745 - " بَاب مَنْ أتاه سَهْم غَرْبٌ فَقَتَلَه "
848 - عنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله "عَنْه:
أنَّ أُمَّ حَارِثَةَ بْنَ سُرَاقَةَ أتَتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يا نَبِيَّ اللهِ، ألا تحَدِّثُنِي عن حَارِثَةَ، وكانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أصَابَة سَهْمٌ غَرْبٌ، فإن كَانَ في الْجَنَّةِ صَبَرْت، وِإنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْت عَلَيْهِ في الْبُكَاء، قَالَ: " يَا أُمَّ حَارِثَةَ إنها جِنَانٌ في الْجَنَّةِ وإنْ ابْنَكِ أصَابَ الْفِرْدَوْسَ الَأعْلَى ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أخلص فيه وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل الشهداء والإِعلان عنهم يوم القيامة، حيث يبعث الشهيد يسيل جرحه دماً، ويفوح طيباً كأنما قتل في تلك اللحظة، والحكمة في ذلك كما قال القسطلاني: أن يكون معه شاهد على بذل نفسه في طاعة الله. ثانياًً: ترغيب المجاهدين في إخلاص النية وتجريد القصد لله كما يدل عليه قوله: " والله أعلم بمن يكلم في سبيله ". الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي بألفاظ. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة.
745 - " باب من أتاه سهم غرب فقتله "
أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على شهادة من أصابه سهم طائش لا يعرف راميه.
848 - معنى الحديث: أن حارثة بن سراقة كان قد استشهد يوم بدر بسهم طائش لا يعرف مصدره، فجاءت أمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله عن مصيره، لأنه قتل برمية غير مقصودة، لهذا قالت: " فإن كان في الجنة صبرت عليه " أي صبرت على فقده، واحتسبته عند الله، مستبشرة بقتله في سبيل(4/88)
746 - " بَابُ مَنْ قَاتلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا "
849 - عن أبي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
جَاءَ رَجُلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمَ، والرَّجُلُ يُقَاتِلُ للذِّكْرِ، والرَّجُلُ يُقَاتِل لِيُرى مَكَانُهُ، فمنْ في سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: " مَنْ قَاتَلَ لَتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هي الْعُلْيَا فَهُوَ في سَبِيلِ اللهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الله، وفوزه بالشهادة " وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء " لأني خسرته، وخسر حياته دون فائدة، " قال: يا أم حارثة إنّها جنان " متعددة " وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى " وهي أفضل الجنان وأعلاها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن كل من خرج في سبيل الله فقتل فهو شهيد، ولو برمية طائشة من سهم، أو رصاصة.
ثانياًً: أن منازل الشهداء في الفردوس الأعلى. الحديث: أخرجه البخاري والترمذي. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة.
746 - " باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا "
849 - معنى الحديث: أن رجلاً من الصحابة يسمى لاحق بن ضميرة الباهلي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن المقاتلين تختلف نواياهم ومقاصدهم، فمنهم من يقاتل طمعاً في الغنيمة، ومنهم من يقاتل ليتحدث الناس عنه بالبطولة والفروسية، ومنهم من يقاتل لينال مكانة مرموقة، ومنزلة عالية في المجتمع، فمن هو المجاهد في سبيل الله الذي إذا مات مات شهيداً، وإن سلم عاد إلى أهله بأجر وغنيمة؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: " المجاهد الحقيقي الذي يحقق لنفسه كل هذه المزايا هو من قاتل لِإعلاء كلمة الله ونصرة دينه دون أي دافع من الدوافع النفسية الأخرى.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الجهاد الحقيقي(4/89)
747 - " بَابُ ظِلِّ الْمَلاِئكَةِ عَلَى الشَّهِيدِ "
850 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ:
جِيءَ بأبي إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقَدْ مُثِّلَ بِهِ، وَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَذَهَبْتُ أكشِفُ عَنْ وَجْهِهِ فنَهَانِي قَوْمِي، فَسَمعَ صَوْتَ نَائِحَةٍ، فَقِيلَ: ابْنَةُ عَمْرو أوْ أخْتُ عَمْرو، فقَالَ: " لِمَ تَبْكِي؟ أوْ لا تَبْكِي، ما زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بأجْنِحَتِهَا "، قُلْتُ لِصَدَقَةَ: أفِيهِ " حَتَّي رُفِعَ؟ " قَالَ: رُبَّمَا قَالَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الذي تنال به الشهادة أو الأجر والغنيمة هو الجهاد لإعلاء كلمة الله. ثانياً: أن كل غرض من الأغراض الدنيوية تفسد على المسلم جهاده، لأن إخلاص النية شرط في صحة جميع الأعمال وقبولها. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب عن الترجمة.
747 - " باب ظل الملائكة على الشهيد "
850 - معنى الحديث: أن جابر بن عبد الله يحدثنا عن استشهاد والده فيقول لما استشهد والده عبد الله بن عمرو مَثّل به المشركون وقطعوا أنفه وأذنه، وبعض أطرافه، فأراد ولده أن يكشف الثوب عن وجهه فمنعه قومه عن ذلك لئلا يرى وجه أبيه على تلك الحالة فيشتد حزنه عليه، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - صوت امرأة تبكي عليه بصوت مرتفع، فقال: من هذه؟ قالوا: إنها أخته فاطمة بنت عمر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ولم تبكي، أولا تبكي، ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها " أي لا تبكي أخته عليه، فإن من حقها أن تفرح وتستبشر وتسر بما لقيه أخوها من الحفاوة والكرامة، فإن الملائكة قد غشيته بعد استشهاده، وما زالت تظلله بأجنحتها حتى رفع.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يلقاه الشهيد من الكرامة وحسن(4/90)
748 - "بَابُ تمَنِّي الْمُجَاهِدِ أنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنيا "
851 - عَنْ أنَس بْنَ مَالِكٍ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَا أحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّة يُحِبُّ أنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنيا ولَهُ ما عَلَى الأرض منْ شَيْءٍ إلَّا الشَّهِيدُ (1) يَتَمَنَّى أنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنيا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لما يَرَى من الْكَرَامَةِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الاستقبال، حيث تظلله الملائكة منذ استشهاده، احتفاءً به، وترحيباً بمقدمه، وتكريماً له. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
748 - " باب تمني المجاهد أن يرجع إلى الدنيا "
851 - معنى الحديث: أنه ليس هناك أحد يتمنى ويرغب أن يفارق الجنة بعد دخولها، ويعود إلى الدنيا مرة أخرى. ولو أعطي الأرض كلها بما فيها من كنوز ونفائس، وما عليها من قصور عالية وحدائق غناء، ثم استثنى من ذلك الشهيد، فإنه يحب العودة إلى الدنيا عشر مرات لكي يجاهد كل مرة في سبيل الله ويستشهد فيفوز بالشهادة عشر مرات بدل مرة واحدة، وذلك لما يرى من الكرامة التي يلاقيها الشهداء، الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
فقه الحديث: قال ابن بطال: هذ الحديث أجلُّ ما جاء في فضل الشهادة. اهـ. وحسبك في ذلك أن الشهداء يتمنون العودة إلى الدنيا ليستشهدوا عشر مرات كما في حديث الباب. وفي رواية أخرى "أن الله يقول للرجل منهم سل وتمن، فيقول: أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك
__________
(1) قال القسطلاني: " إلا الشهيد " بالرفع، ولأبي ذر بالنصب.(4/91)
749 - " بَابُ وُجُوبِ النَّفِيرِ وما يَجِبُ مِنَ الْجِهَادِ والنيةِ "
852 - عن ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ: " لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ولكِنْ جِهَاد ونِيَّة، وِإذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فانْفِرُوا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عشر مرات". والمطابقة: ظاهرة.
749 - " باب وجوب النفير وما يجب من الجهاد والنية "
أي باب في بيان وجوب النفير، وهو الخروج إلى الجهاد لمن استنفره الإِمام.
852 - معنى الحديث: أن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت واجبة قبل فتح مكة، لأنها كانت دار كفر، فلما فتحت نسخ وجوبها، وهو معنى قوله: " لا هجرة بعد الفتح " أي لم تعد الهجرة واجبة من مكة بعد فتحها " ولكن جهاد " أي ولكن الفريضة الباقية الدائمة إلى يوم القيامة هي الجهاد في سبيل الله " ونيّة " أي وبقيت أيضاً الهجرة بنية الفرار بالدين من الفتن، والخروج في طلب العلم كما أفاده الطيبي، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " وإذا استنفرتم فانفروا " قال النووي: يريد أن الخير الذي انقطع بانقطاع الهجرة (إلى المدينة) يمكن تحصيله بالجهاد والنية الصالحة، وإذا أمركم الإِمام بالخروج إلى الجهاد ونحوه من الأعمال الصالحة فاخرجوا إليه. الحديث: أخرجه الستة.
والمطابقة: في قوله " وإذا استنفرتم فانفروا ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت واجبة قبل الفتح، لأن مكة كانت دار كفر وحرب، فلما فتحت انقطع وجوب الهجرة منها، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا هجرة بعد الفتح " فإنه ليس المراد نفي وجوب الهجرة بجميع أنواعها. قال ابن العربي: الهجرة(4/92)
750 - " بَابُ من اختارَ الغزْوَ على الصَّوْمِ "
853 - عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
"كَانَ أبُو طَلْحَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لا يَصومُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أجْلِ الْغَزْوِ، فلمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَم أرَهُ مُفْطِراً إلَّا يَوْمَ فِطر أوْ أضْحَى".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من دار الحرب كانت (1) فرضاً في عهده - صلى الله عليه وسلم - واستمرت بعده لمن خاف على نفسه، والتي انقطعت أصلاً هي القصد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان. ثانياً: أن الجهاد يتعين عند استنفار الإِمام.
750 - " باب من اختار الغزو على الصوم "
أي هذا باب من فضَّل الغزو على الصوم فترك صوم التطوع لئلا يضعف عن الغزو.
853 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " كان أبو طلحة " وهو زيد بن سهل الأنصاري زوج أم أنس رضي الله عنه " لا يصوم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي لا يصوم صيام التطوع في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو يقلل منه " من أجل الغزو " أي من أجل الاستعداد للغزو والتقوي عليه، عملاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " تقووا لعدوكم " يعني بالإِفطار. " فلما قُبض النبي - صلى الله عليه وسلم - لم أره مفطراً إلاّ يوم فطر أو أضحى " أي فلما مات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وانتشر الدين، وقوي الإِسلام ورأى أن الجهاد قد أصبح فرض كفاية لا فرض عين بدأ يأخذ بحظه من الصوم، ليجمع بين الحسنيين، ويأتي بالعبادتين، فحرص على الإكثار من الصيام، حتى أنني لم أعد أراه مفطراً إلا في العيدين اللذين حرم الله صومهما: عيد الفطر وعيد الأضحى، وكذلك أيام التشريق لورود النهي عن صيامها.
__________
(1) " فتح الباري " ج 6.(4/93)
751 - " بَابُ حَفْرِ الْخنْدَقِ "
854 - عَنِ الْبَراء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
رَأيتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الأحزَابِ يَنْقُلُ التُّراَبَ وقدْ وارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ وهوَ يَقُولُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل الجهاد على الصوم وأنه يستحب للمجاهد أن يترك الصوم وأن يفطر ليستعد للجهاد، ويقوي جسمه عليه، كما كان يفعل أبو طلحة وإن تأكد من قدرته على الجمع بينهما دون ضعف أو وهن أو إرهاق، فالصوم أفضل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من صام يوماً في سبيل الله بعّد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً " أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. ولا تعارض بين حديث الباب وهذا الحديث، بل يمكن الجمع بينهما بأن يحمل حديث الباب على من خشي على نفسه أن يضعف عن الجهاد بسبب الصوم، ويحمل الحديث الآخر على من لا يضعفه الصوم عن القتال، فيستحب له الجمع بينهما. ثانياًً: مشروعية كثرة الصيام وفضله، وحرص أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه، كما دل عليه حديث الباب، حيث كان أبو طلحة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرى مفطراً إلاّ في العيدين، وهو كناية عن كثرة الصيام. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله " كان أبو طلحة لا يصوم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل الغزو ".
751 - " باب حفر الخندق "
854 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يشارك أصحابه في حفر الخندق، ويعمل معهم بيده الشريفة فيحمل التراب كما يحملون، وينقله كما ينقلون، حتى ستر التراب بياض بطنه، وكان - صلى الله عليه وسلم - يشجعهم ويبعث الحماس(4/94)
لولا أنتَ ما اهْتَدَيْنَا ... ولا تَصَدَّقْنَا ولا صَلَّيْنَا
فَأنْزِلِ السَّكِيْنَةَ عَلَيْنَا ... وَثبَتِ الأقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا
إنَّ الأُلَى قد بَغَوْا عَلَيْنَا ... إِذَا أرَادُوا فِتْنَةً أبَيْنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في نفوسهم بما ينشده من الشعر الإِسلامي الذي يقوّي العزائم ويشحذ الهمم "فيقول - صلى الله عليه وسلم -:
" لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا "
فيحمد الله ويثني عليه على ما أنعم به عليهم من الهداية والتوفيق إلى جميع الأعمال الصالحة التي لولا الله ما اهتدوا إليها، ثم يقول:
" فأنزل السكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا "
فيسأل الله أن يملأ قلوبهم طمأنينة وأمناً، وأن يثبت أقدامهم عند ملاقاة أعدائهم ثم يقول:
" إن الألى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنةً أبينا "
يعنى أن هؤلاء الذين يحاربوننا اليوم، ويريدون هزيمتنا وفتنتنا، والقضاء علينا لن يتمكنوا منا، لأننا نجاهد لِإعلاء كلمة الله، والله معنا.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من الخطط الحربية الناجحة في هذه الغزوة حفر الخندق (1) ، قال ابن إسحاق: وكان الذي أشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخندق هو سلمان، وكانت أول مشهد شهده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد تحرره، فقال: يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حصرنا خندقنا علينا، ويشكل الخندق نصف دائرة، طرفها الغربي غربي مسجد المصلى، والشرقي عند مبتدأ حرة واقم في الشمال الشرقي، قال المطري من علماء القرن الثامن الهجري بالمدينة: وقد عفا أثر الخندق اليوم، ولم يبق منه شيء يعرف
__________
(1) يعني حفر الخندق في غزوة الأحزاب.(4/95)
752 - " بَابُ فضلِ الصَّوْمِ في سَبِيلِ اللهِ "
855 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ صَامَ يَوْمَاً في سبِيلِ اللهِ بَعَّدَ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفاً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلا ناحيته، لأن وادي بطحان استولى على موضع الخندق، وصار موضعه في الخندق. ثانياً: مشروعية اتخاذ أنجح الوسائل الدفاعية لمكافحة العدو كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الغزوة. ثالثاً: استحباب إنشاد الشعر الحماسي الذي يقوِّي النفوس والعزائم، ويشجع العاملين على مواصلة أعمالهم، كما فعل - صلى الله عليه وسلم - عند حفر الخندق. علماً بأن هذا الشعر الذي أنشده النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس من نظمه هو، ولكنه من شعر عبد الله بن رواحة، وإنما تمثل به النبي - صلى الله عليه وسلم - ولمِ ينطق به موزوناً، لأن الله أبعده عن مجرد النطق بالشعر الموزون، تصديقاً لقوله عز وجل: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) . مطابقة الحديث للترجمة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - أمر بحفر الخندق وشارك فيه. الحديث: أخرجه الشيخان.
752 - " باب فضل الصوم في سبيل الله "
855 - معنى الحديث: أن من صام يوماً واحداً أثناء جهاده لِإعلاء كلمة الله، ونصرة دينه، فإن الله يباعد بينه وبين نار جهنم مدة سبعين عاماً، وإذا باعد الله بينه وبين النار كل هذه المسافة، فإن معناها أنه قد حَرمَ جسده على النار وأدخله الجنة مع السابقين الأبرار. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل الصيام أثناء الجهاد ومقاتلة الأعداء، وأنه سبب في النجاة من النار. ثانياً: جواز الصيام في السفر خلافاً لمن حرم ذلك. والمطابقة: في كون الحديث يدل على فضل(4/96)
753 - " بَابُ فضلِ مَنْ جَهَّزَ غَازِيَاً أوْ خلفَهُ بِخيْرٍ "
856 - عن زَيْدِ بْن خَالِدٍْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ جَهَّزَ غَازِيَاً فِي سَبِيْلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا، ومَنْ خَلَفَ غَازِيَاً في سَبِيلِ اللهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصيام في سبيل الله وهو ما ترجم له البخاري والله أعلم.
753 - " باب من جهز غازياً "
856 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " من جهز غازياً " أي هيأ له أسباب سفره وأعد له وسائل قتاله، من مال وطعام وسلاح وعتاد حربي قدر استطاعته "فقد غزا" أي فقد فاز بأجر المجاهد، وثبت له ثوابه ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "ومن خلف غازياً في سبيل الله " أي ناب عنه في الإِنفاق على أسرته، وقضاء مصالحهم والقيام بخدمتهم " فقد غزا " أي فقد حقق لنفسه بهذا العمل أجر الجهاد في سبيل الله، لأنه لولا قيامه بأمر عياله لما تمكن من الغزو.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن كل من شارك في مساعدة الغزاة، ومد يد المعونة للمجاهدين بإمدادهم بالمال، وتجهيزهم بالسلاح، أو بكفالة أهلهم وأولادهم، فإن الله يمنحه مثل أجر المجاهد كما في هذا الحديث، وكما جاء في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من جهز غازياً في سبيل الله فله مثل أجره " أخرجه الطبراني في " الأوسط ".
الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة.(4/97)
754 - " بَابُ التَّحَنُّطِ عِنْدَ القِتَالِ "
857 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أنَّهُ أتَى يَوْمَ الْيَمَامَةِ إلى ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ وَقَدْ حَسَرَ عَنْ فَخِذَيه وَهُوَ يَتَحَنَّطُ، فقالَ: يَا عَمِّ ما يَحْبِسُكَ أنْ لا تَجِيءَ؟ فَقَالَ: الآنَ يا ابْنَ أخِي، وَجَعَلَ يَتَحَنَّطُ، ثم جَاءَ فَجَلَسَ فَذَكَرَ في الْحَدِيثِ انْكِشَافاً مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ: هَكَذَا عَنْ وُجُوهِنَا حتى نُضَارِبِ الْقَوْمَ، مَا هَكَذَا كُنَّا نَفْعَلُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِئْسَ مَا عودْتُمْ أقْرَانَكُمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثم هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على مشروعية استعمال الحنوط استعداداً للموت.
754 - " باب التحنط عند القتال "
857 - معنى الحديث: أن أنس بن مالك رضي الله عنه جاء يوم اليمامة إلى ثابت بن قيس خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يضع الحنوط على جسده تأهباً للاستشهاد في سبيل الله، وكان قد كشف عن فخذيه بسبب اشتغاله بتحنيط جسمه " فقال: يا عم ما يحبسك أن لا تجيء " أي ما الذي أخرك عن خوض المعركة حتى الآن؟ " فقال: الآن يا ابن أخي " ولم يكن " ثابت " عمه، ولكن العرب تتوسع في هذه الكلمات تلطفاً وتودداً، وتعبيراً عن إنزاله منزلة الابن أو ابن الأخ - أي الآن أخوض المعركة " فذكر في الحديت انكشافاً " أي فذكر الراوي أنها وقعت في الجيش هزيمة وتقهقرٌ " فقال: هكذا عن وجوهنا " أي فلما رأى ثابت ما وقع في الناس من هزيمة بلغ به الحماس مبلغاً عظيماً، وكبُر عليه ما رأى، فقال للناس: ابتعدوا عن وجهي وافسحوا لي الطريق لكي أقاتل هؤلاء، " ما هكذا كنا نفعل " أي ما كنا نتقهقر هكذا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - " بئسما عودتم أقرانكم " أي بئس(4/98)
755 - " بَابُ مَنِ احْتَبَسَ فرساً في سَبِيلِ اللهِ "
858 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ احْتَبَسَ فَرَساً في سَبِيلِ اللهِ إيمَاناً بالله، وتصديقاً بِوَعْدِهِ، فَإنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ في مِيزَانِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا التقهقر الذي يجعل أعداءكم يطمعون فيكم ويستهينون بكم.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية التحنط عند القتال تعبيراً عن الاستعداد للشهادة واستحباب تشجيع المحاربين. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله " وهو يتحنط ".
755 - " باب من احتبس فرساً في سبيل الله "
أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على فضل من أوقف فرساً للجهاد.
858 - معنى الحديث: أن من أوقف فرساً للجهاد في سبيل الله وابتغاء مرضاته لكي يحارب عليه الغزاة، ابتغاءً لوجه الله تعالى، وتصديقاً بوعده الذي وعد به، حيث قال: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) فإن الله يثيبه عن كل ما يأكله أو يشربه أو يخرجه من بول أو روث حتى يضعه له في كفة حسناته يوم القيامة. وعن تميم الداري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من ارتبط فرساً في سبيل الله، ثم عالج علفه كان له بكل حبة حسنة " أخرجه ابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: الترغيب في اقتناء الخيل وتوقيفها في سبيل الله ليجاهد عليها الغزاة، فإن العبد إذا فعل ذلك يثاب حتى على أرواثها وأبوالها، فقد جاء في الحديث: " المنفق على الخيل كباسط يده بالصدقة لا يقبضها " رواه أحمد وأبو داود. ثانياًً: قال ابن عبد البر: هذه الأحاديث فيها تفضيل الخيل على سائر الدواب، لأنه لم يرو عنه - صلى الله عليه وسلم - في غيرها مثل هذا. ثالثاً: في الحديث كما قال ابن عبد البر الحث على(4/99)
756 - " بَابُ ما يُذْكَرُ من شُؤْمِ الفَرسِ "
859 - عن عبد اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
سَمِعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إنَّمَا الشُّؤْمُ في ثَلَاثَةٍ: في الفَرَسِ والمَرْأةِ والدَّارِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اقتناء كل ما يساعد على الجهاد والعناية بكل ما فيه قوة الأمة وهيبتها. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
756- "باب ما يذكر من شؤم الفرس "
859 - معنى الحديث: تعددت الآراء حول هذا الحديث وحول معناه حتى أن بعضهم أنكره على هذه الصيغة فقد جاء في رواية مكحول عن عائشة أنه قيل لها إن أبا هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الشؤم في ثلاثة " فقالت: لم يحفظ، إنه دخل وهو - صلى الله عليه وسلم - يقول: " قاتل الله اليهود يقولون: الشؤم في ثلاثة. فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوّله، إلَّا أن حديث عائشة هذا منقطع، لأن مكحولاً لم يسمع من عائشة، وعن أبي حسان أن رجلين من بني عامر دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الطيرة في الفرس والمرأة والدار " فغضبت غضباً شديداً وقالت: ما قاله، وإنما قال: إن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك. اهـ. كما أفاده الحافظ. وإنما أنكر بعض الصحابة هذا الحديث وعلى رأسهم عائشة لأنه يدل بظاهره على وجود الشؤم في هذه الثلاثة، -أي وجود النحس والشر فيها- وذلك يتعارض مع ما أنكره الإِسلام من التطير والتشاؤم، ونفي وجوده في أي شيء من الأشياء حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا عدوى ولا طيرة " فكيف ينفي التشاؤم في بعض الأحاديث ويثبته في أحاديث أخرى، لذلك فقد وقف علماء الإِسلام من حديث الباب ثلاثة مواقف، فمنهم من خطأ(4/100)
أبا هريرة، وقال: إنه لم يحفظ الحديث بلفظه الصادر من النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قالت عائشة رضي الله عنها، ومنهم من قبل هذا الحديث على ظاهره وقال بوجود النحس في هذه الأمور الثلاثة، ومنهم ابن قتيبة، ومنهم من تأوله بأن المراد بالشؤم عدم ملاءمة الشيء وموافقته، أو سوء طبعه، فشؤم الدار ضيقها، لأنها إذا كانت ضيقة لا تلائم الإِنسان، ولا تريحه في حياته، وشؤم المرأة عدم الوفاق بينها وبين زوجها وعدم التفاهم، وتمردها عليه، وخروجها عن طاعته، وشؤم الفرس سوء طباعها (1) .
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن لهذه الأشياء الثلاثة، المرأة، والدار، والفرس، أهمية عظمى، وأثر كبير في حياة الإِنسان، فإن كانت المرأة ملائمة لزوجها خلقياً، متفاهمة معه نفسياً، مخلصة له، مطيعة وفية، وكانت الدار صحية واسعة، مناسبة له ولأسرته، وكانت الفرس أو السيارة التي يركبها قوية مريحة، ارتاح الإِنسان في حياته، وشعر بالسعادة وأحس بالاطمئنان والاستقرار النفسي، أما إذا كانت الزوجة غير صالحة، أو الدار غير مناسبة، أو الفرسِ أو السيارة غير مريحة، فإن الإِنسان يشعر بالتعاسة والقلق، ويتعب جسمياً ونفسياً معاً، وهذا هو المقصود بالحديث، حيث إنه عبارة عن التعب النفسي الذي يعانيه الإنسان بسبب عدم ملاءمة هذه الأشياء وصلاحيتها (1) . ثانياًً: أنه ينبغي للمرء إذا أراد أن يتزوج امرأة أو يسكن داراً أو يقتني فرساً، أو سيارة أن يتحرى كل التحري في اختيارها، وأن يتحقق من صلاحيتها وملاءمتها له، ليتمكن من الاستفادة من الاستمتاع بها، لا سيما المرأة الصالحة، فإن لها دوراً كبيراً في نجاح زوجها وصلاحه
__________
(1) وقد جاء الحديث في أكثر الروايات وهي في الصحيحين " إن كان الشؤم في شيء، ففي المرأة، والدار والفرس " وهي تبين المراد من الحديث، وجاء في رواية لابن ماجه " لا شؤم، وقد يكون اليمن في ثلاثة: في المرأة، والفرس، والدار " وهذا نفي للشؤم. والإسلام جاء ينفي الشؤم، ولم يثبته كما تقدم قبل قليل في الأحاديث الصحيحة. (ع) .(4/101)
757 - " بَابُ ناقةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - "
860 - عَنْ أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ:
" كَانَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَاقَة تُسَمَّى العَضْبَاءَ، لَا تُسْبَقُ، فجاءَ أعْرَابِي علَى قَعُودٍ فَسَبَقَهَا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلىَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى عَرَفَهُ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: " حَقٌّ عَلَى اللهِ أنْ لا يَرْتَفِعَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنيا إلَّا وَضَعَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في الدنيا والآخرة، أما ما روي أو ما نسب إلى مالك رحمه الله تعالى من وجود النحس في هذه الأشياء أو في بعضها استناداً إلى ما رواه ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن هذا الحديث فقال: كم من دار سكنها ناس فهلكوا، فإن قوله هذا ليس نصاً على وجود النحس فيها، لاحتمال أنه أراد أن موت الناس في ديارهم ظاهرة عامة، فقلما يوجد بيت لم يمت فيه جماعة من الناس فكأنه يقول للسائل: لماذا تتشاءم من دار معينة ما دام أكثر البيوت قد مات فيها أناس من البشر، وهو الأقرب والأنسب بمالك رحمه الله. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الشؤم في ثلاثة في الفرس ".
757 - " باب ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - "
860 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت له ناقة سريعة لا يسبقها غيرها. وكانت تسمى العضباء (بفتح العين وسكون الضاد) والعضباء في الأصل المقطوعة الأذن، قال في " المصباح " (1) : وكانت ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - تلقب العضباء لنجابتها لا لشق أذنها.. قال الراوي " فجاء أعرابي على قعود " أي على جمل صغير بدأ يُركب، وأقله سنتان "فسبقها فشق ذلك على
__________
(1) " المصباح المنير ".(4/102)
758 - "بَابُ مُدَاوَاةِ النساءِ الْجَرْحَى في الغزْوِ "
861 - عَنِ الرُّبَيِّع بنْتِ مُعوِّذٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
" كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَسْقِي وَنُدَاوِي الْجَرْحَى، ونَرُدُّ القَتْلَى إلى الْمَدِينَةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المسلمين" أي صعب ذلك عليهم، وعز على نفوسهم وأحزنهم " حتى عرفه " أي حتى عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أصابهم من حزن شديد ظهرت آثاره على وجوههم " فقال: حق على الله أن لا يرتفع لشيء من الدنيا إلا وضعه الله " أي أن هذه هي سنة الله في خلقه، ما بعد الصعود إلاّ الهبوط، وما بعد الطلوع إلّا النزول. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت له دواب مختلفة، فكانت له ناقة تسمى العضباء، كما كان له فرس يدعى اللحيف وفرس أخرى يقال له: مندوب، وحمار يدعى " عُفير " بضم العين.
ثانياً: أن دوام الحال من المحال، فما بعد الصعود إلاّ الهبوط، وما بعد الارتفاع إلا الانخفاض، وما بعد الطلوع إلا النزول، هذه هي سنة الله في خلقه، وقد قال الشاعر:
ما طَارَ طَيْرٌ وَارْتَفَعْ ... إلاّ كَمَا طَارَ وَقَعْ
والمطابقة: في قوله: " كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة تسمى العضباء ".
758 - " باب مداواة النساء الجرحى في الغزو "
861 - راوية الحديث: هي الربيع بنت معوذ النجارية الأنصارية، كانت من المبايعات تحت الشجرة، قالت رضي الله عنها: جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل علي غداة بُني بي، أي صبيحة عرسها، فجلس على فراشي فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر. قالت إحداهن:(4/103)
759 - " بَاب مَنِ اسْتَعَانَ بالضُّعَفَاءِ والصَّالِحِينَ في الْحَرْبِ "
862 - عن سَعْدِ بْنِ أبي وَقاص رَضِيَ اللهُ عَنْه قَالَ:
قَالَ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " هَلْ تنْصَرونَ وتُرزَقونَ إلَّا بِضعَفَائِكمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفينا نبي يعلم ما غد، فقال: " دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين " أخرجه البخاري والترمذي. روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. عدة أحاديث رضي الله عنها.
معنى الحديث: أنها رضي الله عنها كانت هي وبعض الصحابيات الجليلات يخرجن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزواته فيقمن بحمل الماء ونقله إلى المجاهدين وسقيهم، كما كانت أم سليط تزفر القرب يوم أحد (بضم التاء وسكون الزاي) أي تملأ القرب بالماء، وتحملها، وتسقي المجاهدين يوم أحد، وكان هؤلاء النسوة يقمن بمداواة الجرحى وتمريضهن، فيقدمن لهم كل ما يستطعنه من خدمات طبية، كما كن يقمن بنقل القتلى إلى المدينة. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية مشاركة المرأة للرجال في الخروج إلى الغزو لكي تقوم بما تستطيعه من سقي المجاهدين، وتقديم الخدمات الطبية لهم، ونقل الموتى إلى بلادهم، أما مشاركة المرأة في الجهاد المسلح وقتال العدو فقد جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها استأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد فقال: " جهادكن الحج ". ثانياً: قال الحافظ: وفيه جواز معالجة المرأة الأجنبية الرجل الأجنبي للضرورة. والمطابقة: في قولها: " ونداوي الجرحى ".
759 - " باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب "
862 - معنى الحديث: أن الله يرزق المسلمين بدعاء ضعفائهم، كما يحقق لهم به النصر في الحرب، والتغلب على العدو، وكسب المعركة، قال(4/104)
في " هداية الباري " تأويل ذلك أن الضعفاء هم أشد إخلاصاً، وأكثر خشوعاً، لخلو قلوبهم من التعلق بزخارف الدنيا، وصفاء ضمائرهم من القواطع عن الله جل شأنه، فبذلك زكت أعمالهم، واستجيب دعاؤهم، لكرامتهم على ربهم، وفي الحديث الصحيح: " ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضعِّف لو أقسم على الله لأبرّه ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية الاستعانة بدعاء الضعفاء على النصر على الأعداء، إذا كانوا صالحين، وهو ما ترجم له البخاري، لأن النصر إنما هو من عند الله، فلا ينبغي الاعتماد فيه على مجرد القوة العسكرية، أو البطولة والشجاعة، وإنما ينبغي الاعتماد على الله، والإكثار من التضرع والاجتهاد في الدعاء، والتماس دعاء الضعفاء والصالحين، لما له من عظيم الأثر في مثل هذه المواقف، فقد جاء في رواية البخاري عن سبب هذا الحديث، أن سعد بن أبي وقاص رأى أن له فضلاً على من دونه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هل تنصرون وترزقون إلاّ بضعفائكم "، وفي رواية أنه قال: يا رسول الله أرأيت رجلاً يكون حامية القوم، ويدفع عن أصحابه أيكون نصيبه كنصيب غيره؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: " ثكلتك أمك، وهل ترزقون وتنصرون إلاّ بضعفائكم " فلما رأى سعد أنه هو وأمثاله من الفرسان هم الذين كسبوا المعركة قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تظن أن المسلمين لم ينتصروا إلا بسواعد أبطالهم، وقوة فرسانهم، بل إنما انتصروا بدعاء ضعفائهم، وفي رواية أخرى " إنما ينصر الله هذه الأمة بضعفائهم، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم ". الحديث: أخرجه البخاري والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة.
***(4/105)
760 - " بَابُ التَّحرِيضِ على الرَّميْ "
863 - عن أبي أسَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ بَدْرٍ حينَ صَفَفْنَا لِقُرَيْشٍ وَصَفُّوا لَنَا: " إِذَا أكثَبُوكُمْ فَعَلَيْكُمْ بالنَّبْلِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
760 - " باب التحريض على الرمي "
863 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في غزوة بدر لأصحابه حين قام بترتيبهم، وتنظيم صفوفهم " إذا أكثبوكم " أي إذا دنوا منكم " فعليكم بالنبل " أي فارموهم بالسهام. والمعنى: إذا قاربوم بحيث تنالهم السهام، فعليكم أن ترموهم بها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: التحريض على الرمي والحثّ عليه بأي وسيلة من وسائله، سواء كان ذلك بالسهام كما في العصور السالفة، أو بالرصاص والقذائف النارية والقنابل اليدوية كما في العصر الحديث، لأن الرمي أحد عناصر القوة التي أمرنا الله تعالى بها في قوله عز وجل: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ويفسر في كل عصر بحسب ذلك العصر، وما جد فيه من آلات حربية، وهو ما ترجم له البخاري. ثانياً: المحافظة على الذخيرة الحربية (1) ، واستعمال السلاح المناسب في الوقت المناسب، فإنه إنما أمرهم بالرمي عند القرب فقط أنهم إذا رموهم على بعد قد لا تصيبهم السهام، فتضيع دون فائدة، فاستبقاؤها أولى، وليس المراد بالقرب التلاحم الذي لا ينفع فيه إلاّ السلاح الأبيض، وهو السيوف. والمطابقة: في قوله: " إذا أكثبوم فعليكم بالنبل ". الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود.
__________
(1) وعدم تضييعها دون فائدة.(4/106)
761 - " بَابُ مَا قِيلَ في قِتالَ الرُّومَ "
864 - عَنْ أمِّ حَرَام رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنهَا سَمِعَتْ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: " أوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قدْ أوْجَبُوا " قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أنا فِيهِم؟ قَالَ: " أنتِ فيهِمْ " قَالَتْ: ثُمَّ، قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أوَّلُ جَيْش مِنْ أمَّتِي يَغْزُون مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ " فَقُلْتُ: أنَا فيهمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " لا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
761 - " باب ما قيل في قتال الروم "
أي هذا باب يذكر فيه ما جاء من الأحاديث في غزو الروم في عقر دارهم، ومحاربتهم على أبواب عاصمتهم القسطنطينية.
864 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشر أصحابه في هذا الحديث بغزو الامبراطورية الرومانية مرتين، وفي معركتين: الأولى: معركة بحرية أخبر عنها - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " أوّل جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا " أي أوّل معركة بحرية يغزو فيها المسلمون دولة الروم يكونون قد فازوا فيها بالشهادة، واستحقوا الجنة. وهذه المعركة هي غزوة قبرس التي غزى فيها عثمان بن عفان في السنة الرابعة والعشرين من الهجرة جزيرة قبرس في البحر الأبيض المتوسط.
" قالت " أي أم حرام رضي الله عنها: " قلت: يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: أنت فيهم " فبشر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمّ حرام بالاشتراك في هذه الغزوة البحرية، وقد تحققت هذه البشري فاشتركت أم حرام في هذه المعركة، فلما رجعت وقعت من دابتها، فاندقت عنقها، وماتت شهيدة في سبيل الله. أما المعركة الثانية فهي معركة القسطنطينية، وهي أول غزوة غزا فيها المسلمون هذه المدينة، وفي هذا يقول - صلى الله عليه وسلم -: " أوّل جيش يغزو مدينة قيصر " أي يغزو(4/107)
762 - " بَابُ قتالِ الْيَهُودِ "
865 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ، حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ وَرَاءَهُ الْيَهُودِيُّ: يا مُسْلِمْ هَذَا يَهودِي ورائي فاقْتُلْهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القسطنطينية التي هي أكبر مدن الروم، وعاصمة ملكهم لأول مرة، وذلك في خلافة الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، واشترك في هذه الغزوة بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين شهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمغفرة في قوله " مغفور لهم " قالت أم حرام " فقلت أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا " لأنها ماتت في غزوة قبرس. الحديث: أخرجه البخاري.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غزو المسلمين للروم في معركة بحرية تدور رحاها في البحر الأبيض المتوسط (1) وهى غزوة قبرس، وتبشيره لمن قتل فيها بالشهادة والجنة، ومنهم أم حرام رضي الله عنها. ثانياًً: تبشيره - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين بأول غزوة يقومون بها لمدينة القسطنطينية وقتالهم للروم في عقر دارهم، وعاصمة امبراطوريتهم، وقد تحقق ذلك في عهد يزيد بن معاوية، حيث غزا المسلمون عاصمة الروم بجيش يضم جماعة من أعلام الصحابة منهم ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وأبو أيّوب الأنصاري وتوفي أبو أيوب في القسطنطنية ودفن عند سورها رضي الله عنهم أجمعين. والمطابقة: في قوله: " أول جيش من أمتي يغزو مدينة قيصر مغفور لهم ".
762 - " باب قتال اليهود "
865 - معنى الحديث: أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث عن محاربة
__________
(1) أي وهذه المعركة هي غزوة قبرس.(4/108)
763 - " بَابُ مَنْ أرَادَ غَزْوَةً فوَرَّى بِغيْرِهَا "
866 - عن كَعْبِ بْنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال:
" كانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا. إلَّا ورَّى بِغَيْرِهَا، حتى كَانَتْ غزْوَةُ تَبُوكٍ، فغَزَاهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في حَر شَديدٍ، واسْتَقْبَلَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المسلمين لليهود في آخر الزمان، وانتصارهم عليهم قبل قيام الساعة، فيهزمون حتى يختبىء أحدهم ويختفي وراء الحجر، فيقول الحجر: " يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله " ويحتمل أن يكون ذلك حقيقة أو مجازاً، فيكون كناية عن انكشاف اليهودي وظهوره، وهزيمته قال القسطلاني قوله: " حتى تقاتلوا اليهود " أي الذين يكونون مع الدجال عند نزول عيسى عليه السلام.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: محاربة المسلمين لليهود في آخر الزمان، وانتصارهم عليهم، وتلك حقيقة ثابتة لا بد من وقوعها ما دام قد أخبر عنها الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - وهو ما ترجم له البخاري. ثانياً: أن هؤلاء اليهود يقضى عليهم في هذه الحرب، ولا تقوم لهم بعدها قائمة بدليل قوله: " حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله ". والمطابقة: في قوله: " لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود ". الحديث: أخرجه الشيخان.
763 - " باب من أراد غزوة فورَّى بغيرها "
866 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في أكثر غزواته وأغلبها إذا أراد غزو جهة أخفاها، وأظهر أنه يريد غزو جهة أخرى، ليباغت العدو، إلّا في غزوة تبوك، فإنه قد أعلنها للناس وبين لهم الجهة التي يريدها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خرج إليها في حرّ شديد، وواجه فيها سفراً طويلاً، واستقبل عدواً كثير العدد والعدة كما قال الراوي "فغزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حرّ(4/109)
سَفَراً بَعِيداً ومَفَازاً، واسْتَقبَلَ غَزْوَ عَدُوٍّ كَثِيرٍ فجلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أمْرَهُمْ لِيَتأهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ، وأخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الذي يُرِيدُ".
764 - " بَابُ التَّودِيعَ "
867 - عَنْ أبِي هريْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ:
بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في بعثٍ وَقَالَ لَنَا: "إِنْ لَقِيتُمْ فُلَاناً وَفُلاناً لِرَجُليْنِ مِنْ قريش سَمَّاهُمَا فَحَرِّقُوهُمَا بالنَّارِ " قَالَ: ثُمَّ أتيْنَاهُ نُوَدِّعُهُ حِينَ أردْنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شديد، واستقبل سفراً ومفازاً" قال في " المصباح ": المفاز الموضع المهلك، مأخوذ من فوّز بالتشديد إذا مات، لأنّها مظنة الموت، " واستقبل غزو عدد كثير، فجلَّى للمسلمين أمرهم " أي فأعلن لهم عن هذه الغزوة " ليتأهبوا أهبة عدوهم " أي يستعدوا له.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب التورية في الحرب، وإخفاء الجهة المقصودة تعمية على العَدُوّ سيما في الحروب الخاطفة للتمكن منه والله أعلم. الحديث: أخرجه الستة إلا ابن ماجه بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " قلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها ".
764 - " باب التوديع "
867 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث " أي في جيش لقتال العدو، وكان أمير هذا الجيش حمزة بن عمرو الأسلمي كما رواه أبو داود " وقال لنا: إذا لقيتم فلاناً وفلاناً لرجلين من قريش " وهما هبار بن الأسود ورفيقه " فحرقوهما بالنار " جزاء لهما على تعديهما على زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومحاولتهما قتلها، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أطلق زوجها أبا العاص بن الربيع من الأسر، وجهزها وأرسلها(4/110)
ْالْخُروجَ، فَقَالَ: " إنِّي كُنْت أمَرْتُكمْ أن تحَرِّقُوا فُلاناً وفُلاناً بالنَّارِ، وإنَّ النَّارَ لا يُعَذِّبُ بِهَا إِلا اللهُ، فإنْ أخَذْتمُوهمَا فَاقْتلُوهُمَا ".
765 - " بَاب يُقَاتلُ مِنْ وَرَاءِ الإمَامِ "
868 - عَنْ أبي هريْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقول: "مَنْ أطَاعَنِي فَقَدْ أطَاعَ اللهَ، ومَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِع الأمِيرَ فَقَدْ أطَاعَنِي، ومَنْ يَعْصِ الأمِيرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إليه، تبعها هبار بن الأسود ورفيقه، فنخسا بعيرها فأسقطت ومرضت، " ثم أتينا نودعه " قبل سفرنا " فقال: إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً، وإن النار لا يعذّب بها إلاّ الله، فإن أخذتموهما فاقتلوهما " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - ندم، ورجع عن رأيه، ونهاهم عن قتلهما حرقاً، لأن الحرق لله وحده.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يسن التوديع عند السفر فيستحب للمسافر أن يودع أكابر أهل بلده،. وأقاربه وأصحابه.
ثانياًً: النهي عن القتل حرقاً في الحدود، وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وعطاء وغيرهم (1) ، وذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أن من حرق يحرّق.
الحديث: أخرجه أبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " أتيناه نودعه ".
765 - " باب يقاتل من وراء الإمام ويتقى به "
868 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أطاعني فقد أطاع الله " أي من نفذ أحكامي أمراً أو نهياً، فقد فاز بطاعة الله ورضوانه وجنته، " ومن عصاني فقد عصا الله " كما قال تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
__________
(1) قالوا: لا يقتل إلا بالسيف كما في " شرح العيني " ج 14.(4/111)
فَقَدْ عَصَانِي، وإنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ، وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أمَرَ بِتَقْوَى اللهِ وَعَدَلَ فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أجْراً، وإنْ قَالَ بِغَيرِهِ فإنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ".
766 - "بَابُ البَيْعَةِ في الْحَرْبِ على أنْ لا يَفرُّوا، وَقَالَ بَعضهُمْ: عَلَى الْمَوْتِ"
869 - عنْ عَبْدِ اللهِ بْن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) " ومن يطع الأمير فقد أطاعني " أي ومن يطع ولي الأمر أياً كان أميراً أو قاضياً أو مدير شرطة فقد أطاع النبي - صلى الله عليه وسلم -، " ومن يعص الأمير فقد عصاني " قال القرطبي: وهو عام في كل أمير عدل للمسلمين " وإنما الإِمام جنة " بضم الجيم، وتشديد النون، أي وقاية للمسلمين وحماية لهم، من الأعداء ينفذ فيهم أحكام الشريعة، التي تحقق الأمن والاستقرار، " يقاتل من ورائه " أي يجب على المسلمين أن يقاتلوا معه الكفار والبغاة " فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجراً، وإن قال بغيره فإن عليه منه " أي أنه لا يجوز الخروج عليه ولو عصى فإن ذلك بينه وبين ربه. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب طاعة ولي الأمر ولو فاسقاً لأن فسقه يعود عليه، ما لم يأمر بمعصية فلا طاعة له. ثانياً: وجوب القتال من ورائه. والمطابقة: في قوله: " إنما الإِمام جنة يقاتل من ورائه ".
766 - " باب البيعة في الحرب على أن لا يفروا، وقال بعضهم: على الموت "
قال العيني: والمراد بالمبايعة على الموت أن لا يفروا ولو ماتوا، وليس(4/112)
رَجَعْنَا مِن العَامِ المُقْبِلِ، فما اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ على الشَّجَرَةِ التي بايَعْنَا تَحْتَهَا كَانَتْ رَحْمَةً مِنَ اللهِ، فَقِيلَ لَهُ: على أيِّ شيءٍ بَايَعَهمْ، عَلَى المَوْتِ؟ قَالَ: لا، بَلْ بَايَعَهُمْ على الصَّبرِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المراد به أن يقع الموت ولا بد. اهـ. وعلى هذا فالصيغتان بمعنى واحد.
868 - معنى الحديث: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: " رجعنا من العام المقبل " أي رجعنا إلى مكة معتمرين عمرة القضاء في العام الذي يلي عام الحديبية، وذلك في السنة السابعة من الهجرة " فما اجتمع منا اثنان على الشجرة " أي فإذا شجرة الرضوان قد اختفت آثارها، ولم يبق منها شيء، واختلفنا في تحديد موضعها، فلم يتفق منا اثنان على تحديد مكانها، " وكانت رحمة من الله " أي وكانت موضع رحمة لنا ورضوان من الله تعالى حيث قال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) " فقيل له: على أي شيء بايعهم " يعني بأي صيغة بايعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " على الموت؟ " بحذف همزة الاستفهام تقديره أعلى الموت - يعني هل بايعهم على الموت، " قال: لا على الصبر " يعني بايعهم على الصبر على الأعداء، والثبات في الحرب، والاستمرار فيها، وأن لا يفروا من المعركة. الحديث: أخرجه البخاري.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية المعاهدة في الحرب، سيما في المعارك الخطيرة والمبايعة على الصبر، وعدم الفرار، وهو ما ترجم له البخاري. والمطابقة: في قوله: " بايعهم على الصبر ".
***(4/113)
767 - " بَابُ كَرَاهِيَّةِ السَّفَرِ بالمصَاحِفِ إلى أرْضِ الْعَدُوِّ "
870 - عنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أنْ يُسَافَرَ بالقُرْآنِ إلى أرْض العَدُوِّ ".
768 - " بَابُ يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإِقامة "
871 - عَنْ أبي موسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إذا مَرِضَ العَبْد أو سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
767 - " باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو "
870 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى المسلمين عن السفر بالمصاحف إلى أرض المشركين خوفاً من أن يتمكنوا من الحصول عليها، فيعبثوا بها، ويهينوها. قال مالك: إنما ذلك مخافة أن يناله العدو، أي خوفاً من أن يتمكن الكفار من القرآن متمثلاً في المصاحف فيعبثوا به، وهو معنى قوله: " نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو " قال الباجي (1) : يريد والله أعلم بالقرآن المصحف، لما كان القرآن مكتوباً فيه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على النهي عن السفر بالمصحف الشريف إلى أرض العدو، وقد أجمعوا على أنه لا يجوز ذلك في العسكر الصغير الذي يخاف عليه، أما الكبير فقد أجاز السفر إليه بالمصحف أبو حنيفة، ومنعه مالك مطلقاً كما أفاده الباجي، وأدار الشافعية الكراهية مع الخوف وجوداً وعدماً. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو.
768 - " باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإِقامة "
871 - معنى الحديث: أن المؤمن الصالح إذا مرض أو سافر سفر
__________
(1) " المنتقى شرح الموطأ " ج 3.(4/114)
يَعْمَلُ مُقِيماً صَحِيحاً".
769 - " بَابُ الْجِهَادِ بِإذْنَ الأبَوَيْنَ "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
طاعة فمنعه سفره ومرضه عن عبادات وطاعات وأعمال صالحة، كان معتاداً لها، محافظاً عليها أثناء صحته وإقامته، فإن الله يكتب له أثناء مرضه وسفره من الأجر والمثوبة ما يوازي ثواب تلك الأعمال التي كان يفعلها عندما كان مقيماً صحيحاً وهو مصداق قوله تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) . الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود. والمطابقة: في قوله: " كتب له مثل ما كان يعمل إلخ ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن المسافر والمريض يكتب لهما ما كانا يعملانه من الطاعات حال إقامتهما وصحتهما، ويوضع في كفة حسناتهما، قال في " هداية الباري " (1) هذا في حق من دأب على عمل صالح، فعرض عليه من الملّمات الجسمانية ما أخرجه عن الاعتدال، وأدخله في دائرة الاعتلال، أو سافر في غير معصية، وعَضَلَهُ سفره عن ذلك العمل، ونيته لولا العارض لثابر عليه. قال ابن المنير (2) : وتدخل في ذلك الفرائض التي شأنها أن يعمل بها وهو صحيح إذا عجز عن جملتها أو بعضها بالمرض كتب له أجر ما عجز عنه حتى صلاة الجالس في الفرض لمرضه يكتب له عنها أجر صلاة القائم.
769 - " باب الجهاد بإذن الأبوين "
أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على أنه لا يجوز الجهاد إلا بإذن الأبوين.
__________
(1) " هداية الباري " للطهطاوى ج 1.
(2) " شرح القسطلاني على البخاري " ج 5.(4/115)
872 - عن عبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
جَاءَ رَجُل إلى النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فاسْتَأذَنَهُ في الْجِهَادِ فَقَالَ: "أحَيٌّ وَالِدَاك؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
872 - معنى الحديث: أن رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جاهمة ابن العباس بن مرداس جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في الجهاد، فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبويه هل هما لا يزالان على قيد الحياة، قال: نعم " قال ففيهما فجاهد " الفاء الأولى واقعة في جواب شرط محذوف، والثانية جزائية لتضمن الكلام معنى الشرط، أي إذا كان الأمر كما قلت فاختص المجاهدة في خدمتهما، وفي رواية عنه أنه قال أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أستشيره في الجهاد، فقال: " ألك والدة؟ " قلت: نعم، قال: " اذهب فأكرمها " فإن الجنة تحت رجلها " أخرجه أحمد والنسائي: قال الصنعاني: سمّى إتعاب النفس في القيام بمصالح الأبوين وبذل المال في قضاء حوائجهما جهاداً من باب المشاكلة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه لا يجوز الجهاد إلّا بإذن الأبوين، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ففيهما فجاهد " حيث أمره بببرهما وجهاد النفس في القيام بخدمتهما وإرضائهما وطاعتهما، وأصرح منه في وجوب استئذانهما حديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له: " ارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلّا فبرهما " أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان.
قال الصنعاني (1) : وذهب الجماهير من العلماء إلى أنّه يحرم الجهاد على الولد إذا منعه الأبوان أو أحدهما بشرط أن يكونا مسلمين، لأن برهما فرض عين، والجهاد فرض كفاية، فإذا تعين الجهاد، فإنه يقدم على طاعة الوالدين. ثانياً:
__________
(1) " سبل السلام " ج 4.(4/116)
770 - " بَابُ قتْلِ النِّسَاءِ في الْحَربِ "
873 - عن عبْد اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" أن امْرَأةً وُجِدَتْ في بَعْض مَغَازِي النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَقتُولَةً، فنَهى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عنْ قَتْل النِّسَاء والصبيَانِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال الحافظ: استدل بهذا الحديث (1) على تحريم السفر بغير إذن الوالدين، لأن الجهاد إذا منع مع فضيلته، فالسفر المباح أولى، نعم إن كان السفر لتعلم فرض عين حيث يتعين السفر طريقاً إليه فلا منع، وإن كان فرض كفاية ففيه خلاف. ثالثاً: قال الحافظ وفي الحديث فضل بر الوالدين، وتعظيم حقهما، وكثرة الثواب على برهما. اهـ. وقد صرح في حديث آخر بأن بر الوالدين أفضل من الجهاد كما جاء في رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن أفضل الأعمال فقال: " الصلاة " قال: ثم مه: قال: " الجهاد " قال: فإن لي والدين، فقال: " برك بوالديك خير " أخرجه ابن حبان. فقد دل هذا الحديث على أن بر الوالدين أفضل اللهم إذا كان الجهاد فرض عين، فإنه يقدم عليه. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة ".
770- " باب قتل النساء في الحرب "
873 - معنى الحديث: أن امرأة من المشركين وجدت مقتولة في غزوة الفتح، فلما رأى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنكر عليهم هذا الفعل، ونهاهم عن قتل النساء والصبيان، ومنع المسلمين أن يقتلوا امرأة أو صبياً عامدين متعمدين ذلك إلاّ في حالات استثنائية، كأن تقاتل المرأة أو الصبي المراهق مثلاً. الحديث: أخرجه الشيخان.
__________
(1) " فتح الباري " ج 6.(4/117)
771 - " بَابُ حَرْقَ الدُّورِ والنَّخِيلَ "
874 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" حَرَّقَ النبي - صلى الله عليه وسلم - نَخْلَ بني النَّضِيرِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب، وهو أمر مجمع عليه فيما إذا لم يقاتلوا أو يختلطوا بالرجال. أما إذا قاتلت المرأة أو الصبي، أو اختلطوا بالرجال، فيجوز قتلهم عند الجمهور لما جاء في حديث ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - لما دخل مكة أتي بامرأة مقتولة فقال: " ما كانت هذه تقاتل " أخرجه الطبراني، قال الصنعاني: قوله: " ما كانت هذه تقاتل " يدل على أنها إذا قاتلت قتلت، وإليه ذهب الشافعي (1) وأبو حنيفة أيضاً. اهـ. وأما جواز قتل المرأة إذا اختلطت بالرجال المقاتلين فيدل عليه حديث البخاري عن الصعب بن جثامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أهل الدار يبيتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم قال: " هم منهم " أخرجه الستة، فدل ذلك على جواز قتل النساء والصبيان إذا لم يمكن الوصول إلى الرجال إلا بقتلهم وقال مالك والأوزاعي: لا يجوز قتلهم حتى لو تترس أهل الحرب بهم. والمطابقة: في قول ابن عمر: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء " وهو ما ترجم له البخاري.
771 - " باب حرق الدور والنخيل "
أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على جواز إحراق دور المشركين وأشجارهم ونخيلهم إذا كان لا يمكن استسلامهم والظفر بهم إلّا بذلك.
874 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد تعاهد مع قبيلة بني
__________
(1) " سبل السلام " ج 4.(4/118)
772 - "بَاب الْحَرْبُ خدعَة "
875 - عَنْ أبي هرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْه:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "هَلَكَ كِسْرَى، ثم لَا يَكُون كِسْرَى بَعْدَهُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النضير من اليهود فنقضوا العهد الذي بينه وبينهم، وحاولوا قتله غيلة، فأخبره الله بذلك، فغزا ديارهم في جنوب المدينة سنة أربع من الهجرة، وطلب منهم الاستسلام فرفضوا فشدد الحصار عليهم، وخرب ديارهم، وحرق نخيلهم وأشجارهم بعد أن حاصرهم خمسة عشر يوماً، فنزلوا على حكمه، واستسلموا، فأجلاهم عن المدينة. والمطابقة: في قوله: " حرق النبي - صلى الله عليه وسلم - نخل بني النضير ".
فقه الحديث: قال القسطلاني: استدل الجمهور بذلك على جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو إذا تعين طريقاً في نكاية العدو، وخالف بعضهم فقال: لا يجوز قطع الثمر، وحمل ما ورد من ذلك إِما على غير المثمر، وإما على أن الشجر الذي قطع في قصة بني النضير كان في الموضع الذي يقع فيه القتال، وهو قول الليث والأوزاعي وأبي ثور. اهـ. واحتجوا بوصية أبي بكر لجيوشه أن لا يفعلوا شيئاً من ذلك، وأجاز ذلك الكوفيون ومالك والشافعي وأحمد (1) وإسحاق والثوري وابن القاسم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي.
772 - " باب الحرب خدعة "
روى بسكون الدال وضم الخاء وفتحها وكسرها، خُدْعة خَدْعة خِدْعة، وبضم الخاء وفتح الدال خُدَعة، قال القزاز: وفتح الخاء وسكون الدال لغة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي أصح.
__________
(1) " شرح العيني على البخاري " ج 15.(4/119)
وَقَيْصَر لَيَهْلَكَن، ثُم لا يَكُونُ قَيْصَر بَعْدَهُ، وَلتقْسَمَن كُنُوزُهُمَا في سَبِيل اللهِ" وسَمَّى الحَرْبَ خُدْعَةً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
875 - "معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشر أصحابه باتساع نطاق الفتح الإسلامي شرقاً وغرباً حتى يفضى على دولتي الفرس والروم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " هلك كسرى، ثم لا يكون كسرى بعده " فعبر عنه بصيغة الماضي للدلالة على أن هلاكه في حكم الشيء الذي وقع وانتهى، وذلك لقرب وقوعه حيث هلك آخر ملوكهم في عهد الفاروق رضي الله عنه، أما القضاء على الامبراطورية الرومانية فأخبر عنه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " وقيصر ليهلكن " فعبر عنه بصيغة المضارع، لأن القضاء على الامبراطورية الرومانية في المشرق قد تم على مراحل، حيث أخذت تتقلص ولم يقض عليها نهائياً إِلا على يد السلطان المظفر محمد الفاتح عندما فتح القسططينية سنة 857 هـ " وسمى الحرب " في غزوة الخندق " خدعة " ومعناه أن النصر فيها لا يعتمد على العدد والعدة بقدر ما يعتمد بعد الله على حسن التدبير والحيل الحربية.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: البشارة بزوال الدولة الفارسية في أقرب وقت، كما يدل عليه التعبير بصيغة الماضي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " هلك كسرى ". ثانياً: بشارته - صلى الله عليه وسلم - بزوال الامبراطورية الرومانية من المشرق بعد مدة من الزمن كما يدل عليه التعبير بصيغة المضارع في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وقيصر ليهلكن " وهذا ما وقع بالفعل؛ لأنّ الدولة الرومانية أخذت تتقلص على يد الفاتحين شيئاً فشيئاً، فجلت عن بلاد الشام في عهد الفاروق رضي الله عنه، وتوالت الفتوحات حتى فتحت عمورية في عهد الخليفة العباسي المعتصم، ثم تمَّ القضاء عليها في الشرق نهائياً بفتح القسطنطينية على يد الخليفة المظفر محمد الفاتح. حيث غزاها بجيش يبلغ مائتين وخمسين ألفاً، وحاصرها بحراً(4/120)
773 - " بَابُ فكاك الأسير "
876 - عَنْ أبي مُوسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " فُكوا الْعَانِيَ -يعني الأسير- وأطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعوُدُوا الْمَرِيضَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بمائة وثمانين ألفاً، غير أنه لم تتمكن السفن العثمانية من الوصول إلى القسطنطينية بسبب السلاسل الحديدية التي حالت بينهم وبينها من جهة البحر، فلما رأى السلطان ذلك أمر بوضع ألواح خشبية على البر، وصب عليها الزيت، ونقل عليها السفن البحرية التي تبلغ نحو سبعين سفينة إلى الجانب الآخر من البحر على طريق برّي يبلغ ستة أميال، وتم ذلك في ليلة واحدة، فلم يطلع الصباح حتى رآها الروم قائمة على البحر تحاصر عاصمتهم، فأيقنوا بالهزيمة، واقتحم السلطان المدينة بمائة وخمسين ألفاً مكبرين مهللين، ودخلوا القسطنطينية في 20 جمادى الأولى سنة 857 هـ. واقتحم المسلمون كنيسة القديسة صوفيا حيث كان يصلي البطريق، فخرج منها، وقاتل حتى قتل، وأحال المسلمون تلك الكنيسة إلى مسجد إسلامي. ثالثاً: أن الحرب تدبير واحتيال، وكثيراً ما كان - صلى الله عليه وسلم - يعتمد في حربه على الخطط العسكرية والحيل الحربية. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي.
773 - " باب فكاك الأسير "
876 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بفك الأسير وتخليصه من يد المشركين، وفدائه بالمال، كما أمر أيضاً بإطعام الطعام لكل من يحتاج إليه من إنسان أو حيوان، وبعيادة المريض وزيارته أثناء مرضه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية فكاك(4/121)
774 - "بَابُ فِدَاءِ الْمُشْرِكين "
877 - عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رِجَالاً من الأنْصَارِ استَأذَنُوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إئْذَنْ فَلْنَتْرُكْ لابنِ أُخْتِنَا عَبَاسٍ فِدَاءَهُ، فَقَالَ: " لا تَدَعُونَ مِنْهَا دِرْهماً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأسير ومفاداته من يد العدو بالمال، وهو فرض كفاية عند الجمهور، قال إسحاق ومالك في رواية: فكاكه من بيت المال، وقال أحمد: يفادى بالرؤوس، أما بالمال فلا أعرفه. ثانياًً: مشروعية إطعام الجائع وهو فرض كفاية وعيادة المريض وقد تقدم. الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود. والمطابقة: في قوله: " فكوا العاني " أي الأسير.
774 - " باب فداء المشركين "
أي هذا باب يذكر فيه مشروعية فداء المشركين بمال يؤخذ منهم.
877 - معنى الحديث: أن العباس بن عبد المطلب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنه وقع أسيراً في أيدي المسلمين يوم بدر، فعرض بعض الأنصار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يمنَّ عليه بإطلاق سراحه، وفك أسره دون أي فداء مالي لما بينه وبينهم من قرابة، لأنهم أخوال أبيه، وهو معنى قولهم: " ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه " قال القسطلاني: وقالوا: ابن أختنا ليكون له المنة عليهم بخلاف ما لو قالوا: ائذن لنا فلنترك لعمك. " فقال: لا تدعون منها درهماً " أي لا بد أن تأخذوا منه الفداء كاملاً دون أن يتبقى منه درهم واحد.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية فداء الأسير(4/122)
775 - " بَابُ الحْربِيّ إذَا دَخلَ دَارَ الإسْلامِ بِغيْرِ أمَانٍ "
878 - عن سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عَيْنٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَهُوَ في سَفَرٍ، فَجَلَسَ عِنْدَ أصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ، ثم انْفَتَلَ، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اطْلُبُوهُ واقتُلُوهُ " فقَتَلَهُ، فَنَفَّلَهُ سَلَبَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المشرك، وهو أخذ المال من الأسير المشرك مقابل إطلاق سراحه، أو إطلاق أسير مسلم بدلاً عنه، قال في " الإفصاح ": اتفقوا على أن الإِمام مخير في الأسارى بين القتل والاسترقاق، واختلفوا هل هو مخير فيهم بين الفداء، والمن، وعقد الذمة، فقال مالك والشافعي وأحمد: هو مخير فيهم أيضاً بين الفداء بالمال وبالأسارى وبين المن عليهم، وقال أبو حنيفة: لا يمن ولا يفادي، وأما عقد الذمة فقال مالك وأبو حنيفة: هو مخير في عقد الذمة عليهم، وقال الشافعي وأحمد: ليس له ذلك لأنهم قد ملكوا. ثانياً: أنه لا محاباة في الأحكام الشرعية، ولذلك ساوى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين عمه العباس وغيره في أخذ الفداء. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة.
775 - " باب الحربي إذا دخل دار الإِسلام بغير أمان "
878 - معنى الحديث: أن المشركين أرسلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - جاسوساً في غزوة حنين، جاء يركض على جمل أحمر أناخه ثم انتزع حبلاً من جعبته فقيد به الجمل، ثم تقدم وجلس مع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحدث إليهم، وأكل معهم ليطمئنوا إليه ويتعرف على أحوالهم، قال الراوى: " ثم انفتل " أي ثم انصرف على هيئة مريبة تبعث على الشك حيث خرج يشتد أي يسرع في سيره، فأتى جمله فأطلق قيده، ثم قعد عليه، فاشتد به، أي أسرع في سيره، فشخصت إليه الأبصار وتنبه له الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتأكد من جاسوسيته،(4/123)
776 - " بَابُ استقْبَالَ الْغزَاةِ "
878 م - عَن السَّائِبِ بْنِ يَزيدَ قَالَ:
" ذَهَبْنَا نَتَلَقَّى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ الصبيَانِ إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اطلبوه فأقتلوه " أي فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإلقاء القبض عليه وقتله " فقتله فنفله سلبه " أي فقتله سلمة بن الأكوع فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - سلبه، أي أعطاه ما وجده عليه من ثياب وسلاح ونحوها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استدل به مالك على مشروعية قتل الحربي إذا دخل دون أمان، وقال أبو حنيفة يكون فيئاً للمسلمين، وهو قول أحمد أيضاً وقال الشافعي: إذا ادعى أنه رسول قُبِلَ منه. ثانياً: قال النووي: فيه قتل الجاسوس الحربي الكافر، وهو محل اتفاق، وأما المعاهد والذمي، فقال مالك والأوزاعي ينقض عهده بذلك، وعند الشافعية خلاف. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " اطلبوه فاقتلوه ".
776 - " باب استقبال الغزاة "
878 م - معنى الحديث: يقول السائب بن يزيد رضي الله عنه " ذهبنا نتلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الصبيان " أي خرجت وأنا غلام صغير مع غلمان المدينة نستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إلى ثنية الوداع " الواقعة في شمال المدينة بجوار جبل سلع، وعند مفرق طريق العيون وسلطانة، كما جاء في رواية الترمذي حيث قال: " لما قدم (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك خرج الناس يتلقونه إلى ثنية الوداع، فخرجت مع الناس، وأنا غلام " قال الترمذي حسن
__________
(1) " شرح العيني على البخاري " ج 15.(4/124)
777 - " بَابُ مَا يَقُولُ إذَا رَجَعَ مِنَ الْغزْوِ "
879 - عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا قَفَلَ كَبَّرَ ثَلَاثاً قال: " آيِبُونَ إنْ شَاءَ اللهُ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، حَامِدُونَ، لِربَّنا سَاجِدُونَ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صحيح. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية استقبال القادمين من الجهاد والحج بالحفاوة والترحيب، فهو سنة من سنن سيد المرسلين، وفيه جواز رواية الصبي لأن السائب كان غلاماً. والمطابقة: في قوله: " ذهبنا نتلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
777 - " باب ما يقول إذا رجع من الغزو "
879 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قفل كبّر ثلاثاً " أي كان - صلى الله عليه وسلم - إذا رجع من السفر قادماً من غزو أو جهاد كبّر ثلاث تكبيرات ثم قال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده " ومعنى هذا القول المبارك: أننا عدنا إلى بلدنا الحبيب، وقد عقدنا العزم على العودة إلى الله والتوبة الصادقة المقترنة بالأعمال الصالحة من الشكر لله، والمواظبة على عبادته، والتقرب إليه بالصلاة، وكثرة السجود. الحديث: أخرجه الشيخان بألفاظ مختلفة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب هذا القول عند الوصول(4/125)
778 - " بَابُ الصَّلَاةِ إذَا قَدِمَ مِنْ سفَر "
880 - عَنْ كَعْبٍ رَضِيَ الله عَنْهُ:
أنَّ النبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - " كَانَ إذَا قَدِمَ من سَفَرٍ ضُحَىً، دَخَلَ المَسْجِدَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أنْ يَجْلِسَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلى الوطن لما فيه من التعبير عن مقابلة نعمة السلامة بالشكر لله تعالى، والعزم على التوبة (1) والرجوع إليه. والمطابقة: في قوله: " كان إذا قفل كبّر ثلاثاً إلخ ".
778 - " باب الصلاة إذا قدم من سفر "
880 - معنى الحديث: يحدثنا كعب بن مالك رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قدم من سفر " أي من أي سفر كان، جهاداً أو حجاً أو غيره، " ودخل المسجد " أي دخل مسجده الشريف، لأنه أشرف البقاع " فركع فيه ركعتين " تحية المسجد، شكراً لله على نعمة الوصول بالسلامة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب صلاة ركعتين للمسافر عند وصوله في أقرب مسجد لبيته، لما في ذلك كما قال العيني (2) من معنى الحمد لله على السلامة، والتبرك. والمطابقة: في قوله: " كان إذا قدم من سفر ضحى دخل المسجد فصلّى ركعتين ".
***
__________
(1) " نزهة المتقين شرح رياض الصالحين " للدكتور مصطفي الخن وشركاؤه.
(2) " شرح العيني " ج 15.(4/126)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب فَرْضُ الْخمُس "
779 - " بَابُ فَرْضُ الْخمُس "
881 - عن علِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" كَانَتْ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبي من الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أعْطَانِي شارِفاً مِنَ الْخُمُس، فلما أردْتُ أنْ أبتني بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، واعَدْتُ رَجُلاً صَوَّاغاً من بنِي قَيْنُقَاع أنْ يَرْتَحِلَ معي، فَنَأتِيَ بإذْخِرٍ أردْتُ أنْ أبِيعَهُ الصَّوَّاغِينَ وأستعِينَ بِهِ في وَلِيمَةِ عُرْسِي، فَبَيْنَا أنا أجْمَعُ لِشَارِفَيَّ مَتَاعاً من الأقْتَابِ والغَرائِرِ والْحِبَالِ وَشَارِفَايَ مُنَاخَانِ إلى جَنْبِ حُجْرَةِ رَجُل من الأنْصَارِ، رَجَعت حينَ جَمَعْتُ مَا جَمَعْتُ، فإذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
779 - " باب الخمس "
881 - معنى الحديث: أن الإمام علي كرّم الله وجهه يحدثنا في حديثه هذا عن قصة غريبة وقعت له مع عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فيقول: " كانت لي شارف " وهي المسنة من النوق كما أفاده العيني " من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعطاني شارفاً من الخمس " أي أنه رضي الله عنه كان قد حَصَلَ على ناقتين كبيرتين من غنائم وخمس بدر " فلما أردت أن أبتني بفاطمة " أي أن أدخل بها " واعدت رجلاً صوّاغاً من بني قينقاع " من اليهود " أن يرتحل معي فنأتي بإذخر " وهو نبت طيب الرائحة " أردت أن أبيعه الصواغين وأستعين به في وليمة عرسي " بضم العين،(4/127)
شَارِفَايَ قدْ أجِبَّتْ أسْنِمتُهمَا، وبُقِرَتْ خَوَاصِرُهُمَا، وأُخِذَ مِنْ أكْبَادِهمَا فَلَم أمْلِكْ عَيْنَّي حِينَ رَأيْتُ ذَلِكَ الْمَنْظرَ مِنهُما، فقُلْتُ: مَنْ فَعَلَ هَذا؟ فَقَالُوا: فَعَلَ حمزةُ بنُ عبدِ المطَّلِبِ: وهو في هَذَا الْبيتِ في شَرْبٍ من الأنْصَارِ، فانْطَلقْتُ حتى أدْخُلَ على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعِنْدَهُ زيدُ بنُ حَارثَةَ، فَعَرَفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في وَجْهِي الَّذِي لَقِيْتُ، فقالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: مَا لَكَ؟ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ ما رَأيْتُ كاليْومِ قَطُّ، عدَا حَمْزَةُ على نَاقَتَيَّ فَجبَّ أسْنِمَتَهما، وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُما، وهَا هُو ذَا في بَيْتٍ مَعه شَرْب، فدَعَا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرِدَائهِ، فارْتَدَى، ثم انْطَلَقَ يَمْشِي، واتبَّعْتُهُ أنا وَزَيْدُ ابنُ حَارثَةَ حتى جاءَ الْبَيْتَ الذي فِيهِ حمزةُ، فاسْتَأذَنَ فأذِنُوا لهم، فَإذَا هُمْ شَرْبٌ، فَطَفِقَ رَْسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَلُومُ حَمْزَةَ فيما فَعَلَْ، فَإذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ مُحْمَرَّةً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي أستعين بثمنه على شراء طعام العرس، " فبينا أنا أجمع لشارفي متاعاً من الأقتاب " جمع قتب وهو ما يوضع على ظهر البعير " والغرائر " أي الأكياس جمع غرارة بكسر الغين وهم ما يوضع فيه الشيء " رجعت حين جمعت ما جمعت، فإذا شارفاي قد أجِبَّتْ أسنمتهما " بضم الهمزة وكسر الجيم، وتشديد الباء، أي قطعت " وبقرت خواصرهما " أي شقت " فلم أملك عيني " أي فلم أستطع أن أمنع عيني عن البكاء " فقالوا: فعل حمزة بن عبد المطلب، وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار " بفتح الشين وسكون الراء أي جماعة يشربون الخمر " فقلت: يا رسول الله ما رأيت كاليوم قط أي ما رأيت أشد على نفسي منه " عدا حمزة على " أي اعتدى عليهما " فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بردائه فارتدى، ثم انطلق يمشي واتبعته أنا وزيد بن حارثة، حتى جاء البيت الذي فيه حمزة، فاستأذن فأذنوا لهم، فإذا هم شرب،(4/128)
عَيْنَاهُ، فنظرَ حَمْزَةُ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثم صَعَّدَ النَّظر، فَنَظر إلى رُكْبَتِهِ، ثم صَعَّدَ النَّظر فنَظر إلى سُرَّتِهِ، ثم صَعَّدَ النَّظر، فَنَظر إلى وَجْهِهِ، ثم قالَ حَمْزَةُ: هَلْ أنْتُمْ إلَّا عَبِيدٌ لِأبِي، فَعَرَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَنَكَص رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرىَ، وخَرَجْنَا مَعَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة قد ثمل " أي فبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلوم حمزة على ما فعله بناقتي علي، فإذا هو قد شرب وسكر " محمرة عيناه " أي حال كونه قد احمرت عيناه من السكر " فنظر حمزة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم صعّد النظر إلى ركبته، ثم صعد النظر فنظر إلى سرته، ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه " أي فجعل يصوب نظره أولاً إلى ركبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم إلى سرته ثم إلى وجهه " ثم قال حمزة: هل أنتم إلاّ عبيد لأبي " قال القسطلاني: يريد والله أعلم أن عبد الله وأبا طالب كانا كأنهما عبدان لعبد المطلب في الخضوع لحرمته، وأنه أقرب إليه منهما " فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قد ثمل، فنكص " أي فعرف أنه في حالة سكر لا يعي ما يقوله: ولا يلام على ما يصدر منه، فعاد وتركه. مطابقة الحديث للترجمة: في قوله رضي الله عنه: " وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاني شارفاً من الخمس ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية فرض الخمس من الغنيمة، وأنه يجب أخذه منها، وصرفه في مصارفة كما قال تعالى: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ويقسم الخمس على خمسة أسهم: (أ) سهم لله ورسوله: وينفق منه على الفقراء والسلاح والجهاد، ونحو ذلك من المصالح العامة (ب) سهم ذوي القربى: أي أقرباء النبي - صلى الله عليه وسلم - من بني هاشم وبني المطلب الذين آزروه وناصروه، ويستوي فيهم الغني والفقير، والقريب والبعيد، والذكر والأنثى،(4/129)
780 - " بَابُ مَا ذُكِرَ مِنْ دِرْعِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعَصَاهُ وَسَيفهِ وقَدَحِهِ وخاتمِهِ وَمَا استَعْمَلَ الخلَفَاءُ بَعْدَهُ مِن ذَلِك، مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ قِسْمَتُهُ، وَمِنْ شَعْرِهِ وَنعْلِهِ وآنِيَتهِ، ممَّا يتَبرَّكُ بِهِ أصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ "
882 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أنَّ أبَا بَكْر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لما اسْتُخْلِفَ بَعَثَهُ إلى الْبَحْرَيْنِ، وَكَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ وخَتَمَهُ بِخَاَتمِ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلَاَثةُ أسْطُرٍ: مُحَمَّدُ سَطْرٌ، وَرَسُولُ سَطْرٌ، واللهِ سَطْرٌ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
للذكر مثل حظ الأنثيين، وهو مذهب الشافعي وأحمد (ج) سهم اليتامى من أطفال المسلمين ويختص بفقرائهم. (د) سهم المساكين. (و) سهم ابن السبيل وهو المسافر. ثانياً: مساوىء الخمر ومضارها وما تؤدي إليه من العداوة والبغضاء. تكملة: اختلفوا في سهمه - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو حنيفة: يسقط بعد موته، وقال الشافعي: يصرف في مصالح المسلمين من إعداد السلاح، وإنشاء القناطر والمساجد كالفيء، وهو قول أحمد في رواية، وقال في رواية أخرى: يصرف إلى الذين نصبوا أنفسهم للقتال، وانفردوا (بالثغور) . الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود.
780 - " باب ما ذكر من درع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعصاه وسيفة وقدحه وخاتمه وما استعملة الحلفاء بعده من شعره ونعله مما يتبرك أصحابه وغيرهم بعد وفاته "
882 - معنى الحديث: أن أبا بكر لما أرسل أنساً إلى البحرين وكتب له كتاب الزكاة ختمه بخاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي انتقل إليه، وقد كُتب عليه " محمد " في السطر الأول، ورسول في الثاني، والله في الثالث.(4/130)
883 - حَدَّثَنَا عِيسى بْن طَهْمَانَ قَالَ:
" أخْرَجَ إليْنَا أنَسٌ نَعْلَيْنِ جَرْدَاوَيْنِ لَهما قِبالانِ، فحدَّثَنِي ثَابِث البنَّانِي بَعْدُ عَنْ أنَسٍ أنَّهمَا نَعْلا النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ".
884 - عَنْ أبِي بُرْدَةَ رَضِيَ الله "عَنْه قَالَ:
" أخْرَجَتْ إلَيْنَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْه كِسَاءً ملَبَّداً، وَقَالَتْ: في هَذَا نزِعَ روح النبي - صلى الله عليه وسلم - ".
885 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ الله عَنْهُ:
" أن قَدَح النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - انْكَسَرَ، فاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ " قَالَ عَاصِم: رَأيْتُ الْقَدَحَ وشَرِبْتُ فِيهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث: أخرجه الترمذي.
883 - معنى الحديث: يحدثنا عيسى بن طهمان راوي الحديث فيقول " أخرج إلينا أنس نعلين جرداوين " بفتح الجيم وسكون الراء أي قديمين مجردين عن الشعر " لهما قبالان " أي زمامان يدخلهما من يلبسهما بين أصبعيه " قال ابن طهمان: فحدثني ثابت البناني بعد عن أنس أنهما نعلا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال القسطلاني: كأنه رأى النعلين مع أنس ولم يعلمه أنهما نعلاه - صلى الله عليه وسلم -، فحدثه بذلك ثابت عن أنس. الحديث: أخرجه البخاري.
884 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها " أخرجت كساء ملبداً " أي مربعاً " وقالت: في هذا نزع روح النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي فاضت روحه. الحديث: أخرجه الخمسة غير النسائي.
885 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أن قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - " الذي كان يشرب فيه " انكسر فاتخذ مكان الشعب " أي فوضع(4/131)
886 - عَنْ عَلِيّ بْنِ حسين أنَّهُمْ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ مِنْ عِنْدِ يزيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ مَقْتَلَ حُسَيْنِ بْنِ عَلي رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ لَقِيَهُ المِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ إليَّ مِنْ حَاجَةٍ تَأمُرني بِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: لَا، فَقَالَ لَهُ: فَهَلْ أنت مُعْطِيَّ سَيْف رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَإنِّي أخَافُ أن يَغْلِبَكَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ، وأيْمُ اللهِ لئن أعْطَيْتَنِيْهِ لا يُخْلَصُ إليْهِمْ أبَداً حَتَّى تبلَغَ نَفْسِي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النبي - صلى الله عليه وسلم - في موضع الشق والكسر " سلسلة من فضة " ليربط بها الإناء " قال عاصم " الأحول " رأيت القدح " عند أنس رضي الله عنه. الحديث: أخرجه البخاري.
886 - معنى الحديث: يحدثنا الراوي " أنهم " أي آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعهم الحسين بن علي الملقب بزين العابدين رضي الله عنهم " حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية بعد مقتل الحسين " في شهر عاشوراء سنة إحدى وستين من الهجرة " لقيه المسور بن مخرمة " أي استقبله بما يليق به من حفاوة. ثم قال له: " هل أنت معطيَّ سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي وددت أن تسلمني سيف النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحفظه لك عندي " وايم الله لئن أعطيتنيه " أي سلمته إلي " لا يخلص إليهم أبداً " أي أقسم بالله لئن سلمته لي لا يصدون إليه " حتى تبلغ (1) نفسي " أي حتى تفارقني روحي. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون هذه الأحاديث اشتملت على الأشياء المذكورة.
فقه أحاديث الباب: اشتملت هذه الأحاديث على ذكر الأشياء التي خلفها
__________
(1) بضم التاء وفتح اللام أي حتى تقبض روحي وفي " مرآة الزمان " أنه - صلى الله عليه وسلم - وهبه لعلي قبل موته ثم انتقل إلى آله.(4/132)
781 - " بَابُ ما كَانَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ وغَيرَهُمُ مِنَ الْخمُس ونَحْوِهِ "
887 - عن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" قَالَ النّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّي أُعْطِي قُرَيْشاً أتألفُهُمْ لأنهُمْ حَدِيْثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النبي - صلى الله عليه وسلم - وانتقل بعضها إلى خلفائه كالخاتم، أو إلى أصحابه كقدحه ونعليه، أو إلى زوجاته كالكساء المربع -عند عائشة- أو إلى آل بيته كسيفه الذي وهبه لعليّ ثم انتقل إلى عترته الطاهرة، والله أعلم.
781 - " باب ما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس "
887 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يختص قريشاً بإعطائهم من الغنيمة أكثر من غيرهم، إما بأن يعطيهم من الخمس، أو من خمس الخمس تأليفاً لقلوبهم، لأنهم حديثوا عهد بجاهلية، وأيضاً كان يزيدهم ترغيباً لنظرائهم من أشراف القوم في اعتناق هذا الدين.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يختص المؤلفة قلوبهم بقدر زائد من الغنيمة، قال الحافظ: واختلف من أين كان يعطي المؤلفة، فقال مالك وجماعة: من الخمس، وقال الشافعي وجماعة: من خمس الخمس. اهـ. أما البخاري فقد استدل بالأحاديث التي أخرجها في هذا الباب على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعطيهم من الخمس ونحوه، كالخراج والفيء والجزية والزكاة، والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي بألفاظ. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة كما فهم البخاري.(4/133)
782 - " بَابُ مَنْ لَمْ يُخمِّس الأسْلَابَ "
888 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
بَيْنَا أنَا وَاقِف في الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَظرتُ عَن يَمِيني وَشِمَالِي، فَإِذَا أنَا بِغُلَامَيْنِ من الأنْصَارِ حَدِيثَةٍ أسْنَانُهُمَا، تَمَنيتُ أنْ أكُونَ بَيْنَ أضْلَعَ مِنْهُمَا، فغَمَزَنِي أحَدُهُمَا فَقاَل: يا عَمِّ هَلْ تَعْرِفْ أبَا جَهْل؟ قُلْتُ. نَعَمْ مَا حَاجَتُكَ إلَيْهِ يا ابْنَ أخِي؟ قَالَ: أخْبِرْتُ أنهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأيْتُهُ لا يُفَارِقُ سَوادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذلِكَ، فغَمَزَنِي الآخَرُ فَقَالَ لي مِثْلَهَا، فلَمْ أنشَب أنْ نَظرتُ إلى أبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ: ألا إِنَّ هذا صَاحِبُكمَا الذِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
782 - " باب من لم يخمس الأسلاب "
" والأسلاب " جمع سلب وهو ما يوجد على المقتول من السلاح وعدة الحرب، وما يتزين به المحارب، أما ما كان معه من جواهر ونقود ونحوها إنما هو غنيمة.
888 - معنى الحديث: أن عبد الرحمن بن عوف بينما كان واقفاً في الصف يوم بدر رأى غلامين صغيرين يقاتلان قتال الأبطال، ويصارعان صراع الفرسان، حتى أنه تمنى أن يكون مثل أعظمهما فروسية ونضالاً، قال رضي الله عنه: " فغمزني أحدهما " أي همزني بيده " فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم ما حاجتك إليه " أي ماذا تريد منه " قال: أخبرت أنه يسب النبي - صلى الله عليه وسلم -، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده، الخ " أي لا يفارق شخصي شخصه حتى يقتك أسرعنا منية، قال " فغمزني الآخر، فقال مثلها " أي مثل مقالة صاحبه "فلم أنشب أن نظرت إلى(4/134)
سَألتُمَانِي فابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، فَضَربَاهُ حتَّى قَتَلاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأخْبَراهُ، فَقَالَ: " أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ " قَال كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: " هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ " قَالا: لا، فَنَظر في السَّيْفَيْنِ فَقَالَ: " كِلاكُمَا قَتَلَهُ، فَأَعطى سَلَبَهُ لِمُعَاذِ بنِ عَمْرو بْنِ الجَمُوحِ وَكَانَا مُعَاذَ ابْنَ عَفْرَاء ومُعَاذَ بْنَ عَمْرو بْنِ الجَمُوحِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أبي جهل يجول في الناس" أي فلم ألبث إلاّ قليلاً حتى رأيت أبا جهل يجول ويصول، وينتقل من مكان لآخر " فقلت: ألا إن هذا صاحبكما " أي فدللتهما عليه " فابتدراه بسيفيهما " أي فأسرعا إليه، فقتلاه بسيفيهما " ثم انصرفا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أيكما قتله؟ قال كل واحد منهما: أنا قتلته، قال: هل مسحتهما سيفيكما؟ قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: كلاكما قتله " أي شارك في قتله، وذلك لوجود الدم على السيفين معاً " فأعطى سلبه " أي ثيابه وسلاحه " لمعاذ بن عمرو بن الجموح " لأنه هو الذي أثخنه وأعمق سيفه فيه " وكانا معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح " أي وكان هذان الفارسان اللذان قتلاه هما هذان الفتيان. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " فأعطى سلبه لمعاذ بن عمرو ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن السلب لا يخمّس دائماً، بل يعطى للقاتل، وقد اختلف في ذلك الفقهاء، فذهب الشافعي وأحمد وطائفة من أهل الحديث: إلى أنه لا يخمّس، واحتجوا بحديث الباب، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى معاذ بن عمرو سلب أبي جهل، ولم يخمسه، وقضى في السلب للقاتل كما في رواية أبي داود. وقال مالك في رواية: يخمس، وفي رواية: الإِمام مخير فيه. ثانياًً: إثبات الحقوق المالية بالقرائن، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استدل بالدم الذي على السيف على من قتل أبا جهل، وحكم له بالسلب والله أعلم.(4/135)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتابُ الجِزْيَة والمُوَادَعَةِ مَعَ أهْلِ الذِّمَّةِ والحَرْبِ "
783 - " بَابُ مَا جَاء في أخذِ الجِزْية مِن الْيَهُودِ والنَّصَارَى والمَجوسِ "
889 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه:
أنَّهُ كَتَبَ إلى عَامِلِهِ بالأهْوَازِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ: فرِّقُوا بَيْنَ كلِّ ذِي مَحْرَم مِنَ الْمَجُوسِ، ولم يَكُنْ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوس حتى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أخذَهَا مِنْ مَجُوس هَجَرَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
782 - "
كتاب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب وما جاء في أخذ الجزية من اليهود والنصارى والمجوس "
والجزية: هي ما يؤخذ سنوياً ممن كان تحت حكم المسلمين من أهل الكتاب وغيرهم.
889 - معنى الحديث: أن الفاروق رضي الله عنه كتب لعامله على الأهواز جزء بن معاوية " بفتح الجيم وسكون الزاي " كتاباً قال فيه: " فرقوا بين كل ذي مَحْرَم من المجوس " أي فرقوا بين كل مجوسي وزوجته التي تزوج بها وهي محرم له إذا ظهر لكم ذلك عنهما " ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر " أي وكان عمر رضي الله عنه قد توقف في أوّل الأمر عن أخذ الجزية من المجوس، لأنه ظن أنها خاصة بأهل الكتاب، حتى حدثه عبد الرحمن(4/136)
784 - " بَاب إذا غَدَرَ المُشْرِكونَ بالمُسلِمِينَ هَلْ يُعْفَى عَنْهُمْ "
890 - عن أبِي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - " اجْمعُوا إلي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ يَهُودَ، فَجُمِعُوا له، فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ؟ فَهَلْ أنتُم صَادِقيَّ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ: مَنْ أبُوكُمْ؟ قَالُوا: فُلَان، فَقَالَ: كَذَبْتُمْ، بل أبُوكمْ فُلَانٌ، قالوا: صَدَقْتَ، قَالَ: فَهَلْ أنْتُمْ صَادِقِيَّ فِي شَيْءٍ إنْ سَألتُ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ يا أبَا القَاسِمْ وإنْ كَذَبْنَا عَرَفْتَ كَذِبَنَا كما عَرَفْتَهُ في أبِينَا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن عوف، وشهد عنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي والنسائي..
فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية أخذ الجزية من أهل الذمة عامة، سواء كانوا يهوداً أو نصارى، أو مجوساً وهم عبدة النار، لشهادة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر، وقد اختلف في ذلك أهل العلم، فذهب أبو حنيفة إلى أنها تؤخذ من كل كافرٍ إلاّ مشركي العرب، وقال مالك: تؤخذ من كل كافر مطلقاً، وقال أحمد والشافعي: تؤخذ من أهل الكتاب والمجوس، وهو ما يدل عليه حديث الباب. وأقل الجزية عند الجمهور في كل عام دينار، والله أعلم. والمطابقة: في قوله: " حتى شهد عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر " والله أعلم.
784 - " باب إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم "
890 - معنى الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما فتح خيبر في السنة السابعة من الهجرة، وأهدت إليه - صلى الله عليه وسلم - امرأة يهودية شاة مشوية مسمومة، فأخذ الذراع(4/137)
فَقَالَ لَهُمْ: مَنْ أهْلُ النَّارِ؟ قَالُوا: نَكُون فِيهَا يَسِيراً، ثم تَخْلُفُونَا فيها، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: اخْسَؤوا فِيهَا، وَاللهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أبداً، ثمَّ قَالَ: هَلْ أنتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْء إِنْ سَألتُكُمْ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ يا أبَا الْقاسِمْ، قَالَ: هَلْ جَعَلْتُمْ في هَذِهِ الشَّاةِ سُمَّاً؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ على ذَلِكَ؟ قَالُوا: أردنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبَاً نَسْتَرِيحُ، وإن كُنْتَ نَبِيَّاً لَمْ يَضُرَّكَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
منها وأكله، وحذر أصحابه منها، فقال لهم: ارفعوا أيديكم، وكان اسم هذه المرأة زينب بنت الحارث، فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان هناك من اليهود، ووجه إليهم أولاً أسئلة أخرى ليكشف عن كذبهم، ثم سألهم عن أهل النار فزعموا أنهم يدخلونها فترة من الزمان، ثم يخلفهم فيها المسلمون من بعدهم، فكذبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: " اخسئوا، والله لا نخلفكم فيها أبداً " وتقول العرب: خَسَأتُ الكلبَ يعني زجرته مستهيناً به، والمعنى كفوا عن هذه الدعوى الكاذبة الباطلة، فأنتم أولى بالذل والهوان، وعذاب النار وبئس القرار، ولن نخلفكم أبداً لأنكم مخلّدون فيها أبداً، أما عصاتنا، فإن بقاءهم في النار مؤقت محدود، ولا يخلدون فيها، ثم ختم حديثه - صلى الله عليه وسلم - بسؤالهم عن الشاة، وهل وضعوا له السم فيها، فأقروا بالحقيقة، واعترفوا بأنهم وضعوا له السم فيها، " قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذباً نستريح " أي أردنا أن نتأكد من نبوتك، فإن كنت كاذباً تموت بذلك السم فنستريح منك، وإن كنت صادقاً لا يضرك ذلك السم، ولا يؤذيك، الحديث: أخرجه أيضاً النسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن المعاهد إذا نقض العهد فإن الإِمام مخير فيه إن شاء قتله وإن شاء لم يقتله، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -(4/138)
785 - " بَابُ إثْمِ مَنْ عَاهَدَ ثُمَّ غَدَرَ "
891 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَيْفَ بِكُمْ إِذَا لَمْ تَجْتَبُوا دِينَاراً ولا دِرْهَماً، فقَيلَ لَهُ: وَكَيْفَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لم يأمر بقتل اليهودية من أول الأمر حين اكتشف أنّها وضعت له السم ونقضت العهد، وهو مذهب الشافعي في أحد قوليه (1) ، وقال ابن قدامة (2) : ومن حكمنا بنقض عهده منهم خير الإِمام بين أربعة أشياء، القتل والاسترقاق، والفداء، والمنّ كالأسير الحربي، لأنه كافر قدرنا عليه في دارنا بغير عهد ولا عقد ولا شبهة ذلك، فأشبه اللص الحربي. اهـ. وقال مالك في رواية ابن وهب وابن نافع وهو المشهور عنه: أنهم يقتلون ويسبون كما فعل رسول الله ببني أبي الحقيق، وهو مذهب أبي حنيفة. ثانياًً: استدل مالك بهذا الحديث على أن القتل بالسم (3) كالقتل بالسلاح يوجب القصاص لأنه لما مات بشر ابن البراء من هذه الشاة المسمومة سلم اليهودية لأوليائه فقتلوها قصاصاً، وقال الكوفيون: لا قصاص فيه، ولكن فيه الدية. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بقتل اليهودية (4) لأنها نقضت العهد.
785 - " باب إثم من عاهد ثم غدر "
891 - معنى الحديث: أن أبا هريرة يحذر المسلمين من نقض عهد الذمة وينذر من سوء عاقبته فيقول: "كيف بكم إذا لم تجتبوا ديناراً ولا
__________
(1) " الإفصاح عن معاني الصحاح " ج 2.
(2) " المغني " لابن قدامة ج 9.
(3) " شرح العيني على البخاري " ج 15.
(4) فإن قيل: إنه قتلها أخيراً، فالجواب إنّه لم يقتلها لنقض العهد، وإنما قتلها قصاصاً حين مات بشر بن البراء متأثراً بسمها.(4/139)
تَرَى ذَلِكَ كَائِنَاً يَا أبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: إيْ وَالَّذِي نَفْسُ أو هُرَيْرةَ بِيَدِهِ عَنْ قَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، قَالُوا: عَمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: تُنْتَهَكَ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَيَشُدُّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قُلُوبَ أهْل والذِّمَّةِ، فَيَمْنَعُونَ مَا فِي أيدِيهِمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
درهماً" أي كيف تكون حالكم إذا انقطعت عنكم الأموال من جزية أو خراج. " فقيل له: وكيف ترى ذلك كائناً؟ " أي فقالوا متعجبين: وكيف تظن أن ذلك يمكن أن يكون، وأنت ترى أموال الخراج والجزية تتدفق على المسلمين من كل جانب، " قال: إي " بكسر الهمزة أي نعم يحدث هذا " والذي نفس أبي هريرة بيده عن قول الصادق المصدوق "، أي وأقسم بالله الذي روحي بيده أنني لم أقل ذلك من عندي وإنما أرويه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الصادق المصدوق فإنني سمعته منه، " قالوا: عم ذلك؟ " أي فما سبب انقطاع الجبايات المالية عن المسلمين، " قال: تنتهك ذمة الله وذمة رسوله " أي سببه أن المسلمين ينقضون عهد الله وعهد رسوله الذي يتعلق بحقوق أهل الذمة، ويعاملونهم بالظلم والعدوان، فيعاقبهم الله في الدنيا قبل الآخرة " فيشد الله قلوب أهل الذمة فيمنعون ما في أيديهم من الأموال " أي فيقوّي الله قلوب أهل الذمة على المسلمين، ويمنعون عنهم الأموال.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن لأهل الذمة حقوقاً يجب على إمام المسلمين رعايتها والمحافظة عليها وأن لهم عهداً وذمة يجب الوفاء بها، وهو ما يسمى عند الفقهاء "عقد الذمة " ومعناه أن يقر الحاكم أو نائبه بعض أهل الكتاب أو غيرهم على كفرهم بشرطين: الشرط الأول: أن يلتزموا بأحكام الإِسلام في الجملة، الشرط الثاني: أن يدفعوا(4/140)
786 - " بَابُ إِثْمِ الْغادِرِ لِلبَرِّ والْفَاجِرِ "
892 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
سَمِعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولٌ: "لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُنْصَبُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجزية، ويسري هذا العقد على الشخص الذي عقده ما دام حياً، وعلى ذريته من بعده، ما لم يوجد ما ينقضه، ويترتب عليه تحريم قتالهم، والمحافظة على أموالهم، وصيانة أعراضهم، وكفالة حرياتهم، والكف عن أذاهم، لما روى عن علي رضي الله عنه أنّه قال: " إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا ". أما الأحكام التي يجب عليهم الالتزام بها فهي أحكام المعاملات المالية، فلا يجوز أن يتصرفوا في هذه المعاملات بما يخالف أحكام الإِسلام، كعقد الربا مثلاً، كما أنهم تقام عليهم الحدود، إذا فعلوا ما يوجب ذلك، وقد رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - يهوديين زنيا بعد إحصانهما، أما ما يتصل بالشعائر الدينية من عقائد وعبادات أو ما يتصل بالزواج والطلاق فلهم الحرية في ذلك.
وقد دل الحديث على أن المسلمين إذا انتهكوا عقد الذمة هذا عاقبهم الله في الدنيا قبل الآخرة، ونزع هيبتهم من قلوب أهل الذمة، فاستهانوا بهم. ثانياًً: أن المسلمين يجب عليهم الوفاء بالعهد، وأن الغدر ونقض العهود كبيرة من الكبائر، وسبب في ضعف المسلمين، وزوال هيبتهم وقلة مواردهم المالية، وتدهور اقتصادهم. الحديث: أخرجه البخاري والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة.
786 - " باب إثم الغادر للبر والفاجر "
أي هذا باب يذكر فيه عقوبة الله للغادر، سواء غدر بطائع أو عاص.
892 - معنى الحديث: أن الله يعاقب الغادر يوم القيامة بفضيحته، وهتك ستره، فينصب لكل غادر لواءً يكشف به عن غدره وخيانته إمعاناً(4/141)
لِغَدْرَتِهِ " (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في التشهير به أمام الملأ إلحاقاً للخزي والعار به. وذلك أشد العقوبة وأنكاها لما فيه من إهانته وإذلاله وإهدار كرامته مقابل استخفافه بعهود الناس وغدره بهم.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن الغدر كبيرة من الكبائر، وإلا لما ترتب عليه هذا الوعيد الشديد من فضح الغادر، والتشهير به يوم القيامة أمام الخلائق، وإهدار كرامته، وذلك أشد العقوبة وأنكاها. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة. الحديث: أخرجه الشيخان.
***
__________
(1) قال القسطلاني قوله: " لغدرته " باللام وفتح الغين المعجمة أي لأجل غدرته في الدنيا، أو بقدرها، ولأبي ذر وابن عساكر بغدرته بالموحدة بدل اللام، أي بسبب غدرته، والمراد شهرته في القيامة بضعة القدر ليذمه أهل الموقف. اهـ.(4/142)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب بدء الخلق "
والمراد من هذا الكتاب بيان أمرين: الأول: كما قال القاري ذكر الأحاديث الصحيحة التي تتعلق بظهور الخليقة، ومبدأ وجود الكائنات، الأول فالأول.
الثاني: ذكر أحوال الخليقة من المبدأ إلى المحشر، وما ورد من الأخبار عن عجائب المخلوقات من العرش والسموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والرياح والملائكة وصفة الجنة والنار، والعوالم غير المنظورة من الجن والشياطين والملائكة، أما الأخبار الواردة عن بدء الخليقة فإن فيها الكثير من الإسرائيليات المروية عن وهب بن منبه وكعب الأحبار والسدي وغيرهم، وأغلبها لا يعتد به، ولا تقوم به حجة، فما يوجد منها في " صحيح البخاري " فإن كان من الأحاديث المرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو من الحقائق الثابتة والأخبار المقبولة، أما ما نقله من الأخبار عن الصحابة والتابعين ولم يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه موضع بحث ونظر، لأن الصحابة والتابعين قد أخذوا عن حسن نية الكثير من الأخبار الإسرائيلية، وتحدثوا بها، وحكم الإِسلام بالنسبة إلى الإسرائيليات أنّها تعرض على الكتاب والسنة، فما وافقهما فهو حق لا شك فيه، وما خالفهما فباطل لا شك فيه، وما سكت عنه الكتاب والسنة فهو خبر عادي يحتمل الصدق والكذب، وهو المقصود بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم " والحاصل أن جميع الأخبار المتعلقة بالموجودات وسنن الكائنات ينظر فيها، فإن كانت قرآناً أو سنة صحيحة فعلى الرأس والعين، وإن كانت خلاف ذلك، فإنها تخضع للبحث العلمي والنقد الصحيح، والله أعلم.(4/143)
787 - " بَابُ ما جَاءَ في قَوْلِ اللهِ تعَالَى:
(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) "
893 - عن عمران بن حُصَيْن رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
"دَخَلْتُ على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بالبَاب، فَأتَاهُ نَاسٌ من بني تَمِيم فَقَالَ: اقبَلُوا البُشرى يا بني تَمِيم، قَالُوا: قد بَشِّرتَنَا فأعْطِنَا مَرَّتَيْنِ، ثم دَخَلَ عَلَيْهِ نَاس مِن أهلِ اليَمَنِ فَقَالَ: اقْبَلُوا البُشرْى يا أهلَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
787 - " باب ما جاء في قول الله تعالى:
(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) "
أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يتعلق بتفسير قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) معناه أنه تعالى هو الذي بدأ خلق هذه الكائنات أول مرة على غير مثال سابق، وهو الذي يعيدها مرة أخرى عند بعثها، والإِعادة أهون من البداية، وإن كان الله تعالى يستوي أمام قدرته كل شيء.
893 - معنى الحديث: أن عمران بن حصين يقول: " دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعقلت ناقتي " أي ربطت ناقتي، ثم دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا والواو المطلق الجمع، لا تفيد ترتيباً ولا تعقيباً " فأتاه ناس من بني تميم، فقال: اقبلوا البشري يا بني تميم " بما أتحدث به إليكم " قالوا: قد بشرتنا فأعطنا مرتين " أي فقال الأقرع بن حابس: قد بشرتنا أن تعطينا فأعطنا، قال ذلك مرتين، لأن جُلَّ اهتمامهم كان بالدنيا، فلم يفهموا من البشرى إلّا العطاء المادي فقط، بينما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقصد بالبشرى أن يخبرهم عن وجود الله تعالى قبل كل موجود، وخلقه لكل موجود، وسماه بشرى لأنه يتعلق بتوحيد الربوبية الذي هو أصل من أصول العقيدة الإِسلامية التي يترتب عليها الفوز بالجنة والنجاة من النار. قال: "ثم دخل عليه ناس من أهل(4/144)
اليَمَنِ إذ لَمْ يَقْبَلْهَا بنو تَمِيم، قالوا: قَدْ قبِلْنَا يا رَسُولَ اللهِ، قَالُوا: جِئْنَا نَسْألُكَ عن هذا الأمْرَ قال: " كَانَ اللهُ ولَمْ يَكُنْ شيءٌ غَيْرُهُ، وكان عرشُهُ على المَاءِ، وَكَتَبَ في الذِّكْرِ كُلَّ شَيءٍ، وخلقَ السَّمَواتِ والأرْضَ، فَنَادَى مُنادٍ: ذَهَبَتْ نَاقَتُكَ يا ابْنَ الْحُصَيْنِ، فانْطَلَقْتُ فإذا هِيَ يَقطعُ دونَهَا السَّرَابُ، فواللهِ لَوَدِدتُ أنِّي تَرَكْتُهَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اليمن" وهم الأشعريون " فقال: اقبلوا البشرى "، أي اقبلوا مني هذا الخبر " قالوا: قبلنا يا رسول الله " أي قبلنا منك ذلك، فهات ما عندك " فإنما جئناك نسألك عن هذا الأمر " وفي رواية أخرى في البخاري " فقالوا: قد قبلنا يا رسول الله، قالوا: جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أوّل هذا الأمر " فما هو أول هذا الأمر الذي سألوا عنه. قال ابن تيميّة: إما أن يكون الأمر المشار إليه هذا العالم، أو جنس المخلوقات، وسواء كان السؤال عن الأوّل أو الثاني، فإن الذي يظهر لنا من مجموع الروايات أن رسول الله قد أجابهم عن بدء الخليقة عامة، لما جاء في رواية أخرى عن عمران بن حصين نفسه قال فيها: " فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدّث عن بدء الخلق والعرش " أخرجه البخاري، فهذا نص صريح على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أجابهم عن بدء الخليقة.
فإن كانوا قد سألوا عن بدء هذا العالم، فيكون النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أجابهم عنه ببدء الخليقة، لأنه أعم وأشمل، وهو متضمن لجواب سؤالهم وزيادة، وإن كانوا قد سألوا عن بدء الخليقة. فالجواب والسؤال متطابقان. " قال: كان الله، ولم يكن شيء " وفي رواية: " ولا شيء قبله " وروي: " معه " لكن رواية الباب أصرح في العدم، وفيها دلالة على أنه لم يكن شيء غيره لا الماء ولا العرش ولا غيرهما، لأن كل ذلك غير الله تعالى، وكلمة " كان " في قوله - صلى الله عليه وسلم - " كان الله " إلخ أزلية كما أفاده الحافظ، ومعناها أن الله تفرد بالوجود(4/145)
الأزلي دون غيره، فهو الأوّل بلا ابتداء، المنفرد بالأوليّة، وكل ما سواه حادث مخلوق له، بما في ذلك العرش. قال - صلى الله عليه وسلم -: "وكان عرشه على الماء " والمراد بكان هنا الحدوث بعد العدم، كما أفاده الحافظ، ومعناه، كما قال الحافظ: أنه خلق الماء سابقاً، ثم خلق العرش على الماء، قال ابن تيميّة: فالعرش (1) مخلوق أيضاً فإنه تعالى يقول: (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي وهو خالق كل شىء: العرش وغيره، ورب كل شيء العرش وغيره، وفي حديث أبي رزين " العقيلي " أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلق العرش ". اهـ. وفي رواية أخرى للبخاري عن عمران بن حصين قال فيها: " فجاء أهل اليمن فقال: يا أهل اليمن، اقبلوا البشري إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قبلنا " فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث عن بدء الخلق والعرش " أي يحدث عن بدء الخليقة، ومنها العرش، فهو من ضمن المخلوقات. قال القسطلاني وأشار بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وكان عرشه على الماء " إلى أن الماء والعرش - كانا مبدأ العالم لكونهما خلقا قبل كل شيء " وكتب في الذكر كل شيء " أي كتب في اللوح المحفوظ جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة. " وخلق السموات والأرض " قال ابن تيميّة: وبعض الرواة ذكر فيه خلق السموات والأرض بثم، وبعضهم ذكرها بالفاء، فأما الجمل الثلاث المتقدمة، فالرواة متفقون على ذكرها بلفظ الواو، قال ابن تيمية: " وسواء كان قوله: وخلق السموات والأرض " أو " ثم خلق السموات والأرض " فعلى التقديرين أخبر بخلق ذلك، وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن. وإن كان قد خلق من مادة. فإن كان لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - " ثم خلق " فقد دل على أنه خلق السموات والأرض بعد ما تقدم ذكره وهذا اللفظ أولى بلفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما فيه من تمام البيان، وحصول المقصود الذي يدل على الترتيب الزمني في خلق هذه الكائنات. اهـ. خلاصة معنى
__________
(1) رسالة لابن تيمية في شرح هذا الحديث نشر دار الكتب العلمية ببيروت.(4/146)
الحديث: أن الله كان قبل كل شيء ولم يكن أي شيء غيره موجوداً، ثم خلق الماء أولاً والعرش ثانياً، أو خلق العرش في الجهة العليا والماء في السفلى، ثم خلق القلم واللوح المحفوظ، ثم خلق السموات والأرض، هذا هو الترتيب الزمني لخلق هذه الكائنات العلوية والسفلية. " فنادى منادٍ ذهبت ناقتك " أي هربت " فانطلقت " أي فذهبت خلفها " فإذا هي يقطع دونها السراب " أي فإذا هي قد ابتعدت كثيراً حتى حال دونها السراب " فوالله لوددت أني تركتها " أي تمنيت أني تركتها تذهب وبقيت في مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الله هو الأول بلا ابتداء كما قال تعالى: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء " وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: " كان الله ولم يكن شيء غيره " والإِيمان بهذه الصفة أمر تقتضيه الفطرة السليمة ويدل عليه المنطق الصحيح، لأن خالق الكائنات لا بد أن يكون موجوداً قبلها، وإلّا لما خلقها. فهو سبحانه أزلي أبدي لم يسبقه عدم، ولا يلحقه فناء، لأنه واجب الوجود. ثانياًً: بيان حدوث العالم وبدء الخليقة، وأن لهذا الوجود خالقاً هو الله تعالى، لا كما يقول الطبيعيون إنه وجد هذا العالم بمحض الصدفة، مما يرفضه العقل والتفكير السليم، لأن كل حادث لا بد له من محدث، وكل مصنوع لا بد له من صانع، وهذا يقتضى أن الكائنات كلها مخلوقة، والله هو خالقها ومبدعها، وأوّل هذه المخلوقات الماء في الجهة السفلى، والعرش في الجهة العليا. ثالثاً: أن القلم أوّل المخلوقات المعنوية لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وكتب في الذكر كل شيء ". رابعاً: أن وجود اللوح المحفوظ من الحقائق الإِيمانية الثابتة التي يجب الإِيمان بها. خامساً أن الكلام في حدوث العالم وعجائب المخلوقات من صميم الدين(4/147)
894 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَشْتِمُنِي ابْنُ آدَمَ، ومَا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَشْتِمَنِي، ويُكَذِّبَنِي، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ، أمَّا شَتْمُهُ فَقَوْلُهُ: إِنَّ لِيَ وَلداً، وَأمَّا تَكْذِيبُهُ فَقَوْلُهُ: لَيْسَ يُعِيدُنِي كَمَا بَدَأني ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لما فيه من الدلالة على وجود الله وتوحيده في ربوبيته. والمطابقة: في كون الحديث يدل على بدء الخلق.
894 - معنى الحديث: أن الله تعالى يقول في الحديث القدسي يتجرأ عليَّ هذا الإنسان بما لا أستحقه منه، وقد خلقته ورزقته، وأنعمت عليه بشتى النعم، فلم يقابل ذلك بالإيمان بالله وتوحيده، وتقديسه وتنزيهه عما لا يليق به، وإنما قابل هذه النعم العظيمة بالشرك والكفر والنكران، فبعض هؤلاء البشر شتمني، والبعض منهم كذبني. فأما الذين شتموا الله عز وجل فقد نسب إليه اليهود والنصارى وبعض المشركين الولد، وهو لا يليق به عز وجل حيث إنه يقتضي المجانسة والمشابهة، وهو عز وجل الواحد الأحد الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأما الذين كذبوا بالله فقد أنكروا البعث، واستبعدوه مع علمهم بأن الله هو الذي خلقهم على غير مثال سابق، فكيف يخلقهم ابتداءً، ثم يعجز عن إعادتهم مرة أخرى، مع أن الإعادة أسهل كما قال تعالى: (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) .
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن نسبة الولد إلى الله تعالى شتيمة وإنكار لوحدانيته، وتشبيه له بغيره، وهو شرك به، لأن الولد يشبه أباه، وهو عز وجل واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، فكيف يكون له ولد يشبهه. ثانياً: أن إنكار البعث تكذيب لله ولوعده. ثالثاً: أنّ الله هو الذي بدأ الخلق، وهو الذي يعيده، وفي ذلك إثبات لحدوث العالم وإعادة(4/148)
788 - " بَاب مَا جَاءَ في سَبْعِ أرَضِينَ، وَقَوْلِ اللهِ تعَالَى: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) "
895 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قَالَ: " مَنْ أخَذَ شَيْئاً مِنَ الأرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ به يَوْمَ القِيَامَةِ إلى سَبْعِ أرضِينَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الإِنسان بعد موته، وأن الله هو الذي يعيده يوم القيامة لمجازاته على أعماله.
الحديث: أخرجه البخاري والنسائي. والمطابقة: في قوله: " وأما تكذيبه فقوله ليس يعيدني كما بدأني ".
788 - " باب ما جاء في سبع أرضين، وقول الله: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) "
895 - معنى الحديث: أن من أخذ شيئاً من أرض غيره اختلاساً أو اغتصاباً، فإنه يخسف به يوم القيامة فتنشق الأرض، ويطوق بها إلى سبع أرضين لما جاء في الرواية الأخرى: " من أخذ شبراً من الأرض ظلماً فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن هذه الأرض التي نعيش عليها تتكون من سبع أرضين، وذلك يتفق مع قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) ، قال الآلوسي (1) : والمثلية تصدق بالاشتراك في بعض الصفات، فقال الجمهور: المثلية في كونها سبعاً، وكونها طباقاً بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض كما بين كل سماء وسماء، وقال الضحاك: المثلية في كونها سبعاً بعضها فوق بعض، لا في وجود مسافة بين أرض وأرض، بمعنى أن كل أرض تلي الأخرى مباشرة، وهو ما يسمى في
__________
(1) " تفسير الآلوسي " ج 28.(4/149)
789 - " بَابُ صِفَةِ الشَّمْسِ والْقَمَرِ بُحُسْبَانٍ "
896 - عنْ أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ لِي النبي - صلى الله عليه وسلم - حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: " تَدْرِي أينَ تَذْهَبُ؟ " قُلْثُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قَالَ: " فَإِنَّها تَذْهَبُ حتى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ فَتَسْتَأذِنَ فَيُؤْذَنَ لها، وَيُوشِكُ أن تَسْجد فلا يُقْبَلَ مِنْهَا، وَتَسْتَأذِنَ فلا يُؤذَنَ لَهَا، يُقَالَ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئَت، فَتَطْلِعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عصرنا الحديث بطبقات الأرض. قال في " فيض الباري ": وقد ثبت اليوم عند ماهري علم الطبقات أن لها طبقات. ثانياًً: التحذير الشديد من السطو على أرض الغير وأخذ شيء منها ظلماً، والوعيد الشديد لمن فعل ذلك بالخسف به يوم القيامة. والمطابقة: في قوله: " إلى سبع أرضين ". الحديث: أخرجه البخاري.
789 - "باب صفة الشمس والقمر بحسبان "
أي هذا باب في تفسير قوله تعالى: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) وبيان كيفية ذلك.
896 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوماً لأبي ذر عندما غربت الشمس: أتدري أين تذهب هذه الشمس بعد اختفائها عنا عند الغروب؟ فقال أبو ذر: الله ورسوله أعلم. وإنما وجه إليه هذا السؤال مع علمه بأنه لا يستطيع الإِجابة عليه ليستثير في نفسه الاهتمام بجوابه، لأن المعرفة إذا جاءت بعد الحوار والمناقشة كانت أوقع في النفس "قال: فإنها تذهب(4/150)
حتى تسجد تحت العرش" أي تسجد لربها حقيقة لا مجازاً، وهي أينما سجدت سجدت تحت العرش " تستأذن فيؤذن " أي تستأذن ربها في الطلوع من المشرق ومعاودة سيرها مرة أخرى، فيؤذن لها في ذلك " ويوشك أن تسجد " أي وسيأتي قريباً الوقت الذي تسجد وتستأذن فيه في الطلوع من المشرق " فلا يقبل منها " سجودها، ولا يؤذن لها في الطلوع من المشرق " فتطلع من مغربها " وذلك من علامات الساعة " فذلك قوله تعالى ": أي فذلك هو معنى قوله تعالى: " (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) " أي تتحرك وتسير في طريقها المحدد لها، ولا تزال تجري في مسيرتها هذه حتى ينتهي العالم، " (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) " أي أنها إنما تتحرك حركتها هذه بنظام دقيق محكم، يدل على وجود الله تعالى وتقديره وتدبيره لهذا العالم تدبيراً يليق بعلمه وعزته وحكمته. لا كما يزعم الملحدون أن حركة الكون كلها إنما هي بمحض الصدفة، لأن الصدفة عمياء لا يمكن أن تقوم بتدبير هذه الحركة المنظمة (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) .
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: قال القسطلاني: وظاهر هذا الحديث أن -الشمس- تجري في كل يوم وليلة بنفسها كقوله تعالى في الآية الأخرى: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) قال " في ظلال القرآن ": وكان من المظنون أنها -أي الشمس- ثابتة في موضعها الذي تدور فيه حول نفسها، ولكن عرف أخيراً أنها ليست مستقرة في مكانها، إنما هي تجري فعلاً في اتجاه واحد في الفضاء الكوني الهائل بسرعة حسبها الفلكيون باثني عشر ميلاً في الثانية. اهـ. ثانياًً: ثبوت سجودها تحت العرش عند طلوعها، ويتعين الإِيمان به عن يقين ما دام قد أخبر عنه الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه. مطابقة الحديث للترجمة: في كونه يدل على معنى الآية الكريمة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي.(4/151)
790 - " بَابُ ذِكْرِ الْمَلاِئكَةِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ "
897 - عن عبد الله رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قال: " إِنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطنِ أمِّهِ أربَعِينَ يَوْماً، ثم يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثم يَبْعَثُ اللهُ مَلَكاً، فَيُؤْمَرُ بأربع كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
790 - " باب ذكر الملائكة صلوات الله عليهم "
897 - معنى الحديث: يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أخبرنا رسول الله وهو الصادق فيما يخبر به المصدوق في كل ما يوحى إليه من عند ربه: أن الجنين في بطن أمه يمرُّ في تكوينه بأربعة أدوار، فيكون في الدور الأوّل لمدة أربعين يوماً نطفة، أي حيواناً منوياً يجتمع ببويضة الأنثى فيلقحها، وتحمل المرأة بإذن الله تعالى، ثم يتحول في الدور الثاني لمدة أربعين يوماً إلى علقة، أي نقطة دموية جامدة تعلق بالرحم، ثم يتحول في الدور الثالث لمدة أربعين يوماً مضغة، أي قطعة لحم صغيرة بقدر ما يمضغ الإنسان في الفم، ثم في الدور الرابع يبدأ تشكيله وتصويره، ويكون قد أكمل أربعة أشهر، فيرسل الله إليه الملك الموكل بالأرحام وكتابة الأقدار ويأمره بكتابة أقداره الأربعة فيكتب أعماله التي يفعلها طيلة حياته خيراً أو شراً، ورزقه مادياً، كالمال والطعام والشراب واللباس والسكن والصحة، أو معنوياً كالعلم والذكاء والمهارة وغيرها ويكتب أجله، وعمره، ومدة حياته ومتى تنتهي، وفي أي مكان تنقضي. ويكتب خاتمته ومصيره الذي ينتهي إليه إن كان من أهل الشقاوة أو من أهل السعادة، من أهل الجنة أو النار، فكم من رجل يعمل طول حياته - في نظر الناس بعمل أهل الجنة حتى يكون منها في غاية القرب، فإذا دنا أجله ختم له بالشقاوة لأنه سبق عليه الكتاب في بطن أمه.(4/152)
لَه: اكْتبْ عَمَلَه، ورِزْقَه، وأجَلَه، وشَقِي أو سَعِيدٌ، ثمَّ ينْفَخ فِيهِ الرُّوحَ، فَإنّ الرَّجلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَل حَتَّى مَا يَكون بَيْنَه وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِق عَلَيْهِ كِتَابه فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ، ويَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكونَ بَيْنَه وَبَيْنَ النَّارِ إلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِق عَلَيْهِ الكِتَاب فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، والعكس بالعكس، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإن الرجل منكم ليعمل " أي يعمل بعمل أهل الجنة " حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلاّ ذراع " وهو كناية عن غاية القرب " فيسبق عليه كتابه " أي فيكون قد كتب عليه سابقاً في بطن أمه أنه شقي، فيختم له بالشقاوة " فيعمل بعمل أهل النار " فيدخلها كما سبق به القدر " ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلاّ ذراع " أي وقد يعمل الرجل بعمل أهل النار حتى يقترب منها غاية القرب " فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل الجنة " فيدخلها (1) . والمطابقة: في قوله: " ثم يبعث الله ملكاً ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان مراحل تكوين الجنين في بطن أمه، حيث يمرّ بأربعة مراحل. الأولى: مرحلة التلقيح المنوي وهو المشار إليه بقوله: " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً " أي يجمع الله هذا الحيوان التناسلي المنوي بالبويضة فيحصل التلقيح والحمل، وقد ثبت علمياً أن النقطة الواحدة من ماء الرجل تحمل ألوف الحيوانات المنوية، وحيوان واحد منها هو الذي يلقح البويضة، وتوجد فيه كل خصائص الأب
__________
(1) والذي يحل الإشكال في هذا الحديث، ما جاء في " الصحيحين " من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة ". فهناك أشياء لا يطلع عليها إِلا الله تعالى الذي يعلم أعمال العباد ونياتهم، فعلى حسب ذلك تكون خواتيمهم. (ع) .(4/153)
وصفاته الجسمية، كالطول والقصر ونحوها، وصفاته العصبية والعقلية والنفسية من ميول واتجاهات وانحرافات واستعدادات. الثانية: مرحلة العلقة: وهي التيِ تتحول فيها الخلية إلى نقطة دموية جامدة عالقة بالرحم، ومدتها أربعون يوماً أيضاً. الثالثة: مرحلة المضغة، التي يصبح فيها الجنين قطعة لحم صغيرة، ومدتها أربعون يوماً. الرابعة: مرحلة التكوين العضوي حيث تتحول قطعة اللحم الصغيرة بعد أن يكون الجنين قد أتم أربعة أشهر إلى جسم بشري مكون من هيكل عظمي، ولحم ودم، وقلب وأمعاء، ورأس وحواس وأعضاء، وبذلك يكمل تصويره وتشكيله، وتتكامل أعضاؤه وحواسه الجسمية. ثانياً: كتابة أقدار كل إنسان وهو ما زال جنيناً في بطن أمّه بعد استكمال تشكيله وتصويره، وتكامل أعضائه وحواسه، حيث دل الحديث على كتابة عمله، ورزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، ولذلك فإن خاتمة الإِنسان مرتبطة " قدراً " بما كتب عليه في بطن أمه، فالسعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه، ولا شك أن هذه المقادير تكتب مرتين، مرة في اللوح المحفوظ قبل خلق الخلائق لما في حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة " أخرجه مسلم، والمرة الثانية في بطن أمه قال ابن رجب: وقد روي عن ابن مسعود أن الملك إذا سأل عن النطفة أمر أن يذهب إلى الكتاب السابق، ويقال له: إنك تجد فيه قصة هذه النطفة. ثالثاً: وجوب الإيمان بالقدر، سواء تعلق بالأعمال أو بالأرزاق والآجال لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا في هذا الحديث أن كل إنسان يكتب عليه قدره في بطن أمه، والقدر نوعان: (أ) قدر حتمي ليس للعبد فيه كسب واختيار، وهو ما يتعلق بالأرزاق والآجال، والصحة والمرض، ونحوها، وكذلك الاستعدادات الفطرية، والمواهب والقدرات البشرية، من ذكاء وفطنة ونحوها، فإنها كلها حتمية لا حيلة فيها للإنسان ولا اختيار له فيها، ولا يقع تحت مسؤوليته، وقدر للإِنسان فيه كسب(4/154)
واختيار: وهو ما يتعلق بالأعمال من طاعة ومعصية، وكفر وإيمان، فهذه الأعمال التي قدرها الله على الإِنسان، وعلم بوقوعها منه ليست حتمية عليه، ولا هو مجبور عليها، وإنما يفعلها بمحض إرادته واختياره، ولذلك كان مسؤولاً عنها، مثاباً على الخير، معاقباً على الشر. قال الخطابي: " قد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله سبحانه العبد على ما قدره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمون، وإنما معنى القدر الإِخبار عن تقدم علم الله تعالى بما يكون من اكتسابات العبد. اهـ. وقد أمر الله الخلق بالإِيمان والطاعة، ونهاهم عن الكفر والمعصية، وفي هذا حجة الله البالغة على عباده، لأنهم إنما كلفوا بالأمر والنهي، أما القضاء والقدر فإنما أمروا بالإِيمان به دون الاحتجاج به في ارتكاب المعاصي ". وقد سئل فضيلة الأستاذ الشعراوي (1) : عن القدر الذي هو علم الله بالأشياء قبل وقوعها هل هو صفة جبر فأجاب: بأن العلم ليس صفة جبر، إنما هي صفة انكشاف فقط يكشف الأشياء على ما هي عليه، وضرب لذلك مثلاً بسيطاً فقال: أنت جئت تزورني وعندي خادم، فأرسلته ليحضر كازوزة من البقال فتأخر فقلت لك: هل تعرف لماذا أبطأ، هناك ولد آخر على ناصية الشارع مستولٍ على هذا الولد حينما يراه خارجاً لشراء حاجة يلعب معه، ويأخذ نقوده، والنقود ضاعت من الولد وهو خائف أن يأتي، فلما جاء الخادم سألناه ما الحكاية، فقال: كما قلت أنا، فهل ترى عندما قلت إنه سيحصل منه كذا وكذا أرسلت معه قوة لترغمه على فعل ما قلته لك. فكيف قلت أنا هذا الكلام؟ قلته: لأنني أعرف سوابقه، ومعرفتي لسوابقه للعلم فقط، كذلك ولله المثل الأعلى علم الله تعالى أزلاً ما يكون من عبده المختار، فقال: سيكون من عبدي كذا وكذا، فهو عز وجل كتب لا ليلزم، ولكنه كتب لأنه عالم بما يكون من العبد، والفرق
__________
(1) " القضاء والقدر " لفضيلة الشيخ الشعراوي.(4/155)
898 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ كانَ على كُلِّ بَابٍ من أبوَابِ الْمَسْجِدِ المَلَاِئكَةُ يَكْتُبُونَ الأوَّلَ فالأوَّلَ، فَإِذَا جَلَسَ الإِمَامُ طَوَوُا الصُّحُفَ، وجاءُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بين الصورتين أن العلم في البشر قد يتخلف فيه شيء لكن الحق لا خطأ عنده في علمه، فالحق كتب قديماً، لأنه علم ما يكون من عبده باختياره، فهو لا يكتب ليلزم، لأن العلم صفة انكشاف وليس صفة تأثير كالقدرة. اهـ.
رابعاً نفخ الروح في الجنين بعد استكمال تكوينه، وقد اختلفت الأحاديث هل نفخ الروح أولاً أو كتابة المقادير أولاً؟ فدلت رواية البيهقي على أن نفخ الروح أولاً، حيث جاء فيها ثم يبعث الملك فينفخ فيه الروح، ثم يؤمر بأربع كلمات إلخ، ودلت رواية البخاري هذه على أن كتابة المقادير أولاً. خامساً: إثبات وجود الملائكة ووجوب الإيمان بهم. وهم مخلوقات لطيفة نورانية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
898 - معنى الحديث: أن الملائكة يقفون يوم الجمعة على جميع أبواب المسجد، على كل باب طائفة لكتابة الوافدين إلى صلاة الجمعة، وتسجيل أسمائهم الأول فالأول، مع كتابة الوقت الذي حضروا فيه، ولا يزالون وقوفاً على الأبواب حتى يصعد الإِمام إلى المنبر، فإذا جلس الجلسة الأولى طووا تلك الصحف، وأوقفوا التسجيل، ودخلوا المسجد ليستمعوا إلى الخطبة. الحديث: أخرجه الستة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجود الملائكة كما تقدم بيانه في الحديث السابق، وهم عالم غير منظور من عالم الغيب لا يظهرون(4/156)
899 - عَنْ أبِي هُريْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ أنْفَقَ زَوْجَيْنِ في سَبيل اللهِ دَعَتْهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ: أيْ فُلُ هَلُمَّ، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: ذَاكَ الَّذِي لا تَوى عَلَيْهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " أرْجُو أن تَكُونَ مِنْهُمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلا لمن اصطفاه الله للنبوة، أو لمن شاء من عباده، كما ظهر جبريل لمريم عليها السلام، وقد كلف الله الملائكة بمهام مختلفة، فمنهم السفراء بين الله ورسله كجبريل عليه السلام، ومنهم الحفظة، ومنهم كتبة الأعمال، كهؤلاء الملائكة الذين يكتبون الوافدين لصلاة الجمعة. ثانياً: أن الناس يتفاضلون في المثوبة يوم الجمعة بحسب تبكيرهم إلى الصلاة، فكلما بكّر العبد إلى صلاة الجمعة كان ثوابه أكثر، كما يدل عليه قوله: " يكتبون الأول فالأول " أي يكتبون في هذه الصحف درجات السابقين الأول فالأول، ويسجلون أوقات حضورهم. والمطابقة: في قوله: " كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة ".
899 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من أنفق زوجين في سبيل الله " أي من تصدق بشيئين من صنف واحد درهمين أو دينارين أو ثوبين ابتغاء مرضاة الله سواء كان ذلك صدقة على فقير، أو معونة لمحتاج، أو علاجاً لمريض، أو تجهيزاً لمجاهد في سبيل الله، أو معونة لأهله " دعته خزنة الجنة: أي فُلُ " أي نادته خزنة الجنة من الملائكة " يا فلان " باسمه الذي يعرف به في الدنيا " هلم " أي تعال إلى الجنة ونعيمها، فإنها مفتحة الأبواب لك، " فقال أبو بكر: ذاك الذي لا ثوى عليه " أي ذلك الذي تفتح له أبواب الجنة وتستقبله ملائكتها هو السعيد حقاً الذي نجا من الهلاك وأمن من الخسران. " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إني لأرجو أن تكون منهم " ورجاؤه(4/157)
900 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا: " يَا عَائِشَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرأ عَلَيْكِ السَّلَامَ، فَقَالَتْ وَعَلَيْهِ السلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، تَرَى مَا لا أرَى، تُرِيدُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- صلى الله عليه وسلم - محقق إن شاء الله.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجود الملائكة، ومنهم خزنة الجنة هؤلاء، وعلى رأسهم رضوان. كما أن منهم خزنة جهنم وعلى رأسهم " مالك ". ثانياً: فضل الإِنفاق في سبيل الله، وبذل المال في وجوه البر، وأنه سبب في دخول الجنة واستقبال الملائكة على أبواب الجنة (1) .
الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " دعته خزنة الجنة ".
900 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: يا عائشة هذا جبريل يقرأ عليك السلام " وفي رواية " يقرئك السلام " أي يهديك السلام، ويحييك بتحية الإِسلام " فقالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته " فردّت التحية بأحسن منها، ثم قالت " ترى ما لا أرى، تريد النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي إنك يا رسول الله ترى جبريل الذي لا أراه فهنيئاً لك بالوحي والنبوة، ورؤية الملائكة الكرام البررة. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إثبات وجود الملائكة وأنهم أصناف متعددة مكلفون بأعمال مختلفة فمنهم خزنة الجنة، ومنهم خزنة النار، ومنهم الحفظة، ومنهم جبريل الأمين سفير الله إلى أنبيائه. ثانياً: فضل عائشة رضي الله عنها ومكانتها، وعلو منزلتها حتى إن جبريل أمين الله على
__________
(1) أي أن الملائكة تستقبل هؤلاء المنفقين على أبواب الجنة كما يستقبل الملوك بالحفاوة والترحيب قائلين لهم: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) .(4/158)
901 - عَن سَعِيدٍ بن جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِجِبْرِيلَ: " أَلا تَزُورُنا أكثرَ مِمَّا تَزُورُنَا؟ " قَالَ: فَنَزَلَتْ (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا) الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وحيه وسفيره إلى أنبيائه يهديها السلام، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. والمطابقة: في قوله: " هذا جبريل يقرأ عليك السلام ".
901 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل: ألا تزورنا أكثر مما تزورنا " قال العيني: كلمة ألا هنا للعرض والحض ويجوز أن تكون للتمني. قلت: ويحتمل أن تكون لجميع المعاني والمعنى أننا نعرض عليك الإكثار من زيارتنا ونحضك عليها ونتمنى لو أجبتنا إلى ذلك، لنستأنس بك، " فنزلت " الآية الكريمة " (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) " فإذا أمرنا بالنزول نزلنا " (لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) " أي وما كان الله لينسى رسوله وحبيبه محمداً - صلى الله عليه وسلم - وإن تأخر عنه الوحي، فإن للوحي أوقات محددة، يرسله إن شاء، ويوقفه إن شاء.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجود الملائكة، وعلى رأسهم جبريل ملك الوحي. ثانياً: أن للوحي أوقات محددة ولا ينزل إلّا بأمر الله تعالى. ثالثاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينقطع عنه الوحي أحياناً فيشتاق إلى جبريل، فإذا حضر إليه عرض عليه أن يكثر من زيارته، فيعتذر له جبريل بأنه عبد مأمور لا ينزل إلاّ بأمر إلهي. والمطابقة: في قوله: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل " الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي والنسائي.
***(4/159)
902 - عَنْ أبِي ذَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قَالَ لِي جِبْرِيلُ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لا يُشْرِكُ باللهِ شَيْئاً دَخَلَ الْجَنَّةَ، أوْ لَمْ يَدْخُلِ النَّارَ، قَالَ: وإنْ زَنَى وِإنْ سَرَقَ قَالَ: وإنْ ".
903 - عن أبي طَلحَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتَاً فيهِ كَلْبٌ ولا صُورَة تَمَاثِيلَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
902 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قال لي جبريل من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً " أي من مات مؤمناً موحداً لله تعالى " دخل الجنة، أو لم يدخل النار " أي كان مصيره إلى الجنة، ولا يخلد في النار " قال: وإن زنى وإن سرق " قال: وإن " أي قال جبريل: وإن زنى وإن سرق، وهو من باب حذف فعل الشرط والاكتفاء بأداة الشرط عنه.
الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن المؤمن الموحد مصيره إلى الجنة، فإن ارتكب كبيرة فعوقب عليها في الدنيا فهو كفارة له، وإن لم يعاقب عليها في الدنيا فهو إلى الله إن شاء عاقبه وأدخله الجنة، وإن شاء عفا عنه، ولا يخلد في النار خلافاً للخوارج. ثانياً: وجود الملائكة.
والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " قال لي جبريل ".
903 - معنى الحديث: أن الملائكة وهم مخلوقات طاهرة شريفة، وعباد مكرمون أصفياء، سخرهم الله لخدمة البشر، فهم يدخلون البيوت لخدمة من فيها من الناس والعناية بهم، ولكنهم يمتنعون عن دخول بيت فيه(4/160)
904 - وعنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأتَهُ إِلى فِرَاشِهِ فَأبَتْ فبَاتَ غَضْبَان عَلَيْهَا، لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حتى تُصْبِحَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كلب غير مأذون فيه شرعاً، أو صورةٌ لِإنسان أو حيوان - لأنها محرمة، والملائكة تكره المحرمات (1) . الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجود الملائكة لقوله - صلى الله عليه وسلم - " لا تدخل الملائكة بيتاً " إلخ. ثانياًً: تحريم الصور الحيوانية، وتحريم اقتناء الكلاب عدا المأذون فيها شرعاً، مثل كلاب الصيد والماشية والحرث، لأن الملائكة إنما تمتنع من دخول البيت الذي فيه صورة أو كلب لأن الصورة محرمة، والكلب نجس قذر (2) محرّم شرعاً إلا لحاجة مشروعة. والمطابقة: في قوله: " لا تدخل الملائكة بيتاً ".
904 - معنى الحديث: أن المرأة إذا دعاها زوجها للمباشرة وتمنعت عليه، وبات ساخطاً عليها " لعنتها الملائكة حتى تصبح " أي تدعو عليها بالطرد من رحمة الله حتى الصباح، لأنها عصت زوجها ومنعته حقه الشرعي، وفي بعض روايات البخاري " لعنتها الملائكة حتى ترجع ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجود الملائكة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لعنتها الملائكة حتى تصبح ". ثانياًً: أنه يحرم عصيان المرأة لزوجها، سيما فيما يتعلق بالفراش والمعاشرة الزوجية، وكونه كبيرة، وإلّا لما ترتب
__________
(1) قال في " هداية الباري ": في إطلاق الملائكة شمول للحفظة واستظهره فريق، وقصره غير واحد على غيرهم.
(2) قال في " هداية الباري ": والمعنى المانع ما يتعلق بالأوّل من النجاسة، والصورة معصية فاحشة لما فيها من مضاهاة خلق العلي الكبير المتفرد بالايجاد والتصويت.(4/161)
791 - " بَابُ ما جَاءَ في صِفَةِ الْجَنَّةِ وأنهَا مَخلُوقَة "
905 - عَنْ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ على صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، والَّذِينَ عَلَى إثْرِهِمْ كأشَدِّ كَوْكَبٍ إضَاءَةً، قُلُوبُهُمْ على قَلْبِ رَجُل وَاحَدٍ، لا اخْتِلافَ بَيْنَهُمْ، ولا تَبَاغضَ، لِكُلِّ امْرِىءٍ مِنْهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عليه هذا الوعيد الشديد، وهو لعن الملائكة. ثالثاً: قال الصنعاني: في الحديث إخبار بأنه يجب على المرأة إجابة زوجها إذا دعاها للجماع، لأن قوله " إلى فراشه " كناية عن الجماع، ودليل الوجوب لعن الملائكة لها، على امتناعها، إذ لا يلعنون إلاّ عن أمر الله، ولا يكون إلاّ عقوبة، ولا عقوبة إلّا على ترك واجب. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لعنتها الملائكة ".
791 - " باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة "
905 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصف لنا أهل الجنة جميعاً بالحسن والجمال، وأنهم يتفاوتون في ذلك حسب درجاتهم وأعمالهم، فأول طائفة تدخل الجنة كالقمر ليلة الرابعٍ عشر حين تكمل استدارته، ويتم نوره، فيكون أكثر إشراقاً، وأعظم حسناً وبهاءً، وفي رواية " يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر " أما الطائفة الثانية فإنها تشبه في صورتها أقوى الكواكب نوراً وضياءً. أما صفاتهم النفسية والخلقية فهم كما وصفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - " على قلب رجل واحد " أي في غاية الاجتماع والاتفاق، حتى كأن قلوبهم جميعاً قلب واحد، كما في الرواية الأخرى حيث قال في وصفهم: " قلوبهم قلب رجل واحد " وهو من التشبيه الذي حذفت(4/162)
زَوْجَتَانِ، كلّ وَاحِدَةٍ مِنْهمَا يرَى مخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ من الْحسْنِ، تسَبِّحُونَ اللهَ بكْرَةً وَعشِيَّاً، لا يَسْقَمونَ، ولا يَمْتَخِطُونَ، ولا يَبْصقُونَ، آنيتُهُمْ الذَّهَب والفِضَّةُ، وأمْشَاطهُمُ الذَّهَبُ، وَقودُ مَجَامِرِهِمْ الألوّة، ورَشْحهُم الْمِسْك".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أداته، أي كقلب رجل واحد، كما أفاده الحافظ. " لا اختلاف بينهم ولا تباغض " أي إن نفوسهم صافية نقية خالية من العداوة والبغضاء، عامرة بالحب والمودة. " لكل امرىء منهم زوجتان " أي لكل واحد منهم زوجتان من نساء الدنيا بالإِضافة إلى عشرات الحور من نساء الجنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في وصف أدنى أهل الجنة منزلة: " وإن له من الحور العين لاثنتين وسبعين زوجة سوى أزواجه من الدنيا " أخرجه أحمد في "مسنده " (1) . أما صفة هؤلاء النساء فقد قال - صلى الله عليه وسلم - في وصفهن: " كل واحدة منهما " أي من الزوجتين المذكورتين من نساء الدنيا " يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن " فهي لصفاء جسدها ورقة بشرتها جسم شفاف يكشف عما بداخله، فيرى الناظر إليها مخ ساقها من وراء لحمها، كما يرى الماء الصافي داخل الكأس الزجاجي. " يسبحون الله بكرة وعشياً " أي في أول النهار وآخره، والمراد أنهم يسبحون في وقتهما، وإلّا فلا بكرة ثمة ولا عشية. أمّا هذا التسبيح فإنه ليس عن تكليف، وإنما يلهمون به كما يلهمون النفس. " لا يسقمون " أي لا يمرضون فيها " ولا يمتخطون ولا يبصقون " لأن الله طهر أهل الجنة من هذه الأقذار " آنيتهم الذهب والفضة " أي بعض أوانيهم فضية، وبعضها ذهبية كما أفاده القاري. " وأمشاطهم الذهب " أي من الذهب الخالص " وقود مجامرهم الألوّة " بفتح الهمزة وضمها وبضم اللام
__________
(1) وفي سنده شهر بن حوشب، وهو صدوق كثير الإرسال والأوهام. (ع) .(4/163)
906 - عَن أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ في الْجَنَّةِ لَشَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لا يَقْطَعُهَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وتشديد الواو كما أفاده القسطلاني " يعني " أن بخورهم الذي تتقد به مجامرهم هو العود الهندي الذي هو من أطيب الطيب وأزكى البخور.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجود الجنة التي خلقها الله تعالى لتكون دار النعيم لأوليائه. ثانياًً: جمال أهل الجنة، وحسن وجوههم، حيث وصفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر " ثم وصفهم بالطهارة والنقاء من جميع العيوب والنقائص الجسمية والنفسية. أما سلامتهم من الأقذار الجسمية، فإنهم كما في الحديث " لا يمتخطون ولا يبصقون، ولا يتغوطون " فالطعام يرشح عرقاً من أجسامهم تفوح منه رائحة ذكية كرائحة المسك، كما جاء في حديث زيد بن أرقم حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " تكون حاجة أحدهم رشحاً يفيض من جلودهم كرشح المسك " أخرجه النسائي. أما سلامتهم نفسياً واجتماعياً فإن مجتمع أهل الجنة يقوم على الود الخالص، فلا عداوة بينهم ولا بغضاء، كما في حديث الباب. ثالثاً: أن أهل الجنة يتنعمون بكل مظاهر النعيم والترف، فيأكلون في آنية الذهب والفضة، ويمتشطون بالأمشاط الذهبية، ويتطيبون بالعود الفاخر، وينعمون بأجمل النساء وأعظمهم صفاءً ورقة وشفافية. يسبحون الله ويحمدونه، كما في الحديث عن أبي هريرة مرفوعاً " أنهم يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس " أخرجه مسلم. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: في قوله: " أول زمرة تدخل الجنة ".
906 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن في الجنة لشجرة " أي إن فيها شجرة كبيرة مترامية الأطراف " يسير الراكب " المسرع في سيره(4/164)
957 - عَنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ: " إِنَّ لَهُ مُرْضِعَاً في الْجَنَّةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" في ظلها مائة عام لا يقطعها " أي يسير تحتها الراكب المجد مائة سنة فلا ينتهي منها، وفي الحديث عن عتبة السلمي مرفوعاً " شجرة طوبى تشبه الجوزة، لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تتكسر ترقوتها هرماً " أخرجه ابن حبان في صحيحه. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على عظمة الجنة، وضخامة أشجارها، حتى إن بعض أشجارها تمتد أغصانها وفروعها إلى مسافات بعيدة تزيد عن مسيرة مائة عام. ثانياً: أن أهل الجنة يتفيئون أشجارها تنعماً وتلذذاً، لا من أجل أن يستظلوا بها من حرارة الشمس، فإن الجنة لا حر فيها ولا برد، وذلك هو مصداق قوله تعالى: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) فالجنة كلها ظل لا شمس معه، ونور لا حرَّ فيه، كأنما هم يعيشون دائماً في وقت الإِسفار الذي يسبق طلوع الشمس (1) . والمطابقة: في قوله: " إن الجنة لشجرة ".
907 - معنى الحديث: يحدثنا البراء رضي الله عنه " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لما مات ابراهيم " أي قال - صلى الله عليه وسلم - يوم وفاة إبراهيم ابن رسول الله من مارية القبطية، ولد في ذي الحجة سنة ثمان، وتوفي يوم الثلاثاء، لعشر خلون
__________
(1) روى ابن أبي حاتم، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الظل الممدود، وشجرة في الجنة على ساق قدر ما يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام من كل نواحيها، فيخرج أهل الجنة يتحدثون في ظلها، فيشتهي بعضهم اللهو، فيرسل الله ريحاً، فيحرك تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا. (ع) .(4/165)
908 - عَنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِنَّ أهلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ في الأفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أوِ الْمَغْرِبِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من ربيع الأول سنة عشر، وهو ابن ثمانية عشر شهراً (1) " إن له مرضعاً " بضم الميم وكسر الضاد " في الجنة " أي إن الله قد أعد له في الجنة من يقوم بإرضاعه حتى يتم رضاعته، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن إبراهيم ابني وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين - تكملان إرضاعه في الجنة " أخرجه مسلم (2) .
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل إبراهيم عليه السلام، وأنه يحيى في الجنة حياة برزخية كالصديقين والشهداء، ويرزق كما يرزقون، ويتمثل رزقه في ذلك اللبن الذي يرضعه من مرضعته في الجنة، ثانياً: قال النووي: أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة، وتوقف فيه بعضهم لحديث عائشة أخرجه مسلم بلفظ " توفي صبي من الأنصار فقلت: طوبى له - " أي له الجنة " لم يعمل سوءاً، ولم يدركه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أو غير ذلك يا عائشة. إن الله تعالى خلق للجنة أهلاً " الحديث، وأجيب عنه بأنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير دليل. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في كون الحديث يدل على وجود الجنة، وبعض ما فيها.
908 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق " أي أنهم يشاهدون عن بعد أهل المنازل العالية في الجنة كما كانوا يشاهدون في الدنيا
__________
(1) الواقدي.
(2) " شرح العيني " ج 8.(4/166)
لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الأنْبِيَاءِ لا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ: " بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ ".
792 - "بابُ صِفَةِ أْبوَابِ الْجَنَّةِ "
909 - عَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " في الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أبوَاب، فِيهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَيَّانَ، لا يَدْخُلُهُ إلَّا الصَّائِمُون ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الكوكب البعيد في أفق السماء، " لتفاضل ما بينهم " أي لأن أهل الجنة يتفاضلون في مساكنهم ومنازلهم ودرجاتهم " قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم " الظاهر أنه سؤال واستفهام، والمعنى، هل تلك المنازل العالية هي منازل الأنبياء التي لا يصل إليها سواهم، " قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين "، أي أنها ليست خاصة بالأنبياء، ولكنها للصديقين من هذه الأمة المحمدية. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن أهل الجنة يتفاضلون في منازلهم ودرجاتهم ومساكنهم، وأن منهم من يبعد عن غيره بعد الكوكب الغابر في الأفق عن أهل الأرض. والمطابقة: في قوله: " إن أهل الجنة " (1) .
792 - " باب صفة أبواب الجنة "
909 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن في الجنة ثمانية أبواب " كما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا
__________
(1) " شرح العيني على البخاري " ج 8.(4/167)
793 - " بَابُ صِفَةِ النَّارِ وأنهَا مَخلُوقَة "
915 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَأبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) لأن الواو إنما تأتي بعد (سبعة) " فيها باب يسمّى الريان " بفتح الراء، وهو ضد العطشان، سمى بذلك لما في رواية الترمذي " من دخله لم يظمأ أبداً ". " لا يدخله إلاّ الصائمون " خاصة دون غيرهم.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن عدد أبواب الجنة ثمانية، وفيه تفسير وبيان لقوله تعالى: (وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) ثانياًً: أن الله خص الصائمين بباب يسمى الريان لا يظمؤون بعد دخولهم منه، لأنهم ظمئوا في الدنيا فأدخلهم الله منه تبشيراً لهم بانقطاع ظمئهم نهائياً. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " ثمانية أبواب ".
793 - " باب صفة النار وأنها مخلوقة "
910 - معنى الحديث: كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الحمى طاقة حرارية منشأها من نار جهنم. فاللهب الحاصل في جسم المحموم -كما قال الزرقاني- قطعة من نار جهنم، قدر الله ظهورها ليعتبر العباد بذلك، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الحمى من فيح جهنم " كما قال الطيبي: إما أن تكون (من) ابتدائية، أي الحمى نشأت وحصلت من فيح جهنم، أو تبعيضية أي بعض منها، " فابردوها بالماء " بهزة وصل وضم الراء على المشهور (1) ، وحكي كسر الراء (2) ، أي خففوا من حرارتها باستعمال الماء البارد شرباً وغسلاً للأطراف. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة.
__________
(1) الصحيح، وهو الفصيح. (ع) .
(2) مع همزة قطع في أولها، وهي لغة رديئة. (ع) .(4/168)
911 - عَنْ أبِي هرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " نَاركُمْ جزْء من سَبْعِينَ جزْءَاً منْ نَارِ جَهَنَّمَ " قِيلَ: يَا رَسولَ اللهِ إنْ كَانَتْ لكَافِيَةً، قَالَ: " فضِّلَتْ عليهَا بِتِسْعَةٍ وسِتِّينَ جزْءاً كُلُّهنَّ مِثْلُ حَرِّهَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن معظم الحميات نارية ناشئة عن حرارة جهنم، مباشرة، أو عن حرارة الصيف التي هي نَفَس من أنفاسها. فالحمى نفس من أنفاس جهنم، يصيب المحموم، فتصيبه تلك الحرارة الشديدة التي تشتعل في قلبه وتنتشر في دمه وعروقه وسائر أعضاء بدنه. ثانياً: تخفيف الحمى بالماء البارد، وذلك بشربه وغسل الأطراف به (1) قال ابن القيم: خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث خاص بأهل الحجاز ومن والاهم إذ كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من نوع الحمى اليومية الحادثة من شدة حرارة الشمس، وهذه ينفعها الماء البارد شرباً واغتسالاً، وذكر أن أصحاب هذه الحمى ينفعهم الماء كثيراً، وقد يغنيهم عن العلاجات الأخرى. ثالثاً: في الحديث وصف لنار جهنم وشدة حرارتها، وكونها مخلوقة الآن لأنّها لو لم تكن موجودة الآن كيف تكون الحمّى نفس من أنفاسها. والمطابقة: في قوله: " الحمى من فيح جهنم " حيث دل على أن جهنم موجودة الآن خلافاً للمعتزلة.
911 - معنى الحديث: أن نسبة الطاقة الحرارية الموجودة في نار الدنيا كنسبة جزء إلى سبعين جزءاً من حرارة نار جهنم في الدار الآخرة، قال الحافظ: والمراد المبالغة في الكثرة لا العدد الخاص، فلما سمع ذلك بعض الصحابة قال: إن نار الدنيا كافية في الإحراق، مجزئة في الإِيلام، فهي محرقة
__________
(1) وقد نصح الطب الحديث المحموم بالحمام البارد لتخفيض الحرارة، أو بكمادات بالماء البارد.(4/169)
للجماد، فضلاً عن الأجسام البشرية. " قال - صلى الله عليه وسلم -: إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً " أي أن نار الآخرة تزيد قوة حرارتها عن حرارة نار الدنيا بتسعة وستين جزءاً، " كلهن مثل حرها " أي كل جزء منها يعادل حرارة نار الدنيا كلها، ولهذا قال ابن عباس: لو جمع كل ما في الوجود من النار التي يوقدها الآدميون لكانت جزءاً من أجزاء نار جهنم.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن نار جهنم تزيد طاقتها الحرارية على نار الدنيا بتسعة وستين ضعفاً، وأن نسبة الحرارة الموجودة في نار الدنيا كنسبة واحد إلى سبعين من نار الآخرة. ثانياًً: أن نار الدنيا مخلوقة من نار الآخرة، إلا أنها خُفِّفت عنها مرات كثيرة جداً، وفي هذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما، وقد سئل عن نار (1) الدنيا. قال: من نار الآخرة، غير أنها أُطفأت بالماء سبعين مرة، ولولا ذلك ما انتفع بها أحد.
أخرجه ابن عيينة. ثالثاً: أن النار مخلوقة الآن قال الزرقاني (2) : النار والجنة مخلوقتان الآن كما دلت عليه أحاديث كثيرة أصرحها قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: أي رب وعزتك لا يسمع بها أحد إلاّ دخلها ثم حفها بالمكاره، ثم قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: يا رب، لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، فلما خلق الله النار قال: يا جبريل إذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها فحفها بالشهوات، ثم قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها فقال: أي رب في عزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلاّ دخلها " رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وصححه الحاكم عن أبي هريرة. والمطابقة:
__________
(1) " شرح العيني على البخاري " ج 15.
(2) " شرح الزرقاني على الموطأ ".(4/170)
794 - " بَابُ صِفَةِ إبْلِيس وَجُنُودِهِ "
912 - عَنْ أبي هُرَيْرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " يَأتِي الشيطَانُ أحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَق كذَا؟ من خلَقَ كَذَا؟ حتى يَقُولَ: من خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ وَلْيَنْتَهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ناركم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم ". الحديث: أخرجه الشيخان ومالك في " الموطأ ".
794 - " باب صفة إبليس وجنوده "
وصفه ابن عباس رضي الله عنهما في حديث له: بقبح الصورة، وبشاعة المنظر فقال عنه: " جسده جسد خنزير، ووجهه وجه قرد، وعيناه مشقوقتان طولاً، وأسنانه كلها عظم واحد.. إلى آخره
912 - معنى الحديث: أن الشيطان، وهو أعدى أعداء البشر على الإِطلاق لا همَّ ولا شغل له أبداً إلاّ العمل الدائب على إغواء الإِنسان وإضلاله حتى يهلك ويشقى، فيوسوس له شتى الوساوس، ويأتيه من كل جانب، وأهمها أن يأتيه من جهة العقيدة لأنها أساس دينه وإيمانه، وعليها تتوقف نجاته وسعادته في الدار الآخرة فيبعث في نفسه الشكوك حولها، ويثير فيه التساؤلات العديدة عن حدوث الأشياء، ومن أحدثها " فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ " يعني من خلق السماء؟ من خلق الأرض؟ من خلق الجبال؟ من خلق الإِنسان؟ فيجيبه نفسياً وعقلياً بقوله: " الله "، وجوابه هذا صحيح وحق وواقع وتوحيد وإيمان، ولكن الشيطان لا يقف عند هذا الحد من الأسئلة، بل يتجاوزها إلى أسئلة ضالّة مضّلة فينتقل من سؤال إلى سؤال " حتى يقول: من خلق ربك " وهنا تبدأ المحاولة الشيطانية لتشكيك الإِنسان في(4/171)
توحيده وإيمانه بصفات الله عزّ وجلّ، لأن الله تعالى لا خالق له، فهو الأول بلا ابتداء، والسابق لكل موجود، لم يسبقه عدم، حتى يكون مخلوقاً لغيره، تعالى الله علواً كبيراً " فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته " أي فإذا وصل معه الشيطان إلى هذا الحد من الأسئلة فليستعذ بالله منه، وليكف عن الاستجابة له، قال الحافظ: أي ولينته عن الاسترسال معه في ذلك، ويعلم أنه يريد إفساد دينه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: التحذير عن الاستجابة للوساوس الشيطانية، سيما ما يتعلق بعقيدة الإِنسان المتعلقة بالله وصفاته ووحدانيته، فإن هذا النوع من الوسوسة أخطر ما يكون عليه، لأن الشيطان عندما يسأله: " من خلق ربك " إنما يريد بذلك أن يوحي إليه نفسياً بأن الله مخلوق كسائر الكائنات، فإذا استجاب لذلك، والعياذ بالله، كفر بالله، وإذا تنبه لذلك واستعاذ بالله سلم من الشرك بالله، وهذا هو اليقين وصريح الإِيمان. ثانياًً: أن هذه الوساوس الشيطانية كثيرة، فمنها ما يتعلق بصفات الباري جل جلاله، أو صفات رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومنها ما يتعلق بالقرآن، ومنها ما يتعلق بالغيبيات كالبعث وعذاب القبر، والجنة والنار، والملائكة إلى غير ذلك من عقائد الإِيمان فيجب الاستعاذة منه عند محاولته التشكيك في هذه العقائد، قال الخطابي: إن الشيطان إذا وسوس بذلك فاستعاذ الشخص منه، وكف عن مطاولته اندفع، وإن الاسترسال معه ولو بقرع الحجة بالحجة غير مأمون، لأن الشيطان ليس لوسوسته انتهاء. ثالثاً: إثبات وجود الشياطين، وبقاؤهم إلى يوم القيامة، وهم كثيرون وإبليس هو أبوهم وأصلهم الأول. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " يأتي الشيطان أحدكم ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.(4/172)
913 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا استَجْنَحَ (1) اللَّيْلُ -أو كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ- فَكُفُّوا صبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَيّاَطِينَ تَنْتَشِر حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَتْ سَاعَةٌ من الْعِشَاءِ فَخَلُّوهُمْ، وأغلق بَابَكَ، واذكُرْ اسْمَ اللهِ، وَأطْفِىءْ مِصْبَاحَكَ، واذكُرِ اسْمَ اللهِ، وَأوْكِ سقَاءَكَ، وَاذكُرِ اسْمَ اللهِ، وخَمِّرْ إِنَاءَكَ، واذْكُرِ اسْمَ اللهِ، وَلَوْ تَعْرُضُ عَلَيْهِ شَيْئَاً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
913 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أمر إرشاد وتوجيه أن نمنع أطفالنا عن الخروج من البيوت عند أول غروب الشمس وإقبال ظلمة الليل، لأن الشياطين والأرواح الخبيثة المؤذية تنتشر في أوّل الليل محاولة الشر والإِفساد والإِضرار بالناس، لا سيما الأطفال لضعفهم، فإذا مضت ساعة بعد الغروب سمح لهم بالخروج. ثم هو - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أيضاً بإغلاق بيوتنا، وقفل أبوابها، لا سيما بالليل، لمنع اللصوص والمعتدين من دخولها، وإطفاء مصابيحنا عند النوم احتياطاً وحذراً من الحريق. ووضع جميع المشروبات التي نتناولها في أوان مغلقة محكمة خوفاً من أن يتسرب إليها بعض الحشرات والميكروبات، وتغطية الأطعمة حتى لا تتلوّث بسقوط الأقذار والجراثيم فيها.
وأن نذكر اسم الله تعالى عند كل عمل من أعمالنا هذه أو غيرها نستعيذ به ونعتمد عليه في حمايتنا (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) .
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجود الشياطين، وكونها مخلوقات شريرة مؤذية للإِنسان وأطفاله. ثانياًً: أنه ينبغي حفظ الأطفال في المنازل، ومنعهم من الخروج منها بعد غروب الشمس مباشرة لمدة ساعة، لأن الشياطين تنتشر في ذلك الوقت فتؤذيهم جسمياً ونفسياً لضعفهم وسرعة
__________
(1) استنجح الليل أي أقبل ظلامه بعد مغيب الشمس.(4/173)
914 - عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كُنْتُ جَالِساً مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَجُلانِ يَسْتَبَّانِ، فأحَدُهُمَا احْمَرَّ وجْهُهُ، وانتفَخَتْ أوْداجُهُ، فَقَالَ النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي لأعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تأثرهم. ثالثاً: يرشدنا - صلى الله عليه وسلم - إلى اتخاذ كل الوسائل المادية لحفظ النفس والمال والصحة، فمن ذلك إغلاق الأبواب وإطفاء المصابيح وتغطية الإِناء، وربط السقاء كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "وأوك سقاءك، واذكر اسم الله " صيانة للماء من التلوث في أي وعاء كان، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " وخمر إناءك " فأمر بتغطية وعاء الطعام لحفظه من الحشرات والميكروبات. رابعاً: مشروعية الجمع بين اتخاذ الأسباب والتحصن بذكر الله تعالى وأسمائه، والتوكل عليه، حيث قال: " وأغلق بابك، واذكر اسم الله " أي اجمع بين الوقاية المادية والوقاية الروحية لتشملك العناية الإلهية. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر " أخرج هذا الحديث: الشيخان وأبو داود والنسائي.
914 - راوي الحديث: هو سليمان بن صرد - بضم الصاد وفتح الراء ابن الجون بن الجون بن أبي الجون بن منقذ الخزاعي، كان من خيار الصحابة، شهد وقعة صفين مع علي رضي الله عنه، وعمل كاتباً للحسن بن علي رضي الله عنهما، وقتل سنة خمس وستين من الهجرة، وعمره ثلاث وسبعون سنة رضي الله عنه وأرضاه.
معنى الحديث: أن رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - تخاصما وتشاتما وسب كل منهما الآخر واشتد بأحدهما الغضب، وظهرت آثاره عليه، فاحمر وجهه من شدة فوران الدم وغليانه، وانتفخت عروق عنقه، ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما وقع له من شدة الغضب فقال لأصحابه: لو قال كلمة واحدة لاستراح وهدأت(4/174)
ذَهَبَ عنه ما يَجِدُ، لو قَالَ: أعُوذُ باللهِ مِنَ الشيطانِ، ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: تَعَوَّذْ باللهِ مِنَ الشيطَانِ، فَقَالَ: وَهَلْ بِي جُنُونٌ!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نفسه وهي أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لأن الغضب نزعة شيطانية (1) تخرج الإِنسان عن حالته العادية، ويأتي ببعض الأعمال الجنونية، كتقطيع ثوبه، وكسر آنيته، وشتم من أغضبه. أو ضربه أو قتله فإذا استعاذ العبد بالله واعتصم به، حماه من الشيطان، ومنعه من التسلط عليه " قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان " " فقالوا له: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " تعوذ بالله من الشيطان، فقال: وهل بي جنون " قال النووي: هذا كلام من لم يفقه في دين الله، ولم يتهذب بأنوار الشريعة المكرمة، وتوهم أن الاستعاذة مختصة بالمجانين، ولم يعلم أن الغضب من نزعات الشيطان، والاستعاذة تذهب الغضب وهي أقوى سلاح على دفع كيده. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن أقوى علاج لتسكين الغضب والقضاء عليه الاستعاذة بالله من الشيطان بنية صادقة، وعزيمة قوية، ويقين وإخلاص، لأن الغضب نزعة شيطانية شريرة، والاستعاذة أقوى سلاح لمحاربة الشيطان فإذا لٍم يستعمل هذا السلاح سخّره في كل ما يغضب الله من أعمال إجرامية إشباعا لغريزة التشفي والانتقام، ولهذا جاء في الحديث عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، دلني على عمل يدخلني الجنة، قال: لا تغضب ولك الجنة، رواه الطبراني في الكبير والأوسط لأنه يولّد الحقد (2) والحسد، وإضمار السوء، وهجر المسلم
__________
(1) أي نزعة شيطانية تدفع صاجها إِلى الانتقام، وارتكاب الأفعال الاجرامية.
(2) شرح الزرقاني على " الموطأ " ج 4.(4/175)
795 - " بَاب إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ في شَرابِ أحَدِكُمْ فَلْيَغمِسْهُ، فَإِنَّ في إحْدى جَنَاحَيْهِ دَاءً وفي الأخرَى شِفَاءً "
915 - عَنْ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ في شَرَابِ أحدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ، ثمَّ لِيَنْزِعْه، فَإِنَّ في إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً، وفي الأخرى شِفَاءً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأخيه المسلم، ومنع الحقوق، وتظهر آثار الغضب على سلوك الإِنسان وتصرفاته الشخصية من ضرب وقتل ونحوه، فإن فاته ذلك، رجع إلى نفسه فمزّق ثيابه، ولطم خده، وربما سقط صريعاً، وربما أغمي عليه. وقد حكي أن بعض الملوك كتب في صحيفة: ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء، ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء، اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب، ثم دفعها إلى وزيره وقال له: إذا غضبت فادفعها إليّ، فجعل الوزير كلما غضب الملك دفعها إليه، فنظر فيها فيسكن غضبه (1) . ثانياً: وجود الشيطان وتسلطه على الإِنسان بإثارة غرائزه، ولذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاستعاذة منه. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لو قال أعوذ بالله من الشيطان ".
795 - " باب إذا وقع الذباب (2) في شراب أحدكم فليغمسه فإن في إحدى جناحيه داء وفي الأخرى شفاء "
915 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه " أي يأمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث - إذا وقعت الذبابة في مائع من المائعات أن ندخلها كلها في الإِناء، ثم نخرجها منه "فإن
__________
(1) شرح الزرقاني على " الموطأ " ج 4.
(2) قال العسكرى: الذباب واحد والجمع ذبان والعامة تقول ذبابة، وهو خطأ.(4/176)
في إحدى جناحيه داء" أي لأن إحدى الجناحين يحمل جرثومة المرض، والثاني يحمل الدواء الذي يقضي عليها وهو معنى قوله: " وفي الأخرى شفاء " ومن طبيعة الذبابة أنها إذا سقطت في مائع وقعت على الجناح الذي يكمن فيه الداء، وأفرزته فيه، فإذا غمس الجناح الآخر خرج منه الدواء الذي يقضي على ذلك الداء، لأن الذباب كما في حديث ابن حبان: " يقدم السم ويؤخر الشفاء ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أمرين، أمر فقهي وهو أن الذباب إذا مات في ماء أو مائع لا ينجسه (1) ، وهو قول الجمهور، ثم عدّى هذا الحكم إلى كل ما لا دم له كالنحلة والزنبور، وأمر طبي وهو غمس الذباب كله، وإدخاله في الإناء ليخرج الشفاء الموجود في جناحه الآخر، فيقضي ذلك الترياق الشافي على ذلك السم الذي وقع في الإناء، قال في " هداية الباري " (2) وهذا طب لا يهتدي إليه الأطباء وأئمتهم، فالطيب العالم الموفق يخضع لهذا العلاج، ويقر لمن جاء به بأنه أكمل الخلق على الإطلاق، وأنه مؤيد بوحي إلهي خارج عن القوى البشرية. والمطابقة: في كون الترجمة هي لفظ الحديث نفسه. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود وابن ماجة في الطب.
***
__________
(1) " الطب النبوي " لابن القيم.
(2) " هداية الباري في ترتيب أحاديث البخاري " ج 1.(4/177)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتابُ أحَادِيث الأنبِيَاءِ "
796 - " بَابُ خلْقِ آدَمَ - صلى الله عليه وسلم - وذرِّيَّتهِ "
916 - عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " خَلَقَ اللهُ آدَمَ وَطُولُهُ ستُّونَ ذِرَاعاً، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولئِكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، تَحِيتكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتكَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ على صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب أحاديث الأنبياء (1)
796 - " باب خلق آدم "
916 - معنى الحديث: أن الله تعالى خلق الإِنسان الأوّل وهو آدم أبو البشر طويل القامة، بحيث يبلغ طوله ستين ذراعاً، وكان خلقه يوم الجمعة كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة. وبعد أن تم خلقه وتكوينه، ونفخ فيه الروح، ودبت فيه الحياة، وأصبح بشراً سوياً، أمره الله أن يذهب إلى الملائكة فيحييهم بالسلام، ويستمع إلى إجابتهم عليه، فتكون تلك التحية المتبادلة بينه وبينهم هي التحية المشروعة له ولذريته من بعده، وهو معنى قوله: " فاستمع ما يحيونك تحيتك وتحية ذريتك " أي فإنها تحيتك وتحية المؤمنين من ذريتك، "فقال السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله فزادوه
__________
(1) وعدد الأنبياء 12400 والرسل 313 رسولاً كما في حديث أبي ذر أخرجه ابن حبان.(4/178)
917 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمَاً، إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ من دَمِهَا، لأنَّهُ أوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ورحمة الله" فأصبح ذلك هو الصيغة المشروعة في الرد على السلام. " فكل من يدخل الجنة على صورة آدم " أي على صورته في الحسن والجمال وطول القامة.. " فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن " فلم تزل تقصر قامة بني آدم حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان خلق آدم عليه السلام، وطول قامته، وأنها كانت ستين ذراعاً، وأن المؤمنين حين يدخلون الجنة يكونون على صورة أبيهم آدم وطول قامته. ثانياً: أن الأجيال السابقة كانوا طوال القامة، وأن قامتهم أخذت تقصر شيئاً فشيئاً، حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن. قال في " هداية الباري ": ولا يشكل عليه ما يوجد الآن من آثار الأمم الخالية كديار ثمود في الجبال، فإنها تدل على عدم إفراط طولهم لأن تلك البيوت الجبلية اتخذوها مأمناً مما يحيق بهم، لا مساكن للتمتع حتى يشيدوها، ويرفعوا سقوفها كما يرشد إليه قوله تعالى: (وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ) . المطابقة: في قوله: " خلق الله آدم وطوله ستون ذراعاً " الحديث: أخرجه الشيخان.
917 - معنى الحديث: أنه لا ترتكب جريمة قتل في هذه الأرض فتقتل نفس بشرية بغير حق إلاّ كان على القاتل الأول وهو قابيل بن آدم وولده البكر نصيب من وزرها، لأنه أوّل من سن القتل، وتجرأ عليه ظلماً وعدواناً، كما قال الله تعالى: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) أي فطاوعته نفسه أن يقتل أخاه " هابيل " فخسر الدنيا والآخرة(4/179)
797 - " بَابُ قِصَّةِ يَأجُوجَ وَمَأجُوجَ "
918 - عَنْ زَيْنَبَ بنْتِ جَحْش رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعَاً يَقُولُ: " لا إلهَ إلَّا اللهُ، وَيْل لِلْعَربِ مِنْ شَر قَدْ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأجُوجَ ومَأجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ -وَحَلَّقَ بأُصْبُعِهِ الإبهَامَ والتي تَلِيهَا- قالَتْ زَيْنَبُ بنْتُ جَحْشٍ: أنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: " نَعَمْ إذَا كَثُرَ الْخَبَثُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وكان عليه دم أخيه، ونصيب من دم كل نفس تقتل إلى يوم القيامة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن قابيل هو أوّل أولاد آدم عليه السلام، وأول ذريته وهو ما ترجم له البخاري كما يدل عليه قولى - صلى الله عليه وسلم -: " إلاّ كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ". ثانياًً: أن أوّل جريمة قتل وقعت على هذه الأرض هي جريمة قابيل حين قتل أخاه هابيل، فكان أوّل من سن القتل، ولهذا ما من جريمة قتل تحدث إلاّ وعليه كفل من دمها، والمطابقة: في قوله: " إلّا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها ". الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة.
797 - " باب قصة يأجوج ومأجوج "
وهما جنسان متوحشان من البشر يتكونان من قبائل كثيرة تبلغ اثنتين وعشرين قبيلة كما أفاده محيي السنة،
918 - معنى الحديث: تحدثنا زينت بنت جحش رضي الله عنها " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها فزعاً يقول: لا إله إلاّ الله " أي دخل عليها خائفاً مضطرباً، يلهج لسانه بكلمة التوحيد -كما هي عادته- صلى الله عليه وسلم - عند الخوف من شيء ما، إيذاناً بتوقع أمر مكروه يحدث في هذا العالم لا نجاة(4/180)
منه إلا بالالتجاء إلى الله، والاستجارة بسلطانه. " فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعيه الإِبهام والتي تليها " أي فتح اليوم من سد يأجوج ومأجوج الذي بناه ذو القرنين ليكون مانعاً لهما من غزو الشعوب المجاورة ثغرة صغيرة مثل الحلقة التي تُرى عند إيصال طرف السبابة بأصل الإِبهام، قال القسطلاني: والمراد بالتمثيل التقريب لا حقيقة التحديد، قالت زينب: " فقلت: أنهلك وفينا الصالحون " أي كيف يسلّط الله علينا هذه الشعوب المتوحشة فتهلكنا وتقضى علينا وفينا المؤمنون الصالحون، وكأنها أخذت ذلك من قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) " فقال - صلى الله عليه وسلم -: نعم إذا كثر الخبث " أي نعم يهلك العامة بفساد الخاصة، ولو كان فيهم الصالحون إذا انتشرت الفواحش، وفشت المنكرات، ولم ينكرها أحد، كما قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) .
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجود يأجوج ومأجوج، واختراقهم للسد في آخر الزمان قرب الساعة. كما تحدَّث عنهم القرآن في سورة الكهف، وذكر أنهم شعوب مخربة حمى الله البشريّة من شرهم بذلك السد، وكما ورد ذكرهم في بعض الأحاديث الصحيحة كحديث الباب، وحديث النواس بن سمعان حيث قال فيه: " فبينما هو كذلك إذا أوحى الله تعالى إلى عيسى أني قد أخرجت عباداً لا يدان لأحد بقتالهم -أي لا يقدر أحد على حربهم- فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها.
ثم قال: ويحصر نبي الله عيسى حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار، فيرغب نبي الله، فيرسل الله عليهم النغف -أي الدود- فيصبحون فرسى -أي قتلى- كموت نفس واحدة " أخرجه مسلم.
وأرجح ما وصل إليه الباحثون في شأنهم أن يأجوج هم التتر ومأجوج هم المغول أي أنهما من هذين الشعبين وأصلهما من أب واحد يسمى " ترك "(4/181)
وقد كانوا يسكنون الجزء الشمالي من آسيا، وتمتد بلادهم ما بين التيبت والصين إلى المتجمد الشمالي شمالاً، وتركستان الشرقية غرباً، ويذكر المؤرخون أن هذه الأمم المتوحشة كانت تغير على الأمم المجاورة لها كثيراً حتى وصل غزوهم الوحشي في العهد القديم إلى أوربة، وكثيراً ما أغاروا على بلاد الصين وآسيا الغربية التي كانت مقر الأنبياء، وقد تحدث القرآن عنهم كما تحدث أيضاً عن " سد يأجوج ومأجوج " وجاء ذكره في حديث الباب كما جاء ذكرهم أيضاً.
وقد تسربت بعض هذه الشعوب المتوحشة إلى الشرق الأوسط وتحقق ذلك بغزو التتار للمسلمين والعرب، وتخريبهم لبلادهم، وقضائهم على الدولة العباسية، واستيلائهم على بغداد وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - اقتحامهم لهذا السد في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بأصبعه الإِبهام والتي تليها ". أما هذا السد ومكانه، وأين هو؟ فليس في ذلك نص صريح عليه، وقد دلت الكشوفات العلمية على وجود سدين عظيمين " أوّلهما " شرقي البحر الأسود بالقرب من (1) مدينة باب الأبواب، وقد اكتشف في القرن الحالي. والثاني وراء نهر جيحون في عمالة بلخ واسمه باب الحديد بمقربة من مدينة ترمذ، والذي تدل عليه الدلائل التاريخية والكشوفات العلمية أن سد يأجوج ومأجوج هو هذا السد الأخير الذي وراء نهر جيحون والمسمى بسد باب الحديد، لأنه هو الذي اخترقه التتار والمغول أثناء زحفهم على البلاد الاسلامية، وهو الذي اجتازه هولاكو بجيوشه الغازية لغزو الخلافة العباسية في عهد الخليفة المستعصم بالله، حيث استولى على بغداد في أواسط القرن السابِع الهجري، ووقعت فريسة للسلب والنهب سبعة أيام سالت فيها الدماء أنهاراً، وطرحوا كتب العلم في نهر دجلة وجعلوها جسراً يمرون عليه. وقد مر بهذا السد المسمى " بسد باب الحديد " والذي يترجح أنه سد يأجوج
__________
(1) " تفسير المراغي " ج 16.(4/182)
798 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالى (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) "
919 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أكْرَمُ النَّاس؟ قَالَ: " أتْقَاهُمْ "، فَقَالُوا: لَيْسَ عن هذَا نَسْألكَ؟ قَال: "فَيوسفُ نَبِيُّ اللهِ ابْنُ نَبِيِّ اللهِ ابْنِ نَبِيِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومأجوج العالم الألماني " سيلد بليجر " في القرن الخامس (1) عشر الميلادي وسجله في كتابه، كما ذكره المؤرخ الإِسباني " كلافيجو " في رحلته التي قام بها عام 1403 م وذكر أنه بين سمرقند والهند. ثانياًً: أن الأمة إذا نشأ فيها الفساد هلكت ولو كان فيها الصالحون، وكذلك إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، أو جهروا بالمنكرات، فقد روى مالك في " الموطأ " عن إسماعيل ابن أبي حكيم أنّه سمع عمر بن عبد العزيز يقول: كان يقال إن الله تبارك وتعالى لا يعذّب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلُّهم. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج ".
798 - " باب قول الله تعالى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) "
919 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل " من أكرم الناس " أي من أفضل الناس وأعلاهم منزلةً عند الله تعالى " قال: أتقاهم " أي أكثرهم طاعة لله، وامتثالاً لأمره، وعملاً بشريعته " فقالوا: ليس عن هذا نسألك " أي لسنا نسألك عن أفضل الناس من جهة الأعمال الصالحة " قال: فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله " أي إن كنتم تريدون أن تتعرفوا على أفضل الناس عامة من جهة النسب الصالح فهو يوسف عليه السلام
__________
(1) " في ظلال القرآن " المجلد الرابع.(4/183)
اللهِ بْنِ خَلِيل اللهِ" قَالُوا: لَيْس عَن هَذَا نَسْألكَ، قَال: " فعن مَعَادِنِ العَرَبِ تَسألونَ؟ خِيَارُهُمْ في الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإِسْلامِ إذَا فَقُهُوا ".
ْ920 - عن أبي هُرَيَرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ عليْهِ السَّلَامُ إِلَّا ثَلاثَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأنه جمع بين نبوة نفسه ونبوة أبيه يعقوب عليه السلام ونبوة جده الأول إسحاق عليه السلام، وخلة جده الثاني إبراهيم عليه السلام، فهو نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله إبراهيم عليه السلام. الذي وصفه الله تعالى بقوله: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) لشدة محبته لله تعالى، وإفراده بها دون سواه " قالوا: ليس عن هذا شألك " أي لا نسألك عن أشرف الناس نسباً " قال: فعن معادن العرب تسألون " أي فهل تسألون عن أشرف العرب نسباً وأفضلهم حسباً إن كنتم تريدون ذلك فالعرب " خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا " أي أشرفهم قبل الإِسلام نسباً وحسباً هو أشرفهم بعد الإِسلام إذا جمع إلى شرف النسب شرف الإِسلام والتفقه في الدين.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على وصف إبراهيم عليه السلام بالخلة، وهي إفراد الله تعالى دون غيره بالمحبة الخالصة، كما قال عز وجل: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) . والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ابن خليل الله ". الحديث: أخرجه الشيخان.
920 - معنى الحديث: أن خليل الله إبراهيم عليه السلام كان المثل الأعلى في الصدق، لم يكذب طول حياته سوى ثلاث كذبات كلها جائزة مشروعة، لأنها ليست كذباً في الحقيقة، وإنما سماها بذلك لمخالفتها الواقع في الظاهر، فهي ثلاثة أقوال صحيحة تخالف الواقع ظاهراً، وتوافقه حقيقة وهو(4/184)
كَذَبَاتٍ، ثِنْتَيْون مِنْهُنَّ في ذَاتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَوْلُهُ: (إِنِّي سَقِيمٌ) وقَوْلُهُ: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) وقَالَ: بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْم وَسَارَةُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
معنى قوله: " لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلاّ ثلاث كذبات " قال أبو البقاء: الجيد أن يقال بفتح الذال في الجمع لأنه جمع كذبة بسكون الذال تقول كذب كذبة، كما تقول ركع ركعة، قال: وأما إطلاقه الكذب على الأمور الثلاثة فلكونه قال قولاً يعتقده السامع كذباً، لكنه إذا حقق لم يكن كذباً لأنه من باب المعاريض المحتملة للأمرين. اهـ: ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " ثنتان منهن في ذات الله عز وجل " أي ثنتان من الثلاث كانتا لأجل الله تعالى وحده دون أن يكون فيهما أي حظ لنفسه وهما قوله: (إِنِّي سَقِيمٌ) لأنه قال ذلك ليتخلص من الخروج معهم إلى معبدهم، ومشاركتهم في عبادتهم الباطلة، وقوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) لأنه قاله ليستدل به على ضعف آلهتهم، فهاتان الكذبتان في ذات الله تعالى، بخلاف الثالثة، فإنها كانت للتخلص من ذلك الجبار، ثم ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الكذبات الثلاث: الأولى: " قوله: (إِنِّي سَقِيمٌ) " وسماها " كذبة " لأنّه قول يخالف الواقع في ظاهره، حيث إنه لم يكن مريض الجسم، ولكنه أراد أنه سقيم القلب، فهو باعتبار هذا المعنى الذي قصده إبراهيم ليس كذباً، وإنما هو عين الصدق. والثانية: " قوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) " وقد سماه " كذبة " باعتبار الظاهر الذي فهموه من أن الصنم الأكبر غضب من عبادتهم للأصنام الأخرى فكسرها في حين أنه أراد - كما قال بعضهم: إن هذا الصنم الكبير هو السبب الذي دفعني إلى تحطيم الأصنام الأخرى لأني لما رأيتها مصطفة حوله تعظيماً وتقديساً له حطمتها كلها إمعاناً في إذلاله، واستدلالاً على ضعفه ومهانته، وعجزه عن الدفاع عنها، ولو كان رباً قادراً عزيزاً لدافع عنها وحماها، "وقال بينا(4/185)
إِذْ أتَى على جَبَّار مِنَ الْجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَا هُنَا رَجُلاً معهُ امْرَأةٌ من أحْسَنِ النَّاسِ، فأرْسَلَ إلَيْهِ، فَسَألهُ عَنْهَا، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أخْتِي، فَأتَى سَارَةَ، فَقَالَ: يا سَارَةُ لَيْسَ على وجْهِ الأرْضِ مُؤمِن غَيْرِي وَغيْرُكِ، وِإن هَذا سَألنِي فأخْبَرْته أنَّكِ أُخْتِي فلا تُكَذبِيني، فأرْسَل إليهَا، فلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ فَأخِذَ، فَقَالَ: ادْعِي اللهَ لي ولَا أضرٌّكِ، فَدَعَتِ اللهَ فأُطْلِقَ، ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ فَأخِذَ مِثْلَهَا، أو أشَدَّ، فَقَالَ: ادْعِى اللهَ لي ولا أضُرُّكِ، فدَعَتِ اللهَ فأطْلِقَ، فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ فَقَالَ: إنَّكُمْ لَمْ تَأتُونِي بِإِنْسَانٍ، إِنَّمَا أرتيْتُمُونِي بِشَيْطَانٍ، فَأخْدَمَهَا هَاجَرَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هو ذات يوم وسارة إذا أتي على جبار " أي قال - صلى الله عليه وسلم - في بيان الكذبة الثالثة لما قدم إبراهيم أرض مصر التي كان يحكمها جبار من الجبابرة، وبصحبته زوجته سارة " فقيل له " أي للجبار " إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس " صورة " فأرسل إليه، فسأله عنها قال: من هذه قال: أختي " وسماه كذبةً باعتبار الظاهر حيث فهم منه الجبار أنّها أخته نسباً في حين أنه أراد أنها أخته في الدين، فجوابه صدق مطابق للواقع بهذا المعنى، " فلما دخلت عليه " أي على جبار مصر " ذهب يتناولها بيده فأخذ " وفي رواية مسلم: " فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة " وفي رواية: " فقامت تتوضأ وتصلى فَغُطَّ (بضم الغين) حتى ركض برجله، أي اختنق، حتى صار كأنه مصروع " فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت الله فأطلق " وزالت عنه الحالة التي كان عليها، ولكنه لم يعتبر بما حدث له، بل طمع فيها مرة أخرى كما قال: " ثم تناولها الثانية فأخذ مثلها " أي فأصيب بمثل ما أصيب في المرة الأولى " فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت الله فأطلق " ورجع إلى حالته العادية، فكف نفسه عنها،(4/186)
فَأتَتْهُ وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي، فَأوْمَأ بِيَد مَهْيَمُ، قَالَتْ: رَدَّ اللهُ كَيْدَ الْكَافِرِ أو الفَاجِرِ في نَحْرِهِ، وأخْدَمَ هَاجَرَ، قَالَ أبو هُرَيْرَةَ: تِلْكَ أمُّكُم يا بني مَاءِ السَّمَاءِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويئس منها " فدعا بعض حجبته، فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان، وإنما أتيتموني بشيطان " وفي رواية ما أرسلتم إلي إلاّ شيطاناً، ارجعوها إلى إبراهيم، قال الحافظ: وهذا يناسب ما وقع له من الصرع، " فأخدمها هاجر " أي فوهب لها هاجر - بفتح الجيم لتخدمها، وهو اسم سرياني " فأتته وهو قائم يصلي فأومأ بيده " مهيم " بفتح الميم وسكون الهاء أي ما حالك وما شأنك " قالت: رد الله كيد الكافر أو الفاجر في نحره " وهو مَثَل تقوله العرب لمن أراد أمراً باطلاً فلم يصل إليه: أي خيَّب أمله وحال بينه وبين مقصوده " وأخدم هاجر " قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء " أي فتلك المرأة التي هي هاجر هي أمكم أيها العرب، لأنها أم إسماعيل، وهو جد العدنانيين من العرب ويقال: إن أباها كان من ملوك القبط، وإنما نسب العرب إلى ماء السماء نسبة إلى الفلوات التي بها مواقع القطر، وقيل أراد بماء السماء زمزم قال ابن حبان في صحيحه: " كل من كان من ولد إسماعيل يقال له: ماء السماء، لأن إسماعيل ولد هاجر وقد ربي بماء زمزم وهي من ماء السماء.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل إبراهيم عليه السلام، وذكر بعض أخباره، وأن تصرفاته وأعماله وأقواله كانت لله وفي الله كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ثنتان منهن في ذات الله عز وجل " ثانياًً: أن إبراهيم لم يكذب في حياته سوى هذه الثلاث، وهي ليست كذباً في الحقيقة، وإنما هي " تورية "، ومعناها أن يأتي المتكلم بكلمة لها معنى قريب يتبادر إلى ذهن(4/187)
921 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
"أوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطق مِنْ قِبَلِ أمِّ إسْمَاعِيلَ، اتَّخَذَتْ مِنْطَقاً لِتُعْفِّيَ أثرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وبابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ، وهيَ ترضِعُهُ حَتَّى وَضَعْهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ في أعْلَى الْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاء، فوضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَاباً فِيهِ تَمْرٌ، وسِقَاءٌ فِيهِ مَاء، ثُمَّ قَفَّى (1) إبْراهِيمُ مُنْطَلِقَاً، فَتَبِعَتْهُ أمُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السامع، ومعنى بعيد لا يخطر بباله، فيقصد المعنى البعيد ليخفي عن المخاطب أمراً تقضي الحاجة أو الضرورة إلى إخفائه، وهو ما أراده إبراهيم عليه السلام، كما وضحناه أثناء شرحنا للحديث. وليس هناك كذاب حقيقي، فالأنبياء لا يكذبون، لأنهم معصومون، وأطلق عليه الكذب تجوزاً لكونه على صورته، وإلّا فهو من باب المعاريض وهي فسحة ووقاية من الكذب كما في الخبر " إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ". الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون هذه الأشياء المذكورة في هذا الحديث تدل على خُلَّة إبراهيم وكمال محبته.
921 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " أوّل ما اتخذ النساء المنطق " بكسر الميم وفتح الطاء، وهو قطعة من قماش تشد بها المرأة وسطها، وتجر أسفله على الأرض " من قبل أم إسماعيل " أي من جهة هاجر أم إسماعيل، وبسببها، فهي أوّل امرأة فعلت ذلك، وسببه أن سارة كانت قد وهبت هاجر لإبراهيم عليه السلام، فلما ولدت إسماعيل غارت منها، فشدت المنطق، وصارت تجر أسفله على الأرض، لتخفي آثار أقدامها، ثم أمره الله تعالى أن يذهب بها إلى مكة ففعل، ولم يكن هناك بيت ولا بناء ولا زرع ولا ماء، فوضعها تحت شجرة هناك فوق مكان زمزم، وكان إسماعيل رضيعاً، ومكة
__________
(1) قفى بتشديد الفاء يعني ولى راجعاً إِلى الشام كما أفاده العيني.(4/188)
إسْمَاعِيلَ، فَقَالَتْ: يا إِبْرَاهِيمُ أينَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الذي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ ولا شَيْءٌ، فَقَالَتْ لَهُ: ذَلِكَ مِرَاراً، وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ آللهُ الَّذِي أمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إبْراهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الْثَّنِيَّةِ حَيْث لَا يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ ثُمَّ دعَا بَهُؤلاءِ الكَلَمَاتِ، ورَفَعَ يَدَيه فَقَالَ (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ -حَتَّى بَلَغَ- يَشْكُرُونَ) وجَعَلَتْ أمُّ إسْمَاعِيلَ ترضِعُ إِسْمَاعِيلَ، وتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءَ، حَتَّى إذَا نَفِذَ ما في السِّقَاءِ عَطِشَتْ، وَعَطِشَ ابْنُهَا، وجَعَلَتْ تَنْظر إليْهِ يَتَلَوَّى، أوْ قَالَ: يَتَلَبَّطُ، فانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صحراء قاحلة، وترك لها جراب تمر وسقاء ماء، وعاد راجعاً إلى الشام فقالت له: أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي المقفر؟ وأعادت السؤال مراراً، ثم قالت: هل أمرك الله بذلك؟ قال: نعم، قالت: ما دام قد أمرك بذلك، فلن يضيّعنا، وحسبي الله حافظاً ورازقاً، ثم عادت، وسار إبراهيم متضرعاً إلى الله تعالى أن يحفظ ولده، وأن يرزقه وذريته وأن يحوّل هذه الصحراء إلى مدينة عامرة، يأتيها الناس من كل فج عميق " فقال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ " أي لا نبات فيه " عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ " أي إنما فعلت ذلك ليصبح هذا البيت قبلة للناس في صلاتهم " (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) " أي فاجعل جماعات من الناس تأتيهم " (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) " قال في التفسير المنير: إنما طلب تيسير المنافع لأولاده لأجل أن يتفرغوا لإقامة الصلاة، وأداء الواجبات. اهـ. وقال الزمخشري: فأجاب الله دعوة خليله، فجعله حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل(4/189)
فَوَجَدَتِ الصَّفَا أقْرَبَ جَبَل في الأرْضِ يلِيهَا، فَقَامت عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الْوَادِي تَنْظرُ هَلْ تَرَى أحداً، فَلَمْ تَرَ أحداً، فَهَبَطَتْ مِنْ الصَّفَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثمَّ سَعَتْ سَعْي الإنْسَان الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الوَادِيَ، ثُمَّ أتت المَرْوَةَ، فَقَامت عَلَيْهَا وَنَظرَتْ هلْ تَرَى أحَداً، فَلَمْ تَرَ أحَداً، ففعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فلذَلِك سَعْيُ النَّاس بَيْنَهُمَا (1) ، فلمَّا أشْرَفَتْ على الْمَرْوَةِ سَمِعتْ صَوْتاً، فَقَالَتْ: صَهٍ (2) تُرِيدُ نَفْسَهَا، ثم تَسَمَّعَت (3) فَسَمِعَتْ أيضاً، فَقَالَتْ: قدْ أسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ، فَإِذَا هِى بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعِقْبِهِ -أو قَالَ بِجَنَاحِهِ- حتى ظَهَرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شيء رزقاً من لدنه، ثم فضله في وجود أصناف الثمار فيه على كل قرية وعلى أخصب البلاد وأكثرها نماءً، قال ابن عباس: " وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال: يتلبط " أي يحرك لسانه، ويكاد يموت من شدة العطش، فلم تطاوعها نفسها أن تراه على تلك الحالة، وذهبت تبحث عن الماء " فأنطلقت كراهية أن تنظر إليه " وهو على وشك أن يموت من العطش " ثم سعت سعي الإِنسان المجهود " تبحث عن الماء بين الصفا والمروة سبع مرات، فشرع الله للناس السعي في الحج من أجل ذلك، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، " فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صه " بالبناء على الكسر اسم فعل أمر بمعنى اسكتي " تريد نفسها " أي طلبت من نفسها السكوت لكي تتعرف عن مصدر
__________
(1) أي وكان ذلك سبب مشروعية السعي بين الصفا والمروة.
(2) بفتح الصاد وسكون الهاء أو بكسرها منونةً أي اسكتي كما أفاده العيني.
(3) أي اجتهدت في الاستماع.(4/190)
الْمَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيدِهَا هَكَذَا، وجَعَلَتْ تَغْرِفُ من الْمَاءِ في سِقَائِهَا، وهو يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاس: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يَرْحَمُ اللهُ أمَّ إِسْمَاعِيلَ لوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ -أو قَالَ: لَوْ لَمْ تَغرِفْ مِنَ الْمَاءِ- لَكَانَت زَمْزُمُ عَيْنَاً مَعِيناً، قَالَ: فَشَرِبَتْ وأرضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَال لَهَا الْمَلَكُ: لا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتُ اللهِ يَبْنِي هَذَا الْغُلامُ وأبوهُ، وِإنَّ الله لا يُضِيعُ أهْلَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعَاً مِنَ الأرْضِ كالرَّابِيَةِ تَأتِيهِ السُّيولُ، فَتَأخُذُ عن يَمِينهِ وَشِمَالِهِ، فَكَانَتْ كَذَلِكَ حتى مَرَّتْ بِهِمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصوت، ومن أين أَتى " ثم تسمّعت فسمعت أيضاً " الصوت مرة أخرى " فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث " يعني قد سمعت صوتك، فإن كان عندك ما يغيثني فأغثني، " فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا " أي فصارت تحيطه بالتراب وتجعله حوضاً " لو تركت زمزم " ولم تحِّوضها " لصارت عيناً معيناً " أي عيناً جاريةً على وجه الأرض " فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة " أي لا تخافوا الضياع والهلاك لأنكم تحت رعاية الله تعالى " وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية " أي مرتفعاً قليلاً، ثم ذكر بقية الحديث أنه مرَّ بذلك المكان أو بالقرب منه جماعة مسافرون من جرهم مروا بأعلى مكة، فرأوا طيراً حائماً على الماء، فعرفوا أن بهذا الوادي ماء، وكان عهدهم به أنّه واد مقفر، فأرسلوا رسولاً من قبلهم، أو رسولين ليكشف لهم عن الحقيقة، فرجع إليهم رسلهم يخبرونهم عن وجود ماء في تلك البقعة، فأقبلوا على أم إسماعيل، واستأذنوا منها بالنزول في جوارها، فأذنت لهم بذلك، على أن لا يكون لهم حق التملك في ذلك الماء، وإنما لهم أن يشربوا منه فقط، وسكنت جرهم مكة منذ ذلك العهد، واستأنست بسكناهم معها، وشب الغلام في هذه(4/191)
رُفْقَة مَنْ جُرْهُمَ، أوْ أهل بَيْتٍ مِنْ جُرْهُم مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيق كَدَاءَ، فَنَزَلُوا في أسْفَلِ مكةَ، فرأوْا طَائِرَاً عَائِفاً (1) ، فَقالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ على مَاءٍ، لعَهَدُنَا بهَذَا الْوَادِي ومَا فِيهِ مَاءٌ، فأرْسَلُوا جَرِيَّاً (2) أوْجَرِيينِ، فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ، فَرَجَعُوا فأخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ، فأقْبَلُوا وأمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ المَاءِ، فَقَالُوا: أتُأذَنِينَ لَنَا أنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَلَكِنْ لا حَقَّ لَكُمْ في الْمَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاس: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: فألْفَى ذَلِكَ أمَّ إسْمَاعِيلَ وهيَ تُحِبُّ الأنْسَ، فَنَزِلُوا وأرْسَلُوا إلى أهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حتى إِذَا كَانَ بِهَا أهْلُ أبْيَاتٍ مِنْهُمْ، وشَبَّ الْغُلامُ، وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ، وأنفَسَهُمْ وأعجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأةً مِنْهُمْ، وَمَاتَتْ أمُّ إِسْمَاعِيلَ، فجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ، يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فلم يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ، فَسَأل امْرَأتَهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، ثُمَّ سَألهَا عن عَيْشِهِمْ وهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نحنُ بِشَر، نَحْنُ في ضِيق وشِدَّةٍ، فشكَتْ إِلَيْهِ، قَالَ: فإذَا جَاءَ زَوْجُكِ فاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلامَ، وقولي لَهُ يُغَير عَتَبَةَ بَابِهِ، فلما جاءَ اسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنسَ شَيْئاً، فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أحَدٍ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القبيلة، وتعلم منهم اللغة العربية، ثم لما بلغ الرشد زوجوه امرأة منهم اسمها عمارة بنت سعد، قال الراوي: " وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته " أي يتفقد حال أهله وولده " فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا " أي يطلب لنا الرزق " ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم " أي حالتهم "فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة،
__________
(1) وهو الذي يحوم حول الماء.
(2) جرياً أي رسولاً.(4/192)
قَالَتْ: نَعَمْ، جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، فسألَنَا عَنْكَ فأخْبَرْتُهُ، وسألَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فأخْبَرْتُهُ أنَّا في جَهْدٍ وشِدَّةٍ، قَالَ: فَهَلْ أوْصَاكِ بِشَيءٍ، قَالَتْ: نَعَمْ، أمَرَنِي أن أقْرأ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ: غَيِّر عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكَ أبِي، وقد أمَرَنِي أنْ أفَارِقَكِ، الْحَقِي بأهْلِكِ، فَطَلَّقَهَا، وتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى، فلَبِثَ عَنْهُمْ إبراهِيمُ ما شَاءَ الله، ثم أَتَاهُمْ بعدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَل على امْرأتهِ فسألَهَا عَنْهُ قَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، قَالَ: كَيْفَ أنتُمْ؟ وسألها عن عَيْشِهِمْ وهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسِعَةٍ، وَأثْنَتْ عَلى اللهِ، فَقَالَ: ما طَعَامُكُمْ؟ قَالَتْ: اللَّحْمُ، قَالَ: فَما شَرَابُكُمْ، قَالَتْ: الْمَاءُ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ في اللَّحْمِ والْماءِ، قَال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ولم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له: يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئاً فقال: هل جاءكم من أحد؟ " أي فلما جاء إسماعيل وكان قد أحس في نفسه أنه جاءها أحدٌ، فسألها قائلاً: هل جاءكم من أحدٍ؟ " قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا " أي صفته كذا، وأخبرته بكل ما دار بين أبيه وبينها، وبقوله غيّر عتبة بابك، " قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك " أي أن أطلقك " الحقي بأهلك " أي أنت طالق فاذهبي إلى أهلك، وهو من كنايات الطلاق " وتزوج منهم امرأة أخرى " وهي رعلة بنت مضامن بن عمرو الجرهمية " فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله " يعني مدة من الزمن " ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته، فسألها عنه، قالت: خرج يبتغي لنا " أي يسعى في طلب الرزق " قال: كيف أنتم، وسألها عن عيشهم وهيئتهم " أي سألها عن معيشتهم وأحوالهم " فقالت: نحن بخير وسعة " أي نحن في نعمة من الله وسعة في الرزق " وأثنت على الله " أي حمدت ربها(4/193)
يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ، ولو كان لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ، قَالَ: فهما لا يَخْلُو عَلَيْهِما أحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ، فاقْرَئي عَلَيْهِ السلامُ، ومُرِيه يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ، فلما جَاءَ إسْمَاعِيلُ قال: هَلْ أتَاكُمْ مِنْ أحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أتانا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ وأثْنَتْ عَلَيْهِ، فسألَنِي عَنْكَ، فأخْبَرْتُهُ، فسَألنِي كَيْفَ عَيشُنَا فأخْبَرْتُهُ أنَّا بِخَيْرٍ، قال: فأوصَاكِ بِشَيءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، هو يَقْرأ عَلَيْكَ السَّلامَ، وَيَأمُرُكَ أن تُثْبِتَ عتبةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكَ أبِي وأنتِ العَتَبَةُ، أمَرَنِي أنْ أمْسِكَكِ، ثم لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللهُ، ثم جاء بَعْد ذَلِكَ، وإسْماعِيلُ يَبْرِي نَبْلاً له تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيباً من زَمْزَمَ، فلمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ فَصَنَعَا كما يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ، وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ، ثُمَّ قَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ إنَّ اللهَ أمَرَنِي بأمْرٍ، قَالَ: فاصْنَعْ مَا أمَرَ رَبُّكَ، قَالَ: وتُعِينُنِي عَلَيْهِ، قَالَ: وَأعِينُكَ قَال: فَإنَّ الله أمَرَنِي أن أبْنِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وشكرته، لأنها كانت راضية بما قسم لها شأن المرأة الصالحة " فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء " أي فسألها عن طعامهم وشرابهم الذي يعيشون عليه، فذكرت أنّ طعامهم اللحم، وشرابهم الماء. " قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء " فدعا لهم بالبركة في اللحم والماء، فكانوا يقتصرون عليهما دون أن يتضرروا منهما، وأصبح ذلك خاصاً بمكة دون غيرها من البلاد، فإنه لا يقتصر أهل بلد عليهما إلاّ تضرر منهما كما قال: " فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلاّ لم يوافقاه " ومعناه كما في حديث أبي جهم " ليس أحد يخلو (1) على اللحم والماء بغير مكة إلاّ اشتكى بطنه،
__________
(1) أي يعتمد ويداوم.(4/194)
هَا هُنَا بَيْتاً وأشَارَ إلى أكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ على مَا حَوْلَهَا، قَالَ: فعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِد مِنَ البَيْتِ، فَجَعَلَ إسْمَاعِيلُ يَأتِي بِالْحِجَارِةِ وإبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حتى إِذَا ارْتَفعَ الْبِنَاءُ، جَاءَ بِهَذا الْحَجَرِ، فَوَضَعَهُ لَهُ، فَقَامَ عَلَيهِ وَهُوَ يَبْنِي وإسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، وهُمَا يَقُولانِ (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، قَالَ: فَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ البَيْتِ وَهُمَا يَقُولَانِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم أحد " فأخبرته عن الشيخ الذي جاءها في غيابه، وبأوصافه وما دار بينه وبينها " قال: ذاك أبي وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك " أي أن أبقيك في عصمتي " ثم جاء بعد ذلك، وإسماعيل يبري نبلاً " أي ينحت سهماً ويصلحه " فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد " أي فعانقه معانقة الوالد لولده. " ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر " أي أمرني أن أقوم بعمل في هذا المكان، ثم طلب من ولده إسماعيل أن يعينه، عليه ثم " قال: إن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتاً وأشار إلى أكمة مرتفعة " أي إلى ربوة مرتفعة قليلاً عن سطح الأرض ليبين له المكان الذي أمر ببناء الكعبة فيه، وهو فوق تلك الأكمة " قال: فعند ذلك رفعا القواعد " أي شرعا في البناء حتى رفعا الأسس التي يقوم عليها البيت " فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء " أي علا وأصبح لا تطوله يده " جاء بهذا الحجر " الموجود حالياً في المقام " فقام عليه، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " فيدعوان الله بقبول في بنائهما هذا، والرضا عنهما فيه، لأنه السميع لدعائهما، العليم ببنائهما.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن في هذه القصة(4/195)
922 - عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعَوِّذُ الْحَسَنَ والْحُسَيْنَ وَيَقُولُ: "إِنَّ أباكُمَا كَانَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العجيبة ما يدل على أن إبراهيم عليه السلام خليل الله حقاً، وأن محبته لله قد تغلبت على كل مشاعره فأطاعه في كل شيء حتى في مفارقة ولده الوحيد لأنه يحبه فوق كل شيء، ويؤثره على كل موجود، فأي مقام في الخلة أعظم من هذا المقام الذي جعله يفادي بولده في سبيل مرضاة ربه، وهو ما عناه الله تعالى بقوله: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) . ثانياًً: أن إبراهيم دعا لمكة أن يسوق الله تعالى إليها وفود الحجاج والمعتمرين وأن تأتيها الأرزاق من كل حدب وصوب، حيث قال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) فاستجاب الله دعوته، وشرع للناس حج بيته في الأديان الحنيفية كلها. ثالثاً: أصل مشروعية السعى بين الصفا والمروة وأن هاجر كانت أوّل من سعى بينهما. رابعاً: ظهور بئر زمزم وسبب ظهورها حيث أظهرها الله تعالى رحمة بهاجر وولدها إسماعيل حيث حفر جبريل الأرض بمؤخر قدميه فظهر الماء. خامساً: بداية عمران مكة، ومتى سكنتها جرهم، ونشأة إسماعيل في هذه القبيلة وتعلمه العربية منهم. سادساً: أن العرب ليسوا جميعاً من نسل إسماعيل لأن قبيلة جرهم العربية كانت قبل إسماعيل كما يدل عليه حديث الباب، ولهذا قال الحافظ: وهذا لا يوافق من قال: إن العرب كلها من ولد إسماعيل. سابعاً: أن المرأة الكثيرة الشكوى والتبرم من عيشها، والجاحدة لنعمة الله عليها، هي في الحقيقة امرأة سوء، ولذلك أمر إبراهيم إسماعيل بطلاق زوجته الأولى. ثامناً: خصوصية مكة المكرمة في الجمع بين اللحم والماء وحدهما. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في كون ما فعله إبراهيم أعلى مقامات الخلة.
922 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كثيراً ما يعوذ الحسن(4/196)
يَعَوِّذُ بِهَا إسْمَاعِيلَ وِإسْحَاقَ: أعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنً لامَّةٍ".
799 - " بَابُ قَوْلِهِ تعَالى:
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى) "
923 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "نَحْنُ أحقُّ بالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إذ قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والحسين ويحصنهما بهذه التعويذة المأثورة، وهي قوله: " أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامّة " أي ألجأ إلى الله تعالى وأستجير به، وأسأله أن يحصّن الحسن والحسين بكلماته الجامعة لكل خير، المانعة من كل شر، أن يصونهما " من كل شيطان وهامة " بالتشديد واحدة الهوام وهي ذوات السموم " ومن كل عين لامّة " أي ومن كل عين شريرة تلم بالإِنسان فتصيبه بمكروه، وقد أخبرنا - صلى الله عليه وسلم - أن إبراهيم الخليل عليه السلام كان يعوذ ولديه بهذه التعويذة النافعة. الحديث: أخرجه أيضاً الأربعة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية هذه التعويذة المباركة التي كان إبراهيم عليه السلام يعوذ بها ولديه، وكان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يعوذ بها الحسن والحسين. ثانياًً: ثبوت وجود الأرواح الخفيّة، والعوالم غير المنظورة.
ثالثاً: تأثير العين فيمن تصيبه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ومن كل عين لامّة " قال ابن القيم: ومن التعوذات النافعة الإِكثار من قراءة المعوذتين وفاتحة الكتاب وآية الكرسي. والمطابقة: في قوله: " إن أباكما -أي إبراهيم الخليل- كان يعوّذ بهما "
799 - " باب قوله تعالى:
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى) "
923 - معنى الحديث: روي في سبب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا الحديث(4/197)
(رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ويَرْحَمُ اللهُ لُوطاً، لقد كَانَ يَأوِي إلى رُكْن شَدِيدٍ، ولوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ طُوْلَ ما لَبِثَ يُوسُفُ لأجَبْتُ الدَّاعِيَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أنه لما نزل قوله تعالى: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى) قال بعض الناس: شك إبراهيم ولم يشك نبينا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نحن أحق بالشك من إبراهيم " أراد بذلك - صلى الله عليه وسلم - المبالغة في نفي الشك عن إبراهيم، أي إذا كنا نحن لا نشك في قدرة الله على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى بعدم الشك، وإنما سأل إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى عياناً ومشاهدة ليطمئن قلبه كما قال: (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أي ليجمع إلى العلم النظري العلم الحسي، لأنه أبلغ في اليقين، ثم تذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - لوطاً عندما جاءه أضيافه فخاف عليهم من قومه فقال: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) فتعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله هذا وقال: " ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد " أي كيف يتمنى أن يجد معيناً وناصراً يحمي أضيافه من قومه، وقد كان يأوي إلى ركن شديد، وهو الله العزيز المقتدر ثم تحدث عن يوسف عليه السلام، فوصفه كما قال البغوي بالأناة والصبر حيث قال: (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) فإنه أرادْ أن لا يخرج من السجن حتى تظهر براءته فقال - صلى الله عليه وسلم - في مدحه والثناء عليه: " ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي " أي لأسرعت إلى الإِجابة، قال ذلك إعجاباً بصبر يوسف وقوة عزيمته. وهو من باب تواضع العظماء الذين لا يزيدهم تواضعهم إلاّ رفعة وعلواً وإلا فهو - صلى الله عليه وسلم - المثل الأعلى في الصبر والثبات.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: نفي الشك عن
إبراهيم عليه السلام، ودفع ما توهمه بعض الناس من أن إبراهيم قال: (رَبِّ(4/198)
800 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا) "
924 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" أَنَّ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا نَزَلَ الْحِجْرَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ أمرَهُمْ أنْ لا يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا ولَا يَسْتَقُوا مِنْهَا، فَقَالُوا: قَدْ عَجَنَّا مِنْهَا واسْتَقَيْنَا، فأمَرَهُمْ أنْ يَطرَحُوا ذلكَ الْعَجِينَ وَيُهْرِيقُوا ذَلِكَ الْمَاءَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى) شكاً منه في قدرة الله. ثانياًً: صبر يوسف وأناته.
الحديث: أخرجه الشيخان وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " نحن أحق بالشك من إبراهيم ".
800 - "باب قول الله تعالى: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا) "
924 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزل الحجر، وهي منازل ثمود في غزوة تبوك، أمر أصحابه أن لا يشربوا من آبارها، فأخبروه أنهم عجنوا بمائها وسقوا دوابهم منها، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بإلقاء ذلك العجين وإراقة ما تبقى من الماء.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن ديار ثمود كانت بالحجر في شمال الحجاز. ثانياً: قال النووي في الحديث النهي عن استعمال آبار الحجر، إلا بئر الناقة، ولو عجن منه عجيناً لم يأكله بل يعلفه الدواب. اهـ. والمطابقة: في قوله: " لما نزل الحجر " الحديث: أخرجه الشيخان.
***(4/199)
801 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ -إِلى قوله- وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) "
925 - عَنْ أبي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال:
قَالَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -: " كَمُلَ مِنَ الرِّجَالَ كَثِير، ولَمْ يَكْمَلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ، ومَرْيم بنْتُ عِمْرَانَ، وِإنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ على النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ على سَائِرِ الطَّعَامِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
801 - " باب قول الله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ -إِلى قوله- وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) "
925 - معنى الحديث: أن الذين بلغوا مرتبة الكمال في الفضائل الدينية والأخلاقية من الرجال كثيرون، منهم من بلغ مرتبة الكمال العادي كالعلماء والصلحاء والأولياء، ومنهم من بلغ أسمى مراتب الكمال كالأنبياء، أما اللواتي كملن من النساء فهن قليلات جداً، وعلى رأسهن آسية امرأة فرعون، وهي آسية بنت مزاحم التي ضرب الله بها المثل في كمال الإِيمان، فقال: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) وذلك لأنها آمنت بموسى حين تغلب على سحرة فرعون، فلما علم فرعون بإيمانها أوتد يديها (1) ورجليها بأربعة أوتاد، وألقاها في الشمس وأمر بصخرة عظيمة ألقيت عليها، فلما رأت الصخرة (قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) فأبصرت بيتها في الجنة من دُرَّةٍ بيضاء، وانتزع الله روحها فألقيت الصخرة عليها بعد وفاتها، ولم تجد ألماً. وأما الثانية: " فهي مريم بنت عمران التي ضرب الله بها المثل في حصانتها لنفسها، وكمال عبادتها ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "وإن فضل عائشة
__________
(1) " شرح العيني على البخاري " ج 15.(4/200)
على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " قال التوربشتي: الثريد أشهى الأطعمة عند العرب شبهت به عائشة لأنها أعطيت من حلاوة المنطق وعذوبة الحديث، والتحبّب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يُعْطَ غيرها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن عظماء الرجال والكاملين منهم كثيرون على مر العصور والأزمان، منهم الرسل والأنبياء، أما الكاملات من النساء وفضلياتهن فإنهن قليلات جداً، منهن آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران. ثانياًً: استدل بعضهم بهذا الحديث على نبوة آسية ومريم عليهما السلام لأن أكمل الناس الأنبياء ثم الأولياء فلو كانتا غير نبيتين للزم أن لا يكون في النساء ولية ولا صديقة. اهـ. إلاّ أن الحافظ ابن حجر أجاب عنه بأن فائدة ذكرهما بطريق الحصر اختصاصهما بكمال لم يشركهما فيه أحد من نساء زمانهما فهو دون مقام النبوة، قال: وذلك لما نقله العلماء من الإِجماع على عدم نبوة النساء لقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) . ثالثاً: فضل آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وكونهما أفضل الفضليات وأكمل الكاملات في عصرهن أو في سائر العصور. رابعاً: قال قتادة: كان فرعون أعتى أهل الأرض وأكفرهم، فوالله ما ضر امرأته كفر زوجها حين أطاعت ربها. والمطابقة: في كون الحديث يدل على كمال آسية ومريم، وهو معنى الآية الكريمة. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة.
***(4/201)
802 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) "
926 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " خُففَ على دَاوُدَ الْقُرآنَ فَكَانَ يَأمُرُ بِدَوَابِهِ فَتُسْرَجُ فَيَقْرَأ الْقُرآنَ قَبْلَ أن تُسْرَجَ دَوَابُّهُ، ولا يَاكلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَده ".
803 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى:
(وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) "
927 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
802 - " باب قول الله تعالى: (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا)
926 - معنى الحديث: قال - صلى الله عليه وسلم -: "خفف على داود القرآن " وقرآن كل نبي الكتاب الذي أنزل عليه. معناه: أن داود عليه السلام يُسِّر له قراءة الكتاب السماوي الذي أنزل عليه من ربه، وهو الزبور، فكان يأمر بوضع السرج على دابته ودواب أتباعه، فلا ينتهي خدمه وعماله من وضع السرج على ظهورها إلاّ وقد قرأ الزبور من أوّله إلى آخره، وأنّ الله علّمه صناعة الحديد، فكان لا يأكل إلاّ من كسب يده.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تخفيف الزبور على داود. ثانياًً: فضل الصناعة واستحبابها، وكونها من أعمال الأنبياء. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " خفف على داود القرآن ".
803 - " باب قول الله تعالى:
(وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) "
927 - معنى الحديث: كانت امرأتان من بني إسرائيل قد خرجتا إلى(4/202)
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " كَانَتْ امْرَأتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ صَاحِبَتُهَا: إنما ذَهَبَ بابْنِكِ، وقَالَتِ الأخْرَى: إنما ذَهَبَ باْبِنكِ، فَتَحَاكَمَا إلى دَاودَ فَقَضَى بِهِ للكُبْرَى، فَخَرَجَتَا على سُلَيْمَانَ ابْنِ دَاوُدَ فأخْبَرَتَاهُ فَقَالَ: ائْتُونِي بالسِّكِّيْنِ أشُقه بَيْنَهُمَا، فَقَالَتِ الصغْرَى: لا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللهُ هُوَ ابْنُهَا فقضَى بِهِ لِلصُّغْرَى ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
البرية وبصحبتهما ابناهما الصغيران، فعدا الذئب على أحد الطفلين وافترسه، وبقي الآخر، فادّعت كل واحدة منهما أن الطفل الموجود هو ابنها، وأن الذئب إنما افترس ابن الأخرى، فتحاكما إلى داود عليه السلام، فحكم به للكبرى منهما، لأنه كان في يدها بينة ولا بينة للصغرى، فخرجتا إلى سليمان بن داود وأخبرتاه بقضيتهما، فأراد أن يتوصل إلى معرفة أمه الحقيقية بما يتكشف له من مشاعرها وعواطفها، " فقال ائتوني بالسكين أشقه بينهما " فأمّا الكبرى فسكتت، وأما الصغرى فقد تحركت فيها مشاعر الأمومة وآثرت أن تسلمه للكبرى، وأن تضحي بنفسها إبقاءً على حياته، وهو معنى قوله: " فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله، هو ابنها فقضى به للصغرى " لما رآه من عظيم جزعها الدال على وجود عاطفة الأمومة فيها، ولم يكترث بإقرارها لأنّه علم أنّها آثرت حياته، فظهر له من وجود الشفقة في الصغرى وعدمها في الكبرى الدليل القاطع على صدقها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: قال ابن الجوزي: إنما حكما بالاجتهاد (1) إذ لو كان بنص لما ساغ خلافه، وفي الحديث دليل على اجتهاد الأنبياء، وأنهم قد يخطئون في اجتهادهم، ولكنهم لا يقرهم الله
__________
(1) " شرح العيني " ج 16.(4/203)
على الخطأ، بل ينزل الوحي ببيانه كما في هذه القضية حيث قال عز وجل: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) والمراد بالخطأ مخالفة الواقع ونفس الأمر، لا مخالفة الدليل والبينة الظاهرة، إذ لو كان الخطأ الاجتهادي هو مخالفة الظاهر لما كان صاحبه معذوراً ومأجوراً، كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا اجتهد الحاكم وأخطأ فله أجر واحد. فإنّ من خالف الدليل الظاهر، وحكم بخلاف البينة الثابتة أثم ولا شك، وقد حكم داود وسليمان بحكمين متناقضين، فلا بد أن يكون أحدهما خطأ وهو حكم داود عليه السلام، والثاني صواب، وهو حكم سليمان عليه السلام كما قال تعالى: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) . ثانياً: مشروعية استعمال الحيل في الأحكام، فإن سليمان فعل ذلك، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما تحيلاً على إظهار الحق، ولم يعزم على ذلك في الباطن وإنما أراد استكشاف الأمر، فحصل على مقصوده، وظهر له من قرينة شفقة الصغرى وعدمها في الكبرى أنها الأم الحقيقية، ويحتمل أن تكون الكبرى اعترفت بالحق لمّا رأت الجد ودلالة القرائن على كذبها، فحكم عليها سليمان بإقرارها، والإِقرار سيّد الأدلة. ثالثاً: فضل سليمان عليه السلام في العلم والفقه ومعرفة الأحكام الذي اقتضى ثناء الله عليه بقوله تعالى: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) . رابعاً: أن سليمان هو ابن داود عليهما السلام لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فخرجتا على سليمان ابن داود " وهو مطابق للآية الكريمة التي ترجم لها البخاري حيث قال تعالى: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ) الآية. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فخرجتا على سليمان بن داود ".
***(4/204)
804 - " بَاب (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) "
928 - عَنْ عَلي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيْجَةُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
804 - " باب (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) "
928 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " خير نسائها " أي أفضل نساء الأرض في عصرها، " وخير نسائها خديجة " أي خير نساء العرب خديجة رضي الله عنها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استدل بهذا الحديث من يقول بنبوة مريم عليها السلام لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " خير نسائها " قالوا: والمراد بقوله: " خير نسائها " أي خير نساء الأرض قاطبة في كل الأزمان والعصور هي مريم العذراء كما يؤكد ذلك ما جاء في الرواية الأخرى حيث قال: " خير نساء العالمين، مريم كقوله تعالى: (وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) قالوا: وهذا الاصطفاء والخيرية المطلقة، والأفضلية العامة على نساء العالمين تدل على نبوتها، وبه جزم الزجاج وجماعة من أهل العلم، واختاره القرطبي (1) . ثانياً: فضل السيدة خديجة رضي الله عنها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وخير نسائها خديجة " فذهب بعضهم على أنها أفضل نساء هذه الأمة، ورجحه القاضي أبو بكر ابن العربي.
الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) والصحيح أنه اختصاص بكمال، دون مقام النبوة، كما تقدم. (ع) .(4/205)
805 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا) "
929 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضي اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: " أنا أَوْلَى النَّاسِ بابْنَ مَرْيَمَ، والأَنْبِيَاءُ أوْلَادُ عَلَّاتٍ، لَيْسَ بَيني وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" خير نسائها مريم " فإن الخيرية تدل على الاصطفاء المذكور في الآية التي ترجم بها البخاري، والله أعلم.
805 - " باب قول الله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا) "
929 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " أنا أولى الناس بابن مريم " أي أنا أقربهم إلى عيسى عليه السلام وأعظمهم له حباً، وأعلمهم بقدره ومنزلته، ولكن مع ذلك لا أقول عيسى بن الله كما قالت النصارى، وإنما أقول هو عبد الله ورسوله كما نطق بذلك في المهد فقال: " إني عبد الله " " والأنبياء أولاد علات " بفتح العين وتشديد اللام، قال العيني: وهم الإِخوة لأب من أمهات شتى. كما أن الإخوة من الأم فقط أولاد أخياف، والأخوة من الأبوين أولاد أعيان. ومعناه أن أصول الأديان السماوية التي جاء بها الأنبياء واحدة، وفروعها مختلفة متعددة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - أعلم بقدر المسيح، وأشد له حباً من النصارى الذين يزعمون أنه ابن الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، ولكنه لا يقول فيه إلاّ كلمة الحق، وهي أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم الخ. ثانياًً: أن الأديان السماوية متفقة(4/206)
930 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "رَأى عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ رَجُلاً يَسْرِقُ، فَقَالَ لَهُ: أسَرَقْتَ؟ قَالَ: كَلَّا وَاللهِ الذِي لَا إلَهَ إِلَّا هُوَ، فَقَالَ عِيسَى: آمَنْتُ بِاللهِ وَكَذَّبْتُ عَيْني".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على أصول الإيمان، من الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، والمحافظة على حقوق الإنسان وإن كانت مختلفة في أحكامها الفقهية. والمطابقة: في كون الحديث يتعلق بعيسى الذي انتبذت به أمه مكاناً شرقياً.
930 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " رأى عيسى بن مريم رجلاً يسرق " أي شاهده بعينه وهو متلبس بالسرقة، " فقال له: سرقت " أي فأنكر عليه وقال له: لقد ارتكبت يا هذا جريمة السرقة، واقترفت كبيرة من الكبائر " قال: كلا والله الذي لا إلا هو " أي فأنكر الرجل، ونفى عن نفسه السرقة بشدة، وأكد ذلك بالقسم " فقال عيسى: آمنت بالله وكذبت عيني " أي صدقت من حلف بالله، وكذبت ما ظهر لي من كون ما أخذه هذا الرجل سرقة لاحتمال أنه أخذ شيئاً له فيه حق، أو أخذ مالاً أذن له فيه صاحبه. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الحديث يتعلق بعيسى.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل المسيح عليه السلام وشدة تعظيمه لله. ثانياًً: درء الحدود بالشبهات، لأن عيسى تراجع عن حكمه على الرجل بالسرقة لما ظهرت له بعض الشبهات والاحتمالات. ثالثاً: أن القاضي لا يحكم بعلمه، وإنما يحكم بالبينة أو اليمين، وهو مذهب الحنابلة، والراجح عند المالكية، وأجازه الشافعية في غير الحدود.(4/207)
931 - عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لَا تُطرونِي كما أطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أرنا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
931 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرصاً منه على توحيد الله تعالى، وخوفاً على أمته من الشرك الذي وقعت فيه الأم السابقة، حذَّرها عن الغلو فيه، ومجاوزة الحد في مدحه بنسبة أوصاف الله تعالى وأفعاله الخاصة به إليه. كما غلت النصارى في المسيح بوصفه بالألوهية والبنوة لله تعالى، فوقعت في الشرك كما قال تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) . " فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله " أي فصفوني بالعبودية والرسالة كما وصفني الله تعالى بذلك، ولا تتجاوزوا بي حدود العبودية إلى مقام الألوهية أو الربوبية كما فعلت النصارى، فإن حق الأنبياء العبودية والرسالة، أما الألوهية فإنها حق الله وحده.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: التحذير من الغلو والإِسراف في المدح، ومجاوزة الحد، والمدح بالباطل، لأن ذلك قد يفضي إلى الشرك، وإنزال العبد منزلة الرب، ووصفه بصفاته، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ". ثانياًً: أن كفر النصارى إنما كان بسبب غلوهم في المسيح والقديسين والقديسات من بعده، وقولهم في عيسى إنه ابن الله، حتى أدى بهم ذلك إلى تحريف الكتب المقدسة، لكي يستدلوا بها على صحة مزاعمهم الباطلة، حتى إن بعضهم تجرأ فاستدل بآية من القرآن الكريم على فهمه السقيم، فقد روي أن عظيماً من النصارى ناظر علي بن الحسين بن واقد المروزي في مجلس الرشيد ذات يوم فقال له: إن في كتابكم ما يدل على(4/208)
806 - " بَابُ نزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليْهِمَا السَّلامُ "
932 - عَن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " كَيْفَ أنتمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وإمامُكم منكم ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أن عيسى جزء من (1) الله، وتلا قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) زعم أن قوله تعالى: (وَرُوحٌ مِنْهُ) يدل على أن عيسى جزء من الله تعالى بناء على أن " من " للتبعيض فقرأ المروزي قوله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) وقال: إذن يلزم أن تكون جميع تلك الأشياء جزءاً من الله تعالى فانقطع النصراني، واقتنع بحجة المروزي وهداه الله للإسلام فأسلم، وحسن إسلامه وفرح الرشيد بذلك فرحاً عظيماً، وكافأ المروزي مكافأة عظيمة. ثانياً: أن في هذا الحديث علاقة متينة بقوله تعالى حكاية عن قول عيسى: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) فوصف نفسه بالعبودية والنبوة، وفي هذا حجة قاطعة على كذب النصارى في دعواهم أن عيسى ابن الله. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي في " الشمائل " والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كما أطرت النصارى ابن مريم ".
806 - " باب نزول عيسى بن مريم عليهما السلام "
932 - معنى الحديث: يحدثنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث عن نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان، حيث ينزل كما رواه مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ينزل عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، واضعاً كفيه على أجنحة ملَكين، إذا طأطأ رأسه
__________
(1) التفسير المنير ج 1 للشيخ محمد نووي الجاوي.(4/209)
قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ" وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: " كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم " أي كيف حالكم إذا نزل فيكم عيسى بن مريم في آخر الزمان، وأنتم تصلون، وإمامكم في الصلاة هو أميركم -المهدي- فيصلي عيسى خلف إمامكم، ويكون تابعاً لملتكم، حاكماً بشريعتكم، وفي حديث جابر: " فيقال لعيسى تقدم يا روح الله، فيقول: ليتقدم إمامكم فليصل بكم " أخرجه أحمد، وفي رواية مسلم: " فيقال له -أي لعيسى- صل لنا! فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة لهذه الأمة " وقال الهروي: معنى قوله: " وإمامكم منكم " يعني أنه يحكم بالقرآن لا بالإِنجيل.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: ثبوت نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم " وكما يدل عليه قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا) ، وهي قراءة الجمهور، وقرأ ابن عباس، وقتادة، وابن محيصن وغيرهم (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ) بفتح العين واللام بمعنى العلامة، أي إن نزول عيسى من الأشراط القريبة للساعة، والعلامات الكبرى لها، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ليوشكن أن ينزل ابن مريم حكماً عدلاً فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية " أخرجه الشيخان فلا يقبل إلاّ الإِسلام وتظهر فيه الكنوز، وترتفع الشحناء (1) والبغضاء من النفوس، ويعم الأمن والسلام حتى يرعى الذئب مع الشاة فلا يضرها وتمتلىء الأرض سلماً، ويرتفع القتال منها، وتكثر الخيرات، حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم وكذا الرمانة.
أما مكان نزوله ووقته، فقد اختلفت الروايات فيه، وهي بمجموعها تفيد بأنه ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، وهي موجودة اليوم، واضعاً كفيه على
__________
(1) " الإشاعة لأشراط الساعة " للسيد محمد بن عبد الرسول الحسيني البرزنجي المدني..(4/210)
أجنحة ملكين. ثانياً: أن عيسى عليه السلام يقتدي بإمام المسلمين وهو (1) المهدي ويصلّي خلفه في بيت المقدس صلاة الصبح، ويحكم بالقرآن وشريعة الإِسلام ويكون من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. قال في " الإِشاعة ": يكون عيسى مقرّراً للشريعة النبوية لا رسولاً إلى هذه الأمّة، فهو من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحابي، لأنه اجتمع به - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإِسراء، وحينئذ فهو أفضل الصحابة أما مدة بقاء عيسى في الأرض، ووفاته، فقد جاء في حديث أبي هريرة أنه يمكث في الناس أربعين سنة، وفي رواية الطبراني: " يخرج الدجال فينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله، ثم يمكث في الأرض أربعين سنة إماماً عادلاً، وحكماً مقسطاً " وفي رواية عن أبي هريرة مرفوعاً: " وينزل الروحاء فيحج منها، أو يعتمر أو يجمعهما " والروحاء مكان بين المدينة ووادي الصفراء في طريق مكة، وأخرج البخاري في " تاريخه " والطبراني وابن عساكر عنه، قال: يدفن عيسى ابن مريم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه فيكون قبره رابعاً. والله أعلم. مطابقة الحديت للترجمة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم " حيث دل ذلك على نزول عيسى، وهو ما ترجم له البخاري. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. تتمة وتكملة: استدل بهذا الحديث بعض أهل العلم على ثبوت ظهور المهدي، وأنه خليفة المسلمين عند نزول عيسى، حيث إن المراد بقوله: " وإمامكم منكم " كما في " فيض الباري " (2) : الإِمام المهدي، لما جاء في حديث ابن ماجة أنهم قالوا: يا رسول الله فأين العرب يومئذ؟ قال: هم يومئذ قليل وجُلُّهم ببيت المقدس وإمامهم رجل صالح، فبينما إمامهم قد تقدم فصلى بهم الصبح، إذ نزل عليهم عيسى بن مريم، فرجع ذلك الإِمام يمشي
__________
(1) قال الحافظ في " الفتح ": وقال أبو الحسن السجستاني الآبري " في مناقب الشافعي ": تواترت الأخبار بأن المهدي من هذه الأمة، وأن عيسى يصلّي خلفه، ذكر ذلك في الحديث الذي أخرجه ابن ماجه عن أنس، وفيه " لا مهدي إلا عيسى ".
(2) " فيض الباري " للشيخ محمد أنور الكشميري.(4/211)
807 - " بَاب مَا ذكِرَ عنْ بَنِي إسْرَائِيلَ "
933 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رَضِيَ الله عَنْه:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: بَلِّغوا عَنِّي ولَوْ آيةً، وحَدِّثوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ولَا حَرَجَ، ومَنْ كَذَبَ عَلَيَّ متَعَمِّداً، فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَة مِنَ النَّارِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القهقرى ليتقدم عيسى يصلي بالناس" قال: فهذا صريح في أن مصداق ما في الأحاديث هو الإمام المهدي.
807 - " باب ما ذكر عن بني إسرائيل "
933 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " بلغوا عنّي ولو آية " وهذا أمر صريح لكل من وصل إلى مسامعه شيء من حديث رسول الله أن يبلغه، وينقله لغيره، سواء كان قليلاً أو كثيراً، ولو آية واحدة من القرآن، لأن تلك الآية مع قلة ألفاظها قد تحمل من المعاني والأحكام ما يستفيد منه العلماء الشيء الكثير. وإنما قال: " ولو آية " ولم يقل ولو حديثاً، لأنه إذا كانت الآية القرآنية التي تكفّل الله بحفظها واجبة التبليغ، فتبليغ الحديث من باب أولى كما نقله العيني عن البيضاوى (1) ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " وإنما قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إِلى المدينة نهى أصحابه في أوّل الأمر أن ينظروا في كتبهم أو يتحدثوا بأحاديثهم خشية أن يكون في بعض هذه الأحاديث من الأخبار الكاذبة التي قد يضل بها قارئها، ويفتتن بها سامعها، وهم لا زالوا حديثي عهد بهذا الدين، فمنعهم عن ذلك وقاية لهم، وحرصاً على سلامة عقيدتهم، فلما تمكن الإِسلام من النفوس، ورسخت العقائد، وأصبح لديهم من العلم الإسلامي ما يميزون به الصحيح منها، أذن لهم في سماعها والتحدث
__________
(1) " شرح العيني على البخاري " ج 16.(4/212)
بها فقال: " وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " وهو أمر ترخيص لهم بسماع الأحاديث الإِسرائيلية وروايتها، وليس هو أمر وجوب، لأن الأمر إذا جاء بعد النهي اقتضى الإِباحة، ولهذا قال: " ولا حرج " قال الحافظ: أي لا ضيق عليكم في الحديث عنهم، لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار.
قال (1) : وقيل: لا حرج في أن لا تتحدثوا عنهم، لأن قوله أولاً حدثوا صيغة أمر تقتضي الوجوب، فأشار إلى عدم الوجوب، وأن الأمر فيه للإِباحة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب تبليغ كلِّ ما تَحَمَّله العالم من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قدر ما عنده، كثيراً كان أو قليلاً، ولو آية واحدة، أو حديثاً واحداً، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " بلغوا عني ولو آية ". ثانياً: أنه لا مانع من رواية الأخبار، وأخذها عن بني إسرائيل من اليهود والنصارى، للموعظة والاعتبار. فيما لم نتأكد من أنه كذب وباطل لمخالفته للقرآن أو الحديث، أما الإِسرائيليات التي نقطع بكذبها فإنه لا يجوز لنا روايتها إلاّ لتكذيبها وبيان بطلانها، قال الشافعي: من المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجيز التحدث بالكذب، فالمعنى حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه وهو نظير قوله: " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ". والحاصل أن الأخبار الإِسرائيلية ثلاثة أنواع: الأول: ما وافق القرآن والسنة موافقة صريحة، فهذا مما ينبغي روايته وتبليغه لأنه حق وصدق لا شك فيه. الثاني: ما لم يرد في ذلك في الكتاب أو السنة ولا يعارضهما، فهذا يحتمل الصدق والكذب كسائر الأخبار العادية، ويجوز روايته للموعظة والاعتبار، شريطة أن لا يؤخذ على أنه قضية مسلمة، أو يستدل به على حكم شرعي، أو يقدَّم على حقيقة من الحقائق العلمية الثابتة. الثالث: ما عارض الكتاب أو السنة، فهو كذب محض، لا تجوز روايته إلاّ لتفنيده وتكذيبه، وذلك لما فيه من تكذيب لله ورسوله. مطابقة
__________
(1) " فتح الباري " ج 6.(4/213)
934 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضي اللهُ عَنْهُ:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ الْيَهُودَ والنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث للترجمة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي.
934 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن اليهود والنصارى لا يصبغون " شعر رؤوسهم ولحاهم، يل يتركون الشيب فيها على حاله، " فخالفوهم " بصبغ شعوركم، وخضب اللحية والرأس.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن قوله - صلى الله عليه وسلم - فخالفوهم كما قال الحافظ يقتضي مشروعية الصبغ، والمراد به صبغ اللحية والرأس، ولا يعارضه ما ورد من النهي عن إزالة الشيب، لأن الصبغ لا يقتضي الإِزالة، واختلفوا في حكم خضاب الشعر، فذهب مالك إلى أنه جائز، وليس مستحباً، حيث قال في " الموطأ " وترك الصبغ كله واسع، وليس على الناس فيه ضيق، وذهب آخرون إلى سنيته لحديث الباب، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بمخالفة اليهود والنصارى، وذلك بصبغ الشعر الذي لا يصبغونه، وأقل مقتضيات الأمر السنية. والاستحباب، وقد تعددت الأحاديث في الأمر بالخضاب وتغيير الشيب، ففي حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود " أخرجه أحمد والنسائي والترمذي. وعن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " غيروا الشيب ولا تقربوا السواد " أخرجه أحمد وجاء في مسلم بلفظ " واجتنبوا " بدل " ولا تقربوا " فهذه الأحاديث تؤكد أن خضاب الشعر سنة، أضف إلى ذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خضب شعره كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بالصفرة،(4/214)
قال ابن القيم: فإن قيل: قد ثبت في الصحيح عن أنس رضي الله عنه أنه قال: لم يخضب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قيل: أجاب أحمد بن حنبل عن هذا وقال: قد شهد غير أنس رضي الله عنه على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خضب، وليس من شهد بمنزلة من لم يشهد. اهـ. ثانياًً: أن الأمر بخضاب الشعر في حديث الباب عام في جميع الألوان لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بمخالفة اليهود والنصارى، بتغيير الشيب وخضاب الشعر مطلقاً دون تقييد بلون مخصوص أو استثناء لون معين، لكن جاء في حديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد " أخرجه مسلم، ولهذا ذهب قوم إلى تحريم الخضاب بالسواد، واختاره النووي، وذهب أحمد والشافعي في المشهور عنهما إلى أنه يكره الصبغ بالسواد، وأجازه مالك وغيره من أهل العلم، إلاّ أنه يرى أن الخضاب بالسواد خلاف الأولى كما في " الموطأ " قال يحيى، سمعت مالكاً يقول في صبغ الشعر بالسواد: لم أجمع في ذلك شيئاً معلوماً، وغير ذلك من الصبغ أحب إليَّ، بمعنى أن الصبغ بالسواد خلاف الأولى فقط، وليس بمحرم، ولها قال في " المحلى ": يكره عند مالك صبغ الشعر بالسواد من غير تحريم. اهـ. وفي السواد عن أحمد كالشافعية روايتان، المشهورة يكره، وقيل: يحرم (1) وقد أجاز الخضاب بالسواد جماعة من أهل العلم وكثير من السلف من الصحابة والتابعين. قال ابن القيم في " زاد المعاد ": صح عن الحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما كانا يخضبان بالسواد، ذكر ذلك ابن جرير عنهما في كتاب " تهذيب الآثار " وذكره عن عثمان بن عفان، وعبد الله ابن جعفر، وسعد بن أبي وقاص، وعقبة بن عامر، والمغيرة بن شعبة، وجرير بن عبد الله وعمرو بن العاص، رضي الله عنهم أجمعين، وحكاه عن جماعة من التابعين، منهم عمرو بن عثمان، وعلي بن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهم أجمعين، وحكاه ابن الجوزي عن محارب بن دينار، وأبي يوسف رضي الله عنهم
__________
(1) " أوجز المسالك شرح موطأ مالك " للشيخ زكريا الأنصاري.(4/215)
808 - " حَدِيثُ أبْرَصَ وأقْرعَ وأعمَى في بنِي إِسْرَائِيلَ "
935 - عَن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ:
أنَّهُ سَمِعَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ ثَلَاَثةً فِي بني إسْرَائِيلَ أبرَصَ وأقْرَعَ وَأعْمَى، بَدَا للهِ أنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فبعث إلَيْهِمْ مَلَكاً، فأتَى الأبرَصَ فَقالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أجمعين. اهـ. وذهب مالك إلى أن الخضاب بغير السواد أولى وأفضل فقد روى أشهب عن مالك أنه قال: ما علمت أن فيه النهي، وغير ذلك من الصبغ أحب إلي " (1) أي إنما قال مالك: وغير ذلك من الصبغ أحب إلي، لأن الصبغ بالسواد لم يستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - فغيره أولى. كما أفاده الباجي. ثالثاً: قال شيخ الإِسلام (2) ابن تيمية: أمر - صلى الله عليه وسلم - بمخالفتهم، وذلك يقتضي أن مخالفتهم أمرٌ مقصود للشارع، لأنه إذا كان الأمر " في الحديث " بجنس المخالفة حصل القصد، وإن كان الأمر بها في تغيير الشيء فهو لأجل ما فيه من المخالفة.
الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم " حيث ذكر اليهود والنصارى، وهم من بني إسرائيل.
808 - " حديث أبرص وأقرع وأعمى في بني إسرائيل "
935 - معنى الحديث: أن ثلاثة من بني إسرائيل، وقعت لهم قصة عجيبة قصَّها علينا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الصادق المصدوق، لما فيها من الموعظة والاعتبار التي نستفيد منها في حياتنا، كان كل واحد من هؤلاء الثلاثة مصاباً بعاهة في جسده، فأراد الله أن يمن عليهم بالسلامة من عاهاتهم، وبالغنى بعد فقرهم ابتلاءً لهم، ليجازي من شكر النعمة بزيادتها، ومن كفرها بزوالها، فأما
__________
(1) وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وجنبوه السواد " فقد أجاب عنه ابن القيم في " زاد المعاد " بأن الخضاب بالسواد المنهي عنه هو خضاب التدليس، وأجاب عنه الباجي بأن الحديث ليس بثابت لأنه رواه ليث بن أبي سليم. اهـ.
(2) " فيض القدير شرح الجامع الصغير " ج 4.(4/216)
أيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْن حَسَن، وَجِلْدٌ حَسَن، قَدْ قَذَرَني النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عَنْهُ، فَأعْطِيَ لَوْناً حَسَناً، وجِلْداً حَسَناً، فقالَ: أيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الإِبِلُ، فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشراءَ، فَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا، وأتى الأقْرَعَ، فَقَالَ: أي شَىءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ، فَقَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأوّل فهو رجل أبرص بعث الله إليه الملك في صورة إنسان: فقال له: " أي شيء أحب إليك؟ " وسأله عن أمنيته المفضلة " قال: لون حسن وجلد حسن " أي تمنى أن يعود إلى جسمه لونه الصافي الجميل وبشرته النقية السليمة " قد قذرني الناس " قال الحافظ: قذرني بفتح القاف والذال أي اشمئزوا مني " قال: فمسحه فذهب عنه " أي فمسحه الملك بيده فزال عنه داء البرص، وأصبح نقي اللون والبشرة، فسأله عن أحب المال إليه، فقال: الإبل، " فأعطي ناقة عشراء " بضم العين وفتح الشين وهي الحامل التي أَتى عليها في حملها عشرة أشهر. " وأما الثاني " فهو رجل أقرع، أتاه الملك في صورة إنسان من البشر فسأله كما سأل صاحبه الأول عن أمنيته في الحياة، فقال إنه يتمنى أن يعود إليه شعر رأسه، لأن الناس اشمأزوا منه، ومن منظر رأسه البشع، وصورته القبيحة، وهو معنى قوله: " وأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني هذا " أي القرع " قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب وأعطي شعراً حسناً، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر فأعطي بقرة حاملاً، وقال: يبارك لك فيها " بضم أوله على البناء للمجهول، وفي رواية بارك الله لك فيها. " وأما الرجل الثالث " فهو رجل أعمى، أتاه الملك على صورة البشر، فسأله عن أمنيته في الحياة، فقال: أن يعود إلي بصري، فإنه لا شيء أحب إلي من أن أبصر النور وأرى الأشياء حولي، فأعاد إليه الملك بإذن الله بصره، وسأله عن أحب المال عنده فقال: الغنم، فأعطاه ما يحب،(4/217)
شَعْر حَسَن، ويَذْهَبُ عني هَذَا، قدْ قَذَرَنِي النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ، وأعْطِيَ شَعْراً حَسَنَاً، قَالَ: فأيُّ المَالِ أحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: البَقَرُ، قَالَ: فأعْطَاهُ بَقَرةً حَامِلاً، وَقَالَ يُبَارَكْ لَكَ فِيهَا، وأتى الأعْمَى، فَقَال: أيُّ شَيْءٍ أحبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: يَرُدُّ اللهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فأبْصِرُ بِهِ النَّاسَ، قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قَالَ: فَأيُّ المَالِ أحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الغَنَمُ، فأعْطَاهُ شَاةً وَالداً، فأنتجَ هَذَانِ، وَوَلَّدَ هَذَا، فكان لهَذَا وَادٍ مِنْ إبلٍ، وَلِهَذا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ الْغَنَمِ، ثم إنَّهُ أتَى الأبرَصَ في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلْ مِسْكِين تَقَطَّعَتْ بي الْحِبالُ في سَفَرِي فلا بَلاغَ اليَوْمَ إلَّا باللهِ ثم بِكَ، أسْالكَ بالَّذِي أعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَن، والْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيراً أتبَلَّغُ عَلَيْهِ في سَفَرِي، فَقَالَ لهُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد الله إليه بصره، قال فأي المال أحب إليك، قال: الغنم، فأعطاه شاة والداً " قال الحافظ: أي ذات ولد، ويقال حامل. وقد بارك الله تعالى لهؤلاء الثلاثة فيما أعطاهم، " فأنتج هذان " أي صاحب الإِبل والبقر " وولّد هذا " أي صاحب الغنم، وهو بتشديد اللام. ثم إن الله تعالى قدر على هؤلاء أن يختبرهم وإن كان عز وجل عالماً بحقيقة حالهم، لا يخفي عليه شكرهم وكفرهم ولكن إنما ابتلاهم بذلك.
ليظهر لخلقه أحوالهم ويجازيهم بحسب أعمالهم، فيكونوا عبرة لغيرهم وهو معنى قوله: " ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين، تقطعت بي الحبال " أي ابتلاني الله بهذا الداء العضال ويئست من الشفاء ولم يبق لي أمل في العافية حيث تقطعت بي حبال الآمال، وسدت أمامي أبواب المعيشة وأسباب(4/218)
إنَّ الْحُقُوقَ كَثيرة، فَقَالَ لَهُ: كَأنِّي أعْرِفُكَ، ألَمْ تَكُنْ أبْرَصَ، يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فَقِيراً فَأعْطَاكَ اللهُ؟ فَقَالَ: لقدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِباً، فَصَيَّرَكَ اللهُ إلى مَا كُنْتَ، وأتى الأقْرَعَ في صورَتِهِ وهَيْئَتِهِ، فَقَالَ لَه مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، فَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا، فقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِباً فَصَيَّرَكَ اللهُ إلى ما كُنْتَ، وأتى الأعْمَى في صورَتِهِ فَقَالَ: رَجل مِسْكِينٌ وابْنُ سَبِيل، وَتَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ في سَفَرِي، فلا بَلَاغَ الْيَوْمَ إلَّا بِاللهِ ثُمَّ بِكَ، أسْألكَ بالذي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شاةً أتبَلَّغ بِهَا في سَفَرِي، فَقَال: قَدْ كنْت أعمَى، فَرَدَّ اللهُ بَصَرِي، وفَقِيراً فقد أغْنَانِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، فَوَاللهِ لا أجْهِدُكَ الْيَوْمَ بِشَيْء أخَذْتَه لله، فَقَالَ: أمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتلِيْتمْ، فَقَد رَضِيَ الله عَنْكَ، وَسَخِطَ على صَاحِبَيْكَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرزق، وأصبحت فقيراً بائساً مسكيناً " فلا بلاغ اليوم إلاّ بالله ثم بك " أي فلا أحد يوصلني إلى تفرج كربتي إلاّ الله، ثم أنت " أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن، والمال بعيراً أتبلغ به " أي يوصلني إلى بلدي " فقال له: إن الحقوق كثيرة " أي إن النفقات التي تلزمني كثيرة، وهي أولى منك، " فقال له: إني أعرفك: ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيراً فأعطاك الله " أي فأعطاك الله الصحة والمال. " فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر " وفي رواية كابراً عن كابر، أي ورثت هذا الغنى والعز والشرف أباً عن جد " فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت " أي إلى ما كنت عليه من داء البرص والفقر " وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له مثل ما قاله لهذا " أي للأبرص، " فرد عليه مثل ما رد عليه هذا " أي الأبرص " فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت " عليه من الفقر وسوء الحال، والقرع وسوء(4/219)
المنظر. " وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين إلخ " يعني فقال له الملك. مثل ما قال لصاحبه، ولكن الأعمى لم يكن مثل صاحبيه كافراً النعمة، " فقال: قد كنت أعمى فرد الله بصري، وفقيراً فقد أغناني، فخذ ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء " أي لا أشق عليك برد شيء تطلبه مني " فقال له: أمسك مال فإنما ابتليتم " أي امتحنتم " فقد رضي عنك " لأنك شكرت نعمة الله وأديت حقها عليك " وسخط على صاحبيك " لأنهما كفرا بنعمة الله.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: التحذير من كفران النعم، لأنه يؤدي إلى زوالها، والترغيب في شكرها، لأنه يؤدي إلى دوامها وزيادتها، فالحديث مصداق قوله تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) . ثانياً: أن شكر النعمة واجب، وكفرها معصية، ولولا ذلك لما غضب على الأبرص والأقرع وعاقبهما في الدنيا قبل الآخرة. ثالثاً: أنه لا مانع من تذكير الإِنسان بحالته السيئة التي كان عليها إذا كان ذلك لنصحه ودعوته لشكر الله تعالى، أما إذا كان ذلك لتعييره بماضيه أو التشهير به فإنه لا لا يجوز شرعاً. رابعاً: الحث على الصدقة، والرفق بالضعفاء، ومد يد المعونة لهم. خامساً: أن على الإِنسان أن يذكر إذا صار في نعمة ما كان عليه سابقاً من فقر أو مرض أو عاهة، لأن ذلك يدفعه لمزيد الشكر والامتنان. سادساً: الزجر عن البخل، والتحذير من عواقبه السيئة، لأنه رأس كل رذيلة. سابعاً: أن هذه قصة من قصص بني إسرائيل العجيبة التي فيها الكثير من المواعظ والعبر، ولهذا حدثنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكي ننتفع بها في حياتنا وسلوكنا. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " إن ثلاثة من بني إسرائيل ".
***(4/220)
936 - عن أبي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " كَانَ فِي بني إسْرَائِيلَ رَجُل قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَاناً، ثُمَّ خَرَجَ يَسْألُ، فَأتَى رَاهِباً، فسألَهُ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: لا، فَقَتَلَهُ، فَجَعَل يَسْأل، فَقَالَ لَهُ رَجُل: ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا، فأدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ ومَلَاِئكَةُ الْعَذَابِ، فأوْحَى اللهُ إلى هَذِهِ أنْ تَقَرَّبِي وأوْحَى إلى هَذِهِ أنْ تَبَاعَدِي، وقالَ: قِيسُوا ما بَيْنَهُمَا، فَوُجِدَ إلى هَذِهِ أقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
936 - معنى الحديث: أن رجلاً من بني إسرائيل قتل تسعة وتسعين نفساً ظلماً وعدواناً فسأل عن أعلم أهل الأرض كما في رواية مسلم ليستفتيه في قضيته، فدُل على راهب - أي على عابد من عُبّاد النصارى، فجاء إليه واستفتاه، هل تقبل توبته إذا تاب؟ فقال له: لا توبة لك بعد أن قتلت تسعة وتسعين نفساً، فقتل ذلك الراهب، وأكمل به المائة، ثم صار يسأل عن عالم آخر، فدلوه على رجل من أهل العلمٍ غير الأول، حتى وجده، فقال له ذلك الرجل (1) ائت قرية كذا فإنّ بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فذهب من عنده حتى إذا انتصف الطريق أدركه الموت، فمال بصدره بجهد ومشقة إلى جهة القرية الصالحة، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأوحى الله إلى القرية الصالحة، وهي قرية " نصرة " أن تقترب منه، وأوحى إلى القرية التي خرج منها أن تبتعد، وأمرهم أن يقيسوا المسافة بين القريتين فوجدوه أقرب إلى
__________
(1) وفي رواية فقال: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة انطلق إِلى أرض كذا الخ.(4/221)
937 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَاراً لَهْ، فوجَدَ الرَّجُلُ الذي اشْتَرَى الْعَقَارَ في عَقَارِهِ جرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الذي اشْتَرى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القرية الصالحة بشبر، فغفر له. والمطابقة: في قوله: " كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن التوبة تكفّر الكبائر كلها مهما بلغت، بما في ذلك القتل، لأن الله تعالى قبل توبة هذا الرجل الذي قتل مائة نفس، ولا يقال: إن القتل من حقوق الآدميين التي لا تقبل فيها التوبة إلا باستحلال أصحاب الحقوق ومسامحتهم وإرضائهم، لأن الله إذا قبل توبة العبد أرضي عنه خصمه كما أفاده القسطلاني (1) . ثانياً: قال الحافظ: في هذا الحديث فضل العالم على العابد، لأن الذي أفتاه أولاً بأن لا توبة له غلبت عليه العبادة فاستعظم وقوع ما وقع من ذلك القاتل من جرأته على قتل هذا العدد الكثير، وأما الثاني: فغلب عليه العلم فأفتاه بالصواب (2) . اهـ. وهذا يدل على قيمة العلم، وأن العالم مقدم على العابد. ثالثاً: أنه ينبغي لمن تاب من ذنب ولا سيما إذا كان من الكبائر أن يعقبه بالإكثار من العبادات والأعمال الصالحة، ومعاشرة الصالحين، ولهذا أفتاه هذا العالم الواعي أن يذهب إلى تلك القرية الصالحة، ليعايش الصالحين من أهلها، فيقتدي بهم في عبادتهم، فإنّ الحسنة تكفر السيئة، فإذا أضيفت الحسنات إلى التوبة الصادقة كانت خيراً على خير، والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان وابن ماجة.
937 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اشترى رجل من رجل
__________
(1) " إرشاد السارى شرح صحيح البخاري " للقسطلاني.
(2) " فتح الباري " للحافظ ابن حجر العسقلاني.(4/222)
الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إنما اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأرْضَ، ولم أبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، وقَالَ الَّذِي لَه الأرْضَ: إنَّمَا بِعْتُكَ الأرْضَ وما فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إلى رَجُل، فَقَالَ الَّذِي تحاكَمَا إلَيْهِ: ألَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أحَدُهُمَا: لِيَ غُلامٌ، وَقَالَ الآخَرُ: لِيَ جَارِيَةٌ، قَالَ: أنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ وأنفِقُوا على أنفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عقاراً" أي أرضاً أو داراً " فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب " أي فوجد المشترى جرة في داخلها نقود وحلي وسبائك ذهبية " فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض " أي فذهب المشتري إلى البائع، ودفع الجرة إليه قائلاً خذ ذهبك. فإنني لا حق لي فيه، لأنني إنما اشتريت الأرض فقط، ولم أشتر منك هذا الذهب الذي وجدته فيها، فهو حقك " وقال الذي باع الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها " فكلُّ ما وجدته فيها من ذهب أو غيره فهو ملكك، ورزق ساقه الله إليك " فتحاكما إلى رجل " وهل هذا الرجل هو الحاكم الشرعي نفسه، أو رجل آخر، في هذا خلاف بين العلماء " فقال " لهما: " ألكما ولد، قال أحدهما: " وهو المشتري " لي غلام، وقال الآخر " وهو البائع " لي جارية، قال: أنكحوا الغلام الجارية " أي زوجوا ولد المشتري على بنت البائع " وأنفقوا على أنفسهما منه " أي وأنفقوا عليهما من هذا الكنز " وتصدقا منه " أي وتصدقا ببعضه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: صلاح هذين الرجلين وورعهما وعفتهما وزهدهما في هذا الكنز النفيس الذي يتمثل في تدافعهما له، ومحاولة كل منهما التخلص منه، فهما نوع نادر من البشر. ثانياًً: قال الحافظ في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فتحاكما إلى رجل " ظاهره أنهما حكَّماه أي حكما رجلاً غير الحاكم الشرعي المنصوب من قبل ولي الأمر وعلى ذلك، فإن هذا الحديث يصلح(4/223)
حجة على أنه يجوز للمتداعيين أن يحكّما غير الحاكم الشرعي، وبهذا قال مالك والشافعي بشرط أن يكون أهلاً للحكم، وأن يحكم بينهما بالحق، سواء وافق رأي القاضي أم لا، واستثنى الشافعي الحدود، واشترط أبو حنيفة أن لا يخالف قاضي البلد، إلاّ أن الروايات الأخرى دلت على أنّهما حكَّما الحاكم الشرعي الذي هو داود عليه السلام، أو قاضياً من قضاة ذي القرنين، وعلى هذا فليس في الحديث حجة على تحكيم غير الحاكم. ويرى القرطبي رحمه الله أن ما أجراه هذا الرجل بينهما ليس حكماً عليهما، وإنما هو إصلاح بينهما. قال الحافظ: وجزم القرطبي بأنه لم يصدر منه حكم على أحدٍ منهما، وإنما أصلح بينهما لما ظهر له أن حكم المال المذكور حكم المال الضائع، فرأى أنهما أحق بذلك من غيرهما. الحديث: أخرجه الشيخان والمطابقة: في قوله: في كون هذه القصة من أخبار بني إسرائيل.
***(4/224)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
" بَابُ الْمَنَاقِبِ "
809 - " بَابُ قَوْلِ الله تعَالَى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ... ) "
938 - عَن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ:
عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ، خِيَارُهُمْ في الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإِسْلامِ إِذا فَقُهُوا، وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاس في هَذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" باب المناقب "
ومعظم النسخ في البخاري بلفظ " باب المناقب " "والمناقب " جمع منقبة، بمعنى الشرف والفضيلة، وفي " القاموس ": المنقبة المفخرة، والمناقب المكارم، واحدها منقبة، كأنها تنقب الصخر لقوتها، وتثقب قلب الحسود لشدة وقعها عليه.
809 - " باب قول الله تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ... ) "
938 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبّه الناس في أنسابهم وأصولهم بالمعادن المختلفة المتفاوتة في قيمتها وجوهرها. قال الحافظ: وجه التشبيه أن المعدن لما كان إذا استخرج ظهر ما اختفى منه. ولا تتغير صفته، فكذلك صفة الشرف لا تتغير في ذاتها، بل من كان شريفاً في الجاهلية فهو بالنسبة إلى أهل الجاهلية رأس، فإن أسلم استمر شرفه، وكان أشرف ممن أسلم من المشروفين في الجاهلية. وهو قوله: " خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإِسلام إذا فقهوا " أي فمن جمع بين النسب والحسب والإِسلام والفقه في الدين فهو أعلى المراتب،(4/225)
الشَّأنِ أشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً، وتَجِدُونَ شَرَّ النَّاس ذَا الْوَجْهَيْنِ، الذي يَأْتِي هَؤُلاءِ بِوَجْهٍ، ويَأْتِي هَؤُلاءِ بِوَجْهٍ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأفضلها في نظر الإِسلام. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية " ومعناه أن أصلح الناس وأكفأهم لولاية الأمور من إمارة أو قضاء أو شرطة أو حسبة، أو غيرها أزهدهم فيها، وأشدهم كراهية لها، لأن شدة كراهيته للولاية تدل على شدة ورعه، وقوة شعوره بالمسؤولية " وتجدون شر الناس ذا الوجهين " أي أبغضهم إلى الله تعالى وأكثرهم ضرراً للمسلمين، وخطراً عليهم " المنافق " سواء كان منافقاً في العقيدة يظهر الإسلام ويبطن الكفر، أو منافقاً في سلوكه وأعماله يظهر المودة ويبطن الحقد والعداوة، كما قال تعالى في وصف هؤلاء المنافقين: (وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) .
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل النسب إذا اقترن بالدين والصلاح والعلم في دين الله والفقه في شريعته، وهذا هو أعلى المقامات وأسماها بعد مقام النبوة والصحبة، فإن الناس في نظر الإِسلام تختلف مراتبهم ومقاماتهم (1) على حسب الترتيب الآتي. المرتبة الأولى: من جمع بين النسب والدين والصلاح والفقه في الشريعة، وهذا هو أعلى المقامات. المرتبة الثانية: من جمع بين الدين والصلاح والفقه وكان خامل النسب. المرتبة الثالثة: من جمع بين النسب والدين والصلاح ولم يكن فقيهاً. المرتبة الرابعة: من جمع بين الدين والصلاح، ولم يكن شريفاً ولا فقيهاً. المرتبة الخامسة: من جمع بين الإِسلام والنسب ولم يكن صالحاً ولا فقيهاً. المرتبة السادسة: من كان مسلماً فقط، ولا توجد فيه أي مزية من المزايا وهذا هو أدنى الدرجات. ثانياً: اعتبار الكفاءة
__________
(1) لأنه دل على أن الناس يتفاضلون بحسب مناقبهم وفضائلهم الدينية والاجتماعية.(4/226)
810 - " بَابُ مَنَاقِبِ قُريش "
939 - عن مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
وقد بَلَغَهُ أنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنَ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في النسب بالنسبة إلى الزواج. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة " قال في " زهر الأدب في مفاخر العرب ": الكفاءة عندنا معاشر الحنابلة معتبرة، وكذا عند الشافعية، وفي إحدى الروايتين عن مالك، ثم قال: ومن الجهل أن يعتقد أحد عدم التفاضل، والتفاضل واقع في أنواع الموجودات، فضل الله السماء السابعة على سائر الموجودات، ومكة على باقي البلاد، وجبريل وميكائيل وإسرافيل على غيرهم من الملائكة. وروى الدارقطني عن عمر رضي الله عنه أنه قال: " لأمنعن تزوج ذوات الأحساب إلاّ من الأكفاء " وفي حديث رواه ابن ماجه والدارقطني عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تخيروا لنطفكم فانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم " ثم قال: وقوله: " ليس لعربي فضل على عجمي " " والمؤمنون تتكافأ دماؤهم " إنما المعنى في هذا كما قال ابن قتيبة أن الناس من المؤمنين كلهم سواء في الأحكام والمنزلة والكفاءة إنما هي في الدين والخلق. ثالثاً: أن أصلح الناس للولاية أزهدهم فيها، لما يدل عليه ذلك من شدة أمانته وتقديره للمسؤولية. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية (1) خيارهم في الإسلام.
810 - " باب مناقب قريش "
أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما جاء في فضل قريش ومفاخرهم.
وقريش: هي القبيلة العربية الأصيلة المشهورة، التي أنجبت سيد المرسلين وخاتم
__________
(1) والراجح أن الكفاءة إنما هي في الدين والخلق. (ع) .(4/227)
أنَّهُ سَيَكُونُ مَلِكٌ مِنْ قَحْطَانَ، فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ فَقَامَ فَأثْنَى على اللهِ بما هُوَ أهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أمَا بَعْدُ: فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أن رِجَالاً مِنْكُمْ يَتَحَدَّثُونَ أحَادِيثَ لَيْسَتْ في كِتَابِ اللهِ، ولا تُؤْثر عَنْ رَْسُولِ اللهِ، فَأولَئِكَ جُهَّالُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ والأمَانِيَّ التي تُضِل أهْلَهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إِنَّ هَذَا الأمْرَ في قُرَيْش لا يُعَادِيْهِمْ أحَدٌ إلَّا أكبَّهُ اللهُ علَى وَجْهِهِ مَا أقَامُوا الدِّيْنَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النبيين، والتحقيق أنها تبدأ من فهر بن مالك بن النضر، فمنه كما قال ابن قتيبة تفرقت قبائل قريش، وتفرعت فروعها وهذا هو الأظهر لأن فهر هو الجد المباشر لقريش الذي تفرعت عنه قبائلها كما قال ابن سعد في " الطبقات " " وما كان فوق فهر فليس بقرشي بل هو كناني. ويقول الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في " مختصر سيرة الرسول (1) - صلى الله عليه وسلم - ": وفهر هذا: هو أبو قريش كلها، فكل من كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس قرشياً، ثم " قال ": وقد قيل: إن النضر بن كنانة هو قريش، والصحيح أنه فهر بن مالك.
939 - معنى الحديث: أن معاوية رضي الله عنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يحدث الناس عن ظهور ملك قحطاني تدين له العرب، ويخضع له المسلمون، ويلتفون حوله، فأنكر ذلك الخبر أشد الإنكار، وقال: " فإنه بلغنى أن رجالاً منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب الله، ولا تؤثر عن رسول الله " أي أن هذه الأخبار التي يتحدث بها عبد الله بن عمرو. عن ظهور ملك قحطاني ليست صحيحة، لأنّها لا تستند إلى كتاب الله، ولا يرويها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما هي مجرد خبر إسرائيلي
__________
(1) " مختصر سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - " للشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.(4/228)
- سمعه من اليهود، أو قرأه في التوراة. " فإياكم والأماني التي تضل صاحبها " أي فاحذروا أن تستمعوا إلى هذه الأخبار الكاذبة التي لا أساس لها من الصحة.
ولكن ما تحدث به عبد الله ليس مجرد خبر إسرائيلي، وإنما هو خبر صحيح يستند إلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: " لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه " أخرجه الشيخان. قال الحافظ: هو كناية عن المُلْكِ شبهه بالراعي. قال أرطاة بن المنذر أحد التابعين من أهل الشام: إن القحطاني يخرج بعد المهدي ويسير على سيرته، ثم قال معاوية: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن هذا الأمر " أي إن الخلافة " في قريش " فهم أحق الناس بها، " لا يعاديهم أحد إلاّ أكبه الله " أي لا ينازعهم فيها أحدٌ إلاّ ألقاه الله على وجهه في النار، " ما أقاموا الدين " أي مدة إقامتهم للدين، وتمسكهم بسنة سيد المرسلين.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الخلافة حق شرعي لقريش مدة إقامتهم لدين الله، فإذا انحرفوا عن العدل والصواب، وحادوا عن منهج السنة والكتاب، زالت الخلافة من أيديهم، وانتقلت إلى غيرهم فلا وجه لإنكار معاوية لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص، لأنه لا يتعارض مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وإن هذا الأمر في قريش " لأنه مشروط بإقامة الدين. قال الحافظ: وقد وجد ذلك، فإن الخلافة لم تزل في قريش والناس في طاعتهم إلى أن استخفوا بأمر الدين، فضعف أمرهم إلى أن لم يبق لهم من الخلافة سوى اسمها المجرد في بعض الأقطار، وفي تاريخ بني العباس أقوى شاهد على ذلك حتى قال بعض خلفائهم:
أليْسَ مِنَ العَجَائِبِ أن مِثْلِي ... يَرى مَا قَلّ مُمْتَنِعاً عَلَيْهِ
وتُؤخَذُ بِاسْمِهِ الدُّنْيا جَمِيعاً ... وَمَا مِنْ ذاكَ شيء في يَدَيْهِ
وغزاهم التتار فقضوا على الخلافة في بغداد. وفتكوا بالبلاد والعباد. ثانياًً: أن(4/229)
811 - " بَابُ قِصَّةِ إسْلامِ أبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ "
940 - عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
قَالَ أبو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كُنْتُ رَجُلاً من غِفَارٍ، فَبَلَغَنَا أنَّ رَجُلاً قَدْ خَرَجَ بِمَكَّةَ يَزْعُمُ أنَّهُ نَبِيُّ، فَقُلْتُ لأخِي: انْطَلِقْ إِلى هَذَا الرَّجُلِ كَلِّمْهُ، وائْتِني بِخَبَرِهِ، فانْطَلَقَ فلَقِيَه، ثُمَّ رَجَعَ، فَقُلْتُ: مَا عِنْدَكَ؟ فَقَالَ: واللهِ لَقَدْ رَأيْتُ رَجُلاً يَأمُرُنَا بالْخَيْرِ، وَيَنْهَى عَن الشَّرِّ، فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ تُشْفِنِي مِنَ الْخَبَرِ، فأخَذْتُ جرَاباً وعصى، ثم أقْبَلْتُ إلى مَكَّةَ، فَجَعَلْتُ لا أعْرِفُهُ، وأكْرَه أنْ أَسْأل عَنْهُ، وأشْرَبُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، وأكونُ في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في هذا الحديث منقبة عظيمة لقريش، وهي استحقاقهم للخلافة ما أقاموا الدين، واتبعوا سنة سيد المرسلين. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في قوله: " إن هذا الأمر في قريش " فإنه منقبة عظيمة لهم.
811 - " باب قصة إسلام أبي ذر "
940 - معنى الحديث: يروي لنا ابن عباس رضي الله عنهما هذا الحديث عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه وهو يتحدث عن قصة إسلامه، فيذكر لنا أنه لما ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - انتشرت أخباره في قبائل العرب، حتى وصلت إلى قبيلة غفار التي ينتسب إليها أبو ذر، فلما سمع بخروجه - صلى الله عليه وسلم - أرسل أخاه إلى مكة، ليأتيه بخبره، فلما رجع قال له: ما عندك؟ أي ما الذي عرفته من أخبار محمد وحقيقة دينه، فأقسم بالله أنه رأى رجلاً يأمر بكل خير وينهى عن كل شر، وفي رواية: " رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلامٍ ما هو بالشعر " قال: " فقلت له: لم تشفني " أي لم تأتني بالجواب الكافي الشافي. قال: " ثم أقبلت إلى مكة، فجعلت لا أعرفه " أي فجعلتُ نفسي كأني لم آت مكة للتعرف(4/230)
الْمَسْجِدِ، قَالَ: فَمَرَّ بِي عَلِيٌّ، فَقَالَ: كأنَّ الرَّجُلَ غَرِيبٌ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَانْطَلَقَ إلى الْمَنْزِلِ، قَالَ: فانْطَلَقْتُ مَعَهُ، لا يَسْألنِي عَنْ شَيْءٍ ولا أخْبِرُهُ، فَلَمَّا أصْبَحْتُ، غَدَوْتُ إلى الْمَسْجِدِ، لأسْألَ عَنْهُ، ولَيْسَ أحَدٌ يُخْبِرُنِي عَنْهُ بِشَيْءٍ، قَالَ: فَمَرَّ بِي عَلِيٌّ، فقالَ: أمَا نَالَ لِلرَّجُلِ يَعْرِفُ مَنْزِلَهُ بَعْدُ، قَالَ قُلْتُ: لا، قالَ: فانْطَلَقَ مَعِي، قَالَ فَقَالَ: ما أمْرُكَ؟ وما أقْدَمَكَ هَذِهِ الْبَلْدَةَ؟ قَالَ: قُلْتُ لَهُ، إِنْ كَتَمْتَ عَلَيَّ أخبَرْتُكَ، قَالَ: فَإنِّي أَفعَلُ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: بَلَغَنَا أنَّهُ قَدْ خَرَجَ هَا هُنَا رَجُلٌ يَزْعُمُ أنَّهُ نَبِيٌّ، فَأرْسَلْتُ أخِي لِيُكَلِّمَهُ، فَرَجِعَ ولَمْ يُشْفِنِي مِنَ الْخَبَرِ، فأرَدْتُ أن ألْقَاهُ، فَقَالَ لهُ، أما إِنَّكَ قَدْ رَشَدْتَ، هَذَا وَجْهِي إِلَيْهِ فاتَّبِعْنِي، ادخُلْ حيثُ أدْخُلُ، فَإِنِّي إِنْ رَأيْتُ أحَداً أخَافُهُ عَلَيْكَ قُمْتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على النبي - صلى الله عليه وسلم - " وأكره أن أسأل عنه " أي ولا أريد أن أسأل عنه أحداً خشية أن تعلم قريش " وأشرب من ماء زمزم " أي أكتفي في طعامي وشرابي بماء زمزم، لأني لا أجد غيره كما في رواية مسلم عن عبد الله بن الصامت، أنه قال: " ما كان في طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني " " قال: فمر بي علي " بن أبي طالب صدفة " فقال: كأن الرجل غريب " أي أظنك غريباً " قلت: نعم، فذهب بي إلى المنزل لا يسألني عن شيء " على عادة العرب لا يسألون الضيف عن أمره حتى يخبرهم بنفسه " فلما أصبحت، غدوت إلى المسجد، فمر بي عليٌ " مرة أخرى " فقال: أما نال للرجل يعرف منزله " أي أما آن لك أن تعرف مسكنك الذي تريد النزول فيه، يريد إرشاده إلى ما قدم إليه وقصده " قال: قلت: لا " أي لم أصل إلى شيء حتى الآن " فقال: ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة " أي فسأله عن أمره وقصته، فأخبره أبو ذر(4/231)
إلى الْحَائِطِ كَأنَّي أُصْلِحُ نَعْلِي، وَامْض أنْتَ، فَمَضَى وَمَضَيْتُ مَعَهُ، حَتَّى دَخَلَ وَدَخَلْتُ مَعَهُ على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ لَهُ: اعْرِضْ عَلَيَّ الإِسْلامَ، فَعَرَضَهُ فَأسْلَمْتُ مَكَانِي، فَقَالَ لِي: "يَا أبَا ذَر، اكْتُمْ هذَا الأمْرَ، وارْجِعْ إلى بَلَدِكَ، فَإِذَا بَلَغَكَ ظهُورُنَا فأقبِلْ "، فَقُلْتُ. وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لأصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ أظْهُرِهِمْ، فجاءَ إِلى الْمَسْجِدِ وقُرَيْش فِيهِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْش إِني أشْهَدُ أن لَا إِلَه لَّا اللهُ، وأشْهَدُ أن مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَقَالُوا: قُومُوا إِلى هَذَا الصَّابِىءِ، فَقَامُوا، فَضُرِبْتُ لأمُوتَ، فأدْرَكَنِي الْعَبَّاسُ فأكَبَّ علَيَّ، ثمَّ أقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: وَيْلَكُمْ تَقْتُلُونَ رَجُلاً مِنْ غِفَارٍ، ومَتْجَرُكُمْ وَمَمَرُّكُمْ على غِفَارٍ، فأقْلَعُوا عَني، فَلَمَّا أن أصْبَحْتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رضي الله عنه بقصته بعد أن وثق به، وهو معنى قوله: " قلت له: بلغنا أنه خرج ها هنا رجل يزعم أنه نبي " إلخ أي يدعى النبوة فأردت أن أتعرف على حقيقته " قال: أما إنك قد رشدت " بفتح الراء والشين أي اهتديت ووصلت إلى مقصودك " هذا وجهي إليه فاتبعني، ادخل حيث أدخل " أي إني متوجه إليه، فاتبعني وسر معي حيث سرت قال: " ودخلت معه على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت له: اعرض عليّ الإِسلام " أي بين لي أركانه وشرائعه " فعرضه فأسلمت مكاني " أي فأسلمت حالاً " فقال لي: يا أبا ذر أكتم هذا الأمر " يعني فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بإخفاء إسلامه خوفاً عليه من إيذاء قريش له، وحرصاً على سلامته منهم " فقلت: والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم " أي لأرفعن صوتي بالشهادتين عالياً في وسطهم " فجاء إلى المسجد وقريش فيه، فقال: يا معشر قريش أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وأعلن إسلامه أمامهم " فقالوا: قوموا إلى هذا الصابىء " أي الخارج عن(4/232)
الْغَدَ، رَجَعْتُ فَقُلْتُ مِثْلَ ما قُلْتُ بالأمْس، فَقَالُوا: قُومُوا إلَى هَذا الصَّابِىءِ، فصُنِعَ بِي مِثْلَ مَا صُنِعَ بالأمْس، وأدْرَكَنِي الْعَبّاسُ فَأكَبَّ عَلَيَّ وَقَالَ مِثْل مَقَالَتِهِ بالأمْسِ، قالَ: فَكَانَ هَذَا أوَّلَ إِسْلامِ أبِي ذَرٍّ رحمه الله".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دينه، المفارق لملة آبائه وأجداده " فضربت لأموت " أي فضربوني ضرباً شديداً قاصدين بذلك قتلي والقضاء علي " فأدركني العباس " يعني فأنقذني منهم العباس رضي الله عنه " فأكب عليَّ " أي ألقى بنفسه عليَّ ليحول بينهم وبيني، وحذرهم من قبيلتي، فقال: " ويلكم تقتلون رجلاً من غفار، ومتجركم وممركم على غفار " أي كيف تقتلون هذا الرجل وهو من غفار فتعرضون قوافلكم التجارية للخطر، حيث أن تجارتكم إنما تمر عليها " فأقلعوا عني " أي تركوه " فلما أصبحت الغد رجعت، فقلت مثل ما قلت بالأمس " الخ. أي فعاودت مقالتي هذه في صبيحة اليوم الثاني، وعاودت قريش ضربها لي، وأدركني العباس فأنقذني منهم، كما فعل في اليوم الأوّل " قال: فكان هذا أول إسلام أبي ذر " أي كانت هذه قصة دخوله في الإِسلام.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: قصة إسلام أبي ذر وهو الصحابي الجليل جندب بن جنادة بن السكن بن قيس، وقيل: جندب ابن جنادة بن سفيان بن عبيد، ينتهي نسبه إلى غفار، كان من السابقين إلى الإِسلام وكان طويلاً أسمر اللون نحيفاً أحبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيراً، وكان يبدأه بالحديث إذا حضر، ويتفقده إذا غاب، وهو من أزهد الصحابة رضي الله عنهم قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أقربكم مني مجلساً يوم القيامة من خرج من الدنيا كهيئته يوم تركته فيها، وإنه والله ما منكم من أحد إلاّ وقد نشب فيها بشيء غيره " أخرجه أحمد في مسنده. ثانياًً: فضل ماء زمزم وما أودع الله فيها من(4/233)
812 - " بَابُ مَنْ أحَبَّ أن لا يُسَبَّ نسَبُهُ "
941 - عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَتْ:
اسْتَأذَنَ حَسَّانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: " كَيفَ بِنَسَبِي "، قَالَ حَسَّانُ: لأسُلَّنَّّك مِنْهُمْ كمَا تُسَل الشَّعْرَةُ مِنَ الْعَجِين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الخصائص حيث جعلها الله رواءً وغذاء وشفاء، حتى أن أبا ذر رضي الله عنه عاش عليها خمسة عشر يوماً كما في رواية مسلم حيث قال: فاختبأت بين الكعبة وبين أستارها خمس عشرة يوم وليلة مالي طعام ولا شراب إلاّ ماء زمزم. والمطابقة: في كون أبي ذر رضي الله عنه تحدث في هذا الحديث عن قصة إسلامه، وهو ما ترجم له البخاري والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان.
812 - " باب من أحب أن لا يسب نسَبُه "
941 - معنى الحديث: أن حسان بن ثابت رضي الله عنه شاعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأول استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هجاء كفار قريش، وذكر عيوبهم ومساوئهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف تسب أنسابهم ونسبي يلتقي بأنسابهم، فإذا عبتهم عبتني، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كيف بنسبي " قال العيني: أي كيف تهجو قريشاً مع اجتماعي معهم في النسب، عند ذلك " قال حسان: لأسُلنَّك منهم كما تُسل الشعرة من العجين " وفي رواية: " والذي أكرمك لأسلنّك منهم " أي أهجوهم هجاءً يختص بهم، ولا يلحقك منه شيء، فتخرج من هذا الهجاء سليماً نقياً كما تخرج الشعرة من العجين. وقد فعل رضي الله عنه فقال فيهم شعراً يجمع بين مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - وهجوهم، وهو قوله:
وإنَّ سَنَامَ المَجْدِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... بَنُو بِنْتِ مَخْزُوْم وَوَالِده العَبْدُ(4/234)
813 - " بَابُ مَا جَاءَ في أسْمَاءِ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - "
942 - عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لِي خَمْسَةُ أسْمَاءٍ، أنا مُحَمَّدٌ، وأحْمَدُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي أن مجد بني هاشم انحصر كله في أبناء فاطمة المخزومية وما تفرع من نسلها. وكانت فاطمة زوجة عبد المطلب، فولدت له ثلاثاً عبد الله وأبا طالب والزبير، والنبي - صلى الله عليه وسلم - من نسل عبد الله، فهو من هذا النسل المبارك.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من الدين والمروءة أن يحرص الإِنسان على سمعة آبائه وأجداده، وأن يغار على نسبه ويحميه من أن يعيبه أحد، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لحسان لما استأذنه في هجاء المشركين: " كيف بنسبي ". ثانياًً: فضل حسان وقدرته الشعرية العجيبة على حسن التصرف في المديح والهجاء، حيث استطاع أن ينظم شعراً جمع فيه بين مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - وهجو غيره من بني هاشم مع أنه يشترك معهم في أصل واحد، وجد واحد. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كيف بنسبي ". الحديث: أخرجه الشيخان.
813 - " باب ما جاء في أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "
942 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لي خمسة أسماء " وليس معنى ذلك أن هذه الأسماء لم يسمَّ بها غيره، أو لم يسم بها أحد قبله، فقد سمّي بها في الجاهلية، قال الحافظ: وقد جمعت أسماء من تسمى بمحمد في جزء مفرد فبلغوا نحو العشرين، وأشهرهم محمد بن عدي بن ربيعة. قال عياض (1) : وإنما سمّى بعض العرب أبناءهم محمداً قرب ميلاده لما سمعوا من الكهان والأحبار أن نبيّاً يبعث في ذلك الزمان يسمى محمداً، فرجوا أن يكونوا، فسمّوا أبناءهم بذلك، وليس معنى ذلك أيضاً: أن أسماءه تنحصر في خمسة أسماء فقط، فإن
__________
(1) " فتح الباري " ج 6.(4/235)
وأنَا الْمَاحِي الذي يَمْحُو اللهُ بِيَ الْكُفْرَ، وأنَا الْحَاشِرُ الذي يُحْشَرُ النَّاس على قَدَمِي وأنَا الْعَاقِبُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
له أسماء غيرها، وإنما المراد بقوله: " في خمسة أسماء " أن هذه الخمسة هي أسماؤه المشهورة في الأم الماضية المذكورة في الكتب السابقة وهي كما بينها - صلى الله عليه وسلم - في قوله: " أنا محمد " وهو علم وصفة معاً كما قال ابن القيم: ومعناه أنه - صلى الله عليه وسلم - الموصوف بالمحامد الكثيرة العظيمة، المحمود من الله عز وجل مرة بعد أخرى، لأن محمداً لغة كما قال الزرقاني: هو الذي حُمِدَ مرّةً بعد أخرى، وعن علي بن زيد قال: كان أبو طالب يقول:
وَشَقَّ لَهُ من اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فَذُوْ العَرْشِ مَحْمُوْدٌ وَهذَا مُحَمَّدُ
قال الزرقاني: وهذا البيت في قصيدة لحسان فأما أنه توارد مع أبي طالب، أو ضمنه شعره، وسمّي بهذا الاسم بإلهام من الله تعالى لجده عبد المطلب، أو رؤيا رآها فقصها على كاهنة قريش فعبرتها بمولود من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب ويحمده أهل السموات والأرض، رواه أبو نُعيم وغيره، وأخرج ابن عبد البر في " الاستيعاب "، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " لما ولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عَقَّ عنه عبد المطلب، وسماه محمداً، فقيل له يا أبا الحارث: ما حملك على أن سميته محمداً، ولم تسمه باسم آبائه، قال: أردت أن يَحْمده الله في السماء، ويحمده الناس في الأرض ". " وأحمد " وهذا هو الاسم الثاني من أسمائه الشريفة، وهو علم منقول من صفة أفضل التفضيل المنبئة عن الانتهاء إلى غاية ليس وراءها منتهى، فهو - صلى الله عليه وسلم -أحمد الحامدين لله تعالى، لما في " الصحيح " أنه يفتح عليه في المقام المحمود بمحامد لم يفتح بها على أحد قبله، هذا على أنّه بمعنى الفاعل، وقيل: (أحمد) بمعنى المفعول أي أنه - صلى الله عليه وسلم - أحق الناس بالثناء والحمد. قال: " وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر "، يعني يزيله من الأرض "وأنا الحاشر(4/236)
814 - " بَابُ خاتمَ النَّبِيِّينَ - صلى الله عليه وسلم - "
943 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِنَّ مَثَلِي ومَثَلَ الأنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الذي يحشر الناس على قدمي" أي يحشر الناس أمامي، ويجتمعون إلي يوم القيامة، وقال الخطابي: القدم (1) ها هنا الدين، بمعنى أن زمن دينه آخر الأزمنة، وعليه تقوم الساعة " وأنا العاقب " يعني آخر الأنبياء، وخاتم المرسلين. الحديث: أخرجه الشيخان، و" الموطأ ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن هذه الخمسة هي أشهر أسمائه - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان له أسماء غيرها. قال ابن القيم: وأسماؤه - صلى الله عليه وسلم - كما سماه الله تعالى: أعلام دالة على أوصاف مدح، فلا تضادد فيها العملية الوصفية فمحمد صفة في حقه، وإن كان علماً محضاً في حق غيره. اهـ. وقد دل بعض هذه الأسماء على أن دين الإِسلام هو الدين الغالب المهيمن على جميع الأديان، الناسخ لشرائعها بشرائعه ولأحكامها بأحكامه، وأنه الدين الخالد الباقي إلى يوم القيامة، فالحديث هو مصداق قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) الخ. والمطابقة: في كون هذا الحديث يشتمل على أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم -.
814 - " باب خاتم النبيين "
قال الحافظ أن المراد بالخاتم في أسمائه أنه خاتم النبيين، ولمح بما وقع في القرآن - يعني أشار إلى قوله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) .
__________
(1) " شرح الباجي على الموطأ " ج 7.(4/237)
رَجُل بَنَى بَيْتاً فأحْسَنَهُ وَأجمَلَهُ إلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ من زَاوِية، فَجَعَلَ الناسُ يَطُوفُونَ بهِ، ويَعْجَبونَ لَهُ، ويقولُونَ: هَلَّا وُضعتْ هذِهِ اللَّبِنَّةُ، قَالَ: فَأنا اللبِنَةَ وأنا خَاتَم النَّبِيِّين".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
943 - معنى الحديث: كما قال في " شرح صفوة البخاري " (1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبه حال الأنبياء وتتابعهم لِإصلاح البشر واحداً بعد واحد، حتى تكوَّنَ مما جاءوا به مجموعة إرشادات وتعاليم نافعة، وما شعر به الناس قبل مبعثه من الحاجة إلى مكمل لهذه المجموعة، متمم لمقاصدها بحال بيت وضعت فيه لبنة على لبنة حتى أوشك على التمام وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وجمّله إلاّ موضع لبنة من زاوية " أي ولم يبق من ذلك البيت سوى لبنة واحدة بقي موضعها فارغاً " فجعل الناس يطوفون بالبيت " أي يدورون حول جدرانه " ويعجبون له " أي يستحسنونه، ويمدحونه، ويعجبهم بناؤه، وحسن منظره، " ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة " وهلّا هنا للتحضيض، والمعنى: ولكننا نحضك ونحثك على وضع هذه اللبنة التي لا يزال مكانها خالياً ليصبح هذا البناء في غاية الكمال والجمال، كما في رواية أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون: " ألا وضعت هذه هنا لبنة فيتم بنيانك " أخرجه أحمد وفي رواية " أكمل موضع اللبنة " قال - صلى الله عليه وسلم -: " فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين " أي فهو - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة إلى الأنبياء السابقين كاللبنة المتممة لذلك البناء، لأن به - صلى الله عليه وسلم - كمال الشرائع (2) السابقة، وليس معنى هذا أن الأديان السابقة كانت ناقصة وإنما المراد أنه وإن كانت كل شريعة كاملة بالنسبة إلى عصرها إلاّ أن الشريعة المحمدية هي الشريعة الأكمل والأتم ومعنى كونه - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) " شرح صفوة البخاري " للشيخ عبد الجليل عيسى.
(2) " هداية الباري " ج 1 للطهطاوي.(4/238)
815 - بَابُ صِفَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" خاتم النبيين " أنها لا تحدث نبوة في أحد من البشر بعد ظهوره - صلى الله عليه وسلم - وتحليه بها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن شريعة الإسلام هي أكمل الشرائع، لأن الله تعالى قد شرع فيها من الأحكام ما لم يكن موجوداً في الشرائع السابقة، ووضع فيها من التشريعات ما يتلاءم مع حاجة الناس ومصلحة البشر منذ بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قيام الساعة، في حين أن الشرائع السابقة وإن كانت ملائمة لعصرها، إلاّ أنها غير ملائمة للبشرية في العصور الأخرى، بخلاف دين الإِسلام فإنه الدين المتكامل الذي اشتمل على جميع الأحكام في العبادات والمعاملات والجنايات والأحوال الشخصية والشؤون القضائية والسياسية والعسكرية، ولهذا أوجب الله على أهل الأديان السابقة جميعاً اعتناق هذا الدين، وأخذ عليهم الميثاق باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - عند ظهوره، وبين - صلى الله عليه وسلم - أنه لا دين إلاّ دينه، ولا شريعة إلاّ شريعته حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " لو كان موسى حياً ما وسعه إلاّ اتباعي ". ثانياً: أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم النبيين، فلا يمكن أن يظهر نبي بعده - صلى الله عليه وسلم - أو تحدث نبوة لأحد من البشر بعد (1) تحليه بها، ولا ينافي ذلك ظهور عيسى في آخر الزمان، لأنه كان نبياً قبل أن يظهر محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم إنه حين ينزل يتعبد بشريعة الإِسلام التي نسخت كل الشرائع. مطابقة الحديث للترجمة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وأنا خاتم النبيين " الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي.
815 - " باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - "
أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على صفاته الجسمية والأخلاقية وغيرها.
__________
(1) " هداية الباري " ج 1 للطهطاوي.(4/239)
944 - عَن أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
"كَانَ النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَبْعَةً مِنَ الْقَوْمِ، لَيْس بالطَّوِيلِ، ولا بالقَصِيرِ، أزهَرَ اللَّونِ، لَيس بأبيَضَ أمْهَقَ ولا آدَمَ، لَيْس بِجَعْدٍ قَطِطِ، ولا سَبْطٍ رَجِلٍ، أُنْزِلَ عَلَيْهِ وهُوَ ابْنُ أرْبَعِينَ، فَلَبِثَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ، وبالمَدِينَةِ عَشْر سِنينَ، وقُبِضَ وليس في رَأسِهِ ولِحْيَتهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
944 - معنى الحديث: أن أنساً رضي الله عنه يحدثنا عن بعض صفات نبينا - صلى الله عليه وسلم - الجسمية، فيقول: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربعة من القوم " بسكون الباء وقد تفتح أي مربوع القامة، متوسط الطول بين الطويل المفرط في الطول، والقصير الشديد القِصر، أما لون بشرته فقد كان " أزهر اللون " أي أبيض مشرباً بحمرة " ليس بأبيض أمهق " أي لم يكن خالص البياض كلون الجير " ولا آدم. " أي ولا أسمر اللون. أما شعره فإنه كان " ليس بجعد قطط " بفتح الطاء أي ليس شعره خشناً شديد الخشونة كشعر الحبشة " ولا سَبط " بفتح السين وكسر الباء أي ولا ناعم الشعر شديد النعومة " رَجلٌ " قال الحافظ: رجل بكسر الجيم، ومنهم من يسكنها، وهو مرفوع على الاستئناف، أي هو رَجل يعني منسرح الشعر، والمعنى، أن شعره - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ناعماً شديد النعومة كشعور الأعاجم ولا خشناً شديد الخشونة كشعر الأحباش، وإنما هو مسترسل فيه بعض التكسر، ثم قال: " أنزل عليه، وهو ابن أربعين، فلبث بمكة عشر سنين "، والصحيح أنه مكث بمكة ثلاثة عشر عاماً. " وبالمدينه عشر سنين وقبض، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء " وفي رواية عن أنس رضي الله عنه " ولم يبلغ ما في لحيته من الشيب عشرين شعرة " أخرجه ابن سعد بإسناد صحيح. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي و" الموطأ ".(4/240)
945 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "بُعِثْتُ من خَيْرِ قُرُونِ بَني آدَمَ قرْناً فقرْناً، حتَّى كُنْتُ مِنَ الْقَرْنِ الذي كُنْتُ فِيهِ".
946 - عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَسدُلُ شَعْرَهُ، وكَانَ المُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُؤسَهُمْ، وَكَانَ أهْلُ الكِتَابِ يَسْدُلُونَ رُؤسَهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أهلِ، الكِتَابِ فيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيءٍ، ثُمَّ فَرَقَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأسَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
945 - معنى الحديث: أن الله اختار نبيه - صلى الله عليه وسلم - من خير طبقات البشر طبقة بعد طبقة، فكان - صلى الله عليه وسلم - ينتقل من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الطاهرة، حتى ظهر أخيراً من البيت الهاشمي أشرف بيوتات العرب، وأعرقها نسباً، وأعلاها منزلة في جزيرة العرب كلها. الحديث: أخرجه البخاري.
946 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة كان في أوّل هجرته " يسدل شعره " بفتح الياء وسكون السين وكسر الدال وضمها أى يرخي شعر ناصيته ويرسله على جبهته، ويتركه مجتمعاً دون أن يفرقه: وكان المشركون " يفرقون رؤوسهم " بضم الراء وكسرها أي يلقون شعر رأسهم إلى جانبيه ولا يتركون منه شيئاً على جبهتهم كما أفاده العيني. " فكان أهل الكتاب يسدلون رؤوسهم " أي يرسلون شعر رؤوسهم على جبهتهم " وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء " هذا تعليل وبيان للسبب الذي من أجله سدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شعره عند أول هجرته إلى المدينة، أي إنما سدَل رسول الله شعره في ذلك الوقت موافقة لأهل الكتاب، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان(4/241)
947 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو قَالَ:
لَمْ يَكنْ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاحِشَاً ولا مُتَفَحِّشَاً، وَكَانَ يَقولُ: " إِنَّ مِنْ خِيَارِكمْ أحسَنَكمْ أخْلاقاً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يحب موافقتهم في الأعمال التي لم يؤمر بضدها، وهو معنى قوله: " وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء " قال الحافظ: أي فيما لم يخالف شرعَهُ، لأن أهل الكتاب في زمانه كانوا متمسكين ببقايا من شرائع الرسل، فكانت موافقتهم أحب إليه من موافقة عباد الأوثان قال: " ثم فرّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي ثم لما أسلمت قريش وغيرها من قبائل العرب، أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالفة أهل الكتاب - كما قال الحافظ. فألقى شعر رأسه على جانبيه ورفعه عن جبهته. الحديث: أخرجه الستة.
947 - معنى الحديث: أن ابن عمرو رضي الله عنهما يصف لنا أدب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديثه، وكيف كان مهذباً في كلامه مع الناس فيقول: " لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً " أي لا يصدر منه الكلام القبيح طبعاً ولا تطبعاً ومجاراة لغيره، فلا يستفزه السفهاء فيجاريهم في سفههم، لأنه أملك الناس لغرائزه وانفعالاته النفسية، فإذا تجرأ عليه سفيه بالشتيمة لا يرد عليه بمثلها امتثالاً لأمر ربه الذي أدّبه بقوله: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) قال: " وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً " أي من أهل المؤمنين إيماناً أكثرهم تمسكاً بفضائل الأخلاق ومحاسن الشيم، قال الحافظ. وأفضل مكارم الأخلاق بشاشة الوجه، وكف الأذى، وبذل الندى، فهذه هي أمهات الفضائل. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي.(4/242)
948 - عن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" مَا مَسِسْتُ حَرِيراً ولا دِيبَاجاً ألْيَنَ مِنْ كَفِّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولا شَمِمْتُ رِيحاً أو عَرْفاً قَطُّ أطْيَبَ مِنْ رِيحِ أو عَرْفِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ".
949 - وعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" مَا عَابَ النبي - صلى الله عليه وسلم - طَعَاماً قَطُّ، إِنْ اشْتَهَاهُ أكَلَهُ، وِإلَّا تَرَكَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
948 - معنى الحديث: أن أنساً رضي الله عنه يصف لنا نعومة بشرته - صلى الله عليه وسلم - وطيب رائحته - صلى الله عليه وسلم - فيقول: " ما مسست حريراً ولا ديباجاً " بكسر السين الأولى، ويجوز فتحها " ألين من كف النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي ما لمست من الأشياء الناعمة حريراً أو ديباجاً، أو غيرها مما يضرب به المثل في الرقة والنعومة شيئاً أرق ولا أنعم من كف النبي - صلى الله عليه وسلم - ونعومة بشرتها. ولا يتعارض ذلك مع حديث هند ابن أبي هالة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان شثن الكفين والقدمين، أي غليظهما في خشونة الذي أخرجه الترمذي فإن المراد بحديث الباب، كما قال الحافظ: اللين، في الجلد، وبحديث الترمذي الغلظ في العظام، ثم قال: " ولا شممت ريحاً أو عرفاً " بفتح العين (1) ومعناه ريحاً أيضاً " أطيب من ريح أو عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي ولا شممت رائحة زكية أجمل من رائحته - صلى الله عليه وسلم - وفي رواية عن أنس: ما شممت عنبراً قط ولا مسكاً ولا شيئاً أطيب من ريح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان.
949 - معنى الحديث: أن أبا هريرة رضي الله عنه يصف لنا كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدر نعمة الله تعالى فيقول: " ما عاب النبي - صلى الله عليه وسلم - طعاماً قط " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يذم طول حياته أي طعام من الأطعمة المباحة، سواء كان من الأطعمة الفاخرة أو الأطعمة البسيطة، وسواء أحبته نفسه أو لا، لأن الطعام
__________
(1) عَرْفاً بفتح العين وسكون الراء.(4/243)
950 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا:
" أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ يحَدِّث حَدِيثاً لَوْ عَدَّة الْعَادُّ لأحْصَاهُ ".
951 - وَعَنْهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
" إِنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نعمة من نعم الله يجب تقديرها، وشكر الله تعالى عليها " إن اشتهاه أكله وإلّا تركه " دون أن يعيب فيه. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي.
950 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان إذا تكلم تكلم كلاماً واضحاً. بيناً مفصلاً لفظاً لفظاً، وكلمة كلمة، بحيث لو أراد المستمع إليه أن يعد كلماته كلمة كلمة لفعل. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي بألفاظ.
951 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتأنى ويتمهل في كلامه، فلا يسرع في النطق بالكلمات ليتمكن السامع من فهمه واستيعابه لأن الإسراع في الحديث يؤدي إلى خفاء معانيه، وهو معنى قول عائشة رضي الله عنها: " لم يكن يسرد كسردكم "، قال العيني: أي لم يكن - صلى الله عليه وسلم - يتابع الحديث استعجالاً، لئلا يلتبس على المستمع. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي.
فقه أحاديث الباب: دلت هذه الأحاديث على ما يأتي: أولاً: أنها بينت لنا صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - البدنية والخلقية فمن هذه الصفات ما يتعلق بجسمه وصورته الظاهرة، من لون وبشرة وشعر وقامة إلى غير ذلك، وكلها قد بلغت غاية الكمال والجمال باتفاق المؤرخين والمحدثين. فقد كان - صلى الله عليه وسلم - مربوع القامة أبيض اللون، مشرباً بحمرة، ليس بالأشقر الخالص البياض كلون الجير، ولا بأسمر اللون، ورد في بعض الروايات وصفه بالسمرة وجمع الخطابي بين حديثي السمرة والبياض بأن السمرة فيما برز للشمس من جسمه الشريف والبياض فيما تواريه الثياب، ويؤيده ما جاء في رواية ابن أبي هالة رضي الله عنه أنه قال: "كان(4/244)
أنور التجرد" وقال ابن حجر الهيتمي: الأولى حمل السمرة على الحمرة التي تخالط البياض، والعرب تطلق على من كان كذلك أنه أسمر لأن الحمرة إذا اشتدت حكت السمرة وشابهتها، أي أنه - صلى الله عليه وسلم - " كان أبيض مشرباً بحمرة حتى أنه لشدة حمرته يخيّل للناظر إليه أنّه أسمر اللون " والله أعلم. أما بقية صفاته الجسمية: فقد كان شعره - صلى الله عليه وسلم - أسود مسترسلاً ليس بشديد النعومة كشعور الأعاجم، ولا بالشديد الخشونة كشعور الأحباش، وإنما كان مسترسلاً فيه بعض التثني والتكسر، وتلك هي سمات الشَّعرِ العربي. وكان ناعم البشرة ذكي الرائحة كما قال أنس رضي الله عنه في وصفه: ما شممت عنبراً قط ولا مسكاً ولا شيئاً أطيب من ريح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست هذه الرائحة الشذية صادرة عن الطيب الذي يتطيب به، وإنما هي رائحته الذاتية المنبعثة من جسده الشريف - صلى الله عليه وسلم - كما أفاده الشهاب الخفاجي. أما بقية صفاته التي لم تذكر في أحاديث الباب، أو في الأحاديث التي سقناها فهي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مشرق الصورة، مستدير الوجه في إشراقة البدر واستدارة القمر، وكان كما في حديث كعب: " إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر " وكان كما وصفه ابن أبي هالة: " يتلألأ تلألؤ القمر ليلة البدر، وكان - صلى الله عليه وسلم - واسع العينين شديد سواد الحدقة، أهدب الأجفان " أي كثير شعر الأجفان " أبلج الوجه " أي مشرق الوجه بالأنوار البهيّة " أزج الحاجبين (1) ، كث اللحية. واسع الفم من غير إفراط " والعرب تتمدح بذلك، لدلالته على الفصاحة " يبلغ شعر رأسه شحمة أذنيه، ويتجاوزها إلى منكبيه " قال البراء بن عازب: " ما رأيت من ذي لمّة في حلة حمراء أحسن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وكان - صلى الله عليه وسلم - واسع الصدر عريض الظهر، غليظ الكتفين، بين كتفيه خاتم النبوة وهو غدة حمراء مثل بيضة النعامة، كما كان - صلى الله عليه وسلم - رحب الكفين، واسع القدمين ". " وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا افترّ ضاحكاً افترّ عن مثل سنا البرق، وعن مثل حب الغمام (2) ، وإذا تكلم رئي كالنور يخرج من ثناياه " أما صفاته الخلقية
__________
(1) أي دقيق شعر الحاجبين.
(2) أي ابتسم عن أسنان تشبه البرَد المتساقط عن السحاب.(4/245)
فقد جمع الله فيه كل مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، إذ كان - صلى الله عليه وسلم - المثل الأعلى في سلوكه الخلقي قولاً وفعلاً، فلا يصدر منه القول القبيح طبيعة ولا تطبعاً لأنّه - صلى الله عليه وسلم - حليم النفس، يحافظ على مشاعر غيره، حتى لو أساء إليه فلا يواجه إنساناً بما يكره وكان - صلى الله عليه وسلم - مهذباً في معاملته للناس، متواضعاً لين الجانب، رقيق المشاعر، مرهف الإِحساس، يحسن إلى الناس، ويتودد إليهم، ويعود مرضاهم، ويشيع جنائزهم، يعطي ولا يبخل بالعطاء، ولا يرد سائلاً، أما أدبه في الحديث: فقد كان بليغ المنطق، فصيح الكلام واضح البيان، إذا نطق تأنى في نطقه وأتى بكلامه بيناً مفصلاً جملة جملة، وكلمة كلمة، وحرفاً حرفاً يفهمه السامع ويعيه وهذا من فصاحته وحرصه على إفهام الخاطب وقد نزه الله منطقه - صلى الله عليه وسلم - عن التمتمة (1) والفأفأة (2) والتنطع (3) والتمطق (4) والتفيهق (5) وجعله جارياً على السليقة العربية الأصيلة (6) - لا تصنع فيه ولا تكلف. أما نسبه فهو من أشرف الأنساب، وأكرم بيوتات العرب، صانه الله من سفاح الجاهلية، ونقله من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الطاهرة جيلاً بعد جيل، فاصطفي من ولد إسماعيل كنانة، ومن كنانة قريش، ومن قريش بني هاشم فهو - صلى الله عليه وسلم - خيار من خيار من خيار. ثانياًً: أن في هذه الأحاديث من الأحكام جواز فرق شعر الرأس وسدله إلاّ أن الفرق أفضل، لأنه آخر الأمرين من فعله - صلى الله عليه وسلم - فهو سنة مستحبة لما في رواية ابن شهاب عن عبيد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناصيته ما شاء الله، ثم فرق بعد ذلك، فكان الفرق
__________
(1) وهي رد الكلام إلى التاء والميم.
(2) وهي ترديد الفاء.
(3) وهي التعمق في إخراج الحروف.
(4) وهو رفع الشفتين ورفع اللسان إلى الأعلى.
(5) وهو ملء الفم بالألفاظ.
(6) " محمد المثل الكامل " للأستاذ محمد أحمد جاد المولى.(4/246)
816 - " بَابُ علامات النبوة "
952 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ يَقُولُ: " هَلَاكُ أُمَّتِي علي يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْش " فَقَالَ مَرْوَانُ: غِلْمةٌ!! فَقَالَ أبو هُرَيْرَةَ: " إِنْ شِئْتَ أنْ أسَمِّيَهُمْ بَنِي فُلانٍ وبَنِي فُلانٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
آخر الأمرين حين أسلم غالب الوثنيين وغلبت الشقوة على اليهود، ولم ينفع فيهم الاستئلاف فخالفهم، وأمر بمخالفتهم في أمور كثيرة " قال الزرقاني (1) : " والصحيح جواز الفرق والسدل، لكن الفرق أفضل لأنه الذي رجع إليه - صلى الله عليه وسلم - لكن لا وجوب (2) لأن من الصحابة من سدل بعده، فلو كان الفرق واجباً ما سدلوا قال مالك: فرق الرأس أحب إلي. والمطابقة: في كون هذه الأحاديث مبينة لصفات النبي - صلى الله عليه وسلم -.
816 - " باب علامات النبوة "
العلامات جمع علامة، والعلامة والمعجزة كلاهما أمر خارق للعادة، يدل على ثبوت النبوة، وصدق الرسالة، إلاّ أن المعجزة لا تأتي إلاّ في مقام التحدي، أما العلامة فلا يشترط فيها ذلك بل هي أعم، ولما كانت الخوارق المذكورة في هذا الباب ليست كلها للتحدي عبر عنها بالعلامات حتى تشملها جميعاً لعمومها.
952 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدثنا عن فتية من شباب قريش يتولون أمر هذه الأمة، ويصلون إلى الملك والسلطان عنوة واقتداراً، فيظلمون ويتجبرون، ويحاربون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويسفكون دماءهم، ويهلكون
__________
(1) " شرح الزرقاني على الموطأ " ج 4.
(2) أي لكن رجوعه - صلى الله عليه وسلم - إلى الفرق لا يدل على وجوبه، لأن بعض الصحابة سدلوا بعد ذلك.(4/247)
الكثير منهم في حروبهم الدامية وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه هذا الحديث على مسمعٍ من مروان بن الحكم " فقال مروان " وكأنه لم يفهم ما عناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بحديثه هذا " غلمة " قال الكرماني: فعجب مروان من وقوع ذلك من غلمةٍ " فقال أبو هريرة إن شئت أن أسميهم بني فلان وبني فلان " أي إن أردت أن أذكر لك أسماءهم الصريحة وأسماء آبائهم، فعلت.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن هلاك كثير من الصحابة وآل بيته الأطهار في المعارك الدامية التي قام بها ضدهم الملوك الجبابرة من شباب قريش وعلى رأسهم يزيد بن معاوية الذي وقعت في عصره وقعة الحرّة واستباحة المدينة. ثانياًً: أن إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن هذه المآسي الدامية من علامات نبوته كما ترجم له البخاري، فقد أوحى تعالى بها إليه قبل وقوعها يقظة أو مناماً، وقد قتل في وقعة الحرة أكثر من سبعمائة (1) من وجوه قريش كما قتل من عامة الناس رجال ونساء أكثر من عشرة آلاف، وسبوا الذرية، واستباحوا الفروج، وأمروا بقتل كل من لم يبايع يزيداً، ودخلت طائفة بيت أبي سعيد الخدري فأخذوا ما فيه من المتاع، ولم يتعرضوا لعلي بن الحسين، لأن يزيد أوصاهم به، وفي " الموطأ " لتتركن المدينة على أحسن ما كانت حتى يدخل الكلب أو الذئب فيقذي على بعض سوارى المسجد - أي يبول عليها، قال القاضي عياض، هذا قد جرى فإنها تركت أحسن ما كانت من حيث الدين والدنيا، وذكر الأخباريون أنه رحل عنها أكثر أهلها، وبقيت ثمارها للعوافي، وخلت مدة، ثم تراجعوا (2) قال السمهودي: فالظاهر أن ما ذكره القاضي عياض هو الترك الأوّل وسببه كائنة (3) الحرة، كما في حديث أبي هريرة. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: "هلاك أمتي على يدي غلمة
__________
(1) " الإشاعة لأشراط الساعة " للشريف محمد بن عبد الرسول الحسيني البرزنجي.
(2) " الإشاعة لأشراط الساعة ".
(3) أي وسبب هذا الخراب الذي أصاب المدينة هو وقعة الحرّة.(4/248)
953 - عن خَبَّابِ بْنَ الأرَت من حديثٍ طَوِيل:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِيهِ: " وَاللهِ ليتمَّنَّ هذَا الأمْرَ حتى يَسِيرَ الرَّاكِب من صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخَافُ إِلَّا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، أو الذِّئْبَ على غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ ".
954 - عَنْ أبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
أَخرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْم الْحَسنَ فَصَعِدَ بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من قريش " فإن إخباره بذلك من علامات نبوته.
953 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " والله ليتمن الله هذا الأمر " المقصود بهذا الأمر الإِسلام حيث يمكنه الله في الأرض " حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلاّ الله والذئب " أي والله ليكملن الله سلطان هذا الدين بنصره وإظهاره على الدين كله، وتقوية شوكته وبسط نفوذه فتطبق أحكامه، فينتشر الأمن والأمان في الأرض ببركة تطبيق الشريعة، حتى يسير الراكب هذه المسافة البعيدة الموحشة آمناً مطمئناً لا يخشى لصاً، ولا يخاف قاطع طريق. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: هذه البشارة العظيمة باستتباب الأمن والأمان، كنتيجة حتمية لظهور الإِسلام، والحكم بما أنزله الله، ْوقد تحقق ذلك في آخر عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه، ثم في بعض الدول الإسلامية التي نفّذت فيها حدود الله. ثانياً: أن هذه البشارة من علامات نبوته - صلى الله عليه وسلم -. والمطابقة: في قوله: " ليتمن الله هذا الأمر ".
954 - معنى الحديث: يقول أبو بكرة رضي الله عنه " أخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم الحسن " أي أخرجه معه إلى المسجد وهو غلام صغير "فصعد(4/249)
" ابْنِي هَذَا سَيّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أنْ يُصْلِحَ بِهِ بيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ".
955 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هَلْ لَكُمْ مِنْ أنْمَاطٍ " قُلْتُ: وأنَّى يَكُونُ لَنَا الأنْمَاطُ؟ قَالَ: " أمَا إِنَّهُ سَيَكُونُ لَكُمْ الأنْمَاطُ " فأنَا أقُولُ لَهَا يَعْنِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
به على المنبر" أي على منبر مسجده الشريف " فقال: ابني هذا سيد " أي كريم الأصل، شريف النسب، ينتمى إلى أشرف بيت وجد على وجه الأرض.
قال ابن تيمية: وأفضل أهل بيته عليٌ وفاطمة والحسن والحسين الذي أدار - صلى الله عليه وسلم - عليهم الكساء، وخصهم بالدعاء (1) " ولعل الله أن يصلح به بين فئتين " أي طائفتين متخاصمتين " من المسلمين " فيجمع الله به بين الطائفتين خاصة، ويلتئم بذلك شمل المسلمين عامة.
فقه الحديث: لا شك أن في هذا الحديث الشريف علامة من علامات نبوته - صلى الله عليه وسلم - حيث أخبر فيه - صلى الله عليه وسلم - على ما يقوم به هذا السيد الكريم، الحسن بن علي رضي الله عنهما من جمع كلمة المسلمين، والإِصلاح بينهم، ورفع النزاع بين الطائفتين بتنازله عن الخلافة لمعاوية، مما أدى إلى التئام الشمل، وحقن الدماء. والمطابقة: كما قال العيني من حيث إنه أخبر بأن الحسن رضي الله عنه يصلح الله به بين الفئتين من المسلمين، وقد وقع مثل ما أخبر، فإنه ترك الخلافة لمعاوية، وارتفع النزاع بين الطائفتين. الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجه.
955 - معنى الحديث: يحدثنا جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم يوماً: " هل لكم من أنماط " (2) أي هل يوجد لديكم في منزلكم هذا الذي
__________
(1) " التنبيهات السنية شرح العقيدة الواسطية ".
(2) جمع نمط بفتحات، وهو بساط له خمل كما أفاده العيني أي أنه عبارة عن السجاد الفاخر.(4/250)
امرأتَهُ: أخِّرِي عَنَّا أنمَاطَكِ، فَتَقُولُ: ألَمْ يَقُلْ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّهَا سَتَكُونُ لَكُمْ الأنْمَاطُ " فَأدَعُهَا.
956 - عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "رَأيْتُ النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ في صَعِيدٍ، فَقَامَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سكنتموه بعد زواجكم شيء من الأنماط أي البسط الفخمة، وهل أثثتموه بالفرش الفاخرة وهو - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنه لا يوجد لديه شيء من ذلك، وإنما أراد بسؤاله هذّا أن يمهد لما سيخبرهم به من الأمور التي تقع في المستقبل قال رضي الله عنه: " قلت: وأنى يكون لنا الأنماط؟ " أي من أين يكون لنا الأنماط وهي بعيدة عنا كل البعد؟ فكيف نقتنيها ونحن لا نملك من النقود ما نشتري به الطعام فضلاً عن أن نشتريها " قال ": الصادق المصدوق: " أما إنه سيكون لكم الأنماط " أي لا تستبعد ما سألتك عنه، فعن قريب من الزمن تمتلكون الفرش الفاخرة، وتزينون بها قصوركم، حيث تكثر الفتوحات والغنائم، قال جابر: " فأنا أقول لها: أميطي عني أنماطك " أي أبعديها عني " فتقول: ألم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنها ستكون لكم الأنماط " فأدعها لأنها من النعم واللذات المباحة التي أخبرنا عنها - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي.
فقه الحديث: في الحديث علامة من علامات النبوة حيث أخبر - صلى الله عليه وسلم - عن اقتناء أصحابه لهذه البسط الغالية في المستقبل. والمطابقة: في قوله: " أما إنه ستكون لكم الأنماط ".
956 - معنى الحديث: يحدثنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث عن رؤيا رآها في منامه تتعلق بالصاحبين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ورؤياه - صلى الله عليه وسلم - كلها حق، يقول - صلى الله عليه وسلم - في حديثه عن هذه الرؤيا: " رأيت الناس " في منامي(4/251)
أبو بَكْرٍ فَنَزَعَ ذَنُوباً أو ذَنُوبَيْنِ، وَفِى بَعْض نَزْعِهِ ضَعْفٌ، واللهُ يَغْفِرُ لَهُ، ثم أخَذَهَا عُمَرُ، فاسْتَحَالَتْ بِيَدِهِ غَرْباً، فلم أر عَبْقَرِيَّاً في النَّاسِ يَفْرِي فَرِيَّهُ، حتى ضَرَبَ النَّاسُ بعَطنِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" مجتمعين في صعيد واحد " أي في أرض واسعة " فقام أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين " أي فلما اجتمعوا واحتاجوا إلى الماء، قام أبو بكر ليخرجه لهم، فأخرج دلواً أو دلوين، وفي رواية: " رأيتني على قليب " أي على بئر، فنزعت منها ما شاء الله إذ جاء أبو بكر وعمر، فأخذ أبو بكر الدلو ليريحني، فنزع ذنوباً أو ذنوبين، الخ الحديث " وفي نزعه ضعف " يعني فكان الماء الذي أخرجه الصديق قليلاً، وهو إشارة إلى قصر مدته وعدم تفرغه لفتح الأمصار بسبب اشتغاله بقتال أهل الردة " يغفر الله له " وليس معناه أن الصديق ارتكب ذنباً، ولكنها كلمة شائعة في استعمالات العرب يرون (1) في بعض الكلام لزومها، ولا يرون ملزومها، ويأتون بها إجلالاً للمخاطب، وإكراماً لحرمته، كقولك: عفا الله عنك ما صنعت في أمري، ومنه قوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) قال: " ثم أخذها عمر فاستحالت بيده غرباً " أي ثم أخذ عمر ذلك الدلو فانقلبت في يده دلواً عظيمة وفي هذا إشارة إلى طول مدة خلافته، وكثرة فتوحاته، لأن الذنوب التي استحالت غرباً هي كناية عن خلافته كما أفاده العيني " فلم أر عبقرياً في الناس يفري فريه " قال العيني: العبقري الحاذق (2) في عمله، وهذا عبقري في قومه أي سيدهم والمعنى: فلم أر في الناس سيداً عظيماً، ورجلاً قوياً وإنساناً حاذقاً يعمل عمله " حتى ضرب الناس بعطن " بفتح العين والطاء وهو مبرك الإِبل حول الماء، أي ما زال يخرج للناس الماء حتى
__________
(1) " هداية الباري " للطهطاوى ج 1.
(2) شرح العيني ج 16.(4/252)
نصب الناس خيامهم، وأقاموا إبلهم حول الماء، قال ابن الانباري (1) : وقد ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك مثلاً (2) لاتساع الناس زمن الفاروق، وما فتح عليهم من الأمصار والغنائم.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل الصديق رضي الله عنه، وقيامه بالخلافة على الوجه الأكمل، لقوله - صلى الله عليه وسلم - فقام أبو بكر فنزع، ويؤكد ذلك ما جاء في الرواية الأخرى حيث قال: " فأخذ أبو بكر الدلو ليريحني " فإن ذلك يدل على أن سياسته الرشيدة كانت مرضية مريحة، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فنزع ذنوباً " فإنه يدل على أنه رضي الله عنه قام بخدمة هذه الأمة، وهيأ لها كل مقومات الحياة التي تتعلق بالدين والدنيا معاً، لأن الماء هو العنصر الأساسي للحياة. ثانياً: أن مدة خلافة الصديق رضي الله عنه قصيرة، كما يشير إليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فنزع ذنوباً أو ذنوبين " وأن مدة الفاروق طويلة بعض الشيء، كما يشير إليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فاستحالت بيده غرباً ". ثالثاً: عبقرية الفاروق رضي الله عنه وتفوقه على غيره، وقدرته على الأعمال العظيمة التي يعجز عنها سواه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " فلم أر عبقرياً يفري فريه ". رابعاً: أن إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن حال الخليفتين من بعده علامة من علامات نبوته وهو ما ترجم له البخاري. والمطابقة: في إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الغيبيات التي وقعت بعده. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
***
__________
(1) أيضاً شرح العيني ج 16.
(2) " هداية الباري " للطهطاوي ج 1.(4/253)
817 - " بَابُ سؤَالِ الْمُشركِينَ أن يُرِيَهُمُ النبي - صلى الله عليه وسلم - آيَةً فأرَاهُمْ انشِقَاقَ الْقَمَرِ "
957 - عن عبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
انْشَقَّ الْقَمَرُ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شِقَّتَيْنِ فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اشْهَدُوا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
817 - " باب سؤال المشركين أن يريهم النبي - صلى الله عليه وسلم - آية فأراهم انشقاق القمر "
957 - معنى الحديث: أن القمر انشق في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، فكان نصفين، نصفاً من وراء حراء، ونصفاً أمامه، ليكون معجزة له - صلى الله عليه وسلم - على صدق نبوته، لأن أهل مكة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أنس أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر، أخرجه البخاري، فلما وقع ذلك " قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اشهدوا " أي انظروا ماذا حدث، لأنها معجزة عظيمة (1) لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من أعظم المعجزات المادية الكونية التي وقعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - هي معجزة انشقاق القمر التي حدثت للنبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة قبل الهجرة، والتي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) وسببها أن كفار قريش سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر كما قال البخاري فلما حدث ذلك قالوا: هذا سحر ابن أبي كبشة، فانظروا ما يأتيكم السفار، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق وإلّا فهو سحر،
__________
(1) " شرح القسطلاني على البخاري ".(4/254)
818 - " بَاب "
958 - عن عُرْوَةَ الْبَارِقي رَضِيَ اللهُ عَنْه:
" أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أعْطَاهُ دِيناراً يَشْتَرِي بِهِ شَاةً، فاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَين، فباعَ إِحْدَاهُمَا بدِينَار، وجاءَهُ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ في بَيْعِهِ، وَكَانَ لَوِ اشْتَرَى الترابَ لَرَبِحَ فِيهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقدم السفار، فسألوهم، فقالوا: رأيناه قد انشق. أخرجه البيهقي. والمطابقة: في قوله: " انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لأن هذا من علامات النبوة.
818 - " باب " (1)
958 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى جلباً من الغنم كما في الرواية الأخرى، فأعطى عروة البارقي ديناراً وقال: " ائت لنا الجلب، فاشتر لنا شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، وجاءه بدينار وشاة " يعني فكسب النبي - صلى الله عليه وسلم - ديناراً " فدعا له بالبركة بيعه " فقال: " اللهم بارك له في صفقة يمينه "، كما في رواية أخرى " فكان لو اشترى التراب لربح فيه " ببركة دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - الظاهرة التي تتجلى في استجابة دعائه - صلى الله عليه وسلم - لهذا الصحابي الجليل الذي أصبح محظوظاً في التجارة بفضل هذا الدعاء النبوي المبارك، حتى أنه قال: " لقد رأيتني أقف بكناسة الكوفة فأربح أربعين ألفاً قبل أن أصل إلى أهلي. ثانياًً: جواز بيع الفضولي، لأن عروة كان وكيلاً في الشراء لا في البيع. وهو مذهب أبي حنيفة
__________
(1) هذا الباب ملحق بباب علامات النبوة.(4/255)
819 - " بَاب في فضائِلِ أصحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومالك وإسحاق والشافعي في قول. الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في قوله: " فكان لو اشترى التراب لربح فيه ".
819 - " باب في فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - " والفضائل كما قال العيني (1) هي الخصال الحميدة، والخلال الرضية التي ينال بها صاحبها شرفاً ورفعة، وعلو منزلة عند الله، أو عند الخلق، والعبرة في نظر الشرع بالأولى، فإذا قيل في لسان الشرع: هذا رجل فاضل، فمعناه أنّ له منزلة عند الله تعالى، وكل ما ذكره البخاري في هذا الباب من هذا النوع.
والصحابي: كما عرفه البخاري: من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو رآه من المسلمين وقول البخاري: (من المسلمين) هذا قيد يخرج به من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو رآه من غير المسلمين ولو أسلم على المعتمد بعد موته. وزاد بعض أهل العلم قيداً آخر، وهو " ومات على ذلك " ليخرج المرتدون، فإنهم ليسوا أصحابه، والله أعلم. وفضائل الصحابة على نوعين: (أ) فضائل عامة تشملهم جميعاً، مثل امتيازهم بعد الأنبياء بالفضل على سائر الخلق كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدَّ أحدكم ولا نصيفه " (ب) وفضائل خاصة ينفرد فيها بعضهم بصفة من الصفات الكريمة من فقه أو أمانة أو زهد أو كثرة رواية، كما لقب أبو عبيدة بأمين الأمة، أما ترتيب الصحابة رضي الله عنهم في الفضل، فقد قال أبو منصور البغدادي: أصحابنا مجمعون على أن فضل الخلفاء الأربعة على الترتيب المذكور. قال ابن تيميّة: وأهل السنة يقرّون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره من أن خير هذه الأمّة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ويثلّثون بعثمان، ويربعون بعلي
__________
(1) " شرح العيني " ج 16.(4/256)
959 - عن عَبْدِ اللهِ بْن مَسْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " خَيْرُ النَّاس قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الذينَ يَلُونَهُمْ، ثم يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أحَدِهم يَمِينَهُ، وَيَمِينَهُ شَهَادَتَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رضي الله عنهم كما دلت عليه الآثار، وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة مع أن بعض أهل السنة قد اختلفوا في عثمان وعلي (1) رضي الله عنهما ". اهـ. فروي عن أبي حنيفة تقديم علي على عثمان، ولكن ظاهر مذهبه على خلافه، وقال مالك في " المدونة ": لا يفضل (2) أحدهما على الآخر، والذي عليه جمهور أهل السنة تقديم عثمان على علي رضي الله عنهما، وفي سنن أبي داود عن ابن عمر قال: كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي: أفضل أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، وفي رواية - للطبراني: " يسمع ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينكره " قال في " الطحاوية ": وحبهم دين، إيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان. اهـ.
959 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " خير الناس قرني " أي أن جيل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل زمانه من الصحابة الأبرار هم أفضل الأجيال، وخير الناس على الإِطلاق بعد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ثم يليهم في الفضل الذين أدركوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المسلمين، ثم يليهم في الفضل أتباع التابعين. قال - صلى الله عليه وسلم -: " ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته " أي يحرصون على الشهادة ويروجونها بالأيمان الكاذبة فتارة يحلفون (3)
__________
(1) " العقيدة الواسطية ".
(2) " التنبيهات السنية شرح العقيدة الواسطية " للشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد.
(3) " هداية الباري " ج 1.(4/257)
قبل أداء الشهادة، وتارة يشهدون ثم يحلفون لعدم مبالاتهم بالدين، الحديث أخرجه البخاري ومسلم.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: قال الحافظ: استدل بهذا الحديث على تعديل أهل القرون: الثلاثة، وإن تفاوتت منازلهم في الفضل، وهذا محمول على الغالب والأكثرية، فقد وجد فيمن بعد الصحابة من القرنين من وجدت فيه الصفات المذمومة، لكن بقلة. وقال القسطلاني: هذا صريح في أن الصحابة أفضل من التابعين، وأن التابعين أفضل من تابعي التابعين، وهذا مذهب الجمهور، وذهب ابن عبد البر إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان من جملة الصحابة، وقد روى أبو أمامة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " طوبى لمن رآني وآمن بي مرة، وطوبى سبع مرات لمن لم يرني وآمن بي " قال القسطلاني: والحق ما عليه الجمهور، لأن الصحبة لا يعدلها شيء. ثانياً: استدل به بعض أهل العلم على أن من الصفات الذميمة المبادرة إلى الشهادة وترويجها بالأيمان دون حاجة أو ضرورة وفي رواية أخرى للبخاري قال فيها " ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون " قال النووي: وهذا مخالف في الظاهر للحديث الآخر، " خير الشهود من يأتي بالشهادة قبل أن يسأل " والجمع بينهما إما بأن يحمل الذم على من بادر بالشهادة في حق من هو عالم بها قبل أن - يسألها صاحبها، ويكون المدح في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " خير الشهود من يأتي بالشهادة قبل أن يسأل " لمن كانت عنده شهادة لأحد لا يعلم بها، فيخبره ليستشهد به عند القاضي، وهو قول الجمهور، أو يحمل الذم على الشهادة الباطلة التي هي شهادة الزور، أما المبادرة إلى الشهادة الصحيحة من أجل إظهار الحق، وإعانة المظلوم، ودفع الظلم عنه، فإنها عمل صالح يؤجر ويثاب عليه صاحبه، والأحاديث يفسّر بعضها بعضاً، ولهذا قال الصنعاني في حديث عمران ابن حصين الذي جاء فيه: " ثم يكون قوم يشهدون ولا يستشهدون " إما أنه محمول على شهادة الزور حكاه(4/258)
الترمذي عن بعض أهل العلم، أو المراد إتيانهم بالشهادة بلفظ الحلف نحو أشهد بالله ما كان إلاّ كذا، وهذا جواب الطحاوي. أو المراد به الشهادة بما سيكون من الأمور المستقبلة، فيشهد على قوم بأنهم من أهل الجنة من غير دليل، حكاه الخطابي، قال الصنعاني: والأول أحسنها. والمطابقة: في قوله: " خير القرون قرني ".
***(4/259)
" مَنَاقِبُ الْمُهَاجِرِينَ "
820 - " بَابُ فضلِ أبِي بَكْرٍ بَعْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - "
960 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" كُنَّا نُخَير بَيْنَ النَّاس في زَمَانَ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -، فَنُخَير أبَا بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرَ، ثُمَّ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُم ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
820 - " باب فضل أبي بكر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - "
960 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " كنا نخير بين الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي كنا نفضل بعض الصحابة على بعض في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنقول: فلان خيرٌ من فلان " فنخيِّرُ أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان " أي فنقول: أفضل الناس بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر، ويليه عمر، ويليه عثمان، وفي رواية: فيسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا ينكره. الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل أبي بكر الصديق على جميع الخلفاء، وعلى جميع الصحابة، بل على البشر جميعاً بعد الأنبياء، وهذا هو مذهب أهل السنة لقول ابن عمر: " فنخيّر أبا بكر ثم عمر " والنبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع ذلك فيقره، ولا ينكره، وإقراره - صلى الله عليه وسلم - حجة شرعية، لأنه نوع من أنواع حديثه - صلى الله عليه وسلم - وسننه، وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: " كنا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نعدل بأبي بكر أحداً " وعنه رضي الله عنه أنه قال: " أبو بكر سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرجه الترمذي قال أبو منصور البغدادي (1) من أكابر أئمة الشافعية: أجمع أهل السنة والجماعة على أن أفضل الصحابة أبو
__________
(1) " شرح الفقه الأكبر " لملا على القاري.(4/260)
821 - " بَاب مَنَاقِبِ عمَرَ بْنِ الْخطَّابِ أبي حَفْصٍ القرَشِيِّ العَدَوَيِّ (1) "
961 - عن أبي هرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْه قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكمْ من بَنِي إسْرَائِيلَ رِجَال يكَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ أن يَكونوا أنبِيَاءَ فَإِنْ يَكنْ من أمَّتِي مِنْهمْ أحَد فَعمَر ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بكر فعمر فعثمان فعلي فبقية العشرة المبشرين بالجنة فأهل بدر، فيأتي أهل أحد، فيأتي أهل بيعة الرضوان بالحديبية، فيأتي بقية الصحابة رضي الله عنهم. وقال القاري (2) : ولعله أراد بالإجماع إجماع أكثر أهل السنة والجماعة، لأن الاختلاف واقع بين علي وعثمان رضي الله عنهم عند بعض أهل السنة، والمطابقة: في قول ابن عمر رضي الله عنهما: " فنخير أبا بكر ".
821 - " باب مناقب عمر بن الحطاب أبي حفص القرشي "
961 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لقد كان فيمن قبلكم من بني اسرائيل رجال يكلمون "، أي قد وجد في الأمم السابقة رجال ملهمون تلقى في قلوبهم العلوم والمعارف الربانية، وتتكلم الملائكة على ألسنتهم بالحق والصواب، " من غير أن يكونوا أنبياء " أي مع كونهم ليسوا بأنبياء " فإن بك من أمتي أحد منهم فعمر " أى فإن عمر رضي الله عنه هو من هؤلاء المكلمين الذين يلهمون الحق والصواب وتتكلم الملائكة على ألسنتهم، فقد جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري أنه قيل: يا رسول الله وكيف يحدث؟ قال: تتكلم الملائكة على لسانه، ومعنى ذلك أن تكلمه الملائكة في نفسه وإن لم ير مكلماً في الحقيقة فيرجع إلى الإِلهام " الصادق "، كما أفاده الحافظ. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقصد
__________
(1) سبقت ترجمته رضي الله عنه.
(2) أيضاً " شرح الفقه الأكبر ".(4/261)
بقوله: " فإن يك من أمتي أحد منهم فعمر " الشك والتردد في وجودهم، كما قال الحافظ (1) : فإن أمته أفضل الأمم وإذا وجد ذلك في غيرهم من الأمم المفضولة، فوجوده فيهم وهم خير الأمم أولى وأحرى، وإنما أورد هذه الجملة مورد التأكيد لا الترديد كما يقول الرجل إن يكن في صديق فإنه فلان، يريد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الصداقة. الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكونه من أول الملهمين في هذه الأمة المحمدية كما قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: " فإن يك من أمتي أحد منهم فعمر " لأن الله ألهم قلبه الصواب، وأجراه على لسانه، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه " أخرجه الترمذي وصححه، وكذلك رواه أحمد، ويؤيده ما جاء في الحديث عن عقبة بن عامر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب " أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب ورواه أيضاً أحمد في " مسنده " والحاكم في " مستدركه " والطبراني. ثانياً: أن الإِلهام موجود في البشر عامة، وفي هذه الأمة خاصة، قال الحافظ: إذا ثبت أن ذلك وجد في غيرهم فإمكان وجوده فيهم أولى. اهـ. ولا يختص الإِلهام بالأنبياء بل يكون لغيرهم، ولكن هناك فرق بين الأنبياء وغيرهم لأن إلهام الأنبياء وحي وتشريع إلهي، وحجة يستند إليها في الأحكام بخلاف إلهام غيرهم. والمطابقة: في قوله: " فإن يك من أمتي أحد منهم فعمر ".
***
__________
(1) " فتح الباري " ج 7.(4/262)
822 - " بَابُ مَنَاقِبِ عُثمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ "
962 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّهُ جَاءَهُ رَجُل مِنْ أهْلِ مِصْرَ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ تَعْلَمُ أنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أحُدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: تَعْلَمُ أنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ " تَعْلَمُ أنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اللهُ أكبَرُ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: تَعَالَ أُبَيِّنُ لَكَ، أمَّا فِرَارَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فأشْهَدُ أنَّ اللهَ عَفَا عَنْهُ، وَغَفَرَ لَهُ، وأمَّا تَغَيبهُ عَنْ بَدْرٍ، فَإنهُ كَانَ تَحْتَهُ بِنْتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
822 - " باب مناقب عثمان رضي الله عنه "
962 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر " أنه جاءه رجل من أهل مصر " المتعصبين ضد عثمان رضي الله عنه وهو يزيد بن بشر جاء حاجاً، والتقى بعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، " فقال: هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد " أي فر من القتال في غزوة أحد، والفرار كبيرة من الكبائر " قال: نعم " فعل ذلك " قال: تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد " أي ولم يحضرها ففاتته تلك الغزوة الكبرى " قال: نعم " حدث ذلك " قال: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم " وقع ذلك منه. وعند ذلك " قال " السائل: " الله أكبر " أي كبَّر فرحاً وسروراً بهذا الجواب الذي ظفر به، لأنه ظن أنه أقام الحجة البالغة، والدليل القاطع على نقص عثمان وسوء عمله " قال ابن عمر: تعال أبين لك " أي: ليس في شيء مما ذكرت دليل واحدٌ على سوء عمل عثمان ولكن تعال أفسر لك هذه الأمور تفسيراً صحيحاً " أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له " وذلك في قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) فلا وجه للطعن فيه بعد عفو الله تعالى(4/263)
رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ لَكَ أجْرَ رَجُل مِمَّنْ شَهِدَ بَدْراً وَسَهْمَهُ، وأمَّا تَغَيبهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، فَلْو كَانَ أحَدٌ أعَزَّ بِبَطنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عُثْمَانَ، وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ عُثْمَان إلى مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بيَدِهِ الْيُمْنَى: هَذِهِ يَدُ عثمانَ، فَضَرَب بِهَا عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ: هَذِهِ لِعُثْمَاَنَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: اذهَبْ بِهَا الآنَ مَعَكَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عنه " وأما تغيبه عن بدر، فإنه كانت تحته بنت رسول الله وكانت مريضة " أي فإن عذره في تغيبه عن بدر أن زوجته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت مريضة أثناء ذلك، " فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه " أي فأمره - صلى الله عليه وسلم - أن يبقى معها في المدينة ليقوم بتمريضها، وقال له: إن الله سيكتب لك أجر من شهد هذه الغزوة، وأسهم - صلى الله عليه وسلم - له بسهم من الغنيمة، ففاز بأجرها وغنيمتها ثم قال: " أما تغيبه عن بيعة الرضوان، فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان " لمكانته فيهم " فقال رسول الله: بيده اليمنى هذه يد عثمان " أي فأشار - صلى الله عليه وسلم - إلى يده اليمنى وقال: هذه يد عثمان " فضرب بها على يده " اليسرى " فقال: هذه " البيعة " لعثمان " فبايع عنه - صلى الله عليه وسلم - وهو غائب، وهذا أشرف فضيلة له " اذهب بها الآن معك " أي اذهب بهذه الأجوبة الصحيحة إلى قومك لتكشف لهم عن شبهاتهم الباطلة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل عثمان رضي الله عنه الذي يتجلى واضحاً في مبايعة النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه وهو غائب في بيعة الرضوان، وهذا يدل على عظيم منزلته عنده، وثقته به - صلى الله عليه وسلم -، ثانياًً: بيان عذر عثمان في الأمور الثلاثة، أما الفرار فبالعفو، وأما التخلف فبالأمر وأما البيعة(4/264)
823 - " بَابُ مَنَاقِبِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ "
963 - عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لِعَلِيٍّ: " أما تَرْضَى أن تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فبإرساله سفيراً إلى أهل مكة. الحديث: أخرجه البخاري والترمذي. والمطابقة: في قوله: " فقال رسول الله بيده اليمنى: هذه يد عثمان، فضرب بها على يده، فقال: هذه لعثمان ".
823 - " باب مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه "
963 - معنى الحديث: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى تبوك خلّف علياً على أهله، فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلفه إلاّ استثقالاً له، فأخذ عليّ سلاحه، وخرج حتى أَتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجرف فقال: يا رسول الله زعم المنافقون كذا وكذا، فقال: كذبوا إنما خلفتك لما تركت ورائي، فارجع واخلفني في أهلي " " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى " أي ألا يرضيك أن أجعلك بمنزلة هارون حيث كان يستخلفه موسى، ويجعله نائباً عنه على أهله وقومه إذا ذهب إلى مناجاة ربه، لما بينهما من القربى والمناصرة، فكذلك أنت.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل الإمام علي رضي الله عنه، ومكانته العالية عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم حيث جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة هارون من موسى، وشبهه به في القربى والمناصرة وعلو المرتبة في الدار الآخرة، ويوضح ذلك حديث البراء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال لعلي رضي الله عنه: " أنت مني وأنا منك " أخرجه البخاري. ثانياًً: أن هذا الحديث قد تعلقت به الشيعة في أن الخلافة كانت حقاً لعلي أوصى بها إليه في قوله: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " وليس في الحديث أي دلالة على استخلاف علي بعده، لأن المشبه به(4/265)
824 - " بَابُ مَنَاقِبِ جَعْفَرِ بْنِ أبي طَالِبٍ "
964 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّهُ كَانَ إِذَا سَلَّمَ عَلى ابْنِ جَعْفَرَ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يا ابْنَ ذِي الْجَنَاحَيْنَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهو هارون لم يخلف موسى بعد وفاته، حيث توفي قبله بأربعين سنة، فأين الدليل على خلافة علي إذن (1) ؟. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ".
824 - " باب مناقب جعفر بن أبي طالب "
964 - معنى الحديث: أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه كان قد قطّعت يداه في غزوة مؤتة فعوضه الله عنهما بجناحين يطير بهما بين الملائكة، فكان ابن عمر رضي الله عنهما: " إذا سلم على ابن جعفر " أي على عبد الله ابن جعفر " قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين " أي يمدحه ويثني عليه بذلك لما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " دخلت البارحة الجنة فرأيت فيها جعفراً يطيرُ مع الملائكة ". الحديث: أخرجه البخاري.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على فضل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه حيث لقب بذي الجناحين، لأن الله عوضه عن يديه اللتين فقدهما في مؤتة بجناحين يطير بهما في الجنة، وفي الملأ الأعلى، قال عياض: ولذلك سمى طيّاراً! ". والمطابقة: في قوله: " يا ابن ذي الجناحين ".
__________
(1) انظر " مؤتمر النجف " للعلامة السويدي المطبوع في المطبعة السلفية بعناية محب الدين الخطب. اهـ حسن السماحي.(4/266)
825 - " بَابُ مَنَاقِب أبي عُبَيدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ "
965 - عَنْ أنَسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ لِكُلِّ أمَّةٍ أمِيناً، وإِنَّ أمِيْنَنَا أيَّتُهَا الأمَّةُ أبو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
825 - " باب مناقب أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه "
965 - معنى الحديث: أن في كل أمة من الأمم رجل أمين اشتهر بالأمانة أكثر من غيره، وأشهر هذه الأمة بالأمانة أبو عبيدة عامر بن الجراح، فإنه وإن كانت الأمانة صفة مشتركة بينه وبين (1) الصحابة عليهم الرضوان، لكن سياق الحديث يشعر بأنه يزيد عليهم في ذلك، قال القاضي عياض: قوله: " وإن أميننا أيتها الأمة " هو بالرفع على النداء، والأفصح أن يكون منصوباً على الاختصاص وعلى الرفع فالمراد الاختصاص، وإن كانت صورته صورة النداء، أي أخص هذه الأمة بأن أمينها أبو عبيدة. الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على فضل أبي عبيدة، وتفوقه على غيره بقدر زائد من الأمانة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لقبه بهذا اللقب العظيم، وخصه به دون غيره، ولا يلزم من وجود فضيلة في شخص عدم وجودها في شخص آخر، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال العيني: خص كل واحد من كبار الصحابة بفضيلة وصفة كما روى عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، ولكل أمة أمين
__________
(1) " هداية الباري " ج 2.(4/267)
826 - " بَابُ مَنَاقِبِ الْحَسَنِ والْحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا "
966 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" لَمْ يَكُنْ أحَدٌ أشْبَهَ بالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ".
967 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
وسَألهُ رَجُلٌ عَنِ الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الذُّبَابَ؟ فَقَالَ: أهْلُ الْعِرَاقِ يَسْألونَ عن الذُّبَابِ، وقَدْ قَتَلُوا ابْنَ ابْنَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هُمَا رِيحَانَتَايَ مِنَ الدُّنيا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأمين هذه الأمة أبو عبيدة". والمطابقة: في قوله: " وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة ".
826 - " باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما "
966 - معنى الحديث: أن أشبه الناس جميعاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو أشبه أقاربه به - صلى الله عليه وسلم - حفيده الحسن بن علي رضي الله عنه، وعن علي رضي الله عنه أنه قال: الحسن أشبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بين الصدر إلى الرأس، والحسين أشبه النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما كان من أسفل من ذلك. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي.
967 - معنى الحديث: أن رجلاً من أهل العراق سأل ابن عمر رضي الله عنهما: هل يجوز للرجل إذا كان محرماً أن يقتل الذباب أم لا؟ فقال متعجباً مستغرباً من اهتمام أمثال هذا الرجل بتوافه الأمور، مع جرأتهم على ارتكاب الكبائر، فقال: " يسألون عن الذباب، وقد قتلوا ابن ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي يرتكبون الموبقات ويجرؤون على قتل حفيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم بعد ذلك(4/268)
يظهرون كمال التقوى والورع في نسكهم، فيسألون عن قتل الذباب، ثم قال " قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هما ريحانتاي من الدنيا " قال القاري: الأولاد يشمون ويقبلون، فكأنهما من جملة الرياحين، وكل نبت طيب الريح من المشموم فهو ريحان، وبه سمي الولد كما في " النهاية ". الحديث: أخرجه البخاري والترمذي.
فقه الحديثين: دل هذان الحديثان على ما يأتي: أولاً: أن من فضائل الحسن رضي الله عنه مشابهته للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الجزء الأعلى من جسده الشريف، كما أن الحسين كان يشبهه في الجزء الأسفل من جسده. قال الحافظ: الذين كانوا يشبهون النبي - صلى الله عليه وسلم - غير الحسن والحسين "، هم جعفر بن أبي طالب، وابنه عبد الله، وقثم بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، والذين كانوا يشبهونه من غير بني هاشم السائب بن يزيد الجد الأعلى للإِمام الشافعي، وعبد الله بن عامر العبشمي وغيره. ثانياًً: أن من فضائل الحسن والحسين شدة محبته - صلى الله عليه وسلم - لهما، وتعلقه بهما، حتى أنه قد قال فيهما: " هما ريحانتاي " لما يجده من الراحة النفسية في تقبيلهما وضمهمها إلى صدره، وشمهما كما يجد الإِنسان راحته عند شم الزهور والرياحين، لأنهما بمثابة أولاده، والولد الصالح ريحانة من رياحين الجنة، وعن أنس رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان يدعو الحسن والحسين فيشمهما ويضمهما إليه " أخرجه الترمذي. والمطابقة: في الحديث الأول في قول أنس رضي الله عنه: " لم يكن أحدٌ أشبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من الحسن ابن علي رضي الله عنهما. وفي الحديث الثاني في قوله - صلى الله عليه وسلم -: عن الحسن والحسين رضي الله عنهما: "هما ريحانتاي " من الدنيا.
***(4/269)
827 - " بَاب مَنَاقِبِ خالِدِ بْنِ الوَلِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنْه "
968- عَنْ أنَسٍ رَضِيَ الله عَنْه:
أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نَعَى زَيْداً وجَعْفَراً وابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أنْ يَأتِيَهمْ خَبَرهمْ، فَقَالَ: " أخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأصِيبَ، ثم أخَذَ جَعْفَر فَأصِيبَ، ثُمَّ أخَذَ ابْن رَوَاحَةَ فَأصِيبَ، وَعَيْنَاه تَذْرِفَانِ حتَّى أخَذَهَا سيف مِنْ سُيُوفِ اللهِ، حَتَّى فتح الله عَلَيْهِمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
827 - " باب مناقب خالد بن الوليد "
968 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد أرسل سرية في جمادى الأولى سنة ثمان لغزوة مؤتة - موضع بالبلقاء من أطراف الشام، وأمر عليها زيد بن حارثة، وقال: إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر، فعبد الله بن رواحة، فقتل هؤلاء الثلاثة على الترتيب المذكور، فنعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على منبر المدينة قبل أن يؤتى الرسول بخبرهم، وكانت عيناه آنذاك تسيلان بالدموع ثم قال: " حتى أخذها سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليه " أي حتى لم يبق من هؤلاء الثلاثة أحد فقاد الجيش خالد بن الوليد من غير تأمير له، لكنه رأى المصلحة في ذلك لكثرة العدو، فرضي - صلى الله عليه وسلم - بما فعل وأثنى عليه، وبين أنه " سيف من سيوف الله ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على هذه المنقبة العظيمة التي اختص بها خالد رضي الله عنه، حيث لقبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بسيف الله، ومعنى كونه سيفاً من سيوف الله، أنه القائد المظفر الذي يحالفه النصر دائماً، لأنه يقع كالسيف على رؤوس الأعداء. والمطابقة: في قوله: " سيف من سيوف الله " الحديث: أخرجه البخاري والنسائي.(4/270)
828 - " بَاب مَنْقَبَةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهَا السَّلَام "
969 - عن المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رَضِيَ الله عَنْه:
أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " فَاطِمَة بَضْعَةٌ مِنِّي، فمَنْ أغْضَبَهَا أغْضَبَنِي ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
828 - " باب منقبة فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها السلام "
969- معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدثنا في هذا الحديث عن شدة محبته " لفاطمة " رضي الله عنها، ومكانتها من نفسه فيقول: " فاطمة بضعة مني " أي جزء مني، وقطعة من كبدي فهي مهجة القلب، وثمرة الفؤاد، وذلك أمر طبيعي يشعر به كل إنسان نحو أولاده، و" من " الاتصالية في قوله: " مني " تفيد اتصال مشاعره بمشاعرها، وأحاسيسه بأحاسيسها، ولهذا قال: " فمن أغضبها أغضبني " وذلك لما بينهما من تجاوب نفسي، ومشاركة وجدانية في الانفعالات والمشاعر. الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل السيدة فاطمة رضي الله عنها، ومكانتها عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكونها بضعة منه، ولشدة تعلقه بها نفسياً، ومشاركته لها وجدانياً وعاطفياً، وهذه منقبة عظيمة لها، وفضيلة ومزية لها على غيرها كما ترجم له البخاري، ولهذا قال مالك رحمه الله: لا أفضّل أحداً على بضعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثانياًً: أن أولاد السيدة فاطمة بضعة منها فيكونون بواسطتها بضعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أفاده السمهودي: قال الحافظ: فكل من وقع منه في حق فاطمة شيء فتأذت به فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يتأذى به بشهادة هذا الخبر، ولا شيء أعظم من إدخال الأذى عليها من قبل ولدها، ولهذا عرف بالاستقراء معاجلة من تعاطى ذلك بالعقوبة في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد، ومصداق ذلك ما وقع لابن زياد قاتل الحسين، فقد روى الترمذي وقال حديث(4/271)
حسن صحيح أن رأس عبيد الله بن زياد لما قتل إذا حية عظيمة قد جاءت، تتخلل الرؤوس حتى جاءت ابن زياد فجعلت تدخل في منخريه، فمكثت هنيهة، ثم خرجت فذهبت حتى تغيبت، ثم قالوا قد جاءت قد جاءت، فعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً. ثالثاً: استدل به بعض أهل العلم على أن فاطمة أفضل، ثم خديجة ثم عائشة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فاطمة بضعة مني " قال مالك: لا أفضل أحداً على بضعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ: فأفضلهن فاطمة فخديجة فعائشة، وظاهر الأحاديث أفضليتها على أخواتها، لكونه خصها بالبضعة منه دونهن لتجرعها ألم فقده دونهن لموتهن في حياته، نعم ينبغي أن يلحق بها أخواتها في تفضيلهن أيضاً على أمّهن، قال الحافظ في " الفتح ": أقوى ما استدل به على تقديم فاطمة على غيرها من نساء عصرها، ومن بعدهن خبر أن فاطمة سيدة نساء العالمين إلاّ مريم، وأنها رزئت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيرها من بناته، فكن في صحيفته، ومات في حياتها، فكان في صحيفتها. قال الحافظ: وكنت أقول ذلك استنباطاً إلى أن وجدته منصوصاً في " تفسير الطبري " عن فاطمة: " أنه ناجاها فبكت ثم ناجاها فضحكت -فذكر في الحديث- أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " أحسب أني ميّت في عامي هذا، وأنه لم ترزأ امرأة من نساء العالمين مثل ما رزئت فلا تكوني دون امرأة منهن صبراً " فبكت، فقال: " أنت سيدة نساء أهل الجنة فضحكت ". رابعاً: أخذ بعض أهل العلم من حديث الباب وغيره تحريم التزوج على بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهن يتأذين بذلك، فيتأذى النبي بإيذائهن، ويستاء لاستيائهن، ولهذا قال المحب (1) الطبري في كتابه " ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى ": في هذه الأخبار تحريم نكاح علي على فاطمة في حياتها، حتى تأذن، ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ) . مطابقة الحديث للترجمة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فاطمة بضعة مني " فهي جزء منه، والجزء يشرف بالكل.
__________
(1) " فيض القدير شرح الجامع الصغير " ج 4.(4/272)
829 - " بَابُ فضلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا "
970 - عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " فَضْلُ عَائِشَةَ عَلى النِّسَاءِ، كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى الطَّعَامِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
829 - " باب فضل عائشة رضي الله عنها "
970 - معنى الحديث: شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - السيدة عائشة رضي الله عنها بالثريد، وهو من أفخر الأطعمة العربية التي تجمع بين جودة الغذاء، وتمام اللذة، فشبهها به لأنها مثله تجمع بين حسن الخلق، وجمال الصورة، وحسن الحديث وجودة القريحة ورصانة العقل، والتحبب إلى البعل، ومن ثم أخذت منه ما لم تأخذ سواها (1) .
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: امتياز السيدة عائشة عن بقية أمهات المؤمنين بقدر زائد من الحظوة والمحبة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك شبهها بالثريد، لأنه أحب الأطعمة إلى نفوس العرب، فإنهم يحبونه أكثر من غيره، قال ابن القيم: تشبيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة بالثريد تعبير منه عن شدة محبته لها رضي الله عنها. ثانياًً: استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على تفضيل عائشة على غيرها وأكدوا استدلالهم هذا بقوله - صلى الله عليه وسلم - " يا أمّ سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله مما نزل عليَّ الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها ". قال الحافظ: وليس ذلك بلازم. فلا يلزم من ثبوت خصوصية شيء من الفضائل ثبوت الفضل المطلق. وقال السبكي: الذي ندين الله به أن فاطمة أفضل ثم خديجة ثم عائشة، والخلاف شهير، ولكن الحق أحق أن يتبع. وقال ابن تيمية:
__________
(1) " فيض القدير شرح الجامع الصغير " للمناوي.(4/273)
جهات الفضل بين خديجة وعائشة متقاربة وكأنه رأى التوقف. وقال ابن القيم: إن أريد بالتفضيل كثرة الثواب عند الله تعالى فذلك أمر لا يُطَّلَع عليه، وإن أريد كثرة العلم فعائشة لا محالة، وإن أريد شرف الأصل ففاطمة لا محالة، وهي فضيلة لا يشاركها فيها أحد غير أخواتها، وإن أريد شرف (1) فقد ثبت النص لفاطمة وحدها، وقال الحافظ: أما ما امتازت به عائشة من فضل العلم فإن لخديجة ما يقابله، وهي أنها أوّل من أجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإِسلام، ودعا إليه، وأعان على نبوته بالنفس والمال وقيل: انعقد الإِجماع على أفضلية فاطمة، وبقي الخلاف بين عائشة وخديجة. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام ".
***
__________
(1) سقطت هذه الجملة من هذا الموضع ولعل شرف فاطمة وفضلها المذكور هنا أنها سيدة نساء العاملين، وأنها رزئت بوفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث مات في حياتها، فكان في صحيفتها، والله أعلم. المؤلف.(4/274)
بِسمِ الله الرِّحمْنِ الرَّحيمِ
" مَنَاقِبِ الأنصَارِ "
830 - " بَابُ حُبِّ الأنصَارِ مِنَ الإِيمَانِ "
971 - عن الْبَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الأنْصَارُ لَا يُحِبُّهُمْ إلَّا مُؤْمِن، ولا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ، فَمَنْ أحَبَّهُمْ أحَبَّهُ اللهُ، ومَنْ أبْغَضَهُمْ أبغَضَهُ اللهُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" كتاب
مناقب الأنصار "
830 - " باب حب الأنصار من الإِيمان "
971 - معنى الحديث: أن الأنصار لا يحبهم في الجملة لأجل مناصرتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مؤمن كامل الإِيمان، ولا يبغضهم في الجملة من أجل محبتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومناصرتهم له إلاّ منافق في عقيدته. فمن أحبهم لله ورسوله أحبه الله ورضي عنه، ومن كرههم جميعاً لنصرتهم لرسول الله أبغضه الله، وسخط عليه، فخذله في الدنيا والآخرة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من علامات كمال الإِيمان حب الأنصار من أجل مناصرتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن علامات النفاق بغضهم: من هذه الناحية، لحديث الباب، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية أخرى: " آية الإِيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار " وقد صار اسم الأنصار علماً على الأوس والخزرج سماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار، فصار علماً لهم ولأولادهم وحلفائهم ومواليهم، وإنما فازوا بهذه المنقبة لأجل إيوائهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ونصرته فكان ذلك موجباً لمعاداة العرب والعجم، فلذا جاء الترهيب عن بغضهم،(4/275)
831 - " بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِلأنصَارِ أنتُمْ أحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ "
972 - عن أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
رَأى النبي - صلى الله عليه وسلم - النِّسَاءَ والصبيَانَ مُقْبِلِينَ مِنْ عُرْسٍ، فَقَامَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مُمَثِّلاً فَقاَل: " اللَّهُمَّ أنْتُمْ مِنْ أحَبِّ النَّاسِ إِليَّ " قَالَهَا ثَلاثَ مَرَارٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والترغيب في حبهم، فمن أحبهم، فذلك من كمال إيمانه. ثانياً: فضل الأنصار ومكانتهم عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلو منزلتهم في الإسلام، حيث جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حبهم إيماناً، وبغضهم نفاقاً، وهذه منقبة عظيمة. ثالثاً: دل هذا الحديث دلالة عامة على أن من الإِيمان محبة أهل الدين والفضل والصلاح، ومن النفاق بغضهم. وإن من الإِيمان بغض أهل الكفر والفسق والفساد، ومن النفاق حبهم، كما يدل عليه قوله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) . والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ". الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة.
831 - " باب قول النبي للأنصار أنتم أحب الناس إلي "
972 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى نساء الأنصار وصبيانهم مقبلين من عرس وهو طعام وليمة الزفاف فانتصب قائماً، وهو معنى قوله: " فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - ممثلاً " بضم الميم الأولى وفتح الثانية، وكسر الثاء، أي منتصباً قائماً، كما أفاده العيني، " فقال: اللهم أنتم من أحب الناس إلي، قالها ثلاث مرات " أي فقال: الله يشهد أني لا أفضل عليكم في المحبة أحداً من الناس. الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن الأنصار من أعز الناس عند رسول(4/276)
832 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى:
(وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) "
973 - عَن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَجُلاً أتَى النبي - صلى الله عليه وسلم - فَبَعَثَ إلى نِسَائِهِ فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلَّا المَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ يَضُمُّ هَذَا أوْ يُضِيفُ هَذَا؟ " فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: أنَا، فانْطَلَقَ بهِ إِلى امْرأتِهِ، فَقَالَ أكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: ما عِنْدَنا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، فَقَالَ: هَيِّئي طَعَامَكِ وَأصْبِحِي سِرَاجَكِ، ونَومِي صِبْيَانَكِ إِذَا أرَادُوا عَشَاءً، فَهَيَّأتْ طَعَامَهَا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقربهم إلى نفسه، وأحبهم إليه. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
832 - " باب قول الله تعالى:
(وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)
973 - معنى الحديث: أن رجلاً -من الأنصار- جاء يشكو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يعانيه من الجوع الشديد، فقال: يا رسول الله أصابني الجهد أي غلب علي الجوع حتى أضناني، وبذلت كل جهدي في احتماله حتى نفذ صبري، ولم تعد لدي قدرة ولا طاقة على تحمله، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستضيفه في بيته، فلم يجد في بيته - صلى الله عليه وسلم - إلاّ الماء فعرض على أصحابه أن يضمه أحدهم إليه في طعامه، فاستضافه أبو طلحة الأنصاري، وذهب به، وقال لامرأته: " أكرمي ضيف رسول الله " وفي رواية " لا تدخريه شيئاً " أي لا تبقي شيئاً من الطعام الموجود عندنا إلاّ قدميه بين يديه " فقالت ما عندنا إلاّ قوت صبياننا فقال: هيئي طعامك " أي أحضري هذا الطعام الموجود لديك " وأصبحي سراجك " يعني(4/277)
وأصْبَحَت سِرَاجَهَا، ونَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كأنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فأطْفَاتْهُ، فجعلا يُرِيَانِهِ أنَّهُمَا يَأكلانِ، فَباتا طَاوِيَيْن، فلَمَّا أصبَحَ غَدا إِلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: ضَحِكَ اللهُ اللَّيْلَةَ أو عَجبَ مِنْ فَعَالِكُمَا فأنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأشعلي مصباحك "ونوّمي صبيانك" دون عشاء، " فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها ونوّمت صبيانها " أي فعلت كل ما أمرها به زوجها " ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته " أي ثم قامت إلى المصباح، وهي تظهر للضيف أنها تريد إصلاحه، فأطفأته ليصبح البيت مظلماً، فلا يرى الضيف ما تفعله " فجعلا يريانه أنهما يأكلان " أي يحركان أسنانهما ويظهران للضيف أنهما يأكلان وهما لا يأكلان شيئاً " فباتا طاويين " أي جائعين، " فلما أصبح غدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي ذهب أبو طلحة صباحاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " فقال: ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما " التي بلغت الغاية في الجود والكرم والإيثار " فأنزل الله عز وجل (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) " أي فأنزل الله تعالى في وصف الأنصار هذه الآية التي أثنى عليهم فيها بالتضحية والإِيثار وتفضيل مصلحة غيرهم من المسلمين على مصلحة أنفسهم ولو كانوا في أشد حالات الفقر والحاجة، ثم قال: "ومن يوق شح نفسه، فأولئك هم المفلحون " أي ومن يتغلب على غريزة الشح والحرص الموجودة في نفسه ابتغاء وجه الله تعالى فأولئك هم الفائزون في الدنيا والآخرة. الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: ما كان عليه الأنصار رضوان الله عليهم من الجود والسخاء والبذل والعطاء، وإكرام الضيف، وإيثاره على أنفسهم، وأولادهم في حالة الضيق والشدة والفقر، وبذل كل ما يملكونه(4/278)
833 - " بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - اقْبَلُوا من مُحْسِنِهِم وتجاوَزُوا عن مُسِيئهِمْ "
974 - عن ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وعَلَيْهِ مِلْحَفَة مُتَعَطفَاً بِهَا عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وعليْهِ عِصَابةٌ دَسْمَاءُ حتى جَلَس على الْمِنْبَرِ فَحَمَدَ اللهَ وأثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِإخوانهم المسلمين حتى قوتهم، وقوت عيالهم وصبيانهم. ثانياًً: بيان سبب نزول قوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) وأنها نزلت بسبب ما فعله الأنصاري وزوجته مع ضيفهما، وأن الذين وصفهم الله تعالى بهذه الصفات الكريمة هم الأنصار، قال الحافظ: وعند ابن مردويه من طريق محارب بن دثار عن ابن عمر، أهدي لرجل رأس شاة فقال: إن أخي وعياله أحوجٍ منا إلى هذا فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحدٌ إلى آخر حتى رجعت إلى الأوّل بعد سبعة، فنزلت هذه الآية " قال: ويحتمل أن تكون نزلت بسبب ذلك كله، فإنها كلها صور ونماذج للتضحية والإِيثار وإنكار الذات. ثالثاً: أن من أعظم وأفضل البر والإِحسان البذل والعطاء في حال الفقر وضيق ذات اليد، كما فعل الأنصاري وزوجته رضوان الله عليهم. والمطابقة: في كون هذه القصة التي تضمنها الحديث سبباً في نزول الآية الكريمة.
833 - " باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم "
974 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمّا مرض مرض موته وأحس الأنصار بدنو أجله عز عليهم فراقه - صلى الله عليه وسلم - فمر أبو بكر رضي الله عنه بهم في بعض مجالسهم، فوجدهم يبكون، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فخرج - صلى الله عليه وسلم - يتحامل على نفسه، وعليه ثوب قد التحف به، ووضعه على منكبيه، وعلى جبينه عصابة(4/279)
" أمَّا بَعْدُ أيّهَا النَّاسُ فَإِنَّ النَّاسَ يَكثُرُونَ وَتَقِلُّ الأنْصَارُ حتى يكونُوا كالْمِلْح في الطَّعَامِ، فمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ أمراً يَضُرُّ فِيهِ أحداً أو يَنْفَعُهُ، فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئهِمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سوداء، فصعد المنبر، وخطب في الناس يوصيهم بالأنصار خيراً، فقال: " أما بعد: أيها الناس، فإن الناس يكثرون وتقل الأنصار " لأنه يقتل منهم الكثير في الفتوحات الإسلامية وحروب الردة، والمعارك الدامية التي تقع بين المسلمين أنفسهم كمعركة الحرّة " حتى يكونوا كالملح في الطعام " أي حتى يكونوا في قلتهم كالملح القليل في الطعام الكثير، فإن الملح في الطعام يكون عادة قليلاً جداً ولذلك ضرب به المثل في قلته، كما ضرب به المثل أيضاً في إصلاحه لغيره قال الشاعر:
يَا مَعْشَر القُّرّاءِ يَا مِلْحَ البَلَدْ ... هَلْ يَصْلُحُ الأكْلُ إذَا المِلْحُ فَسَدْ
" فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه " أي من ولي منكم ولاية أصبحت له فيها سلطة تنفيذية من إمارة أو شرطة أو غيرها، وصار في استطاعته معاقبة المسيء، ومكافأة المحسن " فيقل من محسنهم " أي فليعاملهم بالحسنى، فيكافىء محسنهم، ويعفو عن مسيئهم.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى ولاة الأمور بالأنصار أن يبالغوا في حسن معاملتهم بمكافأة محسنهم، والعفو عن مسيئهم، والتجاوز عنهم، وعدم مؤاخذتهم على زلّاتهم ما عدا الحدود الشرعية (1) فليس لولاة الأمور التجاوز عنها، وإنما خص ولاة الأمور بهذا الخطاب لأنهم أقدر من غيرهم في إيصال الخير إليهم، ودفع الشر عنهم، وإن كان غيرهم لا يخرج عن ذلك، فإنّ على كل مسلم أن يعامل الأنصار وأبناء
__________
(1) " هداية الباري في ترتيب صحيح البخاري " ج 1.(4/280)
834 - " بَابُ مَنَاقِبِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ "
975 - عن جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " اهتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْن مُعَاذٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأنصار بهذه المعاملة قدر استطاعته. ثانياًً: إخباره - صلى الله عليه وسلم - لنا عن تناقص عدد الأنصار شيئاً فشيئاً على مرور الزمن بسبب استشهاد أكثرهم في الفتوحات وحروب الردة، والمعارك التي وقعت بين المسلمين كمعركة الحرة وغيرها. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
834 - " باب مناقب سعد بن معاذ رضي الله عنه "
وهو سعد بن معاذ الأنصاري الأشهلي (1) الأوسي رئيس قبيلة الأوس من الأنصار، أسلم بالمدينة بين العقبة الأولى والثانية وبإسلامه أسلم بنو عبد الأشهل، ودارهم أوّل دار أسلمت من الأنصار، سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد الأنصار، وكان مقدماً مطاعاً شريفاً في قومه من أجلة الصحابة وأكابرهم وخيارهم، شهد بدراً وأحداً، ورمي يوم الخندق في أكحله، فلم يرقأ الدم حتى مات بعد شهر في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة وهو ابن سبع وثلاثين، ودفن بالبقيع.
975 - معنى الحديث: أنه لما مات سيد الأنصار " سعد بن معاذ " رضي الله عنه، تحرك عرش الرحمن استبشاراً وسروراً بمقدمه، والتحاقه بالملأ الأعلى لأن أرواح السعداء والشهداء مستقرها تحت العرش. قال النووي: واختلفوا في تأويله، فقالت طائفة: هو على ظاهره ولا مانع منه كما قال تعالى: (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) وهذا القول: هو المختار، وقيل المراد اهتزاز
__________
(1) " شرح المرقاة على المشكاة " ج 5.(4/281)
835 - " بَابُ مَنَاقِبِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَام "
976 - عَنْ سَعْدِ بْن أبِي وَقَّاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
"مَا سَمِعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ لأحَدٍ يَمْشِي على الأرْض إنَّهُ مِنْ أَهْلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أهل العرش وهم حملته من الملائكة وغيرهم، فحذف المضاف، والمراد بالاهتزاز الاستبشار، كقول العرب: فلان يهتز للمكارم. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث بأي معنى من معانيه وأي وجه من وجوه تفسيره على فضل سعد بن معاذ ومكانته السامية، ومنزلته العالية عند الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - قال في " هداية الباري " (1) وعلى أي تفسير فالاهتزاز منقبة جميلة لذلك الصحابي الكبير. اهـ. وهو ما ترجم له البخاري. والمطابقة: في كون الحديث يدل على منقبة عظيمة لسعد وهو ما ترجم له البخاري.
835 - " باب مناقب عبد الله بن سلام "
976 - معنى الحديث: أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لم يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يشهد لأحد من الذين يمشون على وجه الأرض بالجنة سوى عبد الله بن سلام، ولا شك أن قول سعد هذا يبعث على التساؤل إذ كيف يكون ذلك مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد شهد لغيره بالجنة، ومنهم العشرة المبشرون بالجنة، ولهذا قال الحافظ: وقد استشكل هذا الحديث، بأنه - صلى الله عليه وسلم - قال لجماعة إنهم من أهل الجنة غير عبد الله بن سلام، ثم قال الحافظ حلاً لهذا الإِشكال: فالظاهر أن ذلك بعد موت المبشرين بالجنة، لأن عبد الله بن سلام قد عاش بعدهم، قال رضي الله عنه " وفيه نزلت (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) " أي: وفي عبد الله بن سلام نزل قوله تعالى: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ
__________
(1) " هداية الباري " ج 1.(4/282)
الْجَنَّةِ إلَّا لِعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلام، قَالَ: وفِيهِ نَزَلَتْ (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) الآيَة".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، وإنما أنزل الله فيه هذه الآية الكريمة ووصفه بأنه الشاهد العدل الذي شهد من بني إسرائيل على مثله، لأنه شهد على أن محمداً رسول الله حقاً، وأنه موصوف بذلك في التوراة، فآمن بالنبي، وشهد له بالرسالة، وأنكر بنو إسرائيل ذلك وكذبوه، فأنزل الله هذه الآية تنويهاً بشأنه وإقامةً للحجة على غيره من اليهود، بشهادة عالم من أجلّ علمائهم. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خاصمته اليهود أرسل إلى عبد الله بن سلام فقال: أتشهد أني رسول الله مكتوباً في التوراة والإِنجيل " قال: نعم فأعرضت اليهود وأسلم عبد الله، فهو الذي قال الله جل ثناؤه (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) ومعناها كما قال الطبري وآمن عبد الله بن سلام، وصدق بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به من عند الله، واستكبرتم أنتم على الإِيمان بما آمن به عبد الله بن سلام يا معشر اليهود. الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن عبد الله بن سلام من المبشرين بالجنة كما ينص عليه هذا الحديث، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بشره بذلك، وشهد له بها. ثانياًً: أن الله وصفه في الآية الكريمة بأنه الشاهد العدل الذي انفرد دون بني إسرائيل بأداء الشهادة الحق لمحمد - صلى الله عليه وسلم - حيث شهد بأنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكتابه حق، وأنه موصوف بذلك في التوراة والإِنجيل. والمطابقة: في قوله: " وفيه نزلت (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) وفي شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن سلّام بالجنة، والله أعلم.
***(4/283)
836 - " بَابُ تزْويجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - خدِيجَةَ وفضلُهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا "
977 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَتْ:
ما غِرْتُ على أحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - ما غِرْتُ على خَدِيجَةَ، وما رَأيْتُهَا، ولكِنْ كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، ورُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ، ثم يُقَطِّعُهَا أعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا في صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فربمَا قُلْتُ لَهُ: كَأنَّهُ لَمْ يَكُنْ في الدنيا امْرَأة إِلَّا خَدِيجَةَ، فَيقُولُ: " كَانت وكانت وكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
836 - " باب تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - خديجة وفضلها رضي الله عنها "
قال الحافظ: ذكر المصنف في الباب أحاديث لا تصريح فيها بما في الترجمة ولكن جميع أحاديث الباب يتعلق بالجزء الثاني من الترجمة وهو قوله: وفضلها.
أما خديجة وقصة زواجها فهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي أقرب نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه نسباً، تزوجها سنة خمس (1) وعشرين من مولده، زوجه إياها أبوها خويلد، وتزوجها ثيباً بعد زوجها الأول أبي هالة، وكان - صلى الله عليه وسلم - قد سافر في تجارة لها إلى الشام، فرأى منه غلامها ميسرة ما رغّبها فيه، فتزوجته، وعاش معها حياة سعيدة، حتى توفيت في رمضان في السنة العاشرة من البعثة، وقد عاشت معه خمساً وعشرين سنة على الصحيح.
977 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها كانت شديدة الغيرة من خديجة وذلك أمر طبيعي لأن من أبرز صفات المحبة في المرأة المحبة لزوجها أنها تغار عليه أشد الغيرة، وتكره أن تشاركها أي امرأة أخرى في حبه لها، أو تشغل باله وتفكيره، فيكثر من ذكرها، أما إذا سبق لهذه المرأة أنها كانت زوجة
__________
(1) " فتح الباري " ج 7.(4/284)
له، وأنه لا زال يعيش على ذكراها، فإن الغيرة تشتد، وهذا ما وقع للسيدة عائشة رضي الله عنها بالنسبة إلى السيدة خديجة، حيث قالت " ما غرت على أحد من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما غرت على خديجة رضي الله عنها، وما رأيتها " أي مع كوني لم أرها ولم ألتق بها في عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - " ولكن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر من ذكرها " أي ولكن السبب في شدة غيرتي منها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر الحديث عنها " وربما ذبح الشاة، ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة " أي وكان يكرم صديقاتها، ويهدي إليهن الهدايا من أجلها، فكثيراً ما كان يذبح الشاة ويقسمها أقساماً، فيهدي إلى كل واحدة من صديقاتها قسماً منها، وفاءً لخديجة، وذلك من شدة محبته لها، ومحافطه على ودها، والعيش على ذكراها. " فربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا إلاّ خديجة " أي فكثيراً ما كنت أخاصمه إذا ذكرها، وتحدث عنها فأقول له: كأن خديجة أنستك النساء جميعاً، فأصبحت لا ترى غيرها في هذه الدنيا " فيقول: إنها كانت وكانت " أي فيعدد فضائلها ومحاسنها، ويقول: إنها كانت صوامة قوامة محسنة إلى غير ذلك كما سيأتي. " وكان لي منها ولد " بفتح الواو وسكون اللام أي وبالإضافة إلى هذه المزايا كلها فقد رزقني الله منها أكثر ذريتي ذكوراً وإناثاً.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل السيدة خديجة رضي الله عنها الذي يتجلى في شدة محبته - صلى الله عليه وسلم - لها، وتعلقه بها، وعيشِهِ على ذكراها (1) ، وإكرام صديقاتها، كما قالت عائشة رضي الله عنها وما رأيتها، ولكن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر ذكراها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاءً ثم يبعثها في صدائق خديجة، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا استأذنت عليه أختها هالة، وسمع صوتها اهتز فرحاً وسروراً وانتعشت نفسه، وأسرع للقائها، لأن صوتها يشبه صوت خديجة
__________
(1) قال النووي: وفي هذا الحديث ونحوه دلالة لحسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشر حياً وميتاً، وإكرام معارف ذلك الصاحب.(4/285)
837 " بَابُ مَبْعَثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - "
978 - عن ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" أنْزِلَ علَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ ابْنُ أرْبَعِينَ، فَمَكَثَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثم أُمِرَ بالهِجْرَةِ إلى الْمَدِينَةِ، فمكث بِهَا عَشْرَ سِنِينَ، ثُمَّ تُوِفِّيَ - صلى الله عليه وسلم - ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رضي الله عنها قالت عائشة، فقلت: " ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين أي ساقطة الأسنان " هلكت في الدهر قد أبدلك الله خيراً منها " ْأي قد أبدلك الله بي، وأنا خير منها، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمنا أولاد النساء " وذلك لأن جميع أولاده منها ما عدا إبراهيم، فإنه من مارية القبطية. ومن أولادها رضي الله عنها القاسم، وقد مات صغيراً قبل البعثة، وبناته الأربع زينب ثم رقية، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة رضي الله عنهن، وقيل كانت أم كلثوم أصغر من فاطمة، ومن أولادها عبد الله ولد بعد البعثة، وكان يلقب بالطاهر والطيب ويقال هما أخوان له. اهـ. كما أفاده الحافظ. ثانياًً: أن الغيرة غريزة في النفس لا يلام عليها الإِنسان. قال الطبري وغيره الغيرة مسامح للنساء ما يقع فيها لأن من تحصل لها الغيرة كما قال الحافظ - لا تكون في كمال عقلها، فلهذا تصدر منها أمور لا تصدر منها في حال عدم الغيرة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على فضل خديجة، وهو ما ترجم له البخاري. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي.
837 - " باب مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - "
978 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل عليه الوحي في حراء عندما أتم أربعين سنة وستة أشهر، فنزل عليه جبريل بصدر سورة العلق، وبها بدأت نبوته - صلى الله عليه وسلم -. فنبىء باقرأ ثم فتر عنه الوحي مدة يسيرة، وعاد إليه مرة أخرى(4/286)
838 - " حَدِيثُ الإِسْرَاءِ "
979 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّهُ سَمعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ في الْحِجْرِ فَجَلا اللهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِس، فَطَفِقْتُ أخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأنا أنظرٌ إِلَيْهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بنزول قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ) فأمر بالتبليغ، وبذلك بدأت رسالته ببعثته - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك قال العلماء: نبىء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإقرأ، وأرسل بالمدثر، وكل ذلك كان في عام واحد عند تمام الأربعين سنة فأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة بعد البعثة ثلاثة عشر عاماً، ثم هاجر إلى المدينة، فأقام بها عشراً.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نبىء وأرسل عند تمام الأربعين سنة من عمره، لأن هذا السن هو سن الكمال الجسمي والعقلي والنضج الفكري للإِنسان كما يشير إليه قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) اكتمال العقد والرشد (1) ، ولذلك: لم يبعث نبي قبل الأربعين وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما " من أَتى عليه الأربعون ولم يغلب خيره شره، فليجهز إلى النار (2) . ثانياًً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة بعد البعثة ثلاثة عشر عاماً وبالمدينة بعد الهجرة عشر سنوات، وهذا هو الصحيح. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: ظاهرة.
838 - " حديث الإِسراء "
وهو رحلته - صلى الله عليه وسلم - على البراق ليلاً من مكة إلى بيت المقدس.
979 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تحدث صبيحة ليلة الإِسراء إلى
__________
(1) " صفوة التفاسير " للصابوني ج 3.
(2) " تفسير الألوسي " ج 26.(4/287)
قريش عن رحلته تلك الليلة من مكة إلى بيت المقدس، فكذبوه، وسخروا منه، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس، وكان قد ذهب إليه بليل، فلم يستطع أن يحدد معالمه، ولكن الله أعانه على ذلك، فبعث إليه جبريل، فكشف له عنه، فصار يرى كل ما فيه، ويصفه لهم، كأنه حاضر بين يديه في تلك الساعة.
وقد روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " مر بي أبو جهل فقال: هل كان من شيء. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني أسري بي الليلة إلى بيت المقدس قال أبو جهل: ثم أصبحت بين أظهرنا قال: نعم. قال: فإن دعوت قومك أتحدثهم بذلك، قال: نعم، قال: يا معشر كعب بن لؤي فانفضت إليه المجالس، فقال: حدث قومك بما حدثتني، فحدثهم، قال: فمن بين مُصَفِّقٍ ومن بين واضع يده على رأسه تعجباً، قالوا: أوتستطيع أن تنعت لنا المسجد: فكشف الله عنه، فوصفه لهم كما في حديث الباب حيث قال: " فجلا الله بيت المقدس " قال الحافظ: قيل معناه: كشف الحجب بيني وبينه حتى رأيته " فطفقت أخبرهم عن آياته " أي فبدأت أحدثهم عن علاماته المميزة له " وأنا أنظر إليه " أي أشاهده أمام عيني. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إثبات الإسراء، وأنه كان يقظة لا مناماً، لأنه لو كان مناماً لما تعجبت منه قريش، ولا أنكرته. ثانياً: أن من المعجزات الظاهرة التي تضمنها هذا الحديث كشف الحجاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى رأى بيت المقدس، وتمكن من وصفه، كأنه ماثل بين يديه، وقد جاء في حديث أم سلمة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " فسألوني عن أشياء لم أتبينها، فكَرِبْتُ كرباً لم أكرب مثله قط، فرفع الله لي بيت المقدس أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلاّ نبأتهم به " قال الحافظ: ولا استحالة فيه، فقد أحضر عرش بلقيس في طرفة عين لسليمان، وفي حديث أم هانىء أنهم قالوا له: " كم باباً للمسجد؟ قال: ولم أكن عددتها، فجعلت أنظر إليها وأعدها باباً باباً ". والمطابقة: في(4/288)
839 - " بَابُ المِعْرَاجَ "
980 - عَنْ أنَسٍ بْنِ مَالِكٍ، عن مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أن نَبِيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَهُمْ عن لَيْلَةَ أُسْرِيَ بهِ قَالَ: " بَيْنَمَا أنا في الْحَطِيم -ورُبَّما قَالَ في الْحِجْرِ- مُضْطَجِعَاً إِذ أَتَاني آتٍ فَقَدْ قَالَ، وسَمعته يَقُول: فَشَقَّ ما بَيْنَ هذِهِ إلى هَذِهِ - قَال الراوي: مِن ثُغْرة نَحْرِهِ إلى شِعْرَتِهِ، فاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إيمَاناً، فَغُسِلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ، ثُمَّ أعِيدَ، ثُمَّ أتِيتُ بِدَابَّةٍ، دُونَ البَغْلِ، وفَوْقَ الْحِمَارِ، أبيَضَ، قَالَ الرَّاوِي: وهُوَ الْبُرَاقُ، يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أقصَى طَرَفِهِ، فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ، فانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حتى أتى السَّمَاءَ الدُّنيا، فاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ؟ قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وقد أرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَباً بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفَتَحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا فِيهَا آدَمُ، فَقَالَ: هَذَا أبوكَ آدَمُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَليْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَباً بالابنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ حتى أتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فاسْتَفْتَحَ قِيل: مَنْ هَذا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ؟ قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَباً بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاء، فَفَتَحَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كون الحديث يدل على إثبات الإِسراء الذي ترجم له البخاري.
839 - " باب المعراج "
والأكثرون على أنه كان في ربيع الأول قبل الهجرة بسنة، وقيل في رجب، وعن الزهري أنه بعد البعثة بخمس سنين، ورجحه القرطبي والنووي.(4/289)
فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى، وهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ، قالَ: هَذَا يَحْيَى وَعيسَى، فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا، فَسَلَّمْتُ، فردَّا، ثُمَّ قَالا: مَرْحَبَاً بالأَخ الصَّالِحِ والنَّبِيِّ الصَّالِحْ، ثُمَّ صَعِدَ بِي إلى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قال: جِبرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدُ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ: قِيلَ مَرْحَباً بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يُوسُفُ، قَالَ: هَذَا يُوسُفُ، فَسَلّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبَاً بالأخِ الصَّالِحِ والنَّبِيِّ الصَّالِحْ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْريلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدُ، قِيلَ: وقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ قِيلَ: مَرْحَباً بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِلى إِدْرِيسَ، قَالَ: هَذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
980 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدّث أصحابه عن قصة عروجه إلى السماء في تلك الليلة المباركة، فذكر لهم أنه بينما كان مضطجعاً في الحطيم، وربما قال في الحجر - أي في حجر إسماعيل وهما بمعنى واحد، جاءه ملك فشق صدره من ثغرة نحره إلى شعرته. بكسر الشين. أي شق ما بين الثغرة التي في الرقبة إلى عانته فاستخرج قلبه الشريف، وغسله بماء زمزم ثم جاء بطست ذهبي مملوء إيماناً ويقيناً، فأفرغ في قلبه. كما في رواية أخرى حيث قال فيها: " ثم جاء بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيماناً، فأفرغه في صدري ثم أطبقه ".
ؤإنما غسل قلبه الشريف، وملىء إيماناً ويقيناً، إعظاماً وتأهباً لما يلقى هناك، مثل الوضوء للصلاة لمن كان متنظفاً، كما أفاده ابن أبي جمرة. ثم جاءه جبريل بالبراق وهو دابة بيضاء أصغر من البغل، وأكبر من الحمار، ذات سرعة غريبة تخطو الخطوة الواحدة فتضعها عند منتهى ما يراه البصر، فهي أسرع من الضوء(4/290)
إِدْرِيسُ فَسَلّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَباً بالأخِ الصَّالِحِ، والنَّبِيِّ الصَّالِح، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى السَّمَاءِ الخامِسَةِ، فاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْريلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدُ، قِيلَ: وقَدْ أرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ قِيلَ: مَرْحَباً بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فإِذَا هارُونُ، قَالَ: هَذا هَارُونُ فَسَلّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَباً بالأخ الصَّالِحِ، والنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى السَّمَاءِ السادِسَةِ، فاسْتَفتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْريلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدُ، قِيلَ: وقَدْ أرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَباً بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فإِذَا مُوسَى، قَالَ: هَذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فركب النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الدابة، وطارت به إلى بيت المقدس حيث التقى هناك بالأنبياء، وصلّى بهم إماماً، ثم انطلق مواصلاً رحلته إلى السماء (1) قال ابن أبي جمرة: "إنما خص - صلى الله عليه وسلم - بركوب البراق زيادة له في التشريف والتعظيم، لأن غيره من الدواب يقدر غيره على ملكه والتمتع به، والبراق لم ينقل أن أحداً ملكه وتمتع به، أما لماذا لم يعط النبي - صلى الله عليه وسلم - قوة حتى يصعد بنفسه، فإنه لو صعد بنفسه لكان ماشياً على رجليه، والراكب أعز من الماشي، فأعطي البراق ليركب عليه، فيكون أعز وأشرف له كما أفاده ابن أبي جمرة. وظاهر حديث الباب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركب البراق في الإِسراء والمعراج معاً، لأنه لم يذكر غيره وجاء في رواية أخرى: " أنه - صلى الله عليه وسلم - أسري به على البراق، وعرج به على المعراج " وهو مصعدٌ بين السماء والأرض، لا يقال: كيف هو؟ ولا على أي صورة هو، لأنا لا نعلم حقيقته، صعد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيت المقدس بصحبة جبريل عليه
__________
(1) على المعراج وهو سلم أرسله الله إليه ليصعد عليه إلى السماء.(4/291)
مُوسَى فَسَلّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَباً بالأخ الصَّالِحِ، والنَّبِيِّ الصَّالِحِ، فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى، قِيلَ لَهُ. مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أبكِي لأنَّ غُلاماً بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أمَّتِهِ أكثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أمَّتِي، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فاسْتَفْتَحَ جِبْرِيْلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْريلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدُ، قِيلَ: وقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ قِيلَ: مَرْحَباً بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَلَمَّا خَلصْتُ فإِذَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: هَذا أبوكَ فَسَلّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلامَ، قَالَ: مَرْحَباً بالابن الصَّالِحِ، والنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ رُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا نَبِقُهَا مِثْلَ قِلالِ هَجَرَ، وِإذَا وَرَقُهَا مِثلَ آذَانِ الْفِيَلَةِ، قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السلام. حتى أَتى السماء الدنيا - أي الأولى، وسميت بذلك لأنها أقرب السموات إلى الأرض، فاستأذن جبريل من الملائكة هناك، وطلب منهم أن يفتحوا له، فسألوه من أنت. ومن معك؟ فأجابهم: أنا جبريل ومعي محمد، فسألوه: هل أمر بالعروج؟ فقال نعم، فرحبوا به واستقبلوه بالحفاوة والتكريم، وهم يقولون: " مرحباً به فنعم المجيء جاء " أي فقد كان مجيئه مباركاً محموداً، فلما فتحت السماء الدنيا وجد فيها آدم عليه السلام، وعرفهما جبريل ببعضهما، وتبادلا التحية، ورحب به أبوه آدم، ثم صعد - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء الثانية فالثالثة فالرابعة الخ والتقى فيها بالأنبياء آدم ويحيى وعيسى ويوسف وإدريس وهارون وموسى وإبراهيم عليهم السلام، واستمر في رحلته قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "فلما تجاوزت" أي لما تجاوزت موسى " بكى قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخل من أمتي " ولم يكن بكاء موسى حسداً، لأن الحسد منزوع من ذلك العالم السماوي، وإنما كان(4/292)
هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، وِإذَا أرْبَعَةُ أنْهَارٍ، نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظاهِرَانِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَانِ يا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أما الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ في الْجَنَّةِ، وأمَّا الظَّاهِرَانِ فالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ، ثُمَّ رُفِعَ لِي الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ ألفَ مَلَكٍ (1) ، ثم أُتِيْتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وإنَاءٍ مِنْ لَبَن، وَإنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، فَأخَذْت اللَّبَنَ، فَقَالَ، هِيَ الْفِطرةُ أنْتَ عَلَيْهَا، وأمَّتكَ، ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتِ خَمْسينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْم، فَرَجَعْت، فَمَرَرْتُ عَلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أسفاً على ما فاته من الأجر بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة، قال - صلى الله عليه وسلم -: " ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر " وهي جرار كبيرة تسع قربتين " وإذا ورقها كآذان الفيلة " ولم يتجاوزها أحد سوى نبينا - صلى الله عليه وسلم - ولذلك سميت سدرة المنتهى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " وإذا أربعة أنهار، نهران ظاهران ونهران باطنان " أي وإذا بتلك السدرة ينبع من تحتها أربعة أنهار تجري في الجنة، نهران منهما باطنان - أي لم يرهما أحد من البشر لأنّه لا يراهما أحدٌ إلاّ في الدار الآخرة، وهما السلسبيل والكوثر، ونهران منهما ظاهران، نراهما في الدنيا، وهم النيل والفرات وهو معنى قوله: " فقلت ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان نهران في الجنة، وأما الظاهران، فالنيل والفرات " قال - صلى الله عليه وسلم -: " ثم رفع لي البيت المعمور، فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك " فلا يعودون إليه مرة أخرى، وهو في السماء السابعة حيال الكعبة قال - صلى الله عليه وسلم -: " ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن، وقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك " قال الحافظ: أي دين الإِسلام يعني أن هذا الشراب الذي اخترته هو الشراب الطيب الموافق لدينك وشريعتك، والموافق للطبيعة البشرية، لأنه أوّل شيء يدخل بطن المولود، ويشق أمعاءه ويغذي جسمه
__________
(1) هكذا في رواية الكشميهي بزيادة: يدخله كل يوم سبعون ألف ملك وفي الرواية الأخرى بدون هذه الزيادة.(4/293)
مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْم، قَالَ: إِنَّ أُمَّتك لا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْم؟ وِإنِّي واللهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فارْجِعْ إلى رَبِّكَ فأسْالهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ، فَوَضَعَ عَنِّي عَشْراً، فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْراً، فَرَجَعْتُ إلَى مُوسَى، فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْراً، فَرَجَعْت إلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَواتٍ كُلَّ يَوْم، فَرَجَعْتُ فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أثناء طفولته، ويكون له غذاءً ودواء وسقاء أثناء الرضاعة، بخلاف الخمر، فإنها شراب خبيث يفتك بشاربه صحياً وجسمياً، أما العسل فقد شرب منه النبي - صلى الله عليه وسلم - قليلاً، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ثم فرضت علي الصلاة خمسين صلاة كل يوم، فرجعت، فمررت على موسى، قال: بم أمرت، قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم " أي لا تقدر على ذلك " وإني والله قد جربت الناس قبلك " يعني بني إسرائيل " وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة " أي عانيت منهم كثيراً " فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك " بالتنقيص من عدد الصلوات تيسيراً وتسهيلاً عليهم ليتمكنوا من أداء ما فرض الله عليهم دون مشقة أو عناء " فرجعت فوضع عني عشراً " أي فلما عدت إلى ربي، وسألته التخفيف نقص عني عشراً من الخمسين فصارت أربعين " فرجعتُ إلى موسى فقال مثله " أي فلما رجعت إلى موسى، وأخبرته أن الله قد وضع عني عشراً لم يكتف بذلك، وإنما أعاد عليَّ قوله الأوّل، فقال لي أن أمتك لا تستطيع أربعين صلاة كل يوم، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. قال - صلى الله عليه وسلم -: " فرجعت، فوضع عني عشراً " فصارت ثلاثين " فرجعت إلى موسى فقال مثله " أي قال لي: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف(4/294)
بخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْم، فَرَجَعْتُ إلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمسِ صَلَواتٍ كُلَّ يَوْم، قَالَ: إِن أُمتك لا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَواتٍ كُلَّ يَوْم، وِإنِّي قَدْ جَرَّبْت النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْت بني إسْرَائِيلَ أشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إلى رَبِّكَ فَاسْألة التَّخْفِيفَ لأمَّتِكَ، قَلَ: سَألْت رَبِّي حَتَّى استحْيَيْت، ولكِنْ أرْضَى (1) وأُسَلِّم، قَالَ: فلَمَّا جَاوَزْت نَادَانِي منَادٍ: أمْضَيْت فَرِيْضَتِي، وخَفَّفْت عَنْ عِبَادِي".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" فرجعت " إلى ربي " فوضع عني عشراً " فصارت عشرين صلاة " فرجعت إلى موسى فقال مثله " أي مثل قوله الأول، " فرجعت " إلى ربي " فأمرت بعشر صلوات " أي بعشر صلوات في اليوم والليلة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فرجعت " إلى موسى " فقال مثله " أي فقال لي: ارجع إلى ربك، فاسأله التخفيف لأمتك " فرجعت فأمرت بخمس " أي فأمرني الله تعالى بخمس، يعني فصارت خمس صلوات في اليوم، واستقر الأمر على ذلك حيث قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: " أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي " أي نفذت حكمي وجعلت الصلاة خمساً، تخفيفاً على عبادي من هذه الأمة المحمدية، فلله الحمد والمنة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من المعجزات العظيمة الثابتة للنبي - صلى الله عليه وسلم - معجزة الإِسراء والمعراج (2) ، والصحيح أنهما وقعتا في
__________
(1) قال الحافظ: " قوله: ولكن أرضي وأسلم " فيه حذف، تقدير الكلام: سألت ربي حتى استحييت فلا أرجع، فإني إن رجعت صرت غير راض ولا مسلم ولكني أرضي وأسلم. اهـ.
(2) قال الإمام أبو حنيفة في " الفقه الأكبر": " وخبر المعراج حق، فمن رده فهو ضال مبتدع، وقال القاري في شرحه عليه: من أنكر المعراج ينظر إن أنكر الإسراء من مكة إلى بيت المقدس فهو كافر، ولو أنكر المعراج من بيت المقدس لا يكفر.(4/295)
ليلة واحدة قبل الهجرة بسنة (1) وإنما كان بعد رجوعه - صلى الله عليه وسلم - من الطائف ليكون في ذلك تسلية له - صلى الله عليه وسلم - وتقوية لنفسه الشريفة على ما يواجهها من المصاعب.
وقد رويت قصة الإسراء والمعراج عن كثير من الصحابة عَدَّد منهم في " المواهب اللدنية " ستة وعشرين صحابياً. واختلف السلف والخلف: هل كان الإسراء بالروح فقط أو بالروح والجسد معاً، فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، وأنه رؤيا منام، وإلى هذا ذهب معاوية وابن مسعود وعائشة والحسن البصرى في رواية كما في " الشفاء " للقاضي عياض، واحتجوا بقوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) لأن الرؤيا لا تطلق إلاّ على ما يشاهد في النوم، أما ما يشاهد في اليقظة فإنه يسمى رؤية لا رؤيا، قالوا: فلما سمّى الله المعراج رؤيا علمنا أنه كان مناماً، واحتجوا بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " ما فقد جسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وقوله - صلى الله عليه وسلم - في بعض الروايات: " بينا أنا نائم بالحطيم " وقول أنس رضي. الله عنه " وهو نائم في المسجد الحرام " وذكر القصة ثم قال في آخرها: فاستيقظت وأنا بالمسجد الحرام. اهـ. غير أن الإمام ابن القيم " نفي عن معاوية وعائشة أنهما يقولان بأن الاسراء كان مناماً، فقال في " زاد المعاد ": وعائشة ومعاوية لم يقولا كان مناماً، وإنما قالا أسري بروحه، لم يفقد جسده، وفرّق بين الأمرين، بأن ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصور الحسيّة، فيرى أنه قد عرج به إلى السماء، أو ذهب به إلى مكة وأقطار الأرض، وروحه لم تصعد، ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له الأمثال. اهـ. وذهب معظم السلف والخلف إلى أن الإسراء والمعراج كانا بالجسد والروح معاً، وهو قول ابن عباس وجابر وأنس وابن المسيب وابن شهاب والحسن البصري والنخعي، وهو قول أكثر المتأخرين، وأجابوا بأن قوله تعالى:
__________
(1) وبه جزم النووي، وأما شهره، فقيل كان في ربيع الأول، وقيل في ربيع الآخر وقيل في رمضان، وقيل في شوال، وقيل في رجب، حكاه ابن عبد البر، وجزم به النووي في الروضة، وأما ليلته فقيل في السابع والعشرين، وقيل في السابع عشر، والله أعلم. (ع) .(4/296)
(وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) ليس نصاً صريحاً على نفي الرؤية بالبصر، فإن الرؤيا لا تختص بالرؤيا المنامية وحدها، فتخصيصها بما يرى في النوم غير صحيح من عدة وجوه، منها ما ذكره السهيلي من أن الرؤيا تأتي في كلام العرب بمعنى ما يشاهد في اليقظة ويرى بالعين أيضاً، ومن ذلك قول الراعي:
وَكَبَّرَ للرُّؤيَا وَهَشَّ فُؤادُهُ ... وَبَشَّرَ قَلْباً كَانَ جَماًّ (1) بَلابِلُهْ
ومنها، وهو أقواها أن ابن عباس رضي الله عنهما فسر الرؤيا في الآية بأنها رؤيا بصرية لا منامية حيث قال: " هي رؤيا عين رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - لا رؤيا منام " وابن عباس رضي الله عنهما حجة في اللغة ولسان العرب، وأهل مكة أدرى بشعابها، ولو كانت مناماً ما افتتن به الناس حتى ارتد كثير ممن أسلم. وأما قول عائشة رضي الله عنها: " ما فقد جسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) فإنه يعارض قول أبيها الصديق رضي الله عنه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به: طلبتك يا رسول الله في مكانك فلم أجدك، فأجابه: " إنّ جبريل حملني إلى المسجد الأقصى " أخرجه البيهقي وابن مردويه، والصديق أدرى من عائشة بما وقع في تلك الليلة، لأنها كانت إذا ذاك طفلة صغيرة، لا يتجاوز عمرها على أقرب الروايات سبع سنوات، هذا إذا قلنا إنه - صلى الله عليه وسلم - أسرى به قبل الهجرة بعام، أما على القول بأن الإسراء كان قبل الهجرة بخمس سنوات فإن عمرها إذ ذاك لا يتجاوز ثلاث سنين، فهل نأخذ بقولها أو بقول أبيها: على أنها رضي الله عنها لم تتحدث بذلك عن مشاهدة، لأنها لم تكن زوجة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الوقت، فلماذا يرجح
__________
(1) قوله: كان جماً بلابله، أي كان كثير الأشواق والهواجس النفسية.
(2) قال القاري في " شرح الفقه الأكبر ": وقد أغرب شارح العقائد في تأويل قول عائشة رضي الله عنها: " ما فقد جسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج " حيث قال: معناه ما فقد جسده عن الروح، بل كان معه روحه، قال: وغرائبه لا تخفى، والتأويل الصحيح لقول عائشة أن المعراج كان بمكة في أوائل البعثة حين لم تولد عائشة، أو يقال: القضية كانت متعددة.(4/297)
حديثها على حديث أبيها الذي قاله عن مشاهدة ومعاينة وحضره بنفسه؟. اهـ. كما أفاده القاضي عياض. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: " بينا أنا نائم في المسجد الحرام " وذكر القصة فقد قال عياض: ليس في الحديث أنه كان نائماً في القصّة كلها، فلعله كان نائماً، فلما جاءه جبريل أيقظه كما قال في رواية أخرى فهمزني بعقبه، وأما قوله " ثم استيقظت وأنا في المسجد الحرام " فلعل معناه أنّه لما عاد - صلى الله عليه وسلم - نام بقية تلك الليلة فلما استيقظ في الصباح وجد نفسه في المسجد الحرام.
واستدل القائلون بأن الإسراء والمعراج كانا بالجسد والروح معاً بقوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) حيث افتتحها الله بالتسبيح المشعر باستعظام ما كان في الأمر، والتعجب منه، لأنه حادث خارق للعادة، مخالف للسنن الكونيّة، فلو كان الإسراء بالروح فقط لم يكن ثمة ما يقتضي هذا لأنه أمر عادي يقع لكل واحد. ثم إنه قال " بعبده " وهو نص قاطع في الموضوع، لأن العبد لا يطلق إلاّ على الشخص المكون من الروح والجسد واستدلوا أيضاً بما جاء في أحاديث الإسراء والمعراج من أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أخبرهم بذلك هاج هائجهم، وقامت قيامتهم، فمنهم الواضع يده على رأسه تعجباً، ومنهم المصفق بيده، وارتد بعض من كان على الإِسلام، فهل ترى أن ذلك كله كان من أجل رؤيا منامية أخبرهم عنها - صلى الله عليه وسلم -. كما أن في القصة ما هو أكثر وأقوى دلالة من هذا وهو أنهم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عيرهم فأجابهم بأنه مر بها، وقد ند منها بعير فانكسر، وأنه مر بعير أخرى قد ضلوا ناقة لهم، وكان معهم قدح من الماء فشربه - صلى الله عليه وسلم -، فسألوهم عندما قدموا مكة: فصدقوا ذلك، فهل ترى أن الروح هي التي شربت وقد قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في " مختصر سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - " "ثم أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجسده على الصحيح (1) من المسجد الحرام
__________
(1) " مختصر سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - " للشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.(4/298)
840 - " بَابُ تزْويج النبي - صلى الله عليه وسلم - عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا "
981 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
" تَزَوَّجَنِي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنَا بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَنَزَلْنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلى بيت المقدس إلى أن قال ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء" إلخ. القصة. وأما رؤيته - صلى الله عليه وسلم - لربه: فقد اختلف فيها السلف فأنكرتها عائشة حيث قالت لمسروق: " ثلاث من حدثك بهن فقد كذب، من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) الآية، وبقول عائشة قال جماعة من الفقهاء المحدثين.. وثبت عن ابن عباس من طرق متعددة: (1) أنه قال: " إن الله اختص موسى بالكلام، ومحمداً بالرؤية، وإبراهيم بالخُلة " أخرجه النسائي والحاكم. قال النووي وقد قال معمر بن راشد (2) حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس، ثم إن ابن عباس رضي الله عنهما أثبت شيئاً نفاه غيره، والمثبت مقدم على النافي (3) . ثانياًً: بيان الزمان والمكان الذي فرضت فيه الصلوات الخمس، أما الزمان فهو ليلة الإِسراء، وأما المكان فهو السماء العليا، وذلك لِإظهار فضلها، وشرفها.
مطابقته للترجمة: في اشتماله على قصة المعراج، وهو ما ترجم له البخاري. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
840 - " باب تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة رضي الله عنها "
981 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها تحدثنا بقصة زواجها
__________
(1) " الشفا " للقاضي عياض.
(2) " شرح النووي على مسلم ".
(3) قال الحافظ في " الفتح " ويمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة، بأن يحمل نفيها على رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب. قال ابن كثير ولو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه لأخبر بذلك، ولقال ذلك للناس. (ع) .(4/299)
في بني الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَوُعِكْتُ فَتَمَزَّقَ شَعْرِي، فَوَفَى جُمَيْمَةً، فأتَتْنِي أمِّي أمُّ رُومَانَ، وِإنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ ومعي صَوَاحِبٌ لي، فصَرَخَتْ بي فأتَيْتُهَا لا أدْرِي مَا تُرِيدُ بِي، فأخَذَتْ بِيَدِي حتى أوْقَفَتْنِي على بَابِ الدَّارِ، وِإنِّي لأنْهَجُ حتى سَكَنَ بَعْضُ نَفَسِي، ثم أخَذَتْ شَيْئاً مِنْ مَاءٍ فَمَسَحَتْ بِهِ وَجْهِي ورَأسِي، ثم أدْخَلَتْنِي الدَّارَ، فَإِذَا نِسْوَةٌ مِن الأنْصَارِ في الْبَيْتِ، فَقُلْنَ: عَلَى الْخَيْرِ والْبَرَكَةِ، وعلى خَيْرِ طَائِرٍ، فأسْلَمَتْنِي إلَيْهِنَّ، فأصْلَحْنَ مِنْ شَأنِي، فَلَمْ يَرُعْنِي إلَّا رَسُولُ اللهِ ضُحَى، فأسْلَمْنَنِي إليه، وأنا يَوْمَئِذٍ بِنْتُ تِسْع سِنين".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه عقد عليها وهي بنت ست سنين، فقدمت مع أهلها إلى المدينة، ونزلت في بني الحارث بن الخزرج فمرضت رضي الله عنها، وتمزق شعرها، ثم شفيت وعاد إليها شعرها، وأخذ يتكاثر ويطول حتى وصل إلى المنكبين، وهو معنى قولها: " فوفي جميمة " قالت رضي الله عنها: " فأتتني أمي أم رومان، وإني لفي أرجوحة " أي وأنا ألعب راكبة على حبل مشدود بين خشبتين مع بعض صديقاتي، قالت: " فأخذت بيدي " أي فأمسكت بيدي وأخذتني معها " حتى أوقفتني على باب الدار وإني لأنهج " أي تتردد أنفاسي من التعب والإِعياء " ثم أخذت شيئاً من الماء فمسحت به وجهي ورأسي " وذلك لتهدئتها " ثم أدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن على الخير والبركة " أى جعله الله زفافاً سعيداً مباركاً " وعلى خير طائر " أي وتقدمين على أسعد حظ. " فأصلحن من شأني " أي فقمن هؤلاء النسوة بإصلاح شعرها وإلباسها أحسن ثيابها، وإعدادها لزوجها، قالت عائشة: " فلم يرعني إلاّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الله عليه وسلم - ضحى " أي فلم أشعر إلاّ وقد دخل عليّ رسول الله صباحاً في وقت(4/300)
841 - " بَابُ هِجْرَةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وَأَصحَابِهِ إلى الْمَدِينَةِ "
982 - عن عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
"لَمْ أعْقِلْ أبَوَيَّ قَطُّ إلَّا وَهُمَا يَدينَانِ الدِّيْنَ، ولم يَمُرُّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إلَّا يَأتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طَرَفَي النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَلما ابْتلِيَ الْمُسْلِمُونَ، خَرَجَ أبوْ بَكْرٍ مُهَاجِراً نحو أرْض الْحَبَشَةِ، حتىْ إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، وَهُوَ سَيِّدُ القَارَةِ، فَقَالَ: أيْنَ تُرِيدُ يا أبَا بَكْرٍ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الضحى.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: قصة زواجه - صلى الله عليه وسلم - من السيدة عائشة رضي الله عنها وهو ما ترجم له البخاري. ثانياً: أنه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة التي لا يوطأ مثلها، لأن رسول الله عقد على عائشة وعمرها ست سنوات، ودخل عليها وعمرها تسع سنوات. ثانياً: مشروعية إعداد العروس وتزيينها لزوجها، وإلباسها أفخر ثيابها ليلة زفافها وعرسها، لقول عائشة رضي الله عنها: " ثم أدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار، فأسلمتني إليهن فأصلحن من شأني ". والمطابقة: في كون الحديث مشتملاً على قصة زواجه - صلى الله عليه وسلم - بعائشة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
841 - " باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة "
982 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها تحدثنا في حديثها هذا عن قصة الهجرة النبوية، فتمهد لذلك بقولها: " لم أعقل أبوي إلاّ وهما يدينان الدين " يعني أن أبويها أسلما قديماً، وهي لا زالت صغيرة جداً، حتى إنها لا تذكر وقت إسلامهما، لأنها منذ أن فتحت عينينها وعرفت أبويها، وجدتهما يعتنقان الإِسلام، فلما اشتد الأذى على أبي بكر مثل غيره، من المسلمين، خرج(4/301)
فَقَالَ أبو بَكْرٍ: أخرَجَنِي قَوْمِي، فَأُرِيدُ أنْ أسِيْحَ في الأرْض، وأعْبُدَ رَبِّي، فَقَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أبا بَكْر لا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ، إِنَّكَ تكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْوِي الضَّيْفَ (1) ، وَتُعِينُ عَلَى نَوائِبِ الْحَقِّ، فأنَا لَكَ جَارٌ، ارْجِعْ واعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ، فرَجَعَ وارْتَحَلَ معَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَة عَشِيَّةً في أشْرَافِ قُرَيْشِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أبَا بَكْر لا يَخْرُجُ مِثْلُهُ ولا يُخْرَجُ، أتُخْرِجُونَ رَجُلاً يَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الكَلَّ، ويَقْرِي الضَّيْفَ، ويُعِينَ عَلَى نَوائِبِ الْحَقِّ، فَلَمْ تُكَذِّبْ قُريشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ وقالُوا لابنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أبا بَكْر فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ في دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ فِيهَا، وَليْقَرأ مَا شَاءَ، ولا يُؤْذِينَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مهاجراً إلى الحبشة، قالت عائشة: " فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد " بفتح الباء وسكون اللام وكسر الغين موضع في طريق اليمن على بعد خمسة مراحل " لقيه ابن الدغنة " بالدال المفتوحة المشددة والغين المكسورة والنون المفتوحة المخففة " وهو سيد القارة " أي رئيس قبيلة القارة بفتح الراء، وهي من بني الهون بن خزيمة بن مدركة بن الياس " فقال ابن الدغنة: إن مثلك يا أبا بكر لا يخرج " بفتح الباء وضم الراء " ولا يخرج " بضم الياء وفتح الراء أي لا ينبغي أن يخرج بنفسه، ولا أن يخرجه قومه من بلده، " إنك تكسب المعدوم " أي إنك من المحظوظين في التجارة تربح ما لا يربح غيرك " وتصل الرحم، وتحمل الكل " أي تعين الضعيف العاجز " وتقوي الضيف " أي تكرمه " وتعين على نوائب الحق " أي وتقف عند الحوادث والنوازل إلى جانب الحق فتنصر المظلوم وتضرب على يد
__________
(1) تقدم مثله فٍى وصف السيدة خديجة رضي الله عنها للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عائشة من باب بدء الوحي، وشرحناه هناك شرحاً وافياً.(4/302)
بِذَلِكَ، ولا يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا نَخْشَى أن يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وأبنَاءَنَا، فَقَالَ ذَلِك ابْنُ الدَّغِنَةِ لأبِي بَكْرٍ، فَلَبِثَ أبو بَكْرٍ بذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ في دَارِهِ، ولا يَسْتَعْلِنُ (1) بِصَلَاتِهِ ولا يَقْرأ في غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لأَبي بَكْرٍ فابْتَنَى مَسْجِداً بِفِنَاءِ دَارِهِ، وكانَ يُصَلِّي فِيهِ ويَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَنْقَذِفُ عليه نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وأبنَاءُهُمْ، وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ، ويَنْظرٌونَ إِلَيْهِ، وكان أبو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً لا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرأ الْقُرآنَ، فأفْزَعَ ذَلِكَ أشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فأرْسَلُوا إلَى ابْنِ الدَّغنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فقالُوا: إِنَّا كُنَّا أجَرْنَا أبا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ علَى أن يَعْبُدَ رَبَّهُ في دَارِهِ، فَقَدْ جَاوَزَ ذلِكَ، فَابْتَنَى مَسْجِداً بِفِنَاءِ دَارِهِ، فأعْلَنَ بالصَّلَاةِ والقِرَاءَةِ فِيهِ، وِإنَّا قَدْ خَشِينَا أن يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وأبنَاءَنَا، فانْهَهُ، فَإِنْ أَحبَّ أن يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ في دَارِهِ فَعَلَ، وَإنْ أَبَى إلَّا أن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الظالم. " فأنا لك جار " أضعك في جواري وحمايتي وأدافع عنك " فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة " أي فلم يجرأ أحد من قريش على أن يرد جوار ابن الدغنة أو يخفره وينتهكه " وقالوا لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره " أي سراً ولا يجاهر بعبادته لئلا يفتن النساء والصبيان عن دينهم " فقال ذلك ابن الدغنه لأبي بكر " أي فأبلغه هذا الشرط لكي يلتزم به، ويقوم بتنفيذه " فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره " مدة من الزمن يعبد ربه سراً في بيته " ولا يستعلن بصلاته " أي لا يجاهر بصلاته ولا بقراءته " ثم بدا لأبي بكر " أي ثم ظهر لأبي بكر أن يجاهر بعبادته، " فابتنى مسجداً بفناء داره " أي في ساحة المنزل المكشوفة للناس " وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن " أي وصار يصلي ويعبد ربه بالصلاة وقراءة القرآن جهاراً أمام أعين الناس "فيتقذف عليه نساء
__________
(1) ولا يستعلن أي لا يجاهر بصلاته وقراءته للقرآن.(4/303)
يُعْلِنَ بِذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِليْكَ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا كَرِهْنَا أنْ نُخْفِرَكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لأبِي بَكْرٍ الاسْتِعْلانَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَى أبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَاقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أن تَقْتَصِرَ علَى ذَلِكَ، وإِمَّا أَنْ تَرْجِعَ إِلِيَّ ذِمَّتِي، فإني لا أحبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أخْفِرْتُ في رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ، قَالَ أبو بَكْرٍ: فَإِنِّي أردُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ، وأرْضَى بِجِوَارِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لِلْمُسْلِمِينَ: إِنِّي أُرِيْتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لابتَيْنِ، وهُمَا الحَرَّتَانِ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ عَامَّةُ منْ كَانَ هَاجَرَ بأرْضِ الْحَبَشَةِ إلى الْمَدِينَةِ، وتَجَهَّزَ أبو بَكْرٍ قِبَلَ، الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -: عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: وَهَلْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المشركين" أي يزدحم عليه النساء والأطفال ويتدافعون حتى يتساقطون عليه " فأفزع ذلك أشراف قريش " أي أخافهم وأقلقهم " فأرسلوا إلى ابن الدغنة " وكلموه في شأن الصديق وطلبوا منه أن يلتزم بالشرط " فقالوا: إنا كما قد أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره " أي إنا كنا قبلنا جوارك لأبي بكر والتزمنا به، وحافظنا عليه، على شرط أن يعبد ربه سراً، ولا يجاهر بعبادته، فيؤذينا، ويضل نساءنا وصبياننا " فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل " أي فله أن يفعل ذلك، مع بقاء الجوار نافذاً " وإن أبى إلاّ أن يعلن ذلك " أي وإن أصر أن يعبد ربه علناً " فسله أن يرد إليك ذمتك " أي فاطلب منه أن يرد إليك جوارك وحمايتك له " فإنما كرهنا أن نخفرك " أي أن ننتهك حرمة الجوار الذي بيننا وبينك. قالت عائشة رضي الله عنها: " فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه " أي أنت تعرف الشرط(4/304)
تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَبَسَ أبو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيَصْحَبَهُ، وعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ، وَرَقَ السَّمُرِ -وَهُوَ الخَبَطُ- أرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْماً جُلُوسٌ في بَيْتِ أبِي بَكْرٍ في نَحْرِ الظَّهِيرَةِ قالَ قَائِلٌ لأبِي بَكْرٍ، هَذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَقَنِّعاً في سَاعةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، فَقَالَ أبُو بَكْرٍ: فداءٌ لَهُ أبِي وأمِّي، وَاللهِ مَا جَاءَ بِهِ في هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: فجاءَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -، فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لأَبِي بَكْرٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الذي شرطته على قريش في جواري لك، " فإما أن تقْتَصِر على ذلك " وتحافظ عليه، ولا تتعدى حدوده، " وإما أن ترجع إليَّ ذمتي " وترد إليَّ جواري " فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت " أي فإني أخشى أن تضطر قريش إلى انتهاك حرمة جواري على نقض عهدي، ويكون ذلك وصمة لي " فقال أبو بكر فإني أرد إليك جوارك " وذلك رغبة منه في أن يتحرر في عبادته فيعبد الله كيف شاء " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين: إني أريت دار هجرتكم " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - أطلعه الله في منامه على " المدينة " التي سيهاجر إليها " وتجهز أبو بكر قبل المدينة " أي تهيأ واستعد أبو بكر للرحيل إلى المدينة التي أمر الله بالهجرة إليها " فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رسلك " أي تمهل قليلاً فلعلك ترافقني في الهجرة إليها " فحبس أبو بكر نفسه " أي فتوقف أبو بكر وتأخر عن السفر من أجل أن يصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - " وعلف راحلتين عنده ورق السمر وهو الخبط (1) " أي ما يخبط بالعصى من أوراق الشجر، " فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحو الظهيرة " أي عند الهاجرة، وبقرب الزوال "قال قائل
__________
(1) وهو شجر الطلح، والطلح كما قال أبو عبيدة والفراء: شجر عظام له شوك. اهـ. في " تفسير القرطبي " ج 17.(4/305)
أخْرِج مَنْ عِنْدَكَ، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: إِنَّما هُمْ أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: فَإِنِّي قَدْ أذِنَ لِي في الْخُرُوجِ، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: الصَّحَابَةُ بأبي أنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: نَعَمْ، قَالَ أبو بَكْرٍ: فَخُذْ بأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: بالثَّمَنِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهزْنَاهُمَا أحثَّ الْجِهَازِ، وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً في جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أسْمَاءُ بِنْتُ أبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَرَبَطتْ بِهِ عَلَى فَمِ الجرَابِ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذاتَ النِّطَاقِيْنِ، قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأبَو بَكْرٍ بغَارٍ في جَبَلِ ثَوْرٍ، فَكَمَنَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وهُوَ غُلامٌ شَابٌ ثَقِفٌ لَقِنٌ، فَيَدَّلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأبي بكر: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقنعاً" أي مغطياً رأسه " فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي " والمعنى أجعل أعز الأشياء عندي وهما أبي وأمي فداءً للنبي - صلى الله عليه وسلم -. " ما جاء به في هذه الساعة إلاّ أمر " أي لم يأت في ساعة الظهيرة إلا لأمر هام له شأنه وخطره " قالت عائشة رضي الله عنها: فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستأذن، فأذن له، فدخل " عليهم في منزلهم " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: أخرج من عندك " من الغرباء، لأنه يريد أن يتحدث معه في شأن الهجرة " فقال أبو بكر إنما هم أهلك " أي ولا يوجد في البيت أحد غريب. " قال: فإني قد أذن لي في الخروج " أي فإن الله قد أذن لي بالهجرة إلى المدينة " فقال أبو بكر رضي الله عنه: الصحابة " أي أسألك صحبتك، ومرافقتك في هجرتك قالت عائشة رضي الله عنها: " فجهزناهما أحّث الجهاز " بفتح الجيم أي فجهزناهما بأحسن ما يحتاج إليه المسافر في سفره من أثاث ومتاع ولباس، أو فجهزناهما بأسرع جهاز ممكن، لأن الوقت كان ضيقاً، ويجوز في جهاز وجهان(4/306)
بِسَحرٍ، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ، بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فلا يَسْمَعُ أمراً يَكْتَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أبي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ، فَيَبِيتَانِ في رِسْلٍ، وَهُو لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهمَا، حتَّى يَنْعَقَ بِهَا عامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ، واسْتَأجَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأبو بَكْرٍ رَجُلاً مِنْ بَنِي الدِّيل، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْن عَدِي هَادِياً خِرِّيتاً -والخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بالهِدَاية- قَد غَمَسَ حلِفَاً في آلِ العَاصِ بْن وَائِلٍ السَّهْمِي، وهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْش، فَأمنَاهُ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَأتاهُمَا بِرَاحِلَتِيهما صُبْحٍ ثلَاثٍ، وانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ والدَّلِيلُ، فأخَذَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فتح الجيم وكسرها " كما أفاده العيني " " وصنعنا لهما سفرة " أي وأعددنا لهما زادهما من الطعام، " فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها " أي من الحبل الذي تشد بها وسطها عند العمل " فربطت " أي فربطته بتلك القطعة من نطاقها، " ثم لحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكمنا فيه، أي اختفيا فيه "، لأنّ قريشاً دبروا أمرهم لقتله - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة، فأتى جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: لا تبت هذه الليلة على فراشك. فلما كانت عتمة الليل، اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي رضي الله عنه نم على فراشي، وخرج - صلى الله عليه وسلم - ومعه حفنة من تراب في يده، فجعل ينثر على رؤوسهم، وهو يتلو (يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) . إلى قوله: (فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) ثم انصرف بصحبة الصديق رضي الله عنه إلى غار ثور "فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو(4/307)
بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ، قَالَ: سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْن جُعْشُم، جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْش يَجْعَلُونَ في رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَنْ قَتَلَهُ أوْ أسَرَهُ، فَبَيْنَمَا أنا جَالِسٌ في مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِج أقْبَلَ رَجُل مِنْهُمْ حتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلوسٌ، فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ إِنِّي قَدْ رَأيْتُ آنِفاً أسْوِدَةً بالسَّاحِلِ أرَاهَا مُحَمَّداً وأصْحَابَهُ، قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أنَهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأيْتَ فُلَاناً وَفُلاناً، انْطَلَقُوا بأعْيُننَا، ثُمَّ لَبِثْتُ في الْمَجْلِس سَاعَة ثُمَّ قُمْتُ، فدَخَلْتُ، فأمَرْتُ جَارِيَتي أنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي، وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أكَمَةٍ فَتَحْبِسهَا عليَّ، وَأخَذْتُ رُمْحِي، فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ، فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الأرْضَ، وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ حَتَّى أتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا، فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بي، حَتَّى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غلام شاب ثقف لقن" أي حاذق فطن " فيدلج من عندهما بسحر " أي فيعود من عندهما إلى مكة آخر الليل " كبائت " أي فيكون في مكة صباحاً مع الفجر كأنما كان بائتاً بها، ولم يفارقها " فلا يسمع أمراً يكتادان به " أي يدبر ضدهما " إلاّ وعاه " أي عرفه واطلع عليه فيخبرهم به " ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم " أي شاة من غنم يأتيهما بلبنها " فيبيتان في رسل "، وهو اللبن الطازج الطري " وهو لبن منحتهما ورضيفهما " والرضيف اللبن توضع فيه الحجارة المحماة بالشمس ليسخن " حتى ينعق بها " بكسر العين أي يصبحِ بها " بغلس " أي فِي آخر الليل " واستأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رجلاً من بني الديل " قبيلة من كنانة، واسمه عبد الله بن أريقط " هادياً خريتاً " أي دليلاً ماهراً " قد غمس حلفاً في آل العاص " أي تحالف معهم: " قال سراقة بن جعشم: جاءنا رسل من كفار قريش يجعلون في رسول الله وأبي بكر(4/308)
دَنَوْتُ مِنْهُمْ، فَعَثَرْتْ بِي فَرَسِي، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، فَقُمْتُ فأهْوَيْتُ يَدِي إلى كِنَانَتي فاسْتَخْرَجتُ مِنْهَا الأَزْلامَ، فاسْتَقْسَمْتُ بِهَا، أضُرُّهُمْ أَمْ لا؟ فخرج الذي أكرَهُ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي، وَعَصَيْتُ الأزْلَامَ تُقَرِّبُ بي، حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِراءَةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَهُوَ لا يَلْتَفِتُ وَأبو بَكْرٍ يُكْثِرُ الالْتِفَاتَ، سَاخْت يَدَا فَرَسِي في الأرْض حتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، ثُمَّ زَجَرتُهَا فَنَهَضَتْ، فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا، فَلمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذا، لأثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِع في السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ، فاسْتَقْسَمْتُ بالأزْلامِ فخرَجَ الذي أكْرَهُ، فَنَادَيْتُهُمْ بالأمَانِ، فَوَقَفُوا فَرَكِبْتُ فَرَسِي حتَّى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دية كل واحد منهما" أي مقدار ديته، وهي مائة من الإِبل " فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهي من وراء أكمة " أي أمرتها أن تخرج لي فرسي متسترة عن الناس وراء مرتفع من الأرض لئلا يعلموا بخروجي، فيسبقني أحد إلى محمد وصاحبه، " وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجِّه الأرض وخفضت عاليه " أي أرخيت رمحي حتى مس زجه الأرض، وبالغت في خفض أعلاه لئلا يظهر لمن بعد عنه، والزج الحديدة التي في أسفل الرمح " حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي " أي فأسرعت بفرسي لكي تقربني منهما، وتقطع المسافة في زمن قصير إليهما " حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها " أي حتى اقتربت من محمد - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، فعثرت في فرسي عثرة شديدة حتى سقطت عن ظهرها " فأهويت بيدي إلى كنانتي " أي فمددت يدي إلى كيس الأزلام الذي معي " فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها أضرهم أم لا؟ " أي فأخرجت منها سهماً لأعرف هل أستطيع أن أضرهم أم لا " فخرج الذي أكره " أي فخرج لسهم يدل على أني لا أضرهم "فركبت(4/309)
جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ في نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ من الْحَبْسِ عَنْهُمْ، أن سَيَظْهَرُ أمرُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ، وأخْبَرْتُهُمْ أخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ وعَرَضْتُ عَلَيهمْ الزَّادَ والْمَتَاعَ، فلَمْ يَرْزآنِي، ولم يَسأَلانِي إلَّا أن قَالَ: اخْفِ عَنَّا، فَسألتُهُ أن يَكْتُبَ لِي كتابَ أَمْنٍ، فأمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرةَ فَكَتَبَ في رُقْعَةٍ مِنْ أدِيمٍ، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَقِيَ الزُّبَيْرَ في رَكْبٍ مِنَ اْلمُسْلِمِينَ كَانُوا تُجَّاراً قَافِلينَ مِنَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فرسي وعصيت الأزلام" أي فلم ألتفت إلى ما ظهر لي من الأزلام، بل ركبت فرسي وتبعت محمداً وصاحبه " حتى إذا سمعت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسي في الأرض " أي غاصت في الأرض " ثم زجرتها " أي صحت عليها بشدة " فنهضت، فلم تكد تخرج يديها " أي فقامت الفرس بعد محاولة شديدة حتى أنها كادت أن لا تستطيع إخراج يديها من الأرض " فلما استوت قائمة إذا لِأثر يديها عُثَان ساطع (1) في السماء " أي فلما اعتدلت الفرس، وقامت من سقطتها، رأيت لأثر يديها غباراً شديداً " مثل الدخان " يشبه الدخان في سواده " فناديتهم بالأمان " أي فأعطيتهم الأمان. " فوقفوا " أي فوثقوا بي ووقفوا وفي رواية: " فناديت القوم أنا سراقة بن مالك بن جعشم أنظروني (2) أكلمكم، فوالله لا يأتيكم مني شيء تكرهونه ". اهـ. فوقفوا ينتظرونه، ليعرفوا ما عنده " ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي فتيقنت بعدما منعت عن الظفر بهم، أن محمداً رسول الله حقاً، وأن دينه سيعلو " وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني " أي فلم يأخذا مني شيئاً "فسألته
__________
(1) أي مرتفع في الجو والعثان بضم العين وفتح الثاء الغبار.
(2) أنظروني، أي انتظروني.(4/310)
الشَّامِ، فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأبا بَكْر ثِيَابَ بَياض، وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بالْمَدِينَةِ بِمَخْرَجِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَكَّةَ فكانُوا يَغدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إلى الْحَرَّةِ، فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ، فانْقَلبُوا يَوْماً بَعْدَ ما أطالُوا انْتِظَارَهُمْ، فَلَمَّا أوَوْا إلى بُيُوتِهِمْ أوْفَى رَجُل مِنْ يَهودَ عَلى أطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ لأمْرٍ يَنْظرٌ إِلَيْهِ، فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأصْحَابِهِ مُبَيِّضِينَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ، فَلَمْ يَمْلِكِ الْيَهُودِيُّ أنْ قَالَ بأعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، هَذَا جَدُّكُمْ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ، فَثَارَ المُسْلِمُونَ إلى السِّلَاحِ فَتَلَقَّوْا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أن يكتب لي كتاب أمن" أي كتاب موادعة يؤمنني فيه حتى إذا التقيت بالمسلمين في المدينة أو غيرها لا يتَعرض لي أحد منهم بسوء " فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم " أي فكتب في كتاب موادعة في قطعة من جلد، وأعطاني إيّاه. لكي أستفيد منه عند الحاجة. " وسمع المسلمون بالمدينه مخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة " أي وسمع المسلمون من الأوس والخزرج بالمدينة بخروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة قادماً إلى المدينة " فكانوا يفدون كل غداة إلى الحرّة " أي فكانوا يخرجون كل صباح إلى حرة قباء ينتظرون قدومه " حتى يردهم حر الظهيرة " أي إلى أن يأتي وقت الظهر، فيعودون إلى ديارهم، " فانقلبوا يوماً " أي فعادوا يوماً إلى بيوتهم، " فلما آووا إلى بيوتهم " أي فلما وصلوا إلى منازلهم، " أوفي رجل من يهود على أطم من آطامهم " أي صعد رجل من اليهود على حصن من حصونهم " فبصر برسول الله وأصحابه مبيضين "، أي فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وعليهم الثياب البيضاء " يزول بهم السراب " أي يغطون السراب " فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدُّكم الذي تنتظرون " أي فلم يستطع اليهودي أن يتمالك نفسه، ولم يسعه إلاّ أن ينادي(4/311)
رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِظَهْرِ الْحَرَّةِ، فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ اليَمِينِ حتى نَزَلَ بِهِمْ في بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وذلكَ يَوْمَ الإِثْنَيْنِ من شَهْرِ رَبِيعِ الأوَّلِ، فقامَ أبو بَكْرٍ لِلنَّاس، وَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَامِتاً، فَطَفِقَ مَنْ جاء مِنَ الأنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحيِّي أبَا بَكْرٍ، حَتَّى أصَابَتْ الشَّمْسُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأقْبَلَ أبو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَبِثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بني عَمْرِو بْن عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وأسسَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسسَ عَلى التَّقْوَى، وَصَلَّى فيهِ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَسار يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ حَتىَّ بَرَكَتْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بأعلى صوته يا معشر العرب من الأوس والخزرج هذا هو حظكم السعيد قد أقبل بقدوم نبيكم، " فثار المسلمون إلى السلاح " أي فتقلد المسلمون أسلحتهم لاستقبال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحراسته من اليهود " فتلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظهر الحرة " أي فاستقبلوه - صلى الله عليه وسلم - فوق الحرة المتصلة بقباء " فعدل بهم ذات اليمين " أي فاتجه في سيره إلى غرب قباء " حتى نزل في بني عمرو بن عوف " بن مالك الأوسي، وكانوا ينزلون غربي قباء " وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول " الموافق للثاني عشر من ربيع الأول، عند اشتداد الضحى، قبل الزوال كما أفاده ابن إسحاق. قال ابن كثير: والظاهر أن بين خروجه من مكة ودخوله المدينة خمسة عشر يوماً " فقام أبو بكر للناس " أي فوقف أبو بكر يسلم على المستقبلين " فطفق من جاء من الأنصار يحيي أبا بكر " أي يبدأ بالسلام على أبي بكر يظن أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - " حتى أصابت الشمس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه " أي فجاء أبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى وقف خلفه، وظلل عليه من أشعة الشمس بردائه " فعرف الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي فلما ظلل عليه(4/312)
عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - بالمَدِينَةِ، وهُو يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وكان مِرْبَداً لِلتَّمْرِ لِسَهْل وَسُهَيْل غُلَامَيْنِ يَتيمَيْنِ في حَجْرِ أسْعَدِ ابْنِ زُرَارَةَ، فَقَالَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلته: هَذَا إن شَاءَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصديق عرف الناس عند ذلك من هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فلبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني عمرو بن عوف " أي فأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - في بني عمرو بن عوف نزيلاً على كلثوم بن الهدم، " بضع عشرة ليلة " أي أربع عشرة ليلة كما في حديث أنس، وقال ابن إسحاق: أقام خمساً، وهو أنسب الأقوال وأظهرها، وأكثرها ملاءمة لسياق القصة، لأنه توجه إلى المدينة يوم الجمعة، وصلاها في الطريق (1) ، فتكون إقامته في قباء خمسة أيام من الاثنين إلى الجمعة إذا حسبنا يوم الخروج منها. " وأسس المسجد الذي أسس على التقوى " وهو مسجد قباء، أوّل مسجد بناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة. اهـ. فالجمهور على أن المراد بالمسجد الذي أسس على التقوى مسجد قباء. قال الحافظ: وهو ظاهر الآية لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: نزلت (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) في أهل قباء، أخرجه أبو داود. وقال بعضهم: إن قوله تعالى: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) يقتضي أنه مسجد قباء، لأن تأسيسه كان في أول يوم حلّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بدار الهجرة. " ثم ركب - صلى الله عليه وسلم - راحلته فسار يمشي معه الناس " قال ابن إسحاق: فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار حتى انتهوا إليهما، فقالت الأنصار انطلقا آمنين مطاعين، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه بين أظهرهم - أي في وسطهم وهم يحفون به الخ. " حتى بركت عند مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - " وأدركته الجمعة في الطريق في بني سالم بن عوف. فنزل وصلاها هناك، ثم واصل سيره إلى المدينة حتى
__________
(1) أي وصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أوّل جمعة له بالمدينة في الطريق بين مكة وقباء، فلو أنه - صلى الله عليه وسلم - أقام أكثر من خمسة أيام لصلى هذه الجمعة في مسجد قباء.(4/313)
اللهُ الْمَنْزِلُ، ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الغُلَامَيْنِ فساوَمَهُمَا بِالمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِداً، فَقَالا: لَا، بَلْ نَهِبُهُ لَكَ يَا رَسُول اللهِ، فَأبى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً، حتى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا، ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِداً، وَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْقُلُ مَعَهُمْ اللَّبِنَ في بُنْيَانِهِ، وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ:
هذَا الحِمَالُ لَا حِمَالُ خَيْبَرْ ... هَذَا أبَرُّ رَبَّنَا وَأطْهَرْ
وَيَقول:
اللَّهُمَّ إِنَّ الأجْرَ أجرُ الآخِرَةِ ... فارْحَمِ الأنْصَارَ والْمُهَاجِرَه
فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ رَجُل مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ لِي".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بركت ناقته في موضع مسجده - صلى الله عليه وسلم - "وكان مربداً للتمر " أي موضعاً يجفف فيه التمر " لسهل وسهيل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة " أي تحت وصايته - " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بركت به راحلته: هذا إن شاء الله المنزل " أي هذا هو الموضع والمكان الذي ننزل فيه إن شاء الله تعالى، لأن الله تعالى اختاره لنزولنا، وفي رواية عن أنس أنه قال: " قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما دخل جاء الأنصار برجالها ونسائها، فقالوا: إلينا يا رسول الله، فقال: دعو الناقة فإنها مأمورة، فبركت على باب أبي أيوب الأنصاري " (1) إلخ الحديث، وفي رواية موسى بن عقبة: أنه كان يقول: دعوها فإنها مأمورة، فإنما أنزل حيث أنزلني الله، فلما انتهت إلى دار أبي أيوب بركت به على الباب، فنزل فدخل بيت أبي أيوب حتى ابتنى مسجده ومساكنه " ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغلامين، فساومهما بالمربد " أي فساوم وصيَّهُما في شراء ذلك المربد كما في رواية ابن عيينة حيث قال فكلم عمهما أن يبتاعه منهما. كما أفاده الحافظ
__________
(1) " البداية والنهاية " لابن كثير ج 3.(4/314)
" ليتخذه مسجداً " أي ليبني على تلك الأرض مسجده - صلى الله عليه وسلم - " فقالا: بل نهبه " أي نعطيه لك دون ثمن. " فأبى أن يقبله منهما هبة " أي فرفض أن يقبله منهما بدون ثمن، " ثم بناه مسجداً " أي ثم اشتراه منهما، وبنى في مكانه مسجداً، " وطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينقل معهم اللبن في بنيانه " أي وشرع رسول الله في بناء المسجد، وشارك أصحابه بيده في بنائه، فصار ينقل معهم اللبن " ويقول وهو ينقل اللبن " يعني وينشد أثناء ذلك قول الشاعر:
هَذَا الحِمَالُ لَا حِمَالُ خيْبَرْ ... هَذا أبرُّ رَبّنا وَأطْهَرْ
أي إن ما يحمله المسلمون في بناء المسجد أعظم وأجل من أحمالِ خيبر وتمورها كلها، لما يُنَالُ به من نعيم الآخرة الذي لا يحول ولا يزول ويقول:
اللهم إنَّ الأجْرَ أجْرُ الآخرة ... فارْحَمِ الأنصَارَ وَالمُهَاجرَة
أي الأجر الحقيقي هو الأجر الأخروي، لأنه كما قال بعضهم: لو كانت الدنيا من جوهر يفنى والآخرة من خزف يبقى لكانت الآخرة أفضل، ثم دعا - صلى الله عليه وسلم - للمهاجرين والأنصار بالرحمة والرضوان في قوله: " فارحم الأنصار والمهاجرة ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على فوائد وأحكام كثيرة: أولها: بيان قصة هجرته - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة والحفاوة البالغة التي قوبل بها، فكانوا يفدون كل غداة إلى الحَرَّة ينتظرون قدومه لكي يستقبلوه حتى يردهم حر الظهيرة، ثم لما جاءتهم البشرى بوصوله إلى المدينة تقلدوا سيوفهم، وذهبوا لاستقباله، وأحاطوا به خوفاً عليه من اليهود وقالوا: اركبا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ، فركب نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وحفوا دونهما بالسلاح، فقيل بالمدينة: جاء نبي الله جاء نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فأشرفوا ينظرون، ويقولون: جاء نبي الله - أي فصار أهل المدينة يتطلعون إلى رؤيته، ويهتفون باسمه قائلين: جاء نبي الله، جاء نبي الله، قال البراء بن عازب: فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث جعلت الإِماء(4/315)
يقلن: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه البخاري، وقال أنس: فخرجت جوار من بني النجار يضربن بالدف وهن يقلن:
نَحْنُ جَوارٍ مِنْ بَنِي النَجَّارِ ... يَا حَبَّذا مُحَمَّداً مِن جَارِ
أخرجه الحاكم. واحتفي به - صلى الله عليه وسلم - كل أهل المدينة رجالاً ونساءً، ووقف العواتق على شرفات المنازل يترائينه - صلى الله عليه وسلم - ويتطلعن إليه يقلن: " أيهم هو؟ " وخرج إليه - صلى الله عليه وسلم - الرجال والغلمان والخدم يقفون على جانبي الطريق يهتفون باسمه، ويكبرون، ويقولون -كما روى ذلك أنس- الله أكبر جاء رسول الله، الله أكبر جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - أخرجه الشيخان. ثانيها: أن الهجرة كانت نقطة تحول في تاريخ الدعوة الإِسلامية، وفاتحة نصر للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين، وكانت كما قال ابن القيم: مبدءاً لإعزاز دين الله، ونصرة عبده ورسوله، وكانت استجابة لدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي أمره الله بها، وتحقيقاً لها، حيث أمره أن يقول: (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) فحقق الله لنبيّه - صلى الله عليه وسلم - بهذه الهجرة كل المآرب، ووجد في طيبة الطيبة أرضاً خصبة لنشر دعوته، فازدهرت الدعوة الإِسلامية، وقويت، واشتدت، ومكن الله لها في الأرض، ولذلك أجمع الصحابة في خلافة الفاروق على أن يؤرخوا بالهجرة، وكان ذلك في السنة السابعة عشرة (1) حيث استشار عمر المسلمين في وضع تاريخ إسلامي يتعرفون به آجال الديون وغيرها من القضايا الهامة، ثم اختار عمر الهجرة، وجعل بداية العام الهجري من محرم، لأنه أول الشهور العربية.
ثالثها: أن في نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - بدار أبي أيوب رضي الله عنه شرف وفضيلة عظيمة له رضي الله عنه. قال ابن كثير: وهذه منقبة عظيمة لأبي أيوب، وروى بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما قدم أبو أيوب رضي الله عنه البصرة، وكان ابن عباس رضي الله عنهما نائباً عليها من قبل علي رضي الله عنه بالغ ابن
__________
(1) " البداية والنهاية " لابن كثير.(4/316)
عباس في تكريمه حتى أنه خرج لأبي أيوب عن داره (1) ، وأنزله فيه، كما أنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في داره وملكه كل ما أغلق عليه، ثم أعطاه عند سفره عشرين ألفاً وأربعين عبداً، وقد صارت دار أبي أيوب من بعده إلى مولاه أفلح، ثم اشتراها منه المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بألف دينار، وأصلحها، ووهبها لأهل بيت فقراء. رابعها: مشابهة الصديق للنبي - صلى الله عليه وسلم - في أغلب شمائله حتى أنّ ابن الدغنة وصفه بالصفات التي وصفت بها خديجة رضي الله عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قولها: " إنك لتصل الرحم، إلخ. خامسها: أن هجرته - صلى الله عليه وسلم - لم تكن سهلة ميسورة، وإنما كانت صعبة قاسية محفوفة بالمخاطر، فقد خرج - صلى الله عليه وسلم - من مكة في شهر يونيه من سنة 622 م (2) حيث اشتد الحر، وتوهجت الصحراء، وسار - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه فوق الحجارة الحارة، والرمال الجارحة التي أدمت أقدامهما، ولم يصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الغار حتى تفطرت قدماه، ثم إنهما مكثا في ذلك الغار الموحش الرهيب ثلاثة أيام أشد ما يكون الطلب عليهما، فقد جعل أهل مكة في كل منهما ديته مائة من الإبل، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - عالماً بذلك، فاجتهد في إخفاء أثر قدميه، حتى أنه كان يمشي على أطراف قدميه، حتى حفيت قدماه، فحمله الصديق يشتد به حتى أتى الغار. سادسها: معجزته - صلى الله عليه وسلم - الظاهرة مع سراقة بن جعشم عندما لحق به، فساخت قدما فرسه مرتين إلى آخر ما جاء في ذلك. سابعها: أن هجرته - صلى الله عليه وسلم - لم تكن عن رأي شخصي، وإنما كانت بأمر إلهي، حيث أمر بذلك في قوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) . ثامنها: أن الهجرة كانت رحلة مخططة منظمة بأمر إلهي وتدبير سماوي، ومن هذا التدبير المحكم أنه - صلى الله عليه وسلم - أمره جبريل أن لا يبيت في فراشه تلك الليلة، وأن
__________
(1) " البداية والنهاية " لابن كثير.
(2) " فيض الخاطر " لأحمد أمين جـ 2.(4/317)
يخرج من داره ليفوّت على قريش فرصة اغتياله، فذهب إلى الصدِّيق وخرجا سوياً من خلف البيت، وسارا معاً حتى وصلا غار ثور، ورتب - صلى الله عليه وسلم - أمر إيصال الطعام إليهما، كما كلفا عبد الله بن أبي بكر بإيصال الأخبار إليهما أولاً بأوّل، والمطابقة: في كون الحديث متضمناً لقصة الهجرة. الحديث: أخرجه البخاري.
***(4/318)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتابُ الْمَغازِي "
842 - " بَابُ قِصَّةِ غَزْوة بَدر "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب المغازي
842 - " باب قصة بدر "
وبدر: قرية على طريق المدينة مكة، على بعد مائة وخمسين كم من المدينة، وكانت هذه الغزوة يوم الجمعة الموافق للسابع عشر من رمضان على رأس تسعة عشر شهراً من الهجرة النبوية سنة 624 م وسببها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع بأبي سفيان مقبلاً في عير تجارية لقريش قُدِّرَ رأسُ مالها بعشرين ألف جنيه (1) ومعها ثلاثون أو أربعون رجلاً، فندب المسلمين إليها، وقال: هذه عير قريش، فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، وكان يقصد من وراء ذلك أن يستولي على هذه الأموال تعويضاً للمسلمين عن الأموال التي أخذها المشركون من المهاجرين، وأن يضعف الناحية الاقتصادية لقريش، لارتباطها الوثيق بالناحية العسكرية، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن خرج معه في الثامن من رمضان وكلف ابن أمّ مكتوم أن يصلي بالناس في المدينة وعين أبا لبابة والياً عليها، وعلم أبو سفيان بخروجه - صلى الله عليه وسلم -، فحذره ومال بالعير إلى الساحل واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري بعشرين مثقالاً ليأتي إلى مكة ويستنفر قريشاً، فخرجوا مسرعين، ولم يتخلف منهم إلاّ أبو لهب، وكان أبو سفيان قد أحس أن هناك أمراً يدبر له من قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -، فسار بالقافلة على ساحل البحر حتى نجا بها، وخرجت قريش بقوتها وفرسانها، لتشفي غليلها، وتحمي عيرها، وكان أبو جهل يبذل كل جهده في تحريضها، وكان
__________
(1) " محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " للأستاذ محمد رضا.(4/319)
عددهم ألفاً، معهم مائة فرس وسبعمائة بعير، وهم في غاية البطر والخيلاء، معتمدين على قوتهم، وكثرة عددهم، وجاءهم رسول أبي سفيان يخبرهم أنه نجا بالعير، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نأتي بدراً، فنقيم هناك ثلاث ليال، ننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا بعدها أبداً. وخرج - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً وليس معهم من الإِبل سوى سبعين ومعهم فرسان فقط، وكان معهم رايتان سوداوان راية المهاجرين ويحملها علي رضي الله عنه، وراية الأنصار ويحملها رجل منهم، وكان اللواء الأبيض يتلألأ خفاقاً بيد مصعب بن عمير، فلما وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - وادي الصفراء، علم أن أبا سفيان قد نجا بعيره، وأن قريشاً قد أقبلت لقتال المسلمين فاستشار أصحابه، فقال: إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول، فماذا تقولون؟ فنهض من المهاجرين المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله، فنحن معك، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا) ولكنا نقول لك: إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت فينا عين تطرف. فوالله الذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى بَرْكِ الغماد لَسِرْنَا مَعَكَ.
وكان - صلى الله عليه وسلم -: قد أراد أن يتعرف على رأي الأنصار لأن المعاهدة التي عقدها معهم في بيعة العقبة إنما تنص على حمايته في المدينة فهو لا يريد منهم أن يخرجوا معه إلى حرب خارج المدينة إلاّ بمحض إرادتهم واختيارهم، وأدرك الأنصار ما عناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الاستشارة، فوقف رئيسهم سعد بن معاذ، وقال: لعلك تريدنا معاشر الأنصار؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نعم فقال سعد: قد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، ولعلك تخشى أن يكون الأنصار لا ينصروك إلاّ في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار: فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك والذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا(4/320)
رجل واحد، وما نكره أن تلقي بنا عدونا غداً، وإنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله. فزاد سرور النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، العير أو النفير، فوالله لكأني أنظر إلى مصارع القوم. وبنوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - عريشاً يكون فيه، ورأى - صلى الله عليه وسلم - قريشاً مقبلة من الكثيب فقال: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك، وتكذّب رسولك، اللهم نصرك الذي وعدتني، وحاول حكيم بن حزام أن تعود قريش إلى مكة دون حرب، فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد هل لك أن لا تزال تذكر بخير إلى آخر الدهر، قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس، فقام عتبة بن ربيعة خطيباً فقال: يا معشر قريش إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه، أو ابن خاله، أو من عشيرته، فارجعوا فخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وأرسل إلى عامر بن الحضرمي يحثه على الأخذ بثأر أخيه، فصاح عامر: واعمراه واعمراه، فحميت الحرب وبدأ القتال بالمبارزة، فخرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة وابنه الوليد، فخرج إليهم فتية من الأنصار، فقالوا: ما لنا بكم حاجة، يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فبارز عبيدة وهو أسن القوم عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة وبارز عليٌّ الوليد بن عتبة، فأمّا حمزة فلم يمهل شيبة حتى قتله، وأما عليٌّ فلم يمهل الوليد حتى قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين، كلاهما أثبت صاحبه، وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فأجهزا عليه، ثم التقى الفريقان وتزاحف الناس، ونظّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجيش، ورتب الصفوف، ودخل إلى العريش يناشد ربّه ما وعده من النصر، وهو يقول: " اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد "، وأبو بكر يقول: يا نبي الله بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك وخرج - صلى الله عليه وسلم - يحرّض الناس(4/321)
843 - " بَابُ عِدَّةِ أصْحَابِ بَدر "
983 - عَنِ البَرَاءِ رَضِيَ الله عَنْه قَالَ:
" حَدَّثَنِي أصْحَاب محَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّنْ شَهِدَ بَدْراً أنَّهمْ كانوا عِدَّةَ أصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوزُوا مَعَة النَّهْرَ، بِضْعَةَ عشرَ وثَلاَثمِائَةٍ، قَالَ البَرَاء: لا واللهِ مَا جَاوَزَ مَعَة النَّهْرَ إلَّا مؤْمِنٌ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويبشرهم بالجنة، فقال عمرو بن الحمام وفي يده تمرات يأكلهن: بخ بخ فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلاّ أن يقتلني هؤلاء، ثم قذف التمرات من يده، وأخذ سيفه، فقاتل القوم حتى قتل، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ حفنة من الحصباء، ولفحهم بها، وقال: شاهت الوجوه، فكانت الهزيمة عليهم فقتل من قتل من صناديد قريش وانتهت المعركة بانتصار المسلمين، وقتل أبو جهل وأمية بن خلف، وكانت هزيمة ساحقة للمشركين، حيث قتل فيها سبعون منهم وأسر سبعون. وانتهت المعركة بانتصار المسلمين مع قلة عددهم وعدتهم، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .
843- " باب عدة أصحاب بدر "
983 - معنى الحديث: أن المسلمين الذين خرجوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة بدر كان عددهم مثل أصحاب طالوت الذين اجتازوا معه نهر الأردن، لقتال جالوت الجبار، وقد كانوا بضعة عشر وثلاثمائة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان عدد المسلمين في غزوة بدر، وأنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، قال ابن كثير (1) وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل بدر ثلثمائة وثلاثة عشر،
__________
(1) " البداية والنهاية " لابن كثير.(4/322)
844 - " بَابُ قتلِ أبِي جَهْلٍ "
984 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ يَنْظر ما صَنَعَ أبو جَهْل؟ " فانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ، قَالَ: أَأَنْتَ أبُو جَهْلٍ؟ قالَ: فَأخَذَ بِلِحْيَتهِ قَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُل قَتَلْتُمُوهُ أو رَجُل قَتَلَهُ قَوْمُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وكان المهاجرون ستة وسبعين، والباقون من الأنصار. ثانياًً: أن الله قد نصر المسلمين في بدر مع قلة العدد والعدة على جيش يبلغ أضعاف جيشهم، كما نصر أصحاب طالوت على جالوت، وقد قال فريق منهم (لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) أي لا قدرة لنا على محاربتهم فضلاً عن أن تكون (1) لنا الغلبة عليهم، ولكن الآخرين أجابوهم قائلين (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً) حيث يكتب الله لها التوفيق والنصر. والمطابقة: في كون الحديث دل على عدد المسلمين في غزوة بدر وهو ما ترجم له البخاري. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي
844 - " باب قتل أبي جهل "
984 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر: من يذهب إلى أبي جهل فيأتينا بأخباره، وما فعل الله به، فبادر إليه عبد الله بن مسعود، فوجده جريحاً مثخناً بجراحه، وقد ضربه غلامان من الأنصار " حتى برد " أي حتى أصبح في الرمق الأخير من حياته لم يبق به كما قال الحافظ، إلاّ مثل حركة المذبوح " قال: فأخذ بلحيته " أي فأمسك ابن مسعود بلحيته " فقال: أنت أبو جهل " أي فقال متشفياً فيه أنت أبو جهل طاغية قريش أراك اليوم صاغراً ذليلاً قد صرعتك سيوف المسلمين " قال: هل فوق رجل قتلتموه " أي إذا كنت
__________
(1) " تفسير المراغي " ج 2.(4/323)
845 - " بَابُ شُهُودِ الْمَلَاِئكَةِ بَدراً "
985 - عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ بَدْرٍ: " هَذَا جِبْرِيلُ آخِذ بِرَأس فَرَسِهِ عَلَيْهِ أدَاةُ الْحَرْبِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قد قتلت فكم من الأبطال قد قتله قومه، فلا عار عليَّ في ذلك يا رُوَيْعيَّ الغنم.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على قصة مقتل أبي جهل في غزوة بدر، وقد اختلفت الروايات فيمن قتله، ففي حديث أنس هذا أن الغلامين أثخناه جراحاً، فأدركه ابن مسعود في الرمق الأخير من حياته فأجهز عليه، أما عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقد روى لنا في حديثه أن أبا جهل قتله غلامان من الأنصار، ثم انصرفا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أيكما قتله قال كل منهما: أنا قتلته، قال: وهل مسحتما سيفيكما قالا: لا، قال: فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والآخر معاذ ابن عفراء. فقوله: " وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح يدل على أنه قتله لأن الحكم له بالسلب يدل على أنه قاتله. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الحديث يدل على قصة مقتل أبي جهل.
845 - " باب شهود الملائكة بدراً "
985 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار يوم بدر إلى شخص معين ولفت إليه أنظار الصحابة ونبههم عليه، فلما نظروا إليه قال: هذا الذي ترونه بأعينكم هو جبريل، وقد أمسك برأس فرسه أو بناصيته، أو بزمامه، وهو مدجج بأسلحة الحرب. وروى ابن إسحاق (1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خفق خفقة ثم
__________
(1) شرح القسطلاني على البخاري ج 6.(4/324)
846 - " بَاب حَدِيثِ بَنِي النَّضِيرِ "
986 - عَنْ ابنِ عمَرَ رَضِيَ الله عَنْهمَا قَالَ:
" حَارَبَتِ النضِير وقرَيْظَة، فَأجْلَى بَني النَّضِيرَ، وَأقَرَّ قرَيْظَةَ وَمَنْ عَلَيْهِمْ، حَتَّى حَارَبَتْ قرَيْظَة، فَقَتَلَ رِجَالَهُمْ، َ وَقَسَمَ نِسَاءَهمْ وأوْلادَهمْ وأمْوَالَهُمْ بَيْنَ المسْلِمِينَ، إِلَّا بَعْضَهمْ لَحِقوا بالنَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فآمَنَهمْ وأسْلَمُوا، وأجْلَى يَهودَ المدِينَةِ كلَّهمْ بَنِي قَيْنقَاعَ وَهمْ رَهْط عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلام، وَيَهودَ بَني حَارِثَةَ، وكُلَّ يَهودِ الْمَدِينَةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه، يقوده على ثناياه الغبار.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على شهود الملائكة غزوة بدر، وعلى رأسهم جبريل عليه السلام حيث رافق النبي - صلى الله عليه وسلم - من أوّل الغزوة إلى آخرها، ليشرف بنفسه على خطة سيرها، ويكون عوناً للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومدداً له، ومؤيداً لأصحابه.
مطابقة الحديث للترجمة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " هذا جبريل " فإنه دليل على الترجمة. الحديث: أخرجه البخاري.
846 - " باب حديث بني النضير "
وبنو النضير قبيلة يهودية مشهورة، كانت منازلهم في قربان جنوبي المدينة، قال الشريف العياشي (1) : وهي في موضع الحدائق المعروفة اليوم بأم عشر وأم أربع وجيدة وسمّان، وسليهم وغيرها، وفي هذه البقعة يقع قصر كعب بن الأشرف النبهاني نسباً والنضيري خؤولة، ولا يزال هذا القصر قائم العين، وآثاره باقية حتى الآن في جنوب بستان أم عشر.
__________
(1) " المدينة بين الماضي والحاضر " للشريف إبراهيم العياشي.(4/325)
986 - معنى الحديث: أن ابن عمر رضي الله عنهما يحدثنا عن قصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع القبائل اليهودية، وكيف كانت نهايتهم: فيذكر لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد عقد معهم العهود والمواثيق، وجعل بينه وبينهم أماناً، وشرط عليهم أن لا يظاهروا عليه أحداً ولكنهم لم يحترموا الميثاق ونقضوا العهد الذي بينه وبينهم فجازاهم على غدرهم وخيانتهم. فأجلى بني قينقاع وبني النضير عن المدينة. وأما بنو قريظة فقتل رجالهم، وصادر أموالهم، وجعل نساءهم وأولادهم غنيمة للمسلمين، أما كيف وقع ذلك، فسيأتي شرحه في فقه الحديث. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان غدر اليهود، ونقضهم العهد، بمحاربتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما يشير إليه قول ابن عمر: " حاربت النضير وقريظة: ". ثانياً: الإشارة إلى قصة بني قينقاع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وكيف كانت نهايتهم الجلاء عن المدينة، وقد كانوا من موالي الخزرج وحلفاء عبد الله ابن أبي، وكانوا قلة يسكنون عند منتهى جسر بطحان ما بين المراكشية والمشرفية (1) عند أول الطريق النازل من قباء كما أفاده الشريف العياشي (2) وقد تحولت هذه المنطقة حالياً إلى شوارع فرعية تعرف بهذا الاسم، وكان لهم سوق هناك يعرف بسوق بني قينقاع، وكانوا صاغة يعملون في الذهب، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة وادعته اليهود كلها، فوادعهم، وكتب بينه وبينهم كتاباً، وشرط عليهم شرطاً أن لا يظاهروا عليه فلما أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحاب بدر بغت يهود، وقطعت ما كان بينها وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عهود، فجمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني قينقاع فقال: يا معشر اليهود، احذروا من الله عز وجل
__________
(1) كانت المراكشية والمشرفية بستانين معروفين عند أوّل طريق قباء النازل فتحولا حالياً إلى شارعين فرعيين يعرف أحدهما بشارع المشرفية والثاني بالمراكشية.
(2) " المدينة بين الماضي والحاضر " للشريف العياشي.(4/326)
مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، فقالوا: لا يغرنك من لقيت، ولئن قاتلتنا لتعلمنّ أنك لم تقاتل مثلنا وصادف في تلك الأيام أن جاءت امرأة نزيعة من قبيلة عربية من غير أهل المدينة، ولكنها متزوجة برجل من الأنصار إلى سوق بني قينقاع لتبيع حلياً فجلست عند صائغ، فجاء رجل من بني قينقاع، فحل ثوبها إلى ظهرها بشوكة، أي ربط بين طرفي ثوبها إلى ظهرها -فلما قامت بدت عورتها فضحكوا منها، فقام إلى اليهودي رجل من المسلمين فقتله، فاجتمعوا عليه وقتلوه ونبذوا العهد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحاربوا، وكانوا أول من نقض العهد، فسار إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم السبت منتصف شوال على رأس عشرين شهراً (1) من الهجرة فحاصرهم في حصنهم خمس عشرة ليلة أشد الحصار، حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، ونزلوا على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر بهم فربطوا، فذهب عبد الله بن أبي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد أحسن في مواليَّ، وألح عليه في إطلاقهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجلوهم لعنهم الله، وأمر بهم أن يجلوا من المدينة- فكانت نهايتهم الجلاء كما أشار إلى ذلك ابن عمر في آخر الحديث حيث قال: " وأجلى يهود المدينة كلهم بني قينقاع، وهم رهط عبد الله بن سلام " أي وكان عبد الله بن سلام منهم، وقد جعل الله أموالهم غنيمة، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم (2) آلة صياغتهم، وأسلحة كثيرة، وأجلاهم، فذهبوا إلى أذرعات بلدة بالشام ولم يدر الحول عليهم حتى هلكوا بدعوته - صلى الله عليه وسلم - عليهم حيث قال لابن أبي لما شفع فيهم: " هم لك لا بارك الله لك فيهم " وكانت غزوة بني قينقاع، وإجلاؤهم عن المدينة في شوال من السنة الثانية من الهجرة. ثانياًً: دل الحديث على غدر بني النضير ونقضهم العهد، ومحاربتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وإجلائه لهم - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى خيبر، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: " حاربت النضير وقريظة فأجلى بني النضير ". وكانت
__________
(1) " المغازي " للواقدي ج 1.
(2) " محمد رسول الله " للأستاذ محمد رضا.(4/327)
منازلهم جنوب قربان جهة الحرة، تمتد في البقعة المعروفة بأم عشر كما تقدم، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إليهم يستعين بهم في دية رجلين من بني عامر كان قد قتلهما عمرو بن أمية، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني النضير يستعين بهم في ديتهما، وكان معه نفر من المهاجرين والأنصار، منهم أبو بكر وعمر وكلمهم أن يعينوه في دية الرجلين، وكان بين بني النضير وبني عامر (1) حلف وعقد، فقالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك، ثم حلا بعضهم إلى بعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، أي لن تجدوا فرصة تتيح لكم اغتياله مثل هذه الفرصة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستند إلى بيت من بيوتهم، وأشار عليهم حُييُّ بن أخطب أن يطرحوا عليه وعلى من معه من الصحابة حجارة من فوق هذا البيت الذي هو تحته، وقال لهم: لن تجدوه أخلى منه الساعة، فإنه إن قتل تفرق أصحابه ونصحهم سلام بن مشكّم أن لا يحاولوا ذلك وكان عمرو بن جحاش قد هيأ الصخرة ليرسلها على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أشرف بها جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر من السماء فنهض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سريعاً كأنّه يريد حاجة، وتوجه إلى المدينة، وجلس أصحابه يتحدثون لبعض حاجته، فلما يئسوا من ذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: ما مقامنا ها هنا بشيء، فقاموا في طلبه، فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة، فسألوه عنه، فقال رأيته داخلاً المدينة فأقبل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتهوا إليه، فأخبرهم بما كانت اليهود تريده من الغدر به، وأرسل إليهم محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من بلده، وقال لهم: لا تساكنوني بها، وقد هممتم بالغدر وقد أجلتكم عشراً، فمن بقي بعد ذلك ضربت عنقه، فأرسل إليهم ابن أبي: لا تخرجوا من دياركم وأقيموا في حصونكم، فإن معي ألفين وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصونكم، فيموتون عن آخرهم، وتمدكم قريظة وغطفان، فطمع حُييٌّ فيما قال ابن أبي، فأرسل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنّا لن نخرج من ديارنا،
__________
(1) " شرح العيني على البخاري " ج 17.(4/328)
فاصنع ما بدا لك، فأعلن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم الحرب، وصلّى العصر بفناء بني النضير في " قربان " وعليٌّ يحمل راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقام اليهود على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة وحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقطع نخلهم ولم ينصرهم بنو قريظة، وخذلهم عبد الله بن أبي وقومه وقذف الله في قلوبهم الرعب، كما أخبرنا الله تعالى بذلك في سورة الحشر فقال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ) قال ابن إسحاق: فحاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ست ليال، وتحصنوا في الحصون فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقطع النخيل والتحريق فيها -فلما رأوا ذلك قالوا: نخرج من بلادك، فقال: اخرجوا ولكم دماؤكم وما حملت الإِبل إلاّ الحلقة- أي السلاح، فرضوا بذلك، ونزلوا عليه، واحتمل بنو النضير من أموالهم ما استقلت به الإِبل، وخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وحملوا أمتعتهم على ستمائة بعير. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى كل ثلاثة بعيراً يتعقبونه، وقبض رسول الله ما تركوه من الأموال والدروع والسلاح، وخلفوا بعدهم النخيل والمزارع والحدائق الغناء في منطقة قربان. وكانت أموال بني النضير من الفيء الخاص برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفق منه على أهله ويدخر منه قوت السنة من الشعير والتمر، وما فضل جعله في السلاح والكراع. وذهب الشافعي إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم أموال بني النضير على المهاجرين ليرفع مؤونتهم عن الأنصار، وهذا يتفق مع ما رواه ابن إسحاق. وكانت غزوة بني النضير كما حكاه البخاري عن الزهرى بعد بدر بستة أشهر قال البيهقي (1) : وذهب آخرون إلى أنّها وقعت بعد أحد (2) وهو الأصح، لأن قصة غدر بني
__________
(1) " البداية والنهاية " لابن كثير.
(2) وهو ما ذكره ابن إسحاق.(4/329)
847 - " بَابُ قتلِ كَعْب بن الأَشْرَفِ "
987 - عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ وَرَسولَهُ، فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ أتحِبُّ أن أقتُلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأْذَنْ لِي أن أَقُولَ شَيْئاً، قَالَ: قُلْ، فَأتاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ سَأَلنَا صَدَقَةً وَإنَّهُ قَدْ عَنَّانا، وَإنِّي قَدْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النضير بالرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما وقعت حين ذهب إليهم يطلب منهم مساعدته في دية الرجلين الذين قتلا من بني عامر، وهما إنما قتلا بعد أحد لا قبلها، وكانت نهاية أمرهم الجلاء عن المدينة، وقد أنزل الله تعالى في شأنهم سورة الحشر، ولهذا كان ابن عباس رضي الله عنهما يسميها سورة بني النضير. أما بنو قريظة فإنهم كما في حديث الباب لما نقضوا العهد قتلوا وصودرت أموالهم، وسبيت ذراريهم ونساؤهم كما سيأتي. والمطابقة: في قوله: " فأجلى بني النضير ".
847 - " باب قتل كعب بن الأشرف "
ولم يكن كعب يهودياً، ولكنه كان عربياً نبهانياً، وأخواله من بني النضير، وهم بطن من طيء، وكان طويلاً جسيماً ذا بطن وهامة، وكان وسيماً جميل الصورة كما يدل عليه الحديث.
987 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ندب أصحابه ودعاهم إلى قتل كعب بن الأشرف، فقال: " من لكعب بن الأشرف فإنه آذى الله ورسوله " أي من يقتله منكم، ويريحنا من شره وأذاه، ويفوز بأجر ذلك وثوابه، فإنه استحق ذلك لشدة إيذائه لله ورسوله، فتصدى لذلك محمد بن مسلمة غير أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأذن له في أن يقول لكعب كلاماً ظاهره(4/330)
أتَيْتُكَ أسْتَسْلِفُكَ، قَالَ: وَأيضاً واللهِ لَتَمَلُنَّهُ، قَالَ: فَإِنَّا قد اتَبّعْنَاهُ فلا نُحِبُّ أنْ نَدَعَهُ حتَّى نَنْظرُ إلى أي شَيْء يَصِيرُ شَأنُهُ، وقد أرَدْنَا أن تُسْلِفَنَا وَسْقاً أوْ وَسْقَيْنِ، فَقَالَ: نَعَمْ ارْهَنُوني، قَالُوا: أيُّ شَيْء تُرِيدُ؟ قَالَ: ارْهَنُونِي نِسَاءَكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا وأنت أجْمَلُ الْعَرَبِ؟ قَالَ: فَارْهَنُونِي أبْنَاءكُمْ، قالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ أبْنَاءَنَا فَيُسَبُّ، أحَدُهُمْ فَيُقَالُ رُهِنَ بوَسق (1) أو وَسْقَيْنِ؟ هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا، ولَكِنَّا نَرْهَنُك اللأمَةَ، فوَاعَدَهُ أن يأتِيَهُ، فَجَاءَهُ لَيْلاً، وَمَعَهُ أبو نَائِلَةَ، وَهُوَ أخُو كَعْب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم - احتيالاً عليه، فأذن له - صلى الله عليه وسلم - بذلك، قال في الحديث " فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة " أي إن محمداً قد فرض علينا هذه الصدقة التي طلبها منا وسمّاها زكاة " وإنه قد عنانا " أي أثقل علينا " وإني أتيتك أستسلفك " أي جئتك لأشتري منك الطعام بالدَّين " قال: وأيضاً والله لتملَّنّهُ " أي فوجد كعب الفرصة سانحة للطعن في النبي - صلى الله عليه وسلم - والنيل منه فقال: والله لترين من محمد الشيء الكثير حتى تمله وتكرهه وتجزع منه " قال: فإنا قد ابتعناه، فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه " أي إننا ننتظر ما يكون من شأنه ونترقب ذلك " فقال: نعم ارهنوني " أي إذا أردتم أن أسلفكم، فادفعوا لي رهناً، وعرض عليهم أن يرهنوه نساءهم، فاعتذروا وقالوا كما في رواية ابن سعد: وأي امرأة تُمنَعَ منك لجمالك، ثم عرض عليهم أن يرهنوه أبناءهم، فاعتذروا بأن ذلك يسيء إلى سمعتهم، ويكون سبة وعاراً عليهم، وعرضوا عليه أن يرهنوه اللامة، وفسرها سفيان بأنها السلاح قال: نعم، وأرادوا بذلك أن لا ينكر عليهم إذا جاؤوه بالسلاح، ولا يشك فيهم
__________
(1) والوسق ستون صاعاً.(4/331)
من الرَّضَاعَةِ، فَدَعَاهُمْ إلى الْحِصْنِ، فنَزَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَتْ لَهُ امرَأتُهُ: أيْنَ تَخْرُجُ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وأخِي أبو نَائِلَةَ، وَقَالَ غيرُ عَمْرو: قَالَت: أسْمَعُ صَوْتاً كَأنَّهُ يَقْطرٌ مِنْهُ الدَّمُ، قَالَ: إنَّمَا هُوَ أخِي مُحَمَّد بْن مسلِمَة وَرَضِيعِي أبو نَائِلَةَ، إِنَّ الكَرِيمَ لَوْ دُعِي إلى طَعْنَةٍ بِليل لأجَابَ، وَيُدْخِلُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مَعَهُ رَجُلَيْنِ، قَال عَمرو: جَاءَ مَعَهُ بِرَجُلَيْنِ، فَقَالَ: إذَا مَا جَاءَ فَإِنِّي قَائِل بِشَعَرِهِ فَأشَمُّهُ، فَإِذَا رَأيْتُمُونِي استمكَنْتُ مِنْ رَأسِهِ فدُوُنكُمْ فاضْرِبُوهُ، وَقَالَ مَرَّةً: ثم أُشِمُّكُمْ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ مُتَوَشِّحاً، وَهُو يَنْفَحُ مِنْهُ رِيحُ الطِّيبِ، فَقَالَ: مَا رَأيتُ كَالْيَومِ رِيحاً، أي أطْيَبَ، وَقَالَ غَيْرُ عمرو: قَالَ: عِنْدِي أعْطرُ نِسَاءِ الْعَرَبِ وأكمَلُ الْعَرَبِ، قَالَ عَمْروٌ فَقَالَ: أتَأذَنُ لي أنْ أشُمَّ رَأسَكَ، قَالَ: نَعَمْ، فَشَمَّهُ ثم أشَمَّ أصْحَابَهُ، ثم قَالَ أتَأذَنُ لِي؟ قَالَ: نَعَمْ، فَلمَّا اسْتَمْكَنَ مِنْهُ قَالَ: دُونَكُمْ، فَقَتَلُوهُ، ثم أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فَأخبَرُوهُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" فواعده " محمد بن مسلمة " أن يأتيه، فجاءه ليلاً ومعه أبو نائلة، وهو أخو كعب من الرضاعة " ولهذا صحبه معه " فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة " المتأخرة من الليل " وقال: غير عمرو قالت: أسمع صوتاً كأنه يقطر من الدم " أي صوت عدوٍ يريدك " قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة " أي وأخي من الرضاعة أبو نائلة ثم قال: " إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب " أي إن الكريم يجيب من دعاه بالليل، ولا يتأخر عنه، ولو كان في ذلك الخطر على حياته " ويدخل محمد معه رجلين " أي فدخل عليه محمد بن مسلمة، وأدخل معه رجلين والظاهر أنّهما أبو نائلة وعباد بن بشر " فقال ": محمد بن مسلمة " ما رأيت كاليوم ريحاً " أي ما شممت أطيب(4/332)
من هذه الرائحة ولا أعطر منها " قال: عندي أعطر نساء العرب " أي أطيبهن عطراً " فقال: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم، فشمه ثم أشم أصحابه " ثم تركه وشغله بالحديث قليلاً " ثم قال أتأذن لي " أن أشمك مرة أخرى " قال: نعم فلما استمكن منه قال دونكم " أي أخذ بفودي رأسه، وأمسك بشعره، وتمكن منه، فقال: اضربوا عدو الله، فضربوه بأسيافهم حتى قتلوه. قال: وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلاّ وقد أوقدت عليه نار.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: كيف تم قتل كعب ابن الأشرف النبهاني بتدبير محكم، وحيلة ودهاء على يد الصحابي الجليل محمد ابن مسلمة ورفاقه، وكان ذلك في شهر ربيع الأوّل من السنة الثالثة من الهجرة يولية سنة 624 م. وقد أستنكر بعض المستشرقين اغتيال كعب بأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكنه استحق ذلك، لأنه خان وغدر، ونقض العهد، ودفعه الغرور بثروته وجاهه وقدرته الشعرية إلى هجو النبي - صلى الله عليه وسلم - بأفظع الهجاء، بعد أن عاهده مع أخواله من اليهود فنقض العهد ونشط يهجو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأشعاره، ورحل إلى مكة يبث الدعوة للقتال، قال موسى بن عقبة: وكان كعب بن الأشرف، قد آذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهجاء، وركب إلى قريش فاستقواهم، وقال له أبو سفيان وهو بمكة: أناشدك الله أديننا أحب إلى الله أم (1) دين محمد وأصحابه؟ فقال له كعب: أنتم أهدى منهم سبيلاً، فأنزل الله على رسوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا) ولم يخرج من مكة حتى أجمع أمرهم على قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعل يشبب بأم الفضل بنت الحارث وبغيرها من نساء المسلمين، وروي أن كعب بن الأشرف صنع طعاماً (2) ، ودعا النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه،
__________
(1) " البداية والنهاية " " شرح العيني على البخاري ".
(2) " فتح الباري " ج 7.(4/333)
848 - " بَابُ غَزْوَةِ أحُدٍ "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وتواطأ مع جماعة من اليهود على الفتك به إذا حضر هذه الوليمة، فجاء - صلى الله عليه وسلم - ومعه بعض أصحابه فأعلمه جبريل بما دَبَّرَهُ له كعب بن الأشرف فجلس معه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قام فستره جبريل بجناحه، فخرج من بينهم دون أن يراه أحد، فلما فقدوه تفرقوا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من ينتدب لقتل كعب. ثانياً: استدل السهيلي (1) بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من لكعب بن الأشرف فإنه آذى الله ورسوله " على وجوب قتل من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان ذا عهد، خلافاً لأبي حنيفة. ثانياً: أنه لا بأس بالكذب إذا ترتبت عليه مصلحة شرعية ومنفعة للمسلمين لقول محمد ابن مسلمة: " إن هذا الرجل قد سألنا الصدقة وإنه قد عنانا " وقوله: " ولكن نرهنك اللامة " أي السلاح وهو لا يريد أن يرهنه شيئاً. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في كون الحديث متضمناً لقتل كعب بن الأشرف.
848 - " باب غزوة أحد "
وغزوة أحد كانت يوم السبت 15 شوال من السنة الثالثة من الهجرة، وسببها أن قريشاً لما أصابها في بدر ما أصابها، كلموا أبا سفيان وجميع المساهمين في تلك العير التي كانت سبباً في وقعة بدر فقالوا: إن محمداً قد قتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه، فكان أبو سفيان أول من أجاب، فجعلوا لتلك الحرب التي عزموا على شنها ضد محمد - صلى الله عليه وسلم - ربح تلك العير، ويبلغ خمسين ألف دينار، وتجهزت قريش ومن والاها من قبائل كنانة وتهامة، وكان عددهم ثلاثة آلاف معهم الدفوف والمعازف والخمور، وكان قائدهم أبو سفيان بن حرب، وكان خروجهم لخمس مضين من شوال، وساروا حتى نزلوا ببطن الوادي من قبل أحد، وكان وصولهم يوم الأربعاء الثاني عشر من شوال، واستشار النبي
__________
(1) " الروض الأنف " ج 3.(4/334)
- صلى الله عليه وسلم - أصحابه في الخروج، فرأى كبار المهاجرين والأنصار التحصن بالمدينة، وهو رأي عبد الله بن أبي أيضاً، وكان - صلى الله عليه وسلم - قد رأى رؤيا أفزعته، وقصها على أصحابه، فقال: والله إني قد رأيت بقراً تذبح، ورأيت في ذباب سيفي -أي في طرفه- ثلماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، فأما البقر فناس من أصحابي يقتلون، وأما الثلم فهو رجل من أهل بيتي يقتل وأوّلت الدرع الحصينة بالمدينة وقال: امكثوا في المدينة، فإن دخل القوم قاتلناهم ورُمُوا من فوق البيوت وكانوا قد شبّكوا المدينة بالبنيان، فهي كالحصن، ولكن حمزة بن عبد المطلب وجماعة من شباب الصحابة اختاروا الخروج لئلا تظن قريش أنهم لم يخرجوا جبناً وخوفاً منهم فوافق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأيهم فصلى الجمعة ووعظ الناس وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ثم صلى العصر، ودخل بيته، ولبس لأمته وخرج متقلداً سيفه، فندم الذين اختاروا الخروج، وقالوا: ما كان ينبغي لنا أن نخالفك، فاصنع ما شئت، فقال: ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها فخرج يوم الجمعة، فأصبح في الشعب من أحد يوم السبت منتصف شوال، وجعل لواء الأوس بيد أسيد بن حضير ولواء الخزرج بيد حباب بن المنذر، ولواء المهاجرين بيد علي بن أبي طالب، وكان في المسلمين مائة دارع، وكان عددهم ألف مقاتل، فانخذل عبد الله بن أبي ورجع ومعه ثلثمائة، وكان على ميمنة خيل المشركين خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل، وعلي المشاة صفوان بن أمية. وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - على الرماة عبد الله بن جبير الأوسي، وكان عددهم خمسين رامياً أقامهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على الجبل المعروف بجبل الرماة وقال لهم: احموا ظهورنا، وإن رأيتمونا هزمنا القوم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، ونشب القتال، ولم يزل حملة اللواء يقتلون واحداً بعد الآخر حتى أصبح اللواء طريحاً على الأرض فحملته امرأة، وهي عمرة بنت علقمة الحارثية وكان عدد الذين قتلوا من حملة اللواء أحد عشر رجلاً، فتفرّق جيشهم إلى كتائب متعددة، وانهزم المشركون. غير أن المسلمين اهتموا بالغنائم، وقال أصحاب عبد الله بن جبير(4/335)
988 - عَنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
"لَقِينَا المُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ، وأجْلَسَ النبي - صلى الله عليه وسلم - جَيْشاً مِنَ الرُّمَاةِ، وأمَّرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهم الرماة: الغنيمة الغنيمة، تاركين مؤخرة الجيش، ونظر خالد بن الوليد إلى الجبل، فوجده خالياً، فكر بالخيل وتبعه عكرمة فحملوا على من بقي من الرماة فقتلوهم، وقتلوا أميرهم وارتبك المسلمون، وصار يضرب بعضهم بعضاً، ووقعت الهزيمة وثبت رسول الله وبعض أصحابه، وذاع في الناس وشاع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قتل، وأصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحجارة حتى أغمي عليه، وخدشت ركبتاه، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى، وشجّ وجهه، وجرحت شفته السفلى، وثبت معه أربعة عشر رجلاً من أصحابه، والتفوا حوله، وكان عدد الشهداء من المسلمين سبعين رجلاً وعدد القتلى من المشركين ثلاثة وعشرين رجلاً، والله أعلم.
988 - معنى الحديث: أن البراء بن عازب رضي الله عنه يقصّ علينا بعض ما وقع في غزوة أحد، فيذكر لنا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام جماعة من الرماة على الجبل المعروف بجبل الرماة، يبلغ عددهم خمسين رامياً تحت إمارة عبد الله بن جبير وكان - صلى الله عليه وسلم - قد أراد من ذلك أن يحمي بهم مؤخرة الجيش كما جاء في رواية أخرى أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: " انضحوا الخيل عنا بالنبل، لا يأتنا من خلفنا " وأمرهم أن لا يتركوا أماكنهم مهما كانت الأحوال والظروف، فلما التقى الجيشان انهزم المشركون حتى أسرع النساء هاربات من أرض المعركة، وقد ارتفعت ثيابهن عن سوقهن من شدة الجري، وظهرت خلاخلهن، فعند ذلك طمع الرماة في الغنيمة، وأسرعوا إلى الغنائم يأخذونها قائلين الغنيمة الغنيمة، وذكَّرهم أميرهم بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم أن لا يبرحوا الجبل، فلم يلتفتوا إليه، وذهبوا لجمع الغنائم فلما وقع ذلك منهم، نظر خالد بن الوليد إلى مؤخرة الجيش،(4/336)
عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللهِ، وقَالَ: لَا تَبْرَحُوا إنْ رَأيتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فلا تَبْرَحُوا، وِإنْ رَأيْتُموهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فلا تُعِينُونَا، فَلمَّا لَقِينَاهُمْ هَرَبُوا حتَّى رَأيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ في الْجَبَلِ، رَفَعْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ، قد بَدَتْ خلاخِلُهُنَّ، فأخذُوا يَقُولُونَ: الْغَنِيمَةَ الْغَنيمَةَ، فَقالَ عَبْدُ اللهِ: عَهِدَ إِليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا تَبْرَحُوا، فَأبَوْا، فلمَّا أُبوْا صُرِفَ وُجُوهَهُمْ، فَأصِيبَ سَبْعُونَ قَتيلاً، وأشْرَفَ أبو سُفْيَانَ فَقَالَ: أفِي الْقَوْمِ مُحَمَّد؟ فَقالَ: لا تُجيبُوهُ، فَقَالَ: أفِي الْقَوْمِ ابْنُ أبي قُحَافَةَ؟ قَالَ: لا تُجِيبُوهُ، فَقَالَ: أَفِي القَوْمِ ابْنُ الخَطَّاب؟ فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلاءِ قُتِلُوا، فَلَوْ كَانُوا أحْيَاءً لأجابُوا، فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ، فَقَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللهِ أبقَى اللهُ عَلَيْكَ مَا يُحْزِنُكَ، قَالَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فرأى الجبل خالياً، ولم يبق عليه سوى القليل فكر بخيله عليهم، فقتل عبد الله بن جبير ومن معه، وهاجم مؤخرة الجيش فارتبك المسلمون، وصار يضرب بعضهم بعضاً، ووقعت الهزيمة فيهم، فأصيب منهم سبعون قتيلاً، وشاع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قتل (1) ووصلت هذه الإشاعة إلى أبي سفيان، فأراد أن يتأكد من ذلك، فنادى بأعلى صوته أفي القوم محمد؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم عمر؟ فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يجيبوه، فلما لم يسمع منهم جواباً قال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يقدر عمر أن يسيطر على نفسه، ويمنعها عن الإِجابة، فقال لأبي سفيان: " كذبت يا عدوَّ الله " أي كذَّب الله ظنك، وخيَّب أملك " وأبقى الله عليك ما يحزنك " وهو بقاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأراد أبو سفيان أن يعبر عن فرحه وسروره واعتزازه بآلهتهم الباطلة، فقال:
__________
(1) قال ابن عباس: وصاح الشيطان قتل محمد، فلم يشك فيه أنه حق فما زلنا كذلك ما نشك أنه حق حتى طلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(4/337)
أبو سُفْيَانَ: أعْلُ هُبَلُ، فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أجيبُوهُ، قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: الله أعْلَى وَأجَلُّ، قَالَ أبُو سُفْيَانَ: لَنا الْعُزَّى ولا عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: أجيبُوهُ، قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا الله مَوْلانا ولا مولى لَكُمْ، قَالَ أبو سُفْيَانَ: يَوْم بِيَوْمِ بَدْرٍ، والْحَرْبُ سِجالٌ، وتجِدُونَ مُثْلةً لَمْ آمُرْ بِهَا، وَلَمْ تَسُؤنِي".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أعل هبل؟ أي زدت عزاً ورفعة وعلواً يا هبل بانتصارنا على محمد وأصحابه، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين أن يجيبوه بقولهم: الله أعلى وأجل. فأراد أبو سفيان أن يفاخر المسلمين ببعض أسماء آلهتهم، وأنهم ليس لهم مثلها " فقال: لنا العزى ولا عزى لكم " فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجيبوه بقولهم: " الله مولانا ولا مولى لكم "، أي الله ناصرنا ولا ناصر لكم. عند ذلك قال أبو سفيان يوم بيوم بدر، أي هذا اليوم مقابل يوم بدر، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أصاب منهم يوم بدر سبعين قتيلاً وأصابوا من المسلمين يوم أحد سبعين شهيداً: فكانت هذه بهذه " والحرب سجال " أي نوب، نوبة لك ونوبة لنا، مرة تغلبنا، ومرة نغلبك فأقر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا سفيان على ذلك ولم يجبه، لأنه الحقيقة والواقع، ثم قال أبو سفيان: " وتجدون مثلة " بضم الميم وسكون الثاء أي وتجدون في قتلاكم بعض التمثيل بهم من جدع أنوفهم، وقطع آذانهم، قال: " لم آمر بها " أي لم آمر بهذه المثلة قبل وقوعها، " ولم تسؤني " بعد وقوعها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يجب على الجند طاعة القائد فيما يأمرهم به، لأن مخالفة أوامره من أعظم أسباب الهزيمة، فإن المسلمين لم ينهزموا في أحد إلاّ بسبب مخالفتهم كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم، في قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا(4/338)
989 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" قَالَ رَجُلٌ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ أُحُدٍ: أرَأيْتَ إِنْ قُتِلْت فَأيْنَ أنَا؟ قَالَ: في الْجَنَّةِ، فألْقَى تَمَرَاتٍ في يَدِهِ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: وإنما عنى بهذا (1) الرماة. قال الحافظ: وفيه شؤم ارتكاب المنهي، وأنه يعم ضرره من لم يقع منه.
ثانياًً: قال الحافظ: فيه من الفوائد (2) منزلة أبي بكر وعمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - وخصوصيتهما به، بحيث كان أعداؤه لا يعرفون غيرهما، إذ لم يسأل أبو سفيان عن غيرهما. والمطابقة: في كون الحديث دل على بعض ما وقع في غزوة أحد مما يتعلق بالترجمة. الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود.
989 - معنى الحديث: أن رجلاً أراد أن يتأكد يوم أحد من مصيره إذا قتل في ذلك اليوم، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخبره أين هو إن قتل في هذه المعركة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " في الجنة " لأن الشهيد في سبيل الله قد بشره الله بالجنة في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) فلما سمع الرجل من النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه البشارة العظيمة، كانت في يده بعض تمرات، فألقاها، وقاتل حتى قتل. أما من هو هذا الرجل؟ فقد قال بعضهم: إنه عمير ابن الحمام لكن رجح الحافظ أنه رجل آخر غيره، لأن عمير بن الحمام وإن وقع منه ذلك أيضاً، لكنه وقع منه في غزوة بدر كما صرح بذلك أنس في حديثه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: قال الحافظ: فيه ما كان عليه الصحابة من حب نصر الإسلام، والرغبة في الشهادة ابتغاء مرضاة
__________
(1) " البداية والنهاية " لابن كثير ج 3.
(2) " فتح الباري " ج 7.(4/339)
990 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أن عَمَّهُ غَابَ عَنْ بَدْرٍ، فَقَالَ: غِبْتُ عَنْ أوَّلَ قِتَالَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَئِنْ أشْهَدَنِي اللهُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَيَرَيَنَّ اللهُ مَا أجِدُّ، فَلَقِىَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَهُزِمَ النَّاسُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ، يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ، وأبرَأ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَتَقَدَّمَ بِسَيْفِهِ فَلَقِيَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، فَقَالَ: أيْنَ يَا سَعْدُ؟ إِنِّي أجِدُ ريحَ الْجَنَّةِ دُونَ أحُدٍ، فَمَضَى فقُتِلَ، فما عُرِفَ حتَّى عَرَفَتْهُ أخْتُهُ بِشامَةٍ أو بِبَنَانِهِ، وبِهِ بِضْعٌ وثمَانُونَ مِنْ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ ".
__________
الله. ثانياً: مشروعية تمني الشهادة، واستعجالها، كما فعل هذا الصحابي الجليل، حيث ألقى التمرات من يده، ثم قاتل حتى قتل، والمطابقة: في كون هذا الحديث دل على بعض ما وقع في غزوة أحد ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
990 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أن عمه " أنس بن النضر " غاب عن بدر فقال: غبت عن أول قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي عن أوّل غزواته الكبرى، وهي غزوة بدر " لئن أشهدني الله مع النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي فأقْسِمُ لئن بلّغني الله حضور غزوة أخرى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - " ليرين " بفتح الياء الأولى والراء والياء الثانية " الله ما أجدّ " بفتح الهمزة، وكسر الجيم، أي ليرين الله تعالى كيف أبالغ في القتال والجهاد في سبيله وقال ابن التين: صوابه بفتح الهمزة وضم الجيم، من جد يجُدُّ إذا اجتهد في الأمر، أي ليرين الله كيف أجتهد في قتال الكفار، " فهزِمَ الناس، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني المسلمين " من مخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وترك الجبل " فقال يا سعد إني أجد ريح الجنة دون أحد " أي عند أحد، ولعله شم ريحاً طيبة، فعرف أنها ريح(4/340)
849 - " بَابُ ذِكْرِ أمِّ سَلِيطٍ "
991 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَنَّهُ قَسَمَ مُرُوطاً بَيْنَ نِسَاءٍ مِنْ نِسَاءِ أهلِ الْمَدِينَةِ، فَبَقِىَ مِنْهَا مِرْطٌ جَيِّدٌ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ عِنْدَهُ: يا أَميرَ الْمُؤْمِنِينَ أعْطِ هذَا بِنْتَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّتِي عِنْدَكَ، يُرِيدُونَ أمَّ كُلْثُوم بِنْتِ عَليٍّ، فَقَالَ عُمَرُ: أمُّ سَلِيطٍ أحقُّ بِهِ مِنْهَا، وأمُّ سَلِيطٍ مِنْ نِسَاءِ الأنْصَارِ مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ عُمَرُ: فَإِنَّهَا كَانتْ تَزْفِرُ لَنَا الْقِرَبَ يَوْمَ أحُدٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجنة " فمضى فقتل فما عرف " من كثرة جروحه " حتى عرفته أخته بشامة " أي بالخال الموجود فيه أو ببنانه " وبه بضع وثمانون من طعنة " برمح " وضربة " بسيف.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على وفاء أنس بن النضر بالعهد الذي قطعه على نفسه بالاستبسال في القتال، عند أول غزوة إسلامية وما أظهره في غزوة أحد من شدة النضال، وصدق الجهاد، حتى استشهد في سبيل الله. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فلقي يوم أحد " إلخ.
849 - " باب ذكر أم سليط "
991 - معنى الحديث: يقول ثعلبة بن مالك راوي الحديث " إن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قسم مروطاً " جمع مرط، وهو كساء من صوف يؤتزر به، أو تلقيه المرأة على رأسها " فبقي منها مرط " بكسر الميم وسكون الراء " فقال له بعض من عنده: أعط هذا بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي عندك " أي التي هي زوجتك " فقال عمر: أمّ سليط أحق به منها " فآثر أم سليط الأنصارية على زوجته، ورأى أنها أولى بهذا الكساء منها "قال عمر: فإنها كانت(4/341)
850 - " بَابُ قتلِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ "
992 - عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْن عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَنَّهُ قَالَ لِوَحْشِيٍّ:
ألا تُخْبِرنَا بِقَتْلِ حَمْزَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ طُعَيْمَةَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الخِيَارِ بِبَدْرٍ، فَقَالَ لِي مَوْلايَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ. إِنْ قَتَلْتَ حَمْزَةَ بِعَمِّي فَأنْتَ حُرٌّ، قَالَ: فلَمَّا أَنْ خَرَجَ النَّاس عَامَ عَيْنَيْنِ -وَعَيْنَيْنِ جَبَلٌ بِحِيَالِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تزفر لنا القرب يوم أحد" أي كانت تحمل القرب ملأى على ظهرها فتسقي الناس منها. الحديث: أخرجه البخاري.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل أم سليط تلك الصحابية الجليلة التي ساهمت في الجهاد بخدمة المسلمين يوم أحد، وحمل الماء على ظهرها لتسقي المجاهدين، فسجل لها التاريخ ذلك وشهد لها عمر رضي الله عنه بهذه المنقبة العظيمة، التي فضّلها بها على آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثانياًً: توجيه النصح وتقديم المشورة إلى إمام المسلمين، لا سيما ممن حوله من الوزراء والكتاب ونحوهم. والمطابقة: في قوله: " أم سليط (1) أحق بها منها ".
850 - " باب قتل حمزة رضي الله عنه "
992 - ترجمة راوي الحديث: وهو عبيد الله - بالتصغير ابن عدي بن الخيار النوفلي القرشي، ذكره ابن حبان في الصحابة، وقال العجلي: تابعي ثقة من كبار التابعين، روى عن عمر وعثمان وعلي، وتوفي بالمدينة في خلافة الوليد ابن عبد الملك.
معنى الحديث: أن عبيد الله بن الخيار سأل وحشياً أن يحدثه عن قتل حمزة ابن عبد المطلب رضي الله عنه، فقال وحشي: إن حمزة قتل طعيمة بن عدي
__________
(1) بفتح السين وكسر اللام اشتهرت بكنيها، ولا يعرف اسمها كما أفاده العيني.(4/342)
أُحُدٍ، بَيْنَه وبَيْنَه وَادٍ- خَرَجْت مَعَ الناسِ إلى القِتَالِ، فَلَمَّا أنْ اصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ خَرَجَ سِبَاعٌ فَقَالَ: هَلْ من مُبَارِزٍ؟ قَال: فَخَرَجَ إليْهِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَقَالَ: يَا سِبَاعُ يا ابْنَ أمِّ أنْمَارٍ مُقَطِّعَةِ البُظُورِ، أتحَادُّ اللهَ وَرَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: ثمَّ شَدَّ عَلَيْهِ، فَكَانَ كأمْس الذَّاهِبِ، قَالَ: وَكَمَنْتُ لِحَمْزَةَ تَحْتَ صَخْرَةٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنِّي رَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي، فأضَعُهَا في ثُنَّتِهِ، حتى خَرَجت مِنْ بَيْن وَرِكَيْهِ، قَالَ: فَكَانَ ذَاكَ الْعَهْدَ بِهِ، فلمَّا رَجَعَ النَّاسُ رَجَعْت مَعَهُمْ، فأقَمْتُ بِمَكَّةَ حتَّى فشا فيها الإسْلامُ، ثمَّ خَرَجت إلى الطَّائِفِ، فأرْسَلُوا إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَسُولاً، فَقِيْلَ لي: إِنَّه لا يَهِيجُ الرُّسُلَ، فخَرَجُتُ مَعَهُمْ حتى قَدِمْتُ على رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فلما رَآنِي قَالَ: آنْتَ وَحْشِيُّ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أنْتَ قَتَلْتَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في غزوة بدر، وهو عم جبير بن مطعم وكان وحشي عبداً له قال: " فقال لي مولاي جبير بن مطعم: إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر " أي فوعده سيده بعتقه إن قتل حمزة رضي الله عنه " قال: فلما أن خرج الناس عام عينين، وعينين جبل بجيال أحد " أي فلما خرج الناس للقتال في غزوة أحد " خرجت مع الناس " أي خرجت معهم وأنا حريص على قتل حمزة، لكي أظفر بعتق رقبتي " فلما أن اصطفوا للقتال، خرج سباع " أي سباع بن عبد العزى بكسر السين وفتح الباء المخففة " فقال: هل من مبارز، فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب فقال: يا ابن أم أنمار مقطعة البظور (1) " يعيره بأمه، وكانت جارية مملوكة تختن النساء " أتحاد الله ورسوله " أي أتتجرأ على معاداتهما " فشد عليه فكان كأمس الذاهب " أي فهجم عليه فأزاله عن الحياة زوال الأمس عن اليوم "قال:
__________
(1) البظور بضم والظاء جمع بظر وهو اللحمة التي تقطع من فرج المرأة.(4/343)
حَمْزَةَ؟ قُلْتُ: قَدْ كَانَ مِنَ الأمْرِ مَا قَدْ بَلَغَكَ، قالَ: فَهَل تَسْتَطِيعُ أنْ تُغَيِّبَ وَجْهَكَ عَنِّي؟ قَالَ: فَخَرَجْتُ، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَخَرَجَ مُسَيْلَمَةُ الكَذَّابُ قُلْتُ: لأخْرُجَنَّ إلى مُسَيْلَمَةَ لَعَلِّي أقْتُلُهُ فأكَافِىءَ بِهِ حَمْزَةَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ، فَكَانَ من أمْرِهِ مَا كَانَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ في ثَلْمَةِ جِدَارٍ كَأنَّهُ جَمَلٌ أوْرَقُ، ثَائِرُ الرَّأسِ، قَالَ: فرَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي، فأضَعُهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ كَتِفَيْهِ، قَالَ: وَوَثب إلَيْهِ رَجُل مِنَ الأنْصَارِ، فَضَرَبَهُ بالسيفِ على هَامَتِهِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وكمنت لحمزة" أي اختبأت له " فأضعها في ثُنَّتِه " أي فرميته بالحربة فوضعها في ثُنَّته أي ما بين السرة والعانة " حتى خرجت من وركيه " تثنية ورك، بفتح الواو وكسر الراء " (1) ، قال في " المصباح ": وهما وركان فوق الفخذين كالكتفين فوق العضدين، قال: " ثم خرجت إلى الطائف " وذلك بعد فتح مكة " فأرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسولاً " أي فأرسل أهل الطائف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - رسولاً، وفي رواية أخرى رسلاً " فقيل لي إنه لا يهيج الرُّسل " (2) أي لا يصيبهم بمكروه " فخرجت معهم " إليه، "قال: أنت قتلت حمزة " مرتين " قلت: قد كان من الأمر ما قد بلغك " أي قد وقع مني قتل حمزة كما بلغك عني " قال: فهل تستطيع أن تغيّب وجهك عني " يعني: فطلب منه أن لا يواجهه خوفاً من أن يثير مشاعره عليه، قال: " فخرج مسيلمة الكذاب فقلت لأخرجن إلى مسيلمة لعلي أقتله، فأكافىء وبه حمزة " أي أقابل السيئة بالحسنة، فتكون هذه بهذه. " فخرجت مع الناس " إلى اليمامة "فإذا رجل قائم في ثلمة
__________
(1) قال في " المصباح ": ويجوز التخفيف بكسر الواو وسكون الراء. اهـ.
(2) وفي رواية لا يهيج رسولاً بالإفراد.(4/344)
جدار" أي في ثقب جدار متهدم " وكأنه جمل أورق " أي كأنه في سماره جمل رمادي اللون " فأضعها بين ثدييه " أي فرميته بالحربة فأصبته في صدره بين ثدييه، قال: " ووثب إليه رجل من الأنصار " وهو عبد الله بن زيد " فضربه بالسيف على هامته " أي على رأسه فكانت القاضية عليه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان مقتل سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وهو عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخوه من الرضاعة، كان رضي الله عنه فارساً عظيماً في الجاهلية والإِسلام (1) وكانت قصة إسلامه مثلاً رائعاً للبطولة الفذة، فقد اعترض أبو جهل النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الصفا وشتمه، ونال منه، فسمع حمزة بذلك، فأقبل نحوه حتى إذا أقام على رأسه ضربه بقوسه، فشجه شجَّةً منكرة، فقام رجال من بني مخزوم يناصرون أبا جهل وقالوا: ما نراك يا حمزة إلاّ قد صبوت، قال حمزة: وما يمنعني وقد استبان لي الحق، أشهد أنه رسول الله، وأن الذي يقول حق، فوالله لا أنزع، فامنعوني إن كنتم صادقين، وهكذا تحداهم البطل جميعاً، وجبن أبو جهل فقال: دعوا أبا عمارة، وأسلم حمزة في السنة الثانية من البعثة، ولازم نصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشهد بدراً وأبلى في ذلك بلاء عظيماً، وقتل شيبة بن ربيعة وطعيمة ابن عدي، وهو الذي أوغر عليه صدر جبير بن مطعم، وهند بنت عتبة، ودفعهما لأخذ الثأر منه، فأوعز جبير إلى مولاه وحشي بقتل حمزة، ووعده بعتق رقبته مكافأة له على ذلك، فتم أمر الله، ونفذ قضاؤه، فاستشهد البطل على يد ذلك العبد الحبشي، ولم يقتل مواجهة ولا مبارزة، فما كان لوحشي أن ينال من سيد الفوارس شعرة لو واجهه، ولكن حمزة كما قال الدكتور هيكل لم يُصرع كما تصرع (2) الأبطال، وإنما كما يغتال الكرام في حلك الظلام، وما
__________
(1) " غزوة أحد " لمحمد أحمد باشميل.
(2) " حياة محمد - صلى الله عليه وسلم - " للدكتور محمد حسين هيكل.(4/345)
851 - " بَابُ غَزْوَةِ الْخنْدَقِ "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عسى أن تغني الشجاعة حين يختبىء الاغتيال في حندس الليل، فيورد صاحبه حتفه، وهكذا شاء القدر (1) أن يستشهد البطل على يد ذلك العبد الحبشي الذي هاب حمزة وهو مجندل على الأرض، فلم يجرأ على الاقتراب " لأخذ حربته منه. ثانياً: أن الإِسلام يجب ما قبله، وأن نبينا - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف التشفي والانتقام وإلّا فقد وقع " وحشي " قاتل عمه بعد فتح الطائف في قبضة يده، فما مد إليه يده بسوء، وما زاد على أن قال له: " فهل تستطع أن تغيب وجهك عني " فلم يثأر منه لعمه حمزة، مع شدة حزنه عليه، لأن الإِسلام يغفر لصاحبه ما قد سلف. ثالثاً: أن المرء لا يلام على شعوره بالاستياء، وعدم الارتياح لمقابلة من أساء إليه، أو إلى أحد أقاربه، لأن ذلك من الانفعالات النفسية الخارجة عن إرادته، وإلا لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني ". الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في كون الحديث متضمن لقصة قتل حمزة رضي الله عنه.
851 - " باب غزوة الخندق "
وقد كانت هذه الغزوة في شوال من السنة الخامسة من الهجرة الموافق لشهر فبراير 627 م، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أجلى بني النضير خرج نفر من أشرافهم، منهم حيي بن أخطب إلى مكة يحرضون قريشاً على حرب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووعدوهم بأنهم سيكونون معهم حتى يستأصلوه، وما زالوا بهم حتى وافقوا على محاربته، ثم ذهبوا إلى سليم وغطفان، ودعوهم إلى مشاركتهم في هذه الحرب، وأعلموهم أن قريشاً بايعوهم، فوافقوا، فجهزت قريش أربعة آلاف مقاتل وخرجوا بقيادة أبي سفيان، ووافتهم بنو سليم بمر الظهران بسبعمائة بقيادة سفيان بن عبد شمس، وخرجت بنو أسد وغطفان وفزارة وبنو مُرَّة حتى بلغ المجموع عشرة آلاف
__________
(1) هذه العبارة لا ينبغي أن تقال، وإنما يقال: وهكذا شاء الله تعالى، لأن المشيئة لله وحده.(4/346)
مقاتل. حفر الحندق: ولما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبأ هذه الجموع التي جاءت لمحاربته - صلى الله عليه وسلم - ندب الناس، وشاورهم، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق تجاه العدو ليكون بمثابة خط دفاعي يتحصنون به من عدوهم، فأعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وضرب الخندق على المدينة، قال الأستاذ الأنصاري: وقد تم حفره من شمالي المدينة الشرقي إلى غربها، فالخندق كما نتخيل كان يشكل نصف دائرة، طرفها الغربي يقع غربي مسجد المصلى " مسجد الغمامة " والشرقي عند مبدأ حرة واقم. قال المطري: وقد عفا أثره اليوم، أي في القرن الثامن الهجري. لأن وادي بطحان استولى على موضع الخندق، وصار مسيله في الخندق. وقد شارك فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن هشام: " فعمل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترغيباً للمسلمين في الأجر، فدأب فيه ودأبوا كما سيأتي تفصيله في الأحاديث الآتية: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عقد عهداً مع بني قريظة أن لا يظاهروا عليه أحداً، فأغرتهم بنو النضير على نقض العهد، وخرج حيي بن أخطب سيد بني النضير إلى كعب بن أسد سيد بني قريظة، فلما سمع صوته أغلق باب الحصن دونه، فلم يزل يلح عليه حتى فتح له، وما زال يستميله ويحاول معه حتى نقض العهد، وانضم إلى قبائل قريش وغطفان وغيرها من القبائل التي جاءت لمحاربته - صلى الله عليه وسلم -. وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الإثنين لثمان مضين من ذي القعدة، وكان يحمل لواء المهاجرين زيد ابن حارثة، ولواء الأنصار سعد بن عبادة، وكان عددهم ثلاثة آلاف، وأقبلت قريش فنزلت بمجتمع الأسيال بين الجرف والغابة، وأقبلت غطفان ومن تابعها ونزلت بذنب نقمي (1) بجانب أحد، وكانت تلك الظروف ظروفاً قاسية اشتد فيها الحصار وتفاقم البلاء، سيما بعد أن نقضت قريظة عهدها، وانضمت إلى العدو فكانت هذه مفاجأة أليمة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن إسحاق: وعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون
__________
(1) منطقة بشمال المدينة وشمال أحد.(4/347)
كل ظن، وهمّ بالفشل بنو حارثة وبنو سلمة معتذرين بأن بيوتهم عورة، أي مكشوفة للعدو، مهددة بالخطر، لأنهم كانوا خارج المدينة في الجهة الغربية منها، وهي المنطقة الواقعة غربي سلع إلى القبلتين، وحاول النبي - صلى الله عليه وسلم - مصالحة غطفان على ثلث ثمار المدينة، واستشار - صلى الله عليه وسلم - سعد ابن معاذ وسعد بن عبادة فقالا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أمر تحبه فتصنعه، أم شيء أمرك الله به، ولا بد لنا من العمل به أم شيء تصنعه لنا، قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رَمَتْكُمْ عن قوس واحدة فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قِرى أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإِسلام وهدانا له، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا، والله لا نعطيهم إلاّ السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فأنت وذاك: ودام الحصار شهراً ووقعت بين الفريقين بعض المناوشات الحربية واقتحم بعضهم الخندق، فتورط، وقتل، كما وقع لعبد الله بن المغيرة المخزومي. وكان مما أنعم الله به على المسلمين إسلام نعيم بن مسعود الأشجعي رضي الله عنه، والخدعة التي قام بها، ويحدثنا رضي الله عنه (1) عن ذلك فيقول: لما سارت الأحزاب سرت مع قومي حتى قذف الله في قلبي الإِسلام فكتمت قومي إسلامي، فأخرج حتى آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المغرب والعشاء، وأجده يصلي، فلما رآني جلس، ثم قال: ما جاء بك يا نعيم؟ قلت: إني جئت أصدقك وأشهد أن ما جئت به حق، فمرني بما شئت يا رسول الله، فوالله لا تأمرني بأمر إلاّ مضيت له، وقومي لا يعلمون بإسلامي ولا غيرهم، قال: ما استطعت أن تخذل الناس فخذل، قال: قلت أفعل، ولكن يا رسول الله فأذن لي أقول ما أقول من المكر والحيلة، قال: قل ما بدا لك، فأنت في حل، قال: فذهبت حتى جئت بني قريظة، فلما رأوني
__________
(1) " المغازي " للواقدي.(4/348)
رحبوا بي، وأكرموا وحيوا، وعرضوا عليَّ الطعام والشراب، فقلت: إني لم آت لشيء من هذا، إنما جئتكم تخوفاً عليكم لأشير عليكم برأيي، وقد عرفتم ودي إياكم، فقالوا: قد عرفنا ذلك، وأنت عندنا على ما تحب من الصدق والخير، قال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل، قال: إن هذا الرجل يعني محمداً - صلى الله عليه وسلم - صنع ببني قينقاع وبني النضير وأجلاهم عن بلادهم، وأرى الأمر قد تطاول، وإنكم والله ما أنتم وقريش وغطفان من محمد بمنزلة واحدة، فإنهم إن وجدوا فرصة انتهزوها، وإن أصابهم ما يكرهون انشمروا إلى بلادهم، وأنتم لا تقدرون على ذلك، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، فلا تقاتلوا مع قريش وغطفان حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم مخافة أن لا يستمروا في مواصلة قتاله، وأن ينسحبوا ويتركوكم معه وحدكم، قالوا: أشرت بالرأي علينا، ونحن فاعلون، قال: ولكن اكتموا عني، قالوا: نعم نفعل. ثم خرج إلى أبي سفيان فقال: يا أبا سفيان قد جئتك بنصيحة فاكتم عني، قال: أفعل، قال: تعلم أن قريظة قد ندموا على ما صنعوا وأرادوا صلح محمد، وأرسلوا إليه وأنا عندهم إنا سنأخذ من قريش وغطفان من أشرافهم سبعين رجلاً نسلمهم إليك تضرب أعناقهم وترد أجنحتنا التي كسرت إلى ديارهم، يعني بني النضير، ونكون معك على قريش، إن بعثوا إليكم يسألونكم رهناً، فلا تدفعوا إليهم أحداً، ولكن اكتموا عني، قالوا: لا نذكره، ثم خرج حتى أَتى غطفان، فقال لهم مثل ما قال لقريش، وكان رجلاً منهم فصدقوه، وأرسلت اليهود إلى أبي سفيان غزال بن السموأل ليقول له: إن ثواءكم -أي إقامتكم- قد طال، ولم تصنعوا شيئاً، لو وعدتمونا يوماً تزحفون فيه إلى محمد ولكن لا نخرج معكم حتى ترسلوا إلينا برهان من أشرافكم يكونون عندنا، فإنا نخاف إن مستكم الحرب، أو أصابكم ما تكرهون تركتمونا، وقد نابذنا محمداً بالعداوة، فلم يُرجعوا إليهم - أي لم يردوا عليهم جواباً، وقال أبو سفيان لقريش: هذا ما قاله نعيم. ونجح نعيم بن مسعود في خطته، وزال شبح الخطر، وبدت بوادر(4/349)
الفرج، وأراد الله تعالى أن يمد المسلمين بقوة سماوية، فأرسل إليهم جنداً من عنده، وأرسل على قريش وغطفان عاصفة شديدة في ليلة شاتية باردة أكفأت قدورهم وقوّضت خيامهم، وأصيبوا بالمرض، متأثرين بذلك البرد القارس، وأنزل الله في قلوبهم الرعب، كما قال تعالى في سورة الأحزاب: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا) قال ابن إسحاق: " وكانت الجنود التي أرسل الله عليهم مع الريح الملائكة، فلما رأى أبو سفيان ما رأى قال: يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف أي الخيل والإِبل. وأخلفتنا بنو قريظة، ولقينا من الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل.
***(4/350)
993 - عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الأحْزَابِ، وَخَنْدَقَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، رَأيْتُهُ يَنْقُلُ مِنْ تُرَابِ الْخَنْدَقِ، حَتَّى وَارَى عَنِّي الغُبَارُ جِلْدَةَ بَطْنِهِ، وكانَ كَثِيرَ الشَّعَرِ، فَسَمِعْتُهُ يَرْتَجِزُ بِكَلِمَاتِ ابْنِ رَوَاحَةَ، وَهُو يَنْقُلُ مِنَ التُّرابِ يَقُولُ:
اللَّهُمَّ لَوْلا أنْتَ ما اهْتَدَيْنَا ... ولا تَصَدَّقْنَا ولا صَلَّيْنَا
فَأنْزِلَنْ سكِينَةً عَلَيْنَا ... وثَبِّتِ الأقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا
إِنَّ الأُلى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... وِإنْ أرَادُوا فِتْنَةً أبَيْنَا
قَالَ: ثُمَّ يَمُدُّ صَوْتَهُ بآخِرِهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
993 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمع ما أجمعت عليه قريش وغطفان من محاربته - صلى الله عليه وسلم - ضرب الخندق على المدينة، وعمل فيه - صلى الله عليه وسلم - بيده الشريفة، وشارك المسلمين في حفره ترغيباً لهم في الأجر والثواب، وكان ينشد شعر ابن رواحة وغيره في تشجيعهم وحثهم على مواصلة الحفر، وكان ينقل التراب معهم حتى غطى الغبار جلدة بطنه، ومما أنشده - صلى الله عليه وسلم - من شعر ابن رواحة قوله:
" اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا "
وفي هذا ثناء على الله تعالى، وشكر له على نعمة الهداية والتوفيق لجميع الأعمال الصالحة من صلاة وصدقة وغيرها، فإنه لا توفيق إليها إلَّا بالله:
" فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا "(4/351)
994 - عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الأحْزَابِ: " نَغْزُوهُمْ وَلا يَغْزُونَنَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفي هذا تضرع إلى الله تعالى أن يمدهم بالطمأنينة والصبر وثبات الأقدام عند ملاقاة العدو.
"إن الأولى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا"
أي إن هؤلاء المشركين الذين اعتدوا علينا، وتجمعوا لقتالنا ليفتنونا عن ديننا، سيخيب الله آمالهم لأننا جند الله، ونأبى أن نخضع لأي قوة تصرفنا عن دين الله. ولينصرن الله من ينصره.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أمره - صلى الله عليه وسلم - بحفر الخندق بعد أن استشار الصحابة، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفره، ليكون خطاً دفاعياً ضد العدو، ففيه أنه ينبغي أن نأخذ من غيرنا ما فيه مصلحة لنا ما دام لا يتعارض مع أحكام شريعتنا، سيما فيما يتعلق بالأمور العسكرية والعمرانية والزراعية وغيرها. ثانياًً: مشاركة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في الأعمال الكبيرة تشجيعاً لهم، وهكذا ينبغي للرؤساء أن يشاركوا في الأعمال التي فيها مصلحة للمسلمين. ثالثاً: أن من السنَّة إنشاد بعض الشعر الحماسي أثناء العمل تشجيعاً للعاملين، وترغيباً لهم كما فعل - صلى الله عليه وسلم -. والمطابقة: في قوله: " وخندق رسول الله - صلى الله عليه وسلم ". الحديث: أخرجه الشيخان.
994 - معنى الحديث: يحدثنا سليمان بْن صرد رضي الله عنه في حديثه هذا عن تبدل حال المسلمين من ضعف إلى قوة بعد غزوة الخندق، فيقول: مستشهداً بكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - " قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب " أي بشر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بعد انصرافه من غزوة الخندق بقوله " نغزوهم ولا يغزوننا " أي يصبح لكم من الشوكة العزة والمنعة، وينزل الله الرعب في(4/352)
995 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبي أوفَى رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ:
دَعَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الأحْزَاب فَقَالَ: " اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الأحزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قلوبهم، فلا يجرؤون على مبادأتكم بالغزو والحرب بعد غزوة الخندق لما حقق الله فيها من النصر على الأحزاب المختلفة من المشركين واليهود واستئصال قريظة من المدينة، وقطع دابرهم.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن غزوة الخندق كانت نقطة تحول في تاريخ المسلمين، وبداية عهد جديد، تهيأت فيه لهم كل أسباب القوة والمنعة، حيث انتصروا على الأحزاب، وقضوا على اليهود في المدينة، وأمنوا على أنفسهم من الفتن والحروب الخارجية والداخلية وأصبحت لهم دولة إسلامية قوية عزيزة الجانب، يرهبها الأعداء، ويحسبون ألف حساب قبل أن يفكروا في غزوها ومحاربتها. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب.
995 - معنى الحديث: يقول عبد الله بن أبي أوفي " دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأحزاب " أي على طوائف الكفار التي اجتمعت لقتال المسلمين من اليهود والمشركين " فقال: اللهم منزل الكتاب " أي يا منزل الكتاب الذي وعدت فيه المسلمين بالنصر على أعدائهم، في قولك الحق: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) " سريع الحساب " أي ويا سريع الانتقام من أعدائه " اهزم الأحزاب " أي اجعل لنا الغلبة عليهم ومكنَّا منهم " وزلزلهم " أي وسلط عليهم من أنواع البلاء ما تضطرب له قلوبهم، وترتجف له نفوسهم خوفاً وقلقاً ورعباً. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه. والمطابقة: في قوله: " دعا على الأحزاب ".(4/353)
852 - " بَابُ مرْجِعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب ومخرَجِهِ إلى بَنِي قُريْظَةَ "
996 - عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" نَزَلَ أهلُ قُرَيْظَةَ على حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَأرسَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى سَعْدٍ فأتَى عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْمَسجِدِ، قَالَ للأنْصَارِ: قومُوا إلى سَيِّدِكُمْ أو خَيْرِكُمْ، فَقَالَ: هَؤُلاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ، فَقَالَ: تَقْتُلُ مُقَاتِلَتَهُمُ وتَسْبِي ذَرَارِيَّهمْ، قَالَ: قَضَيْتَ بِحُكْمِ اللهِ، وَرُبَّمَا قَالَ: بِحُكْمَ الْمَلِكِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية الدعاء على الأعداء بالهزيمة وللمسلمين بالنصر عليهم، لا سيما في ميادين القتال، فإن الدعاء فيها إذا خلصت النية مستجاب، كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة.
852 - " باب مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته لهم "
996 - معنى الحديث: أن بني قريظة لما نقضوا العهد، وانتهت غزوة الخندق بانتصار النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهزيمة المشركين، فعادُوا إلى ديارهم خائبين، خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - لمقاتلة بني قريظة، وحاصرهم مدة من الزمن حتى استسلموا، ونزلوا على حكم سعد بن معاذ، أي وافقوا على قبول حكمه فيهم، وكان حليفاً لهم، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه فأتى راكباً على حمار، لأنه كان يعاني من الجرح الذي أصيب به في أكحله يوم الخندق، فأتوا به راكباً على حمار، فلما اقترب من المسجد أمر النبي الأنصار أن يخفوا لاستقبال سيدهم، والترحيب به، وإعانته على النزول، ثم أخبره أن بني قريظة قد وافقت على حكمه فيهم، فحكم فيهم(4/354)
سعد أن يقتل رجالهم القادرين على القتال منهم، وأن تُصادر أموالهم، وتكون نساؤهم وصبيانهم غنيمة للمسلمين، فأعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الناس أن سعداً قد وفق في حكمه هذا، وأنه قد حكم بحكم الله من فوق سبع سموات، والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استسلام بني قريظة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزولهم على حكم سعد بن معاذ بعد أن حاربهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر الله تعالى، حيث جاءه جبريل بعد انتهاء غزوة الخندق في بيت عائشة معتجراً (1) بعمامة من إستبرق (2) على بغلة عليها قطيفة من ديباج فقال: أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم، فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح، إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة، فإني عائدٌ إليهم، فمزلزل بهم، وكانت منازل بني قريظة بالحرّة الشرقية الجنوبية من العوالي شرقي " حاجزة " (3) الحديقة المعروفة التي يقع على بابها مسجد بني قريظة وتنتهي هذه الحرة عند مشربة أم إبراهيم، فلما أمر - صلى الله عليه وسلم - بالخروج أمر بلالاً أن يؤذن في الناس: إن الله يأمركم أن لا تصلوا العصر إلَّا في بني قريظة، وأعطى اللواء لعلي، وخرج إليهم في ثلاثة آلاف مقاتل، فحاصرهم خمسة عشر يوماً حتى جهدهم الحصار، وألقى الله في قلوبهم الرعب، فعرض عليهم سيدهم كعب بن أسد أن يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ويصدقوه، فقالوا: لا نفارق حكم التوراة، فعرض عليهم أموراً أخرى فرفضوها، ولما شدد النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم الحصار استسلموا له، ونزلوا على حكمه، فحاولت الأوس وهم حلفاؤهم تخفيف الحكم في حقهم وشفعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم، فأجابهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: أما ترضون أن يحكم فيهم
__________
(1) واضعاً العمامة على رأسه.
(2) الاستبرق والديياج نوعان من الحرير.
(3) " المدينة بين الماضي والحاضر " لمؤرخ المدينة الأستاذ إبراهيم العياشي.(4/355)
رجل منكم، قالوا: بلى، قال: فذاك سعد بن معاذ، وكان سعد رضي الله عنه إذ ذاك في خيمة بالمسجد، تمرضه امرأة من أسلم، وتداوي الجرح الذي أصيب به، فحمله قومه على حمار، وهم يقولون له: يا أبا عمرو أحسن إلى مواليك، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه، قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فرجع بعض من كان معه إلى دار بني عبد الأشهل، فنعى إليهم رجال قريظة، فلما انتهي سعد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قوموا إلى سيدكم، ثم قال لسعد: هؤلاء نزلوا على حكمك، فرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحكم فيهم إلى سعد رضي الله عنه فقال: إني أحكم أن تقتل المقاتلة، وتسبى النساء والذرية، وتقسم أموالهم " أخرجه أحمد. وهكذا كان حكم سعد صارماً حيث حكم بتصفيتهم نهائياً. ثانياً: أن حكم سعد باستئصال بني قريظة كان موافقاً لحكم الله تعالى كما قال - صلى الله عليه وسلم -: قضيت بحكم الله عز وجل، ولا مجال لمناقشة هذا الحكم، فهو حكم الله العادل وقد نفذ فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم الله، فألقى القبض على رجالهم وسجنوا في دار بنت الحارث النجارية الأنصارية، وهي في موضع الحديقة الرومية (1) التي أنشأ في مكانها فندق التيسير، ثم هدم وأدخل في مشروع الحرم النبوي، وقال الشريف العياشي (2) : الذي أراه أنها ما فيه مدرسة آل مظهر، وما يقع في شرقيها، حيث كان مربد غنم الأغوات، وهذا الموضع في اتساع ما يكفي لأسرى قريظة، وأقل ما عُدَّ هو خمسمائة رجل، وأكثر ما قيل ثمانمائة، ولما حُبَسَ هؤلاء في دار بنت الحارث خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سوق المدينة، وأمر أن تحفر الخنادق، وأخرجوا أرسالاً أي أفواجاً، فضربت أعناقهم، ومنهم حيي بن أخطب، وكعب بن أسد، وكان عددهم ستمائة، وتولى ضرب أعناقهم علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام،
__________
(1) " وفاء الوفاء " للسمهودي.
(2) " المدينة بين الماضي والحاضر " للعياشي.(4/356)
853 - " بَابُ غَزْوَةِ الحُدَيْبيَّةِ "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وذلك بحضور النبي - صلى الله عليه وسلم - فصاحت نساؤهم عند قتلهم، وشققن جيوبهن، ونشرن شعورهن، وضربن خدودهن، وملأت المدينة نواحاً، وجمعت ما في حصونهم، فخمس النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك مع النَّخل والسبي، ثم بعث بالسبايا فباعها في نجد، واشترى بثمنها خيلاً وسلاحاً، واصطفي لنفسه ريحانة بنت عمرو، ولما استأصل بنو قريظة لم تقم لليهود بعد ذلك قائمة، وخضع المنافقون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطهرت المدينة من الخونة والغادرين. ثالثاً: استغل بعض المغرضين قصة مقتل بني قريظة في إثارة الشبهات ضد النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال في فيض الباري: اتفق لي مرة أن أسقفاً من النصارى سأل مسلماً إن نبيكم لو كان صادقاً فلم قتل ستمائة نفس من اليهود، وأنا أنظر ما يجيب، فرأيت المسلم عاجزاً عن الجواب، فبادرت إليه قائلاً: وهل تخبرني كم مرة عفا عنهم مع غدرهم؟ فما جزاء الغدر في شريعتكم، فسكت، وسكوته يدل على أن جزاءه القتل، ثم قلت: أنا أعلم بكتابكم منكم. والمطابقة: كما قال العيني: تفهم من معنى الحديث، وذلك أن نزولهم على حكم سعد رضي الله عنه كان بعد خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم (1) .
853 - " باب غزوة الحديبية، وقول الله تعالى:
(لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) "
أما أسبابها: فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في منامه أنه دخل مكة، وطاف بالبيت معتمراً، فأخبر أصحابه فاستبشروا بذلك، فتاقت نفوسهم إلى الطواف بالكعبة، واشتد حنينهم لمكة وخرج - صلى الله عليه وسلم - من المدينة في ذي القعدة سنة ست
__________
(1) وإنما اخترت هذا الحديث من بين أحاديث الباب الأخرى رغم خفاء المطابقة فيه لما اشتمل عليه من فوائد عظيمة.(4/357)
معتمراً لا يريد حرباً، ومعه ألف وخمسمائة، وساق معه الهدي، وأحرم بالعمرة ليعلم الناس أنه خرج زائراً للبيت، معظماً له، حتى كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت راحلته، فقالوا: خلأت القصواء، أي وقفت ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما خلأت القصواء -أي ما وقفت بنفسها عن سوء طبع فيها، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل- إشارة إلى فيل أبرهة، الذي حبسه الله عن دخول مكة، والَّذِي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله، ويسألونني فيها صلة الرحم، إلا أعطيتهم إياها " ثم زجرها فوثبت به تعدو حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء، وفزعت قريش لنزوله - صلى الله عليه وسلم - عليهم، فأحب أن يبعث إليهم رجلاً من أصحابه، فعرض على عمر أن يذهب إليهم فقال: يا رسول الله ليس بمكة أحدٌ من بني عدي بن كعب يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشيرته بها وإنه مبلغ ما أردت، فأرسل إليهم عثمان ليخبرهم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأت لقتال، وإنما جاء معتمراً، وتأخر عثمان في مكة، وبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عثمان قد قتل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا نبرح حتى نناجز القوم، ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى البيعة، فثار المسلمون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو تحت الشجرة، فبايعوه على أن لا يفروا، وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيد نفسه، وقال: هذه عن هذه عن عثمان، فكانت هذه هي بيعة الرضوان التي وقعت تحت شجرة سمرة في الحديبية، فأنزل الله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) ولعل هذا أيضاً من أسباب تسميتها بغزوة الحديبية، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه مقتل عثمان عزم على مناجزتهم وقتالهم، وبايع أصحابه على أن لا يفروا، وبينما هو كذلك إذ جاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في رجال من خزاعة يسأله عما جاء به، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " إنا لم نجىء لقتال، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد أنهكتهم الحرب، فإن شاءوا ماددتهم، وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإن أبوا إلَّا القتال، فوالذي نفسي بيده(4/358)
997 - عَنِ البَراءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
"تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ، وقد كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحاً، ونَحْنُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأقاتلنهم على أمري حتى تنفرد سالفتي والسالفة صفحة العنق، فلما بلغهم ذلك قال عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد، فاقبلوها، ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فدعا الكاتب، فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: أما الرحمن، فوالله ما ندري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اكتب باسمك اللهم، ثم قال: اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله على أن تخلوا ما بيننا وبين البيت فنطوف، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب، أننا أخذنا ضغطة ولكن ذلك في العام المقبل، ثم اصطلح الفريقان على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، وعلى أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد، لم يردوه إليه، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وكان لهذه الشروط وقع أليم على نفوس أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودخل على الناس من ذلك أمرٌ عظيم، فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصلح، قام إلى هديه فنحره، ثم جلس فحلق رأسه، وعظم ذلك على المسلمين، لكن لما رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نحر وحلق، تواثبوا ينحرون ويحلقون (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) فقد أصبح هذا الصلح فتحاً عظيماً.
997 - معنى الحديث: أن البراء بن عازب رضي الله عنه لما سمع الصحابة يتحدثون عن فتح مكة، ويفسرون به الفتح المبين في قوله تعالى: (إِنَّا(4/359)
نَعدُّ الْفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، والْحُدَيْبِيَةُ بِئْر، فَنَزَحْنَاهَا، فَلَمْ نَتْرُكْ فِيْهَا قَطرةً، فَبلَغَ ذَلِكَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَأَتَاهَا، فَجَلَسَ على شَفِيرِهَا، ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءِ، فتَوَضَّأ، ثمَّ مَضْمَضَ ودَعَا، ثُمَّ صَبَّهُ فيهَا، فَتَرَكْنَاهَا غَيْرَ بَعِيدٍ، ثمَّ إنَّهَا أصْدَرَتنا ما شِئْنَا نَحْنُ وَرِكَابَنَا".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) قال: إنكم ترون أن الفتح المذكور في الآية هو فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً عظيماً للمسلمين، حيث أصبحت به مكة دار إسلام، وطهر الله فيه بيته الحرام من الشرك وعبادة الأصنام، وصدق الله وعده، ونصر عبده، ولكننا نرى أن الفتح المبين المذكور في الآية هو صلح الحديبية، ثم ذكر البراء في بقية حديثه أن عدد الذين خرجوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية ألف وأربعمائة، وقد نزلوا على بئر الحديبية، فلم يجدوا فيه إلاّ القليل من الماء، فلم يلبثوا حتى شربوه، ولم يبق فيه قطرة ماء، فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - على حرفها، ثم دعا بإناء من ماء، فتوضأ منه، ودعا الله تعالى، ثم أفرغ ما تبقى منه في البئر، فصار الماء يتفجر فيها بغزارة قال حتى شربنا منها جميعاً، وسقينا دوابنا، ورجعنا عنها، وقد روينا كما في رواية زهير حيث قال: فأرووا أنفسهم وركابهم، وهذا كله، بفضل بركته - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه البخاري.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن صلح الحديبية كان فتحاً عظيماً للمسلمين، ولذلك سماه الله تعالى فتحاً مبيناً، وأنزل فيه قوله عز وجل (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) قال الزهري: فما فتح في الإِسلام فتح قبله كان أعظم منه، حيث كانت الهدنة، ووضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس، وكلّم بَعْضُهُمْ بَعْضاً، فلم يُكَلَّمْ أحد في الإِسلام يعقل (1) شيئاً إلَّا دخل فيه،
__________
(1) قوله: " يعقل شيئاً " أي يفهم الأشياء فهماً صحيحاً.(4/360)
ولقد دخل في تينك السنتين مثلما كان دخل في الإِسلام قبل ذلك أو أكثر، قال ابن هشام: والدليل على ما قاله الزهري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف، وقال ابن القيم: هذه الهدنة كانت من أعظم الفتوح، فإن الناس أمن بعضهم بعضاً، واختلط المسلمون بالكفار، وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإِسلام جهرة آمنين، ولهذا سماه الله فتحاً مبيناً، وكان هذا الصلح في الصورة الظاهرة ضيماً وهضماً للمسلمين، وفي الباطن عزاً وفتحاً ونصراً، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى ما وراءه من الفتح العظيم والعز والنصر من وراء ستر رقيق. قال الندوي (1) : ودلت الحوادث الأخيرة على أن صلح الحديبية الذي تنازل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبول كل ما ألحت عليه قريش كان فتح باب جديد لانتصار الإسلام وانتشاره في جزيرة العرب، وكان باباً إلى فتح مكة، ودعوة ملوك العالم كقيصر وكسرى والمقوقس والنجاشي وأمراء العرب كما كان من مكاسب هذا الصلح اعتراف قريش بمكانة المسلمين كفريق قوي كريم، تبرم معه المعاهدات، ثم كان من أفضل ثمار هذا الصلح الهدنة التي استراح فيها المسلمون من الحروب التي لا أوَّل لها ولا آخر، فاستطاعوا في هذه الفترة السلمية أن يقوموا بدعوة الإِسلام في جو من الهدوء والسكينة. ثانياً: معجزته - صلى الله عليه وسلم - الظاهرة التي تبدو لنا واضحةً في تواجد الماء في البئر بعد أن لم يبق منه شيءٌ. والمطابقة: في قوله: " ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ".
***
__________
(1) " السيرة النبوية " للندوي.(4/361)
854 - " بَابُ غَزْوَةِ خيْبَرَ "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
854 - " باب غزوة خيبر "
وخيبر مدينة في شمال المدينة المنورة، على بعد سبعين ميلاً وغزوة خيبر كانت جائزة (1) من الله لأهل الحديبية وأصحاب بيعة الرضوان، فبشرهم عز وجل بالفتح القريب في قوله تعالى (وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) وكانت مقدمة هذه الفتوح والمغانم غزوة خيبر، وكانت خيبر كما يقول الأستاذ الندوي (2) مستعمرة يهودية، وكانوا يتآمرون مع القبائل العربية لغزو المدينة، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأمن من جهتهم، فخرج إليهم في شهر المحرم من السنة السابعة، وأقبل - صلى الله عليه وسلم - بجيشه وكانوا ألفاً وأربعمائة، ونزل - صلى الله عليه وسلم - بالرجيع بين اليهود وغطفان، ليحول بين هؤلاء وهؤلاء، فقد كانوا مظاهرين لهم، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا غزى قوماً لم يغزهم حتى يصبح، فإذا جمع أذاناً أمسك، فبات - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا أصبح لم يسمع أذاناً، فركب وركب القوم، واستقبلوا عمال خيبر وقد خرجوا بمساحيهم وبمكاتلهم، فلما رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: محمد والخميس معه، فأدبروا هرباً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الله أكبر الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، ونازل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصون خيبر حتى فتحها حصناً حصناً، وأتى عليٌّ رضي الله عنه حصن القموص، فخرج مرحب ملك اليهود يرتجز فاختلفا ضربتين فبدره علي بضربة فَفَلَقَ مغفر رأسه ووقع في الأفراس، وكان الفتح، وفتحت الحصون واحداً بعد الآخر بعد قتال دام أياماً، حتى سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلح، فصالحهم - صلى الله عليه وسلم - على أن لهم الشطر من كل زرع وثمر مقابل عملهم فيها، وخدمتهم لها، ما بدا لرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقرهم فيها، وكان من بين المغانم التي
__________
(1) أي مكافأة لهم.
(2) " السيرة النبوية " للندوي.(4/362)
998 - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أتَى خَيْبَرَ لَيْلاً، وكانَ إِذَا أَتَى قَوْماً بِلَيْلٍ لَمْ يُغِرْ بِهِمْ حَتَّى يُصْبِح، فَلَمَّا أصْبَحَ خَرَجَتِ الْيَهُودُ بِمَساحِيهم وَمَكَاتِلِهِمْ، فلما رَأوْهُ قَالُوا: مُحَمَّدُ وَاللهِ، مُحَمَّدُ وَالْخَمِيسُ، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْم فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غنمها المسلمون صحائف من التوراة فجاء اليهود يطلبونها فسلمها إليهم، وكان آخر الحصون التي افتتحها المسلمون السلالم والبطيح، ووجد المسلمون فيهما 400 سيف و1000 رمح و500 فرس وبعد انتهائه - صلى الله عليه وسلم - من خيبر صالحه أهل فدك، وكانوا يشكلون حكومة مستقلة في أعالي الحجاز من اليهود على نصف فدك، فقيل ذلك منهم، فكان - صلى الله عليه وسلم - يقسمه حيث يرى من مصالحه ومصالح المسلمين.
998 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى غزوة خيبر لم يدخلها بالليل، لأنه كان من سنته - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا قوماً لم يغزهم حتى يصبح.
قال ابن إسحاق: إنه - صلى الله عليه وسلم - نزل بواد يقال له الرجيع، بينهم وبين غطفان لئلا يمدوهم، قال أنس: " وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى قوماً بليل لم يغربهم حتى يصبح " بضم الياء وكسر الغين المعجمة، أي لا يغير عليهم حتى يصبح، كما في الجهاد، وفي رواية أخرى في الأذان، فإن سمع أذاناً كفَّ عنهم، وِإلَّا أغار " فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم " أي فبات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة هناك، فلما طلع الصبح صلّى صلاة الصبح عند أول طلوع الفجر، ولم يسمع أذاناً، فركب وركب القوم، ودخلوا خيبر، واستقبلوا عمالها ذاهبين إلى أعمالهم وبأيديهم مساحيهم ومكاتلهم - جمع مكتل، وهو القفة الكبيرة " فلما رأوه قالوا: محمد والله، محمد والخميس " أي هذا محمدٌ وجيشه قد(4/363)
855 - " بَابُ غَزْوَةِ مُؤتةَ "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أقبل علينا يريد قتالنا " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: خربت خيبر " والمراد بخرابها القضاء على الدولة اليهودية فيها، وإزالة نفوذهم منها، لأن خيبر كانت مستعمرة يهودية وإنما قال - صلى الله عليه وسلم -، ذلك بطريق الوحي أو تفاؤلاً لما رآه في أيديهم من الآلات المشعرة بتقويض دولتهم وكسر شوكتهم، لأن لفظ مسحاة مأخوذ من السحو، وهو إزالة الشي " إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " أي إنّا معشر المسلمين إذا نزلنا بديار قوم لقتالهم، ومحاربتهم فبئس الصباح صباحهم، لأنه شر ووبال عليهم، فالساحة هي فناء الدار، والمراد بها هنا الدار والبلد نفسُها. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: غزوه - صلى الله عليه وسلم - لمدينة خيبر التي كانت مستعمرة يهودية في جزيرة العرب للقضاء على دولتهم، وكسر شوكتهم، لأنها كانت معقلاً وقاعدة حربية لهم، ولهذا كان فتحها من أعظم الفتوحات الإِسلامية، وقد كان يهود خيبر، لا سيما رؤساء بني النضير، التي أجلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - يضمرون أشد الحقد والعداوة لمحمد وأصحابه، ويحاولون بكل الوسائل حمل القبائل العربية على محاربة المسلمين، وإثارة الفتن والقلاقلِ ضد بني الإِسلام. ثانياًً: أن من سياسته - صلى الله عليه وسلم - الحكيمة الموفقة أنه لا يغزو عدواً بليل حتى يصبح، ويصلي الصبح، فإن جمع أذاناً كفَّ عنهم، وإلَّا قاتلهم كما فعل - صلى الله عليه وسلم - في خيبر، وذلك ليفاجىء العدوَّ، ويأخذه بغتة وعلى غير انتظار. والمطابقة: في قوله: " أتي خيبر ليلاً ".
855 - "باب غزوة مؤتة "
وموتَة بضم الميم وسكون الواو دون همز، كما أفاده القسطلاني: قرية على بعد 12 كم جنوب اليرموك وكانت غزوة موتة في جمادى الأولى من السنة الثامنة(4/364)
999 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
أمَّرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةِ مُوْتَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فقال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرُ، وِإنْ قُتل جَعْفَرٌ فعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ " قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كُنْتُ فِيهِمْ في تِلْكَ الْغَزْوَةِ، فالْتَمَسْنَا جَعْفَرَ بْنَ أبِي طَالِبٍ، فوَجَدْنَاهُ في الْقَتْلَى، وَوَجَدْنَا في جَسَدِهِ بِضْعَاً وتِسْعِينَ مِنْ طَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من الهجرة، الموافق لشهر سبتمبر سنة 629 م. أما سببها فهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث الحارث بن عمير الأزدي إلى ملك بصرى بكتاب فأوثقه وضرب عنقه، فاشتد الأمر على النبي - صلى الله عليه وسلم - وندب الناس للقتال. وقال: " زيد بن حارثة أمير الناس فإن قتل زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر، فعبد الله بن رواحة، فإن أصيب فليرتض الناس رجلاً "، وعقد النبي - صلى الله عليه وسلم - لواءً أبيض، ودفعه إلى زيد، وكان عدد المسلمين ثلاثة آلاف مقاتل، فلما فصل المسلمون سمع العدو فجمع لهم مائة ألف مقاتل، فلما التقى المسلمون بالمشركين أخذ زيد اللواء حتى قتل، ثم أخذه جعفر فقاتل حتى قتل، فأخذه عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل، فأخذه ثابت بن الأرقم، وقال: يا معشر الناس اصطلحوا على رجل منكم فاصطلحوا على خالد، فأخذه ونظر إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمدينة، فقال: الآن حمي الوطيس، أي جدت الحرب، فانحاز خالد بالجيش حتى خلصهم من أيدي الأعداء وألقى الله الرعب في قلوبهم.
999 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة موتة زيد بن حارثة " أي عيّنه أميراً على الجيش " فقال: إن قتل زيد فجعفر " يتولى القيادة بعد استشهاده " وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة " أي فعبد الله يتولاها من بعده، فلما وقعت المعركة قتل هؤلاء الثلاثة على الترتيب المذكور، "فالتمسنا جعفر بن أبي طالب، فوجدناه في القتلى،(4/365)
" غَزْوَةُ الْفَتْحِ "
856 - " بَاب أيْنَ رَكَزَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الرَّايَةَ يَوْمَ الْفَتْحَ "
1000 - عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
"سَارَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الْفَتْحِ، فبَلَغَ ذَلِكَ قُريْشاً، خَرَجَ أبو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ووجدنا في جسده بضعاً وتسعين من طعنة ورمية" (1) أي وجدنا فيه أكثر من تسعين إصابة ما بين طعنة رمح، ورمية سهم.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إسناده - صلى الله عليه وسلم - قيادة هذا الجيش لزيد بن حارثة فإن قتل فجعفر، فإن قتل فعبد الله بن رواحة. ثانياً: أن قوله - صلى الله عليه وسلم - إن قتل زيد فجعفر ... إلخ صريح في أن هؤلاء الثلاثة يكرمهم الله بالشهادة، وقد روي (2) أن نعمان اليهودي لما جمع ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا أبا القاسم، إن كنت نبياً فسميت من سميت قليلاً أو كثيراً أصيبوا جميعاً، إن الأنبياء في بني إسرائيل إذا استعملوا الرجل ثم قالوا: إن أصيب فلان فلو سمي مائة أصيبوا جميعاً. والمطابقة: في قوله: " أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة مؤتة ". الحديث: أخرجه البخاري.
856 - " باب أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح "
يعني أين نصب رايته يوم فتح مكة، والراية علم الجيش كما أفاده في " المصباح " وكان اسم رايته - صلى الله عليه وسلم - العُقاب.
1000 - معنى الحديث: يحدثنا عروة بن الزبير في هذا الحديث عن
غزوة الفتح، فيقول: " سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح " وفي رواية ابن عباس
__________
(1) " شرح القسطلاني " ج 6.
(2) " المغازي " للواقدي ج 2.(4/366)
سُفْيَانَ بنُ حَرْبٍ وَحكِيمُ بْنُ حِزَام، وَبُدَيلُ بنُ وَرْقَاءَ يَلْتَمِسُونَ الْخَبَر عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأقبَلُوا يَسِيرُونَ حَتَّى أتَوْا مَرَّ الظَّهْرَانِ، فَإِذَا هُمْ بنِيرَان كأنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ، فَقَالَ أبو سُفْيَانَ: مَا هَذِهِ؟ لَكَأنَّهَا نيرانُ عَرَفَةَ! فَقَالَ بُدَيلُ بْنُ وَرْقَاءَ: نيرَانُ بَني عَمْروٍ، فَقَالَ أبُو سُفْيَانَ: عَمْرو أقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، فَرآهُمْ نَاسٌ مِنْ حَرَسِ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - فأدْرَكُوهُمْ، فأخَذُوهُمْ فأتوْا بِهِمْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأسْلَمَ أبو سُفْيَانَ، فَلمَّا سَارَ قَالَ للْعَبَّاسِ: احْبِس أبَا سُفْيَانَ عِنْدَ حَطْمِ الْخَيْل حَتَّى يَنْظُرَ إلَى الْمُسْلِمينَ، فَحَبَسَهُ الْعَبَّاسُ، فَجَعَلَتِ الْقَبَائِلُ تَمُرُّ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَتِيبَةً كَتِيبَةً على أبِي سُفْيَانَ، فمَرَّتْ كَتِيبَة قَالَ: يَا عَبَّاسُ مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: هذه غِفَارُ، قَالَ: مَا لِي وَلِغِفَارٍ، ثم مَرَّتْ جُهَيْنَةُ قَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ، ثمَّ مَرَّتْ سَعْدُ بْنُ هُذَيْم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج في رمضان من المدينة، ومعه عشرة آلاف، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة " خرج أبو سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر " أي فخرج هؤلاء الثلاثة يتحسسون الأخبار، ويحاولون الاطِّلاع على حقيقة ذلك " فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة " أي فإذا هم يفاجؤن بمشاهدة نيران كثيرة، كأنها نيران عرفة في موسم الحج " فقال بديل بن ورقاء: نيران بني عمرو" أي ظنها نيران بني عمرو قبيلة من خزاعة " فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك " أي فاستبعد أبو سفيان ذلك " فرآهم ناس من حرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذوهم " أي فألقوا عليهم القبض " فأتوا بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي فساقوهم حتى أوصلوهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " فأسلم أبو سفيان " قال الحافظ: وفي رواية: فدخل بديل وحكيم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلما، ومعنى ذلك أن هؤلاء الثلاثة أسلموا جميعاً فِي(4/367)
فقال مِثْلَ ذَلِكَ، وَمَرَّتْ سُلَيْم، فقال مِثْلَ ذَلِكَ، حتى أقْبَلَتْ كتِيبَةٌ لم يرَ مِثْلَها، قَالَ: مَنْ هَذه؟ قَالَ هَؤُلاءِ الأنْصَارُ عَلَيْهِمُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مَعَه الرَّايَةُ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يا أبَا سُفْيَانَ الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ، فَقَالَ أبو سُفْيَانَ: يا عَبَّاسُ حَبَّذَا يَوْمُ الذِّمَارِ، ثم جَاءَتْ كَتيبَة، وَهِيَ أقَلُّ الْكَتَائِبِ، فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأصْحَابُهُ، وَرَايَةُ النَّبِيِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا اليوم قبل دخول مكة " فلما سار قال للعباس: احبس أبا سفيان عند حطم الخيل " أي في الموضع الذي تزدحم فيه الخيل لكي يستعرض الكتائب العظيمة ويطلع على قوة المسلمين وكثرة عددهم " فجعلت القبائل تمر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كتيبة كتيبة على أبي سفيان " وهكذا تحركت كتائب الفتح الإسلامي زاحفة نحو البلد الحرام أمام أبي سفيان، وهو يسأل عنها كتيبة كتيبة " حتى أقبلت كتيبة لم يرَ مثلها " أي لم ير أبو سفيان لها مثيلاً في الكتائب الأخرى التي سبقتها " قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار " أي هذه كتيبة الأنصار، وكانت كثيرة العدد، قوية العدة، مدججة بالسلاح، فلما رأى ما هم عليه قال: ما لأحد بهؤلاء من طاقة، " وعليهم سعد بن عبادة ومعه الراية " أي وقائدهم سعد بن عبادة ومعه راية الأنصار " فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة " أي هذا يوم مذبحة قريش الكبرى، " اليوم تستحل الكعبة " أي وهذا هو اليوم الذي يحل لنا القتال عند الكعبة، فنشفي صدورنا من قريش وننتقم منها أشد الانتقام وفي رواية اليوم أذل الله قريشاً. " فقال أبو سفيان: يا عباس حبذا يوم الذمار " أي فأثّرت هذه الكلمات التي قالها سعد بن عبادة في نفس أبي سفيان، وهيّجت مشاعره، وأثارت فيه الحمية لبلده وقومه، والحرص على الدفاع عنهم، والذود عن كرامتهم، فقال " حبذا يوم الذمار " قال الخطَّابي تمنى أبو سفيان أن تكون له يد أي قوة فيحمي قومه ويدفع عنهم، قال: "ثم(4/368)
- صلى الله عليه وسلم - معَ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ، فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بأبِي سُفْيَانَ قَالَ: ألمْ تَعْلَمْ ما قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَاَدَةَ؟ قَالَ: ما قَالَ؟ قَالَ: قَالَ كَذَا وَكَذَا! فَقَالَ: كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْم تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ، قَالَ: وأمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ تُرْكَزَ رَايَتُهُ بالْحَجُونِ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلزُّبَيْرْ: يَا أبَا عَبْدِ اللهِ هَا هُنَا أمرَكَ رَسُولُ اللهِ أن تَرْكُزَ الرَّايَةَ، قَالَ: وَأمرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ خَالِدَ بْنِ الْوَلِيدِ أن يَدْخُلَ مِنْ أعلَى مَكَّةَ من كَدَاءٍ، وَدَخَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مِنْ كُدَىً، فَقُتِلَ مِنْ خَيْلِ وخَالِدٍ يَوْمَئِذٍ رَجُلَانِ حُبَيْشُ بْنُ الأشْعَرِ وَكُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِيُّ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب، فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه " أي ومر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتيبة خضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلَّا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله! يا عباس من هؤلاء، قال: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قِبَل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً، قال: يا أبا سفيان إنها النبوة، قال فنعم إذاً " فلما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي سفيان، قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: ما قال؟ قال: قال كذا وكذا، فقال: كذب سعد " أي أخطأ سعد في مقالته هذه، وقال خلاف الواقع " هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة " وأعلن للناس جميعاً أنَّ فتح مكة ليس احتلالاً لها، ولا حرباً انتقامية من قريش، وإنما هو نصر لهذا البيت وإعلاء لدين الله، وما يوم الفتح إلَّا يوم تعظم فيه الكعبة، وتطهر من الشرك وعبادة الأصنام، ويعز الله فيه مكة وأهلها بالإسلام كما جاء في رواية أخرى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز الله فيه قريشاً، ويعظم الله الكعبة " وأرسل إلى سعد فنزع منه اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس. قال " وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تركز رايته بالحجون " وهو(4/369)
موضع بالمعلاة بالقرب من مقبرة مكة، وقد بني هناك مسجد يقال له مسجد الراية كما أفاده الحلبي في " السيرة " " وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء " بفتح الكاف، وهو عند الثنية العليا، " ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - من كُدى " بضم الكاف والقصر، أي من عند الثنية السفلى.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: ذكر بعض الأحداث التي وقعت في غزوة الفتح، وغزوة الفتح كانت في رمضان سنة ثمان من الهجرة يناير 630 م وسبب ذلك أنه بيت نفر من بني بكر خزاعة على ماء فأصابوا منهم رجالاً وتناوشوا واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم أشراف من قريش يستخفون ليلاً، وبذلك نقضت قريش العهد الذي بينها وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث حاربت حلفاءه، واعتدت عليهم، فخرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فدخل عليه وأنشده أبياتاً ينشده فيها الحلف الذي بينهم وبينه ويخبره أن قريشاً نقضوا العهد ويسأله النصر والنجدة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: نصرت يا عمرو بن سالم فخير قريشاً أن يدفعوا دية قتلى خزاعة أو يبرأوا ممن نقض العهد، أو ينبذ إليهم على سواء الهدنة التي بينه وبينهم، فأجابه بعض زعمائهم، لكن ننبذ إليك على سواء، وبذلك برأت ذمته من قريش، وقامت عليهم الحجة، وقال - صلى الله عليه وسلم - حين بلغه الخبر: " لا نصرت إن لم أنصركم بما أنصر به نفسي " وأخذ - صلى الله عليه وسلم - يستعد سراً للزحف على مكة وخرج لليلتين خلتا من رمضان، وخرج أبو سفيان من مكة يصحبه حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار، فرآهم حرس النبي - صلى الله عليه وسلم -، وألقوا عليهم القبض وأخذوهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلموا، وعقد النبي - صلى الله عليه وسلم - الرايات بقديد، فأعطى لكل قبيلة لواءً ورايةً، وكانت راية النبي - صلى الله عليه وسلم - يحملها الزبير بن العوام، وهي سوداء، أما اللواء فقد كان أبيض اللون، وأوصى رؤساء الجيمش أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، ودخل - صلى الله عليه وسلم - من أسفل مكة، ودخل خالد من أعلاها، ولم يلق مقاومة(4/370)
857 - " بَاب قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) إِلَى قوله (غَفُورٌ رَحِيمٌ) "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تذكر إلا ما وقع لخالد حيث تصدى له جماعة من بكر وهذيل ورموه بالنبل فقاتلهم، فانهزموا، وقتل أربعة وعشرون من قريش، وأربعة من هذيل، ودخل - صلى الله عليه وسلم - مكة، فطاف وسعى، واستلم الحجر، ودخل الكعبة، وقال وهو واقف على باب الكعبة: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. وبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل مكة رجالاً ونساءً في الصفا، وهدم الأصنام التي كانت على الكعبة وهو يقول: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) . ثانياً: أن فتح مكة لم يكن حرباً انتقامية وإنما كان يوماً مباركاً تعظّم فيه الكعبة، وتعز فيه قريش بالإِسلام. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تركز الراية بالحجون ".
857 - " باب قول الله عز وجل (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ ... ) "
أقول وبالله المستعان: الكلام على هذه الترجمة يتلخص في الحديث عن غزوة حنين، وتفسير الآية الكريمة، وحنين وادٍ في طريق الطائف من جهة عرفة على بعد بضعة عشر ميلاً من مكة، وقال في " دائرة المعارف الإسلامية ": حنين واد عميق غير منتظم، به أحراج من شجر النخيل على مسيرة يوم من مكة على طريق من الطرق الممتدة إلى الطائف، وكانت غزوة حنين في العاشر من شوّال عام ثمان من الهجرة الموافق لفبراير سنة 630 م، وذلك أنّ هوازن لما سمعت بفتح مكة أغاظها ذلك، وأرادت أن يكون لها الفضل في استئصال شأفة الإِسلام،(4/371)
فقام مالك بن عوف سيد هوازن، ونادى بالحرب، واجتمع إليه ثقيف وجُشم وسعد بن بكر، وأجمع السير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه القبائل، ومعهم أموالهم ونساؤهم وذراريهم، ليستميتوا في الدفاع عن أرضهم وعرضهم، وأمرهم أن يكسروا جفون سيوفهم وأن يشدوا شدة رجل واحد، وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه ألفان من مكة حديثو عهد بالإِسلام، وعشرة آلاف من المدينة، فأعجب أناس بكثرتهم، وقالوا: لن نغلب اليوم من قلة، ورتب النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، وقسم الألوية، فسلم علياً لواء المهاجرين، وأسد بن حضير لواء الأوس، والحباب بن المنذر لواء الخزرج، واستقل المسلمون عدد هوازن، وانتصروا عليهم أوّل الأمر، غير أنهم أكبوا على الغنائم يأخذونها، وكانت هوازن قد كمنت لهم في شعاب الجبل، فلما رأوا انشغالهم بالغنائم فاجؤهم بهجوم خاطف، فما راع المسلمين إلَّا وقد رشقوهم بالنبال، وحملوا عليهم حملة رجل واحد، وكانوا مهرة في الرماية، فانهزم المسلمون، وطار في الناس - وشاع فيهم أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قد قتل وانحسر عنه المسلمون، حتى تم ما أراده الله من تأديب المسلمين على إعجابهم بكثرتهم، عند ذلك ردّ الله لهم الكرة على الأعداء، رحمة بهم، ونصراً لدينه، وإكراماً لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وللَّذين ثبتوا معه من المؤمنين، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - صامداً في موقفه على بغلته الشهباء يقول:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
ولما استقبلته كتائبهم أخذ قبضة من تراب، ورمى بها إلى عيونهم فملئت أعين القوم، وأنزل الله ملائكته لنصرة المسلمين، وانتهت المعركة بهزيمة هوازن، وغنم المسلمون كثيراً، فأسروا نحو 6000 امرأة، و2400 بعير وأكثر من 40000 أربعين ألف شاة و4000 أوقية من الفضة. وقسم - صلى الله عليه وسلم - الغنائم، فَمنَّ على السبي، وأطلق سراحهم إكراماً لوفد هوازن الذي كان فيه أبو برقان عمه - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة. وهكذا نصر الله المسلمين بعد إدبارهم وهزيمتهم، كما قال تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ(4/372)
عَنْكُمْ شَيْئًا) إلى آخر الآية الكريمة، التي يمن الله تعالى فيها على المسلمينَ، ويذكرهم بأنه عز وجل قد نصرهم في وقائع كثيرة فيقول: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ) أي في غزوات كثيرة ما كنتم تؤمّلون فيها بالظفر لقلة عددكم وعتادكم، ونصَركُمْ أيضاً في غزوة حنين الذي أعجبتكم فيها كثرتكم (1) ، إذ كنتم اثني عشر ألفاً، وكان الكافرون أربعة آلاف فقط فقال قائلكم: لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكانت الهزيمة لكم عقوبة على هذا الغرور، والعُجب، (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا) أي فلم تكن تلك الكثرة التي غرتكم كافية لانتصاركم (وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ) أي واشتد عليكما الخوف (2) حتى ضاقت عليكم الأرض، فلم تجدوا فيها موضعاً تلجؤون إليه (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) أي ثم وليتم ظهوركم لعدوكم مدبرين لا تلون على شيء، (ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي ثم أنزل الله تعالى من سماء عزته على قلب نبيه والمؤمنين من حوله الشعورَ بالأَمن والهدوء والطمأنينة والارتياح النفسي بعد ما عَرَض لهم من الحزن والقلق عند وقوع الهزيمة لِإخوانهم. أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعض المؤمنين الذين أحاطوا به وهم قلة لا يتجاوزون التسعة، فإنهم ثبتوا كالأَطواد الراسيات. قال الحافظ في الفتح: وروى الترمذي من حديث ابن عمر بإسناد حسن قال: " لقد رأيتنا يوم حنين، وإن الناس لمولين (3) ، وما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة رجل "، قال الحافظ: " وهذا أكثر ما وقفت عليه (4) ، وقال بعض المفسرين معنى قوله تعالى: (وَعَلَى
__________
(1) " تفسير المنار " ج 10.
(2) " التفسير المنير " ج 1.
(3) هكذا ذكر هذه الكلمة بالنصب الحافظ في " الفتح "، وقد وقفت على الحديث في " سنن الترمذي " بلفظ " لقد رأينا يوم حنين وإن الفئتين لموليتان وما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة رجل ". وقال المباركفوري في " التحفة ": قوله: " وإن الفئتين لموليتان " كذا في النسخ الحاضرة. وأشار إلى ما ذكره الحافظ.
(4) من عدد من ثبت يوم حنين. (ع) .(4/373)
1001 - عَنِ البرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَقَدْ سَألهُ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ: أفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ حُنَيْن؟ فقَالَ:
"لَكِنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَفرَّ، كانَتْ هَوَازِنُ رُمَاةً، وِإنَّا لَمَّا حَمَلْنَا عَلَيْهِمُ انْكَشَفُوا، فأكْبَبْنَا عَلَى الْغَنَائِمِ فاسْتُقْبِلْنَا بالسِّهَامِ، وَلَقَدْ رَأيتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُؤْمِنِينَ) أن الله أنزل السكينة على الفارين وأعاد إليهم ما زال عنهم من الصبر والثبات ورباطة الجأش، ولا سيما عندما سمعوا نداء العباس يدعوهم إلى نبيهم " (وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا) " أي أنزل جنوداً روحانية من الملائكة لم تروها بأبصاركم " وعذب الذين كفروا " بالقتل والأسر والسبي " وذلك جزاء الكافرين " في الدنيا ما داموا يستحبّون الكفر على الإِيمان ويقاتلون أهله.
1001 - معنى الحديث: أن رجلاً من قيس سأل البراء بن عازب هل فرّ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم غزوة حنين " فقال لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفر " يعني أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه ثبت ومعه قليل من أصحابه، قال الحافظ: تضمن جواب البراء هذا إثبات الفرار لهم، لكن لا على طريق التعميم، " كانت هوازن رماة " أي وسبب فرار المسلمين يوم حنين وهزيمتهم أن هوازن كانوا مهرة في رماية السهام " لما حملنا عليهم " أي لما هجمنا عليهم هجوماً عنيفاً " انكشفوا " أي انهزموا هزيمة ظاهرة " فأكببنا على الغنائم " أي فأسرعنا إلى الغنائم، وفي رواية " فأقبل الناس على الغنائم " أي فأقبلوا إليها يأخذونها كما وقع في أحد " فاستُقْبلنا بالسهام " أي فلما أقبلنا على الغنائم، فاجأتنا هوازن بهجوم خاطف، وأمطرتنا بوابل من السهام حيث هجموا عليهم بالنبال فهزموهم، وكان ذلك تأديباً لهم، قال جابر: وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي، فكمنوا لنا في جوانبه ومضايقه، فوالله ما راعنا إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد، وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد منهم على أحد قال: "ولقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - على(4/374)
النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - على بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وِإنَّ أبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ آخِذٌ بِزَمَامِهَا وَهُو يَقُولُ: أنَا النبي لا كَذِبْ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بغلته البيضاء" التي أهداها إليه الجذامي " وإن أبا سفيان " ابن الحارث " آخذ بزمامها " أي ممسك بزمام بغلة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال جابر: وانحاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات اليمين ثم قال: إِليَّ، أيها الناس، هلم إليَّ أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله، وبقي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفر من المهاجرين وأهل بيته، وممن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر، ومن أهل بيتة علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث وابنه الفضل بن العباس، وأسامة بن زيد، وأيمن بن أم أيمن، وقتل يومئذ، قال " وهو يقول " أي والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:
" أنا النبي لا كذب " ... أنا ابن عبد المطلب
ولم يذكر الشطر الثاني في هذه الرواية، وذكره في رواية مسلم حيث قال:
" ودعا واستنصر، وهو يقول:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب (1)
اللهم أنزل نصرك.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن حب الدنيا كان دائماً، وفي جميع الظروف والأحوال هو رأس كل خطيئة، وسبب كل هزيمة، فإن المسلمين انهزموا في أحد وفي حنين بسبب إسراعهم إلى الغنائم وانكبابهم عليها، كما قال البراء. " لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببْنا على الغناثم فاسْتُقْبلنا بالسهام " فكانت الهزيمة لنا، ودارت الدوائر علينا، وهناك أيضاً سبب آخَر لهزيمتهم يوم حنين، وهو إعجابهم وغرورهم بكثرتهم كما قال تعالى: (وَيَوْمَ
__________
(1) وقال الخطابي: إنما خصَّ عبد المطلب بالذكر تثبيتاً لنبوته لما اشتهر وعرف من رؤيا عبد المطلب المبشرة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما أنبأت به الأحبار والرهبان من ظهور نبي من أبناء عبد المطلب، فكأنه يقول: أنا ذاك، فلا بد مما وعدت به من النصر، لئلا ينهزموا عنه، ويظنوا أنه مقتول ومغلوب. اهـ. كما أفاده السهيلي.(4/375)
858 - " بَابُ وَفْدِ بَني حَنِيفَةَ وَحَديثِ ثُمَامَةَ بْنِ أثالٍ "
1002 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
بَعَثَ النبي - صلى الله عليه وسلم -خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُل مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيةٍ مِنْ سَوارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " ما عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ " قَالَ: عِنْدِي خَيْر يا مُحَمَّدُ إنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وِإنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شاكِرٍ، وإِنْ كُنْتَ ترِيدُ الْمَالَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا) . ثانياًً: أن قوله - صلى الله عليه وسلم - " أنا النبي لا كذب " لا يقتضي كونه شاعراً، لأنّه خرج منه هكذا موزوناً ولم يقصد به الشعر، أو أنه لغيره وتمثل به، وإنه كان:
أنت النبي لا كذب ... أنت ابن عبد المطلب (1)
والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفرَّ " الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي.
858 - " باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال (2) "
1002 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد أرسل فرساناً إلى نجد بقيادة محمد بن مسلمة في العاشر من محرم سنة ست من الهجرة ليقاتلوا أحياء بني بكر الذين منهم بنو حنيفة، فأغاروا عليهم، وهزموهم، وأسروا ثمامة بن أثال وأتوا به إلى المدينة، وربطوه إلى سارية من سواري المسجد النبوي، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما عندك: أي ماذا تظن أني فاعل بك " قال: عندي خير " أي لا أظن بك، ولا أؤمل منك إلا الخير، مهما فعلت معي "إن تقتل تقتل
__________
(1) " شرح القسطلاني على البخاري ".
(2) لم تكن القصتان في وقت واحد، لأن وفد بني حنيفة في العام التاسع، وقصة ثمامة قبل فتح مكة.(4/376)
فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ فَتُرِكَ حتَّى كَانَ الْغَدُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: " مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ " قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، فَتَرَكَهُ حَتَى كَانَ بَعْدَ الغَدِ فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ، فَقَالَ: أطْلِقُوا ثُمَامَةَ، فانْطَلَقَ إلى نَجْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فاغْتَسَلَ، ثُمَّ دخَلَ الْمَسْجِدَ فقالَ: أشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلَّا اْللهُ، وَأشْهَدُ أن مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، يَا مُحَمَّدُ وَاللهِ ما كَانَ عَلَى الأرْضِ، وَجْهٌ أبغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أصبَحَ وَجْهُكَ أحَبَّ الْوُجُوهِ إلَيَّ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ دِين أبغَضَ إِليَّ مِنْ دِينكَ، فأصْبَحَ دِينُكَ أحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أبغَضَ إِلَيَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذا دم" أي إن تقتلني فذلك عدل منك، ولم تعاملني إلَّا بما أستحق، لأني مطلوب بدم، فإن قتلتني قتلتني قصاصاً، ولم تظلمني أبداً " وإن تُنْعِمْ تنعم على شاكر " أي وإن تحسن إليَّ بالعفو عني فالعفو من شيم الكرام، ولن يضيع معروفك عندي، لأنك أنعمت على كريم يحفظ الجميل، ولا ينسى المعروف أبداً " وإن كنت تريد المال " يعني وإن كنت تريد أن افتدي نفسي بالمال " فسل منه ما شئت " ولك ما طلبت " فتركه حتى كان من الغد، قال له: ما عندك يا ثمامة؟ قال: ما قلت لك " يعني فتركه مربوطاً إلى السارية حتى كان اليوم الثاني فأعاد عليه سؤاله الأوّل، وأجابه ثمامة بنفس الجواب الأوّل، ثم تركه اليوم الثالث، وأعاد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - السؤال، وأجابه ثمامة بالجواب نفسه " فقال: أطلقوا ثمامة " أي فكوه من رباطه " فانطلق إلى نجل قريب من المسجد " أي فذهب إلى ماء قريب من المسجد " فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إِله إِلَّا الله " أي وأعلن إسلامه ونطق بالشهادتين، ثم قال: " والله ما كان على وجه الأرض وجهٌ أبغض إلي من وجهك " أي ثم عبّر رضي الله عنه عن(4/377)
مِنْ بَلَدِكَ، فَأصْبَحَ بَلَدُكَ أحبَّ الْبِلادِ إِلَيَّ، وإن خَيْلَكَ أخَذَتْنِي، وَأنَا أرِيدُ الْعُمْرَةَ، فماذا تَرَى؟ فبَشَّرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأمَرَهُ أنْ يَعْتَمِرَ، فلمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، قَالَ لَهُ قَائِل: صَبَوْتَ، قَالَ: لا وَاللهِ، وَلَكِنْ أسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ولا وَاللهِ لا يَأتِيَكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شعوره نحو النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونحو دينه الحنيف، ونحو بلده الحبيب المدينة المنورة، فقال: ما كان هناك وجه أكرهه مثل وجهك " فقد أصبح وجهك " أي فلما أسلمت أصبح وجهك " أحب الوجوه إليَّ " حيث تحول البغض والكراهية إلى محبة شديدة لا تعدلها أي محبة أخرى " والله ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إليَّ " وهكذا عاطفة الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب " والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إليَّ " لأن محبتي لك دفعتني إلى مزيد الحب لبلادك، وقد قال الشاعر:
دَارُ الحَبِيْبِ أحقُّ أن تهْوَاهَا ... وَتَحِنُّ مِنْ طَرَب إلَى ذِكْرَاهَا
ثم قال: " وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى " أي فهل تأذن لي في العمرة " فبشره " بغفران ذنوبه كلها، وبخيري الدنيا والآخرة " وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت " أي خرجت من دين إلى دين " قال: لا والله، ولكني أسلمت مع محمد رسول الله " أي ولكني تركت الدين الباطلَ ودخلت في دين الحق. " ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن بها رسول الله " أي حتى يأذن رسول الله في إرسالها إليكم، فانصرف إلى اليمامة، وكانت ريف مكة، فمنع الحنطة عنهم حتى جهدت قريش، وكتبوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة، ففعل - صلى الله عليه وسلم -.(4/378)
1003 - عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
قَدِمَ مُسَيْلَمَةُ الْكَذَّابُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلَ يَقُولُ: إنْ جَعَلَ لي مُحَمَّد الأمْرَ مِنْ بَعْد تَبِعْتُهُ، وَقَدِمَهَا في بَشَرٍ كثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ، فأقْبَلَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والمطابقة: في كون الحديث عن ثمامة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: ذكاء " ثمامة " ورجاحة عقله، وفصاحته وبلاغته العظيمة، التي تجلت في جوابه الحاضر، وسرعة بديهته، فإن ثمامة في جوابه الشافي الكافي قد أحاط بالموضوع من أطرافه، وأجاب عن كل ما يتوقع السؤال عنه في كلمات قصيرة، حيث وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعدل إذا حكم، وأمل فيه العفو والكرم، ووعده بحفظ الجميل، وصدق الوفاء، واستعد لمفاداة نفسه بالمال، إن طلب منه الفداء، فأعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - بحسن جوابه، واستدل به على فضله ونبله، فأنعم عليه بإطلاق سراحه دون فداء، مكافأة له على حسن جوابه. ثانياً: فائدة العفو عند المقدرة، فهو أقرب طريق إلى قلوب الرجال. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
1003 - معنى الحديث: أنه لما فتحت مكة وأسلمت ثقيف، وسقط أكبر حصن من حصون المقاومة أمام دين الله بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكتبُ إلى الملوك والأمراء، ورؤساء القبائل يدعوهم إلى الإسلام، وكانت السنة التاسعة من الهجرة حافلة بقدوم الوفود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى سميت عام الوفود، وكان من هذه الوفود التي قدمت إلى المدينة وفد بني حنيفة، ومعهم مسيلمة الكذاب، هو معنى قوله " قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته " أي إن جعل لي الخلافة من بعده دخلت في دينه كما أفاده الحافظ " وقدمها في بشر كثير من قومه " بني حنيفة، وكان عددهم سبعة عشر رجلاً كما قال الواقدي " فأقبل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه ثابت بن قيس " خطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان في يده - صلى الله عليه وسلم -(4/379)
إِلَيْهِ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَهُ ثَابِث بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاس، وَفي يَدِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَطْعَة جَرِيدٍ حتى وقَفَ علَى مسَيْلَمَةَ في أصْحَابِهِ فَقَالَ: لَوْ سَألتَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ ما أعْطَيْتكَهَا، ولنْ تَعْدُوَ أمْرَ اللهِ فِيكَ، ولَئِنْ أدْبَرْتَ ليَعْقِرَنَّكَ اللهُ، وَإنِّي لأرَاكَ الذِي أرِيت فيهِ مَا رَأيْت، وهَذَا ثَابِت يُجِيْبكَ عَنِّي، ثمَّ انْصَرَفَ عَنْه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قطعة من الجريد كما في الحديث " فقال: لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها " أي فلما قابله النبي - صلى الله عليه وسلم - طلب منه أن يشركه في النبوة كما أفاده القسطلاني، فقال: لو سألتني هذه الجريدة لما أعطيتك إياها فضلاً عن النبوة " ولن تعدو أمر الله فيك " أي لن تخرج عن حكم الله فيك أنك كذاب ومقتول " ولئن أدبرت ليعقرنك الله " أي ولئن خرجت عن الطاعة، وفارقت الجماعة ليهلكنك الله " وإني لأراك الذي أريت فيه " أي وأعتقد أنك الشخص الذي رأيت فيه في منامي ما رأيت، وذلك أنه رأى - صلى الله عليه وسلم - في منامه سوارين من ذهب، فقال له جبريل: انفخهما فنفخهما، فطارَا، فأولهما كذابين يخرجان بعده أحدهما مسيلمة، والآخر العنسي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان قصة قدوم مسيلمة الكذاب إلى المدينة في جماعة من قومه في السنة التاسعة من الهجرة فكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشركه في النبوة، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: لو سألتني هذا العسيب الذي في يدي ما أعطيتك، فرجع عدو الله إلى اليمامة، وتنبأ، ثم جعل يسجع السجعات، وظاهر حديث البخاري أنه لم يسلم أصلاً إلَّا أن المؤرخين يذكرون أنه أسلم عند التقائه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، ثم ارتد بعد عودته إلى اليمامة كما في زاد المعاد نقلاً عن ابن إسحاق. ثانياًً: قال ابن القيم: في هذه القصة أن للإِمام أن يأتي بنفسه إلى من قدم يريد لقاءه من الكفار، وتوكيل العالم بعض أصحابه(4/380)
859 - " قِصَّةُ أهْلِ نجْرَانَ "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أن يتكلم عنه. ثالثاً: قال الحافظ في " الفتح " يؤخذ منه أن السوار وسائر أنواع الحلي تعبر للرجال بما يسوءهم، قال ابن القيم: " ومن ها هنا دل لباس الحلي للرجل على نكد يلحقه وهمّ يناله ". قال أبو العباس أحمد بن عبد الرحيم المقدسي المعروف بالشهاب العابر: قال لي رجل: رأيت في رجلي خلخالاً، فقلت له تخلخل رجلك بألم، فكان كذلك، وقال لي آخر رأيت كأن في أنفي حلقة ذهب، وفيها حب مليح أحمر، فقلت له: يقع بك رعاف شديد فجرى كذلك. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون مسيلمة الكذاب إنما قدم في وفدٍ من بني حنيفة كما أفاده.
859 - " قصة أهل نجران "
أي قصة قدوم وفد نجران إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة في السنة التاسعة من الهجرة، وذلك أن نصارى نجران لما كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم كتاباً يدعوهم إلى الإسلام بعثوا وفداً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكوناً من ستين رجلاً منهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، منهم ثلاثة يؤول إليهم أمرهم، وهم العاقب أمير القوم، والسيد مستشارهم، وأبو حارثة أسقفهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للحبرين " أسلما: قالا: قد أسلمنا، قال: إنكما لم تسلما، قالا: بل قد أسلمنا قبلك، قال: كذبتما يمنعكما من الإِسلام ادّعاؤكما لله ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، قالوا: فمن أبوه يا محمد، فصمت رسول الله، فلم يجبهما حتى أنزل الله تعالى عليه صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية، فتصدى النبي - صلى الله عليه وسلم - لمناقشتهم، فقاله لهم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلَّا ويشبه أباه؟ قالوا: بلى قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يحفظه ويرزقه؟ قال: فهل يملك(4/381)
عيسى من ذلك شيئاً؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أن الله لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ قالوا: بلى، قال: فهل يعلم عيسى من ذلك إلَّا ما علمه الله، قالوا: لا، قال: فإن الله صوّر عيسى في الرحم كيف يشاء، فهل تعلمون ذلك، قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب، ولا يحدث الحدث، قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة، ثم غذّي كما يغذى الصبي، ثم كان يطعم في يشرب ويُحْدث، قالوا: بلى، قال: وكيف يكون هذا؟ فسكتوا، وعجزوا عن الجواب، فلما لم تنفع معهم الحجة والبرهان، وأبوا أن يقروا، أمر الله تعالى نبيه بمباهلتهم، وأنزل عليه قوله تعالى (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) فدعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المباهلة. قال ابن كثير: " فلما أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميل له، وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة فقال شرحبيل لصاحبه: لئن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فلاعناه لا يبقى على وجه الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك. فقال له صاحباه: فما الرأى يا أبا مريم؟ فقال: رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً، فتلقى شرحبيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني قد رأيت خيراً من ملاعنتك، فقال: وما هو؟ فقال: نحكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح، فما حكمت بيننا فهو جائز " ا. هـ. فصالحهم - صلى الله عليه وسلم - على أن يدفعوا له ألف حلة في رجب وألف حلة في صفر، مع كل حلة أوقية، وعليهم إعارة ثلاثين درعاً، وثلاثين فرساً، وثلاثين بعيراً لمن يقاتلون من المسلمين في أرض اليمن، وكتب لهم أن تكون لهم الحرية في ملتهم.(4/382)
1004 - عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
جَاءَ الْعَاقِبُ، والسَّيِّدُ صَاحِبَا نَجْرَانَ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدَانِ أنْ يُلاعِنَاهُ، قالَ: فَقَالَ أحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لا تَفْعَلْ، فَوَاللهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيَّاً فلاعَننَا لَا نُفْلِحُ نَحْنُ وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا، قَالا: إنَّا نُعْطِكَ مَا سَأَلتَنَا، وابْعَثْ مَعَنَا رَجُلاً أمِيناً ولا تَبْعَثْ مَعَنَا إلَّا أمِيناً، فَقَالَ: "لأبعَثَنَّ مَعَكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1004 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل نجران كتاباً قال فيه: " من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران، فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب. أمّا بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم آذنتكم بحرب، والسلام " فقدم إليه وفد من أشرافهم منهم " العاقب " أميرهم و" السيد " مستشارهم فسألهم وسألوه عن عيسى، فأنزل الله تعالى في ذلك صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية، فتصدى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآيات لمناقشتهم، وأقام عليهم الحجة والدليل القاطع على أن عيسى ليس إلهاً ولا ابناً لله تعالى كما يزعمون، ولكنه عبد الله ورسوله (1) ، فلما أصرّوا على عقيدتهم أمره الله تعالى بمباهلتهم، ومعنى " المباهلة " أن يجتمع الطرفان رجالاً ونساءً وأطفالاً ويبتهلا إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى، ولذلك عبّر عنها في الحديث بالملاعنة حيث قال " يريدان أن يلاعناه " أي يلاعنا النبي - صلى الله عليه وسلم - حين طلب منهم ذلك، فقال أحدهما لصاحبه وهو العاقب: لا تفعل، والله لقد علمتم أن محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، وما لاعن قوم نبياً قط فيبقى كبيرهم أو ينبت صغيرهم، " لئن كان نبياً فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا " أي نهلك نحن وأبناؤنا و" قالا: إنا نعطيك ما سألتنا " أي نعطيك
__________
(1) وقد تقدم لنا شرح هذه المناقشة أثناء كلامنا على الترجمة.(4/383)
رَجُلاً أمِيناً حَقَّ أمِين، فاسْتَشْرَفَ لَهُ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَال: " قم يَا أبَا عُبَيدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ " فَلَمَّا قَامَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " هَذَا أمِينُ هَذ الأمَّةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ما تطلبه منا " وابعث معنا رجلاً أميناً " قال ابن كثير (1) : فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: قد رأينا أن لا نلاعنك، ونتركك على دينك، ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين " فاستشرف له أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي فتطلع لهذا المنصب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا رغبة في الإمارة، ولكن حرصاً على هذه الصفة الكريمة صفة الأمانة " فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام قال: هذا أمين هذه الأمة " فوصفه بهذه الصفة الكريمة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: عزم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتصميمه على مباهلة وفد نجران تنفيذاً لأمر الله تعالى في قوله عز وجل (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) ، أما نصارى نجران فإنهم أحجموا وَوَجَمُوا عن المباهلة خشية أن يصابوْا بسوء، قال الإمام محمد عبده (2) : وهذا الطلب -أي طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - المباهلة- يدل على قوة يقين صاحبه، وثقته بما يقول، كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب على امترائهم فيما يعتقدون، وكونهم على غير بينة ولا يقين. ثانياً: أن في الحديث منقبة عظيمة لأبي عبيدة رضي الله عنه حيث وصفه بأنه أمين هذه الأمة، وتلك صفة عظيمهَ أشرأبت لها أعناق كبار الصحابة. ثالثاً: جواز صلح أهل
__________
(1) " البداية والنهاية " لابن كثير ج 5.
(2) " تفسير المنار " ج 3.(4/384)
860 - " بَابُ حِجَّةِ الْوَدَاعَ "
1005 - عَنْ زَيْدِ بْنِ أرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - غَزَا تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَأنَّهُ حَجَّ بَعْدَمَا هَاجَرَ حَجَّةً وَاحِدَةً، لَمْ يَحُجَّ بَعْدَهَا، حَجَّةَ الْوَدَاعِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الكتاب -كما قال ابن القيم (1) - على ما يريد الإمام من الأموال والثياب وغيرها، ويجري ذلك مجرى ضرب الجزيّة عليهم. رابعاً: أن للإِمام أن يبعث الرجل العالم إلى أرض الهدنة في مصلحة الإِسلام، وأنه ينبغي أن يكون أميناً، وهو الذي لا غرض له ولا هوى، وإنما مراده مجرد مرضاة الله تعالى ورسوله. اهـ. كما أفاده ابن القيم. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الحديث يدل على قصة أهل نجران مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ترجم له البخاري.
860 - " باب حجة الوداع "
1005 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حضر بنفسه تسع عشرة معركة إسلامية تسمى كل واحدة منها غزوة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حضرها بنفسه، وكل معركة يحضرها بنفسه تسمى " غزوة " وجمعها غزوات. قال: " وأنه حج بعد ما هاجر حجة واحدة " يعني وأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحج بعد هجرته إلى المدينة إلَّا حجة واحدة " لم يحج بعدها " أي لم يحج بعدها حجة أخرى غيرها " حجة الوداع " بالنصب على أنه بدل من حجة واحدة، ويجوز فيه الرفع على أنه خبر مبتدأ، والتقدير هي حجة الوداع. الحديث: أخرجه البخاري.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحج بعد هجرته - صلى الله عليه وسلم - سوى حجة واحدة، هي حجة الوداع، فهي حجته الوحيدة
__________
(1) " زاد المعاد " لابن القيم ج 3.(4/385)
بعد الهجرة (1) ، وكانت حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة الموافق لشهر مارس سنة 632 م، فما كاد - صلى الله عليه وسلم - يعلن عن حجه حتى قدم مَنْ حول المدينة، وخرج - صلى الله عليه وسلم - لخمس ليال بقين من ذي القعدة، فوافاه في الطريق بشر كثير، فكانوا بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله مد البصر حتى زاد عددهم عن مائة ألف، وخرج - صلى الله عليه وسلم - يوم السبت بعد أن صلّى الظهر بالمدينة أربعاً، وسار إلى ذي الحليفة، فأحرم منها قارناً ملبياً، ثم نزل بذي طوى، فبات بها ليلة الأحد لأربع خلون من ذي الحجة، وصلى بها الصبح، ثم اغتسل، ودخل مكة نهاراً من أعلاها، ووصل المسجد ضحى، وعمد إلى البيت، وحاذى الحجر الأسود، واستلمه ولم يزاحم عليه، وجعل البيت عن يساره، ورمل في الثلاثة الأشواط الأولى واضطبع بردائه فجعل وسط الرداء تحت منكبه الأيمن (2) وطرفيه على كتفه الأيسر، وكان كلما حاذى الحجر أشار إليه واستلمه بمحجنه، فلما فرغ من طوافه، وقف خلف المقام، وقرأ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) وصلّى ركعتين، ثم أقبل على الحجر فاستلمه ثم خرج إلى الصفا، فسعى بين الصفا والمروة سبعاً، وأقام بمكة أربعة أيام من الأحد إلى الأربعاء، فلما كان يوم الخميس توجه إلى منى فنزل بها، وصلّى الظهر والعصر، وبات بها، وكانت ليلة الجمعة، فلما طلعت الشمس سار إلى عرفة، فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة، فنزل حتى زالت الشمس، فرحل على ناقته القصواء حتى أَتى بطن عرنة، فخطب الناس على راحلته، ثم أمر بلالاً فأذن، وأقام الصلاة فصلى الظهر ركعتين ثم أقام فصلى العصر ركعتين، فلما فرغ من صلاته ركب حتى أتى الموقف،
__________
(1) أما قبل الهجرة فقد اختلف في ذلك. قال ابن الأثير: "كان يحج كل سنة، وفي سنن الترمذي عن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج ثلاث حجج، حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعدما هاجر ... " وفي سنده زيد بن الحباب عن الثورى، وهو صدوق يخطيء في حديث الثورى ولذلك قال الترمذي: هذا حديث غريب. (ع) .
(2) والاضطباع هو أن يجعل وسط الرداء تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر، وتبقى كتفه اليمنى مكشوفة، وهو مستحب في طواف القدوم. اهـ. كما في " العمدة " لابن قدامة وشرحه للمقدسي.(4/386)
وأخذ في الدعاء والابتهال، وللحاج أن يدعو بما تيسر، ولا بأس أن يقول: " اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني (1) وتعلم سري وعلانيتي، ولا يخفي عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، والوجل المشفق المقرُّ بذنوبي، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عيناه، وذل لك جسده، اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقياً، وكن بي رؤوفاً رحيماً " وهناك أنزلت عليه (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) فلما غربت الشمس أفاض من عرفة إلى مزدلفة، وهو يقول: " أيها الناس عليكم بالسكينة " ولم يقطع التلبية حتى أَتى المزدلفة، فأمر المؤذن فأذن وأقام، فصلى المغرب، قيل: حط الرحال، فلما حطوا رحالهم أمر فأقيمت الصلاة، ثم صلى العشاء، ثم نام حتى أصبح، فلما طلع الفجر صلاها في أول الوقت، ثم سار من مزدلفة عند الإسفار حتى أَتى منى، فرمى جمرة العقبة راكباً بعد طلوع الشمس، وقطع التلبية، ثم رجع إلى منى، فخطب في الناس خطبة بليغة أعلن فيها وجوب المحافظة على حقوق الإِنسان، حيث قال فيها: " فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.. إلخ ثم نحر - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً وستين بدنة بيده، وأمر علياً أن ينحر الباقي من المائة، ثم استدعى الحلاق، فحلق شعره، ثم أفاض إلى مكة راكباً، وطاف طواف الإِفاضة، ثم أتى زمزم، فشرب منه وهو قائم، ثم رجع إلى منى من يومه، فقضى فيها ثلاثة أيام يرمي الجمرات الثلاث كل يوم عند الزوال حتى أكمل أيام التشريق الثلاثة، فنهض إلى مكة، فطاف طواف الوداع من الليل سحراً، وأمر الناس بالرحيل والتوجه إلى المدينة (1) . والله أعلم. ثانياً: أن عدد غزواته - صلى الله عليه وسلم - تسع عشرة غزوة. والمطابقة: في قوله: " وإنه حج بعد ما هاجر حجة واحدة لم يحج بعدها، حجة الوادع ".
__________
(1) " السيرة النبوية " لأبي الحسن الندوي.(4/387)
منار القاري
شرح مختصر
صحيح البخاري
تأليف حمزة محمد قاسم
راجعه الشيخ عبد القادر الأرناؤوط
عني بتصحيحه ونشره بشير محمد عيون
الجزء الخامس
مكتبة دار البيان
ص. ب 2854 - هاتف 229045
دمشق - الجمهورية العربية السورية
مكتبة المؤيد
ص. ب 10 - هاتف 7321851
الطائف - المملكة العربية السعودية(5/1)
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
بيروت
1410 هـ - 1990 م(5/2)
861 - " بَابُ غَزْوَةِ تبوك وهي غَزْوةُ العُسْرَةِ "
1006 - عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
"أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ إلى تَبُوكَ واسْتَخْلَفَ عَلِيَّاً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأخيراً ختم المصنف رحمه الله تعالى الغزوات بغزوة تبوك، لأنها آخر الغزوات الإِسلامية الكبرى فقال:
861 - " باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة "
1006 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى تبوك وحضرها بنفسه، كما يحضر المعارك الإسلامية الكبرى، ولذلك سميت غزوة كما هو معروف عند أصحاب السير والتاريخ. وقد وقعت غزوة تبوك في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة، الموافق لشهر سبتمبر سنة 630 م (1) حيث يشتد الصيف، وتقوى الحرارة، ويلتهب الجو، وتتوقد أشعة الشمس، وحيث يقل الزاد، وتشح المؤونة، ولا يبقى من التمور إلا النزر (2) اليسير، واستقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - سفراً بعيداً، ومفازاً وعدداً كثيراً، فكانت غزوة تبوك عسيرة حقاً في زمنها، وفي عدم توفر المؤونة الكافية، وقلة الماء، حتى أنهم كانوا ينحرون البعير ليعتصروا فَرثه يبلّون به ألسنتهم، وكان الركاب قليلاً حتى أن العشرة يتعاقبون على بعير واحد، ولكن لا بد مما ليس منه بد، فقد وصلت الأخبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الروم تهيؤوا لغزو حدود العرب الشمالية، وأجْلَبَتْ معها غسان وغيرها من متنصرة العرب، حتى وصلت مقدمتهم إلى البلقاء، فاهتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأمر، وأعلن الجهاد، وجدّ في السفر، وحضّ أهل الغنى على النفقة في سبيل الله فبادر عثمان بالإِجابة وجهز جيش العسرة، وأنفق ألف دينار، قال ابن
__________
(1) والظاهر أن ذلك كان في برج السنبلة.
(2) قال في " تفسير المنار " وكانت عسرة في الزاد، إذ كانت عند انتهاء فصل الصيف الذي نفدت فيه مؤنتهم من التمر.(5/3)
فَقَالَ: أتُخَلِّفُنِي في الصِّبْيَانِ والنِّسَاءِ؟ فَقَالَ: ألا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أنَّهُ لَيْسَ نَبِيّ بَعْدِي ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إسحاق: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلّ ما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس لبعد المشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو، ليتأهب الناس لذلك أهبته، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثين ألفاً، وهو أكبر جيش خرج به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة، وكان الجيش منظّماً مرتباً موزّع الألوية والرايات، ولما انتهى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك بلغه خبر انسحاب الروم، ولم يقابل الروم هذا الزحف بزحف مقابل، وبتحركات عسكرية مضادة، بل كان هناك انسحاب مقابل هذا التحدي السافر، وصاروا يحسبون لهذه القوة الناشئة حساباً لم يحسبوه من قبل، وقد روى لنا سَعْدٌ في هذا الحديث " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى تبوك " وذلك في شهر رجب من السنة التاسعة من الهجرة كما ذكرنا وتقع تبوك في شمال الحجاز، على بعد 700 كم من المدينة " واستخلف عليَّاً رضي الله عنه " أي تركه في المدينة ليكون نائباً عنه في الإِشراف على أهله ونسائه والقيام عليهن " فقال أتخلفني في الصبيان والنساء " أي أتتركني في المدينة مع النساء والصبية، ولا أخرج معكم إلى الجهاد، ولا أشارككم في القتال؟! " فقال: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى " أي أما ترضى أن تكون خليفة عني في سفري هذا، بمنزلة استخلاف موسى أخاه هارون على بنى إسرائيل حين توجه إلى الطور. اهـ. كما أفاده العيني.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: ذكر غزوة تبوك، وخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها لغزو الروم، وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًً: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أبَتْ عليه شجاعته وبطولته وإقدامه أن يبقى في المدينة بعيداً عن مواطن الجهاد والاستشهاد فقال: أتخلفني في الصبيان(5/4)
862 - " حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَقَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا)
1007 - عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
لَمْ أتخَلَّفْ عَنْ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - في غَزْوَةٍ غَزَاهَا إلَّا في غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أنِّي كُنْتُ تَخلَّفْتُ في غَزْوَةِ بَدْر، وَلَمْ يُعَاتِبْ أحَداً تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْش، حتى جَمَعَ اللهُ بَيْنَهُمْ وبيْنَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والنساء. ثالثاً: استدل الشيعة بهذا الحديث على أن الخلافة لعلي رضي الله عنه، واعتبروه نصاً صريحاً على خلافته، قال القسطلاني: ولا متمسك لهم فيه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما قال هذا حين استخلفه على المدينة في غزوة تبوك، ويؤيده أن هارون المشبه به لم يكن خليفة بعد موسى، لأنّه توفي قبل موسى بنحو أربعين سنة.
الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى تبوك "
862 - " حديث كعب بن مالك رضي الله عنه، وقول الله عز وجل: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) "
1007 - معنى الحديث: أن كعب بن مالك يقصّ علينا قصة تغيبه عن غزوة تبوك، فيمهد لذلك بقوله " لم أتخلف عن رسول الله في غزوة غزاها إلَّا في غزوة تبوك، غير أني تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحداً تخلف عنها، إنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد عير قريش " أي أنه رضي الله عنه لم يكن من عادته التخلف عن الجهاد، فهو رضي الله عنه قد حضر جميع غزوات الرسول، ولم يتغيب عن غزوة منها عدا غزوة بدر، ولا يعد من غاب عنها متخلفاً، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما خرج من المدينة لم يخرج لقتال، وإنما خرج ليتصدّى لقافلة(5/5)
عَدُوِّهِمْ على غَيْرِ مِيعَادٍ، وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حينَ تَوَاثَقْنَا على الإسْلامِ، وما أحبُّ أنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وِإنْ كَانَتْ بَدْر أذْكَرَ في النَّاسِ مِنْهَا، كانَ مِنْ خَبَرِي أني لَمْ أكُنْ قَطُّ أقْوَى ولا أيْسَرَ حينَ تَخَلفْتُ عَنْهُ في تِلْكَ الْغَزْوَةِ، والله مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتانِ قَط حَتى جَمَعْتُهمَا في تِلك الْغَزْوَةِ، ولمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدُ غَزْوَةً إلا وَرى بِغَيْرِهَا حتى كَانَتْ، تِلْكَ الْغَزْوَةُ، غَزَاهَا رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - في حَرٍّ شَدِيدٍ، واسْتَقْبَلَ سَفَراً بَعِيداً وَمَفَازاً وعَدُوَّاً كَثِيراً، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أمْرَهُمْ، لِيَتَأهَّبُوا أهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كثِيرٌ، ولا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ -يُرِيدُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قريش التجارية ويستولي عليها لمصلحة المسلمين، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد العير، واختار الله له النفير فكان القتال، ولذلك لم يعاتب - صلى الله عليه وسلم - أحداً غاب عن بدر، ثم ذكر أنه إذا كان قد غاب عن غزوة بدر، فإن الله قد عوضه عنها بحضور بيعة العقبة التي كان يعتز بها كثيراً، قال كعب " وما أحب أن لي بها مشهد بدر " أي ولو خيرت بين حضورها أو حضور غزوة بدر لاخترتها، وفضلتها عليها " وإن كانت بدر أذكر في الناس " أي وإن كانت بدر أشهر منها عند غيرى من الناس " وكان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني " أي لم أكن في حياتي كلها أقوى جسماً، ولا أحسن صحة، ولا أيسر حالاً، مني في هذا الوقت الذي كانت فيه غزوة تبوك، " ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد غزوة إلَّا ورّى بغيرها " أي إلا أظهر للناس أنه يريد جهة أخرى حرصاً على الكتمان " حتى كانت تلك الغزوة " أي حتى حدثت تلك الغزوة، فلم يخفها، لأنها كانت " في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً " أي وعلم(5/6)
الدِّيوَانَ- قَالَ كَعْبٌ: فما رَجُلٌ يُرِيدُ أنْ يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظَنَّ أنْ سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيُ اللهِ، وغَزَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تِلْكَ الْغَزْوَةِ حينَ طَابَتِ الثِّمَارُ والظلالُ، وَتَجَهَّزَ رَسُول اللهِ المسلمُونَ مَعَهُ، فَطفِقْتُ أغدُو لِكَيْ أتجَهَّزَ مَعَهُمْ فأرْجِعُ ولَمْ أقْضِ شَيْئَاً، فَأقولُ في نَفْسِي أَنا قَادِر عَلَيْهِ، فَلم يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حتَّى اشْتَدَّ بالنَّاسِ الجِدُّ، فأصْبَحَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - والْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَلَمْ أَقض مِنْ جِهَازِي شَيْئَاً، فَقُلْتُ: أتجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْم أوْ يَوْمَيْنِ، ثم ألحَقُهُمْ، فَغَدَوْتُ بَعْدَ أنْ فَصَلُوا لأتَجَهَّزَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أنه سيسير بالمسلمين في فلاة وأراض قاحلة ليس فيها قطرة ماء، حتى إن من يسير فيها يعرّض نفسه للهلاك من شدة العطش " وعدواً كثيراً، فجلى للمسلمين أمرهم " أي فبيّن - صلى الله عليه وسلم - لهم أنه يريد غزو الروم " ليتأهبوا أهبة غزوهم " بضم الهمزة وسكون الهاء أي ليأخذوا معهم ما يحتاجون إليه في تلك الغزوة الصعبة من سلاح وعتاد " والمسلمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثير " يبلغ عددهم ثلاثين ألفاً " ولا يجمعهم كتاب حافظ " أي لم تقيد أسماؤهم في سجل حتى يعرف الحاضر من الغائب " فما رجل يريد أن يتغيّب إلَّا ظن أن سيخفى له " أي إلَّا اعتقد أنه لا يظهر غيابه وأنه سيخفى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " ما لم ينزل فيه وحي الله " فيكشفه ويفضحه أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وغزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الغزوة حين طابت الثمار " أي نضجت الثمار، وحان اجتناؤها " والظلال " أي ورغب الناس في الجلوس تحت الأشجار يستظلون من وهج الشمس " وتجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه فطفقت للغزو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً " أي فبدأت أذهب كل صباح إلى سوق المدينة لكي أشتري ما أحتاج إليه في هذه الغزوة من عتاد وزاد، ولكنني أعود إلى بيتي وأنا لم أحضر معي شيئاً أغزو " فأقول في نفسي أنما قادر عليه " أي فأقول لنفسى محاولاً إقناعها(5/7)
فَرَجَعْتُ وَلَمْ أقض شَيْئاً، ثمَّ غَدَوْتُ، ثمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أقض شَيْئاً، فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ، وَهَمَمْتُ أنْ أرْتَحِلَ فَأدْرِكَهُمْ، وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ، فَلَمْ يُقَدَّرُ لِي ذَلِكَ، فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ في النَّاسِ بَعْد خُرُوجِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَطُفْتُ فِيهم أحْزَنَنِي أنَّنِي لا أرى إِلَّا رَجُلاً مَغمُوضاً عَلَيْهِ النِّفَاقُ، أو رَجُلاً مِمَّن عَذَرَ اللهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَلَمْ يذْكُرْنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حتى بَلَغَ تَبُوكَ، فقالَ وهُوَ جَالِسٌ في الْقَوْمِ بِتَبُوكٍ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إذا كنت لم أخرج اليوم فإنَّ في إمكان الخروج غداً " فلم يزل يتمادى بي " أي فلم يزل هذا الحال مستمراً بي " حتى اشتد بالناس الجِدُّ " حتى ضاعف الناس من جدهم واجتهادهم في التهيؤ والاستعداد لهذه المعركة، ولا زلت أنا كما كنت لم أفعل شيئاً " فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه " أي أصبحوا وقد جهزوا أنفسهم " ولم أقض من جهازي، فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين " أي فلجأت إلى التسويف، وصرت أمنّي نفسي، وأحاول إقناعها بأن الفرصة لا زالت مواتية لم تفت بعد، وإن ما لم أفعله اليوم أفعله غداً، والأيام تمر، والوقت يجري " فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز " أي فخرجت إلى السوق بعد أن خرج محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من المدينة لأتجهز " ولم أقض شيئاً " أي ولم أفعل شيئاً " ثم غدوت، ثم رجعت ولم أقض شيئاً، ولم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط القوم " أي ثم صرت أذهب كل يوم صباحاً إلى السوق لأجهز نفسي فأعود إلى بيتي وأنا لم أصنع شيئاً حتى انتهت غزوة تبوك، وأسرع الناس بالرجوع إلى المدينة " فهممت أن أرحل وأدركهم وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك " أي ولكن لم يرد الله تعالى في الخروج " فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطفت فيهم " أي فكنت إذا مررت بالناس بعد خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة وتجولت بينهم " لا أرى إلا رجلاً مغموضاً عليه النفاق " أي(5/8)
" ما فَعَلَ كَعْبُ؟ " فَقَالَ رَجُلْ مِنْ بَنِي سَلِمةَ: يا رَسُولَ اللهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَنَظرهُ في عِطْفَيْهِ، فقالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَل: بِئْسَمَا قُلْتَ: واللهِ يَا رَسُولَ اللهِ ما عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيراً، فَسَكتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فلما بَلَغَنِي أنَّهُ تَوَجَهَ قَافِلاً حَضَرَنِي هَمِّي، فَطَفِقْتُ أتذَكَّرُ الْكَذِبَ، وأقولُ: بماذَا أخرُجُ من سَخَطِهِ غَداً، واسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأيٍ مِنْ أهْلِي، فلمَّا قِيلَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أظَلَّ قَادِماً زَاحَ عَنِّي البَاطِلُ، وَعَرَفْتُ أنَّي لَنْ أخرُجَ مِنْهُ أبداً بِشَيءٍ فِيه كَذِب، فأجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وأصبَحَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَادِماً، وكانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأ بالْمَسْجِدِ، فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثم جَلَسَ لِلنَاسِ، فلمَّا فَعَلَ ذَلِكَ، جَاءَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا أرى إلَّا رجلاً متهماً في دينه " أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء " يعنى أو رجلاً معذوراً شرعاً لمرض بدني أو عجز جسمي كالأعمى والمقعد والمريض ونحوهم " ولم يذكرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ تبوك " أي ولم يتذكرني النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم أخطر بباله ولم يتحدث عني حتى وصل إلى تبوك " فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب " يعني أي شيء فعل كعب ولماذا تأخر عنا " فقال رجل من بني سلمة " وهو عبد الله بن أنس، قال الحافظ، وهو غير الجهني الصحابي المشهور: " حبسه برداه " تثنية بُرْد وهو ثوب مخطط، ويجمع على أبرَاد وأبرد وبُرُد " ونظره في عطفيه " تثنية عِطف وهو الجانب، وكنى بالجملتين عن إعجابه بلباسه، وإعجابه بنفسه " فقال معاذ: بئسما قلت " أي ما أقبح هذا القول الذي نطقت به، فإنك قد اغتبت الرجل في مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - " فلما بلغني أنه توجه قافلاً " أي فلما وصلتني الأخبار عن توجهه من تبوك عائداً إلى المدينة " حضرني همّي " أي بَدَأتِ الأفْكار والهموم تسيطر على نفسي(5/9)
الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وكانُوا بِضْعَة وثمانينَ رَجُلاً، فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلانِيتَهُمْ، وَبَايَعَهُمْ، واسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرائِرَهُمْ إلى اللهِ تَعَالى، فَجِئْتُهُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ علَيْهِ، تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثم قَالَ: " تَعَالَ " فجِئْتُ أمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي: " مَا خَلَّفَكَ ألمْ تَكُنْ قَد ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ "، فَقُلْتُ: بَلَى، إِنِّي وَاللهِ يا رَسُولَ اللهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أهْلِ الدُّنيا لَرَأيْتُ أنْ سَأخرُجَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" فطفقت أتذكر الكذب " أي فخطر في بالي أن أعتذر إليه بعذر كاذب " وأقول في نفسي بماذا أخرج من سخطه غداً " وفي رواية ابن أبي شيبة: وطفقت أعد العذر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جاء وأهيىء الكلام " واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهْلي " أي وصرت أستشير كل صاحب رأي سديد من أقاربي مستعيناً برأيه " فلما قيل: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أظَلَّ قَادماً " يعني قد دنا قدومه من المدينة " زاح عني الباطل " أي زالت من رأسي جميع الأفكار السيئة " وعرفت أني لن أخرج منه أبداً " أي لن أتخلص وأنجو حقيقة " بشيء فيه كذب " لأن حبل الكذب قصير " فأجمعت صدف " لأن النجاة في الصدق " وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس " أي لاستقبالهم والحديث معهم وإرشادهم وتعليمهم، والحكم بينهم " فلما فعل ذلك جاءه المخلفون يعتذرون، فطفقوا يعتذرون " بالأعذار الكاذبة " ويحلفون له " الأيمان الباطلة " وكانوا بضعة وثمانين رجلاً " والبضع على المشهور ما بين ثلاث إلى تسع " فقبل منهم علانيتهم " أي قبل منهم ظاهر أمرهم " ووكل سرائرهم إلى الله تعالى " أي ترك الحكم على ما أضمروه وأخفوه في نفوسهم إلى الله تعالى يحكم فيهم بما يشاء " فجئته، فلما سلمت عليه تبسم تبسّم المغضب " أي تبسم لي ولكن آثار الغضب بادية على وجهه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يقابل إنساناً بما يكره "ثم(5/10)
مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أعْطِيتُ جَدَلاً، ولكنِّي وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي، ليوشِكَنَّ اللهُ أن يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، ولَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْق تَجِدُ عليَّ فِيهِ أنَّي لأرجُو فِيهِ عَفْوَ اللهِ، لا وَاللهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، وَاللهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أقْوَى ولا أيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أما هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِيكَ " فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَبّعَونِي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال: تعال " أي تقدم إليَّ، واقترب مني " فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال: ما خلفك؟ " أي ما هو سبب تغيبك عن هذه الغزوة وما عُذْرك في ذلك؟ " ألم تكن قد ابتعت ظهرك " أي اشتريت راحلتك " فقلت: بلى والله يا رسول الله، ولو جلست عند غيرك من أهل الدنيا " أي لو جلست عند الناس العاديين من الحكام والملوك والأمراء " لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر " أي لوجدت عذراً كاذباً يرضيه، وتخلصت منه بهذا العذر الكاذب " ولقد أعطيت جدلاً " أي ولقد أعطيت منطقاً قوياً " ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب " أي لو اعتذرت لك اليوم بعذر كاذب " ترضى به عني ليوشكن الله، يسخطك عليّ " أي ليأتينك الوحي قريباً فيفضح كذبي عندك، فتسخط عليّ وتغضب مني " ولئن حدثتك حديث صدق " واعترفت لك بالحقيقة، وقلت لك قولاً صادقاً مطابقاً للواقع " تجد عليّ فيها " أي تغضب علي اليوم بسببه " إني لأرجو فيه عفو الله " أي فإني حين أقول الصدق الذي يغضبك اليوم مني أنتظر أن يعفو الله عني مكافأة لي على صدقي، ثم قال: "والله ما كان لي من عذر " فاعترف أنه لا عذر " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما هذا فقد صدق " وأخبر بالواقع " فقم حتى يقضي الله فيك " أي فقم الآن من مجلسي هذا، وانتظر حتى يحكم الله فيك "وثار رجال(5/11)
فَقَالُوا لِي: واللهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أذنَبْتَ ذَنْباً قَبْلَ هَذَا، ولَقَدْ عَجَزْتَ أن لا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إلى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بما اعْتَذَرَ بِهِ الْمُتَخَلِّفُونَ، وَقَدْ كَانَ كَافِيكَ ذَنبكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللهِ لَكَ، فَواللهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِي حتى أردْتُ أن أرجِعَ فَأكَذِّبَ نَفْسِي، ثم قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعي أحدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ رَجُلانِ، قَالا مِثْلَ مَاْ قُلْتَ، فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لَكَ، فَقُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبيعِ العَمْرِي وهِلَالُ ابْنُ أُمَيَّةَ الواقِفِيُّ، فذَكَرُوا لي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ، قَدْ شَهِدَا بَدْراً، فِيهِمَا أُسْوَةٌ، فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي، ونَهى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا أيُّهَا الثَّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، فاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، وتَغيَّرُوا لنا، حتَّى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من بني سلمة" أي فقمت من مجلسه، وقام معي رجال من بني سلمة " فقالوا لي: ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا " أي لم يسبق أن أذنبت ذنباً أو ارتكبت معصية قبل هذه المرة " ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت " أي فلماذا لم تخلص من غضبه - صلى الله عليه وسلم - بعذر من الأعذار التي اعتذر بها المتخلفون " وكان كافيك ذنبك استغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لك " أي ولو اعتذرت إليه لأستغفر لك، فكان استغفاره لك كافياً لمحو خطيئتك وتكفير ذنبك " وما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فَأًكذِّبَ نفسي " أي فأكذّب نفسي عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قولي السابق " ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم رجلان، قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك " أي قال لهما النبي - صلى الله عليه وسلم - قم حتى يقضي الله فيك " فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع وهلال بن أمية الوافقي " وكلاهما أنصاريان من الأوس " فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً " وفازا بقول الله تعالى لهم: "يا أهل بدر، اعملوا ما شئتم فقد(5/12)
تَنَكَّرَتْ في نَفْسِي الأرْضُ، فَمَا هِيَ التَّي أعْرِفُ، فَلَبِثْنَا على ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فأمَّا صَاحِبَايَ فاسْتَكَانَا وقَعدا في بُيُوتِهِما يَبْكِيَانِ، وأمَّا أنا فَكُنْتُ أشَبَّ القَوْمِ وأجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أخْرُجُ فأشْهَدُ الصَّلَاةَ مَعَ المُسْلِمِينَ، وَأطوفُ في الأسْوَاقِ، ولا يُكَلمُنِي أحدٌ، وآتِي رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ في مَجْلسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَأقولُ في نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلامِ عَلَيَّ أمْ لا؟ ثُمَّ أصَلي قَرِيباً مِنْهُ، فَأسَارِقُهُ النَّظر، فَإِذَا أقْبَلْتُ عَلَى صَلَاِتي أقبَلَ إِلَيَّ، وَإذَا التَفَتُّ نَحْوَهُ أعرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ من جَفوَةِ النَّاسِ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَورْتُ جِدَارَ حَائِطِ أبي قُتَادَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وأحبُّ النَّاسِ إِليَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَوَاللهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلامَ، فَقُلْتُ: يا أبا قَتَادَةَ أنشُدُكَ بِاللهِ! هَلْ تَعْلَمُنِي أَُحبُّ الله وَرَسُولَهُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غفرت لكم" " فيهما أسوة " أي لي فيهما قدوة صالحة وأسوة حسنة " فمضيت حين ذكروهما لي " أي فلم سمعت بهما قررت الاستمرار فيما أنا عليه من الالتزام بالصدق " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة " برفع الثلاثة على أنها خبر لأي، والمعنى فمنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس عن التكلم معنا نحن الثلاثة المذكورون " فاجتنبنا الناس " أي قاطعونا وهجرونا " حتى تنكرت في نفسي الأرض " أي حتى تغير في عيني كل شيء على هذه الأرض " فأمّا صاحبي فاستكانا " أي اعتزلا في دارهما " وأما أنا فكنت أشبَ القوم " أي أصغرهم سِنَّاً " وأجلدهم " أي أقواهم جسماً " فكنت أخرج فأشهد الصلاة " أي صلاة الجماعة " فأسلّم عليه " أي على النبي - صلى الله عليه وسلم - " فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه يرد السلام عليَّ أم لا؟ " أي أشك في كونه رد السلام أو لم يرده " فأسارقه النظر " أي أنظر إليه خفية "فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إليَّ وإذا(5/13)
فَسَكَتَ، فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتْ، فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ، فَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، وتَوَلَّيْتُ حتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ، قَالَ: فَبَيْنَا أنَا أمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أنباطِ أهْلِ الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بالطَّعَامِ يَبيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ، حَتَّى إذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَاباً من مَلِكِ غَسَّانَ، فَإذا فِيهِ أمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أن صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللهُ بِدَارِ هَوَانٍ ولا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ، فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأتُهَا: وَهَذَا أيْضاً مِنَ الْبَلاءِ، فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّور فَسَجَرْتُهُ بِهَا، حَتَّى إِذَا مَضَتْ أرْبَعُونَ ليْلَةً مِنَ الْخَمْسِينَ إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -يَأتِيني فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التفت نحوه أعرض عني" أي صرف نظره عني ليظهر لي الغضب والمقاطعة " حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس " أي من مقاطعتهم وهجرانهم " مشيت حتى تسورت جدار حائط " أي بُسْتان " أبي قتادة وهو ابن عمّي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه، فوالله ما رد عليَّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ " أي أسألك بالله تعالى هل تعلم محبتى لله ورسوله " فسكت " ولم يجبه بشيء، ثم أعاد عليه هذا السؤال مرَّةً أخرى كما قال: " فعدت فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم " وتخلص من الجواب برد العلم إلى الله ورسوله " فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا بنبطي " بفتح النون وكسر الطاء، أي فإذا في أفاجأ بفلاح من الشام، " فطفق الناس يشيرون له " فبدأ الناس يشيرون إليَّ، ويدلونه عليَّ " حتى إذا جاءني دفع إليَّ كتاباً من ملك غسان " وهو جبلة بن الأيهم " فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغني أنْ صاحبك " يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - " قد جفاك " أي قد هجرك هو وأصحابه،(5/14)
اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأمُرُكَ أن تَعْتَزِلَ امْرأتَكَ، فَقُلْتُ: أطَلِّقُهَا أمْ مَاذَا أفْعَلُ؟ قَالَ: لا بَلْ اعْتَزِلْهَا وَلا تَقْرَبْهَا، وأرْسَلَ إلى صَاحِبَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لِامْرأتِي: الْحَقِي بِأهْلِكِ فَتكُونِي عِنْدَهُمْ حتى يَقْضِيَ اللهُ في هَذَا الأمْرِ، قَالَ كَعْبُ: فَجَاءَتْ امْرأةُ هِلَالِ بْنِ أمَيَّةَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ هِلالَ بْنَ أمَيَّةَ شَيْخ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِم، فَهَلْ تَكْرَهُ أن أخدِمَهُ، قَالَ: لا، وَلَكِنْ لا يَقرَبْكِ، قَالَتْ: إِنَّهُ وَاللهِ ما بِهِ حَرَكَة إِلَى شَيْءٍ، وَاللهِ ما زَالَ يَبْكِي مُنذُ كَانَ مِنْ أمرِهِ مَا كَانَ إلى يَوْمِهِ هذَا، فَقَالَ لِي بَعْضُ أهْلِي: لو استَأذَنْتَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في امْرَأتِكَ، كما أذِنَ لامْرأةِ هِلَالِ بْنِ أمَيَّةَ أن تَخْدِمَهُ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لا اسْتَأذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وما يُدْرِيني مَا يَقُولُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا اسْتَأذَنْتُهُ فِيهَا، وأَنا رَجُلٌ شَابٌ، فَلَبِثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ، حَتَّى كَمُلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً من حِينِ نَهى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ كَلامِنَا، فلما صَلَّيْتُ صَلاةَ الْفَجْرِ صُبح خَمْسِينَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأصبحوا يعاملونك بعداوة وجفاء" ولم يجعلك الله بدار هوان " أي ولست ممن يقبل الضيم، أو يرضي الإِقامة بأرض يهان فيها "ولا مضيعة " أي ولست ممن يضيع حقه، أو تهدر كرامته " فألحق بنا نواسك " أي فاحضر إلينا تجد كل مواساة وعون وإكرام " فقلت لما قرأتها: وهذا والله من البلاء " أي وهذا امتحان آخر يَبْتَلِيني الله به، لأن ملك غسان أراد بذلك أن ينتهز هذه الفرصة ليفتن كعب بن مالك عن دينه " فتيممت بها التنور " أي فقصدت بها التنور فألقيتها فيها " فسجرته بها " أي فأشعلت ناره بها " حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيني فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تعتزل امرأتك " أي أن لا تقربها ولا تباشرها "فقلت لامرأتي الحقي(5/15)
لَيْلَةً، وأَنا على ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا، فَبَينَا أنَا جَالِسٌ علَى الْحَال الذي ذَكَرَهُ اللهُ تعالى: قَدْ ضَاقَتْ علَيَّ نَفْسِي، وَضَاقَتْ عليَّ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ سَمِعْتُ صَوْتَ صَارخٍ أوفَى على جَبَلِ سَلْعٍ بأعلى صَوْتِهِ: يا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ أبشِرْ، قَالَ: فخَرَرْتُ سَاجِداً، وعَرَفْتُ أنَّهُ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ، وآذَنَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِتَوبَةِ اللهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاةَ الْفَجْرِ، فذهَبَ النَّاسَ يُبَشَرونَنَا، وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشَرُونَ، وَرَكَض إليَّ رَجُلٌ فرَساً، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ، فأوْفَى علَى الْجبَلَِ، فكَانَ الصَّوْتُ أسْرَعَ مِنَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بأهلك" بفتح الحاء أي اذهبي إلى دار أهلك " فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إنَّ هلال بن أمية شيخ " أي رجل عجوز، وشيخ كبير طاعن في السن، " ضائع " أي غير قادر على خدمة نفسه لضعف جسمه " فهل تكره أن أخدمه قال: لا، ولكن لا يقربك " أي لا يباشرك أي مباشرة زوجية " قالت: إنه والله ما به حركة " أي ليس له أي رغبة أو حركة إلى النساء لسوء حالته النفسية " فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة " أي من صبح الليلة المكملة للخمسين ليلة " فبينما أنا جالس على الحال الذي ذكره الله " أي على الصفة التي وصفنا الله تعالى بها في قوله عز وجل (وضاقت عليهم الأرض بما رحبت) " قد ضاقت عليَّ نفسي " لما كنت أشعر به من ضيق الصدر، وامتلاء القلب بالهموم والغموم " وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت " أي وشعرت بأن هذه الأرض الواسعة قد ضاقت عليَّ من شدة الألم والحزن والخوف الذي أصابني " سمعت صوت صارخ " أي صوت رجل ينادي بأعلى صوته " أوفى على جبل سلع " أي صعد فوق جبل سلع، وصار ينادي " يا كعب بن مالك أبشر، قال: فخررت ساجداً " حمداً لله تعالى وشكراً له على توبته عليه " وآذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتوبة الله علينا " أي أعلن(5/16)
الْفَرَسِ فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرنِي نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَي فَكَسَوْتُهُ إِيَاهُمَا بِبُشْرَاهُ، واللهِ مَا أمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ، واسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا، وانْطَلَقْتُ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجاً فَوجاً يُهَنِّؤُونِي بالتَّوْبَةِ، يَقُولُونَ: لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللهِ عَلَيْكَ، قَالَ كَعْبُ: حتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إليَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ يُهَرْوِلُ حتَّى صافَحَنِي، وَهَنَّأنِي، وَاللهِ مَا قَامَ إليَّ رَجُل مِنَ المُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ، ولا أنْسَاهَا لِطَلْحَةَ، قَالَ كَعْبُ: فَلمَّا سَلَّمْتُ على رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - وَهُو يَبْرقُ وَجْهُهُ مِنَ السرورِ: أبشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عليكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أمُّكَ، قَالَ قُلْتُ: أمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللهِ أمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ؟ قَالَ: لا، بَلْ مِنْ عِنْدِ الله، وكانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في الناس توبة الله علينا، " وركض إليَّ رجل فرساً " أي وامتطى رجل جواداً واستحثه على الإِسراع إليَّ، فجاء يجري بسرعة كي يبشرني بهذه البشارة " وسعى ساع من أسلم " أي وجاء رجل آخر يجري بسرعة " فأوفى على الجبل " أي صعد فوق جبل سلع، فجعل ينادي بأعلى صوته يبشرني بالتوبة " فلما جاءني الذي سمعت صوته نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه " أي كسوته ثَوْبيَّ اللذين لا أملك غيرهما، مكافأة له على بشارته لي " وانطلقت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلقاني الناس فوجاً فوجاً " أي جماعة جماعة " يهنئوني بالتوبة يقولون: لتهنك توبة الله عليك " بكسر النون كما رجحه الحافظ، وقال السفاقسي: الأصوبُ فتح النون لأنه من الهناء " فلما سلمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يبرق وجهه من السرور " أي يتلألأ وجهه تلألؤ البرق من شدة الفرح: " أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك "(5/17)
إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ كَأنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ، فلما جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ مِنْ تَوبَتي أنْ أنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلى اللهِ وإلى رَسُولِ اللهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قُلتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الذي بِخَيْبَرَ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنَّ اللهَ إِنَّمَا نَجَّانِّي بِالصِّدْقِ، وِإنَّ مِنْ تَوْبَتي أن لا أحَدِّثَ إلَّا صِدْقاً مَا بَقِيتُ، فَواللهِ ما أعْلَمُ أحَداً مِنَ المُسْلِمِينَ أبلاهُ اللهُ في صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذلكَ لِرَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - أحسَنَ مِمَّا أبلانِي، ما تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى يَوْمِي هَذَا كَذِباً، وَإنِّي لأرْجُو أنْ يَحْفَظَنِي اللهُ فيما بَقِيتُ، وأنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ -إِلى قَوْلِهِ- وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي أبشر يا كعب بخير يوم مرَّ عليك في حياتك كلها " قلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله " لعله أراد هل أنزل الله تعالى في توبته عَليَّ قرآناً يتلى أم لا؟ فأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الله أنزل في توبته عليه وعلى صاحبيه قرآناً "وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سر استنار" أي ظهر السرور على محيّاه فأضاء وجهه الشريف إضاءة القمر المنير " قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي " أي أن أتصدق بكل مالي في سبيل الله " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمسك عليك بعض مالك " أي تصدق بالبعض فقط، وأبق عندك شيئاً من مالك لكي تنفق به على نفسك وعيالك، " فقلت: يا رسول الله إن الله نجَّاني بالصدق " أي بسبب أني صدقت القول معك واعترفت لَكَ أن لا عذر لي " فوالله ما أعلم أحداً من السلمين أبلاه الله في صدق الحديث " أي لا أعلم أحداً اختبره الله في الصدق(5/18)
فَوَاللهِ مَا أنْعَمَ اللهُ عليَّ مِنْ نِعمَةٍ قَطُّ بَعْدَ أنْ هَدَانِي للإسْلامِ أعْظَمَ في نَفْسِى مِنْ صِدْقِي لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ لا أكونَ كَذَبْتُهُ فَأهْلَكَ كَمَا هَلَكَ الذَّينَ كَذَبُوا، فَان اللهَ تَعَالى قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا، حِينَ أنزلَ الْوَحْيَ شَرَّ ما قَالَ لأحدٍ، فَقال اللهُ عَزَّ وَجَلَّ (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ -إِلى قَوْلِهِ- فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" أحسن مما أبلاني " أي أحسن مما اختبرني " وأنزل الله عز وجل على رسوله (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ -إِلى قَوْلِهِ- وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) " يعني وأنزل الله فينا قوله تعالى (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) وهذه منقبة كبرى، وشرف عظيم لنا، حيث أعلن الله تعالى توبته علينا في هذه الآيات الكريمة، وأنزل في حقنا قرآناً يتلى إلى يوم القيامة مكافأة لنا على صدقنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخلد ذكرنا وجعلنا مثلاً يحتذى، وأمر المؤمنين أن يكونوا صادقين مثلنا، فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) ثم قال كعب " فوالله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قط بعد أن هداني الله للإِسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا " يعني ما أعطاني الله نعمة بعد نعمة الإِسلام -في حياتي كلها- أعظم وقعاً في نفسي من كونه وفقني إلى الصدق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعصمني من الكذب فلم أهلك كما هلك الذين كذبوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - من المنافقين " فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي(5/19)
شرَّ ما قال لأحد" أي قال فيهم شر كلام قاله في أحد من البشر، ووصفهم بأقبح الصفات القبيحة " فقال الله عز وجل (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ -إلى قوله- فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) " يعني فقال الله في حقهم (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) وهذا شر مقال قاله الله في أحد من خلقه. حيث أمر عز وجل بالإِعراض عنهم وعدم معاتبتهم احتقاراً لهم، ثم أمر باجتنابهم، والابتعاد عنهم، لأنهم " رجس "، والرجس والنجس بمعنى واحد، ثم توعدهم أشد الوعيد في قوله (وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) ثم بيّن أن محاولتهم التخلص من التوبيخ والتأنيب، وإرضاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالأيمان الكاذبة لا تنفعهم في الدنيا ولا في الآخرة، لأن الله سيفضح أمرهم، ويهتك سترهم في هذه السورة التي سميت سورة الفاضحة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الإِمام إذا استنفر المسلمين للغزو لزمهم النفير، ولحق اللوم من تخلف منهم، ولذلك اشتد الغضب على من تخلف عن غزوة تبوك، وإن كان الجهاد في حد ذاته فرض كفاية، ولكن لما أمر - صلى الله عليه وسلم - بالنفير العام تعيّن الخروج على كل قادر عليه. ثانياًً: جواز ترك السلام على المذنب، وهجره أكثر من ثلاثة أيام. ثالثاً: فائدة الصدق وعاقبته الحميدة، فإن الله تعالى تاب على هؤلاء الثلاثة، وعفا عنهم بسبب صدقهم كما قال كعب: " إنما نجَّاني الله بالصدق ". رابعاً: شؤم الكذب وعاقبته الوخيمة، فإن المنافقين الذين اختلقوا الأعذار الكاذبة سرعان ما فضحهم الله وهتك سترهم، ووصفهم بأقبح الصفات في قوله تعالى (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) . خامساً: أن الخطأ لا يعالج بخطأ آخر، وِإلا تفاقم الشر، وتضاعف الخطأ، وأصبحت المعصية معصيتين، ولذلك آثر كعب الصدق لئلا يجمع بين ذنبين. سادساً: مشروعية التبشير بالخير والتهنئة بالنعمة كما فعل(5/20)
أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه القصة. سابعاً: استحباب سجود الشكر عند حدوث نعمة من النعم. ثامناً: استحباب المبادرة إلى الصدقة وأعمال البر والإِحسان عند التوبة لقول كعب رضي الله عنه: " إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله ". تاسعاً: قال ابن القيم: وقول كعب لامرأته الحقي بأهلك دليل على أنه لا يقع بهذه اللفظة طلاق ما لم ينوه. عاشراً: أن أمرهم باعتزال نسائهم في آخر المدة كما قال ابن القيم فيه تنبيه وإرشاد لهم إلى الجد والاجتهاد في العبادة، وشد المئزر، وفي هذا إيذان بقرب الفرج. الحادي عشر: قال ابن القيم: وفيه دليل على أن إعطاء البشير من مكارم الأخلاق والشيم وعادة الأشراف، وعلى تهنئة من تجددت له نعمة دينية، والقيام إليه إذا أقبل ومصافحته، فهذه سنة مستحبة، والأولى أن يقال له: ليهنك ما أعطاك الله، وما منّ الله به عليك، ونحو هذا الكلام. الثاني عشر: قال ابن القيم: فيه (1) دليل على أن خير أيام العبد على الإِطلاق، وأفضلها يوم توبته إلى الله، وقبول الله توبته، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمّك ". الثالث عشر: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك " دليل على أن من نذر الصدقة بكل ماله لم يلزمه إخراج جميعه، بل يجوز له أن يبقى منه بقية، ولم يعين له - صلى الله عليه وسلم - قدراً، ووكله إلى اجتهاده في قدر الكفاية، قال ابن القيم: وهذا هو الصحيح، فإن ما نقص عن كفايته وكفاية أهله لا يجوز له التصدق به، فنذره لا يكون طاعة فلا يجب الوفاء به، وفي الحديث فوائد كثيرة، فقد قال العيني: " فيه أكثر من خمسين فائدة " وما لا يدرك كله لا يترك جله. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الحديث المذكور هو حديث كعب المنصوص عليه في الترجمة.
__________
(1) " زاد المعاد في هدى خير العباد " لابن القيم.(5/21)
863 - " بَابُ مَرَض النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَوَفَاتِهِ "
1008 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ:
إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَيَّ انَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تُوُفِّيَّ في بَيْتي، وَفي يَوْمِي، وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وأنَّ اللهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، دَخَلَ عَلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَبِيَدِهِ السِّوَاكُ، وأنا مُسْنِدَة رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَرأيْتُهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
863 - " باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته "
1008 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مَرِضَ مَرَضَ موته (1) استأذن نساءه أن يمرّض في بيت عائشة، فأذنّ له تلبية لرغبته - صلى الله عليه وسلم -، فانتقل إلى بيته لتمرّضه، وتشرف على خدمته، وتشمله بعطفها وحنانها، وما زال في حجرتها حتى توفي على صدرها كما قالت رضي الله عنها في هذا الحديث " إن من نعم الله عليَّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي في بيتي " أي في حجرتي الخاصة بي " وفي يومي " أي وفي اليوم الذي هو يوم نوبتي كما جاء توضيح ذلك في رواية أخرى عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسأل في مرضه الذي مات فيه يقول: أين أنا غداً، يريد عائشة فأذن له أزواجه أن يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها " وبين سحري ونحري " بإسكان الحاء في الكلمتين، والسحر بسكون الحاء هو أعلى البطن، والنحر موضع العقد من الصدر، والمعنى: أنه - صلى الله عليه وسلم - فاضت روحه وهي محتضنة له - صلى الله عليه وسلم - على صدرها، ورأسه الشريف عند ذقنها، كما جاء في رواية أخرى " وإنه لبين حاقنتي وذاقنتي " أي ما بين بطني وذقني، " وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته " أى مزج بين الريقين معاً، فجعل ريقها رضي الله عنها يصل إلى فمه، وريقه
__________
(1) قال السهيلي: والوجع الذي كان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - هو الوجع الذي يسمى خاصرة وهو عرق في الكلية إذا تحرك وجع صاحبه.(5/22)
يَنْظر إليْهِ، وَعَرَفْتُ أنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ، فَقُلْتُ: آخذُهُ لكَ؟ فأشارَ بِرأسِهِ أنْ نَعَمْ، فتَنَاوَلْتُهُ، فاشْتَدَّ عَلَيْهِ، وقُلْتُ: أليِّنهُ لكَ؟ فَأشَارَ بِرأسِهِ أنْ نَعَمْ، فَلَيَّنتهُ، وَبَيْنَ يَدَيه رَكْوَة -أوْ عُلْبَةٌ يَشُكُّ عُمَر- فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدخِل - صلى الله عليه وسلم - يَدَيْه في الْمَاءِ، فَيمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ يَقُولُ - صلى الله عليه وسلم -: " لا إِلَهَ إلَّا اللهُ، إِنَّ لِلْمَوتِ سَكَراتٍ " ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ، فجعَلَ يَقُولُ: فِي الرَّفِيقِ الأعْلَى حتى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ - صلى الله عليه وسلم - "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- صلى الله عليه وسلم - يصل إلى فمها قبيل وفاته بلحظة قصيرة، وسبب ذلك قصة السواك التي ذكرتها في قولها: " دخل علي عبد الرحمن وبيده سواك وأنا مسندة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي مسندة له بصدري " فرأيته - صلى الله عليه وسلم - ينظر إليه " يعني إلى السواك " وعرفتُ أنه يحب السواك " أي عرفت من نظراته أنه يرغب أن يستاك في تلك اللحظة " فقلت آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم " أي فأشار برأسه إشارة معناها نعم " فتناولته " أي فأخذت السواك لكي أعطيه إياه " فاشتد عليه " أي السواك " فقلت: ألينه لك " أي هل تريد أن أليّن لك السواك فأمضغه بأسناني " فأشار برأسه أن نعم فلينته " أي فمضغته بأسناني حتى صار ليناً " وكان بين يديه رَكوةٌ (1) فيها ماء " أي قربة من جلد مملوءة ماء " فجعل يدخل يده، فيمسح بها وجهه " أي فيمسح وجهه بالماء ليخفف من شدة الألم الذى يعانيه " ويقول: لا إله إلا الله إنّ للموت سكرات " أي شدائد وأهوال وآلام عظيمة " ثم نصب يده " مدها على الأرض " فجعل يقول في الرفيق الأعلى " والرفيق الأعلى: الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، وقيل هو الجنة. وفي النهاية: هو جماعة
__________
(1) بفتح الراء.(5/23)
الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين. اهـ. كما أفاده الزبيدي (1) .
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه - صلى الله عليه وسلم - أقام أثناء مرضه في بيت عائشة، وقضى أيامه الأخيرة في حجرتها كما قالت رضي الله عنها: " إن من نعم الله تعالى عليّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري " إلخ. وقد روى أحمد في " مسنده " عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنه ليهون على (يعني الموت) أني رأيت بياض كف عائشة في الجنة " قال في المواهب اللدنية: فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحب عائشة حباً شديداً وإنما اختار النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يمرّض في بيت عائشة، لأن المريض يكون أثناء مرضه أحوج ما يكون إلى من يرتاح إليه نفسياً، وهي أحب الناس إليه. ثانياًً: أن للموت سكرات، وأن سكرات الموت أشد ما تكون على نفوس أحباب الله من أنبيائه وأوليائه وأصفيائه كما وقع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها لا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجه البخاري، قال القرطبي (2) : لتشديد الموت على الأنبياء فائدتان، إحداهما: تكميل فضائلهم، ورفع درجاتهم، وليس ذلك نقصاً ولا عذاباً، بل هو كما نجاء أن أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل. والثانية: أن يعرف الخلق مقدار ألم الموت، لأنه باطن، فلما ذكر الأنبياء الصادقون في (خبرهم) شدة ألمه عليهم مع كرامتهم على الله تعالى قطع الخلق بشدة الموت التي يقاسيها الميت. ثالثاً: أنه يجوز للإِنسان أن يشكو لزوجته أو لصديقه أو طبيبه ما يعانيه من شدة أو ألم أو مرض لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة رضي الله عنها: " لا إِله إلا الله إن للموت سكرات " فاشتكى من سكرات الموت، وأما ما روي عن جماعة من الشافعية "أن تَأوَّهُ المريض مكروهٌ، فقد قال النووي: هذا ضعيف أو باطل، فإن المكروه ما ثبت
__________
(1) " إتحاف السادة المتقين في شرح إحياء علوم الدين " للمرتضى الزبيدي.
(2) " شرح الصدور بشرح حال الموتى وأهل القبور " للسيوطي.(5/24)
فيه نهي مخصوص (1) ، وهو لم يثبت فيه ذلك. والحاصل أن إخبار المريض عن مرضه لا بأس به، وهو لا ينافي الرضا بقضاء الله وقدره، فكم من شاك وهو راض، وكم من ساكت وهو ساخط، والمعول في ذلك على عمل القلب اتفاقاً، لا على نطق اللسان، ا. هـ كما أفاده الحافظ. رابعاً: أن آخر كلمة قالها - صلى الله عليه وسلم - وهو على فراش الموت: اللهم في الرفيق الأعلى، قال السهيلي: وجدت في بعض (2) كتب الواقدي أن أول كلمة تكلم بها وهو مسترضع عند حليمة: الله أكبر، وآخر كلمة تكلم بها " في الرفيق الأعلى "، وفي رواية: " مع الرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً " وعلى هذه الكلمة فاضت روحه - صلى الله عليه وسلم -، ووَدَّع الحياة الدنيا والتحق بالرفيق الأعلى. وقد كانت وفاته - صلى الله عليه وسلم - كما قال صاحب المواهب
: يوم الإِثنين بلا خلاف وقت دخول المدينة في هجرته حين اشتد الضحى، ودفن يوم الثلاثاء، وقيل ليلة الأربعاء، وعند ابن سعد عن ابن شهاب: توفي - صلى الله عليه وسلم - يوم الإثنين حين زاغت الشمس ورثته عمته صفية رضي الله عنها بمراثي كثيرة، منها قولها:
ألَا يَا رَسُولَ اللهِ كُنْتَ رَجَاءَنَا ... وَكُنْتَ بِنَا بَرَّاً وَلَمْ تَكُ جَافِيَا
وَكُنْتَ رَحِيْماً هَادِياً وَمُعَلِّمَاً ... لِيَبْكِ عَلَيْكَ اليَوْمَ مَنْ كَانَ بَاكيا
فِدىً لِرَسُوْلِ اللهِ أُمِّي وَخَالَتِي ... وَعَمِّي وَخَالِي ثُمَّ نَفْسِي ومَآليا
ورثاه حسان بن ثابت رضي الله عنهما بقوله:
كُنْتَ السَوَادَ لِنَاظِري ... فَعَمَى عَلَيْكَ النَاظِرُ
مَنْ شَاءَ بَعْدَكَ فَلْيَمُتْ ... فَعَلَيْكَ كُنْتُ أُحَاذِرُ (3)
__________
(1) " المواهب اللدنية " ج 2.
(2) " الروض الأنف للسهيلي " ج 4.
(3) " المواهب اللدنية " للقسطلاني ج 2.(5/25)
1009 - عَنْ عَائِشَةَ وابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ:
" أنَّ أبَا بَكْير رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَبَّلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ مَوْتِهِ ".
864 - " بَاب آخِرُ مَا تكَلَّمَ بِهِ النبي - صلى الله عليه وسلم - "
1010 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ورثته السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنه بقولها:
مَاذَا عَلى مَنْ شَمَّ تربَةَ أحْمَدٍ ... أنْ لا يَشُمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا
صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِب لَو أنَّهَا ... صُبَّتْ عَلَى الأيامِ صِرْنَ لَيَالِيَا
الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قول عائشة رضي الله عنها: " من نعم الله تعالى عليَّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي في بيتي وفي يومي وبين سَحَري ونحري " إلخ.
1009 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة وابن عباس رضي الله عنهم في هذا الحديث: " أن أبا بكر رضي الله عنه قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته " أي أن أبا بكر دخل حجرة عائشة والنبي - صلى الله عليه وسلم - مسجى بثوبه، وقد فاضت روحه، والتحق بالرفيق الأعلى، فكشف الغطاء عن وجهه، وقبّله مودعاً له الوداع الأخير، وبكى كما رواية أخرى.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية توديع الميت وتقبيله وكشف الغطاء عن وجهه لتوديعه الوداع الأخير، لأن أبا بكر الصديق دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته، وكشف الثوب عن وجهه وقبله. ثانياً: جواز البكاء على الميت عند موادعته بشرط أن لا يكون فيه نياحة، فإن كان فيه نياحة فلا. والمطابقة: كما قال العيني في قوله: " بعد موته ". الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي والنسائي وابن ماجة.
864 - " باب آخر ما تكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - "(5/26)
كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ: " إنَّهُ لَمْ يُقْبَضُ نَبِي حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يُخَير " فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أفَاقَ فأشْخَصَ بَصَرَهُ إلى سَقْفِ الْبَيْتِ، ثُمَّ قَالَ: " الفهُمَّ الرفِيقَ الأعْلَى " فَقُلْتُ: إِذَاً لا يَخْتَارُنَا، وَعَرَفْتُ أنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذي كَانَ يُحَدِّثُنَا بِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ، قَالَتْ: فَكَانَتْ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا: " اللَّهُمَّ الَّرفِيقَ الأعلَى ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1010 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو صحيح " أي في حال صحته وسلامة جسمه " إنه لم يقبض نبي " أي لا يموت نبي " حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخيّر " بين البقاء في هذه الدنيا، والانتقال إلى الرفيق الأعلى " فلما نزل به " أي فلما صار في حال الاحتضار وأوشكت روحه أن تفيض إلى مولاها " غشي عليه " أي أغمي عليه " ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت " أي رفع بصره إلى سقف الحجرة، وثبت نظره إليه، وصار لا يطرف جفنه، ولا تتحرك عيناه " ثم قال: اللهم الرفيق الأعلى " أي أسألك الجنة ومرافقة عبادك الصالحين من الملائكة والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين " فقلت: إذن لا يختارنا (1) " أي فعلمت أنّه - صلى الله عليه وسلم - آثر الآخرة على الدنيا، وأنه خيّر فاختار كما كان يحدثنا.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن آخر ما تكلّم به - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يفارق الدنيا قوله " اللهم الرفيق الأعلى ". ثانياً: أنه - صلى الله عليه وسلم - خُيّر قبل وفاته كغيره من الأنبياء فاختار الانتقال إلى الدار الآخرة. والمطابقة: في قولها: فكانت آخر كلمة تكلم بها: اللهم الرفيق الأعلى. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي.
__________
(1) أي لا يختار البقاء معنا في هذه الدنيا.(5/27)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب التفسير "
التفسير لغة: كما قال الحافظ: التفْصيل، من الفسْر، وهو البيان، تقول: فسرت الشيء بالتخفيف، أفسِرُهُ (1) فسراً، وفسَّرته بالتشديد أفسِّره تفسيراً إذا بينته، وأصل الفسر نظر الطبيب إلى الماء -أي البول- ليعرف العلة.
والتفسير في لسان الشرع: كما قال بعضهم: علم يعرف به فهم كتاب الله تعالى المنزل، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه، واستمدادُه من علم النحو والصرف واللغة والبيان وأصول الفقه والقراءات والناسخ والمنسوخ إلى آخره.
ويقول شيخ الإِسلام ابن تيميّة: الاختلاف في التفسير على نوعين، منه ما مستنده المنقول فقط، ومنه ما يعلم بغير ذلك، والمنقول إما عن المعصوم أو غيره، فما كان منه منقولاً نقلاً صحيحاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قُبِل، وما لا بأن نقل عن أهل الكتاب، ككعب ووهب، توقفنا عن تصديقه وتكذيبه، وما نقل عن الصحابة فالنفس إليه أسكن مما نقل عن التابعين، لاحتمال أن يكون سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما التفسير بغير المنقول فهو بيان مقاصد القرآن استناداً إلى الفهم الصحيح القائم على معرفة لغة العرب وأساليبها، وعلوم القرآن ووجوه الإِعراب، والناسخ والمنسوخ، وأصول الفقه، والتشريع الإِسلامي إلى غير ذلك من العلوم والمعارف، ولا يقتصر هذا التفسير على مجرد النص الحرفي المنقول عن الصحابة والتابعين، وإنما يعتمد على الفهم الشخصي المستند إلى الكتاب والسنة.
أما التفسير الذي عناه البخاري: وترجم له بقوله " كتاب التفسير " فهو النوع الأوّل، وهو التفسير المأثور المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الصحابة أو التابعين، ولم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك إلَّا النزر اليسير، ومن أشهر مفسري الصحابة
__________
(1) تقول العرب: فسَرَ يَفْسِر على وزن ضرب يضرب.(5/28)
865 - " بَابُ مما جَاءَ في فَاتِحَةِ الْكِتَابِ "
1011 - عَنْ أبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قالَ:
كُنْتُ أُصَلِّي في الْمَسْجدِ، فَدَعَانِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ أجبه، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كَنْتُ أصَلي، قَالَ: " ألمْ يَقُلْ اللهُ (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ) ؟ ثُمَّ قَالَ لِي: " لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أعظَمُ السُّوَرِ في الْقُرآنِ قَبْلَ أن تَخرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ " ثُمَّ أَخذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبد الله بن عباس وكان تفسيرهم للقرآن إما سماعاً من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو اجتهاداً منهم والله أعلم.
865 - " باب ما جاء في فاتحة الكتاب "
1011 - ترجمة الراوي: وهو أبو سعيد الحارث بن المعلّي (1) الأنصاري (2) . قال ابن عبد البر: لا يعرف في الصحابة إلَّا بحديثين (3) ، توفي سنة 74 من الهجرة.
معنى الحديث: أنه بينما كان أبو سعيد بن المعلى يصلي في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناداه النبي - صلى الله عليه وسلم -أثناء الصلاة، فلم يجبه، فلما انتهى من صلاته لامه - صلى الله عليه وسلم -، وسأله: أي شيء منعك عن الإِجابة، فاعتذر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان في صلاة، والمصلي لا يتكلم في صلاته، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: ألم تعلم أن إجابة النبي واجبة، لأن الله أمر بإجابته قي قوله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ) ثم قال: " لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن
__________
(1) قال العيني: أصح ما قيل والله أعلم في اسمه الحارث بن نفيع بن المعلّى الأنصاري.
(2) وقد اختلف في اسمه، فقيل: رافع، وقيل الحارث، وقواه ابن عبد البر. (ع) .
(3) قال الحافظ في " الفتح ": وليس لأبي سعيد هذا في البخاري سوى هذا الحديث. (ع) .(5/29)
أنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ: ْ ألمْ تَقُلْ: " لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أعْظَمُ سُورَةٍ في الْقُرآنِ " قَالَ: " (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هِيَ السَّبْعُ المثَانِي والْقُرآنُ العَظِيمُ الذِي أوُتِيتُهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قبل أن تخرج من المسجد" ومعنى تعليمه إياها أنه يخبره بأنها سورة كذا " فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لأعلمنك سورة ... إلخ " أي فلما أراد الخروج ذكّرته بالوعد الذي وعدني به " قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) " يعني أن السورة التي هي أفضل سور القرآن وأعظمها شأناً، هي سورة الفاتحة " وهي السبع المثاني والقرآن العظيم " أي وهي السورة العظيمة التي قال الله تعالى فيها (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) فسماها بالسبع المثاني، لأنها سبع آيات تتكرر قراءتها في كل ركعة وفي كل صلاة، وسماها بالقرآن العظيم، لاشتمالها على وجازتها وقلة ألفاظها على أهم مقاصد القرآن الكريم من إثبات التوحيد، والنبوة، والمعاد، والعبادة المتضمنة لأركان الإِسلام.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب إجابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى في الصلاة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي سعيد لما لم يجبه وهو في الصلاة: " ألم يقل الله تعالى (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ) " فدل ذلك على أن إجابته واجبة في جميع الأحوال، ولا تبطل صلاته عند بعض الشافعية وبعض المالكية، لأن إجابته - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة حكم استثنائي خاص به. ثانياًً: أن للفاتحة أسماء كثيرة فمن أسمائها السبع المثاني والقرآن العظيم، وسورة الحمد، والشكر، والشافية، وأم القرآن وغيرها. ثالثاً: أن هذه السورة هي أفضل السور القرآنية في أهميتها، وكثرة ثوابها، وعظم نفعها، عاها الله بالسبع المثاني لأنها السورة الوحيدة التي تتكرر قراءتها في الصلوات الخمس دون غيرها، ولولا فضلها وأهميتها لما أوجب الله قراءتها في كل صلاة، وفي كل ركعة من الصلاة حيث(5/30)
" سُورَةُ الْبَقَرَةِ "
866 - " بَابُ قَولِهِ تعالى (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) "
1012 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن مَسْعُود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَأَلْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى؟ قَالَ: " أن تَجْعَلَ للهِ نِدَّاً وهوَ خَلَقَكَ " قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيم، قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قَالَ: " أن تَقْتُلَ وَلَدكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ " قُلْتُ: ثمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: " أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا تصح الصلاة إلَّا بها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " وأما فائدتها ونفعها فإنها رقية يستشفى بها، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي سعيد الخدري: " وما أدراك أنها رقية " ولذلك تسمى الشافية إلى غير ذلك من الفوائد. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " وهي السبع المثاني والقرآن العظيم " حيث ذكر بعض أسمائها.
" سورة البقرة "
866 - " باب قوله تعالى (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) "
ومعنى الآية: كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من التوحيد هو الحق الذي لا يشك فيه أحد، وحذف المفعول به ليكون المعنى أعم، ويقدر تقديرات كثيرة.
1012 - معنى الحديث: أن ابن مسعود رضي الله عنه سأل النبي(5/31)
867 - قَوْلُهُ تعَالَى (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- صلى الله عليه وسلم - عن أكبر الكبائر وأعظمها عقوبة عند الله تعالى فقال له: أكبر الكبائر على الإِطلاق الشرك بالله تعالى، ومعناه أن تجعل لله شريكاً أو نظيراً أو شبيهاً في عبادته أو أفعاله أو صفاته، أو تُشَبِّه الله بمخلوقاته، فتجعل له ولداً أو زوجة كما فعلت النصارى، فسأله ابن مسعود عن أكبر الكبائر بعد الشرك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " أن تقتل ولدك، تخاف أن يطعم معك " أي لئلا يضايقك في معيشتك، ويشاركك في طعامك، وذلك غاية الخسة وقسوة القلب، " قلت ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك " أي زوجته، لأنّك بذلك تجمع بين جريمتين الزنا والتعدي على حق الجار وخيانته في عرضه. الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " أن تجعل لله نداً ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الأصل الأوّل في جميع الأديان السماوية هو التوحيد، وهو ما يقتضيه العقل والفطرة السليمة، ويؤدي إليه العلم الصحيح، كما يدل عليه قوله: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) . ثانياًَ: أن الشرك أكبر الكبائر على الإِطلاق. ثالثاً: أن أكبر الكبائر بعد الشرك قتل الأولاد والزنا بحليلة الجار.
767 - " قوله تعالى: (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى) "
ومعنى الآية: أن الله امْتَنَّ على بني إسرائيل بوقايتهم من حرارة الشمس حيث سخّر لهم السحاب يتظلَّلون به وأَمَّنَ لهم طعامهم دون عناء، فأنزل عليهم المنّ يتساقط عليهم كالثلج من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأنزل عليهم السلوى، وهو طائر كالسُّماني، فكانوا(5/32)
1013 - عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " الْكَمْاة مِنَ المَنِّ وَمَاؤهَا شِفَاء لِلْعَيْنِ ".
868 - " بَابٌ (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) "
1014 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا البَابَ سُجَّداً وَقُولُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ينعمون بذلك الغذاء دون مشقة أو عناء.
1013 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " الكمأة من المن " وهي نبْتَة خلوية تنبت في الصحراء دون استنبات وتكثر في الربيع عند نزول الأمطار، وتتابع العواصف الرعدية، ويسميها العرب نبات الرعد، وهي أنواع كثيرة، منها ما يسمونه " الفقع " ويكثر في الأراضي النجدية وأواسط الجزيرة العربية، وتؤكل نيئةً ومطبوخة، وقد أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أنها من المن، قال الكثيرون شبهها بالمن الذي أنزل عليهم لأنّها تنبت دون استنبات.
فقه الحديث: دل الحديث على أن الكمأة من النعم التي أنعم الله بها على هذه الأمة، فيسر لهم الحصول عليها دون عناء، كما سخر المن لبني إسرائيل دون تعب أو مشقة. والمطابقة: في قوله: " من المن ". الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي.
868 - " باب (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ) "
1014 - معنى الحديث: أن بني إسرائيل أمروا أن يدخلوا بيت(5/33)
حِطَّةٌ، فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ علَى أسْتَاهِهِمْ فبدلوا، وَقَالُوا: حِطَّةٌ حَبَّةٌ فِى شَعَرَةٍ".
869 - بَابُ (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا)
1015 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقرَؤونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرونَهَا بِالعَرَبِيَّةِ لأهْلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المقدس ساجدين شاكرين قائلين حطة. أي اللهم حط عنا ذنوبنا، فدخلوا زاحفين وهم يقولون مستهزئين ساخرين: حبة في شعيرة. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تفسير هذه الآية الكريمة. ثانياً: إمعان بني إسرائيل في الضلال والاستخفاف بأوامر الله واستهتارهم بأحكامه. والمطابقة: في قوله: " فبدلوا وقالوا: حبة في شعير ".
869 - " باب (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) "
أي قوله تعالى (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة: 136] .
ومعنى هذه الآية إجمالاً: أن الله تعالى أمرنا أن نقول لأهل الكتاب إننا آمنا بالله وبرسولنا - صلى الله عليه وسلم - وكتابنا، كما آمنا بما أنزل على الأنبياء السابقين من الكتب السماوية، وصدقنا بأنّها منزلة من عند الله تعالى.
1015 - معنى الحديث: أن بعض علماء اليهود بالمدينة كانوا يقرؤون على المسلمين بعض نصوص التوراة، ويترجمونها لهم إلى العربية، ولعل ذلك أسلوب من أساليب التبشير بالدين اليهودي فلما سمع بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر(5/34)
الإِسْلَام، فَقَالَ رسَولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لا تُصَدِّقُوا أهْلَ الكِتَابِ ولا تُكَذبُوهُمْ (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) " الآيَة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أصحابه أن يقفوا من ذلك موقف الحيطة والحذر، فلا يُصدقُونهم فيه ويأخذونه منهم قضية مسلمة لأن التوراة قد أدخل عليها الكثير مما ليس فيها، ولا يكذبونهم فيه لاحتمال أن يكون من بقية الوحي السماوي الذي أنزل على موسى، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم " لأنه يحتمل الصدق والكذب، هذا إذا لم يكن مخالفاً للقرآن والسنة الصحيحة، وإلا فإنه في هذه الحالة يرفضُ تماماً، لأنه كذب صريح، أو كان موافقاً لهما موافقة صريحة، فإنه يقبل ويصدق، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) أي (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) .
فقه الحديث دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن التوراة التي كانت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والتي هي موجودة في زماننا هذا، والنصوص والأخبار التي فيها ليست كلها صحيحة منزلة من عند الله تعالى، لأنها لم تبق على حالتها الأصلية التي كانت عليها عندما ما أنزلت على موسى، كما أنها ليست كلها باطلة، لأن فيها بقايا صحيحة مما أنزل على موسى، ونحن معاشر المسلمين نقف منها موقف الحق والعدل والإنصاف، فأما ما وافق القرآن فهو حق لا شك فيه، وهو من الوحي الذي أنزل على موسى، وقدْ أوجب الله علينا في الآية الكريمة أن نؤمن به، وأما ما خالف القرآن فهو باطل، وأمّا ما لم يخالف ولم يوافق فيحتمل الصدق والكذب. ثانياًً: هذا الحديث أصل في وجوب التوقف عما يشكل من الأمور (1) فلا نحكم عليه بصحة ولا بطلان، ولا بتحليل
__________
(1) كما نقله العيني عن الخطابي في " شرحه على البخاري " ج 18.(5/35)
870 - " بَابُ قَوْلِهِ تعَالَى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) "
1016 - عنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيقُولُ: لَبيكَ وسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ، فَيقولُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لأمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: ما أتَانَا مِنْ نَذِيرٍ، فَيَقُولُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّد وَأمَتّهَ، فَيشْهَدُونَ أنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وَيَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولا تحريم، وقد كان السلف يتوقفون في بعض ما أشكل عليهم، فلما سئل عثمان عن الجمع بين الأختين في ملك اليمين، قال: أحلتهما آية وحرمتهما آية، ولما سئل ابن عمر عن رجل نذر أن يصوم كل اثنين، فوافق ذلك اليوم يوم عيد، فقال: أمر الله بالوفاء بالنذر، ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم العيد، فهذا مذهب من يسلك طريق الورع. اهـ. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في قوله: وقولوا (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) الآية.
870 - " باب قول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) "
1016 - معنى الحديث: أن الله يوم القيامة ينادي نوحاً فيجيبه بقوله: لبيك وسعديك، أي: إجابة بعد إجابة، وإسعاداً بعد إسعاد، فيكرر الإجابة مرتين للتأكيد، على أنه طوع أمره، فيسأله عز وجل: هل بلغ رسالته لقومه؟ فيقول: نعم، فيسأل قومه، فينكرون، فيطالبه بالبينة، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيسأل رب العزة والجلال أمة محمد أن يدلوا بشهادتهم، فيشهدون على أن نوحاً بلّغ رسالة ربه، فيقال لهم: وما علمكم(5/36)
شَهِيداً، فَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) وَالْوَسَطُ: العَدْلُ ".
" تفسير سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ "
871 - " بَابُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ) "
1017 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
تَلا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هَذِهِ الآية (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بذلك، فيقولون: أخبرنا نبينا أن الرسل قد بلغوا فصدقنا، وهكذا تشهد هذه الأمة للأنبياء بالتبليغ، ويشهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها بالعدالة، فيزكيها، فذلك قول الله عز وجل (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) أي ومن جملة النعم التي أنعم الله تعالى بها عليكم يا أمة محمد أن جعلكم عدولاً أمناء لتشهدوا على الناس يوم القيامة بتبليغ الرسل لهم ما أنزل عليهم.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تفسير الآية الكريمة. ثانياًً: عدالة هذه الأمة واختيارها للشهادة على الأمم الأخرى، وهذا شرف عظيم. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي. والمطابقة: في قوله: " فيشهدون أنه قد بلغ ".
871 - " باب قوله عز وجل: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ) "
ذكر البخاري هنا من الأحاديث ما يتعلق بتفسير قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا(5/37)
آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ) إلي قَوْلِهِ: (أُولُو الْأَلْبَابِ) قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " فَإِذَا رَأيْتُ الَّذِيْنَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهُ مِنْهُ، فأولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فاحْذَرُوهُمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) ومعنى الآية كما قال السعدي (1) أن الله أنزل القرآن محتوياً على المحكم الواضح المعنى، وعلى المتشابه الذي يحتمل معان متعددة لا يتعين أحدهما حتى يضم إلى المحكم، فأمّا أهل الزيغ والضلال فإنهم يعمدون إلى المتشابه فيستدلون به على مقالاتهم الباطلة، وأما أهل العلم الراسخ واليقين الثابت، فإنهم لا يأخذون إلَّا بالآيات المحكمة، ويردون المتشابه إلى المحكم، ويفسرونه به لأنهم يعلمون أن القرآن كله من عند الله، فإذا خفيت عليهم آية متشابهة فسروها بآية أخرى محكمة.
1017 - معنى الحديث: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرأ قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) إلخ الآية، ثم حذر علماء أمته أن يعتمدوا على الآيات المتشابهة، ويستدلوا بها على العقائد والأحكام، لأنها تحتمل معان مختلفة، والدليل إذا طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال، وقد بالغ - صلى الله عليه وسلم - في التحذير والتنفير من ذلك وأمر باجتناب من يفعله فقال - صلى الله عليه وسلم -: " إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه " أي إذا رأيت الذين يتقصدون الآيات المتشابهة ليستدلوا بها على مذاهبهم الباطلة، كما يفعل الخوارج والمعتزلة وغيرهم من أهل البدع والأهواء " فأولئك الذين سمّى الله فأحذروهم " أي فأولئك الذين وصفهم الله بالزيغ والضلال في قوله تعالى:
__________
(1) " تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن " للشيخ عبد الرحمن السعدي.(5/38)
(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) .
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من الزيغ والضلال الاعتماد على المتشابه في العقائد والأحكام، لأن الله تعالى قد وصف من يفعل ذلك بالزيغ، فقال عز وجل: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) وقال - صلى الله عليه وسلم - مؤكداً ذلك، إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمّى الله. ثانياً: التحذير الشديد من الإِصغاء إلى الذين يتبعون المتشابه وسماع كلامهم لقوله فاحذروهم، قال الحافظ: وأول ما ظهر ذلك في الإِسلام من الخوارج. ثالثاً: أن الاعتماد في العقائد والتشريع على المحكم من آيات القرآن الكريم، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما حذر من الاعتماد على المتشابه دل ذلك على أن المحكم هو الأصل الذي يعتمد عليه، ويحتج به في الأحكام اعتقادية كانت أو عملية، كما قال تعالى: (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) أي أصله (1) الذي يعتمد عليه. والقول الصحيح الذي عليه أهل السنة كما قال العلامة السعدي (1) إن المتشابه إذا وجدنا في مقابله نصاً محكماً، وجب أن نرده إليه، ونحمله عليه، ونفسره به، كقوله تعالى: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) فإن قوله: (فَنَسِيَهُمْ) من المتشابه الذي يقابله من المحكم قوله عز وجل: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) فنرد المتشابه إلى المحكم، ونفسره بمقتضاه، فيكون معنى قوله: (فَنَسِيَهُمْ) أي حرمهم من فضله، ومنعهم من رحمته، لأن الله لا ينسى، كما دلت عليه الآية المحكمة، فوجب صرف النسيان إلى معنى يتفق معها، ويليق بجلال الله سبحانه وتعالى. اهـ. وإن لم نجد ما يقابله من المحكم كأوائل السور فإننا نتوقف عن تفسيره، ونقول: الله أعلم بمراده، لأنه مما استأثر الله بعلمه، فإنما وقع في الزيغ والضلال من وقع من الكفار وأهل البدع والأهواء بسبب احتجاجهم بالآيات المتشابهة دون الرجوع إلى المحكمات التي هي أم الكتاب،
__________
(1) " تيسير الكريم الرحمن " للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي.(5/39)
872 - " بَاب (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) "
1018 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخاً مِنْ مَسِّ الشيطانِ إِيَّاهُ، إلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا " ثُمَّ يَقُولُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو تفسير ما لم يكن إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه، دون خلقه، فمن الأول ما رواه ابن جرير عن الربيع أن الوفد الذين قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نصارى نجران خاصموا النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: ألست تزعم أنّه -أي عيسى- كلمة الله وروح منه، قال: بلى، قالوا: فحسبنا، فأنزل الله عزّ وجل (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ) ، ثم إن الله جل ثناؤه أنزل (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) الآية: ومن الثاني: ما روي أن أبا ياسر بن أخطب وحيي بن أخطب ونفراً من اليهود ناظروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قدر مدة أجله وأجل أمته وأرادوا علم ذلك (1) من قوله تعالى: (الم) و (المص) و (الر) فقال جل ثناؤه فيهم (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) يعني فأما هؤلاء اليهود الذين قلوبهم مائلة عن الهدى والحق فيتبعون ما تشابه منه من معاني هذه الحروف المقطعة المحتملة للوجوه المختلفة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في قوله: " إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه ".
872 - " باب. (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) "
1018 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مولود يولد إلّا
__________
(1) " تفسير الطبري " ج 3.(5/40)
أبو هُرَيرَة: واقْرؤوا إِنْ شِئْتُمْ (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) .
873 - بَابُ (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ)
1019 - عنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
(حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) قَالَهَا إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلام حِينَ ألقِيَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والشيطان يمسه " أي ينخسه ويطعنه في جنبه " فيستهل صارخاً " أي فيرفع صوته بالبكاء عقب الولادة مباشرة بسبب ذلك النخس الذي نخسه به الشيطان " إلاّ مريم وابنها " عيسى، فإن الله عصمهما منه عند الولادة، لدعوة امرأة عمران إذ قالت: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) فاستجاب الله دعوة امرأة عمران، فحفظ مريم وابنها " المسيح " من نخس الشيطان، كما جاء في رواية مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من مولود يولد إلاّ نخسه الشيطان إلّا ابن مريم وأمه " ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) وفي رواية البخاري: " كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بأصبعه حين يولد غير عيسى بن مريم، ذهب يطعن فطعن في الحجاب، وهو غشاء الجنين. فقه الحديث: قال القرطبي في تفسيره: أفاد هذا الحديث أن الله تعالى استجاب دعاء أم مريم، فإن الشيطان ينخس جميع ولد آدم حتى الأنبياء والأولياء (1) إلَّا مريم وابنها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في كون الحديث مفسِّراً للآية الكريمة.
873 - " قوله: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) "
1019 - معنى الحديث: أن البخاري يروي بسنده المتصل هذا
__________
(1) " تفسير القرطبي " ج 4.(5/41)
في النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حينَ قَالُوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ".
874 - " بَابٌ (لَا تَحْسَبَنَّ (1) الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا) "
1020 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أن رِجَالاً مِنَ الْمُنَافِقِينَ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا خَرَجَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث " عن ابن عباس " رضي الله عنهما أنّه قال: " حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار " أي أن هذه الكلمة العظيمة قالها: نبيان هما أشرت الأنبياء في أشد المواقف محنة وابتلاءً حيث قالها إبراهيم الخليل وهو يلقى في النار، فأنجاه الله منها، وكانت برداً وسلاماً " وقالها محمد حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم " أي عندما تجهّز إلى بدر الصغرى، فأتاه المنافقون، وقالوا: نهيناكم عن الخروج في أحد فعصيتمونا فظفروا بكم، وأنتم في دياركم والآن وهم في ديارهم، وقد جمعوا الجموع الكثيرة " فاخشوهم " أي احذروا الخروج إليهم، وإلا لم يرجع منكم أحدٌ " فقالوا حسبنا الله " أي كافينا الله إياهم. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على سبب نزول الآية، وعلى أنّ من توكل على الله كفاه. والمطابقة: في كون الحديث دل على سبب نزول الآية الكريمة.
874 - " باب (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا) "
أي هذا باب ما جاء في تفسير قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ
__________
(1) بالتاء والياء قراءتان سبعيتان. والفاعل على الأولى ضمير المخاطب، وعلى الثانية الذين. اهـ. كما في " حاشية الجمل على الجلالين ".(5/42)
رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى الْغَزْوِ، تَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -، فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَحَلَفُوا، وأَحَبُّوا أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، فَنَزَلَتْ (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) الآيَة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
1020 - معنى الحديث: أن جماعة من المنافقين كانوا يقعدون عن الغزو معه - صلى الله عليه وسلم - فرحين بتغيبهم عن المعركة التي خرج إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا عاد - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة اعتذروا إليه بالأعذار الكاذبة، وحلفوا على ذلك الأيمان الفاجرة، فقبل منهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أعذارهم، فازدادوا فرحاً وسروراً لما حصلوا عليه من الحمد والثناء لأنهم يحبون المديح دون عمل مقابل، فنزل (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا) إلى آخر الآية، والمعنى لا تظنن أيها الرسول الكريم أن هؤلاء المنافقين الذين يفرحون بما فعلوه من التخلف عن الغزو معك، ومخادعتك بالأعذار والأيمان الكاذبة، ويحبون الحصول على ثنائك عليهم، دون عمل صالح يستحقون عليه هذا الثناء، لا تظنن أنهم بمنجاة من عذاب الله، فإنهم سيلقون عذاباً شديداً بالنار وبئس القرار. الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان سبب نزول الآية وتفسيرها. ثانياً: الوعيد الشديد لكل من يريد أن يمدحه الناس بما ليس فيه، وأنها صفة ذميمة من صفات المنافقين والمرائين في كل عصر ومصر. ثالثاً: قال الشيخ السعدي في تفسيره: دلت الآية بمفهومها على أن من أحب أن يحمد ويثنى عليه بما فعله من الخير إذا لم يكن قصده بذلك الرياء والسمعة أنه غير مذموم، بل هذا من الأمور المطلوبة التي أخبر الله أنه يجزي بها المحسنين في الأعمال(5/43)
" تفسير سُورَةِ النِّسَاءِ "
875 - " بَابٌ (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى) "
1021 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنَّهَا سَألهَا عُرْوَةَ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى) قَالَتْ: يَا ابْنَ أخْتِي، هَذِهِ اليَتيمَةُ تَكُونُ في حَجْرِ وَلِيِّهَا تَشْرَكُهُ في مَالِهِ، وَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أن يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أنْ يُقْسِطَ في صَدَاقِهَا فَيُعْطِيْهَا مِثلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فنُهوا عَنْ أنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ، وَيَبْلُغُوا لَهُنَّ أعْلَى سُنَّتِهِنَّ في الصَّدَاقِ، فَأمِرُوا أن يَنْكِحُوا ما طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والأقوال (1) ، وأنه جازى بها خواص خلقه، وسألوها منه كما قال إبراهيم عليه السلام: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) . والمطابقة: في كون الحديث دل على سبب نزول الآية.
875 - " باب (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى) "
1021 - معنى الحديث: أن عروة سأل عائشة رضي الله عنها عن معنى قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) فقالت: معناها أن تكون الفتاة في كفالة رجل من أوليائها، وتكون شريكة له في ماله، وهي وسيمة جميلة فيرغب في جمالها، ويريد أن يتزوجها، ولكن لا يريد أن يعدل في صداقها فيعطيها مهر مثيلاتها، فأمره الله تعالى بأحد أمرين: إما أن ينصفها من نفسه، فيتزوجها بأعلى مهر
__________
(1) " تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان " لعلامة القصيم للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي.(5/44)
876 - " بَابُ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) الآيَة "
1022 - عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ نَاساً مِنَ المُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يُكَثِّرونَ سَوَادَ المُشْرِكِينَ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأتِي السَّهْمُ فَيُرْمَى بِهِ فَيُصِيبُ أحَدَهُمْ فَيَقْتُلُه، أو يُضْرَبُ فَيُقْتَلَ فأنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مثيلاتها، أو يتركها ويتزوج غيرها من النساء، والنساء كثيرات.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تفسير الآية الكريمة وبيان سبب نزولها. ثانياًً: أن اليتيمة إذا كانت في حجر وليها لا يجوز له أن يتزوجها بأقل من مهر المثل. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث تفسيراً للآية.
876 - " باب (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) الآية "
1022 - معنى الحديث: أن ابن عباس رضي الله عنهما يفسّر لنا قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ) ، ويبيّن سبب نزولها، فيقول رضي الله عنهما إن جماعة من المسلمين كانوا قد تخلفوا في مكة، ولم يهاجروا إلى المدينة، فكانوا إذا وقعت غزوة خرجوا مع المشركين فيها، فإذا أطلق المسلمون سهامهم أصيب هؤلاء بتلك السهام، فقتلوا في صفوف المشركين، فأنزل الله تعالى في حقهم: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ(5/45)
" تفسير سُورَةِ المَائِدَةِ "
877 - " بَابٌ (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) "
1023 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
مَنْ حَدَّثَكَ أنَّ مُحَمَّداً كَتَمَ شَيْئَاً مِمَّا أنْزِلَ عَلَيْهِ فَقَدْ كَذَبَ، وَاللهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) .
وأخبرنا أن الذين قبضت الملائكة أرواحهم، وهم في دار الشرك، حالة كونهم ظالمي أنفسهم، برضاهم الإقامة هناك، وإيثارهم الدنيا على الهجرة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هؤلاء قالت لهم الملائكة توبيخاً وتأنيباً: في أي مكان كنتم؟ قالوا معتذرين: كنا مستضعفين مستذلّين في مكة، فلم نقدر على إقامة الدين وواجباته، فقالت لهم الملائكة: ألم تكن أرض الله التي يمكنكم فيها القيام بواجبات الدين واسعة فتهاجروا فيها، ولكنكم رضيتم، وآثرتم الدنيا على نصرة الحق، فأولئك جزاؤهم جهنم وبئس المصير مصيرهم.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تفسير الآية الكريمة وسبب نزولها. ثانياً أنه يجب على المسلم أن يهاجر من البلاد التي لا يتمكن فيها من إقامة شعائر دينه. فالهجرة في هذه الحالة واجبة ولا يستثنى من ذلك سوى الشيوخ والعجزة من النساء والولدان الذين لا يستطيعون الهجرة، وقد ضاقت بهم الحيل. ثالثاً: أن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت واجبة قبل الفتح لأنها لم تكن دار إسلام. الحديث: أخرجه النسائي أيضاً. والمطابقة: في كون الحديث تفسيراً للآية الكريمة وبياناً لسبب نزولها.
877 - " باب (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) "
1023 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها تقول: من أخبرك أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - أخفى شيئاً من الوحي عن أمته فقد كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد(5/46)
يَقْول (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الكذب، واتهمه بالخيانة ومخالفة أمر الله تعالى، لأنّ الله عز وجل قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في محكم كتابه (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) وذلك هو قولها " من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل عليه فقد كذب " أي فقد كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد الكذب حيث اتهمه بالكتمان الذي هو مخالفة لأمر الله تعالى له بالتبليغ، وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - أن يكتم شيئاً بعد أن أمره الله تعالى بتبليغ جميع ما أنزل عليه.
فقه الحديث: دل فذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من شهادة أن محمداً رسول - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بأنه - صلى الله عليه وسلم - قد أدى الأمانة وبلّغ الرسالة، ولم يترك شيئاً من الوحي إلاّ بلغه لأمته امتثالاً لأمر ربه حيث أمره الله تعالى بذلك في قوله عز وجل (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ثانياًً: أن من أشد الكذب على رسول الله وأعظم الافتراء عليه القول بأنه - صلى الله عليه وسلم - كتم شيئاً من الوحي، لأن من قال هذا فقد نسب النبي إلى مخالفة أمر الله بكتمان الوحي الذي أمر بتبليغه، وهذا طعن في عصمته ورسالته، ومن شروط الرسالة العصمة في التبليغ، ولعل عائشة رضي الله عنها علمت بوجود بعض الفرق التي تقول بذلك، فإن بعض غلاة الشيعة كانوا يتحدثون أن عند علي وآل بيته من الوحي ما خصهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - دون الناس، وقد سئل علي رضي الله عنه - كما في الصحيحين: " هل خصكم الرسول بشيء فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلاّ فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قال السائل: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر ". الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - ما دام قد أمر أن يبلغ ما أنزل إليه فإنه لا بد أن يبلغ كل شيء من الوحي، ومن ادّعى أنه كتم شيئاً(5/47)
878 - " بَابُ قَولِهِ تعالى (لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) "
1024 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن مَسْعُود رَضِيَ اللهُ عَنْه قَالَ:
" كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولَيْسَ مَعَنَا نِسَاء، فَقُلْنَا: ألا نَخْتَصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، فَرَخَّصَ لَنَا بَعْدَ ذَلِكَ أنْ نَتَزَوَّجَ الْمَرْأةَ بالثَّوْبِ، ثُمَّ قَرَأ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من ذلك فقد كذب عليه.
878 - " باب قوله تعالى: (لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) "
1024 - معنى الحديث: يقول ابن مسعود رضي الله عنه: " كنا نخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس معنا نساء فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك " أي كنا نخرج إلى الغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فنفارق نساءنا فنعاني كثيراً، فسألنا النبي - صلى الله عليه وسلم - واستأذناه في الاختصاء " فنهانا عن ذلك " لا فيه من القضاء على شهوة الجنس، وتعطيل النسل الذي يتوقف عليه بقاء النوع الإنساني، " فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب " أي وأباح لنا نكاح المتعة، وقد كان ذلك مشروعاً، ثم نسخ في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - " ثم قرأ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) " ومعنى هذه الآية الكريمة أن الله نهى المؤمنين عن تحريم ما أحل الله لهم من طيبات هذه الحياة سواء كانت من المأكولات، أو الملبوسات أو المشروبات المباحة، أو المنكوحات المشروعة، ونهاهم أن يتخذوا من الأسباب ما يحول بينهم وبين الرغبة في النساء، من الاختصاء وغيره، وحرّم عليهم ذلك لما فيه من القضاء على التناسل الذي يتوقف عليه بقاء النوع الإِنساني في هذه الأرض وهو جريمة تتعارض مع شريعة الله في المحافظة على النسل، فإن(5/48)
الله قد خلق هذه الغرائز في الإنسان، وأراد لها أن تبقى لتؤدي دورها في هذه الحياة بما يحقق للإنسان سعادته في الدنيا والآخرة، فالغرائز هي مقومات الحياة، وإذا استعملت على الوجه الصحيح الذي يتفق مع منهج الشريعة كانت محبباً لجميع الطاعات، والأعمال الصالحة، فلولا تغذية الجسد بالمأكولات والمشروبات لفقد الجسم قدرته على عبادة الله، ولولا النكاح لما كان هناك تناسل ولا نوع من البشر يعبد الله، ويجاهد في سبيله، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم " ولهذا قال بعضهم: الاعتداء المنهي عنه في قوله تعالى: (وَلَا تَعْتَدُوا) هو محاولة بعض الصحابة الاختصاء كما جاء في الحديث. والحاصل أن الاعتداء يشمل أمرين: الاعتداء في الشيء نفسه بالإِسراف فيه والاعتداء بتجاوزه إلى غيره مما ليس من جنسه وهو الخبائث. اهـ.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن نكاح المتعة كان موجوداً، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رخص لأصحابه فيه عندما خرجوا إلى الغزو وتركوا نساءهم في المدينة فشكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يعانونه، واستأذنوه في الاختصاء فنهاهم عنه، ورخص لهم في نكاح المتعة، ثم نسخ في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثانياً: أنه يحرم الغلو في الدين، والتضييق على النفس البشرية وحرمانها من طيبات الحياة التي أحلّها الله، وقد كان ذلك من العبادات المأثورة عند قدماء اليهود واليونان، قلدهم فيها النصارى فشددوا على أنفسهم، وحرموا عليها ما لم تحرمه الكتب المقدسة. ولما جاء الإِسلام أباح للبشر الزينة والطيبات، وأرشدهم إلى إعطاء البدن حقه، والروح حقها، ولذلك كانت الأمة الإسلامية وسطاً بين جميع الأمم. وروى ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية الكريمة " أن نفراً من الصحابة حرّموا على أنفسهم الطيبات بأيمان حلفوا بها، فقالوا: كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها، فأنزل الله تعالى ذكره (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) الآية، وفي هذا حجة ظاهرة لمن يقول من حلف على ترك جنس من(5/49)
879 - " بَابُ قَولِهِ (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) "
1025 - عَنْ أنسٍ بْنٍ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
"مَا كَانَ لَنَا خَمْرٌ غيْرُ فَضِيخِكُمْ هذا الذي تُسَمُّونَهُ الْفَضِيْخَ فإنِّي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المباحات يجب عليه أن يحنث في يمينه، ولا كفارة عليه، لأنها يمين لغو لا كفارة فيها. ثالثاً: أن تهذيب النفس لا يكون بالغلو والحرمان من الطيبات وإنما بإيقافها عند حد الاعتدال دون إفراط ولا تفريط لأنه تعالى لم يخلق هذا الإِنسان ملكاً مجرداً عن النوازع البشرية وإنما خلقه مركباً من روح وجسد، ولا سلامة للعقل والروح وسائر القوى إلاّ بسلامة البدن، وصحة الجسم، كما أنه لا عبادة ولا طاعة إلا في جسم سليم وعقل سليم، ولذلك حرم على الإِنسان كل ما يضر بجسمه، لأن من ضعف جسمه عجز عن الطاعات وسائر العبادات، وربما قصر في أداء واجباته الاجتماعية فلا بد من إعطاء الجسم حقه من الحياة والتمتع بالطيبات المباحة ليقوم بواجباته الدينية والاجتماعية التي هو مكلف بها لئلا يضعف عن أدائها. والمطابقة: في قوله: " فقلنا ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك " حيث دل ذلك على أن الاعتداء المنهى عنه في الآية هو الاختصاء. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
879 - " باب قوله: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) "
ومعناها: أن الله تعالى يخبرنا وهو أصدق القائلين أن الخمر من أي مادة كانت، والقمار بجميع أنواعه، والأصنام التي تعبد من دون الله، كل ذلك أشياء قذرة خبيثة ضارة بأصحابها، وإنما يزينها الشيطان لذوي النفوس الضعيفة والعقول السخيفة، ولذلك حرّمها الله وحذر منها أشد التحذير بقوله:(5/50)
لَقَائِمٌ أسْقِي أبا طَلْحَةَ وَفُلاناً وفُلاناً، إذ جَاءَهُ رَجُل فَقَالَ: وَهَلْ بَلَغَكُم الخَبرُ؟ قَالُوا: ومَا ذَاكَ؟ قَالَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، قَالُوا: أهْرِقْ هَذِهِ القِلَالِ يَا أنسُ، فَمَا سَألوا عَنْهَا، ولا رَاجَعُوها بَعْدِ خَبَرِ الرَّجُل".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" (فَاجْتَنِبُوهُ) " أي ابتعدوا عن مجرد القرب منها، فضلاً عن شرب الخمر، أو لعب القمار، أو عبادة الأصنام " (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) " أي لكي تفوزوا بدخول الجنة والنجاة من النار.
1025 - أما معنى الحديث: فيقول أنس رضي الله عنه: " ما كان لنا خمر غير فضيخكم " " يعني " أن الخمر التي كانوا يشربونها بالمدينة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وحرمها الله بقوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) كانت من ثمار النخل على اختلاف أنواعها رطباً وتمراً، ومنها الفضيخ وهو يصنع من الرطب ثم ذكر رضي الله عنه اليوم الذي حرمت فيه الخمر بالمدينة، وأنه بينما كان قائماً يسقي أبا طلحة وضيوفه من شراب الفضيخ هذا (1) . إذ قدم عليهم رجل فأخبرهم بتحريم الخمر، فأمره أبو طلحة أن يريق تلك الجرار الكبيرة التي كانت مملوءة بالشراب، أما النفر الذين كانوا يشربون عند أبي طلحة، وهم أبو دجانة وسهيل ابن بيضاء وأبو عبيدة وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبو أيوب رضي الله عنهم فإنهم لما وصلهم خبر تحريمها والكؤوس في أيديهم كفّوا عن شربها حالاً وأراقوا ما فيها ... فقالوا: انتهينا ربنا، انتهينا قال أنس: " ولا راجعوها بعد خبر الرجل " أي انتهوا عنها إلى الأبد ولم يعودوا إليها بعد نزول الآية الكريمة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على بيان معنى الخمر المحرَّمة في الآية الكريمة. وأنها كل شراب مسكر من أي مادة كانت، سواء كان من العنب أو
__________
(1) وهو شراب يصنع من البسر أي الرطب الطري.(5/51)
" تفسير سورة الأنعام "
880 - " بَابُ قَوْلِهِ تَعالَى (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) "
1026 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن مَسْعُود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
"لا أحَدَ أغْيَرُ مِنَ اللهِ، ولذَلِكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من غيره، وأنه لا يلزم أن تكون من العنب، فإن الخمر التي كانت موجودة في المدينة، والتي حرمت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن مصنوعة من العنب، وإنما كانت من البسر. ولهذا قال الجمهور: كل مسكر خمر، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: " الخمر ما كان من العنب خاصة ". وقد جاء التصريح في الأحاديث الصحيحة: أن الخمر يكون من أنواع متعددة غير العنب، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من الحنطة خمر، ومن الشعير خمر، ومن التمر خمر، ومن الزبيب خمر، ومن العسل خمر " أخرجه أحمد في مسنده (1) وفي رواية أخرى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: " نزل تحريم الخمر وإن في المدينة يومئذ لخمسة أشربة، ما فيها شراب العنب " أخرجه البخاري، والأشربة الخمسة التي كانت بالمدينة. كما قال القسطلاني: هي شراب (2) العسل والتمر والحنطة والشعير والذرة. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كونه دل على تفسير الآية الكريمة.
880 - " باب قوله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) "
والمعنى: أن الله ينهانا أن نقترب مما عظم قبحه من كبائر الذنوب أقوالاً
__________
(1) " تفسير المنار " ج 7.
(2) " إرشاد الساري " ج 7.(5/52)
ومَا بَطنَ، ولا شَىْءَ أحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللهِ، ولِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأفعالاً، كالزنا وقذف المحصنات، وأكل الربا، وشرب الخمر. ونحوه، وأن لا نأتي ذلك سراً أو جهراً، ويشمل الباطنُ أعمال القلوب أيضاً من الحسد والكبر (1) والمكر السيء ونحوه.
1026 - معنى الحديث: يقول ابن مسعود رضي الله عنه " لا أحد أغير من الله " أي إن الله تعالى غيور شديد الغيرة على عباده، لا أحد أشد منه غيرة عليهم، وغيرة الله عز وجل على العباد معناها أنه لا يرضى أن يمسهم أحد بسوء، ولا أن يلحق بهم أي ضرر أو عدوان أو يصيب أحداً منهم بأذى في دينه أو نفسه أو عرضه أو عقله ويكره أشد الكره أن يُعتدى عليه في حق من حقوقه الإنسانية. فحرّم الزنا غيرة على أعراض الناس وأنسابهم، وحرّم السرقة والغصب والربا غيرة على أموال الناس أن يعتدى عليها، وحرّم شرب الخمر غيرة على عقول الناس، ومحافظة على سلامتها، وجميع ما حرمه الله من الفواحش إنما حرمه غيرة على حقوق عباده وحماية لها، وهو معنى قوله: " ولذلك حرم الفواحش " أي أنه عز وجل إنما حرم الفواحش غيرة على عباده، وحفظاً لمصالحم، ولا شيء أحب إليه المدح من الله " أي لا أحد أشد حباً للمدح والثناء الصادق الصحيح من الله تعالى، فإنه عزّ وجل يحبُّ الثناء والشكر من عباده، ويكافؤهم عليه بزيادة النعمة كما قال تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) " ولذلك مدح نفسه " اللام للتعليل أي ومن أجل ذلك أثنى على نفسه بنفسه ليعلّم عباده كيفية الثناء عليه، فقال عز وجل: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن الله تعالى يغار على عباده غيرة شديدة
__________
(1) " تفسير المراغي " ج 8.(5/53)
881 - بَابٌ (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا)
1027 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْس مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا رَآهَا النَّاسَ آمَنْ مَنْ عَلَيْهَا، فذَاكَ حِينَ لا يَنْفع نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ قَبْلُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تظهر آثار هذه الغيرة في تحريم الفواحش من الزنا والقذف والسرقة وغيرها فإن الله إنما حرّمها لما فيها من التعدي على حقوق الناس، والله غيور على عباده. والمطابقة: في كون الحديث يدل على الحكمة في تحريم الله للفواحش وهي غيرته على عباده. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي.
881 - " باب (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا) (1) "
1027 - معنى الحديث: لا تنتهي الحياة الدنيا على سطح هذه الأرض لتبدأ الحياة الأخرى حتى تظهر أهم العلامات الكبرى لقيام الساعة، وهي طلوع الشمس من مغربها، وهي آخر أشراط الساعة كما في الحديث الذي أخرجه الحاكم والبيهقي أن أول الآيات ظهوراً الدجال، ثم نزول عيسى، ثم خروج يأجوج ومأجوج، ثم خروج الدابة، ثم طلوع الشمس من مغربها وكما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها " بمعنى أن طلوع الشمس من مغربها هو أهم أشراط الساعة، وأخطرها وأقربها إليها، لأنه آخر علاماتها " فإذا رآها الناس آمن من عليها " أي آمن كل من على هذه الأرض من البشر، " فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل " أي فذلك هو الوقت الذي لا ينفع فيه الكافر إيمانه إذا لم يسبق له الإِيمان قبل ذلك، ولا عمل صالح
__________
(1) هكذا الترجمة كما في النسخة التي شرح عليها العيني.(5/54)
بعد الطلوع، لأن حكم الإِيمان والعمل الصالح حينئذ حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تفسير الآية الكريمة. ثانياًً: أن التوبة تنقطع عند طلوع الشمس من مغربها، فلا ينفع الكافر إيمانه في ذلك اليوم، ولا العاصي توبته، لأنه يغلق باب التوبة، وقد جاء التصريح بعدم القبول كما في حديث معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو مرفوعاً: لا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها (1) ، فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه. ثالثاً: أن من أشراط الساعة الكبرى وأخطرها طلوع الشمس من مغربها وقد اختلفت الأحاديث في أول علامات الساعة ما هي فورد في بعض الروايات: أن أول الآيات خروج الدجال، وفي بعضها أن أوّلها طلوع الشمس من مغربها، وفي بعضها الدابة، وفي بعضها نار تحشر الناس إلى محشرهم، قال الحافظ: وطريق الجمع أن الدجال أول الآيات العظام المؤذنة بتغيير الأحوال العامة في الأرض، وأن طلوع الشمس من المغرب هو أول الآيات المؤذنة بتغير أحوال العالم العلوي، وينتهى ذلك بقيام الساعة. والدابة معها، فهي والشمس كشيء واحد، وأن النار أوّل الآيات الكونية المؤذنة بقيام الساعة.
الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على تفسير الآية.
***
__________
(1) عن صفوان بن عسال مرفوعاً أن بالمغرب باباً مفتوحاً للتوبة مسيرة سبعين عاماً لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها " أما سبب عدم قبول الإيمان والتوبة بعد طلوع الشمس من مغربها فلأنها كما قال الطبرى حالة لا تمتنع فيها نفس عن الإقرار بالله.(5/55)
" تفسير سُورَةِ الأعْرَاف "
882 - بَابٌ (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)
1028 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" أَمرَ اللهُ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَأخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلاقَ النَّاسِ، أو كَمَا قَالَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
882 - " باب (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (1)) "
1028 - معنى الحديث: أن الزبير رضي الله عنه يفسر لنا قوله تعالى: " (خُذِ الْعَفْوَ) " فيقول: " أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ العفو من أخلاق الناس " أي أمره - صلى الله عليه وسلم - أن يتسامح مع الناس ويتساهل في معاملتهم ويتغاضى عن هفواتهم وأن يرضى بالميسور من أفعالهم وأخلاقهم.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على تفسير قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ) وأن المراد به أن الله أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالتسامح مع الناس ومعاشرتهم بالحسنى، وقبول ما أَتى من أفعالهم بسهولة ويسر دون إحراجهم، أو التكليف عليهم، بما يشق على نفوسهم، كما دلت الآية الكريمة على وجوب التناصح والتواصي بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإِعراض عن الجهلاء، والحمقى والسفهاء، وعدم مجاراتهم أو مجازاتهم، والصفح عنهم، والتغاضى عن زلاتهم، وهو معنى قوله: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) ولا شك أن هذه الأمور الثلاثة هي دعائم الخلق الكامل الذي تكتسب به محبة الناس، وتجمع به القلوب المتنافرة، وتتوثق به الروابط الاجتماعية. والمطابقة: في كون الحديث دل على تفسير قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ) وهو ما ترجم به البخاري. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود.
__________
(1) لم تفسر هذه الآية لأن في حديث الباب وشرحه ما يكفي في تفسيرها.(5/56)
" تفسير سُورَةِ بَراءَة "
883 - " بَابُ قَولِهِ (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا) "
1029 - عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، فابْتَعَثَانِى، فانتهَيَا بِي إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
883 - " باب قوله تعالى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) "
معنى الآية الكريمة: روى في سبب نزول هذه الآية أن جماعة تخلفوا عن غزوة تبوك، وهم أبو لبابة بن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة (1) ، ووديعة بن خذام، فندموا على ما فعلوا، وربطوا أنفسهم في سواري المسجد، وأقسموا لا يحلهم إلاّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلم بخبرهم، أقسم أن لا يحلهم حتى ينزل فيهم قرآن، فأنزل الله فيهم هذه الآية الكريمة ومن أهل المدينة أناس آخرون غير المنافقين وهم أبو لبابة، ومن معه، هؤلاء اعترفوا بذنوبهم، ولم ينكروها كما فعل المنافقون وخلطوا عملاً صالحاً، وهو خروجهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع الغزوات السابقة وآخر سيئاً وهو هذا التخلف الذي وقع منهم بدون عذر، هؤلاء عسى الله أن يتوب عليهم، ويقبل عذرهم، والله يقبل التوبة، ويعفو ويصفح، وهو الغفور الرحيم.
1029 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقص علينا في هذا الحديث رؤيا منامية غريبة فيحدثنا أنه جاءه ملكان وهو نائم فذهبا به إلى مدينة فاخرة
__________
(1) " التفسير المنير " ج 1.(5/57)
مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بلَبِنِ ذَهَبٍ، وَلَبِنِ فِضَّةٍ، فَتَلَقَّانا رِجَالٌ، شَطر مِنْ خَلْقِهِمْ كَأحسَنِ ما أنْتَ رَاء، وشَطر كأقْبَحِ ما أنْتَ رَاءٍ، قالا لَهُمْ: اذْهَبُوا فقَعُوا في ذَلِكَ النَّهْرِ، فَوَقَعُوا فيه، ثم رَجَعُوا إلَيْنَا، فَذَهَبَ ذلكَ السُّوءُ عَنْهُمْ، فَصَارُوا في أَحْسَنِ صُورَةٍ، قالا لي: هَذِهِ جَنَّةُ عَدْن، وَهَذَاكَ مَنْزِلُكَ، قالا: أمَّا القَوْمُ الَّذِيْنَ كَانُوا شَطر مِنْهُمْ حَسَنٌ، وشَطر مِنْهُمْ قَبِيحٌ، فَإِنَّهُمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحَاً وآخَرَ سَيِّئاً تَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُمْ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عظيمة البنيان مشيدة بالذهب والفضة، قال - صلى الله عليه وسلم -: " فتلقانا رجال شطر من خلقهم " بسكون اللام " كأحسن ما أنت راءٍ، وشطر كأقبح ما أنت راءٍ " أي نصف خلقتهم وصورتهم كأجمل صورة تراها العين، والنصف الآخر كأقبح صور تراها العين " فقالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر " أي فقال لهم الملكان اذهبوا إلى ذلك النهر، وهو نهر الحياة واغسلوا أجسامكم فيه. " فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا، فذهب ذلك السوء عنهم " أي زال عنهم ما كان فيهم من القبح والبشاعة " قالا لي: هذه جنة عدن، وهذا منزلك " يعني وأطلعاه - صلى الله عليه وسلم - على جنة عدن، وعلى منزله فيها. " قالا: أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن، وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملاً صالحاً " أي أما القوم الذين نصفهم حسن والنصف الآخر قبيح فإنهم جمعوا بين الحسنات والسيئات معاً، فظهرت الحسنات في صورتهم الجميلة، وظهرت السيئات في صورتهم القبيحة " تجاوز الله عنهم " أي وقد عفا الله عنهم، وأدخلهم الجنة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الذين خلطوا أعمالاً صالحة وأعمالاً سيئة يرجى لهم عفو الله تعالى لقول الملكين كما في الحديث: "أما القوم الذين شطر منهم حسن، وشطر منهم قبيح فأولئك الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً تجاوز الله عنهم. ثانياً: أن الأعمال الصالحة تمثل يوم القيامة(5/58)
" تفسير سُورَةِ الإِسْرَاءِ "
884 - " بَابُ قَولِهِ (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)
1030 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
إِنَّ النَّاسَ يَصِيْرُوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ جُثاً، كُلُّ أمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا يَقُولُونَ: يَا فُلانُ اشْفَعْ، حتَّى تَنتهِيَ الشَّفَاعَةُ إلى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، فذلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللهُ الْمَقَامَ المَحْمُودَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالصور الجميلة وعكسها الأعمال القبيحة. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: في قوله: (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا) كما أفاده العيني.
884 - " باب قوله تعالى: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) "
ومعنى الآية: أن الله عز وجل قد أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية بإحياء بعض الليل بالصلاة وقراءة القرآن، ووعده فيها بالشفاعة العظمى في قوله: " (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) " والمقام المحمود الذي وعده الله به، هو مقام الشفاعة العظمى يوم القيامة، ووعد الله لا يتخلف.
1030 - معنى الحديث: أن الناس يشتد عليهم الكرب في المحشر فيبحثون عن من يخلصهم من ذلك الموقف الشديد، وينقسمون (1) إلى جماعات، وتذهب كل جماعة إلى نبيها تسأله الشفاعة فيعتذر كل واحد منهم عن الشفاعة قائلاً نفسي نفسي، إن ربي قد غضب اليوم غضباً شديداً، ويذكر خطيئته، ويقول: اذهبوا إلى غيري، فينتقلون من واحد إلى آخر حتى يأتوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - فيقول: أنا لها وهو معنى قول ابن عمر: " إن الناس يصيرون يوم القيامة جثاً "
__________
(1) أي ينقسمون إلى جماعات.(5/59)
" تفسير سُورَةِ النُّورِ "
885 - " بَابٌ (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي جماعات جماعات " كل أمة تتبع نبيها " أي تذهب إليه تسأله الشفاعة فيعتذر عنها " حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي حتى يصل إليه طلب الشفاعة، فيقول: أنا لها " فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود " أي ففي ذلك اليوم يبعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - المقام المحمود، وهو مقام الشفاعة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على إثبات الشفاعة العظمى لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي التي تكون لفصل القضاء وإراحة الناس من ذلك الموقف الشديد الذي تشتد فيه الأهوال وتتفاقم، ويلجأ الناس إلى الأنبياء، فيقولون نفسي نفسي، فيتصدى - صلى الله عليه وسلم - للشفاعة ويبتهل إلى الله ويخرّ ساجداً تحت العرش، فيقول الله تعالى له كما في حديث أبي هريرة: " سل تعطه، واشفع تشفع " الخ أخرجه البخاري وجميع هذه الأحاديث تدل على إثبات الشفاعة كما يدل عليه حديث الباب، وعلى أنّها هي المقام المحمود الذي وعده الله به في قوله: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) فقد أطمع الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأعطاه الشفاعة فأصبح ما أطمعه فيه حقيقة ثابتة لا يتخلف أبداً، ولهذا قال بعض المفسرين: الرجاء من الله بعسى ولعل وعد محقق. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في كون الحديث يدل على معنى المقام المحمود.
885 - " باب (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) "
وهي تكملة لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ(5/60)
1031 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ هِلالَ بْنَ أمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأتَهُ عِنْد النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - بِشرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "البَيِّنةُ أوْ حَدٌّ في ظَهْرِكَ" فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ إِذَا رَأى أحَدُنَا على امْرَأتِهِ رَجُلاً يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ البَيِّنةَ، فَجعلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) والمعنى أنه إذا رمى الرجل زوجته بالزنا دون بينة فعليه أن يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، ثم تسأل المرأة فإن أقرت رجمت، وإن أنكرت أمرت أن تشهد أربع شهادات بالله أن زوجها لمن الكاذبين فيما رماها به من الفاحشة، وفي الشهادة الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيم اتهمها به، فإذا فعلت سقط عنها الحد، وهو معنى قوله: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا (1) الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ) إلخ.
1031 - معنى الحديث: أن هلال بن أمية رضي الله عنه اتهم زوجته بشريك بن سحماء، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إما أن تقيم عليها البينة أو أقيم عليك حد القذف في ظهرك، فقال متعجباً: " إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً يذهب يلتمس البينة " أي كيف أكلف بالبينة وأنا لا يمكنني ذلك، لأنني متى ذهبت لاحضار الشهود فرَّ الرجل من البيت " فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول البينة " بالنصب أي أحضر البينة، أو الرفع على تقدير إما البينة " أو حدّ في ظهرك " يعني أو جزاؤك الحد في ظهرك، " فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد " أي ما يخلصني منه "فنزل جبريل وأنزل عليه
__________
(1) أي يدفع عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات الخ.(5/61)
" البَيِّنةُ وِإلَّا حَدّ في ظَهْرِكَ " فَقالَ هِلال: والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ إني لَصَادِق، فَلَيُنْزِلَنَّ اللهُ مَا يُبَرِّىءُ ظَهْرِي مِنَ الْحَدِّ، فنزَلَ جِبْرِيلُ، وأنْزَلَ عَلَيهِ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) فَقَرأ حَتى بَلَغَ (إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فانْصَرَفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسَلَ إليْهَا، فجاءَ هِلال فَشَهِدَ والنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ أنَّ أحدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ، ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ، فلمَّا كَانَتْ عِنْدَ الخَامِسَةِ، وقَّفُوهَا وَقَالُوا: إِنَّهَا مُوجِبَة، قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: فَتَلَكَّأت ونكَصَتْ حتى ظَنَنَّا أنَّهَا تَرْجِعُ، ثم قَالَتْ: لا أفضَحُ قَوْمِي سَائِرَ اليَومِ، فَمَضَتْ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) حتى بلغ (إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) " أي فنزل عليه جبريل بآيات الملاعنة التي تبرىء ظهره من الحد، وهي الآيات المذكورة " فأرسل - صلى الله عليه وسلم - إليها فجاء هلال فشهد والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب " يعني فلما نزلت آيات الملاعنة أحضرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - ووعظهما قبل إجراء الملاعنة، وحذرهما من غضب الله تعالى على من كان منهما كاذباً، وأخبرهما أن الله مطلع عليهما، عالم بالكاذب منهما، وسيجازيه على ذلك وعذاب الدنيا أهون من عذاب يوم القيامة، ولكنهما أصرا على موقفهما، فتقدم هلال، فشهد وقال في الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم قامت زوجته فشهدت. " فلما كانت عند الخامسة أوقفوها " أي أوقفوها عن النطق بهذه الشهادة " وقالوا: إنها موجبة " أي احذري أن تؤدي الشهادة الخامسة وأنت كاذبة، فإنها موجبة للعذاب الشديد يوم القيامة " فتلكأت " أي توقفت وترددت وتأخرت بعض الوقت في أدائها " ونكصت " أي رجعت إلى الوراء والمعنى أنها سكتت مدة من الزمن قبل أن تنطق بالشهادة(5/62)
" أبصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أكحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابغَ الألْيَتَيْنِ خدَلَّجَ السَّاقَينِ فَهُوَ لِشَرِيكِ بنِ سَحْمَاءَ " فجاءَتْ به كَذَلِكَ، فقَالَ النَّبِيُ - صلى الله عليه وسلم -: " لَوْلا مَا مَضى مِنْ كِتَابِ اللهِ لَكَانَ لِي ولَهَا شَأنٌ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الخامسة " حتى ظننا أنها سترجع " يعني عن إتمام الملاعنة، وتعترف بجريمتها " ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم " أي لا أجلب الفضيحة والخزي والعار لقومي مدى الحياة " فمضت " أي فاستمرت وأتمت الملاعنة حرصاً منها على سمعة قومها " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصروها " أي انظروا إلى ولدها وتأملوا في صورة وجهه وجسمه " فإن جاءت به أكحل العينين " يعني أسود الجفون " سابغ الأليتين " بفتح الهمزة أي ضخم الأليتين " خدلّج الساقين " أي عظيم الساقين " فهو لشريك بن سحماء " أي فهو ابنه " فجاءت به كذلك " أي ولدت ولداً يشبه شريكاً في الصفات المذكورة " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لولا ما مضى من كتاب الله تعالى لكان لي ولها شأن " أي لولا ما سبق من حكم الله تعالى بدرء الحد عن المرأة بلعانها، أي لأقمت الحد عليها. قال النووي: اختلفوا في نزول آية اللعان هل هو بسبب عويمر أم بسبب هلال، والأكثرون على أنها نزلت في هلال ويحتمل أنها نزلت فيهما جميعاً.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان سبب نزول آيات الملاعنة وتفسيرها تفسيراً عملياً، فإن هذه الآيات نزلت في قصة هلال بن أمية وزوجته على الأصح كما رجحه النووي، ولما نزلت طبق النبي - صلى الله عليه وسلم - الملاعنة المذكورة في الآية عليهما تطبيقاً عملياً كما في الحديث. ثانياً: دل الحديث على أن القذف بالزنا من الكبائر، وأن من قذف زوجته بذلك لزمه أحد أمرين، إما البينة وهي أربعة شهداء كما ذكر، أو اللعان، فإن عجز عن إقامة البينة، وامتنع عن اللعان، حُدَّ حَدَّ القذف ثمانين جلدة، وحكم بفسقه، ورد شهادته،(5/63)
وهذا هو مذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور، لحديث الباب، ولعموم قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) وقال أبو حنيفة: إن عجز عن البينة لزمه اللعان فإن لم يلاعن حبس حتى يلاعن أو يكذب نفسه فيحدُّ للقذف، وإذا امتنعت المرأة عن الملاعنة أقيم عليها حد الزنا وهو قول مالك والشافعي (1) ، وذهب أحمد وأبو حنيفة إلى أنها تحبس حتى تلاعن أو تقرّ بالزنا فتحد. أما الأحكام التي تترتب عليها بعد الملاعنة فهي كما يلي: (أ) يفرّق بينهما فرقة مؤبدة، ويفسخ نكاحهما فسخاً يقتضي التحريم كالرضاع عند مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف، فلا تحل له أبداً، لما جاء في حديث سهل " فمضت السنة بعدُ في المتلاعنين أن يفرق بينهما، ثم لا يجتمعان أبداً " أخرجه أبو داود والبيهقي والدارقطني، فلا يجتمعان ولو أكذب أحدهما (2) نفسه.
وقال أبو حنيفة: الفرقة الناشئة عن اللعان طلاق بائن لا يتأبد بها التحريم، وإن أكذب نفسه جاز له تزوجها. لما جاء في حديث عويمر أنه قال بعد الملاعنة: " كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وأجاب أبو حنيفة عن قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سهل " لا يجتمعان أبداً " بأن معناه لا يجتمعان ما داما على لعانهما، فإن أكذب الرجل نفسه جازت له زوجته وحاصل الخلاف أن مالك والشافعي وأحمد في رواية يرون أن اللعان يستوجب الفسخ والفرقة الأبدية بين الزوجين بنفس اللعان، إما بعد فراغ الرجل من شهادته كما يقول الشافعي، أو بعد فراغ المرأة من شهادتها كما يقول مالك، أما أبو حنيفة فإنه يرى أن اللعان يستوجب الطلاق البائن، ولا يتم الطلاق إلّا إذا أوقعه الزوج على نفسه، أو أوقعه الحاكم عليه نيابة عنه. (ب) أن الولد
__________
(1) والسبب في اختلافهم هذا اختلافهم في معنى قوله: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ) فإنهم اختلفوا في تفسير العذاب على قولين، أحدهما حد القذف وبه قال الشافعي ومن وافقه، والثاني: الحبس، وبه قالت الحنفية.
(2) تكملة " المنهل العذب المورود على سنن أبي داود " ج 4.(5/64)
إذا نفاه الزوج ألحق بأمه، ونسسب إليها، وانقطع نسبه بأبيه وميراثه منه، واقتصرت علاقته على أمّه فيرثها وترثه، وبه قال مالك ومن وافقه من أهل العلم والدليل على انقطاع نسب الولد من أبيه وإلحاقه بأمّه حديث ابن عمر أن رجلاً لاعن امرأته في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتفى من ولدها ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وألحق الولد بالمرأة. أخرجه البخاري ومالك في " الموطأ " وإنما يؤثر اللعان في رفع حد القذف، وثبوت زنا المرأة فله أن يعتمد اللعان لانتفائه وذهب الحنابلة إلى أن الولد يلحق بأمّه ولو لم ينفيه الزوج لما جاء في حديث سهل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن لا يدعى ولدها لأب ولم يذكر فيه أن الزوج قد نفاه، وأجيب عن ذلك بما جاء في بعض الروايات من حديث سهل " أنها كانت حاملاً فأنكر حملها " أخرجه البخاري. ثالثاً: بيان ألفاظ الملاعنة وكيفيتها أن يبدأ الإِمام بالزوج فيقيمه، ويقول له: قل أربع مرات أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا، ويشير إليها إن كانت حاضرة، ولا يحتاج مع الحضور إلى تسميتها، وإن كانت غائبة أسماها ونسبها، فقال: امرأتي فلانة بنت فلان، فإذا شهد أربع مرات أوقفه الحاكم، وقال له: اتق الله فإنها الموجبة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وكل شيء أهون من لعنة الله، ويأمر رجلاً يضع يده على فيه قبل الخامسة حتى لا يبادر بالخامسة، فإذا رآه يمضي في ذلك قال له قل: إن لعنة الله عليك إن كنت من الكاذبين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا، ثم يأمر المرأة بالقيام، ويقول لها: قولي: أشهد بالله أن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، وتشير إليه، وإن كان غائباً أسمته ونسبته، فإذا كررت ذلك أربع مرات، أوقفها، ووعظها كما ذكرنا في الرجل، ويأمر امرأة تضع يدها على فمها، فإن رآها تمضي على ذلك قال لها: قولي: وأنّ غضب الله عليَّ إن كان زوجي هذا من الصادقين، ثم إن هذه الشهادات الخمس شرط، فإن أخل بواحدة منها، لم يصح اللعان، ولو أبدل لفظ أشهد بقوله أحلف فإنه لا يعتد بها عند الحنابلة، وللشافعي وجهان،(5/65)
" تفسير سُورَةِ الأحْزَابِ "
886 - " بَابُ قَوْلِهِ تعالى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)
1032 - عَنْ كَعبِ بنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قِيلَ: يا رَسُولَ اللهِ، أمَّا السَّلامُ عَلَيْكَ، فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فكيْفَ الصَّلاةُ عَلَيْكَ؟ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وعلى آل مُحَمَّدٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والصحيح أنّه لا يصح، كما أفاده ابن قدامة. رابعاً: الجمهور على أن اللعان يمين لا شهادة كما أفاده الحافظ خلافاً لأبي حنيفة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على سبب نزول الآية الكريمة.
886 - " باب قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) "
ومعنى الآية: أن الله تعالى شرّف رسوله ونوّه بشأنه، وأعلن في هذه الآية الكريمة أنه صلّى عليه بنفسه، وصلّت عليه ملائكته، وأمر عباده بالصلاة عليه فأما صلاة الله عليه فهي رضوان وثناء عليه في الملأ الأعلى، وأما الملائكة فصلاتهم دعاء واستغفار له، وأما أمته فصلاتهم تحية وتكريم وشكر له وثناء عليه بما له عليهم من منة الهداية إلى الصراط المستقيم ثم قال: " وسلّموا تسليماً " فأمرنا أن نتبع الصلاة بالسلام عليه تحية له.
1032 - معنى الحديث: أن كعب بن عُجْرَة -راوي الحديث- سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول الآية المذكورة فقال: إن الله قد أمرنا بالصلاة والسلام عليك، فأما لفظ السلام فقد عرفناه منك، بما علمتنا أن نقول في التشهد،(5/66)
كمَا صَلَّيْتَ على آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيد، اللَّهُمَّ بَارِك على مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كما بَارَكْتَ على آلِ إِبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فعلمنا كيف نصلّي عليك وماذا نقول؟ " قال: قولوا اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد " أي فعلَّمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نصلّي عليه بهذه الصلاة الإبراهيمية المأثورة. ومعنى قوله: " وعلى آل محمد " أي وصل على آل محمد، وهم على أصح الأقوال آل علي وآل جعفر وآل عقيل وآل العباس كما أفاده الصنعاني، والمراد بقوله: " آل إبراهيم " إبراهيم نفسه، ومعنى قوله: " اللهم بارك على محمد " أي أكثر له من الخيرات، وأسبغها عليه في الدنيا والآخرة. وقوله: " إنك حميد مجيد " صيغة مبالغة من الحمد والمجد أي كثير الحمد والثناء والعظمة والجلال.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الصلاة الإبراهيمية في كل صلاة بعد التشهد، واختلفوا في حكم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذهب الشافعي وأحمد وغيرهما إلى وجوبها في التشهد الأخير، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " قولوا اللهم صل على محمد " لأن الأمر هنا للوجوب، قال ابن عبد البر: قال الشافعي: إذا لم يُصَلّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير أعاد الصلاة (1) . اهـ. وإنما خُصَّ الوجوب بالصلاة لما في حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه أنهم قالوا: يا رسول الله أما السلام فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟ قال: " قولوا: اللهم صل على محمد " أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد والحاكم. ثانياً: أن الحديث تفسير لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
__________
(1) " تفسير القرطبي " ج 4.(5/67)
" تفسير سُورَةِ الزُّمَرِ "
887 - " بابُ قَوْلِهِ تعَالَى (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) "
1033 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ نَاساً مِنْ أهْلِ الشركِ كانُوا قَدْ قَتَلُوا وَأكْثَرُوا، وزَنَوْا وَأكْثَرُوا، فأتَوْا مُحَمَّداً - صلى الله عليه وسلم - فقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إليهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً فَنَزَلَ (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) الآية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) لأن الآية تضمنت الأمر بالصلاة مجملاً، والحديث تضمن تفسير هذه الصلاة، وبيان صيغتها. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الحديث تفسيراً للآية المذكورة.
887 - " باب قوله تعالى: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) "
1033 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما في هذا الحديث " أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا " إلخ. أي أن جماعة من المشركين رغبوا في الإِسلام غير أنهم خافوا من الذنوب الكثيرة التي ارتكبوها من القتل والزنا أن يعاقبوا عليها حتى بعد إسلامهم، " فأتوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن " أي قد عرفنا أن الدين الذي تدعو إليه حق " لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة " أي لو نجد في دينك ما يكفر عنا ذنوبنا إذا نحن دخلنا فيه لأسرعنا إلى الإيمان وبادرنا إليه "فنزل (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ(5/68)
ونَزَلَ (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) الآية" أي فنزل قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) فأخبرهم الله تعالى في هذه الآية أنّهم إن أسلموا وتابوا من ذنوبهم، وعملوا الأعمال الصالحة، كفّر الله عنهم سيئاتهم، وأبدلها حسنات، وغفر لهم ما سلف منهم في جاهليتهم، " ونزل (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) " أي ونزلت هذه الآية التي يأمر الله تعالى فيها نبيّه أن يقول لعباده الذين أفرطوا في المعاصي " (لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) " أي لا تيأسوا من رحمة الله وتظنوا أن الله لا يغفر لكم، فإن الله يغفر بالتوبة الصادقة كل ذنب، فتوبوا إلى الله يقبل توبتكم " إنه هو الغفور الرحيم.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان سبب نزول قوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وهو ما تضمنه حديث الباب. ثانياً: أن التوبة الصادقة المقترنة بالإخلاص والعمل الصالح تكفّر جميع الكبائر بما فيها الكفر بالله تعالى، لأن الآية وإن نزلت في الكفار إذا أسلموا إلاّ أن حكمها عام يشمل الكافر والمسلم، لأن العبرة لعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد قال تعالى فيها: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) . الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث دل على سبب نزول الآية الكريمة.(5/69)
888 - " بَابُ قَولِهِ (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) "
1034 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: " يَقْبِضُ اللهُ الأرْضَ، وَيَطْوِي السَّمَواتِ بِيَمِنِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أنا الْمَلِكُ أينَ مُلُوكِ الأرْضِ؟ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
888 - " باب قوله (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) "
1034 - معنى الحديث: أن أبا هريرة يحدثنا في هذا الحديث أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتحدث عن صفات ربّ العزة والجلال فيقول - صلى الله عليه وسلم - " يقبض الله الأرض " أي يقبض الأرضين السبع يوم القيامة كما قال تعالى: (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) " ويطوي السموات بيمينه " وهو بمعنى قوله تعالى: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ) " ثم يقول أنا الملك " أي أنا المنفرد بالملك وحدي في هذا اليوم " أين ملوك الأرض " يعني أين ذهب ملوك الأرض الآن، وهو كقوله تعالى: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) .
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إثبات الصفات والأفعال الإِلهية المذكورة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " يطوي السموات بيمينه " وقوله: " يقبض الأرض " وكل ذلك من صفات الله وأفعاله التي يجب الإِيمان بها، وتصديقها، كما جاءت في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، ولا تأويل، مع اعتقاد أنه عز وجل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، والبشر عاجزون عن إدراك كيفية صفات الباري عز(5/70)
" سُورَةُ التَّحْرِيمِ "
889 - " بَابُ قَولِهِ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) "
1035 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
"كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَشْرَبُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْش ويَمْكُثُ عِنْدَهَا، فوَاطَأتُ أنا وَحَفْصَةُ عَنْ أَيَّتُنَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ لَهُ: أكَلْتَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وجل، لأن إدراك الصفات فرع عن إدراك الذات، قال في " فتح المجيد " (1) وهي تدل على إثبات الصفات له على ما يليق بجلال الله وعظمته إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل، وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وعليه سلف الأمة. ثانياً: انفراد الله سبحانه بالملك في ذلك اليوم حيث تفنى جميع الملوك ولا يبقى سوى الملك الحق، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " ثم يقول: أنا الملك أنا الديان " وهو مصداق قوله تعالى: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) والله أعلم. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " ويطوي السموات بيمينه ".
889 - " باب تفسير قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) "
1035 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب الحلواء والعسل، وكانت زينب بنت جحش قد أهدِيَ إليها بعض العسل من أقاربها، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتردد عليها، فتسقيه من ذلك العسل، فغارت منها عائشة، وأوعزت إلى حفصة أن تقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل عليها: إني أشم منك أو معك ريح مغافير، وهو صمغ كريه الرائحة، واتفقت معها على أنه إذا دخل على أي واحدة
__________
(1) " فتح المجيد شرح كتاب التوحيد " للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ص 622 تحقيق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط.(5/71)
مَغَافِيرَ، إِنِّي أجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، قَالَ: لا، وَلَكِنِّي كُنْتُ أشْرَبُ عَسَلاً عِندَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَلَنْ أعودَ لَهُ، وَقَدْ حَلَفْتُ لا تُخْبِري بذلك أحَداً".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
منهما تقول له ذلك، وهو معنى قولها: " فواطأت أنا وحفصة " أي اتَّفقنا معاً " على أيتنا دخل عليها فلتقل له أكلتَ مغافير، إني أجد منك ريح مغافير " أي أشم منك رائحة هذا، الصمغ الكريه الرائحة " قال: لا " أي فلما دخل عليها، وقالت له: أكلت مغافير، قال: لا، لم آكل مغافير " ولكنني كنت أشرب عسلاً عند زينب بنت جحش، فلن أعود إليه، وقد حلفت " على أن لا أشربه " لا تخبري بذلك أحداً " أي فلا تخبري بهذا السر أحداً، وقد اختلفت الروايات فيمن شرب عندها، ففي بعضها أنها حفصة، ولكن الأرجح أنها زينب، لأن نساء النبي كن حزبين عائشة وحفصة وسودة وصفية في حزب، وزينب بنت جحش وأم سلمة والباقيات في حزب، وهذا يرجح أن زينب هي صاحبة العسل، لأنها المنافسة لها. قال المفسرون: فلما حلف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يشرب عسلاً ولا يعود إليه إرضاءً لعائشة وحفصة، أنزل الله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) ومعناها: أن الله تعالى عاتبه على تحريم ما أحل الله له، فقال عز وجل لم تمتنع عن شرب العسل الذي أحله الله لك، تريد من وراء ذلك إرضاء عائشة وحفصة ثم ختم الآية بقوله: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تعظيماً لشأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتنبيهاً على علو مكانته حيث جعل ترك الأولى بالنسبة إلى مقامه الكريم يعد كالذنب، وإن لم يكن في نفسه ذنباً. " قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " أي شرع لكم كفارة اليمين لتتحللوا وتتخلصوا منها بها، فافعل ما حرمته على نفسك، وكفّر عن يمينك(5/72)
" سُورَةَ وَيْل لِلمُطَفِّفينَ "
890 - " بَابُ قَوْلِهِ (يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) "
1036 - عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " (يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) حَتَّى يَغيبَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بما شرع الله من كفارة اليمين المذكورة في قوله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) إلخ " (وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ) " أي حافظكم وناصركم، " (وَهُوَ الْعَلِيمُ) " بمصالحكم " (الْحَكِيمُ) " فيما يشرعه لكم من الأحكام التي تتحقق بها مصالحكم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في دلالة الحديث على سبب نزول الآية (1) .
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان سبب نزول هذه الآية الكريمة. ثانياً: أن من حلف على ترك شيء من الطيبات مأكولاً كان أو مشروباً أو ملبوساً فإنه ينبغي له أن يحنث في يمينه، ويكفر عنها، ويأتي بذلك الشيء الذي حلف عليه. ثالثاً: قوة الغيرة وشدة تأثيرها لا سيما على النساء وخاصة بين الضرائر.
890 - "
سورة ويل للمطففين (يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) "
ومعنى هذه الآية وما قبلها: أن الله تعالى يقول: (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ) الذين يرتكبون المعاصي مغترين بدنياهم، غافلين عن آخرتهم " (أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
__________
(1) قال ابن كثير: وروى ابن جرير -يعني الطبري- عن سعيد بن جبير أن ابن عباس كان يقول في الحرام يمين تكفرها، وقال ابن عباس (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) يعني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم حرَّم جاريته (يعنى أم إبراهيم مارية القبطية) فقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) إلى قوله (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) فكفر يمينه، فصير الحرام يميناً. (ع) .(5/73)
أحَدُهُمْ في رَشْحِهِ إلى أنْصَافِ أذُنَيْهِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) ومحاسبون على أعمالهم في ذلك اليوم (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) أي يوم يحشرون في صعيد واحد، ويقفون أمام رب العالمين لمحاسبتهم ومحاكمتهم، فيطول قيامهم حتى يبلغ ثلاثمائة عام، كما قال بعض المفسرين.
1036 - معنى الحديث: يحدثنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الناس يحشرون من قبورهم إلى أرض المحشر فيجمعون في صعيد واحد لانتظار محاكمتهم ومحاسبتهم في يوم عظيم، يبلغ طوله مئات السنين " حتى يغيب أحدهم في رشحه " أي في عرقه " إلى أنصاف أذنيه " أي حتى يصل العرق إلى أنصاف أذنيه. وعن المقداد بن الأسود الكندي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين، قال: فتصهرهم الشمس، فيكونون في العرق كقدر أعمالهم، منهم من يأخذه العرق إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاماً " أخرجه أحمد في مسنده. الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تفسير الآية الكريمة وبيان الحالة التي يكون عليها الناس في الموقف من الكرب، والضيق، وكثرة العرق، وشدة الحر، وطول القيام، حتى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كان يتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة " أخرجه أبو داود. ثانياًً: أن طول القيام وكثرة العرق يكونان لكل واحد كما جاء مصرحاً بذلك في حديث ابن مسعود حيث قال: " قد ألجم العرق كل بر وفاجر " ولكن الله يخففه على العبد الصالح. والمطابقة: في كون الحديث مشتملاً على الآية الكريمة ومتضمناً لتفسيرها.
***(5/74)
" تفْسيرُ سُورَةِ الكَوْثَرِ "
891 - " بَابُ (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) "
1037 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" لَمَّا عُرِجَ بالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى السَّمَاءِ، قَالَ: أتيْتُ عَلَى نَهْرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ مُجَوَّفٌ، فقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذا الكَوْثر ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
891 - "
تفسير سورة الكوثر قوله: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) "
1037 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أكرمه الله تعالى " بالمعراج " ووصل إلى الملأ الأعلى، ورأى الجنة والنار وما فيهما. شاهد فيما شاهد من العجائب " نهر الكوثر " ووصفه لأمته كما رآه فقال: " أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ مجوفاً " أي مررت على نهر في الجنة تنتشر على ضفتيه قباب من اللؤلؤ المجوف " فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر " أي هذا هو نهر الكوثر الذي وعدك الله به في كتابه. الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على تفسير قوله تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) وبيان معنى الكوثر وأنه نهر أكرم الله به نبيه - صلى الله عليه وسلم - ووعده به في الدار الآخرة وهو موجود الآن، والمستفيض عند السلف والخلف أنه نهر في الجنة (1) فقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل، وأبيض من الثلج " وعن مسروق قال: قلت لعائشة: "يا أم المؤمنين حدثيني عن الكوثر، قالت: نهر في بطنان الجنة، قلت: وما بطنان
__________
(1) غير الحوض المورود.(5/75)
892 - سُورَةُ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)
1038 - عَنْ أبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَألْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ المُعَوِّذَتَيْنِ قَالَ: " قِيلَ لِي " فَقُلْتُ: فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجنة؟ قالت: وسطها حصباؤه الدر والياقوت" أخرجه ابن (1) جرير.
ويتضح من هذا أن الكوثر شيء والحوض المورود شيء آخر، فالحوض في الموقف يشرب منه هو وأمته قبل دخول الجنة " والكوثر في بطنان الجنة، أي في وسطها، وكلاهما مما أكرم الله به نبيّه - صلى الله عليه وسلم - وهذه الأمة. والمطابقة: في كون الحديث دل على معنى الكوثر، فأصبح تفسيراً للآية.
892 - " سورة (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) "
ْ1038 - معنى الحديث: أن راوي الحديث كما في الأصل من صحيح البخاري يقول: سألت أُبي بن كعب قلت له: يا أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا " أي يقول إن المعوذتين ليستا من القرآن، فقال أبي " سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المعوذتين " يعني سألته هل هما من القرآن؟ " قال: " قيل لي " فقلت: " أي فقال - صلى الله عليه وسلم -: قال لي جبريل إنهما من القرآن، فقلت كما قال جبريل، لأنه أمين على وحي السماء: قال كعب: " فنحن نقول كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أي نقول أن المعوذتين من القرآن.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن بعض الصحابة ومنهم ابن مسعود رضي الله عنه كانوا يقولون: إن المعوذتين ليستا من
__________
(1) " تفسير الطبري " ج 3.(5/76)
القرآن (1) . ثانياًً: أن المعوذتين من القرآن، لأن جبريل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك وانعقد عليه إجماع المسلمين ودلت عليه الأحاديث الصحيحة، فلو أنكر اليوم أحد قرآنيتهما كفر. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في كونه يدل على أن المعوذتين من القرآن.
__________
(1) قال الحافظ في " الفتح ": قال البزار: ولم يتابع ابن مسعود على ذلك أحد من الصحابة، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأهما في الصلاة. (ع) .(5/77)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب فضائل القرآن "
وفضائل القرآن: هي المزايا والمنافع التي تترتب على قراءته وسماعه، أو المزايا التي يختص بها أهل القرآن، أو الصفات العظيمة التي يمتاز بها القرآن عن غيره وكما أن القرآن كتاب هداية وتشريع، يتعبد بأحكامه والعمل بما فيه، كذلك هو كتاب يتعبد بتلاوته، وتنال المثوبة والأجر بقراءته فقد روى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: " من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف " أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب. وهناك فضائل خاصة تتعلّق بآية أو سورة معينة، فإن القرآن يتفاضل بعضه عن بعض على الأصح من أقوال أهل العلم، لدلالة ظواهر النصوص على ذلك، منها حديث أُبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: يا أبا المنذر أتدرى أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: آية الكرسي، فضرب في صدري وقال: " ليهنك العلم يا أبا المنذر " أما معنى الأفضلية أو التفاضل: فقد يكون بزيادة الأجر والثواب، وقد يرجع إلى معنى الآية ومضمونها، فما تضمنته آية الكرسي والحشر وسورة الإِخلاص والفاتحة من المعاني لا يوجد في سورة المسد مثلاً، وقد تكون الأفضلية من جهة أنها تحفظ قارئها كما في آية الكرسي والمعوذتين، أو من جهة كونها رقية وشفاء كما في سورة الفاتحة.
***(5/78)
893 - " بَاب كيفَ نَزَلَ الوحيُ وأول ما نَزِلَ "
1039- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما مِنَ الأنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوُتِيتُهُ وَحْياً أوحَاهُ اللهُ إليَّ، فأرْجُو أَنْ أَكُونَ أكثَرَهُمْ تَابعاً يَوْمَ القِيَامَةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1039 - معنى الحديث: أن من سنة الله في الأنبياء جميعاً أن يمدهم بالمعجزات فلا يبعث نبياً إلاّ أعطاه معجزة يستدل بها على نبوته ويثبت بها رسالته، ويتحدى بها كل من عارضه وكذب به، فالمعجزة أمر خارق للعادة يظهر على يد مدّعي الرسالة ليكون شاهد إثبات له، كما أعطى الله موسى العصى وكما أعطى عيسى إبراء الأكمه، والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله. وهذا هو معنى قوله: " ما من الأنبياء نبي إلاّ أعطي ما مثله آمن عليه البشر " أي ليس هناك نبي إلا وقد أعطي من المعجزات ما يكفي لإثبات رسالته فلا ينظر أحد إلى المعجزة التي ظهرت على يديه من أهل النفوس السليمة من العناد والاستكبار إلا بادر إلى الإيمان به كما فعل سحرة فرعون لما شاهدوا معجزة موسى " وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ " أي وإنما كانت المعجزة العظمى التي أعطاها الله لي هي هذا الكتاب الخالد الباقي إلى يوم القيامة، فما من أحد يقرأه بتأمل وتدبّر دون عناد أو حسد أو تكبر إلاّ عرف أنه كلام الله، وأني رسول الله لما فيه من أنباء الغيب التي لا تأتي إلاّ من خبر السماء، وما اشتمل عليه من الأحكام والقوانين الإلهية التي تصانُ بها حقوق الإنسان من دين ونفس ومال ونسب وعقل وعرض. والقرآن لا تنتهي معارفه عند حد، وإنما هي تتجدد وتنكشف على مر العصور والأزمان. وليس معنى هذا أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يؤت معجزة أخرى غير القرآن كلا فلقد أوتي - صلى الله عليه وسلم - من المعجزات ما لم يؤت نبي قبله، ومن ذلك(5/79)
894 - " بَابُ فضلِ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) "
1040 - عنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نبع الماء من بين أصابعه، وهي أبلغ من معجزة موسى، لأن نبع الماء من الصخر أمر مشاهد مألوف، أما نبع الماء من بين اللحم والعظم والأصابع فإنه لا يخطر على البال، ولكن معنى قوله: " وإنما كان الذي أوتيته وحياً " أن معجزة القرآن أعظم معجزاته - صلى الله عليه وسلم - لأن تلك المعجزات لا يعرفها إلاّ من عاصرها أما القرآن فإنّه العجزة الدائمة الباقية إلى يوم القيامة يعرفها ويراها ويقرأها كل من أرادها، ويستدل بها على صدقه - صلى الله عليه وسلم - وصحة رسالته - صلى الله عليه وسلم - " فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً " أي وبما أني قد أعطيت هذه المعجزة العظمى، وهي هذا الكتاب الخالد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فإني أرجو أن يقرأه الناس على مر العصور، فيدخلوا في دين الله أفواجاً، فأكون أكثر الأنبياء أتباعاً.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من فضائل القرآن كونه المعجزة الخالدة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - في جميع العصور والأزمان، ولهذا اقتصر على ذكره في هذا الحديث، حتى كأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأت بمعجزة أخرى سواه، لا لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأت بمعجزات أخرى غيره، ولكن لأن تلك المعجزات لا تأثير لها إلاّ في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، أما هذه المعجزة فإنها يستدل بها على صدق رسالته - صلى الله عليه وسلم - مدى الحياة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ثانيأ: كثرة أتباع نبينا - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في كونه يدل على أن القرآن أعظم المعجزات على الإِطلاق وهذا من أشرف فضائله ومزاياه.
894 - " باب فضل (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) "
1040 - معنى الحديث أن الصحابة رضي الله عنهم سمعوا النبي(5/80)
قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لأصْحَابِهِ: " أيعْجِز أحدُكُمْ أن يَقْرأ ثُلُثَ القُرآنِ في لَيْلَةٍ؟ " فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: أيُّنَا يطِيق ذَلِكَ يَا رَسُول الله؟ فَقَالَ: " الله الوَاحِدُ الصَّمَد ثُلُثُ القُرآنِ ".
895 - " بَاب فضْلِ الْمُعَوِّذَاتِ "
1041 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أوَى إلى فِرَاشِهِ كلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثمَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- صلى الله عليه وسلم - يقول: " أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة " وهو استفهام استخباري، معناه ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة واحدة " فشق ذلك عليهم " أي فصعب عليهم ذلك، لأنهم فهموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى قراءة ثلث القرآن في ليلة واحدة " فقالوا: أينا يطيق ذلك " أي لا يقدر على هذا العمل إلا القليل من الناس. " فقال: الله الواحد الصمد ثلث القرآن " أى سورة قل هو الله أحد تساوي ثلث القرآن في مضمونه ومعناه، لأن القرآن ثلاثة أقسام توحيد، وأحكام، وأخبار، وسورة الإخلاص تضمنت التوحيد.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على فضل سورة الإخلاص، وامتيازها بأنها تحوي في معناها ومضمونها ثلث القرآن لاشتمالها على التوحيد الذي هو أحد مقاصد القرآن الثلاثة، وقال بعض أهل العلم: إنها تساوي ثلث القرآن في أجرها وثوابها (1) . اهـ. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " الله الواحد الصمد ثلث القرآن ".
895 - " باب فضل المعوذات "
1041 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " كان إذا أوى إلى فراشه
__________
(1) انظر بسط هذا الموضوع في كتاب " جواب أهل العلم والايمان " الشيخ الإِسلام ابن تيميّة رحمه الله (حسن السماحي) .(5/81)
نَفَثَ فِيهِمَا، فَقَرَأ فِيهِمَا (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) وَ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ثمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَد، يَبْدَأ بِهِمَا علَى رَأسِهِ وَوَجْهِهِ ومَا أقبَلَ مِنْ جَسَد، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَاتٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما " أي ألصق الكف اليمنى باليسرى وهما مفتوحتان، ونفخ فيهما بفمه مع شيء خفيف من ريقه " فقرأ فيها " أي قرأ في كفيه (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) أي قرأ السور الثلاثة على كفيه، قال القسطلاني: قال الطبري: وظاهره أنه - صلى الله عليه وسلم - نفث في كفيه أولاً، ثم قرأ، وهذا لم يقل به أحد، ولعل هذا سهو من الكاتب أو الراوي (1) لأن النفث ينبغي أن يكون بعد التلاوة " ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده ويبدأ من رأسه وما أقبل من جسده " أي ثم يمسح بكفيه ما وصلتا إليه من جسده، بادئاً برأسه وبالجزء الأمامي من بدنه. اهـ. الحديث: أخرجه الستة إلا ابن ماجه بألفاظ.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن في قراءة هذه السور الثلاثة قبل النوم صيانة للإنسان وحفظ له من المكاره، ولأنها تعويذة مباركة مأثورة أرشدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها، ودلنا عليها (2) . ثانياًً: أنه يستحب قراءة هذه السور الثلاثة قبل النوم والتعوذ بها، وكيفية ذلك أن يجمع كفّيه ثم يقرأ هذه السور الثلاث فيها ثم ينفث من ريقه عليهما، ثم يمسح بكفيه ما وصل إليه من
__________
(1) وتعقبه الطيبي فقال: من ذهب إلى تخطئة الرواة الثقات العدول وبما سنح له من الرأي فقد خطأ نفسه، هلا قاس هذه الفاء على ما في قوله: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله "، والمعنى جمع كفيه ثم عزم على النفث فيما قرأ فيهما. اهـ.
(2) وقال - صلى الله عليه وسلم - في رواية أخرى: تعوذ بهن فإنه لم يتعوذ بمثلهن.(5/82)
896 - " بَاب خيْرُكمْ مَنْ تعَلَّمَ الْقرْآنَ وَعَلَّمَهُ "
1042 - عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ الله "عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " خَيْركُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جسده وذلك كما قال ابن القيم: لأن الرقية تخرج من قلب الراقي، فإذا صحبها شيء من الريق والهواء كانت أتم تأثيراً. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ بهذه السور الثلاثة، وهذا يدل على فضلها من حيث إنها تعويذة مباركة.
896 - " باب خيركم من تعلّم القرآن وعلمه "
1042 - معنى الحديث: أن أفضل المسلمين وأرفعهم ذكراً وأعلاهم عند الله درجة من تعلّم القرآن تلاوة وحفظاً وترتيلاً، أو تعلمه فقهاً وتفسيراً، فأصبح عالماً بمعانيه فقيهاً في أحكامه، وعلَّم غيره ما عنده من علوم القرآن مع عمله به، وإلّا كان القرآن حجة عليه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " والقرآن حجة لك أو عليك " أو كما قال.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان فضل حامل القرآن ومعلمه، وأنه خير المؤمنين، لأنه أعظمهم نفعاً وإفادة، ولذلك شبهه بالسفرة، لأن السفرة من الملائكة يحملون الوحي إلى الأنبياء، وهو يحمل كلام الله إلى الناس، ولأنه من أكثر الناس أجراً حيث إن له بكل حرف يقرأه حسنة. ثانياً: أن أشرف العلوم علوم القرآن وقد قيل: شرف العلم بشرف متعلقه، وليس هناك أشرف ولا أفضل من كلام الله تعالى. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي وأبو داود. والمطابقة: في كون الترجمة والحديث لفظهما واحد.
***(5/83)
897 - " بَابُ اسْتِذْكَارِ الْقُرْآنِ وتعَاهُدِهِ "
1043 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إنَّمَا مَثَلُ صَاحبِ القُرآنِ كَمَثَل صَاحبِ الإِبِلِ المُعَقَّلَةِ، إنْ عَاهَد عَلَيْهَا أمْسَكَهَا، وَإِنْ أطْلَقَهَا ذهَبَتْ ".
898 - " بَابُ حُسْنِ الصَّوْتٍ بالْقِرَاءَةِ لِلْقُرآنِ "
1044 - عن أبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
897 - " باب استذكار القرآن وتعاهده "
1043 - معنى الحديث: شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - حافظ القرآن وحامله بصاحب الإِبل المربوطة المشدودة بالحبال، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإِبل المعقلة " أي التي عقلها صاحبها بالحبال، لأنها شرود " إن عاهد عليها " أي راقبها، وأبقاها مربوطة، " أمسكها " أي بقيت عنده " وإن أطلقها اذهبت " أي وإن فكها من حبالها وهي شرود هربت، وصعب عليه إعادتها مرة أخرى.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: الحث الشديد والترغيب الأكيد لحملة القرآن وحفاظه أن يعنوا بتعهده وتكراره وكثرة قراءته وترديد تلاوته محافظة عليه، وحذراً من ضياعه لأن صاحب القرآن كما في الحديث كصاحب الإِبل المربوطة، إن حافظ عليها وأبقاها في رباطها بقيت عنده، وإلّا هربت منه. ثانياًً: أن القرآن إذا نسي صَعُبَ استرجاعه. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " إن عاهد عليها أمسكها ".
898 - " باب حسن الصوت بالقراءة "
1044 - معنى الحديث: أن أبا موسى يحدثنا "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال(5/84)
أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ: " يا أبَا مُوسَى لَقَدْ أوتيْ مِزْمَاراً مِنْ مَزَامِيرِ آلَ دَاوُدَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
له: " " يا أبا موسى لقد أوتيت مزماراً (1) " ومعناه.. لقد وهبك الله في قراءة القرآن صوتاً جميلاً كصوت داود في قراءة الزبور. قال القسطلاني: لأنه لم يذكر أحد أعطي من حسن الصوت ما أعطي داود، وقال الخطابي قوله: " آل داود " يريد داود نفسه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن صوت داود كان من أعذب الأصوات الجميلة وأحلاها، قال القسطلاني: " كان داود يقرأ الزبور بسبعين لحناً، كما أن صوت أبي موسى كان يشبه صوت داود في عذوبته وحلاوته، وكان - صلى الله عليه وسلم - يستمع إلى قراءته كثيراً، ووصف أبو عثمان النهدي صوت أبي موسى فقال: " دخلت دار أبي موسى الأشعري، فما سمعت صوت صنج (بفتح الصاد) ولا بربط (بفتح الباء) ولا ناي أحسن من صوته " قال الحافظ: سنده صحيح، وهو في الحلية لأبي نعيم. قال الحافظ: والصَّنج بفتح المهملة وسكون النون بعدها جيم، آلة تتخذ من النحاس، والبربط بوزن جعفر هو آلة تشبه العود، فارسي مُعَرَّب. ثانياًً: استدل البخاري بهذا الحديث على استحباب حسن الصوت في قراءة القرآن، وحكى النووي الإِجماع عليه، لأنه أوقع في النفس، وأشد تأثيراً وأرقُّ لسامعه، قال: فإن لم يكن القارىء حسن الصوت فليحسنه ما استطاع. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: في كونه يدل على استحباب حسن الصوت في القراءة.
__________
(1) والمزمار في الأصل الآلة الموسيقية المعروفة، والمراد به هنا الصوت الجميل.(5/85)
899 - " بَابُ مَنْ أحَبَّ أنْ يَسْمَعَ القُرآنَ مِنْ غَيْرِهِ "
1045 - عَنْ عَبْدِ اللهَ بْن مَسْعُود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ في النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اقْرأْ عَلَيَّ القُرآنَ " قُلْتُ: آقْرا عَلَيْكَ، وعَلَيْكَ أنْزِلَ! قَالَ: " إِنِّي أحِب أنْ أسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي ".
900 - " بَاب في كَمْ يُقْرأُ الْقُرآنُ "
1046 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْروٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
899 - " باب من أحب أن يسمع القرآن من غيره "
1045 - معنى الحديث: يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - اقرأ علي القرآن " أي اقرأ عليَّ بعض الآيات من القرآن الكريم " قلت: أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ " أي لماذا أقرأه عليك، وأنت في غنى عن سماعه مني، لأنه عليك أنزل، تلقيته من ربك، وحفظته في قلبك وبلغته إلى الناس. " قال: إني أحب أن أسمعه من غيري " أي إنما سألتك أن تقرأه عليَّ، لأنني أحب سماعه من غيري رغبة في تدبره، وزيادة تفهمه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجب أن يسمع تلاوة القرآن من غيره، وذلك لأجل تدبره وزيادة تفهمه، لأن المستمع أقوى على ذلك من القارىء وأنشط منه. ثانياًً: أنه يستحب الاستماع إلى قارىء القرآن، ولو كان المستمع من حفاظه، اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واتباعاً لسنته. الحديث: أخرجه الستة إلا النسائي. والمطابقة: في قوله: " فإني أحب أن أسمعه من غيري "
900 - " باب في كم يقرأ القرآن "
1046 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لابن عمرو رضي الله(5/86)
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " اقْرَأ القُرْآنَ في شَهْرٍ " قُلْتُ: إِنِّي أجِدُ قُوَّةً، حتَّى قَالَ: " فاقْرَأهُ في سَبْعٍ، ولا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ ".
901 - " بَاب إِثْمُ مَنْ رَاءى بِقِرَاءَةِ القُرْآنِ وتأكَّلَ بِهِ أو فَخر بِهِ "
1047 - عن أبي مُوسَى الأشْعَرِيِّ رضي الله عنهُ:
عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " المُؤْمِنُ الذي يَقْرأ القُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كالأترجَّةِ، طَعْمُهَا طيَبٌ، وَرِيحُهَا طيَبٌ، والمؤْمِنُ الِّذي لا يَقْرأ القُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عنهما " اقرأ القرآن في شهر " أي اختم القرآن مرة واحدة في الشهر، لأن ذلك يساعد على ترتيله، وتدبر معانيه " قلت: إني أجد قوة " أي أجد في نفسي قدرة ونشاطاً على قراءة أكثر من ذلك في الشهر " حتى قال: فاقرأه في سبع " أي فما زال يقول في - صلى الله عليه وسلم - اقرأه في كذا، اقرأه في كذا، وأنا أقول له: " إني أجد قوة " حتى قال لي: أخيراً اقرأه في سبع ليال، " ولا تزد على ذلك " فنهاه - صلى الله عليه وسلم - أن يختم القرآن في أقل من سبع. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: عدم تقدير وقت محدود لختم القرآن، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أولاً أن يختمه في شهر، ثم في كذا، ثم في كذا حتى قال له أخيراً: فاقرأه في سبع، وإنما هو بحسب نشاط القارىء واستعداده، وعليه أكثر العلماء كما قاله النووي. ثانياًً: استدل بعض أهل العلم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ولا تزد على ذلك على أنه يستحب للقارىء أن يقتصر على قدر يحصل معه كمال فهم ما يقرأ، ليجمع بين التعبد بالتلاوة وحسن الترتيل، وتدبر الآيات. والمطابقة: في قوله: " فاقرأه في سبع ".
9010 - " باب إثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكّل به أو فخر به "
1047 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبّه كل صنف من هذه(5/87)
كالتَّمْرَةِ، طَعْمُهَا طيَبٌ، ولا رِيحَ لَهَا، وَمثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرأ القُرْآنَ كالرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طيَبٌ، وطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ المنافِقِ الَّذِي لا ْ يَقْرأ القُرْآنَ كالحَنْظَلَةِ، طَعْمُهَا مُرٌّ أو خَبِيثٌ، ورِيحُهَا مُرٌّ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأصناف الأربعة من البشر، بشيء يماثله في الحسن والقبح الأول: المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به، وقد شبهه بالأترجة (1) في حلاوة مذاقها وطيب رائحتها، لأنه يجمع بين حسن الظاهر والباطن. والثاني: المؤمن الذي لا يقرأ القرآن لكنه يعمل به، فهو يشبه التمرة في حلاوة مذاقها، وإن كانت لا ريح لها، لأنه زين باطنه بالعمل بالقرآن، وإن لم يزين ظاهره بتلاوته. والثالث: المنافق الذي يقرأ القرآن رياءً وسمعة، ولا يعمل به في حياته أو يطبقه في سلوكه، فهذا يشبه الريحانة في طيب رائحتها، ومرارة طعمها، لأنه زين ظاهره بحسن التلاوة، وقّبح باطنه بسوء العمل. الرابع: المنافق الذي لا يقرأ القرآن ولا يعمل به، وهذا يشبه الحنظلة في مرارة طعمها وقبح رائحتها، فهو قبيح الظاهر والباطن معاً.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن. القرآن جمال لأهله على أي حال، فإن عمل به صاحبه جمَّله ظاهراً وباطناً، وسعد به في الدنيا والآخرة، وإن لم يعمل به وقرأه رياءً جمّله ظاهراً، ونفعه في الدنيا فقط. ثانياًً: أن المراءي لا يثاب على قراءة القرآن، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبهه بالريحانة التي طعمها مرٌ، وهذا يدل على قبح عمله، وعدم انتفاعه به في الآخرة. الحديث: أخرجه
__________
(1) قال في شرح صفوة البخاري: وأهل العراق يطقون لفظ " الأترج " على نوع من فصيلة البرتقال، لكن له رائحة عطرية وطعمه أحلى. قلت: وأهل الشام يسمونه الكبّاد ويكثرون زراعته في البيوت كالنارنج، وقشرته سميكة ومتجعدة، وحجمه كبير يصل إلى حجم البطيخ الصغير ولونه عند نضجه أصفر وقيمته في قشرته حيث يصنع منها أفخر أنواع المربيات. اهـ. حسن السماحي.(5/88)
902 - " بَابٌ اقْرؤوا القُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ "
1048 - عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " اقْرَؤوا القُرْآنَ ما ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ، فإذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الستة. والمطابقة: في قوله: " ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر ".
902 - " باب إقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم "
1048 - معنى الحديث: قال العيني: معناه، اقرؤوه على نشاط منكم، فإذا حصل لكم ملل وسآمة فاتركوه، فإنه أعظم من أن يقرأه أحدٌ من غير حضور القلب وقال ابن الجوزي: كان اختلاف الصحابة يقع في القراءات واللغات، فأمروا بالقيام عند الاختلاف، لئلا يجحد أحدهم ما يقرأه الآخر، فيكون جاحداً لما أنزل الله. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحري قراءة القرآن عند توفر النشاط والرغبة النفسية في تلاوته، لأن القراءة مع حضور القلب لها أثرها العميق في نفس القارىء ووجدانه. ثانياًً: أنه إذا وقع الاختلاف في معنى من معاني القرآن أو قراءة من قراءَاته، واشتد حتى أوشك أن يؤدي إلى النزاع والشقاق وجب الإِمساك عنه، وضبط النفس قدر الإِمكان. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
***(5/89)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب النكاح "
النكاح لغة: الضم والتداخل، ثم أطلق على الوطء حقيقة وعلى العقد مجازاً، وقال الزجاجي: النكاح في كلام العرب هو الوطء والعقد جميعاً وأما النكاح شرعاً: ففيه ثلاثة أقوال: الأول: أنه حقيقة في الوطء مجاز في العقد، وهو قول الحنفية، ووجه للشافعية. الثاني: أنه حقيقة في العقد، مجاز في الوطء، وهو القول الراجح، لكثرة وروده في الكتاب والسنة بمعنى العقد، حتى قيل: لم يرد في القرآن إلاّ للعقد، قال الحافظ: ولا يرد مثل قوله: " حتى تنكح زوجاً غيره " لأن شرط الوطء في التحليل إنما ثبت بالسنة. الثالث: أنه لفظ مشترك بين العقد والوطء. قال الحافظ: وهذا الذي يترجح في نظري وإن كان أكثر ما يستعمل في العقد. أما الحكمة في مشروعية النكاح: فإنه لما كان وجود الجنسين وحاجة كل منهما إلى الآخر سنة الحياة، التي أرادها الله، وأودع في كل منهما هذه الغريزة التي تدعوه إلى الآخر. ليتحقق بذلك بقاء النوع البشري على هذه الأرض. شرع له النكاح للتنفيس عن غريزته بطريقة سليمة يتسامى فيها عن غيره من الحيوانات، لأنه أكرم المخلوقات، وحقق بالنكاح منافع عظيمة، منها غض البصر، وكف النفس عن جريمة الزنا محافظة "على أنساب الناس، وصيانة لأعراضهم ومنها: استبقاء النوع البشري على هذه الأرض بالتوالد والتناسل فينتج جيلاً صالحاً نافعاً لبلاده وأمته كما قال - صلى الله عليه وسلم - " تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم " ومنها تنظيم الأسرة وصيانتها، حيث جعل العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة صحيحة قائمة على نكاح شرعي موثق بشهادة الشهود، معلن عنه عند الناس فكل منهما قد أصبح زوجاً للآخر، وارتبط به(5/90)
903 - "بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ استطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوّجْ"
1049 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن مَسْعُود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
لَقَدْ قَالَ لَنَا النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا مَعْشَرَ الشَبّاَبِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ارتباطاً شرعياً يحفظ له حقوقه، ويصون سمعته وكرامته، ويثبت نسله منه حتى تقوم الأسرة على أسس قوية متينة. ومن أغراض النكاح المحافظة على صحة الزوجين جسمياً ونفسياً (1) وقد جاء في تقرير هيئة الأمم المتحدة الذي نشرته صحيفة الشعب الصادرة يوم السبت 6/6/1959 م أن المتزوجين يعيشون مدة أطول مما يعيشها غير المتزوجين سواء كان غير المتزوجين أرامل أم مطلقين، أم عزاباً من الجنسين.
903 - " باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من استطاع منكم الباءة فليتزوج "
1049- معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوجه نداءه إلى الشباب فيقول لهم: " يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج " أي من وجدت لديه القدرة الجنسية على الجماع والرغبة فيه مع قدرته على مؤونته ونفقته فليتزوج. ليغضَّ بصره، ويحفظ فرجه عن محارم الله، كما جاء في رواية أخرى حيث قال: " فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحفظ للفرج " " ومن لم يستطع فعليه بالصوم " أي ومن لم يستطع الزواج لعجز مالي عن المؤونة والنفقة، ولديه رغبة في الجماع " فعليه بالصوم فإنه له وجاء " أي فليلجأ إلى الصوم لكسر شهوته وإضعاف رغبته الجنسية " فإنه له وجاء " أي فإن الصوم يقطع الشهوة
__________
(1) انظر كتاب " الأمراض الجنسية " للدكتور نبيل صبحي الطويل. حسن السماحي.(5/91)
كما يقطعها الوجاء. والوجاء رض الخصيتين (1) .
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يسن النكاح لكل من قدر على نفقاته وتاقت نفسه إليه، وهو مذهب الجمهور، وقالت الظاهرية بوجوبه، لظاهر الأمر به في الكتاب والسنة، وأما من رغب عن الزواج دون عذر، وظن أن البعد عنه فضيلة، وفضل الرهبانية، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حقه: " وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني " أي فليس من طريقتي الرهبانية، قال ابن قدامة: والناس في النكاح على ثلاثة أضرب: منهم من يخاف على نفسه الوقوع في المحظور إن ترك النكاح، فهذا يجب عليه النكاح في قول عامة العلماء، الثاني من يستحب له، وهو من له شهوة ويأمن الوقوع في محظور، فهذا التزوج له أولى من التخلي لنوافل العبادة، وهو قول الحنفية، وهو ظاهر قول الصحابة رضي الله عنهم، قال ابن مسعود رضي الله عنه: لو لم يبق من أجلي إلاّ عشرة أيام وأعلم أني أموت في آخرها ولي طول النكاح فيهن لتزوجت، مخافة الفتنة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما لسعيد بن جبير: تزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء، وقال أحمد: ليست العزوبة من أمر الإِسلام في شيء، وقال أنس: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بالباءة ويقول: " تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ". الثالث: من لا شهوة له، إما لأنه لم تخلق له شهوة أو كانت شهوة فذهبت بكبر أو مرض أو نحوه، ففيه وجهان أحدهما: يستحب له النكاح، لعموم ما ذكرنا. الثاني: التخلي للعبادة له أفضل، لأنه لا يحصل مصالح النكاح ويمنع زوجته من التحصين بغيره، ويضربها بحبسها على نفسه ويشتغل عن العلم والعبادة بما لا فائدة فيه. ثانياً: أنه ينبغي لمن لا قدرة له، ولا يجد لديه مؤنة النكاح أن يترك التزوج ويكثر الصوم لإضعاف شهوته أما إذا كان قادراً عليه ولكنه لا يرغب فيه، فقد قال الدردير المالكي:
__________
(1) قال في " المصباح " الوجاء مثل كتاب، ويطلق الوجاء على رض عروق الخصيتين حتى تنفضخا من غير إخراج، فيكون شبيهاً بالخصاء لأنه يكسر الشهوة.(5/92)
904 - " بَابُ نِكَاحِ الأبكَارِ "
1050 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ أرَأيْتَ لَوْ نَزَلْتَ وَادِياً، وفِيهِ شَجَرَة قَدْ أُكِلَ مِنْهَا، وَوَجَدْتَ شَجَرَاً لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا، أيِّهَا كُنْتَ تُرْتِعُ بَعِيرَكَ؟ قَالَ: " في التي لم يُرْتَعْ مِنْهَا " تَعْنِي أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْراً غَيْرَهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" وغير الراغب إن أداه إلى قطع مندوب كره وإلا أبيح، إلا أن يرجو نسلاً، أو خيراً من نفقة على فقيرة فيندب ما لم يؤد إلى حرام وإلا حَرُمَ. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي بألفاظ مختلفة. والمطابقة: في قوله: " من استطاع منكم الباءة فليتزوج ".
904 - " باب نكاح الأبكار "
1050 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها أرادت أن تزهو بنفسها، وتفخر على غيرها بفضل بكارتها، فقالت: " أرأيت لو نزلت وادياً وفيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجراً لم يؤكل منها في أيها كنت ترتع بعيرك؟ " بضم التاء الأولى، وكسر التاء الثانية، وإسكان الراء فيها، وهو مضارع أرتع تقول رضي الله عنها له - صلى الله عليه وسلم -: أخبرني لو نزلت وادياً فيه أشجار قد رعاها غيرك وأشجار لم يرعها أحد قبلك، ماذا كنت تختار لبعيرك أن يرعاهُ " قال: في التي لم يرتع (1) منها " أي أختار لبعيري أن يأكل من الشجرة التي لم يأكل منها غيره فلما قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك " قالت رضي الله عنها: فأنا هيه " كما في رواية أبي نعيم، " تعني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوج بكراً غيرها " أي تقصد رضي الله عنها من هذا المثل أنها أفضل نسائه، لأنها البكر
__________
(1) بضم الباء وإسكان الراء وفتح التاء أي لم يؤكل منها.(5/93)
905 - " بَابُ الأكفَاءِ في الدِّينْ "
1051 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنَّ أبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْن رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَْمسٍ، وكان مِمَّنْ شَهِدَ بَدْراً مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تَبَنَّى سَالِماً وأنْكَحَهُ بِنْتَ أخيهِ هِند بنْتَ الوَلِيدِ بْن عُتْبَةَ وَهُوَ مَوْلى لامْرأة مِنَ الأنْصَارِ كمَا تَبَنَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - زَيداً، وَكَانَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الوحيدة بينهن فينبغي أن يحبها أكثر من نسائه جميعاً.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل الأبكار والترغيب في نكاحهن، لأن البكر مثل الشجرة التي لم يؤكل منها، فهي أرغب وأحب إلى النفس من الشجرة التي أكل منها، وقد جاء الترغيب في نكاح الأبكار في أحاديث كثيرة. منها: حديث عبد الرحمن بن سالم بن عتبة بن عويم بن ساعدة الأنصاري عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً وأرضى باليسير " أخرجه ابن ماجة، والحديث وإن كان راويه عبد الرحمن بن سالم وهو مجهول إلا أنه يؤيده حديث جابر حيث قال له - صلى الله عليه وسلم - هلا بكراً تلاعبها " وفي رواية: " هلا جارية تلاعبها وتلاعبك ". ثانياً: أن حب المباهاة من طبيعة المرأة في كل العصور لم يسلم من ذلك حتى أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، كما يدل عليه هذا الحديث. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " في التي لم يرتع منها " حيث يدل على تفضيل البكر، وهو ما ترجم له البخاري.
905 - " باب الأكفاء في الدين "
1051 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث "أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس وكان ممن شهد بدراً مع النبي(5/94)
من تَبَنَّى رَجُلاً في الجَاهِلِيَّةِ دَعَاهُ النَّاسُ إليهِ، وَوَرِثَ مِنْ مِيرَاثِهُ حتَّى أنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ -إلى قوله- وَمَوَالِيكُمْ) فرُدُّوا إلى آبَائِهِمْ، فمَنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُْ أبٌ كَانَ مَوْلَى وأخَاً في الدِّينِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- صلى الله عليه وسلم - تبنى سالماً وأنكحه بنت أخيه هند بنت الوليد بن عتبة" أي أن هذا الصحابي الجليل الحسيب النسيب الذي جمع بين شرف النسب وشرف الدين وشهد بدراً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تبنى سالم بن معقل وزوّجه ابنة أخيه " هنداً " الحرة الشريفة الكريمة النسب العريقة الأصل " وهو مولى لامرأة من الأنصار " أي والحال أنّه عبد مملوك لامرأة من الأنصار اسمها ثبيتة بنت يعار " كما تبنى النبي - صلى الله عليه وسلم - زيداً " أي زيد بن حارثة، فكان يدعى زيد بن محمد " وكان من تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إليه " أي ألحقوه به نسباً، وأصبح ولداً كأولاده من صلبه " وورث من ميراثه " كولد الصلب تماماً " حتى أنزل الله عز وجل: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ) " أي استمر ذلك حتى أنزل الله تعالى قوله: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ (1) فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) فأبطل التبني.
فقه الحديث: دل هذا الحديث علي ما يأتي: أولاً: استدل به ابن حزم ومن وافقه من أهل العلم على أن المعوّل عليه في كفاءة النكاح هو الإيمان والدين فقط لأن أبا حذيفة لم تمنعه عراقة نسبه، وشرف منزلته في الجاهلية والإِسلام من تزويج ابنة أخيه الحسيبة النسيبة لعبد مملوك. ولهذا قال ابن حزم ومن وافقه من أهل العلم: لا كفاءة إلاّ في الدين، فلا يجوز للمسلمة أن تتزوج كافراً، أمّا ما عدا ذلك فأي مسلم له الحق أن يتزوج أية مسلمة ما لم تكن زانية أو يكن زانياً ولم يتوبا توبة نصوحاً. وهو مذهب البخاري ورواية عن مالك في
__________
(1) قال أهل العلم: معناه فإن لم تعرفوا شخصاً تنسبونه إليه فقولوا يا أخي أو يا ابن عمي. اهـ. كما في التفسير المنير.(5/95)
" المدونة " كما في شرح العبدري على متن خليل (1) وهي التي اعتمد عليها الحافظ في قوله: " وجزم مالك باعتبار الكفاءة في الدين خاصة (2) . لكن المعتمد عند المالكية أن الكفاءة تعتبر في الدين والحرية والسلامة من العيوب. لقول خليل (3) : " والكفاءة في الدين والحال " أي في الدين والسلامة من العيوب. وقال ابن رشد (4) : " وأما الحرية فلم يختلف المذهب أنها من الكفاءة. اهـ. ولهذا قال في " الإِفصاح " واختلف الفقهاء في شروط الكفاءة (5) ، فقال أبو حنيفة: هي النسب والدين والحريّة وإسلام الآباء والقدرة على المهر والنفقة والصناعة، وقال الشافعي " الكفاءة " ستة: الدين والنسب والحرية والصناعة والبراءة من العيوب والمال في أحد الوجهين، وقال أحمد في الرواية المشهورة عنه، هي خمسة النسب والدين والحرية والصناعة والمال، وعن أحمد رواية أخرى هي النسب والدين فقط. قال ابن قدامة: والدليل على اعتبار النسب في الكفاءة قول عمر رضي الله عنه: لأمنعن فروج ذوات الأحساب إلاّ من الأكفاء قيل له: وما الأكفاء؟ قال: في الأحساب. اهـ. واختلفوا في التفاضل بين القرشيين والهاشميين فالأحناف يرون أن القرشي كفء للهاشمية خلافاً للشافعية لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - زوّج ابنتيه عثمان بن عفان وأبا العاص بن الربيع وهما من بني عبد شمس. قالوا: وشرف العلم دونه كل نسب وكل شرف، فالعالم كفء لأي امرأة مهما كان نسبها وإن لم يكن له نسب معروف لقوله تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) . وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإِسلام إذا فقهوا "
__________
(1) التاج والإكليل لمختصر خليل على هامش الخطاب.
(2) " فتح الباري " ج 9.
(3) متن خليل في فقه المالكية.
(4) " بداية المجتهد " ج 2.
(5) " الإفصاح عن معاني الصحاح " لابن هبيرة الحنبلي.(5/96)
1052 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " تُنْكَحُ الْمَرأةُ لأرْبَع: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينهَا، فاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّيْنِ تَرِبَتْ يَدَاكَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فجعل الفقه في الدين أعلى الفضائل واستدل الجمهور على اشتراط الحرية في الكفاءة بما ثبت في السنة الصحيحة من تخيير الأمة إذا أعتقت (1) كما أشار إليه ابن رشد. ثانياً: إبطال التبني الذي كان معروفاً ومعمولاً به في الجاهلية وذلك بنزول قوله تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ) . الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في كون أبي حذيفة زوج ابنة أخيه لمولى مع عراقة نسبها وشرفها في الجاهلية والإِسلام.
1052 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " تنكح المرأة لأربع " أي أن من أهم الأشياء التي ترغب الرجل في الزواج من المرأة أربع صفات: الأولى أن تكون غنية فيتزوجها " لمالها " أي طمعاً في ثروتها إما لأنه قد يستغني بها عن الإنفاق عليها، أو لتمكنه من التصرف في مالها، أو لأنه يود أن ينجب منها أولاداً فيعود المال إليهم. الثانية: أن تكون ذات نسب وحسب فينكحها " لحسبها " لكي ينعكس هذا الحسب (2) والنسب على أولادها فتحسن تربيتهم ولأن العرق دساس وللوراثة أثرها الثالثة: أن تكون المرأة جميلة فينكحها " لجمالها " أي لكي يستمتع بحسنها وجمالها. الرابعة: أن تكون المرأة ذات دين وصلاح، فيتزوجها " لدينها " وصلاحها، وهو أسمى المقاصد، لأن المرأة
__________
(1) كما جاء في حديث عائشة قالت: " كان في بريرة ثلاث سنن عتقت فخيّرت، أي أول هذه السنة أنها لما عتقت خيّرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تبقى تحت زوجها، وهو مولى، أو يفسخ نكاحها، وهذا يدل على أن الأمة تحت العبد إذا أعتقت لها الخيار في فسخ نكاحها، وهو مذهب الجمهور.
(2) والحسب كل ما يفتخر به الإنسان من مركز أو جاه أو نسب شريف وأسرة عريقة وقيل: المراد بحسبها أفعالها الجميلة وأخلاقها الكريمة.(5/97)
الصالحة من أعظم نعم الدنيا، ولذلك أمر - صلى الله عليه وسلم - بالمبادرة إليها وتفضيلها على غيرها، حيث قال: " فاظفر بذات الدين " أي فاحرص على أن تفوز بالمرأة الصالحة المتدينة لأنها خير متاع الدنيا إن نظرت إليها سرتك، وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في مالك وعرضها. " تربت يداك " ومعناه في الأصل افتقرت يداك، والمراد به هنا التحذير الشديد من مخالفة هذه النصيحة الغالية، وأن من خالفها وتزوج بغير ذات الدين. خسر كل المزايا التي لا تتوفر إلاّ في المرأة الصالحة من سعادة وطاعة وإخلاص، ووفاء وأمانة، واحترام لزوجها، ومراعاة لمشاعره، وحسن تربية لأولادها، ومحافظة على مال زوجها، وصيانة لعرضها، وهذا هو المقصود بقوله: " تربت يداك ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من أهم الصفات والمزايا التي يطلبها الرجل في المرأة المال والحسب والجمال والدين، فمن رغب في امرأة طمعاً في مالها، فإن هذا غرض خسيس تأباه النفوس الكريمة أما الرغبة في المرأة لحسبها ونسبها، فإنه لا شك أنه غرض نبيل، لأن العرق دساس، وللوراثة أثرها دون شك، أما الجمال فإن النفس البشرية تميل إليه بطبيعتها وفطرتها، وقد يكون سبباً للوفاق بين الزوجين. ثانياً: الترغيب في الزوجة الصالحة، وتفضيلها على غيرها، لأن من فقد المرأة الصالحة فقد كل شيء كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فاظفر بذات الدين تربت يداك " فقد سمّى النبي - صلى الله عليه وسلم - نكاح ذات الدين ظفراً - أي فوزاً وفلاحاً، وحذر من نكاح المرأة التي لا دين لها، لأن نكاحها فقرٌ وإن حسبه غنى، وخسارة وإن ظنه كسباً. وفي الحديث عن أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من تزوج المرأة لعزها لم يزده الله إلا ذلاً، ومن تزوجها لمالها لم يزده الله إلا فقراً، ومن تزوجها لحسبها لم يزده الله إلاّ دناءة، ومن تزوج امرأة لم يتزوجها إلاّ ليغض بصره، أو يحصن فرجه، أو يصل رحمه بارك الله له فيها، وبارك لها فيه " أخرجه الطبراني في(5/98)
906 - " بَابُ يُتَّقَى من شُؤْمِ الْمَرْأةِ وقوله تعالى (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) "
1053 - عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ النبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أضَرَّ عَلَى الرِّجَالَ مِنَ النِّسَاءِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأوسط (1) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يردِيَهُنُّ، ولا تزوجوهن لمالهن فعسى مالهن أن يطغيهن ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة خرقاء سوداء ذات دين أفضل " أخرجه ابن ماجة (2) . وعن أبي أمامة رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيراً له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله " أخرجه ابن ماجة (3) . الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " فاظفر بذات الدين تربت يداك ".
906 - " باب ما يتقى من شؤم (4) المرأة وقوله تعالى: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) "
1053 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما تركت بعدى فتنة
__________
(1) قال الحافظ الهيثمي في " مجمع الزوائد " (4/254) وفيه عبد السلام بن عبد القدوس بن حبيب الكلاعي الدمشقي، وهو ضعيف. (ع) .
(2) وفي مسنده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وهو ضعيف. (ع) .
(3) وفي مسنده علي بن يزيد الألهاني ويكفي الحديث الصحيح، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فاظفر بذات الدين تربت يداك ". (ع) .
(4) والمراد بشؤم المرأة إغواءها للرجل وهذا في بعض النساء فقط.(5/99)
907 - " بَابٌ (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ "
1054 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا:
أنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِن في بَيْتِ حَفْصَةَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسولَ اللهِ هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِن في بَيْتِكَ، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أراهُ فلاناً "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أضر على الرجال من النساء" أي لا أحد أقدر على فتنة الرجل وإغوائه من المرأة السوء، لقوة تأثيرها عليه عاطفياً، ولذلك فإن المرأة إذا كانت صالحة أصلحت زوجها غالباً، أو زادته صلاحاً، أو خففت من فساده وإن كانت فاسدة أفسدته غالباً إلاّ من عصمه الله بقوة الدين والعزيمة والإرادة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن المرأة تملك من التأثير على الرجل ما لا يملكه سواها، وتستخدم أقوى سلاح لها في التأثير عليه والهيمنة على تصرفاته وسلوكه، وهو قوة حبه لها، ولذلك قدم الله النساء على سائر الشهوات الأخرى، فقال: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ) فقدَّمهن على الولد الذي هو مهجة القلب، ثانياً: التحذير الشديد من الانقياد للمرأة والاستجابة لكل رغباتها، لأنها أشد الفتن، وأخطرها على الرجال، فإذا استجاب لرغباتها كلها أضلته عن سواء السبيل لنقصان عقلها وشدة اندفاعها، وانسياقها مع عواطفها. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على شدة ضرر المرأة.
907 - " باب (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) ، ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب "
1054 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها تحدثنا في هذا الحديث " أنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة " أي يطلب الإذن(5/100)
لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فسألتْ عَائِشَةُ: لَوْ كَانَ فُلانٌ حَيَّاً لِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ دَخَلَ عَلَيَّ؟ قَالَ: " نَعَمْ، الرَّضاعَةُ تُحَرمُ مَا تُحَرِّمُْ الوِلادَةُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالدخول إلى بيت حفصة رضي الله عنها " قالت: فقلت يا رسول الله سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أراه فلاناً لعم حفصة من الرضاعة " أي أظنه فلاناً الذُي هو عم حفصة من الرضاعة " قالت عائشة: لو كان فلان حياً لعمها من الرضاعة دخل علي " أي لو كان فلان ... الذي هو عمي من الرضاعة موجوداً على قيد الحياة لجاز له الدخول عليَّ قال بعض أهل العلم: أرادت بقولها لو كان فلان حياً " أفلح " أخا أبي القعيس عمها من الرضاعة، " قال نعم " أي لو كان عمك من الرضاعة حياً لدخل عليك " الرضاعة تحرّم ما تحرم الولادة " وفي رواية يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة.. أخرجه مسلم وأبو داود والشافعي ومعناه: يحرم من أجل الرضاعة ما يحرم من أجل الولادة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه يحرم من الرضاع الأصناف المحرمة من الولادة والنسب، فتحرم الأم من الرضاعة والجدّة والأخت الشقيقة (1) ، والأخت لأب والأخت لأم، والعمة من الرضاعة، والخالة من الرضاعة، وغيرهم وهكذا يحرم من الرضاع كل ما يحرم من النسب. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ متعددة. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة ".
***
__________
(1) أي أخت أختك أو أخيك الشقيقة.(5/101)
908 - " بَابُ مَنْ قَالَ لا رَضَاعَ بَعْدَ الحَوْلَيْنِ "
1055 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا رَجُلٌ فكأَنَّهُ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ، كأنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: إنَّهُ أخِي، فقَالَ: انْظرنَ مَنْ إخْوَانُكُنَّ، فإنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
908 - " باب من قال لا رضاع بعد الحولين "
1055 - معنى الحديث: تروي عائشة رضي الله عنها " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها رجل " قال الحافظ: وأظنه ابناً لأبي القعيس " فكأنه تغير وجهه، كأنه كره ذلك " وفي رواية أبي داود " فشق ذلك عليه، فتغير وجهه " فقال: يا عائشة ما هذا؟ " فقالت: إنه أخي " وفي رواية أبي داود: إنه أخي من الرضاعة " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انظرن من إخوانكن " أي دققن النظر في سبب هذه الأخوة، وكيف وقعت هذه الرضاعة، فليست كل رضاعة تحرِّم، " إنما الرضاعة من المجاعة " أي إنما الرضاعة التي تثبت بها الحرمة، وتحل بها الخلوة، ما تكون من المجاعة، حين يكون الرضيع طفلاً يسد اللبن جوعته، وينبت لحمه بذلك، فيصير كجزء من أجزاء المرضعة ويصبح كسائر أولادها في الحرمة. قال الخطابي: معناه أن الرضاعة التي تقع بها الحرمة ما كانت في الصغر، والرضيع طفل يقويه اللبن، ويسد جوعه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الرضاعة المعتبرة شرعاً في تحريم الرضيع هي المغنية من المجاعة التي تكون في مدة الرضاع قبل تمام الحولين، ويؤيده حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: " لا يحرم من الرضاع إلاّ ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام " أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم: أن(5/102)
الرضاعة لا تحرّم إلاّ ما كان دون الحولين (1) وما كان بعد الحولين فإنه لا يحرم شيئاً، وهو مذهب الجمهور في اختلف العلماء في حد الصغر (2) فقال الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد: مدة الرضاع المحرِّم حولان، ولا يحرم ما وقع بعدهما، ورواه ابن وهب عن مالك، ودليل أن مدة الرضاع حولين قوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) وقال أبو حنيفة في المشهور عنه: " مدة الرضاع المؤثرة في التحريم ثلاثون شهراً من وقت الولادة واستدل له بقوله تعالى: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) حيث أفادت الآية أن مدة كل منهما ثلاثون شهراً، وأجاب الجمهور أن ظاهر الآية يدل على أن الثلاثين شهراً هي مدة للحمل والفصال معاً. وذهب الظاهرية إلى أنه يثبت التحريم برضاع الكبير، مستدلين بقوله - صلى الله عليه وسلم - لامرأة أبي حذيفة في حق سالم: " أرضعيه فأرضعته خمس رضعات، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة، وأجاب الجمهور بأن هذه رخصة استثنائية خاصة لهم دون غيرهم. ثانياً: أن مجرد التغذية بلبن المرضعة يحرّم سواء كان بشرب أو مص أو حقن أو سعوط أو غيره، وهو قول الجمهور: وقالت الظاهرية: الرضاعة المحرمة بالتقام الثدي ومص اللبن منه (3) ، والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإنما الرضاعة من المجاعة ".
***
__________
(1) " جامع الترمذي ".
(2) " تكملة المنهل العذب " ج 3.
(3) وقد روى مسلم في " صحيحه " عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن فيما يقرأ من القرآن " فلذلك كانت خمس رضعات مشبعات يحرمن وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد. (ع) .(5/103)
909 - " بَابُ نِكَاحِ الشِّغارِ "
1056 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن الشِّغَارِ، والشِّغَارُ أن يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أن يُزَوّجَهُ الآخَرُ ابْنَتَهُ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاق ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
909 - " باب نِكاح الشِّغار "
والشغار لغة: الخلو، من شغر البلد، إذا خلا، فسمى هذا النكاح شغاراً لخلوه من المهر، ولذلك نجد أنّ الشغار شرعاً هو أن ينكح الرجل المرأة التي تحت ولايته (1) لرجل آخر على أن ينكحه الآخر المرأة التي تحت ولايته بدون صداق، وهو من الأنكحة التي كانت مستعملة معروفة في الجاهلية فأبطلها الإسلام.
1056 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر في هذا الحديث " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نكاح الشغار " أي أنّه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نكاح الشغار، " والشغار أن يزوج الرجل ابنته " أو أخته مثلاً لرجل آخر " على أن يزوجه " الرجل " الآخر ابنته " أو أخته مثلاً " ليس بينهما صداق " أي ليس بينهما مهر. قال الشافعي: " لا أدري تفسير الشغار في الحديث بهذا التفسير من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من ابن عمر أو من نافع أو من مالك ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم نكاح الشغار، لأن النهي للتحريم، وهو قول الجمهور، قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن نكاح الشغار لا يجوز، ولكن اختلفوا في صحته، فالجمهور على البطلان، وذهب الحنفية إلى صحته، ووجوب مهر المثل، وهو رواية عن أحمد، وقول على مذهب
__________
(1) سواء كانت بنتاً أو أختاً أو أي امرأة يلي أمرها.(5/104)
910 - " بَابٌ نَهْي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ آخِراً "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشافعي (1) ومنشأ الخلاف هل النهي معلل بعدكم العوض أو غير معلل، فإن كان غير معلل لزم الفسخ على الإِطلاق، وإن كان معللاً بعدم الصداق صح بفرض صداق المثل (2) وهو مذهب الحنفية، لأن الفساد من قبل المهر لا يوجب فساد العقد (3) ، والظاهر ما ذهب إليه الجمهور، لأن النهي عن الشغار محمول على عدم مشروعيته اتفاقاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا شغار في الإِسلام (4) ، وما دام غير مشروع فهو باطل. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قول ابن عمر رضي الله عنهما: "نهى - صلى الله عليه وسلم - عن الشغار".
910 - " باب نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح المتعة آخراً "
قال الحافظ: وقول البخاري " آخراً " يفهم منه أنه كان مباحاً، وأن النهي عنه وقع آخر الأمر، وليس في أحاديث الباب التي أوردها التصريح بذلك. قال الحافظ: وقد وردت عدة أحاديث صحيحة صريحة بالنهى عنها بعد الأذن فيها، وأقربها عهداً بالوفاة النبوية ما أخرجه أبو داود عن طريق الزهري قال: كنا عند عمر بن عبد العزيز فتذاكرنا متعة النساء، فقال رجل يقال له ربيع بن سبرة: أشهد على أبي أنه حدّث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها في حجة الوداع. وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: " رخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام، ثم نهى عنها، أخرجه مسلم وأحمد (5) .
__________
(1) " تحفة الأحوذي شرح الترمذي " ج 4.
(2) " الفقه الإسلامي وأدلته " للدكتور وهبة الزحيلي.
(3) " تكملة المنهل العذب المورود في شرح سنن أبي داود " ج 3.
(4) أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه، وهو حديث صحيح. (ع) .
(5) وفي " صحيح مسلم " عن ربيع بن سبرة عن أبيه سبرة الجهني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى يوم الفتح (يعني فتح مكة) عن متعة النساء، وفي رواية أخرى عند مسلم عن سبرة الجهني "نهى عن المتعة وقال: ألا وإنها حرام =(5/105)
1057 - عَنْ عَلِيٍّ بنِ أبي طَالِب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَنَّهُ قَالَ لاْبنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " إِنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ المُتْعَةِ، وَعَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1057 - معنى الحديث: أن البخاري يروي بسنده المتصل " عن علي رضي الله عنه أنه قال لابن عباس: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المتعة " أي عن نكاح المتعة، وهو النكاح المؤقت (1) بأن يقول لامرأة: أتمتع بك لمدة كذا، فيتزوجها لمدة عشرة أيام أو عشرين يوماً مثلاً " وعن لحوم الحمر الأهلية " أي ونهى - صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحوم الحمر الأهلية كما جاء في رواية أخرى للبخاري " وعن أكل الحمر الأنسية " " زمن خيبر " أي وكان النهي عن المتعة والحمر الأهلية في غزوة خيبر وقد اختلفت الروايات في وقت تحريمها، ففي بعض الروايات أن المتعة حُرّمت يوم خيبر، وفي بعضها حرمت في فتح مكة، وفي بعضها في غزوة تبوك، وفي بعضها في حجة الوداع، وفي بعضها في عمرة القضاء ولذلك ذهب بعضهم إلى إنكار بعض الروايات حتى قال ابن عبد البر: وذكر النهي عن المتعة يوم خيبر غلط، وقال السهيلي: النهي عن المتعة يوم خيبر لا يعرفه أحد من أهل السير، ولكن التحقيق في ذلك ما ذهب إليه الإِمام النووي: واختاره من الجمع بين هذه الروايات حيث قال رحمه الله تعالى: " والصواب المختار أن التحريم والإِباحة كانا مرتين كانت حلالاً قبل خيبر ثم حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت يوم فتح مكة،
__________
= من يومكم هذا إلى يوم القيامة"، وقد قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " الرواية عن سبرة الجهني بأنها في الفتح أصح وأشهر. (ع) .
(1) سواء كان مؤقتاً بمدة معلومة كسنة أو مجهولة كقدوم زيد، وسواء كان بلفظ التمتع والاستمتاع أو بلفظ النكاح والزواج. ولا دليل على أن نكاح المتعة الذي أباحه - صلى الله عليه وسلم - ثم حرمه هو ما اجتمع فيه (م ت ع) وليس معناه أن يخاطبها بلفظ أتمتع، أو نحوه، لأن اللفظ يطلق ويراد معناه. اهـ. كما في " أوجز المسالك " ولهذا عرّفه أكثر الفقهاء بأنه النكاح إلى أجل. فقال الباجي: هو النكاح المؤقت، وقال ابن قدامة: هو أن يتزوج المرأة مدة.(5/106)
وهو يوم أوطاس لاتصالهما، ثم حرمت يومئذ بعد ثلاثة أيام تحريماً مؤبداً إلى يوم القيامة".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن نكاح المتعة كان مباحاً مشروعاً أول الإِسلام ثم حرّم. أما كيف كانت مشروعيته، وهل كان حكماً عاماً أو خاصاً فقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن نكاح المتعة كان رخصة استثنائية في حال السفر فقط. كما جاء في حديث قيس بن حزام قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس معنا نساء، فأردنا أن نختصى، فنهانا عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم رخص لنا أن ننكح المرأة إلى أجلٍ بالثوب. ولهذا قال الحازمي: وإنما كان ذلك في أسفارهم، ولم يبلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أباحه لهم وهم في بيوتهم، ولهذا نهاهم عنه غير مرة، وأباحه لهم في أوقات مختلفة، حتى حرّمه عليهم في فتح مكة، وهو أصح الأقوال حيث حرمه تحريم تأبيد لا تأقيت فيه، فلم يبق اليوم في ذلك خلاف بين فقهاء الأمصار إلا شيئاً ذهب إليه الشيعة، ويروى أيضاً عن ابن جريج، وأما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول بجواز نكاح المتعة، فالصحيح أنه رجع عن رأيه هذا، قال الترمذي: وإنما روي عن ابن عباس شيء من الرخصة في المتعة، ثم رجع عن قوله حيث أخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) . اهـ. وقال الخطابي: وكان ابن (2) عباس رضي الله عنهما يتأول في إباحته للمضطر إليه بطول العزوبة وقلة اليسار، ثم توقف عنه وأمسك عن الفتوى به، فعن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: هل تدري ما صنعت وبما أفتيت؟ قد سارت بفتياك الركبان، وقالت فيه الشعراء قال: وما قالت؟ قلت قالوا:
قَدْ قُلْتُ للشيخ لَمَا طَاْل مَجْلِسُهُ ... يَا صَاحِ هَل لَكَ في فُتْيَا اْبنِ عَبَّاسِ
هَلْ لَكَ في بَيْضاءَ بَهْكَنَةٍ ... تَكُونُ مَثْوَاكَ حَتَّى مَصْدَرِ النَّاسِ
__________
(1) " صحيح الترمذي ".
(2) " تكملة المنهل العذب " ج 3.(5/107)
911 - " بَابُ النَّظَرِ إلى المَرْأةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ "
1058 - عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ:
أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يا رَسُولَ اللهِ جِئْتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقال ابن عباس: إنا لله وإنا إليه راجعون. والله ما بهذا أفتيت ولا هذا أردت، ولا حللت إلاّ مثل ما أحل الله من الميتة والدم ولحم الخنزير، وما تحل إلا للمضطر، وقد جزم بعض أهل العلم بإجماع المسلمين على تحريم المتعة. وقال القرطبي: الروايات كلها متفقة على أن زمن إباحة المتعة لم يطل، وأنه حرم -أي حرم نكاح المتعة- ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها، إلاّ من لا يلتفت إليه من الروافض، وقال الخطابي: تحريم المتعة كالإِجماع إلاّ عن بعض الشيعة، ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المختلفات إلى علي وآل بيته، فقد صح عن عليٍّ أنها نسخت، ونقل البيهقي عن جعفر بن محمد الصادق أنه سئل عن المتعة فقال: هي الزنا بعينه (1) هذا وقد اختلف العلماء فيمن نكح نكاح المتعة هل يقام عليه الحد أم لا؟ فعند أكثر أهل العلم لا يجب الحد في نكاح المتعة كما أفاده ابن قدامة حيث قال: " لا يجب الحد بالوطء في نكاح مختلف فيه كنكاح المتعة وغيرها، وهذا قول أكثر أهل العلم، فإن الاختلاف في إباحة الوطء فيه شبهة، والحدود تدرأ الشبهات (2) ، وروي عن مالك أنه قال: فيه الحد، ويعاقب إن كان عالماً بمكروه ذلك (3) . اهـ. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " قد أذن لكم أن تستمتعوا ".
911 - " باب النظر إلى المرأة قبل التزويج "
1058 - معنى الحديث: أن سهل بن سعد يحدثنا "أن امرأة (4) جاءت
__________
(1) " أوجز المسالك إلى موطأ مالك " ج 9.
(2) " أوجز المسالك " أيضاً.
(3) " أوجز المسالك " أيضاً.
(4) وفي الأحكام لابن القطاع أنها خولة بنت حكيم، أو أم شريك، قال الحافظ: وهو باطل.(5/108)
لأهبَ لَكَ نَفْسِي، فَنَظرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَعَّدَ النَّظرَ إليْهَا وَصَوَّبَهُ، ثمَّ طَأطَأ رَأسَهُ، فَلَمَّا رَأت الْمَرأة أنَّهُ لَمْ يَقْضِ فيها شَيْئَاً جَلَسَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ من أصْحَابِهِ فَقَالَ: أيْ رَسُولَ اللهِ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا، فَقَالَ: " وَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ "، قَالَ: لا واللهِ يا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " اذْهَبْ إلى أهْلِكَ فانْظر هَلْ تَجِدُ شَيْئاً " فَذَهَبَ ثم رَجَعَ فَقَالَ: لا واللهِ يا رَسُولَ اللهِ، مَا وَجَدْتُ شَيْئَاً، قَالَ: انْظر وَلَوْ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ، فَذَهَبَ ثم رَجِعَ فقالَ: لا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ ولا خَاتَماً مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي" أي لأعرض عليك نفسي بدون مهر " فنظر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصعّد النظر إليها وصوّبه " أي فرفع إليها بصره، وشخص فيها بعينيه، وتفحصها جيداً، ثم خفض بصره عنها، " ثم طأطأ رأسه " أي أرخى رأسه ولم يرد عليها بشيء لم تعجبه، " فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئاً " أي فلما لم يجاوبها بشيء " جلست " تنتظر ما يقول لها، أو ما يتصرف في شأنها " فقام رجل (1) من أصحابه فقال: أي رسول الله إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها " أي إذا لم تكن لك فيها رغبة فإني أرغب في زواجها " فقال: وهل عندك شيء " أي هل يوجد لديك ما تقدمه صداقاً لها كما في رواية " الموطأ " حيث جاء فيها: " هل عندك شيء تصدقه إياها " " قال: لا والله يا رسول الله " أي لا يوجد لدي شيء من المال أقدمه صداقاً " قال: اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئاً " أي لعلهم يعينونك فيعطونك شيئاً من المال تقدمه صداقاً " فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله مما وجدت شيئاً " أي لم يعطوني شيئاً من المال أستعين به على صداقها "قال:
__________
(1) وفي رواية عند الطبراني أحسبه من الأنصار. اهـ. كما أفاده في " أوجز المسالك ".(5/109)
حَدِيد، ولكنْ هَذَا إزارِي فَلَهَا نِصْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ؟ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وِإنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ شَيءٌ" فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى طَالَ مَجْلِسُهُ، ثم قَامَ، فَرَآهُ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - مُوَلِّياً، فأمَرَ بِهِ فَدُعِيَ، فلمَّا جَاءَ قَالَ: مَاذَا مَعَكَ مِنَ القُرآنِ؟ قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا وسُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا عَدَّدهَا، قَالَ: " أتقْرؤهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " اذهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بمَا مَعَكَ مِنَ القُرآنَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
انظر ولو خاتماً من حديد" وفي رواية " فالتمس ولو خاتماً من حديد " " فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتماً من حديد " أي لم أجد شيئاً ولا خاتماً من حديد " ولكن هذا إزاري فلها نصفه " صداقاً لها وفي رواية ليس عندي إلاّ إزاري هذا " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك شيء " أي فلا يجوز لك أن تسلم إزارك لها لما يؤدي إليه ذلك من كشف العورة وهو محرم شرعاً " فرآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مولياً " أي فرآه - صلى الله عليه وسلم - منصرفاً من المجلس بعد أن يئس من المرأة " فأمر به فدعي، فلما جاء قال: ماذا معك من القرآن، قال: معي سورة كذا وسورة كذا " وفي رواية أبي هريرة قال: " ما تحفظ من القرآن " قال سورة البقرة أو التي تليها. أخرجه أبو داود والنسائي " فقال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن " أي زوجتك إياها بتعليمك لها بعض ما تحفظه من القرآن، لما جاء في رواية أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " فقم فعلمها عشرين آية، وهي امرأتك " أخرجه أبو داود والنسائي والبيهقي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يجوز للرجل النظر(5/110)
لمن يريد أن يتزوج بها، ولو بلا إذنها، قال في تكملة المنهل العذب: ولا نعلم في ذلك خلافاً. والحكمة فيه أنّه أدعى لحسن العشرة، وبقاء الزوجية، وروى المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم (1) بينكما " أخرجه النسائي وابن ماجة والترمذي، وقال: هذا حديث حسن، وإليه ذهب بعض أهل العلم فقالوا: لا بأس أن ينظر إليها ما لم ير منها محرّماً، وهو قول أحمد وإسحاق. قال النووي: فيه استحباب النظر إلى من يريد تزوجها، وهو مذهبنا، ومذهب مالك، وأبي حنيفة وسائر الكوفيين وأحمد وجماهير العلماء، وحكى القاضي عن قوم كراهته، وهذا مخالف لصريح هذا الحديث، ومخالف لإجماع الأمة على جواز النظر للحاجة عند البيع والشراء والشهادة، ثم إنه إنما يباح النظر إلى وجهها وكفيها فقط، لأنهما ليسا بعورة، ولأنه يستدل بالوجه على الجمال، وبالكفين على خصوبة البدن، أو عدمها هذا مذهبنا ومذهب الأكثرين وقال داود: ينظر إلى جميع بدنها، وهذا خطأ ظاهر، منابذ لأصول السنة والإجماع، ثم مذهبنا -أي الشافعية- ومذهب مالك وأحمد والجمهور أنه لا يشترط في جواز النظر رضاها، بل له ذلك في غفلتها، لكن قال مالك: أكره نظره في غفلتها مخافة من وقوع نظره على عورة. ثانياً: دل الحديث على أنه لا بد في النكاح من الصداق لقوله: " وهل عندك شيء " وعلى أنه يكفي في المهر أقل ما يتمول (2) ، ولهذا قال الشافعي وأحمد: لا حد لأقل المهر، وكل ما جاز أن يكون ثمناً جاز أن يكون مهراً، وقال (3) أبو حنيفة ومالك: يقدر بما تقطع فيه يد السارق مع اختلافهما في قدره، فهو عند أبي حنيفة عشرة دراهم أو دينار، وعند مالك ربع دينار، واختلفوا هل يفسد النكاح بفساد الصداق أم لا؟ فقال أبو حنيفة والشافعي: لا يفسد النكاح بفساد المهر
__________
(1) أي أن تدوم المودة بينكما.
(2) " تكملة المنهل العذب " ج 3.
(3) " الإفصاح عن معاني الصحاح " ج 2.(5/111)
912 - " بَابُ مَنْ قَالَ: لا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ "
1059 - عَنْ مَعْقَل وبْنِ يَسَار رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
زَوَّجْتُ أخْتَاً لِي مِنْ رَجُل، فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إذا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، جَاءَ يخْطُبُهَا، فَقُلْتُ لَهُ: زَوَّجْتُكَ، وَفَرَّشْتُكَ، وأكْرَمْتُكَ، فَطَلَّقْتَهَا، ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا، لا واللهِ لا تَعُودُ إليْكَ أبداً، وَكَانَ رَجُلاً لا بَأسَ بِهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وعن مالك وأحمد روايتان. ثالثاً: دل الحديث على جواز جعل تعليم القرآن صداقاً، وهو مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد (1) ، واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فقد ملكتكها بما معك من القرآن. وقال أبو حنيفة ومالك والليث وأحمد في رواية: لا يجوز، بل لا بد أن يكون الصداق مالاً لقوله تعالى: (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ) وقوله: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) والطول المال. الحديث: أخرجه الستة مع اختلاف في بعض ألفاظه. والمطابقة: في قوله: " فنظر إليها رسول الله ".
912 - " باب من قال لا نكاح إلا بولي "
والولي: هو كل ذكر مسلم حرٍّ مكلف، يحق له أن يقوم بعقد نكاح المرأة على غيرها، بعد إذنها لسبب من الأسباب الشرعية التي تخول في ذلك، وهي القرابة والولاء والإِمامة.
1059 - معنى الحديث: يقول معقل بن يسار " زوجت أختاً لي من رجل، فطلقها، حتى إذا انقضت عدتها، جاء يخطبها " أي فلما انتهت عدتها، وبانت منه جاءني يطلب إرجاعها " فقلت له: زوجتك وفرشتك " أي جعلتها لك فراشاً " فطلقتها " وأهنت كرامتها "ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود
__________
(1) " تكملة المنهل العذب " ج 3.(5/112)
وكَانَتْ الْمَرْأةُ تُرِيدُ أنْ تَرْجِعَ إليْهِ، فأنْزَلَ اللهُ هَذه الآيَةَ (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) فَقُلْتُ: الآنَ أفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَزَوَّجَهَا إيَاهُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إليك أبداً" وفي رواية الترمذي فقال: " يا لكع أكرمتك بها، وزوجتك إياها فطلقتها، والله لا تعود إليك أبداً " الخ " وكان رجلاً لا بأس به " أي حسن السمعة لا عيب في دينه أو خلقه " وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه " أي ترغب في العودة إليه، لأنها تحبه " فأنزل الله " عز وجل (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) أن ينكحن أزواجهن، أي لا تمنعوهن من العودة إلى أزواجهن عند انقضاء عدتهن.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم العضل، فلا يجوز لولي المرأة المطلقة أن يمنعها من العودة إلى زوجها بعد انقضاء عدتها إذا طلب الزوج عودتها إليه، ورغبت المرأة في ذلك. ثانياًً: أنه لا يجوز نكاح المرأة سواء كانت بكراً أو ثيباً إلا بولي، لأن أخت معقل بن يسار كانت ثيباً، واحتاجت في رجوعها لزوجها إلى موافقة وليها، ولو كان لها أمر نكاحها بدون وليها لزوجت نفسها دون حاجة إليه، وإنما خاطب الله في الآية الأولياء بقوله: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) لأن أمر الزواج بيد الأولياء مع موافقة المرأة، قال الحافظ: والآية أصلح دليل على اعتبار الولي في النكاح، وإلّا لما كان لعضله معنى، وقد وردت في ذلك أحاديث صريحة تدل على توقف النكاح على وجود الولي، فقد روى أبو موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا نكاح إلّا بولي "، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أيما امرأة - نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن اشتجروا، فالسلطان ولي من لا ولي له " إلخ أخرجه الترمذي وأبو داود وأحمد وابن ماجة.
قال ابن رشد: (1) واختلف العلماء هل الولاية شرط لصحة النكاح، فذهب
__________
(1) " بداية المجتهد " ج 2.(5/113)
913 - " بَاب لا يُنْكِحُ الأبُ ولا غَيْرُهُ البِكْرَ والثَّيِّبَ إلَّا بِرِضَاهُمَا "
1060 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَا تُنْكَحُ الأيِّمُ حَتَّى تُسْتَأمَرَ، ولا تُنْكَحُ البِكْرُ حتى تُسْتَأذَنَ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ وَكَيْفَ إذْنُهَا؟ قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مالك إلى أنه لا يكون نكاح إلاّ بولي، وأنه شرط في صحة النكاح في رواية أشهب عنه، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة وزفر والشعبي والزهري: إذا عقدت المرأة نكاحها بغير ولي وكان كفأ جاز. اهـ. وهذا الحديث أقوى حجة على اعتبار الولي والله أعلم. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي وأبو داود وأحمد وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على الترجمة كما أوضحناه.
913 - " باب لا ينكح الأب ولا غيره البكر والثيب إلاّ برضاهما "
1060 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " لا تنكح الأيّمُ " بالبناء للمجهول وبكسر الحاء على أن لا ناهية، ويجوز رفع الفعل على أنّها نافية، وفي رواية أخرى: " لا تنكح الثيب حتى تستأمر " أخرجه الترمذي، والأيم والثيب معناهما واحدٌ، وهي التي ليست بكراً. " حتى تستأمر " أي حتى تستأذن استئذاناً صريحاً، إذ (1) الاستئمار طلب الأمر، والأمر لا يكون إلاّ بالنطق، والمعنى: لا يجوز للولي أن يُزَوّجَ الثيب إلاّ بعد أخذ موافقتها الصريحة بصريح القول بأن تقول رضيت أو قبلت، أو أي عبارة تدل على الموافقة " ولا تنكح البكر حتى تستأذن " بالبناء للمجهول. وكسر " (2) الحاء كما في الجملة
__________
(1) " تحفة الأحوذي " ج 4.
(2) أيضاً " تحفة الأحوذي ".(5/114)
السابقة. والبكر هي التي لم تُزَل بكارتها أصلاً، أو زالت بوثبة أو حيضة، أي ولا يجوز للولي أن يزوّج البكر البالغة إلاّ بإذنها وموافقتها ولكن لا يلزم أن تأذن بصريح القول، لأنها يغلب عليها الحياء بل يكفي منها كل ما يدل على رضاها ولو بإشارة، أو سكوت، ولهذا لمّا " قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟ " أي وكيف يكون إذنها؟ وهل يلزم أن يكون بصريح القول كالثيب؟ " قال: أن تسكت " كذا في رواية البخاري وأبي داود وغيره من الصحاح، وفي رواية الترمذي: " وإذنها الصموت " أي السكوت أي أنه يكتفى منها بسكوتها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه لا يجوز للولي أن يزوج المرأة التي تحت ولايته إلاّ بإذنها سواء كانت بكراً أو ثيباً، فإن كانت ثيباً عبّرت عن رضاها بصريح القول، بأن تقول أي كلمة صريحة تدل على الرضا، حتى كأنها تأمر وليها بتزويجها منه، لأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: تستأمر.. معناه حتى يؤخذ أمرها بذلك. وإن كانت بكراً فإنها تستأذن بكل ما يدل على رضاها ولو بالسكوت. لاستحيائها، لأنها (1) لو تكلمت صريحاً لظن أنها راغبة في الرجال، وهذا لا يليق في البكر واستحب العلماء أن تعلم أن صماتها إذن. اهـ. فيستدل على رضاها بسكوتها، أما رفضها فلا بد فيه من اللفظ الصريح كما أفاده ابن رشد. هذا وقد اتفق أهل العلم على وجوب استئذان الثيب، وأنها لا تزوج إلاّ برضاها كما اتفقوا على أن البكر إذا كان وليها غير أبيها لا بد من رضاها وإذنها، إلا أن إذنها سكوتها، واختلفوا في البكر البالغة التي يكون وليها أبوها، فقال الشافعي وابن أبي يعلى (2) وأحمد وإسحاق وغيرهم: إن كان الولي أباً أو جدَّاً كان الاستئذان مندوباً إليه، ولو زوجها بغير استئذانها صَحَّ، وإن كان غيرهما من الأولياء وجب الاستئذان، ولم يصح نكاحها قبله، وقال الأوزاعي وأبو حنيفة
__________
(1) " أوجز المسالك " ج 9.
(2) " تحفة الأحوذي " ج 4.(5/115)
وغيرهما: يجب الاستئذان في كل بكر بالغة. اهـ. كما أفاده النووي، ومذهب مالك كالشافعي فقد روى مالك في " الموطأ " عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله أنهما كانا ينكحان بناتهما الأبكار ولا يستأمرانهن، ثم قال مالك بعد هذا: وعلى ذلك الأمر عندنا في نكاح الأبكار وأما العانس فاختلف قول مالك في إجبارها وقال الحسن البصري: نكاح الأب جائز على ابنته، ولو ثيباً كرهت، والصحيح قول جمهور العلماء أن الثيب إذا زوّجها أبوها بدون إذنها فكرهت ذلك فسخ نكاحها لما أخرجه البخاري عن خنساء بنت خذام الأنصارية رضي الله عنها أن أباها زوجها وهي ثيّب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ْفرد نكاحه، وإن وافقت على ذلك فقال أبو حنيفة يصح نكاحها، وذهب الشافعي وأحمد إلى بطلانه واختلفوا في البكر البالغة فالمشهور من مذهب الإمام أحمد أن لأبيها إجبارها (1) وهو مذهب مالك والشافعي وإسحاق ودليلهم ما رواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن وإذنها صماتها " فحيث قسم النساء قسمين، وأثبت لاحداهما الحق، دل على نفيه عن الأخرى وهي البكر، فيكون وليها أحق فيها، الرواية الثانية عن الإمام أحمد ليس له إجبارها، وهو مذهب الإمام أحمد والأوزاعي والثوري وأبي ثور واختار هذه الرواية ابن تيمية وابن القيم والعلامة السعدي والشيخ بابطين مفتى الديار النجدية في عصره (2) ودليل عدم إجبار البكر نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن تزويجها بدون إذنها فلو لم يكن إذنها معتبراً ما جعله غاية لإِنكاحها في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تنكح البكر حتى تستأذن " فإن زوّجها أبوها بدون إذنها فالمشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد أن النكاح صحيح وإن كرهت ذلك وقال أبو حنيفة ومن وافقه: إذا لم ترض بذلك فالنكاح مفسوخ
__________
(1) " تيسير العلام " ج 2.
(2) " تيسير العلام " ج 2.(5/116)
914 - " بَابُ مَا يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا أتى أهْلَهُ "
1061 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أمَا لَوْ أنَّ أحَدَهُمْ يَقُولُ حِينَ يَأتِي أهْلَهُ: بِسْمَ اللهَ، اللَّهُمَّ جَنبنِي الشَّيْطَانَ، وَجنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، ثمَّ قُدِّرَ بَيْنَهُمَا في ذَلِكَ، أو قضِيَ وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أربداً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما " أن جارية بكراً أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " والبكر تستأذن " أخرجه أبو داود وابن ماجة. والله أعلم. اهـ. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على الترجمة.
914 - " باب ما يقول الرجل إذا أتى أهله "
1061 - معنى الحديث: يرغبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نأتي بالبسملة وهذا الدعاء المبارك عند الجماع صيانة لأنفسنا وأولادنا من إيذاء الشياطين، فيقول: " أما لو أن أحدهم يقول حين يأتي أهله " أي عندما يجامع زوجته " بسم الله اللهم جنبني الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا " أي اللهم باعد بيني وبين الشيطان، وباعد بينه وبين كل ما أعطيتنا إياه في هذه الليلة من الولد " ثم قدر بينهما في ذلك " أي فإن قال ذلك ثم قدر الله لهما من ذلك الجماع ولداً " لم يضره شيطان أبداً " أي فإن ذلك الولد يكون في عصمة الله محفوظاً من الشيطان مدة حياته، فلا يمسّه بأذى.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب التسمية، وذكر الدعاء المأثور عند الجماع، لأن المولود الذي ينشأ عن ذلك لا يضره الشيطان ولا يقربه ولا يكون له عليه أي سلطان، وفيه بشارة بأنه يموت على(5/117)
915 - " بَابُ الوَلِيمَةِ وَلَوْ بِشَاةٍ "
1062 - عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" مَا رَأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أولَمَ عَلَى أحدٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ، أوْلَمَ بِشَاةٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الإِيمان والتوحيد ولا يصاب (1) بالصرع مدة حياته. وقيل: لا يضره في بدنه جسمياً ولا نفسياً. ثانياًً: أن الشيطان ملازم لابن آدم لا يطرده عنه إلاّ ذكر الله. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجة والترمذي، والنسائي في " عمل اليوم والليلة ". والمطابقة: في كون الحديث يدل على الترغيب في التسمية وذكر هذا الدعاء المأثور.
915 - " باب الوليمة ولو بشاة "
1062 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يولم في كل أعراسه أي يقدم للناس طعاماً بعد دخوله على عروسه، لكن " ما أولم النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من نسائه ما أولم على زينب أولم بشاة " أي ما صنع النبي - صلى الله عليه وسلم - طعاماً لعرس من أعراسه مثل الطعام الذي صنعه في عرسه على زينب بنت جحش حيث أولم النبي - صلى الله عليه وسلم - في عرسه عليها بشاة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الوليمة، وهل هي واجبة أو سنة؟ اختلف الفقهاء في حكمها، فقال بعضهم: الوليمة واجبة لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر: " أولم ولو بشاة " حيث أمر بالوليمة، والأمر يقتضي الوجوب، وهو ما حكاه ابن حزم عن أهل الظاهر، ورواه القرطبي
__________
(1) " تكملة المنهل العذب " ج 3.(5/118)
916 - " بَابُ حَقِّ إِجَابَةِ الَولِيمَةِ والدَّعْوَةِ "
1063 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا دُعِيَ أحَدُكُمْ إلى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأتِهَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عن مالك وابن التين عن أحمد، وحكاه في " البحر " عن أحد قولي الشافعي، قالوا: " ومما يؤكد وجوبها حديث بريدة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعلي رضي الله عنه لما خطب فاطمة رضي الله عنها: " أنه لا بد للعروس من وليمة " وسنده لا بأس به كما قال الحافظ، لكن الذي عليه جمهور السلف والخلف أن الوليمة سنة، وأن الأمر في قوله: " أولم ولو بشاة " للاستحباب لكونه أمر بشاة، وهي غير واجبة اتفاقاً، ولأن الوليمة كالأضحية فتقاس عليها. ثانياً: أن هذا الحديث يفيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولم في بقية نسائه بغير لحم، وهذا يدل على أنه لا يلزم في الوليمة أن تكون بشاة، وأنه لا حد لأقل الوليمة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يولم بشاة إلّا في زوجته زينب رضي الله عنها، أما في غيرها فقد أولم على صفية بحيس، وعلى بعض نسائه بمدين من شعير، ولهذا قال جمهور أهل العلم: لا حد لأكثر الوليمة ولا لأقلها، ومهما تيسر أجزأ. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم -: أولم على نسائه، وهذا يدل على مشروعية الوليمة.
916 - " باب حق إجابة الوليمة والدعوة "
1063 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم - " إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها " أي إذا دعاه أحد المسلمين إلى طعام عرس فليجب دعوته كما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما " إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب " أخرجه مسلم.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على وجوب إجابة الدعوة لوليمة العرس خاصة، وهو قول المالكية والحنفية والحنابلة، أما الولائم الأخرى والدعوات(5/119)
917 - " بَابٌ إِذَا تزَوَّجَ البِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ "
1064 - عَنْ أبِي قِلابَةَ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
وَلَوْ شِئْتُ أنْ أقُولَ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " وَلَكِنْ، قَالَ أنَسُ: السُّنَّةُ إِذَا تَزَوَّجَ البِكْرَ أقامَ عِنْدَهَا سَبْعَاً، وِإذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ أقَامَ عِنْدَهَا ثلاثاً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأخرى فلا يجب إجابة الدعوة إليها، لأن الوليمة إذا أطلقت حملت على طعام العرس فقط. قال الزرقاني (1) : المراد وليمة العرس كما حمله مالك في " المدونة " وغيره، لأنها المعهودة عندهم (2) وذهب بعض الشافعية إلى وجوب الإِجابة لكل دعوة، وهو مذهب ابن حزم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود و" الموطأ ". والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها ".
917 - " باب إذا تزوج البكر على الثيب "
1064 - معنى الحديث: أن أبا قلابة قال: لو شئت (3) أن أقول إن هذا الأثر هو من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقلت ذلك، ولكنت صادقاً فيما قلت: ولكني لم أقل هذا تمسكاً مني بلفظ أنس حيث " قال: السنة إذا تزوج البكر أقام عندها سبعاً " أي أن من سنة المصطفى إذا تزوج الرجل المرأة البكر على المرأة الثيب أقام عندها سبع ليال بأيامهن، ثم قسم بينها وبين الأخرى بالعدل كما في رواية أخرى للبخاري " وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً " أي أقام
__________
(1) " شرح الزرقاني على الموطأ " ج 3.
(2) قال ابن القيم: القِرى: طعام الضيفان، والمأدبة: طعام الدعوة، والتحفة: طعام الزائر، والوليمة: طعام العرس، والخرس: طعام الولادة، والعقيقة: الذبح عن الولد، والعذيرة: طعام الختان، والوضيمة: طعام المأتم، والنقيعة: طعام القادم من سفره والوكيرة: طعام الفراغ من البناء. اهـ. حسن السماحي.
(3) قال ابن دقيق العيد: قول أبي قلابة يحتمل وجهين أحدهما أن يكون ظن أنه سمعه عن أنس مرفوعاً لفظاً فتحرز عنه تورعاً، والثاني أن يكون رأى أن قول أنس " من السنة " في حكم المرفوع، فلو عبر عنه بأنه مرفوع على حسب اعتقاده لصح لأنه في حكم المرفوع، قال: والأول أقرب. اهـ.(5/120)
عندها ثلاث ليال بأيامهن ثم قسم بينها وبين الأخرى بالعدل.
فقه الحديث: قال النووي (1) : فيه أن حق الزفاف ثابت للزوجة، فإن كانت بكراً لها سبع ليال بأيامها بلا قضاء، وإن كانت ثيباً كان لها الخيار، إن شاءت سبعاً ويقضي السبع لباقي النساء، وإن شاءت ثلاثاً، ولا يقضي، وهذا مذهب الشافعي، وممن قال به مالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن جرير وجماهير العلماء، وهو الذي ثبتت به الأحاديث الصحيحة. اهـ. " قلت " أما مالك وأصحابه (2) فإنهم يقولون: للثيب ثلاث بدون تخيير، وذهب الحنفية إلى أنه لا فرق بين القديمة والجديدة، وليس هناك حق للزفاف تختص به الجديدة بكراً أو ثيباً إلاّ بالبداءة بها فقط (3) ، فإن أقام عند البكر سبعاً قضى لكل واحدة من نسائه سبعاً، وإن أقام عند الثيب ثلاثاً قضى لكل واحدة من نسائه ثلاثاً لعموم الأدلة على وجوب العدل بين الزوجات، والظاهر ما ذهب إليه الجمهور، ويؤيد ذلك ما رواه الدارقطني (4) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأم سلمة: " إن شئت أقمت عندك ثلاثاً خالصة لك " أي بدون قضاء أما استدلال أبي حنيفة بعموم الأحاديث الواردة في العدل بين الزوجات، فإن حديث أنس وأم سلمة رضي الله عنهم مخصّصة لعموم تلك الأحاديث، والله أعلم. واختلفوا في الإقامة عند (5) البكر سبعاً، وعند الثيب ثلاثاً إذا كانت له زوجة أخرى هل هي واجبة أو مستحبة؟ فذهب الشافعي وموافقوه إلى أنها واجبة، وهي رواية ابن القاسم عن مالك، وروى عنه ابن عبد الحكم أنها على الاستحباب. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود، والترمذي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " السنة إذا تزوج البكر أقام عندها سبعاً ".
__________
(1) " تحفة الأحوذي " ج 4.
(2) " تحفة الأحوذي " ج 4.
(3) " تكملة المنهل العذب " ج 3.
(4) " تحفة الأحوذي " ج 4.
(5) " تكملة المنهل العذب " ج 3.(5/121)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب الطلاق "
والطلاق لغة: عبارة عن حل القيد الحسي كقيد الأسير أو الدابة، ثم أطلق على حل القيد المعنوي كقيد النكاح، يقال: طَلَقَتِ المرأة وطَلُقت المرأة، بتخفيف اللام المفتوحة، والمضمومة إذا بانت. والطلاق مصدر طلَق أو طلُق بفتح اللام المخففة وضمها، أما التطليق فهو مصدر طلق. والطلاق شرعاً: حل رابطة الزواج (1) ، وإنهاء العلاقة الزوجية وقال الإِمام محمد عبده: " هو عبارة عن مفارقة (2) المرأة المدخول بها بحل الرجل عقدة الزوجية التي تربطهما معاً " والطلاق ظاهرة اجتماعية ودينية قديمة كانت معروفة في الأديان السابقة من شريعة إبراهيم وغيرها، ومعروفة عند العرب في الجاهلية حيث استعملوا الطلاق دون حدٍّ ولا عدٍّ، حتى جاء الإِسلام فقضى على هذه المضارّة كما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الرجل يطلّق امرأته ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة، وإن طلقها مائة مرة أو أكثر حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك فتبيني، ولا آويك أبداً، قالت: وكيف ذلك، قال: أطلقك فكلما همت عدتك أن تنتهى راجعتك، فذهبت المرأة فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - فسكت حتى نزل القرآن (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) وهكذا كان الطلاق يستعمل وسيلة للتشفي والانتقام من الزوجة، فلما جاء الإسلام قضى على ذلك كله، ووضع حداً لعدد مرات الطلاق، ونظمه تنظيماً صحيحاً يحفظ لكل من الطرفين كرامة الإنسان. حكمه: لما كانت العلاقة الزوجية من
__________
(1) " فقه السنة " ج 2.
(2) " تفسير المنار " ج 2.(5/122)
أقدس العلاقات ولهذا سمّى الله عقد النكاح ميثاقاً. فكل ما يؤدي إلى قطع هذه العلاقة وإلغاء ذلك الميثاق فهو بغيض إلى الله تعالى لما يقضي عليه من منافع مشتركة بين الزوجين لذلك حذّر من الطلاق، وروى ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " أخرجه أبو داود والحاكم وصححه (1) ومن هنا شدد بعض الفقهاء فيه قال في " تيسير العلام " (2) : والأصل في الطلاق الكراهة للحديث المتقدم، ولأنه حلٌّ لعرى النكاح الذي رغب فيه الشارع، وجعله سبباً لكثير من مصالح الدين والدنيا، فإن الطلاق سبب في إبطال هذه المصالح، والله لا يحب الفساد " فمن هنا كرهه الشارع، لكنه عند الحاجة إليه نعمة كبيرة حيث يحصل به الخلاص من العشرة المرَّة، وفراق من لا خير في البقاء معه، إما لضعف في الدين، أو سوء في الأخلاق، أو غير ذلك مما يسبب قلق الحياة، وبهذا تعرف جلال هذا الدين وسمو تشريعاته خلافاً للنصارى الذين لا يبيحون الطلاق، فتكون الزوجة غلاًّ في عنق زوجها وإن لم توافقه. اهـ. ويرى الحنابلة أن للطلاق أربعة أحكام، فيكون واجباً وهو طلاق الحكمين، وطلاق المؤلي بعد التربص، ومندوباً عند تفريط المرأة في حقوق الله من صلاة وغيرها (3) ، أو كانت غير عفيفة. قال ابن قدامة: ويحتمل أن الطلاق في هذين الموضعين واجب، ويكون مباحاً لسوء خلق المرأة وسوء عشرتها، ويكون محرماً إذا كان لغير حاجة، لأنه ضرر بالزوج وزوجته وإهدار لمصالحهما. اهـ.
***
__________
(1) قال الحافظ في " التلخيص " رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم من حديث محارب بن دثار عن ابن عمر ورواه أبو داود والبيهقي مرسلاً، ليس فيه ابن عمر، ورجح أبو حاتم والدارقطني في العلل، والبيهقي المرسل. (ع) .
(2) " تيسير العلام " ج 2.
(3) " فقه السنة " ج 2.(5/123)
918 - " بَابُ قوْل الله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) "
1065 - عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأتهُ وهِيَ حَائِضٌ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ النبي - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حتى تَطْهُرَ، ثمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمسَكَ بَعْدُ، وَإنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أن يَمَسَّ، فتلْكَ العِدَّةُ التي أمَرَ اللهُ أنْ تُطلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
918 - " باب قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) "
1065 - معنى الحديث: أن ابن عمر طلّق زوجته آمنة بنت غفار حال الحيض، وأثناء العادة الشهرية، فذهب والده عمر رضي الله عنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبره ويستفتيه " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مره فليراجعها " يعني فطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من عمر أن يأمره بمراجعة زوجته، وإعادتها إلى عصمته، لأن الطلاق أثناء الحيض طلاق بدعي، وإنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمراجعتها في تلك الحالة لئلا تطول عليها العدة " ثم ليمسكها " بلام مكسورة (1) ، ويجوز تسكينها تخفيفاً أي عليه أن يبقيها في عصمته " حتى تطهر " من الحيضة التي طلقها فيها " ثم تحيض ثم تطهر " أي ثم تحيض حيضة أخرى ثم تطهر من الحيضة الثانية " ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق " أي إن شاء أبقاها في عصمته بعد الحيضة الثانية وإن شاء طلقها " قبل أن يمس " أي قبل أن يجامع " فتلك " أي فالطلاق حال الطهر الذي لم يجامعها فيه: هو " العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء " أي هو الطلاق
__________
(1) " تكملة المنهل العذب " ج 4.(5/124)
للعدة التي أذن الله أن تطلّق لها النساء في قوله تعالى: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أي إذا أردتم أن تطلقوا النساء فطلقوهن في وقت يصلح لابتداء عدتهن، وهو وقت الطهر الذي لم يجامع فيه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن طلاق المرأة وهي حائض أو في طهر جامعها فيه حرام باتفاق أهل العلم (1) ، ويسمى بالطلاق البدعي لمخالفته للصفة المشروعة للطلاق في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعليه أن يراجعها وجوباً عند مالك وأحمد في رواية (2) ، والمشهور عنه وهو قول الجمهور أن المراجعة مستحبة، لأن ابتداء النكاح غير واجب. ثانياً: أن الصفة المشروعة في الطلاق أن يقع في حال طهر لم يجامعها فيه، وأن يشهد على طلاقه.
أما الإشهاد فلقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) وأما الطلاق في حال الطهر الذي لم يجامعها فيه فدليله هذا الحديث، لأن ابن عمر لما طلق زوجته في حال الحيض أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعيدها إليه حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر ثم إن شاء أمسك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، ثم قال فتلك العدة التي أمر الله أن تطلّق لها النساء. ومن هذا يتضح لنا أن الطلاق قسمان: (أ) طلاق سني وهو ما وافق الصفة المشروعة في هذا الحديث بأن يطلقها في طهر لم يمسها فيه، ويشهد على ذلك. وطلاق بدعي: وهو ما خالف المشروع، كأن يطلقها في حيض أو بعد جماع. أو دون إشهاد. وأجمع العلماء على أن الطلاق البدعي حرام، وأن فاعله آثم. ثالثاً: دل هذا الحديث على أن الطلاق في الحيض يقع ويصح ويحسب طلقة واحدة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر ابن عمر بمراجعتها، والمراجعة لا تكون (3) إلاّ بعد طلاق (4) ، وهذا قول جمهور العلماء، منهم الأئمة الأربعة،
__________
(1) " تكملة المنهل العذب " ج 4.
(2) أيضاً " تكملة المنهل العذب ".
(3) " تيسير العلام " ج 2.
(4) ويؤكد ذلك ما جاء في رواية أخرى حيث قال فيها: فحسبت من طلاقها.(5/125)
919 - " بَابُ مَنْ أجَازَ طَلاقَ الثَلاثِ "
1066 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنَّ رَجُلاً طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثلاثاً، فَتَزَوَّجَتْ فَطلَّقَ، فَسُئِلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أتَحِلُّ لِلأوَّلِ؟ قَالَ: " لا حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كَمَا ذَاقَ الأوَّلُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وذهب بعض العلماء ومنهم شيخ الإِسلام ابن تيميّة وتلميذه ابن القيم إلى أن الطلاق لاغ لا يقع، واستدلوا على ذلك بما رواه أبو داود والنسائي " أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض " قال عبد الله: فردها علي ولم يرها شيئاً، وقد استنكر العلماء هذا الحديث لمخالفته الأحاديث كلها (1) ، وأجاب ابن القيم عن أدلة الجمهور بأن الأمر برجعتها معناه إمساكها على حالها الأولى، وأمّا الاستدلال بلفظ " فحسبت من طلاقها " فليس فيه حجة، لأنه غير مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث: أخرجه الستة.
919 - " باب من أجاز طلاق الثلاث "
1066 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً " أي ثلاث " طلقات دفعة واحدة في لفظ واحد (2) " فتزوجت " برجل آخر " فطلق " أي فطلقها ذلك الرجل " فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أتحل للأوّل " أي هل تحل لزوجها الأول وإن لم يجامعها الثاني " قال: لا حتى يذوق عسيلتها " والعسيلة تصغير العسل، والمراد بها حلاوة الجماع -أي أن
__________
(1) " تيسير العلام " ج 2.
(2) قال ابن القيم في " زاد المعاد " (5/261) أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد، بل الحديث حجة لنا فإنه لا يقال: فعل ذلك ثلاثاً، وقال ثلاثاً، إلا من فعل وقال مرة بعد مرة، هذا هو المعقول في لغات الأم عربهم وعجمهم. كما يقال: قذفه ثلاثاً، وشمته ثلاثاً، وسلم عليه ثلاثاً، وقال ابن القيم (5/248) : الثلاث بكلمة واحدة، يقع به واحدة رجعية، وهذا ثابت عن ابن عباس، وهو قول طاوس وعكرمة، واختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية. (ع) .(5/126)
تلك المرأة لا تحل لزوجها الأول حتى يجامعها الثاني، ويجد لذة المباشرة وحلاوتها. الحديث: أخرجه الستة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن المطلقة ثلاثاً لا تحل لزوجها الأول بمجرد زواجها من الثاني، بل لا بد من جماعه لها، فلا يجوز لها إذا طلقها الثاني أن تعود إلى الأوّل إلاّ إذا جامعها الثاني قبل طلاقها لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب لما سئل " أتحل للأول؟ قال: " لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاقها الأول ". وهو معنى قوله تعالى: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) أي حتى تتزوج غيره، ويذوق عسيلتها، وتذوق عسيلته كما في حديث الباب، قال الأزهري: ويتحقق ذلك بتغييب الحشفة في الفرج مع الإِنزال، وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحل للأول إلّا سعيد بن المسيب. قال ابن المنذر: ولا نعلم أحداً وافقه عليه إلاّ طائفة من الخوارج. ثانياًً: أن طلاق الثلاث في لفظ واحد يقع ثلاث طلقات عند الجمهور، ولا يجوز للزوجة في هذه الحالة أن تعود إليه حتى تنكح زوجاً غيره ويجامعها، لأن ظاهر هذا الحديث أن الرجل المذكور طلقها ثلاث طلقات مجتمعة في لفظ واحد (1) ، فعدّه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث طلقات ومنع الزوجة أن تعود إلى زوجها الأوّل حتى تذوق عسيلة الثاني ويذوق عسيلتها، وهو مذهب جماهير العلماء من التابعين ومن بعدهم، منهم الأوزاعي والنخعي والثوري وأبو حنيفة ومالك وأصحابه والشافعي وأصحابه، وأحمد وأصحابه، وإسحاق وكثيرون على أن من طلق امرأته ثلاثاً وقعن، ولكنه يأثم. اهـ. كما أفاده العيني. وقال في " أضواء البيان ": ومن أدلتهم ما رواه أبو داود والدارقطني والشافعي والترمذي وابن ماجة وقال أبو داود: هذا حديث صحيح وصححه ابن حبان والحاكم عن ركانة بن عبد الله أنه طلق امرأته سهيمة البتة، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) وهذا ما فهمه البخاري من الحديث، ولذلك أخرجه في هذا الباب.(5/127)
بذلك فقال: " والله ما أردت إلاّ واحدة؟ " فقال ركانة والله ما أردت إلّا واحدة، فردها إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا الحديث صححه أبو داود وابن حبان والحاكم، وهو نص في محل النزاع لأن تحليفه - صلى الله عليه وسلم - ما أردت بلفظ البتة إلاّ واحدة، دليل على أنه لو أراد بها أكثر من الواحدة لوقع، والثلاث أصرح في ذلك من لفظ البتة، لأن البتة كناية، والثلاث صريح، ولو كان لا يقع أكثر من واحدة لما كان لتحليفه معنى. وذهب بعضهم إلى أنه يقع طلقة واحدة، واحتجوا كما في " أضواء البيان " بأربعة أحاديث: الأول: حديث ابن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " طلق ركانة امرأته ثلاثاً في مجلسٍ واحد فحزن عليها حزناً شديداً فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف طلقتها؟ قال: ثلاثاً في مجلس واحد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما تلك واحدة فارتجعها إن شئت، والاستدلال بهذا الحديث مردود لأن داود بن الحصين راوى الحديث عن عكرمة ليس بثقة في عكرمة، قال ابن حجر في " التقريب " داود بن الحصين المدني ثقة إلاّ في عكرمة. وإذا كان غير ثقة في عكرمة كان الحديث المذكور في روايته غير ثقة، هذا وجه، وهناك وجه آخر وهو ما ذكره ابن حجر في " فتح الباري " أن ركانة إنما طلق امرأته البتة كما أخرجه هو من طريق آل بيت ركانة، وهو تعليل قوي لجواز أن يكون بعض رواته حمل البتة على الثلاث، فقال: طلقها ثلاثاً، وبهذه النكتة يقف الاستدلال بحديث ابن عباس (1) . الحديث الثاني: من الأحاديث الأربعة التي استدل بها من جعل الثلاث واحدة هو ما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر أنه طلق امرأته في الحيض ثلاثاً فاحتسبت بواحدة، ولا يخفى سقوط هذا الاستدلال، وأن الصحيح أنه إنما طلقها واحدة. قال القرطبي في تفسيره ما نصه: "والمحفوظ أن ابن عمر طلق امرأته في الحيض، وكان تطليقه
__________
(1) ولحديث ابن عباس طريق أخرى، وقال ابن القيم إلى تصحيحه، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية إسناده جيد. (ع) .(5/128)
إياها واحدة، غير أنه خالف السنة". الحديث الثالث: من أدلتهم ما رواه أبو داود في " سننه " عن ابن جريج قال: أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: طلق عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة، ونكح امرأة من مزينة، فجاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: ما يغني عني إلّا كما تغني هذه الشعرة، لشعرة أخذتها من رأسها ففرَّق بيني وبينه، فأخذت النبي - صلى الله عليه وسلم - حمية فدعا بركانة وإخوته ثم قال لجلسائه: أترون فلاناً يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد وفلاناً يشبه منه كذا وكذا، قالوا: نعم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: طلقها، ففعل، فقال: راجع امرأتك أم ركانة، فقال: إني طلقتها ثلاثاً يا رسول الله، قال: قد علمت، راجعها، وتلا (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) قال في " أضواء البيان ": والاستدلال بهذا الحديث ظاهر السقوط لأن ابن جريج قال: أخبرني بعض بني أبي رافع، وهي رواية عن مجهول لا يدرى من هو (1) . الحديث الرابع: هو ما أخرجه مسلم في " صحيحه " عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم " قال: وادّعاء الجزم بأن معنى الحديث المذكور أن الثلاث بلفظ واحد إدعاء خال من دليل، مع أنه ليس في شيء من روايات الحديث المذكور بلفظ واحد، ولم يتعين ذلك من الشرع ولا من العقل كما ترى. قال النووي: والأصح أن معناه أنه كان في أول الأمر إذا قال لها: أنت طالق أنت طالق أنت طالق، ولم ينو تأكيداً ولا استئنافاً يحكم بوقوعه طلقة واحدة لقلة إرادتهم الاستئناف، فحمل على الغالب الذي هو إرادة التأكيد، فلما كان في زمن عمر رضي الله عنه وغلب عليهم إرادة الاستئناف بها حملت عند الاطلاق
__________
(1) هذه الرواية يقويها التي قبلها. (ع) .(5/129)
920 - " بَابُ الْخلْعِ وَكَيْفَ الطَّلاقُ مِنهُ "
1067 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أَنَّ امْرَأةٍ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أتتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْس مَا اعتِبُ عَلَيه في خُلُق وَلا دِين، ولَكِنِّي أكْرَهُ الكُفْرَ في الإِسْلامِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على الثلاث عملاً بالغالب في ذلك العصر، وبهذا خرج حديث ابن عباس عن موضوع طلاق الثلاث بلفظ واحد وأصبح لا علاقة له به. ومما أجاب به عن الحديث المذكور أن رواية طاووس عن ابن عباس المذكورة مخالفة لما رواه الحفاظ عنه فهذا إمام المحدثين أحمد بن حنبل يرفض حديث ابن عباس هذا لمخالفته لرواية بقية الحفاظ عنه، وهذا الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ذكر عنه الحافظ البيهقي أنه ترك هذا الحديث عمداً لذلك الموجب الذي تركه من أجله الإمام أحمد انتهى ما ذكره الشيخ محمد الأمين في كتابه " أضواء البيان " عن هذا الموضوع بإيجاز واختصار والله أعلم. مطابقة الحديث للترجمة: في قوله: " طلق امرأته ثلاثاً " فإنه ظاهر في كونها مجموعة - كما قال العيني: فأمضاها النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث طلقات ومنع الزوجة أن تعود إلى الأول حتى تذوق عسيلة الثاني.
920 - " باب الخلع وكيف الطلاق منه "
والخلع لغة: نزع الشيء وإزالته. وشرعاً: إزالة الزوجية أو إزالة عصمة النكاح ببدلٍ وعوضٍ مالي تدفعه المرأة لزوجها مقابل مخالعته لها، لأنها تكرهه ولا تريد البقاء في عصمته.
1067 - معنى الحديث: " أن امرأة ثابت بن قيس " بن شمّاس بتشديد الميم الأنصاري الخزرجي خطيب الأنصار وامرأة ثابت بن قيس، قيل: إنها جميلة بنت عبد الله بن أبي، وبذلك جزم ابن سعد (1) وقيل: إن زوجته
__________
(1) " أوجز المسالك " ج 10.(5/130)
فَقَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " اقْبَلِ الحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حبيبة بنت في سهل " أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين " وفي رواية مالك وأبي داود أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شمّاس، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس، فقال: من هذه؟ فقالت: أنا حبيبة بنت سهل، قال: ما شأنك، قالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس يجمعنا بيت واحدٌ. يعني لا يكون اجتماع بيني وبينه أبداً لما بيننا من التنافر "ما أعيب عليه في خلق ولا دين " أي لا أطعن فيه ديناً ولا خلقاً ولا أعيبه بشيء ينقصه من جهة دينه أو خلقه " لكني أكره الكفر في الإِسلام " والمعنى: ولكني أبغضه لدمامته (1) وقبح صورته، وأخشى أن يؤدي بي هذا النفور الطبيعي منه إلى كفران العشير، والتقصير في حق الزوج، والإساءة إليه، وارتكاب الأفعال التي تنافي الإِسلام من الشقاق والخصومة والنشوز ونحوه مما يتوقعُّ مثله من الشابة الجميلة المبغضة لزوجها أن تفعله، فسمّت المعاملة السيئة للزّوج كفراً لما فيها من الاستهانة بالعلاقة الزوجية، وجحود حقوقها المشروعة، وهذا يدخل في كفران العشير، وينافي ما يقتضيه الإِسلام. " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتردين عليه حديقته " أي إذا كنت تكرهينه كل هذه الكراهية، وتخشين أن يؤدي بقاؤك في عصمته إلى أمر مخالف لدين الإِسلام فهل تخالعينه وتفتدين منه نفسك بمال فتردين عليه حديقته التي دفعها لك مهراً؟ " قالت: نعم " أفعل ذلك، وعن ابن عباس: أول خلع كان في الإِسلام امرأة ثابت بن قيس، أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) وفي رواية: كان رجلاً دميماً، فقالت: يا رسول الله والله لولا مخافة الله إذا دخل عليَّ لبصقت في وجهه " الخ أخرجه ابن ماجة.(5/131)
فقالت: يا رسول الله لا يجتمع رأسي ورأس ثابت أبداً، إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة، فإذا هو أشدهم سواداً، وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهاً، فقال: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم وإن شاء زدته ففرق بينهما. اهـ. " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة " وهذا أمر إرشاد وإصلاح لا أمر إيجاب وإلزام.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز الخلع ومشروعيته، وهو " فراق زوج يصحُّ طلاقه لزوجته بعوض مالي. وقد أجمع العلماء على جوازه خلافاً لبكر بن عبد الله المزني التابعي ومما يدل على جوازه قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ) ويشترط في الخلع -كالطلاق- أن يكون الزوج مكلفاً والزوج محلاً للطلاق، وأن يكون بصيغة الماضي في الإِيجاب والقبول بأن يقول الزوج: خالعتك على كذا، وتقول الزوجة: قبلت، فإن لم تصرح بالقبول لا يقع الخلع (1) ولا تتحقق الفرقة ولا يستحق العوض. ولا يشترط البدل -أي العوض- عند أبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية وفي رواية أخرى عن أحمد لا يكون خلعاً إلاّ بعوض. ولا يقع الخلع أيضاً بمجرد بذل المال وقبوله، بل لا بد من أن يتلفظ الزوج بالخلع عند أحمد خلافاً للحنفية حيث قالوا: أخذ المال تطليقة بائنة. ثانياًً: استدل بعض أهل العلم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " طلِّقها تطليقة " على أن الخلع لا يُعَدُّ ولا يعتبر طلاقاً إلاّ إذا اقترن بذكر الطلاق، لأنه لو كان الخلع بنفسه طلاقاً لما احتاج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأمره بطلاقها والمسألة خلافية. قال في " الإِفصاح " اختلفوا (2) في الخلع هل هو فسخ أو طلاق، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: " في إحدى روايتيه " هو طلاق بائن وعن أحمد
__________
(1) بخلاف ما إذا قال خالعتك ونوى به مجرد الطلاق فإنه يقع وإن لم تقبله الزوجة، لأن الطلاق لا يحتاج إلى موافقة الزوجة.
(2) " الإفصاح عن معاني الصحاح " ج 2.(5/132)
921 - " بَابُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ المُتَلاعِنَيْنِ "
1068 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
ْ" لاعَنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ رَجُل وامْرَأةٍ مِنَ الأَنْصَارِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رواية أخرى أنه فسخ، وليس بطلاق وهي أظهرهما وعن الشافعي قولان كالمذهبين. وقد روى عن الشافعي -كما قال ابن رشد- إنه كناية، فإن أراد به الطلاق كان طلاقاً، وإلّا كان فسخاً. واحتج من جعله طلاقاً بأن الفسخ إنما يكون في الفراق الجبري الذي لا اختيار للزوج فيه، وهذا راجع إلى اختيار الزوج إن شاء خالع وإن شاء لم يخالع، فكيف يسمّى فسخاً. واحتج من لم يره طلاقا ً- كما قال ابن رشد (1) بأن الله تبارك وتعالى ذكر في كتابه الطلاق فقال: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ) ثم ذكر الافتداء، ثم قال: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) فلو كان الافتداء طلاقاً لكان الطلاق الذي لا تحل له فيه إلاّ بعد زوج هو الطلاق الرابع، واستدل الجمهور على أن الخلع طلقة بائنة بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الخلع تطليقة بائنة. ويترتب على هذا الخلاف حكم فقهي، وهو كما قال ابن قدامة: " إذا قلنا هو طلقة فخالعها مرّة حسبت طلقة فتنقص عدد طلقاته، وإن خالعها ثلاثاً فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وإن قلنا هو فسخ لم تحرم عليه، وإن خالعها مائة مرة. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: من حيث إن فيه كيف الطلاق في الخلع كما أفاده العيني.
921 - " باب التفريق بين المتلاعنين "
1068 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما "لاعن
__________
(1) " بداية المجتهد " ج 2.(5/133)
922 - " بَابٌ يُلْحَقُ الْوَلَدُ بِالْمُلاعِنَةِ "
1069 - عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لاعَنَ بَيْنَ رَجُل وامْرَأتهِ، فانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَهُمَا، وألْحَقَ الْوَلَدَ بالْمَرْأةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النبي - صلى الله عليه وسلم - بين رجل وامرأة من الأنصار" وذلك لأن الرجل قذف زوجته بالزنا، وأنكرت هي ذلك، فأجرى عليهما - صلى الله عليه وسلم - حكم الله فيهما وهو الملاعنة " وفرق بينهما " أي وفرّق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما وحكم عليهما بالانفصال والفرقة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على وجوب الفرقة بين المتلاعنين بإيقاع الحاكم الشرعي (1) لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي فرق بينهما وهو قول أبي حنيفة والثوري، ورواية عن أحمد (2) وقال مالك: تقع بعد فراغ المرأة من اللعان، وقال الشافعي: بعد فراغ الزوج. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " وفرق بينهما ".
922 - " باب يلحق الولد بالملاعنة "
1069 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " لاعن بين رجل وامرأته " أي أن رجلاً قذف زوجته بالزنا، فأجرى النبي - صلى الله عليه وسلم - اللعان الشرعي بينهما، "فانتفى من ولدها" أي فقال الزوج: إن هذا الولد ليس ولدي " ففرق بينهما، وألحق الولد بالمرأة " أي ونسب الولد إلى أمه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن الفرقة لا تحصل بمجرد التلاعن وإنما
__________
(1) أي إنما تقع بتفريق الحاكم بينهما لا بمجرد التلاعن.
(2) " شرح العيني " ج 20.(5/134)
923 - " بَابٌ إذا طَلَّقَهَا ثلاثاً ثمَّ تزَوَّجَتْ بَعْدَ العِدَّةِ زَوْجاً غَيْرَهُ فَلَمْ يَمَسَّهَا "
1070 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنَّ رِفَاعَة القُرَظِيَّ تَزَوَّجَ امْرأةً ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ، فأتَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَتْ لَهُ أنَّهُ لا يأتِيْهَا، وأنه لَيْسَ مَعَهُ إلَّا مِثْلُ هُدْبَةٍ، فَقَالَ: " لا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تحصل بتفريق الحاكم، وعلى أن الرجل إذا لاعن زوجته ونفي عنه نسب الحمل ينتفي عنه، ويثبت نسبه من الأم ويرثها وترث منه (1) وهو مذهب جمهور الفقهاء. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وأبو داود. والمطابقة: في قوله: " وألحق الولد بالمرأة ".
923 - " باب إذا طلقها ثلاثاً ثم تزوجت بعد العدة زوجاً غيره فلم يمسها "
1070 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أن رفاعة " بكسر الراء " تزوج امرأة " اسمها تميمة بنت وهب " ثم طلقها " أي طلقها ثلاثاً " فتزوجت آخر " اسمه عبد الرحمن بن الزبير بفتح الزاي وكسر الباء " فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له أنه لا يأتيها " أي لا يجامعها " وأنه ليس معه إلاّ مثل هدبة " بضم الهاء وسكون الدال وهو طرف الثوب، أي أن الذي معه لا يشتد ولا ينتصب " فقال: لا " أي لا يحل لك أن تعودي إلى زوجك الأول " حتى تذوقي عسيلته " أي حتى يجامعك زوجك الثاني.
__________
(1) أيضاً " شرح العيني " ج 20.(5/135)
924 - " بَابُ الكحل لِلْحَادةِ "
1071 - عَنْ أمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أَنَّ امْرأة تُوُفِّيَ زَوْجُهَا، فَخَشُوْا عَلى عَيْنَيْهَا، فَأتَوْا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فاسْتَأذنُوهُ في الكُحْلِ فَقَالَ: " لا تُكَتحلْ، قَدَْ كانَتْ إحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ في شَرِّ أحْلاسِهَا أو شَرِّ بَيْتِهَا، فَإِذَا كَانَ حَوْلٌ فَمَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ بِبَعْرَةٍ، فلا حَتَّى تَمْضِيَ أرْبَعَةُ أشْهُرٍ وَعَشْر ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن المطلقة ثلاثاً لا تحل لزوجها الأوّل حتى يطأها الثاني في الفرج لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا حتى تذوقي عسيلته " وأدناه تغييب الحشفة في الفرج (1) وهو مذهب الجمهور. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " لا حتى تذوقي عسيلته ".
924 - " باب الكحل للحادة "
1071 - معنى الحديث: تحدثنا أم سلمة في هذا الحديث " أن امرأة توفي زوجها فخشوا " بفتح الخاء وضم الشين " عينيها " أي فمرضت عيناها أثناء عدتها وخافوا أن يتضاعف مرضها " فأستأذنوه في الكحل " أي فاستأذنوه أن يرخص لهم في علاج عينيها بالكحل " فقال: لا تكحل " بفتح التاء والكاف والحاء المشددة (2) وبالجزم بلا الناهية " قد كانت إحداكن تمكث في شرِّ أحلاسها " أي تبقى سنة كاملة مبتعدة عن الزينة لا تلبس إلاّ أردأ ثيابها " فإذا كان حول فمر كلب رمت ببعرة " أي فإذا انقضت سنة من وفاة زوجها ترصدت كلباً يمر بها، فرمت ببعرة، وخرجت من إحدادها لتعلن أن إحداد
__________
(1) " الفقه الإسلامي وأدلته " للدكتور وهبة الزحيلي ج 7.
(2) أصله تتكحل.(5/136)
سنة على زوجها أهون عليها من رمي تلك البعرة " فلا، حي تمضي أربعة أشهر وعشر " أي فلا يجوز لها الكحلُ حتى تمضي مدة الإِحداد الكاملة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية العدة للمتوفى عنها زوجها، وتحديد مدتها بأربعة أشهر وعشر لقوله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الحديث " لا حتى تمضي أربعة أشهر وعشر ". ثانياً: دل الحديث على مشروعية إحداد المرأة على زوجها المتوفى أربعة أشهر وعشراً، وهو واجب عند الجمهور، لحديث الباب، وقال الحسن البصري والشعبي: لا يجب (1) ، لحديث أسماء بنت عميس قالت: دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليوم الثالث من قتل جعفر، فقال: " لا تحدي بعد يومك هذا " أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان، قال أحمد وإسحاق: هذا الشاذ من الحديث لا يؤخذ به لأنه مخالف للأحاديث الصحيحة في الإحداد، ولهذا ترك أهل العلم العمل به، والإحداد واجب على المرأة صغيرة كانت أم كبيرة. بكراً أو ثيباً. أما المطلقة إن كانت بائنة بينونة صغرى أو كبرى فقال مالك والشافعي: لا إحداد عليها خلافاً للحنفية حيث قالوا: يجب عليها الإحداد قياساً على المتوفى عنها زوجها. ثالثاً: ظاهر هذا الحديث النهي عن الاكتحال مطلقاً لضرورة أو لغير ضرورة لما جاء في رواية ابن حزم أنّها قالت له: إني أخشى أن تنفقأ عينها، قال: " لا وإن انفقأت " وسنده صحيح ولكن الذي عليه أهل العلم جواز الاكتحال للضرورة ورخص فيه عند الضرورة عطاء والنخعي ومالك وأصحاب الرأي وقال النووي: حديث الباب دليل على تحريم الاكتحال على الحادة سواء احتاجت إليه أم لا، وجاء في حديث أم سلمة في " الموطأ " وغيره " اجعليه بالليل، وامسحيه بالنهار " ووجه الجمع أنها إن لم تحتج إليه لم يحل، وإن احتاجت إليه لم يجز بالنهار، ويجوز بالليل. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " فاستأذنوه في الكحل فقال: لا تكحل ".
__________
(1) فإن المطلقة ثلاثاً والمتوفى عنها زوجها تكتحلان وتمتشطان وتتطيبان وتصبغان ما شاءتا. (ع) .(5/137)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتَاب النَّفقات "
925
- " بَابُ فَضلُ النَّفَقَةِ (1) عَلَى الأهْلِ "
1072 - عَنْ أبي مَسْعُودٍ الأنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا أنْفَقَ المُسْلِمُ نَفَقَةً عَلَى أهْلِهِ -وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا- كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
925 - " باب فضل النفقة (1) على الأهل "
1072 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أنفق المسلم نفقة " أي إذا صرف العبد المسلم شيئاً من ماله " على أهله " سواء كان زوجته أو ولده أو عبده أو أمته، وسواء كانت هذه المؤونة طعاماً أو شراباً أو كساءً أو أجرة منزل أو استهلاك ماء أو كهرباء " وهو يحتسبها " أي والحال أنه يريد بها وجه الله وابتغاء مرضاته " كانت في صدقة " أي كافأه الله تعالى على حسن نيته، فأثابه عليها ثواب الصدقة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية النفقة على الزوجة والولد الصغير والأب والعبد لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أنفق المسلم نفقة على أهله "، وكل هؤلاء يدخلون في الأهل قال المهلب (2) : النفقة على الأهل واجبة
__________
(1) والنفقة شرعاً ما يجب من مؤونة الزوجة والقريب والعبد على سيده من خبز وإدام وكسوة ومسكن، وما يتبع ذلك، وحكمها الوجوب على الزوج والأب والسيد، وقد اتفقوا على وجوب النفقة للزوجة والولد قبل البلوغ، ونفقة الزوجة معتبرة بحال الزوجين موسرين أو معسرين أو متوسطين، وإن كان أحدهما موسراً والآخر معسراً فلها عليه نفقة المتوسطين، وقال أبو حنيفة في مالك: يعتبر حال المرأة على قدر كفايتها، وقال الشافعي: يعتبر حال الزوج.
(2) " إرساد الساري " ج 8.(5/138)
926 - " بَابُ حَبْسِ نفَقَةِ الرَّجُل قُوْت سَنَةٍ عَلَى أهْلِهِ "
1073 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالإِجماع، وإنما سمّاها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أنّ قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه وترغيباً لهم في تقديم الصدقة الواجبة على صدقة التطوع. وقال في " الإِفصاح " (1) واختلفوا فيما إذا بلغ الولد معسراً أو لا حرفة له، فقال أبو حنيفة: تسقط نفقة الغلام إذا بلغ صحيحاً (2) ، وتسقط نفقة الجارية إذا تزوجت، وقال مالك كذلك، إلاّ أنه لا تسقط نفقة الجارية حتى يدخل بها الزوج، وقال أحمد: لا تسقط نفقة الولد عن أبيه وإن بلغ إذا لم يكن له كسب ولا مال.
واتفقوا فيما إذا بلغ الابن مريضاً أن النفقة واجبة على أبيه، أو كانت جارية مزّوجة ثم طلّقها بعد ذلك، فقالوا: تعود النفقة على الأب، إلاّ مالكاً فإنه قال (3) : لا تعود. ثانياًً: دل الحديث على أن النفقة على الأهل إذا قصد بها ابتغاء مرضاة الله وانتظار الثواب والأجر عليها أعطاه الله تعالى أجره كما يعطى المتصدق ثوابه على صدقته، ويستفاد منه أن الأجر لا يحصل بالعمل إلاّ مقروناً بالنيّة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث يدل على فضل النفقة على الأهل وهو ما ترجم له البخاري.
926 - " باب حبس نفقة (4) الرجل قوت سنة على أهله "
1073 - معنى الحديث: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يروي لنا
__________
(1) " الإفصاح " ج 2.
(2) أي تسقط نفقة الولد البالغ الصحيح الجسم عن والده ولو كان معسراً عند أبي حنيفة ومالك، ولا تسقط عند أحمد.
(3) " الإفصاح عن معاني الصحاح " ج 2.
(4) أي ادخار النفقة لمدة سنة.(5/139)
" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَبِيعُ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَيَحْبِسُ لأهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في هذا الحديث " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبيع نخل بني النضير " أي يبيع كل عام ثمرة النخل الذي يخصه من فيء بني النضير في خيبر " ويحبس لأهله قوت سنتهم " أي ويدخر لأهله ما يكفي لقوتهم مدة سنة كاملة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه يجوز للمسلم أن يدّخر لأهله وعياله تموين عام كامل، ولا يعد ذلك احتكاراً ولو كان يخدش في التوكل لما فعله إمام المتوكلين - صلى الله عليه وسلم -، فإن فعله - صلى الله عليه وسلم - تشريع لأمته. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " ويحبس لأهله قوت سنتهم ".
***(5/140)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كِتابُ الأطْعِمَةِ "
927 - " بَابُ قَوْل الله تعالى (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) "
1074 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
"مَا شَبعَ آل مُحَمَّدٍ مِنْ طَعَام ثَلاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى قُبِضَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الأطعمة
927 - " باب قوله تعالى: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) "
1074 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه أمهات المؤمنين لم يشبعوا من الطعام، أو يأخذوا منه القدر الكافي ثلاثة أيام متوالية مدة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال القسطلاني: أي لقلة الشيء عندهم أو لأن الشبع مذموم، فكانوا يتعمدون أن لا يشبعوا بطونهم إلى حد الامتلاء، "حتى لا تثقل أجسامهم وتكسل عن عبادة الله.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وآل بيته الكرام الإِقلال من الطعام، وعدم الإِفراط في الشبع، لما يؤدي إليه ذلك من الكسل والفتور، والتقصير في العبادة وتبلد الذهن، وقسوة القلب. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: في كون الحديث يدل على إقلاله - صلى الله عليه وسلم - من الطعام.
***(5/141)
928 - " بَابُ التَّسْمِيَةِ على الطَّعَامِ والأكْلِ بِاليَمِينِ "
1075 - عَنْ عُمَرَ بْنِ أبي سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
كُنْتُ غُلاماً في حَجْرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ في الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " يا غُلامُ، سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
928 - " باب التسمية على الطعام والأكل باليمين "
1075 - معنى الحديث: يقول عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما " كنت غلاماً " أي كنت ولداً صغيراً دون البلوغ " في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي أعيش في بيته تحت كفالته ورعايته " وكانت يدي تطيش في الصحفة " أي تتحرك في آنية الطعام كلها، وتجول في جميع نواحيها " فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " معلماً وموجهاً: " يا غلام سمّ الله " أي قل بسم الله في بداية الطعام تبركاً بهذا الاسم المبارك " وكل بيمينك " أي وكل بيدك اليمنى " وكل مما يليك " أي من الجهة المقابلة لك من الإناء دون الأطراف الأخرى قال: " فما زالت تلك طعمتي بعد " بكسر الطاء أَي فما زالت تلك الطريقة المهذبة هي طريقتي في الأكل بعد ذلك طيلة حياتي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من آداب الأكل ومستحباته التسمية في بداية الطعام طرداً للشيطان وأصرَحُ مَا وَرَدَ في صفة التسمية ما أخرجه أبو داود والترمذي من طريق أم كلثوم عن عائشة مرفوعاً " إذا أهل أحدكم طعاماً فليقل: بسم الله، فإن نسي فليقل: بسم الله أوله وآخره " قال العلماء: ويستحب أن يجهر بالتسمية ليُسمع غيره وينبهه عليها، والتسمية في شرب الماء واللبن والعسل والمرق والدواء وسائر المشروبات كالتسمية(5/142)
على الطعام، وسواء في استحباب التسمية الجنب والحائض وغيرهما (1) . ثانياًً: دل الحديث على استحباب الأكل باليمين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وكل بيمينك " وقد اختلف أهل العلم في مقتضى هذا الأمر. وهل الأكل باليمين واجب أو مستحب؟ فذهب بعضهم إلى أنه واجب (2) كما أفاده العيني لظاهر الأمر، ولورود الوعيد في الأكل بالشمال ففي " صحيح مسلم " عن سلمة بن الأكوع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يأكل بشماله، فقال: " كل بيمينك " قال: لا أستطيع، قال: " لا استطعت ما منعه إلاّ الكبر، قال: فما رفعها إلى فيه ". وروى أحمد بسند حسن عن عائشة مرفوعاً: " من أكل بشماله أكل معه الشيطان " والذي عليه أكثر أهل العلم استحباب الأكل والشرب باليمين، وكراهية ذلك بالشمال، وكذلك كل أخذ وعطاء، قال القرطبي: هذا الأمر على جهة الندب، لأنه من باب تشريف اليمين على الشمال، لأنها أقوى، وهي مشتقة من اليمن، وقد شرّف الله أصحاب الجنة إذ نسبهم إلى اليمين. والأصل فيما كان من هذا الباب الترغيب والندب. ثالثاً: استدل به بعض أهل العلم على تحريم الأكل بالشمال، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عمر بن أبي سلمة بالأكل باليمين، والأمر بالشيء نهي عن ضده، واستدلوا أيضاً على تحريم الأكل باليد اليسرى بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله " أخرجه مسلم، قال الصنعاني: الحديث دليل على تحريم الأكل والشرب بالشمال، فإنه علله بأنه فعل الشيطان وخلقه، والمسلم مأمور بتجنب طريق أهل الفسوق فضلاً عن الشيطان. رابعاً: قال النووي: وفيه استحباب الأكل مما يليه (3) ، لأن أكله من موضع يد صاحبه سوء عشرة، وترك مروءة وهذا في السوائل، فإن كان تمراً وأجناساً فقد نقلوا إباحة اختلاف الأيد في الطبق ونحوه، والذي ينبغي تعميم النهي. قال القسطلاني: وقد
__________
(1) " تحفة الأحوذي ".
(2) " نص عليه الشافعي في " الرسالة " ورجحه الحافظ، لأن الأصل في الأمر الوجوب.
(3) " تحفة الأحوذي " ج 5.(5/143)
929 - " بَابُ الْخبْزِ الْمُرَقِّقِ وَالأَكْل عَلَى الخِوَانِ وَالسُّفْرَةِ "
1076 - عَنْ أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" مَا عَلِمْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أكَلَ عَلَى سُكُرُّجَةٍ قَطُّ، ولا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قَطُّ، ولا أكَلَ على خِوَان قَطُّ " قِيلَ لقتادَةَ: فَعَلَى مَا كانُوا يَأكلُونَ؟ قَالَ: عَلى السُّفَرِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نص أئمتنا - أي الشافعية على كراهة الأكل مما يلي غيره ومن الوسط والأعلى إلا الفاكهة ونحوها، مما ينتقل به. الحديث: أخرجه الستة وأحمد والدارمي. والمطابقة: في قوله: " يا غلام سم الله ".
929 - " باب الخبز المرقق والأكل على على الخوان والسفرة "
1076 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه " ما علمت النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل على سكرجة قط " (بضم السين والكاف، وتشديد الراء) وهي صحاف أو أطباق توضع فيها الكوامخ أي المخلللات والمشهّيات، ومعناه أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يتناول طعامه مصحوباً بهذه المشهيات التي تفتح النفس ولم تكن هذه الأطباق التي فيها الكواخ والمهضمات توضع على مائدته - صلى الله عليه وسلم -، لأنه لم يكن يشبع من الطعام غالباً، فلا حاجة به إلى هضمه كما أفاده العراقي. " ولا خبز له مرقق " أي ولم يخبز له - صلى الله عليه وسلم - ذلك الخبز الرقيق الفاخر المسمى بالرقاق " ولا أكل على خوان قط " أي ولا أكل في حياته كلها على مائدة من تلك الموائد النحاسية المرتفعة عن الأرض التي يأكل عليها العظماء والمترفون: " قيل لقتادة فعلى ما كانوا يأكلون " أي على أي شيء يأكل محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه " قال: على السفر " التي تمد على الأرض تواضعاً وزهداً في الدنيا ومظاهرها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه - صلى الله عليه وسلم - اختار لنفسه طريق الزهد(5/144)
930 - " بَابُ طَعَامِ الْوَاحِدِ يَكْفي الإِْثنَيْنِ "
1077 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "طَعَامُ الإِثْنَيْنِ كَافِي الثَّلَاَثةِ، وَطَعَامُ الثَّلاَثةِ كَافِي الأرْبَعَةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والتقشف، وأعرض عن كل ما في هذه الدنيا من ملاذ الحياة ومظاهر الترف والنعيم، فلم يتناول الأطعمة الشهية، ولا أكل على الموائد الفاخرة، ولا استعمل الكوامخ والمشهيات وإنما قنع من الطعام بلقيمات يقمن صلبه، لا تحريماً منه - صلى الله عليه وسلم - (1) لملاذ الحياة وطيباتها، وإنما ترك ذلك زهداً وإيثاراً للحياة الباقية، وفي هذا دليل واضح على أن الزهد سلوك فاضل من هدى النبيين والصديقين وقد كان - صلى الله عليه وسلم - إمام الزاهدين وقدوتهم لم يترك الدنيا اضطراراً، بل كان في إمكانه أن ينال ما يشاء، ويحصل على ما يريد ولكنه آثر أن يكون عبداً رسولاً، وقال لعمر حين قال له: " ادع الله فليوسع على أمتك فإنّ فارس والروم قد وسّع عليهم، وهم لا يعبدونه " أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا. أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة " متفق عليه. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قول أنس رضي الله عنه: " ولا خُبزَ له مرقَّق ".
930 - " باب طعام الواحد يكفي الإثنين "
1077 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " طعام الاثنين كافي الثلاثة " أي أن الطعام الذي يشبع الإثنين يشبع الثلاثة إذا اجتمعوا عليه، وفي رواية أخرى عن جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "طعام الواحد يكفي
__________
(1) قال ابن بطال: أكل المرقق جائز مباح، ولم يتركه - صلى الله عليه وسلم - إِلا زهداً في الدنيا وإيثاراً لما عند الله.(5/145)
931 - " بَابُ مَا عَابَ النبي - صلى الله عليه وسلم - طَعاماً قَطُّ "
1078 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" مَا عَابَ النبي - صلى الله عليه وسلم - طَعَاماً قَطُّ، إِنْ اشْتَهَاهُ أكلَهُ، وَإنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الاثنين، وطعام الإثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية" أخرجه مسلم والترمذي والنسائي " وطعام الثلاثة كافي الأربعة " أي أن طعام الثلاثة يشبع الأربعة، وعن سمرة بن جندب رضي الله عنهما مرفوعاً: " طعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية " أخرجه الطبراني.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يستحب الاجتماع على الطعام لا فيه من بركة عظيمة تجعل من القليل كثيراً فينمو الطعام ويزداد حسّاً ومعنى، وتتضاعف قواه الغذائية ويكفي القليل منه الكثير. ثانياًً: قال النووي: فيه الحث على المواساة في الطعام فإنه وإن كان قليلاً تحصل منه الكفاية وتقع فيه بركة تعم الحاضرين. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: ظاهرة.
931 - " باب ما عاب النبي - صلى الله عليه وسلم - طعاماً قط "
1078 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه " ما عاب النبي - صلى الله عليه وسلم - طعاماً قط " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - من كمال خلقه، وتواضعه، وشكره لنعمة ربه كان لا يذكر عيباً في أي طعام يقدم إليه، فلا يقول فيه: مالح، ولا غير ناضج، ولا يصفه بأي صفة تعيبه " إن اشتهاه أكله وإن كرهه " كالضب مثلاً " تركه " واعتذر عن أكله بعذر يقبله صاحب الطعام، ولا يؤذيه أو يجرح شعوره.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من الآداب الاجتماعية التي شرعها(5/146)
932 - " بَابُ التلبينة "
1079 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
" أنَّهَا كَانَتْ إِذا مَاتَ المَيِّتُ مِنْ أهْلِهَا فاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النسَاءُ ثم تَفَرَّقْنَ إلا أهْلَهَا وخَاصَّتَهَا أمَرَتْ بِبُرْمَةٍ من تَلْبِيْنَةٍ فَطُبِخَتْ، ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ، فَصَبَّتِ التَلْبِينَةُ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: كُلْنَ منهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: التَّلْبِينَةُ مَجَمَّة لِفُؤَادِ المَرِيضِ، تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الإِسلام أن لا يذم الضيف الطعام الذي يقدم إليه، ولا يذكر فيه عيباً، لأن هذا مما يجرح شعور صاحب الطعام أما إذا كان يريد بذلك النصيحة له فلتكن فيما بينه وبينه، هذا إذا كان هناك عيب حقيقي كالملوحة مثلاً ولا يليق بأهل الفضل والدين أن يتكبروا ويترفعوا عن الأطعمة المتواضعة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " لو دعيت إلى كراع لأجبت ". اهـ. وذلك إرشاد منه - صلى الله عليه وسلم - لأمته أن لا يحتقروا من الطعام شيئاً، لأنه نعمة من نعم الله التي يجب احترامها وتقديرها وشكرها. وقد روى عنه أنس رضي الله عنه أنه مشى إليه بخبز شعير وإهالة سنخة، أي شحم قديم متغير الرائحة من السناخة، وهي الزناخة، فانظر إلى تواضعه - صلى الله عليه وسلم - وسماحة نفسه ومراعاته لشعور غيره. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
932 - " باب التلبينة "
1079 - معنى الحديث: أن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت إذا مات أحد أقاربها، واجتمع النساء للعزاء، ثم خرجن ولم يبق سوى قريباتها وصديقاتها، " أمرت ببرمة من تلبينة " أي أمرت أن يطبخ قدر من تلبينة، وهي حساء من دقيق وعسل، أو من دقيق ولبن " ثم صنع ثريد " أي قطع الخبز قطعاً(5/147)
933 - " بَابُ الأكْلَ في إناءٍ مُفَضَّضٍ "
1080 - عنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه قَالَ:
سَمِعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لا تَلْبَسُوا الحَرِيرَ، ولا الدِّيبَاجَ، ولا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ والْفِضَّةِ، ولا تَأكلُوا في صِحَافِهَا، فَإنَّها لَهُمْ في الدُّنيا وَلَنا في الآخِرَةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صغيرة " فصبت التلبينة عليها " أي فصبت تلك التلبينة على الثريد " ثم قالت: كلن منها، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: التلبينة مجمة " بفتح الميم الأولى والجيم والميم الثانية مشددة " لفؤاد المريض " أي مريحة لفؤاد المريض مسكنة لآلامه الجسمية والنفسية " وتذهب ببعض الحزن " أي وتخفف عن المصاب أحزانه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن التلبينة تريح القلب الحزين وتسكن آلامه النفسية، وذلك كما قال ابن القيم: لأن الهم والحزن يبردان المزاج، وهذا الحساء يقوي الحرارة الغريزية، ويذهب ببعض الحزن بخاصية فيه. ثانياًً: دل هذا الحديث على أنه ينبغي لأهل الميت أن لا يستسلموا لأحزانهم، وأن يحاولوا دفعها عنهم قدر المستطاع، أو تخفيفها على الأقل، واتخاذ كل الوسائل التي تعين على تقوية النفس والقلب على تحمل المصيبة ومفارقة الأحبة. إذ لا يملك الإنسان في هذه المواقف سوى الصبر والسلوان واحتساب المصيبة عند الله تعالى، وانتظار الخلف منه. والله مع الصابرين. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " التلبينة مجمة لفؤاد المريض ".
933 - " باب الأكل في إناء مفضض "
1080 - معنى الحديث: أن حذيفة رضي الله عنه يقول: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تلبسوا الحرير والديباج " أي أنه نهي - صلى الله عليه وسلم - عن لبس(5/148)
الحرير للرجال بجميع أنواعه، سواء كان من النوع المسمى بالديباج (1) أو غيره. " ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة " وهذا نهي صريح عن شرب أي نوع من السوائل في الأواني الذهبية والفضية " ولا تأكلوا في صحافها " قال العيني: جمع صحفة، وهي إناء كالقصعة المبسوطة، والمعنى: أنّه نهى الرجال عن استعمال جميع الأواني الذهبية والفضية في المشروبات والمأكولات سواء كان الإناء من الذهب الخالص أو الفضة الخالصة، أو كان مذهباً أو مفضّضاً مخلوطاً أو مدهوناً أو مضبباً. ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة " أى فإن الحرير والفضة والذهب للكفار في الدنيا وللمسلمين في الآخرة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث، على ما يأتي: أولاً: أنه يحرم لبس الحرير بجميع أنواعه على الرجال خاصة، والوعيد الشديد لمن لبسه في الدنيا بالحرمان منه في الآخرة، كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولنا في الآخرة " (2) ولهذا ذهب الجمهور إلى تحريم لبسه وافتراشه على الرجال، وذكر المهدي في " البحر " أنه مجمع عليه، واختلفوا هل يجوز لبسه في بعض الأحوال المرضية والظروف الاستثنائية فمنع مالك وأبو حنيفة من استعماله مطلقاً (3) وقال الشافعي وأبو يوسف يجوز للضرورة، وحكى ابن حبيب عن ابن الماجشون أنه يستحب في الحرب. ثانياًً: دل الحديث على تحريم الأكل والشرب (4) في الأواني الذهبية والفضية، وكذلك يحرم كل ما هو في معنى الآنية كأدوات الطيب والكحل،
__________
(1) اسم فارسي معرب لنوع خاص من الحرير.
(2) ومن تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه كما في " تيسير العلام " ج 2.
(3) " تحفة الأحوذي " ج 5.
(4) قال القسطلاني: فيحرم استعمال كل إناء جميعه أو بعضه ذهب أو فضة، واتخاذه، لأنه يجر إلى استعماله، وسواء في ذلك الرجال والنساء، وكذلك المضبب بأحدهما. لغير حاجة. اهـ. وإنما حرم المفضض والمموه، والمضبب لغير حاجة لحديث ابن عمر مرفوعاً: " من شرب في آنية الذهب والفضة، أو إناء فيه شيء في ذلك، فإنما يجرجر في جوفه نار جهنم " أخرجه الدارقطني والبيهقي.(5/149)
934 - " بَابُ الرُّطَبِ بِالقِثاءِ "
1081 - عن عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أبي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: "رَأيت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأكلُ الرُّطَبَ بِالقِثَّاءِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وبهذا قال جمهور أهل العلم خلافاً للشوكاني والصنعاني فإنهما يريان جواز استعمال الذهب والفضة في غير الأكل والشرب لأن النص لم يرد إلاّ في الأكل والشرب. ثالثاً: أنه يحرم الأكل والشرب في الإناء المفضض سواء كان مخلوطاً أو مطلياً وهو مذهب الجمهور، واستثنى الفقهاء من ذلك ما كان مضبباً بالفضة بضبة صغيرة للحاجة إليها، أما المضبب بالذهب فإنه يحرم مطلقاً. والمطابقة: في كون الحديث يدل على تحريم الأكل من الإناء الفضي ويدخل فيه المفضض.
ْ934 - " باب الرطب بالقثاء "
1081 - معني الحديث: يقول عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل الرطب بالقثاء " أي يجمع بينهما في الأكل كما في رواية أخرى عن عبد الله بن جعفر قال: رأيت في يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - قثاء، وفي شماله رطباً، وهو يأكل من ذا مرة ومن ذا مرة " أخرجه الطبراني في الأوسط وفي سنده ضعف.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمع بين القثاء والرطب وفائدة ذلك كما قال القرطبي أن في الرطب حرارة وفي القثاء برودة، فإذا أكلا معاً اعتدلا. ثانياً: ذكر الأطباء أن من فوائد هذا الغذاء المركب تسمين البدن، وورد في بعض الأحاديث ما يؤيد ذلك، فقد أخرج ابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها قالت: " أرادت أمي أن تهيئني للسمن لتدخلني على النبي - صلى الله عليه وسلم - فما استقام لها ذلك حتى أكلت الرطب بالقثاء، فسمنت كأحسن السِمَن " ولا شك أن الجمع بين الرطب الحار والقثاء الباردة يدخل(5/150)
935 - " بَابُ الْعَجْوَةِ "
1082 - عَن سَعْدِ بْنِ أبي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْم سَبْعَ تَمَرَاتِ عَجْوَةٍ، لَمْ يَضُرَّهُ في ذلكَ اليَوْمِ سَمٌّ وَلا سِحْرٌ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في باب إصلاح المواد بعضها ببعض، وهو أصل من أصول الطب قديماً وحديثاً، وذلك أن الأطباء يرون أن غالب المواد تحتوي على مضار ومنافع، وأنه ينبغي عند استعمالها إصلاح بعضها ببعض، وينصحون لمن تناول طعاماً بارداً بطيء الهضم أن يصلحه بطعام حار هاضم ليزيل ضرر هذا بهذا، وهذا ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ابن القيم: " القثاء بارد ورطب في الدرجة الثانية مطفىء لحرارة المعدة الملتهبة، نافع من وجع المثانة، وهو بطيء الانحدار من المعدة، وبرده مضر ببعضها، فينبغي أن يستعمل معه ما يصلحه كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أكله بالرطب، فإنه إذا أكل بتمر أو زبيب أو عسل عدله ". اهـ. وقال في " المعتمد ": وهو (1) يبرد ويرطب ويضر المبرودين، ويدفع ضرره بالعسل والزبيب، أي بالمواد السكرية، ومنها التمر. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود، والترمذي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " يأكل الرطب بالقثاء ".
935 - " باب فضل العجوة "
1082 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق " من تصبّح كل يوم سبع تمرات عجوةٍ " بالجر فيهما على التمييز (2) أو " تمراتٍ عجوةً " أي من أكل كل يوم صباحاً سبع تمرات من التمر المعروف بالعجوة أو
__________
(1) أي القثاء.
(2) بالجر على التمييز، وفي نسخة تمرات عجوة بإضافة تمرات لتاليه. اهـ. كما أفاده الشرقاوي في " فتح المبدي ".(5/151)
من عجوة المدينة خاصة " لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر " أي لا يضره شىء من المواد السامة والسحرية، ويُحفظ من جميع الأشياء الضارة جسمياً أو نفسياً.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على فضل عجوة المدينة وفائدتها الطبية في مقاومة السموم والسحر ودفع تأثيرهما والوقاية من أذاهما وضررهما جسمياً ونفسياً، فإنها سلاح قوي ضد الإِصابة بالسم أو بالسحر يقضي عليهما، ويبطل مفعولهما، فإذا تناول المرء كل يوم صباحاً سبع تمرات من عجوة المدينة بالذات، لم يضره شيء من السم أو السحر كما قال - صلى الله عليه وسلم -. والتحقيق أن هذه الفائدة الطبية المذكورة في حديث الباب لا توجد إلاّ في عجوة المدينة، لما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها " أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن في عجوة العالية: شفاءً أو إنها ترياق أول البكرة " أخرجه (1) مسلم، وفي رواية " في عجوة العالية أول البكرة على ريق النفس شفاء من كل سحر أو سم " أخرجه أحمد في " مسنده ": قال ابن القيم: ونفع هذا العدد من هذا التمر من هذا البلد من هذه البقعة بعينها من السم والسحر بحيث يمنع إصابته من الخواص التي لو قالها أبقراط وجالينوس وغيرهما من الأطباء لتلقاها عنهم الأطباء بالقبول والإِذعان والانقياد، مع أن القائل إنما معه الحدس والتخمين والظن، فمن كلامه كله يقين وقطع أولى أن تتلقى أقواله بالقبول والتسليم وقال في موضع آخر: " ولكن من شروط انتفاع العليل بالدواء، قبوله واعتقاد النفع فيه، فتقبله الطبيعة فتستعين به على دفع العلة. حتى إن كثيراً من العلاجات تنفع بالاعتقاد وحسن القبول، وكمال التلقي. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث يدل على فائدة العجوة والله أعلم.
__________
(1) وفي رواية أخرى عن عائشة " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن في عجوة العالية شفاءً أو إنها ترياق أول البكرة " أخرجه مسلم.(5/152)
936 - " بَابُ لَعْقِ الأصَابِعِ وَمَصِّهَا قَبلَ أنْ تُمْسَحَ بِالْمِنَدِيلِ "
1083 - عَنْ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فلا يَمْسَحْ يَدَهُ حتى يَلْعَقَهَا أوْ يُلْعِقَهَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
936 - " باب لعق الأصابع ومصها قبل أن تمسح بالمنديل "
1083 - معنى الحديث: أن ابن عباس رضي الله عنهما يحدثنا في هذا الحديث " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أكل أحدكم فلا يمسح يده حتى يلعقها " أي لا يمسح يده بالمنديل المعد لإزالة الزهومة حتى يلحس يده بفمه، " أو يلعقها " يعني أن يلحسها لغيره من أحبائه الذين لا يتقذرون منه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب لعق الأصابع عند الانتهاء من الطعام دفعاً للكبر وهو مذهب الجمهور، وذهبت الظاهرية إلى وجوبه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن مسح الأصابع قبل لعقها. وقد جاء الأمر الصريح بلعق الأصابع في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أكل أحدكم فليلعق أصابعه. فإنه لا يدري في أي طعامه البركة " أخرجه الترمذي فحمل الظاهرية هذا الأمر على الوجوب، وحمله الجمهور على الندب وينبغي أن يبدأ بالوسطى والحكمة في لعق الأصابع محاولة الحصول على البركة الموجودة في الطعام، لأنه لا يدري أين هي، هل هي فيما أكله من الطعام؟ أو فيما بقي منه؟ كما أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك صراحة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أكل أحدكم فليلعق أصابعه، فإنه لا يدري في أيتهن البركة " (1) أخرجه مسلم والترمذي وأحمد.
__________
(1) أي هل البركة فيما أكله أو فيما بقى على أصابعه، والمراد بالبركة ما تحصل به التغذية والسلامة والصحة البدنية، وتنشأ عنه القوة الجسمية.(5/153)
937 - " بَابُ مَا يَقُولُ إذَا فَرَغَ مِنَ الطَّعَامِ "
1084 - عَنْ أبي أمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ: " الحَمْدُ للهِ حَمْداً كَثِيراً طيَباً مُبَارَكاً فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ، وَلا مُوَدَّعٍ، وَلا مُسْتَغْنَى عَنْهُ رَبُّنَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على الترجمة.
937 - " باب ما يقول إذا فرغ من الطعام "
1084 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلمنا السنة بأقواله وأفعاله، ومن الأذكار المأثورة عنه عند الانتهاء من طعامه أنه " كان إذا رفع مائدته " أي إذا فرغ من أكله، وبدأ في رفع آنية الطعام التي أمامه " قال: الحمد لله " ومعناه أن الثناء (1) والشكر كله في الحقيقة لله وحده دون سواه، " حمداً كثيراً " أي ثناءً كثيراً يليق بجلاله، وجماله وكماله، وشكراً جزيلاً يوازي نعمه التي لا تحصى، ومنته التي لا تستقصى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) " طيباً " خالصاً من الرياء والسمعة " مباركاً " أي مقترناً بالقبول الذي لا يرد، لأن البركة معناها الخير. والعمل الذي لا يقبل لا خير فيه " غير مكفي " بنصب " غير " على الحال وإضافته إلى " مكفي " بفتح الميم وكسر الفاء إسم مفعول، أي نحمده عز وجل حال كونه هو الكافي لعباده، ولا يكفيه أحد من خلقه، ْلأنه لا يحتاج إلى أحد " ولا مودع " حال أخرى أي ونحمده سبحانه حال كونه غير متروك، أي لا يتركه منا أحد لحاجتنا جميعاً إليه.
__________
(1) أما تخصيصه بالثناء، فلأنه المنفرد بالكمال المطلق، وأما تخصيصه بالشكر، فلأن ما من نعمة في الحقيقة إلا هو مصدرها.(5/154)
938 - " بَابُ قَوْلِهِ تعالى (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) "
1085 - عَنْ أنسٍِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
أنَا أعْلَمُ النَّاسِ بِالْحِجَابِ، كَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يَسْألنِي عَنْهُ، أصبْحَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَرُوساً بِزَيْنَبَ بنتِ جَحْشٍ، وكَانَ تَزَوَّجَهَا بِالْمَدِينَةِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب هذا الذكر المأثور عند الانتهاء من الطعام. ثانياًً: أن الذكر مستحب ومندوب إليه في أوّل الطعام وآخره، لأن الطعام من أجل النعم التي بها قوام الحياة. فإذا اقترن بذكر الله في أوّله، وشكره والثناء عليه في آخره بصدق وإخلاص، وشعور بالنعمة، أدى إلى دوام النعم واستمرارها، كما قال تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) . الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب عن الترجمة والله أعلم.
938 - " باب قوله تعالى: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) "
أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يتعلق بقوله تعالى: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) أي إذا دعيتم إلى وليمة عامة أو خاصة، وفرغتم من تناول الطعام، فتفرقوا، وانصرفوا إلى منازلكم تخفيفاً عن صاحب المنزل، ومراعاة لظروفه.
1085 - معنى الحديث: أن أنساً يقول: أنا أعلم الناس بسبب نزول آية الحجاب الخاص بأمّهات المؤمنين، وهي قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) ثم قال أنس: " كان أُبي بن كعب يسألني عنه " أي يسألني عن سبب نزول آية الحجاب فأبينه له، ثم قال: " أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عروساً بزينب بنت جحش " أي أصبح من ليلة زفافه بها " فدعا الناس للطعام بعد ارتفاع النهار " أي في وقت الضحى "وجلس معه رجال بعدما(5/155)
فَدَعَا النَّاسَ لِلطعَامِ بَعْدَ ارتِفَاعَ النَّهَارِ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -، وَجَلَسَ مَعَهُ رِجَالٌ بَعْدَمَا قَامَ الْقَوْمُ، حتَّى قَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَمَشى ومَشَيْتُ مَعَهُ، حتَّى بَلَغَ بَابَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، ثم ظَنَّ أنَّهُمْ خَرَجُوا، فَرَجَعَ فرَجَعْتُ مَعَهُ، فإذا هُمْ جُلُوسٌ مَكَانَهُمْ، فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ بَابَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ، فَإِذَا هُمْ قَدْ قَامُوا، فَضَرَبَ بَيْيي وبَيْنَهُ سِتراً، وأنْزِلَ الحِجَابُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قام القوم" أي تأخروا بعد انصراف المدعوين " فمشى ومشيت معه، حتى بلغ حجرة عائشة " أي فقام النبي من مجلسه ومشى حتى وصل إلى حجرة عائشة ليشير إليهم برغبته في انصرافهم " ثم ظن أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت، فإذا هم جلوس مكانهم " فإذا هم ما زالوا جالسين في مواضعهم. " فرجع ورجعت " أي فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة أخرى، ومشى كالمرة الأولى " فإذا هم قد قاموا " أي فلما عاد وجدهم قد انصرفوا " فضرب بيني وبينه ستراً " أي فحجب النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه عن الرجال ووضع بيني وبينه غطاء يستر النساء عن الرجال " وأنزل الله آية الحجاب " وهي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا) صدق الله العظيم. وموضع الأمر بالحجاب قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) .(5/156)
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من الآداب الشرعية المطلوبة من الضيف أن ينصرف بعد فراغه من طعام الوليمة مباشرة، وأن لا يتأخر بعد ذلك مستأنساً بالحديث الذي يدور في المجلس لئلا يؤذي صاحب المنزل، ويثقل عليه، ولا يقدر على مصارحته حياءً منه، فقد أمر الله تعالى الضيف بالخروج عقب الانتهاء من الطعام فوراً، فقال تعالى: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) . ثانياًً: دل هذا الحديث على سبب نزول قوله تعالى: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) وهي هذه القصة التي ذكرها أنس رضي الله عنه. ثالثاً: دل هذا الحديث على سبب نزول آية الحجاب وهي قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) ولهذا حجب النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه عن الرجال عقب نزول هذه الآية مباشرة كما قال أنس رضي الله عنه: " فضرب بيني وبينه ستراً ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في كون القصة المذكورة سبباً في نزول قوله تعالى: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) .
***(5/157)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتابُ العقيقة "
939 - " بَابُ تسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ غَدَاةَ يُولَدُ لِمَنْ لَمْ يَعُقَّ عَنْهُ وَتحْنِيكِهِ "
1086 - عن أبي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
"وُلِدَ لِي غُلامٌ، فأتَيْتُ بِهِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَسَمَّاهُ إبْرَاهِيمَ، فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" كتاب العقيقة "
والعقيقة لغة: الشعر الذي يخرج على رأس المولود، كما عرفها أبو عبيد، وسميت بذلك شرعاً لأن المولود يحلق عنه وقيل: إنها من عق بمعنى قطع، ومنه عق والديه، رجحه ابن بعد البر. أما العقيقة شرعاً: فهي كما في " الإِرشاد " ذبح شاة عن المولود سابع ولادته، قال عطاء: " ولا يحسب اليوم الذي ولد (1) فيه إن سبق الفجر، وهي مؤقتة باليوم السابع ولا تشرع قبله ولا بعده، وقيل تجزىء بعد السابع (2) أيضاً (3) .
939 - " باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه وتحنيكه "
1086 - معنى الحديث: يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: " ولد لي غلام فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم - " يعني فبادرت بإحضاره إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) وهو مذهب مالك ومن وافقه من أهل العلم، قال ابن عبد البر: نص مالك على أن أول السبعة اليوم الذي يلي يوم الولادة، إلّا إن ولد قبل الفجر، وكذا نقله البويطي عن الشافعي.
(2) وحكاه الترمذي عن بعض أهل العلم ولم يذكر أسماءهم.
(3) قال ابن القيم في " تحفة الودود بأحكام المولود ": قال عطاء: إن أخطأهم أمر العقيقة يوم السابع، أحببت أن يؤخره إلى اليوم السابع الآخر، وكذلك قال أحمد، وإسحاق والشافعي، ولم يزد مالك على السابع الثاني وقال ابن وهب: لا بأس أن يعق عنه في السابع الثالث، وهو قول عائشة وعطاء وأحمد وإسحاق (ع) .(5/158)
وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ، وَدَفَعَهُ إِلَيَّ وكانَ أكْبَرَ وَلَدِ أبي مُوسَى".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بعد ولادته مباشرة " فسماه إبراهيم " أي فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الاسم في يوم مولده، " فحنكه بتمرة " أي فمضغ في فمه تمرة، وجعلها في فم الصبي كي تحل به البركة " ودعا له بالبركة " أي ودعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل الله فيه الخير والصلاح، ويوفقه في دينه ودنياه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استدل به البخاري على مشروعية التعجيل بتسمية المولود يوم مولده لمن لم يعق عنه (1) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمّى غلام أبي موسى بعد ولادته مباشرة، ولم يؤخر تسميته إلى يوم سابعه، ولا خلاف بين أهل العلم في أنه يستحب تسميته في يوم سابعه إن عق عنه، وإلّا فإنه يُسَمَّى قبل ذلك قال: في " منهج السالك على مذهب مالك " ويسمى يوم السابع إن عق عنه، وإلّا سمي قبل ذلك، ولو ومن يوم الولادة. والتسمية يوم السابع سنة مستحبة، فقد ذهب أكثر أهل العلم إلى أنه تُسَنّ التسمية يوم السابع. قال ابن قدامة (1) : ويستحب أن يحلق رأس الصبي يوم السابع ويسمى، لحديث سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: " كل غلام رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويسمّى فيه ويحلق رأسه ". وإن تصدق بزنة شعره فضة فحسن، لما روي أن النبي قال لفاطمة لما ولدت الحسن: " احلقي رأسه، وتصدقي بزنة شعره فضة على المساكين والأوفاض " وهم أهل الصفة. قال ابن قدامة: " وإن سمّاه قبل السابع جاز (2) ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ولد الليلة لي غلام فسميته باسم أبي إبراهيم ". ثانياًً: دل هذا الحديث على استحباب تحنيك الصبي عند تسميته وقد تقدم معناه أثناء شرح الحديث، والأفضل أن يكون التحنيك بالتمر، فإن لم يتيسر فبالرطب وإلّا فبشيء حلو، وأولاه عسل النحل.
__________
(1) " المغني " لابن قدامة ج 9.
(2) " المغني " لابن قدامة ج 9.(5/159)
940 - " بَابُ إمَاطَةِ الأذَى عَنِ الصَّبِيِّ في العَقِيقَةِ "
1087 - عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَبِّي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَعَ الغُلَامِ عَقِيقَةٌ، فَأهْرِيقُوا عَنْهُ دَمَاً، وأمِيطُوا عَنْهُ الأذَى ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال الحافظ: والحكمة في التحنيك: أن يتمرن الصبي على الأكل ويقوى عليه، ويستحب أن يختار لتحنيكه الصالحون كما تدل عليه أحاديث الباب. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " ولد لي غلام فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم - فسماه إبراهيم " حيث سماه بعد الولادة مباشرة وهو ما ترجم له البخاري.
940- " باب إماطة الأذى عن الصبي في العقيقة "
1087 - معنى الحديث: يحدثنا سلمان بن عامر رضي الله عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " مع الغلام عقيقة " أي أن الله شرع لكم مع كل غلام يولد عقيقة تذبح في اليوم السابع من ولادته " فأهريقوا عنه دماً " أي فأسيلوا عنه في يوم سابعه دماً، وذلك بذبح العقيقة المشروعة عنه " وأميطوا عنه الأذى " أي أزيلوا عنه الأذى بغسل جسمه، وإلباسه ثياباً نظيفة وحلق شعره في اليوم الذي تذبحون فيه عقيقته، وهو اليوم السابع من ميلاده.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية العقيقة، وهي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم السابع من ميلاده لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " مع الغلام عقيقة " واختلف في حكمها، فذهب الحسن البصري والظاهرية إلى أنّها واجبة، حتى قال ابن حزم: إنها فرض يجبر عليها إذا فضل له من قوته مقدارها، وتمسكوا في ذلك بظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: " فأهريقوا عنه " حيث حملوا الأمر على الوجوب، وقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: إنها سنة مؤكدة، ولو كان الأب معسراً، وحملوا الأمر على الندب، قال أحمد: العقيقة سنة عن(5/160)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عقَّ عن الحسن والحسين، وفعله أصحابه، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " الغلام مرتهن بعقيقته " وهو بإسناد جيد، وقال مالك في " الموطأ " ليست العقيقة بواجبة، ولكنها يستحب العمل بها، وهي من الأمر الذي لم يزل عليه الناس عندنا، فمن عق عن ولده فإنما هي بمنزلة النسك والضحايا. وقال ابن رشد: وذهب أبو حنيفة إلى أنها ليست فرضاً ولا سنة، وقد قيل: إن تحصيل مذهبه أنها عنده تطوع، وقد صرح محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة بأن العقيقة تطوع. واستدل الجمهور على أن الأمر بالعقيقة للندب والاستحباب لا للوجوب بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من ولد له ولد فأحب أن ينسك عن ولده -أي أن يذبح عنه عقيقة- فليفعل " قال الزرقاني: فإن جعل ذلك موكولاً إلى محبته مع تسميته نسكاً يدل على الاستحباب. واختلقوا في العقيقة، هل هي واحدة في الذكر والأنثى أو أنّها تختلف؟ فذهب الشافعي وأحمد إلى أنه يعق عن الغلام بشاتين، وعن الجارية بشاة، وهو قول ابن حبيب من المالكية، واستدلوا بما رواه الترمذي في سننه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يعقوا عن الغلام شاتين مكافئتين، وعن الجارية شاة " وقال: حديث حسن صحيح، وقال مالك: الذكر والأنثى سواء، يعق عن كل واحد منهما شاة، واحتج بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أنه عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً " أخرجه أبو داود، لكن جاء في رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ " كبشين كبشين " واختلفوا هل يشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية، فذهب مالك إلى أنه يشترط، وفيه وجهان للشافعية، أصحها أنه يشترط. ثانياً: دل هذا الحديث على استحباب تنظيف المولود يوم سابعه بإزالة ما به من قذر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وأميطوا عنه الأذى " وليس المراد بذلك حلق الرأس فقط، بل هو أعم فيشمل حلق رأسه، وتطهيره من الأوساخ التي علقت بجسمه وإلباسه ملابس نظيفة. ويستحب أن يحلق شعره ويتصدق بوزنه فضة، قال ابن قدامة: وإن تصدق بزنة شعره فضة فحسن، وقال ابن أبي زيد في " الرسالة ": وإن حلق شعر(5/161)
رأس المولود، وتصدق بوزنه من ذهب أو فضة فذلك مستحب. قال ابن قدامة قال بعض أهل العلم: يستحب للوالد أن يؤذّن في أذن ابنه لما روي عن عبد الله بن رافع رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة " والتهنئة بالمولود مشروعة عرفها السلف في حدود الاعتدال بحيث لا تتعدى الدعاء، قال ابن قدامة: روينا أن رجلاً قال لرجل عند الحسن: ليهنك الفارس، فقال الحسن: وما يدريك أنّه فارس هو أو حمار؟ فقال: كيف نقول؟ فقال قل: بورك لك في الموهوب، وشكرت الواهب، وبلغ أشده ورزقت بره. الحديث: أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي (1) أيضاً.
***
__________
(1) كما في " عون المعبود شرح سنن أبي داود " ج 8.(5/162)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب الصَّيد والذبائح "
941 - " بَابُ التَّسْمِيَةِ عَلَى الصَيْدِ "
1088 - عن عَدِيّ بْنِ حَاتِم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَألتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَيدِ المِعْرَاضِ؟ قَالَ: "ما أصَابَ بِحَدِّهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" كتاب الصيد والذبائح "
الذبائح ما ذكي من الحيوان، والذكاة الشرعية كما قال الفقهاء: هي ذبح الحيوان بقطع حلقومه (1) أو مريئه كما في الغنم والبقر. أو نحره كما في الإِبل وهو أن يضرب البعير بسكين في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر، أو عقره: أى عقر الحيوان إذا كان متوحشاً غير مقدور عليه، واقتناصه بالسلاح أو بالجوارح والحيوانات المعلمة. فالعقر أو الصيد. يستعمل في الحيوانات الوحشية غير المقدور عليها، كالطيور والظباء وحمر الوحش، وهو ذكاتها، والذبح والنحر يستعملان في الحيوانات الأليفة المقدور عليها، قال ابن قدامة: " لا خلاف بين أهل العلم في أن المستحب نحر الإِبل وذبح ما سواها (2) والمراد بالذبائح: كل ما ذُكِّيَ من الحيوان، سواء ذُكي بالذبح أو بالنحر. أما الصيد فهو في الأصل مصدر صاد يصيد، ولكنه عومل هنا معاملة الأسماء فأطلق على الحيوان المصاد وتعريفه شرعاً: هو اقتناص حيوان حلال متوحش طبعاً غير مملوك ولا مقدور عليه..
941 - " باب التسمية على الصيد "
1088 - معنى الحديث: لقول عدي بن حاتم: "سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) الحلقوم مجرى النفس من الحيوان، والمريء مجرى الطعام والشراب منه.
(2) " المغني " لابن قدامة.(5/163)
فَكُلْهُ، وَمَا أصَابَ بِعَرْضِهِ فَهُوَ وَقِيذٌ، وسألتُهُ عَنْ صَيْدِ الكَلْبِ؟ فَقَالَ: مَا أمسَكَ عَلَيْكَ فَكُلْ، فَإِنَّ أخْذَ الكَلْب ذَكَاة، وِإنْ وَجَدْتَ معَ كَلْبِكَ أوْ كِلابِكَ كَلْباً غَيْرَهُ فَخَشِيْتَ أنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مَعَهُ وقَدْ قَتَلَهُ، فلا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا ذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تَذْكُرْهُ عَلَى غَيْرِهِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عن صيد المعراض" هل هو حلال أم لا؟ والمعراض هو سهم محدد الطرفين، غليظ الوسط، يصيب تارة بحده، وتارة بعرضه " قال: ما أصاب بحده " أي كل ما أصابه بطرفه المحدد فكل، فإنه صيد شرعي مباح الأكل، وفي رواية " إذا رميت بالمعراض، وذكرت اسم الله فأصاب فَخَرَق -أي نفذ في المصيد بحده- فكل " أخرجه الستة، وقال الترمذي: حسن صحيح " وما أصاب بعرضه فهو وقيذ " فإنه يحرم كما يحرم الوقيذ، وهو الحيوان المقتول بشيء مثقل من حجر أو خشبة أو نحوها " وسألته عن صيد الكلب " " والمعنى " أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحيوان الذي يصطاده الكلب المعلم " فقال: ما أمسك عليك فكل " أي ما أمسكه كلب الصيد لك: وصاده من أجلك فكل، وفي رواية " ما علَّمت من كلب أو باز، ثم أرسلته، وذكرت اسم الله فكل مما أمسك عليك " قلت وإن قتل، قال: إذا قتله ولم يأكل منه شيئاً، فإنما أمسكه عليك " أخرجه أبو داود والترمذي والبيهقي. وأحمد مطولاً ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أمسك عليك فكل " أي ما صاده الكلب المعلم لك، واحتفظ به من أجلك، ولم يأكل منه شيئاً، فإنه صيد شرعي مباح الأكل، فكل منه ما شئت، وأطعم منه من شئت قال - صلى الله عليه وسلم -: " فإنّ أخْذَ الكَلْبِ ذكاة " أي فإن عقره له ذكاة شرعية تبيح أكله كما يبيح الذبح والنحر لحوم الضأن والبقر والإِبل. قال - صلى الله عليه وسلم -: " وإن وجدت مع كلبك أو كلابك كلباً غيره فحسبت أن يكون أخذه، وقد قتله فلا تأكل " أي إن وجدت مع كلابك كلباً آخر وخشيت أن يكون(5/164)
قد اشترك معها في قتل الحيوان أو انفرد بقتله، فإنه يحرم أكله، لاحتمال أنه استرسل بنفسه، أو أرسله مجوسي لم يذكر اسم الله عند إرساله " فإنك إنما ذكرت اسم الله على كلبك، ولم تذكره على غيره " أي فلو صاده الكلب الآخر فإنه يحتمل أنه لم يذكر اسم الله عليه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يجوز الصيد بكل محدد فكل حيوان صيد بمحدد فهو مباح الأكل، ولا يحل صيد المثقل وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري، لأنه وقيذ. ثانياًً: دلّ هذا الحديث على أن صيد الكلب وشبهه من ذوات الناب حلال بثلاثة شروط: الأول: أن يكون معلماً إذا أغراه صاحبه بالصيد طلبه، وإذا زجره انزجر، وإذا أمسك الصيد أمسكه على صاحبه، واختلفوا في علامة ذلك ومتى يتحقق كونه معلّماً على صاحبه، فذهب أحمد وأبو يوسف ومحمد والشافعي (1) في أرجح أقواله: أن علامة إمساكه على صاحبه، وكونه معلماً أن لا يأكل من الصيد، فإن أكل منه فلا يجوز الأكل منه، لما في رواية النسائي، " فإن أدركته قد قتل، ولم يأكل فقد أمسكه عليك، وإن وجدته قد أكل منه فلا تطعم منه شيئاً فإنما أمسك على نفسه " وفي رواية الترمذي " فإن أكل فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه "، وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أن الكلب المعلم يعرف بغالب الرأي، أو بالرجوع إلى أهل الخبرة، فإذا عرف بذلك أنّه معلّم، فإنه يؤكل من صيده ولو أكل منه، لما جاء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أبا ثعلبة الأعرابي قال: يا رسول الله إنّ لي كلاباً مكلّبة أفتني في صيدها قال: " كل مما أمسكن عليك " قال: وإن أكل منه؟ قال: " وإن أكل منه " أخرجه أبو داود، ولا بأس بسنده. اهـ. الثاني: أنه يشترط في صيد الكلب أن يكون قد سمّى الله عليه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنما ذكرت اسم الله على كلبك" فإن
__________
(1) " تحفة الأحوذي " ج 5.(5/165)
مفهومه أنه إذا لم يذكر اسم الله عند إرساله لا يحل صيده، ويؤكد ذلك نصاً وتصريحاً ما جاء في رواية أخرى عن عدي بن حاتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه (1) ، فإن أدركته لم يقتل فاذبح، واذكر اسم الله عليه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل فكل " الخ أخرجه النسائي. قال في " الإِفصاح " واختلفوا فيما إذا ترك التسمية على رمي الصيد أو إرسال الكلب. فقال أبو حنيفة: إن ترك التسمية في الحالين ناسياً حلّ الأكل منه، وإن تعمد تركها. لم يُبَح في الحالين " (2) وقال مالك: إن تعمد تركها لم يبح في الحالين. وإن تركها ناسياً فهل يباح أم لا؟ عنه روايتان، وعنه رواية ثالثة أنه يحل أكلها على الإِطلاق في الحالين سواء تركها عمداً أو ناسياً. وعن أحمد ثلاث روايات أظهرها أنّه إن ترك التسمية لم يحل الأكل منه على الإِطلاق سواء كان تركه التسمية عمداً أو سهواً والثانية: كمذهب أبي حنيفة والثالثة: إن تركها على إرسال السهم ناسياً أكل، وإن تركها على إرسال الكلب أو الفهد ناسياً لم يأكل. الثالث: أنه يشترط في جواز أكل الصيد أن يكون الكلب مرسلاً، لأن سياق الحديث يدل عليه، وقد جاء مصرحاً به في رواية أخرى عن عدي بن حاتم، قال فيها: " إذا أرسلت كلبك " إلخ أخرجه النسائي. ثالثاً: أنّه إذا وجد الصيد مقتولاً، ووجد مع كلبه كلباً آخر لا يعلم هل تتوفر فيه شروط الصيد أم لا، ولم يعلم أيهما قتله أو علم أنهما قتلاه أو قتله الكلب المجهول لا يحل له الأكل منه. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " فإنما ذكرت اسم الله على كلبك.
***
__________
(1) لقوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) .
(2) وهو أظهر الروايات عن أحمد كما في " الإفصاح ".(5/166)
942 - " بَابُ صَيْدِ القَوْس "
1089 - عن أبي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنَّا بِأرْضِ قَوْمٍ أهْلِ كِتَابٍ، أفَنَاكلُ في آنِيَتهِمْ؟ وَبِأرْضِ صَيْدٍ أصِيدُ بِقَوْسِي وبِكَلْبِي الذي لَيْسَ بِمُعَلَّم وَبِكَلْبِي الْمُعلَّمِ، فَمَا يَصْلُح لي، قَالَ: "أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أهْلِ الكِتَابِ فإنْ وَجَدْتمْ غَيْرَهَا فلا تَأكُلُوا فيها، وَإنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا، وَكُلُوا فِيهَا، وما صِدْتَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
942 - " باب صيد القوس "
1089 - ترجمة الراوي: وهو أبو ثعلبة جرثوم بن ناشر الخشني. بالخاء المضمومة والشين المعجمتين نسبة إلى بني خشن بطن من قضاعة صحابي جليل، أسلم يوم خيبر، وشهد بيعة الرضوان وذهب إلى قومه بني خشن فدعاهم إلى الإِسلام فأسلموا، توفي سنة 75 هـ.
معنى الحديث: يقول أبو ثعلبة رضي الله عنه: " قلت يا نبي الله إنا بأرض قوم أهل كتاب " وهي أرض الشام وهم من النصارى " أفنأكل في آنيتهم " أي هل يحل لنا الأكل في أوانيهم التي يأكلون فيها لحم الخنزير وغيره من اللحوم غير المذبوحة، ويشربون فيها الخمور " وبأرض صيد " أي ونحن في أرض تتوفّر فيها الحيوانات البرية ويكثر فيها الصيد " أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم، وبكلبي المعلم فما يصلح لي " أي وأنا مولع بالصيد فمرة أصيد بالقوس، ومرة بكلب غير معلم، ومرة بكلب معلم، فما الذي يجوز أكله من الصيد؟ " قال: أمّا ما ذكرت عن أهل الكتاب " يعني أما سؤالك عن حكم آنية أهل الكتاب من الأطباق والقدور ونحوها " فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها " لتتأكدوا من طهارتها " وكلوا فيها " بعد غسلها بالماء(5/167)
بِقَوْسِكَ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرَ مَعَلَّم فَأدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الطهور، " وما صِدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل " فإنّه صيد شرعي حلال " وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله " عند إرساله " فكل " لأنه حلال " وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل " ومفهومه إنك إذا لم تدرك ذكاته فلا تأكل.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز الاصطياد بالقوس ومشروعيته، ولا خلاف في ذلك. واتفقوا على أن من قصد صيداً بعينه، فرماه بسهمه فأصابه فإنه مباح (1) ، ثم اختلفوا فيما إذا أصاب غيره، فقال أبو حنيفة. وأحمد يباح على الإِطلاق، وقال مالك: لا يباح على الإطلاق وقال الشافعي: إذا كان في السمت الذي رمى سهمه حل، وإن كان في غير السمت فلأصحابه وجهان (2) أما البنادق المعروفة اليوم، فهل يجوز الصيد بها أم لا؟ فقد قال الصنعاني (3) : وأما البنادق المعروفة الآن، فإنّها ترمي بالرصاص وقد صيرته نار البارود كالميل، فيقتل بحده، فالظاهر حل ما قتلته، وإلى حله ذهب الشوكاني في " نيل الأوطار " والسيد صديق حسن خان والله أعلم. ثانياً: إباحة استعمال أواني الكفار ومثلها ثيابهم عند عدم وجود غيرها بعد غسلها إذا علم استعمالهم لها في المحرمات. ثالثاً: جواز صيد الكلب المعلم بالشروط التي تقدم بيانها في الحديث السابق. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي
__________
(1) وهل يشترط ذكر اسم الله عليه أم لا؟ تقدم بيانه في الحديث السابق.
(2) " الإفصاح عن معاني الصحاح " ج 2.
(3) " سبل السلام " ج 4.(5/168)
943 - " بَابُ مَن اقتنَى كَلبَاً لَيسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ أوْ مَاشِيَة "
1090 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ اقْتَنى كَلْباً لَيْسَ بِكَلْبِ مَاشِيَةٍ أو ضَارِيةٍ، نَقَصَ كُلَّ يَوْم مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطَانِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " ما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل ".
943 - " باب من اقتنى كلباً ليس بكلب صيد أو ماشية "
1090 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " من اقتنى كلباً " أي من اتخذ كلباً في منزله أو حانوته " ليس بكلب ماشية " أي ليس هذا الكلب لحراسة ماشية ولا زرع " أو ضارية " أي وليس كلب صيد " نقص كل يوم من عمله قيراطان " أي نقص من أعماله الصالحة كل يوم مقدار قيراطين. ومعناه: من اقتناه لغير حاجة من هذه الحاجات المعتبرة شرعاً فإنه ينقص من. أجره شيء عظيم " قرّب النبي - صلى الله عليه وسلم - لنا معناه بالقيراطين، والله أعلم قدر ذلك " وذلك لأنه عصى الله باقتنائه، فإن دعت (1) الحاجة إليه لمنفعة ومصلحة شرعية لحراسة الغنم أو حراسة الحقول الزراعية، أو قصد به الصيد فإنه يجوز.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم اتخاذ الكلب لغير مصلحة معتبرة شرعاً، لكونه من البهائم القذرة التي ينجم عن اقتنائها مضار ومفاسد عظيمة من ابتعاد الملائكة عن المكان الذي هو فيه، وترويع الناس بنباحه الكريه أثناء الليل، وتخويف المارة، وقد صرح الحديث بنقصان أجر صاحبه كل يوم قيراطين، وهذا يدل على تحريمه، لأن مثل هذا الوعيد الشديد لا يترتب
__________
(1) " تيسير العلام " ج 2.(5/169)
944 - " بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ المثلةِ والمَصْبُورَةِ وَالمُجَثَّمَةِ "
1091 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنَّهُ قَالَ:
" لَعَنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مَنْ مَثَّلَ بالْحَيْوَانَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلّا على محرم، واختلف العلماء: هل المنع للتحريم أو للكراهة؟ فذهب إلى تحريم اقتناء الكلب الشافعية إلاّ المستثنى. اهـ. وكذلك الحنابلة، قال النووي، أمّا اقتناء الكلب فمذهبنا أنّه يحرم اقتناؤه لغير حاجة، ويجوز للصيد والزرع والماشية، وهل يجوز لحفظ الدور والدروب ونحوها؟ فيه وجهان أصحها جوازه (1) . ثانياً: دل الحديث على أن المنافع المشروعة التي يجوز اقتناء الكلب لأجلها أمران، الأول: الصيد، فإنه يجوز اقتناء الكلب المعلّم المدرَّب على الصيد لاصطياد الحيوانات البرية. الثاني: يجوز اقتناء الكلب لحراسة الماشية والزرع ما عدا الكلب الأسود البهيم، فإنه لا يجوز عند أحمد وإسحاق. قال في تيسير العلام (2) : بهذا نعلم مبلغ ما لدى الغربيين من السفاهة وقلة البصيرة، حيث اعتنوا باقتنائها لغير فائدة يلامسونها ويقبلونها، فهل بعد هذا من سفه؟! والعجب أن مثل هذه العادات والأعمال القبيحة مشت عند المستغربين منا. وتدينوا بأعمالهم واعتنقوا كل سفالة عندهم، فإنّا لله وإنا إليه راجعون. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " نقص كل يوم من عمله قيراطان ".
944 - " باب ما يكره من المثلة "
1091 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - من مثل بالحيوان " أي قطع أجزاء جسمه وهو حي، لما في ذلك من تعذيب الحيوان، الذي أوجب الشارع الرحمة والرفق به، والعطف والشفقة
__________
(1) " أوجز المسالك إلى موطأ مالك " ج 15.
(2) " تيسير العلام " ج 2.(5/170)
945 - " بَابُ ما أنهَرَ الدَّمَ مِنَ القَصَبِ وَالْمَرْوَةِ "
1092 - عن رَافِع بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ لَيْسَ لَنَا مُدَى؟ فَقَالَ: " مَا أنهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ فَكُلْ ليْسَ الظُّفُرَ والسِّنَّ، أمَّا الظّفُرُ فَمُدَى الحَبَشَةِ، وأمَّا السِّنُّ فَعظْمٌ "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عليه، حتى في حال ذبحه، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم تعذيب الحيوان بالتمثيل به وهو حى، أو محاولة الانتصار عليه بخداعه وطعنه بالخناجر والسهام في ظهره استعراضاً لبطولة زائفة في مصارعة كاذبة، كما في مصارعة الثيران التي نرى فيها دعاة الرفق بالحيوان كيف يعذبون الحيوان المسكين، ويتخذون من تعذيبه ملهاة يتسلى بها الجماهير، فإن الإِسلام وهو دين الرحمة قد حرم ذلك أشد التحريم، لما فيه من قسوة ووحشية. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في كون - صلى الله عليه وسلم - لعن من مثل بالحيوان. وهذا يدل على تحريم التمثيل به.
945 - " باب ما أنهر الدم من القصب (1) والمروَةِ ".
1092 - معنى الحديث: يحدثنا رافع بن خديج رضي الله عنه " أنه قال: يا رسول الله ليس لنا مُدى " جمع مدية، وهي السكين " فقال: ما أنهر الدم " أي أسأله بكثرة " وذكر اسم الله عليه " عند الذبح حقيقة أو حكماً كما في الناسي فَكُل أي فكل ذبيحته، فإنّ ذبيحته ذبيحة شرعية صحيحة " ليس الظفر والسن " أي ما عدا الظفر والسن، فلا يجوز الذبح بهما وفي رواية أبي داود ما لم يكن سناً أو ظفراً. بضمتين أو بضم الظاء وسكون الفاء. "أما
__________
(1) القصب نبات ذو أنابيب، والمروة حجر أبيض تجعل منه آلة حادّة كالسكين.(5/171)
ونَدَّ بَعيرٌ فَحَبَسهُ فقالَ: " إِنَّ لِهَذِه الإِبلِ أوابِدَ كأوابِدِ الوَحْشِ فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فاصْنَعُوا بِهِ هكَذَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الظفر فمدى الحبشة" أي أما الظفر فالعلة في تحريمه أنه أداة يذبح بها الحبشة، وهم كفار، وقد نهينا عن التشبه بهم " وأما السن فعظم " أي وأمّا السن فالعلة في تحريمه أنه من العظم الذي هو زاد إخواننا من الجن، فنهينا عن الذبح به، كما نهينا عن الاستنجاء به لئلا يتنجس بالدم، أو بالروث فلا يأكلونه " وندَّ بعيرٌ فحبسه " بفتح النون، وتشديد الدال، أي وهرب بعير على وجهه شارداً فأعياهم إمساكه فرماه - صلى الله عليه وسلم - بسهم " فقال: إن لهذه الإِبل أوابدَ كأوابد الوحش " أي إن الإبل تحدث منها أحياناً أمور غريبة كما يحدث من الحيوانات المتوحشة " فما غلبكم منها " أي فما هرب منكم وعجزتم عن إمساكه " فأصنعوا هكذا " أي فارموه بسهم كما صنعت. الحديث: أخرجه البخاري.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يجوز الذبح بكل محدد قاطع، سواء كان مدية أو قصباً أو مروة أو أي محدد. قال النووي: فكلها تحصل بها الذكاة إلاّ السن والظفر والعظام كلها، أما الظفر فيدخل فيه ظفر الآدمي وغيره من كل الحيوانات للحديث وأما السن فيدخل فيه سن الآدمي وغيره، الطاهر والنجس، المتصل والمنفصل، ويلحق به سائر العظام من كل الحيوان المتصل منها والمنفصل، الطاهر والنجس، وبهذا قال جمهور العلماء، وقال الحنفية: لا يجوز بالسن والعظم المتصلين ويجوز بالمنفصلين، وروي عن مالك روايات أشهرها جوازه بالعظم مطلقاً، لا بالسن مطلقاً (1) قال في " تيسير العلام " أما المشهور من المذاهب (2) فيختص - يعني التحريم بالسن (3) فقط والله
__________
(1) " تكملة المنهل العذب " ج 3.
(2) أي مذهب الحنابلة.
(3) " تيسير العلام " ج 2.(5/172)
946 - " بَابُ أكْلَ كُلِّ ذي نابٍ مِنَ السباعَ "
1093 - عن أبي ثَعْلبَةَ الخُشَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهى عَنْ أَكْل كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّباعِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أعلم. ثانياًً: اشتراط التسمية في الذكاة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل " وقد اختلف في ذلك الفقهاء فقال الشعبي وابن سيرين وداود الظاهري وأحمد في رواية التسمية على الذبيحة شرط، فلو تركها عمداً أو نسياناً لا تحل لهذا الحديث، ولقوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) وقال الجمهور: شرط عند الذكر، فإن تركها عمداً لا تحل، وهو مشهور مذهب مالك وأحمد، لظاهر قوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) وإن تركها نسياناً حلت الذبيحة. لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " المسلم يكفيه اسمه فإن نسي أن يسمي حين يذبح فليسم، وليذكر اسم (1) الله، ثم ليأكل " أخرجه الدارقطني والبيهقي، وفي سنده محمد بن يزيد بن سنان صدوق ضعيف الحفظ (2) ، وذهب الشافعي إلى أن التسمية على الذبيحة سنة مستحبة، وليست شرطاً، فإن تركها عمداً أو نسياناً لا يضر، وهو رواية عن أحمد لحديث عائشة رضي الله عنها أنهم قالوا: يا رسول الله إن قوماً حديثو عهد بجاهلية يأتوننا بلحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لم يذكروا أنأكل منها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " سموا الله وكلوا " أخرجه الستة وأحمد والبيهقي والدارمي. - والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل ".
946 - " باب أكل كل ذي ناب من السباع "
1093 - معنى الحديث: يحدثنا أبو ثعلبة رضي الله عنه "أن رسول
__________
(1) " تكملة المنهل العذب " ج 3.
(2) وقد صح موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنهما كما قال البيهقي وغيره. (ع) .(5/173)
947 - " بَابُ المِسْكِ "
1094 - عَنْ أبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كل ذي ناب من السباع" قال ابن الأثير: الناب: السن التي خلف الرباعية، قال ابن سينا: لا يجتمع في حيوان واحد ناب وقرن معاً، والسبع كما في القاموس المفترس من الحيوان (1) ، ومعناه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل حيوان مفترس له ناب قوي يصطاد به كالأسد والذئب والنمر ونحوه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم السباع التي لها ناب لقوله في حديث الباب: " نهى عن كل ذي ناب من السباع " قال الترمذي: والعمل (2) على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم. وهو قول عبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. اهـ. قال في " تحفة الأحوذى ": وهو قول أبي حنيفة، وقال الحافظ: وحكى ابن وهب وابن عبد الحكم عن مالك كالجمهور أي أنه يقول بتحريم كل ذي ناب من السباع، وقال ابن العربي: المشهور عنه الكراهة. اهـ. واستثنى الشافعي منه الضبع (3) والثعلب خاصة، لأن نابهما ضعيف. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " نهى عن كل ذي ناب من السباع ".
947 - " باب المسك "
1094 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: "مثل الجليس الصالح
__________
(1) " تحفة الأحوذى " ج 5.
(2) " جامع الترمذي ".
(3) قال في " الإفصاح: واختلفوا في الضبع والثعلب " فقال أبو حنيفة: لا يحل أكلهما، وقال مالك والشافعي: هما مباحان، وقال أحمد: الضبع مباح رواية واحدة، وفي الثعلب روايتان، إحداهما تحريمه وهي اختيار الخلال، والأخرى إباحته، وهي اختيار عبد العزيز، واختلفوا في الضب واليربوع، فقال أبو حنيفة يكره أكلهما، وقال مالك والشافعي: هما مباحان، وقال أحمد: الضب مباح رواية واحدة وفي اليربوع روايتان.(5/174)
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَثَل الجَلِيسِ الصَّالِحِ والسُّوءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ إِمَّا أنْ يحْذِيَكَ، وِإمَّا أنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وإمَّا أنْ تَجِدَ مِنْه رِيحاً طيِّبةً، وَنَافِخ الكِيرِ إِمَّا أَنْ يَحْرِقَ ثِيَابَكَ، وِإمَّا أنْ تَجِدَ ريحاً خَبِيثَةً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والسوء كحامل المسك ونافخ الكير" في هذا الكلام النبوي البليغ لفٌّ ونشرٌ مرتب، وأصل الكلام مثل الجليس الصالح كحامل المسك، ومثل الجليس السوء كنافخ الكير. والمعنى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبه الجليس الصالح في دينه وخلقه بمن يحمل معه مسكاً، وشبه جليس السوء بمن ينفخ كيراً وهو آلة من الجلد ينفخ بها الحداد على النار، ثم بين وجه الشبه في قوله: " فحامل المسك إمّا أن يحذيك " أي فإذا جلست إلى حامل المسك لا بد أن تنتفع منه لأنه إما أن يهديك من الطيب الذي معه " وإما أن تبتاع منه " أي تشترى منه مسكاً " وإما أن تجد منه (أى تشم منه) رائحة طيبة وكذلك الجليس الصالح إما أن يفيدك بعلمه أو بنصحه وتوجيهه، أو حسن سلوكه بالاقتداء به. " ونافخ الكير " إذا صحبته لا بد أن يؤذيك فهو " إما أن يحرق ثيابك " من الشرر المتطاير " وإمّا أن تجد منه ريحاً خبيثة " من الدخان الذي يتصاعد من ناره فتشمّ منه رائحة كريهة تخنق أنفاسك، كذلك جليس السوء إما أن يغريك بالسيئة أو تقتدي بسلوكه السيء فتنحرف عن سواء السبيل.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: الترغيب في مجالسة أهل الفضل، لأنهم يسعد بهم جليسهم، فإن كانوا علماء استفاد منهم علماً، وإن كانوا صلحاء استفاد منهم صلاحاً، وإن كانوا أبطالاً استفاد منهم شجاعة، لأن الأخلاق والمواهب والعلوم والمعارف والمهارات والآداب تتلاقح ويتأثر بعضها ببعض، وفي الحديث " المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل ".(5/175)
948 - " بَاب الأَرْنبِ "
1095 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْه قَالَ:
" أنْفَجْنَا أرْنَبَاً وَنَحْنُ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَى القَوْم فَلَغِبُوا، فَأخذْتُهَا، فَجِئْت بِهَا إلى أبي طَلْحَةَ، فَذَبَحَهَا، فَبَعَثَ بَوَرِكَيْهَا، أو قَالَ بِفَخِذَيْهَا إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَبِلَهَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثانياًً: دل هذا الحديث على التحذير الشديد من جلساء السوء، لأنهم شر على من يجالسهم، وربما قصدوا أن ينفعوه فيضروه من حيث لا يشعرون. ثالثاً: قال العيني: في الحديث دليل على طهارة المسك، وروينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بسند جيد أنه كان له مسك يتطيب به، وعلى هذا جمهور العلماء. وقد كرهه جماعة، منهم عمر رضي الله عنه، وقال: لا تحنطوني به، وكذا عمر بن عبد العزيز إلّا أن هذا الخلاف قد انقرض واستقر الإجماع على طهارته، وجواز استعماله. رابعاً: أن المسك من أجمل العطور وأحلاها وأطيبها وأغلاها ولذلك ضرب به المثل في هذا الحديث. " الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - شبه بالمسك الجليس الصالح، وهذا يدل على فضله وطهارته، وهو ما ترجم له البخاري.
948 - " باب الأرنب "
1095 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " أنفجنا أرنباً " أي هيجنا أرنباً " فسعى القوم " أي فلما أثرناها أخذت تجري أمامنا، فجرى أصحابي خلفها " فلغبوا " بفتح الغين وكسرها أي فأخذوا يطاردونها حتى تعبوا " فأخذتها " وفي رواية للبخاري فأدركتها فأخذتها " فجئت بها إلى أبي طلحة، فذبحها، فبعث بوركيها، أو قال: بفخذيها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي فأرسل(5/176)
949 - " بَابُ الضَّبِّ " (1)
1096 - عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الضَّبُّ لَسْتُ آكُلُهُ ولا أحَرِّمُهُ ".
1097 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
عَنْ خَالِدِ بْنِ الوَلِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْتَ مَيْمُونَةَ فَأتِيَ بِضَبّ مَحْنُوذٍ، فَأهْوَى إليْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بيَده فَقَالَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بفخذيها هدية إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " فقبلها " وفي رواية أخرى في الهبة " وأكل منه ". الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز أكل الأرنب، وهو قول عامة العلماء، لأنه ليس من السباع، ولا من أكلة الجيف. والمطابقة: في قوله: " فبعث بوركيها، أو قال بفخذيها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقبلها ".
949 - " باب الضب "
1096 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " الضب لست آكله ولا أحرّمه " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - أهدى إليه ضبٌّ، فامتنع عن أكله فظنوا أنه حرام، فتوقفوا عن أكله فقال: " الضب لست آكله " أي لست آكله طبعاً، لأن نفسي تعافه بسبب أنني لم أتعّود على أكله لأنه ليس من طعام أهل مكة " ولا أحرِّمهُ " ديناً وشرعاً، وفي رواية " كلوا فإنه حلال ". الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " ولا أحرمه ".
1097 - معنى الحديث: أن ابن عباس رضي الله عنهما يحدثنا عن خالد رضي الله عنه "أنه دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت ميمونة فأتي بضب
__________
(1) دويبة صحراوية قاسية اللحم، تأخذ وقتاً طويلاً حتى تنضج.(5/177)
بَعْضُ النِّسْوَةِ: أخْبِرُوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بمَا يُرِيدُ أن يَأكُلَ، فقالُوا: هُوَ ضَبٌّ يَا رَسُولَ اللهِ فَرَفَعَ يَدَهُ، فَقُلْتُ: أحَرَامٌ هُوَ يا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: لا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بأرْضِ قَوْمَي فأجِدُني أعَافُهُ، قَالَ خَالِدٌ: فاجْتَرَرتُهُ فأكَلْتُهُ، وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْظرٌ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
محنوذ" أي مشوي " فأهوى إله رسول الله " أي فمد - صلى الله عليه وسلم - يده إلى اللحم ليأكل منه، وهو لا يعلم أنه لحم ضب " فقالوا: هو ضب يا رسول الله، فرفع يده " عن ذلك اللحم، وتوقف عن أكله، " فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكن لم يكن بأرض قومي " أي لم يكن في مكة، ولم أتعوّد على أكله " فأجدني أعافه " أي أتقذر منه وأكره لحمه طبعاً ولا أحرمه شرعاً " قال خالد: فاجتررته " أي فنهشت من لحم ذلك الضب وجررته بيدي " فأكلته ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر " أي ينظر إلي ويشاهدني وأنا آكله. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فقلت أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا ".
فقه الحديثين: دل الحديثان على ما يأتي: أولاً: جواز أكل الضب، وإباحة لحمه لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الأول: " ولست أحرمه " وقوله في الثاني: " فقلت: أهو حرام؟ فقال: لا " وهو مذهب عامة الفقهاء مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، وبه قال أهل الظاهر بلا شك (1) . ثانياًً: أن من عاف طعاماً أو شراباً وتقذرته نفسه فإنه ينبغي له أن يتركه، ولو كان من المباحات، لأن ذلك قد يؤذيه جسمياً أو نفسياً، وقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لحم الضب حين عافته نفسه.
__________
(1) " شرح العيني " ج 21.(5/178)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب الأضاحي "
الأضاحي: جمع أضحية والأضحية شرعاً: ما يذبح أيام عيد الأضحى في أيام النحر، تقرباً إلى الله تعالى بنيّة الأضحية، وهي مشروعة بالكتاب والسنة، لقوله تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) وقد ثبت في الأحاديث الكثيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحّى وضحّى المسلمون، وشرعت في السنة الثانية من الهجرة وحكمها: أنها سنة مؤكدة يكره تركها مع القدرة أما الحنفية فإنهم يرون أن الأضحية، واجبة والمالكية يرون أنها سنة مؤكدة يقاتل أهل البلد على تركها كما يقاتلون على ترك الأذان. أما شروط سنيتها: فهى: (أ) القدرة عليها، فلا تسن على عاجز، والقادر عند الشافعية من يملك ثمنها زائداً عن حاجته وحاجة عياله، وعند الحنابلة من يمكنه الحصول على ثمنها، وعند المالكية من لا يحتاج إلى ثمنها لأمر ضروري (مدة) عامه، وعند الحنفية من يملك مائتي درهم. (ب) الشرط الثاني: الحرية، فلا تسن لعبد، وزاد الحنفية في شروطها الإِقامة، وزاد المالكية أن لا يكون حاجاً، ولو كان من أهل مكة. أما شروط صحتها: فقد اتفقوا على اشتراط سلامتها من العيوب الشرعية، فلا تجزىء العمياء والعوراء والعجفاء - أي الهزيلة التي لا مخّ في ساقها، ولا العرجاء البين عرجها، ولا مقطوعة الأذن، أو اليد، أو نحوها.
***(5/179)
950 - " بَابُ الذَّبْحِ بَعْدَ الصَّلاةِ "
1098 - عن البَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ فَقَالَ: " إنَّ أوَّلَ ما نَبْدأ بِهِ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا أن نُصَلِّيَ، ثم نَرجِعَ فَنَنْحَرَ، فمَنْ فَعَلَ هَذَا، فَقَدْ أَصَابَ سُنَتَّنَا، ومَن نَحَرَ فَإنَّمَا هُوَ لَحْمٌ يُقَدِّمُهُ لأهْلِهِ، لَيْسَ من النُّسَكِ في شَيْءٍ " فَقَالَ أبُو بردَةَ: يا رَسُولَ الله: ذَبَحْتُ قَبْلَ أنْ أُصَلِّيَ، وعنْدي جَذَعَةٌ خَيْرٌ من مُسِنَّةٍ، فَقَالَ: " اجعَلْهَا مَكَانَهَا، ولَنْ تُجْزِىء أو تُوفِيَ عَنْ أحَدٍ بَعْدَكَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
950 - " باب الذبح بعد الصلاة "
1098 - معنى الحديث: يقول البراء بن عازب رضي الله عنه " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب " أي سمعته وهو يخطب خطة عيد الأضحى " فقال: إن أول ما نبدأ به من يومنا هذا " أي إن أول عمل نبدأ به في هذا اليوم " أن نصلّي " أي أن نؤدي صلاة العيد مع الجماعة " ثم نرجع " أي ثم نعود إلى بيوتنا بعد الصلاة " فننحر " ضحايانا بعد الصلاة، لا قبلها " فمن فعل هذا " أي فمن نحر ضحيته، أو ذبحها بعد صلاة العيد " فقد أصاب سنتنا " وكانت أضحيته شرعية صحيحة. وفي رواية: " من صلّى صلاتنا، ونسك نسكنا، فقد أصاب النسك " أخرجه الشيخان وأبو داود، ومعناه: فمن صلّى صلاة العيد، وضحى بعدها مثل أضحيتنا فقد أصاب العمل الموافق للسنة، وأجزأته أضحيته. " ومن نحر فإنما هو لحم يقدمه لأهله " يقول - صلى الله عليه وسلم -: ومن نحر أضحيته، أو ذبح ذبيحته قبل صلاة العيد، فإنما هو مجرّد لحم قدمه لأهله ولا يجزىء عن الأضحية لأنه ذبح قبل وقتها " وليس من النسك في شيء " أي(5/180)
وليس من الضحية في شيء " فقال أبو بردة " ابن نِيَار بكسر النون: " ذبحت قبل أن أصلي " أي لم أكن أعرف ذلك فذبحت قبل الصلاة " وعندي جذعة " أي وعندي جذعة من المعز، وهي التي لها سنة ودخلت في الثانية، فهل تجزئني في الأضحية؟ " فقال: اجعلها مكانها " أي اجعلها ضحية مكان الذبيحة التي ضاعت عليك ولم تحتسب لك " ولن تجزىء أو قال توفي " أي لن تكفي الجذعة " عن أحد بعدك " وإنما هذا الحكم حكم استثنائي لك خاصة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن أول وقت الضحية يدخل بعد صلاة العيد، وهو مذهب أحمد ومن وافقه من أهل العلم، قال ابن قدامة: ظاهر هذا اعتبار نفس الصلاة (1) ، والصحيح إن شاء الله تعالى أن وقتها في الموضع الذي يصلي فيه بعد الصلاة لظاهر الخبر، فأما غير أهل الأمصار، فأول وقتها في حقهم قدر الصلاة والخطبة. اهـ. وقال مالك: وقتها بعد الصلاة والخطبة وذبح الإِمام، قال الصنعاني (2) : ودليل اعتبار ذبح الإِمام ما رواه الطحاوي من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى يوم النحر بالمدينة فتقدم رجال فنحروا، وظنوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نحر، فأمرهم أن يعيدوا. وقال الشافعي: وقت الذبح إذا مضى من الوقت مقدار ما يصلي فيه ركعتين وخطبتين بعدهما. وقال أبو حنيفة: يدخل وقتها في حق أهل الأمصار إذا صلّى الإمام العيد، أو مضى وقتها بالزوال إن لم تصلَّ لعذر، ويدخل وقتها في حق أهل القرى والبوادي إذا طلع الفجر الثاني من يوم النحر، لعدم وجوب صلاة العيد عليهم (3) . ثانياً: دل الحديث على أن الجذع من المعز لا يجزىء في الأضحية، وهو ما أتمَّ سنة، ودخل في الثانية، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بردة: "ولن تجزىء أو قال توفي عن أحد
__________
(1) " المغني " لابن قدامة.
(2) " سبل السلام " ج 4.
(3) " تكملة المنهل العذب " ج.(5/181)
951 - " بَابُ وَضْعِ القَدَمِ عَلَى صَفَحِ الذَّبِيحَةِ "
1099 - عَنْ أنَسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُضحّى بِكَبْشَيْنِ أملَحَيْنِ أقْرَنَيْنِ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ على صَفْحَتِهِمَا وَيَذْبَحَهُمَا بِيَدِهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بعدك". الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلّي ".
951 - " باب وضع القدم على صفحة الذبيحة "
1099 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي بكبشين " أي برأسين من الغنم، وهو الضأن " أملحين أقرنين " أي أبيضين، لكل واحد منهما قرنان، " ووضع رجله على صفحتهما " أي وضع قدمه على جانب كل واحد منهما عند ذبحه " ويذبحهما يده " الشريفة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتى: أولاً: أن الأفضل في الأضحية هو الضأن ثم المعز، ثم بقية الأصناف الأخرى، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين أبيضين. ثانياً: أنه يسن للذابح أن يضجع ذبيحته على شقها الأيسر، ويضع قدمه على جانبها وشقها الأيمن والحكمة في وضع القدم على صفحتها التقوِّي عليها، ولأنه أسرع في موتها. والمطابقة: في قوله: " وضع رجله على صفحتهما ".
***(5/182)
952 - " بَابُ التَّكْبِير عِنْدَ الذَّبْحِ "
1100 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" ضَحَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بِكبْشَيْنِ أمْلَحَيْنِ أقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
952 - " باب التكبير عند الذبح "
أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على مشروعية التكبير عند ذبح الأضحية وغيرها.
1100 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين " أي برأسين من الضأن أبيضين لكل واحد منهما قرنان " وذبحهما بيده " الشريفة، ولم يوكّل غيره بذبحهما، " وسمّى وكبر " أي وقال عند الذبح: " بسم الله والله أكبر " " ووضع رجله على صفاحهما " أي على صفحتيهما على مذهب من يقول أقل الجمع اثنان (1) ، وإضافة المثنى إلى المثنى تفيد التوزيع، أي وضع رجله على صفحة كل منهما (2) . الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب التكبير مع التسمية عند الذبح، لقوله رضي الله عنه: " وسمّى وكبر " وتقدم الكلام على التسمية. ثانياً: أفضلية أن يقوم المضحي بذبح شاته بنفسه. ثالثاً: أن الأفضل في الضحيّة الكبش الأبيض. والمطابقة: في قوله: " وكبر ".
***
__________
(1) " شرح العيني " ج 21.
(2) أي على جانب عنقها الأيمن.(5/183)
953 - " بَابُ مَا يُؤْكَلُ مِنْ لُحْومِ الأضَاحِي وَمَا يُتَزَوَّدُ مِنْهَا "
1101 - عن عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ الله عَنْهُ:
أنَّهُ صَلَّى العيد يَوْمَ الأضْحَى قَبْلَ الخطْبَةِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: يَا أَيّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ نَهَاكمْ عَنِ صِيَامِ هَذَيْنِ العِيدَيْنِ، أَمَّا أحدُهُمَا فَيَوْم فِطركُمْ مِنْ صِيَامِكمْ، وأمَّا الآخَرُ فَيَوْمٌ تَأْكلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
953 - " باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي وما يتزود منها "
1101 - معنى الحديث: أن عمر رضي الله عنه على عهد خلافته " صلى العيد يوم الأضحى قبل الخطبة " كما كان يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اقتداءً بسنته " ثم خطب " خطبة العيد بعد الصلاة " فقال: يا أيها الناس إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهاكم عن صيام هذين العيدين " وهما عيد الفطر وعيد الأضحى " أما أحدهما فيوم فطركم من صيامكم " أي أما الأوّل فقد شرع الله فيه الفطر من صيام رمضان، فكيف تخالفون شرع الله وتصومونه " وأما الآخر " وهو عيد الأضحى " فيوم تأكلون فيه من نسككم " أي فهو يوم شَرَعَ الله لكم فيه الأكل من ذبائحكم، فكيف تتركون - صلى الله عليه وسلم - منها وتصومون عنها؟.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب الأكل من لحوم الأضاحي دون تحديد وتقييد لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وأما الآخر فيوم تأكلون فيه من نسككم " وفي حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " كلوا وأطعموا وادخروا " وهذا يدل على مشروعية الأكل، والادخار، والإِطعام الشامل للهدية والصدقة دون تحديد. وقالت الشافعية: يستحب أن يتصدق بمعظمها وأدنى الكمال أن يتصدق بالثلث ويهدي الثلث، وقالت(5/184)
الحنفية: يستحب أن لا ينقص التصدق عن الثلث، أما الأكل والهدية فلا تحديد فيهما. ثانياًً: تحريم صيام العيدين. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في قوله: " وأما الآخر فيوم تأكلون فيه من نسككم ".
***(5/185)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتابُ الأشْرِبَةِ "
954 - " بَابُ قَوْل الله تعالى (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) .. إلخ "
1102 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لا يَزْنِي الزَّانِي حينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الخَمْرَ حينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" كتاب الأشربة "
954 - " باب قول الله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ)
1102 - معنى الحديث: ظاهر هذا الحديث أن من ارتكب جريمة الزنا أو السرقة، أو شرب الخمر، يخرج من الإِيمان، لكن هذا الحديث معارض بأحاديث صريحة في أن المعصية مهما عظمت لا تخرج صاحبها عن الإِيمان، ولا تخلده في النار، منها حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أتاني جبريل فبشرني أن من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة " قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: " وإن زنى وإن سرق " قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: " وإن زنى وإن سرق " قلت: " وإن زنى وإن سرق؟ قال: " وإن زنى وإن سرق " ثم قال في الرابعة: " على رغم أنف أبي ذر " إذن فما معنى قوله(5/186)
955 - " بَابُ الْخمْرِ مِنَ الْعَسَلِ وَهُوَ البِتْعُ "
1103 - عن عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ شَرَابِ البِتْعِ وَهُوَ نَبِيذُ العَسَلِ، وَكَانَ أهْلُ اليَمَنِ يَشْرَبُونَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " كُلُّ شَرَابٍ أسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- صلى الله عليه وسلم -: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن؟ " فُسِّر ذلك بمعان متعددة أرجحها معنيان: الأول: أن الإيمان يرتفع عنه عند الزنا وشرب الخمر والسرقة، فيكون على رأسه كالظلة، ثم يعود إليه بعد الفراغ من جريمته. الثاني: أن الزاني والشارب والسارق لا يكون كامل الإِيمان، وإنما يكون مؤمناً فاسقاً، ناقص الإيمان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الزنا والسرقة وشرب الخمر من أكبر الكبائر، لأنه - صلى الله عليه وسلم - نفى الإِيمان عمن فعل ذلك، فدل على أنها من أعظم الموبقات في الإسلام. ثانياًً: تحريم الخمر وسائر المشروبات المسكرة، لأن أقل ما يقتضيه نفي الإِيمان عن شاربها أنه فاسق عاص شارب للحرام، هذا بالإضافة إلى الوعيد الشديد الذي جاء في الأحاديث الأخرى. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ".
955 - " باب الخمر من العسل وهو البتع "
1103 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن شرب البتع بكسر الباء وهو نبيذ العسل، فأجاب - صلى الله عليه وسلم - بجواب عام شامل " فقال: كل شراب أسكر فهو حرام " أي لا عبرة باختلاف الأسماء ولا باختلاف مادته الأولى التي يتخذ منها فكل شراب أسكر فهو خمر محرم من أي نوع أخذ. وهذا من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم - وحسن بيانه.(5/187)
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن جميع الأشربة الكحولية المسكرة حرام. مطلقاً من أي نوع كانت، ومن أي مادة صنعت، لأن العلة في التحريم هي الإِسكار، كما يدل علمه قوله - صلى الله عليه وسلم - " كل شراب أسكر فهو حرام " ويدخل في ذلك نبيذ التمر والشعير والعسل والزبيب والتين، وسائر المشروبات الكحولية المسكرة، سواء كانت بنسبة قليلة أو كثيرة لاطلاق هذا الحديث وعمومه، فأما إطلاقه فيدل على تحريم الكثير والقليل منه على حدٍ سواء، ولو كان هذا القليل لا يسكر شربه، كما جاء مصرحاً بذلك في حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه " قال: " ما أسكر كثيره فقليله حرام " أخرجه أحمد والأربعة، وصححه ابن حبان، وأخرجه الترمذي وحسنه، ورجاله ثقات. وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كل مسكر حرام، ما أسكر الفرق منه، فملء الكف منه حرام " وفي رواية " الحسوة منه حرام " أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن، والفرق (بفتح الراء وسكونها) مكيال يسع ستة عشر رطلاً، والحسوة (بضم الحاء) الجرعة الواحدة من الشراب، وهذا يدل على أن القليل والكثير في التحريم سواء، وهو مذهب الجمهور خلافاً لأبي حنيفة. أما عموم هذا الحديث: فإن قوله " كل شراب أسكر فهو حرام " يدل بعمومه وكونه على تحريم كل مادة مسكرة، ولو لم تكن من الأشربة، ولهذا ذهب أهل العلم إلى تحريم الحشيشة وغيرها من المواد التي تشبهها. قال الصنعاني: ويحرم ما أسكر من أي شيء، وإن لم يكن مشروباً كالحشيشة، قال ابن حجر: من قال إنّها لا تسكر وإنما تخدر فهو مكابر، فإنها تحدث ما تحدث الخمر من الطرب والنشوة، وإذا سلم عدم الإِسكار فهي مفترة، وقد أخرج أبو داود أنه " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل مسكر ومفتر ". قال الخطابي: المفتر كل شراب يورث الفتور والخدر في الأعضاء، وحكى العراقي وابن تيمية الإِجماع على تحريم الحشيشة، وأن من استحلها كفر. قال ابن تيمية: إن الحشيشة أول ما ظهرت في آخر المائة السادسة من الهجرة حين ظهرت دولة(5/188)
956 - " بَابُ شُرْبِ اللَّبَنِ "
1104 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " نِعْمَ الصَّدَقَةُ اللِّقْحَةُ، الصَّفِيُّ مِنْحَةً، وَالشَّاةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً تَغْدُو بِإنَاءِ وَتَرُوحُ بِآخَرَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التتار، وهي من أعظم المنكرات، وهي شر من الخمر من بعض الوجوه، لأنها تورث نشوة ولذة وطرباً كالخمر، ويصعب الفطام عنها وقال ابن البيطار: وقبائح خصائها كثيرة، وعدَّ منها بعض العلماء مائة وعشرين مضرة دنيوية، وقبائح خصالها موجودة في الأفيون، وفيه زيادة مضار، وقال ابن دقيق العيد: في الجوزة إنها مسكرة، ونقله عنه متأخرو علماء المالكية والشافعية، واعتمدوه. ثانياًً: أنه لا فرق بين ما صنع من العنب، أو غيره في تحريم القليل والكثير منه على السواء، لأن كل مسكر خمر، وكل ما أسكر كثيره فقليله حرام، فيستوي في ذلك جميع الأشربة المسكرة، ولا عبرة بأصلها، ولا بالمادة التي صنعت منها خلافاً لأبي حنيفة، حيث فرّق بين خمر العنب وغيره. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على الترجمة.
956 - " باب شرب اللبن "
1104 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " نعم الصدقة اللقحة " بكسر اللام وفتحها، وسكون القاف وهي الناقة الحلوب قرب الولادة " الصفي " الحلوب التي تحلب لبناً كثيراً " منحة " بكسر الميم، وسكون النون والنصب على التمييز، والمعنى أن من أفضل الصدقات المحمودة أن تعير ناقتك الحلوب قرب ولادتها لغيرك، فتلد عنده، وتبقى لديه يشرب من لبنها، ويتغذى منها، حتى إذا انتهى لبنها ردها عليك " والشاة الصفي منحة " أي وكذلك(5/189)
من أفضل الصدقات المحمودة إعارة الشاة الصفي التي " تغدو بإناء، وتروح بإناء " أي التي تحلب في الصباح إناء، وفي المساء إناءاً. الحديث: أخرجه البخاري.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل المنيحة واستحبابها، وكونها من أفضل الأعمال. ثانياًً: دل الحديث على فضل اللبن، وأنه من أفضل المواد الغذائية للإنسان، كما يؤكد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " تغدو بإناء وتروح بإناء " وحسبك أنه شراب المؤمنين الذي اختاره الله لنبيّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ولأمته حيث أخذ اللبن ليلة أسري به فقال جبريل: " الحمد لله الذي هداك للفطرة، ولو أخذت الخمر غوت أمتك " قال ابن القيم: واللبن المطلق أنفع (1) المشروبات للبدن الإنساني، لما اجتمع فيه من التغذية والدموية، ولاعتياده حال الطفولة، وموافقته للفطرة الأصلية. اهـ. ولا شيء من الأغذية يغني غناءه، ومن مزاياه أنّه يغني عن الطعام والشراب، واقرأ إن شئت قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من أطعمه الله طعاماً فليقل: اللهم بارك لنا فيه، وارزقنا خيراً منه، ومن سقاه الله لبناً فليقل: اللهم بارك لنا فيه، وزدنا منه، فإني لا أعلم ما يجزىء من الطعام والشراب إلاّ اللبن " أخرجه أصحاب السنن. ولبن اللقاح ينفع من (2) البواسير والاستسقاء، ويهيج شهوة الغذاء والجماع، ويفتح السدد المتولدة في الكبد من الدم الغليظ، وينفع من الربو والاستسقاء، ولبن الماعز نافع من السعال ونزف الدم والسل ونحول الجسم. مطابقة الحديث للترجمة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم الصدقة اللقحة الصفي ".
***
__________
(1) " الطب النبوي " لابن القيم.
(2) " المعتمد في الأدوية المفردة " تأليف الملك المظفر يوسف بن عمر بن علي بن رسول الغساني التركماني صاحب اليمن المتوفى سنة (694) هـ.(5/190)
957 - " بَابُ الشُّرْبِ قَائِمَاً "
1105 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" شَرِبَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَائِماً مِنْ زَمْزَمَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
957 - " باب الشرب قائماً "
1105 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد الحرام، فطاف على بعيره، ثم أناخه بعد طوافه، فصلى ركعتي الطواف خلف المقام، ثم أتى بئر زمزم، فشرب منه حال كونه قائماً، ولم يجلس أثناء شربه - صلى الله عليه وسلم -.
فقه الحديث: قال القسطلاني: استدل بهذه الأحاديث على جواز الشرب قائماً، وهو مذهب الجمهور، وكرهه قوم لحديث أنس عند مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " زجر عن الشرب قائماً " قال النووي: والصواب أن النهي محمول على كراهة التنزيه. قال ابن القيم: وقالت طائفة: النهي ليس للتحريم بل للإِرشاد يعني فهو إرشاد صحي وتوجيه، فمن يريد وقاية جسمه من الأضرار البدنية والاستفادة التامة من الماء المشروب فعليه أن يحافظ على الشرب جالساً، لأن للشرب قائماً كما قال ابن القيم: آفات عديدة منها: أنه لا يحصل به الري التام، ولا يستقر في المعدة حتى يقسمه الكبد على الأعضاء، وينزل بسرعة واحدة إلى المعدة فيخشى منه أن يبرّد حرارتها وأما إذا فعله نادراً أو لحاجة لم يضره. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في كونه يدل على جواز الشرب قائماً، وهو ما أراده البخاري من الترجمة.
***(5/191)
958 - " بَابُ اختِنَاثِ الأسْقِيَةِ "
1106 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" نَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - عَنِ اخْتِنَاثِ الأسْقِيَةِ " يَعْنِى أنْ - تُكْسَرَ أفْوَاهُهَا فَيُشْرَبَ مِنْهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
958 - " باب اختناث الأسقية "
1106 - معنى الحديث: يقول أبو سعيد الخدري: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اختناث (1) الأسقية " جمع سقاء، وهو وعاء الماء من الجلد، " يعني أن تكسر أفواهها " يعني نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تثنى أفواه القرب، " فيشرب منها " أي من أفواهها، والمراد أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشرب من أفواه القرب على طريقة البادية، وقد جرت العادة عندهم أن الشارب يثني فم القربة فيشرب منه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه ينبغي للشارب أن يراعي القواعد الصحية، فلا يشرب من فم السقاء محافظة على سلامته وسلامة غيره، قال ابن القيم: في هذا آداب عديدة، منها أن تردد أنفاس الشارب قد تكسب الماء رائحة كريهة، ومنها أنه ربما غلب الداخل إلى جوفه من الماء فيتضرر به، وربما كان به حيوان لا يشعر به فيؤذيه، وربما كانت فيه قذارة لا يراها، ومنها أنه يملأ بطنه من الهواء، فلا يأخذ حظه من الماء. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي وأبو داود وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اختناث الأسقية ".
***
__________
(1) بكسر الهمزة وسكون الخاء وكسر التاء.(5/192)
959 - " بَابُ الشُّرْبِ بِنَفَسَيْنِ أو ثَلَاَثةٍ "
1107 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَنَفَّسُ في الإِناءِ ثَلَاثاً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
959 - " باب الشرب بنفسين أو ثلاثة "
1107 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه في هذا الحديث
" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتنفس في الإناء ثلاثاً " أي يرفع فمه عن الإناء بعد كل دفعة منها فيتنفس خارجه ثم يعاود شربه مرة أخرى.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب شرب السوائل على دفعات متعددة، وأن يتنفس أثناء الشرب عدة مرات خارج الإِناء. قال ابن القيم: في هذا الشرب فوائد مهمة نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على مجامعها بقوله: " فإنه أروى وأمرأ وأبرأ " أي أهنأ للشارب وأصح وأسلم عاقبة من الشرب دفعة واحدة، الذي ربما أدّى إلى فساد مزاج المعدة والكبد. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة.
***(5/193)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب المرضى "
قال ابن القيم: المرض نوعان: مرض القلوب، ومرض الأبدان، وهما مذكوران في القرآن. ومرض القلوب: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة وغي، وكلاهما في القرآن، قال تعالى في مرض الشبهة: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) وأما مرض الشهوات فقال تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) .
وأما مرض الأبدان: فقد قال تعالى: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) وفي هذا يقول الدكتور عادل الأزهرى: " إن هذا القسم فيه من الحكمة الإلهية ما لم يتوصل إليه الأطباء إلّا حديثاً في منتصف القرن الثامن عشر، فقد قسمت الأمراض عموماً إلى قسمين:
الأول: الأمراض العضوية التي تنتج عن عدم أداء أي جزء من أجزاء الجسم وظيفته كاملة، أو توقفه عن العمل بالكلية، أو تنتج عن دخول ميكروبات مختلفة الأنواع إلى الجسم، وتصيب أي عضو فيه بالتلف. الثاني: الأمراض النفسية، وهي في الحقيقة أعراض أمراض متنوعة وكثيرة جداً، يشعر بها المريض مع عدم وجود أي مرض عضوي في جسمه، وهذه الأمراض تحدث عن مؤثرات خارجية في الحياة العامة مثل الخوف والشك والغرام وعدم الاكتفاء الجنسي، وكثرة الإجهاد وهذا هو مرض القلوب كما ذكره الله تعالى. ولا شك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد عالجوا الأمراض النفسية علاجاً ناجحاً لم يصل إليه علماء النفس رغم هذا التطور الكبير الذي وصل إليه هذا العلم، وذلك لأنّ طب القلوب كما يقول ابن القيم مسلم به للرسل صلوات الله عليهم ولا سبيل إليه إلّا(5/194)
960 - " بَابُ مَا جَاءَ في كفَّارَةِ الْمَرَضِ "
1108 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ وأبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " ما يُصِيبُ المُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلا وَصَبٍ، وَلا هَمٍّ، وَلا حَزَنٍ، وَلا أذىً، ولا غَمٍّ، حَتَّى الشوكَةُ يُشَاكُهَا إلَّا كَفَّرَ الله بِهَا مِنْ خَطايَاهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من جهتهم. وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفعل إلى بعض هذه الأمراض النفسية ولفت الأنظار إليها، ومن ذلك أنه استعاذ من النفاق وسوء الأخلاق والجبن والكسل. لينبه أمته إلى وجوب التعرف عليها واتخاذ كل الوسائل الممكنة للوقاية منها، وأنجح هذه الوسائل الالتجاء إلى الله تعالى والاستعاذة به من شرّها.
960 - " باب ما جاء في كفارة المرض "
والمعنى هنا أن ذنوب المؤمن " تتغطى " بما يقع له من ألم المرض (1) فيعفى عنه، ولا يؤاخذ بتلك الذنوب، وأسند التكفير إلى المرض لأنه سببه فكأنه قال: " باب ما جاء في تكفير الذنوب بسبب المرض ".
1108 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يصيب المسلم من نصب " يعني أن كل ما يصيب المسلم من تعب بدني " ولا وصب " أي ولا مرض عضوي كالحمّى والصداع، وآلام المفاصل، أو آلام العين، أو الأذن، أو غير ذلك. " ولا همّ ولا حزن " أي ولا يصيبه هم، وهو انشغال الفكر من توقع حدوث شيء مكروه، أو فوات شيء محبوب في المستقبل كالخوف من عدوّ، أو مرض، أو مفارقة قريب. " ولا حزن " وهو ألم النفس بسبب وقوع أمر مكروه، في الماضي " ولا أذى " أي ولا يتعدى عليه أحدٌ بأيِّ نوع من
__________
(1) " فتح الباري " ج 10.(5/195)
961 - " بَابُ شِدَّةِ الْمَرَضِ "
1109 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
" مَا رَأيْتُ أحَداً أشَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أنواع التعدي، ولو كان يسيراً " ولا غمّ " يعني ولا يصيبه كرب وضيق نفسي لسبب من الأسباب " حتى الشوكة " أي حتى الشوكة التي يصيبه بها غيره، أو حتى الشوكة التي تصيبه " إلاّ كفر الله بها من خطاياه " أي إلاّ كفر الله بها بعض خطاياه. والمعنى: أنه لا يصاب المسلم بأي مرض نفسي كالهم والغم وغيره، أو مرض بدني كالحمى والصداع ونحوه، أو تعدٍّ أو ظلم من غيره، حتى الشوكة يدْخِلُها غيره في جسده إلاّ كان ذلك غفراناً وتكفيراً لخطاياه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن مجرد الإِصابة بالمرض أو غيره من البلايا كفارة للخطايا كما ترجم له البخاري. قال القرافي: المصائب كفارات جزماً، " سواء اقترن بها الرضا أم لا، لكن إذا اقترن بها الرضا عظم التكفير والأجر، وقال الحافظ: والذي يظهر أن المصيبة إذا قارنها الصبر حصل التكفير، ورفع الدرجات، وإن لم يحصل الصبر، ولم يقع من الجزع ما يندم عليه من: قول أو فعل، فالفضل واسع، ولكن ينحط من منزلة الصابر، وإن حصل الجزع فيكون ذلك سبباً لنقص الأجر أو التكفير. ثانياً: البشارة العظيمة للمؤمن، لأن الله جعل " البلاء مكفِّراً له، وهو كما قال القسطلاني: لا ينفك عنه غالباً، فمن صبر فله أجران، أجر على مصيبته وأجر على صبره. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كونه أفاد أن الوصب وهو المرض كفارة للخطايا، وهو ما ترجم له البخاري.
961 - " باب شدة المرض " (1)
1109 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها "ما رأيت أحداً
__________
(1) أي فضل شدة المرض.(5/196)
962 - " بَابُ وُجُوبِ عِيَادَةِ المَرِيضِ "
1110 - عَنْ أبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا المَرِيضَ، وَفُكُّوا العَانِيَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أشد عليه الوجع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" أي ما رأيت فيمن رأيت من المرضى أحداً أشد مرضاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد عانى في مرضه الأخير من الشدائد والآلام ما لم يعانه أحد ممن عرفت. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وأبو داود وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على فضل شدة المرض (1) .
فقه الحديث: دل هذا الحديث على شدة مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى فضل شدة المرض، لأنه لو لم يكن من الأمور المحمودة العاقبة لما ابتلي به أفضل الخلق على الله، مع ما له من الكرامة والمنزلة العالية، وهو أقوى دليل على فضل شدة المرض، وما له من عاقبة محمودة في تكفير السيئات، ومضاعفة الحسنات، ورفع الدرجات، وقد جاء التصريح بذلك في رواية أخرى عن ابن مسعود قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يوعك -أي يعاني من شدة آلام المرض- فقلت يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً! قال: " أجَل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم، قلت: ذلك أن لك أجرين، قال: " أجل ذلك كذلك " وفي الحديث " أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل ".
962 - " باب وجوب عيادة المريض "
1110 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " أطعموا الجائع " أي قدموا
__________
(1) ووجه الاستدلال على فضل شدة المرض بشدة مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لو لم يكن من الأمور المحمودة لما ابتلي به النبي - صلى الله عليه وسلم -.(5/197)
963 - " بَابُ فضلِ مَنْ يُصْرَعُ مِنَ الرِّيحِ "
1111 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ أصْحَابِهِ: ألا أُرِيكَ امْرَأةً من أهْلِ الجَنَّةِ؟ قَالَ: بَلى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
له من الطعام ما يشبعه، ويذهب عنه غائلة الجوع، لأنّ هذا الدين دين الرحمة والتعاطف، ومن أهم ما يقتضيه ذلك إطعام الفقير الجائع " وعودوا المريض " أي وقوموا بزيارة المريض في كل مرض، وفي كل زمن لعموم الأمر وإطلاقه، " وفكوا العاني " بكسر النون أي خلصوا الأسير من يد الأعداء، بدفع الفداء عنه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أمور ثلاث: الأول: مشروعية إطعام الفقير الجائع، وهو واجب إنساني، وواجب شرعي معاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أطعموا الجائع " وقد نص الفقهاء على أنه فرض كفاية. الثاني: مشروعية عيادة المريض لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وعودوا المريض " وهي مستحبة عند أكثر أهل العلم، وذهب بعضهم إلى أن عيادة المريض فرض كفاية، وقد جزم البخاري بوجوبها على ظاهر الأمر بالعيادة واستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وعودوا المريض " حيث حمل الأمر على الوجوب، وهو الأصل. وقال الجمهور: عيادة المريض في الأصل ندب، وقد تصل إلى الوجوب في حق بعض دون بعض. الثالث: فك الأسير من يد العدو، وفداؤه بالمال لقوله - صلى الله عليه وسلم -: وفكوا العاني، وهو فرض كفاية، والله أعلم. الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود. والمطابقة: في قوله: " وعودوا المريض ".
963 - " باب فضل من يصرع من الريح "
1111 - معنى الحديث: أن الراوي يحدثنا عن ابن عباس رضي الله عنهما: " أنه قال لبعض أصحابه: ألا أريك امرأة من أهل الجنة " أي ألا تريد(5/198)
قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأةُ السَّوْدَاءُ أتَتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: إنِّي أُصْرَعُ وإِنِّي أَتكَشَّفُ، فادعُ اللهَ لِي، قَالَ: " إِنْ شِئتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وإن شِئْتِ دَعَوْتُ الله أن يُعَافِيَكِ " فَقَالَتْ: إِنِّي أصْبِرُ، فَقَالَتْ: إِنِّي أتكَشَّفُ، فادْعُ اللهَ أن لا أتَكشَّفَ، فَدَعَا لهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أن أريك امرأة مقطوعاً لها بالجَنَّةِ (1) فهي من أهلها حقيقة. لا ظناً وتخميناً " قال: بلى " أريد أن أعرف ذلك " قال: هذه المرأة السوداء " واسمها سعيرة الأسدية، وفي رواية عطاء بن أبي رباح في هذا الحديث " فأراني حبشية صفراء فقال: هذه سعيرة الأسدية " ثم ذكر قصتها، فقال: " أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني أصرع " أي أصاب بالصرع، فأفقد وعيي، والصرع كما يقولون: داء يتميز بنوبات فجائية من فقدان الوعي ويقترن غالباً بالتشنج، وسيأتي شرحه "وإني أتكشف" أي يتكشف جسمي أثناء فقدان الوعي " فادع الله لي " بالشفاء من هذا المرض العضال " قال: إن شئت صبرت ولك الجنة " أي وأبشرك بدخول الجنة بغير حساب " قالت إني أصبر " وأؤثر الباقي على الفاني، والآخرة على الدنيا. " فقالت: إني أتكشف، فادع الله أن لا أتكشف " أي فصبرت رضي الله عنها على ما تعانيه من آلام، ولكنها لم تصبر على تكشف جسمها، ونظر الناس إلى عورتها، وسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن يدعو الله لها أن يحفظها من التكشف أثناء صرعها " فدعا لها " بذلك.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنّ الصرع من الأمراض الشديدة التي يعظم أجرها وثوابها عند الله تعالى، وقد وعد النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه المرأة بالجنة مقابل صبرها عليه ولهذا قال البخاري: باب فضل من يصرع. والصرع نوبات فجائية تقترن بالتشنج وتتفاوت في شدتها ومعدل ترددها، وفي الفترة
__________
(1) أي مشهوداً لها بالجنة بشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(5/199)
التي تستغرقها، وقد تكون النوبة هينة عابرة لا تكاد تلحظ، وقد تكون بالغة الشدة، وقد تقع النوبة بغتة بلا نذير، وقد ينذر بها حس سابق يعتري أحد الحواس. كأن يرى المريض شبحاً أو يسمع صوتاً، أو يشم رائحة، ويعقب ذلك وقوع المريض على الأرض فاقداً وعيه، وقد يقع صارخاً ثم تتملكه رعدة تشنجية، قد يتوقف فيها التنفس مؤقتاً، ويعض المريض لسانه في أثناء النوبة، وقد تحدث له إصابات أو حوادث مرضية خطيرة من جراء هذه النوبات ويعقب النوبة خور في القوى واستغراق في النوم يصحو منه المريض خالي الذهن من تذكر ما حدث له. ويقول ابن القيم (1) : الصرع صرعان، صرع من الأرواح الخبيثة وصرع من الأخلاط، وهو الصرع العضوي أو ما يسمى بالأعصاب، قال ابن القيم: والثاني: هو الذي يتكلم فيه الأطباء، وأما صرع الأرواح فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه وقد نص على ذلك أبقراط في بعض كتبه فقال " أما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج " وقدماء الأطباء كانوا يسمون هذا الصرع بالمرض الإلهي. قال ابن القيم: وعلاج هذا النوع يكون بأمرين " أمر من جهة المصروع " و" أمر من جهة المعالج " فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وباريها والتعوذ الصحيح بالقلب واللسان. والثاني: من جهة المعالج بأن يكون لديه قوة اليقين وصدق التعوذ بالله تعالى حتى أن من المعالجين من يكتفي بقوله " أخرج منه " أو يقول: " باسم الله " أو يقول: " لا حول ولا قوة إلا بالله " والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: اخرج عدو الله أنا رسول الله (2) وشاهدت شيخنا (3) يرسل
__________
(1) " الطب النبوي " لابن القيم.
(2) أخرجه في " مسنده " 4/170 و171 و172 من حديث يعلى بن مرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أتته امرأة بابن لها قد أصابه لمم فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " أخرج عدو الله أنا رسول الله " قال: فبرأ ... ورجاله ثقات. اهـ. مختصراً من زاد المعاد 4/68 وانظر " مجمع الزوائد " (9/6) .
(3) والغالب أنه أراد بشيخه ابن تيمية.(5/200)
964 - " بَابُ فضلِ مَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ "
1112 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ النبي يَقُولُ: " إِنَّ الله تعالى قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيْبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتَهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه ويقول: قال لك الشيخ اخرجي فإن هذا لا يحل لك فيفيق المصروع. ثانياً: دل هذا الحديث على أن هذه المرأة من أهل الجنة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدها وبشرها بالجنة إن صبرت فقال لها: " إن شئت صبرت ولك الجنة " فقالت بل أصبر ووفت بوعدها. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وإن شئت صبرت ولك الجنة " فإن هذا يدل على فضل الصرع وثوابه.
964 - " باب فضل من ذهب بصره "
1112 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله تعالى قال " في الحديث القدسي: " إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه " أي إذا ابتليته بعينيه اللتين هما أحب حواسه إليه، فذهب عنه نورهما " فصبر " على فقدان بصره محتسباً للثواب والأجر الذي أعده الله للصابرين " عوّضته منهما الجنة " أي جعل الجنة عوضاً وبديلاً له عنهما والله لا يخلف الميعاد.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: البشارة العظمى لمن فقد بصره وتعويضه عنه بالجنة. قال الحافظ: وهذا أعظم العوض، لأن التلذذ بالبصر يفني بفناء الدنيا، والالتذاذ بالجنة باق ببقائها. ثانياً: دل هذا الحديث على أن حاسّة البصر من أحب الحواس إلى الإِنسان لما يحصل له بفقدهما من الأسف على فوات رؤية ما يريد رؤيته من خيرٍ يسر به، أو شر فيجتنبه. الحديث:(5/201)
965 - " بَابُ ما رُخِّصَ لِلمَريضِ أنْ يَقُولَ: إِنِّي وَجِعٌ، أوْ وَارَأسَاهُ "
1113 - عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أَنَّهَا قَالَتْ: وَارَأْسَاهُ، فقالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " ذَاكَ لَوْ كَانَ وَأنا حَيٌّ فأسْتَغْفِرُ لَكِ، وأدْعُو لَكِ " فَقَالَتْ: عَائِشَةُ: "وَاثُكْلَيَاهُ، وَاللهِ إِنِّي لأظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِي، وَلَوْ كَانَ ذَاكَ لَظَلِلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّساً بِبَعْضِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أخرجه أيضاً الترمذي. والمطابقة: في كون الحديث يدل على أن من فقد بصره عوض بالجنة، وهو ما ترجم له البخاري.
965 - " باب ما رخص للمريض أن يقول: إني وجع أو وارأساه "
1113 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أنها قالت: وارأساه " يعني أنّها أحست بصداع أصابها في رأسها، فشكت من ذلك الألم الذي تحسه منه قائلة: وارأساه، قال القسطلاني: وهو تفجّع على الرأس من شدة صداعه، " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ممازحاً ومداعباً لها: " ذاك لو كان أنا حيٌّ فأستغفر لك، وأدعو لك " أي لو أصابك الموت في حياتي لَفُزْتَ باستغفاري ودعائي لك، وفي رواية عبد الله بن عبد الله بن عتبة قال: " ما ضرك لو مِتِّ قبلي وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك " " فقالت عائشة: واثكلياه " بضم المثلثة، وسكون الكاف، وفتح اللام، وأصل الثكل أن يفقد الشخص من يعزّ عليه، ثم صار يجري هذا اللفظ على ألسنتهم عند حصول المصيبة أو توقعها " والله إني لأظن أنك تحب موتي، ولو كان ذلك لظللت آخر يومك معرساً " أي لو وقع موتي وأظن أنّك تتمناه لا يأتي آخر النهار إلاّ وأنت متزوج بامرأة أخرى " فقال - صلى الله عليه وسلم - بل أنا وارأساه " أي لست أنت التي تشتكين من رأسك،(5/202)
أزْوَاجِكَ، فقالَ: النبي - صلى الله عليه وسلم - بَلْ أنَا وَارَأسَاهُ لَقَدْ هَمَمْتُ أو أردْتُ أَنْ أرْسِلَ إلَى أبي بَكْرٍ وَابْنِهِ وأعْهدَ أنْ يَقُولَ القَائِلُونَ، أو يَتَمَنَّى المُتَمَنُّونَ، ثم قُلْتُ: يأبَى اللهُ وَيَدْفَعُ المُؤْمِنُونَ، أوْ يَدْفَعُ اللهُ وَيَأبَى المُؤْمِنُونَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بل أنا الذي أشتكي من هذا الصداع الشديد الذي أصابني " لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد " أي أوصي بالخلافة من بعدي لصاحبها الذي أراد الله أن يتولاها " أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون " أي أوصي بالخلافة إلى أبي بكر كراهة أن يقول القائلون: الخلافة لفلان أو لفلان، أو يتمنّى المتمنون الخلافة، " ثم قلت: يأبى الله، ويدفع المؤمنون " أي ثم قلت: أترك أمر الخلافة لله، ولرأي المسلمين، لأنه يأبى الله إلاّ خلافة أبي أبكر، ويدفع المؤمنون خلافة غيره.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز الشكوى من المرض، وأنه لا ينافي الرضا بقضاء الله، ولا يعارض الصبر، وقد شكا النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه بقوله: " بل أنا وارأساه " وهو سيد الصابرين. ثانياًً: في الحديث إشارة صريحة إلى خلافة الصديق رضى الله عنه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد ". ثالثاً: دل الحديث على شدة غيرة المرأة على زوجها، حيث كرهت عائشة رضي الله عنها أن تكون له - صلى الله عليه وسلم - زوجة ولو بعد وفاتها. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " بل أنا وارأساه ".
***(5/203)
966 - " بَابُ نهْي تمَنِّي المَرِيض المَوْت "
1114 - عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمْ المَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أصابه، فَإن كَانَ لا بدَّ فَاعِلاً فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أحْيِني مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْراً لِي، وتَوَفَّنِي إذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيراً لِي ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
966 - " باب تمني المريض الموت "
1114 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " لا يتمنيّن أحدكم الموت من ضر أصابه " وهذا نَهْيٌ في صورة النفي للمبالغة، قال القاري: والنفي بمعنى النهي أبلغ، لإفادته أن من شأن المؤمن انتفاء ذلك عنه، وعدم وقوعه بالكلية منه، والمعنى لا يحل للمؤمن أن يتمنّى الموت من أجل ضرر دنيوي لحق به لأن معناه التبرم من قضاء الله " فإن كان لا بد فاعلاً " أي فإن ضاقت به الأحوال واشتدت النوائب حتى اضطرته أن يتمنى. شيئاً تنفيساً عن نفسه وابتغاءً لفرج الله " فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي " أي أبقني حياً إن كان بقائي في هذه الحياة تترتب عليه منفعة في ديني ودنياي وعاقبة أمري " وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً " (1) أي واقبضني إليك على الإيمان والطاعة، إذا كان ذلك خيراً لي في ديني ودنياي وعاقبة أمري. أو كان بقائي في هذه الدنيا يعرضني للفتنة، وسوء الحال والمآل.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه لا يجوز تمني الموت لأي ضرر دنيوي، سواء كان مرضاً بدنياً، أو نفسياً أو خسارة مالية، أو بسبب
__________
(1) ويشبه هذا كثيراً الدعاء الجامع المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو: " اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر ".(5/204)
967 - " بَاب دُعَاءِ العَائِدِ لِلْمَرِيضِ "
1115 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أتَى مَرِيضاً أو أُتِيَ بهِ إِلَيْهِ قَالَ: "أذْهِبِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المعاناة من بعض الانفعالات المؤلمة كالخوف والقلق والهم واليأس أو غيره من الأحوال النفسية المزعجة القاسية، لما في ذلك من التبرم بقضاء الله، وعدم الصبر على بلائه وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث أو هريرة " لا يتمنيّن أحدكم الموت إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب " أي يحس بالندم فيتوب إلى الله أما هذه الظروف السيئة والعوارض الدنيوية الكريهة، فإنها سرعان ما تزول، لأن هذا العالم حادث، وكل حادث متغير، والدنيا لا تبقى على حال واحد. والمؤمن القوي لا يقابل المكاره بالجزع، وإنما يقابلها بالصبر، ورباطة الجأش، ويواجهها باتخاذ الأسباب المشروعة لمواجهتها مع اعتقاد أن دوام الحال في الدنيا من المحال. وقد قال الشاعر:
الدَّهْرُ لَا يَبْقَى على حَالهِ ... لَا بُدَّ أَنْ يقبِلَ أَو يُدْبِر
فإنْ أصِبتَ بمَكْرُوْهه ... فاصْبِرْ فَإِنَّ الدَهْرَ لَا يَصْبر
ثانياً: دل الحديث على أَنه يستحب للعبد المؤمن إذا اشتدت وعليه الَكروب أن يصبر، ويلجأ إلى الصلاة والتضرع والدعاء، وأن يقول كما علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إن كانت الوفاة خيراً لي "، والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه ".
967 - " باب دعاء العائد للمريض "
1115 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتى مريضاً " أي كان إذا ذهب لزيارة مريض(5/205)
الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، اشفِ وأنتَ الشَّافِي، لا شِفَاء إلَّا شِفَاؤكَ شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَماً".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عالجه بالدعاء الخالص، وكذلك إذا جيء به إليه وضع يده على موضع الداء منه " وقال: أذهب الباس رب الناس " بحذف حرف النداء، والبأس المرض، أي أسألك بربوبيتك للناس جميعاً أن تكشف الداء وشدة المرض عن عبدك هذا الذي لا رب له سواك، ولا شافي له غيرك، كما قلت في محكم كتابك (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) " اشف وأنت الشافي " أي أكرر الدعاء لك بشفائه، وأنت وحدك القادر عليه " لا شفاء إلا شفاؤك " لأن الدواء لا ينفع إلاّ إذا قدرت للمريض الشفاء " شفاء لا يغادر سقماً " أي شفاءً تاماً كاملاً من جميع الأمراض بحيث يصح الجسم صحةً عامةً شاملة لا تبقى معه في جسمه أي داءٍ.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يستحب لمن يزور المريض أن يدعو له بهذا الدعاء المبارك المأثور، فإن ذلك علاج روحي نافع إذا اقترن باليقين والإخلاص وقوة الإيمان، وذلك بأن يضع يده على موضع الداء منه فيقول: " اذهب الباس رب الناس الخ " وهناك أدعية أخرى مأثورة يرقى بها المريض، من ذلك أن يرقيه بقوله: " بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس، أو عين حاسد، الله يشفيك، بسم الله أرقيك " أخرجه مسلم. وهي رقية جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما: " من عاد مريضاً لم يحضر أجله، فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلاّ عافاه الله من ذلك المرض " أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبّان، وقال الترمذي حديث حسن صحيح، وصححه ابن حبان وأخرجه أيضاً النسائي والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين.(5/206)
وقال الشوكاني: والحديث يقيد الشفاء بهذا الدعاء بعدكم حضور الأجل فإذا كان قد حضر، فكما قال أبو ذؤيب الهذلي:
وإذا المَنِيَّةُ أنْشَبَتْ أظْفَارَها ... ألفَيْتَ كُلَّ تميمةٍ لا تَنْفَعُ
ثانياً: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا شفاء إلاّ شفاؤك " صريح في أن جميع الأدوية أسباب عادية لا تؤثر في المريض، ولا تحقق مفعولها إلاّ بإذن الله، والله هو الشافي وحده، كما قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) فعلى المؤمن أن يتعاطى العلاجات الطبية آخذاً بالأسباب مع إيمانه ويقينه أن لا شفاء إلّا من الله والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا عاد مريضاً دعا له بهذا الدعاء.
***(5/207)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتابُ الطِّبِّ "
لا شك أنّ الإِسلام قد عني بالناحية الصحية نفسية كانت أو بدنية، واهتم بالطب بسائر أنواعه كما تدل عليه النصوص الإسلامية ففي الحديث الصحيح عن جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل " أخرجه مسلم، وأحمد والحاكم، وعن أسامة بن شريك قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: " يا عباد الله! تداووا، فإن الله عزَّ وجل لم يضع داء إلّا وضع له شفاء، غير داء واحد " قالوا: ما هو يا رسول الله؟ قال: " الهرم " أخرجه أحمد في " مسنده " والطب كما يقولون: علم يعرف به أحوال الإِنسان البدنية والنفسية من صحة أو مرض، والوسائل الكفيلة بالمحافظة على صحته وهو ما يسمى بالطب الوقائي. والوسائل اللازمة لإعادة الصحة إلى الإنسان، وإزالة المرض عنه بإذن الله تعالى، وهو ما يسمى بالطب العلاجي.. وهو نوعان: طب نفسي، وطب عضوي أو بدني. فالطب النفسي: تعالج به أمراض النفس من حيرة وقلق وهم وغم، وخوف غير عادي، إلى غير ذلك من الأمراض التي لا علاقة لها بأي عضو من أعضاء البدن، ويدخل في ذلك بعض أنواع الصرع التي لا علاقة لها بأي مرض عضوي، والتي لا حيلة للطب البشري في معالجتها كما اعترف بهذا أبقراط ويلجأ الطبُّ النفساني في علاج النَّفس إلى طريقتين: الأولى: الطريقة العلمية النفسية التي تعتمد على التحاليل والجلسات النفسية المعروفة. والثانية: الطريقة الروحية الدينية: وتعتمد على وسيلتين أو علاجين كما في كتاب " الطب النبوي " لابن القيم، الأولى: إصلاح القلب عن طريق(5/208)
تقوية الإيمان والعقيدة، وتقوية الصلة بالله في الشدة والرخاء كما قال - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس رضي الله عنهما: " يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أنّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لمن ينفعوك إلاّ بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلاّ بشيء قد كتبه الله عليك " وفي رواية أخرى " احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً " فهل تعتقد أن إنساناً تغلب على نفسه كل هذه المعاني عقيدة وشعوراً ووجداناً فتملأها صلابة وقوة يمكن أن تجد الأمراض النفسية إلى نفسه سبيلاً، كلا، وقد اعترف بذلك المنصفون من علماء النفس الحديث. وممن نادى بذلك (وليم جيمس) العالم الأمريكي فقال: إن أعظم علاج للقلق ولا شك هو الإيمان، وقال: الرجل المتدين حقاً عصيٌّ على القلق، محتفظ أبداً باتزانه، مستعد دائماً لمواجهة ما عسى أن تأتي به الأيام من صروف. وقال كارل يونج المحلل النفساني: " إن المرء المتدين حقاً لا يعاني قط مرضاً نفسياً " (1) وأشار المؤرخ أرنولد توينبي إلى أن الأزمة التي يعاني منها الأوربيون في العصر الحديث إنما ترجع في أساسها إلى الفقر الروحي ومن هذا يتضح لنا أن من أهم وسائل الطب النفسي وقايةً وعلاجاً هو تقوية الإيمان والعقيدة واليقين. أما العلاج النفسي الثاني في نظر الإِسلام فهو في الأذكار والأدعية المأثورة، والرقى الصحيحة المشروعة بالآيات القرآنية والأذكار والأدعية النبوية، وقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكرب: " لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا لله رب العرش الكريم، لا إله إلاّ الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم " فهذا ذكر نبوي مأثور لعلاج الإنسان من أزمته النفسية، وكشف همومه القلبية التي يعانيها، ثم هو بالاضافة إلى ذلك دعاء مستجاب لقضاء(5/209)
الحاجة التي تهم ذلك الإنسان، وتحقيقها له إن كانت خيراً، أو تعويضه بأحسن منها. وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من كثرت همومه وغمومه فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلاّ بالله " ولكن هذه الأدعية والأذكار لا تعمل عملها في علاج النفس وشفائها إلاّ إذا اقترنت بالعلم بمعناها، واليقين بجدواها ولا شك أن هناك بعض الأعمال كالميكروبات الضارة وهي المعاصي والذنوب، فمن أراد سلامة نفسه من الأمراض النفسية فليجنبها المعاصي والذنوب، ولهذا قال بعض السلف: من أراد عافية القلب فليترك الآثام. أما الطب البشري: فإن الإِسلام قد أثبته، ودعا إلى هذا الطب الذي يعتمد على علاج الجسم بالعقاقير المستخلصة من الأعشاب والمعادن وغيرها، ويدخل في ذلك الفيتامينات " وأشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بعض الأدوية النافعة التي تعتبر أصولاً أساسية لجميع أنواع الأدوية الأخرى، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى أمتي عن الكي " وإذا تصفحنا كتاب الطب من " صحيح البخاري " أو غيره من الصحاح نجد فيه أنواعاً من الأدوية النبوية المأثورة لعلاج الأبدان، فمن ذلك: العسل، والحجامة، والكي، وألبان الإِبل وأبوالها، والحمية، والحبة السوداء، والسعوط، والحجامة على الرأس من الشقيقة والصداع، والكحل بالإِثمد، والكمأة، ودواء ذات الجنب، وتجد فيه من الأدوية الروحية للجسم، رقية الحية والعقرب، والعين. ومن الأدوية الروحية للجسم والنفس معاً الرقية بالمعوذات، وفاتحة الكتاب، واستخراج السحر إلى غير ذلك. قال ابن القيم: وليس طبه - صلى الله عليه وسلم - كطب الأطباء، فإن طب النبي متيقن قطعي إلهي صادر عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل، وطب غيره أكثره حدس، أي تخمين وظنون وتجارب. ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة، فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول، واعتقد الشفاء به، فهذا القرآن الذي هو شفاء الصدور إن لم يتلق هذا التلقي لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائها. وقد عُني أئمة العلم والحديث(5/210)
968 - " بَابُ مَا أنْزَلَ اللهُ دَاءً إلا أنزَلَ لَهُ شِفَاءً "
1116 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَا أَنْزَلَ اللهُ دَاءً إلَّا أنزلَ لَهُ شِفَاءً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من قديم الزمن بالطب النبوي، واهتم المحدثون برواية ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك وجمعه وتدوينه، فهذا مالك في " الموطأ " وأصحاب الكتب الستة قد خصصوا في صحاحهم كتباً وأبواباً خاصة بالطب النبوي ومن علماء الإِسلام من ألف كتباً خاصة بالطب النبوي منهم أبو بكر ابن السني، وابن أبي عاصم الذي سمى كتابه " كتاب الطب والأعراض " وعلاء الدين الكمال المتوفى سنة 720 هـ الذي ألف " كتاب الأحكام النبوية في الصناعات الطبية " وممن ألف في الطب النبوي الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي المتوفى سنة 748 هـ وشمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزرعى المعروف بابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 هـ حيث ذكر في كتابه (زاد المعاد) بحثاً طويلاً في الطب النبوي، وقد أفرد بالطبع. ولا شك أن التداوي لا ينافي الإيمان بالقضاء والقدر، لأن الدواء أيضاً من قدر الله، ويدل على ذلك ما روي عن أبي خزامة عن أبيه رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أرأيت رقى نسترقيها، ودواءً نتداوى به، وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئاً فقال: " هي من قدر الله " أخرجه أحمد في مسنده وابن ماجة وصححه الحاكم في مستدركه "
968 - " باب ما أنزل الله من داء إلاّ أنزل له شفاء "
1116 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " ما أنزل الله من داء " أي ما خلق داءً " إلاّ أنزل له شفاء " أي إلاّ خلق له دواء يشفيه بإذن الله تعالى، والمعنى أن الله تعالى لم يوجد مرضاً من الأمراض الجسمية أو النفسية إلاّ أوجد له دواء يشفيه ويزيله إذا صادفه وأعطي المريض القدر المناسب في الوقت(5/211)
المناسب. وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله تعالى لم ينزل داء إلاّ أنزل له دواء، علم ذلك من علم، وجهل ذلك من جهل، إلّا السام " قالوا: يا رسول الله وما السام؟ قال: " الموت " (1) أخرجه الحاكم والبزار.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن لكل داء سواء كان نفسياً أو جسمياً دواء يؤثر فيه ويقضي عليه ما عدا الموت كما قال عنترة:
وَلَوْ عَرَفَ الطبيْبُ دَوَاءَ دَاءٍ ... يَرُدُّ المَوتَ مَا قَاسَى النِّزَاعا
ولكن الطيب قد يصيب الدواء المناسب، ويهتدي إليه فينجح في معالجة الداء بإذن الله، وقد يخطأ الطيب في معرفة الدواء لجهله به، أو في تشخيص المرض فيفشل في العلاج، والحديث صريح في أنه ليس هناك أمراض مستعصية لا دواء لها، حتى هذه الأمراض المستعصية لها أدوية تؤثر فيها، وتقضي عليها، ولكن الأطباء لم يكتشفوها حتى الآن. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: " إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله " أخرجه النسائي، وابن ماجة، والحاكم، وابن حبان والطبراني، ورجاله ثقات (2) ، قال الحافظ: وفيه إشارة إلى أن بعض الأدوية لا يعلمها كل أحد، أقول: وبعض الأمراض لم تكتشف أدويتها (3) حتى الآن، وقد دلت التجارب على صدق هذه القضية، فإن السل وبعض الأمراض الصدرية كانت تعد من الأمراض المستعصية، فلما اكتشف البنسلين أصبح من الأمراض العادية التي يسهل علاجها بإذن الله، سيما إذا كان في الدرجة الأولى أو الثانية. ثانياً: دل هذا الحديث على مشروعية العلاج، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا بأن الذي خلق
__________
(1) قال الحافظ: أي المرض الذي قدر على صاحبه الموت فيه.
(2) " الطب النبوي " لابن القيم وتعليقاته للدكتور عادل الأزهري.
(3) كالسرطان مثلاً.(5/212)
969 - " بَابُ الشِّفَاءِ في ثَلاثٍ "
1117 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ:
" الشفَاءُ في ثَلَاثَةٍ: شَرْبَةِ عَسَل، وَشَرْطَةِ مِحْجَمٍ، وَكِيَّةِ نَارٍ، وأنهَى أُمَّتِي عَنِ الكَيِّ " رَفَعَ الحَدِيثَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الداء خلق الدواء تنبيهاً لنا وإرشاداً وترغيباً في التداوي، وقد أمرنا - صلى الله عليه وسلم - بذلك صراحة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داءً إلاّ وضع له شفاء ". واستعمال الأدوية لا ينافي التوكل إذا اعتقد أنها تنفع بإذن الله وتقديره، وأنها لا تؤثر إلاّ بإرادته عز وجل، وفي هذه الأحاديث إثبات للطب والعلاج، وأن التداوي مباح غير مكروه كما ذهب إليه بعض الناس كما قاله الخطابي، ولو كان مكروهاً لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتداوي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " تداووا فإن الله لم يضع داءً إلاّ وضع له شفاء.. فإن هذا الحديث لا يدل على جواز التداوي فقط، بل يدل على استحبابه أيضاً، لأن أقل مقتضيات الأمر الاستحباب، والله أعلم. ثالثاً: أن في هذا الحديث وأمثاله تقوية لنفس المرض، ومساعدة له على مكافحة المرض، وتشجيعاً له على مقاومة الداء، لأنه متى استشعرت نفسه أن لدائه دواء تعلق قلبه بالرجاء، وتفتحت له أبواب الأمل، وزال عنه اليأس والاكتئاب وهذه المشاعر في حدّ ذاتها كفيلة له بالشفاء بإذن الله لأن نفسية الإنسان متى قويت تغلبت على المرض وقهرته ومتى ضعفت تغلب عليها. الحديث: أخرجه النسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث.
969 - " باب الشفاء في ثلاث "
1117 - معنى الحديث: قال الحافظ: أورد البخاري هذا الحديث موقوفاً، وآخره يشعر بأنه مرفوع، لقوله: " وأنهى أمتي عن الكي " وقد صرح(5/213)
برفعه في رواية سريح بن يونس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الشفاء في ثلاث " أي الشفاء يحصل بأحد ثلاثة أنواع من الأدوية، قال العيني: لم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - الحصر في الثلاثة فإن الشفاء قد يكون في غيرها، وإنما نبّه بهذه الثلاثة على أصول العلاج. اهـ. واختلافها باختلاف طبيعة الأمراض من باردة إلى حارة إلى غير ذلك " شربة عسل " أي النوع الأول شربة العسل، إما وحده، أو مخلوطاً بالماء، أو مخلوطاً بالسوائل الأخرى، أو مركباً من غيره، لأنه شفاء، كما قال تعالى: (فيه [شفاء] للنّاس) " وشرطة محجم " أي والنوع الثاني من أنواع الأدوية " شرطة محجم " بكسر الميم، وفتح الجيم، وهو في الأصل الآلة التي يجمع فيها دم الحجامة، ويراد بها هنا الآلة التي يشرط بها، ومعناه: أن النوع الثاني من الأدوية إخراج الدم الفاسد بواسطة الحجامة " وكية نار " أي والنوع الثالث: الكي بالنار " وأنهى أمتي عن الكي " لما فيه من إيذاء المريض وتعذيب بدنه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن أفضل العلاجات والأدوية النافعة بإذن الله ثلاثة: الأول: العسل الذي أخبر الله تعالى عنه أنّه شفاء للناس، ولا يمنع بن اعتباره دواءً ناجحاً كونه يضر ببعض الأمراض الحارّة مثلاً، فإن العبرة بالغالب والنادر لا حكم له. ويكفي لاعتباره من أهم الأدوية ما ثبت علمياً أنه غني بالمعادن: مثل الحديد والكلسيوم، والصوديوم، والكبريت، والبوتاسيوم. والفوسفور، وله خاصية مبيدة للجراثيم، أما الفيتامينات التي يحتويها، وعلى رأسها الفيتامين (ث) فتساعد على تقوية الكلس في العظام، ولذا فهو مفيد جداً للأطفال إذ يساعد عظامهم على التصلب، ويثبت أسنانهم ويقيهم شر الكساح، وتقوس الساقين، ونخر الأسنان، ومن فوائده الطبية أنه ينظم حركة التنفس، وخاصة بالنسبة للمصابين بأمراض الصدر، كما أن له تأثيراً ملطفاً في حالات الجفاف، وصعوبة البلع والسعال. اهـ. كما أفاده الدكتور القباني في كتابه " الغذاء لا الدواء " وقال في " المعتمد " وهو نافع لأصحاب الأمزجة الباردة والشيوخ يقوي جوهر حرارتهم الغريزية ويولد فيهم(5/214)
دما جيداً لا سيما في الشتاء. وهو حار يابس يقوّي المعدة، ويلين الطبع، ويحد البصر، ويحفظ على البدن صحته أيام حياته ويزيد في شهوة الباه وينفع من الفالج والاسترخاء وتعجن به الأدوية فيحفظها. اهـ. وقال ابن جريج: قال الزهري: " عليك بالعسل فإنه جيد للحفظ ". الثاني: الحجامة والفصد أيضاً، وذلك لعلاج الأمراض الدموية. قال ابن القيم: وقد قال بعض الناس: إن الفصد يدخل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وشرطة معجم " فإن كان المرض حاراً عالجناه بإخراج الدم بالفصد، أو بالحجامة، لأن في ذلك استفراغاً للمادة، وتبريداً للمزاج، وإن كان بارداً عالجناه بالتسخين، وذلك موجود في العسل. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " احتجم وأعطى الحجام أجرة " أخرجه الشيخان.
وقال ابن عباس: قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم العبد الحجام، يذهب الدم، ويُخِفُّ الصلب، ويجلو عن البصر " قال ابن القيم: وقد نص الأطباء على أن البلاد الحارة الحجامة فيها أنفع وأفضل من الفصد، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الحجامة في الرأس شفاء من سبع: الجنون، والجذام، والبرص، والنعاس ووجع الأضراس، والصداع، والظلمة يجدها في عينيه " أخرجه أبو نعيم (1) ، وفي الحديث: " ما كان أحد يشتكي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعاً في رأسه إلاّ قال: احتجم " أخرجه أبو داود. قال العيني: وعن ابن عمر بسند لا بأس به يرفعه: " الحجامة تزيد في الحفظ، وفي العقل، وتزيد الحافظ حفظاً " قال ابن سينا: والحجامة تحت الذقن تنفع من وجع الأسنان، والوجه والحلقوم، وقال ابن القيم: الحجامة في أسفل الصدر نافعة من دمامل الفخذ، وجربه، وبثوره، ومن النقرس، والبواسير، ومن حكة الظهر. والحجامة على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس وأجزائه كالوجه، والأسنان، والأذنين والعينين والأنف، والحلق إذا كان حدوث ذلك عن كثرة الدم أو فساده. قال أنس رضي
__________
(1) والطبراني، وفيه عمر بن رباح العبدي وهو متروك كما قال الحافظ الهيثمي في " مجمع الزوائد " (5/94) . (ع) .(5/215)
الله عنه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحتجم في الأخدعين والكاهل. أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه، وابن ماجة وأحمد والحاكم، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحتجم ثلاثاً، واحدة على كاهله، واثنين على الأخدعين " ويقول الدكتور عادل الأزهرى في تعليقه على " الطب النبوي ": الحجامات على نوعين، حجامات جافة، وحجامات رطبة، وتختلف الرطبة عن الجافة بالتشريط قبل وضع الحجامات، وتستعمل الجافة إلى الآن لتخفيف الآلام في العضلات، خصوصاً عضلات الظهر نتيجة إصابتها بالروماتزم، أما الحجامة الرطبة فتستعمل في بعض حالات هبوط القلب المصحوبة بارتشاح في الرئتين. وتعمل على ظهر القفص الصدري. أما الفصد فيستعمل الآن في حالات هبوط القلب الشديد المصحوب بزرقة في الشفتين، وعسر شديد في النفس، ويعمل الفصد بواسطة إبرة واسعة القناة، تدخل في وريد ذراع المريض وهذه العملية البسيطة أنقذت حياة كثير من مرضى هبوط القلب في الحالات الأخيرة. اهـ. واختلف الأطباء في الحجامة على نقرة القفا، فكرهها صاحب القانون، ابن سينا، وقال إنها تورث النسيان حقاً، كما قال سيدنا وصاحب شريعتنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن مؤخرة الدماغ موضع الحفظ والحجامة تذهبه وقد روى عن ابن سيرين أنه إذا بلغ الرجل أربعين سنة لم يحتجم لانحلال قوى جسده، قال الحافظ: وهو محمول على من لم يتعين حاجته إليها. اهـ. ومما يؤيد ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " احتجم بعد هجرته إلى المدينة " وكان قد تجاوز الخمسين من عمره فضلاً عن الأربعين. الثالث من أنواع الأدوية الكي: وذلك كما قال ابن القيم: لأن كل واحد من الأمراض المادية إما أن يكون حاداً فلا يحتاج إليه، وإما أن يكون مزمناً، وأفضل علاجه بعد الاستفراغ الكي في الأعضاء التي يجوز فيها الكي ثانياًً: دل هذا الحديث على أن الكي مكروهٌ أو خلاف الأولى لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عنه في قوله: " وأنهى أمتي عن الكي " وأقل مقتضيات النهي الكراهة.
قال بعض أهل العلم: يكره الكي في حالتين: الأولى، أن يفعله من لا يحتاج(5/216)
970 - " بَابُ الْحِجَامَةِ عَلَى الرَّأسِ "
1118 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ في رَأسِهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إليه في الحال خوفاً من حدوث داء في المستقبل فهذا الذي قيل فيه: " لم يتوكل من اكتوى " لأنّه يريد أن يدفع القدر والقدر لا يدافع. الثانية: أن لا يتعين الكي طريقاً للشفاء، بل يوجد دواء آخر يغني عنه، ويقوم مقامه، فهو في هذه الحالة مكروه أيضاً لما فيه من تعذيب الجسم، وتشويه الصورة، سيما إذا كان في الوجه أو الرأس أو اليدين. أما إذا تعين الكي وأصبح ضرورة لا بد منها، فإنه يجوز في هذه الحالة دون أي كراهة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى أبي بن كعب طبيباً فقطع له عرقاً وكواه عليه (1) أخرجه مسلم، وابن ماجة وأحمد والحاكم، وفي الحديث: " أن رجلاً من الأنصار رمي في أكحله بمشقص، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فكوي " أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجة، والأولى تركه إذا لم يتعين، وعموم الجواز مأخوذ من نسبة الشفاء إليه، وفضل تركه - عند عدم تعينه - مأخوذ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وما أحب أن أكتوي " وأيضاً من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وأنهى أمتي عن الكي " والحاصل أن الكي جائز مباح بلا كراهة إذا تعين، ولم يوجد غيره يقوم مقامه ويغني عنه. الحديث: أخرجه أيضاً ابن ماجة. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
970 - " باب الحجامة على الرأس "
1118 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما في هذا الحديث " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم في رأسه " أي في وسط رأسه، كما جاء
__________
(1) " الطب النبوي ".(5/217)
971 - " بَابُ الْجُذَامَ "
1119 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا عَدْوَى ولا طِيَرةٌ ولا هَامَةٌ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في حديث عبد الله بن بحينة " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم بلحي جمل من طريق مكة وهو محرم في وسط رأسه " بفتح السين ويجوز تسكينها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من وسائل العلاج في الطب النبوي التداوي بالحجامة في الرأس خاصة، وفي رواية: " ما كان أحد يشتكي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعاً في رأسه إلاّ قال: احتجم " أخرجه أبو داود. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " احتجم في رأسه ".
971 - " باب الجذام "
1119 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا عدوى " ومعناه على أرجح الأقوال التي ذكرها الحافظ ابن حجر (1) : أنه لا صحة لما كانت الجاهلية تعتقده من أن الأمراض تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله تعالى، فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتقاد ذلك ليعلموا أن المرض إنما ينتقل من جسم لآخر بإذن الله ومشيئته، فإذا أراد الله المرض للجسم الآخر انتقل إليه الميكروب من ذلك المريض، وحدثت العدوى، وإلا فلا، لأن الله خلق في الجسم مناعة وأوجد فيه كريات الدم البيضاء وهي تشكل أسلحة مضادة للميكروبات، وتقضي عليها، فإذا أراد الله سلامة الجسم من الميكروبات الوافدة إليه المعبر عنها في الحديث بالعدوى، سلّط الله عليها كريات الدم البيضاء (2) فقضت عليها، وإذا أراد الله
__________
(1) " فتح الباري " للحافظ ابن حجر ج 10.
(2) وتسميتها بالبيضاء مجرد تسمية فقط، ولعل ذلك لتمييزها عن كريات الدم الحمراء، وإلا فهي عديمة اللون.(5/218)
وَلا صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأسَدِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إصابة الجسم بتلك الميكروبات المرضية ضعفت كريات الدم البيضاء عن مقاومتها، وتمكنت من الدخول إلى الجسم، وإصابته، فتحدث العدوى. " ولا طيرة " على وزن (عِنَبَة) بكَسر العين وفتح الياء. أي لا حقيقة للشؤم والنحس الذي كان العرب يعتقدونه في الجاهلية عندما تتوجه الطير شمالاً، وذلك أنهم كانوا إذا أرادوا عملاً أو سفراً زجروا الطير الذي يلاقونه، فإذا انصرف يميناً تفاءلوا، وإلا تشاءموا، ورجعوا عن ذلك العمل، اعتقاداً منهم أنّه شر، والمراد من الحديث نفي مطلق التشاؤم من أي شيء من الأشياء التي يتخيلها بعض الناس نحساً وشراً، كأن يسمع كلمة قبيحة فيكره الشيء الذي هو قادم عليه فينصرف عنه لمجرد وهم كاذب لا أساس له من الصحة. قال القاري: وقوله: " لا طيرة " نفي، معناه النهي، كقوله تعالى: (لا ريب فيه) أي لا تتشاءموا من شيء أبداً، وتعتقدوا فيه الشر والضرر لمجرد خيال كاذب لا أساس له من الصحة، فان ذلك لا يجوز ذرعاً ولا عقلاً.. " ولا هامة " بتخفيف الميم المفتوحة، ويقال له (البوم) وكانت العرب تزعم أن عظام الميت إذا بليت تصير هامة (1) ، وتخرج من القبر، وتتردد، وتأتي بأخبار أهله. وقال النووي: إن العرب كانت تتشاءم بها، وهي من طير الليل، وقيل هي البومة، كانت إذا سقطت على دار أحدهم يراها ناعية له نفسه، أو بعض أهله، وهو تفسير مالك بن أنس. اهـ. فأبطل الله تعالى كل هذه الاعتقادات، ونهانا عنها. " ولا صفر " قال أبو داوود في سننه، قال بقيةُ، سألت محمد بن راشد عنه قال: كانوا يتشاءمون بدخول صفر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا صفر " ومعناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاهم عن التشاؤم بشهر صفر، لأنه شهر عادي كسائر الشهور الأخرى، ولا حقيقة لما يعتقدونه
__________
(1) " المرقاة شرح المشكاة " للقاري.(5/219)
من الشر والنحس " وفر من المجذوم كما تفرُّ من الأسد " أي ابتعد عنه احتياطاً واحترازاً من العدوى، وطلباً للسلامة من الميكروب الذي قد ينتقل، إليك مصحوباً بذلك المرض الخبيث فإن الله قد ربط الأسباب بمسبباتها، وهو خالقها. وقد شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الميكروبات المرضية التي تنقل الجذام من المريض إلى السليم بالأسد لأنها تفترس الجسم الصحيح، وتقضي عليه كما يقضي الأسد على فريسته، ولعل هذا هو السر في تسمية هذا المرض الخطير بداء الأسد: قال ابن القيم: " الجذام علة رديئة (1) تحدث من انتشار المرة السوداء فتفسد مزاج الأعضاء وشكلها حتى تتآكل الأعضاء وتسقط، ويسمى داء الأسد، لكثرة ما يعتري الأسد، أو لأنه يفترس من يقربه ويدنو منه افتراس الأسد، ويشير إلى ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: " وفر من المجذوم فرارك من الأسد ". ويقول الدكتور عادل الأزهري: وخطورة هذا المرض (2) في إتلاف الأعصاب المتطرفة فيفقد المريض حساسية الأطراف أولاً، ثم تتساقط الأصابع تدريجياً، وهو من الأمراض المعدية التي تنتقل عدواها من النفس مع المخالطة الطويلة، ويعزل الآن جميع مرضى الجذام في مصحات خاصة لهم لمنع انتشار المرض. اهـ. ويتميّز عن (3) الأمراض المعدية ببطء ظهور أعراضه، وطول فترة الإصابة به، وطول مدة علاجه، وكان يظن أنه ورائي، ثم تبيّن بعد انكشاف ميكروبه أنه مرض ميكروبي معدٍ ينتقل بالملامسة والمعاشرة، والخلطة الطويلة، وتخرج الميكروبات من جلد المريض مع إفرازات الأنف والحنجرة (4) كما تنتقل العدوى عن طريق الملابس والفراش والأدوات، وتدخل إلى السليم عن طريق الجلد خصوصاً إذا كان به جروح، ثم تأخذ طريقها بواسطة الأوعية إلى الغدد اللمفاوية البلغمية
__________
(1) " الطب النبوي " لابن القيم.
(2) تعليقات الدكتور الأزهري على الطب النبوي لابن القيم.
(3) طبيبك معك لجماعة من كبار الأطباء في جامعات أوربا وأمريكا.
(4) كتاب طبيبك معك لجماعة من كبار العلماء والأطباء في جامعات أوربا وأمريكا.(5/220)
فتكمن هناك لمدة تختلف من بضعة أشهر إلى سنوات حتى إذا ما ضعفت مقاومة الجسم الطبيعية إثر مرض عارض كالحميات أو الأمراض التناسلية ينشط الميكروب بعد خموله، ويتكاثر مبتدئاً بالأعصاب أولاً، ثم الجلد ثم الأغشية المخاطية.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إثبات العدوى، ومعناها كما قال القاري: مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره. أي سريان المرض وانتقاله من المريض إلى الصحيح عن طريق انتقال الميكروب من جسم لآخر في الأمراض الجرثومية من الجذام والبرص والسل. قال ابن القيم: ومقارب (1) المجذوم وصاحب السل يسقم برائحته، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لكمال شفقته على الأمة، ونصحه لهم نهاهم عن الأسباب التي تعرضهم لوصول الفساد إلى أجسامهم وقلوبهم. اهـ. والنبي - صلى الله عليه وسلم - إذ يأمرنا بالفرار من المجذوم، فإنما يأمرنا بوجوب الحيطة وإبعاد السليم عن مواطن الخطر على ما جرت به العادة وقد وردت عنه - صلى الله عليه وسلم - كثير من الإرشادات الطبية التي يوجهنا فيها إلى الطب الوقائي ومن ذلك نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن دخول الأرض الموبوءة. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يوردن ممرض على مصح " إلى غير ذلك. ثانياً: أن العدوى في الحقيقة من الأسباب الظاهرة التي لا تؤثر بطبعها، فإنه قد يتخلف حدوث المرض مع المخالطة، كما يشاهد ذلك كثيراً، وهذا دليل على أن الميكروب لا يؤثر في السليم بنفسه ولا يتمكن من الدخول إلى جسمه وإصابته إلاّ بإذن الله وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا عدوى، أي لا تحدث العدوى، ولا يؤثر الميكروب المرضي إلاّ بإرادة العزيز القدير، ولو كان مؤثراً بطبعه لما تخلف أحياناً، قال ابن القيم: " ولا ريب أنّه قد يكون في البدن تهيؤ واستعداد (2) كامن لقبول الداء، وقد تكون الطبيعة سريعة الانتقال قابلة للاكتساب من أبدان من تجاوره وتخالطه، لأنها نقالة، وقد تصل
__________
(1) " الطب النبوي " لابن القيم.
(2) " الطب النبوي " لابن القيم.(5/221)
رائحة العليل إلى الصحيح فتسقمه، وهذا معاين في بعض الأمراض، فلا بد -في العدوى- من وجود استعداد البدن، وقبوله لذلك الداء، وإيضاح ذلك علمياً أن الله أودع في دم الإِنسان ما يسمى بالكرويات البيضاء - وهي على الحقيقة عديمة اللون، وجعل وظيفتها حماية الجسم من الميكروبات، ومحاربة أي ميكروب مرضي يحاول الدخول إلى الجسم البشري، فإذا وقعت الحرب بين الطرفين، وانتصرت الكرويات على الميكروب بمشيئة الله وإرادته لم تحدث العدوى وإن انتصر الميكروب عليها بإذن الله حدثت العدوى. والفاعل في كلتا الحالتين هو الله تعالى. قال في " فتح المجيد ": وأحسن ما قيل فيه قول البيهقي وتبعه ابن الصلاح وابن القيم وابن رجب وابن مفلح وغيرهم: أن قوله: " لا عدوى " على الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وأن هذه الأمور تعدي بطعها وإلّا فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من الأمراض سبباً لحدوث ذلك، ولهذا قال: " فر من المجذوم فرارك من الأسد " وقال: " لا يورد ممرض على مصح " وقال في الطاعون: " من سمع في أرض فلا يقدم عليه " وكل ذلك بتقدير الله. ثالثاً: مشروعية الطب الوقائي، واتخاذ أسباب السلامة من الجراثيم والميكروبات، والمحافظة على الصحة العامة، قال في " فتح المجيد " والعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا كان في عافية، فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء، أو في النار مما جرت العادة أنه يهلك أو يضر، فكذلك اجتناب مقاربة المريض، والقدوم على بلد الطاعون فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف، والله سبحانه هو خالق الأسباب ومسبباتها، لا خالق غيره، ولا مقدر غيره رابعاً: دل هذا الحديث على تحريم التشاؤم بجميع أنواعه وصوره، سواء كان تشاؤماً من المرئيات والمسموعات، كأن يرى الطير متوجهاً شمالاً، فيتشاءم من العمل الذي أقدم عليه، أو يسمع كلمة كريهة، فيترك الشيء الذي كان يريده، وهو التطير أو التشاؤم من مشاهدة بعض الطيور، ونزولها على بيته فيعتقد أنها نذير موته، أو موت أحد أقاربه، أو يتشاءم(5/222)
من بعض الشهور والليالي والأيام، وهو معنى قوله: " ولا صفر ". فإن التشاؤم بأي نوع من هذا أو غيره محرم شرعاً، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه، قال ابن القيم في قوله: " ولا طيرة " يحتمل أن يكون نفياً أو نهياً، أي لا تطيروا (1) ، ولكن قوله في الحديث: " لا عدوى ولا صفر ولا هامة " يدل على أن مراده النفي وإبطال هذه الأمور التي كانت في الجاهلية. قلت: والنفي هنا يتضمن معنى النهي وزيادة لأنه يكون معناه: لا تعتقدوا هذه الاعتقادات الوهمية، لأن هذه الأشياء التي تعتقدونها باطلة لا وجود. لها في الواقع، ولا أساس لها من الصحة، والواجب على العبد المسلم إذا أحسّ بأي انفعال تشاؤمي أو تخيّل وقوع شر بسبب هذه الأشياء الوهمية كنعيق الغراب، أو صوت البوم، أو نبح الكلاب، أن لا يستسلم لذلك الشعور وأن يستعيذ بالله من الشيطان حتى يصرفه عنه ولا يصده ذلك عن العمل الذي يريده كما روي عن معاوية بن الحكم أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ومنا أناس يتطيرون، قال: ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم (2) فقد أمرهم أن يأتوا الأعمال التي تشاءموا منها، ويفعلوها، ولا يمنعهم هذا الشعور عنها، وأرشدنا - صلى الله عليه وسلم - إلى بعض الأدعية المأثورة لمكافحة التشاؤم، فقد روي عن عروة بن عامر (3) قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطيرة، فقال: أصدقها الفأل، وإذا رأيتم من الطير: شيئاً تكرهونه فقولوا: " اللهم لا يأتي بالحسنات إلاّ أنت، ولا يذهب بالسيئات إلاّ أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله " (4) ، فإن في هذا الدعاء البلسم الشافي من التشاؤم. ويدخل في التشاؤم، التشاؤم ببعض الأشهر والليالي والأيام، ومن ذلك التشاؤم بيوم الأربعاء وبشهر
__________
(1) " فتح المجيد " للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ.
(2) " فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب.
(3) وهو كلي اختلف في نسبه فقال أحمد: عن عروة بن عامر القرشي، وقال غيره: الجهني، واختلف في صحبته، فقال الماوردي له صحبة، وذكره لابن حبان في ثقات التابعين، وقال المزي: لا صحبة له. (ع) .
(4) رواه أحمد وأبو داود، وهو مرسلاً ضعيف. (ع) .(5/223)
972 - " بَابُ ما يُذْكَرُ في الطَّاعُون "
1120 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ عُمَرَ خَرَجَ إلى الشَّامِ، فلما كَانَ بِسَرْغَ، بَلَغَهُ أنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بالشَّامِ، فأخْبَرَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شوال حيث كانوا يتشاءمون من النكاح فيه خاصة، وأمّا حديث يوم الأربعاء يوم نحس مستمر (1) فهو حديث ضعيف وحديث " آخر أربعاء من الشهر يوم نحس مستمر " فهو حديث موضوع كما قال ابن الجوزي وغيره. وأما النكاح في شوال فقد قالت عائشة رضي الله عنها: " تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبني بي في شوال، فأي نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أحظى عنده مني، وكانت عائشة تحب أن تدخل نساءها في شوال، وهذا خلاف ما كان عليه أهل الجاهلية. اهـ. الحديث: أخرجه أيضاً مسلم. والمطابقة: في قوله: " فر من المجذوم ".
972 - " باب ما يذكر في الطاعون "
وهو كما قال ابن سينا " مادة سامَّة تُحدث ورماً قتّالاً في المواضع الرخوة من البدن، وأغلب ما يكون تحت الإِبط، أو خلف الأذن، وعند الأرنبة (2) .
1120 - معنى الحديث: يحدثنا عبد الله بن عامر " أن عمر خرج إلى الشام " وذلك في ربيع الثاني سنة ثمان عشرة من الهجرة، وإنما خرج إليها يتفقد رعيته " فلما كان بِسرغ " بفتح السين وسكون الراء منصرفاً وغير منصرف، وهي قريبة في طريق الشام مما يلي الحجاز " بلغه أن الوباء " أي الطاعون " قد وقع بالشام " أي قد أصاب أهل الشام وانتشر فيهم " فأخبره عبد الرحمن بن عوف " بعد نقاش طويل دار بين عمر وبين من معه من الصحابة عندما أمرهم
__________
(1) التعليق على " فتح المجيد " للشيخ عبد القادر الأرنؤوط.
(2) شرح العيني على البخاري ج 21.(5/224)
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إذَا سَمِعْتُمْ به بِأَرْضٍ فلا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وِإذَا وَقَعَ بِأرضٍ وَأنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا فِراراً مِنْهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عمر بالعودة إلى المدينة فقال أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟ فقال له عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله. أرأيت لو كان لك إبل هبطت وادياً له عدوتان، إحداهما خصيبة، والأخرى جدبة، أليس إذا رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله، فجاء بن عوف فقال: إن عندي أني هذا علماً وأخبره " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا سمعتم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه " بفتح الدال، أي فلا تدخلوا تلك الأرض التي انتشر فيها ذلك الوباء وقاية لكم من الإِصابة بالعدوى، " وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه " أي فلا تنتقلوا منها إلى غيرها، وذلك لتطويق الوباء وحصره في البلاد التي وقع فيها، ومنع انتشاره وانتقال ميكروبه إلى البلاد الأخرى الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: خطورة الطاعون وكونه من الأمراض الخبيثة المعدية، وكان يسمى بالموت الأسود وتحصل الإصابة به بواسطة البرغوث حيث يتغذى من فأرٍ مصاب فيمتص دمه الملوث بالبكتيريا، فيلدغ الإِنسان ويقذف فيه من ذلك الدم فتنتشر البكتيريا في دمه ويصاب (1) بالطاعون. ثانياًً: إرشاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث إلى ما يسمّى في عصرنا هذا بالحجر الصحي حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " فلا تقدموا عليه " وقال: " فلا تخرجوا منها " فمنع من دخول الأصحاء إلى أرض الوباء، ومنع من انتقال المصابين إلى الأرض السليمة " منه لتطويق المرض وحصره في نطاق محدود حرصاً
__________
(1) من تعليقات الدكتور القلعجي على كتاب " الطب من الكتاب والسنة " لموفق الدين البغدادي المتوفي سنة 629. اهـ.(5/225)
1121 - عنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " الطَّاعُونُ شَهَادَة لِكُلِّ مُسْلِم ".
973 - " بَابُ الرُّقْيةِ مِنَ الْعَيْنِ "
1122 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
" أَمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُسْتَرْقَى مِنَ الْعَيْنِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على سلامة الآخرين، وقد روى أبو داود أن فروة بن مُسَيْك قال: يا رسول الله أرض عندنا هي أرض ريفنا وميرتنا وإنها وبيئة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعها عنك، فإن من القرف التلف (1) ، والقرف كما قال ابن قتيبة، مداناة الوباء والمرض، ومعناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منعه من دخولها، لأن في الاقتراب من الوباء ما يؤدي إلى العدوى بذلك المرض الخبيث الذي ربما كان سبباً في التلف والموت. والمطابقة: في قوله: " إذا سمعتم به -أي بالطاعون- بأرض فلا تقدموا عليها ".
1121 - معنى الحديث: يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الطاعون شهادة لكل مسلم " أي أن في الإصابة بالطاعون ثواب عظيم يضاهي ثواب الشهادة، وأجرها لكل من يصاب به من المسلمين إذا صبر واحتسب ومكث في بلده. الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على عظم أجر من ابتلي بالطاعون فصبر واحتسب ورضي بقضاء الله، ولم يخرج إلى بلد أخرى فله أجر الشهادة سواء مات به، أو سلم منه. والمطابقة: في قوله: " الطاعون شهادة ".
973 - " باب الرقية من العين "
1122 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: "أمر النبي
__________
(1) وإسناده ضعيف. (ع) .(5/226)
- صلى الله عليه وسلم - أن يسترقى من العين" أي أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نطلب الرقية ممن يعرفها لمعالجة العين من الرمد وسائر أمراض العين الأخرى، أو يكون المراد به النفس الخبيثة (1) ، والعين بهذا المعنى: قوة سميّة تنبعث من عين العائن فتصيب المعين بإذن الله، فتضره وتؤذيه، وقد تهلكه كما تنبعث من الأفعى تلك المادة السامة التي تهلك من أصابته.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن تأثير العين وإصابتها للمعين -بإذن الله تعالى- حق لا شك فيه، وسببها استحسان الناظر للشيء. ثانياًً: مشروعية رقية المصاب بالعين بالآيات والأذكار والأدعية المأثورة، ومن ذلك قراءة المعوّذات، وفاتحة الكتاب، وآية الكرسي، والتعاويذ النبوية يقول: " بسم الله، اللهم أذهب حرها وبردها ووصبها " أخرجه النسائي والحاكم في " المستدرك " والوصب بفتح الواو والصاد: دوام الوجع ولزومه، ثم يقول بعد هذه الرقية: قم بإذن الله. وإن كانت دابة نفث في منخرها الأيمن، وفي الأيسر ثلاثاً وقال: لا بأس أذهب الباس رب الناس، اشف أنت الشافي لا يكشف الضر إلاّ أنت. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه موقوفاً على ابن مسعود رضي الله عنه. ومن رأى شيئاً فاستحسنه، وخاف أن يصاب منه بالعين، وأراد أن يقيه من شر عينه فليدع له بالبركة، لحديث حزام بن حكيم بن حزام (2) قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خاف أن يصيب شيئاً بعينه قال: " اللهم بارك فيه ولا تضره " أخرجه ابن السني، أو فليقل: ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله، فقد روى أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أنعم الله على عبد نعمة من
__________
(1) التي تسمى بالنفس وقد رقى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه النفس الخبيثة بقوله: " بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك.. ".
(2) الذي في ابن السني: حزام بن حكيم بن حزام، وهو تابعي مجهول، فهو مرسل وفي الأذكار للنووي عن ابن السني: عن سعيد بن حكيم، وهو من صغار التابعين، ولم يثبت له لقي بأحد من الصحابة، فيكون على هذا معضلاً. (ع) .(5/227)
أهل أو مال أو ولد فيقول: ما شاء الله، لا قوة إلاّ بالله، فيرى فيه آفة دون الموت" أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي (1) ، وفي رواية عن أنس: " من رأى شيئاً فأعجبه فقال: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله لم يضره " أخرجه ابن السني (2) . والحاصل: أنه من خاف على نفسه قال: ما شاء الله، لا قوة إلاّ بالله، اللهم بارك " لي في كذا، ويذكر اسم الشيء الذي خاف عليه، وإن خاف على غيره قال: ما شاء الله، لا قوة إلاّ بالله، اللهم بارك له في كذا ويذكر اسم الشيء الذي يخاف عليه. ثالثاً: دل هذا الحديث على مشروعية رقية العين المريضة، لقولها رضي الله عنها: " أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نسترقي من العين " فإنه يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أمته برقية العين المصابة بالرمد، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال لامرأته زينب، وقد اشتكت عينها: " لو فعلت كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان خيراً لك تنضحين في عينك الماء ثم تقولين: أذهب الباس رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلاّ شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً " أخرجه أبو داود وابن ماجة والحاكم. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قولها رضي الله عنها: " أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نسترقي من العين ".
***
__________
(1) والبيهقي في " شعب الإيمان " والطبراني في الأوسط والصغير، قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (10/140) وفي سنده عبد الملك بن زوارة، وهو ضعيف. (ع) .
(2) ورواه أيضاً البزار والديلمي من رواية ابن بكر الهندلي وهو ضعيف جداً، كما قال الحافظ الهيثمي في " مجمع الزوائد " (5/109) قال بعض السلف: من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده فليقل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، كما جاء ذلك في كتاب الله تعالى (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إِلا بالله) . (ع) .(5/228)
974- " بَابُ رُقْيةِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ "
1123 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
" رَخَّصَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الرُّقْيَةَ من كُلِّ ذِي حُمَةٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
974 - " باب رقية الحية والعقرب "
1123 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها " رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - " يعني أذن لأمته " الرقية من كل ذي حُمَة " بضم الحاء وفتح الميم المخففة، أي أذن - صلى الله عليه وسلم - لأمته في معالجة لدغة الحية والعقرب وغيرهما من الحشرات السامة بالرقية الشرعية المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز رقية الملدوغ بالعقرب أو الحية بالرُّقية المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي أن يقرأ عليه الفاتحة، وينفث عليه كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ثم إن الرقية من العقرب والحية وغيرها من ذوات السموم نوعان: علاجية تنفع من الداء بعد حصوله كالفاتحة مثلاً وكالمعوذات (1) ، ووقائية: تحفظ صاحبها من الإصابة بهذه الحشرات السامة كما في حديث أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة، فقال: " أما لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضرك " أخرجه مسلم وأحمد. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - رخص في الرقية من كل ذي حُمَة - أي من كل حية وعقرب.
***
__________
(1) بأن يضع مكان اللدغة في ماء وملح، ويقرأ المعوذات كما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخرجه ابن أبي شيبة والطبراني والبيهقي.(5/229)
975 - "بَابُ رُقْيةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -"
1124 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ لِلمَرِيضِ: " بِسْمِ اللهِ تربَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا، بإِذْنِ رَبِّنَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
975 - " باب رقية النبي - صلى الله عليه وسلم - "
1124 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول للمريض: بسم الله إلخ " أي كان - صلى الله عليه وسلم - يأخذ من ريقه على السبابة، ثم يضعها على التراب، فَيَعْلَق بها شيء منه، فيمسح به الموضع العليل، أو الجريح قائلاً: بسم الله تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يُشفي سقيمنا، بإذن ربنا " " تربة أرضنا " خبر مبتدأ محذوف تقديره هذه تربة أرضنا " بريقة بعضنا " أي فيها أو عليها شيء من ريقنا المقترن باسم الله تعالى " يشفي سقيمنا بإذن ربنا " أي يشفي مريضنا بهذه الرقية المباركة بإذن الله ومشيئته.
فقه الحديث: قال القرطبي: في الحديث دليل على جواز الرقية من كل الآلام، ووضع النبي - صلى الله عليه وسلم - سبابته بالأرض، يدل على استحباب ذلك عند الرقية، فلعله لخاصية في ذلك. قال ابن القيم رحمه الله: وهل المراد بقوله " تربة أرضنا " جميع الأرض أو أرض المدينة خاصة، فيه قولان، قال ابن القيم: " ولا ريب أن من التربة ما يكون فيه خاصية ينتفع بخاصيته من أدواء كثيرة، وإذا كان هذا في هذه التربات فما الظن بأطيب تربة على وجه الأرض وأبركها، وقد خالطت ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واقترنت باسم ربه، وتفويض الأمر إليه، اهـ كما في " الطب النبوي ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه. والمطابقة: في كون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرقي المريض بهذه الرقية والله أعلم.(5/230)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب اللِّباس "
وهو من النعم التي أنعم الله بها على عباده فقال تعالى (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) . وأما حكمه فمنه ما هو واجب، ومنه ما هو مندوب، ومنه ما هو حرام، ومنه ما هو مكروه، ومنه ما هو مباح. فالواجب: كما قال ابن جُزَيّ ما يستر العورة، ويقي الحر والبرد، ويستدفع به الضرر في الحرب وغيرها. فعن حكيم بن حزام عن أبيه قال: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر، قال: " احفظ عورتك إلَّا من زوجتك " فتهلت فإن كنت خالياً؟ قال: " فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه " قال ابن قدامة: ويكفي ثوب واحد، وبعضه على عاتقه. والمندوب كالرداء في الصلاة، والتجمل بالثياب في الجمعة والعيدين. والحرام كما قال ابن قدامة نوعان: أحدهما: ما يحرم على الرجال والنساء معاً، وهو النجس والمغصوب وما هو من ألبسة المشركين خاصة حتى صارت سمة لهم كالبُرْنَيْطَة (1) وهل تصح الصلاة في المغصوب على روايتين إحداهما لا تصح، والثانية تصح، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، لأن التحريم لا يخص الصلاة، وثانيهما: ما يحرم على الرجال خاصة، وهو الحرير والمنسوج بالذهب والمموّه به، وهو حرام لبسه عليهم وافتراشه في الصلاة وغيرها. قال ابن عبد البر: هذا إجماع، وكذلك يحرم على الرجال لبس ثياب تشبه ثياب النساء، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، ولعن المتشبهات من النساء بالرجال ". والمكروه كما قال ابن جزيّ: هو التلثم وتغطية الأنف في الصلاة
__________
(1) لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " خالفوا اليهود والنصارى " وقوله - صلى الله عليه وسلم - " من تشبه بقوم فهو منهم ".(5/231)
976 - " بَابُ مَا أسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ فَهُو في النَّارِ "
1125 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " ما أسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفي النَّارِ ".
977 - " بَابُ الثيابِ البِيضِ "
1126 - عَنْ سَعْدِ بْنِ أبي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولباس زى الأعاجم ولباس ما فيه شهرة كلباس الصوف - أي الصوف الخشن. والمباح ما عدا ذلك.
976 - " باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار "
1125 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحذر أمته من تطويل الثياب تفاخراً فيقول " ما أسفل من الكعبين ففي النار " أي كل ما طال من الثياب حتى تجاوز الكعبين تفاخراً فصاحبه في نار جهنم يوم القيامة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم إسبال الإزار وإطالته حتى يتجاوز الكعبين تكبراً ومباهاة، لأن هذا الوعيد الشديد بالنار يدل على أنه معصية محرمة، أما إذا كان الإِسبال لغير التكبر والمباهاة، فلا يدخل في هذا الوعيد، لما روي عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لست ممن يصنعه خيلاء " أخرجه البخاري. الحديث: أخرجه النسائي أيضاً. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
977 - " باب الثياب البيض "
1126 - معنى الحديث: يحدثنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في(5/232)
" رَأيْتُ بِشِمَالِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَيَمِينِهِ رَجُلَيْنِ، عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ يَوْمَ أُحُدٍ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلا بَعْدُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حديثه هذا، أنه رأي يوم أحد عن يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - ويساره رجلين عليهما ثياب بيض، لم يسبق له أن رآهما قبل ذلك اليوم، ولم يرهما بعد ذلك اليوم، قال بعض أهل العلم: هما جبريل وميكائيل، ولبسا الثياب البيض لأنّها أحب الثياب إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم -.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب لبس الثياب البيض لكونها من سنته، ومن أحب الثياب إلي نفسه الشريفة، حتى أن الملكين جبريل وميكائيل ارتديا الثياب البيضاء يوم أُحُد لعلمهما أن أحب الألوان إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - البياض، وفي رواية: " البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفّنوا فيها موتاكم " أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم أيضاً، قالوا: وإنما رغب النبي - صلى الله عليه وسلم - في لبس الثياب البيضاء أو البيض ووصفها بأنّها " أطيب " لدلالتها غالباً على التواضع، وعدم (1) الكبر والخيلاء والعجب. أما سبب كونها " أطهر " فلأنها كما قال العيني: أكثر تأثراً من الثياب الملونة، فتغسل أكثر من غيرها، وتَطْهُر أكثر من سواها، وقد تقع في الثياب المصبوغة نجاسة فلا تُرى، أما الثياب البيض فإنها تكشف ما عليها، وفي البياض إشعار بطهارة الباطن من الغش والحقد والعداوة والبغضاء وسائر الأخلاق الذميمة الدنيئة. وفيها تذكير للحي بثوبه الأخير الذي يخرج به من الدنيا، والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان.
والمطابقة: في كون الحديث يدل على أن الملكين لبسا الثياب البيض لمحبته - صلى الله عليه وسلم - لها.
__________
(1) " المرقاة شرح المشكاة " للقاري.(5/233)
978 - " بَابُ لُبْسِ الْحَرِير وَافْتِرَاشِهِ لِلرِّجَالِ "
1127 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ لَبِسَ الحَرِيرَ في الدُّنيا فَلَنْ يَلْبَسَهُ في الآخِرَةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
978 - " باب لبس الحرير وافتراشه للرجال "
1127 - معنى الحديث: أن من لبس الحرير الخالص في الدنيا لغير عذر حُرِم منه يوم القيامة، إما لحرمانه من الجنة، إن كان مستحِلاً لذلك، أو لأنه يدخل الجنة، ولكنه يحرم منه فيها، وقال الحافظ السيوطي: تأويل الأكثرين هو أنه لا يدخل الجنة مع السابقين الفائزين، ويؤيده ما رواه أحمد عن جويرية: " من لبس الحرير في الدنيا ألبسه الله يوم القيامة ثوباً من نار " (1) .
فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم لبس الحرير الخالص للرجال لغير عذر شرعي من جرب أو نحوه، وهو مذهب الجمهور، وكذلك يحرم افتراشه عندهم، وقال أبو حنيفة: لا بأس بافتراش الحرير والديباج والنوم عليهما، وكذا الوسائد والبسط والستور من الديباج والحرير إذا لم يكن فيها تماثيل. وقال أبو يوسف ومحمد: جميع ذلك لا يجوز، والدليل على تحريم افتراش الحرير والديباج حديث حذيفة رضي الله عنه قال: " نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشرب في آنية الفضة والذهب، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه " متفق عليه، فالنهي في الحديث محمول على التحريم عند الجمهور، وعلى التنزيه (2) عند أبي حنيفة وهو مذهب بعض الشافعية وابن الماجشون من
__________
(1) وإسناده ضعيف.
(2) " المرقاة شرح المشكاة " للقاري ج 4.(5/234)
979 - " بَابُ تقْلِيمِ الأظْفَارِ "
1128 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مِنَ الفِطرةِ حَلْقُ الْعَانَةِ، وتَقْلِيمُ الأظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المالكية، وخطاب الذكور لا يتناول المؤنث على الراجح، والقول بمنع افتراش الحرير للنساء هو قول بعض الشافعية. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: قال العيني: مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لأنّه يوضحها.
979 - " باب تقليم الأظفار "
1128 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرغبنا في بعض الأعمال التي تتعلق بالنظافة البدنية، والتي لا تتحقق إلَّا بها، فيقول: " من الفطرة " أي من سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وسنن الأنبياء من قبله " حلق العانة " (1) أي إزالة الشعر الذي فوق الذكر وحواليه والشعر الذي حوالي فرج المرأة، " وتقليم الأظفار " أي إزالة ما طال وتجاوز رؤوس الأصابع، " وقص الشارب " أي والسنة الثالثة " قص الشارب " قال الحافظ، والمراد به ها هنا قطع الشعر النابت على الشفة العليا من غير استئصال، وقد رواه أبو هريرة بلفظ " تقصير الشارب " وهذا يدل على أن المطلوب هو القص منه حتى يقصر لا إِزالته بالكلية. اهـ.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يسن حلق العانة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - ذكره في هذا الحديث ضمن سنن الفطرة، قال ابن العربي: وشعر العانة أولى الشعر بالإِزالة، لأنه يكثف ويتلبد فيه الوسخ، بخلاف شعر الإِبط، قال: وأما حلق ما حول الدبر فلا يشرع، وكذا قال الفاكهي في "شرح
__________
(1) قال الأزهري: العانة هي منبت الشعر والشعر نفسه.(5/235)
العمدة" وقال أبو شامة: ويستحب إماطة الشعر عن القبل والدبر، بل هو من الدبر أولى خوفاً من أن يعلق بشيء من الغائط، فلا يزيله المستنجى إلَّا بالماء. قال النووي: وذكر الحلق لكونه هو الأغلب، وإلَّا فيجوز الإِزالة بالنورة والنتف وغيرهما، وقال ابن دقيق العيد: والأولى في العانة الحلق، بخلاف الإِبط، فإنه بالعكس. ثانياًً: أنه يسن تقليم الأظافر، وذلك لأنّ الوسخ يجتمع تحتها فيستقذر، وقد ينتهي إلى حد يمنع وصول الماء إلى ما يجب غسله في الطهارة، قال الحافظ: ولم يثبت في ترتيب الأصابع عند القص شيء من الأحاديث، قال النفراوي في شرح " الرسالة ": قص الأظفار سنة للرجل والمرأة إلَّا في زمن الإِحرام، وأفضل زمن قصها الجمعة لطلبه كل يوم جمعة، ويكون بالمقص أو بالسكين لكراهته بالأسنان، ولأنه يورث المرض، ولا يتعين إصبع للبداءة به، كما لا يتعين زمن القص فيه. ثالثاً: أنه يسن قص الشارب، وفيه دليل لما ذهب إليه مالك رحمه الله من أن المسنون هو قصهُ لا حلقهُ، ولا إزالته بالكلية، قال في " الرسالة ": ومن الفطرة خمسٌ، قص الشارب، وهو طرف الشعر المستدير على الشَّفة لا إحفاؤه، يعني أن المستحب هو قص طرف الشعر النازل على الشفة، لا جز الشارب واستئصاله. قال يحيى في " الموطأ ": سمعت مالكاً يقول: يؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة، وهو الإِطار، ولا يجزّه فيمثل بنفسه، وقال أبو حنيفة (1) " وأحمد: هو السنة التمسك برواية: " أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى " وأخذ مالك بخبر قُصّوا الشوارب، وجمع بعض العلماء بين الخبرين بأن يقص من أعلاه، ويحلق من طرفه للجمع بين الحديثين المتعارضين، وكان أبو حنيفة وأصحابه يقولون: الإِحفاء أفضل من التقصير، وقال أشهب: سألت مالكاً عمّن يحفي شاربه، فقال: أرى أن يوجع ضرباً، ومعنى الحف الذي ينكره مالك رحمه الله، أن يستأصل الشعر، ويحلق، ويجز
__________
(1) شرح النفراوي على الرسالة ج 2.(5/236)
حتى يبلغ الجلد، ويرى ما إك أن المستحبَّ هو أن يقص طرف الشعر المستدير على الشفة العليا، أما الحلق، فإنه مُثْلَةٌ لا تجوز، والحاصل أنه اختلف الفقهاء فيما يسن في الشارب، هل هو التقصير أو الحلق والإحفاء؟ فذهب مالك إلى الأول عملاً بحديث الباب، وبه فسر بقية الأحاديث الأخرى. وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أن السنة هي حلق، الشارب وإحفاؤه كما تقدم، قال ابن القيم في " زاد المعاد ": أما الإمام أحمد فقال الأثرم: رأيت الإِمام أحمد بن حنبل يحفي شاربه شديداً، وسمعته يسأل عن السنة في إحفاء الشارب فقال: يحفي كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " أحفوا الشوارب "، قال حنبل: قيل لأبي عبد الله: ترى الرجل يأخذ من شاربه أو يحفيه؟ أم كيف يأخذه؟ قال: إِن أحفاه فلا بأس، وإن أخذه قصاً فلا بأس. اهـ. أما الشافعي رحمه الله فقد قال النووي: المختار في الشارب أن يقصه حتى يبدو طرف الشفة، ولا يحفه من أصله، وصرح في " شرح المهذب " أن هذا مذهبنا، وقال الطحاوي: لم أر عن الشافعي في ذلك شيئاً منصوصاً، وأصحابه الذين رأيناهم كالمزني والربيع كانوا يحفون، وما أظنهم أخذوا ذلك إلَّا عنه. اهـ. تتمة وتكملة: اقتصر في هذا الحديث على هذه السنن الثلاث، وزاد في رواية أبي هريرة خصلتين أخريين: أولاهما: نتف الإبط (بكسر الهمزة والموحدة وسكونها وهو المشهور) ، قال الحافظ ويتأدى أَصل السنة بالحلق، لا سيما لمن يؤلمه النتف، ويستحب البداية باليد اليمنى وهو سنة للرجال والنساء، والنتف أحسن من الحلق. وثانيهما الختان: قال ابن أبي زيد في " الرسالة ": والختان للرجال سنة، يعني سنة مؤكدة في حق الصغير والكبير، قال النفراوي: والزمن المستحب فعله فيه عند أمره بالصلاة ويكره ختنه يوم السابع، وروى ابن حبيب، عدم جواز إمامة وشهادة تاركه عمداً أو اختياراً، وإذا أسلم شيخ كبيرٌ سُنَّ ختنه إلَّا أنْ يَكون يحصل له ضرر، فيرخص له تركه، وقال الباجي: الاختتان عند مالك وأبي حنيفة من السنن كقص الأظفار، وحلق العانة، وقال الشافعي: هو واجب، وهو مقتضى قول سحنون، واستدل(5/237)
980 - " بَابُ مَنْ لَمْ يَرُدَّ الطِّيبَ "
1129 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يَرُدُّ الطِّيبَ ".
981 - "بَابُ عَذَابِ المُصَوِّرِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ "
1130 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القاضي أبو محمد على نفي وجوبه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرنه بقص الشارب، ولا خلاف أن هذه ليست بواجبة، والله أعلم. الحديث: أخرجه الخمسة. والطابقة: في قوله: " تقليم الأظفار ".
980 - " باب من لم يرد الطيب "
1129 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل الطيب الذي يهدى إليه ليُسْره، وقلة مؤونته على صاحبه، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحب الطيب، وكل الروائح العطرية.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من السنة قبول الطيب، وعدم رده على صاحبه، لأنه من الأشياء المفضلة المحببة إلى نفس النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرده، فيستحب الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، عملاً بحديث الباب. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من عرض عليه طيب فلا يرده، فإنه طيب الريح خفيف المحمل " أخرجه أبو داود والنسائي. الحديث: أخرجه الشيخان وابن حبان. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث.
981 - " باب عذاب المصورين يوم القيامة "
1130 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن أشد الناس عذاباً(5/238)
سَمِعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ أشَدَّ النَّاس عَذَاباً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عند الله" أي في حكم الله تعالى " يوم القيامة المصورون " والمعنى: أن هؤلاء الذين يصنعون الصور لذوات الأرواح من الإنسان والحيوانات هم من أشد الناس عذاباً يوم القيامة سواء كانت من التماثيل المجسّمة أو كانت رسماً باليد على الورق أو القماش والخشب، أو كانت صورة فوتوغرافية لعموم الحديث. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: كما قال العيني ظاهرة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن تصوير صورة الحيوان حرام أشد التحريم، وأنه من كبائر الذنواب، سواء كان تصويراً مجسماً أو رسماً على الورق والقماش أو صورة فتوغرافية، لعموم الحديث. لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والله أعلم.
***(5/239)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتابُ الأدَبِ "
982 - " بَابُ مَنْ أحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ "
1131 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
جَاءَ رَجُل إلى رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهَ مَنْ أحَقُّ النَّاسِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" كتاب الأَدَبِ "
الأدب نوعان: أدب فني، وأدب نفسي؛ فالأدب الفني أو الدراسي هو الأخذ من كل فن بطرف أو الإِجادة في فني النظم والنثر. والأدب النفسي الأخلاقي هو الأخذ بالسلوك الفاضل، والالتزام بمكارم الأخلاق، واجتناب مساوئها وفق تعاليم الشريعة الإِسلامية، فإن المقصود بقوله "
كتاب الأدب " الأخذ بكل ما يتلاءم مع السلوك الحسن من الأقوال والأفعال حسب تعاليم الشريعة، سواء في ذلك ما يتعلق بمعاملة الأبوين والأقارب والأطفال والجيران والخدم والأصدقاء والإِخوان، أو بمحاسن الأفعال من الإِحسان إلى الناس، والشفاعة لهم، وحفظ اللسان، والنصيحة لهم، والصدقة على فقرائهم، وتشميت العاطس، أو يتعلق بالصفات الحميدة، كالرحمة، والرفق، والصدق، والحلم، والحياء، والتواضع، والصبر، ولين الجانب، وضبط النفس عند الغضب، إلى غير ذلك من الآداب، وفي صحيح البخاري نماذج عليا لأخلاقيات الإِسلام وآداب السلوك في شريعة نبيّنا عليه الصلاة والسلام.
982 - " باب من أحق الناس بحسن الصحبة "
1131 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه "جاء رجل(5/240)
بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: " أمُّكَ " قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " أمُّكَ " قَال: ثُمَ مَنْ؟ قَالَ: " أمُّكَ " قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " ثُمَّ أبوكَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" ويحتمل أن يكون هذا الرجل هو معاوية بن حيدة لما جاء في حديث يحيى بن سعيد عن بهز بن حكيم قال: حدثني أبي عن جدّي - يعني معاوية بن حيدة قال: قلت: يا رسول الله من أبَرُّ؟ قال: أمك، إلخ الحديث، والمعنى واحد، إلَّا أنه قال هنا: " فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ " أي منْ أولى الناس بالإحسان إليه والبر به في مصاحبتي له " قال: أمك " أي أولى الناس بحسن المعاملة وطيب المعاشرة الأم " قال: ثم من؟ قال: أمُّك، قال: ثم مَنْ؟ قَال: أمُّك " وهكذا أوصاه بالأم وأكد حقها في حسن المعاملة ثلاث مرات بياناً لفضلها على سائر الأقارب دون استثناء " قال: ثم من؟ قال: أبوك " فكرر حق الأم ثلالاً، وذكر حق الأب مرة واحدة. الحديث: أخرجه الشيخان وابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من أعظم الحقوق الاجتماعية بِرُّ الوالدين، فإنه يأتي في المرتبة الثانية بعد الإيمان بالله تعالى، ولهذا جمع الله تعالى بين الأمر بالتوحيد وبر الوالدين، في آية واحدة، فقال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) لأن الله هو السبب الحقيقي لوجود الإنسان، والأبوان هما السبب الظاهري لوجوده، لكن حق الأم أعظم من حق الأب كثيراً، لكثرة أفضالها على ولدها، وكثرة ما تحملته من المتاعب الجسمية والنفسية أثناء حملها به، ووضعها وإرضاعها له، وخدمتها وشفقتها عليه كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) لهذا كرر النبي - صلى الله عليه وسلم - الوصية بها ثلاث مرات، وذكر حق الأب مرة واحدة، لأن الجزاء من جنس العمل، فالتثليث في مقابلة ثلاثة(5/241)
983 - " بَابٌ لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمكافِىء "
1132 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَيْسَ الوَاصِلُ بِالمُكَافِىء، وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلهَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أشياء مختصة بالأم، وهي تعب الحمل، والوضع، والرضاع. والمطابقة: في كون الحديث جواباً للترجمة.
983 - " باب ليس الواصل بالمكافىء "
1132 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " ليس الواصل بالمكافىء " أي ليس الإِنسان الكامل في صلة الرحم والإِحسان إلى الأقارب هو الشخص الذي يقابل الإِحسان بالإِحسان " ولكن الواصل " أي ولكن الإِنسان الكامل في صلة الرحم هو " الذي إذا قطعت رحمه وصلها " أي إذا أساء إليه أقاربه أحسن إليهم ووصلهم.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من الآداب الشرعية، والحقوق الاجتماعية التي فرضها الإِسلام صلة الرحم، وهم الأقارب الذين بينك وبينهم نسب، ومعنى صلتهم، الإِحسان إليهم بكل ما تقدر عليه من وجوه الإِحسان، قال ابن أبي جمرة (1) : تكون صلة الرحم بالمال، والعون على الحاجة، ورفع الضرر، وطلاقة الوجه والدعاء لهم، والمعنى الجامع إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة، وقد أكد الإِسلام كثيراً على صلة الرحم، ففي الحديث عن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قال الله تبارك وتعالى: أنا الله، وأنا الرحمن، خلقت
__________
(1) " تحفة الأحوذي " ج 6.(5/242)
984 - " بَاب رُحْمَةِ الوَلَدِ وَتقْبِيلهِ وَمُعَانقَتِهِ "
1133 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
جَاءَ أَعْرَابِيٌ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَتُقَبِّلُونَ الصبيَانَ! فما نُقَبِّلُهُمْ؟ فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أو أمِلكُ لَكَ إِنْ نَزَعَ اللهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتتُّه" أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. والمعنى كما قال الحافظ (1) : " أن الرحم أثر من آثار الرحمة، مشتبكة بها، فالقاطع لها منقطع من رحمة الله، والله أعلم. ثانياً: دل هذا الحديث على أن الصلة إذا كانت نظير مكافأة من الطرف الآخر لا تكون صلة كامل، لأنها من باب تبادل المنافع، وهذا مما يستوي فيه الأقارب والأباعد. ثالثاً: أنه يستحب في معاملة الأقارب مقابلة الإِساءة بالإحسان، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إنّ في قرابة أَصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ، فقال: " لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفُّهم الملُّ، ولن يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك " أخرجه مسلم، والمل: الرماد الحار. الحديث: أخرجه أبو داود والترمذي. والمطابقة: كون الترجمة من لفظ الحديث.
984 - " باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته "
1133 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها " جاء أعرابي " قال العيني: ويحتمل أن يكون هو عيينة بن حصن " فقال: أتقبلون الصبيان؟ " الهمزة للاستفهام الإِنكاري أو التعجبي، ومعنى ذلك أنه عجب
__________
(1) " فتح الباري " ج 10.(5/243)
985 - " بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ النَّمِيمَةِ "
1134 - عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لا يدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
واستغرب من تقبيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لأطفالهم " فما نقبلهم " لأنّهم يتكبرون ويتعاظمون ويحتقرون الصبيان. وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال " من لا يرحم لا يُرحَم " " أوَ أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة " أي ماذا أصنع إذا كان الله قد نزع من قلبك عاطفة الرحمة؟ فهل أملك أن أعيدها إليك؟.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية معانقة الأطفال وتقبيلهم، وكونه سنة مستحبّة. الحديث: أخرجه الشيخان وأحمد وابن ماجه. والمطابقة: في كونه يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل أولاده (1) .
985 - " باب ما يُكره من النميمة "
1134 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يدخل الجنة قتات " على وزن فَعّال بالتشديد، من قتّ الحديث يقتّه قتّاً: إذا تسمّع إلى حديث شخص فنقله إلى غيره بقصد الإِفساد بينهما، وفي رواية: " لا يدخل الجنة نمام " وقيل النمام: الذي يكون مع القوم يتحدثون فينم عليهم، وينقل حديثهم إلى غيرهم، والقتات الذي يتسمع على القوم وهم لا يعملون ثم ينم " (2) والمعنى: لا يدخل الجنة شخص نمّام ينقل الحديث من شخص إلى شخص، أو من جماعة إلى أخرى بقصد الإِفساد، وغرس بذور العداوة والبغضاء
__________
(1) أي في كون الحديث يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل أولاده الحسن والحسين.
(2) نقله الخطابي عن ابن بطال.(5/244)
في النفوس، فمن فعل ذلك مستحلاً لما يفعله فقد حرّم الله عليه الجنة، ومن فعله وهو يعلم أنه حرام تحت تأثير نزعة شيطانية فهو فاسق عاص، لا يدخل الجنة حتى يعاقب على جريمته هذه بالنار، إلاّ أن يعفو الله عنه، أو يتوب من جريمته.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن النميمة كبيرة من الكبائر، لأن هذا الوعيد الشديد لا يترتب إلَّا على ارتكاب كبيرة، وذلك لأن " النميمة " ظاهرة عدوانية خطيرة تفكك المجتمع، وتقطع العلاقات وهي وليدة الحقد والحسد، ولهذا كان النمّام بغيضاً إلى نفوس العقلاء منبوذاً عندهم، لا يرتاحون إليه، وقد روي أن بعض الفضلاء زاره أحد هؤلاء، ونقل إليه من غيره ما شاء من حديث، فقال: بئس ما صنعت، أتيتني بثلاث جنايات، بغضت إليَّ أخي، وشغلت قلبي، واتَّهمت نفسك، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يبلِّغني أحد من أصحابي عن أحد شيئاً، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر " أخرجه أبو داود (1) . وقد وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - النمامين بأنهم شرار الخلق، فقال - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عبد الرحمن ابن غنم: " خيار عباد الله الذين إذا رأوا ذكر الله، وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة (2) ، المفرقون بين الأحبة " أخرجه أحمد (3) . ثانياًً: أن نقل الحديث إذا ترتب عليه مصلحة شرعية للمنقول إليه كإنقاذه من قاتل، أو لص، أو غير ذلك، أو كان فيه مصلحة للمسلمين، فإنه يكون مستحبّاً، أو واجباً على حسب ما يقتضيه الحال، ولهذا قال البخاري في الترجمة: " باب ما يكره من النميمة " فأتى بكلمة من التبعيضية ليشير بذلك إلى أن المُحرَّم هو بعض النميمة
__________
(1) والترمذي وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه. (ع) .
(2) " المرقاة شرح المشكاة " ج 4.
(3) وإسناده ضعيف. (ع) .(5/245)
986 - " بَابُ مَا يَكْرَهُ مِنَ التَّمَادُحِ "
1135 - عَنْ أبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَجُلاً ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأثْنَى عَلَيْهِ رَجُل خَيْراً، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ -يقُولُ مِرَاراً- إنْ كَانَ أحدُكُمْ مَادِحاً لا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أَحسَبُ كَذَا وكَذَا، إِنْ كَانَ يُرَى أنَّهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا كلها، فالكافر المعادي للمسلمين يستحب نقل حديثه إليهم ليأخذوا حذرهم منه، مع أن في ذلك إضراراً به، وإفساداً لتدبيره. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث يدل على أن النمام لا يدخل الجنة، وهذ يقتضي تحريم النميمة.
986 - " باب ما يكره من التمادح "
1135 - معنى الحديث: يحدثنا أبو بكرة في حديثه هذا " أن رجلاً ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي أن رجلاً ذكرت سيرته عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عبد الله ذو البِجادَين كما قال: الحافظ " فأثنى عليه رجل خيراً " أي فمدحه رجل من الصحابة، وبالغ في مدحه، والمادح هو محجن بن الأدرع الأسلمي " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ويحك " وهي كلمة ترحم وتوجع لمن وقع في مهلكة لا يستحقها " قطعت عنق صاحبك " أي آذيته في دينه وخلقه، لأنه إذا علم بمدحك هذا داخله الغرور، وأعجب بنفسه، فهلك لا محالة، كما جاء مصرحاً به في رواية أخرى عن محجن بن الأدرع قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي، فدخل المسجد، فإذا رجل يصلي فقال لي: من هذا؟ فأثنيْتُ عليه خيراً، فقال: " اسكت لا تسمعه فتهلكه " " إذا كان أحدكم مادحاً لا محالة " بفتح الميم أي إذا كان لا بد مادحاً لحاجة تدعو إلى ذلك كالاستشارة أو التزكية "فليقل أحْسب كذا(5/246)
كَذَلِك، وَحَسِيبُهُ اللهُ، وَلاْ يُزَكِّي عَلَى اللهِ أحداً".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو كذا" أي أظن أن فيه صفة كذا من صفات الخير " إن كان يرى أنه كذلك " أي إن كان يعتقد أن تلك الصفة موجودة فيه " وحسيبه الله " أي والله وحده المطلع على سريرته العالم بحقيقته، " ولا يزكي على الله أحداً " أي لا يقطع لأحد بكمال الإِيمان أو بالسعادة والجنة إلَّا الذين شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يكره المبالغة في المدح والثناء، لأن ذلك ضرب، من التملق الذي لا يقره الإسلام، سيما إذا كانت هذه الصفة لا توجد في الممدوح، فإنه بذلك يجمع بين التملق والكذب معاً. وكذلك يكره المدح مطلقاً إذا كان يخشى على الممدوح أن يركبه الغرور والإعجاب بنفسه، أما المديح بالباطل فإنه حرام ومعصية، كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - " إن كان يرى أول كذلك " مفهومه أنه إذا لم يكن كذلك، فإنه لا يجوز، لأنه كذب وملق ونفاق، وقدا جاء التحذير الشديد من المداحين بالباطل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أُحثوا في وجوه المدَّاحين التراب " قال بعض أهل العلم: معناه زجر المادح، ومنعه عن (1) الاسترسال في مديحه، لأن سماع مثل هذا يدفع الممدوح إلى الكِبْرِ والغرور (2) وقال الخطابي: المداحون هم الذين اتخذوا مدح الناس عادة لهم، وجعلوه بضاعة يستأكلون به الممدوح. ثانياًً: دل الحديث على جواز المدح بثلاثة شروط: الأول: أن يكون المادح صادقاً فيما يقول في ممدوحه حسب اعتقاده (3) ، كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - " إن كان يرى أنه كذلك "، الثاني: أن لا يخشى على الممدوح أن يغتر بذلك المديح، فتتغير نفسه، وتفسد أخلاقه،
__________
(1) " المرقاة شرح المشكاة " للقاري ج 4.
(2) قال أهل العلم: المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " احثوا في وجوه المداحين التراب " الذين يمدحون الناس في وجوههم بالباطل بما ليس فيهم.
(3) أما مدحه لمصلحة شرعية كالشهادة، أو التزكية، أو الدفاع عنه في غيبته، فإن ذلك قد يكون واجباً.(5/247)
987 - " بَاب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا) "
1136 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إيَّاكُمْ والظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الْحَدِيثِ، ولا تَحَسَّسُوا، وَلا تَجَسَّسُوا، وَلا تَنَاجَشُوا، وَلا تَحَاسَدُوا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كما يشير إليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " قطعت عنق صاحبك "، ثالثاً: أن يكون المدح مجرّداً عن الغلو والإطراء والقطع بتزكية أحد على الله مهما كان، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولا يزكي على الله أحداً ". الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " قطعت عنق صاحبك " فإن فيه التحذير من مدح الرجل لئلا يغترّ بنفسه.
987 - " باب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا) "
1136 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " إياكم والظن " أي احذروا من سوء الظن بالناس، واعتقاد الشر فيهم، واتّهامهم بالأعمال القبيحة دون دليل، " فإن الظن أكذب الحديث " أما أن يراد بالحديث حديث النفس، بمعنى أن ما يقع في النفس، ويخطر بالقلب من الظنون السيئة هو من أكذب الأحاديث النفسية، فلا تلتفتوا إليه، أو تعتمدوا عليه، لأنه من وسوسة الشيطان أو يراد به " حديث اللسان " بمعنى أن كل قول لا يستند إلَّا إلى مجرد الظن هو من أكذب الأقوال، وأبعدها عن الحقيقة، فإياكم أن تتحدثوا به من غير دليل تستندون إليه، " ولا تحسسوا ولا تجسسوا " (1) أي لا تتبعوا عورات
__________
(1) والكلمتان بمعنى واحد.(5/248)
وَلا تَبَاغضُوا، ولا تَدَابَرُوا، وكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَاناً".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المسلمين " ولا تناجشوا " أي لا يزد أحدكم على أخيه في ثمن السلعة دون رغبة في شرائها ليخدع المشتري، " ولا تحاسدوا " أي لا يحسد بعضكم بعضاً فيتمنى زوال نعمته، سواء أتمنى انتقالها إليه، أو لا، قال تعالى (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ -إلى أن قال- وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) " ولا تباغضوا " أي اجتنبوا الأسباب المؤدية إلى البغض والتنافر فيما بينكم من الشتم وسوء المعاملة ونحو ذلك، أو لا تستسلموا لمشاعر البغض والكراهية، وتنفذوا ما تدعوكم إليه من إيذاء الناس وظلمهم إلخ، فإنّ ذلك في مقدوركم " ولا تدابروا " أي لا يهجر بعضكم بعضاً من الإِدبار، وهو الإِعراض المؤدي إلى العداوة والقطيعة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم العمل بسوء الظن الذي لا يستند إلى دليل والاستجابة له في توجيه التهمة إلى المسلمين لمجرد خاطر نفسي، قال القرطبي: المراد بالظن هنا التهمة التي لا سبب لها، كمن يتهم رجلاً بالفاحشة من غير أن يظهر عليه ما يقتضيها، فينبغي للمسلم إذا ظن ظناً سيئاً لا دليل عليه أن لا يحققه بالعمل والقول فقد جاء في الحديث عن حارثة بن النعمان رضي الله عنه: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث لازمات أمتي الطيرة، والحسد، وسوء الظن" فقال رجل: وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال: " إِذا حسدت فاستغفر الله، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض " أخرجه الطبراني (1) . ثانياًً: قال عياض: استدل قوم بهذا الحديث على منع العمل في الأحكام بالاجتهاد والرأي، وهو زعم باطل، قال: "وليس المراد بالظن ما يتعلق بالاجتهاد الذي يتعلق بالأحكام أصلاً، بل الاستدلال به لذلك
__________
(1) قال الحافظ الهيثمي في " مجمع الزوائد " (8/78) وفيه إسماعيل بن قيس الأنصاري، وهو ضعيف. (ع) .(5/249)
ضعيف وباطل. ثالثاً: تحريم التجسس على الناس، وتتبع عوراتهم لقوله - صلى الله عليه وسلم - " ولا تجسسوا "، ويستثنى بعض الحالات الاستثنائية كالتجسس على العدو الكافر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل في غزوة الخندق الزبير إلى الأعداء ليطلع على أحوالهم، وكذلك إذا أصبح التجسس وسيلة لإنقاذ نفس من الهلاك فهو مندوب إليه. رابعاً: دل هذا الحديث على أنه يجب على المسلم المحافظة على العلاقات الودية بينه وبين إخوانه، وأن يتجنب الأسباب المؤدية إلى العداوة بينه وبينهم من السباب، والشتائم، وسوء المعاملة، والغيبة، والنميمة، واحتقار الآخرين، وجرح مشاعرهم، وعلى وجوب ضبط النفس، والتحكم في مشاعرها، وأن لا يستسلم المسلم لعاطفة البغض والكراهية في إيذاء الناس والتعدي عليهم، كما دل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولا تباغضوا " خامساً: أنه يحرم على المسلم أن يستجيب لمشاعر الحسد وأن يقاومه ما استطاع، ويستغفر الله منه، فإنه إن فعل ذلك لم يأثم، وصرفه الله عنه، كما أرشدنا إلى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: " إذا حسدت فاستغفر الله " أخرجه الطبراني، وليس المراد بالاستغفار أن يستغفر بلسانه فقط، وإنما المراد به الإحساس بالندم، والعزم والتصميم على مقاومة هذا الشعور البغيض، والالتجاء إلى الله بقبول التوبة. سادساً: أنه لا يجوز أن يهجر المسلم أخاه المسلم ويقاطعه لغرض من أغراض الدنيا، وقد جاء في الحديث عن أبي أيوب الأنصارى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام " متفق عليه. وأجمع العلماء على أنه من خاف من مكالمة أحدٍ وصلته ما يفسد عليه دينه أو مضرة في دنياه يجوز له مجانبته، ورب هجر خير من مخالطة من يؤذيه. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: "إياكم والظن" فإنه مطابق لقوله تعالى (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ) ، وفي قوله أيضاً: " فإن الظن أكذب الحديث " وهو مطابق لقوله تعالى (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) وتوضيح له.(5/250)
988 - " بابُ سِتْرِ المُؤمِنِ عَلَى نفْسِهِ "
1137 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " كُلُّ أمَّتِي مُعَافَى، إلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وِإنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ (1) أنْ يَعْملَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحُ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ فَيَقُولُ: يَا فُلانُ عَمِلْتُ، البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
988 - " باب ستر المؤمن على نفسه "
1137 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " كل أمتي مُعافى " (2) أي كل واحدٍ من هذه الأمة إذا ارتكب معصية يرجى له عفو الله ومغفرته، والنجاة من النار، لقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) " إلا المجاهرين " كذا للأكثر بالنصب، وفي رواية مسلم المجاهرين بالنصب (3) ، ويجوز الرفع فيه على مذهب الكوفيين، وتكون " إلَّا " في هذه الحالة بمعنى لكن كما قال ابن مالك، قال الحافظ: والمعنى، لكن المجاهرون بالمعاصي لا يعافون، والمجاهر الفاسق المعلن بفسقه الذي يأتي بالفاحشة ثم يشيعها بين الناس تفاخراً وتهوراً ووقاحة. " وإن من المجانة " أي الوقاحة والاستهتار بالدين والاستخفاف بحدود الله " أن يعمل الرجل بالليل " أي معصية " ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا " أي يحدث إخوان السوء من أصدقائه بأنه فعل المعصية الفلانية "وقد بات يستره ربه،
__________
(1) وفي رواية " من المجاهرة " ورواية الباب أنسب وأبلغ.
(2) بضم الميم وفتح الفاء اسم مفعول من العافية والسلامة فإنه قابل لمغفرة الله وعفوه.
(3) قال الحافظ في " الفتح ": وفي رواية النسفي " إلا المجاهرون " بالرفع، وصوابه عند البصريين بالنصب. (ع) .(5/251)
ويصبح يكشف ستر الله عنه" وذلك لأنه لا يريد الستر، وإنما يريد الفضيحة، حيث يراها في نظره مفخرة ومباهاة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يجب على من ابتلي بمعصية أن يستر على نفسه، وهو ما ترجم له البخاري، وقد جاء الأمر الصريح بالستر في حديث آخر، فقد روى ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألمَّ بشيء منها فليستتر بستر الله " أخرجه الحاكم (1) ، كما أخرجه مالك مرسلاً من حديث زيد بن أسلم (2) . ويدل الحديث على أن ارتكاب المعصية مع سترها أهون وأخف من المجاهرة بها، لأن المعصية مع الستر تقبل العفو الإِلهي، أما مع المجاهرة فإنه لا يعفى عنها، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " كل أمتي معافى إلَّا المجاهرون " وذلك لأن المجاهرة وقاحة وجرأة وانتهاك لحدود الله، واستخفاف بالشريعة كما قال - صلى الله عليه وسلم - " وإن من المجانة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملتُ البارحة كذا " قال ابن بطال في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله. ثانياً: أن المجاهر بالمعصية يجوز اغتيابه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفه بالمجانة، وهي الاستخفاف بمحارم الله، والتباهي بها أمام الناس، ومن كان هذا حاله ينبغي التشهير به فيجوز اغتيابه، لأنه نزع جلباب الحياء، فلا حرمة ولا كرامة له في نظر الإسلام، وأخذ بعضهم جواز غيبة المجاهر من قوله - صلى الله عليه وسلم - " كل أمتي معافى إلَّا المجاهرون " (3) قال معناه: أن كل واحد من العصاة معافي من الغيبة، فيجب أن يترك عرضه سليماً، ولا يغتابه أحد، إلَّا المجاهر فإنه يجوز انتهاك عرضه بالغيبة، لأنه غير معافى، ولا صيانة لعرضه، ولا كرامة له، وهو استدلال وجيه. الحديث: أخرجه
__________
(1) والبيهقي في " السنن ". (ع) .
(2) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وهو كما قالا. (ع) .
(3) كما جاء في الحديث: " من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له " رواه البيهقي في " سننه " (10/210) وإسناده ضعيف.(5/252)
989 - " بَابُ الحَذَرِ مِنَ الغضَبِ "
1138 - عَنْ أبِي هرَيْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْه:
أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرعَةِ، إنَّمَا الشَّدِيدُ الذِي يَمْلِكُ نَفْسَة عِنْدَ الْغَضَبِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشيخان. والمطابقة: كما قال الحافظ: في كون الحديث مصرّح بذم من جاهر بالمعصية فيستلزم مدح من يستتر.
989 - " باب الحذر من الغضب "
1138 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " ليس الشديد بالصُّرعة " وهو من يكثر صرع الأعداء ويتمكن من إسقاطهم، والمعنى: لا تظنوا أن الرجل القوي هو ذلك الرجل الذي يتمتع بقوة بدنية يستطيع بها أن يصرع الفرسان في ميادين القتال، نعم لا شك أن ذلك الرجل رجل قوي، ولكن هناك من ْهو أعظم منه قوة وبأساً، وأجدر منه بهذا اللقب، وهو ذلك الرجل القوي الإرادة الذي يستطيع أن يتغلب على نفسه ويتحكم في غريزته أثناء غضبه " إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " أي إنما الرجل القوي الكامل في قوته هو الرجل القوي في إرادته، " الذي يستطيع أن يتحكم في نفسه عند الغضب، ويمنعها عن تنفيذ ما تدعوه إليه من إيذاء الناس بالشتم والضرب والعدوان أو الإساءة إليهم بالقطيعة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من أعظم الأدلة على قوة الشخصية الحلم، وضبط النفس عند الغضب، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " لأن الغضب ثورة نفسية عارمة، فالتصدي لمقاومتها في عنفوانها ليس بالأمر السهل، ولا يستطع ذلك إلَّا من(5/253)
قويت إرادته، وكمل إيمانه ودينه وأصبح له السلطان القاهر على جميع انفعالاته النفسية. ثانياً: دل الحديث على أن الغضب وإن كان غريزة نفسية جبارة، إلَّا أنه يمكن مقاومته بعد وقوعه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " ويمكن مقاومة الغضب قبل وقوعه ووقاية النفس منه باجتناب الأسباب المثيرة للغضب، كالخصام والجدال، والمزاح، والسخرية، والاستهزاء، إلى غير ذلك. والدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي الدرداء: " لا تغضب " ثلاث مرات أي تجنب دواعي الغضب، والأسباب التي تؤدّي إليه لئلا تقع فيه ولهذا قال العلماء: للغضب دواءان: (أ) دواء وقائي: قبل وقوعه: وهو تجنب أسبابه والابتعاد عن المواقف المؤدّية إليه. كمجالسة السفهاء، ومخالطة الأشرار، وتناول المشروبات المهيجة للأعصاب، وأن يكثر من الاستغفار، وقَول: لا حول ولا قوة إلا بالله بصدق وإخلاص، فإن فيها شفاءً من أدواء كثيرة ... (ب) ودواء علاجي بعد وقوعه: وهو مقاومة النفس عن الاستسلام والانقياد له، وكفها عن الظلم والعدوان، ثم هناك وسائل أخرى للتخفيف من حدة الغضب، أو القضاء عليه نهائياً، كالاستعاذة بالله من الشيطان، والغسل، والوضوء، وتغيير الحالة التي يكون عليها الإِنسان، فإن غضب وهو قائم جلس، أو اضطجع. ثالثاً: أن مقاومة الغضب وامتلاك النفس عند وقوعه من أفضل الأعمال الصالحة التي يثاب عليها، ولولا ذلك لما أثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها كل هذا الثناء، وفي الحديث عن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من كظم غيظاً وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رأس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء " أخرجه الترمذي وأحمد وأبو داود وابن ماجة، وفي رواية: " من كظم غيظه، ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: من حيث أن فيه (1) الإِغراء على التحذير من الغضب.
__________
(1) كما أفاده العيني، وهذا الإغراء في قوله: " إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ".(5/254)
990 - " بَابُ مَا يستحَبُّ مِنَ العُطَاس وَمَا يُكْرهُ مِنَ التَّثاَؤبِ "
1139 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ اللهَ يُحِبُّ العُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثاَؤبَ، فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ، فَحَقٌّ علَى كُلِّ مُسْلِم سَمِعَهُ أن يُشَمِّتَهُ، وأما التَّثَاؤُبُ فإنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيَطَانِ، فَلْيَرُدَّهُ ما استطَاعَ، فَإِذَا قَالَ هَا، ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
990 - " باب ما يستحب من العطاس وما يكره من التثاؤب "
1139 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يحب العطاس " لما فيه من خروج الأبخرة الفاسدة، والمواد الضارّة التي يؤدي خروجها إلى نشاط الجسم، وخفة البدن والدماغ، والتخفيف من حدة الزكام. " ويكره التثاؤب " وإنما يكره التثاؤب كما قال القاري لأنه يمنع صاحبه من النشاط في الطاعة، ويوجب الغفلة. ": فإذا عطس أحدكم وحمد الله " أي فإذا عطس المسلم وقال بعد عطاسه: الحمد لله شكراً لربه على هذه النعمة " فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته " أي فإنه مطلوب من كل من سمعه من المسلمين أن يدعو له بالخير، لأنه عَمِلَ بالسُّنَّةِ وأدى ما عليه من حمد الله وشكره على نعمته، فيكافىء على ذلك بالدعاء له بالخير، ويقول له سامعه: يرحمك الله. " أما التثاؤب فإنما هو من الشيطان فليرد ما استطاع " أي فليغلق فمه قدر استطاعته ليخفف من التثاؤب " فإن أحدكم إذا قال ها " أي فإن المرء إذا تثاءب ورفع صوته بالتثاؤب وقال: " ها " " ضحك منه الشيطان " شماتة فيه حين يراه تابعاً ومسخراً له، واستهزاءً منه لأنه انتصر عليها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن العطاس ظاهرة(5/255)
محبوبة عند الله تعالى لأنه ينشأ من خفة الجسم وأن التثاؤب ظاهرة كريهة عند الله تعالى، لأنها من الشيطان، بسبب الفتور والكسل، قال الخطابي: العطاس محمود لأنه يعين العبد على الطاعات، والتثاؤب مذموم، لأنه يثنيه ويصرفه عن الخيرات. اهـ. أي يمنعه عن العبادات من قيام وصيام وقراءة قرآن ونحوه. فالعطاس مستحب، والتثاؤب مكروه كما ترجم له البخاري. ثانياً: أنه يستحب للعاطس أن يحمد الله على عطاسه، لأنه نعمة من الله تعالى عليه، تخرج بسببه الإفرازات الضارة، والأبخرة الفاسدة، كما يشرع لسامعه أن يشمته إذا حمد الله، ومعنى التشميت أن يدعو له بالخير، فيقول له: يرحمك الله لقوله - صلى الله عليه وسلم -: فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته " وقال في " بهجة النفوس ": قال جماعة من علمائنا -أي المالكية- إنه فرض عين، وقوّاه ابن القيم في حواشي السنن بأنه جاء بلفظ الوجوب الصريح، وبلفظ الحق الدال عليه، وبصيغة الأمر التي هي حقيقة فيه، وبقول الصحابي: أمَرنا رسول الله، قال: ولا ريب أن الفقهاء يثبتون وجوب أشياء كثيرة بدون مجموع هذه الأشياء، وقال قوم: التشميت فرض كفاية، ورجحه أبو الوليد بن رشد، وقال به الحنفية وجمهور الحنابلة، وقال الشافعية: مستحب على الكفاية. ثالثاً: دل هذا الحديث. على أنه إنما يشرع تشميت العاطس إذا حمد الله تعالى، فإذا لم يحمد الله تعالى فلا يشمت. رابعاً: أنه يستحب للمتثائب أن يرد تثاؤبه قدر استطاعته وعن أبي هريرة: " إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه فإنّ الشيطان يضحك منه ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب ".
***(5/256)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب الاستئذان "
991 - " بَابُ تسْلِيمِ الرَّاكِبِ على المَاشِي "
1140 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى المَاشِي، والْمَاشِي علَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" كتاب الاستئذان "
الاستئذان: هو طلب الإذن في دخول مكان لا يملكه المستأذن، وهو واجب بالإِجماع المستند إلى الكتاب والسنة، أمّا الكتاب فقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا (1) وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا) . وأما السنة: فدليل مشروعية الاستئذان فيها " ما رواه أبو داود وابن أبي شيبة بسند جيد عن ربعي بن حراش قال: حدثني رجل أنه استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيته فقال لخادمه: " اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقل له: قل السلام عليكم أأدخل " صححه الدارقطني، وظاهر هذا الحديث تقديم السلام على الاستئذان، بخلاف سياق الآية. والحكمة في مشروعية الإِستئذان: أن لا يهجم الإِنسان على عورات الناس، وينظر منهم ما يكرهون، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " إنما جعل الاستئذان لأجل البصر " ويختلف الاستئذان باختلاف الناس، فالأجنبي الذي لا خلطة له يستأذن ثلاثاً كما في الحديث، وأما الذي له خلطة فاستئذانه أخف.
991 - " باب تسليم الراكب على الماشي "
1140 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " يسلم الراكب على الماشي "
__________
(1) والاستئناس معناه الاستئذان، كما حكاه الطحاوي عن لغة اليمن.(5/257)
القاعِدُ، والقَلِيلُ على الكَثير".
992 - " بَابُ الاستئْذَانِ مِنْ أجْلِ البَصَرِ "
1141 - عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
اطَّلَعَ رَجُل منا حُجْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَمَعَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مِدْرَىً يَحُكُّ بِهِ رَأسَهُ فَقَالَ: " لَوْ أعْلَمُ إنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ في عَيْنكَ، إنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أجْلِ البَصَرِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يعني أن الراكب يبدأ بالسلام على الماشي تواضعاً منه، حيث رفعه الله بالركوب " والماشي على القاعد " للسبب نفسه. " والقليل على الكثير " أي والمجموعة القليلة على المجموعة الكثيرة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يستحب تسليم الراكب على الماشي قال ابن بطال: تسليم الراكب لئلا يتكبر بركوبه، فيرجع إلى التواضع. ثانياً: دل هذا الحديث على استحباب تسليم الماشي على القاعد لتطمينه، وإشعاره بالأمان، وإزالة الخوف من قلبه. ثالثاً: استحباب تسليم القليل على الكثير تعبيراً عن الاحترام والإكرام لهذه الجماعة والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " يسلّم الراكب على الماشي ".
992 - " باب الاستئذان من أجل البصر "
1141 - معنى الحديث: يقول سهل بن سعد رضي الله عنهما: " اطلع رجل من جُحرْ " بضم الجيم وسكون الحاء وهو الثقب الصغير " في حُجَرِ النبي (1) - صلى الله عليه وسلم - " أي في بيوت - صلى الله عليه وسلم - " ومع النبي - صلى الله عليه وسلم - مدرى " بكسر الميم
__________
(1) بضم الحاء وفتح الجيم جمع حجرة.(5/258)
وسكون الدال عود يدخله الرجل في رأسه ليضم بعض شعره إلى بعض، وقال الأصمعي وأبو عبيد: هو المشط " فقال: لو علمت أنك تنظر لطعنت به في عينك " أي نخست بهذا العود عينك، والمعنى: أنه بينما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجرته، وبيده عود يحك به رأسه، إذا برجل ينظر من ثقب الباب، فغضب - صلى الله عليه وسلم - وقال: " لو علمت أنك تنظر إلى داخل بيتي لطعنت بهذا العود في عينك، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " والمعنى: إنما شرع الله الاستئذان لئلا ينظر المسلم إلى ما لا يحل له النظر إليه أو ينظر إلى ما يكره صاحب المنزل أن يطلع عليه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الاستئذان ووجوبه، وقد تظاهرت به دلائل القرآن والسنة، قال الحافظ: ويؤخذ منه أنه يشرع الاستئذان على كل أحد حتى المحارم، فقد تكون منكشفة (1) العورة، وقد أخرج البخاري في " الأدب المفرد " عن نافع: كان ابن عمر إذا بلغ بعض ولده الحلم لم يدخل عليه إلاّ بإذن ومن طريق علقمة سألت ابن عباس: أأستأذن على أختي؟ قال: نعم، قلت إنها في حجري! قال: أتحب أن تراها عريانة. اهـ. ويظهر لنا من ذلك أن الحكمة في الاستئذان أن لا ينظر الداخل إلى البيت إلى شيء لا يحل له النظر إليه، أو شيء يكره صاحب المنزل أن يطلع أحد عليه. كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: " إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " قال الطيبي " والأفضل أن يجمع بين السلام والاستئذان، واختلفوا: هل يستحب تقديم السلام أو الاستئذان؟ والصحيح تقديم السلام، فيقول السلام عليكم أأدخل. ثانياً: دل هذا الحديث على أن للبيوت قداسة وحرمة، فلا يجوز لأحد أن يسترق النظر إلى عورات المسلمين في بيوتهم وينتهك
__________
(1) أي لئلا تكون المرأة متكشفة العورة.(5/259)
993 - " بَابُ زِنا الجَوارِحَ دُونَ الفَرْجَ "
1142 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
مَا رَأيْتُ شَيْئاً أشْبَهَ باللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أبو هُرَيْرَةَ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ اللهُ كَتَبَ عَلى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أدْرَكَ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ، فَزنَا العَيْنِ النَّظر، وَزِنَا اللِّسَانِ المَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وتَشْتَهِي، وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حرمتهم، ويحرم عليه أن ينظر من ثقب الباب وغيره. ولو فعل ذلك عمداً وطعن في عينه فذهبت فإنها هدر لا دية لها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث.
993 - " باب زنا الجوارح دون الفرج "
1142 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي ما علمت شيئاً أقرب إلى صغائر الذنوب مما رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " قال: إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا " قال بعض الشراح: هذا ليس على عمومه، فإن الخواص معصومون عن الزنا ومقدماته، أي إن هناك أهل العفة والاستقامة الذين لم يكتب عليهم ذلك، ولم يفعلوا شيئاً منه بتوفيق الله تعالى، وعلى هذا القول يكون معنى الحديث: إن الله كتب في اللوح المحفوظ على كثير من بني آدم نصيبهم من الزنا أو مقدماته، كالنظرة، واللمسة ونحوها. فالمراد بابن آدم الجنس لا كل فرد من بني آدم " أدرك ذلك لا محالة " أي فمن كتب عليه شيء من ذلك فلا بد أن يصيبه، ولا بد أن يفعله، ولكن ليس مجبراً عليه، بل باختياره " فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق " أي أن الزنا لا يختص بالفرج، وإنما هو(5/260)
نوعان: زنا الفرج، وزنا الجوارح، فالجوارح كلها تزني زنى يأثم عليه الإِنسان، ولكنه أقل إثماً من زنا الفرج، فزنا العين النظر إلى المرأة الأجنبية بشهوة، وزنا اللسان التحدث إليها بشهوة، وقس على ذلك بقية الجوارح. ثم اعلم أن زنا الجوارح هذا هو من مقدمات الزنا، وقد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - زنا لأنه من الأسباب الخطيرة المؤدية إليه، قال ابن بطال: سمي النظر والنطق زنا لأنه يدعو إلى الزنا الحقيقي " والنفس تمنّى وتشتهي " أي وقد ركب الله في النفس غريزة الجنس التي تشتهي أن تشبع رغبتها الجنسية " والفرج يصدّق ذلك ويكذبه " أي ولا يعد زنا الجوارح زنا حقيقياً وكبيرة من الكبائر إلاّ بفعل الفرج فإن الفرج وحده هو الذي يصدّق الزنا ويحققه بالوطء، أو يكذبه بعدمه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: التحذير الشديد من جميع أسباب الزنا ومقدماته، كالنظر إلى المرأة الأجنبية، والحديث إليها، وسماع حديثها، ولمسها بشهوة، فإن ذلك محرّم، وإن كان من الصغائر، وقد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - زنا تنبيهاً على خطورته، لأنه يؤدى إلى الزنا، ويسوق إليه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " النظرة سهم مسموم من سهام إبليس " (1) وقال الشاعر:
كُلُّ المَهَالِكِ مَبْدَاهَا مِنَ النَظَر ... وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَر
ثانياً: أن هذه المقدمات المذكورة في الحديث من النظر، والحديث، واللمس بشهوة، كل ذلك من اللمم - أي من صغائر الذنوب كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. ثالثاً: أن الزنا نوعان: زنا الفرج، وهو من الكبائر، وزنا الجوارح وهو من الصغائر، ولكنه طريق المخاطر. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فزنا العين النظر ".
***
__________
(1) رواه الطبراني عن ابن مسعود، والحاكم عن حذيفة، إسناده ضعيف. (ع) .(5/261)
994 - " بَابُ التَّسْلِيمِ عَلَى الصِّبيَانِ "
1143 - عَنْ أَنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ مَرَّ على صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: " كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ ".
995 - " بَابٌ لا يُقيم الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ "
1144 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا يقيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ منْ مَجْلِسِهِ ثمَّ يَجْلِسُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
994 - " باب التسليم على الصبيان "
1143 - معنى الحديث: " أن أنس رضي الله عنه مرّ على صبيان فسلّم عليهم " أي بدأهم بالسلام اقتداءً بسيد الأنام - صلى الله عليه وسلم - " وقال: " أي ثم قال أنس مستدلاً على مشروعية فعله وسنيته: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله " أي كان - صلى الله عليه وسلم - يبدأ الصبيان حين يمر عليهم بالسلام مثل ما فعلت.
فقه الحديث: قال النووي (1) : فيه استحباب السلام على الناس كلهم حتى الصبيان المميزين، وبيان تواضعه، وكمال شفقته على العالمين، قال: وأما المرأة مع الرجل فإن كانت زوجته أو جاريته أو محرماً من محارمه فهي معه كالرجل، وإن كانت أجنبية، فإن كانت جميلة يخاف الافتتان بها لا يسلم الرجل عليها وإن سلم لم يجز رد السلام. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله " (2) .
995 - " باب لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه "
1144 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يقيم الرجل
__________
(1) " المرقاة شرح المشكاة " للقاري ج 4.
(2) فإن معناه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلم على الصبيان.(5/262)
فِيهِ".
996 - " بَاب لا يَتَنَاجى اثنانِ دُونَ الثالِث "
1145 - عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْه قَالَ:
قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - " إِذَا كانُوا ثَلاَثةً فلا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه" أي لا يحل له أن يقيمه من المكان الذي سبق إليه ليجلس فيه، فهو خبر بمعنى النهي.
فقه الحديث: أن من آداب السلوك في الإِسلام النهي عن إقامة الشخص عن مكانه في المجالس العامة كالمساجد ومجالس الحكام وغيرها، قال النووي: هذا النهي للتحريم، فمن سبق إلى موضع مباح من المسجد وغيره يوم الجمعة أو غيره فهو أحقّ به، ويحرم على غيره إقامته إلاّ أن أصحابنا يعني الشافعية استثنوا من ذلك إذا ألف موضعاً من المسجد يفتي به، أو يقرأ قرآناً أو غيره من العلوم الشرعية فهو أحق به. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث.
996 - " باب لا يتناجى اثنان بينهما ثالث "
1145 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " إذا كانوا ثلاثة " أي إذا كان الجالسون في المجلس ثلاثة أشخاص " فلا يتناجى اثنان دون الثالث " قال القرطبي: الرواية المشهورة بألف مقصورة ثابتة في الخط، ساقطة في اللفظ، والتناجي التحادث سراً. والمعنى: أنه إذا اجتمع ثلاثة في مجلس واحد، فإن من آداب الإِسلام، ومحاسن السلوك التي يدعو إليها ديننا الحنيف أن لا يتحادث اثنان سراً فيما بينهما دون أن يشركا الثالث معهما.(5/263)
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه تكره المحادثة سراً بين اثنين معهما ثالث فقط، لأن ذلك يؤذى الشخص الثالث، ويضايقه كما جاء في رواية أخرى عن ابن مسعود أيضاً عن النبي أيضاً " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه " (1) أخرجه مسلم، أي لأنه إذا بقي منفرداً وتناجى من عداه أحزنه ذلك إما لظنه احتقارهم إياه، وإما لأنه قد يقع في نفسه أنّهم يتحدثون في مضرته. اهـ. كما أفاده القسطلاني. أما إذا زاد العدد عن ثلاث فلا بأس أن يتناجى اثنان. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود وأحمد. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث.
***
__________
(1) أي لأجل أن لا يحزنه ذلك.(5/264)
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الدعوات
الدعوات جمع دعوة، هي الدعاء. والدعاء لغة: هو مصدر دعا يدعو، ثم جعل اسماً مستعملاً في لغة العرب لمعان مختلفة منها: التوحيد كقوله تعالى: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) ومنها الاستعانة كقوله تعالى: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) ومنها السؤال والطلب. أما الدعاء شرعاً: فمعناه سؤال الباري عزّ وجل ورفع الحاجات إليه، وطلب قضائها منه قال النووي: أجمع أهل الفتوى على استحباب الدعاء، وذهبت طائفة من الزهاد الى أن تركه أفضل استسلاماً ودلائل الفقهاء ظواهر القرآن والسنة كيف لا، وفي الدعاء تضرع إلى الله والتجاء إليه، ومناجاة له، واتصال روحي بالعلى الأعلى قال الخطابي: وحقيقة الدعاء إظهار الافتقار إليه، والبراءة من الحول والقوة إلا له، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليس شيء أكرم على الله من الدعاء " أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجة والبخاري في " الأدب المفرد " وصححه ابن حبان والحاكم. وعن النعمان بن بشير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال، " الدعاء هو العبادة " ثم قرأ (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) أي صاغرين، أخرجه الترمذي وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإسناد وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وفي الآية المذكورة وعيد شديد لمن ترك الدعاء إعراضاً واستكباراً. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من لم يسأل الله يغضب عليه " أخرجه الترمذي فالدعاء يزيد العبد من ربه قرباً واعترافاً بحقه، ولذا حث - صلى الله عليه وسلم -(5/265)
على الدعاء، وعلّم الله عباده دعاءه بقوله: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) وأخبرنا بدعوات رسله وتضرعهم حيث قال: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) إلى آخر ما ذكر من دعوات الأنبياء ودعواته - صلى الله عليه وسلم - في الصباح والمساء والصلوات وغيرها معروفة. اهـ. وحسبك في فضل الدعاء أنه لا بد أن يعود على صاحبه بفائدة في الدنيا أو الآخرة، أو فيهما معاً، كما يدل عليه حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما على الأرض مسلم يدعو الله دعوة إلاّ آتاه إياها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يعجل " أخرجه الترمذي وأحمد والبيهقي والطبراني في الكبير وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به، وبيّن أنه من أجلِّ العبادات التي يحبها الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " سلوا الله من فضله، فإنه تعالى يحب أن يسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج " رمز السيوطي إلى صحته، وحسنه الحافظ ابن حجر، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: من نزلت به فاقة، فأنزلها بغير الله لم تسد فاقته، ومن نزلت فاقة فأنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل. رواه أبو داود والترمذي والحاكم، وصححه. وعن ابن عمر مرفوعاً: " من فتح له باب من الدعاء فتحت له أبواب الإجابة " أخرجه الترمذي وابن حبان، والحاكم وقال: صحيح الإسناد كما أفاده الشوكاني في " تحفة الذاكرين ". ومن الأسباب المؤدية إلى استجابة الدعاء عند الضراء، الإكثار منه في السراء، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب، فليكثر الدعاء في الرخاء " أخرجه الترمذي وقال فيه: حسن غريب، كما أخرجه الحاكم وصححه وأقره الذهبي. ومن آداب الدعاء أن يترصد الأوقات المباركة التي يستجاب فيها الدعاء، كيوم عرفة، ورمضان، والجمعة، وعند نزول الغيث، وإقامة الصلاة، وبين الأذان والإقامة، والسحر وحال السجود. وأن يدعو مستقبلاً الكعبة رافعاً يديه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن ربكم حيي كريم يستحي(5/266)
997 - بَابُ " لِكُلِّ نبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ "
1146 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بِهَا، وأرِيدُ أن أخْتَبِىءَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من عباده إذا رفعوا أيديهم إليه أن يردهما صفراً" أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه، وابن ماجة والحاكم. وأن يخفض صوته، ولا يتكلف السجع في الدعاء، وأن يكون في حال خشوع وتضرع ورغبة ورهبة، كما قال تعالى: (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) . وأن يجزم بالدعاء، ويوقن بالإِجابة، ويصدق في الرجاء واليقين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ادعوا الله وأنتم موقنون بالإِجابة " وأن يلح في الدعاء، ويكرره ثلاثاً لقول ابن مسعود: " كان - صلى الله عليه وسلم - إذا دعا دعا ثلاثاً " رواه مسلم، ولا يستبطىء الإِجابة، وأن يستفتح بذكر الله عزّ وجل، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يسأل حاجته، ثم يختم بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الله عزّ وجل يقبل الصلاتين، وهو أكرم من أن يدع ما بينهما. ومن أهم آداب الدعوة وأسباب قبولها التوبة والاستغفار، ورد المظالم إلى أهلها. لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً " أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، ثم قال: فأنّى يستجاب لذلك " رواه مسلم. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لسعد: " يا سعد أطب مطعمك تستجب دعوتك ".
997 - " باب لكل نبي دعوة مستجابة "
1146 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " لكل نبي دعوة " أي أن الله أعطى كل نبي من الأنبياء دعوة واحدة مقطوعاً لها بالإجابة فإجابتها ثابتة محققة(5/267)
دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأمَّتِي في الآخِرَةِ".
998 - " بَابُ أفضلِ الاسْتِغفَارِ "
1147 - عَنْ شَدَّاد بْنِ أوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا بد منها، لأن الله وعده بإجابتها، وهو لا يخلف الميعاد، أما بقية دعوات الأنبياء فإنها على رجاء الإِجابة (1) " يدعو بها " أي له أن يدعو بها متى شاء فتستجاب له ويعطى سؤله " وأريد أن أختبىء دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة " أي وأريد أن أدّخر دعوتي المستجابة وأحتفظ بها إلى الآخرة حتى أجعلها شفاعة لأمتي هناك حين يذهب الناس إلى الأنبياء يسألونهم الشفاعة فيقول كل نبي: نفسي نفسي، لأنّه قد استنفذ دعوته، ودعا بها في الدنيا، فلم يبق له منها شيء. ثم يأتونه - صلى الله عليه وسلم - يسألونه الشفاعة. فيقول: أنا لها، أمتي أمتي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الله جعل لكل نبي دعوة مستجابة فدعا بها في الدنيا (2) ، أما نبينا - صلى الله عليه وسلم - فقد أخر دعوته لتكون شفاعة لأمته في الآخرة. ثانياًً: قال ابن بطال: في هذا الحديث بيان فضل نبينا - صلى الله عليه وسلم - على سائر الأنبياء حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة. قال ابن الجوزي: وهذا من حسن تصرفه إذ جعل الدعوة فيما ينبغي. وقال النووي: فيه كمال شفقته على أمته ورأفته بهم واعتناؤه بالنظر في مصالحهم، فجعل دعوته في أهم أوقات حاجاتهم. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث.
998 - " باب أفضل الاستغفار "
__________
(1) " فتح الباري " ج 11.
(2) من ذلك دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام عند فراغه من بناء البيت (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) [البقرة الآيات 126-129] ومن ذلك دعوة سليمان عليه السلام: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [ص: 35](5/268)
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " سَيِّد الاسْتِغْفَارِ أن تَقُولَ: اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا أنْتَ، خَلَقْتَنِي، وَأَنا عَبْدُكَ، وَأنا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بِكَ منْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أبوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأبوءُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أنْتَ، قَالَ: وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنَاً بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أنْ يُمْسِيَ، فَهُو مِنْ أهلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ مُوقِناً بها، فَمَاتَ قَبْلَ أن يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أهلِ الْجَنَّةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1147 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " سيد الاستغفار أن تقول: " أي إذا اقترفت أيها العبد خطيئة وأردت الاستغفار فإن لك أن تستغفر بأي لفظ. شئت، فلو قلت: " اللهم اغفر لي " أو " أستغفر الله " مع التوبة الخالصة، كان ذلك حسناً مقبولاً إن شاء الله، ولكن كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " سيد الاستغفار " أي أن أفضل أدعية الاستغفار وأكثرها نفعاً " أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت " أي لا معبود لي سواك، ولا ملجأ لي إلا إليك " خلقتني وأنا عبدك " أي أنت المستحق للعبادة لأنك أنت وحدك خالقي " وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت " أي وأنا ملتزم بالوفاء بعهدك الذي أخذته على بنى آدم حين أخرجتهم من ظهور آبائهم (1) ، وقلت لهم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) وبالوعد الذي جاء على لسان نبيك - صلى الله عليه وسلم -: " أن من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة " " ما استطعت " أي على قدر استطاعتي، وفي حدود طاقتي البشرية، واشتراط الاستطاعة معناه الاعتراف بالعجز والقصور عن كنه الواجب من حقه تعالى، أي وأنا لا أقدر أن أعبدك حق عبادتك، ولكن أجتهد بقدر
__________
(1) أمثال الذر.(5/269)
طاقتي. اهـ. كما أفاده القاري " أعوذ بك من شر ما صنعت " أي ألجأ إليك أن تجيرني من عقوبة ما اقترفته من الذنوب والآثام. " أبوء لك بنعمتك عليَّ " أي أعترف لك بنعمتك العظمى " وأبوء بذنبي " أي أعترف بذنبي العظيم " فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت " أي فإن ذنوبي لا يملك العفو عنها سواك فأنت غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب ذو الطول. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " من قالها من النهار موقناً بها، فمات قبل أن يمسي، فهو من أهل الجنة " أي من قال هذه الكلمات مخلصاً من قلبه، مصدقاً بثوابها، مؤمناً بمضمونها إجمالاً وتفصيلاً فمات قبل المساء، فهو من أهل الجنة قال القاري: أي يموت مؤمناً، فيدخل الجنة لا محالة أو مع السابقين، وفي رواية " وجبت له الجنة " وكذلك من قالها من الليل كما في آخر الحديث.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان فضل هذا الدعاء المذكور الذي سمّاه - صلى الله عليه وسلم - " سيد الاستغفار " وفي حديث جابر " تعلموا سيد الاستغفار " قال الطيبي: لما كان هذا الدعاء جامعاً لمعافي التوبة كلها استعير له اسم السيد، وهو في الأصل الرئيس الذي يقصد في الحوائج فالمراد بسيادة هذا الاستغفار أفضليته على غيره وكونه أكثر نفعاً من سواه، ولهذا ترجم له البخاري بقوله: " باب أفضل الاستغفار " أي أكثر أدعية الاستغفار نفعاً. ثانياً: قال الحافظ في قوله: " فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت " يؤخذ منه أن من اعترف بذنبه غفر له، وهذه قضية ثابتة تضافرت عليها الأدلة من الكتاب والسنة، وحسبنا في ذلك قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (1) . ثالثاً: دل هذا الحديث على أن الاستغفار يكون بصيغة " اغفر لي " أو " اللهم اغفر لي " ولكنه لا ينحصر
__________
(1) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه " رواه مسلم.(5/270)
999 - " بَابُ استِغفَارِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في اليَوْمَ واللَّيْلَةِ "
1148 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " وَاللهِ إِنِّي لأسْتَغْفِرُ اللهُ وَأتُوبُ إِلَيْهِ في اليَوْمَ أكثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في هذه الصيغة، بل يجوز أيضاً بلفظ " أستغفر الله " لما جاء حديث ابن مسعود " من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلاّ هو الحي القيوم، وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان قد فر من الزحف " أخرجه أبو داود، والترمذي، والحاكم، وقال: حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم. وفيه: رد لقول الربيع بن خثيم: لا تقل أستغفر الله وأتوب إليه، فيكون كذباً إن لم تفعل، بل قل: اللهم اغفر لي وتب عليَّ، قال النووي: هذا أحسن، وأما كراهية أستغفر الله وتسميته كذباً فلا (1) يوافق عليه، لأن معنى أستغفر الله أطلب مغفرته، وليس هذا كذباً، رابعاً: أن سيد الاستغفار هذا لا يؤدي بقائله إلى الجنة إلاّ إذا اقترن باليقين والإخلاص والإِيمان بمضمونه ومدلوله، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من قالها من النهار موقناً " فاليقين والإخلاص هو الذي يحقق الثمرة المرجوة من هذا الاستغفار. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي والترمذي. والمطابقة: في قوله: " سيد الاستغفار ".
999 - "باب استغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم والليلة "
1148 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إني لاستغفر الله وأتوب إليه " أي أطلب من الله التوبة والمغفرة في اليوم والليلة " أكثر من سبعين مرة " مع أنه معصوم من الذنب، مغفور له ما تقدم وما تأخر، وفي رواية أخرى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني
__________
(1) "دليل الفالحين شرح رياض الصالحين" لابن علان.(5/271)
1000 - " بَابُ التَّوْبَةِ "
1149 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ حَدَّثَ بِحَدِيثَيْنِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أتوب إليه في اليوم مائة مرة" أخرجه مسلم. أي فأنتم أولى بالرجوع إليه في الساعة الواحدة ألف مرّة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب الاستغفار لكل واحد من المؤمنين محسناً كان أو مسيئاً لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو إمام المتقين كان يكثر من الاستغفار إلى هذا الحد فكيف بغيره. ثانياً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر من الاستغفار مع أنه مغفور له تعليماً لأمته، ولرفع درجاته، وزيادة حسناته، وقضاء حاجاته لأن الاستغفار ذكر وعبادة وقربة إلى الله، ويستعمل لأغراض كثيرة، منها كشف الكربات، وتفرج الهموم، وتكثير الأرزاق، وفي الحديث " من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً، ومن كل هم فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب " أخرجه أبو داود وابن حبان والنسائي، قال الشوكاني: وفي (1) الحديث الذي ذكرناه أن الإكثار من الاستغفار، فيه المخرج من كل ضيق، والفرج من كل هم، وحصول الأرزاق من حيث لا يحتسب ولا يكتسب، فمن حصل له ذلك عالق في نعمة سالماً من كل نقمة.
الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنّي لأستغفر الله ".
1000 - " باب التوبة "
1149 - معنى الحديث: أن ابن مسعود تحدث في حديثه هذا بحديثين: أولهما: حديث تحدث به من عنده، وليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما
__________
(1) " تحفة الذاكرين " للشوكاني.(5/272)
أحدُهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - والآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى في ذُنُوبِهِ كأنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَل يَخَافُ أنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أنْفِهِ، فَقَال بِهِ هَكَذا، ثُمَّ قَالَ: " للهُ أفْرَحُ بتوبةِ عَبْدِهِ منْ رَجُل نَزَلَ مَنْزِلاً وَبِهِ مَهلكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلتهُ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً، فاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلتهُ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الحَرُّ وَالْعَطَشُ أوْ مَا شَاءَ اللهُ قَالَ: أرْجِعُ إلى مَكَاني، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ فَإذَا رَاحِلتُهُ عِنْدَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هو من كلام ابن مسعود رضي الله عنه وموقوف عليه قال فيه: " إن المؤمن يرى في ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه " أي إن المؤمن الكامل يستعظم ذنوبه، ويستكبرها، ويخاف منها خوفاً شديداً، ولو كانت من الصغائر، فإذا وقع في شيء منها تملكه الرعب، كأنه تحت جبل عظيم يوشك أن يقع عليه. " وإن الفاجر " أي الفاسق المستهتر " يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه، فقال به هكذا " أي يستهين بالمعاصي مهما عظمت، حتى أنه يرى كبائر الذنوب سهلة يسيرة كأنها ذباب مرّ على أنفه فلا يعبأ به أو يكترث له. ثانيهما: حديث مرفوع رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه " قال: لله أفرح بتوبة عبده " واللام للتوكيد، كأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول: أؤكد لكم أن الله أشد فرحاً بتوبة عبده إذا تاب إليه " من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة " أي نزل محطة في فلاة من الأرض، لا ماء فيها، ولا أحد يسكنها " ومعه راحلته " أي دابته التي يركب عليها، " عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه، فنام نومة " يسيرة قصيرة " فاستيقظ وقد ذهبت راحلته " أي ذهبت عنه دابته، وتركته في تلك المفازة المهلكة، والأرض القاحلة دون طعام ولا ماء، بمعنى أنه وجد نفسه عندما انتبه من النوم قد فقد دابته، وبقي فريداً وحيداً، منقطعاً لا زاد معه ولا ماء "حتى(5/273)
إذا اشتد عليه الحر والعطش، أو ما شاء الله" من الخوف والقلق والهموم النفسية واستولى عليه اليأس فاستسلم للموت جوعاً وعطشاً وما كان منه إلا أن " قال: ارجع إلى مكاني فرجع فنام، ثم رفع رأسه، فإذا راحلته عنده " وعليها طعامه وشرابه، فلما فوجىء هذه المفاجأة السارة، وعاد إليه الأمن والاطمئنان، واستبشر بالسلامة والنجاة، قال كما في رواية أخرى: " اللهم أنت عبدي وأنا ربك " أخطأ من شدة الفرح، فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: قوة حساسية المؤمن، وشدة خوفه من الله، واستعظامه لما يتعرض له من صغائر الذنوب، حيث يراها كالجبال الضخمة التي توشك أن تقع عليه فتهلكه. وقسوة قلب الفاجر، وعدم إحساسه بالذنوب. ولو كانت كبائر، لأنه يراها كالذباب يمر على وجهه، فلا يلقي لها بالاً. ثانياًً: قبول التوبة الصادقة وفرح الله تعالى بها، ورضاه عن صاحبها، فالتوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها ولكن لها شروط ثلاثة: الأول: ترك المعصية والابتعاد عنها بالكلية، لأن الاستغفار بلا إقلاع توبة الكذابين.. كما قال الفضيل بن عياض. وسمع أعرابي وهو متعلق بأستار الكعبة يقول: اللهم إن إستغفاري مع إصراري للؤمٌ. وإن تركي استغفارك مع علمي بسعة عفوك لَعَجْز، فكم تتحبب إليّ بالنعم مع غناك عني، وكم أتبغض إليك بالمعاصي مع فقري إليك إلخ. الثاني: الإِحساس بالذنب والندم عليه، وتألم النفس منه: الثالث: العزم على أن لا يعود إليه. قال ابن حجر: فإن كان عليه حق كقضاء صلاة فلا يسامح بصرف وقت في نفل وفرض كفاية لم يتعين عليه، أي بل يبدأ أولاً بقضاء الفرائض حتى إذا قضاها جميعاً التفت إلى النوافل، فإن كان عليه حق للآدميين فلا تقبل التوبة إلاّ بالتخلص منه، ورد المظلمة إلى صاحبها، أو تحصيل البراءة منه كما قال النووي. ثالثاً: دل الحديث على أن العبد لا يؤاخذ بالخطأ اللساني الذي يقوله في حال دهشته وذهوله، لأن هذا الرجل قال من شدة الفرح: " اللهم أنت عبدي وأنا ربك ". الحديث: أخرجه(5/274)
1001 - " بَابُ النَّوْمِ علَى الشِّقِّ الأيْمَنِ "
1150 - عَنَ البَرَاءِ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَوَى إلى فِرَاشِهِ نَامَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنَ ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ أسْلَمْتُ نَفْسِي إلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَاتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً ورَهْبةً إليْكَ، لا مَلْجَأ ولا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أنزَلْتَ، وَنَبِيِّكَ الَّذِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشيخان. والمطابقة: في قوله: " لله أفرح بتوبة العبد ".
1001 - " باب النوم على الشق الأيمن "
1150 - معنى الحديث: يقول البراء رضي الله عنه: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى (1) إلى فراشه " أي إذا أَتى مضجعه وأراد أن ينام " نام على شقه الأيمن " أي نام على جانبه الأيمن " ثم قال: اللهم أسلمت نفسي إليك " أي جعلتها خالصة لك، منقادة لحكمك " ووجهت وجهي إليك " أي جعلت عملي الصالح لك وحدك " وفوضت أمري إليك " أي توكلت عليك، ورددت أمري إليك " وألجأت ظهري إليك " أي واعتمدت عليك دون سواك " رغبة ورهبة إليك " أي إنما فعلت ذلك طمعاً في رحمتك، وخوفاً من عذابك، كما قال تعالى: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) " لا ملجأ (2) ولا منجى منك إلا إليك " وهذه جملة تعليلية، أي وإنما كانت رغبتي ورهبتي إليك، لأنه لا مهرب، ولا مخلص ولا ملاذ (3) من عقوبتك إلاّ إلى رحمتك "آمنت بكتابك
__________
(1) بقصر الهمزة.
(2) بالهمزة وبعدمها تخفيفاً.
(3) " المرقاة شرح المشكاة " للقاري ج 3.(5/275)
أرْسَلْتَ" وقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَالَهُنَّ ثُمَّ مَاتَ تَحْتَ لَيْلَتِهِ مَاتَ عَلَى الفِطْرَةِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الذي أنزلت" وهو القرآن الكريم " ونبيك الذي أرسلت " وهكذا ختم هذا الدعاء بالإِيمان بكتاب الله ورسالة محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، ويدخل في ذلك جميع شرائع الإِسلام وعقائد الإيمان " وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قالهن " يعني هذه الكلمات " ثم مات تحت ليلته " أي في تلك الليلة " مات كل الفطرة " أي على الإيمان والتوحيد وفي رواية: " وإن أصبحت أصبت خيراً ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب النوم على الجانب الأيمن، ووضع اليد اليمنى تحت الخد الأيمن لما جاء في هذا الحديث من أنه - صلى الله عليه وسلم - " كان إذا أوى إلى فراشه نام على شقه الأيمن " والحكمة في استحباب النوم على الشق الأيمن أنه أسرع في الانتباه من النوم، لعدم استقرار القلب بخلاف النوم على الشق الأيسر، حيث يستريح القلب، فيستغرق العبد في النوم، ويبطىء في الاستيقاظ منه. كما أن الإكثار من النوم على الجنب الأيسر، وإن كان أهنأ وأمتع، إلاّ أنه يضر القلب لضغط بقية الأعضاء عليه. ثانياً: استحباب هذا الدعاء المبارك المذكور في الحديث عند النوم، لأنه يعود على صاحبه بفائدة عظيمة، وهي الموت على فطرة الإِسلام، والفوز بخيري الدنيا والآخرة إذا أصبح سليماً معافى، ويستحب له أن يتوضأ قبل هذا الدعاء، لما جاء في رواية أخرى عن البراء بن عازب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " إذا أخذت مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: " اللهم إني أسلمت وجهي إليك " إلخ قال النووي: وفيه ثلاث سنن مهمة: الوضوء عند النوم، لأن المقصود النوم على طهارة، والنوم على اليمين، والختم بذكر الله. الحديث: أخرجه أيضاً مسلم وأصحاب السنن بألفاظ مختلفة. والمطابقة: في قوله "نام(5/276)
1002 - (بَابُ التَعَوُّذِ والْقِرَاءَةِ عِنْدَ النَّوْمِ)
1151 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا:
أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كاَنَ إِذَا أخذَ مَضْجَعَهُ، نَفَثَ في يَدَيْه، وقَرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ، وَمَسَحَ بِهِمَا جَسَدَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على شقه الأيمن".
1002 - " باب التعوذ والقراءة عند النوم "
1151 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أخذ مضجعه " أي كان إذا أراد أن ينام " نفث في يديه " أي نفخ في كفّيه نفخاً خفيفاً مصحوباً بريقه " وقرأ بالمعوّذات " أى وقرأ سورة الإخلاص والفلق والناس " ومسح بهما جسده " أي ومسح بكلتا يديه جسده من أعلاه إلى أسفله، يمسح رأسه أولاً، ثم وجهه، ثم بقية جسمه، قال في " شرح المصابيح ": ظاهر الحديث يدل على أنه نفث في كفه أولاً، ثم قرأ المعوّذات، ولم يقل به أحد، والنفث ينبغي أن يكون بعد التلاوة، ليوصل بركة القرآن إلى القارىء.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه يسن للمسلم إذا أوى إلى فراشه أن يحصن نفسه بهذه التعويذة المباركة، فيقرأ على نفسه الإِخلاص والمعوذتين، وينفخ في كفّيه نفخاً خفيفاً مصحوباً بريقه، ثم يمسح رأسه، ثم وجهه، ثم بقية جسمه، ويفعل ذلك ثلاثاً كما جاء في الرواية الأخرى. الحديث: أخرجه الخمسة غير الترمذي. والمطابقة: في قولها: " وقرأ بالمعوذات ".
***(5/277)
1003 - " بَابُ الدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ "
1152 - عنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ:
أنهُ كَتَبَ إلى مُعَاوِيَةَ بْنِ أبي سُفْيَانَ أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَقُولُ في دبُرِ كُلِّ صَلاةٍ إِذَا سَلَّمَ: " لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيْءٍ قَدِير، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لما أعْطَيْتَ، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، ولا يَنْفَعُ ذَا منك جَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1003 - " باب الدعاء بعد الصلاة "
1152 - معنى الحديث: أن المغيرة بن شعبة كتب إلى معاوية رضي الله عنه كتاباً ذكر له فيها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دبر كل صلاة: " أي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - دائماً يقول بعد انتهائه من أي صلاة من الصلوات الخمس: " إذا سلم " أي بعد سلامه، يقول: " لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " والجدُّ بفتح الجيم الغنى والثروة، وقال بعضهم: هو البخت والحظُّ، أي لا ينفع الإِنسان حظه من الدنيا إذا حرم من طاعة الله، وخسر في الآخرة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من الأدعية المأثورة المسنونة هذا الذكر المقترن بهذا الدعاء المبارك، فيسن للمسلم أن يدعو به بعد كل صلاة مكتوبة معتقداً لمعناه، موقناً بمضمونه وفحواه، سائلاً ربه من خزائن جوده وكرمه، لأنه المعطي والمانع وحده لا شريك له، متضرعاً إليه أن يوفقه لطاعته، لأن من حُرِمَ ذلك لا يفيده حظه، ولا ينفعه حسبه ونسبه. والمطابقة: في(5/278)
1004 - " بَاب يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يعْجَل "
1153 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: " يُسْتَجَابُ لأحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " كان يقول في دبر كل صلاة " إلخ.
1004 - " باب يستجاب للعبد ما لم يعجل "
1153 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " يستجاب لأحدكم " أي يجاب دعاؤه " ما لم يعجل " أي أن العبد لا يزال يجاب دعاؤه مدة عدم استعجاله في حصول الإِجابة، فإذا داوم على الدعاء دون استكثار أو ملل أو سآمة مع رجاء الإِجابة وحسن الظن بالله تعالى فإن دعوته مستجابة إن شاء الله، وإن تأخرت الإِجابة بعض الوقت، لأن الله تعالى قد جعل لكل شيء قدراً فلا يتقدم شيء عن إبانه، ولا يتأخر عن أوانه أما حين يتعجل العبد " ويقول: دعوت فلم يستجب لي " أي قد كثر سؤالي، وتكرر دعائي، فلم أنل شيئاً مما طلبت ويستبطىء حصول المطلوب، وييأس من الإجابة وينقطع عن الدعاء، عند ذلك يحرم بالفعل من الإِجابة، لأنها مشروطة بعدم الاستعجال. قال ابن بطال: ومعنى قوله: " دعوت فلم يستجب لي " أي أنه يسأم فيترك الدعاء، فيكون كالمانّ بدعائه، أو أنه أَتى من الدعاء ما يستحق به الإِجابة فيصير كالمتبخّل للرب الكريم، الذي لا تعجزه الإِجابة ولا ينقصه العطاء.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من شروط الدعاء وآدابه أن لا يستعجل الإِجابة، وأن يلح في الدعاء مرات ومرات دون يأس أو ملل، أو ضجر نفسي، قال الحافظ في هذا الحديث أدب من آداب الدعاء،(5/279)
1005 - " بَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ الكَرْبِ "
1154 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الكَرْبِ: "لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ العَظيمُ الحَلِيمُ، لا إلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ السَّمَواتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهو أن يلازم الطلب، ولا ييأس من الاجابة لما في ذلك من الانقياد والاستسلام، وإظهار الافتقار، حتى قال بعض السلف: لأنا أشد خشية أن أحرم الدعاء من أن أحرم الاجابة، وكأنه أشار إلى حديث ابن عمر رفعه: " من فتح له منكم باب من أبواب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة " أخرجه الترمذي والحاكم (1) . ثانياً: دل هذا الحديث على أن الإلحاح في الدعاء مع قوة الرجاء سبب في الإجابة وتحقيق المطلوب لقول الصادق المصدوق: " يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ". ثالثاً: قال الداودي: يخشى (2) على من خالف وقال: دعوت فلم يستجب لي أن يحرم الإجابة، وما قام مقامها من الادّخار والتكفير. رابعاً: أنه لا يليق بالمؤمن، ولا يصدق عليه أن يقول: " دعوت فلم يستجب لي " لأن دعوة المؤمن مجابة في عموم الأحوال إما أن تعجل له الإجابة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها، وإما أن يدخر له في الآخرة خير مما سأل. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
1005 - " باب الدعاء عند الكرب "
1154 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما "أن
__________
(1) وإسناده ضعيف، وقال الترمذي هذا حديث غريب. (ع) .
(2) " فتح الباري " ج 11.(5/280)
وَرَبُّ الأرْضِ وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكرب" أي عندما يشعر باشتداد الغم عليه، واستيلائه على نفسه الشريفة: قال ابن علان: " الكرب " بفتح فسكون هو الأمر الذي يشق على الإنسان، ويملأ صدره غيظاً. وقال الواحدي: الكرب أشد الغمّ، فكان - صلى الله عليه وسلم - يلجأ إلى هذا الدعاء المبارك قائلاً: " لا إله إلاّ الله " أي لا معبود بحق سوى الله " العظيم " أي العظيم القدر، الجليل الشأن في ذاته وصفاته وأفعاله " الحليم " أي الذي لا يعاجل العاصي بالعقوبة، بل يؤخرها، وقد يعفو عنه مع القدرة عليه، " لا إله إلاّ الله رب العرش العظيم " قال ابن علان (1) " العظيم " بالجر عند الجمهور، وقال الداودي: هو بالرفع صفة رب، قال القاري: أي فلا يطلب إلاّ منه، ولا يسأل إلاّ عنه، لأنه لا يكشف الكرب العظيم إلاّ الرَّبُّ العظيم (2) " لا إله إلاّ الله رب السموات والأرض " أي خالق كل شيء فيهما، ومالكه، ومصلحه، والمتصرف فيه كيف شاء وكما شاء. " رب العرش الكريم " بالجر صفة للعرش، فقد وصفه بالكرم، أي بالحسن من جهة الكيفية، ووصفه بالعظمة من جهة الكمية.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: قال الشوكاني في هذا (3) الحديث مشروعية الدعاء بما اشتمل عليه لمن نزل به كرب، وبعد فراغه يدعو بأن يكشف الله عنه كربه، ويذهب عنه ما أصابه، ويدفع عنه ما نزل به، قال الطيبي: هذا ذكر يترتب عليه رفع البلاء والكرب (4) فإن قيل: هذا
__________
(1) " دليل الفالحين شرح رياض الصالحين ".
(2) " المرقاة شرح المشكاة " ج 3.
(3) " تحفة الذاكرين شرح الحصن الحصين " للشوكاني.
(4) " المرقاة شرح المشكاة " ج 4.(5/281)
1006 - " بَاب فضلِ التهْلِيلِ "
1155 - عَنْ أبِي هرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْه:
أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ قَالَ: لا إلَهَ إلَّا الله وَحْدَة لا شَرِيكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذكر وثناء، وليس فيه أي طلب أو دعاء، فالجواب على ذلك من وجهين: أحدهما: أنه يبدأ ويستفتح بهذا الذكر، ثم يدعو بما شاء، ويذكر حاجته، ويسأل ما يريد، ويؤيده كما قال القاري: ما رواه أبو عوانة: " ثم يدعو بعد ذلك " ثانيهما: أن هذا الذكر والثناء يتضمن الدعاء عن طريق التعريض والإيماء، فإن الشاعر قد يستغني بالثناء على ممدوحه عن التصريح بحاجته وهو أبلغ، وفي هذا يقول أمية بن أبي الصلت:
إذَا أثْنَى عَلَيْكَ المَرْءُ يَوْماً ... كَفَاه عَنْ تعَرُّضِهِ الثناءُ
وفي الخبر: " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ".
ثانياًً: أن هذا الذكر دعاء عظيم اشتهر عند السلف بدعاء الكرب، قال الطبري: وكان يوصي بعضهم بعضاً بهذا الدعاء ويعلمونه لأولادهم وبناتهم، كما روي أن عبد الله بن جعفر، رضي الله عنه لما زوج ابنته قال لها: إذا نزل بك أمرٌ فاستقبليه بأن تقولي: لا إله إلاّ الله الحليم الكريم الخ، وقد جرب الناس هذا الدعاء، فمن ذلك ما وقع للحسن البصري رحمه الله قال: أرسل إليّ الحجاج، فقلت هذه الكلمات، فلما وصلت إليه قال: والله لقد أرسلت إليك أريد أن أقتلك، فلأنت اليوم أحب إلي من كذا وكذا، وزاد في لفظ أنه قال له: فسل حاجتك. الحديث: أخرجه الشيخان كما أخرجه الترمذي بلفظ آخر. والمطابقة: في قوله: " كان - صلى الله عليه وسلم - يقول عند الكرب لا إله إلاّ الله " إلخ.
1006 - " باب فضل التهليل "
1155 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(5/282)
لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِير فِي يَومٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَت لَهُ عَدْلُ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مِائَة حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطَانِ يَومَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِي، وَلَمْ يَأتِ أحَدٌ بِأفْضَلَ مِمَّا جاءَ بِهِ إلَّا رَجُلٌ عَمِلَ أكثَرَ مِنْهُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال: من قال لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له" أي من قال هذا الذكر الشريف بعد صلاة الفجر، كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه حيث قال: " من قال في دبر صلاة الفجر " " لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له " وهو تأكيد لمضمون الجملة السابقة، لأن معنى لا إله إلاّ الله: لا معبود بحق سواه، وهو معنى قوله: " وحده لا شريك له " إلاّ أن هذه أعمّ، لأن معناها لا شريك له في ألوهيته وربوبيته وصفاته وأفعاله " له الملك " أي له الملك الدائم الباقي، وكل ملك لغيره إلى زوال " وله الحمد " لأنه المنفرد بالكمال المطلق، ولأنه هو المنعم الحقيقي فما من نعمة في الوجود إلاّ هو مصدرها، والمنعم بها (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) " وهو على كل شيء قدير " فلا يخرج شيء عن قدرته ومشيئته " مائة مرة، كان له عدل عشر رقاب " أي كان له من المثوبة والأجر ما يساوي عتق عشر رقاب " وكتبت له مائة حسنة " " ومحيت عنه مائة سيئة " والمعنى كتبت له في سجل حسناته مائة سمي حسنة، ومحيت من سجل سيئاته مائة سيئة " وكانت له حرزاً من الشيطان " أي حصناً حصيناً من أذى الشيطان " ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به " أي ولم يقل أحد شيئاً من الأذكار المأثورة أفضل مما قال.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل التهليل (1) وأثره في تكفير السيئات، واكتساب الحسنات، ورفع الدرجات، والحفظ من
__________
(1) وهو قول لا إله إلا الله.(5/283)
1007 - " بَابُ فضلِ التَّسْبِيحِ "
1156 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ في يَوْم مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ وَإنْ كَانَتْ مِثلَ زَبَدِ الْبَحْرِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشيطان، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، لأنه يعدل عتق عشر رقاب، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضوٍ منها عضواً منه من النار ". ثانياً: أن التهليل أفضل الأذكار لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لم يأت أحد بأفضل مما جاء به " ولما فيه من كتابة مائة حسنة، ومحو مئة سيئة، وعتق عشر رقاب، وكونه حرزاً من الشيطان، وهذه المزايا كلها لا توجد في التسبيح وغيره. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث يدل على الترجمة.
1007 - " باب فضل التسبيح "
1156 - معنى الحديث: أن من سبح الله تعالى بهذه الصيغة المباركة " من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة " سواء كان ذلك ليلاً أو نهاراً، صباحاً أو مساءً " حطت عنه خطاياه " أي غفرت ذنوبه " وإن كانت مثل زبد البحر " وهي الرغوة التي تعلو وجه ماء البحر، وما أكثرها في بحور الدنيا، أي ولو كانت ذنوبه في كثرتها مثل زبد البحر الموجود في بحار الدنيا كلها. والباء في قوله: " سبحانه وبحمده " للمقارنة أي أنزه الله تعالى عن كل ما لا يليق به تنزيهاً مقترناً بالثناء عليه ووصفه بكل صفات الكمال والجمال والجلال التي وصف بها نفسه، ووصفه بها نبيّه - صلى الله عليه وسلم - (1) .
__________
(1) وذلك هو توحيد الأسماء والصفات.(5/284)
1008 - "بَاب فضلِ ذِكْرِ اللهِ تعَالَى"
1157 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْه قَالَ:
قَالَ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ للهِ مَلائِكَةً يَطوفونَ في الطُّرقِ، يَلْتَمِسُونَ أهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْماً يَذْكرونَ الله عَزَّ وَجَلَّ تَنَادَوْا هَلمُّوا إلى حَاجَتِكمْ، قَالَ: فَيَحفُّونهُمْ بِأجْنِحَتِهِمْ إلى السَّمَاءِ الدُّنيا، قَالَ: فَيَسْألهُمْ رَبُّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ أعْلَمُ بِهِمْ: ما يَقُولُ عِبَاديِ؟ قَالَ: تَقُول: يُسَبَّحُونَكَ وَيكَبِّرونَكَ وَيحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ، قَالَ فَيَقُولُ: هَلْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل التسبيح عامة، وفضل هذا التسبيح خاصة، وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًً: أن هذا التسبيح يمحو الذنوب مهما كثر عددها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ولو كانت مثل زبد البحر. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ متعددة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على أن التسبيح يكفّر الخطايا ولو كانت مثل زبد البحر.
1008 - " باب فضل ذكر الله تعالى "
1157 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن لله ملائكة يطوفون في الطرق " بضمتين " يلتمسون أهل الذكر " أي أن الله كلف طائفة مخصوصة من الملائكة غير الحفظة للسياحة في الأرض، يدورون في طرق المسلمين ومساجدهم، ودورهم، يطلبون مجالس الذكر، يزورونها ويشهدونها ويستمعون إلى أهلها. قال الحافظ: والأشبه اختصاص ذلك بمجالس التسبيح ونحوها " فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله عز وجل " وفي رواية مسلم " فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر تنادوا " أي نادى بعضهم بعضاً " أن هلموا إلى حاجتكم " وفي رواية إلى بغيتكم، أي تعالوا إلى ما تبحثون عنه من مجالس(5/285)
رَأوْنِي؟ قَالَ: فَيَقُولُون: لا وَاللهِ مَا رَأوْكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: فكَيْفَ لَوْ رَأوْنِي؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَو رَأوْكَ كانُوا أشَدَّ لَكَْ عِبَادَةً، وأشَدَّ لَكَ تَمجِيداً، وأكْثَرَ تَسْبِيحاً، قال: فَيقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟ قَالَ: يَسْألُونَكَ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقْولُ: وَهَلْ رَأوْهَا، قَالَ: يَقولُونَ: لا وَاللهِ يَا رَبِّ مَا رَأوْهَا، قَالَ: فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أنَّهُمْ رَأوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لو أنَّهُمْ رَأوْهَا كَانُوا أشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصاً، وأشَدَّ لَهَا طَلَباً، وأعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يقُولُونَ: مِنَ النَّارِ، قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لا وَاللهِ يا رَبِّ مَا رَأوْهَا، قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأوْهَا؟ قَالَ: يَقولُونَ: لَو رَأوْهَا كَانُوا أشَدَّ مِنْهَا فِراراً، وأشَدَّ لَهَا مَخَافَةً، قَالَ: فَيقُولُ: فأُشْهِدُكُمْ أني قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الذكر، والوصول إلى أهلها، لتزوروهم، وتستمعوا إلى ذكرهم، " قال فيحفونهم " أي يحيطون بهم إحاطة السوار بالمعصم " فيحفونهم بأجنحتهم " أي يطوفون حولهم بأجنحتهم " إلى السماء " أي حتى يصلوا إلى السماء " قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم " أي وهو أكثر علماً بأحوالهم، تنويهاً بشأنهم في الملأ الأعلى، ليباهى بهم الملائكة " ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبحونك، ويكبرونك، ويحمدونك ويمجدونك " أي فتقول الملائكة: إن هؤلاء الذاكرين يقولون: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر، فالتمجيد هو قول لا إله إلاّ الله، لما فيه من تعظيم الله تعالى، بتوحيد الألوهية " لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد تمجيداً وأكثر لك تسبيحاً " لأنّ الاجتهاد في العبادة على قدر المعرفة " قال: فما يسألونني؟ " أي فماذا يطلبون مني " قالوا: يسألونك الجنة " أي يذكرونك، ويعبدونك طمعاً في جنتك(5/286)
مِن المَلاِئكَة: فِيهِمْ فُلان لَيْسَ مِنْهُم، إنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الجُلَسَاءُ لا يَشْقَى بِهِمْ جلِيسُهُمْ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" لو رأوها كانوا أشد عليها حرصاً " أي لكانوا أكثر سعياً إليها، لأنه ليس الخير كالمعاينة. " قال: فمم يتعوذون " أي فأي شيء يخافون منه؟ ويسألون ربهم أن يجيرهم منه " قال: يقولون: من النار " أي يذكرون ويعبدون ربهم خوفاً ً من النار، ويسألونه عز وجل أن يجيرهم منها. " لو رأوها كانوا أشد منها فراراً " أي لكانوا أكثر اجتهاداً في الأعمال الصالحة التي هي سبب في النجاة من النار " قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم " أي قد غفرت لهم ذنوبهم " قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة " أي إنه يوجد من بين هؤلاء الذاكرين " فلان " وهو ليس منهم، ولكنه جاء لحاجة يقضيها فجلس معهم، فهل يغفر له " قال: هم الجلساء لا يشقى جم جليسهم " قال الطيبي: أي هم جلساء لا يخيَّب جليسهم فيشقى.
فقه الحديث: قال الحافظ: في الحديث فضل الذكر والذاكرين، وفضل الاجتماع على ذلك، وأن جليسهم يندرج معهم في جميع ما يتفضل الله به عليهم إكراماً لهم. وقال ابن القيم في " الوابل الصيب ": ومجالس الذكر مجالس الملائكة ورياض الجنة، وجميع الأعمال إنما شرعت لِإقامة ذكر الله، وأفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه لله ذكراً. اهـ. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر ".
***(5/287)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب الرفاق "
1009 - "بَابُ مَا جَاءَ الصِّحَّةِ والفَراغ وَلا عَيْشَ إلَّا عَيشُ الآخِرَةِ"
1158 - عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " نِعْمَتَانِ مَغْبُون فِيْهِمَا كَثِير مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ، والفَراغُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" كتاب الرقاق "
قال السيوطى: الرقاق هي الكلمات التي تَرِقُّ بها القلوب إذا سُمِعَتْ، وتَرْغب عن الدنيا بسببها وتزهد فيها.
1009 - " باب ما جاء في الصحة والفراغ ولا عيش إلاّ عيش الآخرة "
1158 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " نعمتان " عظيمتان جليلتان " مغبون فيهما كثير من الناس " أي لا يعرف قدرهما ولا ينتفع بهما كثير من الناس في حياته الدنيوية والأخروية، وهما: " الصحة " أي صحة البدن والنفس وقوتهما " والفراغ " أي خلو الإنسان من مشاغل العيش وهموم الحياة وتوفر الأمن والاطمئنان النفسي، فهما نعمتان عظيمتان، لا يقدرهما كثير من الناس حق قدرهما، ولا ينتهزون فرصة وجودهما في الأعمال النافعة، بل يدعونها تمر دون فائدة، حتى إذا مرت وفاتت الفرصة، وتبدلت الصحة مرضاً، والقوة(5/288)
ضعفاً، والفراغ شغلاً، تنبهوا من غفلتهم، وشعروا بالندم، وأدركوا أنهم قد خسروا نعمة صحتهم وفراغهم، فغُبنوا، وحزنوا أشد الحزن على ما فرطوا فيه فكان مثلهم في ذلك كمثل التاجر الذي يبيع سلعته بخسارة، حتى إذا شعر بأنه قد نقص رأس ماله حزن وندم على ما وقع له بسبب غفلته. وتفريطه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: الترغيب في انتهاز الفرص المواتية من صحة وفراغ، ومال، ومركز، وجاه، والاستفادة منها فيما يرضي الله (1) تعالى لأن الفرصة قلما تعود إلى صاحبها مرة أخرى، فالعاقل من ينتهزها، ويغتنمها في طاعة الله، وقد جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لم يتحسر أهل الجنة إلاّ على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله تعالى فيها ". ثانياً: قال السيوطي: في (2) معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس " معناه أن الإنسان لا يتفرغ للطاعة إلاّ إذا كان مكفياً صحيح البدن، فقد يكون مستغنياً، ولا يكون صحيحاً، وقد يكون صحيحاً ولا يكون مستغنياً، فلا يكون متفرغاً للعلم والعمل لشغله بالكسب، فمن حصل له الأمران: " الصحة والفراغ " وكسل عن الطاعات فهو المغبون الخاسر. في تجارته. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على أهمية الصحة والفراغ وهو ما ترجم له البخاري.
***
__________
(1) وفي الحديث عن عمرو بن ميمون الأزدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل وهو يعظه: " اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك " أخرجه الترمذي مرسلاً، رواه الحاكم في المستدرك موصولاً عن ابن عباس، وصححه ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. (ع) .
(2) " المرقاة شرح المشكاة " ج 5.(5/289)
1010 - " بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: كُنْ في الدُّنْيا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابِرُ سَبِيلٍ "
1159 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
أخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَنكِبِي فَقَالَ: " كُنْ في الدُّنيا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابرُ سَبِيل "، وَكَان ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إذَا أمْسَيْتَ فلا تَنْتَظِرِ الصَّباحَ، وإذَا أصْبَحْتَ فلا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1010- " باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل "
1159 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " أخذ رسول الله بمنكبي " أي أمسك النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي، وذلك لتنبيهه إلى التوجه إليه والاستماع إلى حديثه، والمنكب مجمع العضد والكتف " فقال: كن في الدنيا كأنك غريب " أي لا تركن إلى الدنيا، وكن فيها مثل الغريب الذي لا يعلق قلبه إلاّ بوطنه، واعلم أن وطنك الحقيقي هو الدار الآخرة. فلا تغتر بالدنيا، لأنها ليست دار خلود وبقاء، وإنما هي دار زوال وفناء. " أو عابر سبيل " وهو المسافر فما أنت في دنياك إلاّ مسافر إلى وطنك الحقيقي وهو الدار الآخرة، وما هذه الأيام والسنون والأعوام إلاّ مراحل العمر التي تنتهي بك إلى أجلك المحتوم الذي لا تدرى متى يأتي. " إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح " أي لا تؤخر عملاً من الطاعات إلى الصباح، فلعلك تكون من أهل القبور " وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء " أي فلا تؤخر عمل الخير إلى المساء فقد تعاجلك المنون "وخذ(5/290)
من صحتك لمرضك" قال ابن رجب (1) : معناه اغتنم الأعمال الصالحة في الصحة قبل أن يحول بينك وبينها السقم " ومن حياتك لموتك " أي واغتنم في حياتك الدنيا ما ينفعك بعد موتك، كما قال تعالى (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [المائدة: 48] .
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه ينبغي للعاقل أن لا يغتر بالدنيا ويجعلها أكبر همه، بل يفكر في مصيره ورحيله عنها إلى دار القرار، فما هو إلاّ عابر سبيل، وقد قال الشاعر:
سَبيْلُكَ في الدُّنْيا سَبيلُ مسافِر ... وَلَا بُدَّ مِنْ زَادٍ لكلِّ مُسَافِرِ
وقال آخر (2) :
وَمَا هَذ الأيَّامُ إلَّا مراحِلٌ ... تَمُر وَتُطْوَى والمُسَافِرُ قَاعِدُ
وإنما أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتفكير في الموت، والانتقال إلى عالم آخر، يجازى فيه ْالمرء على أعماله، خيراً أو ضراً، لأن مجرد التفكير في ذلك المصير المحتوم، وفي ْذلك الموقف العظيم، يؤدي بالعبد إلى الاستقامة وحسن السلوك، والمواظبة على صالح الأعمال، فإن الغرور بالدنيا، والاستغراق في حبّها، والتكالب عليها هو سبب كل الشرور التي تعانيها الإنسانية اليوم، من ظلم، واستبداد، وقلق، وعدوان، وهو مصداق الخبر: " حب الدنيا (3) رأس كل خطيئة " (4) أخرجه البيهقي في " شعب الإيمان " بإسناده إلى الحسن البصري رفعه مرسلاً وقيل: هو من قول عيسى عليه السلام، قيل: من قول مالك بن دينار وقال شيخ الإسلام
__________
(1) " جامع العلوم والحكم " لابن رجب الحنبلي.
(2) " الفتوحات الوهبية في شرح الأربعين النووية " للشبرخيتي المالكي.
(3) " مشكاة المصابيح " وشرحها للقاري ج 5.
(4) وعن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " هل من أحد يمشي على الماء إلا ابتلت قدماه؟ قالوا: لا يا رسول الله قال: كذلك صاحب الدنيا لا يسلم من الذنوب " رواه البيهقي في " شعب الإيمان " وإسناده ضعيف. (ع) .(5/291)
ابن تيمية: هو من قول جندب بن عبد الله البجلي. ثانياً: أنه ينبغي للعاقل مسابقة الزمن، والمبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل فوات الأوان كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: " إذا أصبحت فلا تنتظر المساء " فإنه يحذرنا رضي الله عنه في وصيته من تأخير الأعمال الصالحة عن وقتها خشية أن تحول المنيّة بيننا وبينها. وقد كان محمد بن واسع إذا أراد النوم قال لأهله: أستودعكم الله، فلعلي لا أقوم من نومتي هذه. قال ابن رجب: فالواجب على المؤمن المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل أن يحال بينها وبينه بمرض أو موت أو غيره، وهو مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم -: كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: " اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك " أخرجه الحاكم في المستدرك، ولهذا قال سعيد بن جبير: كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة. وقال المزني (1) : ما من يوم أخرجه الله إلى الدنيا إلّا ويقول: يا ابن آدم اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي، ولا ليلة إلاّ تنادي: ابن آدم اغتنمني لعله لا ليلة لك بعدي. وقال بعضهم:
لا تُرجِ فِعْلَ الخيْرِ يوماً إلى غدٍ ... لَعَلَّ غَداً يصيْرُ إلى زَوَالِ
ثالثاً: أن في هذا الحديث تحريض على الإكثار من ذكر هادم اللذات وقد قال بعض أهل العلم: من أكثر ذكر الموت (2) أكرم بثلاثةٍ: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، والنشاط في العبادة. ومن نسيه عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة وعدم الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي وأحمد وابن ماجه. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث.
***
__________
(1) " جامع العلوم والحكم " لابن رجب الحنبلي.
(2) " شرح الجرداني على الأربعين النووية ".(5/292)
1011 - " بَابُ مَنْ بَلَغ سِتِّينَ سَنَةً فَقَد أعْذَرَ اللهُ إليْهِ "
1160 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أعْذَرَ اللهُ تَعَالَى إلى امْرِىءٍ أخَّرَ أجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1011 - " باب كل من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه "
1160 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أعذر الله إلى امرىء " أي قطع عذره في ارتكاب المعاصي " أخَرَ أَجَله " أي إذا أطال عمره " حتى بلغه ستين سنة " وهو على قيد الحياة. والمعنى: أن من طال عمره حتى بلغ ستين عاماً لم يبق له عذر في اقتراف الخطايا، لأنه يجب عليه أن يستعد للقاء الله تعالى.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الشيخوخة نذير الموت والرحيل عن الدنيا ولهذا ينبغي لمن بلغ الستين الاستعداد للقاء الله، فقد قال بعض الحكماء: الأسنان أربعة: سن الطفولة، وسن الشباب، وسن الكهولة، وسن الشيخوخة، فإذا بلغ الستين وهو آخر الأسنان، فقد ظهر فيه ضعف القوة وتبين فيه النقص والانحطاط، وجاء نذير الموت، فهو وقت الإِنابة إلى الله. ثانياً: قال الحافظ: في الحديث إشارة إلى أن استكمال الستين مظنة انقضاء الأجل، وأصرح من ذلك ما أخرجه الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة رفعه " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك " قال القاري: وأكثر ما اطلعنا في هذه الأمة من المعمرين من الصحابة والأئمة سن أنس بن مالك، فإنه مات وله من العمر مائة وثلاث سنين. الحديث: أخرجه البخاري وأحمد. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.(5/293)
1012 - " بَابُ مَا قَدَّمَ مِنْ مَالِهِ فَهُوَ خيْرٌ لَهُ "
1161 - عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أْحَبُّ إلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا مِنَّا أحَدٌ إلَّا مَالُهُ أحَبُّ إِلَيْهِ، قَالَ: " فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أخَّرَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1012 - " باب ما قدم من ماله فهو خير له "
1161 - معنى الحديث: يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه قائلاً " أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله " يعني أي واحد منكم يحب مال وارثه الذي يتملكه من بعده أكثر مما يحب ماله الذي يملكه في حياته " قالوا: ما منا أحد إلاّ ماله أحب إليه " أي ليس هناك إنسان إلاّ ويجد نفسه يحب ماله الذي يملكه أكثر مما يحب مال غيره، لأن ما يملكه هو الوسيلة إلى تحقيق رغباته " قال: فإن ماله ما قدم " أي هو ذلك المال الذي يصرفه في حياته على نفسه، وصالح أعماله من حج، وزكاة، ووقف، وبناء مدرسة، وعمارة فسجد، ومستشفى، أو ينفقه على نفسه وعياله، لأنه هو الذي ينفعه في الدنيا والآخرة. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في قوله: " فإن ماله ما قدم ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على الترغيب في إنفاق المال في طرقه المشروعة من النفس والأهل والولد، وبذله في المشاريع الخيرية، فإن مال الإِنسان ما ينفقه في حياته، لا ما يتركه بعد مماته، وفي الحديث: " يقول ابن آدم: مالي مالي، وليس لك من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت ".(5/294)
1013 - " بَابُ "كيْفَ كَانَ عَيْشُ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصْحَابِهِ وَتخلِّيهِمْ عَنِ الدُّنيَا "
1162 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيِ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
" مَا شَبعَ آل مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامٍ بُرٍّ ثَلاثَ لَيَالٍ تِبَاعاً حتَّى قبِضَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1013 - " باب كيف كان عيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتخليهم عن الدنيا "
1162 - معنى الحديث: أن السيدة عائشة رضي الله عنها أرادت أن تصف لنا معيشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقدم لنا صورة واضحة عنها، فقالت: " ما شبع آل محمد - صلى الله عليه وسلم - من طعام بر " أي من طعام قمح " ثلاث ليال تباعاً " أي ثلاث ليال متوالية متتابعة وإنما كان أغلب قوته وقوت أهل بيته الشعير أو التمر " حتى قبض " أي هكذا كانت معيشة سيد الأولين والآخرين، ومعيشة آل بيته الكرام، حتى توفاه الله إليه، كما جاء في رواية أخرى عن عائشة رضي الله عنها قالت: " ما أكل آل محمد - صلى الله عليه وسلم - أكلتين في يوم إلاّ إحداهما تمر "، وفي الحديث الصحيح عن قتادة قال: " كنا نأتي أنس بن مالك وخَبَّازه قائم وقال: كلوا فما أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رغيفاً مرققاً حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطاً -أي مشوية- بعينه قط " يعني ما رأى شاة مشوية مدة حياته. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: كيف كان يعيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وآل بيته حياة التقشف والزهد ايثاراً للحياة الباقية على الدار الفانية، كما قال - صلى الله عليه وسلم - لعمر رضي الله عنه: " أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة "(5/295)
1014 - " بَابُ حِفْظِ اللِّسَانَ "
1163 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إنَّ العَبْدَ ليتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ لا يُلْقِي لهَا بالاً يَرْفَعُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإنَّ الَعبدَ ليتكَلمُ بالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ الله لا يُلْقِى لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا في جَهنم ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثانياًً: فضيلة الزهد والاكتفاء بالقليل من العيش، وكونه من أخلاق النبيين، وسيرة سيد المرسلين ولا شك أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما زهد في الدنيا اختياراً فقد كان في إمكانه - صلى الله عليه وسلم - أن ينعم بالدنيا وزهرتها، وأن تصير له الجبال ذهباً وهذا يدل على أن الزهد سلوك إسلامي فاضل مشروع، ولا سبيل لإنكاره، وقد أمر به - صلى الله عليه وسلم - في قوله: " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " فدل ذلك على استحبابه، لأن أقل مقتضيات الأمر الاستحباب والندب. والمطابقة: في قولها: " ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام بر " من حيث أن فيه بيان عيش آل النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوجه المذكور.
1014 - " باب حفظ اللسان "
1163 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله " أي من كلمات الخير التي ترضي الله عزّ وجل من نصيحة أو تعليم، أو أمر بمعروف، أو إصلاح بين الناس، أو نهي عن منكر، أو دفع مظلمة " لا يلقي لها بالاً " أي لا يعيرها اهتماماً، ولا يقيم لها وزناً " يرفع الله بها درجات " أي يرفع الله بها ذلك المتكلم درجات عالية في الجنة " وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله " أي من الكلمات التي تسخط الله كالغيبة والنميمة والكذب مثلاً " لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم " أي يسقط بسببها(5/296)
1015 - " بَابُ ليَنْظُرْ إلَى مَنْ هُوَ أسْفَلَ مِنْهُ، ولا يَنْظُرْ إلى مَنْ فَوْقَهُ "
1164 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِذَا نَظَرَ أحَدُكُمْ إلى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ في المَالِ والخَلْقِ فَلْيَنْظر إلى مَنْ فُي أسْفَلَ مِنْهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في جهنم يوم القيامة، وفي رواية: " يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: التحذير من عثرات اللسان ومخاطرها، لأن كلمة الشر كالقذيفة المدمرة التي تعود على صاحبها فتحرقه بنارها في جهنم، قيل لبكر بن عبد الله المزني: إنك تطيل الصمت فقال: إن لساني سبع إن تركته أكلني. وكان المأمون يقول: السخافة كثرة الكلام، وصحبة الأنذال. ثانياًً: الترغيب في الكلمة الطيبة، وكونها سبباً في رفعة الإِنسان في الدنيا والآخرة، فهي كنز من كنوز الخير، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ". الحديث: أخرجه الشيخان بألفاظ مختلفة. والمطابقة: في كون الحديث يرغب في حفظ اللسان، وهو ما ترجم له البخاري.
1015 - " باب النظر إلى من هو أسفل منه ولا ينظر إلى من فوقه "
1164 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق " أي إذا امتدت عين المسلم عفواً وعن غير قصد إلى من يفوقه مالاً أو جسماً أو صورة، وتأثر بذلك نفسياً " فلينظر إلى من هو أسفل منه " يعني فليوجه بصره قصداً إلى من هو أقل منه مالاً، وأدنى جسماً(5/297)
1016 - " بَابُ مَن هَمَّ بِحَسَنَةٍ أوْ بِسَيِّئَةٍ "
1165 - عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضيَ اللهُ عَنْهمَا:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيمَا يَرْوِي عَنْ ربِّهِ جَلَّ وَعَلا قَالَ: قَالَ "إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالى كَتَبَ الحَسَنَاتِ والسيئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وصورة من فقراء الناس وضعفائهم، حتى يشعر بالنعمة التي هو فيها، ويشكر الله عليها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إرشاد المسلم إلى أفضل الوسائل التي تؤدي به إلى السعادة النفسية، وتشعره بالرضا بما قسم له، وهو أن ينظر في أمور الدنيا إلى من هو أقل منه مستوى، فإنه إذا فعل ذلك شعر بالارتياح النفسي حتماً، وفاض قلبه بالشكر والامتنان لله تعالى، فكان من الصابرين الشاكرين. ثانياًً: أن في العمل بهذا الحديث وقاية للإنسان من كثير من الأمراض النفسية كالحسد والحقد والشر، وغيرها. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
1016 - " باب من هم بحسنة أو بسيئة "
1165 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " فيما يروي عن ربه " أي في الحديث القدسي الذي يرويه عن الباري عز وجل " إن الله تبارك وتعالى كتب الحسنات والسيئات " أي أمر الحفظة بكتابة الحسنات والسيئات للعبد ليجازيه بهما في الدار الآخرة " ثم بين ذلك " أي ثم بين الله للملكين كيف يكتبانها " فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة " أي فمن نوى حسنة وأراد أن يفعلها، ولكنه لم يفعلها لمانع، أو لغير مانع، كتبها الله عنده حسنة كاملة(5/298)
كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حسَنَاتٍ إلى سَبْعِمَائَةِ ضِعْفٍ إلى أضْعَافٍ كَثِيرةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَم يَعْمَلْها كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غير منقوصة، والعندية هنا لك شريف والتكريم. " فإذا هو هم بها فعملها كتبها الله عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة " فقد يضاعف ثوابها إلى سبعمائة وإلى أضعاف ذلك بحسب زيادة الإِخلاص. " ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة " أي لا ينقص من ثوابها شيء " فإن هم بها فعملها كتبها الله عليه سيئة واحدة " دون زيادة أو مضاعفة كما في الحسنات.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من همّ بالحسنة، ولم يفعلها لعذر أو لغير عذر تكتب له حسنة كاملة، والظاهر أنه لا يشترط أن يكون قد عزم عليها، بل يكفي مجرد الميل إليها، أو حديث النفس بها، لما جاء في رواية الأعرج: " إذا أراد "، وفي رواية أبي هريرة: " إذا تحدث " وهو محمول على حديث النفس. فإذا حدثته نفسه بالحسنة، أو مال إليها، أو أرادها ولم يفعلها كتبت له حسنة، ولا يشترط العزم، بل بمجرد الإرادة تكتب الحسنة، سواء كان الترك لمانع، أم لا. اهـ. كما أفاده الحافظ. ثانياًً: ظاهر الحديث أن من هم بالسيئة ولم يفعلها يثاب على تركها مطلقاً، واختلفوا في معنى ذلك، فذهب بعضهم إلى أن المراد به كلُّ هم ولو عزم على فعلها، ووطن نفسه عليها ولم يفعلها، فإنه يعفى عنه لما في حديث أبي هريرة " فأنا أغفرها له ما لم يعملها " أخرجه مسلم، ويثاب على تركها لقوله في حديث الباب: " ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة " وحكاه الماوردي عن كثير من الفقهاء والمحدثين ونُقِل ذلك عن الشافعي. وقال الباقلاني وغيره: من عزم على المعصية بقلبه يأثم، وحمل الأحاديث الواردة في العفو على الخاطر، وحديث(5/299)
1017 - " بَابُ الرِّيَاءِ والسُمْعَةِ "
1166- عن جُنْدُبَ رضي اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي الله بِهِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النفس، والميل إلى المعصية دون تصميم عليها، وذكر القاضي عياض أن عامة السلف على ما قاله الباقلاني لاتفاقهم على المؤاخذة بأعمال القلوب، والظاهر أنه لا تكتب السيئة حسنة إلاّ إذا تركها خوفاً من الله (1) . الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: كما قال العيني في قوله: " فمن همّ بحسنة " وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ومن هم بسيئة ".
1017 - " باب الرياء والسمعة "
1166 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من سمَّع سمَّع الله به "
أي من عمل عملاً من الأعمال الصالحة يَقْصِدُ به أن يسمع به الناس، فيشتهر عندهم بالدين والخير والصلاح، جازاه الله تعالى على عدم إخلاصه بالفضيحة بين الناس، وأظهر لهم منه ما كان يبطنه (2) فأصبحوا ينظرون إليه باستهانة واحتقار، " ومن يرائي يرائي الله وبه " أي وكذلك من يحاول أن يطّلع الناس على أعماله الصالحة لكي ينال عندهم حظاً من المدح والثناء، أو منزلة وجاهاً، فإنَّ الله يُطْلِعُهُمْ على أنه لم يفعل ذلك لوجه الله.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على التحذير الشديد من الرياء والسمعة لأنّهما يعودان على صاحبهما بالفضيحة في الدنيا، وفساد العمل وبطلانه في
__________
(1) لما جاء في الحديث: " فإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة " أخرجه البخاري.
(2) " شرح العيني " ج 23.(5/300)
1018 - " بَابُ قَوْل اللهِ تعَالَى (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) "
1167 - عَنْ أبي هُريْرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ في الأرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعاً، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآخرة. الحديث: أخرجه الشيخان وابن ماجة. والمطابقة: تؤخذ من لفظ الحديث ومعناه.
1018 - " باب قول الله تعالى: (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) "
1167 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يعرق الناس يوم القيامة " أي يجمع الله الخلائق في ذلك المحشر العظيم فيشتد الكرب، وتدنو " الشمس من الرؤوس فتشتد الحرارة، وترشح الأجسام بالعرق الغزير، " حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً ويلجمهم حتى ييلغ آذانهم " أي يغمر العرق أجسامهم حتى يصل إلى آذانهم وهو كما قال العيني: مأخوذ من ألجمه الماء إذا بلغ فاه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: اشتداد الكرب على الناس في المحشر وتكاثر العرق، فيه بسبب حرارة الشمس، وشدة الزحام، وفي حديث مسلم، " تدنو الشمس يوم القيامة حتى تكون منهم كمقدار ميل " الخ ويبلغ الكرب بالناس مبلغاً عظيماً حتى يتمنّى أحدهم أن يذهبوا به ولو إلى النار، كما في الحديث " إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة فيقول: يا رب أرحني ولو إلى النار " أخرجه الطبراني بسند جيد. ثانياً: أن الناس لا يتساوون في المحشر،(5/301)
1019 - "بَابُ صِفَةِ الجَنَّةِ والنَّارِ "
1168 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأهْلِ الجَنَّةِ: يا أهْلَ الجَنةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيكَ رَبَّنا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لا نَرْضَى؟ وَقَدْ أعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أحَداً مِنْ خَلْقِكَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولا يتساوون في العرق أيضاً، بل يعانون منه بحسب أعمالهم، كما روي عن ابن عمر، بسند لا بأس به، قال: " يشتد الكرب ذلك اليوم حتى يلجم الكافر العرق " قيل له: فأين المؤمن قال: " على كرسي من ذهب يظلل عليه الغمام " وفي رواية: " فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً " وأشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فيه " أخرجه مسلم. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الحديث يدل على شدة ذلك اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين. قال العيني: فإنه يتضمن بعض ما فيه (1) ، والمناسبة بهذا القدر كافية.
1019 - " باب صفة الجنة والنار "
1168 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة " أي إن الله تعالى ينادي أهل الجنة بنسبتهم إليها تذكيراً لهم بهذه النعمة العظيمة التي أنعم بها عليهم " فيقولون: لبيك ربنا وسعديك " أي إجابة بعد إجابة، وإسعاداً بعد إسعاد " فيقول: هل رضيتم؟ " أي هل رضيتم بما أعطاكم ربكم من الجنة ونعميها؟ أو هل رضيتم
__________
(1) أي يتضمن بيان بعض ما في ذلك اليوم من الشدائد.(5/302)
فَيَقُولُ: أنَا أُعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَب وَأيُّ شَيْءٍ أفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيكُمْ رِضْوَانِي فَلا أسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أبداً".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عن ربكم؟ " فيقولون: وما لنا لا نرضى " يعني أي مانع لنا من الرضا، وقد غمرتنا بفضلك وإحسانك وأعطيتنا ما لم يكن يخطر لنا على بال، " وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك " إن من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، ويصح ولا يسقم، ويشب ولا يهرم، ويحيا ولا يموت. " فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ " أي وهل هناك نعيم أعظم من النعيم الذي نحن فيه " فيقول: أُحِل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً " أي فيقول الله تعالى لهم: نعم هناك ما هو أعظم نعمة، وأكثر سعادة من الجنة وما فيها، وهو الرضوان الإلهي الذي لا يساويه شيء من نعم الله، فإذا أردت أن أمنحكم السعادة العظمى، وقد أردت لكم ذلك منحتكم الرضوان الدائم الذي لا سخط بعده.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن نعيم أهل الجنة لا يعدله نعيم، ولا تساويه سعادة أخرى، وأن الله يعطي أهل الجنة ما يرضيهم، ويقرّ أعينهم كما يدل عليه قولهم: " وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، ومن السعادة التي يمنحها الله أهل الجنة رضوانه عليهم الذي وصفه الله تعالى بأنه أكبر من كل نعيم، وأعظم من كل سعادة، حيث قال تعالى: (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وإنما كان هذا الرضوان أكبر لأنه سبب كل فوز وكرامة، وطريقٌ إلى رؤية الله تعالى. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ".(5/303)
1169 - عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ أهْوَنَ أهْلِ النَّارِ عَذَاباً يَوْمَ القِيَامَةِ رَجُلٌ عَلَى أخمص قَدَمَيْهِ جَمْرَتَان يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِى المِرْجَلُ بِالقُمْقُمَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1169 - معنى الحديث:. يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة " أي إن أخف الناس وأقلهم وأيسرهم عذاباً من أهل النار " رجل على أخمص (1) قدميه جمرتان " أي رجل يوضع على باطن قدميه جمرتان من النار " يغلي منهما دماغه " أي يفور دماغه من شدة حرارتهما " كما يغلي المرجل " أي كما يفور ماء القدر على النار، " والقمقم (2) " أي وكما يفور القمقم قال في " القاموس " المرجل القدر من الحجارة أو النحاس، والقمقم اسم رومي معرّب، وهو كما في " المصباح " إناء من نحاس يسخن فيه الماء.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: شدة نار جهنم، لأنه إذا كان أخفها تغلي له الرؤوس، وتفور الأدمغة، فما بالك بما زاد على ذلك، وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن أهون أهل النار عذاباً هو أبو طالب كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه " أخرجه البخاري. ثانياً: أن أهل النار يتفاوتون في العذاب فبعضهم أهون من بعض. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: في كون الحديث يدل على وصف نار جهنم بشدة عذابها.
__________
(1) والأخمص بفتح الميم وضمها: هو ما لا يصل إلى الأرض من باطن القدم.
(2) قال عياض: الصواب " كما يغلي المرجل والقمقم " بواو العطف.(5/304)
1020 - " بَابٌ في الحَوْضِ "
1170 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
قَال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " حَوضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، مَاوهُ أبيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ " وَكِيْزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، من شَرِبَ مِنْهُ فَلا يَظْمَأُ أبَداً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1020 - " باب في الحوض "
أي هذا باب يذكر فيه الأحاديث الواردة في وصف الحوض المورود.
1170 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " حوضي مسيرة شهر " يعني مقدار ما يسير المسافر شهراً كاملاً، وفي رواية: " وزواياه سواء " أي أنه مربع مستوي الزوايا والجوانب كما في حديث أبي ذر حيث قال فيه: " عرضه مثل طوله " أخرجه مسلم والترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب " ماؤه أبيض من اللبن " أي أشد بياضاً من اللبن، وفي رواية: " ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل " " وريحه أطيب من المسك " أي أحلى رائحة وأجمل طيباً من رائحة المسك " وكيزانه كنجوم السماء " أي أن الأكواب الموضوعة على جانبيه عدد نجوم السماء، وفي رواية عن أنس رضي الله عنه قال: " ترى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء " من شرب منه فلا يظمأ أبداً " أي من شرب من ذلك الحوض فإنه يشعر بالري الأبدي، فينقطع عنه الظمأ إلى الأبد، ويجوز في يظماء الجزم على أن من شرطية، والرفع على أنها موصولة كما ذكره الطيبي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب الإِيمان بحوض النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الحوض المورود، ومن أنكر ذلك فهو فاسق مبتدع، وقد نفته المعتزلة، والأحاديث الصحيحة حجة عليهم، وفي الحديث الصحيح: "إن(5/305)
لكل نبي حوضاً، وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردةً، وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردةً" أخرجه الترمذي، وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إني فرطكم على الحوض، ومن مرّ علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً " متفق عليه، وقد عد العلماء الإيمان بالحوض المورود من العقائد الإسلامية الثابتة في الأحاديث الصحيحة التي تكاد تبلغ درجة التواتر، قال ابن حجر الهيتمي: " وقد اختلف العلماء: هل الحوض في أرض المحشر قبل جواز الصراط، أو في أرض الجنة؟ " والراجح عند أهل العلم أنه قبل الصراط، وهو قول الجمهور، وصححه بعضهم، لأن الناس يخرجون من قبورهم عطاشاً فيردون الحوض للشرب منه، وهذا هو الصحيح، لما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " بينا أنا نائم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم، فقلت: أين؟ قال: إلى النار والله " فهذا الحديث يدل على أن جماعة يدفعون عن الحوض بعد أن كادوا يَرِدُونه يذهب بهم إلى النار، والذي يمر على الصراط كما قال الحافظ يكون قد نجا من النار، وفي هذا دلالة صريحة على أنّ الحوض قبل الصراط، بل قبل الميزان وقبل الحساب. ثانياً: دل هذا الحديث على وصف ماء الحوض بأنه أشد بياضاً من اللبن، وأطيب رائحة من المسك، وفي بعض الأحاديث " أحلى من العسل " أما أوانيه وأكوابه وأقداحه أو أباريقه فإنها من الذهب والفضة، وعددها أكثر من نجوم السماء. وأما من شرب منه فإنه يرتوي إلى الأبد. وأما طوله فإنه مسيرة شهر، وكل ما جاء من الأحاديث في ذلك فإنه يدور حول هذا المعنى. وأما شكل الحوض فهو مربع مستوي الجوانب والزوايا، كما في الحديث الصحيح " عرضه مثل طوله " أخرجه مسلم. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الحديث يدل على وجود الحوض وأوصافه حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " حوضي مسيرة شهر ".
***(5/306)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب القدر "
والقدر: بتحريك الدال، وهو مصدر قدرت الشيء -بفتح الدال المخففة- إذا أحطت بمقداره. وأل في كلمة القدر عوض عن المضاف إليه، أي تقدير الله للأمور قبل وقوعها، ولهذا قالوا: المراد من القدر أن الله تعالى عَلِمَ مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد. قال في " التنبيهات السنية ": القدر تعلق علم الله تعالى وإرادته أزلاً بالكائنات قبل وجودها، فلا حادث إلاّ وقد قدّره أزلاً، أي سبق به علمه، وتعلقت به إرادته. وقال ابن تيمية: الإِيمان، بالقدر على درجتين: الأولى: الإِيمان بأن الله علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، الذي هو موصوف به أزلاً، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، وكتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلق، فأوّل ما خلق القلم: القلم، فقال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فما أصاب الإِنسان لم يكن ليخطأه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه جفت الأقلام وطويت الصحف، وإذا خلق الله جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه، بعث إليه ملكاً، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال: اكتب رزقه وأجله، وشقي أم سعيد، ونحو ذلك، فهذا القدر قد كان ينكره غلاة القدرية، كمعبد الجهني، وعمرو بن عبيد. أما الثانية فهي مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإِيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن ما في السموات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلاّ بمشيئة الله، لا يكون في ملكه ما لا يريد، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته، ونهاهم عن معصيته وهو سبحانه يحب المتقين ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين،(5/307)
1021 - " بَاب جَفَّ القَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللهِ "
1171 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْن رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَجلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أيعْرَفُ أهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: " نَعَمْ " قَالَ: فَلِمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: " كُل يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أوْ لِمَا يُيَسَّرُ لَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والعباد فاعلون، والله خالق أفعالهم، وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم، وخالق قدرتهم وإرادتهم، قال: وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية.
1041 - " باب جف القلم على علم الله "
1171 - معنى الحديث: " قال رجل: يا رسول الله أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ " أي سأل رجل وهو عمران بن حصين النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل علم الله تعالى أهل الجنة من أهل النار قبل خلقهم، وأطلَعَ ملائكته عليهم فعرفوهم؟ " قال: " نعم " عَلِمَ الله تعالى أهل الجنة وأهل النار منذ الأزل، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، وعَرَّف به الملائكة قبل خروج الناس إلى الدنيا فكتبوا الشقيَّ والسعيد منهم " قال: فلم يعمل العاملون " وفي رواية " ففيم العمل يا رسول الله؟ " قال الحافظ: معناه إذا سبق العلم بذلك، فلا يحتاج العامل إلى العمل، لأنه سيصير إلى ما قدر له " قال: كل يعمل لما خلق له " وفي حديث عمر مرفوعاً " إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله به النار " أخرجه مالك والترمذي وأبو داود. ويؤيده ما جاء في حديث علي(5/308)
رضي الله عنه حيث قال فيه: " أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل السعادة. وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل الشقاوة " متفق عليه. قال الحافظ: فإن عمل العبد: أمارة على ما يؤول إليه أمره غالباً. اهـ. وهذا هو معنى قوله: " كلٌّ يعمل لما خلق له أو لما يُسِّر له " أي فإن العمل يسوقه إلى ما كتب له في الأزل من سعادة أو شقاء، فإذا عمل الأعمال الصالحة فليُسَرَّ بذلك، ويرجو أن يكون من أهلها، لأن العمل الصالح علامة على أن العبد قد كتبت له السعادة كما يدل عليه الحديث.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إثبات القضاء والقدر، وكونهما حقيقة ثابتة، لا شك فيهما، ومعناهما كما قال أهل العلم: أن الله تعالى علم بجميع الكائنات وأزمانها وأحوالها وأفعالها من خير أو شر، وكتب في اللوح المحفوظ كل ما يصدر من الخلق من طاعة ومعصية وإيمان وكفر، وأطلع الملائكة على أحوال الإِنسان قبل ظهوره إلى هذه الحياة عندما أمر الملك أن يكتب عليه أقداره وهو لا يزال في بطن أمه إذن فالقدر حقيقة ثابتة، وهو عقيدة من عقائد الإيمان كما يدل عليه حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعاً " من مات على غير هذا " أي على غير الإيمان بالقضاء والقدر " فليس منّي " رواه أبو داود في باب القدر، وعن ابن الديلمي رضي الله عنه قال: أتيت أُبي بن كعب فقلت: في نفسي شيء من القدر فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي، فقال: " لو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار " قال فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجه الحاكم في " مستدركه " (1) وفي رواية عن ابن وهب: " فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار ".
__________
(1) ورواه أيضاً أحمد وأبو داود وابن ماجه، وإسناده صحيح (ع) .(5/309)
فإن في هذا الأحاديث دلالة واضحة على أن إنكار القدر من أكبر الكبائر لما يترتب عليه من إحباط العمل ودخول النار وبراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن مات على ذلك. وقد انقسمت الأمة بالنسبة إلى القدر إلى طوائف أربعة: الأولى: تعتقد أن الله لا يعلم شيئاً من أعمال الإِنسان إلاّ بعد وقوعه، وتنفي إحاطة العلم الإِلهي بالكائنات قبل وجودها، وهؤلاء أسوأ الفرق لنسبتهم الجهل إلى الله تعالى، وهم غلاة المعتزلة. الثانية: أثبتت علم الله بأفعال العباد قبل وجودها ونفت خلقه لها، فقالت: يعلمها ولا يخلقها، فالانسان هو الذي يخلق الطاعة والمعصية بنفسه، ولا علاقة لله تعالى بذلك، وهم عامة المعتزلة كما صرح بذلك الزمخشري وهو من كبار علمائهم حيث قال: أما الطاعة فمن العبد، ولكن الله قد لطف به في أدائها، وكذلك المعصية منه أيضاً، والله تعالى بريء منها، وهاتان الفرقتان هما القدرية التي جاءت الأحاديث بذمهم والتحذير منهم، كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم " أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم. الثالثة: ضلت ففسرت القدر " بالجبر " فقالت: إن أفعال الإِنسان كلها من طاعة أو معصية أو غيرها هي من الله خلقاً وفعلاً، وليس للإِنسان فعل أو إرادة واختيار، وإنما هو مجبر على أعماله وتصرفاته الشخصية، وإضافة الفعل إلى العبد كإضافته إلى الجمادات. فهو كريشة معلقة في الهواء، أو كحجر في الماء حتى، قال شاعرهم:
ما حِيْلَةُ العَبْدِ والأقدَارُ جَاريَة ... عَلَيْهِ في كُلِّ حالٍ أيُّها الرائي
ألقَاهُ في اليَمِّ مَكْتُوفاً وقالَ لهُ ... إيَّاكَ إيَّاكَ أن تَبْتَلَّ بالماءِ
وتسمى هذه الفرقة الجبرية أو المرجئة. الرابعة: وهم أهل السنة والجماعة، ويتلخص مذهبهم في القدر: أن الله يعلم بأفعال العباد قبل وجودها وبخلقها عند وجودها، لكن الإِنسان حرٌّ في أفعاله، فاعل لأعماله، تصدر عنه تلك الأفعال(5/310)
حقيقة بمحض حريته واختياره، وتصرفات الإِنسان الشخصية الواقعة في إطار التكليف والمسؤولية كلها اختيارية دون أن يتعارض ذلك مع القدر في شيء، لأن علم الله لا تأثير له في سلب حرية الإنسان واختياره، فإن لله مشيئته وللإِنسان مشيئته، ولا تعارض بين المشيئتين كما قال تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) ولهذا قال الخطابي: قد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله سبحانه العبد على ما قدره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمون، وإنما معناه الإِخبار عن تقدم علم الله سبحانه بما سيكون من اكتسابات العبد وخلقه لها خيرها وشرها. وعلم الله سبحانه بما سيقع لا تأثير له في إرادة العبد، فإن العلم صفة انكشاف لا صفة تأثير. ثانياً: دل قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كل يعمل لما خلق له " على أنه ينبغي للعبد الإكثار من الطاعات والاجتهاد في الأعمال الصالحة، فإن ذلك دليل السعادة، لأن عمل الإِنسان علامة على ما يؤول إليه أمره غالباً. قال ابن القيم: اتفقت هذه الأحاديث على أن القدر لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتكال عليه، بل يوجب الجد والاجتهاد، ولذلك لما جمع بعض الصحابة قوله: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " قال: ما كنت أشد اجتهاداً مني الآن، وذلك لأن العبد ينال ما قدر له بالسبب الذي أُقدِرَ عليه، ومُكِّن منه، وهُيىء له، فإذا أَتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب، وكلما ازداد اجتهاداً في تحصيل السبب كان حصول المقدور أدنى إليه، فمن عطل العمل اتكالاً على القدر فهو بمنزلة من عطّل الأكل والشرب والحركة في المعاش وسائر أسبابه اتكالاً على ما قدر له. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث يدل على إثبات القدر، وعلم الله بأعمال العباد قبل وقوعها، وهو ما ترجم له البخاري.
***(5/311)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب الأيْمَانِ والنُذور "
الأيمان جمع يمين، واليمين لغة: يطلق على معان متعددة، منها القوة النافذة، واليد اليمنى، كقوله تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) وكقوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) ، ومنها القسم والحلف الشرعي، وهو المقصود باليمين شرعاً. واليمين شرعاً: هو تأكيد الفعل أو الترك، أو الخبر بذكر الشيء المعظم في النفس (1) الذي يشعر الحالف نحوه بالتعظيم المطلق، وغاية الخوف والخشية منه إن خالف ما حلف عليه، ولا يكون اليمين إلاّ بذكر اسم الله تعالى، أو صفة من صفاته إذ لا يجوز الحلف بغير الله، لأن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به تعظيماً مطلقاً، والخوف والخشية منه، وهي لا تكون إلاّ لله تعالى. وأقسام اليمين: ثلاثة (أ) يمين اللغو (ب) واليمين المنعقدة (جـ) واليمين الغموس. أما اليمين اللغو: فهي الحلف عن غير (2) قصد اليمين كأن يقول المرء: والله لتأكلن أو لتشربن " أو نحو ذلك، ولا يقصد بها قسماً، أو بعبارة أخرى: هي ما يجري على اللسان دون إرادة القسم، وإليه ذهب الشافعية ومن وافقهم، وقال مالك وأبو حنيفة والليث والأوزاعي: لغو اليمين أن يحلف على شيء يظن صدقه، فيظهر خلافه، فهو من باب الخطأ وعن أحمد روايتان كالمذهبين. وحكم يمين اللغو أنه لا إثم فيها ولا كفارة عليها. أما اليمين المنعقدة وحكمها فهي أن يحلف على أمر مستقبل أن يفعله أو لا يفعله، وحكمها وجوب الكفارة عند الحنث، كما قال تعالى:
__________
(1) " تيسير العلام شرح عمدة الأحكام ".
(2) " فقه السنة " ج 3.(5/312)
1022 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى
(لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) "
1172 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ لِي النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا عَبْدَ الرَّحْمَنَ بْنَ سَمُرةَ لا تَسْأَلَ الإِمَارَةَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) . أما اليمين الغموس: وتسمى أيضاً يمين الزور، واليمين الفاجرة فهي اليمين الكاذبة، ومعناها أن يحلف على شيء يعتقد فيه الكذب اعتقاداً جازماً ويتأكد أنه خلاف الواقع، ولكنه يحلف قاصداً الخيانة، وإضاعة الحق وتأييد الباطل. أما حكمها: فهي كبيرة من أعظم الكبائر لفظاعتها ولا كفارة فيها عند أكثر أهل العلم لفظاعتها وشناعتها، وعظم جرمها، وإنما تجب فيها التوبة، ورد الحقوق إلى أصحابها، وعن ابن مسعود موقوفاً: " كنا نعد الذي لا كفارة له اليمين الغموس أن يحلف الرجل على مال أخيه كاذباً ليقتطعته ". قالوا: ولا مخالف له من الصحابة، ولكن تكلم ابن حزم في صحة هذا الأثر، وذهب الشافعي وآخرون إلى وجوب الكفارة في اليمين الغموس، واختاره ابن حزم.
1522 - " باب قول (1) الله تعالى:
(لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) "
1172 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه: " يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإِمارة " أي لا تطلب من إمام
__________
(1) هكذا ترجم له في نسخة العيني.(5/313)
فَإِنَّكَ إِنْ أُوْتِيْتَهَا عَنْ مَسْألةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإنْ أُوْتِيْتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْألةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأيتَ غَيْرَها خَيراً مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِيْنكَ، وائْتِ الذي هُوَ خَيْرٌ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المسلمين الإِمارة -بكسر الهمزة- أو غيرها من الولايات التي تتعلق بها مصالح الناس، لأنها أمانة كبرى ومسؤولية عظمى " فإنك إن أوْتِيْتَها عن مسألة وكلت إليها " أي فإنك إن وليت فيها بسبب سعيك وإلحاحك في طلبها وُكِلْتَ إلى جهدك وقوتك دون معونة ربانية وأنت لا تقدر عليها دون عون من الله تعالى "وإن أوتيتها عن غير مسألة" أي وإن جاءتك من غير طلب " أعنت عليها " أي أعانك الله على مسؤولياتها. " وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير " قال في " تيسير العلام ": أي إذا حلفت على أمر لتفعله أو لتدعه، فإن كان لا يترتب على حلفك شيء فأنت مخيّر بين المضاء فيها أو التكفير، وإن كان الأحسن هو فعل المحلوف على تركه، أو ترك المحلوف (1) على فعله، فأت الذي هو خير، وكفّر عن يمينك.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: كراهية طلب الإِمارة وغيرها من الولايات والحرص عليها لما في ذلك من تعريض النفس لعمل ربما لا يقوم بحقوقه، فيعرِّض نفسه للخطر ولما فيه غالباً من سوء القصد، فإنه لا يطلبها مع وجود من يقدر عليها إلاّ لغرض مال أو جاه أو غير ذلك من المقاصد. ثانياً: أن من جاءته الولاية دون طلب أو استشراف يعان عليها، لأنه يرى القصور في نفسه وحينئذ سيلتجىء إلى الله تعالى فيعينه عليها. ثالثاً: أنه يستحب الحنث في اليمين والتكفير عنها، إذا رأى أن الخير والأفضل والأنفع شرعاً في ترك المحلوف على فعله، أو في فعل المحلوف على تركه، كما فعل الصديق رضي الله عنه عندما
__________
(1) " تيسير العلام " ج 2.(5/314)
غضب على مسطح، فحلف أن لا يتصدق عليه، فلما نزل قوله تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) فقال: بلى أحب أن يغفر الله لي، فأعطى مسطح وكفر عن يمينه. رابعاً: وجوب الكفارة على كل من حنث في يمينه كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فكفّر عن يمينك وائت الذي هو خير " وهو معنى قوله تعالى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) إلخ، وتتلخص كفارة اليمين في أحد أربعة أمور: الأول: إطعام عشرة مساكين من غالب قوت البلد لكل مسكين مُد (1) . الثاني: كسوة كل واحد منهم ثوباً وسروالاً ونحوه. الثالث: عتق رقبة. الرابع: إن لم يكن قادراً على الكفارات السابقة يصوم ثلاثة أيام. خامساً: في الحديث تقديم الكفارة على الحنث حيث قال: فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير، إلاّ أنه انعقد الإجماع على مشروعية تقديم الحنث على الكفارة، فذهبت الحنفية (2) إلى وجوب تقديم الحنث، وذهب جماهير أهل العلم إلى أن تقديم الحنث مستحب لا واجب، وأنه يجوز تقديم الكفارة، لما ورد في هذا الحديث، إلاّ في كفارة الصيام عند الشافعي، فإنه لا يجوز تقديمها، لأنها عبادة بدنية لا يجوز تقديمها عن وقتها، ووقتها بعد الحنث، والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فكفر عن يمينك ".
***
__________
(1) لكل مسكين مد عند مالك والشافعي، وذهب بعضهم إلى أنه لكل مسكين نصف صاع بر أو صاع من غيره، وهو مذهب أبي حنيفة.
(2) " سبل السلام " ج 4.(5/315)