن الحارث بن عبد الوارث الحضرمي أبو وهب أو أبو محمد الدمشقي، روى عن مكحول والزهري وعمرو بن شعيب، وعنه الاَوزاعي وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان وغيرهما. قال ابن معين وابن المديني وأبو داود: ثقة، وقال أبو حاتم: كان من خيار أصحاب مكحول، وقال دُحيم: كان مقدَّماً على أصحاب مكحول، ثقة مات سنة 136 هـ، كذا في "تهذيب التهذيب".
(2) قوله: عن مكحول، هو أبو عبد الله الهذلي الفقيه الدمشقي كثير الإرسال، عن عبادة وأبيّ وعائشة وكبار الصحابة، قال أبو حاتم: ما رأيتُ أفقه من مكحول وقد كثر الثناء عليه، وتوثيقة من النقّاد كما بسطه في "تهذيب التهذيب" و"تذكرة الحفاظ"، مات سنة 113 هـ، وقيل غير ذلك.
(3) قال ابن عبد البر: كذا رواه جمعة رواة " الموطأ"، ورواه يحيى بن مسلمة بن قعنب، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر. قال: والصواب ما في "الموطأ".
(4) قوله: يصلي على راحلته، قال الحافظ: قد أخذ بهذه الأحاديث فقهاء الأمصار، إلاَّ أن أحمد (وذكر الباجيُّ الشافعي مع أحمد بن حنبل في استقبال القبلة عن ابتداء التكبير، والظاهر أنه وهم لأن الحافظ أعلم بمذهبه، لم يذكر الاستحباب إلاَّ عن أحمد، وفي "الاستذكار": هذا الأمر مجمع عليه لاخلاف فيه بين العلماء كلهم أنهم يجيزون التطوع للمسافر على دابَّته حيث توجَّهت به للقبلة وغيرها، إلاّ أن منهم جماعة يستحبون أن يفتتح المصلي صلاته مستقبل القبلة، ثم لا يبالي حيث توجّهت به راحلته، وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور. اهـ. وقال ابن عابدين من الحنفية: لا يُشترط استقبال القبلة في الابتداء، انظر أوجز المسالك 3/123) وأبا ثور كانا يستحبان أن يستقبل القبلة بالتكبير حال ابتداء(1/573)
عَلَى راحلتِهِ (1) فِي السَّفَرِ حَيْثُمَا توجَّهتْ بِهِ، قَالَ (2) (3) : وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَصْنَعُ ذَلِكَ.
207 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عمر (4) بن عبد
__________
الصلاة، وقد أوجبه الشافعية حيث سهل. والحجّة لذلك حديث الجارود، عن أنس أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذا أراد أن يتطوَّع في السفر استقبل بناقته القبلة، ثم صلّى حيث توجّهت ركابه، أخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني. انتهى. وحكى ابن بطّال الإجماع على أنه لا يجوز أن تصلى المكتوبة على الدابَّة ما عدا ماذُكر في صلاة شدة الخوف، واعلم أن الجمهور ذهبوا إلى جواز التنفُّل على الدابّة في السفر الطويل والقصير أخذاً بإطلاق الأحاديث في ذلك، وخصّه مالك بالسفر الطويل، قال الطبري: لا أعلم أحداً وافقه على ذلك، قال الحافظ: ولم يتفق على ذلك عنه. وحجّته أن هذه الأحاديث إنما وردت في أسفاره صلى الله عليه وسلم، ولم يُنقل عنه أنه سافر سفراً قصيراً فصنع ذلك، وقد ذهب أبو يوسف ومن وافقه في التوسعة في ذلك، فجوَّزه في الحضر أيضاً، وقال به من الشافعية الإصطخريُّ، كذا في "ضياء الساري بشرح صحيح البخاري".
(1) ناقته التي تصلح لأن ترتحل.
(2) أي: ابن دينار.
(3) قوله: قال، عقّب الموقوف بالمرفوع مع أن الحجة قائمة بالمرفوع لبيان أن العمل استمرَّ على ذلك، كذا قال الزرقاني.
(4) قوله: أبو بكر بن عمر، بضمّ العين عند جميع رواة "الموطأ" ومنهم(1/574)
الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ سَعِيدًا (1) أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي سَفَرٍ، فَكُنْتُ أسيرُ مَعَهُ وأتحدَّث مَعَهُ، حَتَّى إِذَا خشيتُ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرَ تخلَّفت (2) ، فنزلتُ (3) فأوترتُ (4) ، ثُمَّ ركبتُ، فَلَحِقْتُهُ (5) ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَيْنَ كُنْتَ؟ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ (6) ، نزلتُ فأوترتُ وخشيتُ (7) أَنْ أُصْبِحَ، فَقَالَ: أَلَيْسَ (8) لَكَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسوة (9)
__________
يحيى على الصواب، وفتح العين وزيادة واو وَهَمٌ، قاله ابن عبد البر، وقال: هو أَبُو بَكْرِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، لم يُوقَف له على اسم، القُرشي العَدويّ المدني، من الثقات، ليس له في "الموطأ" ولا في الصحيحن سوى هذا الحديث الواحد، كذا في "شرح الزرقاني".
(1) قوله: أن سعيداً، بفتح السين، ابن يسار بتحتية مخففة السين، التابعي الثقة المدني، مات سنة 117 هـ، وقيل: قبله بسنة، روى له الجماعة، كذا في "شرح الزرقني".
(2) أي: بقيت خلفه وتركت معيَّته.
(3) عن مركوبي.
(4) أي: صلَّيت الوتر على الأرض.
(5) أي: أدركته.
(6) هو كنية لابن عمر.
(7) أي: خفتُ طلوع الفجر فيفوت الوتر.
(8) استفهام تحقيق.
(9) بكسر الهمزة وضمها: قدوة.(1/575)
حَسَنَةٌ؟ فَقُلْتُ: بَلَى (1) وَاللَّهِ، قَالَ: فإنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ (2) على البعير.
__________
(1) فيه الحلف على الأمر الذي يُراد تأكيده.
(2) قوله كان يوتر على البعير (زاد في النسخة المطبوعة، لموطأ الإمام مالك برواية محمد - بتحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف - حديث: أخبرنا مالك، أخبرني عمرو بن يحيى، عن سعيد بن يسار، عن عبد الله بن عمر: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو متوجِّه إلى خيبر. قلت: قال الدارقطني وغيره: هذا غلط من عمرو بن يحيى المازني، إنما المعروف في صلاته صلى الله عليه وسلم على راحلته أو على البعير، انظر صحيح مسلم 2/352) ، استدل به الشافعي ومالك وأبو يوسف وغيرهم على أن الوتر سنة، وليس بواجب وإلا لم يجز على الدابة من غير عذر، واحتجّوا لأبي حنيفة في وجوب الوتر بأحاديث، منها حديث: "إن الله زادكم صلاةً ألا وهي الوتر"، أخرجه الترمذي وأبو داود والطبراني وأحمد والدارقطني وابن عديّ من حديث خارجة بن زيد، وإسحاق بن راهويه والطبراني من حديث عمرو بن العاص، والطبراني من حديث ابن عباس، والحاكم من حديث أبي بصرة الغفاري، والدارقطني في "غرائب مالك"، من حديث ابن عمر، والطبراني في "مسند الشاميين"، من حديث أبي سعيد الخدري بطرق يتقوّى بعضها ببعض عل ما بسطه الزيلعي وغيره، قالوا: من المعلوم أن المزيد يكون من جنس المزيد عليه، فيكون الوتر كالمكتوبة التي فرضها الله تعالى، لكن لما كان ثبوته بأخبار آحاد قلنا بوجوبه دون افتراضه، ومنها ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، عن أبي أيوب مرفوعاً: "الوتر حق واجب على كل مسلم، فمن أحبّ أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليوتر". ورواه أيضاً أحمد وابن حبان والحاكم وقال: على شرطهما، ومنها ما أخرجه أبو داود والحاكم وصححه مرفوعاً: "الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا"، ومنها حديث: "أوتروا قبل أن تصبحوا"، أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد، ومنها ما أخرجه عبد الله بن أحمد، عن أبيه بسنده أنَّ معاذ بن جبل قدم الشام، فوجد أهل الشام لا يوترون، فقال لمعاوية: ما لي أرى أهل الشام لا يوترون؟ فقال معاوية: وواجب ذلك عليهم؟ فقال: نعم، سمعت رسول الله يقول: زادني ربي صلاة وهي الوتر، ووقتها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر.(1/576)
208 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، (1) قَالَ: رأيت أنس ابن مَالِكٍ فِي سَفَرٍ يُصَلِّي (2) عَلَى حِمَارِهِ، وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ إِيمَاءً بِرَأْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضَعَ وَجْهَهُ عَلَى شَيْءٍ (3) .
209 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمْ يصلِّ (4) مَعَ صلاة الفريضة
__________
(1) الأنصاري.
(2) التطوع.
(3) زاد البخاري ومسلم، عن ابن سيرين، عن أنس: لولا أنّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعله لم أفعله.
(4) قوله: لم يصلِّي ... إلخ، اتفق العلماء على جواز النوافل المطلقة في السفر، واختلفوا في استحباب النوافل الراتبة، فتركها ابن عمر وآخرون، واستحبها الشافعي وأصحابه والجمهور، ودليلهم الأحاديث العامة المطلقة في ندب الرواتب، وحديث صلاته صلى الله عليه وسلم الضحى يوم فتح مكة، وركعتي الصبح حين ناموا حتى طلعت الشمس وأحاديث أخر صحيحة ذكرها أصحاب السنن، والقياس على النوافل المطلقة، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الرواتب في رحله ولا يراه ابن عمر، فإن النافل في البيت أفضل، أو لعله تركها في بعض الأوقات تنبيهاً على جواز تركها. وأما ما يحتج به القائلون بتركها من أنها لو شرِّعت لكان إتمام الفريضة أولى، فجوابه أنَّ الفريضة متحتمة، فلو شرِّعت تامة لتحتَّم إتمامها، وأما النافلة فهي خيَرة المكلَّف، فالرِّفق به أن تكون مشروعة، ويتخيَّر: إن شاء فعلها وحصل ثوابها، وإن شاء تركها ولاشيء عليه، كذا في "شرح صحيح مسلم" للنووي (انظر المغني 2/141، وعمدة القاري 3/ 560، وفتح الباري 2/141) - رحمه الله تعالى -.(1/577)
في السفر التَّطوعَ (1) قبلها (2) ولا بعدها إلامن جَوْفِ اللَّيْلِ (3) فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي نَازِلا عَلَى
__________
(1) أي: النوافل السنن وغيرها.
(2) قوله قبلها ولا بعدها، وفي "صحيح مسلم"، عن حفص بن عاصم: صحبت ابن عمر في طريق مكة، فصلّى لنا الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله، وجلسنا معه، فكانت منه التفاتة فرأى ناسً قياماً، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبِّحون، قال: لو كنت مسبِّحاً لأتممت صلاتي، صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وصحبت أبا بكر وعمر وعثمان كذلك، ثم قرأ (لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةُ) (سورة الممتحنة: رقم الآية 6) . وأخرج البخاري عنه المرفوع فقط، وجاءت آثار عنه صلى الله عليه وسلم، أنه كان ربما كان تنفَّل في السفر قال البراء: سافرت مع رسول الله ثمان عشرة سفرة، فما رأيته يترك الركعتين قبل الظهر. رواه أبو داود والترمزي، والمشهور عن جميع السلف جوازه (قال النووي: اتفق العلماء على استحباب النوافل المطلقة في السفر، واختلفوا في استحباب النوافل الراتبة فتركها ابن عمر وآخرون واستحبهما الشافعي والجمهور، انتهى.
والمختار عند الحنفية أن يأتي المسافر بالسنن إن كان في حال أمن واستقرار وإلا إن كان في خوف وقرار، أي: سير لا يأتي به، انظر أوجز المسالك 3/115) ، وبه قال الإئمة الإربعة، كذا قال الزرقاني.
(3) قوله: الإ من جوف الليل، اختلفوا في النافلة في السفر على ثلاثة أقوال، أحدها: المنع مطلقاً، والثاني: الجواز مطلقاً، والثالث الفرق بين الرواتب فلا تصلّى، وبين النوافل المطلقة فتؤدَّى، وهو مذهب ابن عمر، كذا ذكره النوويّ وغيره، وذكر الحافظ ابن حجر قولاً رابعاً: وهو الفرق بين الليل والنهار، وعليه يدل ظاهر هذا الأثر الذي أخرجه محمد، وقولاً خامساً: وهو ترك الرواتب التي قبل المكتوبة وأداء ما بعدها وغيرها من النوافل المطلقة كالتهجُّد والضحى وغير ذلك.(1/578)
الأَرْضِ (1) ، وَعَلَى بَعِيرِهِ أَيْنَمَا توجَّه بِهِ.
قَالَ محمد: لابأس أَنْ يصلِّي الْمُسَافِرُ عَلَى دَابَّتِهِ تَطَوُّعًا إِيمَاءً حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ (2) ، يَجْعَلُ السُّجُودَ (3) أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ، فَأَمَّا الْوِتْرُ وَالْمَكْتُوبَةُ فَإِنَّهُمَا تصلَّيان (4) عَلَى الأَرْضِ وَبِذَلِكَ جَاءَتِ الآثَارُ.
210 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حُصَيْنٍ (5) قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يصلِّي التطُّوع عَلَى رَاحِلَتِهِ أينما توجَّهت (6) به فإذا كانت (7)
__________
(1) حيث كان يعِّرس
(2) قوله: حيث كان وجهه، لقوله تعالى: (أينما تولُّوا فثَّم وجه الله) (سورة البقرة: رقم الإية 115) . قال ابن عمر: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي على راحلته تطوعاً أينما توجَّهت به، ثم قرأ ابن عمر هذة الإية، وقال: في هذا أنزلت، أخرجه مسلم وابن أبي شيبة وعبد ابن حميد والترمزي والنسائي وابن جرير وابن المنذر والنحاس في ناسخه والطبراني والبيهقي وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم وصححه عنه قال: أنزلت (أينما تولُّوا فثَّم وجه الله) ، أن تصلي أينما توجَّهت بك (في الإصل: "به"، وهو خطأ. انظر مستدرك الحاكم 2/266) راحلتك في التطوع.
(3) أي: إيماءه.
(4) بصيغة المجهول.
(5) بالتصغير.
(6) أي: إلى أي جهة توجهت به.
(7) قوله: فإذا كانت الفريضة أو الوتر.. إلخ، قد اختلف عن ابن عمر، فحكى مجاهد وحصين وغيرهما كما أخرجه المصنف أنه كان ينزل للوتر، وكذا(1/579)
الْفَرِيضَةِ أَوِ الْوِتْرِ نَزَلَ (1) فصلَّى.
211 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أخبرنا عمر (2) بن ذر الهمداني، عن
__________
حكاه سعيد بن جبير، أخرجه أحمد بإسناد صحيح. وحكى سعيد بن يسار أنه زجره عن نزوله على الأرض كما أخرجه مالك. فأخذ أصحابنا بالآثار الواردة في نزوله للوتر وشيدوه بالأحاديث المرفوعة في نزوله صلى الله عليه وسلم للوتر، وقال المجوِّزون لأدائه على الدابة: إنه لا تعارض ههنا إذ يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين، فأحيانا أدّى الوتر على الدابة، وأحيانا على الإرض، فاقتدى بن ابن عمر، فتارة فعل كما رواه مجاهد وحصين، وتارة بخلافه. ويؤيده ما أخرجه الطحاوي في"شرح معاني الإثار" عن مجاهد، عن محمد بن إسحاق، عن نافع قال: كان ابن عمر يوتر على الراحلة، وربما نزل، فأوتر على الأرض، وذكر الطحاوي بعد ما أخرج آثار الطرفين: الوجه في ذلك عندنا أنه قد يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر على الراحلة قبل أن يحكم بالوتر ويغلظ أمره ثم أحكم بعد ولم يرخص في تركه. ثم أخرج حديث: "إن الله أمركم بصلاة هي خير من حمر النعم، ما بين صلاة العشاء إلى الفجر الوتر، الوتر"، من حديث خارجة وأبي بصرة، ثم قال: فيجوز أن يكون ما روى ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وتره على الراحلة كان منه قبل تأكيده إيّاه، ثم نسخ ذلك ("شرح معاني الآثار" باب الوتر على الراحلة 1/249، وأجاب ابن الهمام عن حديث الباب بأنه واقعة حال لا عموم لها، فيجوز كون ذلك لعذر، والإتفاق على أن الفرض يصلّى على الدابة لعذر الطين والمطر ونحوه. شرح فتح القدير 1/371) . انتهى. وفيه نظر لا يخفى إذ لا سبيل إلى إثبات النسخ بالإحتمال ما لم يعلم ذلك بنص وارد في ذلك.
(1) على الأرض.
(2) قوله: عمر، بضم العين، ابن ذرّ بفتح الذال المعجمة ونشديد الراء المهملة، كذا ضبطه الفتَّني في"المغني" لا بكسر الذال المعجمة كما ذكره(1/580)
مُجَاهِدٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لا يَزِيدُ عَلَى الْمَكْتُوبَةِ فِي السَّفَرِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ، لا يصلِّي قَبْلَهَا وَلا بَعْدَهَا، وَيُحْيِي (1) اللَّيْلَ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ أَيْنَمَا كَانَ وَجْهُهُ، وَيَنْزِلُ قُبَيْلَ الْفَجْرِ (2) فَيُوتِرُ بِالأَرْضِ، فَإِذَا أَقَامَ لَيْلَةً فِي مَنْزِلٍ أَحْيَى اللَّيْلَ (3) .
212 - قَالَ مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بن أبان (4) بن صالح، عن حماد (5) ، بن أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: صَحِبْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يصلِّي الصَّلاةَ كُلَّهَا عَلَى بَعِيرِهِ نَحْوَ
__________
القاري، ابن عبد الله بن زُرارة بضم الزاء المعجمة، الهَمداني نسبة إلى همدان - بالفتح - قبيلة نزلت بالكوفة، قال السمعاني: من أهل الكوفة، يروي عن عطاء ومجاهد، روى عنه وكيع وأهل العراق، مات سنة 150 هـ، قال ابن حبان: كان مرجئاً. انتهى. وفي"التقريب": عمر بن ذر بن عبد الله بن زرارة الهمداني بالسكون المرهبي الكوفي، أبو ذر ثقة، رمي بالإرجاء.
(1) إحياء الليل: السهر فيه.
(2) لئلا يذهب وقت الوتر فيفوت.
(3) قوله: أحيى الليل، ظاهر هذا الأثر أنه كان لا ينام الليل، بل يحيي كله بالصلاة أو التلاوة أو الذكر أو غير ذلك، وهو أمر مشهور عنه من طرق أخر أخرجها أبو نعيم في "حلية الأولياء" وغيره. وفيه رد على زعم أن إحياء الليل كلِّه بدعة لأنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حققت الأمر في هذا البحث في رسالتي "إقامة الحجة على أن الإكثار في التعبد ليس ببدعة".
(4) بفتح الألف والباء.
(5) في أربع نسخ: عن حماد، عن أبي سليمان، وهو غلظ، والصحيح حماد بن أبي سليمان كما في كثير من النسخ الصحيحة.(1/581)
الْمَدِينَةَ (1) وَيُومِئُ بِرَأْسِهِ إِيمَاءً، وَيَجْعَلُ (2) السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ إِلا الْمَكْتُوبَةَ وَالْوِتْرِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ (3) لَهُمَا، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ (4) حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ يُومِئُ بِرَأْسِهِ، وَيَجْعَلُ (5) السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ.
213 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بن عيّاش (6) ، حدثني
__________
(1) فوجهه كان على جهة مقابلة للكعبة.
(2) ليحصل (في الأصل: "يحصل") التمييز بينهما.
(3) إلى الأرض
(4) أي: يصلِّي على الدابة سوى المكتوبة والوتر.
(5) قوله: يجعل السجود أخفض ... إلخ، هذا المرفوع يردّ على ابن دقيق العيد في قوله: الحديث يدل على الإيماء مطلقاً في الركوع والسجود معاً والفقهاء قالوا: يكون السجود أخفض من الركوع ليكون البدل على وفق الأصل، وليس في لفظ الحديث ما يثبته ولا ينفيه (انظر فتح الباري 2/574) . انتهى. نقله الحافظ عن ابن حجر تحت ما أخرجه البخاري، عن عبد الله بن دينار قال: كان عبد الله بن عمر يصلِّي في السفر على راحلته أينما توجهت به يومئ. فظاهر قوله: والفقهاء إلى آخره يدل على أنه لم يجد نصاً في ذلك مرفوعاً، ونص آخر وهو ما أخرجه الترمزي (في باب الصلاة على الدابة حيثما توجَّهت 1/182) ، عن جابر، وقال: حسن صحيح، بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة، فجئت وهو يصلِّي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع.
(6) بتشديد الياء التحتية.(1/582)
هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ (1) أَنَّهُ كَانَ يصلِّي عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ وَلا يَضَعُ (2) جَبْهَتَهُ، وَلَكِنْ يُشِيرُ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِرَأْسِهِ، فَإِذَا نَزَلَ أَوْتَرَ.
214 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا خَالِدُ (3) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْمُغِيرَةِ (4) الضَّبِّي، عَنِ إِبْرَاهِيمَ النَّخعي: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يصلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ تَطَوُّعًا، يُومِئُ إِيمَاءً وَيَقَرْأُ (5) السَّجْدَةَ فَيُومِئُ، وَيَنْزِلُ لِلْمَكْتُوبَةِ وَالْوِتْرِ.
215 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ (6) بْنُ غَزْوَانَ، عَنْ نافع، عن
__________
(1) هو عروة بن الزبير بن العوام.
(2) أي: على الراحلة.
(3) قوله: خالد، الظاهر أنه خالد بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يزيد الطحان أبو الهيثم الواسطي، روى عن اسماعيل بن أبي خالد وحميد الطويل وسليمان التيمي وأبي اسحاق الشيباني وغيرهم، وعنه وكيع وابن مهدي ويحيى القطان وغيرهم وثقه ابن سعد وأبو زرعة والنسائي وأبو حاتم والترمزي، مات سنة 179 هـ، كذا في "تهذيب الكمال" للمزِّي.
(4) قوله: المغيرة، هو المغيرة بضم الميم وكسر الغين ابن مقسم - بكسر الميم - الضَّبِّي بفتح الضاد المعجمة وتشديد الباء نسبته إلى ضبَّة قبيلة، مولاهم أبي هشام الكوفي الأعمى، ثقة متقن إلا أنه كان يدلِّس، روى عن النخعي والشعبي وأبي وائل، وعنه جرير وشعبة وزائدة وغيرهم، مات سنة 136 هـ على الصحيح، كذا في "الكاشف" و"التقريب".
(5) أي: يقرأ آية السجدة في الصلاة، فيومئ بسجدة التلاوة.
(6) قوله: أخبرنا الفضل بن غزوان، هكذا وجدنا في عدة نسخ صحيحة،(1/583)
ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ به راحلته صلّى والتطوع، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ نَزَلَ (1) فَأَوْتَرَ.
61 - (بَابُ الرَّجُلِ يصلِّي فَيَذْكُرُ أنَّ عَلَيْهِ صَلاةً فَائِتَةً)
216 - أخبرنا مالك، حدثنا نافع، عن ابن عمر أنه كان (2)
__________
والذي في "تهذيب التهذيب" و"التقريب" و"الكاشف" الفضيل مصغَّراً ابن غزوان - بفتح الغين المعجمة وسكون الزاء المعجمة - ابن جرير الضَّبِّي مولاهم أبو الفضل الكوفي، روى عن سالم ونافع وعكرمة وغيرهم، وعنه ابنه محمد والثوري وابن المبارك ووكيع وغيرهم. ذكره ابن حبان في "الثقات" ووثَّقه أحمد وابن معين ويعقوب بن سفيان وغيرهم، قتل بعد سنة 140 هـ.
(1) أي: من دابَّته.
(2) قوله: أنه كان يقول ... إلخ، قال الزيلعي في "نصب الراية": أخرج الدارقطني والبيهقي في سننهما، عن إسماعيل بن إبراهيم الترجماني، عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام، فسلَّم من صلاته، فإذا فرغ من صلاته فليعد التي نسي، ثم ليعد التي صلَّى مع الإمام". قال الدارقطني: رفعه الترجماني ووهم في رفعه، وزاد في كتاب "العلل": والصحيح من قول ابن عمر هكذا رواه عبيد الله ومالك، عن ابن عمر. انتهى. وقال البيهقي: قد اسنده أبو إبراهيم الترجماني. وروى يحيى ابن أيوب، عن سعيد بن عبد الرحمن، فوقفه، وهو الصحيح. أما حديث مالك فهو في "الموطّأ"، وأما حديث يحيى بن أيوب، فهو في "سنن الدارقطني"، عنه، نا سعيد بن عبد الرحمن موقوفاً، ورواه النسائي عن الترجماني مرفوعاً، وقال: رفعه غير محفوظ، وأخبرني عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت يحيى بن معين، عن الترجماني. فقال:(1/584)
يَقُولُ: مَنْ نَسِيَ صَلاةً مِنْ صَلاتِهِ، فَلَمْ يَذْكُرْ (1) إِلا وَهُوَ مَعَ الإِمَامِ فَإِذَا سلَّم الإمام فليصلِّ (2) صلاته التي نسي،
__________
لا بأس به. انتهى. وكذا قال أبو داود وأحمد: ليس به بأس، ونقل ابن أبي حاتم في "علله"، عن أبي زرعة أنه قال: رفعه خطأ، والصحيح وقفه، وقال عبد الحق: في "أحكامه": رفعه سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، وقد وثقه النسائي وابن معين (انظر"تهذيب التهذيب" 11/188) : وذكر شيخنا الذهبي في "ميزانه"، عن جماعة توثيقه، وقال ابن عدي في "الكامل": لا أعلم عن عبيد الله رفعه غير سعيد بن عبد الرحمن، وقد وثقه ابن معين، وأرجو أن تكون أحاديثه مستقيمة، لكنه يهم، فيرفع موقوفاُ ويرسل مسنداً، لاعن تعمد. انتهى. فقد اضطرب كلامهم (قلت: لا يعتد بهذا الكلام) فيه، فمنهم من ينسب الوهم في رفعه لسعيد ومنهم من ينسبه للترجماني الراوي عن سعيد. وروى أحمد في "مسنده" والطبراني في "معجمه" من طريق ابن لهيعة، عن حبيب وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى المغرب ونسي العصر، فقال لأصحابه: هل رأيتموني صليت العصر؟ قالوا: لا يا رسول الله ما صلَّيتها. فأمر المؤذِّن، فأذن، ثم أقام، فصلّى العصر، ونقض الأولى ثم صلَّى المغرب. وأعلَّه الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في"الإمام" بابن لهيعة فقط، واستدل على وجوب الترتيب في الفائتة بحديث جابر أن عمر بن الخطاب يوم الخندق جعل يسبّ كفار قريش، وقال: يا رسول الله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقال رسول الله: فوالله ما صلَّيتها: فنزلنا إلى بطحان فتوضأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وتوضأنا، فصلّى العصر بعد ما غربت الشمس، وصلّى بعدها المغرب، أخرجه البخاري ومسلم.
(1) أي: فلا يقطع، فحذف جواب الشرط.
(2) وبه قال الأئمة الثلاثة، فقال الشافعي: يَعتدُّ بصلاته مع الإمام ويقضي الذي ذَكَر، كذا ذكره الزرقاني.(1/585)
ثُمَّ ليصلِّ بَعْدَهَا الصَّلاةَ (1) الأُخْرَى.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (2) إِلا فِي خِصْلَةٍ وَاحِدَةٍ: إِذَا ذكرها وهو
__________
(1) التي صلَّاها مع الإمام.
(2) قوله: وبهذا نأخذ، وهو قول النخعي والزهري وربيعة ويحيى الأنصاري والليث، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، ومالك، وأحمد واسحاق وهو قول عبد الله بن عمر. وقال طاووس: الترتيب غير واجب. وبه قال الشافعي وأبو ثور وابن القاسم وسحنون، وهو مذهب الظاهرية. ومذهب مالك وجوب الترتيب، لكن لا يسقط بالنسيان ولا بضيق الوقت ولا بكثرة الفوائت. كذا في "شرح الإرشاد"، وفي "شرح المجمع الصحيح": المعتمد عليه من مذهب مالك (قال ابن العربي: قال الإمام مالك وأبو حنيفة: ومعنى قول أحمد واسحاق أن الترتيب فيهما واجب مع الذكر ساقط مع النسيان ما لم يتكرر فيكثر، وقال الشافعي وأبو ثور: لا ترتيب فيها فإن ذكرها وهو في صلاة حاضرة فلا يخلو أن يكون وحده أو وراء إمام، فإن كان وحده بطلت وصلَّى الفائتة، وأعاد التي كان فيها، وإن كان وراء إمام أتمَّ معه ثم صلَّى التي نسي، ثم أعاد التي صلَّى مع الإمام، هذا هو مذهبنا وبه قال أبو حنيفة وأحمد واسحاق، وقال الشافعي: التي نسي خاصة. 1 هـ.
قلت: الترتيب واجب عند الإمام أحمد كما قاله ابن قدامة في المغني 1/645، ولا يسقط عنده بالكثرة أيضاً خلافاً للحنفية والمالكية إذ قالوا بسقوطه بالكثرة. هامش الكوكب الدري 1/208) سقوط الترتيب بالنسيان، كما نطقت به كتب مذهبه. وعند أحمد لو تذكر الثانية في الوقتيّة يتمُّها، ثم يصلِّي الفائتة ثم يعيد الوقتيّة، وذكر بعض أصحابه أنها تكون نافلة، وهذا يفيد وجوب الترتيب. واستدل صاحب"الهداية" وغيره لمذهبنا بما رواه الدارقطني ثم البيهقي في سننهما، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نسي صلاة فلم يدركها إلاَّ وهو مع الإمام فليتم صلاته، فإذا فرغ فليعد الذي نسي، ثم ليعد التي صلاها مع الإمام". واستدل من يرى وجوب الترتيب ايضاً بقوله عليه السلام:(1/586)
فِي صَلاةٍ فِي آخِرِ وَقْتِهَا يَخَافُ إِنْ بَدَأَ بِالأُولَى (1) أَنْ يَخْرُجَ وَقْتُ هَذِهِ الثَّانِيَةِ (2) قَبْلَ أَنْ يصلِّيها، فَلْيَبْدَأْ (3) بِهَذِهِ الثَّانِيَةَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا، ثُمَّ يصلِّي الأُولَى بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.
62 - (بَابُ الرَّجل يصلِّي (4) الْمَكْتُوبَةَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ يُدْرِكُ الصَّلاةَ (5))
217 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا زَيْدُ (6) بْنُ أسلم، عن رجل من بني
__________
"لا صلاة لمن عليه صلاة" قال أبو بكر: هو باطل. وتأوَّله جماعة على معنى لا نافلة لمن عليه فريضة، وقال ابن الجوزي: هذا نسمعه على ألسنة الناس وما عرفنا له أصلاً، كذا في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعيني - رحمه الله - ولابن الهمام في "فتح القدير" في هذا البحث تحقيقات نفيسة ملخصها ترجيح قول الشافعي، وكون ما ذهب إليه أصحابنا وغيرهم من اشتراط أداء القضاء قبل الأداء لصحة الأداء عند سعة الوقت والتذكُّر مستلزماً لإثبات شرط المقطوع به بظنّيٍ المستلزم للزيادة بخبر الواحد على القاطع وهو خلاف ما تقرر في أصولهم. وقال ابن نجيم المصري صاحب "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" وغيره في كتابه "فتح الغفَّار بشرح المنار": قول أصحابنا بأن الترتيب واجب يفوت الجواز بفوته مشكل جداً، ولا دليل عليه وتمامه في "فتح القدير".
(1) أي: بالفائتة.
(2) أي: الوقتية.
(3) لأن من ابتلي ببليتين يختار أهونهما.
(4) أي: منفرداً (في نسخة مفرداً) .
(5) أي: في الجماعة.
(6) العدوي مولاهم المدني.(1/587)
الدِّيل (1) يُقَالُ لَهُ بُسْرُ (2) بْنُ مِحْجَنٍ، عَنْ أَبِيهِ (3) (4) : أَنَّهُ (5) كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأذِّن (6) بِالصَّلاةِ، فَقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي،
__________
(1) قوله: الدِّيل، بكسر الدال وسكون الياء عند الكسائي وأبي عبيد ومحمد بن حبيب وغيرهم، وقال الأصمعي وسيبويه والأخفش وغيرهم: الدُّئل بضم الدال وكسر الهمزة وهو ابن بكر بن عبد مناف بن كنان، كذا قال الزرقاني.
(2) تابعي صدوق كذا في "التقريب".
(3) قوله: عن أبيه، محجن الدِّيلي، من بني الدئل بن بكر بن عبد مناف، معدود في أهل المدينة، روى عنه ابنه بسر بن محجن، ويقال: بشر بن محجن. وقال أبو نعيم: الصواب بسر. وذكر الطحاوي عن أبي داود البرنسي، عن أحمد بن صالح المصري قال: سألت جماعة من ولده من رهطه، فما اختلف عليَّ منهم اثنان أنه بشر (في بعض النسخ: "بسر"، وهو تحريف. انظر تهذيب التهذيب 1/489) ، كما قال الثوري، قال أبو عمر (في الأصل: "أبو عمرو"، والصواب: "أبو عمر") : مالك يقول بسر، والثوري يقول بشر والأكثر على ما قال مالك، كذا في "الاستيعاب في أحوال الأصحاب" (انظر أيضاً أوجز المسالك 3/20) لابن عبد البر.
(4) محجن بن أبي محجن الديلي، صحابي قليل الحديث، قاله الزرقاني، وضبطه القاري بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الجيم.
(5) قوله: أنه كان ... إلخ، هذا الحديث أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" والنسائي وابن خزيمة والحاكم كلهم من رواية مالك، عن زيد به، وأخرج الطبراني عن عبد الله بن سرجس مرفوعاً: "إذا صلّى أحد في بيته ثم دخل المسجد والقوم يصلّون فليصل معهم وتكون له نافلة".
(6) أي: أقيم.(1/588)
وَالرَّجُلُ (1) فِي مَجْلِسِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تصلِّي مَعَ النَّاسِ (2) ؟ أَلَسْتَ (3) رَجُلا مُسْلِمًا؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي قَدْ كُنْتُ (4) صلَّيت فِي أَهْلِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا جِئْتَ (5) فصلِّ مَعَ النَّاسِ وَإِنْ (6) كُنْتَ قَدْ صلَّيت.
218 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ (7) نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عمر (8) كان يقول:
__________
(1) قوله: والرجل في مجلسه، هذا الرجل هو محجن نفسه، قد أبهم نفسه لما أخرجه الطحاوي من طريق ابن جريج، عن زيد بن أسلم، عن بشر بن محجن، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآه وقد أقيمت الصلاة، قال: فجلست ولم أقم للصلاة فلمّا قضى صلاته، قال لي: ألست مسلماً؟ قلت: بلى، قال: ما منعك أن تصلِّي معنا؟ فقلت: قد كنت صليت مع أهلي، فقال: صلِّ مع الناس وإن كنت قد صليت مع أهلك. وأخرج من طريق سليمان بن بلال، عن زيد، عن ابن محجن، عن أبيه قال: صليت في بيتي الظهر والعصر وخرجت إلى المسجد ودخلت ورسول الله جالس وحوله أصحابه ثم أقيمت الصلاة (أخرجه النسائي في كتاب الإمامة، 53 باب إعادة الصلاة مع الجماعة. وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/244) .
(2) الذين صلوا معي.
(3) قال الباجي: يحتمل الاستفهام، ويحتمل التوبيخ، وهو الأظهر.
(4) فيه أنَّ من قال: صلَّيت يوكل إلى قوله لقبوله عليه السلام منه قوله صليت، قاله ابن عبد البر.
(5) إلى المسجد.
(6) وصلية.
(7) في نسخة: أخبرنا.
(8) قوله: أن ابن عمر كان يقول ... إلخ، عن ابن عمرقال: "إن كنت قد صَّليت في أهلك ثم أدركت الصلاة في المسجد مع الإمام فصلِّ معه غير صلاة الصبح والمغرب، فإنهما لا يصليان مرتين، رواه عبد الرزاق، والعصر في حكم(1/589)
من صلّى صلاة المغرب أوالصبح، ثُمَّ أَدْرَكَهُمَا فَلا (1) (2) يُعِيدُ لَهُمَا غَيْرَ مَا قد صلاهما.
__________
الصبح. وعن علي قال: إذا أعاد المغرب شفع بركعة. رواه ابن أبي شيبة، وهو محمول على فرض وقوعه، فإنه أولى من الإقتصار على الثلاث. وعن ابن عمر: أنه سئل عن الرجل يصلي الظهر في بيته. ثم يأتي المسجد والناس يصلون فيصلي معهم، فأيَّتهما صلاته؟ قال: الأولى منها صلاته. وعن علي في الذي يصلي وحده ثم يصلي في الجماعة؟ قال صلاته الأولى رواه ابن أبي شيبة.
وأما ما في سنن أبي داود والنسائي، عن سليمان بن يسار قال: أتيت ابن عمر على البلاط، وهم يصلون، قلت ألا تصلي معهم؟ قال: قد صلَّيت، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تصلوا صلاة في يوم مرتين"، فمحمول على أنه قد صلى تلك الصلاة جماعة، لمَّا روى في "الموطأ" عن نافع أنَّ رجلاً سأل ابن عمر عن الذي يصلِّي في بيته ثم يدرك الصلاة مع الجماعة أيَّتهما يجعل صلاته؟ فقال: ليس ذلك إليك، إنما ذلك إلى الله، يجعل أيتهما شاء. وقال مالك: هذا من ابن عمر دليل على أنه إنما أراد إذا أدَّى كلتيهما على وجه الفرض أو اذا صلَّى في جماعةٍ فلا يعيد. قال إبن الهمام: فيه نفي لقول الشافعية بإباحة الإعادة مطلقاً وإن صلَّاها في جماعة. والله أعلم. كذا في "سند الأنام في شرح مسند الإمام"، لعلي القاري.
(1) قوله: فلا يعيد لهما، إلى هذا ذهب الأوزاعي والحسن والثوري ولا يرد النهي عن الصلاة بعد العصر لأنَّ ابن عمر كان يحمله على أنه بعد الإصفرار، وذهب أبو موسى والنعمان بن مقرَّن وطائفة إلى ما قال مالك: لا أرى بأساً أن يصلي مع الإمام من كان قد صلَّى في بيته إلاَّ صلاة المغرب، فإنه إذا أعادها كانت شفعاً فينافي أنه وتر صلاة النهار، وقال الشافعي والمغيرة: تعاد الصلوات كلها بعموم حديث محجن، وقال أبو حنيفة لا يعيد الصبح ولا العصر ولا المغرب، كذا في"شرح الزرقاني"
(2) للنهي عن الصلاة بعد الصبح، ولأن النافلة لا تكون (في الأصل: "لا يكون" وهو التحريف) وتراً.(1/590)
219 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَفِيفُ (1) بْنُ عَمْرِو (2) السَّهْمِيُّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَنَّهُ سَأَلَ (3) أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ، فَقَالَ: إِنِّي أُصَلِّي ثُمَّ آتِي الْمَسْجِدَ فَأَجِدُ الإِمَامَ يُصَلِّي (4) ، أَفَأُصَلِّي مَعَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، صلِّ (5) مَعَهُ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَهُ (6) مِثْلُ سَهْمِ جَمْعٍ أَوْ (7) سَهْمُ جَمْعٍ.
__________
(1) مقبول في الرواية، كذا ذكره في "التقريب".
(2) بفتح العين.
(3) قوله: أنه سأل أبا أيوب، اسمه خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبه بن عبد بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار، شهد بدراً وأحداً والخندق وسائر المشاهد مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتوفي بالقُسطَنطِينية من أرض الروم سنة 50 هـ، قيل: سنة 51 هـ في إمارة معاوية، كذا في "الاستيعاب".
(4) أي: تلك الصلاة.
(5) هذا الحديث موقوف، له حكم الرفع وقد صرَّح برفعه بكير، عن عفيف، رواه أبو داود.
(6) قوله: فله مثل سهم جمع، قال الباجي: قال ابن وهب: معناه له سهمان من الأجر، وقال الأخفش الجمع: الجيش، قال الله تعالى: (سيهزم الجمع) ، قال: وسهم الجمع هو السهم من الغنيمة. قال الباجي: ويحتمل عندي أن ثوابه مثل سهم الجماعة من الأجر، ويحتمل أن يريد به مثل سهم من يبيت بمزدلفة في الحج، لأن جمعاً اسم مزدلفة، حكاه سحنون عن مطرف ولم يعجبه، كذا في "التنوير".
(7) شك في الراوي.(1/591)
قال محمد: وبهذا (1) نأحذ. ونأخذ بقول (2) ابن عمر أيضاً أن
__________
(1) قوله: وبهذا كلِّه نأخذ، أي: إذا صلَّى الرجل في أهله ثم دخل المسجد فليصلِّ به معهم فيكون له نافلة، لما مر من الأخبار، ولما أخرجه مسلم، عن أبي ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: كيف أنت إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة؟ قلت: فما تأمرني؟ قال: صلِّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصلِّ، فإنها لك نافلة. وأخرج نحوه من حديث ابن مسعود. وفي الباب أحاديث كثيرة، ويعارضها ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان، عن ابن عمر مرفوعاً: "لا تصلّوا صلاة يوم مرتين"، ودفعها بعضهم بأنه محمول على ما إذا صلى أولاً في جماعة فلا يعيد مرة أخرى، وفيه أنه أخرج الترمذي وابن حبان والبيهقي عن أبي سعيد الخدري: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر فدخل رجل فقام يصلّي الظهر، فقال: ألا رجل يتصدَّق على هذا؟ وفي رواية للبيهقي: أن الداخل هو عليّ، فقام أبو بكر فصلّى خلفه، وكان صلّى مع النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا صريح في جواز إعادة (أي إعادة مع الإمام؛ قال الباجي: اختلف الناس فيما يعاد من الصلوات مع الإمام. فقال مالك: تعاد الصلوات كلها إلاَّ المغرب، وقال الشافعي: تعاد كلها، وقال أبو حنيفة: يعيد الظهر والعشاء ولا يعيد غيرها، كذا في الأوجز 3/19. قال ابن رشد: الذي دخل المسجد وقد صلّى لا يخلو من أحد وجهين: إما صلّى منفرداً، وإما أن يكون صلّى في جماعة، فإن صلّى منفرداً فقال قوم: يعيد كل الصلوات إلا المغرب، وممن قال به مالك وأصحابه، وقال أبو حنيفة: يعيد الصلوات كلها إلا المغرب والعصر، وقال الأوزاعي إلا المغرب والصبح، وقال أبو ثور: إلا العصر والفجر، وقال الشافعي: يعيد كلها، وأما إذا صلّى جماعةً قال ابن رشد: أكثر الفقهاء على أنه لا يعيد، منهم مالك وأبو حنيفة، وقال أحمد: يعيد. كذا في بداية المجتهد 1/152 و 153) الصلاة بالجماعة بعد أدائها بالجماعة، فالأولى في دفع المعارضة أن يقال: معناه لا تصلّوا على وجه الافتراض بأن تجعلوا كلتيهما فريضة، بل الأولى فريضة والثانية نافلة (أي إعادة مع الإمام؛ قال الباجي: اختلف الناس فيما يعاد من الصلوات مع الإمام. فقال مالك: تعاد الصلوات كلها إلاَّ المغرب، وقال الشافعي: تعاد كلها، وقال أبو حنيفة: يعيد الظهر والعشاء ولا يعيد غيرها، كذا في الأوجز 3/19. قال ابن رشد: الذي دخل المسجد وقد صلّى لا يخلو من أحد وجهين: إما صلّى منفرداً، وإما أن يكون صلّى في جماعة، فإن صلّى منفرداً فقال قوم: يعيد كل الصلوات إلا المغرب، وممن قال به مالك وأصحابه، وقال أبو حنيفة: يعيد الصلوات كلها إلا المغرب والعصر، وقال الأوزاعي إلا المغرب والصبح، وقال أبو ثور: إلا العصر والفجر، وقال الشافعي: يعيد كلها، وأما إذا صلّى جماعةً قال ابن رشد: أكثر الفقهاء على أنه لا يعيد، منه مالك وأبو حنيفة، وقال أحمد: يعيد. كذا في بداية المجتهد 1/152 و 153) .
(2) قوله: بقول ابن عمر، ويشيِّده ما أخرجه الطحاوي، عن ناعم مولى أم سلمة قال: كنت أدخل المسجد لصلاة المغرب فأرى رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوساً في آخر المسجد والناس يصلون. قد صلوا في بيوتهم.(1/592)
لا نُعِيدَ (1) صَلاةَ الْمَغْرِبِ وَالصُّبْحِ (2) لأَنَّ الْمَغْرِبَ وِتْرٌ (3) ، فَلا يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ التَّطَوُّعَ وِتْرًا، وَلا صَلاةَ تَطَوُّعٍ بَعْدَ الصُّبْحِ، وَكَذَلِكَ (4) الْعَصْرُ
__________
(1) قوله: لا نعيد، فإن أعاد صلاة المغرب لأمر عرضه فليشفع بركعة كما أخرجه ابن أبي شيبة، عن علي والطحاوي، عن إبراهيم النخعي، وبه صرح محمد في كتاب "الآثار".
(2) قوله: والصبح، يرد عليه ما أخرجه أبو داود والترمزي والنسائي وأحمد والدارقطني والحاكم، وصححه ابن السكن كلهم من طريق العلاء بن عطاء، عن جابر بن يزيد بن الأسود، عن أبيه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجته، فصلّيت معه الصبح في مسجد الخيف، فلما قضي صلاته وانحرف إذا هو برجلين في آخر القوم لم يصلَّيا معه، فقال: علي بهما، فجيء بهما، ترعد فرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصلَّيا معنا؟ فقالا: يا رسول الله، إنا كنا قد صلَّينا فر رحالنا، قال: فلا تفعلا، إذا صلَّيتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكم نافلة. وأجيب عنه بأنه حديث ضعيف. إسناده مجهول قاله الشافعي، قال البيهقي: لأن يزيد بن الأسود ليس له راوٍ غير ابنه ولا لابنه جابر غير العلاء، وفيه أن العلاء من رجال مسلم ثقة، وجابر وثقه النسائي وغيره، وقد تابع العلاء عن جابر عبد الملك بن عمير، أخرجه ابن مندة في كتاب "المعرفة"، كذا ذكره الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث الرافعي". وقد يجاب بأن هذا الحديث لعله قبل حديث النهي عن التطوع بعد صلاة الصبح، وفيه أن النسخ لا يثبت بمجرد الإحتمال، فالأولى في أن يقال: قد عارض هذا الحديث حديث النهي فرجحنا حديث النهي لأن المحرِّم مقدمٌ على المبيِح احتياطاً، وفي المقام كلامٌ ليس هذا موضعه.
(3) إذ لم يشرع لنا التطوُّع وتراً، وهذا التعليل أحسن من تعليل مالك بأنه إذا أعادها كانت شفعاً، قاله ابن عبد البر.
(4) لكراهة التطوع بعد صلاة العصر لما مر من الأحاديث.(1/593)
عِنْدَنَا، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرِبِ وَالصُّبْحِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
63 - (بَابُ الرَّجُلِ تَحْضُرُهُ الصَّلاةُ وَالطَّعَامُ بِأَيِّهِمَا (1) يَبْدَأُ)
220 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يقرَّب (2) إِلَيْهِ الطَّعَامُ، فَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإِمَامِ وَهُوَ فِي بيته فلا يعجل (3)
__________
(1) قوله: بأيهما يبدأ، الحديث فيه مشهور بلفظ: "إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدؤا بالعشاء" (انظر إلى مرقاة المصابيح 2/69، ثم إن لفظ "العشاء" بالفتح، هو طعام العشي أيضاً يشير إلى أن الصلاة هي صلاة المغرب، عمدة القاري 2/727.
قال القاضي - أي أبو الوليد الباجي - فالحق أن الأمر بالابتداء بالعشاء ليس على الإطلاق وإنما معناه إلى الطعام صائماً كان أو غير صائم، لكن طعامهم ما كان على مقدار طعامنا اليوم في الكثرة. بل على القصد والقناعة بما فيه البلغة فيبتدئ المحتاج بقدر ما يدفع طوقانه ويتفرغ قلبه للإقبال على صلاته. اهـ. ثم إن الأمر لندب عند الجمهور وللوجوب عند الظاهرية حتى إنّ من صلّى والطعام حضر فصلاته باطلة كما في عمدة القاري 2/726) ، رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس، والشيخان عن ابن عمر، وابن ماجة عن عائشة. والحكمة في ذلك أن لا يكون الخاطر مشغولاً به، فالأكل المخلوط بالصلاة خير من الصلاة المخلوطة بالأكل، هذا إذا كان الوقت واسعاً، والتوجه إلى الأكل شاغلاً، كذا في "سند الأنام شرح مسند الإمام أبي حنيفة" لعليّ القاري.
(2) مجهول.
(3) قوله: فلا يعجل ... إلخ، استدل بعض الشافعية والحنابلة بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعشاء" على تخصيص ذلك لمن(1/594)
عَنْ طَعَامِهِ حَتَّى يَقْضِيَ مِنْهُ (1) حَاجَتَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا نَرَى بِهَذَا بَأْسًا، وَنُحِبُّ (2) أَنْ لا نَتَوَخَّى تِلْكَ السَّاعَةَ.
64 - (بَابُ فَضْلِ الْعَصْرِ وَالصَّلاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ)
221 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ: أَنَّهُ رَأَى عُمَرَ بن الخطاب يضرب (3) المنكدرة (4) بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ (5) بَعْدَ الْعَصْرِ.
__________
لم يبدأ، وأما من شرع فيه، ثم أقيمت الصلاة فلا يتمادى، بل يقوم إلى الصلاة، لكن صنيع ابن عمر يبطل ذلك، قال النووي: وهو الصواب وتعقبه بأن صنيع ابن عمر اختيار له، وإلا فالنظر إلى المعنى يقتضي ذلك لأنه قد يكون أخذ من الطعام ما يدفع به شغل البال، كذا في "إرشاد الساري".
(1) أي: يفرغ من أكله حسب قصده.
(2) أي: ينبغي أن لا يقصد تلك الساعة أي ساعة إقامة الصلاة بالشغل بالطعام، بل يفرغ عنه قبل ذلك.
(3) قوله: يضرب المنكدر، فيه ما كان عليه عمر من تفقُّد أمر من استرعاه الله، وكذلك يلزم للأمراء والسلاطين.
(4) القرشي التَّيمي المدني، مات سنة 80 هـ.
(5) قوله: في الركعتين بعد العصر، مذهب مالك في ذلك هو مذهب عمر وأبي سعيدٍ الخدري وأبي هريرة روَوْا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب. وحسبك بضرب عمر على ذلك بالدِّرَّة، ولا يكون ذلك إلاَّ عن بصيرة، وكذلك ابن عبَّاس روى الحديث في ذلك(1/595)
قال محمد: وبهذا نأخذ، لاصلاة تطوُّع (1) بَعْدَ الْعَصْرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
222 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابن عمر قال (2) : الذي يفوته (3)
__________
عن عمر، وقال بظاهره وعمومه، وقال الشافعي: إنما النهي بعد الصبح والعصر عن التطوُّع المبتدأ والنَّافلة، وأما الصلاة المفروضة والمسنونة فلا، وقال آخرون التطوُّع بعد العصر جائزٌ لحديث عائشة: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر. وأما بعد الصبح فلا، وهذا قول داود بن علي، وقال آخرون: لا يصلَّى شيء من الصلوات بعد الصبح وبعد العصر، إلاَّ عصر يومه (وتحرَّم عند الحنابل النَّوافل في هذه الأوقات الخمسة أي عند الطلوع والغروب، والأستواء وبعد الفجر والعصر مطلقاً سواء كانت ذات سبب أولا، بمكة وغيرها إلاَّ سنة الظهر في الجمع بين الصلاتين وإلاَّ ركعتي الطواف، ويجوز القضاء والنذر في هذه الأوقات كلَّها.
وأما عند الشافعية فتجوز النوافل ذات السبب أيضاً وغير ذات السبب أيضاً بمكة، فلا يجوز سنة الظهر في المجموعة، والمراد بذات السبب ما تقدَّم سببه كتحيَّة الوضوء وغيرها، وأما ماله سبب متأخر كصلاة الإستخارة والإحرام فلا يجوز أيضاً. وأما عند المالكية فمنع غير المكتوبة حتى صلاة الجنازة أيضاً عند الطلوع والغروب وكرهه بعد الصبح والعصر إلا الجنازة وسجدة التلاوة قبل الإسفار والإصفرار. وأما عند الحنفية فلا تجوز الصلاة مطلقاً في الأوقات الثلاث الأُوَل إلاَّ عصر يومه إلاَّ جنازة حضرت فيها، والوقتان الأخيران من الخمسة لا يجوز فيهما النوافل. الكوكب الدري 1/214) وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، كذا في "الإستذكار".
(1) وأما الفائتة وعصر يومه فجائزٌ أداؤه.
(2) هكذا وجدته موقوفاً في نسخٍ عديدة، وفي "موطأ يحيى" هو مرفوع.
(3) قوله الذي يفوته، قال السيوطي في "التنوير" اختُلِف في معنى(1/596)
العصر (1) كأنما وتر (2) أهله (3) وماله.
__________
الفوات في هذا الحديث، فقيل هو فيمن لم يصلِّها في وقتها المختار، وقيل أن تفوت بغروب الشمس، قال الحافظ مغلطاي: في "موطأ ابن وهب" قال مالك: تفسيره ذهاب الوقت وقال ابن حجر: قد أخرج عبد الرزاق هذا الحديث من طريق ابن جريج، عن نافع، وزاد في آخره قلت لنافع: حتى تغيب الشمس؟ قال: نعم، قال: وتفسير الراوي إذا كان فقيهاً أولى وقد ورد مصرَّحاً برفعه في ما أخرجه ابن أبي شيبة، عن هشيم، عن حجاج، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً: "من ترك العصر حتى تغيب الشمس من غير عذر فكأنَّما وُتِر أهله وماله"، وقيل هو تفويتها إلى أن تصفرَّ الشمس وقد ورد مفسَّراً من رواية الأوزاعي في هذا الحديث، قال فيه: وفواتها أن تدخل الشمس صفرة، أخرجه أبو داود، قال الحافظ: لعله مبني على مذهبه في خروج وقت العصر، وقالت طائفة المراد فواتها في الجماعة. وروي عن سالم أنه في من فاتته نسياناً، ومشى عليه الترمذي، وقال الداودي: إنما هو في العامد، قال النووي: هو الأظهر.
(1) قوله: العصر، اختلف في تخصيص صلاة العصر، فقيل: نعم لزيادة فضلها، ولأنها الوسطى، ولأنها تأتي في وقت تعب الناس في مقاسات أعمالهم وحرصهم على قضاء أشغالهم، ولاجتماع المتعاقبين فيها، وهذا ما رجَّحه الرافعي في "شرح المسند" والنووي في "شرح مسلم".
(2) قوله: وُتِر، معناه عند أهل الفقه واللغة كالذي يصاب بأهله وماله إصابة يطلب بها وتراً، والوتر الجناية التي يطلب ثأرها، فيجتمع عليه غمَّان، غمّ المصيبة وغم مقاساة طلب الثأر، ولذا قال: وتر، ولم يقل مات، كذا في "الإستذكار".
(3) قوله: أهله وماله، قال النووي: رُوي بنصب اللامين ورفعهما والنصب هو المشهور على أنه مفعول، ومن رفع فعلى ما لم يسمَّ فاعله، ومعناه انتزع منه أهله وماله، وهذا تفسير مالك. وأما على النصب، فقال الخطابي وغيره: معناه(1/597)
65 - (بَابُ وَقْتِ الْجُمُعَةِ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الطِّيبِ وَالدِّهَانِ (1))
223 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي عمِّي أَبُو سُهَيْلِ (2) بْنُ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ أَرَى طِنْفَسَةً (3) لِعَقِيلِ (4) بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تُطْرَحُ إِلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ (5) الْغَرْبِيِّ (6) ، فَإِذَا غَشِيَ (7) الطنفسة كلَّها
__________
نقص أهله وماله وسلبهم، فبقي وتراً بلا أهل ومال، فليحذر من تفويتها كحذره من ذهاب أهله وماله، كذا في "التنوير".
(1) قوله والدهان، بكسر الدال مصدر دهنه ككتاب لكتبه، وفي نسخة: الدهن وهو بالفتح أيضاً مصدر.
(2) اسمه نافع.
(3) قوله طنفسة، بكسر الطاء والفاء وبضمهما وبكسر الطاء وفتح الفاء (تنوير الحوالك 1/27) : البساط الذي له خمل رقيق. ذكره في "النهاية" كذا ذكره السيوطي.
(4) أخي علي وجعفر.
(5) النبوي.
(6) صفة جدار.
(7) قوله فإذا غشي..إلخ، قال في"فتح الباري": هذا إسناد صحيح، وهو ظاهر في أن عمر كان يخرج بعد الزوال، وفهم بعضم عكس ذلك، ولا يتجه ذلك إلاَّ إذا حمل على أن الطنفسة كانت تفرش خارج المسجد، وهو بعيد. والذي يظهر أنها كانت تفرش له داخل المسجد، وعلى ذلك كان عمر يتأخر بعد الزوال قليلاً.(1/598)
ظلُّ الْجِدَارِ (1) خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الصَّلاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ نَرْجِعُ فَنُقِيلُ (2) قَائِلَةَ الضَّحَاءِ (3) .
224 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عمر كان لا يروح (4)
__________
(1) قوله ظل الجدار، روى هذا الحديث عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك، عن عمه، عن أبيه، فقال فيه: كان لعقيل طنفسة مما يلي الركن الغربي، فإذا أدرك الظل الطنفسة خرج عمر يصلِّي الجمعة، ثم نرجع فنقيل. وروى حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن مالك بن أبي عامر أن العباس كانت له طنفسة في أصل جدار المسجد عرضها ذراعان أو ثلاث، وكان طول الجدار ست عشر ذراعاً إلى ثمانية عشر، فإذا نظر إلى الظل قد جاوز الطنفسة أذن المؤذن، وإذا أذن المؤذن نظرنا إلى الطنفسة فإذا الظل قد تجاوزها.
والمعنى في طرح الطنفسة لعقيل عند الجدار الغربي من المسجد أنه كان يجلس عليها، ويجتمع عليه، وأدخل مالك هذا الحديث دليلاً على أن عمر لم يكن يصلِّي الجمعة إلاَّ بعد الزوال رداً على من حكى عنه وعن أبو بكر أنهما كانا يصلِّيان الجمعة قبل الزوال، كذا في "الاستذكار".
(2) قوله: فنقيل، أي أنهم كانوا يقيلون في غير الجمعة قبل الزوال وقت القائلة ويوم الجمعة يشتغلون بالغسل وغيره فيقيلون بعد صلاتها القائلة التي يقيلونها في غير يومها قبل الصلاة.
(3) قوله: الضَّحاء، قال البوني: بفتح الضاد والمد، هو اشتدادا النهار، فأما بالضم والقصر فعند طلوع الشمس مؤنث (انظر شرح الزرقاني 1/25) .
(4) أي: لا يذهب.(1/599)
إِلَى الْجُمُعَةِ إِلا وَهُوَ (1) مدَّهنٌ متطِّيب إِلا أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا (2) .
225 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنِ السَّائِبِ (3) بْنِ يَزِيدَ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَادَ (4) النِّدَاءَ الثَّالِثَ يوم الجمعة.
__________
(1) قد مرَّ ما يدل على استحباب ذلك في (باب الإغتسال يوم الجمعة) .
(2) فإنَّ المحرم ممنوع عنه.
(3) قوله: عن السائب بن يزيد..إلخ، نا أدم قال: نا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة، عند ابن خزيمة: كان ابتداء الأذان الذي ذكر الله في القرآن يوم الجمعة، وعنده ايضاً من طريق أخرى: كان الأذان على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة، قال ابن خزيمة: يريد الأذان والإقامة، أوله إذا جلس الإمام على المنبر، في رواية لابن خزيمة: إذا خرج الإمام وإذا أقيمت الصلاة، وعند الطبراني كان يؤذن بلال على باب المسجد على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان - أي خليفة - وكثر الناس، زاد النداء الثالث، ولابن خزيمة: فأمر عثمان بالأذان الأول، ولا منافاة بينهم لأنه باعتبار كونه مزيداً يسمى ثالثاً وباعتبار كونه مقدماً يسمى أولاً، على الزَّوراء، بفتح الزاء وسكون الواو بعدها راء مهملة ممدودة، قال المصنف: الزَّوراء موضع بالسوق بالمدينة، قال الحافظ: ما فسِّر به الزوراء هو المعتمد، وجزم ابن بطال بأنه حجر كبير عند باب المسجد، وفيه نظر لما عند ابن خزيمة وابن ماجة، بلفظ: زاد النداء الثالث على دار في السوق يقال لها الزَّوراء، كذا في "ضياء الساري شرح صحيح البخاري".
(4) قوله: زاد..إلخ، الذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك لكونه خليفة مطاع الأمر، لكن ذكر الفاكهي أن أول من أحدث الأذان الأول يوم الجمعة بمكة الحجَّاج، وبالبصرة زياد، وبلغني أن أهل المغرب(1/600)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (1) كلِّه نَأْخُذُ، وَالنِّدَاءُ الثَّالِثُ الَّذِي زِيدَ (2) هُوَ النِّدَاءُ الأَوَّلُ (3) ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة - رحمه الله -.
__________
الأدنى الآن لا تأذين لهم للجمعة إلاَّ مرة، وورد ما يخالف الباب وهو أن عمر هو الذي زاد الأذان، ففي تفسير جويبر عن مكحول، عن معاذ: أن عمر أمر مؤذِّنين أن يؤذنا للناس يوم الجمعة خارجاً من المسجد حتى يسمع الناس، وأمر أن يؤذن بين يديه، كما كان على عهد رسول الله وأبي بكر، وقال: نحن ابتدعناه لكثرة المسلمين، وهذا منقطع بين مكحول ومعاذ، ولا يثبت، وقد تواردت الروايات على أن عثمان هو الذي زاده، فهو المعتمد، وروى ابن أبي شيبة، عن ابن عمر قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة، فيحتمل أن يكون قاله على سبيل الإنكار ويحتمل أن يريد أنه لم يكن في عهد رسول الله، وكل ما لم يكن في زمنه يسمَّى بدعة لكنها منها ما يكون حسناً، ومنها ما يكون بخلاف ذلك كذا في "فتح الباري" (2/327، وعمدة القاري 2/291.
ثم هذا الأذان الذي زاده عثمان رضي الله عنه وإن لم يكن في عهد النبوة لكن لا يقال إنه بدعة، فإنه من مجتهدات الخليفة الراشد. قال العيني باجتهاد عثمان وموافقة سائر الصحابة له بالسكوت وعدم الإنكار فصار إجماعاً سكوتياً. اهـ)
(1) قوله: وبهذا، أي: بما أفادته هذه الأحاديث المذكورة في الباب من خروج الإمام للجمعة بعد الزوال والتعجيل في أداء الجمعة واستعمال الدهن والطيب إلاَّ لمانع وزيادة الأذان الأول وغير ذلك.
(2) في زمان عثمان.
(3) وأما الأذان الثاني وهو بين يدي الخطيب والنداء الثالث وهو الإقامة، فهما مأثوران من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.(1/601)
66 - (بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي صَلاةِ الْجُمُعَةِ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الصَّمْتِ (1))
226 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا ضَمْرَةُ (2) بْنُ سعيدٍ (3) الْمَازِنِيُّ (4) ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ (5) ، أنَّ الضَّحَّاكَ (6) بْنَ قَيْسٍ سَأَلَ النُّعْمَانَ (7) بْنَ بَشِيرٍ مَاذَا كَانَ يَقْرَأُ به رسول الله صلى الله عليه وسلم على إثر (8) سورة
__________
(1) بالفتح، بمعنى السكوت.
(2) قوله: ضمرة بن سعيد المازني، عن أبي سعيد وأنس وعدة، وعنه مالك وبن عيينة، وثقوه، كذا في "الكاشف" للذهبي.
(3) ابن أبي حنَّة.
(4) من بني مازن بن النجَّار.
(5) ابن مسعود.
(6) قوله: إنَّ الضحاك، هو الضحاك بن قيس بن خالد بن وهب بن الفهري أبو أنيس الأمير المشهور، صحابي، قتل في وقعة مرج راهط سنة 64 هـ، قاله الزرقاني وغيره.
(7) قوله: النعمان، الأنصاري الخزرجي، له ولأبيه صحبة، ثم سكن الشام ثم ولي إمرة الكوفة، ثم قتل بحمص، سنة 65 هـ، قاله الزرقاني وغيره.
(8) قوله: على إثر سورة الجمعة، قال أبو عمر (في الأصل: "أبو عمرو") هذا يدل على أنه كان يفردها، فلم يحتج إلى السؤال لعلمه به، ويدل على أنه لو كان يقرأ معها شيئاً واحداً لعلمه كما علم سورة الجمعة، ولكنه كان مختلفاً فسأل عن الأغلب، وقد اختلف الآثار فيه والعلماء، وهو من الاختلاف المباح الذي ورد به التخبير، فروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الجمعة والعيدين (سبح اسم ربك الأعلى) و (هل أتاك) ، ويروي أنه قرأ بسورة الجمعة: و (إذا جاءك المنافقون) ، واختار هذا الشافعي،(1/602)
الْجُمُعَةِ (1) يَوْمَ الْجُمُعَةِ؟ فَقَالَ: كَانَ يَقْرَأُ (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) .
227 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ ثَعْلَبَةَ (2) بْنِ أَبِي مَالِكٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا زَمَانَ (3) عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُصَلُّونَ (4) يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَخْرُجَ عُمَرُ، فَإِذَا خَرَجَ وَجَلَسَ إِلَى الْمِنْبَرِ، وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ - قَالَ ثَعْلَبَةُ -: جَلَسْنَا نَتَحَدَّثُ (5) ، فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ وَقَامَ عُمَرُ سَكَتْنَا، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ مِنَّا.
228 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، قال: خروجه (6) (7) يقطع (8)
__________
وهو قول أبو هريرة وعلي وذهب مالك إلى ما في (الموطّأ) ، كذا في (شرح الزرقاني) .
(1) التي كانوا يقرؤونها في الركعة الأولى.
(2) قوله: عن ثعلبة، مختلف في صحبته، قال ابن معين: له رؤية، وقال ابن سعد: قدم أبوه أبو مالك، واسمه عبد الله بن سام من اليمن، وهو من كندة، فتزوج امرأة من قريظة فعرف بهم، كذا ذكره الزرقاني.
(3) أي: في خلافته.
(4) أي: النوافل.
(5) أي بالعلم ونحوه لا بكلام الدنيا.
(6) قوله: قال خروجه.. إلخ، قال أبو عمر (في الأصل: "أبو عمرو") : هذا يدل على أن الأمر بالإنصات وقطع الصلاة ليس برأي، وأنه سنة، احتج بها ابن شهاب لأنه خبر عن علم علمه، لا عن رأي اجتهده وأنه عمل مستفيض في زمن عمر وغيره.
(7) أي: خروج الإمام.
(8) أي: يمنع الشروع فيها.(1/603)
الصَّلاةَ وَكَلامُهُ (1) يَقْطَعُ الْكَلامَ.
229 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو النَّضْرِ (2) ، عَنْ مَالِكِ (3) بْنِ أَبِي عَامِرٍ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ يَقُولُ فِي خطبته - قلّما يدع (4)
__________
(1) قوله: وكلامه يقطع الكلام، بهذا أخذ أبو يوسف ومحمد ومالك والجمهور، قال أبو حنيفة: يجب الإنصات بخروج الإمام، كذا في"المرقاة". في "النهاية" و"البناية" وغيرهما: اختلف المشايخ على قوله: فقال بعضهم: يكره كلام الناس أما التسبح وغيره فلا يكره، وقال بعضهم: يكره ذلك كله، والأول أصح انتهى، وفي"الكفاية" وغيره نقلاً عن "العون": المراد بالكلام المتنازع فيه هو إجابة الأذان، فيكره عنده لا عندهما، وأما غيره من الكلام فيكره إجماعاً. انتهى. قلت: بهذا يظهر ضعف ما في "الدار المختار" نقلاً عن (النهر الفائق) ينبغي أن لا يجيب بلسانه اتفاقاً في الأذان بين يدي الخطيب، وأن يجيب اتفاقاً في الأذان الأول يوم الجمعة. انتهى. وجه الضعف أمّا أولاً: فلأنه لا وجه لعدم الإجابة عندهم لأنه لا يكره عندهما الكلام الديني قبل الشروع في الخطبة، بل لا يكره الكلام مطلقاً عندهما قبله على ما نقله جماعة بخلاف ما ينقله صاحب (العون) وغيرهم، وأما ثانياً: فلأنه لا وجه لعدم الإجابة على مذهبه أيضاً على ما هو الأصح أنه لا يكره الكلام مطلقاً بل الكلام الدنيوي، وقد ثبت في صحيح البخاري أن معاوية رضي الله عنه أجاب الأذان وهو على المنبر وقال: يا أيها الناس، إني سمعت رسول الله على هذا المجلس حين أذن المؤزن يقول مثل ما سمعتم مني مقالتي. فإذا ثبتت الإجابة عن صاحب الشرع وصاحبه فما معنى الكراهة.
(2) هو سالم بن أبي أمية المدني، ثقة.
(3) جد الإمام مالك، من ثقات التابعين.
(4) أي: يترك.(1/604)
ذَلِكَ إِذَا خَطَبَ -: إِذَا (1) قَامَ الإِمَامُ فَاسْتَمِعُوا وَأَنْصِتُوا (2) (3) فَإِنَّ لِلْمُنْصِتِ الَّذِي لا يَسْمَعُ مِنَ الْحَظِّ (4) مِثْلَ مَا لِلسَّامِعِ الْمُنْصِتِ.
230 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا أبو الزِّناد (5) ، عن الأعرج (6) عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: إذا قلت (7) لصاحبك أنصت (8)
__________
(1) هذا قوله.
(2) قوله: وأنصتوا، اختلفوا في الكلام (لا يجوز الكلام إذا كان الإمام يخطب عند أبي حنيفة ومالك، وقريب منه مذهب أحمد، وهو القول القديم للشافعي، حكاه في (شرح المهذب) 4/525، عن أبي حنيفة ومالك وأحمد والأوزاعي وكذا في (المغني) 2/169، ويجوز عند الشافعي في الجديد) حال الخطبة، فذهب طائفة من العلماء إلى أنه مكروه، وهو مذهب الثوري وداود، والصحيح من قول الشافعي، ورواية أحمد وحكي عن أبي حنيفة. وذهب الجمهور إلى أنه حرام، وهو مذهب الأئمة الثلاثة والأوزاعي. وحكي عن النخعي والشعبي وبعض أنه لا يحرم إلاَّعند تلاوة الخطيب فيها قرآناً، كذا في (ضياء الساري) .
(3) وإن لم تسمعوا لنحو صمم أو بعد.
(4) أي: النصيب من الأجر.
(5) بكسر الزاء عبد الله بن ذكوان.
(6) عبد الرحمن بن هرمز.
(7) قوله: إذا قلت لصاحبك، المراد من تخاطبه صغيراً كان أو كبيراً، قريباً أو بعيداً، وخصه لكونه الغالب.
(8) قوله: أنصت، بفتح الهمزة وكسر المهملة: أمر من الإنصات يقال: أنصت ونصت وانتصت. ثلاث لغات، والأولى هي الأفصح، قال ابن خزيمة:(1/605)
فَقَدْ (1) لَغَوْتَ (2) وَالإِمَامُ (3) يَخْطُبُ.
231 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن القاسم: أن أباه القاسم بْنَ مُحَمَّدٍ رَأَى فِي قَمِيصِهِ دَمًا وَالإِمَامُ على المنبر يوم الجمعة
__________
المراد بالإنصات السكوت عن مكالمة الناس دون ذكر الله، وتعقِّب بأنه يلزم منه جواز القراءة والذكر حال الخطبة، فالظاهر أن المراد السكوت مطلقاً، قاله الحافظ.
(1) قوله: فقد لغوت، اللغو: الكلام الذي لا أصل له من الباطل، وشبهه. وقال نفطويه: السقط من القول، وقال النضر بن شميل: معنى لغوت ضيَّعت من الأجر، وقيل: بطلت فضيلة جمعتك، ويؤيد الأخير ما في حديث أبي داود: (من لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً) . قال ابن وهب أحد رواته: معناه أجزأت عنه الصلاة، وحرم فضيلة الجمعة، ولأحمد: (من قال: صه، فقد تكلم ومن تكلم فلا جمعة له) ، وله: (من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول: أنصت ليس له جمعة) . وهذا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى لأنه إذا جعل قوله أنصت من كونه أمراً بالمعروف لغواً فغيره من الكلام أولى، كذا في (التوشيح شرح صحيح البخاري) للسيوطي.
(2) قوله: لغوت، ولمسلم: فقد لغيت، قال أبو الزناد: هي لغة أبي هريرة، وإنما هي فقد لغوت، لكن قال النووي وتبعه الكرماني: ظاهر القرآن يقتضيها إذ قال: (والغوا فيه) ، وهي من لغي يلغى، ولو كان يلغو لقال: الغُو بضم الغين (شرح الزرقاني 1/214) .
(3) قوله: والإمام، جملة حالية تفيد أن وجوب الإنصات من الشروع في الخطبة لا من خروج الإمام كما يقوله ابن عباس وابن عمر وأبو حنيفة، قاله ابن عبد البر.(1/606)
فَنَزَعَ (1) قَمِيصَهُ فَوَضَعَهُ (2) .
67 - (بَابُ صَلاةِ الْعِيدَيْنِ وَأَمْرِ الْخُطْبَةِ)
232 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ (3) مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ (4) (5) قَالَ: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فصلَّى (6) ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَخَطَبَ (7) ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ نَهَى (8) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِيَامِهِمَا يوم (9) فطركم (10) من صيامكم، والآخر يوم
__________
(1) فيه جواز فعل ما لا بد منه والإمام يخطب.
(2) أي: بين يديه أو بجنبه.
(3) اسمه سعد بن عبيد الزهري، تابعي كبير من رجال الجميع، كذا قال الزرقاني.
(4) صحابي وهو ابن أخي عبد الرحمن بن عوف.
(5) ابن أزهر بن عوف الزهري المدني.
(6) زاد عبد الرزاق: قبل أن يخطب بلا أذان وإقامة.
(7) قوله: فخطب، زاد عبد الرزاق: فقال: يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تأكلوا نسككم بعد ثلاث، فلا تأكلوا بعدها، قال ابن عبد البر: أظن مالكاً حذف هذا لأنه منسوخ.
(8) نهي تحريم.
(9) بالرفع إما على أنه خبر محذوف، أي: أحدهما، أو على البدل من يومان.
(10) قوله: يوم فطركم..إلخ، فائدة وصف اليومين الإشارة إلى العلة في وجوب فطرهما، وهي الفصل من الصوم والآخر لأجل النسك المتقرَّب بذبحه.(1/607)
تَأْكُلُونَ مِنْ لُحُومِ نُسُكِكُمْ (1) ، قَالَ (2) ثُمَّ شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُثْمَانَ (3) بْنِ عَفَّانَ، فَصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ (4) فَخَطَبَ، فَقَالَ (5) إِنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ لَكُمْ في يومكم هذا عيدان (6) ،
__________
(1) قوله: نسككم، بضم السين، ويجوز سكونها أي من أضحيتكم، قال أبو عمر (في الأصل: "أبو عمرو") : فيه أن الضحايا نسك وأن الأكل منها مستحب.
(2) أي: أبوعبيد.
(3) في زمان خلافته.
(4) ثم انصرف فخطب، اختلف في أول من غيَّر ذلك، ففي مسلم عن طارق أن أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، وروى ابن المنذر بسند صحيح، عن الحسن البصري: أول من خطب قبل الصلاة عثمان صلى بالناس ثم خطبهم، فرأى ناساً لم يدركوا الصلاة، ففعل ذلك أي: صار يخطب قبل الصلاة. وهذه العلة غير العلة التي راعى مروان، لأن عثمان راعى مصلحة الجماعة في إدراكهم الصلاة، وأما مروان فراعى مصلحتهم في سماعهم الخطبة، لكن قيل: إنهم في زمانه كانوا يتعمدون ترك سماعهم لما فيها من سبِّ من لا يستحق السب والإفراط في مدح بعض الناس فعلى هذا إنما راعى مصلحة نفسه. وروي عن عمر مثل فعل عثمان، قال عياض ومن تبعه: لا يصح عنه، وفيه نظر لأن عبد الرزاق وابن أبي شيبة روياه جميعاً، عن ابن عيينه، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن يوسف بن عبد الله بن سلام. وهذا إسناد صحيح فإن جمع بوقوع ذلك نادراً إلاَّ فما في (الصحيحين) أصح، كذا في (شرح الزرقاني) (1/362. وانظر للتفصيل عمدة القاري 3/369، وفتح الباري 2/376) .
(5) في خطبته.
(6) فيه تسمية الجمعة عيداً، وقد ورد ذلك في أخبار مرفوعة.(1/608)
فَمَنْ أحبَّ مِنْ أَهْلِ الْعَالِيَةِ (1) أَنْ ينتظرَ الجمعةَ فلينتظِرْها وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يرجِعَ (2) فليرجِعْ (3) ، فقد
__________
(1) قوله: من أهل العالية، هي القرى المجتمعة حول المدينة النبوية إلى جهة القبلة على ميل أو ميلين فأكثر من المسجد النبوي، وقال القاضي عياض: العوالي من المدينة على أربعة أميال، وقيل: ثلاثة، وهذا حدّ أدناها، وأعلاها ثمانية أميال. انتهى. ويردُّه أنه قال في منازل بني الحارث الخزرج: إنها بعوالي المدينة، بينه وبين منزل النبي صلّى الله عليه وسلّم ميل، وذكره ابن حزم أيضاً والصحيح عن أدنى العوالي من المدينة على ميل أو ميلين، وأقصاها عمارة على ثلاثة أو أربعة أميال، وأقصاها مطلقاً ثمانية أميال كما بسطه الشيخ نور الدين علي السَّمْهُودي مؤرِّخ المدينة في "وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى".
(2) إلى بيته.
(3) قوله: فليرجع (أخرجه البخاري 5/239 في باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي وما يتزوَّد منها) ، اقتدى فيه عثمان بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنه لما اجتمع العيدان صلّى العيد، ثم رخص في الجمعة، وقال: من شاء أن يصلي فليصلِّ. أخرجه النسائي وأبو داود، عن زيد بن أرقم وهو محمول عندنا على أنه رخص لمن لا يجب عليه الجمعة من أهل القرى الذين كانوا يحضرون العيد، ونسب بعضهم إلى أحمد (قال في المغني 2/212: وإن اتفق عيد في يوم جمعة سقط حضور الجمعة عمن صلّى العيد إلاَّ الإِمام ... وممن قال بسقوطه الشعبي والنخعي والأوزاعي، ... وقال أكثر الفقهاء: تجب الجمعة لعموم الآية والأخبار الدالة على وجوبها، ولأنهما صلاتان واجبتان، فلم تسقط إحداهما بالأخرى. اهـ ومذهب الشافعي السقوط عن أهل البوادي دون البلد كما في شرح المهذب وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أن المكلف مخاطب بهما معا ولا ينوب أحدهما عن الآخر قال ابن عبد البر سقوط الجمعة مهجور وعن علي إن ذلك في أهل البادية ومن لاتجب عليه الجمعة معارف السنن 4/433 وانظر بذل الجهود 6/ 57) أنه أخذ بظاهر الحديث، وقال بسقوط الجمعة في المصر وغيره، وهو(1/609)
أذنتُ (1) لَهُ، فَقَالَ: ثُمَّ شهدتُ العيدَ مَعَ عليٍّ وعثمانُ محصورٌ (2) فَصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ فَخَطَبَ.
233 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ (3) : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يصلِّي يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الأَضْحَى قَبْلَ الْخُطْبَةِ، وَذَكَرَ (4) أنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا يَصْنَعَانِ ذَلِكَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ، وَإِنَّمَا رَخَّصَ عُثْمَانُ في الجمعة لأهل العالية لأنهم (5)
__________
مُفاد ما أخرجه أبو داود، عن عطاء بن أبي رباح قال: صلّى بنا ابن الزبير العيد في يوم جمعة في أول النهار، ثم رُحنا إلى الجمعة، فلم يخرج إلينا، فصلينا وحداناً، وكان ابن عباس بالطائف، فلما قدم ذكرنا له ذلك، فقال: أصاب السنَّة.
(1) قوله: فقد أذنت له، فيجوز إذا أذن الإِمام، وبه قال مالك في رواية علي وابن وهب ومطرف وابن الماجشون.
(2) في أيام فتنته سنة خمس وثلاثين.
(3) هذا مرسل متصل من وجوه صحاح، فأخرجه الشيخان من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، ولهما عن جابر.
(4) قوله: وذكر، الظاهر أن ضميره راجع إلى ابن شهاب لكن في "موطأ يحيى" ثمَّ قول ابن شهاب إلى قوله: "قبل الخطبة"، ثم قال مالك: بلغه أن أبا بكر وعمر كانا يفعلان ذلك.
(5) قوله: لأنهم ليسوا من أهل المصر، فلا يجب عليهم الجمعة، لقول علي رضي الله عنه: (لا جمعة ولا تشريق إلاَّ في مصرٍ جامع) رواه عبد الرزاق، وروى ابن أبي شيبة عنه: (ولا جمعة ولا تشريق ولا صلاة فطر ولا أضحى إلاَّ في مصر(1/610)
لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ (1) وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
68 - (بَابُ صَلاةِ التَّطَوُّعِ قَبْلَ العيد أبو بَعْدَهُ)
234 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ (2) كَانَ (3) لا يصلِّي يَوْمَ الْفِطْرِ قبل الصلاة ولا بعدها.
__________
جامع أو مدينة عظيمة) ، ونسبه أحمد القسطلاّني في "إرشاد الساري شرح صحيح البخاري"، إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وجعله مرفوعاً من رواية عبد الرزاق.
(1) في نسخة: مصر.
(2) قوله: أنه كان لا يصلي، لأنه كان أشد الناس اهتماماً بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، قال الزرقاني، وفي "الصحيحين"، عن ابن عباس: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج يوم الفطر، فصلى ركعتين لم يصلِّ قبلهما ولا بعدهما. وفي ابن ماجه بسند حسن، وصححه الحاكم، عن أبي سعيد: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان لا يصلّي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله صلّى في منزله ركعتين، قال ابن المنذر عن أحمد: الكوفيون يصلّون بعدها لا قبلها والبصريون قبلها لا بعدها، والمدنيّون لا قبلها ولا بعدها، وبالأول قال الحنفية وجماعة، وبالثاني الحسن وجماعة، وبالثالث أحمد وجماعة، وأما مالك فمنعه في المصلّى، وعنه في المسجد روايتان، فرُوي يتنفّل قبلها وبعدها، ورُوي بعدها لا قبلها، وقال الشافعي: لا كراهة في الصلاة قبلها ولا بعدها، قال الحافظ: كذا في "شرح مسلم" للنووي، فإن حُمل على المأموم وإلاَّ فهو مخالف لقول الشافعي في "الأم" يجب للإِمام أن لا يتنفل قبلها ولا بعدها (بسط الشيخ مذاهب الأئمة في أوجز المسالك 3/362. وانظر المغني 2/388) .
(3) قوله: كان، ذكر ابن قدامة نحوَه، عن ابن عباس وعلي وابن مسعود وحذيفة وبريدة وسلمة بن الأكوع وجابر وعبد الله بن أوفى وجماعة من التابعين، وقال الزهري: لم أسمع أحداً من علمائنا يذكر أن أحداً من سلف الأمة كان يصلي قبل صلاة العيد وبعدها: كذا ذكره ابن أمير حاج في "الحَلْبة"(1/611)
235 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قَاسِمٍ، عَنْ أَبِيهِ (1) : أَنَّهُ كَانَ (2) يصلِّي قَبْلَ أَنْ يغدُوَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا صلاةَ قبل صلاة العيد (3)
__________
(في الأصل: "الحلية"، وهو تحريف) .
(1) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.
(2) وكذا روى مالك، عن هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يصلي يوم الفطر قبل الصلاة في المسجد.
(3) قوله: لا صلاة قبل صلاة العيد، أقول: هذه العبارة تحتمل معنيين:
أحدهما: أنه لا ينبغي أن يصلي قبل العيد، ولا خير فيه، بل هو مكروه وبه صرح جمهور أصحابنا لا سيما المتأخرون منهم، وعلَّلوه بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يصلِّ قبلها ولا بعدها كما أخرجه الأئمة الستة، وأورد عليهم بأن مجرَّدَ عدم فعله صلّى الله عليه وسلّم لا يدل على الكراهة، وأجابوا عنه بأنه لمّا لم يصلّ قبل ولا بعد مع شدة حرصه على الصلاة دلَّ ذلك على أنه مكروه وإلاَّ لفعله، ولو مرة واحدة، كيف فإنه صلّى الله عليه وسلّم قد كان يفعل ما نَهى عنه نَهْيَ تنزيه لبيان الجواز، لئلا تظن الأمَّة حُرمته، فكيف بالأمر المباح، فإذا لم يفعله مرة أيضاً دلَّ ذلك على الكراهية، ويرد عليه أن الكراهة أمر زائد لا يثبت إلاَّ بدليل خاص يدل على النهي، وأما مجرد عدم فعله صلّى الله عليه وسلّم فلا يدل إلاَّ على أنه ليس للعيد سنة قبلها ولا بعدها لا على أنه مكروه، وكونه حريصاً على الصلاة لا يستلزم أن يفعل بنفسه كل فرد من أفرادها، في كل وقت من أوقاتها، بل كفى في ذلك قوله: "الصلاة خير موضوع" مع عدم إرشاد النهي. ونظيره ما ورد أنه صلّى الله عليه وسلّم كان لا يطعم شيئاً يوم الأَضحى إلى أن يضحِّي فيأكل من أضحيته، ومع ذلك صرَّحوا بأن الأكل في ذلك اليوم قبل الغدوّ إلى المصلّى ليس بمكروه، إذ لا بد للكراهة من دليل خاص، وإذ ليس فليس.
وثانيهما: أن يكون معناه لا سنَّة قبل صلاة العيد قبل العيد خلاف الأولى لكونه مخالفاً لفعل صاحب الشرع، ويوافقه ما نقل صاحب "الذخيرة"، عن(1/612)
فَأَمَّا بَعْدَهَا فَإِنْ شِئْتَ (1) صلَّيْتَ (2) وَإِنْ شِئْتَ لَمْ تصلِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ الله -.
__________
أبي جعفر الأستروشني أن شيخنا أبا بكر الرازي كان يقول في معنى قول أصحابنا: وليس قبل العيدين صلاة مسنونة، لا أنه مكروه. انتهى. وقال الحافظ ابن حجر: صلاة العيد لم يثبت لها سنَّة قبلها ولا بعدها خلافاً لمن قاسها على الجمعة، وأما مطلق النفل فلم يثبت فيه منع إلاَّ بدليل خاص إلاَّ إن كان ذلك في وقت الكراهة الذي في جميع الأيام. انتهى. وفي "الاستذكار": أجمعوا على أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يصلِّ قبلها ولا بعدها، فالناس كذلك، والصلاة فعلُ خيرٍ فلا يُمنع منها إلاَّ بدليل لا معارض له.
(1) هذا التخيير يردّ على من كره من المتأخرين الصلاة بعد العيد مطلقاً في المسجد، وفي البيت.
(2) قوله: صلَّيْت، أي: في البيت لما ورد أنه عليه السلام صلّى بعد العيد في بيته ركعتين، أخرجه ابن ماجه من حديث أبي سعيد، وحينئذٍ فحديث: "لم يصلِّ قبلها ولا بعدها" محمول على أنه لم يصلِّ بعدها في المصلَّى، وإن حُمل على العموم يحمل على اختلاف الأحوال. وذكر بعض أصحاب الكتب غير (في الأصل: "الغير"، وهو تحريف) المعتبرة كصاحب "كنز العباد" وغيره في الصلاة بعد العيد حديثاً عن سلمان الفارسي، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "من صلّى أربع ركعات يوم الفطر ويوم الأضحى بعد ما صلّى الإِمام صلاة العيد يقرأ في الركعة الأولى {سبِّح اسمَ ربك الأعلى} فكأنما قرأ كلَّ كتاب أنزله الله، وفي الركعة الثانية {وَالشَّمْسِ وَضُحاها} ، فله من الثواب مثل ما طلعت الشمس من مطلعها، وفي الثالثة {والضحى} فله من الثواب كأنما أشبع جميع اليتامى وأرواهم وأدهنهم وألبسهم ثياباً نظيفاً، وفي الركعة الرابعة {قل هو الله أحد} غفر الله له ذنوبه خمسين سنة مقبلة وخمسين سنة مدبرة. وهذا الحديث يشهد القلب بعباراته الركيكة بأنه موضوع، لا يحل لأحد أن(1/613)
69 - (بَابُ القراءةِ فِي صَلاةِ الْعِيدَيْنِ)
236 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا ضمرةُ بنُ سَعِيدٍ المازِني (1) ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ أبا واقدٍ (2) الليثيَّ: ماذا كان (3)
__________
ينسبه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بمجرد ذكر هؤلاء الذين لا مهارة لهم في الحديث. وقال ابن حجر المكي في رسالته "الإِيضاح والبيان لما جاء في ليلة نصف شعبان": في سنده جماعة لا يُعرفون، بل من لا يَحِلُّ ذكره في الكتب كما قاله ابن حبان، بل ترجّى السيوطي فيه أنه الذي وضعه. انتهى. وقال الشوكاني في "الفوائد المجموعة": هو موضوع.
(1) نسبة إلى بني مازن بكسر الزاء.
(2) قوله: أبا واقد الليثي، من بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن علي بن كنانة بن خزيمة بن إلياس بن مضر، اختُلف في اسمه، فقيل: الحارث بن عوف، وقيل: الحارث بن مالك بن أسيد بن جابر بن عتودة بن عبد مناة بن سجع بن عامر بن ليث، قيل: إنه شهد بدراً مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان قديم الإِسلام، وقيل: إنه من مُسلمة الفتح. والأول أصح، مات بمكة سنة ثمان وستين، كذا في "الاستيعاب".
(3) قوله: ماذا كان ... إلخ، قال الباجي: يحتمل أن يسأله على معنى الاختبار أو نسي، فأراد أن يتذكر، وقال النووي: قالوا: يحتمل أنه شك في ذلك فاستَثْبَتَه أو أراد إعلام الناس بذلك أو نحو ذلك، قالوا: ويبعد أن عمر لم يعلم ذلك مع شهوده صلاة العيد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرات، وقربه منه.
(1) كان يقرأ ... إلخ، قال ابن عبد البر: معلوم أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ يوم(1/614)
يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأَضْحَى وَالْفِطْرِ؟ قَالَ: كَانَ (1) يَقْرَأُ بقاف (2) والقرآن المجيد (3) ، واقتربت السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (4) .
70 - (بَابُ التَّكْبِيرِ فِي الْعِيدَيْنِ (5))
237 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، قَالَ: شهدتُ (6) الأَضْحَى والفطرَ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ فكبَّرَ (7) فِي الأُولَى سبعَ تَكْبِيرَاتٍ (8) قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَفِي الآخِرَةِ (9) بِخَمْسِ تكبيرات قبل القراءة.
__________
العيد بسورٍ شتّى، وليس في ذلك عند الفقهاء شيءٌ لا يُتَعَدّى، وكلهم يستحب ما روى أكثرهم. وجمهورهم: {سَبِّحِ اسمَ} و {هَلْ أَتَاكَ} .
(2) قوله: بقاف، في الباب عن النعمان بن بشير عند مسلم، لكن ذكر {سَبِّحِ} و {هَلْ أَتَاكَ} ، وعن ابن عباس عند البزّار، لكن ذكر بـ {عَمَّ يَتَسَاءَلونَ} ، و {والشَّمْسِ وَضُحاها} ، كذا في "التلخيص الحبير" (في الأصل: "تلخيص الحبير"، وهو خطأ) لابن حجر، رحمه الله.
(3) في الركعة الأولى.
(4) في الثانية، قال العلماء: حكمة ذلك ما اشْتَمَلَتا عليه من الإِخبار بالبعث والقرون الماضية، وهلاك المكذِّبين وتشبيه بروز الناس للعيد ببروزهم للبعث.
(5) أي في صلاة العيدين.
(6) أي: حضرت صلاتهما مقتدياً به.
(7) قوله: فكبر، قال مالك: هو الأمر عندنا، وبه قال الشافعي: إلاَّ أن مالكاً عدَّ في الأولى تكبيرة الإِحرام، وقال الشافعي سواها، والفقهاء على أن الخمس في الثانية غير تكبيرة القيام، قاله ابن عبد البر.
(8) هذا لا يكون رأياً إلاَّ توقيفاً يجب التسليم له.
(9) في نسخة: الأخيرة.(1/615)
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَدِ اخْتُلِفَ (1) الناسُ فِي التكبيرِ في العيدين، فما
__________
(1) قوله: قد اختلف الناس، لاختلاف الأخبار الواردة في ذلك على ما بسطه الزيلعي والعيني وابن حجر وغيرهم، فأخرج أبو داود وابن ماجه، عن عائشة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكبر في العيدين في الأولى بسبع تكبيرات، وفي الثانية بخمس قبل القراءة سوى تكبيرتي الركوع. وفي سنده عبد الله بن لهيعة متكلَّم فيه، وفي سنده اضطراب ذكره الدارقطني في "علله" وذكر الترمذي في "علله الكبرى" أن البخاري ضعَّف (في نسخة: "ضعيف"، وهو تحريف) هذا الحديث. وأخرج أبو داود وابن ماجه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً: "التكبير في الفطر سبعٌ في الأولى وخمسٌ في الثانية، والقراءة بعدهما كتيهما". وفي سنده عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي ضعَّفه ابن معين، ونقل الترمذي أنه سأل البخاريَّ عن هذا الحديث فقال: صحيح. وأخرج الترمذي وحسنه، وقال: هو أحسنُ شيء رُوي في الباب عن كثير بن عبد الله بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كَبَّرَ في الأَولَى سبعاً قبل القراءة، وفي الآخرة خمساً قبل القراءة، وفيه كثير بن عبد الله متكلَّم فيه، وأخرج ابن ماجه، عن عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد، عن سعد، عن عمار، عن سعد: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يكبِّر في العيدين في الأُوْلى سبعاً قبل القراءة وفي الأخرى خمساً قبل القراءة. وكذا أخرجه الدارقطني من حديث ابن عمر، وهو الموافق لما أخرجه مالك عن أبي هريرة من فِعْله. وأخرج أبو داود عن مكحول، قال: أخبرني أبو عائشة جليسٌ لأبي هريرة أن سعيد بن العاص سأل أبا موسى وحذيفَةَ: كيف كان رسول الله يكبِّر في الأضحى والفطر؟ فقال أبو موسى: كان يكبِّر أربعاً تكبيره على الجنائز، فقال حذيفة: صدق. وفيه عبد الرحمن بن ثوبان، متكلَّم فيه.
هذا اختلاف الأخبار المرفوع (انظر نصب الراية 3/217 و 218) . وأما الآثار فأخرج عبد الرزاق، عن علقمة والأسود أن ابن مسعود كان يكبِّر في العيدين تسعاً: أربعاً قبل قراءة، ثم يكبِّر فيركع، وفي الثانية يقرأ، فإذا فرغ كبَّر أربعاً، ثم ركع وأخرج أيضاً عنهما أن(1/616)
أخذتَ بِهِ فَهُوَ حَسَنٌ (1) وَأَفْضَلُ ذَلِكَ عِنْدَنَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يكبِّر في كل عيد (2) تسعاً:
__________
ابن مسعود كان جالساً وعنده حذيفة وأبو موسى فسألهم سعيد بن العاص عن التكبير في العيد، فقال حذيفة سُئل الأشعريّ فقال: سَلْ عبد الله فإنه أقدمنا وأعلمنا، فسأله فقال ابن مسعود: كان يكبِّر أربعاً، ثم يكبِّر فيركع فيقوم إلى الثانية فيقرأ، ثم يكبِّر أربعاً، بعد القراءة. وأخرج ابن أبي شيبة عن مسروق: كان ابن مسعود يعلِّمنا التكبير تسع تكبيرات، خمس في الأولى وأربع في الآخرة، ويوالي بين القراءتين، وأخرج عبد الرزاق، عن عبد الله بن الحارث: شهدت ابنَ عباس كبَّرَ في العيد بالبصرة تسعَ تكبيرات، ووالى بين القراءتين وشهدتُ المغيرة فعل ذلك. وأخرج ابنُ أبي شيبة، عن عطاء أن ابن عباس كبَّرَ في عيد ثلاث عشرة، سبعاً في الأولى، وستاً في الأخرى بتكبيرة الركوع، كلُّهن قبل القراءة. وأخرج أيضاً عن عمار أن ابن عباس كبَّر في عيد ثِنْتي عَشْرة تكبيرة سبعاً في الأولى وخمساً في الأخرى بتكبيرة الركوع. وأخرج ابن أبي شيبة أيضاً، عن عبد الله بن الحارث: صلّى ابن عباس بالبصرة صلاة عيد، فكبَّر تسع تكبيرات: خمساً في الأولى وأربعاً في الآخرة ووالى بين القراءتين. وهذا الاختلاف الوارد في المرفوع والآثار، كلُّه اختلاف في مباح، كما أشار إليه محمد بقوله: فما أخذت به فهو حسن، فلا يجوز لأحد أن يُعنِّف فيه على خلاف ما يراه، واختلاف الأئمة في ذلك إنما هو اختلاف في الراجح، كما أشار إليه محمد بقوله: وأفضل ذلك ... إلخ، فإن اختار أحد غير ما روي عن ابن مسعود فلا بأس به أيضاً (انظر بسط المذاهب وأدلتها في أوجز المسالك 3/355) .
(1) قوله: فهو حسن، ونظيره اختلافهم في تكبيرات صلاة الجنازة لاختلاف الأخبار والآثار في ذلك، فما أخذت به فهو حسن.
(2) أي: في مجموع الركعتين.(1/617)
خَمْسًا (1) وَأَرْبَعًا (2) ، فيهنَّ تَكْبِيرَةُ الافْتِتَاحِ وَتَكْبِيرَتَا الرُّكُوعِ، ويوالي بين القراءتين، ويؤخِّر (3) ها (4) فِي الأُولَى، ويقدِّمها فِي الثَّانِيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
71 - (بَابُ قِيَامِ شَهْرِ (5) رَمَضَانَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْفَضْلِ)
238 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلّى (6) في
__________
(1) في الركعة الأولى، واحدة منها تكبيرة الافتتاح، وواحدة تكبيرة الركوع، والثلاث زوائد.
(2) في الركعة الثانية، واحدة منهن تكبيرة الركوع والثلاث زوائد.
(3) بيان للموالاة.
(4) أي: القراءة عن التكبيرات في الركعة الأولى.
(5) قوله: شهر رمضان، ويسمّى التراويح جمع ترويحة لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين.
(6) قوله: صلّى ... إلخ، قال ابن عبد البر: تفسيره هذه الليالي التي صلّى فيها بما رواه النعمان بن بشير قال: قمنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شهر رمضان ليلةَ ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل، ثم قمنا معه ليلةَ خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قمنا ليلة سبع وعشرين حتى ظننا أن لا ندركَ الفلاح. أخرجه النسائي. وأما عدد ما صلّى، ففي حديث ضعيف أنه صلّى عشرين ركعة والوتر، أخرجه ابن أبي شيبة، من حديث ابن عباس (أخرجه عبد بن حميد في مسنده رقم الحديث 653، قال في مجمع الزوائد 3/172: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه أبو شيبة إبراهيم وهو ضعيف) ، وأخرج ابن حبان في صحيحه (انظر نصب الراية 1/293) من(1/618)
الْمَسْجِدِ (1) ، فَصَلَّى بِصَلاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ كَثُرُوا مِنَ الْقَابِلَةِ (2) ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا اللَّيْلَةَ الثَّالِثَةَ أَوِ الرَّابِعَةَ (3) ، فكثُرُوا، فَلَمْ يَخْرُجْ (4) إِلَيْهِمْ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ (5) قَالَ: قَدْ رأيتُ الذي (6) قد صنعتُم (7)
__________
حديث جابر: أنه صلّى بهم ثمان ركعات ثم أوتر، وهذا أصح، كذا في "التنوير".
(1) قوله: في المسجد، في رواية عَمْرَة، عن عائشة عند البخاري: صلّى في حجرته، وليس المراد بها بيته، بل الحصير التي كان يحتجر بها بالليل في المسجد، فيجعلها على باب بيت عائشة، فيصلّي فيه، وقد جاء ذلك مبنيَّاً من طريق سعيد المَقْبُري، عن أبي سلمة، عن عائشة، رواه البخاري في اللباس.
(2) أي: في الليلة المستقبلة.
(3) قوله: أو الرابعة، بالشك في رواية مالك، ولمسلم من رواية يونس، عن ابن شهاب: فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الليلة الثانية، فصلّوا معه فأصبح الناس يذكرون ذلك فكثر أهل المسجد في الليلة الثالثة، فصلوا بصلاته، فلما كانت الرابعة عجز المسجد عن أهله.
(4) قوله: فلم يخرج إليهم، وفي رواية أحمد، عن ابن جريج، عن ابن شهاب: حتى سمعت ناساً منهم يقولون: الصلاة، وفي رواية سفيان بن حسين فقالوا: ما شأنه؟ وفي حديث زيد: ففقدوا صوته وظنوا أنه قد تأخَّر فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج، وفي لفظٍ، عن زيد: فرفعوا أصواتهم، وحصبوا الباب. رواهما البخاري.
(5) في رواية للبخاري: فلما قضى صلاة الفجر أقبل على الناس فتشهَّد ثم قال: أما بعد فإنه لم يخفَ عليَّ مكانكم.
(6) في نسخة: ما.
(7) من حرصكم الصلاة معي.(1/619)
الْبَارِحَةَ (1) ، فَلَمْ يمنَعْني (2) أَنْ أخرجَ إِلَيْكُمْ إلاَّ أَنِّي خشيتُ أَنْ يُفرَضَ (3) (4) عَلَيْكُمْ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ.
239 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ المَقْبُري، عَنْ أبي
__________
(1) أي: الليلة الماضية.
(2) قوله: فلم يمنعني ... إلخ، ظاهره أنه كان يحب أن يصلي بالناس في ليالي رمضان على الدوام، ولم يمنعه إلاَّ خشية أن يُفرض عليهم، فاستُفيدت منه المواظبة الحُكمية وإن لم توجد المواظبة الحقيقية، ومدار السنية المواظبة مطلقاً فيكون قيام رمضان سنَّة مؤكدة (اختلف العلماء في كونها سنة أو تطوعاً، والراجح عند الأئمة الأربعة كونها سنَّة مؤكدة لمواظبة الخلفاء الراشدين للرجال والنساء إجماعاً. وذكر في "الاختيار" أن أبا يوسف سأل أبا حنيفة عنها وما فعله عمر، فقال: التراويح سنَّة مؤكدة، لم يتخرَّصه عمر من تلقاء نفسه، ولم يكن فيه مبتدعاً، ولم يأمر به إلاَّ عن أصلٍ لديه، وعهدٍ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أوجز المسالك 2/293) . وعليه جمهور أصحابنا وجمهور العلماء. وأما ما نقله بعض أصحابنا أن التراويح مستحب، فهو مخالف للدراية والرواية، وبهذا بعينه يثبت استنان الجماعة في التراويح واستنان التراويح في جميع الليالي خلافاً لما قاله بعض الفقهاء: إن السنَّة هو التراويح بقدر ختم القرآن، وبعده يبقى مستحباً، وقد حققت كلَّ ذلك مع ما له وما عليه بتحقيقٍ أنيق في رسالتي "تحفة الأخيار في إحياء سنَّة سيِّد الأبرار".
(3) قوله: أن يُفرَض عليكم، قال الباجي: قال القاضي أبو بكر: يحتمل أن يكون الله أوحى إليه أنه إن واصل هذه الصلاة معهم فَرَضَها عليهم، ويحتمل أنه ظنَّ أن ذلك سيُفرض عليهم لما جرت عادَتُهُ بأنَّ ما داوم عليه على وجه الاجتماع من القُرَبِ فُرِض على أمته، ويحتمل أن يريد بذلك أنه خاف أن يظن أحد من أمته بعده إذا داوم عليه وجوبَها.
(4) صلاة الليل فتعجزوا عنها كما في رواية يونس عند مسلم.(1/620)
سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ كَيْفَ كَانَتْ صلاةُ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ؟ قَالَتْ: مَا كَانَ (1) رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُ في رمضان ولا غيرِه على إحدى (2)
__________
(1) قوله: ما كان يزيد ... إلخ، هذا بحسب الغالب، وإلاَّ فقد ثبت عنها أنها قالت: كان يصلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاث عشرة ركعة من الليل، ثم صلّى إحدى عشرة ركعة، وترك ركعتين، ثم قُبض حين قُبض وهو يصلّي تسع ركعات. أخرجه أبو داود. وثبت عنها: أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّى ثلاث عشرة ركعة، أخرجه مالك. وثبت من حديث زيد بن خالد وابن عباس أيضاً ثلاث عشرة. فمن ظن أخذاً من حديث عائشة المذكور ههنا أن الزيادة على إحدى عشرة بدعة، فقد ابتدع أمراً ليس من الدِّين وقد فصَّلته في رسالتي "تحفة الأخيار".
(2) قوله: إحدى عشر ركعة، روى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبغوي والبيهقي والطبراني، عن ابن عباس: أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي بعشرين ركعة والوتر في رمضان. وفي سنده إبراهيم بن عثمان أبو شيبة جد ابن أبي شيبة صاحب المصنَّف، وهو مقدوح فيه، وقد ذكرت كلام الأئمة عليه في "تحفة الأخيار". وقال جماعة من العلماء - منهم الزيلعي وابن الهمام والسيوطي والزرقاني -: إن هذا الحديث مع ضعفه معارض بحديث عائشة الصحيح في عدم الزيادة على إحدى عشرة ركعة، فيُقبل الصحيح ويُطرح غيره، وفيه نظر: إذ لا شكّ في صحة حديث عائشة وضعف حديث ابن عباس، لكن الأخذ بالراجح وترك المرجوح إنما يتعيَّن إذا تعارضا تعارضاً لا يمكن الجمع، وههنا الجمع ممكن بأن يُحمل حديث عائشة على أنه إخبار عن حاله الغالب كما صرَّح به الباجيّ في "شرح الموطأ" وغيره، ويُحمل حديث ابن عباس على أنه كان ذلك أحياناً(1/621)
عَشْرة رَكْعَةً (1) ، يصلِّي أَرْبَعًا، فَلا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنهنَّ (2) وطولهنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا (3) فَلا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنهنَّ وطولهنَّ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاثًا (4) ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ (5) قَبْلَ أَنْ توتر؟ فقال: يا عائشة
__________
(قلت: قد يُعمل بالضعيف لتقويته بالتعامل وغيره، يؤيِّد حديث ابن عباس عملُ الفاروق فقد تلقّته الأمة بالقبول، واستقر أمر التراويح في السنة الثانية من خلافته كما في طبقات ابن سعد 3/202) .
(1) أي: غير ركعتي الفجر، كما في رواية القاسم عنها.
(2) أي: إنهن في نهاية من الحُسْن والطول مستغنيات بظهور ذلك عن السؤال.
(3) قوله: ثم يصلي أربعاً، وأما ما سبق من أنه كان يصلي مثنى مثنى، ثم واحدة فمحمول على وقت آخر، فالأمران جائزان، كذا في "إرشاد الساري".
(4) قوله: ثم يصلي ثلاثاً، قال الزرقاني: يوتر منها بواحدة، كما في حديثه فوق هذا الحديث: كان يصلي إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة. انتهى. أقول: كأنه رام الجمع بين هذا الحديث الدال على أنه صلّى الوتر ثلاثاً، وبين حديثها السابق في (باب صلاة الليل) الذي يدلُّ بظاهره على أن الوتر واحدة، وليس بذلك أما أوَّلاً: فلأن للخصم أن يقول: معنى (يوتر بواحدة) يجعل الشفعَ بضم الواحدة وتراً، فلا يتعيَّن طريق الجمع في ما ذكره، وأما ثانياً: فلأنَّ الجمع بالحمل على اختلاف الأحوال ممكن بل هذا هو الصحيح، كيف وقد ثبت من حديثها صريحاً أنه صلّى الله عليه وسلّم كان لا يسلِّم في ركعتي الوتر، كما ذكرنا في باب صلاة الليل، وإني لفي غاية العجب من الفقهاء حيث يجهدون فيما اختلف فيه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باختلاف الأحوال في إبداء تأويلات ركيكة ليؤول كل الروايات إلى ما ذهبوا إليه، وأنَّى يتيسر لهم ذلك؟.
(5) قوله: أتنام قبل أن توتر، بهمزة الاستفهام لأنها لم تعرف النوم قبل الوتر، لأن أباها كان لا ينام حتى يوتر، وكان يوتر أول الليل، قال ابن عبد البر: في الحديث تقديم وتأخير ومعناه: أنه كان ينام قبل صلاته. وهذا يدل على أنه كان يقوم، ثم ينام، ثم يقوم، ثم ينام، ثم يقوم، فيوتر.(1/622)
عَيْنَايَ تَنَامَانِ (1) وَلا ينامُ قَلْبِي (2) .
240 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنّ (3) رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يرغِّبُ النَّاسَ فِي قِيَامِ (4) رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يأمُرَ (5) بِعَزِيمَةٍ، فيقول: من قام رمضان إيماناً (6)
__________
(1) لأن القلب إذا قويت حياته لا ينام إذا نام البدن، ولا يكون ذلك إلاَّ للأنبياء كما قال عليه السلام: إنا معشر الأنبياء تنام أعيننا، ولا تنام قلوبنا.
(2) قوله: ولا ينام، لا يعارضه نومه في الوادي لأن رؤية الفجر متعلق بالعين لا بالقلب، كذا حققه الشرّاح وفي المقام تفصيل مظانُّه الكتب المبسوطة.
(3) قوله: أن ... إلخ، قال السيوطي: ليحيى، عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ... إلخ، قال ابن عبد البر: اختلفت الرواة، عن مالك، فرواه يحيى بن يحيى هكذا متصلاً، وتابعه ابن بكير وسعيد بن عفير وعبد الرزاق وابن القاسم ومعن بن زائدة، ورواه القعنبي وأبو مصعب ومطرف وابن وهب، وأكثر رواة الموطأ، عن مالك، عن الزهري، عن أبي سلمة مرسلاً، لم يذكروا أبا هريرة.
(4) أي: صلاة التراويح قاله النووي: وقال غيره: بل مطلق الصلاة الحاصل بها قيام الليل.
(5) قوله: يأمر، قال النووي: معناه لا يأمرهم أمرَ إيجابٍ وتحتيم، بل أمر ندب وترغيب، ثم فسَّره بقوله: فيقول: إلخ، وهذه الصنيعة تقتضي الترغيب والندب دون الإِيجاب.
(6) قال النووي: معناه تصديقاً بأنه حق معتقداً فضيلته، وأن يريد به وجْهَ الله، ولا يقصد رؤيَة الناس ولا غير ذلك.(1/623)
وَاحْتِسَابًا غُفر لَهُ مَا تقدَّم (1) مِنْ ذَنْبِهِ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَتُوُفِّيَ (2) النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالأَمْرُ (3) عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَ الأَمْرُ فِي خِلافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا (4) مِنْ خِلافَةِ عمرَ عَلَى ذَلِكَ.
241 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبدٍ (5)
__________
(1) قوله: ما تقدم من ذنبه، قال النووي: المعروف عند الفقهاء أن هذا مختص بغفران الصغائر دون الكبائر، وقال بعضهم: يجوز أن يخفِّف من الكبائر إذا لم يصادفه صغيرة، وقال ابن حجر: ظاهره يتناول الصغائر والكبائر، وبه جزم ابن المنذر، وأخرج ابن عبد البر من طريق حامد بن يحيى، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعاً: من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخّر (أخرجه البخاري في: 31 - كتاب صلاة التراويح، 1 - باب فضل من قام رمضان، ومسلم في: 6 - كتاب صلاة المسافرين، 25 - باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، رقم الحديث 174) ، كذا في "التنوير".
(2) قال الباجي: هذا مرسل أرسله الزهري.
(3) قوله: والأمر على ذلك، قال الباجي: معناه أن حال الناس على ما كانوا عليه في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم من ترك الناس والندب إلى القيام، وأن لا يجتمعوا فيه على إمام يصلي بهم خشية أن يُفرض عليهم ويصحّ أن لا يكونوا يصلون إلاَّ في بيوتهم، أو يصلي الواحد منهم في المسجد، ويصح أن يكونوا لم يجمعوا على إمام واحد، ولكنهم كانوا يصلون أوزاعاً متفرقين.
(4) أي: في أوائل خلافته.
(5) بالتنوين بلا إضافة.(1/624)
الْقَارِيِّ (1) : أَنَّهُ خَرَجَ (2) مَعَ عمرَ بنِ الْخَطَّابِ لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ، فَإِذَا الناسُ أوزاعٌ (3) متفرِّقون، يصلِّي الرجلُ (4) فيصلِّي بِصَلاتِهِ الرَّهْطُ (5) ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَظُنُّنِي لَوْ جمعتُ هَؤُلاءِ عَلَى قارئٍ (6) واحدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ (7) ، ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ (8) على أبيّ بن
__________
(1) بشد الياء نسبة إلى القارة بطن من خُزيمة.
(2) في المسجد النبوي.
(3) أي: جماعات متفوقون.
(4) بيان لما مأجمله أولاً.
(5) ما بين الثلاثة إلى العشرة.
(6) لأنه أنشط لكثير من المصلين ولما في الاختلافِ من افتراقِ الكلمة.
(7) قوله: لكان أمثل، قال ابن التين وغيره: استنبط عمر من تقرير النبي صلّى الله عليه وسلّم مَن صلّى ما هو في تلك الليالي وإن كان كره لهم ذلك، فإنما كرهه خشية أن يُفرض عليهم، فلما مات النبي صلّى الله عليه وسلّم حصل الأمنُ من ذلك، ورأى عمر ذلك لما في الاختلاف من افتراق الكلمة.
(8) في سنة أربعَ عشرةَ من الهجرة.(1/625)
كعب (1) (2) ،
__________
(1) قوله: على أبيّ بن كعب، كأنه اختاره عملاً بحديث يؤمُّ القومَ أقرؤهم، وقد قال عمر: أقرؤنا أبيٌّ، ذكره ابن عبد البر وابن حجر، وتبعهما من جاء بعدهما، وقد استخرجت لذلك أصلاً آخر لطيفاً، وهو أنه قد علم أن أُبَيّاً كان يصلي بالناس في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأثنى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأحبّ عمر أن يجمع الناس به، وذلك لما أخرجه أبو داود، عن أبي هريرة: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإذا أناسٌ في رمضان يصلّون في ناحية المسجد، فقال: ما هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء ناسٌ ليس معهم قرآن وأبيُّ بن كعب يصلِّي وهم يصلون بصلاته، فقال: أصابوا، ونِعْمَ ما صنعوا. وقال ابن حجر (انظر فتح الباري 4/252، وبذل المجهود 7/159، وحديث مسلم بن خالد مؤيَّد بروايات عديدة كما في الأوجز 2/291. وهذا الحديث صريح في أن الصلاة بجماعة كانت شائعة في زمانه صلّى الله عليه وسلّم وليس المراد من جمع عمر الناس على أبيّ إلاَّ مثل جمع عثمان على القرآن) : فيه مسلم بن خالد الزنجي، وهو ضعيف والمحفوظ أن عمر هو الذي جمع الناس على أبي بن كعب. انتهى. وفيه نظر فإن مسلم بن خالد وإن ضعَّفه ابن معين في رواية وأبو داود، لكن وثقه ابن معين في رواية ابن حبان، وأما كون عمر أول من جمع الناس على أبيّ كما هو المعروف، فهو لا ينافي ذلك لأن صلاة أبيّ مع الناس في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن من اهتمامه، ولم يكن من أمره والاهتمام به، والإِجماع على إمام واحد إنما كان في زمن عمر، فهو أول من فعل ذلك، وقد حقَّقت المرام في "تحفة الأخيار".
ثم جمع الناس على أبيّ في عهد عمر إنما كان للرجال، وأما النساء فكان إمام آخر كما أخرجه سعيد بن منصور من طريق عروة أن عمر جمع الناس على أبيّ بن كعب، فكان يصلّي بالرجال، وكان تميم الداري يصلي بالنساء، وفي رواية محمد بن نصر في "كتاب قيام الليل" في ذكر إمام النساء سليمان بن أبي حَثْمة، قال ابن حجر: لعل ذلك كان في وقتين. انتهى. وعلى هذا يُحمل اختلاف ما رواه مالك، عن السائب أن عمر أمر أبي بن كعب وتميماً أن يكون بإحدى عشرة ركعة، مع ما رواه هو والبيهقي أن عمر جمع الناس على ثلاث وعشرين ركعة، مع الوتر، فيحمل ذلك على أن الاقتصار على الأول كان في البداء، ثم استقر الأمر على عشرين، ذكره ابن عبد البر.
(2) أي: جعله إماماً لهم.(1/626)
قَالَ: ثُمَّ خرجتُ مَعَهُ (1) لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يصلّون (2) بصلاة (3) قارئهم (4) ، فقال: نِعْمَتْ (5)
__________
(1) أي: مع عمر.
(2) قوله: يصلّون ... إلخ، هو صريح في أن عمر لم يكن يصلي معهم لأنه كان يرى أن الصلاة في بيته، ولا سيَّما في آخر الليل أفضل، كذا في "التنوير".
(3) قوله: بصلاة، فيه دليل على أن عمر لم يكن يصلي معه، وكذا ورد في رواية الطحاوي وغيره، عن ابن عمر وجماعة من التابعين أنهم كانوا لا يصلّون مع الإِمام، بل في بيوتهم، فدلَّ ذلك على أن الجماعة في التراويح سنة على الكفاية (قال النووي في شرح مسلم 3/39: اختلفوا في أنَّ الأفضل صلاتها منفرداً في بيته أم في جماعة في المسجد؟ فقال الشافعي وجمهور أصحابه وأبو حنيفة وأحمد وبعض المالكية وغيرهم: الأفضل صلاتها جماعة كما فعله عمر بن الخطاب والصحابة رضي الله عنهم واستمرّ عمل المسلمين عليه، لأنه من الشعائر الظاهرة فأشبه صلاة العيد، وقال مالك وأبو يوسف وبعض الشافعية: الأفضل فرادى في البيت. اهـ.
ولا يذهب عليك أن اختيار الموالك أفضلية البيت مقيَّد بعدم تعطل المساجد كما صرَّح به في "مختصر خليل") .
(4) أي: إمامهم المذكور.
(5) قوله: نعمت البدعة، يريد صلاة التراويح، فإنه في حيِّز المدح وفيه تحريض على الجماعة المندوب إليها وإن كانت لم تكن في عهد أبي بكر، فقد صلاّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما قطعها إشفاقاً من أن تُفرض على أمته، وكان عمر ممَّن(1/627)
البدعةُ (1) هَذِهِ، وَالَّتِي (2) يَنَامُونَ عَنْهَا أفضلُ (3) مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ فِيهَا. يُرِيدُ آخرَ اللَّيْلِ وَكَانَ الناسُ يَقُومُونَ (4) أَوَّلِهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ، لا بأسَ بالصَّلاة فِي شَهْرِ رمضانَ أَنْ يصليَ النَّاسُ تطوُّعاً (5) بإِمَامٍ، لأَنَّ المسلمينَ قد أَجمعوا على ذلك (6)
__________
نبَّه عليها، وسنَّها على الدوام فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، كذا في "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبي.
(1) قوله: البدعة، فيه إشارة إلى أنها ليست ببدعة شرعية حتى تكون ضلالة، بل بدعة لغوية وهي حسنة، وقد حقَّقت الأمر في ذلك في رسالتي "إقامة الحجة على أن الإِكثار في التعبد ليس ببدعة".
(2) أي: الصلاة التي.
(3) قال ابن حجر: هذا التصريح بأن الصلاة آخر الليل أفضل.
(4) قوله: يقومون، أي: في الابتداء، ثم جعله عمر في آخر الليل لقول ابن عباس: دعاني عمر أتغدّى معه في رمضان، يعني السحور، فسمع هَيْعَة الناس حين انصرفوا، فقال عمر: أما إن الذي بقي من الليل أحب مما مضى، كذا ذكره الزرقاني.
(5) قوله: تطوُّعاً، إطلاق التطوُّع على التراويح باعتبار أنها زائدة على الفرائض، وبهذا المعنى يطلق التطوع على جميع السنن، فلا ينافي ذلك كونه سنة مؤكدة، كما صرح به الجمهور من أصحابنا وغيرهم، أخذاً من المواظبة النبوية الحُكْمية، ومن المواظبة الحقيقية من الصحابة، ومن المواظبة التشريعية من الخلفاء.
(6) قوله: على ذلك، أي: على صلاتهم بإمامهم في ليالي رمضان في زمان الخلفاء عمر وعثمان وعلي فمَنْ بعدَهم إلى يومنا هذا.(1/628)
ورأَوْه حسناً (1) .
__________
(1) قوله: ورأوه حسناً، كما يدل عليه قول عمر: نعمت البدعة، قال ابن تيمية في "منهاج السنة": إنما سمّاه بدعة لأنَّ ما فُعل ابتداءً بدعة في اللغة، وليس ذلك بدعةً شرعية، فإن البدعة الشرعية التي هي ضلالة ما فُعل بغير دليل شرعي كاستحباب ما لم يُحبه الله، وإيجاب ما لم يوجبه الله، وتحريم ما لم يحرمه الله. انتهى. وبه يندفع ما يقال: إن قول عمر نعمت البدعة مخالف لحديث "كل بدعة ضلالة" بأن المراد بالبدعة في الكلية البدعة الشرعية، وتوصيف الحسن للبدعة اللغوية ولم يُرْوَ عن أحد من الصحابة في زمان الخلفاء فمن بعدهم الإِنكار على ذلك، بل قد وافقوا عمر في كونه حسناً، وباشروا به، وأمروا، واهتموا به، فأخرج ابن أبي شيبة في "المصنَّف" عن وكيع، عن هشام، عن أبي بكر بن أبي مُلِيْكة أن عائشة أعتقت غلاماً لها عن دبر، فكان يؤمُّها في رمضان في المصحفِ، وعلقه البخاري في "باب إمامة العبد" بلفظ: وكانت عائشة يؤمها ذكوان من المصحفِ. وأخرج محمد في كتاب "الآثار" عن إبراهيم النَّخَعي أن عائشة تؤمُّ النساء في شهر رمضان فتقوم وسطاً، وأخرج البيهقي عن السائب: كانوا يقومون على عهد عمر في شهر رمضان بعشرين ركعة، وأخرج عن عروة أن عمر أوَّل من جمع الناس على قيام رمضان، الرجال على أُبَيّ بن كعب والنساء على سليمان بن أبي حَثْمة، زاد ابن سعد: فلما كان عثمان جمع الرجال والنساء على إمام واحد سليمان بن أبي حَثْمة. وأخرج البيهقي عن شبرمة - وكان من أصحاب عليّ - أنه كان يؤمُّهم في رمضان، فيصلّي خمس ترويحات. وأخرج أيضاً أنهم كانوا يقومون على عهد عمر بعشرين ركعة، وعلى عهد عثمان وعلي مثله، وأخرج أيضاً عن عرفجة: كان عليٌّ يأمر الناس بقيام رمضان. ويجعل للرجال إماماً وللنساء إماماً، قال عرفجة: فكنت أنا إمامَ النساء. وعن أبي عبد الرحمن السُّلَمي: أن عليّاً دعا القُرّاء في رمضان، فأمر رجلاً بأن يصلّي بالناس عشرين ركعة، وكان عليٌّ يوتر بهم. وروي عن علي أنه قال: نوَّر الله قبر عمر كما نوَّر علينا مساجدنا،(1/629)
وَقَدْ رُوي (1) عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم
__________
ذكره ابن تيمية. وفي الباب آثار كثيرة.
فإن قلت: قد روى الطحاويُّ وغيره تخلُّفَ ابن عمر وعروة وجماعة من التابعين عن صلاة الجماعة في ليالي رمضان فكيف يصح قول محمد: لأن المسلمين أجمعوا على ذلك؟ قلت: تخلّفهم لأنهم كانوا يَرَوْن الصلاة في البيوت أو في آخر الليل أفضل، لكن لم يُنقل عن أحد منهم أنهم أنكروا على اجتماعهم على إمام واحد في المسجد، ورأَوْه قبيحاً، فإنْ لم يثبت الإِجماع على المباشرة فلا مناص عن ثبوت الإِجماع على كونه حسناً، وهو مراد محمد، فإنَّ ضمير قوله: (على ذلك) يَرجع إلى ما ذكره بقوله لا بأس إلى آخره، فليس غرضه الإِجماع على المباشرة، بل الإِجماع على أنه لا بأس بذلك، وعلى أنه حسن، وبالجملة المواظبة التشريعية ثابتة من الصحابة، فمن بعدهم، على حسن أداء التراويح عشرين ركعة بالجماعة (قال الكساني: إن عمر رضي الله عنه جمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شهر رمضان على أبيّ بن كعب فصلّى بهم كل ليلة عشرين ركعة، ولم ينكر عليه أحد، فيكون إجماعاً منهم على ذلك. اهـ. وفي المغني 1/803: وهذا كالإِجماع) ، أما روايات التراويح في عهد عمر على وجوه: منها إحدى عشر ركعة وثلاث وعشرون ركعة في الموطأ قال ابن عبد البر: روى غير مالك في هذا الحديث إحدى وعشرون وهو الصحيح ويقول: إن الأغلب أن قوله إحدى عشر وهم رجحه الشيخ في أوجز المسالم 2/301 ولكن نسب الوهم إلى محمد بن يوسف لأن نسبة الوهم إلى الإمام مالك أبعد من النسبة إليه، وإن لم يثبت الإِجماع الفعلي من جميعهم، فافهم، فإنه من سوانح الوقت.
(1) قوله: وقد رُوي ... إلى آخره، أقول: هذا صريح في أن "ما رآه المؤمنون حسناً" الحديث مرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يزل الفقهاء والأصوليون من أصحابنا وغيرهم يذكرونه مرفوعاً، وكلمات جماعة من المحدثين شهدت بأنه ليس بمرفوع، بل هو قول ابن مسعود، بل نص بعضهم على أنه لم يوجد مرفوعاً من(1/630)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
طريق أصلاً، وكنت قد مِلْت إليه في رسالتي "تحفة الأخيار"، ففي "المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة" (المقاصد الحسنة ص 367، وأخرجه البزّار في كشف الأستار 1/80) لشمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي: حديث: "ما رآه المسلمون حسناً"، أخرجه أحمد من حديث ابن مسعود من قوله، وكذا أخرجه البزّار والطيالسي والطبراني وأبو نعيم في "حلية الأولياء" في ترجمة ابن مسعود، بل هو عند البيهقي في "الاعتقاد" من وجه آخر عن ابن مسعود، انتهى. كلامه من نسخة مقروءة عليه، وعليها خطّه في مواضع، وفي نسخة أخرى للمقاصد: حديث: "ما رآه المسلمون" أخرجه (سقط من الأصل: "أخرجه") أحمد في كتاب "السنَّة" - ووهم من عزاه للمسند - من حديث أبي وائل، عن ابن مسعود قال: إن الله نظر في قلوب العباد، فاختار محمداً صلّى الله عليه وسلّم فبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد، فاختار له أصحاباً فجعلهم أنصار دينه، ووزراء نبيه، "فما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن"، وكذا أخرجه البزار والطيالسي والطبراني وأبو نعيم في ترجمة ابن مسعود من "الحلية"، بل هو عند البيهقي في "الاعتقاد" من وجه آخر، عن ابن مسعود. انتهى. وفي "الأشباه والنظائر" للزين بن نُجَيم المِصْري عند ذكر القاعدة السادسة من النوع الأول من الفن الأول، وهي أن العادة محكمة، أصلها: قوله عليه السلام "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن"، قال العلائي: لم أجده مرفوعاً في شيء من كتب الحديث أصلاً، ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال، وإنما هو من قول ابن مسعود موقوفاً عليه، أخرجه أحمد في "مسنده" انتهى.
وفي "حواشي الأشباه" للسيد أحمد الحموي عند قوله: (أخرجه أحمد في "مسنده") قال السخاوي في "المقاصد الحسنة": حديث ما رآه المسلمون حسناً رواه أحمد في كتاب "السنة" - ووهم من عزاه للمسند - من حديث أبي وائل، عن ابن مسعود، وهو موقوف حسن. انتهى. فكأنَّ العلائي تبع من وهم في نسبه إلى(1/631)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
"المسند" انتهى. ثم منحني الله تعالى باشتراء قطعة من "مسند الإِمام أحمد" فإذا فيه في مسند عبد الله بن مسعود، قال أحمد: نا أبو بكر، نا عاصم، عن زرّ ابن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، قال: إن الله عزَّ وجل نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلّى الله عليه وسلّم، فوجد قلوب أصحابه خيرَ قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئاً فهو عند الله سيِّئٌ، انتهى. فعلمت أن نسبة الوهم إلى من نسبه إلى "مسند أحمد" كما صدر عن السخاوي وغيره وهم، لعله صدر من عدم مراجعة "مسند أحمد"، أو يكون ذلك لاختلاف النسخ (قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/177 و 178: أخرجه أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله موثقون) ثم بحثت عن رفع هذا الخبر ظناً مني أنه لا بد أن يكون في كتاب من الكتب طريق له مرفوعاً، وإن كان مقدوحاً، وإلاّ فيُستبعد أن ينسبه الجم الغفير من المفسرين والفقهاء والأصوليون إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم من غير وجود طريق مرفوع له فإن منهم المحدثين الذين بحثوا عن الإِسناد، وكشفوا الغطاء عن وجه المراد، فيستبعد منهم وقوع ذلك وإن لم يستبعد ممن لا يعدّ من المحدثين، ذلك لعدم مهارته في ما هنالك، فبعد كثرة التتّبع اطَّلعت على سند مرفوع له في "كتاب العلل المتناهية في الأحاديث الواهية" لابن الجوزي، لكن لا سالماً من القدح، بل مجروحاً بغاية الجرح، وهذه عبارته في (باب فضل الصحابة) من كتاب الفضائل: أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: أنا محمد بن إسماعيل بن عمر البجلي، قال: أنا يوسف بن عمر، قال: قُرئ على أحمد بن أبي زهير البخاري وأنا أسمع، قيل له: حدثكم علي بن إسماعيل؟ قال: أنا أبو معاذ رجاء بن معبد، قال: نا سليمان بن عمرو النخعي وأنا أسمع، قال: حدثنا أبان بن أبي عياش وحميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الله نظر في قلوب العباد، فلم يجد قلباً أتقى من أصحابي فذلك أخيارهم، فجعلهم أصحاباً، فما استحسنوا فهو عند الله حسن، وما استقبحوا فهو عند الله قبيح، قال المؤلف - أي ابن الجوزي -: تفرد به النخعي، قال أحمد بن حنبل: كان(1/632)
أَنَّهُ قَالَ: مَا رَآهُ (1) المُؤْمِنُوْنَ حَسَنَاً فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حسنٌ، وَمَا رآهُ المسلِمُونَ قَبيحاً فهو عندَ اللَّهِ قَبِيْحٌ.
__________
يضع الحديث، وقال المؤلف أيضاً: قلت: هذا الحديث إنما يُعرف من كلام ابن مسعود. انتهت. فعلمت أن هذا هو وجه انتسابهم قول "ما رآه المسلمون حسناً"، إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، لكن لا يخفى ما في الطريق المرفوع من وقوع سليمان بن عمرو النخعي، وهو كذاب على ما نقله ابن الجوزي، ونقل برهان الدين إبراهيم بن محمد بن خليل الشهير بسبط ابن العجمي في رسالته "الكشف الحثيث عمن رُمي بوضع الحديث"، عن ابن عَدِيّ أنه قال: أجمعوا على أن سليمان بن عمرو النخعي يضع الحديث، وعن ابن حبان: كان رجلاً صالحاً في الظاهر إلاَّ أنه كان يضع الحديث وضعاً، وكان قَدَرياً، وعن الحاكم: لست أشك في وضعه للحديث. انتهى.
(1) قوله: ما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن إلى آخره، اعلم أنه قد جرت عادة كثير من المتفقهين بأنهم يستدلون بهذا الحديث على حُسن ما حدث بعد القرون الثلاثة من أنواع العبادات وأصناف الطاعات ظنّاً منهم، أنه قد استحسنها جماعة من العلماء والصلحاء، وما كان كذلك فهو حسن عند الله، لهذا الحديث. ويُرَدُّ عليهم من وجهين: أحدهما: أنه حديث موقوف على ابن مسعود فلا حجة فيه، ويجاب عنهم بأنه إن ثبت رفع هذا الحديث على ما ذكره جمع منهم محمد فذاك، وإلاَّ فلا يضر المقصود لأن قول الصحابي: في ما لا يُعقل له حكم الرفع، على ما هو مصرَّح في أصول الحديث، فهذا القول وإن كان قولَ ابن مسعود لكن لمّا كان مما لا يُدرَك بالرأي والاجتهاد صار مرفوعاً حكماً، فيصح الاستدلال به، وثانيهما: أنه لا يخلو إما أن يكون اللام الداخلة على المسلمين في هذا الحديث للجنس أو للعهد أو للاستغراق ولا رابع، أما الأول فباطل، لأنه حينئذٍ تبطل الجمعية، ويلزم أن يكون ما رآه مسلم واحد أيضاً وإن خالفه الجمهور حسناً عند الله ولم يقل به أحد، وأيضاً يلزم منه أن يكون ما أحدثته الفرق الضالة من البدعات والمنهيات أيضاً حسناً لصدق رؤية مسلم حسناً، وهو باطل بالإِجماع، وأيضاً يخالف حينئذٍ قوله صلّى الله عليه وسلّم: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلاَّ واحدة"،(1/633)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: "من يعِش بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين"، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ"، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: "كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة التي تدل على أنه ليس كل ما حدث بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم وليس كل ما أحدثه مسلم من أمته حسناً، وإذا بطل أن يكون اللام للجنس تعيَّن أن يكون للعهد أو للاستغراق، أما على الأول: فالمعهود إما المسلمون الكاملون كأهل الاجتهاد كما قال عليّ القاري في "المرقاة": المراد بالمسلمين زُبدتهم وعُمدتهم، وهم العلماء بالكتاب والسنَّة الأتقياء عن الشبهة والحرام. انتهى. وإما الصحابة وهو الأظهر، بل لا يميل القلب الصادق إلى سواه، لكونه بعض حديث من حديث طويل مشتمل على توصيف الصحابة، والأصل في اللام هو العهد الخارجي، ويؤيده دخول الفاء على قوله: "ما رآه المسلمون" على ما هو أصل الرواية وإن اشتهر بحذفها على لسان الأمة فإذن لا يدل الحديث إلاَّ على حُسن ما استحسنه الصحابة أو ما استحسنه الكاملون من أهل الاجتهاد لا على ما استحسنه غيرهم من العلماء الذين حدثوا بعد القرون الثلاثة، ولا حظّ لهم من الاجتهاد، وما لم يدخل ذلك في أصل شرعي، وأما على الثاني: فإما أن يكون للاستغراق الحقيقي فلا يدل إلاَّ على حسن ما استحسنه جميع المسلمين، لا على حسن ما وقع الاختلاف فيه، وإما أن يكون للاستغراق العرفي وهو استغراق المسلمين الكاملين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المجتهدين، وبعد اللُّتيّا واللَّتي أقول: كلام محمد - رحمه الله تعالى - ههنا صافٍ من الكدورات لأنه إنما استدل بهذا الحديث على حُسن قيام رمضان بالجماعة، وهو أمر استحسنه الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون والعلماء الكاملون، وما استحسنه هؤلاء فهو عند الله حسن بلا ريب، وما استقبحه هؤلاء فهو عند الله قبيح بلا ريب، وبالجملة فهذا الحديث نِعْمَ الدليل على حسن ما استحسنه الصحابة وغيرهم من المجتهدين، وقبح ما استقبحوه، وأما ما استحسنه غيرهم من العلماء فالمرجع فيه إلى القرون الثلاثة، أو إلى دخوله في أصل من الأصول(1/634)
72 - (بابُ القنوتِ فِي الْفَجْرِ)
242 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نافعٍ قال: كان (1) ابنُ عمرَ
__________
الشرعية، فما لم يوجد في القرون الثلاثة، ولم يستحسنه أهل الاجتهاد ولم يوجد له دليل صريح أو ما يدخل فيه من الأصول الشرعية، فهو ضلالة بلا ريب، وإن استحسنه مستحسن، فافهم.
(1) قوله: كان ابن عمر لا يقنت في الفجر، هكذا رُوي عنه بروايات متعددة، وعن جماعة من الصحابة، فمنهم من لم يختلف عنه، ومنهم من رُوي عنه القنوت والترك كلاهما، فأخرج ابن أبي شيبة عن أبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا لا يقنتون في الفجر. وأخرج عن عليّ أنه لما قنت في الفجر أنكر عليه الناس ذلك، فلما سلَّم قال: إنما استنصرنا على عدونا. وأخرج أيضاً عن ابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وابن عمر أنهم كانوا لا يقنتون في الفجر. وأخرج محمد في "الآثار"، عن الأسود بن يزيد أنه صحب عمر سنين في السفر والحضر، فلم يره قانتاً في الفجر حتى فارقه. وأخرج البيهقي، وضعَّفه، عن ابن عباس قال: القنوت في الصبح بدعة. وأخرج الحازمي في كتاب "الاعتبار"، عن ابن مسعود قال: لم يقنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلاَّ شهراً، لم يقنت قبله ولا بعده. وأخرج عن ابن عمر أنه قال: رأيت قيامكم عند فراغ القارئ والله إنه لبدعة، ما فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غيرَ شهر واحد، ثم تركه. وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" أن عليّاً وأبا موسى كانا يقنتان في الفجر. وأخرج أيضاً عن إبراهيم: كان عبد الله لا يقنت في الفجر، وأول من قنت فيها علي، كانوا يرون أنه إنما فعل ذلك، لأنه كان محارباً. وأخرج عن ابن عباس أنه قنت في الفجر قبل الركعة، وأخرج أن ابن عمر وابن عباس كانا لا يقنتان في الصبح. وأخرج عن ابن مسعود أنه كان لا يقنت في شيء من الصلاة إلاَّ الوتر، فإنه كان يقنت فيهما قبل الركعة. وأخرج عن ابن الزبير أنه كان لا يقنت في الصبح. وأخرج عن عمر أنه كان يقنت، ومن طريق آخر أنه كان لا يقنت، ومن طريق أنه إذا كان محارِباً قنت، وإلاَّ لا. وذكر الحازمي أن ممَّن رُوي عنه القنوت عمار بن ياسر وأُبَيّ بن كعب وأبو موسى وعبد الرحمن بن(1/635)
لا يَقْنُتُ (1) فِي الصُّبْحِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
__________
أبي بكر وابن عباس، وأبو هريرة والبراء وأنس وسهل بن سعد وغيرهم (في الأصل: "غيره"، والصواب: "غيرهم") .
ولاختلاف الصحابة في ذلك وقع الاختلاف بين التابعين والأئمة المجتهدين، فمن ذهب إلى القنوت في الفجر سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين وأبان بن عثمان وقتادة وطاووس وعبيد بن عمير وعَبيدة السَّلماني وعروة بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى وحماد ومالك بن أنس وأهل الحجاز والأوزاعي وأكثر أهل الشام والشافعي وأصحابه والثوري في رواية وغيرهم كذا ذكره الحازمي، وذهب نفر من الأئمة منهم إبراهيم والثوري في رواية وأبو حنيفة (إن الحنفية والحنابلة متفقون في دوام قنوت الوتر دون الفجر وقنوت اللعن عندهم مخصوص بالنوازل يكون في رمضان أو في غيره. انظر أوجز المسالك 2/308) وأصحابه إلى أن لا قنوت في شيء من الصلوات إلاَّ في الوتر وإلاّ (في الأصل: "إلاَّ"، والصواب: "وإلاَّ") في نازلة، فإنه حينئذٍ يُشرع القنوت في الفجر. وأما الأخبار المرفوعة في ذلك فمختلفة اختلافاً فاحشاً، فورد أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقنت في الصلوات كلها، وورد أنه كان يقنت في الفجر والمغرب، وورد أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا، وورد أنه لم يقنت إلاَّ شهراً يدعو على قوم من الكفار، ثم تركه، وورد الاختلاف أيضاً في القنوت قبل الركوع أو بعده، وورد في بعض الروايات أنه كان لا يقنت إلاَّ أن يدعو لقوم أو على قوم. ولا نزاع بين الأئمة في مشروعية القنوت، ولا في مشروعيتِه للنازلة، إنما النزاع في بقاء مشروعيته لغير النازلة، فأصحابنا يقولون: القنوت كان حين كان ثم ترك، وغيرنا يقولون لم يزل ذلك في الصبح، وإنما تُرك في باقي الصلوات، والكلام في المقام طويل من الجوانب إبراماً وجرحاً وإيراداً ودفعاً، مظانُّه الكتب المبسوطة كـ"الاستذكار"، و"شرح معاني الآثار"، و"تخريج أحاديث الهداية" وغير ذلك.
(1) بل روي عنه أنه بدعة.(1/636)
73 - (بَابُ فضلِ صلاةِ الْفَجْرِ فِي الْجَمَاعَةِ وَأَمْرِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ)
243 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ (1) بنِ سليْمَانَ بنِ أَبِي حثْمةَ: أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّاب فَقَدَ سليمانَ (2) بْنَ أَبِي حثْمة (3) فِي صلاةِ الصُبْح، وأنَّ عُمَرَ غَدا (4) إِلَى السُّوقِ وَكَانَ مَنْزِلُ (5) سُلَيْمَانَ بَيْنَ السُّوقِ وَالْمَسْجِدِ، فمرَّ عُمَرُ عَلَى أُمِّ سُلَيْمَانَ الشِّفاء (6) (7) ، فَقَالَ: لَمْ أَرَ (8) سُلَيْمَانَ فِي الصبح، فقالت: بات يصلي (9)
__________
(1) قوله: أبي بكر، ثقة، عارف بالنسب، لا يُعرف اسمه، واسم أبي حثمة عبد الله بن حذيفة العدوي المدني، كذا في "التقريب".
(2) قوله: سليمان، قال ابن حبان: له صحبة، وكان من فضلاء المسلمين وصالحيهم، واستعمله عمر على السوق وجمع الناس عليه في قيام رمضان، كذا ذكره الزرقاني.
(3) بفتح المهملة وإسكان المثلثة.
(4) أي: ذهب بالغدوة، أي: الصبح.
(5) ولذا استعمله على السوق لقربه منه.
(6) بكسر الشين.
(7) قوله: الشفاء، هي بنت عبد الله بن عبد شمس بن خالد القرشية العدوية من المبايعات، قال أحمد بن صالح: اسمها ليلى، وغلب عليها الشفاء، كذا في "الاستيعاب".
(8) فيه تفقد الإِمام رعيته في شهود الخير.
(9) أي: النوافل بالليل.(1/637)
فَغَلَبَتْهُ (1) عَيْنَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: لأَنْ أَشْهَدَ (2) صلاةَ الصبح أحبُّ إليَّ (3) من أن أقوم الليلة.
244 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ عَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سكَتَ (4) المؤذِّنُ مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ (5) وَبَدَأَ (6) الصُّبْحُ (7) رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ (8) خَفِيفَتَيْنِ (9) قَبْلَ أَنْ تُقام الصَّلاةُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ صَلاةِ الْفَجْرِ
__________
(1) أي نام.
(2) أي: أحضر مع الجماعة.
(3) لما في ذلك من الفضل الكبير.
(4) يستنبط منه أن لا يصلي عند الأذان، بل يشتغل في الجواب.
(5) والجملة حالية.
(6) أي: ظهر.
(7) هذه الجملة إنما زيدت لئلا يُتَوَهَّم أنه كان يصلّي ركعتي الفجر بعد الأذان الأول الذي يؤذن به قبل طلوع الفجر.
(8) قوله: ركعتين، في رواية عَمْرة، عن عائشة: ثم يصلي إذا سمع النداء أي ركعتين خفيفتين حتى إنّي لأقول هل قرأ بأمّ الكتاب أم لا؟
(9) قوله: خفيفتين، اختلف في حكمة تخفيفهما فقيل: ليبادر إلى صلاة الصبح، وقيل: ليستفتح صلاة النهار بركعتين خفيفتين كما كان يصنع في صلاة الليل.(1/638)
يخفَّفان (1) (2) .
245 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ رَأَى رَجُلا رَكَعَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، ثُمَّ اضْطَجَعَ (3) فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا شَأْنُهُ (4) ؟ فَقَالَ نَافِعٌ: فَقُلْتُ: يَفْصِلُ بَيْنَ صلاته، قال ابن عمر:
__________
(1) في نسخة: مُخَفَّفَتان.
(2) قوله: يخفَّفان، بأن يقرأ فيهما: {قل يا أيها الكافرون} ، و {قل هو الله أحد} ، كما أخرجه مسلم وغيره أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يقرأهما فيهما، ولأبي داود: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا} في الركعة الأولى، وفي الثانية {ربَّنا آمنّا بما أَنْزَلْتَ واتَّبعنا الرسول} .
(3) قوله: ثم اضطجع ... إلخ، لا شبهة في ثبوت الاضطباع عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قولاً وفعلاً بعد ركعتي الفجر، أو قبلهما بعد صلاة الليل، وثبوت الترك عنه (الصواب هو الجمع بين الحديثين معاً، وأحسن الجمع ما نقله شيخنا عن والده - نوّر الله مرقده وبرّد مضجعه - أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا كان يفرغ من قيام الليل قبل طلوع الفجر يضطجع إلى أن يأتيه المؤذِّن بصلاة الفجر فيقوم فيصلي ركعتي الفجر ويغدو إلى الصلاة، وإذا فرغ من قيام الليل عند طلوع الفجر فيصلي ركعتي الفجر أيضاً لما قد حان وقته ويضطجع بعد ذلك. أوجز المسالك 2/329) ، أما ثبوته فعلاً بعد ركعتي الفجر، ففي حديث عائشة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا صلّى ركعتي الفجر اضطجع على شِقِّه الأيمن، أخرجه البخاري وغيره. وأما ثبوته قبلهما، ففي حديثها من رواية مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، وقد مرَّ في (باب صلاة الليل) . وأما ثبوته قولاً، ففي حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا صلّى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه، أخرجه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح. وأما ثبوت الترك ففي حديث عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا صلّى سنَّة الفجر فإن كنت مستيقظةً حدثني وإلاَّ اضطجع حتى يؤذن بالصلاة، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم، وقد اختلف(1/639)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
العلماء في ذلك على ستة أقوال على ما ذكره العيني في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري". الأول أنه سنَّة، وهو مذهب الشافعي وأصحابه، والثاني: أنه مستحب، وروي ذلك عن أبي موسى الأشعري، ورافع بن خَديج وأنس وأبي هريرة، ومحمد بن سيرين وعروة وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد، والثالث: واجب لا بد منه، وهو قول ابن حزم، والرابع: بدعة، وبه قال عبد الله بن مسعود وابن عمر على اختلاف عنه، فروى ابن أبي شيبة، عن ابن مسعود قال: ما بال الرجل إذا صلّى الركعتين يتمعَّك كما تتمعَّك الدابة والحمار، إذا سلَّم فقد فصل. وروى أيضاً أن ابن عمر نهى عنه، وأخبر أنها بدعة، وممن كره ذلك من التابعين الأسود وإبراهيم النخعي، وقال: هي ضجعة الشيطان. أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، وحكاه عياض عن مالك وجمهور العلماء، والخامس: أنه خلاف الأولى، عن الحسن أنه كان لا يعجبه، والسادس أنه ليس مقصوداً لذاته، وإنما المقصود الفصل بين ركعتي الفجر والفريضة، إما باضطجاع أو حديث أو غير ذلك وهو محكيّ عن الشافعي. انتهى كلام العيني ملخصاً.
قلت: ظاهر الأحاديث القولية والفعلية تقتضي مشروعية الضجعة بعد ركعتي الفجر، فلا أقلَّ من أن يكون مستحباً إن لم يكن سنَّة، وأما حمل ابن حزم الأمر للوجوب فيبطله ثبوت الترك، وأما إنكار ابن مسعود وابن عمر فإما أن يُحمل على أنه لم يبلغهما الحديث، وهو غير مستبعد، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما كان يصلي ركعتي الفجر، ويضطجع بعدهما في بيته، وابن مسعود وابن عمر لم يكونا يحضرانه في ذلك الوقت، وعائشة أعلم بحاله في ذلك الوقت، وقد أخبرت بوقوعه، وإما أن يُحمل على أنهما بلغهما الحديث لكن حملاه على الاستراحة، لا على التشريع، أو حملاه على كونه في البيت خاصاً، لا في المسجد أو نحو ذلك، والله أعلم. وفي "شرح القاري"، قال ابن حجر المكي في "شرح الشمائل": روى الشيخان أنه صلّى الله عليه وسلّم كان إذا صلّى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن، فتُسنّ هذه الضجعة بين(1/640)
وَأَيُّ فَصْلٍ (1) (2) أَفْضَلُ مِنَ السَّلامِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وبقولِ ابنِ عمرَ (3) نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة - رحمه الله -.
__________
سنَّة الفجر وفرضه، لذلك ولأمره صلّى الله عليه وسلّم، كما رواه أبو داود وغيره بسند لا بأس به، خلافاً لمن نازع، وهو صريح في ندبها لمن في المسجد وغيره خلافاً لمن خصَّ ندبَها بالبيت، وقول ابن عمر إنها بدعة وقول النخعي إنها ضجعة الشيطان، وإنكار ابن مسعود لها فهو لأنه لم يبلغهم ذلك. وقد أفرط ابن حزم في قوله بوجوبها، وإنها لا تصح الصلاة بدونها. انتهى. ولا يخفى بُعْد عدم البلوغ إلى هؤلاء الأكابر الذين بلغوا المبلغ الأعلى، لا سيما ابن مسعود الملازم له في السفر والحضر، وابن عمر المتفحِّص عن أحواله صلّى الله عليه وسلّم، فالصواب حمل إنكارهم على العلة السابقة من الفصل، وعلى فعله في المسجد بين أهل الفضل.
(4) أي: لِمَ فعل ذلك.
(1) قوله: فصل، وذلك لأن السلام إنما ورد للفصل، وهو لكونه واجباً أفضل من سائر ما يخرج من الصلاة من الفعل والكلام، وهذا لا ينافي ما سبق من أنه عليه السلام كان يضطجع في آخر التهجّد تارةً وتارةً بعد ركعتي الفجر في بيته للاستراحة، كذا قال علي القاري.
(2) فيه إشارة إلى أنه لا حاجة إلى الضجعة للفصل، بل هو حاصل بالسلام، وليس فيه إنكار الضجعة مطلقاً.
(3) أي: لا يحتاج إلى الاضطجاع للفصل.(1/641)
74 - (بَابُ طولِ القراءةِ فِي الصَّلاةِ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنَ التَّخْفِيفِ)
246 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا الزُّهريّ، عَنْ عبيْد اللهِ بنِ عبدِ اللَّهِ (1) عَنِ ابْنِ عَبَّاس، عَنْ أمِّه أمِّ الفَضلِ (2) : أنَّها سَمِعَتْهُ (3) يَقْرَاُ {والمُرْسَلاَتِ} ، فَقَالَتْ: يَا بنيَّ لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بقِراءتِكَ هَذِهِ السورةَ إِنَّهَا لآخِرُ (4) (5) مَا سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأُ فِي المَغرِب.
247 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثَنِيْ الزُّهْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ (6) بْنِ جُبَير بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ (7)
__________
(1) ابن عتبة بن مسعود.
(2) هي لبابة بنت الحارث الهلالية، أخت ميمونة، أم المؤمنين، وزوج العباس بن عبد المطلب، يُقال: إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة، كذا في "الاستيعاب".
(3) أي: عبد الله بن عباس.
(4) استدل به على ابتداء وقت المغرب وعلى جواز القراءة فيها بغير قصار المفصل.
(5) زاد البخاري: ثم ما صلّى لنا بعدها حتى قبضه الله.
(6) هو أبو سعيد القرشي النوفلي، ثقة، من رجال الجميع، مات على رأس المائة، كذا ذكره الزرقاني وغيره.
(7) هو جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، صحابي، أسلم عام الفتح، مات سنة ثمان أو تسع وخمسين، كذا ذكره الزرقاني.(1/642)