1023 - " بَابُ كَيْفَ كَانتْ يَمينُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - "
1173 - عَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ هِشَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ كُلِّ شَيءٍ إلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَهُ: " لا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أكُونَ أحَبَّ إِلَيْكَ من نَفْسِكَ " فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ وَاللهِ لأنْتَ أحَبُّ إِليَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " الآن يَا عُمرُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1023 - " باب كيف كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - "
1173 - معنى الحديث: أنه بينما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ممسكاً بيد عمر رضي الله عنه أراد أن يعبر عن شعوره نحوه - صلى الله عليه وسلم - فقال له: " لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلاّ من نفسي " قال القسطلاني: ذكر حبه لنفسه بحسب الطبع " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا والذي نفسي بيده " أي فأقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالله الذي روحه بيده على أن عمر لن يبلغ المرتبة العليا حتى يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك " أي حتى يصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - أحب إليك من نفسك " فقال له عمر: فإنه الآن " الخ أي فقال عمر: أمّا الآن فإني أشعر وأحس في أعماق نفسي أنك أحبّ إلي من نفسي. قال الحافظ: جواب عمر الأول كان بحسب الطبع، ثم تأمل فعرف بالاستدلال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من نفسه، لأنه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والآخرة. " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الآن يا عمر " أي الآن عرفت فنطقت بما يجب.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من الأيمان المأثورة(5/316)
1024 - " بَابُ النَّذْرِ في الطَّاعَةِ "
1174 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ نَذَرَ أن يُطِيعَ الله، فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أنْ يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التي كان يحلف بها النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: " والذي نفسي بيده ". ثانياً: أن من كمال الإيمان أن يستشعر المسلم فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه حيث أنقذه برسالته من المهلكات وأخرجه من الظلمات إلى النور، فيحبه أكثر من نفسه. ولا غرابة في ذلك، فإن العواطف السائدة كحب الله تعالى وحب الأنبياء وحب العبادة قد تقوى فتصبح أقوى من حب الإنسان لنفسه الذي هو من أقوى غرائزه. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا والذي نفسي بيده ".
1024 - " باب النذر في الطاعة "
النذر: لغة الوعد بخير أو شر، وشرعاً التزام طاعة في مقابل حدوث نعمة أو زوال نقمة، ولا يصح إلاّ من بالغ عاقل مختار، ولو كان كافراً.
1174 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " من نذر أن يطيع الله " أي من نذر أن يعمل عملاً صالحاً فيه طاعة وقربة إلى الله تعالى " فليطعه " أي فليوف بنذره بفعل تلك الطاعة من صلاة أو صيام أو حجّ أو عمرة أو صدقة أو اعتكاف أو نحو ذلك، سواء كان النذر مطلقاً كأن يقول: لله عليّ أن أفعل كذا، دون تقييد بشرط، أو كان معلقاً كقوله: " إن شفي الله مريضي أو رد غائبي فعلت كذا " " ومن نذر أن يعصيه " أي ومن نذر أن يفعل معصية كقوله: " لله علي أن أشرب الخمر " " فلا يعصه " أي فلا يوف بنذره، ولا يفعل المعصية التي نذرها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يجب الوفاء بنذر(5/317)
1025 - " بَابُ مَنْ مَات وعَلَيْهِ نذْرٌ "
1175 - عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أنَّهُ اسْتَفْتَى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فأفْتَاهُ أن يَقْضِيَهُ عَنْهَا، فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الطاعة، سواء كان نذراً معلقاً وهذا يجب الوفاء به إجماعاً، أو نذراً مطلقاً غير مقيد بشرط كقوله: ابتداءً لله عليّ صوم شهر، فإنه يجب الوفاء به عند أكثر أهل العلم، قال ابن قدامة: وهو قول أهل العراق، وظاهر مذهب الشافعي، وقال بعض أصحابه: لا يلزم الوفاء به، لأن النذر عند العرب وعد بشرط كما قال أبو عمر. قال ابن قدامة: وما حكوه عن أبي عمر: لا يصح، فإن العرب تسمي الملتزَم بفتح الزاي نذراً وإن لم يكن بشرط قال جميل:
فَلَيْتَ رِجَالاً فِيْكِ قَدْ نَذَرُوْا دَمِي ... وَهَمُّوا بِقَتْلي يَابُثَيْنُ لَقُوْنِي
ثالثاً: أن نذر المعصية لا يحل الوفاء به إجماعاً لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: " من نذر أن يعصي الله فلا يعصه " ويجب على الناذر نذر معصية كفارة اليمين، وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا كفارة عليه، كما قال ابن قدامة، وهو مذهب مالك والشافعي، لأنه ليس نذراً شرعياً في الحقيقة كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد " أخرجه مسلم. والمطابقة: في قوله: " من نذر أن يطيع الله فليطعه ". الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.
1025 - " باب من مات وعليه نذر "
1175 - معنى الحديث: يحدثنا سعد بن عبادة رضي الله عنه " أنه استفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نذر كان على أمّه، فتوفيت قبل أن تقضيه " قيل: كان صياماً، وقيل: صدقة، وقيل: عتقاً " فأفتاه أن يقضيه عنها " أي فأمره أن(5/318)
ينوب عنها في قضاء ذلك النذر " فكانت سنة بعد " أي فكانت فتوى النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة يعمل بها بعده.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية قضاء النذر عن الميت، وقد اختلف أهل العلم في النذور التي تقضى عن الميت، قال ابن قدامة: من نذر حجّاً، أو صوماً، أو صدقة، أو عتقاً، أو اعتكافاً أو صلاة، أو غيره من الطاعات، ومات قبل فعله، فعله الولي عنه، وعن أحمد في الصلاة لا يُصلّى عن الميت، لأنها لا يدل لها بحال، وأما سائر الأعمال فيجوز أن ينوب الولي عنه فيها، وليس بواجب، ولكن يستحب له ذلك على سبيل الصلة والمعروف. قلت: وحاصل الخلاف في قضاء النذر عن الميت أربعة أقوال (1) : الأول: أنه تقضى عنه جميع الطاعات بدنية كانت أو مالية وهو مذهب الحنابلة. الثاني: أنه تقضى عنه جميع الطاعات ما عدا الصلاة، وهو رواية عن أحمد وقول للشافعي. الثالث: تقضى عنه جميع الطاعات ما عدا الصلاة والصوم، وهو أحد قولي الشافعي حيث قال في الصيام: يطعم عنه كل يوم مسكيناً. الرابع: أنه تقضي عنه الطاعات المالية دون البدنيّة، وهو مذهب مالك رحمه الله. ثانياً: أن قضاء النذر على ولي الميت مستحب وليس بواجب، إلاّ أن يكون مالياً وللميت تركه، وأما ما روي عن ابن عباس أنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن أمّي ماتت وعليها صومٌ، أفأصوم عنها؟ فقال: " أرأيت لو كان على أمّك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها؟ " قالت: نعم، قال: " فصومي عن أمك " متفق عليه، فإن أمره - صلى الله عليه وسلم - في هذا محمول على الندب والاستحباب بدلائل قرائن في الخبر، منها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبهه بالدين، وقضاء الدين عن الميت، لا يجب على الوارث ما لم يخلّف تركة يقضى بها. وقال أهل الظاهر: يجب القضاء على وليه لظاهر الأخبار. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب عن الترجمة.
__________
(1) كما أفاده ابن قدامة في " المغني " وكما يدل عليه حاصل كلامه.(5/319)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب الفرائض "
والفرائض لغة: تأتي من الفرض بمعنى القطع، يقال: فرضتُ لفلان فريضة من المال، أي قطعت له كمية منه، أو من الفرض بمعنى التقدير، فيكون معنى الفريضة المقدار المحدد، ومنه قوله في حديث الزكاة: " هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (1) أما الفرائض شرعاً فإنها تطلق على معنيين: 1- معنى خاص: وهي السهام المقدرة في كتاب (2) الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لبعض الورثة والتي هي الثلثان والثلث والسدس والنصف والربع والثمن. ومعنى عام: وهو قواعد فقهية وحسابية (3) يعرف بها نصيب كل وارث من التركة. وقال في " الروض الأنيق " (4) : هي عبارة عن فهم قسمة المواريث، وفهم علم الحساب، ومعرفة النسب بين الأعداد. وقال في " أحكام المواريث ": هي عبارة عن فقه المسائل المتعلقة بالإرث، ومعرفة متى يكون الإنسان وارثاً أو غير وارث، ومقدار ما يستحقه الوارث، وكيفية تقسيم التركة على الورثة (5) ، وما يتبع ذلك. وموضوع علم الفرائض: هو التركات وما يتعلق بها، وتتعلق بالتركة الأحكام الآتية على الترتيب المذكور. أولاً: تجهيز الميت بغسله، وتكفينه، ودفنه، وفعل ما يحتاج إليه من وقت وفاته إلى مثواه الأخير من غير إسراف ولا تقتير. ثانياً: قضاء ديونه التي لها مطالب من العباد، فلا تقسم التركة حتى
__________
(1) " لسان العرب " لابن منظور ج 7.
(2) " المواريث في الشريعة الإسلامية " للصابوني حيث عرّفها بذلك أثناء تعريفه لأصحاب الفروض ص 34.
(3) " الفقه الإسلامي وأدلته " ج 8 للدكتور وهبة الزحيلي.
(4) " الروض الأنيق " لفضيلة الشيخ عبد الرحمن مضاي المدرس بالحرم النبوي.
(5) " أحكام المواريث في الشريعة الإسلامية " للشيخ محي الدين عبد الحميد.(5/320)
1026 - " بَابُ مِيرَاثِ الْوَلَدِ مِنْ أبِيهِ وَأُمِّهِ "
1176 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " ألحِقُوا الْفَرَائِضَ بأهْلِهَا، فمَا بَقِيَ فَهُوَ لأوْلَى رَجُلٍ ذكرٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تقضى هذه الديون لقوله - صلى الله عليه وسلم -: نفس الميت معلقة بدينه حتى يقضى. ثالثاً: تنفيذ وصايا الميت في حدود الثلث لغير الوارث بعد أداء ما يكفي للتجهيز وأداء الديون التي عليه. رابعاً: تقسيم ما بقي من التركة بين الورثة حسب الكتاب والسنة وإجماع الأمّة. حكم علم الفرائض: وقد أجمعت الأمة على أنه فرض كفاية لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " تعلموا الفرائض وعلّموها الناس فإني امرؤ مقبوض، وإن هذا العلم سيقبض، وتظهر الفتن، حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان أحداً يفصل بينهما " رواه الحاكم (1) . وأسباب الإِرث ثلاثة: النسب والنكاح والولاء، وموانعه ثلاثة أيضاً: القتل والرق واختلاف الدين، وذهب أحمد إلى أن القريب الوارث إذا كان كافراً وأسلم قبل قسمة التركة فإنه يرث خلافاً للجمهور.
1026 - " باب ميراث الولد من أبيه "
1176 - معنى الحديث،: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أمته أن يقوموا بتوزيع المواريث وقسمتها على مستحقيها توزيعاً عادلاً يتفق مع حكم الله تعالى، فقال: " ألحقوا الفرائض بأهلها " أي ابدؤوا في القسمة أولاً بأصحاب الفروض الذين لهم سهام مقدرة في الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فأعطوا لكل واحد منهم سهمه المقدر له شرعاً، " فما بقي فهو لأولى رجل ذكر " أي فما زاد عن أصحاب
__________
(1) وأبو يعلى والبزار عن ابن مسعود رضي الله عنه وإسناده ضعيف (ع) .(5/321)
الفرائض فإنه يعطى للعصبة، وهم أقرب الذكور إلى الميت وإنما قال: " لأولى رجل ذكر " مع أن الرجل لا يكون إلاّ ذكراً، حتى لا يظن أحد أن المراد من لفظ الرجل هو الكبير القادر (1) فيمنع الصغير من الميراث، كما كانوا يفعلون في الجاهلية، فإن الذكر وإن كان رضيعاً يستحق الإِرث بالتعصيب وقد يأخذ كل المال بالتعصيب.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن أوّل ما يبدأ به عند قسمة المواريث أصحاب الفروض والسهام المقدرة شرعاً، وهم عشرة: الزوج، والزوجة، والأب، والجد، والأم، والجدة، والبنت، وبنت الابن، والأخت الشقيقة، والأخ، والأخت الأم، هؤلاء هم أصحاب الفرائض المقدرة شرعاً التي هي النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس، وهم الذين يُبدأ بهم أولاً عند قسمة المواريث، وتختلف أسهمهم حسب اختلاف أحوالهم، كما هو موضح في علم الفرائض. ثانياًً: أن القسم الثاني من الورثة: العصبة، وهو في لسان الشرع أقرب ذكر إلى الميت وقد جعل الشارع له الحق في أن يأخذ ما بقي عن أصحاب الفروض كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " فما بقى فهو لأولى رجلٍ ذكر " حيث دل الحديث على أن ما أبقت الفروض يكون لأقرب العصبات من الذكور، لا يشاركه من هو أبعد منه، حكاه النووي وغيره إجماعاً، وإن استووا اشتركوا. وتنقسم العصبة إلى ثلاثة أقسام: الأول: العصبة بنفسه: وهو كل ذكر ينسب إلى الميت ليس بينه وبينه أنثى كالأب والجد وإن علا، والابن وابن الابن وإن سفل، والأخ الشقيق أو لأب، وابن الأخ الشقيق أو لأب، والعم الشقيق أو لأب، وأولادهما، والمعتق ذكراً كان أو أنثى، وحكمه أنه إذا انفرد حاز جميع المال، وإن كان مع أصحاب الفرائض حاز ما بقى عن أصحاب الفرائض، وقد يستغرق أصحاب الفرائض المال كله فلا يرث شيئاً.
__________
(1) " المواريث في الشريعة الإسلامية " للصابوني.(5/322)
1027 - " بابُ مِيرَاثِ ابْنَةِ ابْنٍ مَعَ ابْنَةٍ "
1177 - عَنْ أبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنهُ سُئِلَ عَنْ ابْنَةٍ وابْنَةِ ابْن وَأختٍ، فَقَالَ: لِلابْنَةِ النِّصْفُ، ولِلأُخت النِّصْفُ، وأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ فَيتَابِعُنِي، فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ وأُخبِر بِقَوْلِ أبي مُوسَى فَقَالَ: "لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذَاً وَمَا أنا مِنَ الْمُهْتَدِينَ! أقْضِي فيهَا بِمَا قَضَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثاني العصبة بغيره: وهو كل أخ يعصب أخته من جهتها، وينحصر ذلك في البنت، وبنت الابن، والأخت الشقيقة، والأخت لأب، فإن كل واحدة من هؤلاء الأربعة يعصبها أخوها. الثالث العصبة غيره: وهي كل أنثى تصير عصبة باجتماعها مع غيرها، ويتحقق في الأخوات الشقيقات، أو الأخوات لأب إذا اجتمعن مع البنات أو بنات الابن، فإذا اجتمعت أخت شقيقة مثلاً مع بنت، أخذت البنت النصف فرضاً، وأخذت الأخت الباقي وهو النصف تعصيباً، وإذا اجتمعت مع بنتين أخذت البنتان الثلثين فرضاً، وأخذت الأخت الثلث الباقي تعصيباً، وإذا اجتمعت مع أصحاب فرائض وبنت، أخذت الباقي بعد أصحاب الفرائض والله أعلم. ثالثاً: أن الولد يرث من أبيه وأمه تعصيباً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فما بقى فللأولى رجل ذكر " والولد أقرب الذكور إلى الميت. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فما بقي فلأولى رجل ذكر ".
1027 - " باب ميراث ابنة ابن مع ابنة "
1177 - معنى الحديث: أن أبا موسى رضي الله عنه سئل إذا اجتمع ثلاثة ورثة، ابنة وابنة ابن وأخت، كيف يكون الميراث بينهن؟ وماذا تستحق كل واحدة منهن، فأفتى أن للبنت النصف، وللأخت النصف، ولا شيء لبنت(5/323)
النبي - صلى الله عليه وسلم -: لِلابْنَةِ النِّصْفُ، ولابنَةِ الابنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَمَا بَقِيَ فَلِلأُخْتِ، فَأتَيْنَا أبَا مُوسَى فَأخْبَرَنَاه بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: لا تَسْألونِي مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ فِيكُمْ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الابن، وقال: سل ابن مسعود عن هذه المسألة، فلما سأله عنها، لم يوافق على حرمان بنت الابن من الميراث، وقال: لو أفتيت بذلك لكنت قد أخطأت، ولكنني أحكم في هذه المسألة أن للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وللأخت الباقي، وهو الثلث تعصيباً. فلما جمع أبو موسى بفتوى ابن مسعود رضي الله عنهما استحسنها، وأثنى عليه بخير، ووصفه بغزارة العلم، وسعة الاطلاع، وقال: " لا تسألوني ما دام هذا الحَبر " بفتح الحاء " بينكم " أي لا تسألوني ما دام هذا العالم الكثير العلم الغزير المعرفة بينكم.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن الأخت الشقيقة مع البنت أو مع بنت الابن أو معهما معاً تكون عصبة مع غيرها، فإذا اجتمعت معهما كان للبنت النصف فرضاً، ولبنت الابن السدس بقية الثلثين، وللأخت الثلث تعصيباً، وإذا اجتمعت مع البنت وحدها، كان للبنت النصف فرضاً وللأخت النصف تعصيباً، وإذا اجتمعت مع البنتين كان لهما الثلثان فرضاً، ولها الثلث تعصيباً، وإذا اجتمعت مع بنت الابن فحكمها معها كالبنت أو البنات تماماً والله أعلم. الحديث: أخرجه أيضاً الأربعة. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة.
***(5/324)
1028 - " بَابُ مولى القوم من أنفسهم وابن أخت القوم منهم "
1178 - وَعَنْ أنسٍ رَضيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " ابْنُ أُخْتِ القَوْمِ مِنْهُمْ، أوْ مِنْ أنْفُسِهِمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1028 - " باب مولى القوم من أنفسهم وابن أخت القوم منهم "
1178 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ابن أخت القوم من أنفسهم " أي من أقرب أقربائهم تربطه بهم رابطة قوية متينة كرابطة النسب، فإذا كان النسب يقتضي التوارث بين أبناء العمومة مثلاً، فإن علاقة الخؤولة تقتضي أن يرث الخال ابن أخته أو بنت أخته، وكذلك الخالة والعمة عند عدم ذوي الفرائض والعصبة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على توريث ذوي الأرحام عند عدم وجود ْأصحاب الفرائض والعصبة، وهم كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة، كأولاد البنات وأبناء الأخوة لأمّ، وأولاد الأخوات، والأخوال والخالات، وغيرهم، وقد اختلف أهل العلم في توريثهم على مذهبين: المذهب الأول: وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل وكافة علماء العراق وبعض علماء الشافعية أنهم يرثون إذا لم يوجد للميت صاحب فرض ولا عاصب، فإن ماله الباقي بعد تجهيزه وتسديد ديونه ووصاياه يعطى ميراثاً لذوي رحمه، وهو رأي الكثرة الغالبة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. والمذهب الثاني: وهو قول مالك والشافعي وكثير من فقهاء الأمصار أن ذوي الأرحام لا يرثون أصلاً، ولو مات إنسان وليس له صاحب فرض ولا عاصب فإن ماله لبيت مال المسلمين ميراثاً قال في " الدرة البهية " (1) : وقد رجع علماء الشافعية في أواخر القرن الرابع
__________
(1) الدرة البهية على الرحيية للشيخ محي الدين عبد الحميد.(5/325)
الهجري، وعلماء المالكية في أوائل القرن الثالث الهجري إلى القول بتوريث ذوي الأرحام (1) فصار القول بتوريث ذوي الأرحام قول الجمهور من أواخر القرن الرابع الهجري (2) واستدل القائلون بتوريث ذوي الأرحام بقول الله تعالى (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) قال ابن قدامة: " أي أحق بالتوارث في حكم الله تعالى " وروى الإِمام أحمد بإسناده عن سهل بن حنيف: أن رجلاً رمى رجلاً بسهم فقتله، ولم يترك إلاّ خالاً، فكتب فيه أبو عبيدة إلى عمر: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " الخال وارث من لا وارث له " قال الترمذي: هذا حديث حسن وقد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - وارثاً، والأصل الحقيقة، وقد ورث النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن الأخت أيضاً كما في حديث محمد بن يحيى قال: توفي ثابت بن الدحداح ولم يدع وارثاً ولا عصبة، فرفع شأنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدفع النبي - صلى الله عليه وسلم - ماله إلى ابن أخته أبي لبابة بن عبد المنذر. الحديث: أخرجه البخاري والنسائي. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث.
***
__________
(1) قال الشافعية والمالكية ومن وافقهم بتوريث ذوي الأرحام عند عدم انتظام بيت مال المسلمين، أما إذا كان منتظماً فهم على رأيهم في عدم التوريث. اهـ. حسن السماحي.
(2) حاشية القليوبي بهامش شرح المحلي للمنهاج في مذهب الشافعية، و" نهاية المحتاج " للرملي، وشرح الزرقاني كما في الدرة البهية.(5/326)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب الْحُدُودِ "
1029 - " بَابُ الضَّرْبِ بالْجَرِيدِ والنِّعَالِ "
1179 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
أتِيَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: " اضْرِبُوهُ " قَالَ أبُو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" كتاب الحدود "
والحدود لغة: جمع حد، وهو المنع ومنه حدود العقار، لأنها موانع تحول دون امتداد يد الغير إليه، ومشاركته فيه، وأحدّت المعتدة امتنعت عن الزينة وتطلق الحدود أيضاً على الأحكام الشرعية المقرّرة ومنه قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أما معنى الحد شرعاً: فهو العقوبة المقدرة حقاً لله تعالى (1) ومعنى كونها مقدرة أنها محدودة معينة لا يزاد فيها ولا ينقص منها، وليس لها حد أدنى وحد أعلى، وهي حق الله تعالى الذي لا يقبل الإِسقاط من الأفراد ولا من الجماعات، ولا يملك المجني عليه العفو عن المجرم فيها، فلو تنازل المسروق منه بعد بلوغ القضية إلى الحاكم الشرعي لا يؤثر تنازله وعفوه بشيء، ولا تسقط هذه العقوبة عن المجني عليه. لما رواه مالك في " الموطأ " عن سعيد بن المسيب قال: ما من شقي إلا يحب الله أن يعفي عنه ما لم يكن حداً. ولا تجوز الشفاعة في حد أصلاً لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأسامة رضي الله عنه " أتشفع في حد من حدود الله؟ ".
1029 - " باب الضرب بالجريد والنعال "
__________
(1) " التشريع الجنائي الإسلامي " عبد القادر عودة.(5/327)
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، والضَّارِبُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ بَعْضُ القَوْمِ: أخْزَاكَ اللهُ، قَالَ: " لا تَقُولُوا هَكَذَا، لا تُعِيْنُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1179 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه " أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قد شرب " قيل هو " نُعيمان " بالتصغير الذي اشتهر بالفكاهة والمزاح، وقد امتلأت كتب الأدب " كَنهاية الأرب " وغيرها بفكاهاته ونوادره. وذكر ابن سعد أنه عاش إلى خلافة معاوية، وقصته مع الرجل الأعمى وعثمان رضي الله عنه معروفة مشهورة تجدها في " الفكاهات والنوادر " من كتاب " نهاية الأرب " " فقال: اضربوه " أي فأمرهم بضربه دون تحديد عدد معين من الضرب " فمنا الضارب بيده " أي فبعض الصحابة ضربه بيده دون استعمال أداة أخرى من أدوات الضرب " ومنا الضارب بنعله " لإهانة ذلك الشارب والتنكيل به " ومنا الضارب بثوبه " ولم يستعملوا السوط الذي هو أداة الحد في الضرب " فلما انصرف " أي فلما فرغ الناس من ضربه " قال بعض القوم: أخزاك الله " أي دعا عليه بالخزي، وهو الذل والمهانة والفضيحة بين الناس قيل: إن الداعي هو عمر رضي الله عنه. " فقال " النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقولوا " له هكذا لا تعينوا عليه الشيطان " لأنهم إذا دعوا عليه " بالخزي " ربما استجيب لهم، فبلغ الشيطان مأربه، ونال مقصده ومطلبه أو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو طبيب النفوس خشي على الرجل أنه إذا امتهنت كرامته، وجرحت مشاعره، وأهدرت إنسانيته أدَّى ذلك إلى حدوث رد فعل سيىء في نفسه فيصر على الخطيئة، ويتمادى في الانحراف فيكونون بفعلهم هذا قد أسلموه إلى الشيطان، فيتمكن منه ويستولي عليه نتيجة تلك الانفعالات السيئة التي أوجدوها في نفسه. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود وأحمد.(5/328)
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه ليس لشارب الخمر حد شرعي، وإنما عقوبته عقوبة تعزير لا حد، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اضربوه " ولم يعين قدراً محدوداً من الضرب، ولا عدداً معيناً منه. ولقول علي رضي الله عنه: " ما كنت لأقيم حداً على أحد فيموت فأجد في نفسي إلاّ صاحب الخمر، فإنه لو مات لوديته " أي دفعت ديته، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسنه، أي لم يضع له حداً شرعياً. وكل جريمة لا حد لها فعقوبتها تعزير وهي موكولة إلى اجتهاد الإِمام وقد اختلف أهل العلم في عقوبة شارب الخمر هل هي حد أو تعزير على ثلاثة أقوال: الأول: أنها تعزير أي تأديب مفوّض إلى اجتهاد الإِمام، وبهذا قال بعض أهل العلم، منهم الطحاوي ورجح الشوكاني أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدار معيّن من العقوبة، وأن عقوبة شارب الخمر ترجع إلى اجتهاد الإمام، ومؤدى كلامه هذا أن عقوبته تعزير لا حد. القول الثاني: أن شارب الخمر يعاقب حداً مقداره ثمانون جلدة، وبهذا قال مالك والثوري وأبو حنيفة ومن تبعهم لإجماع الصحابة، فإنه روي أن عمر رضي الله عنه استشار الناس في حد الخمر، فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعله كأخف الحدود ثمانين جلدة، فضربه عمر ثمانين، وكتب به إلى خالد وأبي عبيدة بالشام، وروي أن علياً قال في المشورة: إنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى فَحدّه حد المفتري. الثالث: أنها حدٌّ مقداره أربعون جلدة، وهو اختيار الصديق رضي الله عنه، ومذهب الشافعي، لأن علياً جلد الوليد بن عقبة أربعين، ثم قال: " جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سنة، وهذا أحب إليَّ " رواه مسلم. قال ابن قدامة: ولا ينعقد الإِجماع على ما خالف فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعلي رضي الله عنهما، فتحمل الزيادة من عمر على أنها تعزير، ويجوز فعلها إذا رآه الإِمام. ويتلخص مما ذكرنا أن في عقوبة الخمر ثلاثة مذاهب:
1 - أنّها تعزير محض، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسن في ذلك حداً معيناً، ولإمام المسلمين أن يعاقب الشارب بما أدى إليه اجتهاده.
2 - أنها حد شرعي مقدر(5/329)
1030 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) وفي كَمْ تُقْطع؟ "
1180 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " تُقْطعُ الْيَدُ في رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدَاً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بثمانين جلدة، وهو مذهب جمهور أهل العلم.
3 - أن الأربعين جلدة حدٌّ، وما زاد فهو تعزير، وهو مذهب الشافعى، ورواية عن أحمد اختارها ابن قدامة وابن تيمية وابن القيم والشيخ عبد الرحمن السعدي. قال ابن تيمية في " الاختيارات " والصحيح في حد الخمر الرواية الموافقة لمذهب الشافعي وغيره أن الزيادة على الأربعين إلى الثمانين ليست واجبة على الإِطلاق، بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإِمام كما جوزنا له الاجتهاد في صفة الضرب. ثانياًً: دل هذا الحديث على وجوب حد الشرب على كل من شرب مادة مسكرة مطلقاً من العنب أو غيره، سكر أو لم يسكر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أتي برجل قد شرب فقال: " اضربوه " حيث رتب الضرب على الشرب، وهو مذهب الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة، حيث فرّق بين ما كان من عصير العنب وغيره والحديث حجة للجمهور. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود. والمطابقة: في قوله: " فمنا الضارب بنعله ".
1030 - " باب قول الله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) "
1180 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " تقطع اليد في ربع دينار " هذا خبر بمعنى الأمر، أي اقطعوا يد السارق بسبب سرقة ربع دينار " فصاعداً " أي فما زاد على ذلك، فإذا سرق السارق ربع دينار أو أكثر فإنها(5/330)
تقطع يده من مفصل الكف، والدينار مثقال من الذهب وهو درهم وثلاثة أسباع الدرهم والدرهم باق على حاله ومقداره لم يتغيِّر جاهلية ولا إسلاماً.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يجب إقامة حد السرقة على كل من ثبتت سرقته. والسرقة هي الأخذ خفية من مال في حرز مثله لا ملك له فيه، ولا شبهة ملك. ثانياًً: أن نصاب السرقة الذي تقطع فيه يد السارق هو ربع دينار، وهو مذهب مالك وأحمد ومن وافقهم من أهل العلم، ويعادله من الفضة ثلاثة دراهم، ومن العروض ما قيمته ثلاثة دراهم. أما دليل نصاب الذهب، فقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: " تقطع اليد في ربع دينار " أما دليل نصاب الفضة والعروض، فهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع في مِجَنٍّ ثمنه ثلاث دراهم " وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق حيث قالوا: النصاب ربع الدينار أو ثلاثة دراهم، أو عَرَض قيمته أحدهما، وذهب الشافعي إلى أن النصاب ربع دينار ذهباً، أو ما قيمته ربع دينار من الفضة أو العروض، وبه قال كثير من العلماء منهم عائشة وعمر بن عبد العزيز وغيرهم، وذهب أبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري إلى أن النصاب عشرة دراهم مضروبة. واستدل أبو حنيفة بما أخرجه البيهقي والطحاوي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عشرة دراهم. قال في " تيسير العلام " وهذه الرواية وإن خالفت ما في الصحيحين من أن قيمته ثلاثة دراهم، فالواجب الاحتياط فيما يستباح به قطع العضو المحرم، فيجب الأخذ به وهو أكثر وبما أخرجه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا قطع إلاّ في عشرة دراهم " وضعِّف العلماء هذا الحديث والله أعلم. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الحديث جواباً لقوله في الترجمة: " وفي كم تقطع " حيث بيّن في الحديث أنها تقطع في ربع دينار والله أعلم.(5/331)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب المحاربين "
1031 - " بَابُ لَمْ يُسقَ المرتدُّونَ الُمَحاربُون حَتَّى مَاتُوا "
1181 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَفَرٌ مِنْ عُكَلِ فَأسلَمُوا، فاجْتَوَوُا المَدِينَةَ، فَأمرَهُمْ أن يَأْتُوا إبِلَ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أبوَالِهَا وألْبَانِهَا، فَفَعَلُوا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" كتاب المحاربين "
والمحاربون كل جماعة مسلحة تخرج في دار الإِسلام تهدد الأمن وتسفك الدماء وتسلب الأموال وتعتدي على الحريات العامة والحقوق الشخصية سواء كانت هذه الجماعة مسلمة أو ذميّة أو معاهدة ما دامت في دار الإِسلام ويدخل في المحاربين جميع العصابات الإِرهابية، كعصابات القتل وخطف الأطفال والسطو على البيوت والبنوك أو خطف العذارى أو غير ذلك، وكذلك كل فرد عدواني له قوة يهدد بها الأمن العام، فهو محارب وقاطع طريق. وتنفذ في حقه أحكام المحاربة.
1031 - " باب لم يسق المرتدون المحاربون حتى ماتوا "
1181 - معنى الحديث: يقول أنسٍ رضي الله عنه: " قدم على النبي نفر من عكل " أي قدم عليه - صلى الله عليه وسلم - سنة ست من الهجرة جماعة من قبيلة عكل (1) ما بين الثلاثة إلى العشرة " فأسلموا " أي دخلوا في الإِسلام " فاجتووا المدينة " قال القاري: أي استوخموها، ولم يوافقهم المقام بها،
__________
(1) أي من قبيلة عكل وعرينة.(5/332)
فَصَّحُّوا، فارْتَدُّوا، وقَتَلُوا رُعَاتِهَا، واسْتَاقُوا الإبِلَ، فَبَعَثَ في آثارِهِمْ، فأُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أْيدِيَهُمْ وأرْجُلَهُمْ، وسَمَلَ أعيُنَهُمْ، ثُمَّ لَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَى مَاتُوا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأصابهم الجواء وهو المرض " فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة " أي أمرهم أن يخرجوا إلى المكان الذي فيه إبل الزكاة، ويقيموا هناك " فيشربوا من أبوالها " للتداوي بها، لأنها دواء نافع " وألبانها " للتغذي والتداوي بها أيضاً لأنها شفاء " ففعلوا فصحوا " أي فشربوا ذلك فقويت أجسامهم، وصحت أبدانهم " فارتدوا " وخرجوا عن الإِسلام وعادوا إلى كفرهم " وقتلوا رعاتها " أي قتلوا راعي النبي - صلى الله عليه وسلم - وطمعوا في المال " واستاقوا الإِبل " وولوا بها هاربين " فبعث في آثارهم " أي فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب وجماعة من الصحابة وراءهم ليمسكوا بهم ويلقوا القبض عليهم " فأتي بهم " أي فجيء بهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " فقطع أيديهم وأرجلهم " من خلاف كما في رواية الترمذي " وسمل أعينهم " بفتح السين والميم، أي فقأ أعينهم " ثم لم يحسمهم " بسكون الحاء وكسر السين " حتى ماتوا بل تركهم حتى ماتوا " أي تركهم ينزفون حتى الموت ولم يكوهم لينقطع الدم. قال ابن الملك: إنما فعل بهم - صلى الله عليه وسلم - هذا مع نهيه عن المثلة، إما لأنهم فعلوا ذلك بالرعاة، وإما لعظم جريمتهم. والله أعلم.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن المحارب وقاطع الطريق إذا قتل لا بد من قتله لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل هؤلاء العرنيين المذكورين في الحديث أما إذا أخاف السبيل، أو سرق المال، ولم يقتل فإن الحديث لم يتعرض لهذا، واختلف الفقهاء في حكمه، هل يجوز للإِمام قتله إذا رأى المصلحة في ذلك؟ أم لا يجوز قتل المحارب إلا إذا قتل؟ وسبب هذا الخلاف اختلافهم في الأحكام الواردة في الآية الكريمة من القتل، والصلب، والقطع والنفي هل هي(5/333)
على الترتيب أو التخيير. فقال بعض الفقهاء: (أو) في قوله تعالى: (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) للترتيب والتنويع وتدل على توزيع الأحكام على حسب الجنايات، فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن قتل ولم يأخذ مالاً قتل فقط، ومن اقتصر على أخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ مالاً نفي من الأرض، وهذا هو مذهب الشافعية والصاحبين (1) ، وهو مروي عن ابن عباس. وقال بعض الفقهاء: إن (أو) في الآية للتخيير فالإِمام مخيّر في الحكم على المحاربين بأي حكم من الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل أو الصلب أو القطع أو النفي لظاهر الآية الكريمة. وهذا قول مجاهد والضحاك والنخعي، وهو مذهب المالكية (2) . اهـ. إلاّ أن التخيير عندهم مقيد بحدود خاصة، وليس على إطلاقه، فقد قال مالك: " الإِمام بنص الآية مخيّر في تطبيق أي جزاء على المحارب حسب اجتهاده (3) ، وما يرى فيه المصلحة إلاّ القاتل فإن المحارب إذا قتل لا بد من قتله، وليس للإِمام تخيير في قطعه، ولا في نفيه، وإنما التخيير في قتله أو صلبه، وإذا أخذ المال ولم يقتل فلا تخيير في نفيه ويخير الإمام في قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف، وأمّا إذا أخاف السبيل فقط، فالإمام مخير في قتله وصلبه وقطعه ونفيه، بمعنى أن للإِمام الحق في استعمال العقوبة الأشد لا في استعمال الأخف. وقال أبو حنيفة بالتخيير في محارب مخصوص وهو الذي قتل النفس وأخذ المال، فالإِمام مخيّر في أمور أربعة: (أ) قطع يده ورجله من خلاف وقتله. (ب) قطع يده ورجله من خلاف وصلبه. (ج) صلبه فقط دون قطع يده ورجله. (د) قتله فقط (4) واختلف الفقهاء في عقوبة النفي ما
__________
(1) " روائع البيان في تفسير آيات الأحكام " للصابوني ج 1.
(2) " روائع البيان في تفسير آيات الأحكام " للصابوني ج 1.
(3) التشريع الجنائي لعبد القادر عودة ج 1.
(4) " فتح الباري " ج 12.(5/334)
هي؟ فقال مالك والشافعي: معناها أن يخرج المحارب من بلد الجناية إلى بلدة أخرى، وزاد مالك: فيحبس فيها، وقال أبو حنيفة: هي أن يحبس في بلده، فالنفي هو السجن، لأن السجن خروج من سعة الدنيا إلى ضيقها، فصار كأنه نفي من الأرض، وقد قال بعض الشعراء:
خَرَجْنَا مِنَ الدُّنيا وَنَحْنُ مِنْ اهْلِهَا ... فَلَسْنَا مِنَ الأمْوَاتِ فِيهَا وَلاَ الأحيَا
إذَا جَاءَنَا السَّجَّانَ يَوْماً لِحَاجَةٍ ... عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذا مِنَ الدُّنيا
ثانياًً: دل هذا الحديث على أن قاطع الطريق إذا قتل وأخذ المال، فإنه يجوز للإمام أن يقطع يده ورجله من خلاف، ويقتله (1) كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعرنيين " حيث قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ثم لم يحسمهم حتى ماتوا " وبهذا قال بعض أهل العلم، وهو مذهب أبي حنيفة حيث قال فيمن قتل وأخذ المال: إن الإمام مخيّر بين أن يقطع يده ورجله من خلاف ويقتله، أو يقطعه ويصلبه أو يصلبه فقط دون قطع يده ورجله، أو يقتله فقط. ثالثاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمل أعين هؤلاء، مع نهيه عن المثلة فقيل: كان هذا (2) قبل نزول آية الحدود، وآية المحاربة، والنهي عن المثلة فهو منسوخ، أو فعله قصاصاً. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الحديث دل على عقوبة المحارب.
***
__________
(1) قال تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أي إخراج المؤمنين من مكة أشد من قتلهم.
(2) شرح النووي على مسلم.(5/335)
1032 - " بَابُ رَجْمَ الْمُحْصَنَ "
1182 - عَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" أنَّ رَجُلاً مِنْ أسْلَمَ أتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَحَدَّثَهُ أنَّهُ قَدْ زَنَى، فَشَهد عَلَى نَفْسِهِ أرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فأمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرُجِمَ، وَكَانَ قَدْ أحْصِنَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1033 - " باب رجم المحصن " (1)
1182 - معنى الحديث: يحدثنا جابر رضي الله عنه " أن رجلاً من أسلم " اسمه ماعز بن مالك الأسلمي " أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وهو في المسجد كما في الرواية الأخرى " فحدثه أنه قد زنى " أي فأخبره أنه قد ارتكب الفاحشة، واعترف على نفسه بالزنا " وشهد على نفسه أربع شهادات " أي أقر على نفسه بالزنا أربع مرات " فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجم، وكان قد أحصن " أي فحكم عليه - صلى الله عليه وسلم - بالرجم بموجب إقراره، لأنه محصن، والمحصن حكمه الرجم كما في الآية المنسوخة. تلاوة والباقي حكمها: " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية رجم الزاني إذا كان محصناً أي متزوجاً قد دخل على زوجته وجامعها بنكاح صحيح، أما إذا عقد عليها، ولم يدخل بها، فإنه يكون غير محصن، ويجب عليه الحد لا الرَّجم. وفيه دليل على أنه يرجم فقط، ولا يجلد، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اكتفي برجمه، وهو مذهب الجمهور، خلافا لأحمد في رواية: أنه يجلد، ثم يرجم، لما في حديث علي رضي الله عنه أنه جلد المرأة الهمدانية ورجمها، وقال: "رجمتها
__________
(1) بفتح الصاد.(5/336)
1033 - " بَابُ البِكْرَانِ يُجْلَدَانِ وَيُنْفَيَانِ "
1183 - عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِى قَالَ:
" سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأمُرُ فيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصِنْ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ
عَام ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) . ثانياً: أن جريمة الزنا تثبت بإقرار الزاني على نفسه كما في هذا الحديث، لأن المرء يؤخذ بإقراره، والإِقرار سيّد الأدلة، والحديث صريح في ذلك، حيث حكم النبي على الزاني بالرجم بموجب إقراره، قال في " تيسير العلام ": اختلف العلماء هل يشترط تكرار الإِقرار بالزنا أربع مرات، أو لا؟ فذهب الإمام أحمد وجمهور العلماء ومنهم الحكم وابن أبي ليلى والحنفية إلى أنه لا بد من الإقرار أربع مرات مستدلّين بهذا الحديث، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقم على ماعز الحد إلا بعد أن شهد على نفسه أربع مرات وقياساً على الشهادة بالزنا فإنه لا يقبل إلاّ أربعة شهود، ولا يشترط أن تكون الإقرارات في مجالس، خلافاً للحنفية، وذهب مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر إلى أنه يكفي لإقامة الحد إقرار واحد، لحديث " اغد يا أُنيْسُ إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها " وإنما اعترفت مرة واحدة، وأجابوا عن حديث ماعز بأن الروايات في عدد الإقرارات مضطربة، أربع مرات ومرتين وثلاثاً. الحديث: أخرجه الشيخان وَأبو داود والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قول جابر رضي الله عنه: " فأمر به فرجم ".
1033 - " باب البكران يجلدان وينفيان "
1183 - معنى الحديث: يقول زيد بن خالد رضي الله عنه:
__________
(1) قال الحافظ في الفتح: زاد علي بن الجعد: " وجلدتها بكتاب الله " وفي رواية عن أحمد أيضاً: لا يجمع بينهما، كما هو رأي الجمهور. (ع) .(5/337)
" سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر فيمن زنى " أي يأمر في كل من وقعت منه جريمة الزنا، رجلاً أو امرأة " ولم يُحْصَن (1) " أي ولم يكن متزوجاً ومجامعاً لزوجته بنكاح شرعي صحيح، فيدخل فيه من عقد على زوجته ولم يدخل عليها، أو من جامع سفاحاً. " جلد مائة وتغريب عام " منصوب بنزع الخافض، أي بجلد مائة جلدة وتغريب عام والمعنى: أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر في كل زان محصن أن يجلد مائة جلدة وينفي من بلده لمدة سنة كاملة إلى مسافة القصر إذا رأى الإِمام ذلك.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن حد الزاني البكر رجلاً كان أو امرأة جلد مائة جلدة، ونفيه لمدة سنة كاملة، أما الجلد فقد ثبت بكتاب الله حيث قال عز وجل: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) وبهذا الحديث الشريف، وأما تغريب سنة، فقد ثبت بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث الباب هذا وغيره من الأحاديث الصحيحة الصريحة، فقد روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قضى فيمن زنى ولم يُحْصن بنفي عام، وإقامة الحد عليه. أخرجه البخاري. وعن عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " أخرجه مسلم. قال أبو عيسى الترمذي: وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النفي، ورواه أبو هريرة وزيد بن خالد وعبادة بن الصامت وغيرهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم أبو بكر وعمر وعلي بن أبي طالب، وأُبي بن كعب وغيرهم، وكذلك روي عن غير واحد من فقهاء التابعين، وهو قول سفيان الثوري ومالك ابن أنس، وعبد الله بن المبارك، والشافعي، وأحمد وإسحاق (2) . اهـ.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يجلد ولا ينفى، قال في " الهداية " (3) : ولا
__________
(1) بضم الياء وفتح الصاد على البناء للمجهول.
(2) " جامع الترمذي ".
(3) " أوجز المسالك على موطأ مالك " ج 3.(5/338)
يجمع في البكر بين الجلد والنفي، ولنا قوله تعالى: (فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) لأنه جعل الجلد كل الموجب، ولأن التغريب فتح باب الزنا لانعدام الاستحياء من العشيرة إلاّ أن يرى الإِمام في ذلك مصلحة واستدل بعضهم على عدم مشروعية النفي بحديث زيد بن أسلم أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسوط، فأتي بسوط مكسور، فقال: " فوق هذا " فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته، فقال: " دون هذا " فأتي بسوط قد ركب به ولان، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلد، ثم قال: " أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله " أخرجه مالك في " موطئه " (1) قالوا: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث اكتفي بجلده. وأما الأحاديث التي ورد فيها النفي فقد حملوا النفي فيها على التعزير، وهو متروك إلى رأي الإِمام قال الحافظ: واختلف (2) القائلون بالتغريب، فقال الشافعي والثوري وداود بالتعميم وخص الأوزاعي النفي بالذكور، وبه قال مالك وقيّده بالحرية، وبه قال إسحاق، وعن أحمد روايتان، واختلف في المسافة التي ينفى إليها، فقيل: هو إلى رأي الإمام، وقيل: يشترط مسافة القصر. الحديث: أخرجه أيضاً بقية الجماعة. والمطابقة: في كون النبي - صلى الله عليه وسلم - " أمر في الزاني غير المحصن بالجلد والتغريب ".
***
__________
(1) " موطأ مالك ".
(2) " أوجز المسالك " ج 13.(5/339)
1034 - " بَابٌ كَمِ التَّعْزِيزُ والأدَبُ "
1184 - عَنْ أبِي بُرْدَةَ الأنْصَارِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ إلَّا في حَدِّ مِنْ حُدُودِ اللهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1034 - " باب كم التعزير والأدب "
1184 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " لا يجلد فوق عشر جلدات (1) إلاّ في حد من حدود الله " أي لا يجلد أحد في عقوبة شرعية غير الحد أكثر من عشر جلدات فقط فلا تزيد العقوبة التأديبية في التعزير على عشر ضربات كما جاء مصرحاً به في حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يعزّر فوق عشرة أسواط.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية التعزير وهو: عقوبة تأديبية موكولة إلى رأي الإمام، تقام على من ارتكب ذنباً لا يستوجب الحد الشرعي (2) المنصوص عليه، سواء كان هذا الذنب صغيرة أو كبيرة. واختلفوا: هل يجب إقامة عقوبة التعزير على من يستحقها أم لا؟ فقال بعضهم: يجب على الإمام إقامتها عليه كالحد تماماً، وهو قول مالك وأحمد، وعند الشافعي: التعزير ليس بواجب لما جاء في الحديث الصحيح أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني رأيت امرأة فأصبت منها دون أن أطأها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أصليت معنا؟ " قال: نعم، فتلا عليه (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) فإن هذا يدل على أن الإِمام مخير في إقامة التعزير على من يستحقه
__________
(1) بفتح الجيم واللام والدال.
(2) لأن العقوبات الشرعية نوعان. عقوبات مقدرة في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - كعقوبة الزنا وهي الحدود، وعقوبات غير مقدّرة كعقوبة الإفطار في رمضان ومنع الزكاة، وهذه هي التعزير.(5/340)
وعدم إقامته عليه. ثانياًً: استدل به بعض أهل العلم على أن الحد الأعلى في التعزير عشرة أسواط لا يزاد عليها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الزيادة على ذلك إلاّ في حد من الحدود الشرعية، وهو مذهب أحمد والليث وبعض الشافعية، وقال مالك والشافعي وصاحبا أبي حنيفة: تجوز الزيادة على العشرة، إلاّ أن الشافعي قال: على شرط أن لا يبلغ أدنى الحد، وقال الباقون وعلى رأسهم مالك رحمه الله: هو إلى رأي الإِمام بالغاً ما بلغ، وأجابوا عن حديث الباب، بأن المراد بحدود الله أوامره ونواهيه فكل من خالف ذلك بترك واجب أو فعل محرم فإنه داخل في الاستثناء، ولولي الأمر تعزيره بما شاء حتى يبلغ به الحد الذي يراه رادعاً وزاجراً له ولأمثاله. فبعضهم يكفيه التوبيخ، وبعضهم الضرب والجلد، وبعضهم الحبس، وبعضهم أخذ المال. والذين تندر منهم المعاصي وهم ذوو الهيئات ينبغي التجاوز عنهم كما أن المعاصي تختلف في كبرها وصغرها، فينبغي للحاكم ملاحظة الأحوال والظروف والملابسات، ليكون على بصيرة من أمره، وتكون تعزيراته واقعة موقعها. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الحديث دل على الحد الأعلى للتعزير وهو ما ترجم له البخاري.
***(5/341)
بسم الله الرحمن الرحيم
كتابُ الدِّيَات
1035 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعالى (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) "
1185 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُود رَضِيَ اللهُ عَنْه قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لا يَحِلُ دَمُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأني رَسُولُ اللهَ إلَّا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: النفْسُ بِالنفْسِ، وَالثيبُ الزَّاني، والْمُفَارِقُ لِدِينِهِ، التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الديانات
1035 - " باب قول الله تعالى: (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) "
1185 - معنى الحديث: حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل المسلم إلا في جريمة شرعية تحل دمه، وحصر ذلك في عدد محدود فقال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله " أي لا يجوز قتل مسلم يُقِرُّ بالأمرين، وينطق بالشهادتين " إلاّ بإحدى ثلاث " الباء للسببية أي إلاّ بسبب ارتكاب إحدى الجرائم الشرعية الثلاث. فإذا اقترف جريمة منها فإنه يقتل في بعضها قصاصاً، وفي بعضها حداً. الجريمة الأولى: " النفس بالنفس " أي أن النفس المسلمة تقتل قصاصاً بسبب قتلها عمداً لنفس مسلمة أخرى ظلماً وعدواناً، وهو مصداق قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) . الجريمة الثانية: " الثيب الزاني " أي أن يزني المسلم المتزوج، فإذا زنى بعد زواجه، فإنه يقتل رجماً بالحجارة كما جاء في الآية المنسوخة تلاوة، والباقي حكمها " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة " ويكون قتله حداً، كما أن(5/342)
القاتل يقتل قصاصاً. الجريمة الثالثة: " المفارق لدينه التارك للجماعة " أي أن يرتد المسلم عن دينه، ويخرج عن الإِسلام ويترك جماعة المسلمين وينضم إلى جماعة أخرى من الجماعات الكافرة، فهذا يقتل حداً بعد استتابته. فإن تاب وإلّا قتل. فهؤلاء الثلاثة يقتلون، لأن في قتلهم سلامة الأبدان والأعراض والأديان (1) .
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم قتل المسلم ذكراً كان أو أنثى صغيراً أو كبيراً بغير حق شرعي، فمن نطق بالشهادتين وأتى بما تقتضيانها واجتنب ما يناقضهما فهو المسلم المحرم الدم والمال والعرض، له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم (2) . ثانياً: تحريم هذه الجرائم الثلاث التي هي قتل النفس والزنا والردة عن الإِسلام، وكونها من الكبائر. ثالثاً: أن قاتل النفس المعصومة عمداً بغير حق شرعي يقتل قصاصاً، وهذا هو معنى قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (3) وهو ما ترجم له البخاري. رابعاً: أن الزاني الثيب - أي المحصن يقتل حداً، فكل حر مكلف سبق له أن جامع في نكاح صحيح رجلاً كان أو امرأة، إذا زنى، فعقوبته الرجم بالحجارة حتى الموت. خامساً: أن المرتد عن الإِسلام يقتل بعد استتابته ثلاثة أيام، فإن تاب وعاد إلى دينه، وإلّا قتل حداً. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " النفس بالنفس ".
***
__________
(1) " تيسير العلام " ج 2.
(2) أيضاً " تيسير العلام " ج 2.
(3) ولا يقتل المسلم بالكافر عند الجمهور لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ولا يقتل مسلم بكافر " وقال أبو حنيفة يقتل المسلم بالكافر لعموم قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) .(5/343)
1036 - " بَابُ دِيَة الأصَابِعَ "
1186 - عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: " هَذِهِ وهَذِهِ سَوَاءٌ، يَعْنِي الخِنْصَرَ، والِإبهَامَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1036 - " باب دية الأصابع "
1186 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى الخنصر والإِبهام وقال: " هذه وهذه سواء يعني الخنصر والإِبهام " متساوية في الدية، وإن كانت الخنصر أكثر مفصلاً من الإِبهام إلا أنه لا فرق بينهما في الدية، لأن دية الأصابع واحدة وهي عشر من الإِبل لكل أصبع.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن الأصابع متساوية في الدية لا فرق بين صغيرها وكبيرها، كما أنه أيضاً لا فرق بين أصابع اليدين والرجلين، وقد جاء ذلك مفصلاً في رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أصابع اليدين والرجلين سواء، عشرة من الإِبل لكل أصبع " أخرجه الجماعة وقال الترمذي: هذا حديث حسن (1) صحيح، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق، وبه قال أبو حنيفة (2) وهو المشهور من مذهب مالك حيث قال: " وفي كل أصبع عشرة " قال في الرسالة (3) وفي كل أصبع عشر من الإبل، وفي الأصبع الزائدة ما في الأصلية حيث كانت مساوية للأصل. الحديث: أخرجه أبو داود
__________
(1) " جامع الترمذي ".
(2) " تحفة الأحوذي " ج 4.
(3) " الرسالة " لابن أبي زيد القيرواني.(5/344)
1037 - " بَابُ مَنِ اطَّلَعَ في بَيْتِ قَوْم فَفَقَئوا عَيْنَهُ فَلا دِيَةَ لَهُ "
1187 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ أبو القَاسِمَ - صلى الله عليه وسلم -: " لَوْ أنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " هذه وهذه سواء " وهو ما ترجم له البخاري.
1037 - " باب من أطلع في بيت قوم ففقئوا عينه فلا دية له "
1061 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " لو أن امرءاً اطلع عليك " أي نظر إلى بيتك من ثقب الدار ونحوه " بغير إذن " وفي رواية ولم تأذن له أي والحال أنه ما وقع منك إذن له بالدخول " فخذفته " من الخذف، وهو الرمى بالأصبعين، أي فرميته " بحصاة " أو عود أو نحوها " ففقأت عينه " أي فقلعت عينه " ما كان عليك جناح " أي فلا إثم عليك ولا قصاص ولا دية (1) .
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز رمي من يتجسس ولو لم يندفع إلا برميه بشيء يؤذيه، وأنه إن أُصيبَ فقلعت عينه أو أصيب عضو منه فتلف فهو هدر، وهو مذهب الجمهور، وذهب المالكية إلى أنه يجب عليه القصاص (2) ، وأنه لا يجوز قصد العين ولا غيرها، لأن المعصية لا تدفع بالمعصية، وأجاب الجمهور بأن المأذون فيه لا يسمّى معصية. ثانياً: قال
__________
(1) كما في رواية أخرى حيث قال - صلى الله عليه وسلم - " من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه فلا دية ولا قصاصاً رواه أحمد في المسند، والنسائي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح (ع) .
(2) " فتح الباري " ج 12.(5/345)
الحافظ: وفيه مشروعية الاستئذان على من يكون في بيت مغلق، ومنع التطلع عليه من خلل الباب، وأن الاستئذان لا يختص بغير المحارم، بل يشرع على من كان منكشفاً ولو كان أماً أو أختاً. الحديث: أخرجه الشيخان وأحمد في مسنده. والمطابقة: كما قال العيني (1) : تؤخذ من قوله: " لم يكن عليك جناح " أي حرج.
***
__________
(1) " عمدة القاري شرح البخاري " للعيني ج 24.(5/346)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب التعبير "
قال الحافظ: التعبير خاص بتفسير الرؤيا، وهو العبور من ظاهرها إلى باطنها، ويقال: عبرت الرؤيا: إذا فسرتها وعبرتها بالتشديد للمبالغة في ذلك. اهـ. وقد استطاع علماء المسلمين من خلال ما قصه الله عز وجل علينا في القرآن من رؤى وتفسيرها كرؤيا يوسف، ومن خلال الرؤى التي رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفسرها، ورآها أصحابه، وفسَّرها لهم، ومن خلال القواعد المستنبطة والاستقراءات الواسعة أن يتوصلوا إلى تفسير الرؤيا الصادقة، والتمييز بينها وبين غيرها من الرؤى الشيطانية والنفسية، وأن يعرفوا ماذا تعني رموز الرؤى الربانية، لأن الغالب في الرؤى أن تكون رمزية، كما نرى ذلك واضحاً في رؤيا يوسف عليه السلام، والتعبير خاص بالرؤيا الصادقة الصحيحة، وليس كل ما يراه الإنسان يكون صحيحاً، وإنما الصحيح ما كان من الله تعالى. وقد يكون ظاهرها مخيفاً وباطنها مبشراً. ولهذا كان التأويل الخاطىء (1) في غاية الخطورة حتى قالوا: إن تعبير الرؤيا في كثير من الأحوال يشبه الفتوى، ولكل رؤيا مفاتيحها وقد يكون مفتاحها في اسم أو إشارة خفية. ولما كانت الرؤيا تغلب عليها الرمزية، فإن المعبر قد يخطىء في تفسيرها كثيراً، ولذللث كان التعبير ظنياً لا قطعياً، ولهذا قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام: (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا) أما أنواع الرؤيا فقد تحدثنا عنها في مواضع كثيرة: منها " باب كيف كان بدء الوحي " عند أول حديث عائشة حيث قالت: "أول ما بدىء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة ".
__________
(1) " أوجز المسالك " ج 15.(5/347)
1038 - " بَابُ الرُّؤيَا مِنَ اللهِ "
1188 - عَنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ سَمِعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِذَا رَأى أحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحِبُّهَا، فإنَّمَا هِيَ مِنَ اللهِ، فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَيْهَا، وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ، فإنَّمَا هِيَ مِنَ الشَّيَطَانِ، فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا، ولا يَذْكُرْهَا لأحَدٍ فإنَّهَا لا تَضُرُّهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1038 - " باب الرؤيا من الله " (1)
1188 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله " أي إذا رأى في منامه ما يسرّه فإنما هي بشارة له " فليحمد الله " أي فليشكر الله عليها، لأنها نعمة من نعمه، أو لأنهاه تبشره بنعمة " وليحدث بها " من يوده ويثق به لما جاء في حديث مسلم " فإن رأى رؤيا حسنة فليستبشر ولا يخبر إلاّ من يحب " " وإذا رأى غير ذلك مما يكره " من الرؤيا القبيحة التي يكره صورتها، أو يكره تأويلها " فإنما هي من الشيطان " أي فإنما هي خيالات شيطانية يصوّرها الشيطان لنفس النائم في منامه، ليخوفه بها من ذلك أن يريه وحشاً يفترسه ولا حقيقة لذلك في الواقع " فليستعذ من شرها " عند انتباهه من نومه ليستجير بالله ويتحصّن به منها (2) " ولا يذكرها لأحد " أي ولا يخبر بها أحداً على وجه التعبير، ولو كان حبيباً " فإنها لا تضره " أي فإنه إذا استعاذ بالله منها، ولم يحدِّث بها أحداً، ولم يعبرها له أحد لم تؤذه، بخلاف ما لو عبرها له أحد، فإنه يخشى من وقوعها، لأن الرؤيا كما في الحديث " على رجل طائر إذا عبرت وقعت ". الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة:
__________
(1) يريد رحمه الله تعالى أن التعبير الإسلامي يفرّق بين الرؤيا الصادقة والرؤيا الشيطانية في التسمية، فيسمى الأولى رؤيا، ويسمى الثانية حلماً للتمييز بينهما، بخلاف اللغة.
(2) أي يسأل الله أن يحفظه من المخاوف والوساوس التي تحدثها في نفسه.(5/348)
في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإنّها من الله ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الرؤيا نوعان: (أ) رؤيا حسنة: تسر النفس وهي تضاف إلى الله تعالى، وتسمى " رؤيا صالحة " وإنما تضاف إلى الله عزّ وجل تشريفاً، وتكريماً لها، كما يضاف إليه كل شيء جميل، أو لأنها بشارة من الله تعالى لمن يراها. (ب) ورؤيا سيئة تخيف الرائي، وتفزعه، وهذه تضاف إلى الشيطان وتسمى حلماً، وفي الواقع أن كل ما يراه النائم في منامه يسمى رؤيا وحلماً معاً، ولكن كما قال القاري: غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والشيء الحسن، وغلب الحلم على ما يراه من الشر والأمر القبيح وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في الرواية الأخرى: " الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان " قال العيني: وهذا العرف شرعي، وإلا فالكل يسمّى رؤيا. ثانياًً: أنه يستحب لمن رأى رؤيا صالحة - أي رؤيا حسنة تسر بها نفسه أن يشكر الله عليها، لأنها نعمة، وأن يحدث بها أحبابه الذين يثق بهم، ويطمئن إلى علمهم ورجاحة عقلهم، وفي الحديث: " لا تحدث بها إلاّ لبيباً أو حبيباً " وفي رواية: لا يقصُّ إلاّ على عالم أو ناصح، لأن العالم يؤولها على الخير مهما أمكن، والناصح يرشد إلى ما ينفع، والحبيب إن عرف خيراً قاله، وإن جهل أو شك سكت، فهؤلاء خير من يتحدث إليهم. ويستحب لمن رأى ما يكره وأراد السلامة من تلك الرؤيا أن يفعل ما يأتي: الأول: أن يستعيذ بالله من شرّها بعد أن ينفث عن يساره ثلاثاً لما في حديث أو قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه فلينفث عن يساره ثلاث مرات، وليستعذ بالله من شرها، فإنها لا تضره " أخرجه الشيخان والترمذي وروي في أثر صحيح عن إبراهيم النخعي قال: فليقل إذا استيقظ أعوذ بالله بما عاذت به ملائكة الله ورسله من شر رؤياي هذه أن يصيبني فيها ما أكرهه في ديني ودنياي. اهـ. الثاني: أن يتحول عن جنبه الذي كان عليه، لما في بعض الروايات: " وليتحول عن جنبه الذي كان عليه ". الثالث: أن يصلي ركعتين كما في حديث أبي هريرة "فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليصلّ ولا يحدث بها(5/349)
1039 - " بَابُ مَنْ رَأى النَّبَِّي - صلى الله عليه وسلم - في المَنَامِ "
1189 - عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأى الحَق، فَإن الشيطَانَ لا يَتَكَوَّنُنِي ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الناس" رواه مسلم. الرابع: كما في حديث الباب: لا يذكرها لأحد لأنها تقع على ما تفسر به (1) .
1039 " باب من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام "
1189 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من رآني فقد رأى الحق " وفي رواية أخرى للبخاري في كتاب العلم: " من رآني في المنام فقد رآني " والمعنى كما قال العيني: أنه رأى رؤيا صحيحة ثابتة لا أضغاث أحلام " فإن الشيطان لا يتكوّنني " أي لا قدرة له على أن يتمثل بي. الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن رؤيا المسلم للنبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام رؤيا صادقة، ورؤيا حق، لأن الشيطان لا قدرة له على التشكل بصورته، ولكن متى يقال فيه: إنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام؟ هناك علامة فارقة يستطع بها المرء أن يعرف من رآه هل هو النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره؟ فإن كان الذي رآه على صورة شبيهة بصورة النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابتة بالنقل الصحيح عنه في سنته فهو النبي - صلى الله عليه وسلم، وإن كان مخالفاً لصورته - صلى الله عليه وسلم - المعروفة في سنته، بأن رآه طويلاً أو قصيراً جداً، أو شديد السمرة، أو نحو ذلك، فإنه لم ير النبي - صلى الله عليه وسلم -. اهـ. كما أفاده العيني. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة.
__________
(1) كما في حديث أبي داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت " رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه، وهو حديث صحيح. (ع) .(5/350)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كِتاب الفتن "
الفتن لغة: جمع فتنة من الفتن، وهو في الأصل كما قال الراغب: إدخال الذهب في النار لتظهر جودته من رداءته. ثم أطلقت الفتنة على اختبار الله تعالى لعبده بالخير والشر فالأول: محنة مقتضية للصبر، والثاني محنة مقتضية للشكر، وكلاهما فتنة. بلينا بالضراء فصبرنا وبلينا بالسراء فلم نصبر (1) . والمراد بالفتن: هنا ما يبتلى به العبد في حياته من المصائب، فإن كان ذلك من الأمور الخارجة عن مقدوره كالأمراض والأسقام فهي ابتلاء من الله لعبده، واختبار لإيمانه، فإن صبر عليها فله البشرى، وإن جزع فله السخط. قال علي رضي الله عنه: " إن الذهب يجرّب بالنار، وإن العبد الصالح يجرّب بالبلاء ولن تبلغ ما تؤمل إلّا بالصبر على ما تكره " وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله ليجرب أحدكم بالبلاء وهو أعلم به كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار، فمنهم من يخرج كالذهب الإِبريز فذلك الذي نجّاه الله تعالى من السيئات، ومنهم من يخرج كالذهب دون ذلك، فذلك الذي يشك بعض الشك، ومنهم من يخرج كالذهب الأسود فذلك الذي قد أفتتن " رواه الحاكم (2) . وقال ابن القيم (3) : من خلقه الله تعالى للجنة لم تزل هداياها تأتيه من المكاره، ومن خلقه الله للنار لم تزل هداياها تأتيه من الشهوات، فمن صبر على البلوى ورضي بقضاء الله فهنيئاً له بما بشّر الله عباده الصابرين. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت
__________
(1) تعليقات الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة على " هداية المسترشدين ".
(2) أخرجه الحاكم في " المستدرك " وقال: هذا صحيح الإسناد، وأقره الذهبي على صحته.
(3) " كتاب الفوائد " لابن القيم.(5/351)
1040 - " بَابُ ظُهُورِ الفِتَنِ "
1190 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيَنْقُصُ العِلْمُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَتَظْهَرُ الفِتَنُ، ويَكْثُرُ الْهَرْجُ " قَالُوا: يا رَسُولَ اللهِ أيمَا هُوَ؟ قَالَ: " القَتْلُ القَتْلُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنّا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها، إلاّ أجره الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها " قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخلف الله لي خيراً منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإن كانت الفتن من الأمور الداخلة في مقدور العبد فإنه يكون مسؤولاً عنها ومن ذلك: 1- ارتكاب المعاصي، فإنها فتنة يعاقب عليها العبد، بل قد تتعدى العقوبة فيها من الفرد إلى الجماعة في الدنيا. ولو كان فيهم الصالحون، ففي الحديث عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمّهم الله بعذاب من عنده " رواه أحمد.
1040 - " باب ظهور الفتن "
1190 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: وهو يتحدث عن أشراط الساعة وعلامات آخر الزمان الدالة على إدبار الدنيا وانتهاء هذه الحياة " يتقارب الزمان " أي من علامات الساعة أن يتقارب الزمان فتقصر السِّنون والأعوام والشهور والليالي والأيام فتصبح السنة كالشهر " وينقص العلم " بموت العلماء أو يرفع العلم النافع المقترن بالعمل الصالح " ويلقى الشح " أي ينتشر البخل الشديد على اختلاف أنواعه، ويتمكن من قلوب الناس حتى يبخل الغني بماله،(5/352)
ويبخل العالم بعلمه، ويبخل الصانع بصناعته، " وتظهر الفتن " أي تتكاثر الأمور الكريهة التي تضر الناس في دينهم ودنياهم من الخيانة والظلم والحرائق والزلازل وانتشار المعاصي " ويكثر الهرج " أي ويكثر قتل الناس بعضهم لبعض ظلماً وعدواناً لمجرد هوى النفس وإشباع رغباتها الخبيثة، أو استجابة لبعض الأفكار والآراء الهدامة التي تخدم أعداءهم وهم لا يشعرون.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من علامات الساعة كثرة ظهور الفتن والأمور الكريهة، ومن ذلك أن يتمكن الشح من نفوس الأغنياء فيكفوا أيديهم عن البذل والعطاء والإِنفاق على غيرهم من المعوزين، فيزول التعاطف والتضامن، وترتفع المحبة، وتحل مكانها العداوة والبغضاء، وتشتد حتى يتدابر الناس، ويتطاعنون، ويتقاتلون، ويكثر القتل وسفك الدماء، كما قال: " ويلقى الشح وتظهر الفتن ويكثر الهرج ". ثانياًً: أن الأمة الإِسلامية متى فقدت العلم الشرعي النافع انتشر فيها الشح، وظهرت الفتن، وكثر القتل. فالشح يظهر فيها بسبب جهلها بدينها، وعدم العمل به، ومتى ظهر فيها الشح كثر فيها القتل، لأنه نتيجة حتمية لحرص الناس على المال، وبخلهم به عن الفقراء وتنافسهم عليه كما في الحديث عن عمرو بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم " متفق عليه فإن هذا الحديث يشير كما أفاده القاري إلى أن الأمم السابقة إنما هلكت بسبب انتزاع الرحمة من قلوب الأغنياء، وقسوتهم على الفقراء، فبخلوا بأموالهم عليهم، فحقد عليهم الفقراء، وانتشرت بينهم العداوة والبغضاء، حتى أدى بهم ذلك إلى القتال وسفك الدماء فهلكوا. الحديث: أخرجه الشيخان وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " وتظهر الفتن ".(5/353)
1191 - عَنِ ابنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْت النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أحْيَاءٌ ".
1041 - " بَاب تكُونُ فِتْنَةٌ القَاعِدُ فِيهَا خيْرٌ مِنَ القَائِمِ "
1192 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "سَتَكُونُ فِتَنٌ القَاعِدُ فِيها خَيْرٌ مِنَ القَائِم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1191 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من شرار الناس " أي من أسوأ الناس عقيدة وعملاً " من تدركهم الساعة وهم أحياء " أي الذين يعيشون في آخر الزمان فتقوم الساعة وهم على قيد الحياة فلا يبقى عند قيام الساعة إلّا شرار الخلق من الكفار والمنافقين، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يبعث ريحاً من اليمن ألين من الحرير، فلا تدع أحداً في قلبه مثقال ذرة من الإِيمان إلاّ قبضته " أخرجه مسلم. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله " أخرجه مسلم وأحمد والترمذي هذا حديث حسن (1) .
فقه الحديث: دل هذا الحديث على انقراض أهل الدين والخير والإِيمان في آخر الزمان، حتى لا يبقى عند قيام الساعة إلاّ الأشرار فقط من الكفار والمنافقين والفاسقين. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في كون الحديث يدل على قيام الساعة على أشرار الناس وهذا من أعظم الفتن.
1041 - " باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم "
1192 - معنى الحديث: أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - يخبرنا في حديثه هذا وهو
__________
(1) وفي رواية عند أحمد في المسند " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض لا إله إلا الله ومسندها صحيح. (ع) .(5/354)
وَالقَائِمُ فِيهَا خَيْر مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيهَا خَيْر مِنَ السَّاعِي، مَن تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلجأ أوْ مَعَاذاً فَلْيَعُذْ بِهِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصادق المصدوق أنها ستقع بين المسلمين فتن دموية عظيمة، تنشب فيها الحروب، من أجل خلافات سياسية منشؤها (1) التنازع على السلطة والتنافس على الوصول إلى مراكز النفوذ والسلطان. وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين من التورط في هذه الفتن، والمشاركة بالقتال فيها، وبَيَّنَ أنَّ الناس تجاهها أربعة أقسام، قاعد عنها لا يشترك في حروبها ولا يساهم بالقتال فيها، وإنما ينظر إليها من بعد وقائم بها مشارك في حروبها ومعاركها يقاتل فيها بنفسه وماله، وداعٍ إليها ومتسبب في وجودها وإثارتها وهم الحكام والرؤساء الذين هم السبب الرئيسي فيها، فالقسم الأول: وهو القاعد عنها هو وحده الذي يسلم من شرورها وآثامها، أما بقية الأقسام الثلاثة فإنّها قد تورطت في شر هذه الفتن، ووقعت في معصية الله. وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " والقائم فيها خير من الماشي " أي المشارك بالقتال فيها فقط أخف إثماً من الداعي لها القائم بأسبابها، والداعي لها عاص شديد العصيان، ولكنه أخف معصية من زعيمها ورئيسها المتسبب في وجودها، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " والماشي فيها خير من الساعي " أي والداعي لها أخف إثماً من المتسبب الرئيس في إثارتها وإيجادها: قال ابن التين: " يعني أن بعضهم في ذلك أشد من بعض، فأعلاهم في ذلك الساعي فيها بحيث يكون سبباً لإثارتها، ثم من يكون قائماً بأسبابها، وهو الماشي، ثم من يكون مباشراً لها، وهو القائم، ثم من يكون من النظارة ولا يقاتل وهو القاعد. اهـ. ثم حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من التورط فيها فقال: " من تشرّف لها تستشرفه " بالجزم أي من
__________
(1) أي ليس فيها طرف ظالم وطرف مظلوم، وإنما هي بين طائفتين ظالمتين كما سيأتي في كلام النووي رحمه الله، سنذكره في فقه الحديث.(5/355)
1042 - " بَابُ خرُوجِ النَّارِ "
1193 - عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نارٌ مِنْ أَرْضِ الحِجَازِ تُضِيءُ أعْنَاقَ الإِبِلِ بِبُصْرَى ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تطلع لتلك الفتن التهمته بنارها " فمن وجد منها ملجأ أو معاذاً فليعذ به " أي من استطاع أن يبتعد باعتزال جميع الفرق والتزام الحياد فليفعل.
فقه الحديث: قال النووي: هذا الحديث وما في معناه مما يحتج به من لا يرى القتال في الفتنة بكل حال، وقد اختلف العلماء في قتال الفتنة، فقالت طائفة: لا يقاتل في فتن المسلمين وإن دخلوا عليه بيته، وطلبوا قتله، فلا يجوز له المدافعة عن نفسه، وهذا مذهب أبي بكرة رضي الله عنه وغيره، وقال ابن عمر وعمران بن الحصين رضي الله عنهم وغيرهما: لا يدخل فيها إلاّ إن قصد الدفاع عن نفسه، وقال معظم الصحابة والتابعون وعامة علماء الإِسلام: يجب نصر المحق في الفتن، والقيام معه بمقاتلة الباغين كما قال تعالى: " فقاتلوا التي تبغي " الآية، قال النووي: وهذا هو الصحيح. وتأول الأحاديث. على من لم يظهر له المحق، أو على طائفتين ظالمتين (1) لا تأويل لواحد منهما. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
1042 - " باب خروج النار "
1193 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز " ومن المدينة المنورة بالذات، فإذا خرجت " تضيء أعناق الإِبل في بصرى " أي يبلغ ضوؤها أعناق الإِبل في بصرى من أرض الشام.
__________
(1) والمراد بالفتن التي يحرم الاشتراك فيها ما ينشأ عن الاختلاف في طلب الملك.(5/356)
1043- " بَابُ ذكر الدجال "
1194 - عَن أَنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مَا بُعِثَ نَبِيٌّ إلَّا أنْذَرَ أمَّتَهُ الأَعْوَرَ الكَذَّابَ، أَلا إنَّهُ أَعْوَرُ، وَإنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وِإنَّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ كَافِرٌ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من علامات الساعة ظهور هذه النار من الحجاز، قال القرطبي في " التذكرة ": " وقد خرجت نار بالحجاز بالمدينة، وكان بدؤها زلزلة عظيمة في ليلة الأربعاء لبدء العتمة - أي العشاء الثالث من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة، واستمرت إلى ضحى النهار يوم الجمعة، وظهرت النار بقريظة بطرف الحرة فانتهت النار إلى قرب المدينة، ومع ذلك فكان يأتي المدينة نسيم بارد، قال: وسمعت أنها رؤيت من مكة وجبال بصرى، قال النووي: وتواتر العلم بخروج هذه النار عند جميع أهل الشام. اهـ. ويرى الباحثون أنّها انفجار بركاني في حرة قريظة (1) . الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: ظاهرة.
1043 - " باب ذكر الدجال "
1194 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما بعث نبي إلاّ أنذر أمته الأعور الكذاب " أي ما من نبي مرسل إلاّ وقد حذّر قومه من المسيح الدجال الأعور الكذاب، وحدثهم عن صفاته وأخباره، ليكونوا منه على حذر. " ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور " أي فتنبهوا أيها المسلمون إلى أهم علاماته الواضحة التي أذكرها لكم العلامة الأولى: كونه أعور ناقص الخلقة، والرب سبحانه وتعالى كامل في ذاته وصفاته، منزه عن العيب والنقصان.
__________
(1) الواقعة شرقي المدينة أو في الجنوب الشرقي منها.(5/357)
والعلامة الثانية: أنه "وإن بين عينيه مكتوب كافر" أي أنه مكتوب بين عينيه كـ ف ر بحروف متقطعة يقرأها كل مسلم كاتب أو غير كاتب، ولا يقرؤها الكفار. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على علامتين مرئيتين من علامات الدجال المحسوسة: الأولى: كونه أعور مشوّه الصورة، والرب عزّ وجل في غاية الجمال والكمال، منزّه عن كل عيب ونقصان. والثانية: أنه مكتوب بين عينيه كـ ف ر. فتلك علامتان لا تخفيان إلاّ على شقي قد أعمى الله بصيرته. والمطابقة: في قوله: " أنذر قومه الأعور الكذاب ".
***(5/358)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب الأحكام "
1044 - " بَابُ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلإِمَامِ مَا لَمْ تكُنْ مَعْصِيَةً "
1195 - عن ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ رَأَى من أَمِيرِهِ شَيْئَاً يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِر، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْراً فَيَمُوتَ إلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الأحكام
المراد بالأحكام هنا الأحكام المتعلقة بولي الأمر ما له وما عليه.
1044 - " باب السمع والطاعة للإِمام ما لم تكن معصية "
1195 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر " أي فليتحمل منه ذلك المكروه والظلم الذي أصابه، ولا يخرج عن طاعته لظلم ناله منه، أو لمعصية ارتكبها، إلا إذا رأى منه كفراً صريحاً، أو تحليلاً لما حرم الله، أو تحريماً لما أحلّه، أو حكماً بغير ما أنزل الله (1) " فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً " والمعنى ما من أحد يفارق جماعة المسلمين، ويخرج عن طاعة ولي الأمر ويعصيه أقل عصيان " فيموت إلاّ مات ميتة جاهلية " أي كميتة (2) أهل الجاهلية حيث لا يرجعون إلى طاعة أمير، ولا يتبعون هدى إمام قال الحافظ: وليس المراد أنه يموت كافراً بل يموت عاصياً.
__________
(1) وكذلك إذا أمره بمعصية، أو نهاه عن طاعة، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
(2) شرح القسطلاني على البخاري.(5/359)
1045 - " بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الحِرْصِ عَلَى الإِمَارَةِ "
1196 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ القِيَامَةِ، فَنِعْمَ المُرْضِعَةُ وبئْسَتِ الفَاطِمَةُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من الفتن التي يصاب بها العبد السلم أن يرى من ولي الأمر شيئاً من المعاصي والظلم، فيجب عليه في هذه الحالة الصبر والسمع والطاعة، محافظة على جماعة المسلمين، ما دام لم ير منه كفراً صريحاً، ولم يكرهه على معصية، لما جاء في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " السمع والطاعة كل المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا جمع ولا طاعة "، أخرجه الشيخان وأبو داود. ثانياًً: التحذير الشديد من الخروج على إمام المسلمين، وكونه كبيرة من الكبائر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية " فإن هذا الوعيد الشديد لا يترتب إلّا على مرتكب الكبيرة وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب، والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه، لا في ذلك من حقن الدماء. ثالثاً: استدل به الأصوليون على حجيّة الإِجماع. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ".
1045 - " باب ما يكره من الحرص على الإمارة "
1196 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنكم ستحرصون على الإِمارة " أي ترغبون أشد الرغبة في تولّي الإِمارة وغيرها من الأعمال الحكومية ذات النفوذ والسلطان، كالقضاء، والشرطة وغيرها، "وستكون ندامة يوم(5/360)
القيامة" لمن لم يكن لها أهلاً، حيث يعاقب أشد العقوبة على عدم القيام بمسؤولياتها " فنعم المرضعَة " أي فما أحسن الوظيفة عندما يتولاها صاحبها في الدنيا فيتمتع بعزها ومركزها ونفوذها، " وبئست الفاطمة " أي وما أسوأ الوظيفة وما أشد ضررها على صاحبها يوم القيامة -إن لم يقم بواجباتها- حيث يسأل عما عمله فيها ويحاسب على تفريطه، وعدم قيامه بمسؤولياتها، فيشتد عذابه، وتنقطع عنه لذاتها، وتبقى له حسراتها، فيكون حاله كحال الرضيع عند فطامه عن ثدي أمه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الولاية أياً كان نوعها مسؤولية خطيرة، سواء كانت إمارة أو قضاء أو شرطة. يجب ألا يتولاها إلّا من تتوفر فيه الشروط اللازمة والصلاحية التامة لها، قال ابن تيمية: فيجب على ولي الأمر أن يولّي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من استعمل رجلاً من عصابة، وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين " (1) وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمؤمنين. وقد دلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن الولاية أمانة يجب أداؤها، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر رضي الله عنه في الإِمارة: " إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلاّ من أخذ بحقها وأدّى الذي عليه فيها " رواه مسلم. أما شروط الولاية فأهمها كما قال ابن تيميّة: ركنان القوة والأمانة (2) ، كما قال تعالى: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) والقوة في كل ولاية بحسبها، فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب، والمخادعة فيها، فإن الحرب خُدْعة والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم
__________
(1) وفي سنده حسن بن قيسي الرحبي، وهو متروك. (ع) .
(2) " السياسة الشرعية " لابن تيمية.(5/361)
بالعدل والقدرة على تنفيذ الأحكام. والأمانة ترجع إلى خشية الله وترك خشية الناس، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " القضاة ثلاثة، قاضيان في النار، وقاض في الجنة، فرجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار، ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ". واجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، قال عمر: اللهم أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة. فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فيقدم في إمارة الحروب كما قال ابن تيمية الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور على الرجل الضعيف العاجز، وإن كان أميناً، فقد سئل الإِمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو وأحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزى؟ فقال: أمّا الفاجر القوي فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه، وضعفه على المسلمين، فيُغزى مع القوي الفاجر. قال ابن تيمية: وإن كانت الحاجة في الولاية (1) إلى الأمانة أشد قدم الأمين، مثل حفظ الأموال، قال: ويقدم في ولاية القضاء الأعلم الأورع الأكفأ، فإن كان أحدهما أعلم، قدم فيما يظهر حكمه ويخاف فيه الهوى الأورع، وفيما يدق حكمه ويخاف فيه الاشتباه الأعلم. ثانياً: أنه يحرم طلب الولاية (2) لمن لم يكن لها أهلاً لجهله أو لضعفه أو لغلبة الهوى عليه، فقد حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنكم تحرصون على الإِمارة، وستكون ندامة يوم القيامة " أي تكون ندامة على من لم يقم بمسؤولياته فيها ولم يؤدّ حق الله وحق العباد أثناء قيامه بها، لأنها أمانة وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلاّ لم يجد رائحة الجنة " أخرجه الشيخان. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في تحذيره - صلى الله عليه وسلم - من الحرص على الإِمارة، وهو ما ترجم له البخاري.
__________
(1) " السياسة الشرعية " لابن تيمية.
(2) ويكره طلبها أيضاً لمن توفرت فيه شروطها لما ورد أن من سألها وُكِلَ إليها، إلاّ إذا تعينت عليه، وتبين بحق أنه لا يصلح لها غيره، فإنه يطلبها، كما فعل يوسف حين قال: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) .(5/362)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة "
أمّا الكتاب: فيراد به القرآن الكريم وقد اشتمل على موضوعات كثيرة "، أهمها العقائد ثم الأحكام الشرعية، فإن في القرآن ما يقارب المائة والأربعين آية في أحكام العبادات، ونحواً من ثلاثين آية في الجنابات، ونحواً من سبعين آية في المعاملات المالية. أما الاحتجاج بالقرآن فقد اتفق المسلمون على أن هذا الكتاب الإلهي حجة شرعية، وأن ما ورد فيه من أحكام يجب اتباعه والعمل به كقانون سماوي لا يجوز مخالفته، فهو مصدر تشريع وهداية باتفاق الأمة، وقد انعقد الإجماع على أنه أساس الشريعة الأوّل في جميع الأزمان وسائر العصور.
أما السنة: فإنها تطلق على معان ثلاثٍ. الأول: ما جاء منقولاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير، ويدخل في ذلك جميع الأحاديث المرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: ما يقابل البدعة، يقال فلان على سنة إذا عمل على وفق (1) ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيراد بالسنة هنا ما وافق القرآن أو الحديث النبوي ويقال فلان على بدعة إذا كان على خلاف ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، المراد بالبدعة ما خالف القرآن والحديث النبوى منطوقاً أو مفهوماً. الثالث: ما استقر عليه عمل الصحابة رضوان الله عليهم وإن لم نقف على مأخذه (2) لأنهم عملوه اتباعاً لحديث لم يصل إلينا، أو اجتهاداً مجمعاً عليه كما فعلوا في جمع المصحف، وتدوين الدواوين، وصلاة التراويح، فإنها تدخل في السنة بهذا المعنى لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين " ومن الطرائف ما روي أن رجلاً حلف
__________
(1) " أصول الفقه " للشيخ محمد الطاهر النيفر.
(2) " أصول الفقه " للشيخ محمد الخضري.(5/363)
أن لا يطأ زوجته حيناً فأفتاه أبو بكر بأن الحين الأبد، وأفتاه عمر بأنه أربعون سنة (1) ، وعثمان بأنه سنة واحدة، وعلي بأنه يوم وليلة، فعرض الرجل ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاهم، فقال لأبي بكر: ما دليلك على أن الحين الأبد؟ قال: قوله تعالى في حق قوم يونس: (وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) أي أبقيناهم متمتعين إلى يوم القيامة. وقال لعمر: ما دليلك على أن الحين أربعين سنة؟ قال: قوله تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) فالإِنسان آدم، وقد ألقيت طينته على باب الجنة أربعين سنة، وقال لعثمان: ما دليلك على أنه عام؟ قال: قوله تعالى: (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ) أي تعطي النخلة ثمرها كل عام. وقال لعلي: ما دليلك على أنه يوم وليلة؟ قال: قوله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) فأثنى عليهم - صلى الله عليه وسلم - جميعاً - وأمر الرجل أن يأخذ بقول علي تخفيفاً عليه (2) .
" أما تقسيم السنة من جهة السند "
فإن السنة تنقسم من حيث السند إلى ثلاثة أقسام. الأول السنة المتواترة: وهي التي يرويها جمع غفير يستحيل تواطؤهم على الكذب عن مثلهم عن مثلهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والأحاديث المتواترة قليلة جداً، وقد مثل لها ابن الصلاح بحديث " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " وذكر البزار أنه رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو أربعين رجلاً من الصحابة رضوان الله عليهم (3) وليس في الدنيا حديث اجتمع هذا العدد على روايته غيره. والأحاديث المتواترة موجودة وإن كانت نادرة، وقد جمعها العلماء في تآليف خاصة منها " الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة " للسيوطي (4) و " نظم المتناثر من الحديث المتواتر " لأبي عبد الله محمد
__________
(1) شرح الجرداني على الأربعين النووية.
(2) وسنة الخلفاء الراشدين متبعة كاتباع السنة، بخلاف غيرهم من ولاة الأمور. (ع) .
(3) وفيهم من قال: رواه نحر المئتين. (ع) .
(4) المتوفي سنة (911) هـ و" عقد اللآلىء المتناثرة في الأحاديث المتواترة " للمرتضى الزبيدي المتوفي سنة (1205) هـ. (ع) .(5/364)
1046 - " بَابُ الاقتِدَاءِ بِسُنَنَ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - "
1197 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن جعفر الكتاني (1) . وهي أقوى السنن وأعلاها وتفيد القطع والعلم اليقيني، ولذلك اتفق أهل العلم على أنه يحتجّ بالحديث المتواتر في جميع الأحكام الشرعية سواء كانت اعتقادية أو عملية فقهية. الثاني السنة المشهورة: وهي التي يرويها عدد يبلغ حد التواتر في العصور كلها، ما عدا القرن الأوّل - وهو عصر الصحابة رضي الله عنهم، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث " كما حققه الفخر الرازي. الثالث: الآحاد: وهي التي يرويها عدد لا يبلغ حد التواتر في كل العصور، ويكثر وجودها ويعمل بها في الفروع والأحكام الفقهية، فهي تفيد الظن الراجح عند جمهور العلماء، وتفيد اليقين عند بعض العلماء على تفصيل في المسألة ومعنى الاعتصام بالكتاب والسنة العمل بهما في جميع الأحكام كالعقائد والعبادات والمعاملات والجنايات والأحوال الشخصية ومن الاعتصام بالكتاب والسنة الاحتجاج بهما واعتقاد أنهما أصلان من أصول التشريع الإِسلامي.
1046 - " باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "
1197 - معنى الحديث: جاء في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه (2) قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا " فقال رجل: أكل عام يا رسول الله، فسكت حتى قالها
__________
(1) المتوفي سنة (1327) هـ ولكن قد تساهلوا وزادوا فيها أشياء كثيرة. (ع) .
(2) " فتح الباري " ج 13.(5/365)
بِسُؤَالِهِمْ، وإخْتِلافِهِمْ على أنْبِيَائِهِمْ، فإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فاجْتَنِبُوهُ، وَإذَا أَمَرْتُكُمْ بأمْرٍ فَأقُوا مِنْهُ ما اسْتَطَعْتُمْ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثلاثاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: " ذروني ما تركتكم " أو كما قال في حديثنا هذا " دعوني ما تركتكم " والحديثان راويهما واحد، وموضوعهما واحد، ومعناهما واحد. قال ابن علان (1) في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " دعوني ما تركتكم، أو ذروني ما تركتكم كما في رواية مسلم معناه: لا تكثروا الاستفصال في المواضع التي تفيد وجهاً ظاهراً، وإن صلحت لغيره كما في قوله: " فحجوا " فإنه وإن أمكن أن يراد به التكرار ينبغي أن يكتفى منه بما يصدق عليه اللفظ وهو المرة الواحدة، فإنها مفهومة من اللفظ قطعاً، وما زاد مشكوك فيه، فيعرض عنه، ولا يكثر السؤال، لئلا يقع الجواب بما فيه التعب والمشقة. اهـ. " إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم " وفي رواية مسلم: بكثرة سؤالهم أي فإنما هلكت الأمم السابقة بسبب كثرة أسئلتهم لغير حاجة وضرورة، فإنها تشعر بالتعنت (2) كقولهم لموسى: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ) لما أمروا بذبح بقرة، ولو أنهم عمدوا إلى أي بقرة فذبحوها لأجزأتهم، ولكنهم شددوا على أنفسهم بكثرة السؤال عن حالها، وصفتها، فشدد الله تعالى عليهم، فلم يجدوا البقرة بذلك النعت إلاّ عند إنسان معين فشروها بوزنها ذهباً أو بملء جلدها ذهباً " واختلافهم على أنبيائهم " بالجرِّ لأنه معطوف على سؤالهم أي أنهم هلكوا بسبب كثرة سؤالهم، وكثرة مخالفتهم، وعصيانهم لأنبيائهم، كاليهود أمرهم موسى عليه الصلاة والسلام أن يتفرغوا للعبادة يوم الجمعة فأبوا وقالوا: نريد يوم السبت، فشدد الله عليهم، وحرّم عليهم صيد
__________
(1) " دليل الفالحين " ج 1.
(2) شرح الأربعين النووية للجرداني.(5/366)
السمك فيه، وابتلاهم بأن ألهم السمك أن يجتمع كله في هذا اليوم، فلا يرى الماء من كثرته، فإذا مضى تفرق السمك، ولزم قعر البحر، فوسوس الشيطان لبعضهم بأنهم إنما نهوا عن أخذه يوم السبت، ولم ينهوا عن أخذه في غيره، ولو بالحيلة، فحفروا في جانب البحر حفرة كبيرة وجعلوا لها أنهاراً من البحر، فإذا كانت عشية الجمعة فتحوا تلك الأنهار فيقبل الموج بالحيتان إلى الحفرة، فيقع فيها، ولا يقدر على الخروج منها لعمقها، فإذا كان يوم الأحد أخذوه فأهلكهم الله ومسخهم قردة وخنازير " فإذا نقيكم عن شيء فاجتنبوه " أي فإذا منعتكم عن شيء فلا تفعلوه، وابتعدوا عنه كله. إذ الامتثال لا يحصل إلا بترك الجميع. " وإذا أمرتكم بأمر " أي وإذا طلبت منكم فعل شيء " فأتوا منه ما استطعتم " أي فافعلوا منه ما قدرتم عليه على قدر طاقتكم واستطاعتكم وجوباً في الواجب وندباً في المندوب.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: قال ابن علان استفيد منه تحريم الاختلاف وكثرة الأسئلة من غير ضرورة لأنه توعد عليه بالهلاك والوعيد على الشيء دليل تحريمه وعلى كونه كبيرة. قال أهل العلم: والاختلاف المذموم ما يؤدي إلى كفرٍ أو بدعة وأما الاختلاف في الفروع والأحكام والمسائل الفقهية فإنه غير منهي عنه، وقد اختلف الصحابة في الأحكام وأجمع المسلمون على جوازه ومشروعيته. وإنما كان الاختلاف المؤدّي إلى البدعة مذموماً لأنه يؤدّي إلى الزيغ والضلال، وتنافر المسلمين، وظهور الفتن، ونشوب المعارك الدامية، كما وقع في الأمة الإِسلامية من حروب بسبب الخوارج وغيرهم من الفرق الضالة والله أعلم. ثانياًً: وجوب طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتمسك بسنته، والعمل بأقواله وأفعاله وتقريراته والوقوف عندها أمراً ونهياً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " قال الدكتور عزت عطية: وفي آيات كثيرة يربط الله تعالى بين طاعته سبحانه وطاعة رسوله،(5/367)
ويجعلهما شيئاً واحداً، فيجعل الأمر بطاعة الرسول مندرجاً في الأمر بطاعته، ليبين أن طاعته سبحانه لا تتحقق إلاّ بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونلمح ذلك في قوله تعالى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) وقوله عز وجل: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وقوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ويجعل الخروج ولو مرة عن حد الاتباع والتسليم للرسول - صلى الله عليه وسلم - ضلالاً واضحا وانحرافاً لا شك فيه فيقول: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) . ثالثاً: أن السنة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإِسلامي. قال الإِمام الشافعي: " إن الله سبحانه قد قرن الإِيمان به بالإِيمان برسوله - صلى الله عليه وسلم -، والإِيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بوجوب طاعته في أقواله وأفعاله ومقرراته أما الآراء التي تتعارض مع الاحتجاج بالسنة، فإنها آراء مشبوهة تعود إلى مذاهب هدامة نشأت بالبصرة في القرن الثاني للهجرة، وعاشت فيها وفرّخت وقد ذكر الإمام الشافعي أنه لقي زعماء هذه الطائفة بالبصرة واطلع على آرائهم. ويذكر الإِمام الشافعي " أن جملة (1) الآراء التي قامت في عصره حول السنة النبوية ثلاثة الأول: ينكر الاحتجاج بالسنة جملة، فلا حجة إلاّ في القرآن، ولا دليل إلّا ما كان مستمداً منه معتمداً عليه. الثاني: ينكر خبر الآحاد، ويقصر الاحتجاج على القرآن والحديث المتواتر. الثالث: لا يقبل من السنة إلاّ ما كان بياناً لحكم قرآني، لأن السنة في زعم هؤلاء لا حجة في ذاتها، وإنما هي مبينة للقرآن فقط، واحتج هؤلاء المنكرون لكون السنة مصدراً تشريعياً بأمور: منها: أن القرآن تكفل بتشريع الأحكام، فلا حاجة إلى مصدر آخر. ومنها: قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) ومنها: أنّ السنة لو كانت تشريعاً
__________
(1) " أصول الفقه " للعلامة محمد الطاهر النيفر.(5/368)
عاماً كالكتاب لأمر - صلى الله عليه وسلم - بتدوينها وقد أجيب عن هذه الشبهات الباطلة كلها بأجوبة حاسمة: أما الأولى: فليس صحيحاً أن القرآن تكفل بتشريع الأحكام كلها، لأنه ليس فيه إلاّ بعض الأحكام الشرعية العامة، وهناك الكثير من الأحكام الجزئية التفصيلية لا وجود لها في القرآن. كأركان الصلاة. وشروطها ومبطلاتها، وواجباتها، ونصاب الزكوات، وأحكام الصوم، ومفطرات الصائم، وأحكام المعاملات، والكثير من أحكام الجنايات، وتفاصيل الأحكام الشخصية. وأما الثانية: وهي الاستدلال بقوله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) على أن القرآن قد بين كل شيء. فالجواب أن المراد بذلك أصول العقائد والقواعد الكلية العامة، كوجوب الصلاة والزكاة والحج وتحريم الفواحش لا الأحكام الجزئية التفصيلية فإنها غير موجودة. أما الثالثة: وهي قولهم: لو كانت السنة تشريعاً لأمر بتدوينها ولم ينه عنه، فالجواب أن هذا النهي كان في صدر الإِسلام لأنه - صلى الله عليه وسلم - خشي من اختلاط السنة بالقرآن، وقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بكتابة حديثه لمن لم يتقنه، كما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان يكتب الأحاديث، فلامه الناس على ذلك، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " اكتب فوا الذي نفسي بيده ما خرج من بينهما -أي شفتيه الشريفتين- إلّا حق ". اهـ. والله أعلم. رابعاً: دل قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " على أن الشيء المأمور بفعله واجب بشرط الاستطاعة والقدرة عليه، وبقدر ما يقدر عليه منه، فما لا يدرك كله لا يترك جله. قال الجرداني: ويستفاد منه: أن من عجز عن بعض المأمور به لا يسقط عنه المقدور عليه، بل يجب عليه الإِتيان به، وهذا هو معنى قول الفقهاء: إن الميسور لا يسقط بالمعسور، فإذا عجز عن غسل بعض الأعضاء في الوضوء، أو عن مسحها في التيمم، أتى بالممكن، وصحت عبادته، وإذا عجز عن القيام في الصلاة بأن حصل له أي مشقة شديدة تذهب الخشوع أو كماله، صلّى قاعداً، فإن عجز عن القعود بهذا المعنى اضطجع على جنبه إلى آخره. الحديث: أخرجه(5/369)
الشيخان، وأبو داود، مع اختصار بعض ألفاظه. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " حيث دلّ ذلك على وجوب العمل والاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما ترجم له البخاري.
***(5/370)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب التوحيد والرد على الجهمية "
التوحيد: لغة مصدر وحّد يوحّد، وهو الحكم بأن الشيء واحد. وأما التوحيد شرعاً: فهو الاعتقاد بأن الله واحد في ذاته وصفاته وأفعاله وعبادته.
قال ابن القيم رحمه الله: أما التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب السماوية، فهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد. فالأول: هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى، وصفاته، وأفعاله، وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده. وإثبات عموم قضائه وقدره، وحكمته، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإِفصاح، كما في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر الحشر، وأول تنزيل السجدة، وآل عمران. والثاني: وهو طلب التوحيد في القصد والألوهية كما تضمنته سورة الكافرون، وأول سورة تنزيل الكتاب وجملة سورة الأنعام وغالب سور القرآن، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته، وهو التوحيد العلمي، وإما دعوة الرسل إلى عبادته وحده، وهو التوحيد الطلبي. قال الحافظ: وليس الذي أنكروه على الجهمية مذهب الجبر خاصة، وإنما الذي أطبق السلف على ذمهم بسببه إنكار الصفات حتى قالوا: إن القرآن ليس كلام الله وإنه مخلوق. وامتنعوا عن وصف الله بأنه شيء أو حي أو عالم أو مريد، حتى قال جهم بن صفوان: لا أصفه بوصف يجوز إطلاقه على غيره. قال: وأصفه بأنه خالق ومحيي ومميت وموجود. أما جهم بن صفوان الذي عُني البخاري عناية خاصة بالرد على مذهبه، وتفنيد معتقده، فقد أخذ عقيدته الفاسدة عن الجعد بن درهم، وإن لم يعاصره، ولهذا قال البخاري: بلغني أن جهماً كان يأخذ عن الجعد بن درهم، وكان خالد(5/371)
1047 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)
1198 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " يَقولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأنا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وَإنْ ذَكَرَنِي في مَلأٍ، ذَكَرْتُهُ في مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وِإنْ تَقَرَّبَ إليَّ شِبْرَاً تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِرَاعاً، وإِنْ تَقَرَّبَ إليَّ ذِرَاعاً تَقرَّبْتُ إليْهِ بَاعاً، وإِنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القسري وهو أمير العراق قد خطب فقال: إني مضحٍّ بالجعد بن درهم، لأنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، قال الحافظ: وكان ذلك في خلافة هشام بن عبد الملك.
1047 - " باب قول الله تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) "
1198 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه عز وجل " أنا عند ظن عبدي بي " قال الحافظ: أي أنا قادر على أن أعمل به ما ظن أني عامل به، وهذا خاص بالعبد المؤمن، " فإن ذكرني " بالتسبيح والتهليل أو غيره " في نفسه " أي منفرداً عن الناس " ذكرته في نفسي " أي ذكرته بالثواب والرحمة في نفسي دون أن أطْلِع على ذلك أحداً من ملائكتي " وإن ذكرني في ملٍأ " أي في جماعة من الناس " ذكرته في ملٍأ خير منهم " وهم الملائكة " وإن تقرّب إلى بشبر " أي وإن تقرب إلي بالطاعات مقدار شبر " تقربت إليه ذراعاً " أي تقربت إليه بالرحمة والإِنعام مقدار ذراع " وإن تقرب إلى ذراعاً تقربت إليه باعاً " أي مقدار باع " وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " أي وإن أتاني بالطاعات ماشياً أتيته بالرحمات مسرعاً، قال في(5/372)
" المصباح " هرول أسرع في مشيه، وهو بين المشي والعدو.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: الترغيب في حسن الظن في الله تعالى، قال الكرماني: في السياق إشارة إلى ترجيح جانب الرجاء على جانب الخوف، وهو كما قال المحققون من أهل العلم: خاص بالمحتضر، ويؤيد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يموتن أحدكم إلاّ وهو يحسن الظن بالله " أخرجه مسلم. وأما قبل الاحتضار (1) فقد اختلف العلماء أيهما أفضل الخوف أم الرجاء على ثلاثة أقوال: (أ) الخوف أفضل (ب) الرجاء أفضل، (ج) الاعتدال أفضل، وقد قيل: الخوف والرجاء جناحا المؤمن، ومعنى حسن الظن بالله كما قال القرطبي: ظن القبول عند التوبة، والإِجابة عند الدعاء، والمغفرة عند الاستغفار، والثواب عند فعل العبادة بشروطها، تمسكاً بصادق وعده، ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ادعو الله وأنتم موقنون بالإِجابة ". اهـ. ثانياًً: إثبات أن لله تعالى " نفساً وذاتاً " لقوله تعالى: " ذكرته في نفسي " وهو ما تنكره الجهمية، حيثَ يقولون: إن الله ليس بشيء ولا حي، قال ابن بطال: " والمراد بنفس الله ذاته " والذي عليه أهل السنة أن لله ذاتاً موصوفة بصفات الكمال، قال في " شرح الطحاوية ": وليس في الخارج ذات غير موصوفة، فإن هذا محال، وقال ابن بطال: أسماء الله تعالى على ثلاثة أضرب. أحدها: يرجع إلى ذاته وهو الله.
والثاني: يرجع إلى صفة قائمة به كالحي. والثالث: يرجع إلى فعله كالخالق وطريق إثباتها السمع. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجه. والمطابقة: في قوله: " ذكرته في نفسي ".
***
__________
(1) أي اختلفوا أيهما أرجح في حال الصحة والعافية؟ فرجح بعضهم جانب الخوف، لأن رأس الحكمة مخافة الله، ورجح بعضهم الاعتدال، ورجح بعضهم الرجاء.(5/373)
1048 - " بَابُ كَلامِ الرَّبِّ عَزَّ وَجلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ الأَنبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ "
1199 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
حَدَّثَنا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ في بَعْضٍ، فَيأتُونَ آدَمَ فَيقُولُونَ: اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، ولَكِنْ عَلَيكُمْ بإبْراهِيمَ، فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، فَيَأتُونَ إبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بموسَى، فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللهِ، فَيَأتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُ: لَستُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى، فَإِنَّهُ رُوحُ اللهِ، وَكَلِمَتُهُ، فَيَأتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ، فيأتُونِي، فَأقولُ: أنا لَهَا، فأسْتَأذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، ويُلْهِمُني مَحَامِدَ أحْمَدُهُ بِهَا لا تَحْضُرُني الآنَ، فأحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحامِدِ، وأَخرُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1048 - " باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم "
1199 - معنى الحديث: أنه إذا كان يوم القيامة، وجمع الخلق في المحشر، ودنت الشمس من الرؤوس، واشتدت الحرارة، وتصبب العرق، وأصاب الناس من الكرب ما أصابهم كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: " وماج الناس " أي اضطربوا من هول ذلك اليوم، فأخذوا يلتمسون الشفاعة عند الأنبياء واحداً واحداً، وكل واحد منهم يعتذر عن الشفاعة قائلاً: لست أهلاً لها ويذكر شيئاً يراه ذنباً ويقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً شديداً حتى يصلوا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فيجيبهم إلى طلبهم، ويتصدى للشفاعة ويقول: " أنا لها " قال - صلى الله عليه وسلم -:(5/374)
لَهُ سَاجِداً، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، واشْفَعْ تُشْفَّعْ، فأقُولُ: يَا رَبِّ أمَّتي أمَتِي، فَيُقَالْ: انْطَلِقْ فأخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمانٍ، فأنْطَلِقُ، فأفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ، فأحْمَدُهُ بتِلْكَ المَحَامِدِ، ثمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِداً، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، واشفَعْ تُشَفَّعْ، فأقُولُ: يَا رَبِّ أمَّتِي أمَّتِي، فيُقَالُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مثْقالُ ذَرَّةٍ أوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إيمَانٍ، فأنطَلِقُ، فأفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ، فَأَحْمَدُهُ بتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أخِرُّ لَهُ سَاجِداً، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأسَكَ، وقُل يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأقُولُ: يا رَبِّ أمَّتِي أمَّتِي، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ، فأخْرِجْ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ أدْنَى أدْنَى أدْنَى مِثقَالِ حَبَّةِ خَرْدَل مِنْ إيمان فأخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ، فأنْطَلِقُ فَأفْعَلُ".
__________
" فأستأذن على ربي فيؤذن لي " أي يؤذن لي في الكلام " ويدهمني محامد أحده بها " أي فيلهمني في ذلك الوقت ألفاظاً من الثناء عليه، وذكر أوصافه الجمالية والجلالية " لا تحضرني الآن " أي لا أعرف ولا أذكر منها شيئاً في الوقت الحاضر " وأخر له ساجداً " متضرعاً إلى الله عز وجل " فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه " أي تعط ما سألت " واشفع " فيمن شفعت " تشفع " أي تقبل شفاعتك " فأقول: يا رب أمتي " أي أسألك الشفاعة في أمتي " فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان " أي فيقول ربُّ العزة: قد شفعتك في هذه الأمة، فاذهب يا محمّد فأخرج من النار من كان في قلبه مقدار شعيرة واحدة من أعمال الإِيمان بعد التصديق بالعقائد الإِيمانية، لأن التصديق لا يقبل التجزئة " فأفطلق فأفعل " أي فأخرج من النار(5/375)
من أمرني الله بإخراجهم، وشفعني فيهم " ثم أعود فأحمده " كما صنعت في المرة الأولى " فيقال: ارفع رأسك " الخ كما قيل في المرة السابقة " فيقال: انطلق، فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة " أي مقدار نملة من أعمال الإِيمان " ثم أعود فأحمده " للمرة الثالثة " فيقال: يا محمد ارفع رأسك " أي فيجيبني بما أجابني في المرّة السابقة، ويأذن في بالشفاعة للمرة الثالثة " فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان " أي من كان في قلبه مقدار أصغر حبة خردل من أعمال الإِيمان بعد التوحيد والتصديق بالأركان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إثبات كلام الله تعالى (1) مع أنبيائه صلوات الله عليهم يوم القيامة بدليل تكليمه عز وجل لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفّع " وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًً: إثبات الشفاعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة بدليل قوله عز وجل " اشفع تشفّع " قال القاضي عياض: شفاعات نبينا - صلى الله عليه وسلم - القيامة خمس شفاعات: الأولى: العامة: وهي التي تكون لفصل القضاء وإراحة الناس من المحشر. الثانية: في إدخال قوم الجنة بغير حساب. الثالثة: في قوم من أمته استوجبوا النار بذنوبهم، فيشفع فيهم نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهذه الشفاعة هي التي أنكرتها المبتدعة الخوارج والمعتزلة. الرابعة: فيمن دخل النار من المذنبين فيخرج بشفاعة نبينا وغيره من الأنبياء والملائكة وإخوانهم من المؤمنين - وهذه الشفاعة أنكرتها المعتزلة أيضاً. الخامسة: في زيادة الدرجات في الجنة الأهلها. قلت: وقد دل حديث الباب على شفاعتين: الشفاعة العامة، والشفاعة لِإخراج العصاة من النار بدليل قوله: " فيقال له: انطلق فأخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان " إلخ. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله عز وجل:
__________
(1) وفي هذا رد على الجهمية في إنكار كلام الله تعالى.(5/376)
1049 - " بَابُ قَوْلِ الله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) "
1200 - عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال:
قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إلى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" ارفع رأسك، وسل تعط واشفع تشفّع ".
1049 - " باب قول الله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) وأن أعمال بني آدم وأقوالهم توزن "
1200 - مقدمة وتمهيد: هذا الحديث حديث جليل أراد به النبي - صلى الله عليه وسلم - بيان فضائل الذكر عامة، وفضائل التسبيح خاصة. قال ابن القيم (1) : وفي ذكر الله أكثر من مائة فائدة، منها أن الذكر يرضي الرحمن، ويطرد الشيطان، ويزيل الهم، ويجلب السرور، ويقوي القلب والبدن، وينوّر الوجه والقلب، ويجلب الرزق، ويكسو الذاكر المهابة والحلاوة، ويورث محبة الله تعالى والمعرفة والقرب وحياة القلب، ويحط الخطايا، ويرفع الدرجات. والذكر يحدث الأُنس، ويوجب تنزيل الملائكة، وغشيان الرحمة، وحفوف الملائكة بالذاكرين، ويسعد الذاكر وجليسه، ويؤمن العبد من الحسرة يوم القيامة، وهو أيسر العبادات، وغراس الجنة، ونور للعبد في دنياه وفي قبره ويوم حشره. قال ابن القيم: والذكر رأس الولاية وطريقها، وأكرم الخلق على الله من لا يزال لسانه رطباً بذكر الله. ومجالس الذكر مجالس الملائكة، ورياض الجنة، والذكر يعين على طاعة الله، ويسهّل كل صعب، وأفضل الذكر القرآن، ثم الثناء على الله تعالى بالتهليل والتكبير والتسبيح والتحميد، وكلها قربة إلى الله تعالى، توزن
__________
(1) " الوابل الصيب " لابن القيم.(5/377)
اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ في المِيْزَانِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ الله العَظِيمَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في ميزان العبد يوم القيامة - كما في حديث الباب.
معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كلمتان حبيبتان إلى الرحمن " أي هناك جملتان صغيرتان من ألفاظ الذكر محبوبتان، محبوب قائلهما عند الله تعالى كأشد ما يكون الحب، مرضي عنه كل الرضا، مقرب إليه غاية القرب، من واظب على هاتين الكلمتين مع اعتقاد معناهما والعمل بمقتضاهما ترقى في درجات القرب، حتى يصل إلى مقام الحب الإِلهي، فيكون من الذين يحبهم الله ويحبونه " خفيفتمان على اللسان " أي هاتان الكلمتان المحبوبتان سهلتان ميسورتان على اللسان، ينطق بهما في خفة ويسر، ويجريان عليه دون مشقة أو عناء، لقلة حروفهما، وسلاسة ألفاظهما، وعذوبة كلماتهما " ثقيلتان في الميزان " أي ولكنهما على الرغم من صغرهما وخفتهما وسهولة جريانهما على لسان الذاكرين ثقيلتان في ميزان الله تعالى، حيث يجاء بهاتين الكلمتين على صورة جسمين مضيئين مشرقين في أجمل صورة رأتها العين، فتوضعان في كفة الحسنات التي تسع ما بين المشرق والمغرب، وما بين السموات والأرض، فتملآنها وترجحانها على كفة السيئات: " سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم " أي هاتان الكلمتان هما " سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم " لأن سبحان الله تملأ نصف الكفة، والحمد لله تملأ نصفها الثاني، فتثقلان الميزان، وترجحان كفة الحسنات على كفة السيئات، ومعنى " سبحان الله " أنزه الله تنزيهاً كاملاً عن كل ما لا يليق به من النقائص والعيوب وقبيح الصفات، وكل ما يخطر بالبال من مشابهة المخلوقات، فهو المقدس في ذاته وصفاته وأفعاله، وأما قوله " وبحمده " فالواو للحال، أي أنزّه الله عما لا يليق به حال كوني أصفه وأثني عليه بما هو موصوف(5/378)
به من صفات الكمال والجمال، فأجمع بين أمرين إثبات صفات الله تعالى، وتنزيهه عن مشابهة المخلوقين " سبحان الله العظيم " وهي جملة تأكيدية لقوله " سبحان الله أتى بها لتأكيد التنزيه والتقديس الذي ضل فيه المشركون، ثم وصفه بالعظمة بعد وصفه بالحمد، ليجمع بين صفات الجمال من رحمة وإحسان، وصفات الجلال من عظمة وقدرة وقهر وسلطان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن التسبيح والتحميد من أفضل الأذكار وأحبها إلى الله تعالى. فتستحب المداومة على قول: " سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم لما يؤدي إليه ذلك من الوصول بالعبد إلى مقام الحب الإِلهي، وتثقيل ميزانه يوم القيامة، وترجيح كفة حسناته. ثانياًً: أن هذا الذكر المبارك متضمن لتوحيد الأسماء والصفات على الوجه الصحيح المطلوب من العباد، لأن قول العبد " وبحمده " إثبات لجميع صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه، ووصفه بها نبيه. وقوله: " سبحان الله " تنزيه لله عن مشابهة المخلوقين، وهذا هو معنى توحيد الصفات، إثبات للصفات دون تشبيه، وتنزيه لله تعالى بدون تعطيل، وهو مذهب أهل السنة والجماعة. اهـ. ثالثاً: أن الوزن والميزان من الحقائق، وأن أعمال بني آدم وأقوالهم توزن يوم القيامة، ويكون لها ثقل يرجح كفة الحسنات على كفة السيئات، والصحيح الذي عليه جمهور أهل السنة: أن الوزن حقيقي، والميزان حقيقي، وهو ما ترجم له البخاري، وقد وصفه في السنّة الصحيحة الثابتة، بأن له -كما قال القرطبي (1) - كفتين ولساناً، وأن كل كفة منهما طباق السموات والأرض، قال: ولو جاز حمل الميزان على ما ذكروا من الإِنصاف والعدل، لجاز حمل الصراط على الدين الحق، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجسام، والشياطين والجن
__________
(1) " التذكرة " للقرطبي.(5/379)
على الأخلاق الذميمة، وهذا كله باطل فاسد، لما جاء عن الصادق المصدوق، وقال حنبل بن إسحاق: من أنكر الميزان فقد رد على الله ورسوله. وقال شارح الطحاوية (1) : والذي دلت عليه السنة أن ميزان الأعمال له كفتان مشاهدتان.
وذكر البغوي (2) في تفسيره أن الله تعالى ينصب ميزاناً له لسان وكفتان، كل كفة بقدر ما بين المشرق والمغرب، وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " خلق الله كفتي الميزان مثل السموات والأرض، فقالت الملائكة: يا ربنا من تزن بهذا؟ فقال: أزن به من شئت " (3) قال النفراوي في شرح الرسالة: (4) وقد بلغت أحاديث الميزان مبلغ التواتر، وانعقد عليه إجماع أهل الحق، وأنه ميزان حِسِّى له كفتان ولسان.
أما ما هو الشيء الذي يوزن؟ فإن أهل العلم اختلفوا على ثلاثة أقوال. الأوّل: أنه يوزن العامل مع عمله، ويشهد له ما روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إني ليؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، قال: اقرءوا إن شئتم: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) الثاني: أن الذي يوزن هو صحائف الأعمال، وقد نقل الآلوسي (5) عن القاضي عياض أن هذا هو قول الجمهور، ولعله أراد أنّه قول أكثر أهل العلم، واستدلوا بحديث عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله سيخلص رجلاً من أمتى على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجَّلاً كل سجلٍّ مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ قال: لا، يا رب، فيقول: بلى،
__________
(1) شرح الطحاوية في العقائد.
(2) تفسير البغوي.
(3) ورواه بنحوه وبأطول منه الحاكم في المستدرك (4/586) وصححه ووافقه الذهبي، وانظر " الدرر المنثور "
للسيوطى (3/70) . (ع) .
(4) " الفواكه الدواني شرح رسالة أبي زيد القيرواني " ج 1.
(5) " تفسير روح المعاني " للآلوسي ج 8.(5/380)
إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله، فيقول: أحضر وزنك، فيقول: يا رب وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تُظْلَم، قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء " أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد في " مسنده " فهذا الحديث يعرف بين أهل العلم بحديث البطاقة، ويدل على أن الذي يوزن هو صحائف الأعمال. الثالث: أن الذي يوزن هو نفس الأعمال، وهو مذهب المحققين من أهل العلم. قال الصنعاني (1) : " وذهب أهل الحديث والمحققون إلى أن الموزون نفس الأعمال وأنها تجسد في الآخرة، وعلى رأس القائلين بذلك ابن عباس رضي الله عنهما حيث قال: " يؤتى بالأعمال الصالحة على صورة حسنة، وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة، فتوضع في الميزان، وهذا هو القول الصحيح الذي صححه الحافظ، واختاره ابن تيمية في " العقيدة الواسطية " حيث قال: " وينصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد " (2) وقال في " شرح الطحاوية " (3) وقد وردت الأحاديث بوزن الأعمال نفسها كما في " صحيح مسلم " عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الطهور شطر الإِيمان، والحمد لله تملأ الميزان " وفي الصحيح وهو خاتمة كتاب البخاري: " كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم " ولا شك أن هذا الحديث الذي جعله البخاري مسك الختام نص صريح على وزن الأعمال. قال صاحب " المنار " (4) : والحق عند أهل السنة أن الأعمال حينئذ تجسد، أو تجعل في
__________
(1) " سبل السلام شرح بلوغ المرام " للصنعاني ج 4.
(2) " العقيدة الواسطية " شيخ الإسلام ابن تيمية.
(3) شرح الطحاوية في العقائد.
(4) تفسير المنار ج 8.(5/381)
أجسام، فتصوّر أعمال الطائعين في صورة حسنة، وأعمال المسيئين في صورة قبيحة، ثم توزن، وفي حديث جابر مرفوعاً: " يوضع الميزان يوم القيامة، فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال حبة دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال حبة دخل النار " (1) أما وقت الوزن فإنه بعد الحساب، وهو تكملة له، ومكان الميزان بين الجنة والنار، والقائم به جبريل عليه السلام، حيث يأخذ بعمرده مستقبلاً العرش، وهناك ملك ينادي بصوت يسمعه الخلائق: سعد فلان، وشقي فلان، ويعلن عن نتيجة الوزن. وهل هو ميزان واحد أو موازين؟ هذه مسألة خلافية أيضاً، والأصح أنه ميزان واحد، والمراد بالجمع الموزونات وهي متعددة.
الحكمة في وزن الأعمال: قال الخازن (2) : فإن قيل: أليس الله عز وجل يعلم مقادير أعمال العباد، فما الحكمة في وزنها؟ فالجواب: أن في ذلك حِكَماً كثيرة، منها إظهار العدل، وأن الله عز وجلّ لا يظلم عباده، ومنها: تعريف العباد ما لهم من خير وشر، وحسنة وسيئة، وفائدة تعريفهم بمقادير أعمالهم كما قال الشيخ عبد الله ابن الزكي في " ختم صحيح البخاري " أنهم لو دخلوا الجنة قبل الموازنة ربما ظن المطيع أنه نال الدرجات في الجنة عن استحقاق، وتوهم المعذب أن عذابه فوق ذنبه، فتوزن أعمالهم ليقفوا على مقادير أجرها، فيعلم الصالح أن ما ناله من الدرجات بفضل الله، لا بمجرد عمله، ويتيقن المجرم أن ما ناله من العذاب دون ما ارتكب من الحرام.
المناسبة في البدء والختام: وأخيراً ما وجه المناسبة في بدء البخاري صحيحه بحديث " إنما الأعمال بالنيات " وختمه بحديث " كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله
__________
(1) ذكره الحافظ السيوطي في " الدرر المنثور " (3/70) ونسبه لأبي للشيخ عن جابر رضي الله عنه. (ع) .
(2) تفسير الخازن ج 2.(5/382)
العظيم" هذا ما تطرق إليه المحدث الشيخ عبد الله ابن الزكي حيث قال في " ختم صحيح البخاري " (1) : ولما كانت النية سابقة للعمل، بدأ بها في المقال رعاية للمقام، وختم بحديث موازين الأعمال لأنها انتهاء غاية التمام. فالبخاري بدأ بالنية التي يتوقف عليها صلاح العمل وفساده، وختم بالميزان الذي يتبين به مصير الإِنسان من سعادة أو شقاء، تنبيهاً للقارىء إلى إخلاص النية في البداية، لما يترتب عليه من ثقل الميزان في النهاية، وذلك غاية المرام وحسن الختام والله أعلم.
الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " ثقيلتان في الميزان " حيث دل ذلك على وزن أعمال بني آدم، وهو ما ترجم له البخاري.
وقد تم الفراغ من تأليف هذا الكتاب - بمدينة المصطفي عليه الصلاة والسلام، في أيام عيد الفطر المبارك من عام ألف وأربعمائة وثمانية هجرية، نحمدك اللهم يا من بنعمته تتم الصالحات، على ما وفقتنا إليه من إتمام هذا الشرح، ونسألك ونضرع إليك وأنت القائل: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) أن تمنحه القبول، وتنفع به الناس، وأن تجعله لنا ذخراً في الدار الآخرة، إنك سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
***
__________
(1) وهي " رسالة في ختم صحيح البخاري " للشيخ عبد الله بن الزكي عثرت على نسخة منها مخطوطة للمؤلف في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت بالمدينة المنورة.(5/383)