أن يغتسل لها، كما يسن ذلك للرجال، لعموم هذا الحديث. لكن جاء في حديث أبي سعيد تخصيص الاغتسال بالرجال البالغين حيث قال: " غسل الجمعة واجب على كل محتلم ". وقد جمع النووي بين الحديثين فقال: هذا الحديث ظاهر في أن الغسل مشروع للبالغ سواء أراد الجمعة أو لا. وحديث: " إذا جاء أحدكم ".. ظاهر في أنه لمن أرادها سواء البالغ والصبي، فيقال في الجمع بينهما إنّ الغسل يستحب لكل مريد للجمعة، ويتأكد في حق الذكور أكثر من النساء، ويتأكد في حق البالغين أكثر من الصبيان (1) . اهـ. ولهذا ذهب الجمهور إلى أنه يسن الغسل لكل من أراد حضور الجمعة ممن لا تجب عليه، كالنساء والصبيان والمسافرين وغيرهم. وأن هذا الغسل سنة مطلقاً لكل من أَتى الجمعة، سواء كانت تلزمه أم لا، وأنه لصلاة الجمعة لا ليوم الجمعة، فلا يشرع لمن لا يريد حضورها، وإنما اختلفوا في وقته. قال القسطلاني (2) : وقد علم من تقييد الغسل بالمجيء، أن الغسل للصلاة، لا لليوم، وهو مذهب الشافعي (2) ومالك وأبي حنيفة (3) فلو اغتسل بعد الصلاة؛ لم يكن للجمعة، ولو اغتسل بعد الفجر أجزأه عند الشافعية والحنفية، خلافاً للمالكية والأوزاعي، وفي حديث اسماعيل بن أمية عن نافع عند أبي عوانة وغيره؛ كان الناس يغدون في أعمالهم، فإذا كانت الجمعة؛ جاءوا وعليهم ثياب متغيرة فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من جاء منكم الجمعة فليغتسل. واستدل به المالكية في أنه لا بد أن يكون الغسل متصلاً بالذهاب، لئلا يفوت الغرض، وهو وقاية الحاضرين من التأذّي بالروائح حال الاجتماع، وهو غير مختص بمن تلزمه. اهـ. وقال ابن قدامة
__________
(1) " شرح النووي على مسلم " ج 6.
(2) " شرح القسطلاني على البخاري ج 2.
(3) وهو مذهب أبي يوسف أيضاً قال في " الهداية ": " ثم هذا الغسل للصلاة عند أبي يوسف رحمه الله تعالى، وهو الصحيح لزيادة فضليتها على الوقت واختصاص الطهارة بها.(2/242)
في " المغني " (1) : وإن أتاها أي الجمعة من لا تجب عليه؛ استحب له الغسل لعموم الخبر. ووجود المعنى فيه - أي لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من أتى الجمعة فليغتسل ". " أما المالكية؛ فقد قال خليل: " وسُنَّ غُسْلٌ مُتَّصِلٌ بِرَوَاح، وَلَوْ لَمْ تَلْزَمْهُ " أي ولو لم تلزمه الجمعة وقال في " سراج السالك " (2) : " ويسن " أي الغسل " لمصلي الجمعة ولو لم تجب عليه كالنساء أو الصبيان أو العبيد غسلاً كغسل الجنابة، ويشترط لصحته أن يكون متصلاً بالرواح، أي: بالذهاب إلى الجامع، ويغتفر الفعل اليسير بقدر لبس الثياب والوضوء وما أشبه، فإن نام في بيته بعد اغتساله اختياراً ولو قل، أو اضطراراً وطال بطل غسله وأعاد استناناً، وبطل غسله أيضاً إن تغدى بعده، واحترزنا بقولنا (فإن نام في بيته) عما إذا نام بعد اغتساله في المسجد، فلا يبطل غسله، وكذا لا يبطل إن تناول قليل طعام أو شراب احتاج إليه. أما الشافعية فقد قال النووي (3) : ". ومذهبنا المشهور أنه يستحب -أي الغسل- لكل مريد لها - وفي وجه لأصحابنا يستحب للذكور خاصة، وفي وجه يستحبُ لمن يلزمه الجمعة دون النساء والصبيان والعبيد والمسافرين، ووجه يستحب لكل أحد يوم الجمعة سواء أراد حضور الجمعة أم لا. كغسل يوم العيد، والصحيح الأول، والله أعلم. والذي عليه الجمهور أنه لا يستحب الغسل لمن لا يأتي الجمعة، فلا غسل على من لا تجب عليه الجمعة إذا لم يشهدها، ولا على من تجب عليه إذا لم يرد حضورها لعذر. قال ابن قدامة: ومن لا يأتي الجمعة فلا غسل عليه، وكان ابن عمر وعلقمة لا يغتسلان في السفر. وكان طلحة يغتسل، وروي عن مجاهد وطاووس (4) . الحديث: أخرجه الخمسة، ولم
__________
(1) " المغني " لابن قدامة ج 2.
(2) " سراج السالك شرح أسهل المسالك " للجعلي.
(3) " شرح النووي على مسلم " ج 6.
(4) " المغني ".(2/243)
339 - " بَاب مِنْ أيْنَ تؤتي الْجُمُعَةُ وَعَلَى مَنْ تجِبْ "
400 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
كانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ والْعَوَالِي فَيَأتُونَ في الغُبَارِ، فَيُصيبُهُمْ الغُبَارُ والْعَرَقُ، فَأتى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنْسَان مِنْهُمْ وَهُوَ عِنْدِي فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لَوْ أنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يخرجه أبو داود. والمطابقة: في عموم قوله: " من جاء منكم الجمعة فليغتسل ".
339- " باب من أين تؤتي الجمعة وعلى من تجب "
400 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي " أي يتناوبون على حضور صلاة الجمعة من منازلهم في العوالي فيحضرونها مناوبة، لأنّها لا تجب عليهم لكونهم خارج المصر (1) " فيصيبهم الغبار والعرق " لبعد المسافة ومشقة السير في الأراضي الوعرة " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أنكم تطهرتم " أي ليتكم اغتسلم لصلاة الجمعة، لأنه أفضل لما فيه من إزالة الرائحة الكريهة التي تؤذي الملائكة والمصلين. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود.
ويستفاد منه: أنها لا تجب الجمعة على أصحاب الأماكن البعيدة عن الجامع لأنّها على من يسمع النداء، بدليل أن أهل العالية كانوا يتناوبون الجمعة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو كانت واجبة على من بعد داره لما جاز لهم التغيب عنها. ولهذا قال أهل العلم: الجمعة واجبة على من جمع النداء، وحكاه الترمذي عن أحمد والشافعي وإسحاق وابن العربي عن مالك، واستدل بحديث ابن
__________
(1) أو لكونهم لا يسمعون النداء وهو الأرجح.(2/244)
340 - " بَابُ وَقْتِ الْجُمُعَةِ إذَا زَالَتِ الشَّمْسُ "
401 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الجمعة على من سمع النداء " أخرجه أبو داود وقال: روى هذا الحديث جماعة عن سفيان مقصوراً على ابن عمرو، ولم يرفعوه، وإنما أسنده قبيصة. واختلفوا في الخارج عن المصر إذا سمع النداء فقال أبو حنيفة: لا تجب عليه، وقال مالك والشافعي وأحمد تجب عليه. وحدَّ مالك وأحمد بفرسخ، وأطلقه الشافعي. كما دل الحديث على استحباب غسل الجمعة وقد تقدم. والمطابقة: في قوله: " ينتابون الجمعة من منازلهم والعوالي.
340 - " باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس "
401 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه: " أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة حين تحل الشمس "، أي حين تميل الشمس عن وسط السماء إلى جهة المغرب، ومعنى ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة بعد الزوال، كما يصلي الظهر تماماً. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح. والمطابقة: في قوله: " كان - صلى الله عليه وسلم - يصلّي الجمعة حين تميل الشمس ".
ويستفاد من الحديث: أنّ وقت صلاة الجمعة بعد الزوال مثل صلاة الظهر تماماً. فلا تقدم عليه؛ لقول أنس " كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي الجمعة حين تميل الشمس " فدل ذلك على أن وقت صلاة الجمعة وصلاة الظهر واحد، وهو بعد الزوال، وهذا هو قول الجمهور. وعن مجاهد وأحمد أنها تجوز قبل(2/245)
341 - " بَابُ الْمَشْي إلى الْجُمُعَةِ "
402 - عنْ أبِي عَبْس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ في سَبِيلِ اللهِ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الزوال. قال ابن قدامة في " المقنع ": وروي عن عبد الله عن أبيه أحمد بن حنبل قال: نذهب إلى أنّها كصلاة العيد وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين ".
341 - " باب المشي إلى الجمعة "
402 - ترجمة الراوي: هو أبو عَبْسِ (بفتح العين وسكون الباء)
عبد الرحمن بن جَبْر الأنصاري البدري، توفي سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة. وليس له. في البخاري سوى هذا الحديث الواحد.
معنى الحديث: يقول أبو عبس رضي الله عنه: " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: من اغبرّت قدماه في سبيل الله " أي من مشى في أي طريق يؤدي إلى طاعة الله تعالى من حج، أو عمرة، أو صلاة جماعة، أو جمعة، حتى اغبّرت قدماه من الطريق التي سار فيها " حرّمه الله على النار " أي: حرَّم الله جسده على النار، ونجاه منها، وهو أبلغ من قوله: " دخل الجنة ".
الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي والنسائي.
ويستفاد منه: فضل المشي إلى الطاعات عامة، وإلى صلاة الجمعة خاصة، لأنّها من أفضل الطاعات التي يتقرب بها إلى الله تعالى. والمطابقة: في قوله: " من اغبّرت قدماه " لأن المشي إلى الجمعة في سبيل الله ".(2/246)
342 - " بَاب لَا يُقيمُ الرَّجُلُ أخاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَقْعُدُ مَكَانهُ "
453 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُقِيمَ الرجُلُ أخَاهَُ مِنْ مَقْعَدِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ، قُلْتُ لِنَافِعٍ: الْجُمُعَةَ؟ قَالَ: الْجُمُعَةَ وغَيرَهَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
342 - " باب لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد مكانه "
403 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقيم الرجل أخاه من مقعده " أي: من مكانه في المسجد " قلت لنافع: الجمعة " (1) أي قال ابن جريج لنافع راوي الحديث: الجمعة، يعني هذا النهي خاص بيوم الجمعة أو مطلقاً " قال: الجمعة (2) وغيرها " أي هذا النهي عام في سائر الأيام. فلا يقم الرجل أخاه من مكانه ليجلس فيه سواء كان ذلك في يوم الجمعة أو غيرها. وفي رواية: " الجمعة " بالرفع، على أنّه مبتدأ وغيرها معطوف عليه، والخبر محذوف أي الجمعة وغيرها متساويان. والرواية المختارة بالنصب، الجمعة وغيرها بنزع الخافض.
الحديث: أخرجه الشيخان.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يحرم إقامة الرجل من مكانه في المسجد مطلقاً. قال النووي: والنهي للتحريم، فمن سبق إلى مباح من مسجد أو غيره، يوم الجمعة أو غيره، لصلاة أو غيرها تحرم إقامته منه. لكن يستثنى من ذلك ما لو ألِفَ موضعاً لنحو إفتاءٍ أو قراءةٍ فهو أحق به، فإن قعد فيه غيره، فله أن يقيمه. قال ابن أبي جمرة: وحكمة النهي انتقاص حق المسلم
__________
(1) بالنصب على نزع الخافض، تقديره: النهي في الجمعة.
(2) أيضاً ينصب الجمعة وغيرها على نزع الخافض.(2/247)
343 - " بَابُ الأذَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ "
404 - عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَة أوَّلُهُ إذَا جَلَسَ الإِمَامُ علَى الْمِنْبَرِ، عَلَى عَهْدِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وأبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فلمَّا كَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَكثُر النَّاسُ، زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الموجب للضغائن، والحث على التواضع الموجب للمودة. ثانياً: ما ترجم له البخاري خاصة من أنّه لا يجوز للمسلم أن يقيم أخاه من مكانه في المسجد يوم الجمعة: لأنّ النهي عام في جميع الأيّام، والجمعة من ضمنها وداخل في عمومها وهو أولى. والمطابقة: في قوله: " نهى - صلى الله عليه وسلم - أن يقيم الرجل أخاه ".
343 - " باب الأذان يوم الجمعة "
404 - معنى الحديث: يقول السائب بن يزيد رضي الله عنهما:
" كان النداء يوم الجمعة أوّله إذا جلس الإِمام على المنبر على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي أن الأذان الذي كان موجوداً في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخليفتيه لصلاة الجمعة أذان واحد يقام عند جلوس الإِمام على المنبر. وهل كان بين يديه أو على المئذنة " المنارة " اختلفت الروايات في ذلك " فلما كان عثمان، وكثر الناس، زاد النداء الثالث " أي زاد النداء الذي يقام اليوم على المنائر، وسماه الثالث، لأنه عدَّ الإِقامة نداءاً " على الزوراء " أي وكان يقام على الزوراء (بفتح الزاي وسكون الواو) قال البخاري: وهو موضع بسوق المدينة.
وذكر فضيلة الشيخ عطية سالم: أنه في موضع المسجد المعروف بمسجد السيدة(2/248)
344 - " بَابُ الْمُؤَذِّنِ الْوَاحِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ "
405 - عن السَّائبِ بن يَزِيدَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" لَمْ يَكُن لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُؤَذِّن غَيْرَ وَاحِدٍ، وكانَ التَّأْذِينُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ يَجْلِسُ الإِمَامُ " يَعْنِي علَى المِنْبَرِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فاطمة الكائن بباب المصري (1) . الحديث: أخرجه أيضاً أصحاب السنن.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه لم يكن لصلاة الجمعة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه سوى أذان واحد عند جلوس الإمام على المنبر، وأن الأذان الذي يقام اليوم على المنائر أحدثه عثمان رضي الله عنه، ومن ثمَّ اختلف العلماء فيه، فذهب مالك (كما رواه عنه (2) ابن عبد الحكم) إلى أنّ الأذان واحد فقط بين يدي الإِمام، ونص عليه الشافعي. وذهب الحنفية إلى مشروعية الأذان الذي أحدثه عثمان لموافقة الصحابة عليه. ثانياً: مشروعية جلوس الإِمام على المنبر، ولا خلاف فيه. والمطابقة: في كون الحديث بمنزل الجواب للترجمة
344- " باب المؤذن الواحد يوم الجمعة "
405 - معنى الحديث: يقول السائب رضي الله عنه: " لم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤذن غير واحد " وهو بلال رضي الله عنه أي أنه كان ينفرد بالأذان لصلاة الجمعة فلا يشاركه غيره، ولا يؤذِّن إلاّ أذاناً واحداً، ولا يؤذِّن بعده أحد غيره.
ويستفاد منه: أن يكره تعدد المؤذنين في يوم الجمعة وغيرها، خلافاً لما ذهب إليه ابن حبيب من أنه إذا رقى الإمام المنبر أذن المؤذنون واحدًا بعد
__________
(1) " تكملة أضواء البيان " لفضيلة الشيخ عطية سالم.
(2) " شرح العيني على البخاري " ج 6.(2/249)
345 - " بَابٌ يُجِيبُ الإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ إذا سَمِعَ النِّدَاءَ "
456 - عنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ جَلَسَ علَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا أذَّنَ الْمُؤَذِّنُ قَالَ: اللهُ أكْبَرُ اللهُ أكْبَرُ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: اللهُ أكْبَرُ اللهُ أكْبَرُ، قَالَ: أشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَأنَا، قَالَ: أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَأنَا، فَلَمَّا أنْ قَضَى التَّأذِينَ، قَال: يَا أيُّهَا النَّاسُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى هَذَا الْمَجْلِسِ حِينَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ يَقُولُ: مَا سَمِعْتُمْ مِنِّي مِنْ مَقَالَتِي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
واحد، فإذا فرغ الثالث قام الخطيب. الحديث: أخرجه البخاري.
والمطابقة: في قوله: " لم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤذن غير واحد ".
345 - " باب يجيب الإِمام على المنبر إذا سمع النداء "
406 - معنى الحديث: أن معاوية رضي الله عنه " جلس على المنبر يوم الجمعة، فلما أذّن المؤذن قال: الله أكبر، قال معاوية: الله أكبر الله أكبر " أي أن معاوية لما جلس الجلسة الأولى على المنبر، وأذن المؤذن بين يديه أجاب المؤذن في التكبير بمثل قوله حرفياً، وأجابه في الشهادتين بقوله: وأنا " فلما أن قضى التأذين " أي فلما انتهى الأذان، قال: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي بنفسي " يقول ما سمعتم " أي أخبر الناس أنّه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل مثل فعله. الحديث: أخرجه النسائي أيضاً.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يُسن للخطيب إجابة المؤذن بين يديه.
ثانياًً: أنه يجوز للخطيب أن يكلم الناس أثناء الخطبة في أي مسألة شرعية.
ثالثاً: مشروعية الجلسة الأولى التي قبل الخطبة. والمطابقة: في كون معاوية كلم الناس أثناء الخطبة.(2/250)
346 - " بَابُ الخطْبَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ "
407 - عَنْ جَابِرٍ بنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
"كَانَ جِذْعٌ يَقُومُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا وُضِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ، سَمِعْنَا لِلْجِذْعِ مِثْلَ أصْوَاتِ الْعِشَارِ، ْ حَتَّى نَزَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
346 - " باب الخطبة على المنبر "
407 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه: " كان جذع يقوم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي كان في المسجد جذع نخلة يقف عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء خطبته، " فلما وضع له المنبر، سمعنا للجذع مثل أصوات العشار " أي فلما فارقه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وانتقل إلى المنبر الخشبي الذي صنع له، حزن الجذع، وصرنا نسمع له صوتاً حزيناً مثل أصوات العشار (بكسر العين) أى: مثل خوار الناقة عند حنينها إلى ولدها إذا ابتعد عنها، وذلك من شدة حزنه على فراق النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه البخاري والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية الخطبة على المنبر يوم الجمعة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صنع له منبر بأمره - صلى الله عليه وسلم - ووضع له، وكان يخطب عليه كما يدل عليه الحديث. ثانياً: أن من معجزاته المادية الظاهرة حنين الجذع إليه - صلى الله عليه وسلم - قال عياض: والخبر به متواتر، أخرجه أهل الصحيح، ورواه بضعة عشر صحابياً. وفي رواية " والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة حزناً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والمطابقة: في قوله: " فلما وضع له المنبر".
***(2/251)
347 - " بَابُ الْخطْبَةِ قَائِمَاً "
408 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ قَائِمَاً، ثُمَّ يَقْعُدُ ثُمَّ يَقُومُ كَمَا تَفعَلُونَ الآنَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
347 - " باب الخطبة قائماً "
408 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب قائماً " أي كان - صلى الله عليه وسلم - طوال حياته يخطب وهو واقف، لم يعرف عنه أنّه خطب جالساً، وكذلك كانت سنة الخلفاء الراشدين من بعده، حتى اشتد القيام على عثمان، فكان يخطب قائماً، ثم يجلس، كما في حديث قتادة " ثم يقعد " أي ثم يجلس - صلى الله عليه وسلم - الجلوس الوسط، " ثم يقوم " للخطبة الثانية " كما تفعلون الآن " أي مثل ما تفعلون في زمانكم هذا فيؤدّي الخطبتين قائماً.
ويستفاد منه: أولاً: مشروعية خطبة الجمعة قائماً، وهو السنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التي داوم عليها طوال حياته، كما دل عليه حديث الباب.
وأما ما ثبت عن معاوية أنه كان يجلس في الخطبة الأولى، فقد تبين أنه لعذر شرعي. والقيام في الخطبة شرط عند الشافعي، فرض عند مالك، سنة عند الحنفية كما أفاده القاري. وقال الحافظ: هو عند مالك في رواية إنه واجب، فإن تركه أساء، وصحت الخطبة. وعند الباقين، أي الشافعي وأحمد: القيام للخطبة يشترط للقادر على القيام واستُدِلَّ للأوّل، أي: لمن قال: إنه سنة، بحديث أبي سعيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا، واستدل للجمهور بحديث جابر بن سمرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائماً،(2/252)
348 - " بَاب مَنْ قَالَ فِي الْخطْبَةِ بَعْدَ الثَّنَاءِ أمَّا بَعْد "
409 - عَنْ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ رَضِيَ الله عَنْه أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أتِيَ بِمَالِ أو بسَبْيٍ، فَقَسَمَة، فَأعْطى رِجالاً، وَتَرَكَ رِجَالاً، فَبَلَغَه أنَّ الَّذِينَ تَرَكَ عَتَبوا، فَحَمِدَ اللهَ، ثمَّ أثْنَى عَلَيْهِ، ثم قَالَ: " أمَا بَعْدُ، فَوَاللهِ إِنِّي لأعْطِي الرَّجلَ، وأدَعُ الرَّجلَ، والَّذِي أدَعَ أحبُّ إِليَّ مِنَ الَّذِي أعْطِي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثم يجلس، ثم يقوم، فيخطب قائماً، فمن أنبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب" أخرجه مسلم. ثانياًً: مشروعية الجلوس الوسط بين الخطتين الأولى والثانية، ويؤكد ذلك ما جاء في الرواية الأخرى عن ابن عمر قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب خطتين يقعد بينهما ". قال العيني: واستُدل به على مشروعية الجلوس بين الخطبتين، فذهب الشافعي إلى أن ذلك على سبيل الوجوب، وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنّها سنة، وليست بواجبة كجلسة الاستراحة. الحديث: أخرجه مسلم والترمذي وأحمد والطبراني والبخاري. والمطابقة: في كون الحديث يدل على الترجمة.
348 - " باب من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد "
409 - معنى الحديث: يحدثنا عمرو بن تغلب رضي الله عنه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بمال أو بسبي " وهو ما يؤخذ من العدو من الأسرى عبيداً أو إماءً " فقسمه، فأعطى رجالاً، وترك رجالاً " أي: فأعطى بعض الناس تأليفاً لقلوبهم، وترك البعض الآخر ثقة بهم، لما منحهم الله من قوة الإِيمان واليقين، " فبلغه أن الذين لم يعطهم عتبوا " أي لاموا عليه فيما بينهم، " فحمد الله ثم أثنى عليه، ثم قال: أما بعد " أي ثم قال قبل الشروع في الموضوع الذي أراد الحديث عنه: " أما بعد " وهي كلمة يؤتى بها للفصل(2/253)
وَلَكِنْ أعْطِي أقْوَاماً لما أرَى في قُلُوبِهِمْ منَ الْجَزَعِ والْهَلَعِ، وأكِل أقواماً إِلى مَا جَعَلَ اللهُ في قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغِنَى والْخَيْرِ، فِيهِمْ عَمْرُو بن تَغْلِبَ"، فَوَاللهِ مَا أحبُّ أنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حُمْرَ النَّعَمِ.
410 - عَنْ أبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَحَمِدَ اللهَ وأثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " أمَّا بَعْدُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بين المقدمة والوضوع، ولذلك تسمى " فصل الخطاب " فأقول: " والله إني لأُعطي الرجل، وأدع الرجل، والذي أدع أحبّ إلي " أي: والذي أتركه أحبُّ إلى نفسي ممن أعطيه، " ولكني أُعطي أقواماً لما أرى في قلوبم من الجزع والهلع " أي: من شدة الألم والضجر الذي يصيب نفوسهم لو لم يعطوا من الغنيمة، فأعطيهم تأليفاً لقلوبهم، وتطييباً لنفوسهم، " وأكِلُ أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى " أي: وأترك أقواماً فلا أعطيهم لأني أكلُهُمْ إلى ما وضع الله في قلوبهم من القناعة وغنى النفس، " والخير " أي وقوة الإِيمان واليقين " فيهم عمرو بن تغلب، فوالله ما أحب أنّ لي بكلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمر النعم " أي: فقال عمرو: أقْسم بالله لا أرضى بهذا الثناء الذي كرّمني به النبي - صلى الله عليه وسلم - بديلاً ولو أعطيت أنفس أموال العرب التي هي الجمال الحمر. الحديث: أخرجه البخاري، وهو من أفراده كما أفاده العيني. والمطابقة: في قوله: " ثم قال أما بعد ".
410 - معنى الحديث: يحدثنا أبو حميد رضي الله عنه: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام عشية " أي قام يخطب في الناس ويعظهم ويذكرهم بعد الزوال، وذلك " بعد الصلاة " أي بعد صلاة الظهر أو العصر، " فحمد الله وأثنى عليه " في خطبته " ثم قال: أما بعد " فأتى بهذه الكلمة، ليفصل بها بين(2/254)
411 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
صَعِدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْمِنْبَرَ وَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ، مُتَعَطِّفاً مِلْحَفَةً عَلَى مَنْكِبَيْهِ، قَدْ عَصَبَ رَأسَهُ بِعِصَابَةٍ دَسِمَةٍ، فَحَمِدَ اللهَ وأثنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أيّهَا النَّاسُ إِلَيَّ، فَثَابُوا إِلَيْهِ (1) ، ثُمَّ قَالَ: أما بَعْدُ: فَإِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الإِنْصَارِ يَقِلُّونَ ويَكْثُرُ النَّاسُ، فَمَنْ وَليَ شَيْئَاً مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَطَاعَ أنْ يَضُرَّ فيهِ أحَدَاً، أو يَنْفَعَ فِيهِ أحدَاً، فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئهِمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مقدمة الخطبة وموضوعها، لأنها فصل الخطاب. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود أيضاً. والمطابقة: في قوله: " ثم قال: أما بعد ".
411 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما: هنا حديثاً في حق الأنصار سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حياته عندما خرج إلى الناس أثناء مرضه فيقول: " صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - المنبر، وكان آخر مجلس جلسه " على المنبر في حياته " متعطفاً بملحفة " أي: مرتدياً إزاراً كبيراً " قد عصب رأسه بعصابة في دسمة " (بكسر السين) أي بعصابة سوداء، " فحمد الله وأثنى عيه ثم قآل: أيها الناس إليَّ " أي اجتمعوا إليَّ واقتربوا مني، " ثم قال أمّا بعد فإن هذا الحي من الأنصار " أي من الأوس والخزرج " يقلون " لكثرة من يستشهد منهم في الحروب الإسلامية كحرب مسيلمة الكذاب وغيره، " فمن ولي شيئاً من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - " أي فمن ولي منكم الإمارة أو القضاء أو الشرطة " فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم " أي فليكافىء المحسن، ويعفو عن المسيء. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي. والمطابقة: في قوله: " ثم قال أمّا بعد ".
__________
(1) أي فاجتمعوا عليه.(2/255)
349 - " بَاب إِذَا رَأى الإمَامُ رَجُلاً جَاءَ وَهُوَ يَخطُبُ أمَرَهُ أنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ "
412 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
جَاءَ رَجُل والنَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يَخْطبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: " أصلَّيْتَ يَا فُلَانُ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: " قُمْ فارْكَع ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويستفاد ما يأتي: أولاً: وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأنصار بالعفو عن مسيئهم، ومكافأة محسنهم. ثانياً: إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن قلة الأنصار، وهذا من معجزاته الظاهرة. ثالثاً: أنه يسن الفصل بين المقدمة وموضوع الخطة بقول: أما بعد، وهو ما ترجم له البخاري.
349 - " باب إذا رأى الإِمام رجلاً جاء وهو يخطب أمره أن يصلي ركعتين "
412 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه: " جاء رجل " وهو سليك الغطفاني " والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس يوم الجمعة فقال: أصليت يا فلان " يعني أصليت تحية المسجد " قال: لا قال: قم فاركع " أي: فصَلِّ تحية المسجد ركعتين خفيفتين، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية أخرى: " قم فاركع ركعتين " وفي رواية سفيان " وتجوز فيهما " أي خففهما لئلا تفوتك الخطبة.
الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن للخطيب إذا رأى رجلاً دخل أثناء خطبة الجمعة ولم يصل تحية المسجد أن يأمره بها، كما أن له أن يأمر وينهى، ويبين الأحكام، ولا يقطع ذلك التوالي (1) المشروط في الخطبة. ثانياً: أن
__________
(1) " فتح البارى " ج 2.(2/256)
350 - " بَابُ الاسْتِسْقَاءِ في الْخطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ "
413 - عنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَة عَلَى عَهْدِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَبَيْنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ في يْومِ جُمُعَةٍ، قَامَ أعْرَابِيٌ فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ! هَلَكَ المَالُ، وجَاعَ العِيَالُ، فادْعُ اللهَ لَنَا، فرَفَعَ يَدَيه، ومما نَرَى في السَّمَاءِ قَزَعَةً، فوالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا وَضَعَهَا حتَّى ثَارَ السَّحَابُ أمثَالَ الْجِبَالِ، ثم لَمْ ينْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأيْتُ الْمَطر يَتَحَادَرُ على لِحْيَتهِ - صلى الله عليه وسلم -، فمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الداخل للمسجد أثناء الخطبة يستحب له أن يصلي تحية المسجد، ويخففها وجوباً ليسمع الخطبة، فيقتصر على واجباتها. وهو مذهب الشافعية والحنابلة قال الترمذي (1) : وقال بعضهم: إذا دخل الجامع والإِمام يخطب فإنّه يجلس ولا يصلي، وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة. اهـ. وبه قال مالك والليث وأبو حنيفة كما أفاده القاضي عياض. والمطابقة: في قوله: " قم فاركع ".
350 - " باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة "
413 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " أصابت الناس سنة " أي قحط ومجاعة بسبب انقطاع المطر وموت الكلأ والعشب، " فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب في يوم جمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله: هلك المال " أي: ماتت الماشية بسبب انقطاع الأمطار، لأنه معظم المال كان عند العرب يعتمد على الثروة الحيوانية، " فرفع يديه، وما في السماء قزعة " بفتح القاف والزاي، أي: ليس في السماء قطعة من سحاب، "ثم لم ينزل عن منبره
__________
(1) " جامع الترمذي ".(2/257)
ومِنَ الْغَدِ، وبَعْدَ الْغَدِ، والَّذِي يَلِيهِ، حتىَّ الْجُمُعَةِ الأخْرَى، وَقَامَ ذَلِكَ الإِعْرَابِيُّ، أوْ قَالَ غَيْرُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ تَهَدَّمَ البِنَاءُ، وَغَرِقَ الْمَالُ، فادْعُ اللهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْه فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَوالَيْنَا ولا عَلَيْنَا، فما يُشِيرُ بِيَدِهِ إلى نَاحِيةٍ من السَّحَابِ إلَّا انْفَرَجْت، وَصَارَتْ الْمَدِينَةُ مِثْلَ الْجَوْبَةِ، وسَالَ الْوَادِي قَنَاةُ (1) ، ولم يَجِيءْ أحَدٌ منْ نَاحِيةٍ إلَّا حَدَّثَ بِالْجَوْدِ (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته" أي: يتقاطر عليها، " وقام ذلك الأعرابي " بعد أن استمر المطر أسبوعاً كاملاً، " فقال: يا رسول الله تهدم البناء " أي سقطت المنازل بسبب كثرة الأمطار واستمرارها، " فرفع يديه فقال: اللهم حوالينا ولا علينا " أي: اللهم أنزل الأمطار في ضواحي القرى والمدن، بعيدة عن الدور والمنازل، " فما يشير إلى ناحية من السحاب إلّا انفرجت " أي: تكشف السحاب عنها " وصارت المدينة مثل الجوبة " بفتح الجيم وسكون الواو، أي: مثل الحوض المستدير الخالي من الماء.
ويستفاد منه: مشروعية الاستسقاء أثناء خطة الجمعة عند الحاجة إليه.
وكذلك رفع اليدين عند الدعاء، وكرهه مالك، وأجازه غيره لحديث سلمان: " إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً " أخرجه الترمذي. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فرفع يديه " أي: فرفع يديه يستسقي ويدعو الله بنزول الغيث.
***
__________
(1) ويقع وادي قناة في شمال المدينة بالقرب من أحد.
(2) أي بكثرة العشب والماشية والخير الكثير الذي أنعم الله به على عباده.(2/258)
351 - " بَابُ الإِنصَاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ والإِمَامُ يَخطُبُ "
414 - عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجمعَةِ أنصِتْ والإِمَام يَخْطب، فَقَدْ لَغَوْتَ ".
352 - " بَابُ السَّاعَةِ الَّتِي في يَوْمِ الْجمعَةِ "
ْ41 - وَعَنْ أبِي هرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْة:
أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمعَةِ، فَقَالَ: "فِيهِ سَاعَةٌ لا توَافِقهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
351 - " باب الإِنصات يوم الجمعة والإِمام يخطب "
414 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب، فقد لغوت " أي: إذا رأيت مَنْ بجانبك يتحدث أثناء الخطبة، وقلت له: اسكت، فقد أسأت الأدب، وارتكبت مخالفة تأثم عليها. وحُرِمْتَ فضيلة الجمعة، ونقص ثوابك عليها.
ويستفاد منه: وجوب الإِنصات أثناء خطبة الجمعة، وتحريم الكلام عندها، لأنه - صلى الله عليه وسلم - سمّى ذلك لغواً. واللغو هو كل عمل باطل يأثم عليه فاعله، وهذا يعني أن الحديث أثناء الخطبة مخالفة شرعية محرّمة، وقد أمر الله تعالى بالإنصات إلى الخطبة في قوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) واختار ابن جرير أن المراد بالقرآن خطبة الجمعة. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على الترجمة، لأن تحريم الكلام يستلزم وجوب الإِنصات.
352 - "باب الساعة التي في يوم الجمعة"
415 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تحدث عن فضائل يوم الجمعة(2/259)
عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأل اللهَ تَعَالَى شَيئَاً، إلَّا أعْطَاهُْ إيَّاهُ" وَأشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا.
353 - " بَابٌ إذَا نفَرَ الناسُ عنِ الإِمَامِ في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَصَلاةُ الإِمَامِ ومَنْ بَقِيَ جَائِزَةٌ "
416 - عن جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ أقْبَلَتْ عِيرٌ تَحْمِلُ طَعَاماً، فالْتَفَتُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومزاياه العظيمة فأثنى عليه وأشاد به وتطرق إلى الحديث عن الساعة المباركة الموجودة فيه " فقال: فيه ساعةٌ لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي " أي وهو متوجه إلى الله يدعوه بخالص الدعاء، فإن المراد بالصلاة هنا الدعاء، كما رجحه الزرقاني " يسأل الله شيئاً إلا أعطاه " أي إلاّ استجاب له.
الحديث: أخرجه الخمسة، ولم يخرجه الترمذي.
ويستفاد من الحديث: وجود ساعة مباركة في يوم الجمعة، يستجاب فيها الدعاء، ولم يعيّن هذا الحديث وقتها. واختلفوا. فيها على أحد عشر قولاً، أرجحها كما قال ابن القيّم - قولان: أحدهما: أنها من جلوس الإِمام على المنبر إلى انقضاء الصلاة. الثاني: أنها آخر ساعة بعد العصر (1) . والمطابقة: في قوله: " فيه ساعة ... " إلخ.
353 - " باب إذا نفر الناس عن الإِمام في صلاة الجمعة فصلاة الإِمام ومن بقي جائزة "
416 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه: " بينما نحن نصلي
__________
(1) وهي التي تؤيدها الأدلة الصحيحة كما قال الإمام أحمد. (ع) .(2/260)
إِلَيهَا حَتَّى مَا بَقِىَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَّا اثنا عَشَرَ رَجُلاً، فنزَلَتْ هذه الآيةُ (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) . ـــــــــــــــــــــــــــــ
مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبلت عير تحمل طعاماً" أي لم يشعروا وهم يصلون الجمعة خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - إلاّ وقد وصلت إلى المدينة قافلة تجارية، تحمل بعض السلع التموينية من حبوب وحبوب وزيوتٍ ونحوها (1) ، " فالتفتوا إليها " فتركوا الصلاة، وانصرفوا إليها. " حتى ما بقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلاّ اثنا عشر رجلاً " قال الحافظ: واتفقت الروايات كلُّها على اثني عشر رجلاً، إلاّ ما رواه علي بن أبي عاصم، فقال: " إلاّ أربعين رجلاً " أخرجه الدارقطني، وعلي بن أبي عاصم، ضعيف. " فنزلت هذه الآية (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا) " أي وإذا رأوا قافلة تجارية، وشاهدوا الطبول تبشر بها، (انْفَضُّوا إِلَيْهَا) أي انصرفوا إليها (وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) في صلاة الجمعة وحولك القليل، ومنهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه لا يشترط في صحة صلاة الجمعة استمرار العدد الذي تنعقد به إلى آخر الصلاة. فإذا نفر الناس عن الإمام أثناءها فإنه يتمها بمن معه، وصلاتهم صحيحة، وهو مذهب محمد وأبي يوسف، وإن بقي وحده، وبه قال المزني من الشافعية. وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنهم إذا تفرقوا بعد الافتتاح وقبل الركوع جعلها ظهراً، أمّا إذا تفرقوا بعد الركوع، فقال سحنون: يتمها ظهراً، أو يجعلها نافلة، وقال أشهب: يتمها جمعة.
وقال أحمد والشافعي يتمها ظهراً متى نقص العدد عن الأربعين، سواء انفضوا قبل الركوع أو بعده. ثانياً: استدل به مالك على أن أقل ما تنعقد به الجمعة
__________
(1) أو المراد بالطعام القمح، لأنه يطلق عليه لغة.(2/261)
354 - " بَابُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ وقَبْلَهَا "
417 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" أَنَّ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ في بَيْتهِ، وَبَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ لَا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ فَيُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اثنا عشر رجلاً. وقال أبو حنيفة: ثلاثة، وقال الشافعي: أربعون رجلاً.
والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - أتم الجمعة بعد أن تفرقوا عنه.
354 - " باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها "
417 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين " أي يصلّي سنة الظهر القبلية ركعتين، وسنتها البعدية ركعتين، " وبعد المغرب ركعتين في بيته " أي: وكان يصلّي سنة المغرب البعدية في بيته ركعتين، " وبعد العشاء ركعتين "، أي ويصلي بعد العشاء ركعتين، " ولا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين " أي: وكان يصلّي سنة الجمعة البعدية في بيته ركعتين لا في المسجد.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استدل به بعض أهل العلم على أن للجمعة سنة قبلية قياساً على الظهر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في هذا الحديث كان يصلّي قبل الظهر ركعتين، وإذا ثبت أن للظهر سنة قبلية، فكذلك للجمعة، فهي مثلها، ولا فرق بينهما، وهو المشهور من مذهب الشافعية، حيث قالوا: تسن ركعتان قبل الجمعة كما تسن قبل الظهر عملاً بهذا الحديث، وبحديث ابن عمر "أنه رضي الله عنه كان يطيل الصلاة قبل الجمعة، ويحدث أن رسول(2/262)
الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك" أخرجه أبو داود، واستدلوا أيضاً بحديث ابن عباس رضي الله عنهما " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي قبل الجمعة أربعاً لا يفصل في شيء منهن " أخرجه ابن ماجة. وذهب الجمهور إلى أنّه لا سنة قبل الجمعة، قالوا: والمراد بحديث ابن عمر وقوله: " كان يفعل ذلك " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر من النافلة قبل الزوال، لا أنه كان يصلي سنةً قبل الجمعة، لأن الثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنّه لا يخرج إلى المسجد إلاّ بعد الزوال فإذا وصل صعد المنبر حالاً.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يصلي بعد الجمعة أربعاً في المسجد، أو ركعتين في بيته. وأما حديث ابن عباس؛ فهو مسلسل بالضعفاء، كما أفاده في " المنهل العذب ".
ثانياً: مشروعية السنة البعدية للجمعة، وهو مذهب الجمهور. وأقلُّها ركعتان عند الحنابلة والشافعية، وأكثرها أربع عند الشافعية وست عند الحنابلة. وقالت الحنفية: هي أربع ركعات. وقالت المالكية: ليس للجمعة سنة بعدية.
الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " كان يصلّي قبل الظهر ركعتين " قياساً للجمعة على الظهر.
***(2/263)
" أبواب صلاة الخوف "
355 - " بَابٌ "
418 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَال: " غزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قِبَل نَجْدٍ، فَوَازَيْنَا الْعَدُوَّ، فَصافَفْنَا لَهُمْ، فَقامَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" أبواب صلاة الخوف "
وهو نوعان: خوف يمنع من إتمام هيئة الصلاة، ويكون عند الإِلتحام، فيؤخر المجاهدون الصلاة إلى آخر الوقت، ثم يصلونها مشاة أو ركباناً، يومئون في الركوع والسجود. وخوف من مفاجأة العدو فيجوز الصلاة أفذاذاً أو فيؤدون على طريقة صلاة الخوف المشروعة في كل قتال مشروع، سواء كان جهاداً أو قتالاً للمحاربين، وفي كل صلاة مكتوبة، جمعة أو الصلوات الخمس.
أما حكمها واستمراره وبقاء مشروعيتها: فقد قال ابن قدامة: جمهور العلماء متفقون على أنّ حكمها باق بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال أبو يوسف: إنّما كانت تختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ) الآية. اهـ. قال ابن العربي المالكي: كونه فيهم إنما ورد لبيان الحكم لا لوجوده. وقال ابن المنير: الشرط إذا خرج مخرج التعليم لا يكون له مفهوم وصلاة الخوف رخصة شرعية، كما قال خليل، وقيل واجبة كما في " الرسالة "، وقيل سنة كما في " أقرب المسالك "، وهي عند الجمهور رخصة جائزة مشروعة باقية إلى قيام الساعة.
والحكمة فيها: المحافظة على أداء الصلاة جماعة مع اتخاذ الحيطة اللازمة من العدو، بحيث لا تُتْرَك له فرصة الانقضاض على المجاهدين أثناء صلاتهم.
355 - " باب "
418 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قِبل نجد " أي خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة جهة(2/264)
يصَلِّي لَنَا، فقامَتْ طَائِفَةٌ مَعَة تصَلِّي، وأقْبَلَتْ طَائِفَةٌ علَى الْعَدُوِّ، وَرَكَعَ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَنْ مَعَه، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثم انْصَرَفوا مَكَانَ الطَّائِفَةِ التي لم تصَلِّ، فجاءوا فركع رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِهِمْ رَكْعَةً، وسجدَ سَجْدَتَيْنِ، ثم سَلَّمَ، فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فرَكَعَ لِنَفْسِهِ ركعَة، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نجد، وهي غزوة ذات الرقاع، " فوازينا العدو، فصاففنا لهم " أي فوقفنا أمام العدو صفوفاً منظمة مرتبة كما رتبنا النبي - صلى الله عليه وسلم -، "فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلّي لنا " أي: فلما حضرت صلاة العصر أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي بنا هذه الصلاة كما تصلّى صلاةُ الخوف، " فقامت طائفة معه، فصلى وأقبلت طائفة على العدو" أي فانقسم الناس إلى طائفتين، طائفة تصلّي معه، وطائفة أخرى تقف أمام العدو للحراسة، " وركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسجد سجدتين " أي فصلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالطائفة الأولى ركعة تامة بسجدتيها " ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل " أي ثم ذهبوا ليقفوا مكان الطائفة الأخرى، ويخلفوهم في الحراسة، " فجاءوا فركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهم ركعة " أي: فجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعة تامّة " وسلم " من صلاته " فقام كل واحد فركع لنفسه ركعة " أي فأتمّوا لأنفسهم على التعاقب.
يعنى فأتمت طائفة، والأخرى تحرس، ثم أتمت الطائفة الأخرى، قال القسطلاني: وهو الراجح من حيث المعنى، وإلّا فيستلزم ضياع الحراسة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية صلاة الخوف وهي رخصة شرعية عند الحاجة إليها حضراً أو سفراً تخفيفاً ومعونة على جهاد العدوّ، مع أداء صلاة الجماعة. ثانياً: بيان كيفية صلاة الخوف التي صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ذات الرقاع. وقد اختار هذه الكيفية البخاري وأبو حنيفة، ورجحها(2/265)
ابن عبد البر لقوة إسنادها. واختار الجمهور الكيفية التي رواها سهل بن أبي حثمة. وهي أنه يفرقهم الإِمام إلى طائفتين، طائفة بإزاء العدوّ، وطائفة خلفه، فيُصلي بالتي خلفه ركعة ويثبت قائماً وتتم لنفسها الركعة الثانية بفاتحة وسورة، وتمضى للحراسة فتأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم الركعة الثانية، ويجلس للتشهد وتتم لنفسها الركعة الأخيرة لها بفاتحة وسورة، ويطيل الإمام التشهد حتى يتموا فيسلم بهم. ولصلاة الخوف كيفيات كثيرة، أوصَلها بعضهم إلى سبعة عشر كلها جائزة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. والمطابقة: في دلالة هذا الحديث على كيفية صلاة الخوف.
***(2/266)
بسم الله الرحمن الرحيم
" أبواب العيدين "
والعيدان: هما عيد الفطر وعيد الأضحى. يبدأ تاريخهما بتاريخ الإِسلام، إذ لم يكونا معروفين في الجاهلية عند العرب، ولا عند. غيرهم، وإنما شرعا في السنة الأولى من الهجرة النبوية. قال أنس: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: نلعب فيهما في الجاهلية. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله أبدلكما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر " أخرجه أبو داود. واختار الله لهما اسمين كريمين من نفس المعنى والمناسبة التي شُرعا من أجلها، فالأول عيد الفطر، لأنه يتعلق بعبادة الصوم، ويشعر بالإفطار منه، ويعلن عن الفرحة الإِسلامية بإتمامه، كما يشير إليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " للصائم فرحتان، فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه " والثاني عيد الأضحى لأنه يتعلق بالأضحية. وقد شرع الله لنا هذين العيدين ليكونا بديلين عن عيد النيروز (1) والمهرجان، وهما عيدان فارسيان كانا يقامان لِإحياء الشعائر المجوسية، فأبدلهما الله بالفطر والأضحى لِإحياء الشعائر الحنيفية. وسن لنا فيهما الخروج إلى المصلى لِإظهار شوكة الإِسلام وقوته، وجلاله وأبهته في هذا المشهد العظيم، وإنما سمي العيد عيداً لأنه يعود على الناس بالفرحة والسرور، ويعود الله فيه على عباده، فيتجلى عليهم بالرحمة والغفران.
__________
(1) وكان النيروز يقام من 21 مارس (آذار) إلى 25 منه، ويحتفل فيه ببيوت النار، ويتصل فيه ملوك الفرس بالرعية، ويوزعون عليهم الأكسية، وتضرب النقود، ويعين الحكام، وكان المهرجان يحتفل به من 22 سبتمبر (أيلول) - 22 أكتوبر (تشرين الأول) وكان يتوّج فيه الملوك، ويلبسون الجديد من الخز وغيره.
بالإضافة إلى بقية الأشياء التي تصنع في عيد النيروز.(2/267)
356 - " بَابُ الْحِرَابِ والدَّرَقِ يَوْمَ الْعِيدِ "
419 - عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيانِ بِغَنَاءِ بُعَاثٍ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاش، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أبو بَكْرٍ فَانتهَرَنِي، وَقَالَ: مِزْمَارَة الشيطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
356 - " باب الحراب والدرق يوم العيد "
أي اللعب بالحراب جمع حربة، وهي آلة حربية أصغر من الرمح، والدرق جمع درقة وهي الترس الذي يتقى به في الحروب من السيوف وغيرها.
419 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي جاريتان " (1) ، أي صبيتان، " تغنيان بغناء بعاث " (بضم الباء وفتح العين) وهو موضع في ديار بني قريظة بالمدينة فيه أموالهم، وفيه وقعت المعركة المشهورة بيوم بعاث، التي كانت فيها المقتلة العظيمة للأوس والخزرج، والتي استمرت الحرب فيها مائة وعشرين سنة، إلى ظهور الإسلام بالمدينة وهجرة خير الأنام - صلى الله عليه وسلم - إليها. وموضعها في مكان المزرعة المعروفة اليوم (بالمبعوث) شرقي المدينة بقرب (العريض) أي أن الجاريتين كانتا تنشدان الأشعار الحماسية التي قيلت في المفاخرة بذلك اليوم، " ودخل أبو بكر فانتهرني " أي فأنكر عليّ ذلك الغناء، وزجرني بشدة، " وقال: مزمارة الشيطان " بحذف همزة الاستفهام أي أصوت الغناء والملاهي الشيطانية أسمعه من منزل النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال العيني: قوله: " مزمارة الشيطان " يعني الغناء، أو الدف، وإضافتها إلي الشيطان من جهة أنها تلهي وتشغل القلب عن ذكر
__________
(1) تثنية جارية، وهي الصبية قبل البلوغ.(2/268)
- صلى الله عليه وسلم - فَأقبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: دَعْهُمَا، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا، فَخَرَجَتَا، وكانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ والْحِرَابِ ".
357 - " بَابُ الأكْلِ يَوْمَ الفِطْرِ قَبلَ الخرُوجِ "
420 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لا يَغْدُو يَوْمَ الفِطر حتَّى يَأكُلَ تَمَراتٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الله، " فقال: دعهما " أي اتركهما تغنيان فإنّ هذا الغناء الحماسي لا حرج فيه، " فلما غفل " أي نام، " غمزتهما " أي أشرت إليهما بالخروج، وكان ذلك اليوم، " يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب " (1) أي يقومون فيه بألعاب الفروسية.
ويستفاد منه: مشروعية الاحتفال بالعيد، وإقامة الألعاب والرقصات الحربية فيه. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " يلعب السودان بالدرق والحراب ".
357 - " باب الأكل يوم الفطر قبل الخروج "
420 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يفطر على شيء من التمر قبل أن يذهب إلى صلاة عيد الفطر، فيقول: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات " (بفتح الميم) أي: لا يخرج إلى صلاة عيد الفطر حتى يأكل شيئًا من التمر. وذلك لأنّه كان أوّل الإِسلام لا يجوز الفطر إلاّ بعد صلاة العيد، ثم نسخ فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُعلم الناس وأن يؤكد لهم تأكيداً عملياً أن ذلك قد نسخ، وأصبح
__________
(1) اعتمدت في اختصار هذا الحديث على مختصر الزبيدي.(2/269)
358 - " بَابُ الْمَشْيِ والرُّكُوبِ إلَى الْعِيدِ، والصَّلاةُ قَبلَ الْخطْبَةِ وَبِغيْرِ أَذَانٍ ولا إِقَامَةٍ "
421 - عن ابْنِ عَبِّاسٍ وَجَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ قَالَا: " لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ يَوْمَ الفِطر ولا يَوْمَ الأَضْحَى ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من السنة الإِفطار على التمر قبل صلاة العيد، ففعل ذلك بنفسه، وواظب عليه ليقتدي الناسُ به ويفعلوا مثله.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يستحب الإِفطار قبل صلاة العيد كما ترجم له البخاري. ثانياًً: أنه يستحب الإِفطار على التمر، فإن لم يجد تمراً تناول ما يقوم مقامه. وقد استحب بعض التابعين الإِفطار على الحلو مطلقاً كالتمر والعسل والدبس كما رواه ابن أبي شيبة. ولكن للتمر مزايا لا توجد في غيره. قال ابن القيم: وأكل التمر على الريق يقتل الدود، وهو فاكهة، وغذاء، ودواء، وشراب، وحلوى. ويستحب أن يأكل من التمر وتراً. أي عدداً فردياً ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً ... إلخ. لما جاء في حديث آخر رواه البخاري عن أنس تعليقاً قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: " يأكلهن وتراً " وإنما رواه البخاري تعليقاً لأن فيه مُرَجَّى بن رجاء، وفي الاحتجاج به خلاف عند المحدثين، كما يستحب له الشرب قبل صلاة العيد، فإن لم يفعل ذلك في بيته شرب في طريقه، أو في المصلّى إن أمكنه. الحديث: أخرجه البخاري والترمذي. والمطابقة: في قوله: " لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل ".
358 - " باب المشي والركوب إلى العيد والصلاة قبل الخطبة وبغير أذان ولا إقامة "
421 - معنى الحديث: يقول جابر وابن عباس رضي الله عنهم:(2/270)
" لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى "، أي: أن صلاة العيدين كانت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين تصلّى بلا أذان ولا إقامة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قولهما: "لم يكن يؤذن يوم الفطر".
ويستفاد من الحديث: أن صلاة العيدين بلا أذان ولا إقامة، تلك هي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين، وعليها جمهور علماء المسلمين. قال مالك في " الموطأ ": سمعت غير واحد من علمائنا أي من علماء أهل المدينة يقول: لم يكن في الفطر والأضحى نداء ولا إقامة منذ زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليوم، وتلك السنّة التي لا اختلاف فيها، وما ذكره إمام دار الهجرة هو الذي استقر عليه الأمر، وجرى به العمل عند سلف الأمة وخلفها، أما ما حدث في عهد بني أمية من الأذان والإِقامة لصلاة العيدين فهو ظاهرة شاذة، وبدعة غريبة أنكرها الأئمة وأعلام السلف من الصحابة والتابعين. وأول من أحدث ذلك معاوية رضي الله عنه فقد أخرج الشافعي عن الزهري أنه قال: لم يكن يؤذّن للنبي ولا لأبي بكر ولا لعمر ولا لعثمان في العيدين فقيل: أحدث ذلك معاوية بالشام وأحدثه الحجاج بالمدينة، قال: ولا وجه لهم فيما أحدثوه لمخالفته الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين. قال ابن قدامة: ولا نعلم في هذا خلافاً. وقال بعض أصحابنا ينادى لها الصلاة جامعة. وهو قول الشافعي: وسنة رسول الله أحق أن تتبع. واحتج الشافعي بما رواه عن الزهري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر المؤذنين في العيدين فيقولوا: الصلاة جامعة، وهو حديث مرسل ضعيف كما أفاده في " المنهل العذب " ونقله عن النووي. والمطابقة: في قوله: " لم يكن يؤذّن يوم الفطر ولا يوم الأضحى ".
***(2/271)
359 - " بَابُ الخطْبَةِ بَعْدَ الْعِيدِ "
422 - عن ابن عَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، فَكُلُّهُمْ كانُوا يُصَلُّونَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ".
423 - عن البَرَاءِ بن عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأ بِهِ في يَوْمِنَا هَذَا أنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فمن فَعَلَ ذلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَتّنا، ومنْ نَحَرَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فإنمَّا هِيَ لَحْمٌ قدَّمهُ لأهلِهِ، ليسَ مِنَ النُّسُكِ في شَيءٍ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
359 - " باب الحطبة بعد العيد "
422 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما:
" شهدت العيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة " أي حضرت صلاة العيد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين فكانوا جميعاً يصلّون صلاة العيد قبل الخطبة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قوله: " كانوا يصلون قبل الخطبة ".
423 - معنى الحديث: يقول البراء رضي الله عنه: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب خطبة العيد، إنّ أول ما نبْدأ به في يومنا هذا " الذي هو عيد النحر " أن نصلي " صلاة العيد، " ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك " أي: فمن قدم الصلاة وأخر الخطبة " فقد أصاب سنتنا " أي فقد وافق سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما فعل. الحديث: أخرجه الخمسة، ولم يخرجه ابن ماجة.
والمطابقة: في قوله: " إنّ أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلّي ".(2/272)
360 - " بَابُ فضلِ الْعَمَلِ في أيَّامِ التَّشْرِيقِ "
424 - عن ابنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَا الْعَمَلُ في أيَّامٍ أفضَلُ مِنْهَا في هَذَا الْعَشْرِ "، قَالُوا: ولا الْجِهَادُ؟ قَالَ: " ولَا الْجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: أن من السنة الإِتيان بالخطبة بعد صلاة العيد، وتقديم الصلاة عليها، وهو ما ترجم له البخاري، وانعقد عليه الإِجماع، سلفاً وخلفاً، إلاّ ما حدث من بني أمية من تقديم الخطبة، وهي بدعة أحدثها مروان بن الحكم بالمدينة حين رأى مسارعة الناس إلى الخروج (1) بعد الصلاة، لئلا يسمعوا سب عليّ في خطبة العيد على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أنكرها عليه أبو سعيد. فقال له: " غيرتم والله " أي غيرتم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يا بني أمية". ثانياً: مشروعية النحر بعد الصلاة، وسيأتي تفصيله في موضعه.
360 - " باب فضل العمل في أيام التشريق "
424 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما العمل في أيام أفضل منها في هذا العشر " وفي رواية "ما من أيّام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر " والمعنى واحد، والمراد أنّ العمل في العشر الأوائل من ذي الحجة يتضاعف أجره ما لا يتضاعف في سائر الأيام، فلا
__________
(1) أي أنه لما كان الأمويون يسبون علياً في خطبهم، كان الناس يكرهون ذلك (فيقتصرون) على حضور صلاة العيد فإذا صلّوا خرجوا قبل الخطبة لئلا يسمعوا ما يكرهون، فأمر معاوية مروان أن يقدم خطبة العيد على الصلاة ليضطر الناس إلى حضورها.(2/273)
361 - " بَابُ التَّكْبِيرِ أيَّامَ مِنى "
425 - قالَ الْبُخَارِي: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ بِمِنى تِلْكَ الْأَيَّامِ، وخَلْفَ الصَّلَوَاتِ، وعلَى فِرَاشِهِ، وفي فُسْطَاطِهِ، وَمَجْلِسِهِ وَمَمْشَاهُ تِلكَ الأيَّامَ جَمِيعاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يساويه أي عمل في وقت آخر، " قالوا: ولا الجهاد " في سبيل الله، " قال: ولا الجهاد " قال الطيبي: معناه ولا الجهاد في أيام أخر أحب إلى الله من العمل في هذه الأيام، " إلاّ رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء " أي: إلاّ رجل استشهد في سبيل الله، فبذل روحه وماله إعلاءً لكلمة الله، فهو أفضل، أو فعمله أفضل. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي وابن ماجة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: فضل العشر الأوائل من ذي الحجة، وفضل العمل الصالح فيها على العمل في سائر الأيام عدا الاستشهاد في سبيل الله.
وهل هي أفضل من العشر الأواخر من رمضان؟ المختار أنّ هذه أفضل أياماً، وتلك أفضل ليال، لوجود ليلة القدر فيها. ثانياًً: استدل به البخاري على فضل أيام التشريق، لأن أولها وهو يوم العيد آخر العشر الأوائل. والسر في فضل العمل في أيام التشريق أنها أيام غفلة، والعبادات في أوقات الغفلة فاضلة على غيرها. والمطابقة: في كون أول أيام التشريق آخر الأيام العشر.
361 - " باب التكبير أيام مني "
425 - معنى الأثر: يقول البخاري في هذا التعليق الذي وصله ابن المنذر والفاكهي في " أخبار مكة ". " كان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام " أي كان ابن عمر يواظب على مواصلة التكبير في أيام منى، " وخلف الصلوات المكتوبات " أي: وكان يكبر في تلك الأيام التي هي أيام العيد بعد كل صلاة(2/274)
362 - " بَابُ النَّحْرِ والذَّبْحِ بالْمُصَلَّى يَوْم الْنَّحْرِ "
426 - عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَنْحَرُ، أَوْ يَذْبَحُ بِالْمُصَلَّى ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مكتوبة من الصلوات الخمس، " وعلى فراشه وفي فسطاطه " أي وفي خيمته.
ويستفاد منه: أنّه يسن التكبير في أيّام العيد خلف الصلوات الخمس، لما جاء في هذا الأثر وغيره عن الصحابة رجالاً ونساءً. فقد كانت ميمونة تكبّر يوم النحر، وكان النساء يكبّرن خلف أبان بن عثمان، وخلف عمر ابن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد. ويبدأ التكبير عند أبي حنيفة من صلاة فجر يوم عرفة، وينتهي بصلاة عصر يوم النحر. وقال مالك والشافعي في أشهر أقواله: من صلاة ظهر يوم النحر إلى صلاة صبح اليوم الرابع. وقال أحمد: يكبر المحل من صلاة صبح يوم عرفة إلى عصر آخر أيّام التشريق ويكبر المحرم من ظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " كان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام ".
362 - " باب النحر والذبح بالمصلى يوم النحر "
أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على استحباب النحر والذبح بالمصلّى يوم النحر. والنحر يكون للإِبل في اللبة، والذبح للبقر والغنم في الحلق.
426 - معنى الحديث: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينحر إبل الأضاحي ويذبح بقرها وغنمها في المصلّى لكى يراه الناس، فيذبحوا وينحروا بعده.
ويستفاد منه: أولاً: أنه يسن للإِمام تذكية أضحيته بالمصلى ليراه الناس(2/275)
363 - " بَابُ مَنْ خالَفَ الطَّرِيقَ إِذَا رَجِعَ يَوْمَ الْعِيدِ "
427 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطرَّيقَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيذكوا بعده ضحاياهم. ثانياً: استدل به مالك علي أنه لا يذبح أحد ضحيته إلّا بعد ذبح الإِمام. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في قوله: " ينحر أو يذبح بالمصلّى ".
363 - " باب من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد "
427 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم عيد خالف الطريق " أي: كان من سنته - صلى الله عليه وسلم - التي داوم عليها في حياته أنّه كان يذهب إلى صلاة العيد من طريق، ويرجع من طريق آخر، ليشهد له الطريقان يوم القيامة. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " خالف الطريق ".
ويستفاد منه: أنه يستحب للمسلم أن يذهب إلى صلاة العيد من طريق، ويرجع من طريق آخر، ليشهد له الطريقان، لأنّ الأرض تشهد لمن فوقها بما عمل من خير أو شر كما قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) وفي الحديث أنها تشهد على كل واحد بما عمل على ظهرها، وقيل: يغير الطريق تفاؤلاً بتغير الحال إلى أفضل.
تتمة وتكملة: لما كان البخاري لم يعقد باباً خاصاً لبيان صلاة العيد مع أهمية هذه الصلاة، فقد رأيت أن أبين صلاة العيدين، وعدد التكبيرات فيها، فأقول: جاء في الحديث الصحيح عن عمرو بن عوف المزني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبّر في العيدين في الأولى سبعاً قبل القراءة، وفي الثانية خمساً قبل القراءة،(2/276)
أخرجه الترمذي وحسّنه، وقال: سألت البخاري عنه فقال: ليس في هذا الباب شيء أصح منه، وبه أقول. اهـ. ولهذا اتفق الجمهور على أنّ صلاة العيدين ركعتان يكبّر في الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً قبل القراءة. قال مالك: وهو الأمر عندنا، وقال الباجي: وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد إلاّ أنها عند مالك وأحمد سبعة بتكبيرة الإِحرام، وعند الشافعي سبعة سوى تكبيرة الإِحرام. واتفقوا على أنها في الثانية خمسة بعد تكبيرة القيام. وقال أبو حنيفة: التكبيرات في الأولى ثلاثة بعد تكبيرة الإحرام وفي الثانية ثلاثة بعد القراءة هذه هي كيفية صلاة العيد. أما القراءة فيها: فإنّه يقرأ في كل ركعة الفاتحة وسورة يجهر فيها بالقراءة، وقد روى النعمان بن بشير " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأ بهما ". قال ابن المنذر: أكثر أهل العلم يرون الجهر بالقراءة. وفي أخبار من أخبر بقراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على أنّه كان يجهر، ولأنّها صلاة عيد أشبهت الجمعة، والله أعلم.
***(2/277)
أبواب الوِتْرِ
364 - " بَابُ مَا جَاءَ في الْوِتْرِ "
428 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ رَجُلاً سَألَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَن صَلَاةِ اللَّيْلِ فَقَالَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -: " صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيَ أحَدكُم الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً توتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" أبواب الوتر "
هو لغة الفرد، أي الشيء الواحد، أو العدد المنتهي بواحد. وقد اختلف فيه الفقهاء شرعاً، فذهب بعضهم إلى أنه ركعة واحدة، كما يدل عليه المعنى اللغوي، وذهب آخرون إلى أنّ أقله ثلاث ركعات بناء على أنّه لغة ما ينتهي بواحد. وحكمه: أنّه سنة مؤكدة عند الحنابلة، وآكد السنن عند الشافعية.
وآكدها بعد ركعتي الطواف عند المالكية، وواجب عند الحنفية.
364 - "باب ما جاء في الوتر"
428 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما: " أنّ رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل "، أي عن صفتها وكيفيتها " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الحل مثنى مثنى "، أي صلاة الليل ثنائية يسلم المصلي فيها من كل ركعتين، كما قال ابن عمر، " فإذا خشي أحدكم الصبح " أي فإذا شعر المصلّى باقتراب الفجر، " صلى ركعة واحدة، توتر في ما قد صلّى " أي ختم صلاة الليل بركعة واحدة تجعل آخر صلاته وتراً. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.(2/278)
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية الوتر، وهو واجب عند أبي حنيفة (1) لحديث أبي أيوب: " الوتر حق " أخرجه أبو داود، وغيره من الأحاديث. والجمهور على أنه سنة مؤكدة، لحديث الأعرابي لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ما فرض الله عليه قال: " خمس صلوات كتبنهن الله في اليوم والليلة قال: هل على غيرها، قال: لا "، فلو كان واجباً لذكره مع الصلوات الخمس (2) ، وأمّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الوتر حق " فإن في إسناده عبيد الله بن عبد الله أبو المنيب العتكي، وقد تكلم فيه البخاري وغيره. ثانياً: أنّ أقل الوتر ركعة واحدة، وهو مذهب الشافعية والحنابلة. قال ابن قدامة: ويجوز له إذا صلاها ثلاثاً أن يأتي بالركعتين الأوليين مفصولتين وهو الأفضل، أو يأتي به موصولاً، سواء أتي به بتشهد واحد أو بتشهدين والفصل أفضل من الوصل، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الوتر ركعة من آخر الليل " أخرجه مسلم. وقال مالك: يشترط في ركعة الوتر أن يتقدمها شفع، ولهذا قال أشهب: من أوتر بركعة واحدة يعيد وتره بعد شفع ما لم يصل الصبح (3) ، وقال سحنون: إن كان بحضرة ذلك شفعها بركعة وأوتر، وإن تباعد أجزأه. وقال أبو حنيفة: الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة وتشهدين، لقول عائشة رضي الله عنها " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بثلاث لا يسلم إلا في آخرهن " ... إلخ. ثالثاً: إن صلاة الليل ثنائية، تصلى ركعتين ركعتين، وهو مذهب مالك والشافعي في الليلية والنهارية.
قال ابن قدامة: فأمّا تطوع الليل فلا يجوز إلاّ مثنى مثنى هذا قول أكثر أهل العلم، والأفضل في تطوع النهار أن يكون مثنى مثنى، وإن تطوع بأربع فلا بأس. وقال أبو حنيفة في صلاة الليل والنهار: إن شئت ركعتين، وإن
__________
(1) ونقله ابن العربي عن أصبغ وسحنون من المالكية.
(2) " المغنى " لابن قدامة.
(3) " شرح الباجي على الموطأ ".(2/279)
429 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
" أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، كانَتْ تِلْكَ صَلَاتهُ، تَعْنِي باللَّيْلِ، فَيَسْجُدُ السَجْدَةَ مِنْ ذِلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأسَهُ، وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، ثم يَضْطجِعُ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى شِقِّهِ الأَيمَنِ حَتَّى يَأتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلصَّلَاةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شئت أربعاً. والمطابقة: في قوله: " يصلّي ركعة واحدة توتر له ما قد صلّى ".
429 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها: " أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلّي إحدى عشرة ركعة، كانت تلك صلاته، تعني بالليل " وفي رواية مسلم قالت: " كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يصلّي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة ". ومعنى ذلك أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - الليلية التي كان يصليها ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، لا تزيد عن إحدى عشرة ركعة، منها ركعة الوتر، " يسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه "، أي: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يطيل السجود في قيام الليل حتى أن الوقت الذي يقضيه في السجدة الواحدة يكفي لقراءة خمسين آية، " ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر "، وهما سنة الفجر، " ثم يضطجع على شقه الأيمن " للاستراحة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن أغلب صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالليل إحدى عشر ركعة بما فيها الوتر. ولهذا قال ابن القيم: " وكان قيامة (1) - صلى الله عليه وسلم - بالليل إحدى عشر ركعة أو ثلاثة عشرة، كما قال ابن عباس وعائشة، فإنه ثبت عنهما هذا وهذا. والصحيح عن عائشة الأول، والركعتان فوق الإِحدى عشر هما
__________
(1) " زاد المعاد " لابن القيم.(2/280)
ركعتا الفجر، جاء ذلك مبيناً في هذا الحديث " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلّي ثلاث عشرة ركعة بركعتي الفجر " ذكره مسلم. أما ابن عباس فقد اختلف عليه، ففى الصحيحين عن أبي جمرة، قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ثلاث عشرة ركعة يعني بالليل، لكن قد جاء عنه هذا مفسراً أنها بركعتي الفجر، حيث قال الشعبي: سألت ابن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ثلاث عشرة ركعة، منها ثمان، ويوتر بثلاث، وركعتين قبل صلاة الفجر. ثانياًً: مشروعية طول السجود في صلاة القيام في حدود قدرة المصلّي وطاقته وقد كان - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث الباب " يسجد السجدة بقدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية ". ثالثاً: مشروعية ركعتى الفجر، وهي سنة مؤكدة عند الشافعية، وآكد السنن وأقواها عند الحنفية، وهي (رغيْبة) عند المالكية يندب (1) فعلها في البيت ووقتها من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وتقضى عند الجمهور خلافاً للحنفية. ويقرأ فيها (الكافرون) و (الإِخلاص) عند الجمهور، والفاتحة فقط عند المالكية، و (قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) إلى آخرها التي في سورة البقرة و (قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا) التي في سورة آل عمران إلى آخرها عند الشافعية. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " كان يصلّي إحدى عشرة ركعة " لأن الوتر من ضمنها.
***
__________
(1) " الرسالة " لابن أبي زيد القيرواني.(2/281)
365 - " بَابُ ساعَاتِ الْوِتْرِ "
430 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
" كُلَّ اللَّيْلِ أوْتَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وانْتَهَى وِتْرُهُ إلَى السَّحَرِ ".
366 - " بَابُ لِيَجْعَلْ آخِرَ صَلَاِتهِ وِتْراً "
431 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاِتكُمْ باللَّيْلَ وِتراً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
365 - " باب ساعات الوتر "
430 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كل الليل أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، أي أنه - صلى الله عليه وسلم - صلّى الوتر في جميع أوقات الليل، أحياناً في أوّله، وأحياناً في وسطه، وأحياناً في آخره " وانتهى وتره إلى السحر "، أي وكان آخر وقت صلّى فيه الوتر هو آخر الليل. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قولها: " كل الليل أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
ويستفاد منه: جواز صلاة الوتر في جميع ساعات الليل من بعد العشاء
إلى آخر الليل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى أوّله، ووسطه، لبيان الجواز، كما أفاده العيني.
366 - " باب ليجعل آخر صلاته وتراً "
431 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً "، أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن نصلّي الوتر في آخر الليل فنجعله آخر صلاة نصليها فيه، ونختم به صلاة الليل فلا نصلّى بعده إلى مطلع الفجر،(2/282)
367 - " بَابُ القُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ "
432 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ سُئِلَ عنِ الْقُنُوتِ، فَقَالَ: "قدْ كَانَ الْقُنُوتُ، فَقِيلَ لَهُ: قَبْلَ الرُّكُوعِ أوْ بَعْدَهُ؟ قالَ: قَبْلَهُ، قِيلَ: فإِنَّ فُلَاناً أخْبَرَنِي عنْكَ أنَّكَ قُلْتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ. فَقَالَ: كَذَبَ، إِنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرَاً، أرَاهُ كَانَ بَعَثَ قَوْمَاً يُقَالُ لَهُمْ القُرَّاءُ زُهَاءَ سَبْعِينَ رَجُلاً إِلَى قَوْم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهو أمر ندب واستحباب فقط. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن تأخير الوتر إلى آخر الليل لمن أراد التهجد ووثق من قيامه أفضل من أدائه في أوله. فإن لم يرد القيام، أو لم يثق من قيامه، فالأفضل تقديمه، لحديث جابر: " من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوّله، ومن طمع أن يقوم آخره فإن صلاة آخر الليل مشهودة ".
فإن صلّى الوتر وقام للتجهد فلا يعيده عند الجمهور لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا وتران (1) في ليلة " أخرجه أبو داود. ثانياًً: استدل به أبو حنيفة على وجوب الوتر. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
367 - " باب القنوت قبل الركوع وبعده "
432 - معنى الحديث: يروي لنا عاصم الأحول في هذا الحديث " عن أنس رضي الله عنه أنه سئل عن القنوت " أي أن أنس بن مالك سئل هل كان القنوت موجوداً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - " فقال: قد كان القنوت " موجوداً، " فقيل له: قبل الركوع أو بعده؟ " أي: هل كان النبي وأصحابه يفعلونه قبل الركوع أو بعده؟، " قال: قبْله، قيل: فإنّ فلاناً "، ويحتمل
__________
(1) " المغني " لابن قدامة.(2/283)
مِنَ الْمُشْرِكِينَ دُونَ أولَئِكَ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ الله عَهْدٌ، فَقَنَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -" شَهْراً يَدْعُو عَلَيْهِمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أنّه ابن سيرين، كما أفاده العيني " أخبر عنك أنك قلت بعد الركوع، قال: كذب "، أي أخطأ في فهمه إن روى لك أن القنوت دائماً بعد الركوع " إنما قنت بعد الركوع شهراً " أي إنما كان قنوته - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع مدة محدودة، وزمناً قليلاً لا يتجاوز الشهر، وفي أحوال استثنائية، وعند النوازل، ثم بين سبب قنوته بعد الركوع، وقال: " بعث قوماً يقال لهم: القراء زهاء سبعين " أي يقارب عددهم سبعين رجلاً " إلى قوم من المشركين دون أولئك "، أي وكان عددهم أقل من المبعوث إليهم وإنما أرسلهم إليهم ليعلموهم القرآن، وأحكام الإسلام، " وكان بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد " فنقضوا العهد وغدروا بأولئك القراء وقتلوهم. " فقنت رسول الله شهراً يدعو عليهم "، أي يدعو على أولئك الغادرين من رَعلٍ وذكوان ثلاثين صباحاً.
الحديث: أخرجه الشيخان.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استدل به المالكية والحنفية على أن القنوت قبل الركوع، لأن أنساً لما سئل عن القنوت قبل الركوع أو بعده قال: قبله، كما في حديث الباب. وذهبت الشافعية والحنابلة (1) إلى أن القنوت بعد الركوع واستدلوا على ذلك بحديث ابن مسعود " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت بعد الركوع "، أخرجه مسلم. ومما يدل على أن القنوت بعد الركوع حديث علي أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في آخر وتره: "اللهم إني أعوذ برضاك
__________
(1) واختلفوا هل هو في صلاة الصبح أو في الوتر؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنه في صلاة الصبح، وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أنه في الوتر. قال الترمذي: واختلف أهل العلم في القنوت فرأى عبد الله، بن مسعود القنوت في الوتر في السنة كلها قبل الركوع، وبه يقول سفيان الثورى وابن المبارك وإسحاق وأهل الكوفة، وهو قول أبي حنيفة. وذهب الشافعي إلى أن القنوت سنّة في الصبح بعد الركوع، وكذلك يرى مالك القنوت في الصبح إلا أنه قبل الركوع. قال خليل: " وَقنوت سِراً بِصبحٍ فَقَطْ قَبلَ الركُوْعِ " أي أن القنوت مستحب في صلاة الصبح، كما أفاده الحطاب.(2/284)
من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ". ثانياًً: في الحديث دليل على مشروعية القنوت عند النوازل ويسمى هذا القنوت عند أهل العلم قنوت الحاجة أو قنوت النوازل. ويستعمل في أوقات مخصوصة، ولفترة محدودة عندما ينزل بالمسلمين مكروه من مرض أو خوف أو هزيمة أو عدوان عليهم، لقول أنس " فقنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً يدعو عليهم ". وفي رواية أخرى عن أنس: " قنت النبي - صلى الله عليه وسلم - شهراً يدعو على رِعل وذكوان ".
تتمة وتكملة: اتفق الأئمة الأربعة على وجود دعاء مخصوص للقنوت، واختلفوا في هذا الدعاء، فاختار الشافعية والحنابلة ما رواه الحسن بن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه علمه كلمات القنوت أن يقول: " اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولّني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، ووقني شر ما قضيت، فإنّك تقضى ولا يقضى عليك.، إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت " رواه أحمد وأصحاب السنن، وقال الترمذي: حديث حسن، لا نعرف في القنوت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً أحسن منه، هذا وزاد البيهقي بعد: " ولا يذل من واليت " ولا يعز من عاديت. واختار المالكية والحنفية ما روي عن عمر رضي الله عنه وهو: " اللهم إنّا نستعينك ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونخضع لك، ونخلع ونترك من يكفرك، اللهم إيّاك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إنّ عذابك الجد بالكافرين ملحق "، رواه البخاري والبيهقي موقوفاً على عمر بألفاظ مختلفة، وأخرج سحنون عن عبد الرحمن بن سويد الكاهلي أن علياً قنت في الفجر به. وأخرج الطحاوي عن ابن عباس أنّ لفظ القنوت هذا كان قرآناًْ ثم نسخ كما أفاده في " مسالك الدلالة ". مطابقة الحديث للترجمة: في كونه يدور حول القنوت، هل هو قبل الركوع أو بعده، وما إلى ذلك. اهـ.(2/285)
بسم الله الرحمن الرحيم
(أبواب الاستسقاء)
الاستسقاء لغة: طلب السقيا، وهي أن يعطيه ما يشرب كما قال الراغب، إذن فمعنى الاستسقاء أن يطلب المرء من غيره أن يعطيه شراباً، ماءً. كان أو سواه، ثم استعمل في طلب سقي الماء لنفسك أو لغيرك، كما قال الحافظ.
وشرعاً: طلب سقي الماء من الله تعالى بنزول الأمطار، أو توفر مياه الأودية والأنهار، أو بزيادة منسوبها. وهو ثلاثة أنواع: أدناها: مجرد الدعاء فرادى أو جماعات، وقد استسقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند أحجار (الزيت) بالدعاء بلا صلاة، قال الشافعي: وأحسنه ما كان من أهل الصلاح. وأوسطها: الدعاء عقب الصلوات فريضة أو نافلة، وفي كل خطبة مشروعة. وأعلاها: ما كان بالصلاة والخطبة. والحكمة فيه أنّ معظم الكوارث من قحط وجدب وغيرها إنما هي نتيجة حتمية للذنوب والخطايا. كما قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) فجعل الله الأدعية والصلوات والتوبة وسائل لتكفير السيئات وكشف البلاء. وشرع صلاة الاستسقاء لما فيها من الاستغفار والعودة إلى الله، والإِنابة إليه، وقد أخبرنا الله عن نوح أنه قال لقومه: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) ثم شرعت الصدقة عند الاستسقاء، لأنها تطفىء غضب الرب، كما سُنَّ الخروج بالعجائز والصبيان في هيئة رثة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا صبيان رضع ومشايخ(2/286)
368 - " بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ وَخرُوجُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الِاسْتِسْقَاءِ "
433 - عن عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ بنِ عَاصِم المَازِنِي رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: خَرَج النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَسْقي وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ركع؛ وبهائم رتع؛ لصب عليكم العذاب صباً " أخرجه البيهقي وضعَّفه، ويغني عنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولولا البهائم لم يمطروا " وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم ".
368 - " باب الاستسقاء، وخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الاستسقاء "
433 - معنى إلحديث: يقول عبد الله بن زيد بن عاصم المازني: " خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي " أي خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلّى ليصلّي صلاة الاستسقاء كما جاء مصرحاً بذلك في رواية أخرى حيث قال: " صلّى ركعتين " وفي رواية أبي داود: " خرج بالناس يستسقي "، أي وشاركه في الخروج كل من يشرع له ذلك من الرجال والصبيان وعجائز النساء، دون الشابات منهن، " وحوّل رداءه " أي جعل ما على يمينه على يساره، والعكس بالعكس. الحديث: أخرجه الخمسة، ولم يخرجه الترمذي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً،: مشروعية صلاة الاستستقاء، وكونها سنة مؤكدة، ولا خلاف في ذلك. وإنما اختلفوا هل يسن صلاة الاستسقاء جماعة، أو يستحب فقط، فقال الجمهور بالأول، وقال أبو حنيفة بالثاني لعدم مواظبته - صلى الله عليه وسلم - عليها، ولأنه قال في حديث البخاري هذا: " خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي، ولم يذكر الصلاة " وأجيب بأن عبد الله بن زيد روى هذا الحديث في رواية أخرى مفصلاً فقال فيها: " قلب رداءه، وصلّى ركعتين " والروايتان(2/287)
369 - " بَابُ رَفْعِ الإِمَامِ يَدَهُ في الِاسْتِسْقَاءِ "
434 - عنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ في شَيءٍ منْ دُعَائِهِ إلَّا في الِاسْتِسْقَاءِ، وَإنَّهُ يَرْفَعُ حتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من مصدر واحد، فتكون الرواية الأخرى تفسيراً لهذه الرواية ويكون معنى قوله " خرج يستسقي " أي يصلّي صلاة الاستسقاء. ثانياً: أنه يسن الخروج إلى المصلّى في صلاة الاستسقاء كالعيدين. قال ابن رشد: أجمع العلماء على الخروج إلى الاستسقاء، والبروز عن المصر، والدعاء إلى الله تعالى، والتضرع إليه في نزول المطر، سنة سنّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثالثاً: استحباب تحويل الرداء للإِمام والناس، وهو مذهب الجمهور خلافاً لأبي حنيفة. والمطابقة: في قوله: "خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي".
369 - " باب رفع الإِمام يده في الاستسقاء "
434 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلاّ في الاستسقاء "، أي لا يبالغ في رفع يديه أثناء أيِّ دعاء من الأدعية كما يبالغ في دعاء الاستسقاء، وليس المراد نفي الرفع في الأدعية الأخرى لثبوته في الأحاديث الصحيحة، كما أفاده الحافظ " وإنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه " بكسر الهمزة وسكون الباء، أي يرفع يديه في دعاء الاستسقاء عالياً، حتى يظهر البياض الذي تحت إبطيه.
الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة.
ويستفاد منه: استحباب رفع اليدين في دعاء الاستسقاء، والمبالغة فيه أكثر من الأدعية الأخرى، كما ترجم له البخاري. والمطابقة: في قول أنس رضي الله عنه: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلاّ في الاستسقاء ".(2/288)
370 - " بَابُ مَا يُقَالُ إِذَا أمْطَرَتْ "
435 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا رَأى الْمَطر قَالَ: " صَيِّبَاً نَافِعاً ".
371 - " بَابٌ إِذَا هَبَّتِ الرِّيْحُ "
436 - عنْ أنَسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" كَانَتِ الرِّيْحُ الشَّدِيدَةُ إِذَا هَبَّتْ عُرِفَ ذَلِكَ في وَجْهِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
370 - " باب ما يقال إذا أمطرت "
435 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها: " أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى المطر قال: صَيِّباً نافعاً " أي: يسأل الله تعالى ويتضرع إليه أن يجعل هذا المطر كثيراً غزيراً نافعاً للإِنسان والحيوان سقيا رحمة، تُنْبتُ بها الأرض أعشابها، وتخرج من خيراتها، وتدر المواشى من ألبانها، لا سقيا عذاب تهدم وتغرق. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي وابن ماجة.
ويستفاد منه: استحباب الدعاء عند نزول الأمطار، كما كان - صلى الله عليه وسلم - يدعو، لأن الدعاء عندها مستجاب. فقد روى الشافعي في " الأم " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اطلبوا استجابة الدعاء عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث "، وهو حديث مرسل. والمطابقة: في قولها: " قال: صيباً نافعاً ".
371 - " باب إذا هبت الريح"
436 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " كانت الريح الشديدة إذا هبت عُرف ذلك في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي: أصابه فزع شديدٌ وظهرت آثار الخوف والقلق على وجهه الشريف، خشية أن تكون تلك الريح(2/289)
372 - " بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نصِرْتُ بالصَّبَا "
437 - عنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " نُصِرْتُ بالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إعصاراً مدمِّراً، أو عقوبة سماوية، كتلك التي وقعت لقوم هود، فكانت عليهم عاصفة شديدة، قلعت أشجارهم وهدّمت ديارهم، كما قال تعالى في وصف ما أحدثته فيهم من كوارث (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا) حتى أنها كانت ترفع المرأة بين السماء والأرض كأنها جرادة، وكانت ترميهم بالحجارة فتدق أعناقهم، ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتدت الريح يخشى أن تصاب أُمَّتَهَ بما أصيب به أولئك. الحديث: أخرجه البخاري.
ويستفاد منه: أنه يستحب استشعار الخوف عند هبوب الرياح والعواصف الشديدة، وذلك من الفطنة، لأنّ الريح كثيراً ما تكون دماراً وتخريباً وعذاباً، كما تدل عليه الحوادث المتكررة على مر العصور والأزمان. والمطابقة: في قوله: " كانت الريح الشديدة إذا هبت عرف ذلك في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - ".
372 - " باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - نصرت بالصَّبا "
437 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " نصرت بالصبا " وهي الريح التي تهب من مشرق الشمس، وتكون باردة منعشة، يستريح إليها الشجي، ويحن لها الغريب، ولذلك تردد ذكرها على ألسنة الشعراء ومن ذلك قول الشاعر:
ألَا يَا صَبَا نَجْدٍ مَتَى هِجْتِ مِنْ نَجْدِ ... لَقَدْ زَادَني مَسْراكِ وَجْداً عَلَى وَجْدِ
ويقول ابن زيدون:
وَيَا نَسِيْمَ الصبَّاَ بَلِّغْ تَحِيَّتنا ... مَنْ لَوْ عَلَى البُعْدِ حَيَّا كانَ يُحْيينَا(2/290)
373 - " بَابٌ لا يَدْرِي مَتَى يَجِيءُ الْمَطَرُ إِلَّا اللهُ "
438 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مِفْتَاحُ الْغَيْب خَمْسٌ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ، لَا يَعْلَمُ أحدٌ مَا يَكُونُ في غَدٍ، ولَا يَعْلَمُ أحدٌ مَا يَكُونُ في الأرحَامِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومعنى الحديث: أن الله عز وجل قد نصر نَبِيَّهُ برج الصبا في غزوة الخندق، حيث سلطها الله على قريش وغطفان، فكفأت قدورهم، واقتلعت خيامهم، وأَنزلت في قلوبهم الرعب فعادوا خاسئين، " وأهلكت عاد بالدبور " وهي ريح تهب من الغرب سلطها الله على قوم هود سبع ليال وثمانية أيّام حسوماً فأهلكتهم وقضت عليهم. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
ويستفاد منه: أن بعض الرياح نصر ورحمة كالصَّبا، وبعضها عذاب كالدبور. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
373 - " باب لا يدري متى يجيء المطر إلاّ الله "
438 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مفتاح الغيب خمس "، وإنما وصف هذه الخمسة وسماها مفتاح الغيب، لأنها أهم الأمور الغيبية التي حجبها الله عن علم الإِنسان وإدراكه الحسي والعقلي، ولأن بعض الكهنة والعرافين يدّعي العلم بها، ولهذا ذكرها - صلى الله عليه وسلم -، ونفى أن يعلم بها أحد، فقال: " لا يعلمها إلّا الله "، وهو مصداق قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) ... إلخ. قال قتادة: في الآية خمس من الغيب استأثر الله بهن، فلم يطلِع ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً " لا يعلم أحد ما يكون في غد " أي لا يعلم ما ينطوي عليه الغد من خير أو شر، ولو كان نبياً إلاّ بواسطة الوحي المنزل عليه. " ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام " من ذكر أو أنثى، أسود(2/291)
ولا تَعْلَمُ نَفْسٌ ماذَا تَكْسِبُ غداً، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ، ومَا يَدْرِي أحَدٌ مَتَى يَجِيءُ الْمَطر".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو أبيض، كاملاً أو ناقصاً أو نحوها، فهو المنفرد بعلم ذلك قبل التخلق، أما بعد تخلقه فإنه لم يعد غيباً، وفي إمكان الكشف الطبي الوصول إلى معرفته " ولا تعلم نفس ماذا تكسب غداً " أي لا تدري نفس ما تأتي به من الأعمال غداً، إن كان حسناً أو قبيحاً، خيراً أو شراً، " وما تدري نفس بأي أرض تموت ". قال ابن كثير: أي ليس يدري أحد من الناس أين مضجعه من الأرض " وما يدري أحد متى يجيء المطر " أي لا يدري متى يجيء المطر قبل ظهور علاماته.
ويستفاد منه: أن هذه الأمور الخمسة هي أمهات أمور الغيب التي استأثر الله بعلمها، أما معرفة الإِنسان بنزول المطر بواسطة الأرصاد الجوية فإن ذلك بعد ظهور العلامات، وليس غيباً، وكذلك معرفة الطبيب بالجنين ذكراً أو أنثى فإنه بعد التخلق وليس غيباً. الحديث: أخرجه البخاري هنا. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
***(2/292)
بسم الله الرحمن الرحيم
" أبواب الكسوف "
الكسوف والخسوف: ظاهرتان غريبتان مغايرتان للأحوال العادية خارقتان للسنن الكونية، تظهر إحداهما في الشمس والأخرى في القمر، وقد كثر استعمال الأولى في الشمس والثانية في القمر في لغة العرب (والكسوف لغة) التغير إلى السواد، يقال: كسفت الشمس إذا اسودت (والخسوف لغة) الذهاب، يقال: خسف القمر إذا ذهب ضوءه. والمراد بهما شرعاً: احتجاب ضوء الشمس، أو ذهاب نور القمر، لسبب من الأسباب التي يخلقها الله فيهما، لفترة محدودة من الزمن، وفي الحديث: " الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد، ولكنهما خَلقان من خلقه، وإن الله تعالى يحدث في خلقه ما شاء وإن الله عز وجل إذا تجلى لشيء من خلقه يخشع له " أخرجه النسائي والطحاوي. قال ابن القيم: إسناد هذه الرواية لا مطعن فيه، ورواتها ثقات حفاظ، لكن لعل هذه اللفظة: يعني " إن الله إذا تجلى لشيء من خلقه يخشع له " مدرجة من بعض الرواة. قال السبكي: وهو لا يتنافى مع ما قاله الفلاسفة من أن خسوف القمر يتوسط الأرض بينه وبين الشمس، فإذا وقع القمر في ظل الأرض انقطع عنه نور الشمس فإنه لا يبعد أن يكون ذلك في وقت تجليه سبحانه وتعالى، فالتجلي سبب لكسوفهما. اهـ. بتصرف من شروح " سنن النسائي " (1) .
__________
(1) كما أفاده في " فيض الباري على صحيح البخاري ".(2/293)
374 - " بَابُ الصَّلَاةِ في كُسُوفِ الشَّمْس "
439 - عن أبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَانْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَجُرُّ رِدَاءَهُ، حتى دَخَلَ الْمَسْجدَ، فَدَخَلْنَا، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ حتى انْجَلَتِ الشَّْمسُ، فقالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ الشَّمْس والْقَمَرَ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أحدٍ، فَإذا رَأيتُمُوهُمَا فَصَلُّوا وَادْعُوا حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
374 - " باب الصلاة في كسوف الشمس "
439 - معنى الحديث: يقول أبو بكرة رضي الله عنه: " كنا عند رسول الله فانكسفت الشمس، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يجرَّ رداءه "، أي قام - صلى الله عليه وسلم - مسرعاً فزعاً من ذلك الكسوف؛ حتى اضطربت حركته البدنيّة، فجرّ رداءه بسبب شدة الخوف الذي أصابه، كما في حديث أسماء حيث قالت: " ففزع فأخطأ بدرع "، أي فلبس الدرع بدلاً عن الثوب، بسبب انشغال خاطره، كما أفاده الحافظ " فصلّى بنا ركعتين "، أي: فصلى بنا صلاة الكسوف في المسجد ركعتين عاديتين، كل ركعة بركوع واحد كما في حديث النعمان بن بشير " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى حين كسفت الشمس مثل صلاتنا يركع ويسجد ".
"قال القاري: أي من غير تعدد الركوع، وفي حديث عبد الرحمن بن سمرة " فصلّى ركعتين وأربع سجدات " أخرجه النسائي " حتي انجلت الشمس "، أي استمر يصلي حتى ظهرت. " فقال: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد " أي: لموت كبير أو حدوث أمر عظيم كما يزعمه الجاهليون " فإذا رأيتموهما " مكسوفين " فصلوا " أي: فعليكم بالصلاة والدعاء حتى ينجليا.
الحديث: أخرجه أيضاً النسائي.(2/294)
440 - عَنِ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ النَّاسُ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ الشَّمْسَ والْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أحدٍ ولا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأيتُمْ فَصَلّوا وَادْعُوا اللهَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية صلاة الكسوف وهي سنة اتفاقاً وتصلّى في كسوف الشمس جماعة بلا خلاف، واختلفوا في خسوف القمر.
فقال الشافعي وأحمد يجمع في خسوف القمر، كما يجمع في كسوف الشمس، وقال أبو حنيفة: لا يسن، ولكن يجوز، وقال مالك: لا جماعة في خسوف القمر. ثانياًً: أن صلاتي الكسوف والخسوف ركعتان عاديتان بركوع واحد وهو مذهب أبي حنيفة. وقال الجمهور: في كل ركعة ركوعان كما في حديث ابن عباس. واختلفوا هل يجهر فيها الإِمام بالقراءة. فقال أحمد يجهر بالقراءة خلافاً للجمهور. والمطابقة: في قوله: " فصلى بنا ركعتين ".
440 - معنى الحديث: يقول المغيرة رضي الله عنه: " كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مات إبراهيم "، أي: انكسفت في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي نفس اليوم الذي توفي فيه إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - من مارية القبطية رضي الله عنهما. وقد ولد رضي الله عنه سنة ثمان من الهجرة وتوفي في آخر ربيع الأول من السنة العاشرة كما رجحه شيخ الإِسلام: ابن تيمية.
قال رحمه الله: " وأما ما يروى عن الواقدي من أن إبراهيم مات يوم العاشر من الشهر، وهو اليوم الذي صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الكسوف، فهو غلط، والواقدي لا يحتج بمسانيده، فكيف بما أرسله! وهذا فيما لم يعلم أنه خطأ.
ثم قال في موضع آخر: "وكما أن العادة التي أجراها الله أن الشهر لا يكون(2/295)
إلّا ثلاثين أو تسعة وعشرين، فكذلك أجرى الله العادة أنّ الشمس لا تنكسف إلّا في وقت الاستسرار " فقال الناس كسفت الشمس لموت إبراهيم "، أي ربطوا بين الحادثة الأرضية والظاهرة السماوية التي هي كسوف الشمس، وظنوا أن موت إبراهيم كان سبباً في كسوف الشمس في ذلك اليوم، لأنّه ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان العرب يزعمون الجاهلية أنه إذا مات عظيم في الأرض حدث حادث عظيم في السماء " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنّ الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته " كما كانوا يزعمون أنّ الشمس تنكسف لموت كبير أو حدوث أمر عظيم " فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله "، أي فإذا رأيتم الكسوف فصلوا صلاة الكسوف والجأوا إلى ربكم بالتضرع والدعاء.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية صلاة الكسوف (1) . وهي عند الجمهور ركعتان كل ركعة بركوعين لما في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: " خسفت الشمس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى بالناس، فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام؛ وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع، وهو دون الركوع الأول، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الركعة الأولى " أخرجه الستة. ثانياً: أن الحوادث الأرضية من ولادة كبير أو موت عظيم لا تكون أبداً سبباً في الحوادث السماوية من كسوف أو خسوف، ولا تؤثر فيها. فموت العظماء مثلاً لا ينشأ عنه كسوف الشمس أو خسوف القمر، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنّ الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته ". قال شيخ الإِسلام ابن تيميّة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ": أي لا يكون الكسوف معلّلاً بالموت، فهو نفي العلة الفاعلة، وأن موت بعض الناس وحياتهم لا يكون سبباً لكسوف الشمس والقمر ". ثم قال رحمه الله: "وأما كون الكسوف
__________
(1) وهي سنة مؤكدة عند الجمهور.(2/296)
375 - " بَابُ النِّدَاءِ بالصَّلَاةَ جَامِعَةً "
441 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرُو بن العَاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" لَمَّا كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نُودِيَ أنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وغيره من الآيات والحوادث السماوية قد يكون سبباً لحادث في الأرض من عذاب يقتضي موتاً أو غيره، فذلك قد أثبته الحديث نفسه ". في قوله: " ولكن الله تعالى يخُّوّف بها عباده "، كما في حديث أبي بكرة رضي الله عنه الذي تقدم لنا قبل هذا الحديث. قال ابن تيميّة: " وإخباره (1) بأن الله يخوف عباده بذلك يبين أنه قد يكون سبباً لعذاب ينزل كالرياح العاصفة مثلاً ".
الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " فصلّوا وادعوا ".
375 - " باب النداء بالصلاة (2) جامعة "
441 - معنى الحديث: يقول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما " لما كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نودى أن الصلاة جامعة " أي نادى المؤذن الصلاة جامعة بنصب الصلاة على المفعولية لفعل محذوف أي صلّوا الصلاة، وجامعة حال منصوب، يسكن للوقف. والتقدير احضروا الصلاة حال كونها جامعة للجماعة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
ويستفاد منه: أن صلاة الكسوف بدون أذان ولا إقامة، وإنما ينادى لها بصيغة الصلاة جامعة. والمطابقة: في قوله: " نودي أن الصلاة جامعة ".
__________
(1) " الفتاوى الكبرى " لابن تيمية ج 1 ص 391 طبعة دار المعرفة بيروت.
(2) بنصب الصلاة على الحكاية.(2/297)
376 - " بَابُ التَعَوُّذِْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ في الْكُسُوفِ "
442 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أن يَهُودِيَّةً جَاءَتْ تَسْألهَا فَقَالَتْ لَهَا: أعاذَكِ اللهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أيعَذَّبُ النَّاسُ في قُبُورِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " عَائِذَاً بِاللهِ مِنْ ذَلِكَ " ثم ذَكَرَتْ حَدِيث الْكُسُوفِ، ثُمَّ قَالَتْ في آخِرِهِ: " ثُمَّ أمَرَهُمْ أنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
376 - " باب التعوذ من عذاب القبر في الكسوف "
442 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها: " أن يهوديّة جاءت تسألها " أي: تسألها عن عذاب القبر، فقالت لها كما في رواية أخرى " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر شيئاً عن عذاب القبر، فقالت عائشة: وما عذاب القبر؟ " " فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر " أي أجارك الله منه " فسألت عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيعذب الناس في قبورهم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عائذاً بالله من ذلك " أي فقال - صلى الله عليه وسلم -: " نعم هو حق " كما جاء في رواية أخرى، واستعاذ بالله منه " ثم ذكرت حديث الكسوف " فقالت: ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة مركباً فخسفت الشمس فرجع ضحى ثم قام يصلي ... إلخ " ثم أمرهم " بعد صلاة الكسوف " أن يتعوذوا من عذاب القبر" (1) .
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب التعوذ من عذاب القبر بعد صلاة الكسوف اقتداءً به - صلى الله عليه وسلم -. ثانياًً: ثبوت عذاب القبر في جميع الأديان السماوية.
الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قولها: "ثم أمرهم أن
__________
(1) اعتمدنا في اختصار هذا الحديث على مختصر الزبيدي.(2/298)
377 - " بَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ جَمَاعَةً "
443 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
"انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَامَ قِيَاماً طَوِيلاً نحواً مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيْلاً، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَاماً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأوَّلِ، ثمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ قِيَاماً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يتعوذوا من عذاب القبر".
377- " باب صلاة الكسوف جماعة "
443 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما:
" انخسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "،
أي فصلى بهم صلاة الكسوف جماعة. قال العيني: أي صلّى بالناس، وهذا لا يشك فيه، ولكن الراوي طوى ذكره، إمّا اختصاراً، أو اعتماداً على القرينة الحالية، لأنه لم ينقل عنه أنه صلى صلاة الكسوف وحده. وقال القسطلاني: قوله " فصلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي بالجماعة ليدل على الترجمة " فقام قياماً طويلاً " أي: فوقف بعد تكبيرة الإِحرام وقوفاً طويلاً " نحو قراءة (سورة البقرة) "، أي مقدار الوقت الذي يكفي لقراءة (سورة البقرة) ، " ثم ركع ركوعاً طويلاً " مقدار ما يكفي لمائة آية، " ثم رفع، فقام قياماً طويلاً " قدر ما يكفي لقراءة سورة آل عمران، " ثم ركع ركوعاً طويلاً "، قدر ما يكفي لثمانين آية. " وهو دون الركوع الأول "، أي وهو أقصر من الركوع السابق " ثم سجد "، أي ثم سجد سجدتين، " ثم قام قياماً طويلاً ". قال القسطلاني: نحواً من النساء " وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً(2/299)
طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامَ الأوَّلَ، ثم رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَاماً طَوِيلاً، ْ وهُوَ دُونَ القِيَامِ الأوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، وهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأولِ، ثمَّ سَجَدَ، ثم انصَرَفَ وقد تَجَلَّتِ الشَّمْسُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
طويلاً " نحواً من سبعين آية، " وهو دون الركوع الأول، ثمِ رفع، فقام قياماً طويلاً، نحواً من المائدة، " ثم ركع ركوعاً طويلاً " نحواً من خمسين آية، " وهو دون الركوع الأول، ثم سجد " أي سجد سجدتين، وتشهد وسلّم من صلاته " ثم انصرف، وقد تَجَلَّتِ الشمس " أي وقد ظهرت الشمس، وعاد إليها الضوء وزال الكسوف.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية الجماعة في صلاة الكسوف كما ترجم له البخاري ولا خلاف في ذلك عند أهل العلم بالنسبة إلى كسوف الشمس. واختلفوا في خسوف القمر، هل تصلى الصلاة جماعة، فقال: الشافعي وأحمد: يجمع فيها كما يجمع في كسوف الشمس تماماً. وقال مالك: لا جماعة فيها، لأنه لم يرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جمع في خسوف القمر. وقال أبو حنيفة: تجوز الجماعة فيها ولا تسن. ثانياً: دل الحديث على أنّ صلاة الكسوف ركعتان، كل ركعة بركوعين، لقول ابن عباس رضىِ الله عنهما في حديث الباب: " فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام قياماً طويلاً نحواً من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع فقام قياماً طويلاً، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً، وهو دون الركوع الأول، ثم سجد " ثم ذكر ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - صنع في الركعة الثانية مثل الأولى. وهذا نصٌ صريح على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الكسوف ركعتين، في كل ركعة ركوعان، وهو مذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة: صلاة الكسوف ركعتان(2/300)
378 - " بَابُ مَنْ أحَبَّ الْعَتَاقَةَ في كُسُوفِ الشَّمْسِ "
444 - عَنْ أسْمَاءَ بنْتِ أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ:
" لَقَدْ أمرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْعتَاقَةِ في كُسُوفِ الشَّمْسِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عاديتان، في كل ركعة ركوع واحد. لحديث أبي بكرة رضي الله عنه: " انكسفت الشمس، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يجر وراءه، حتى دخل المسجد، فدخلنا، فصلّى بنا ركعتين حتى انجلت الشمس ". ثانياً: دل هذا الحديث على مشروعية القراءة سراً في صلاة الكسوف، لقول ابن عباس رضي الله عنهما " فقام قياماً طويلاً نحو قراءة سورة البقرة " أي: قام قياماً يكفي لقراءة (سورة البقرة) ولم يذكر أنه قرأ سورة البقرة ولا غيرها. ولو أنه - صلى الله عليه وسلم - جهر في صلاته وسمعه ابن عباس لقال: وقرأ (سورة البقرة) أو غيرها، قال القسطلاني: وهو يدل على أن القراءة كانت سراً، ولذا قالت عائشة في بعض الطرق عنها " فحزرت قراءته فرأيت أنه قرأ سورة البقرة "، ولهذا ذهب الجمهور إلى مشروعية القراءة فيها سراً، وذهب أحمد إلى الجهر فيها، لحديث عائشة " جهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخسوف بقراءته ". أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " صلّى بهم جماعة ".
378 - " باب من أحب العتاقة في كسوف الشمس "
444 - معنى الحديث: تقول أسماء بنت بكر رضي الله عنها: " لقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - " أمته " بالعتاقة " أي: بعتق الرقاب " في كسوف الشمس "، أي عند كسوف الشمس، ليرفع الله بهذا العتق البلاء عن عباده، لأنّ الأعمال الصالحة سبب في كشف البلايا، لما فيها من التقرب إلى الله واكتساب مرضاته.(2/301)
379 - " بَابُ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ في الْكُسُوفِ "
445 - عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
"جَهَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في صَلَاةِ الْخُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ كَبَّرَ فَرَكَعَ، وِإذَا رَفَعَ مِنْ الرَّكْعَةِ قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولما يترتب عليها من محو الزلات، وتكفير السيئات.
ويستفاد منه: استحباب العتق عند حدوث الكسوف، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد أمر به في كسوف الشمس، وأمرُه - صلى الله عليه وسلم - به للندب والاستحباب، كما ترجم له البخاري، وهو قول أهل العلم. ولما كان الكسوف من التخويف، وأشد ما يتوقع من التخويف نار جهنم، جاء الندب على شيء تتقى به النار، وهو العتق لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار ". فمن لم يقدر على ذلك، فليعمل بالحديث العام، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: " اتقوا النار ولو بشق تمرة " فيأخذ من وجوه البر ما أمكنه، كما أفاده ابن أبي جمرة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي بألفاظ. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالعتاقة عند الكسوف، والله أعلم.
379 - " باب الجهر بالقراءة في الكسوف "
445 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخسوف "، أي قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها جهراً " فإذا فرغ من قراءته " أي فكان إذا انتهى من قراءته " كبّر فركع، وإذا رفع من الركعة قال: سمع الله لمن حمده "، أي: كبر عند الركوع، وقال: سمع الله لمن حمده، عند الرفع منه، كما يفعل في الصلوات الأخرى تماماً، " ثم يعاود القراءة في صلاة الكسوف "، أي يكرر القراءة في الركعة الواحدة فيقرأ فيها(2/302)
الْحَمْدُ، ثُمَّ يُعَاوِدُ الْقِرَاءَةَ في صَلَاةِ الْكُسُوفِ أرْبَعَ رَكْعَاتٍ في رَكْعَتَيْنِ وأرْبَع سَجْدَاتٍ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الفاتحة والسورة مرتيْن " أربع ركعات في ركعتين " أي: ويصلي أربع ركوعات في ركعتين. ويأتي في كل ركعة بركوعين " وأربع سجدات " أي ويأتي بأربع سجدات في الركعتين فيسجد في كل ركعة سجدتين كالصلوات الأخرى. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية الجهر بالقراءة في خسوف الشمس والقمر معاً. وهو قول بعض أهل العلم، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة. وقال الجمهور: إنما يجهر بالقراءة في خسوف القمر، لأنّها صلاة ليلية. أما كسوف الشمس فإنّه يُسن فيه الإِسرار بالقراءة، لأنّ الصلاة فيه نهارية، ولقول ابن عباس: " قرأ نحواً من قراءة (سورة البقرة) " لأنه لو جهر لم يحتج إلى التقدير. وقد كان ابن عباس (1) يصلّي إلى جنب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكسوف، فلم يسمع منه حرفاً. كما أخرجه الشافعي تعليقاً، ووصله البيهقي. ثانياً: أن صلاة الكسوف ركعتان، كل ركعة بركوعين، كما ذهب إليه الجمهور. والمطابقة: في قوله: " جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخسوف ".
***
__________
(1) " شرح القسطلاني على البخاري " ج 2.(2/303)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
" أبوابُ سُجُود القُرآنَ "
أي أبواب المواضع التي يسن فيها سجود التلاوة، واتفقوا على أن في كل موضع منها سجدة واحدة. واختلفوا في كيفية سجدة التلاوة، فذهبت المالكية والحنفية إلى أنها سجدة بين تكبيرتين مسنونتين ليس فيها إحرام ولا تشهد ولا سلام. وقالت الحنابلة: هي سجدة بين تكبيرتين واجبتين وسلام (1) . وندب الدعاء فيها بما شاء، ومن ذلك أن يقول: اللهم أكتب لي عندك أجراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود. وقالت الشافعيَّة: إنْ كان في الصلاة، وكان إماماً أو منفرداً سجد بنية قلبية، وإن كان مأموماً سجد بدون نية، وإن كان في غير الصلاة، فلها خمسة أركان: النية وتكبيرة الإِحرام، وأن يسجد سجدة واحدة كسجدات الصلاة، والجلوس بعدها، والسلام. ويشترط لغير المصلّي أن يقارن بين النية وتكبيرة الإِحرام، ويسن له أن يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام، وعند السجود، وعند الرفع منه. ويندب له أن يَقُولَ فيها ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في سجود القرآن في السجدة مراراً: " سجد وجهي للذي خلقه وصوّره، وشَقَّ سمعه وبصره بحوله وقوته " أخرجه أبو داود والنسائي والبيهقى والدارقطني، وزاد الحاكم: " فتبارك الله أحسن الخالقين " ويدعو أيضاً بقوله: اللهم أكتب لي بها عندك
__________
(1) كذا في " الإنصاف " و" الفروع ".(2/304)
380 - " بَابُ مَا جَاءَ فِي سُجُودِ الْقُرْآنَ "
446 - عنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
"قَرَأَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - النَّجْمَ بِمَكَّةَ، فَسَجَدَ فِيهَا، وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ غَيْرَ شَيْخٍ أخذَ كَفَّاً مِنْ حَصىً أوْ تُرَابٍ فرفَعَهُ إلى جَبْهَتِهِ، وقَالَ: يَكْفِيني هَذَا، فَرَأيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرَاً".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أجراً (1) ... إلخ. ويقوم مقام السجود لمن كان له عذر يمنعه منه ما يقوم مقام تحية المسجد، فلا بأس أن يقول بدلها: " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم ".
380 - " باب سجود القرآن "
ْ446 - معنى الحديث: يقول ابن مسعود رضي الله عنه: " قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - النجم بمكة " أي قرأ سورة النجم عندما كان بمكة على مرأى من كفار قريش ومسمع منهم " فسجد في " عند قوله تعالى: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) في نهاية السورة، " وسجد من معه " من المسلمين والمشركين كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: " سجد المسلمون والمشركون والجن والانس " أخرجه البخاري، أي: سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - امتثالاً لأمر ربه، وسجد المسلمون اقتداءً بسنة نبيهم. وسجد المشركون إجلالاً وإكباراً لبلاغة القرآن، وانبهاراً من إعجازه وفصاحته، " غير شيخ " أي رجل طاعن في السن، وهو أمية بن خلف، فإنه لم يسجد استعلاءً وتكبراً، ولكنه " أخذ كفاً من حصى " أو تراب " فرفعه إلى جبهته " أي وضعه عليها " فرأيته بعد ذلك قتل كافراً " يوم بدر. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
__________
(1) " الفقه الإسلامي وأدلته " للدكتور وهبة الزحيلي ج 2.(2/305)
381 - " بَابُ سَجدَةِ (ص) "
447 - عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" (ص) لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ وقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْجُدُ فِيهَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية السجود سجدة واحدة عند قراءة أي آية من آيات السجود التي حددتها السنة النبوية. وهو واجب مطلقاً على القارىء والسامع عند أبي حنيفة، وسنة مؤكدة على القارىء والسامع إن كان قاصداً عند مالك وأحمد، وقال الشافعي: سنة مؤكدة على القارىء واستدل أبو حنيفة على وجوبه بقوله تعالى: (فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ) واستدل الجمهور على سنيته بقول عمر أمام الصحابة: إن الله لم يفرض علينا السجود إلاّ أن نشاء (1) . ثانياً: مشروعية السجود في (سورة النجم) وفي المفصل وهو مذهب الجمهور، خلافاً لمالك، فلا سجود عنده فيه، لحديث ابن عباس " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسجد في شيء من المفصل " أخرجه أبو داود. والمطابقة: في قوله: " قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - النجم فسجد فيها ".
381 - " باب سجدة (ص) "
447 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " قال (ص) ليست من عزائم السجود " أي: أن السجدة المذكورة في (سورة ص) عند قوله: (وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) ليست من السجدات المسنونة " وقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها " أي رأيته - صلى الله عليه وسلم - يسجد عندها شكراً لله تعالى على قبول توبة داود، كما صرح بذلك في رواية النسائي حيث قال:
__________
(1) أخرجه البخاري.(2/306)
382 - " بَابُ مَنْ قَرأ السَّجْدَةَ وَلَمْ يَسْجُدْ "
448 - عنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
"أنَّهُ قَرَأ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (وَالنَّجْمَ) فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في (ص) فقال: سجدها داود توبة، ونسجدها شكراً ". الحديث: أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي أيضاً.
ما يستفاد منه: هذا الحديث استدل به الشافعي وأحمد على أنه لا يسن السجود في سورة (ص) لقول ابن عباس رضي الله عنهما: " ليست من عزائم السجود ". وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه يسن السجود فيها (1) ، وهو مذهب الجمهور، لما روي عن مجاهد، عن ابن عباس نفسه، أنه سئل عن السجدة في (ص) فقال: أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها ". أخرجه الطحاوى، وهذا يدل على أنّه - صلى الله عليه وسلم - سجد في هذه السورة تشريعاً لأمته، ليقتدوا به، ويستنوا بسنته. وأما قول ابن عباس رضي الله عنهما: " ليست من عزائم السجود " فهو اجتهاد شخصي له، وليس من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكونه سجد شكراً لا يمنع مشروعيته. والمطابقة: في قوله: وقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - " يسجد فيها " كما أفاده العيني.
382 - " باب من قرأ السجدة ولم يسجد "
448 - معنى الحديث: يحدثنا زيد بن ثابت رضي الله عنه: " أنه قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - (والنجم) فلم يسجد فيها " أي: أن زيداً قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة النجم، - والنبي - صلى الله عليه وسلم - يستمع إليه، فلما وصل إلى آخرها
__________
(1) أي يسن السجود فيها مطلقاً في الصلاة أو خارجها كما أفاده العيني. وروي عن أحمد روايتان كالمذهبين،
والمشهور منهما كمذهب الشافعي اهـ كما أفاده العيني.(2/307)
383 - " بَابُ سَجْدَةِ (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ) "
449 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
ْ "أنَّهُ قَرَأ (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّت) فَسَجَدَ بِهَا، فَقِيلَ لَهُ في ذَلِكَ، فَقَالَ: لَوْ لَمْ أرَ النَّبِيَّ يَسْجُدُ لَمْ أسْجُد ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لم يسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - لسماع الآية الأخيرة منها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استدل به الجمهور على أن سجود التلاوة سنة لا واجب، وإنما تركه - صلى الله عليه وسلم - لبيان جواز تركه. وقال أبو حنيفة: واجب وإنما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه المرة لأنه لم يكن على طهر، أو لأن الوقت وقت كراهة، أو أخّره، وهو جائز. ثانياًً: استدل به مالك على عدم مشروعية السجود في (النجم) والمفصل، لأنّه - صلى الله عليه وسلم - جمع هذه الآية ولم يسجد فيها.
والمطابقة: في قوله: " ولم يسجد فيها ".
383 - " باب سجدة (إذا السماء انشقت)
449 - معنى الحديث: أن أبا هريرة رضي الله عنه قرأ سورة الانشقاق فسجد فيها عند قوله تعالى: (وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون) " فقيل له في ذلك " أي: فأنْكَر عليه أبو رافع رضي الله عنه السجود فيها، كما في رواية أخرى عن أبي رافع رضي الله عنه، قال: " فقلت ما هذه السجدة؟ " وإنما أنكر عليه لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنّه لم يسجد في المفصل منذ تحوله إلى المدينة " فقال أبو هريرة رضي الله عنه: " لو لم أر النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجد لم أسجد " أي وإنما سجدت اقتداءً به - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.(2/308)
384 - " بَابُ مَنْ سَجَدَ لِسُجُودِ الْقَارِىءِ "
450 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرأ عَلَيْنَا السُّورَةَ فِيهَا السَّجْدَةُ، فَيَسْجُدُ، وَنَسْجُدُ حَتَّى مَا يَجِدُ أحَدُنَا مَوْضِعِ جَبْهَتِهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويستفاد منه: مشروعية السجود في الانشقاق، وهو مذهب الجمهور خلافاً لمالك. والمطابقة: في قوله: " لو لم أر النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجد لم أسجد ".
384 - " باب من سجد لسجود القارىء "
450 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا السورة فيها السجدة " أي يقرأ علينا السورة التي فيها آية السجدة في غير الصلاة - كما في رواية أخرى " فيسجد ونسجد " أي فإذا قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية التي فيها السجدة يسجد هو لتلاوتها، ونسجد نحن لسماعها، " حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته " أي نتزاحم على السجود، حتى لا يجد الساجد مكاناً يضع فيه جبهته من شدة الزحام، كما في حديث المسور بن مخرمة عن أبيه أنه قال: "ما يستطيع بعضهم أن يسجد من الزحام " أخرجه الطبراني، وفي رواية: حتى سجد الرجل على ظهر الرجل. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود.
ويستفاد منه: أن سجود التلاوة مشروع للقارىء والمستمع، واختلفوا في حكمه فقال مالك وأحمد وغيرهم: هو سنة مؤكدة على القارىء والسامع إن كان قاصداً. وقال أبو حنيفة: واجب على القارىء والسامع قصد أو لم يقصد، لحديث الباب وهو ما ترجم له البخاري. والمطابقة: في قوله: "فيسجد ونسجد".(2/309)
تتمة وتكملة: اتفق أهل العلم على مشروعية سجود التلاوة في عشر سور وهي الأعراف والرعد، والنحل، والإِسراء، ومريم، والأولى من الحج، والفرقان، والنمل، وألم السجدة، وفصّلت. وأضاف إليها الشافعي في القديم ثانية الحج، فصارت إحدى عشرة سجدة. وأضاف إليها في الجديد ثلاثة من المفصل، وهي رواية عن أحمد، وهي الرواية المشهورة، وبها قال الليث وإسحاق وابن وهب وابن حبيب. وأضاف مالك في الرواية المشهورة عنه إلى العشرة سجدة (سورة ص) فصارت، إحدى عشرة سجدة. اهـ.
***(2/310)
بسم الله الرحمن الرحيم
" أبواب تقصير الصلاة "
هكذا ترجم البخاري وبعض الفقهاء، ومنهم من ترجم بقوله " قصر الصلاة ". والقصر والتقصير: والاقتصار بمعنى واحد، وإن كانت تختلف من حيث الاشتقاق. فالقصر مصدر قَصَرْتُ الصلاة بتخفيف الصاد، والتقصير مصدر قصَّرت الصلاة بتشديد الصاد، والأول أشهر استعمالاً.
ومعنى القصر: كما قال الزرقاني: تخفيف الرباعية إلى ركعتين. ولا قصر في الصبح والمغرب إجماعاً. قال الجمهور وإنما تقصر الصلاة في السفر إذا كان سفر عبادة أو سفراً مباحاً، لقوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ) . وأما سفر المعصية فالمشهور من مذهب مالك والشافعي (1) أنه لا تقصر فيه الصلاة (2) ، وقال أبو حنيفة: تقصر، وهى رواية زياد بن عبد الرحمن عن مالك. وأما السفر المكروه، فقد سئل عنه مالك فقال: أنا لا آمره بالخروج، فكيف آمره بالقصر. والحكمة في مشروعيه القصر: الرفق بالمسافر، ومراعاة ظروفه الصعبة، والتخفيف عنه لما يلاقيه في سفره من المشقة، والمعاناة، والمكاره، والأخطار، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " السفر قطعة من العذاب "، وبالغ بعضهم فقال: العذاب قطعة من السفر (3) ، ولم تقصر الثلاثية لأنها لا تقبل القسمة، ولا الثنائية لأنها تصير
__________
(1) يفرق الشافعي بين المعصية بالسفر والمعصية في السفر، فإذا كانت المعصية هي الباعث على السفر فلا يجوز له القصر وأما إذا وقعت من المسافر سفراً مباحاً معاص في سفره فلا يمنعه ذلك من قصر الصلاة. اهـ. المصحح.
(2) " شرح الباجي على الموطأ " ج 1.
(3) " حكمة التشريع الاسلامي ".(2/311)
385 - " بَابُ الصَّلَاةِ بِمِنى "
451 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِنى رَكْعَتَيْنِ وأبي بَكْرٍ وَعُمَرَ، ومَعَ عُثْمَانَ صَدراً مِنْ إِمَارَتِهِ، ثمَّ أتمَّهَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فذة. والشارع لا يأمر بالفذ، ولأنّها في ذات نفسها قصيرة، فلا حاجة إلى تقصيرها، والمصغّر لا يصغّر. ويستحب التخفيف في السفر من السنن والمستحبات، وعدم تطويل الصلاة، وتخفيف القراءة في صلاة الصبح، والله أعلم.
385 - " باب الصلاة بمنى "
451 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين وأبي بكر وعمر " أي قَصَرْتُ الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر في مني فصليتها معهم ركعتين " ومع عثمان صدراً من إمارته "، أي وكذلك قَصَرْتُ الصلاة بمنى مع عثمان رضي الله عنه في أوّل خلافته، " ثم أتمها " أي ثم أتم عثمان الصلاة بمنى، فصار يصليها أربعاً كصلاة المقيم، وذلك لأنه تأهل بمكة، فصار مقيماً، وأصبح يرى أنه لا يجوز له القصر بمنى، لأن القصر في رأيه للحاج المسافر فقط. أما المقيم فلا يقصر.
ويستفاد من الحديث: أن الحاج إذا كان مقيماً بمكة لا يقصر الصلاة بمنى، وأن القصر في مني خاصٌّ بالمسافر فقط، لأن عثمان رضي الله عنه لما أقام بمكة أتم الصلاة بمنى، وهو مذهب الجمهور، خلافاً لمالك رحمه الله تعالى. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " صليت مع النبي بمنى ركعتين ".(2/312)
452 - عنْ حارثةَ بْنِ وهْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - آمَنَ مَا كَانَ بِمِنى رَكْعَتَينَ ".
453 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
لَمَّا قِيلَ لَهُ صَلَّى عُثْمَانُ بِمِنى أرْبَعَ رَكَعَاتٍ، استرجَعَ، ثُمَّ قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
452 - معنى الحديث: عن حارثة بن وهب (صحابي جليل) نزل الكوفة وروى ستة أحاديث، اتفق البخاري ومسلم منها على أربعة) . " قال: صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن ما كان بمنى ركعتين " يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصر بهم الصلاة أيام منى وهو في أحسن الأحوال وأكثرها أمناً واستقراراً.
الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
ما يستفاد من الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية القصْرِ بمنى مطلقاً، سواء كان الحاج مسافراً أو كان مقيماً بمكة وما حولها لأنّ حارثة ابن وهب قصر الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى - وهو مقيم بمكة، فإنه كما قال أبو داود: من قبيلة خزاعة التي ديارها بمكة. ومعنى ذلك أنّه قصر الصلاة بمنى وهو مكيٌّ وأقرّه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وقد أخذ بهذا الحديث الإِمامِ مالك رحمه الله فقال: يسن للحاج قصر الصلاة بمنى مطلقاً سواء كان مسافراً أو مقيماً في مكة، لأنّ القصر بمنى للنسك لا للسفر. والمطابقة: في كون الحديث يدور حول الصلاة بمنى.
453 - معنى الحديث: أن ابن مسعود رضي الله عنه " لما قيل له صلى عثمان بمنى أربع ركعات " أي: لما سمع أنّ عثمان رضي الله عنه صلى الظهر والعصر والعشاء في مني أربع ركعات، ولم يقصر الصلاة فيها، " استرجع " أي أنكر على عثمان رضي الله عنه فعله هذا، وقال: إنّا لله وإنا إليه راجعون ". وذلك لأنه رأى أن عثمان قد فوّت على نفسه فضيلة القصر،(2/313)
صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمِنى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِمِنى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بِمِنى رَكْعَتَيْنِ، فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَع رَكَعَاتٍ رَكَعْتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" ثم قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين " أي صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى جميع الصلوات الرباعية قصراً، ركعتين ركعتين " وصليت مع أبي بكر رضي الله عنه بمنى ركعتين وصليت مع عمر بمنى ركعتين " أي فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر يقصرون الرباعية بمنى، فيصلونها ركعتين، " فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان " أي فليت نصيبي ركعتان مقبولتان عند الله، موافقتان لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بدلاً عن أربع ركعات غير مقبولة.
الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب القصر بمنى مطلقاً لأنه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه، ويستوي في ذلك المسافر والمقيم معاً، لأن القصر للنسك لا للسفر. وهو مذهب مالك كما تقدم بيانه خلافاً للجمهور، وقد أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة فيها مع أنه قد اتخذ له بيتاً وأهلاً بمكة فأصبح مقيماً. ثانياًً: استدل به الحنفية على وجوب القصر لأن ابن مسعود استرجع حين سمع أن عثمان لم يقصر، ولو كان القصر. رخصة لما فعل ذلك. وأجاب الجمهور بأنه إنما استرجع إظهاراً لكراهة مخالفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه لا لأن القصر واجب، كما أفاده القسطلاني. والمطابقة: في قوله: " صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين " ... إلخ.
***(2/314)
386 - " بَاب في كَمْ يَقْصُرُ الصَّلَاةُ "
454 - عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لا يَحِلُّ لامْرَأةٍ تُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْم وَلَيْلَةٍ لَيسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
386 - " باب في كم يقصر الصلاة "
454 - معنى الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمةٌ " بضم الحاء وسكون الراء. يعنى: لا يجوز للمرأة المؤمنة أن تسافر المسافة التي تسمّى سفراً، وهي يوم وليلة إلاّ ومعها محرم من أب أو أخ أو غيره من محارمها. ويلحق بذلك الزوج، لأن المقصود هو صيانتها. الحديث: أخرجه الشيخان.
ويستفاد منه: كما ذهب إليه بعض أهل العلم أنّ مسافة السفر الذي تقصر فيه الصلاة هو يوم وليلة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى المرأة أن تسافر بغير محرم مسيرة يوم وليلة، فدل ذلك على أن أقل السفر يوم وليلة، وهو السفر الذي تقصر له الصلاة، وهو مذهب الأوزاعي وابن المنذر وبعض الحنفية ويقدر بثمانية فراسخ، وذهب الجمهور إلى أن أقله يومان أي ستة عشر فرسخاً (1) وفي الحديث أيضاً دليل على أنه لا يجوز للمسلمة السفر بغير محرم والله أعلم.
والمطابقة: في كون الحديث دل على أن أقل السفر يوم وليلة وهو ما تقصر فيه الصلاة.
__________
(1) والفرسخ ثلاثة أميال فتكون مسافة القصر ثمانية وأربعين ميلاً.(2/315)
387 - " بَابٌ يَقْصُرُ إِذَا خرَجَ مِنْ مَوضِعِهِ "
455 - عنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" صَلَّيْتُ الظُّهْرَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالمَدِينةِ أرْبعاً وبذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
387 - " باب يقصر إذا خرج من موضعه "
أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على أن المسافر يبدأ في قصر الصلاة الرباعية إذا خرج من بلدته التي يقيم فيها.
455 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " صليت الظهر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أربعاً " أي صليت معه صلاة الظهر بالمدينة فصلاها أربع ركعات " وبذي الحليفة ركعتين "، وفي رواية أخرى " والعصر بذي الحليفة ركعتين " يعني وصليت العصر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة ركعتين: فقصرنا الصلاة حين وصلنا ذا الحليفة. الحديث: أخرجه أيضاً مسلم وأبو داود، والترمذي، والنسائي.
ويستفاد منه: أن المسافر لا يقصر الصلاة حتى يفارق بلدته، وقد اختلف أهل العلم فيما تتحقق به هذه المفارقة، ويبدأ به السفر، ويباح القصر، فقال الشافعية: يبدأ ذلك بمفارقة سور البلدة (1) التي يقطنها إن كان لها سور، ولا تعد الدور الواقعة بعده من البلد كما صححه النووي: فإنْ لم يكن للبلدة سور فيبدأ القصر من مجاوزة العمران، حتى لا يبقى بيت متصل ولا منفصل، ولا تدخل فيه البساتين والمزارع. وقال الحنفية: يبدأ السفر والقصر إذا فارق بيوت المصر. وقال المالكية: يبدأ القصر إذا جاوز البلد والبساتين التي في حكمها على المشهور، وهو ظاهر " المدونة ". وعن مالك إن كانت قرية
__________
(1) " إرشاد السارى لشرح صحيح البخاري " ج 2 للقسطلاني.(2/316)
388- " بَابٌ يُصَلِّي الْمَغرِبَ ثَلَاثاً في السَّفَرِ "
456 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" رَأيتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أعْجَلَهُ السَّيْرُ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ فَيُصَلِّيهَا ثَلَاثاً، ثُمَّ يُسَلِّمُ، ثُمَّ قَلَّمَا يَلْبَثُ حَتَّى يقيمَ الْعِشَاءَ فَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ، ولا يُسَبَّحُ بَعْدَ الْعِشَاءِ حَتَّى يَقُومَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(جمعة) يبدأ القصر إذا جاوز ثلاثة أميال أو جاوز ساكن البادية حلته، وهي البيوت التي ينصبها من شعر أو غيره. اهـ. كما أفاده القسطلاني (1) . والمطابقة: في قوله: " وبذي الحليفة ركعتين " لأن أنساً يخبر في حديثه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصر صلاته بعد ما خرج من المدينة. اهـ. كما أفاده العيني. (2)
388 - " باب يصلي المغرب ثلاثاً في السفر "
456 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " رأيت
النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أعجله السير " أي إذا احتاج - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسراع في سيره " يؤخر
المغرب " إلى مغيب الشفق، " فيصليها ثلاثاً " أي فيصليها ثلاث ركعات في سفره، كما يصليها في حضره، ولا يقصرها كما يقصر الرباعيّة " ثم قلما يلبث حتى يقيم العشاء فيصليها ركعتين "، أي لا يلبث إلّا قليلاً حتى يصلي العشاء ركعتين فقط، ومعنى ذلك أنه يجمع في السفر بين المغرب والعشاء جمع تأخير فيصلّي المغرب تامة، ويصلي العشاء قصراً " ولا يسبح حتى يقوم من جوف الليل "، أي ولا يتنفل في السفر قبل الصلاة أو بعدها ولكنه يصلّي (3) صلاة الليل فقط.
__________
(1) " إرشاد السارى " ج 2.
(2) " عمدة القاري شرح البخاري " للعيني ج 7.
(3) أي يقتصر على صلاة التهجد عند منتصف الليل فقط.(2/317)
389 - " بَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الدَّوَابِ حَيْثمَا توَجَّهَتْ بِهِ "
457- عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي التَّطَوُّعَ وَهُوَ رَاكِبٌ في غَيْرِ الْقِبْلَةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية إتمام المغرب في السفر وأنها لا تقصر كالرباعيّة، وهو ما ترجم له البخاري، ونقل ابن المنذر الإِجماع على ذلك. ثانياًً: أنه يجوز الجمع في السفر بين المغرب والعشاء جمع تأخير كما يجوز الجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم وتأخير معاً، وهو مذهب الجمهور. وقال الحسن البصري والنخعي، وابن سيرين وأبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز الجمع إلاّ في عرفة ومزدلفة، لقول ابن مسعود رضي الله عنه: " والذي لا إله غيره ما صلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة قط إلّا لوقتها إلاّ صلاتين " أخرجه الشيخان وحملوا حديث الباب على الجمع الصوري. الحديث: أخرجه الخمسة بألفاظ. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - صلى المغرب في السفر ثلاثاً.
389 - " باب صلاة التطوع على الدواب وحيثما توجهت به "
457 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي التطوع وهو راكب في غير القبلة "، أي: كان يصلي النافلة وهو راكب على دابته متوجهاً إلى غير القبلة، وفي رواية " نحو المشرق "، وكان ذلك في غزوة أنمار، وأرضُهم قِبَلَ المشرق. ومعنى ذلك أنه كان يتوجه في صلاته حيثما توجهت به دابّته. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " يصلّي التطوع وهو راكب على الدابّة في غير القبلة ".
ويستفاد منه: جواز التطوع على الدابة حيثما توجهت به، وأنه لا يلزمه في النافلة التوجه إلى القبلة إذا كان راكباً على دابته. ولا خلاف في ذلك(2/318)
390 - " بَابُ صَلاةِ التَّطَوُّعِ علَى الْحِمَارِ "
458 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ صَلَّى عَلَى حِمَارٍ، وَوَجْهُهُ عَنْ يَسَارِ الْقِبْلَةِ، فَقِيلَ لَهُ: تُصَلِّي لغَيْرِ الْقِبْلَةِ! فَقَالَ: لَوْلا أنِّي رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَهُ لَمْ أفْعَلْهُ ".
391 - " بَابُ مَنْ لَمْ يَتَطَوَّعَ في السَّفَرِ دُبُرَ الصَّلَاةِ وَقَبلَهَا "
459 - عن ابن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
ْ "صَحِبْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ أرهُ يُسَبِّحُ في السَّفَرِ وَقَالَ اللهُ تَعَالى (لَقَدْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عند أهل العلم، غير أن الشافعي قال: يلزمه التوجه إلى القبلة عند تكبيرة الإِحرام، وهو رواية عن أحمد، أمّا في بقية النافلة فإنه يتوجه حيثما توجهت به دابته اتفاقاً.
390 - " باب صلاة التطوع على الحمار "
458 - معنى الحديث: أن أنس بن مالك رضي الله عنه صلّى النافلة على الدابة متوجهاً إلى شرق القبلة فقال له ابن سيرين: أتصلي إلى غير القبلة! فقال: إنما صليت النافلة إلى غير القبلة لأني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك.
الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله ".
ويستفاد منه: جواز النافلة على الحمار وغيره من الدواب، ولا خلاف في ذلك إلاّ أن الجمهور اشترطوا في ذلك السفر خلافاً لأبي حنيفة. وعن مالك لا يجوز التنفل عليها إلاّ في سفر قصر.
391 - " باب من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة وقبلها "
459 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: "صحبت(2/319)
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ".
392 - " بَابُ مَنْ تطَوَّعَ في السَّفَرِ في غَيْرِ دُبُر الصَّلَوَاتِ وَقَبلَهَا "
460 - عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أنَّهُ رَأى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى السُّبحَةَ بَاللَّيْلِ في السَّفَرِ على ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْث تَوَجَّهَتْ بِهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم أره يسبّح في السفر " أي لم أره طوال صحبتي له يصلّي السنن القبلية والبعدية في السفر، أما النوافل المطلقة فقد كان يصليها كما سيأتي.
" وقال الله (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي وقد أمرنا الله تعالى في هذه الآية باتباع نبينا، والاقتداء به، فينبغي أن نترك هذه السنن في السفر كما كان - صلى الله عليه وسلم - يتركها اتباعاً لسنته، وعملاً بشريعته. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
ويستفاد منه: عدم مشروعية السنن القبلية والبعدية في السفر، وهو مذهب ابن عمر ومن وافقه من أهل العلم. قال الزرقاني: والمشهور عند جميع السلف جوازها، وبه قال الأئمة الأربعة لحديث البراء رضي الله عنه قال: " سافرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمان عشر سفراً، فما رأيته يترك الركعتين قبل الظهر " أخرجه أبو داود والترمذي. والمطابقة: في قوله: " فلم أره يسبح في السفر ".
392 - " باب من تطوع في السفر في غير دبر الصلوات وقبلها "
460 - ترجمة الراوي: وهو عامر بن ربيعة العنزي هاجر الهجرتين، وشهد المشاهد كلها، واستخلفه عثمان على المدينة حين حج، وتوفى سنة 32 من الهجرة. الحديث: أخرجه البخاري.(2/320)
393 - " بَابُ الجَمْعِ في السَّفَرِ بَيْنَ الْمَغرِبِ والْعِشَاءِ "
461 - عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَجْمَعُ بَيْنَ صَلاةِ الظُّهْرِ والْعَصْرِ، إِذَا كانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ، وَيَجْمَعُ الْمَغْرِبَ والْعِشَاءِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
معنى الحديث: يحدثنا عامر رضي الله عنه: " أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى السُّبحة " أي صلاة النافلة " بالليل في السفر على ظهر راحلته حيث توجهت به " أي مستقبلاً الجهة التي تتوجه إليها دابته. والمطابقة: في قوله رضي الله عنه: " صلّى السبحة بالليل في السفر ".
ويستفاد منه: مشروعية النوافل المطلقة في السفر ولا خلاف في ذلك.
393 - " باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء "
461 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير " أي يجمع بينهما في السفر إذا أدركه الظهر أثناء سيره، " ويجمع بين المغرب والعشاء " في السفر جمع تأخير. الحديث: أخرجه البخاري تعليقاً، ووصله البيهقي كما قال الحافظ في " الفتح ".
ويستفاد منه: مشروعية الجمع في السفر بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء جمع تأخير كما يجوز الجمع بين الظهر والعصر، جمع تقديم، وهو مذهب الجمهور خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: لا يجوز إلاّ في عرفة ومزدلفة لقول ابن مسعود رضي الله عنه: " والذي لا إله غيره ما صلّى رسول الله صلاة قط إلاّ لوقتها إلاّ صلاتين جمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بجمع " أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: "كان رسول الله(2/321)
394 - " بَاب إِذَا لمْ يُطِقْ قَاعِدَاً صَلَّى عَلى جَنْبٍ "
462 - عَنِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْن رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَت بِي بَوَاسِيرُ فَسَألتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: " صَلِّ قَائِماً، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدَاً، فَإِنْ لَمْ تَستَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- صلى الله عليه وسلم - يجمع بين صلاة الظهر والعصر".
394 - " باب إذا لم يطق قاعداً صلّى على جنب "
462 - معنى الحديث: يقول عمران بن حصين رضي الله عنه:
" كانت بي بواسير " أي كان يشتد عليَّ ألمها فيضعفني، ويشق علي القيام، " فقال: صل قائماً " إن استطعت ذلك، ولو معتمدا على شيء، لأن القيام ركن لا يسقط إلاّ عند العجز عنه، " فإن لم تستطع " أي فإن عجزت عن القيام أو خشيت زيادة المرض " فقاعداً "، أي فصلِّ قاعداً، " فإن لم تستطع فعلى جنب " أي فصل مضطجعاً على جنبك الأيمن، كما جاء في رواية الدارقطني. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
والمطابقة: في قوله: " فإن لم تستطع فعلى جنب ".
ويستفاد منه: أن المرء يصلّي قائماً إن وجد المقدرة على القيام ولو مستنداً إلى شيء، فإن لم يقدر على ذلك بأن وجد مشقة شديدة، أو خاف حدوث مرض، أو مضاعفته، أو دواراً، أو إغماء، أو خشى عدوّاً، أو غرقاً، صلّى قاعداً. وأفضل هيئات القعود عند أبي حنيفة الافتراش وعند الجمهور التربع. فإن شق عليه القعود صلّى مضطجعاً على جنبه الأيمن، فإن لم يستطع فعلى الأيسر، فإن لم يستطع على جنبه صلى مستلقياً على ظهره، ورجلاه إلى القبلة، والترتيب بين الجنبين والظَّهر مستحب عند الجمهور، واجب عند(2/322)
395 - " بَاب إِذَا صَلَّى قَاعِداً، ثُمَّ صَحَّ أوْ وَجَدَ خِفَّةً تمَّمَ مَا بَقِيَ "
463 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
" أنَّهَا لم تَرَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي صَلَاةَ اللَّيْلِ قَاعِداً قَطُّ حَتَّى أسَنَّ، فكانَ يَقْرأُ قَاعِدَاً حتى إِذَا أرَادَ أنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأ نَحْوَاً مِنْ ثَلَاثِينَ آيةً، أو أرْبَعِيْنَ آيَةً، ثُم رَكَعَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشافعية. وقالت الحنفية: إن تعذر القعود صلَّى مستلقياً أو على جنبه، والاستلقاء أفضل فإن عجز عن هذه الهيئات كلِّها، فقال الجمهور: يجري الذكر والقرآن على لسانه، فإن لم يستطع فعلى قلبه ويومىء للركوع والسجود. وقالت الحنفية: إن عجز عن الاستلقاء سقطت عنه الصلاة.
395 - " باب إذا صلّى قاعداً ثم صح أو وجد خفة تمم ما بقي "
463 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها: " أنها لم تر النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلّي صلاة الليل قاعداً قط حتى أسنّ " أي لم تره - صلى الله عليه وسلم - يصلّي صلاة التهجد قاعداً، بل كان يصليها أغلب حياته قائماً، حتى كبر سنه، وشق عليه القيام " فكان يقرأ قاعداً، حتى إذا أراد أن يركع قام " أي فلما كبر سنه صار يبدأ الركعة قاعداً ويقرأ معظم قراءته وهو قاعدٌ فإذا قارب الركوع قام " فقرأ نحواً من ثلاثين آية أو أربعين آية ثم ركع "، ومعنى ذلك أنه يصلي بعض الركعة الأولى قاعداً وبعضها قائماً. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قولها: " فكان يقرأ قاعداً، فإذا أراد أن يركع قام " إلخ.(2/323)
464 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فِي رِوَايَة:
" يَفْعَلُ في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثلَ ذَلِكَ، فإِذَا قَضَىَ صَلَاَتَهُ نَظرَ، فإِنْ كُنْتُ يَقْظى تَحَدَّثَ مَعِي، وِإنْ كُنْتُ نَائِمَةً اضْطَجَعَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
464 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها تذكر في هذه الرواية أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل في الركعة الثانية مثل ما يفعل في الركعة الأولى (1) يعني أنه يبدأ القراءة في الركعة الثانية قاعداً، فإذا بقي عليه قدر ثلاثين أو أربعين آية قام فأتم قراءته، ثم ركع، قالت: " فإذا قضى صلاته " أي: فإذا سلّم من صلاته " نظر، فإن كنت يقظى تحدث معي "، أي: فإن وجدني مستيقظة قضى بعض الوقت في الحديث معي، " وإن كنت نائمة اضطجع " ليأخذ بعض الراحة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في قولها: " يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك ".
ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: أن المريض أو المسن الذي يشق عليه القيام إذا بدأ صلاته قاعداً، ووجد نشاطاً وقدرة على القيام أتم قائماً، ولا يجب عليه أن يستأنف صلاته، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أسن كان يصلي بعض الركعة قاعداً، وبعضها قائماً، وهو مذهب أكثر أهل العلم، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة، سواء قعد ثم قام، أو قام ثم قعد، الكل جائز. وحكى القاضي عياض عن الإِمامين أبي يوسف ومحمد بن الحسن: كراهية القعود بعد القيام، ولو نوى القيام ثم أراد أن يجلس جاز عند الجمهور. ثانياًً: حسن معاملته - صلى الله عليه وسلم - لزوجاته ومؤانسته لهن.
__________
(1) أي كان يفعل في التهجد في الركعة الثانية كما يفعل في الأولى فيبدأ القراءة قاعداً حتى إذا بقي عليه نحو ثلاثين آية قام، فأتم بقية القراءة قائماً. اهـ.(2/324)
بسم الله الرحمن الرحيم
كتابُ التَّهَجُّد
396 - " بَابُ فضل قِيامِ اللَّيْلِ "
465 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
كَانَ الرَّجُل في حَيَاةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا رَأى رُؤيَا قَصَّهَا على رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَتَمَنيتُ أنْ أُرى رُؤيَا فَأقُصَّهَا علَى رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَكُنْتُ غُلاماً شَاباً أنامُ في الْمَسْجِدِ علَى عهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَرَأيْتُ في النَّوْمِ كأنَّ مَلَكَيْنِ أخذَانِي فذَهَبَا بِي إلى النارِ، فَإذَا هِيَ مَطْوِيَّة كَطي البِئرِ، وإذا لَهَا قرْنَانِ، وإذا فِيهَا أنَاسٌ قد عَرَفْتُهُمْ، فجعَلْتُ أقُولُ: أعوذُ باللهِ مِنَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
396 - " باب فضل قيام الليل "
465 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " كان الرجل في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي أخبره برؤياه ليعبّرها له تعبيراً صحيحاً فيستفيد منها في دينه ودنياه، لأن تعبير الأنبياء بوحي من الله تعالى كما قال يوسف عليه السلام: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية " أي مبنية الجوانب كالبئر، " وإذا لها قرنان "، أي جداران في أعلاها مثل الجدارين اللذين يكونان فوق البئر، "وإذا فيها أناس قد(2/325)
النَّارِ، قَالَ: فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَر، فقالَ لي: لَمْ تُرَعْ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ فَقَصَّتهَا حَفْصَةُ على رَسُولِ اللهِ، فَقَالَ: " نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ لَوْ كَانَ يُصَلي مِنَ اللَّيْلِ " فكانَ بَعْدُ لا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إلَّا قَلِيلاً ".
397 - " بَابُ ترْكِ الْقِيَامِ لِلْمَرِيض "
466 - عَنْ جُنْدُبَ بْنِ عَبْد اللهِ البَجَلِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عرفتهم" ولم يذكر أسماءهم للستر عليهم، " فلقينا ملك آخر فقال لي: لم ترع " أي لا خوف عليك فلن يصيبك مكروه. " فقصصتها على حفصة فقصتها حفصة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل "، أي تمنى له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتوج أعماله الصالحة بقيام الليل، لأن في هذه الرؤيا تنبيه له على هذا القيام، وتحريض له عليه. قال المهلب: وإنما فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الرؤيا بقيام الليل، لأنه لم ير شيئاً يغْفل عنه من الفرائض فيذكر بالنار، فعبر ذلك بأنه تنبيه له في هذه الرؤيا على قيام الليل.
الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل ابن عمر رضي الله عنهما وصلاحه وحسن سيرته، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثنى عليه بقوله: " نعم الرجل عبد الله ". ثانياًً: الترغيب في صلاة الليل، وبيان فضلها ومكانتها، وأنها من أشرف الطاعات، وأفضل العبادات. وأنّها سبب في النجاة من النار، والارتقاء في مقامات الصالحين الأخيار. والمطابقة: في قوله: " لو كان يصلّى من الليل ".
397 - " باب ترك القيام للمريض "
466 - معنى الحديث: يقول جندب رضي الله عنه: "اشتكى(2/326)
"اشْتَكَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ".
398 - " بَابُ تحْرِيض النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ والنَّوَافِل مِنْ غَيْرِ إيجاب "
467 - عَنْ عَلِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةً فَقَالَ: "ألا تُصَلِّيَانِ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أنفُسُنَا بِيَدِ اللهِ، فَإِنْ شَاءَ أنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا (1) ، فانْصَرَفَ حِينَ قُلْتُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَرْجِعْ إليَّ شَيئاً، ثم سَمِعْتُهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النبي - صلى الله عليه وسلم -" أي أصابه - صلى الله عليه وسلم - مرض منعه من صلاة الليل، " فلم يقم ليلة أو ليلتين " أي فترك القيام لمدة ليلة أو ليلتين. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فلم يقم ".
فقه الحديث: دل الحديث على أنه ينبغي للمسلم أن لا يشدد على نفسه في قيام الليل. فإذا كان مريضاً فإنّه يترك القيام أثناء مرضه رفقاً بنفسه، واقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وسيكتب له ثواب ذلك القيام الذي تعوّد عليه.
398 - " باب تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم - على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب "
467 - معنى الحديث: يحدثنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طرقه وفاطمة " أي: أتاهما ليلاً " فقال: ألا تصليان؟ "، أي فوجدهما نائمين، فحثهما على الصلاة، " فقلنا: يا رسول الله أنفسنا يد الله " أي: فاعتذرنا بأننا إنما تركنا الصلاة دون إرادتنا، لأنّا كنّا نائمين،
__________
(1) أي إن أراد أن يوقظنا من النوم أيقظنا.(2/327)
وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) ".
399 - " بَابُ مَنْ نامَ عِنْدَ السَّحَرَ "
468 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
" مَا ألْفَاهُ - صلى الله عليه وسلم - السَّحَرُ عِنْدِي إلَّا نَائِمَاً " تَعْنِى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأرواحنا ليست بأيدينا حتى نستيقظ متى شئنا، " فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع " بفتح الياء " إليّ شيئاً " أي لم يرد على جواباً، " ثم سمعته وهو مولِّ يضرب على فخذه وهو يقول: " وكان الإِنسان أكثر شيء جدلاً "، وإنما ضرب - صلى الله عليه وسلم - على فخذه، وذكر الآية الكريمة تعجباً من تسرع عليٍّ ومبادرته إلى هذا الجواب، وتعبيراً عن عدم موافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - له عليه، كما أفاده النووي.
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية التحريض على قيام الليل والحث عليه وإيقاظ النائمين له. ثانياً: أنه ينبغي للمسلم أن يجاهد نفسه في المواظبة على النوافل والطاعات من قيام وغيره، وأن لا يبادر إلى التماس الأعذار، وإنما يحاول التغلب عليها ما أمكن، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوافق علياً على الاعتذار بالنوم في ترك القيام، كما أفاده النووي. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا تصليان ".
399 - " باب من نام عند السحر "
468 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنهما: " ما ألفاه السحر عندي إلاّ نائماً "، أي لا أجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت السحر - إذا بات عندي إلاّ نائماً. لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتهجد بعد نصف الليل إلى السحر، ثم ينام(2/328)
400 - " بَابُ طُولِ الْقِيَامِ في صَلَاةِ اللَّيْلِ "
469 - عنِ ابْنِ مسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةً فَلَمْ يَزَلْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِماً حَتَّى هَمَمْتُ بِأمْر سُوءٍ، قِيلَ، مَا هَمَمْتَ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أنْ أقْعُدَ وَأذَرَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حتى الفجر. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود، وابن ماجة.
فقه الحديث: دل الحديث على أنه يسن لمن يقوم الليل أن ينام عند السحر، كما ترجم له البخاري، لأن تقسيم الليل إلى وقت للعبادة، ووقت للراحة، أنشط للجسم والنفس وأدعى للاستمرار والدوام والمواظبة على قيام الليل دون سآمة أو ملل، وأفضل الأعمال ما داوم عليه فاعِلُهُ، لقول عائشة رضي الله عنها: " كان أحب العمل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدومه، ثم قيل لها: متى كان يقوم - صلى الله عليه وسلم - كما قالت: كان يقوم إذا سمع الصارخ " أي إذا سمع أصوات الديكة عند منتصف الليل، أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قولها: " ما ألفاه السحر عندي إلاّ نائماً ".
400 - " باب طول القيام في صلاة الليل "
469 - معنى الحديث: يقول ابن مسعود رضي الله عنه: " صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوء "، أي: حتى عزمت على فعل سيء قبيح، " قيل ما هممت؟ قال: هممت أن أقعد "، أي: فلما أطال النبي - صلى الله عليه وسلم - القيام في الصلاة تعبت تعباً شديداً، وشق عليَّ طول الوقوف حتى عزمت على الجلوس. قال القسطلاني: وإنما جعله أمر سوء، وإن كان القعود في النفل جائزاً، لأن فيه ترك الأدب معه - صلى الله عليه وسلم - وصورة من مخالفته.(2/329)
401 - " بَاب كَيْفَ صَلَاةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَكَمْ كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ "
470 - عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
"كَانَتْ صَلاةُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يَعْنِى بالَّليْلٍ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث: أخرجه الشيخان وابن ماجة والترمذي في " الشمائل ". والمطابقة: في قوله: " فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوء ".
فقه الحديث: دل الحديث على استحباب طول القيام في صلاة الليل، وهو أفضل من كثرة الركوع والسجود عند الجمهور لحديث الباب، وحديث جابر رضي الله عنه سُئلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أي الصلاة أفضل؟ قال: " طول القنوت " أي القيام. أخرجه مسلم بهذا اللفظ وأبو داود بلفظ: " طول القيام ". وقال الأوزاعي والشافعي في قول وأحمد في رواية: كثرة الركوع والسجود أفضل لحديث ثوبان أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " أفضل الأعمال كثرة الركوع والسجود ". أخرجه مسلم.
401 - " باب كيف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل "
470 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عشرة ركعة يعني بالليل " أي: كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - الليلية التي يصليها ما بين صلاة العشاء وصلاة الصبحٍ لا تزيد عن ثلاث عشرة ركعة بما فيها الوتر وسنة الفجر، كما جاء موضحا في رواية الشعبي، حيث قال: سألت ابن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا: ثلاث عشرة ركعة، منها ثمان، ويوتر بثلاث،(2/330)
471 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالَتْ:
" كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلَ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، مِنْهَا الْوِتْرُ ورَكْعَتَا الْفَجْرِ ".
402 - " بَابُ قِيامِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - باللَّيْلِ وَنوْمُهُ وَمَا نسِخَ مِنْ قِيامِ اللَّيْلِ "
472 - عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
"كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُفطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَظنَّ أنَّهُ لا يَصُومَ مِنْهُ شَيْئاً، وَيَصُومُ حَتَّى نَظنَّ أن لا يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئاً، وكانَ لا تَشَاءُ أنْ تَرَاهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وركعتين قبل الفجر. اهـ، كما أفاده ابن القيم. الحديث: أخرجه الشيخان.
والمطابقة: في قوله: " كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عشرة ركعة ".
471 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، منها الوتر وركعتا الفجر " أي كان مجموع صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالليل ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وسنة الفجر.
ويوضح ذلك الرواية الثالثة التي رواها الشعبي عن ابن عمر وابن عباس، التي تقدم ذكرها في شرح الحديث. الحديث: أخرجه الشيخان.
والمطابقة: في قولها: " كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة " إلخ.
فقه الحديثين: دل الحديثان على أن عدد الركعات المسنونة في صلاة الليل ثلاث عشرة ركعة بما فيها الوتر، وسنة الفجر، والله أعلم.
402 - " باب قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل ونومه وما نسخ من قيام الليل "
472 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: "كان النبي(2/331)
مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّياً إلاّ رَأيتَهُ، ولا نَائِمَاً إلاّ رَأيْتَهُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- صلى الله عليه وسلم - يفطر من الشهر حتي نظن أنه لا يصوم ويصوم حتى نظن أنه لا يفطر " وفي رواية أبي داود عن ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - " كان يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم ". والمعنى: " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صام صيام التطوع تابع الصيام حتى نظن أنه لا يفطر، وإذا أفطر تابع الإِفطار حتى نظن أنه لا يصوم. هكذا كانت حالته - صلى الله عليه وسلم - في سائر شهور السنة، فقد يصوم من الشهر أياماً كثيرة جداً، حتى يخيل لأصحابه أنه سيستكمل الشهر كله، لكنه لا يستكمل الشهر كله صائماً، كما قالت عائشة رضي الله عنها: " وما صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً كاملاً إلاّ رمضان " أخرجه الترمذي وذلك لئلا يظن وجوبه، كما أفاده النووي. " وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصلياً إلّا رأيته، ولا نائماً إلاّ رأيته " أي وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يتقيد في النوافل الليلية غير الراتبة (1) بوقت معين. بل يأتي بها تارة في أول الليل، وتارة في وسطه، وتارة في آخره، بحيث لا تشاء أن تراه من الليل مصلياً إلا رأيته، ولا نائماً إلّا رأيته. قال الحافظ: " أي من أراد أن يراه في وقت من أوقات الليل قائماً فراقبه المرة بعد المرة، فلا بد أن يراه على وفق. ما أراد أن يراه، وكذلك من أراد أن يراه نائماً، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يستوعب الليل كله قائماً. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي بألفاظ.
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتقيد في النوافل الليلية الزائدة على صلاة الليل بوقت محدد وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًً: أنه يكره قيام الليل كله، لأنه خلاف سنته - صلى الله عليه وسلم -.
والمطابقة: في قوله: " وكنت لا تشاء أن تراه من الليل مصلياً إلاّ رأيته ".
__________
(1) ويقصد بالنوافل الليلية الراتبة ما كان يواظب عليه - صلى الله عليه وسلم - من القيام بإحدى عشرة ركعة فإن لهذه وقتاً معيناً من الليل من بعد منتصف الليل، أما غيرها فليس له وقت محدد.(2/332)
403 - "بَابُ عَقْدِ الشيطَانِ عَلَى قَافِيَةِ الرَّأس إذَا لَمْ يُصَلِّ بِالَّليْلِ "
473 - عن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُول اللهَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ على قَافِيةِ رَأس أحَدِكُمْ إذَا هُوَ نَامَ ثَلاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ عَلَى كُلِّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ، فَارْقُدْ.
فَإِنْ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللهَ انْحَلتْ عُقْدَةٌ، فإِنْ تَوَضَّأ انْحَلَّتْ عُقْدة فإنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ فأصْبَحَ نَشِيطاً طيبَ النَّفْس، وإلّا أصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
403 - " باب عقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم يصل بالليل "
473 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد " أي يربط الشيطان على مؤخرة رأس النائم ثلاث عقد، يتلو عليها بعض الكلمات، ويضرب عليها بيده، مخاطباً نفس النائم بقوله: " عليك ليل طويل " أي قد بقي قدر طويل من الليل فنم ما شئت، فإنك إذا استيقظت وجدت الوقت الكافي لأداء صلاة الليل أو صلاة الصبح في وقتها، " فارقد " فإن الوقت لا زال مبكراً. وإنما يربط على مؤخرة الرأس خاصة لأنَّها مركز القوى الواهمة، فإذا ربط عليها أمكنه السيطرة على روح الانسان، وإلقاء النوم عليه " فإذا استيقظ وذكر الله انحلت عقدة " بسبب ذكر الله تعالى، " فإذا توضأ انحلت عقدة " ببركة الوضوء، " فإن صلّى انحلت عقده " أي: فإذا صلى صلاة الليل أو صلاة الصبح انفكت العقدة الثالثة " فأصبح نشيطاً طيب النفس " أي: نشيط البدن، مرتاح النفس، " وإلا أصبح خبيث النفس كسلان " أي قلق النفس فاتر الحركة.
الحديث: أخرجه الستة إلا الترمذي.(2/333)
404 - " بَابٌ إِذَا نامَ وَلَمْ يُصَلِّ بَالَ الشَّيطَانُ في أذُنِهِ "
474 - عنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ:
ذكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُل فَقِيلَ: مَا زَالَ نَائِمَاً حَتَّى أصْبَحَ، مَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ. فَقَالَ: " بَالَ الشيطَان في أذنِهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: التحذير مما يفعله الشيطان من إرخاء النوم على المسلم، وحرمانه من صلاة الليل أو صلاة الصبح، بسبب هذه العقد، وأنه متى استيقظ وذكر الله انحلت العقدة الأولى، ثم تنحل الثانية بالوضوء، والثالثة بالصلاة. ومن أراد وقاية نفسه من ذلك، فعليه بقراءة آية الكرسي قبل نومه. ثانياًً: أن صلاة الصبح في وقتها سبب للنشاط الجسمي والراحة النفسية، وكذلك صلاة الليل. والمطابقة: في قوله: " يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ".
404 - " باب إذا نام ولم يصل بال الشيطان في أذنه "
474 - معنى الحديث: يقول ابن مسعود رضي الله عنه: " ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فقيل: ما زال نائماً حتى أصبح " أي استمر نائماً ولم يصلّ الصبح حتى طلعت عليه الشمس. " فقال: بال الشيطان في أذنه " حقيقة فَسَدَّ أذنيه عن سماع أذان الفجر، وأرخى عليه النوم، حتى فاتته صلاة الصبح. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
فقه الحديث: دل الحديث على أن النوم عن صلاة الصبح غالباً ما يكون من الشيطان، حيث يبول حقيقة في أذن العبد، فيرخي عليه النوم، وهذا غاية الإِذلال والِإهانة له، أن يتخذه الشيطان له كنيفاً، كما قال القرطبي.
قال القسطلاني ولا مانع من ذلك، لأنه ثبت أن الشيطان يأكل ويشرب(2/334)
405 - " بَابُ الدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ "
475 - عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يَنْزِلُ رَبُّنا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى سَمَاءِ الدُّنْيَا حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسألنِي فَأعْطِيَهُ، من يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرُ لَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وينكح، فلا مانع من أن يبول. والمطابقة: في قوله: - صلى الله عليه وسلم - " بال الشيطان في أذنه ".
405 - " باب الدعاء والصلاة من آخر الليل "
475 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه " أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر " نزولاً يليق بعظمته وجلاله، نؤمن به ولا نكيفه، ولا نأوّله، قال البيهقي: أسْلَمُ الأقوال الإيمان بلا كيف والسكوت عن المراد، وهو مذهب السلف " يقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه " والفرق بينهما أن السؤال يختص بطلب المحبوب، والدعاء يعم طلب المحبوب ودفع المكروه، " من يستغفرني فأغفر له " أي من يسألني العفو عن ذنوبه فأعفو عنه. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله تعالى: " من يدعوني فأستجيب له ".
فقه الحديث: دل الحديث على استحباب الدعاء عند القيام لصلاة الليل (1) والاستغفار والسؤال، لأنه وقت إجابة الدعوات وقضاء الحاجات.
__________
(1) أما في الصلاة نفسها أو قبلها أو بعدها فإن الدعاء في هذا الوقت مستجاب، وظاهر الترجمة الدعاء في نفس الصلاة، والله أعلم.(2/335)
406 - "بَابُ مَنْ نامَ أوَّلَ اللَّيْلِ وأحْيَا آخِرَهُ "
476 - عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ صَلَاةِ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - باللَّيْلَ قَالَتْ: كَانَ يَنَامُ أوَّلَهُ، وَيَقُومُ آخِرَهُ، فَيُصَلِّي ثُمَّ يَرْجِعُ إلى فِرَاشِهِ فإِذَا أذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَثَبَ، فإِنْ كَانَ بِهِ حَاجَةٌ اغْتَسَلَ، وِإلّا تَوضَّأ وَخَرَجَ.
407 - " بَابُ قِيامَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِاللَّيْلِ في رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ "
477 - عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
406 - " باب من نام أول الليل وأحيا آخره "
أي أنّ من عمل ذلك فقد عمل بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي كان عليها - صلى الله عليه وسلم -.
476 - معنى الحديث: كما تقول عائشة: أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان ينام النصف الأول من الليل، ويستيقظ بعد ذلك، فيصلي ثلث الليل، ثم يعود في السدس الأخير من الليل إلى فراشه كي يستريح ويؤانس أهله، " فإذا أذّن المؤذن وثب، فإن كان به حاجة اغتسل " أي فإذا سمع أذان الفجر نهض من فراشه، فإن كان جنباً اغتسل، وإلّا ذهب لصلاة الصبح.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من السنة تقسيم الليل إلى ثلاثة أقسام النصف الأول للنوم، والثلث الذي يليه للتهجد، والسدس الأخير للراحة والفراش. والمطابقة: في قولها: " كان ينام أوله ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي والترمذي في " الشمائل ".
407 - " باب قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل في رمضان وغيره "
477 - معنى الحديث: أن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقول عائشة رضي(2/336)
أنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ صَلاِتهِ - صلى الله عليه وسلم - في رَمَضَانَ، فَقَالَتْ: " مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ يَزِيدُ في رَمَضَانَ ولا في غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أرْبعاً فلا تَسألْ عنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أرْبعاً فلا تَسأل عنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثاً قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أتُنَامُ قبْلَ أنْ تُوتِرَ؟ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ ولَا يَنَامُ قَلْبِي ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الله عنها: كانت متساوية في سائر شهور السنة، لا تزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، منها الوتر " يصلّي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلّي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن " فقد بلغن غاية الحسن والكمال في جودة القراءة وطول القيام والركوع والسجود، " ثم يصلّي ثلاثاً " ركعتين شفعاً وركعة وتراً. " فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر "، أي: كيف تنام قبل الوتر، لأن أباها كان لا ينام حتى يوتر، كما أفاده الزرقاني، " فقال: يا عائشة إنّ عيني تنامان ولا ينام قلبي "، أي إنما أؤخر الوتر إلى آخر الليل، وأنام قبله، لأنني لا أخشى على نفسي أن أغفل عنه فيفوتني، فإن قلبي لا ينام وإن نامت عيني، كما هو الشأن في سائر الأنبياء ". الحديث: أخرجه الخمسة ولم يخرجه ابن ماجة. والمطابقة: في قولها: " ما كان يزيد في رمضان ولا غيره إلخ ".
فقه الحديث: دل الحديث على أن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - الليلية كانت متساوية في جميع الليالي لا تزيد عن إحدى عشرة ركعة بالوتر.
***(2/337)
408 - " بَابُ مَا يَكْرَهُ مِنْ التَّشْدِيدِ في الْعِبَادَةِ "
478 - عن أنس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فإِذا حَبْلٌ مَمْدُود بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فقَالَ: " ما هَذَا الْحَبْلُ؟ " قَالُوا: هَذَا حَبْل لزَيْنَبَ، فَإِذا فَتَرَتْ، تَعَلَّقَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لا، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ ".
409 - " بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ ترْكِ قِيامِ اللَّيْلِ لِمَنْ كَانَ يَقُومُهُ "
479 - عن عبدِ اللهِ بْنِ عَمْرُو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
408 - " باب ما يكره من التشديد في العبادة "
478 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل " أي رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - حبلاً ممدوداً بين ساريتين في المسجد، فسأل عن صاحبه، " فقالوا: هذا لزينب " بنت جحش رضي الله عنها: " فإذا فترت تعلقت به " أي: تطيل القيام، فإذا غلب عليها التعب تعلقت به لتستعين به على القيام في صلاتها، " فقال: لا، حلّوه، ليصل أحدكم نشاطه " أي وقت نشاطه، كما قال القاري.
ويستفاد منه: كراهية التشدد في العبادة، وتحميل النفس فوق طاقتها كما ترجم له البخاري. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة.
والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ليصل أحدكم نشاطه ".
409 - " باب ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان يقومه "
479 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حذَّر عبد الله بن عمرو أن(2/338)
قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " يَا عَبْدَ الله! لا تَكُنْ مِثْلَ فُلَان كانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْل ".
410 - " بَابْ فضلِ مَنْ تعَارَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى "
480 - عنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّاِمت رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ على كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، الحمدُ الله، وسُبْحَانَ اللهِ، ولا إِلَهَ إِلَّا الله، وَاللهُ أكبَرُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلَّا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يترك صلاة الليل كما فعل فلان من الناس، ولم يذكر - صلى الله عليه وسلم - ستراً عليه. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة.
فقه الحديث: دل الحديث على كراهية ترك ما تعود عليه الإنسان من قيام الليل وغيره من الأعمال الصالحة. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تكن مثل فلان " إلخ.
410 - " باب فضل من تعارّ من الليل فصلى "
480 - معنى الحديث: - يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من تعارّ من الليل "، أي: من استيقظ من نومه ليلاً، " فقال: لا إله، إلاّ الله وحده، لا شريك له، له الملك "، أي: فذكر الله تعالى بقوله: لا إله إلاّ الله وحده، لا شريك له، له الملك "، أي: المنفرد وحده بالألوهيّة والملك الدائم دون سواه، لأن كل ملك لغيره إلى زوال، " وله الحمد "، أي المنفرد بالثناء الكامل، والشكر الحقيقي، لتفرده بالكمال المطلق والإِنعام الحقيقي، إذ هو مصدر كل النعم كما قال عز وجل: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) "وهو على شيء(2/339)
باللهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أو دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ، فإنْ تَوَضَّأ وَصَلَّى قبِلَتْ صَلَاتُةُ".
411 - " بَابُ تعَاهُدِ رَكْعَتَي الْفَجْرِ وَمَنْ سَمَّاهَا تطَوُعَاً "
481 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَاْ قَالَتْ:
" لَمْ يَكُن النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى شَيءٍ مِنَ النَّوافِل أشَدَّ مِنْهُ تَعَاهُداً على رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قدير، الحمد لله، وسبحان الله"، أي إن الثناء المطلق والتنزيه الكامل لله عز وجل، لأنه الموصوف بكل صفات الجلال والجمال، المنزه عن مشابهة المخلوقات (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) " ولا إله إلاّ الله، والله أكبر، ولا حولَ ولا قوة إلاّ بالله " أي لا تحوّل عن المعصية، ولا قدرة على الطاعة إلاّ بعصمته وتوفيقه " (1) ، " ثم قال: " اللهم اغفر لي أو دعا استجيب له " ونال طلبه ومراده.
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: فائدة هذا الذكر المبارك له نفعه لمن قاله بيقين وإيمان بعد استيقاظه من نوم الليل ودعا، فإنه يستجاب له. ثانياً: أن صلاة الليل بعد هذا الذكر مقبولة. الحديث: أخرجه أيضاً أصحاب السنن. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
411 - " باب تعاهد ركعتي الفجر ومن سمَّاها تطوعاً "
481 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشد منه تعاهداً على ركعتي الفجر " أي
__________
(1) " شرح القارى على مشكاة المصابيح ".(2/340)
412 - " بَاب مَا يقْرَأُ في رَكعتَيَ الفجْرِ "
482 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
" كَانَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يُخَفِّف الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ الصُّبحِ حَتَّى إِنِّي لأقول هَلْ قَرأ بِأُمِّ الْكِتَابِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لم يكن - صلى الله عليه وسلم - يحافظ على شيء من السنن الراتبة أشد محافظة منه على ركعتي الفجر.
فقه الحديث: دلَّ هذا الحديث على مداومته - صلى الله عليه وسلم - على ركعتي الفجر، ومواظبته عليها، ولهذا قالت الشافعيّة: ركعتا الفجر سنة مؤكدة، وقالت الحنفية، هما آكد السنن، وقالت المالكية: ركعتا الفجر رغيبة، والرغيبة في اصطلاحهم أقل من السنة، وهي الصلاة التي فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يظهرها في جماعة. واختلفوا في قضائها. فقال الجمهور: تقضى إلى الزوال خلافاً للحنفية. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
412 - " باب ما يقرأ في ركعتي الفجر "
482 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخفف الركعتي اللتين قبل الصبح "، أي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخفف ركعتي الفجر، ويسرع فيها " حتى إني لأقول: هل قرأ بأم الكتاب "، أي حتى أنني من شدة تخفيفه لها أشك فأقول في نفسي هل قرأ فيها بالفاتحة، أو لم يقرأ شيئاً.
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يستحب تخفيف القراءة في ركعتي الفجر. ولهذا قال مالك في المشهور عنه: يقتصر فيها على(2/341)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
" أبوابُ التطوع "
413 - " بَابُ صَلَاةِ الضُّحَى فِي الحَضر "
483 - عنْ أبي هريْرَةَ رَضِي اللهُ عَنْه قَالَ:
" أوْصَانِى خَلِيلي بِثلاثٍ لا أدَعُهُنَّ حتى أمُوتَ، صْومِ ثَلَاثَةِ أيام مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلاةِ الضُّحَى، وَنَوْم عَلَى وِتْرٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة الفاتحة فقط، لقول عائشة رضي الله عنها: " إني لأقول: هل قرأ بأم القرآن ". وقال أحمد وأبو حنيفة: يقرأ سورتي الكافرون والاخلاص، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم السورتان يقرأ بهما في ركعتي الفجر "، أخرجه الترمذي والنسائي. وقال الشافعي: يقرأ في الأولى (قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ) التي في البقرة، وفي الثانية (قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ) التي في آل عمران، لما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بذلك. أخرجه مسلم. ثانياً: الإسرار في ركعتي الفجر. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قولها: " إني لأقول هل قرأ بأم القرآن ".
413 - " باب صلاة الضحى في الحضر "
483 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت " أي أمرني حبيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة أشياء هي من أفضل الأعمال فلا أتركها مدى الحياة، ولا أزال أحافظ عليها(2/342)
414 - " بَابُ الرَّكْعَتَيْنِ قَبلَ الظُّهْرِ "
484 - عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" حَفِظتُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ رَكَعَاتٍ، رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، رَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ في بَيْتهِ، ورَكْعتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ في بَيْتهِ، ورَكْعَتَيْنَ قَبْلَ صَلاةِ الصُّبحَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حتى أموت. الأول: " صوم (1) ثلاثة أيام من كل شهر " وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر المعروفة بالأيام البيض. " وصلاة الضحى " أي: والثاني ركعتا الضحى، ووقتها عند حلّ النافلة. " ونوم على وتر " أي والثالث أن لا أنام حتى أصلّي صلاة الوتر فأقدم الوتر على النوم، وأصليه أوّل الليل.
فقه الحديث دل الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب صلاة الضحى، وتصلى عند حل النافلة، وهو ما ترجم له البخاري، وأقلها ركعتان، وأوسطها أربع، وأكثرها ثمان. ثانياً: صوم الأيام البيض من كل شهر، وهي من الأيام التي يستحب صيامها. ثالثاً: استحباب تقديم صلاة الوتر في أول الليل وأدائها قبل النوم. قال العيني: وهو محمول على من لم يستيقظ آخر الليل، فإن أمن فالتأخير أفضل، للحديث الصحيح " فانتهى وتره إلى السحر ".
الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - أوصى بصلاة الضحى وهذا يدل على مشروعيتها واستحبابها كما ترجم له البخاري.
414 - " باب الركعتين قبل الظهر "
484 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: "حفظت
__________
(1) قال العيني: يجوز في صوم الجرُ على اًن يكون بدلاً من ثلاث. ويجوز فيه الرفع على أن يكون خبر متبدأ محذوف، أي هي ثلاثة أيّام.(2/343)
من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات" أي أحصيت عدد الركعات التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصليها من السنن الرواتب التي قبل الصلاة وبعدها، وعَدَدْتها فوجدنها عشر ركعات " ركعتين قبل الظهر "، أي: يصلي ركعتين قبل الظهر، " وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته " أي: ويصلي ركعتين بعد المغرب في بيته، " وركعتين بعد العشاء في بيته " أيضاً، " وركعتين قبل صلاة الصبح " وهما ركعتا الفجر، فهذه عشر ركعات.
فقه الحديث دل الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية السنن الرواتب القبلية والبعدية، وكونها عشر ركعات، وهو مذهب الجمهور. وقال مالك: ليس هناك سنن رواتب ولا توقيت للنوافل صيانة للفرائض من أن تختلط بها سواها، ولا يمنع من التطوع بما شاء كما أفاده العيني. ثالماً: أن السنة القبلية للظهر ركعتان كما رواه ابن عمر في حديث الباب، لكن جاء في رواية عائشة: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدع أربعاً قبل الظهر " وقد جمع بعضهم بين الروايتين بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في المسجد ركعتين وفي البيت ركعتين، فرأت عائشة هذه وهذه، ولم ير ابن عمر سوى الركعتين التي كان يصليهما في المسجد.
كما أفاده العيني، وعلى رواية عائشة تكون الرواتب اثنتي عشر ركعة.
الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " وركعتين قبل الظهر ".
***(2/344)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
415 - " كتَابُ فضلِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ والْمَدِينَةَ "
485 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لا تُشَدّ الرِّحَالُ إلَّا إلى ثَلَاَثةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم -، وَمَسْجِدِ الأقْصَى ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
415 - " باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة "
أي فضلها بزيادة ثوابها وأجرها فيهما ومضاعفته في الفرض والنفل معاً كما ذهب إليه الجمهور. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أفضل صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة " فيمكن الجمع بينه وبين أحاديث الباب بحمله على غير الحرمين الشريفين بأن تكون النافلة في البيت أفضل في غير الحرمين.
485 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد "، أي لا يسن السفر إلاّ إلى هذه المساجد الثلاثة كما جاء مصرحاً بذلك في رواية مسلم، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " إنما يسن السفر إلى ثلاثة مساجد، الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيليا " وهي المساجد المذكورة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " المسجد الحرام، ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومسجد الأقصى "، وفي رواية أخرى عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً: " خير ما ركبت إليه الرواحل مسجدي هذا والبيت العتيق " أخرجه ابن حيان والطبراني، وفي رواية البخاري: " إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد ". الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
والمطابقة: في كون الاستثناء يفيد الأفضلية.(2/345)
486 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " صَلَاة في مَسْجِدِي هَذَا خَير منْ ألْفِ صلاةٍ فيما سِوَاهُ إلَّا المَسْجِدَ الْحَرَامَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقه الحديث: دل الحديث: أولاً: على فضل الصلاة في الحرمين وزيادة ثوابها فيهما. فرضاً كانت أو نفلاً كما عليه الجمهور، لأنّ استثناءهما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد، يدل على أفضليتهما، ومضاعفة أجر الصلاة فيهما. قال الحافظ: في هذا الحديث فضيلة هذه المساجد ومزيتها على غيرها، لأنها مساجد الأنبياء. اهـ. ولأن المسجد الحرام قبلة الناس، والمسجد النبوي أول مسجد أسس على التقوى، والأقصى قبلة الأمم السابقة.
ثانياًً: أنه لا يستحب ولا يسن السفر لقصد الصلاة. والتعبد إلاّ إلى هذه المساجد الثلاثة، كما جاء منصوصاً عليه في رواية مسلم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ينبغى للمطيّ أن يشد رحاله إلى مسجد ينبغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا " رواه أحمد.
486 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه: " أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه " أي: أن الصلاة في المسجد النبوي، وفي أي بقعة منه على مر العصور، مهما كبر واتسع أفضل وأكثر ثواباً من الصلاة في غيره ألف مرة " إلاّ المسجد الحرام " أي: لا يستثنى من هذه الأفضلية سوى المسجد الحرام، قال الكرماني: والاستثناء هنا يحتمل أموراً ثلاثة: أن يكون المسجد الحرام مساوياً لمسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو أفضل منه أو دونه. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.(2/346)
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل الصلاة في المسجد النبوي على الصلاة في غيره ألف مرة، ومضاعفة ثوابها وأجرها ألف ضعف. واختلفوا في المسجد الحرام: هل الصلاة فيه أفضل، أو الصلاة في المسجد النبوي أفضل، فقال مالك: الصلاة في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أفضل.
ولكن الجمهور يرون أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل، لأن الصلاة فيه أفضل من مائة ألف صلاة في غيره وذلك لما رواه أحمد عن عبد الله بن الزبير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " صلاة في مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا " يعني المسجد النبوي وغيره من النصوص، فتكون الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة. وأما المسجد الأقصى، فقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فيه، فقال: " صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات " أي في المسجد الأقصى ثانياً: أن فضل الصلاة في مسجده - صلى الله عليه وسلم - لا يختص بالبقعة التي كانت في زمنه، بل يدخل في ذلك كل بقعة أخرى تضاف إليه على مر العصور والأزمان، لأن الإشارة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " صلاة في مسجدى هذا " إشارة معنوية لا حسية، فيدخل فيه كل توسعة وزيادة تضاف إليه، كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لو بلغ مسجدي إلى صنعاء فهو مسجدي " رواه الزبير بن بكار في " أخبار المدينة " عن أبي هريرة رضي الله عنَه. والمطابقة: في قوله: " خير من ألف صلاة فيما سواه ".
***(2/347)
416 - " بَابُ إتيانِ مَسْجِدِ قُباءَ رَاكِبَاً أوْ مَاشيَاً "
487 - عنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَأتِي قُبَاءَ مَاشِياً وَرَاكِبَاً، فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
416 - " باب إتيان مسجد قباء راكباً أو ماشياً "
487 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي قباء " كل سبت، أي: كان - صلى الله عليه وسلم - يداوم ويواظب على زيارة مسجد قباء والذهاب إليه أسبوعياً كل يوم سبت في وقت الضحى " ماشياً وراكباً " في محل نصب على الحال، أي: كان يحرص على هذه الزيارة في جميع الأحوال، فإن تيسر له الركوب ذهب إليه راكباً، وإلّا فإنه يذهب إليه ماشياً " فيصلّي فيه ركعتين " وفي رواية: " فإذا دخل المسجد كره أن يخرج منه حتى يصلّي ركعتين ".
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: قال العيني: فيه دلالة على فضل قباء وفضل المسجد الذي فيها، وفضل الصلاة فيه. ثانياً: استحباب زيارة مسجد قباء والصلاة فيه يوم السبت عند الضحى اقتداءً به - صلى الله عليه وسلم - (1) . الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " ويأتي قباء ماشياً وراكباً ".
***
__________
(1) وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فضل مسجد قباء " من تطهر في بيته، ثم أَتى مسجد قباء، فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة " رواه ابن ماجة عن سهل بن حنيف وهو حديث صحيح. (ع) .(2/348)
417- " بَابُ فضلِ مَا بَيْنَ الْقَبْرِ والْمِنْبَرِ "
488 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ أللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَا بَيْنَ بَيْتي ومِنْبَرِي رَوْضَة مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
417 - " باب فضل ما بين القبر والمنبر "
488 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما بين بيتي ومنبري " أى: إن البقعة الواقعة بين بيت عائشة ومنبره الشريف - صلى الله عليه وسلم - " روضة من رياض الجنة " حقيقة بمعنى أنها قطعة منها كالحجر الأسود والنيل والفرات فتنقل إليها يوم القيامة، كما أفاده الزرقاني " ومنبري على حوضي " أي ويقع منبره الشريف على موضع حوضه المورود الذي يكرمه الله به يوم القيامة، ويكرم به أمته - صلى الله عليه وسلم - وفي رواية النسائي: " ومنبري على ترعة من ترع الجنة "، وترجم البخاري بذكر القبر، وأورد الحديث بلفظه، لأن القبر صار في البيت، وقد دفن في بيت سكناه - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون ما بين البيت والمنبر روضة من رياض الجنة، وهذا يدل على فضل ما بينهما كما ترجم له البخاري.
فقه الحديث: دل الحديث على فضل الروضة المشرفة على سواها من بقاع الأرض حيث أخبرنا - صلى الله عليه وسلم -: أنها من بقاع الجنة حقيقة لا مجازاً. قال ابن أبي جمرة: فيكون الموضع المذكور روضة من رياض الجنة الآن، ويعود روضة في الجنة كما كان، وللعامل فيها روضة في الجنة. اهـ. وفيه استحباب الصلاة في الروضة لدلالة الحديث على أن للعامل فيها روضة من رياض الجنة، ولهذا قال الخطابي: من لزم طاعة الله في هذه البقعة آلت الطاعة به إلى روضة من رياض الجنة.(2/349)
" أبوابُ الْعَمَلِ في الصَّلَاةِ "
418 - " بَابُ مَا يُنْهَى من الْكَلَامِ في الصَّلَاةِ "
489 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ في الصَّلَاةِ فَيَرُدَّْ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِي سَلَّمْنا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا، وَقَالَ: " إنَّ في الصَّلَاةِ شُغْلاً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
418 - " باب ما ينهي من الكلام في الصلاة "
489 - معنى الحديث: أن ابن مسعود رضي الله عنه يقول: " كنا نسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة فيرد علينا " أي فيرد علينا بصريح اللفظ قائلا: وعليكم السلام، لأن الكلام والسلام لم يكونا ممنوعين أثناء الصلاة في صدر الإِسلام، " فلما رجعنا من عند النجاشي " أي: فلما رجعنا من هجرتنا إلى الحبشة " سلمنا عليه فلم يرد علينا " أي فلم يرد علينا السلام، لأن الكلام في الصلاة أصبح محرماً مطلقاً سلاماً أو غيره، " وقال: إن في الصلاة شغلاً " أي: في الصلاة مانعاً من الكلام وفي رواية أخرى: " إن الله تعالى يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة " أخرجه أبو داود. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " إن في الصلاة شغلاً ".(2/350)
490 - عَنْ زَيْدِ بْنِ أرْقَمَ (1) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
إِنْا كُنَّا لِنَتَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُكَلِّمُ أحَدُنَا صَاحِبَهُ بِحَاجَتِه حَتَّى نَزَلَتْ (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
490 - معنى الحديث: يقول زيد بن أرقم رضي الله عنه " إن كنا لنتكلم في الصلاة " أي إن أحدنا يكلم صاحبه على قدر الحاجة كما يظهر من سياق الحديث، وكما أفاده الحافظ، " حتى نزلت (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) " أي قوموا في صلاتكم ساكتين عن الكلام الدنيوي الذي لا يتعلق بمصلحة الصلاة، قال زيد بن أرقم، " فأمرنا بالسكوت "، ونهينا عن الكلام في الصلاة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فأمرنا بالسكوت ".
فقه الحديثين: دل الحديثان على ما يأتي: أولاً: تحريم الكلام في الصلاة لغير مصلحة الصلاة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الأول لم يرد السلام فقال: " إن في الصلاة الشغلاً " أي مانعاً من الكلام ولأنه في الحديث الثاني أمرنا بالسكوت. لمّا نزل قوله تعالى: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) . ثانياًً: أن الكلام لغير مصلحة الصلاة يفسد الصلاة لأن النهي عن الشيء يقتضي فساده، ولا خلاف في أن من تكلم عمداً بطلت صلاته، وقال مالك والشافعي: إذا تكلم يسيراً لا تبطل، وعن أحمد إن نسى أنه في صلاة روايتان. وإن ظن أنه أتم صلاته وتكلم بشيء في غير أمور الصلاة بطلت صلاته. ثالثاً: أنّه لا يجوز رد السلام في الصلاة، وهو مذهب الجمهور، وحكى ابن المنذر عن أبي هريرة رضي الله عنه وسعيد بن المسيب والحسن البصري: أنّه يُرَدُّ
__________
(1) زيد بن أرقم: هو أبو عمرو، وقيل: أبو سعيد، وقيل: أبو حمزة، زيد بن أرقم بن زيد الأنصارى الخزرجي، يعد في الكوفيين، وسكنها، ومات بها أيام المختار سنة ست وستين، وقيل سنة ثمان وستين.(2/351)
419 - " بَابُ الْخصْرِ في الصَّلَاةِ "
491 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" نُهِيَ أن يُصَلِّي الرَّجُلُ مُخْتَصِراً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السلام نطقاً. واستحب المالكية والشافعية والحنابلة رد السلام بالإِشارة لما روي عن صهيب أنّه قال: " مررت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، فسلمت عليه، فرد إشارةً قال: ولا أعلمه إلاّ قال إشارة بأصبعه " أخرجه أبو داود.
419 - " باب الخصر في الصلاة "
491 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " نهي أن يصلي الرجل مختصراً " أي: نهى - صلى الله عليه وسلم - أن يصلّي الرجل واضعاً يديه على خاصرته كما فسره ابن أبي شيبة. وجزم به أبو داود، وقاله ابن سيرين، لما في حديث سعيد بن زياد، قال: " صليت إلى جنب ابن عمر رضي الله عنهما فوضعت يدي على خاصرتي، فلما صلّى قال: هذا الصلب في الصلاة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنه ". الحديث: أخرجه الخمسة، ولم يخرجه النسائي. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الاختصار في الصلاة.
فقه الحديث: دل الحديث على النهي عن الاختصار في الصلاة.
وقد اختلفوا في حكمه، فحمل الجمهور النهي في هذا الحديث على الكراهة، وهو مذهب ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم والنخعي ومجاهد وأبي حنيفة ومالك والشافعي والأوزاعي. والحكمة في النهي عنه كونه من فعل اليهود، فنهينا عن التشبه بهم كما قالت عائشة رضي الله عنها: " إنّ اليهود تفعله في الصلاة ".(2/352)
" أبْوَابُ السُّهْوِ "
420 - " بَابٌ إِذَا صَلَّى خمْساً "
492 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ خَمْساً، فَقِيلَ لَهُ: أزِيدَ في الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: ومَا ذَاكَ؟ قَالَ: صَلَّيْتَ خَمْساً، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا سَلَّمَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" أبواب السهو"
والسهو هو الخطأ عن غفلة في الصلاة بزيادة أو نقص، أو الشك في أمرين لا يدري أيهما وقع منه، كأن يشك هل صلّى ثلاثاً أو أربعاً.
420 - " باب إذا صلى خمساً "
492 - معنى الحديث: يحدثنا ابن مسعود رضي الله عنه: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلّى الظهر خمساً " أي سها في صلاته فصلّى الظهر خمس ركعات " فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: وما ذاك؟ " أي وماذا حدث مما يدعو إلى هذا السؤال، " قال: صليت خمساً " أي صليت الظهر خمس ركعات، " فسجد سجدتين بعدما سلّم " أي بعد السلام.
فقه الحديث دل الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية سجود السهو لمن سها في صلاته بأن يسجد سجدتين وسجود السهو واجب عند الحنفية يأثم المصلّى بتركه، ولا تبطل صلاته، فإن كان مأموماً وسجد إمامه وجب عليه متابعته إن كان مدركاً لا مسبوقاً. وقالت الحنابلة: يُسَنُّ سجود السهو إذا أَتى بقول مشروع في غير محله، ويجب إذا زاد في الصلاة ركوعاً أو سجوداً(2/353)
أو قياماً أو قعوداً أو غير ذلك من الأركان (1) . وقالت الشافعية سنة لا يكون واجباً إلاّ إذا كان مأموماً وسجد إمامه للسهو فيجب عليه أن يسجد تبعاً لِإمامه (2) ، فإن لم يفعل عمداً بطلت صلاته (3) ، وعليه الإِعادة إن لم يكن قد نوى المفارقة، أما فيما عدا ذلك فهو سنة. وقالت المالكية: سجود السهو سنة، فإن كان مأموماً وسجد إمامه تابعه في السجود، فإن لم يتابعه لا تبطل صلاته إلاّ إذا تركه عمداً في نقص ثلاث سنن، أما إذا تركه سهواً، فإنه يسجد بعد السلام بشرط أن لا يطول الزمن، ولا يحصل مناف. ثانياً: أن من زاد ركعة سهواً لا تبطل صلاته. ويسجد بعد السلام وهو مذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة إذا زاد ركعة ناسياً بطلت صلاته، كما أفاده العيني.
ثالثاً: دل الحديث على أن الساهى في صلاته إن زاد سجد بعد السلام، وإن نقص سجد قبل السلام وهو مذهب مالك، وقال أبو حنيفة: سجود السّهو كله بعد السلام مطلقاً. وقال الشافعي: سجود السهو كله قبل السلام مطلقاً. وقال أحمد بن حنبل: سجود السهو كله قبل السلام إلاّ في حالتين: الأولى: إذا سلّم من نقصان فإنه يقضي ما بقي عليه ويسجد بعد السلام.
الثانية: إذا شكّ الإمام في صلاته، فإنه يتحرّى ويبني على غالب ظنه، وما ترجح لديه، ويسجد بعد السلام. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " فسجد سجدتين بعدما سلّم ".
***
__________
(1) عن الأركان الفعلية كالرفع من الركوع مثلاً، أما إذا زاد شيئاً من الأركان القولية، فإنه يسن له سجود السهو، كما أفاده في " كتاب الفقه على المذاهب الأربعة " ج 1.
(2) " كتاب الفقه على المذاهب الأربعة " ج 1.
(3) وكذلك قالت الحنابلة.(2/354)
421 - " بَابٌ إِذَا كُلِّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فأشَارَ بِيَدِهِ واسْتَمَعَ "
493 - عن أمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
" سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَنهَى عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ رَأيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا، وكَانَ عِنْدِي نِسْوَةٌ مِنْ الأنْصَارِ، فأرْسَلْتُ إِلَيْهِ الْجَارِيَةَ، فَقُلْتُ: قُومِي بِجَنْبِهِ قُولي لَهُ: تَقُولُ لَكَ أمُّ سَلَمَةَ يَا رَسُولَ اللهِ سَمِعْتُكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ وأراكَ تُصَلِّيهِمَا، فإِنْ أشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأخِرِي عَنْهُ، فَفَعَلَتْ الْجَارِيَةُ فَأشَارَ بِيَدِهِ فاسْتَأخَرَتْ عَنْهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: يَا ابْنَةَ أبِي أمَيَّةَ، سَألْتِ عنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْد الْعَصْرِ، وِإنَّهُ أتانِي نَاسٌ مِنْ بَنِي عَبْد الْقَيْسِ فَشَغلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ فَهُمَا هَاتَانِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
419 - " باب إذا كلم وهو يصلّي فأشار بيده واستمع "
493 - معنى الحديث: أن أم سلمة رضي الله عنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهي عن صلاة النافلة بعد صلاة العصر، ثم رأته يوماً يصلي ركعتين بعد العصر، فأشكل عليها ما رأت، فأرسلت إليه جاريتها تسأله عن هذه المسألة التي أشكلت عليها. وقالت لها: قولي له: تقول لك أم سلمة سمعتك تنهى عن هاتين الركعتين ثم رأيتك تصليهما، فإن أشار إليك بالسكوت فافعلي ما أمرك به، وابتعدي جانباً حتى يتم صلاته، فذهبت إليه الجارية، وأشار إليها، فسكتت، فلما انتهى من صلاته، قال موجهاً الخطاب لأم سلمة: يا بنت أبي أمية (هي كنية أبيها) إن هاتين الركعتين هما سنة الظهر البعدية، وكنت قد شغلت عنهما بوفد عبد القيس، فقضيتهما الآن. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود.
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الإِشارة وغيرها من(2/355)
الأعمال اليسيرة لا تبطل الصلاة كما ترجم له البخاري. ثانياً: استدل الشافعية بهذا الحديث على مشروعية قضاء السنن التي لها سبب في أوقات النهي، وقالت الحنابلة: لا يقضى شيء من النوافل في أوقات النهي مطلقاً، سواء كان لها سبب أو ليس لها سبب. وقالت المالكية والحنفيَّةُ: لا يقضي في أوقات النهي إلّا ركعتا الفجر خاصة. والمطابقة: في قول أم سلمة: " فأشار بيده ".
***(2/356)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب الجنائز "
422 - "بَابُ فِي الجَنَائزِ وَمَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا الَهَ إِلَّا اللهُ"
494 - عن أبي ذَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -: أتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فأخْبَرَنِي -أو قَالَ-: " بَشَرنِي أنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أمَّتِي لَا يُشْرِكُ باللهِ شَيْئاً دَخَلَ الْجَنَّةَ " قُلْتُ: وَإنْ زَنى وِإنْ سَرَقَ! قَالَ: " وإنْ زَنَى وِإنْ سَرَقَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
422 - "باب في الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلاّ الله "
أي هذا كتاب تذكر فيه الأحاديث المتعلقة بأحكام الجنائز وهي جمع جنازة (بكسر الجيم) وتطلق على الميت، وعلى النعش الذي فوقه الميت. والمراد بها هنا الموتى لأنّ الأحاديث المذكورة ضمن هذا الكتاب إنما تدور حول الأحكام المتعلقة بالميت من غَسْله، وتكفينه، والصلاة عليه، وتشييعه إلى غير ذلك.
494 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " أتاني آت من ربي " أي جاءني ملك من عند ربي " فأخبرني أو قال بشرني " وهو الأنسب لأن معناه جاءني الملك بالوحي الصريح، فأخبرني خبراً ساراً، ابتهجت له، وتهلل له وجهي، وفرح به قلبي فرحاً عظيماً، ظهرت آثاره عَليَّ حيث بلغني عن الله تعالى " أن من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً " ومعناه أن من مات على التوحيد الخالص، ولم يجعل لله شريكاً في عبادته ولا في ذاته وصفاته(2/357)
وأفعاله "دخل الجنة "، أي كان مصيره إلى الجنة، فلا يخلّد في النار ولو ارتكب الكبائر. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: البشارة لهذه الأمة بأن من مات على توحيد الله والتصديق بما جاء به رسول الله فإن مصيره إلى الجنة، ولا يخلد في النار، ولا يسلب عنه اسم الإِيمان مهما اقترف من الكبائر، خلافاً للخوارج الذين يقولون: إن مرتكب الكبيرة كافرٌ مخلد في النار. والحديث حجة عليهم لأنّ جبريل بشّر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنّ من مات على التوحيد دخل الجنة وإن زنى وإن سرق، والجنة لا يدخلها إلاّ مؤمن، فكيف يقال بعد هذا إن مرتكب الكبيرة كافر مخلّد في النار، وفي هذا معارضة صريحة لهذا الحديث منطوقاً ومفهوماً. ثانياً: أن الموت على التوحيد والإِيمان شرط في دخول الجنة. فالمشرك لا يدخل الجنة أبداً، وإنما هو مخلد في النار، وذلك مصداق قوله تعالى: (وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) .
فائدة هامة: ذكر بعض أهل العلم أن هناك ستة أشياء من حافظ عليهما كان لها أثرها العظيم في حسن الخاتمة وهي البسملة في بداية الأعمال، والحمد لله في نهايتها، والحوقلة عند المكروه، وهي قول: لا حول ولا قوة إلاّ بالله، والاسترجاع عند المصيبة، وإذا عزم على أمر قال: إن شاء الله، وإذا أذنب استغفر الله. والمطابقة: في قوله: " من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ".
***(2/358)
423 - " بَابُ الأمْرِ بإتباعَ الْجَنَائِزِ "
495 - عَنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" أمَرَنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِسَبْع، ونَهَانَا عَنْ سَبْع، أمَرَنَا بإتباعِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيض، وِإجَابَةِ الدَّاعِي، ونَصْرِ المَظْلُومِ، وإبْرارِ الْقَسَمِ، ورَدِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
423 - " باب الأمر باتباع الجنائز "
495 - معنى الحديث: يؤكد لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة ما جاء به الإِسلام من الشرائع والأحكام التي تضمن تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه سليم يضمن لكل إنسان حياة سعيدة كريمة، ويحفظ له حقوقه، ويصون كرامته في حياته، وبعد مماته، وأصدق مثل على ذلك قول الراوي " أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبع " فإن هذه الأعمال السبعة التي أمر بها - صلى الله عليه وسلم - كلها تهدف إلى رعاية حقوق الإنسان، في حياته وتكريمه بعد وفاته، حيث قال الراوي: " أمرنا باتباع الجنائز " أي بتشييع موتى المسلمين وحملهم على أعناق الرجال إلى مثواهم الأخير، بعد القيام بحقوقهم الأخرى من غسل وتكفين، وصلاة عليهم تكريماً؛ وتوديعاً؛ ودعاءً؛ وشفاعة لهم، فإنّ المشيعين في الحقيقة شفعاء عند الله تعالى. ثم قال الراوي: " وعيادة المريض " وهنا انتقل الحديث إلى بيان الحقوق الاجتماعية التي تجب على كل مسلم ويسن له أداؤها لغيره من المسلمين، أو من الناس مطلقاً حيث أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيادة المريض أي زيارته أثناء مرضه، لتسليته والتخفيف عنه، وإشعاره بمنزلته، وأهميته، وهي من أقوى العوامل المؤدية إلى تحسين حالته النفسية والجسمية، ورفع معنويته، وزيادة مقاومته. ولا تختص عيادة المريض بالمسلم، بل تكون لكل من له صلة قرابة أو علاقة جوار ولو كان ذمياً. ثم قال البراء رضي الله عنه "وإجابة(2/359)
السَّلَامِ، وتَشْمِيتِ الْعَاطِس، ونَهَانَا عَنْ آنيَةِ الْفِضَّةِ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ، والْحَرِيرِ، والدِّيبَاجِ، والقِسِّيِّ، والِإسْتَبْرَقِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الداعي"، أي وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإجابة الدعوة وهي ما يتخذ من الطعام عند المناسبات السعيدة من حدوث نعمة أو زوال نقمة ابتهاجاً وفرحاً وشكراً لله تعالى، " ونصر المظلوم "، أي إغاثته، ودفع الظلم عنه ولو كان ذمياً، " وإبرار القسم " وهو فعل الشيء الذي أقسم عليه تحقيقاً لرغبته لئلا يحنث في يمينه " ورد السلام " على من بدأ بالسلام تجاوباً معه وإشعاراً له بالمحبة وصادق الألفة والمودة، " وتشميت العاطس " أي الدعاء له بالخير إذا حمد الله، فيقال له: يرحمك الله. ثم انتقل الراوي إلى الحديث عن بعض المحرّمات التي نهى عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " ونهانا عن آنية الفضة وخاتم الذهب، والحرير والديباج " وهو ما غلظ من الحرير " والقسِّيّ " (بفتح القاف وكسر السين المشددة) وهو الثياب المخلوطة بالحرير. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية المحافظة على هذه الأعمال السبعة التي أمرنا بها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهما تكفل لكل فرد رعاية حقوقه حياً كان أو ميتاً. وتختلف هذه الأعمال في أحكامها الشرعية من حيث الوجوب والسنيّة. فأما تشييع الجنائز فهو فرض كفاية اتفاقاً، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وكذلك نصر المظلوم لمن كان قادراً عليه ولم يخشَ ضرراً يصيبه منه، وكذلك رد السلام عند مالك والشافعي، وأما تشميت العاطس، وإبرار القسم، وعيادة المريض، فإنّها سنن مستحبة. وذهب بعض الفقهاء إلى أن عيادة المريض فرض كفاية، حكمها في ذلك حكم إطعام الجائع وفك الأسير، وقد رغّب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها كثيراً فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا عاد المسلم أخاه(2/360)
يزل في خُرْفَةِ الجنة" أي في روضة من رياضها. وفي الحديث القدسي: " يقول الله تعالى: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب! وكيف أعودك وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عُدَّته لوجدتني عنده ". وإنما عني الإِسلام بعيادة المريض كل هذه العناية لما فيها من عظيم المواساة، وتجاوب العواطف والمشاعر الإِنسانية، ومشاركة المريض وجدانياً، ولأن المريض يتأثر بهذه الزيارة تأثراً نفسياً عظيماً يؤدي إلى تحسن صحته الجسمية، سيما إذا كان الزائر من الذين يحبهم ويرتاح إليهم، ويأنس بزيارتهم. قال ابن القيم: " وقد شاهد الناس كثيراً من المرضى تنتعش قواه بعيادة من يحبونه ويعظمونه، ورؤيتهم لهم، ولطفهم بهم، ومكالمتهم إيّاهم، وهذا أحد فوائد عيادة المرضى التي تتعلق بهم. وقد قال الشاعر:
مَرضَ الحُبيْبُ فَعُدْتُهُ ... فَمَرِضْتُ إِشْفَاقاً عَلَيْه
وأتى الحَبِيْبُ يَعُوْدُنِي ... فَشُفِيْتُ مِنْ نَظَرِيْ إلَيْه
وبعض التجارب يدل على ما هو أعظم من ذلك وأبلغ. أما إجابة الدعوة فإنها فرض عين كما صرح به الحنابلة، ونص عليه مالك، وفرق الشافعية بين وليمة العرس وغيرها، فأوجبوها في الأولى واستحبوها في الثانية. فإجابة الدعوة واجبة إلاّ إذا كان طعامها مشبوهاً أو حراماً أو فيها محرم، أو من يُتأذَّى به، فلا تجوز إجابتها. ثانياًً: استدل أبو حنيفة بقوله: " أمرنا باتِّباع الجنائز " على أن المشى خلف الجنازة أفضل حيث فسر الاتباع بالاتباع الحسي، وهو المشي خلف الشيء. وقالت الشافعية: المشي أمام الجنازة أفضل لما روي بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: " رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة " أخرجه أبو داود. ولأن المشيعين شفعاء للميت، ومن حق الشفيع أن يتقدم على مشفوعه. وأجابوا عن حديث الباب بأن(2/361)
424 - " بَاب الدُّخولِ عَلَى المَيِّتِ بَعْدَ المَوْتِ إِذَا أدرجَ في أكْفَانِهِ "
496 - عَنْ أمِّ الْعَلَاءِ إِمْرَاة مِنَ الأنصَارِ رَضِيَ الله عَنْهَا بَايَعَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَتْ:
إنَّه اقْتسِمَ المهَاجِرونَ قرْعَةً، فطَارَ لَنَا عُثْمَان بْن مَظْعونٍ، فأنزلْنَاه في أبيَاتِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَة الَّذِي توفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا توفِّيَ وَغسِّلَ وكُفِّنَ في أثْوَابِهِ دَخَلَ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقلْت: رَحْمَة اللهِ عَلَيْكَ أبا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أكْرَمَكَ الله تَعَالَى. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "وَمَا يُدْرِيكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المراد بالاتباع الاتباع المعنوي وهو تشييع الجنائز إلى مثواها الأخير. ثالثاً: تحريم آنية الفضة وخاتم الذهب والحرير بأنواعه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها، والنهى هنا للتحريم عند الجمهور. والمطابقة: في قوله: " أمرنا باتباع الجنائز ".
424 - " باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج أكفانه "
496 - معنى الحديث: تحدثنا أم العلاء الأنصارية (1) في هذا الحديث عن وفاة عثمان بن مظعون، وما وقع لها بعد غسله وتكفينه، فتقول: " إنه اقتسم المهاجرون قرعة " أي أن الأنصار استضافوا المهاجرين في منازلهم واقتسموهم فيما بينهم عن طريق القرعة، " فطار لنا عثمان بن مظعون "، أي فوقع عثمان في سهمنا، وصار من قسمنا، " فلما توفي وغسّل وكفنّ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، أي دخل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مدرج في كفنه، قالت رضي الله عنها: "فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك
__________
(1) وهي أم خارجة بن زيد راوي الحديث.(2/362)
أنَّ اللهَ أكْرَمَهُ"؟ قُلْتُ: بِأبِي أنت يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَنْ يُكرِمُهُ اللهَ تَعَالَى؟ فَقَالَ: " أمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَاللهِ إِنِّي لأرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، واللهِ مَا أدْرِي وأنَا رَسُولُ اللهَ مَا يُفْعَلُ بِي، قَالَتْ: فوَاللهَ لا أزَكِّي أحَداً بَعْدَهُ أبَداً ".
497 - عَنْ جَابِرٍ بنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
لَمَّا قُتِلَ أبِي جَعَلْتُ أكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ أبكي وَيَنْهُونَنِي عَنْهُ، والنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا يَنْهَانِي، فَجَعَلَتْ عَمَّتِي فَاطِمَةُ تَبْكِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لقد أكرمك الله"، قال القسطلاني: أي أقسم بالله لقد أكرمك الله يعنى بالجنة، " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وما يدريك أن الله أكرمه "، أي فأنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها قولها هذا لأنّها أقسمت على شيء في علم الغيب فقال لها ما معناه: ومن أعلمك أن الله أكرمه بالجنة والسعادة الأخروية، " أما هو فقد جاءه اليقين " أي فقد جاءه الموت ورأى مصيره، " والله إني لأرجو في الخير "، هذا ما يمكن أن أقوله أنا أو غيري، " والله ما أدري وأنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما يفعل بي "، أي لا أعلم علم اليقين ما يفعل بي في الدار الآخرة إلاّ ما أعلمني الله به وأطلعنى عليه. " قالت: فوالله لا أزكي أحداً بعده أبداً " أي لا أقطع لأحد بعده بالجنة مهما بلغ إلاّ الذين شهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في قولها: " فلما توفي وغسّل وكفّن في أثوابه دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
497 - معنى الحديث: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: " قال لما قتل أبي جعلت أكشف الثوب عن وجهه " أي لما استشهد أبي يوم أحد صرت أكشف الثوب عن وجهه لأودعه الوداع الأخير، " فجعلت عمتي فاطمة تبكي "، أي وصارت عمتي فاطمة بنت عمرو تبكي أخاها(2/363)
"تَبكِينَ أو لا تَبْكِينَ، ما زَالَتِ الْمَلائِكَةُ تُظِلهُ بِأجْنِحَتِهَا حتى رَفَعْتُمُوهُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عبد الله بن عمرو، " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " مبشراً ومواسياً لها في مصابها: " تبكين أو لا تبكين "، فإن عزاءك فيه عظيم وبشراك كبيرة وحسبك عزاءً أنه " ما زالت الملاثكة تُظلُّه بأجنحتها حتى رفعتموه "، أي استمرت تظلله تكريماً له حتى رفعتموه عن النعش إلى مثواه الأخير. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " جعلت أكشف الثوب عن وجهه ".
فقه الحديثين: دل الحديثان على ما يأتي: أولاً: مشروعية الدخول على الميّت إذا أدرج في كفنه، كما ترجم له البخاري، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على عثمان بن مظعون بعد غسله وتكفينه، كما في الحديث الأول، ولأن جابر رضي الله عنه لما استشهد أبوه يوم أحد جعل يكشف الثوب عن وجهه، كما في الحديث الثاني، وثوب الشهيد بمنزلة كفنه. ثانياًً: أن التزكية القطعية لأي إنسان تجوز في الأمور الماضية لا في المستقبلة لأن المستقبل غيب، فلا يجوز القطع لأحد بالجنة إلاّ من شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم -، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لأم العلاء في عثمان بن مظعَون: " وما يدريك أن الله أكرمه ". قال العيني: فيه دليل على أنه لا يجزم لأحد بالجنة إلاّ ما نص عليه الشارع، ويجوز أن نثني على الميت بالخير بأن نقول فيه كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إني لأرجو له الخير ". قال في " العقيدة الطحاوية ": " ونرجو للمحسنين أن يعفو الله عنهم ويدخلهم الجنة ".
***(2/364)
425 - " بَابُ الرَّجُلِ يَنْعَى إلى أهْلِ الْمَيِّتِ بِنَفْسِهِ "
498 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَعَى النَّجَاشِيَّ في الْيَوْمِ الذِي مَاتَ فِيهِ خَرَجَ إلى الْمُصَلَّى فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أرْبعاً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
425 - " باب الرجل ينعى إلى الميت بنفسه "
قال ابن بطال في الترجمة خلل ومقصود البخاري باب الرجل ينعي إلى الناس الميت بنفسه.
498 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي "، أي أخبر - صلى الله عليه وسلم - الصحابة عن موت النجاشي. واسمه أصْحَمةُ الأبجري أو ابن الأبجري والنجاشي لقب له ولكل ملك من ملوك الحبشة، وقد نعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - " في اليوم الذي مات فيه " وذلك في شهر رجب سنة تسع من الهجرة فلما توفي رضي الله عنه نعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم وفاته، ثم " خرج إلى المصلى فصف بهم "، وصلى عليه صلاة الجنازة، " وكبّر أربعاً "، أي كبّر في صلاته أربع تكبيرات. الحديث: أخرجه الستة.
والمطابقة: في قوله: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية نعي الميت، أي إخبار الناس بموته ليحضروا لتشييعه. والنعي أنواع، منه ما هو سنة، ومنه ما هو مكروه، ومنه ما هو محرم. قال ابن العربي: أما إعلام الأهل والأقارب وأهل الصلاح فهذا سنة ودعوة الجهلة للمفاخرة مكروه، والإِعلام بالنياحة، وهو النعي الجاهلي محرم. ثانياً: مشروعية صلاة الجنازة، وهي فرض كفاية، ويكبّر فيها أربع تكبيرات وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يموت(2/365)
499 - عَنْ أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأصِيبَ، ثُمَّ أخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأصِيبَ، ثُمَّ أخَذَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ فأصِيبَ، وِإنَّ عَيْنَيْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَتَذْرِفَانِ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ مِنْ غَيْرِ إمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أحد من المسلمين فيصلّي عليه أمة من الناس فيشفعون له إلاّ شفعوا فيه".
ثالثاً: مشروعية صلاة الغائب، وبها قال الشافعي وأحمد خلافاً لمالك وأبي حنيفة.
499 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب "، أي بينما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس في مسجده بالمدينة، أطلعه الله تعالى على استشهاد هؤلاء القواد الثلاثة في غزوة مؤتة، التي هي بالبلقاء على أطراف الشام، فنعاهم إلى أصحابه، وأخبرهم عن استشهادهم جميعاً من فوق منبره الشريف، " وإن عيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتذرفان " (1) أي والحال أن عينيه تفيضان بالدموع حزناً عليهم. وبعد فراغه - صلى الله عليه وسلم - من نعيهم قال: " ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة "، أي ثم أخذ الراية خالد رضي الله عنه دون أن يعهد إليه بها حين رأى المصلحة في ذلك، " ففتح له "، أي فنصر الله المسلمين على يديه وبقيادته المظفرة.
الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في قوله: " أخذ الراية زيد فأصيب " ... إلخ.
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية النعي، وقد تقدم الكلام عليه في الحديث السابق. ثانياًً: استدل به مالك وأبو حنيفة
__________
(1) بكسر الراء.(2/366)
426 - " بَابُ فضلِ مَنْ مَات لَهُ وَلَدٌ فاحْتَسَبَ "
500 - عَنْ أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " مَا مِنَ النَّاس مِنْ مُسْلِم يُتَوَفَّى لَهُ ثَلَاثٌ لَمْ يَبلُغُوا الْحِنْثَ إلَّا أدْخَلَهُ اللهُ الْجَنةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إيَّاهُمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على عدم مشروعية الصلاة على أبي الغائب، لأنه - صلى الله عليه وسلم - نعي هؤلاء القواد الثلاثة، ولم يصل عليهم.
426 - " باب فضل من مات له ولد فاحتسب "
500 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما من الناس من مسلم يتوفى له ثلاث لم يبلغوا الحنث " (بكسر الحاء) أي لا يموت لأي واحد من المسلمين ثلاثة أولاد صغار ذكوراً أو إناثاً قبل بلوغهم، " إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم "، أي بسبب شدة حزنه على فراقهم الناشىء عن قوة محبته لهم ورقة قلبه، وعطفه عليهم فيثيبه الله على هذه الآلام النفسية التي يقاسيها بسبب شدة وجده وصبره واحتسابه لهم عند الله بالجنة ونعيمها.
الحديث: أخرجه أيضاً النسائي وابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان أجر المصيبة في الأولاد ولو ماتوا صغاراً، فإنه لا جزاء لذلك إلاّ الجنة. ثانياً: أن محبة الأبوين لولدهما ورقة قلبهما عليه، وإن كان غريزة طبيعية في النفس، إلاّ أن المرء يثاب عليها، ولذلك عوض عن فقد الأولاد بالجنة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " إلّا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم " والمطابقة: في قوله: " أدخله الله الجنة ".(2/367)
427 - " بَابُ غَسْلِ الْمَيِّتِ وَوُضُوئِهِ بِالْمَاءِ والسِّدْرِ "
501 - عن أمِّ عَطِيَّةَ الأنْصَارِيَة قَالَتْ: " دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ تُوُفِّيَتْ ابنته فَقَالَ: اغسِلْنَهَا ثَلَالاً، أو خَمْساً، أوْ أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ رَأيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ واجعَلْنَ في الآخِرَةِ كَافُوراً أو شَيئاً من الْكَافُورِ، فإذَا فَرَغْتُنَّ فآذِنَّنِي، فلما فَرَغْنَا آذََّناهُ، فَأعْطَانَا حِقْوَهُ، وقَالَ: أشْعِرْنَهَا إيَّاهُ. تَعْنِي إِزَارَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
427 - " باب غسل الميت ووضوئه بالماء والسدر "
501 - معنى الحديث: تقول أم عطية رضي الله عنها: " دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توفيت ابنته " أي دخل علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاة ابنته زينب وفي أثناء غسلها وكانت وفاتها في أول السنة الثامنة من الهجرة، " فقال: اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتنِ "، أي فوَّضَهن -في عدد مرات غسلها- إلى اجتهادهن حسب الحاجة، كما أفاده الزرقاني، " بماء وسدر "، بأن يجعل السدر في ماء ويخضخضه حتى تخرج رغوته ويدلك به جسد الميت، " واجعلن في الآخرة كافوراً "، أي واجعلن في الغسلة الأخيرة شيئاً من الكافور في الماء، " فلما فرغنا آذناه "، أي أعلمناه " فأعطانا حقوه " أي إزاره، " وقال: أشعرنها إياه "، أي اجعلنه شعاراً لها والشعار هو الثوب الذي يلي الجسد. الحديث: أخرجه الستة.
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب غسل الميت وهو فرض كفاية عند الجمهور (1) قال أبو حنيفة ومالك: والأفضل أن يغسل
__________
(1) وقد نقل النووي الإجماع على ذلك.(2/368)
428 - " بَاب يبدَأ بِمَيامِنِ الْمَيِّتِ "
502 - وعَن أم عَطِيَّة رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مجرداً من ثيابه مع ستر عورته، خلافاً للشافعي حيث قال: الأفضل أن يغسل في قميص، والذى عليه الجمهور أن غسل الميت أمر تعبدي، لا لتطهيره، لأنّه لا ينجس بالموت. واتفقوا على أنّ للزوجة أن تغسل زوجها، واختلفوا في غسل الرجل زوجته، فأجازه الجمهور خلافاً لأبي حنيفة. ثانياًً: مشروعية التثليث في غسله لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إغسلنها ثلاثاً "، وهو واجب عند الظاهرية (1) . سنة عند الجمهور. ثالثاً: غسل الميت بالماء والسدر، ثم بالماء والكافور، واختلفوا في كيفية ذلك، فقالت الشافعية يستحب أن تكون الغسلة الأولى بالماء والسدر والثانية بالماء الصافي، والثالثة يضاف إليها شيء من الكافور، كما أفاده في " المنهل العذب ". وقالت المالكية: الأولى بالماء القراح، والثانية يضاف إليها السدر أو بالعكس والثالثة يضاف إليها الكافور، وقال: أحمد وأبو حنيفة: يسن غسله بالماء والسدر في كل مرة (2) ، لما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اغسلوه بماء وسدر ". وقال الصنعاني: ظاهره أنه يخلط السدر بالماء في كل مرة من مرات الغسل.
قيل: وهو يشعر بأن غسل الميت للتنظيف لا للتطهير لأنّ الماء المضاف إليه لا يتطهر به. والمطابقة: في قولها: " بماء وسدر ".
428 - " باب يبدأ بميامن الميت "
502 - معنى الحديث: تحدثنا أمّ عطية في هذه الرواية عن النبي
__________
(1) ويستحب الإِيثار بخمس أو سبع، قال العيني: وكره أحمد الزيادة على سبع، وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً قال بمجاوزة السبع..
(2) واتفق الجمهور على أنه يسن غسله بالماء والكافور في الأخيرة خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: إنما يجعل الكافور في الحنوط.(2/369)
" ابْدَأنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِع الْوُضُوءِ مِنْهَا " وفي رِواية قَالَتْ: وَمَشَطْنَاها ثَلَاَثةَ قُرُونٍ ".
429 - " بَابُ الثيابِ البِيض لِلكَفَنِ "
503 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
" أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كُفِّنَ في ثَلَاَثةِ أثْوابٍ بيضٍ يَمَانِيَةٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيهنَّ قَميصٌ ولا عِمَامَة ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- صلى الله عليه وسلم - " أنه قال ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها "، أي: أبدأن في غسلها بالأعضاء اليمنى من جسدها وبمواضع الوضوء منها: " قالت: ومشطناها ثلاثة قرون "، أي وضفرنا شعرها ثلاث ضفائر.
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يستحب أن يوضأ الميت كوضوء الحي. فيمضمض وينشّق وهو مذهب المالكية والشافعية لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أنه قال ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها " وقالت الحنابلة والحنفية: لا يمضمضن ولا ينشق، وإنما توضأ الأعضاء التي في كتاب الله. ثانياًً: أنه يستحب البدأ بميامنه، وهو ما ترجم له البخاري لقوله - صلى الله عليه وسلم - " وابدأن بميامنها ".
ثالثاً: أنه يستحب أن يسرَّح شعر المرأة، ويضفر ثلاث ضفائر لقولها: " ومشطناها ثلاثة قرون ". الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " ابدأن بميامنها ".
429 - " باب الثياب البيض للكفن "
503 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية (1) من كرسف (2) " أي في ثلاثة
__________
(1) سحولية أي يمنية نسبة إلى سحول قرية باليمن.
(2) أي من قطن.(2/370)
430 - " بَابُ الْكَفَنِ في ثَوْبَيْنِ "
504 - عن ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
بَيْنَمَا رَجُل وَاقِف بعرفَةَ إذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَوَقَصَتْهُ، أوْ قَالَ: فَأوْقَصَتْه، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " اغسِلُوهُ بمَاءٍ وسِدْرٍ وكَفِّنُوهُ في ثَوْبَيْنِ، وَلا تُحَنِّطُوهُ، ولا تُخَمِّرُوا رَأسَهُ، فإِنَّهُ يُبْعَث يَوْمَ القِيَامَةِ مُلبياً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أثواب قطنية يمنية بيضاء إزار ورداء ولفافة كما رواه الشعبي " ليس فيها قميص ولا عمامة " أي أن هذه الثلاثة زيادة على القميص والعمامة أو بدون قميص ولا عمامة. الحديث: أخرجه الخمسة، ولم يخرجه الترمذي. والمطابقة: في قولها: " كفن في ثلاثة أثواب بيض ".
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يستحب بياض الكفن كما قال الزرقاني، لأن الله لم يكن ليختار لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إلاّ الأفضل. وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: البسوا الثياب البيض فإنّها أطيب وأطهر وكفنوا فيها موتاكم، أخرجه أصحاب السنن، وصححه الترمذي والحاكم.
ثانياًً: أنه يسن التكفين في ثلاثة أثواب. واختلفوا في القميص والعمامة، فقال مالك: يستحب أن يكفن الرجل في خمسة أثواب إزار ورداء ولفافة وقميص وعمامة. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس فيها قميص ولا عمامة، أي ثلاثة أثواب زيادة على القميص والعمامة. وقال الجمهور: لا يستحب القميص والعمامة. لأن معنى قولها: " ليس فيها قميص ولا عمامة " أي بدون قميص ولا عمامة.
430 - " باب الكفن في ثوبين "
504 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " بينما رجل واقف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة إذ وقع عن راحلته، فوقصته أو(2/371)
431 - " بَابُ الكَفَنِ فِي القَمِيص الَّذي يُكَفُّ أوُ لا يُكَفُّ "
505 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" أتَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَبْدَ اللهِ بْنَ أبَي بَعْدَمَا دُفِنَ، فأخْرجَهُ فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقهِ، وألبَسَهُ قَمِيصَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال: أوقصته" أي رمته فاندق عنقه، " قال النبي - صلى الله عليه وسلم - اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ولا تحنطوه " لما في الحنوط من الطيب، " ولا تخمروا رأسه " لا تغطوه لأنه محرم، " فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً " أي على صورة الحاج الملبي. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كفنوه في ثوبين ".
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: قال ابن دقيق العيد (1) فيه دليل على أن المحرم يبقى في حقه حكم الإِحرام، فلا يحنط، ولا يغطى رأسه، ولا يكفن في ثلاثة أثواب كغيره، وإنما يكفن في ثوبي (2) إحرامه، وهو مذهب الشافعي وأكثر أهل العلم، خلافاً لمالك وأبي حنيفة: فإنه يكفّن عندهم كغيره، وهو مقتضى القياس، لانقطاع العبادة بزوال محل التكليف، وهو الحياة، ولكن لا قياس مع النص. ثانياً: جواز الكفن في ثوبين، أو ثوب واحد وهو الصحيح.
431 - " باب الكفن في القميص الذي يكف أو لا يكف "
أي هذا باب يذكر فيه الأحاديث التي تدل على مشروعية الكفن في القميص مطلقاً، سواء كان مكفوفاً، وهو الذي يُخَيَّطُ طرفه - أو غير مكفوف.
505 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه: "أتي النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) " شرح عمدة الأحكام " لابن دقيق العيد.
(2) يكفن في ثوبي إحرامه - أي في إزاره وردائه اللذين أحرم بهما.(2/372)
432 - " بَابٌ إذَا لَمْ يَجِدْ كَفَناً إلَّا مَا يُوَارِي رَأسَهُ أوْ قَدَمَيْهِ غَطَّى بِهِ رَأسَهُ "
506 - عَنْ خَبَّابٍ رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ: "هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللهِ، فَوَقَعَ أجْرُنَا عَلَى اللهِ، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأكلْ مِنْ أجْرِهِ شَيْئاً، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرِ، وَمِنَّا مَنْ أينَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فهُوَ يَهْدِبُهَا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عبد الله بن أبي" أي: جاء إلى قبره، " بعد ما دفن فأخرجه " من قبره.
قال القسطلاني: وكان أهله خشوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - المشقة في حضوره، فبادروا إلى تجهيزه، قبل وصوله، فلما وصل وجدهم قد دَلُّوه في حفرته، فأمرهم بإخراجه، " فنفث فيه " أي فتفل من ريقه على جلده، " وألبسه قميصه "، لأنّه كان قد وعد بتكفينه في قميصه فأنجز وعده. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
فقه الحديث: دل الحديث على استحباب القميص في الكفن، وهو مذهب مالك، وسيأتي تفصيله. والمطابقة: في قوله: " وألبسه قميصه ".
432 - " باب إذا لم يجد كفناً إلّا ما يواري رأسه أو قدميه غطّى به رأسه "
506 - معنى الحديث: يقول خباب رضي الله عنه: " هاجرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نلتمس وجه الله "، أي هاجرنا بنيةٍ خالصة نطلب رضا الله وحده، " فوقع أجرنا على الله " أي فثبت أجرنا عنده بمقتضى وعده الذي لا يخلف، " فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئاً " أي فبعضنا مات قبل الفتوحات الإسلامية، ولم يكسب شيئاً من غنائمها " منهم مصعب بن عمير " أي مثل مصعب الذي لم ينل من الدنيا شيئاً " ومنا من أينعت في ثمرته "، أي وبعضنا(2/373)
قُتِلَ يَوْمَ أحِدٍ فَلَمْ نَجِدْ مَا نُكَفِّنُهُ إلَّا بُرْدَةً إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاهُ، وِإذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأسُهُ، فَأمَرنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ نُغَطِّي رَأسَهُ، وأنْ نَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيهِ مِنَ الإِذْخِرِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نضجت ثمرة الدنيا بين يديه فنال منها. وهو كناية عن المسلمين الذين أدركوا الفتوحات، فأثروا من الغنائم، ونالوا حظاً من الحياة ونعيمها " فهو يهدبُها " بفتح الياء أي يقتطف زهرة هذه الدنيا وثمرتها اليانعة " قتل " مصعب رضي الله عنه " يوم أحد، فلم نجد ما نكفنه به إلا بردة " أي كساء غليظاً مخططاً قصيراً، " إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطينا رجليه خرج رأسه، فأمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نغطي رأسه " مع جسمه وعورته " وأن نجعل على رجليه الِإذخر " وهو نبت حجازي معروف.
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الواجب في الكفن ثوب واحد يستر العورة، فإن قصر عن جسمه كله فيغطى به رأسه وعورته، وإن ضاق عنهما غطيت عورته، وجعل على الباقي الإذخر. ثانياً: ما كابده الصحابة رضي الله عنهم في هجرتهم من المشاق والمتاعب وشدة الفقر والحاجة، فهذا مصعب بن عمير رضي الله عنه الذي كان كما قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا أرقَّ حلة ولا أنعم نعْمة من مصعب " فلما استشهد لم يترك سوى بُردة لم تتسع في كفنه لجسده كله. الحديث: أخرجه الخمسة. والمطابقة: في قوله: " فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغطي بها رأسه ".
***(2/374)
433 - " بَابُ مَنِ اسْتَعَدَّ الكَفَنَ في زَمَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَنكرَ عَلَيْهِ "
507 - عَنْ سَهْل بْنِ سعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
جَاءَت امْرَأة إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِبُرْدَةٍ منسُوجَةٍ فِيها حَاشِيَتُهَا، أتَدْرُونَ مَا البُرْدَةُ؟ قَالُوا: الشَّمْلَةُ، قَالَ: نَعم، قَالَتْ: نَسَجْتُهَا بِيَدي، فجِئْتُ لأكْسُوكَهَا، فأخَذَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُحْتَاجاً إليْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وِإنَّهَا إزَارُهُ، فَحَسَنّها فُلَانٌ، فقالَ: اكُسُنِيها ما أحْسَنَهَا، قَالَ الْقَوْمُ: ما أحْسَنْتَ، لَبِسَها النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُحْتَاجاً إليْهَا، ثُمَّ سألتَه وَعَلِمْتَ أنَّهُ لا يَرُدُّ، فَقَالَ: إني وَاللهِ ما سَألتُهُ لِأَلبَسَهَا، إنّمَا سَألتَهُ لِتَكونَ كَفَنِي، قال سَهْلُ: فكانَتْ كَفَنَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
433 - " باب من استعد الكفن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينكر عليه "
507 - معنى الحديث: يقول سهل بن سعد الساعدي رضي الله
عنهما: " جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببردة منسوجة فيها حاشيتها "، أي بكساء مخطط له طرف يسمى شملة لأنه يلتحف به، " فخرج إلينا وإنها إزاره " أي فخرج إلينا النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤتزراً بها " فحسنها فلان " أي فأعجب بها رجل من الصحابة وهو عبد الرحمن بن عوف، واستحسنها وطلبها من النبي - صلى الله عليه وسلم -، " فقال القوم: ما أحسنت " أي ما أصبت في طلبك لها مع علمك بحاجة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها، " فقال: والله ما سألته لألبسها، وإنما سألته لتكون كفني " بعد مماتي، وفي رواية رجوت بركتها حين لبسها النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث: أخرجه الستة.
فقه الحديث: دل الحديث على مشروعية إعداد الكفن في الحياة، لأن(2/375)
434- " بَابُ اتِّباعِ النِّسَاءِ الْجَنَائِزَ "
508 - عن أمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: نُهِيْنَا عَنِ اتِّباعِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا.
435 - " بَابُ احْدَادِ الْمَرأةِ عَلى غَيْرِ زَوْجِهَا "
509 - عنْ أمِّ حَبيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لَا يَحِل لامْرَأةٍ تُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ إلَّا عَلَى زَوْج أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر ابن عوف على ذلك. والمطابقة: في قوله: " وإنما سألته لتكون كفني ".
434- " باب اتباع النساء الجنائز "
508 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى النساء ومنعهن عن تشييع الجنائز والخروج معها إلاّ أنه لم يشدد عليهن في ذلك. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجة.
فقه الحديث: دل الحديث على كراهية تشييع النساء للجنائز تنزيهاً لا تحريماً، وهو مذهب الجمهور حيث حملوا النهي على الكراهة لقول أم عطية: " ولم يعزم علينا ". ورخص مالك في ذلك لغير الشابة، وقال أبو حنيفة: لا ينبغي كما أفاده القسطلاني. والمطابقة: في قولها: " نهينا عن اتباع الجنائز ".
435 - " باب حد المرأة على غير زوجها "
509 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث "، أي لا يجوز لامرأة مؤمنة أن تلبس(2/376)
436 - " بَابُ زِيَارَةِ القُبُورِ "
510 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
مَرَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِامْرأةٍ تبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: " اتَّقِي اللهَ واصْبِرِي " فَقَالَتْ: إليْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي، ولَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثياب الحزن، وتهجر الزينة لموت أحد أقاربها، سواء كان أباً أو أخاً أو عماً أو ولداً، أكثر من ثلاثة أيام، " إلاّ على زوج أربعة أشهر وعشراً "، أي إلّا الزوج فإنها تحد عليه عند موته، وتترك الزينة لفقده مدة أربعة أشهر وعشرة أيام. الحديث: أخرجه الستة.
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز إحداد المرأة على وفاة أحد أقاربها ما عدا الزوج مدة ثلاثة أيّام فقط، وما زاد على ذلك فهو حرام. ثانياًً: مشروعية إحداد المرأة على زوجها أربعة أشهر وعشراً.
والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث ".
436 - " باب زيارة القبور "
510 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبر "، وفي رواية أبي داود " تبكي على صبي لها " " فقال: اتقي الله واصبري "، أي فأمرها بالخوف من عقوبة الله لها على رفع صوتها بالبكاء، وأمرها بالصبر على القضاء، " فقالت إليك عني " أي دعنى وشأني فإنك لا تحس بما أحس به من ألم الفراق وإلا لعذرتني، " فقيل لها: " إنه النبي - صلى الله عليه وسلم - "، أي فأخبرها الفضل بن العباس رضي الله عنهما أنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذهبت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " فقالت: لم أعرفك " أي فاعتذرت إليه - صلى الله عليه وسلم -. بأنها(2/377)
إنَّهُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأتَتْ بَابَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فلمْ تَجِدْ عِنْدَه بَوَّابينَ فَقَالَتْ: لَمْ أعْرِفْكَ، فَقَالَ: " إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأولَى ".
437 - " بَاب مَا يكْرَة مِنَ النياحَةِ على الْمَيِّتِ "
511 - عَنِ الْمغِيرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْه قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لم تكن تعرفه، " فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى " أي إنما الصبر الكامل الذي يجازى عليه بغير حساب هو الصبر عند أول وقوع المصيبة ونزول البلاء، حين يكون وقعه على النفس أليماً، ومرارته شديدة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي.
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية زيارة القبور للرجال والنساء معاً، قال النووي: وبالجواز قطع الجمهور، وأما ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " لعن زوّارات القبور " فقد كان قبل الترخيص لهن كما قال أهل العلم (1) . ثانياً: الترغيب في الصبر عند أول وقوع المصيبة، لما يترتب على ذلك من عظيم المثوبة والأجر عند الله تعالى، حيث يؤجر على ذلك بغير حساب. كما قال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) فالصبر عند أوّل نزول البلاء هو الذي يثاب عليه بغير حساب كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الصبر عند الصدمة الأولى ". والمطابقة: في قول أنس رضي الله عنه: " مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبر " فإن إقراره - صلى الله عليه وسلم - لزيارتها لقبر فقيدها دليل على مشروعية زيارتها. وإذا جازت زيارة القبور للنساء فجوازها للرجال من باب أولى.
437 - " باب ما يكره من النياحة على الميت "
511 - معنى الحديث: يقول المغيرة بن شعبة رضي الله عنه:
__________
(1) وأن اللعن للمكثرات من الزيارة، والإذن بالزيارة عام بعد المنع، إذا أمنت الفتنة. (ع) .(2/378)
سَمِعْتُ النبِي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ كَذِبَاً علَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلى أحَدٍ، مَنْ كَذَبَ علَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "مَنْ نِيحَ عَليْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَليهِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن كذباً علي ليس ككذب على أحد "، أي إن الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - جريمة عظمى لا يساويه أي كذب على شخص آخر لما فيه من الافتراء على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتغيير ما أنزل الله، والزيادة في شرع الله ما ليس منه، وقد قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) ، ولا شك أن من افترى على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد افترى على الله: " من كذب عليَّ متعمداً " أي قاصداً الكذب، " فليتبوأ مقعده من النار " أي فليتخذ له منزلاً في نار جهنم، " وسمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: من نيح عليه "، أي من بكى عليه أهله عند موته بصوت مرتفع " يعذب بما نيح عليه "، أي فإنه يعذب بسبب بكائهم عليه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه تحرم النياحة على الميت وهي رفع الصوت في البكاء عليه مع ذكر محاسنه وفضائله بصوت مرتفع لما فيه من تعذيب الميت. ثانياً: أن الميت يعذب بالنياحة والبكاء عليه، بصوت مرتفع وهذا إذا كانت النياحة من عادته وسنته، أو أوصى بذلك قبل وفاته كما فعل طرفة بن العبد حيث قال:
إذَا مِتُّ فَانْعِيْني بِمَا أنا أهْلُهُ ... وَشُقِّي عَلىَّ الجَيْبَ يا ابْنَةَ مَعْبدِ
أما إذا لم يكن هذا ولا ذاك، فإن الميت يعذب ببكائهم نفسياً حيث يتألم ويحزن لحزنهم. كما روي عن صفية بنت مخرمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليبكي فيستعبر إليه صاحبه فيا عباد الله لا تعذبوا موتاكم " أخرجه ابن أبي شيبة وقد اختار هذا المعنى جماعة من الأئمة(2/379)
438 - " بَاب لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الجُيُوبَ "
512 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلَيَّةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
منهم ابن جرير وابن تيميّة كما أفاده السيوطي. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من نيح عليه يعذب ".
438 - " باب ليس منا من شق الجيوب "
512 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " ليس منا " قال الحافظ: أي ليس من أهل سنتنا وطريقتنا، وليس المراد به إخراجه من الدين، ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك، " من لطم الخدود " أي من أظهر الجزع والحزن والسخط على قدر الله في أفعاله فلطم الخدود. قال الحافظ: وخص الخد بذلك لأنه الغالب، وإلّا فضرب الوجه داخل في ذلك، " وشق الجيوب " جمع جيب وهو ما يفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس. أي وشق ثيابه من شدة الجزع " ودعا بدعوى الجاهلية " أي وناح على الميت كما كانوا يفعلون في الجاهلية.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم التعبير عن الحزن باستعمال اليد في شق الثياب، وضرب الوجوه، واستعمال اللسان في النياحة.
الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.(2/380)
439 - " بَابُ مَنْ جَلَسَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ يُعْرَف فِيهِ الْحُزْنُ "
513 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
" لَمَا جَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ وجَعْفَرٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ، وأنا أنْظُرٌ مِنْ صَائِر الْبَابِ، فَأتَاهُ رَجُلٌ فقالَ: إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ، وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فأمَرَهُ أنْ يَنْهَاهُنَّ فَذَهَبَ، ثُمَّ أتَاهُ الثَّانِيَةَ لَمْ يُطِعْنَهُ، فَقَالَ: انْهَهُنَّ، فأتَاهُ الثَّالِثَةَ، قَالَ: وَاللهِ غَلَبنَنَا يَا رَسولَ اللهِ، فَزَعَمَتْ أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فاحث في أفْوَاهِهِنَّ الترابَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
439 - " باب من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن "
513 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " لما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل ابن حارثة وجعفر وابن رواحة " أي لما جاء الخبر للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن استشهاد هؤلاء الثلاثة عن طريق الوحي، " جليس يعرف فيه الحزن " أي جلس للعزاء، وقد ظهر الحزن على وجهه الشريف - صلى الله عليه وسلم -، " وأنا أنظر من صائر (1) الباب " أي من الموضع الذي ننظر منه إلى خارج البيت، " فأتاه رجل فقال: إن نساء جعفر وذكر بكاءهن " أي وأخبره أن زوجة جعفر أسماء بنت عميس، وبعض أقاربه قد رفعن أصواتهن بالبكاء عليه، " فأمره أن ينهاهن " عن رفع أصواتهن بالبكاء عليه، فمنعهن عن ذلك مرتين، " فأتاه الثالثة " أي في المرة الثالثة، " فقال: والله غلبننا " أي عصيننا حتى عجزنا عن إسكاتهن، " قال: فاحث في أفواههن التراب "، أي فخذ حفنة من تراب وألقها في أفواههن لكتم أصواتهن، والمراد بذلك المبالغة في الزجر.
الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
__________
(1) صائر الباب هو الشق الذي في الباب الذي ينظر منه إلى داخله.(2/381)
440 - " بَابُ مَنْ لَمْ يظْهِر حُزْنهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ "
514 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
اشْتَكَى ابْنٌ لأبي طَلْحَةَ، قَالَ: فَمَاتَ وأبو طَلْحَةُ خَارِجٌ، فَلمَا رَأتْ امْرَأتهُ أنَّهُ قدْ مَاتَ، هَيَأت شَيْئاً ونَحَّتْهُ في جَانِبِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا جَاءَ أبو طَلْحَةَ قَالَ: كَيْفَ الْغُلامُ؟ قَالَتْ: هَدَأت نَفْسُهُ، وأرْجُو أن يَكُونَ قَدْ استَرَاحَ، وَظَنَّ أبُو طَلْحَةَ أنَّهَا صَادِقَة، قَالَ: فَباتَ، فلمَّا أصْبَحَ اغْتَسَل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز ظهور الحزن على الوجه لأنه أمر طبيعي لا قدرة للمرء على دفعه، وقد جلس النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرف الحزن في وجهه كما في الحديث وإنما الذي يحرم هو رفع الصوت بالبكاء، ولذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - باسكات نساء جعفر رضي الله عنه. ثانياً: مشروعية الجلوس لتقبّل العزاء كما ترجم له البخاري لقولها: " جلس يعرف فيه الحزن ".
والمطابقة: في قولها رضي الله عنها: " جلس يعرف فيه الحزن ".
440 - " باب من لم يظهر حزنه عند المصيبة "
514 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " مات ابن لأبي طلحة رضي الله عنه " وهو أبو عمير الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يداعبه بقوله: " يا أبا عمير ما فعل النغير " " فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئاً " أي أحضرت طعاماً شهياً ولبست وتهيأت لزوجها " ونحته في جانب البيت " أي وغسلت ابنها، وكفنته، وأخفته في جانب من البيت لئلا يراه، " فلما جاء أبو طلحة قال: كيف الغلام؟ قالت: قد هدأت نفسه وأرجو أن يكون قد استراح " أي قد سكنت روحه عن الحركة في جسمه واستراح من مرضه بالموت. فظن أبو طلحة أن الصبي قد تحسنت صحته، وسكنت(2/382)
فَلَمَّا أرَادَ أنْ يَخْرُج أعْلَمَتْهُ أَنَّه قَدْ مَاتَ، فصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ أخْبَرَهُ بما كَانَ مِنْهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَعَلَّ اللهَ أنْ يُبَارِكَ لَكُمَا في لَيْلَتِكُمَا " قَالَ سُفيَان: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَرَأَيْتُ لَهُ تِسْعَةَ أولادٍ كُلُّهُمْ قَد قَرأ الْقُرْآنَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
آلامه وأخلد إلى النوم " فبات " فبات في أسعد ليلة وأكل هنيئاً، ولاعب زوجته وباشرها، " فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات، فصلّى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم أخبره بما كان بينهما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما "، أي أرجو الله أن يبارك لكما في ليلتكما ويعوضكما عن فقيد كما بالخلف الصالح، فاستجاب الله دعوة نبيّه - صلى الله عليه وسلم - " قال سفيان بن عيينة: فقال رجل من الأنصار: فرأيت له تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن " جزاء لهما على صبرهما.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الحزن وإن كان أمراً طبيعياً إلاّ أنه يمكن التغلب عليه بالصبر والاحتساب، كما فعلت هذه الصحابية الجليلة حيث تملكت نفسها، وسيطرت على أحزانها، وكفت مدامعها، وأخفت آلامها النفسية عن زوجها، وهيأت له كل أسباب الراحة، وهي في أشد حالات الألم حتى باشرها، وبات هنيئاً سعيداً، ولم تخبره حتى صبيحة تلك الليلة. وهكذا ضربت هذه المرأة أروع المثل في الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، والتسليم لأمر الله في الضراء. ثانياًً: فضل الصبر وعاقبته الحميدة والتعويض العاجل لكل من صبر عند الصدمة الأولى، كما عوض الله هذه الصحابية الجليلة عن ولدها هذا بتسعة أولاد من أهل القرآن. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: ظاهرة في هذه القصة العجيبة، كما قال العيني.(2/383)
441 - " بابُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - " إِنَّا بِك لَمَحْزُونونَ "
515 - عن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على أبِي سَيْفٍ القَيْنِ وَكَانَ ظِئْراً لِإبراهِيمَ، فأخَذَ - صلى الله عليه وسلم - إبراهِيمَ، فَقَبَّلَهُ وشَمَّهُ، ثم دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ عَوْفٍ: وأنتَ يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ: " يا ابْنَ عَوْفٍ إنها رَحْمَة " ثُمَّ أتبعَهَا بأخْرَى فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ الْعَيْنَ تَدمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، ولا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنا، وإنَّا لِفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
441 - " باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنا بك لمحزونون "
515 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه عن قصة وفاة إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مارية القبطية، فيقول: " دخلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سيف القين " أي الحداد، واسمه البراء بن أوس، " وكان ظئراً لإبراهيم " أي أباً له من الرضاعة لأن زوجته خولة بنت المنذر قد أرضعت إبراهيم رضي الله عنه، " ثم دخلنا عليه بعد " أي بعد ذلك بمدة من الزمن، " وإبراهيم يجود بنفسه " أي وإبراهيم في حال النزاع على وشك أن تفيض روحه، "فجعلت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تذرفان" بكسر الراء أي تفيضان بالدموع " فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله " قال القسطلاني: العطف على محذوف تقديره: الناس لا يصبرون عند المصائب ويتفجعون، وأنت يا رسول الله تفعل كفعلهم مع حثك على الصبر ونهيك عن الجزع، " فقال: يا ابن عوف إنها رحمة " أي رقة في القلب تجيش في(2/384)
النفس عند فراق الأحبة، فتبعث على حزن القلب، وبكاء العين، وهي غريزة لا يلام عليها، وليست من الجزع في شيء " ثم أتبعها بأخرى " أي أتبع الدمعة الأولى بالدمعة الثانية، " فقال: إن العين تدمع، والقلب يحزن " بمقتضى الغريزة التي فطر الله عليها خلقه، " ولا نقول إلاّ ما يرضي ربنا " من الحمد والاسترجاع، وسؤال الخلف الصالح " وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون "، أي وليس الحزن من فعلنا، ولكنه أمر أودعه الله فينا وأوقعه في قلوبنا، فلا نلام عليه إلاّ إذا قلنا أو فعلنا ما لا يرضي ربنا. اهـ. كما أفاده القسطلاني. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز البكاء عند المصيبة لأنه ظاهرة طبيعية تنشأ عن غريزة الحزن التي فطر الله عليها الخلق، وعن رقة القلب التي خلقه الله عليها، كما قال - صلى الله عليه وسلم - " إنها رحمة ". وقد خلق الله في الإِنسان الضحك والبكاء، كما خلق فيه الموت والحياة، (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا) وهما سر من أسرار التكوين البشري، لا يدري أحد كيف هما، ولا كيف يقعان في هذا الجهاز الجسمي المعقد، وتعقيده النفسي لا يقل عن تعقيده العضوي الذي تتداخل المؤثرات النفسية والعضوية فيه وتتفاعلان كما أفاده في " في ظلال القرآن " (1) . ثانياًً: أن الواجب على المؤمن أن لا يقول عند المصيبة، ولا يفعل إلاّ ما يرضي الله عز وجل، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: لا نقول إِلا ما يرضى ربنا ".
***
__________
(1) " في ظلال القرآن " لسيد قطب المجلد السادس.(2/385)
442 - " بَابُ البُكَاءِ عِنْدَ الْمَرِيض "
516 - عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ فأتَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُه مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وسعدِ بْنِ أبي وَقَّاصٍ وعبدِ اللهِ بْنِ مَسعُودٍ، فلمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ في غاشِيَةِ أهْلِهِ، فقَالَ: قَدْ قَضَى؟ قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللهِ فبكَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فلمَّا رَأى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بَكَوْا، فَقَالَ: " ألا تَسْمَعُونَ إنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ بِدَمْع الْعَيْنِ، ولا بِحُزْنِ القَلْبِ، ولكنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا وأشَارَ إلى لِسَانِهِ أوْ يَرْحَمُ، وَإنَّ المَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أهْلِهِ عَلَيْهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
442 - " باب البكاء عند المريض "
516 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " اشتكى سعد بن عبادة شكوى له " أي اشتكى من مرض أصابه وألزمه الفراش " فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده فلما دخل عليه، فوجده في غاشية أهله " أي وجده مغمى عليه بين أهله، " فقال: قضى؟ "، أي هل مات، " قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي - صلى الله عليه وسلم - " إشفاقاً وحزناً عليه، " فقال: ألا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب " أي إن الله لا يعاقب الإِنسان ولا يجازيه على بكائه وحزنه، لأنهما خارجان عن إرادته " ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم " أي وإنما يحاسب الله الإنسان على ما يصدر من لسانه فيعذبه، أو يثيبه بسببه. فإن قال ما يغضب الله من النياحة أو الضجر والجزع عاقبه الله، وإن قال ما يرضي الله من الحمد والاسترجاع أنعم الله عليه في الدنيا بالخلف، وفي الآخرة بالجنة. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " فبكى النبي - صلى الله عليه وسلم - ".(2/386)
443 - " بَابُ مَا يُنْهَى عَنِ النَّوْحِ والبُكَاءِ والزَّجْرِ عَنْ ذَلِك "
517 - عن أمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
" أخذَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ الْبَيْعَةِ أنْ لا نَنُوحَ، فَمَا وَفَّتْ مِنَّا امْرَأة غَيْرُ خَمس نِسْوَةٍ: أمُّ سُلَيْم، وأمُّ العَلاءِ، وابْنةُ أبي سَبْرَةَ امرأةُ مُعَاذٍ، وامْرَأتَانِ، أوْ ابْنَةُ أبِي سَبْرَةَ، وامرأةُ مَعَاذَ، وامْرَأة أُخْرَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقه الحديث: دل الحديث على جواز البكاء على المريض والميت في دون صوت ودون جزع أو سخط.
443 - " باب ما ينهى من النوح والبكاء والزجر عن ذلك "
517 - معنى الحديث: تقول أم عطية رضي الله عنها: " أخذ علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي أخذ علينا العهد عند البيعة، " أن لا ننوح " أي لا نرفع أصواتنا بالبكاء على الميت، " فما وَفَتْ منا امرأة غير خمس " أي فما وفى منّا أحدٌ بالعهد غير هؤلاء الخمسة (1) . الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
فقه الحديث: دل الحديث على تحريم النياحة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ البيعة على النساء بتركها. ولهذا عدها العلماء من الكبائر (2) ويؤكد ذلك حديث أبى سعيد قال: " لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النائحة والمستمعة " أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي. والمطابقة: في قولها: " أخذ علينا عند البيعة أن لا ننوح ".
__________
(1) المذكورات في آخر الحديث.
(2) " المنهل العذب " ج 9.(2/387)
444 - " بَاب مَتى يَقْعُدُ إذَا قَامَ لِلْجَنَازَةِ "
518 - عَنْ عَامِرِ بْن رَبِيعَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا رَأى أحَدُكُمْ جِنَازَةً فَإِنْ لمْ يَكُنْ مَاشِيَاً مَعَهَا فَلْيَقُمْ حَتَّى يُخَلِّفَهَا، أو تُخَلِّفَه، أو تُوضَعَ مِنْ قبلِ أنْ تُخَلِّفَهُ ".
519 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
"أنَّهُ أخذَ بِيَدِ مَرْوَانَ وَهُمَا في جَنَازَةٍ، فَجَلَسا قَبْلَ أنْ تُوضَعَ، فَجَاءَ أبو سعِيدٍ رضِيَ اللهُ عَنْهُ فأخَذ بيدِ مَرْوَان فقال: قمْ فوَاللهِ لقدْ عَلِمَ هَذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
444 - " باب متى يقعد إذا قام للجنازة "
518 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأى أحدكم جنازة فإن لم يكن ماشياً معها فليقم حتى يخلّفها أو تخلِّفه " (بضم الياء والتاء وتشديد اللام فيهما) أي حتى يفارقها أو تفارقه، " أو توضع من قبل أن تخلفه " سواء كان الميت مسلماً أو كافراً. الحديث: أخرجه أيضاً الجماعة.
فقه الحديث: دل الحديث على مشروعية القيام للجنازة، وهو قول ابن عمر وابن مسعود وأحمد (1) وبعض المالكية، والجمهور على أنّه منسوخ لحديث علي رضي الله عنه: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام للجنازة ثم قعد بعد ": أخرجه مسلم والنسائي وأحمد والترمذي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " حتى يخلفها ".
519 - معنى الحديث: أن أبا هريرة " أخذ بيد مروان وهما في جنازة فجلس قبل أن توضع " عن أعناق الرجال، " فجاء أبو سعيد " الخدري رضي الله عنه " فأخذ بيد مروان " أي فأمسك بيده، "فقال: قم، فوالله
__________
(1) " هداية الباري " للطهطاوي ج 1.(2/388)
أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَانَا عنْ ذَلِكَ، فقالَ أبو هُرَيْرَةَ: صَدَقَ".
445 - " بَابُ مَنْ قَامَ لِجَنَازَةِ يَهُودِيٍّ "
520 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
مَرَّ بِنَا جَنَازَةٌ فَقَامَ لَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقمْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهَا جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقالَ: " إذَا رَأيْتُمْ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لقد علم هذا" يعني أبا هريرة " أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن ذلك " أي نهانا عن الجلوس قبل أن توضع الجنازة على الأرض. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ.
فقه الحديث: دل الحديث على كراهية الجلوس قبل وضع الجنازة على الأرض وهو مذهب أبي حنيفة، خلافاً للشافعي ومالك حيث قالوا: إن هذه الأحاديث منسوخة. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة.
445 - " باب من قام لجنازة يهودي "
520 - معنى الحديث: يقول جابر: " مر بنا جنازة " أي مرت بنا كما في رواية أخرى " فقام لها النبي - صلى الله عليه وسلم - " عند مرورها، " فقلنا: يا رسول الله إنها جنازة يهودي " أي فكيف تقوم وفي القيام تعظيم لها وهي جنازة يهودي، " فقال: إذا رأيتم الجنازة فقوموا "، سواء كان مسلماً أو كافراً تعظيماً لله تعالى، وفزعاً من الموت. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " إذا رأيتم الجنازة فقوموا ".
فقه الحديث: دل الحديث على استحباب القيام للجنازة سواء كان مسلماً أو كافراً، وهو مذهب ابن عمر وابن مسعود وابن حبيب وابن الماجشون من المالكية، خلافاً للجمهور، والحكمة فيه تعظيم أمر الله وصفات قهره(2/389)
446 - " بَابُ حَمْلِ الرِّجَالِ الْجَنَازَةَ دُونَ النِّسَاءِ "
521 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا وُضِعَتِ الْجَنَازَةُ وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أعْنَاقِهِمْ، فإنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي، وإنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا أينَ تَذْهَبُونَ بِهَا، يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيءٍ إلَّا الإِنسَانَ وَلَوْ سَمِعَهُ لَصَعِقَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وجلاله، واحترام الروح الإنسانية التي أودع الله فيها سر الحياة من أمر الله تعالى، وقد نسخ القيام بعد ذلك. وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قام لجنازة يهودي، وقال: " أليست نفساً " أخرجه البخاري، وفي رواية " إنما تقومون للذي يقبض النفوس " أخرجه الحاكم.
446 - " باب حمل الرجال الجنازة دون النساء "
521 - معنى الحديث: يحدثنا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه:
" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: - إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم " أي حملوا النعش فوق أعناقهم، " فإن كانت صالحة قالت: قدموني " أي قالت أثناء سيرهم بها: أسرعوا بي، لما تراه أمامها من نعيم وسعادة، " وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها " أي يا هلاكها، وعذابها لما ترى من الخطر وسوء المصير، " ويسمع صوتها كل شيء إلاّ الِإنسان، ولو سمعه لصعق " أي ولو سمع الإِنسان صوت الميت وهو يصرخ بذلك لهلك.
الحديث: أخرجه النسائي أيضاً. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " واحتملها الرجال ".
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الجنازة يحملها الرجال لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " واحتملها الرجال على أعناقهم "، فإن كلام الشارع كله تشريع(2/390)
447 - " بَابُ السُّرْعَةِ بِالْجَنَازَةِ "
522 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " أسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ، فإنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَها إلَيْهِ، وإن تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ ".
448 - " بَابُ فضل اتِّباعِ الْجَنَائِزِ "
523 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولو كان خبراً. ثانياً: أن روح الميت تتكلم وهو فوق النَّعْش وترى مصيرها، فالسعيدة تقول: قدموني، والشقية تقول: يا ويلها. وقال مجاهد: إذا مات الميت فما من شيء إلاّ وهو يراه عند غسله وعند حمله حتى يصل إلى قبره.
447 - " باب السرعة بالجنازة "
522 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه "، أي فإنما تسرعون بها إلى نعيمها وسعادتها وإلى روضة من رياض الجنة، " وإن تك سوى ذلك فشرٌّ تضعونه عن رقابكم "، أي: فإن تلك الجنازة الشقية شر فوق أعناقكم فسارعوا إلى التخلص منه.
فقه الحديث: دل الحديث على استحباب الإِسراع. بالجنازة لمصلحة الميت إن كان سعيداً، أو لمصلحة المشيعين إن كان شقياً، وحمل ابن حزم الأمر على الوجوب. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أسرعوا بالجنازة ".
448 - " باب فضل اتباع الجنائز "
523 - معنى الحديث: أن ابن عمر رضي الله عنهما سمع أن أبا(2/391)
أنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ أُبا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: " مَنْ تَبعَ جَنَازَةً فَلَهُ قِيرَاط، فَقَالَ: أكْثَرَ أبو هُرَيْرَةَ عَلَيْنَا، فَصَدَّقَتْ عَائِشَةُ أُبا هُرَيْرَةَ، وَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُهُ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرارِيطَ كَثِيرَةٍ ".
449 - " بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ اتِّخاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ "
524 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ في مَرَضِهِ الذي مَاتَ فِيهِ: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هريرة يقول: " من تبع جنازة فله قيراط " أي من خرج معها، وصلى عليها فقط كان له من الأجر قيراط، وهو مثل أحد، أما من صلى عليها وتبعها حتى يفرغ -أي حتى يُنتهى من دفنها- فله قيراطان كما في الرواية الأخرى، " فقال: أكثر أبو هريرة " وذلك لأنه ظن أنه قال ذلك باجتهاده، " فصدّقت عائشة أبا هريرة " ورفعت حديثه هذا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " من تبع جنازة فله قيراط ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنّ من شيع الجنازة من بيتها وصلى عليه له قيراط، وكذلك من خرج معها ولم يصل عليها إلّا أن الأول قيراطه أكبر، ومن صلى عليها وتبعها إلى مثواها الأخير فله قيراطان.
ثانياًً: استدل به الحنفية على تفضيل المشي خلف الجنازة، لأن الاتباع هو المشي خلف الشيء، وذهب الجمهور إلى تفضيل المشي أمامها، حيث حملوا الاتباع على المرافقة والمصاحبة.
449 - " باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور "
524 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم -(2/392)
والنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أنبِيَائِهِم مَسَاجِدَ" قَالَتْ: وَلَوْلا ذَلِكَ لأبرزُوا قَبْرَهُ، غَيْرَ أنَّي أخْشَى انْ يُتَّخَذَ مَسْجِداً.
450 - " بَابُ الصَّلَاةِ على النُّفَسَاءِ إِذَا مَاتتْ في نِفَاسِهَا "
525 - عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى امْرأةٍ ماتَتْ في نِفَاسِهَا فَقَامَ عَلَيْهَا وسَطَهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" قال في مرضه الذي مات فيه: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " أي دعا عليهم بالطرد من رحمة الله لأنهم بنوا المساجد على قبور أنبيائهم " ولولا ذلك لأبرز قبره " أي لكشف قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يُتَّخذ عليه الحائل. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - لعنهم لأنّهم اتخذوا القبور مساجد.
ويستفاد منه: أنه لا يجوز البناء على القبر لأنه - صلى الله عليه وسلم - لعن اليهود والنصارى على فعله. قال الشيخ حبيب الله الشنقيطي في " شرح زاد المسلم ": والحكمة فيه " أنه ربما يصير بالتدريج شبيهاً بعبادة الأصنام ".
450 - " باب الصلاة على النفساء إذا ماتت في نفاسها "
525 - معنى الحديث: يقول سمرة بن جندب رضي الله عنه:
" صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - على امرأة ماتت في نفاسها " أي على امرأة حديثة العهد بالولادة، " فقام - صلى الله عليه وسلم - في وسطها " أي فوقف منها حذاء وسطها.
الحديث: أخرجه الشيخان.
دل الحديث على ما يأتي: أولاً: قال العيني: فيه إثبات الصلاة على النفساء وإن كانت شهيدة، كما ترجم له البخاري. ثانياً: مشروعية وقوف(2/393)
451 - " بَابُ قِراءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْجَنَازَةِ "
526 - عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّهُ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَقَرَأ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَقَالَ لِيَعْلَمُوا أنهَا سُنَّةٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الإِمام عند الصلاة على المرأة حذاء وسطها، نفساء أو غير نفساء، وهو مذهب أحمد والشافعي، وقال الحنفية: يقوم بحذاء صدر الميت رجلاً أو امرأة إشارة إلى الشفاعة، لأن الصدر موضع الإِيمان، وقال مالك: يقوم عند منكبي الرجل ووسط المرأة، كما أفاده في " الرسالة " وقال أحمد والشافعي: يقف عند رأس الرجل وحذاء وسط المرأة (1) . والمطابقة: في قوله: " صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - على امرأة ماتت في نفاسها ".
451 - " باب قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة "
526 - معنى الحديث: " أنه " أي ابن عباس رضي الله عنهما " صلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب " أي فقرأ في صلاته على الجنازة بفاتحة الكتاب " وقال: ليعلموا أنّها سنة " أي ليعلموا أن قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة سنة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وبهذا أصبح الحديث مرفوعاً، لأنّ المراد بالسنة هنا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكأنه قال: إنما قرأ ابن عباس بفاتحة الكتاب في صلاة الجنازة ليعلموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ الفاتحة فيها. ولا شك أن الصحابي إذا قال فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا فإنه حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك إذا قال: السنة كذا، وأراد منها فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فقه الحديث: دلّ الحديث على مشروعية قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة
__________
(1) ورواية عن أبي حنيفة رحمه الله كما في " الهداية " أن يقوم الرجل بحذاء رأسه ومن المرأة بحذاء وسطها، لأن أنساً رضي الله عنه فعل ذلك، وقال: هو السنة اهـ.(2/394)
452 - " بَابُ المَيِّتِ يَسْمَعُ خفْقَ النِّعَالِ "
527 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ في قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى، وَذَهَبَ أصْحَابُهُ حتى إِنَّهُ لَيَسمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أتَاهُ مَلَكَانِ فأقْعَدَاهُ، فَيَقُولانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَيَقُولُ: أشْهَدُ أنَّهُ عَبْدُ اللهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بعد تكبيرة الإِحرام لقوله: " ليعلموا أنّها سنة " أي ليعلموا أن قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة سنة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الترمذي: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وهو قول الشافعي وأحمد وقال أبو حنيفة ومالك: لا يقرأ فيها بالفاتحة، وإنما يقتصر فيها على الثناء على الله (1) والصلاة على نبيه - صلى الله عليه وسلم - لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء ". والمطابقة: في قوله: " صلى على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب ". الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي.
191 - " باب الميت يسمع خفق النعل "
527 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه: " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: العبد إذا وضع في قبره، وتولى، وذهب أصحابه " أي إذا دفن وبدأ أصحابه ينصرفون عنه، " حتى إنه ليسمع قرع نعالهم "، أي في ذلك الوقت الذي يسمع فيه صوت نعال المشيعين، وهي تضرب الأرض أثناء مشيهم، " أتاه ملكان فأقعداه فيقولان " أي جاءه ملكان، وهما منكر ونكير فيجلسانه فيقولان له: " ما كنت تقول في هذا الرجل محمد - صلى الله عليه وسلم - " ولم يقولا ما تقول في هذا النبي أو غيره من ألفاظ التعظيم، لقصد امتحان
__________
(1) فيقول: الحمد لله الذي أمات وأحيا والحمد لله الذي يحيي الموتى له العزة والكبرياء والملك والقدرة والثناء.(2/395)
وَرَسُولُه، فَيُقَالُ: انْظر إلى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أبدَلَكَ اللهُ مَقْعَداً مِنَ الْجَنَّةِ -قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : فَيَراهُمَا جَمِيعاً، وأما الكَافِرُ أوِ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ: لا أدْرِي! كُنْتُ أقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لَا دَرَيْتَ ولَا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطرقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهُ مَنْ يَلِيهِ إلَّا الثَّقَلَيْنِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المسؤول، ولكن يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت " فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله "، أي فيقول المؤمن الصادق الإيمان: أشهد أن هذا الرجل - الذي تشيرون إليه هو عبد الله ورسوله، فيشهد لمحمد بالرسالة، بتوفيق وتثبيت من الله تعالى، وذلك لأنه كان في دنياه مؤمناً موقناً برسالته - صلى الله عليه وسلم - " فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله مقعداً من الجنة " أي فيكشف الله له عن منزله في النار الذي أبدله به منزلاً في الجنة " وأما الكافر والمنافق فيقول: لا أدري " (1) أي ما كنت في الدنيا أجزم بشيء فيما يتعلق برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأن الكافر كان ينكرها، والمنافق يشك فيها، ولم يعرف اليقين سبيلاً إلى قلبيهما. " فيقال: لا دريت ولا تليت " أي لا عرفت الحق بنفسك، ولا اتبعت أهل الحق في إيمانهم به، " ثم يضرب بمطرقة من حديد بين أذنيه " لو ضرب بها جبل لصار تراباً كما في الأحاديث الأخرى " فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلاّ الثقلين " أي يسمع صوت صيحته كل الخلائق (2) إلا الأنس والجن وذلك رحمة بهم، وابقاءً على حياتهم، لأنهم لو سمعوها لصعقوا.
__________
(1) أي أقول ما يقول أهل الكفر: -وهذا حال الكافر- وأقول بلساني فقط دون القصد من قلبي: وهو حال أهل النفاق في الدنيا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.
(2) أي كل الخلائق الذين هم بالقرب منه.(2/396)
453 - " بَابُ مَنْ أَحَبَّ الدَّفْنَ في الأرْضِ الْمُقَدَّسَةِ أوْ نحْوِهَا "
528 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
"أرْسِلَ مَلَكُ الْمَوتِ إِلى مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلام، فَلمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ، فَرَجِعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ: أرْسَلْتَنِي إلَى عَبْدٍ لا يُرِيدُ الْمَوْتَ، فَرَدَّ اللهُ لَهُ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ فَقلْ لَه يَضَعُ يَدَة عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ بِهِ يَدهُ بِكلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ قَالَ: أيْ رَبِّ! ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ، قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الميت يسمع خفق نعال الشيعين كما ترجم له البخاري. وقد عقد السيوطي في " شرح الصدور " باباً مستقلاً قال فيه: باب معرفة الميت من يغسله ويجهزه، وسماعه ما يقال فيه، وما يقال له، وأورد فيه الأحاديث المتعلقة بذلك. ثانياً: إثبات عذاب القبر، وهو مذهب أهل السنة خلافاً لبعض المعتزلة. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " حتى إنه ليسمع قرع نعالهم ". الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي وأبو داود وابن ماجة.
453 - " باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة أو نحوها "
أي هذا باب يذكر فيه من أحب أن يدفن في بيت المقدس اقتداءً بموسى عليه الصلاة والسلام، كما أفاده القسطلاني والعيني.
528 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " أرسل ملك الموت إلى موسى " أي أرسل إليه ليقبض روحه، " فلما جاءه صكه " أي ضربه على عينه ضربة عنيفة فقلعها، ولكن ملك الموت لم يتأثر بذلك لأن هذه العين التي اقتلعها عين صورية بمنزلة اللباس الذي يلبسه الشخص، وإنما لطمه لأنه لم يعرفه، أو أقدم على قبض روحه دون تخييره، والأنبياء(2/397)
فَالآنَ، فَسَألَ اللهَ أنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لأرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إلَى جَانِبِ الطرَّيقِ عِنْدَ الكَثِيْبِ الأحْمَرِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يخيّرون قبل موتهم، " فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فرد الله له عينه قال: ارجع فقل له: يضع يده على متن ثور " أي على ظهر ثور " فله بكل ما غطت يده بكل شعرة سنة قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت " أي ثم لا بد من الموت، لأنه مصير كل حي، " قال: فالآن " أي ما دام الموت هو النهاية المحتومة التي لا مفرّ منها، فتوفني إليك الآن.
" فسأل الله أن يدنيه " أي يقربه " من الأرض المقدسة "، وهي بيت المقدس " رمية بحجر " قال العيني: أي سأل الله تعالى الدنو من بيت المقدس ليدفن فيه، دنواً لو رمى رام الحجر من ذلك الموضع الذي هو الآن موضع قبره لوصل إلى بيت المقدس " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلو كنتُ ثَمّ " أي لو كنت موجوداً هناك " لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر " أي عند الرمل الأحمر المجتمع هناك. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة ".
فقه الحديث: دل الحديث على فضل الدفن في الأرض - المقدسة، وأنه أمنية الأنبياء والمرسلين، وعباد الله الصالحين، حيث سأل موسى ربه أن يدنيه من بيت المقدس رمية بحجر. وكان الفاروق رضي الله عنه يقول: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك، وموتاً في بلد نبيك - صلى الله عليه وسلم -، وقد حقق الله أمنيته فاستشهد في محراب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وجمع الله له بين الحسنيين رضي الله عنه وأرضاه.(2/398)
454 - " بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الشَّهِيدِ "
529 - عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" كَانَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أحُدٍ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أيّهُمْ أكْثَرُ أخذاً لِلْقُرآنِ، فَإِذا أشِيرَ لَهُ إلى أحَدِهِمَا قَدَّمه في اللَّحْدِ، وَقَالَ: أبردا شَهِيدٌ على هَؤُلاءِ يَومَ الْقِيَامَةِ، وَأمَرَ بِدَفْنِهِم في دِمَائِهِم وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
454 - " باب الصلاة على الشهيد "
529 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد " أي يلفهما في ثوب واحدٍ ويفصل بينهما بالإذخر، " ثم يقول: أيهما أكثر أخذاً للقرآن "، أي ثم يسأل - صلى الله عليه وسلم - عن أكثرهم حفظاً للقرآن وعلماً به، " فإذا أشير إليه " أي فإذا أشار الصحابة إلى أكثرهما حفظاً " قدمه في اللحد " على غيره تكريماً للقرآن وأهله، " وأمر بدفنهم في دمائهم، لم يغسّلوا ولم يصلّ عليهم "، أي بدون غسل ولا صلاة. الحديث: أخرجه أصحاب السنن أيضاً.
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الشهيد لا يغسل ولا يصلّى عليه، وهو مذهب المالكية والشافعية (1) وقال أبو حنيفة: يصلى عليه، ولا يغسل، وقال أحمد: لا يغسل إلاّ إذا كان جنباً لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حنظلة وقد قتل يوم أحد: " ما شأن حنظلة؟ فإني رأيت الملائكة تغسله ". وذلك لأنه جامع أهله وخرج إلى المعركة فاستشهد فغسلته الملائكة ولا يصلّى عليه في أصح الروايتين عند أحمد. ثانياً: جواز الجمع بين عدة أموات في ثوب واحد وقبر واحد، وهو مذهب الجمهور. والمطابقة: في قوله: " ولم يغسلوا ولم يصل عليهم ".
__________
(1) " الإفصاح " لابن هبيرة الحنبلي.(2/399)
530 - عَنْ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ يَوْمَاً فَصَلَّى عَلَى أهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى المَيِّتِ ثُمَّ انْصَرَفَ إلى المِنْبَرِ فَقَالَ: " إِني فَرَط لَكُمْ وإِنى شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ وإنِّي وَاللهِ لأنْظر إلى حَوْضِي الآنَ، وِإنِّى أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأرْض أوْ مَفَاتِيحَ الأرْض، وِإنِّي وَاللهِ مَا أخَافُ عَلَيْكُمْ أنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنِّي أخافُ عَلَيْكُمْ أنْ تَنَافَسُوا فِيهَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
530 - معنى الحديث: يحدثنا عقبة بن عامر " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوماً فصلّى على أهل أحد صلاته على الميت "، أي صلّى عليهم صلاة الجنازة كما يصلي على غيرهم من الموتى العاديين، " ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرط لكم " أي: سابقكم وأول واردٍ منكم على الحوض يوم القيامة، " وأنا شهيد عليكم "، أي وأنا شهيد لكم يوم القيامة بالشهادة في سبيل الله، " وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض " أشار بذلك - صلى الله عليه وسلم - إلى اتساع الدولة الإِسلامية، وكثرة فتوحاتها، وتدفق الأموال عليها، لأنّ من فتح بلداً فكأنما تسلم مفاتيح خزائنه، وامتلك ثرواته وأمواله، " ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها " أي ولكنني أخشى أن يحملكم التنافس على المال والجاه على التنازع فيما بينكم فيودي بكم ذلك إلى العداوة والبغضاء والتقاتل على الدنيا وخيراتها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الصلاة على الشهيد وهو مذهب أبي حنيفة خلافاً للجمهور، لقوله في الحديث: " خرج - صلى الله عليه وسلم - يوماً فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ". ثانياً: التحذير من إقبال الدنيا وفتنتها ومخاطرها، وسيأتي بيان ذلك في موضعه. والمطابقة: في قوله: في قول عقبة رضي الله عنه: " خرج يوماً فصلّى على أهل أحد ".(2/400)
455 - " بَابُ ثَنَاءِ النَّاسُ على المَيِّتِ "
531 - عنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -قَالَ: " أيَّمَا مُسْلِم شَهِدَ لَهُ أرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أدْخَلَهُ اللهِ الْجَنَّةَ "، فَقُلْنَا: وثلاَثةٌ، قَال: " وَثَلاثةٌ "، فَقُلْنَا: واثْنَانِ، قَالَ: " واثْنَانِ " وَلَمْ نَسْأَلهُ عَنِ الْوَاحِدِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
455 - " باب ثناء الناس على الميت "
531 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة "، يعني أن أي إنسان مات على الإِسلام وأثنى عليه أربعة من المسلمين بما يعرفونه عنه من الأعمال الصالحة التي كان يفعلها في حياته وزكّوه بالصلاح الذي يعلمونه عنه دون مداراة أو مجاملة، فإنه يرجى له الجنة، لأن عمله الصالح بشير سعادته إن شاء الله. فالمراد بالشهادة له الثناء عليه بالخير الذي يعلمونه عنه، كما فسره به البخاري، بدليل ما جاء في رواية أنس رضي الله عنه أنه قال: " مرُّوا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال: وجبت، ثم مرّوا بأخرى فأثنوا عليها شراً، فقال: وجبت، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت، قال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض " أخرجه البخاري. فإن هذا الحديث يدل على أن الشهادة للميت معناها الثناء عليه بالخير، وهي في معنى التزكية، والأحاديث يفسر بعضها بعضاً، وليس المراد بقوله: " شهد له أربعة بخير " الشهادة له بدخول الجنة والنجاة من النار، فإن هذا غيبٌ لا يجوز الشهادة به لأحد، إلاّ لمن شهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن القطع لأحد بالجنة أو النار، بدليل ما جاء(2/401)
في الحديث الصحيح عن أم العلاء امرأة من الأنصار، أنه لما توفي عثمان بن مظعون، وغُسِّلَ وكفن في أثوابه، دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله -أي لقد أكرمك الله بالجنة- فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " وما يدريك أن الله أكرمه، أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ". قالت: فوالله لا أزكي أحداً بعده أبداً " أخرجه البخاري والنسائي " فقلنا: وثلاثة؟ فقال: وثلاثة، فقلنا: واثنان، قال: واثنان "، معناه وكذلك إذا شهد له ثلاثة، أو اثنان، فإنه ترجى له الجنة. " ثم لم نسأله عن الواحد " أي فلا ندري هل يكفي أم لا. الحديث: أخرجه الترمذي والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز الثناء على الميت المسلم بما يعلم عنه من الصلاح والخير، وحسن السلوك في حياته، وأن من أثنى عليه اثنان فصاعداً بالاستقامة على الأعمال الصالحة في دنياه، فإنه يرجى له الخير في الدار الآخرة، إن شاء الله، كما يرجى له الفوز بالجنة والنجاة من النار، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وجبت له الجنة ". وليس المراد من الشهادة له أن نشهد له بالجنة، فإن هذا لا يجوز إلاّ لمن شهد له - صلى الله عليه وسلم - بالجنة كما تقدم لنا في شرح الحديث. ثانياًً: أن المعتبر في الثناء على الميت ثناء أهل الفضمل والصدق، لما جاء في الشهادات: المؤمنون شهداء الله في الأرض.
قال القسطلاني: فالمراد المخاطبون بذلك من الصحابة ومن كان على صفتهم في الإيمان، فالمعتبر شهادة أهل الفضل والصدق، لا الفسقة، لأنهم قد يثنون على من كان مثلهم. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة "، فإن المراد به أن الثناء على الميت يبشر بالخير وهو ما ترجم له البخاري.(2/402)
456 - " بَابُ ما جَاءَ في عَذَابِ الْقَبْرِ "
532 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فذكَرَتْ عذابَ الْقَبْرِ، فَقَالَتْ لَهَا: أعاذَكِ اللهُ من عذَابِ الْقَبْرِ، فسألَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن عَذَابِ الْقَبْرِ، فَقَالَ: " نَعَمْ عَذَابُ القبْرِ " قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهَا: فما رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعدُ صَلَّى صَلَاةً إلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
456 - " باب ما جاء في عذاب القبر "
532 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث " أن يهودية دخلت عليها، فذكرت عذاب القبر " وفي رواية أبي وائل عن مروان عن عائشة رضي الله عنها: " دخلت عجوزان من يهود المدينة فقالتا إن أهل القبور يعذبون في قبورهم "، قال الحافظ: وهو محمول على أن إحداهما تكلّمت وأقرّتها الأخرى، قال: ولم أقف على اسم واحدة منهما. قالت عائشة في هذه الرواية فكذبتهما، وإنما كذبتهما لأنّها لم تسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يثبت ذلك، " فسألت عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عذاب القبر " هل هو حق أم لا، " فقال: نعم عذاب القبر " أي نعم عذاب القبر للكفار والمنافقين والعصاة حق ثابت لا شك فيه، كما جاء في رواية أخرى " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجابها بقوله: "عذاب القبر حق"، وقد جاء ذلك مبيناً ومفصلاً في الأحاديث الصحيحة وسيأتي إيضاحه فيما يستفاد من الحديث. " قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر "، أي فكان بعد ذلك لا يصلّي صلاة فرضاً أو نفلاً إلَّا تعوذ في آخرها بعد التشهد من عذاب القبر.(2/403)
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إثبات عذاب القبر للكفار والمنافقين والعصاة، وكونه حقيقة ثابتة، وقضية معروفة مسلم بها في جميع الأديان السماوية، بدليل أن اليهودية ذكرته لعائشة، وأخبرتها عنه.
وقد تكاثرت فيه الأحاديث والأخبار الصحيحة. فروي عن عائشة رضي الله عنها " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن أهل القبور يعذّبون في قبورهم عذاباً تسمعه البهائم " أخرجه الشيخان وابن أبي شيبة. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنيناً يلدغه حتى تقوم الساعة " أخرجه أحمد وأبو يعلى (1) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " المؤمن في قبره في روضة ويرحب له قبرُه سبعون ذراعاً، وبنور له كالقمر ليلة البدر، أتدرون فيما أنزلت هذه الآية (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده إنّه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنيناً ينفخون في جسمه ويلسعونه، ويخدشونه إلى يوم القيامة " أخرجه أبو يعلى (2) . وعن يعلى بن مرة قال: " مررت مع النبي على مقابر، فسمعت ضغطة في قبر فقلت: يا رسول الله سمعت ضغطة في قبر، قال: وسمعت يا يعلى: قلت: نعم، قال: فإنه يعذب في يسير من الأمر، قلت: وما هو؟ قال: كان يمشي بين الناس بالنميمة، وكان لا يتنزّه عن البول " أخرجه البيهقي في " دلائل النبوة ". وعن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة، فلم يزل يسأل الله ويدعوه حتى صارت واحدة، فامتلأ قبره عليه ناراً، فلما ارتفع عنه أفاق، فقال: علام جلدتموني، قالوا: إنك صليت بغير طهور، ومررت على مظلوم فلم تنصره " أخرجه أبو الشيخ (3) وعن أبي سعيد الخدري في حديث طويل جاء فيه: "وإذا دفن
__________
(1) قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (3/55) وأبو يعلى موقوفاً، وفيه دراج، وفيه كلام، وقد وثق (ع) .
(2) انظر " مجمع الزوائد " (3/55) في سنده دراج أبو السمح، وهو صدوق في حديثه عن أبي الهيثم ضعيف (ع)
(3) " شرح الصدور للسيوطي ".(2/404)
العبد الفاجر أو الكافر يقول القبر له: لا مرحباً ولا أهلاً، أما إنك كنت لمن أبغض من يمشي على ظهري إليّ، فإذ وُلِّيتُكَ اليوم، وصرت إلي فسترى صنيعي بك، فيلتئم عليه، حتى تلتقي وتختلف أضلاعه، وقال - صلى الله عليه وسلم - بأصابع يديه فشبكهما: ثم يُقَيَّض له تسعون تنيناً، أو قال: تسعة وتسعون، لو أن واحداً منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئاً ما بقيت الدنيا، فتنهشه وتخدشه حتى يبعث إلى الحساب، والقبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار " (1) . فهذه الأحاديث كلها أثبتت عذاب القبر للكافر والعاصي. وقد كثرت الأحاديث في عذاب القبر حتى قال غير واحد: إنها متواترة، ولا يصح عليها التواطؤ (2) . وقال ابن القيم (3) : عذاب القبر قسمان: دائمٌ، وهو عذاب الكفار وبعض العصاة. ومنقطع وهو عذاب من خفت جرائمهم من العصاة، فإنه يعذب بحسب جريمته، ثم يرفع عنه، وقد يرفع عنه بدعاء أو صدقة ونحو ذلك. اهـ. قال العلماء (4) : عذاب القبر هو عذاب البرزخ، أضيف إلى القبر لأنه الغالب، وإلا فكل ميت إذا أراد الله تعذيبه نَالَهُ ما أراد به، قُبِرَ أو يُقْبَر، ولو صلب. أو غرّق في البحر، أو أكلته الدواب، ْأو أحرق حتى صار رماداً أو ذري في الريح، ومحله الروح والبدن جميعاً، باتفاق أهل السنة، وكذا القول في النعيم، كما أفاده السيوطي. ثانياًً: أنه يستحب التعوذ من عذاب القبر في آخر كل صلاة بعد التشهد، وقبل السلام، لقول عائشة رضي الله عنها في حديث الباب: " فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدُ صلّى صلاةً إلاّ تعوذ من عذاب القبر ". أمّا الصيغة المأثورة في ذلك فهي كما جاء في حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو:
__________
(1) " جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد " ج 1.
(2) " شرح القسطلاني على البخاري " ج 2.
(3) " شرح الصدور، للسيوطي.
(4) أيضاً " شرح الصدور " للسيوطي.(2/405)
533 - عن أسمَاءَ بِنْتِ أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
" قَامَ فينَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطِيباً، فذكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِْ التي يُفتَتَنُ بِهَا المَرْءُ، فلَما ذَكَرَ ذَلكَ ضَج الْمُسْلِمُونَ ضَجَّةً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال " أخرجه الشيخان. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم عذاب القبر ".
533 - معنى الحديث: تقول أسماء بنت أو بكر رضي الله عنها: " قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيباً، فذكر فتنة القبر "، يعني وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً يخطب في الناس ويعظهم ويذكرهم الدّار الآخرة، حتى تطرّق إلى القبر وأحواله، وذكر فتنة القبر، والمراد بفتنة القبر: سؤال الملكين منكر ونكير للعبد عن ربه ونبيّه ودينه وسمي بذلك لأنه فتنة عظيمة يختبر بها إيمان العبد ويقينه، فمن وفق في هذا الاختبار فاز، ومن فشل هلك. قالت: " فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة " أي صاحوا صيحة عظيمة هلعاً وخوفاً من فتنة القبر. الحديث: أخرجه البخاري والنسائي.
فقه الحديث: دل الحديث على إثبات سؤال الملكين للعبد في قبره، وقد سمّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فتنة " لما ذكرناه في شرح الحديث " ودل عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ) ، أي ويثبتهم عند سؤال الملكين، ويوفقهم إلى الجواب الصحيح ويكون السؤال لكل ميت مسلماً كان أو كافراً، طائعاً أو عاصياً. قال ابن القيم: وفي الكتاب والسنة دليل على أن السؤال للكافر والمسلم قال الله تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ) قلت: ويدل على ذلك أحاديث كثيرة منها ما روي(2/406)
عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً: " إذا وضع العبد في قبره أتاه ملكان فانتهراه، فقام يهب كما يهب النائم فيقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: الله ربي، والإسلام، ديني، ومحمد نبيي، فينادى منادٍ أن قد صدق فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، يقول: دعوني أخبر أهلي، فيقال له: اسكن ".
أخرجه البيهقي. وفي رواية عن أنس رضي الله عنه: " فإن كان كافراً يقولان: من ربك قال: لا أدرى. قالا: من نبيك قال: لا أدرى قالا: من إمامك؟ قال: لا أدري، فيضربانه بعمود ضربة حتى يلتهب عليه القبر ناراً ويضيق عليه حتى تختلف أضلاعه " أخرجه الديلمي. قال القسطلاني: وهل يسأل الطفل، الذي لا يميّز، جزم القرطبي في " تذكرته " أنه يسأل، وهو منقول عن الحنفية، وجزم به غير واحد من الشافعية. وقد صح أن المرابط في سبيل الله لا يفتتن، كما في حديث مسلم وغيره، وكذلك شهيد المعركة، والصابر في الطاعون الذي لا يخرج من البلد الذي وقع فيه قاصداً بإقامته ثواب الله، راجياً صدق موعوده، لحديث البخاري والنسائي عن عائشة مرفوعاً: " فليس من رجل يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلاّ ما قد كتبه الله له إلاّ كان له مثل أجر شهيد " ووجه الدليل أن الصابر في الطاعون نظير المرابط في سبيل الله، وقد صح أن المرابط لا يفتتن. والصحيح الذي رجحه ابن القيم أن سؤال القبر لا يختص بهذه الأمّة، وإنما هو لجميع الأمم، لأنه ليس في الأحاديث الصحيحة ما يقتضي ذلك. ولا شك أن سؤال القبر عذاب للكافر والمنافق، لأنهما إذا سئلا ولم يجيبا عُذِّبا أشد العذاب، وضربا بمطارق من حديد، كما في الحديث عن أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " وأما المنافق والكافر، فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول: لا أدرى، كنت أقول ما يقوله الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين ". أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " فذكر فتنة القبر "، أي سؤال الملكين.(2/407)
457 - " بَابُ ما يُنْهى عنْ سَبِّ الأمْوَاتِ "
534 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لا تَسُبُّوا الأمْوَاتَ فإنَّهُمْ قد أفْضَوْا إلى ما قَدَّمُوا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأن هذا السؤال عذاب للكافر والمنافق.
457- " باب ما ينهي عن سب الأموات "
534 - معنى الحديث: تحدثنا السيدة عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا تسبوا الأموات "، أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن سب أموات المسلمين نهياً صريحاً، وذلك لأن أعراض المسلمين مصانة في الحياة وبعد الممات لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه "، بل إن عرض الميت أولى بالحرمة والصيانة لعجزه عن الدفاع عن نفسه، فالله يدافع عنه، " فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا " بفتح الهمزة من الإفضاء وهو الوصول إلى الشيء. أي ليس هناك أي مبرر لسبّهم، وإن أساءوا في حياتهم، لأنهم قد وصلوا إلى الجزاء العادل على أعمالهم إن كانت خيراً أو شراً، وانتهوا إلى أحكم الحاكمين، ولستم مسؤولين عن أعمالهم حتى تسبوهم بعد موتهم (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) . الحديث: أخرجه أبو داود والنسائي.
فقه الحديث: دلَ الحديث على تحريم سب أموات المسلمين، لأن عرض المسلم حرام حياً كان أو ميتاً، وإذا كانت غيبة الحي حرام، فالميت أولى.
ومن أدب الإِسلام أن نشيد بمحاسن الميت، ونكف عن مساويه، ففي الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما: " اذكروا محاسن موتاكم، وكفّوا عن مساويهم "، أخرجه الترمذي وأبو داود. وأما الكافر فلا حرج من ذكر مساويه ما لم يتأذّ بذلك المسلم، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لما سبّ أحد الأنصار عبد المطلب: " لا تسبوا موتانا فتؤذوا أحياءنا "، أخرجه النسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تسبوا الأموات ".(2/408)
منار القاري
شرح مختصر
صحيح البخاري
تأليف حمزة محمد قاسم
راجعه الشيخ عبد القادر الأرناؤوط
عني بتصحيحه ونشره بشير محمد عيون
الجزء الثالث
مكتبة دار البيان
ص. ب 2854 - هاتف 229045
دمشق - الجمهورية العربية السورية
مكتبة المؤيد
ص. ب 10 - هاتف 7321851
الطائف - المملكة العربية السعودية(3/1)
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
بيروت
1410 هـ - 1990 م(3/2)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب الزكاة "
الزكاة لغة: كما قال الراغب (1) : النمو الحاصل عنِ بركة الله تعالى، يقال زكا الزرع إذا حصل فيه نمو وبركة. وتطلق أيضاً على الطهارة، وزكاة النفس: تطهيرها، وتنسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في قوله تعالى: (وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) لكونه تسبب في تطهير نفوسهم، وتنمية أموالهم بما شرعه لهم من الزكاة المفروضة. والزكاة شرعاً: اسم لما يخرجه الإنسان من حق (2) مالي لله تعالى في زمن مخصوص على وجه مخصوص. وسميت زكاةً لما فيها من رجاء البركة، وتزكية النفس، وتطهيرها من الآثام، والأمراض النفسية من شح وبخل وشره.
شرعت في السنة الثانية من الهجرة. بعد زكاة الفطر. وهي خمسة أنواع: زكاة الحرث، وزكاة النقد، وزكاة الماشية، وزكاة التجارة، وزكاة الفطر.
والحكمة فيها: تطهير النفس، والتسامي بها، وتحريرها من الشحِ، وتمكينها من السيطرة على غريزة الحرص والشح الموجودة في البشر جميعاً. ومن ثَمَّ كان أفضل الصدقة ما يخرجه العبد أثناء صحته، عندما تكون هذه الغريزة في أقوى عنفوانها وسلطانها، كما يشير إليه قوله - صلى الله عليه وسلم - عندما سئل أي الصدقة أعظم أجراً؟ فقال: " أن تَصَّدَّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى " أخرجه الشيخان والنسائي، أي إن أفضل الصدقة ما كافح به الإِنسان
__________
(1) " مفردات القرآن " للراغب.
(2) " فقه السنة " لسيد سابق.(3/3)
458 - " بَابُ وُجُوبِ الزَكَاةِ "
535 - عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ مُعَاذاً إلى الْيَمَنِ فَقَالَ: " ادعُهُمْ إلى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إلَّا اللهُ، وأنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإن هُمْ أطاعُوا لِذَلِكَ، فأعْلِمْهُمْ أنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ في كُلِّ يَوْم وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أطَاعُوا لِذَلِكَ، فأعْلِمْهُمْ أن اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً في أمْوَالِهِمْ تُؤخَذُ مِنْ أغنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غريزة الشح في نفسه. أضف إلى ذلك ما تؤدي إليه الزكاة وتحققه من تضامن اجتماعي، فإن كل مجتمع تؤدى فيه الزكاة على وجهها الصحيع هو مجتمع تربط بين أفراده أواصر المودة والمحبة والرحمة، ولهذا فإنه يكون جديراً برحمة الله وإفاضة نعمه عليه، كما يشير إليه قوله تعالى: (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ) . ولا شك أن في إخراج الزكاة مواساة للفقراء، وتطيباً لنفوسهم، وكسباً لمودتهم، وإزالةً للأحقاد من نفوسهم.
458 - " باب وجوب الزكاة "
535 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذاً إلى اليمن "، أي أرسله سنة عشر من الهجرة قبل حجة الوداع والياً أو قاضياً، " فقال ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله "، أي: ادعهم قبل كل شيء إلى الإِقرار بوحدانية الله تعالى ورسالة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنه الشرط الأول في قبول الأعمال، وصحة جميع العبادات الشرعية، " فإن هم أطاعوا لذلك "، أي فإذا أقّروا بتوحيد الله ورسالة نبيّه - صلى الله عليه وسلم - " فأعلمهم أنّ الله افترض فعليهم خمس صلوات في اليوم والليلة "، أي فأخبرهم أن الله(3/4)
536 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه:
أن أعرابِيَّاً أتى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ: قَالَ: "تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ به شَيْئَاً، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ المَكْتُوبَة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قد أوجب عليهم هذه الصلوات الخمس، وكتبها عليهم كل يوم وليلة، " فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أنّ الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم "، أي تؤخذ من كل فرد يملك النصاب الشرعي، " وترد على فقرائهم "، أي وتصرف على فقراء بلدتهم.
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب الزكاة، وكونها ركناً من أركان الإِسلام، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فأعلمهم أنّ الله افترض عليهم صدقة "، وهذه الصدقة هي الزكاة، فمن جحدها قتل كافراً، إلاّ أن يكون حديث عهد بالإِسلام، ومن امتنع عن دفعها ولم يجحدها فهو فاسق، وعلى الحاكم أن يأخذها منه قهراً مع تعزيره، وليس له أن يأخذ من ماله زيادة عليها، خلافاً لأحمد والشافعي في القديم حيث قالا: يأخذها ونصف ماله.
ثانياًً: أن الزكاة تجب على كل مسلم غني، وهو من يملك النصاب الشرعي، واتفقوا على أنّها تجب بخمسة شروط: الإِسلام، والغنى (وهو امتلاك النصاب) ، والحرية، واستقرار الملك، وتمام الحول. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً ".
536 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة في حديثه هذا: " أن أعرابياً " أي رجلاً من البادية، " أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: دلّني على عمل إذا عملته دخلت الجنة "، أي دلّنى على عمل يترتب عليه دخول الجنة والنجاة من النار، فأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن دخول الجنة والنجاة من النار يتوقفان على أداء أركان الإِسلام حيث قال: " تعبد الله لا تشرك به شيئاً " وهو معنى(3/5)
وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ" قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ لَا أزِيدُ عَلَى هَذَا. فَلَمّا وَلَّى، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ سَرَّهُ أنْ يَنْظرُ إلى رَجُلٍ مِنْ أهْلٍ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظر إِلَى هَذَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شهادة أن لا إله إلاّ الله، التي هي الركن الأول من أركان الإِسلام، لأن معناها: لا معبود بحق إلاّ الله، ومقتضاها إفراد الله بالعبادة، وذلك بعبادة الله وحده، وأن لا تشرك به شيئاً " وتقيم الصلاة المكتوبة "، أي وتقيم الصلوات الخمس التي كتبها الله وأوجبها على عباده في كل يوم وليلة " وتؤدي الزكاة المفروضة "، أي وتعطي الزكاة الشرعية التي أوجبها الله عليك، وتدفعها لمستحقها، وهو موضع الترجمة، " وتصوم رمضان "، أي وتحافظ على صيام رمضان في وقته. " قال والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا " أي لا أزيد على العمل المفروض الذي سمعته منك شيئاً من الطاعات، وزاد مسلم " ولا أنقص منه " " فلما ولى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فينظر إلى هذا "، أي فلينظر إلى هذا الأعرابي فإنه سوف يكون من أهل الجنة إن داوم على فعل ما أمرته به، لقوله في حديث أبي أيوب " إن تمسك بما أمر به دخل الجنة " أخرجه مسلم.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان بعض أركان الإِسلام، وهي التوحيد والصلاة، والزكاة، والصوم، ولم يذكر الحج مع أنه الركن الخامس من أركان الإِسلام، لأنه لم يكن شرع بعد. ثانياًً: بيان مشروعية الزكاة ووجوبها وأنها ركن من أركان الدين الحنيف، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وتؤدي الزكاة المفروضة ". ثالثاً: قال القسطلاني (1) : فيه أن المبشر بالجنة أكثر من العشرة كما ورد النص في الحسن والحسين رضي الله عنهما وأمهما
__________
(1) " شرح القسطلاني على البخاري " ج 3.(3/6)
537 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال:
لما تُوفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو بَكْرٍ، وكفَرَ من كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، فقال عُمَرُ: كيف تُقاتِلُ النَّاسَ وقد قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أُمِرْتُ أن أقَاتِلَ النَّاسَ حتى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فمن قالَهَا فقدْ عَصَمَ منِّي مَالَهُ ونَفْسَهُ إلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ على اللهِ تَعالى " فَقَالَ: وَاللهِ لأقَاتِلَنَّ من فَرَّقَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رضي الله عنها، وأمهات المؤمنين، فتحمل بشارة العشرة بأنهم بشروا دفعة واحدة، أو بلفظ بشره بالجنة، أو أن العدد لا ينفى الزائد. رابعاً: قال القرطبي (1) : لا يقال إن مفهوم الحديث يدل على ترك التطوعات، أي النوافل، لأنا نقول لعلّ أصحاب هذه القصص كانوا حديثي عهد بالإِسلام فاكتفى منهم بفعل ما وجب عليهم في تلك الحالة، لئلا يثقل عليهم فيملوا، فإذا انشرحت صدورهم للفهم عنه، والحرص على ثواب المندوبات، سهلت عليهم. والمطابقة: في قوله: " وتؤدي الزكاة الفروضة ". الحديث: أخرجه الشيخان.
537 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة في هذا الحديث أنه: " لما ْتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو بكر "، أي لما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وصار أبو بكر خليفة المسلمين " وكفر من كفر من العرب "، أي وارتد العرب عن الإِسلام، فبعضهم ادعى النبوة كبني حنيفة وأسد وغطفان، وبعضهم ترك الصلاة ومنع الزكاة، وبعضهم ترك الزكاة متأوّلاً أنها كانت واجبة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يثبت على الإِسلام والطاعة سوى أهل مكة والمدينة والطائف وأسلم وغفار ومزينة وأشجع وهوزان وأهل صنعاء، فلما فعلوا ذلك عزم أبو بكر على قتالهم، " فقال عمر: " منكراً عليه العزم على قتالهم: "كيف
__________
(1) أيضاً " شرح القسطلاني " ج 3.(3/7)
بَيْنَ الصَّلَاةِ والزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزكاةَ حَقّ المَالِ واللهِ لوْ مَنَعُونِي عنَاقاً كانوا يُؤَدُّونَهَا إلى رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لقاتَلْتُهُمْ على مَنْعِهَا، قَالَ عُمَرُ فَواللهِ مَا هُوَ إلَّا أنْ قَدْ شَرحَ اللهُ صَدْرَ أبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أنَّهُ الْحَقّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تقاتل الناس، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلاّ بحقه؟ " وهذا استفهام إنكاري معناه النفي أي: لا يجوز لك مقاتلة مانعي الزكاة بعد نطقهم بكلمة التوحيد، وقد جعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - سبباً في عصمة الدماء والأموال، فلا يقتل من قالها إلاّ في حق من الحقوق الشرعية " وحسابه على الله "، أي وحسابه على سريرته التي يضمرها في قلبه، إنما هي لله وحده، فهو الذي يجازيه على ما يخفيه في قلبه من كفر وإيمان، لأنه هو المطلع عليه وحده. أما نحن فإنا نحكم بإسلامه أو كفره بما يبدو لنا من ظاهره، والله أعلم بسريرته، " فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة " أي أقسم بالله تعالى لأقاتلن من فرق بين حكمهما، فقال الصلاة واجبة والزكاة غير واجبة، لأن وجوب الزكاة معلومٌ من الدين بالضرورة. ومن أنكر شيئاً معلوماً من الدين " بالضرورة فإنه يقاتلِ. " فإن الزكاة حق المال "، كما أن الصلاة حق البدن، فمن أنكرها أنكر حقاً من حقوق الإِسلام يقاتل عليه كما يقاتل على الصلاة. " والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها لقاتلتهم كل منعها "، أي أقسم بالله لو منعوني أنثى من المعز كانوا يعطونها زكاةً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها " فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق " أي فعلمت أنه الحكم الشرعي الصحيح الثابت بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي.
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الزكاة حق المال(3/8)
كما أن الصلاة حق البدن، فهما عبادتان إسلاميتان واجبتان من أركان الإِسلام، فالصلاة عبادة بدنية والزكاة عبادة مالية وحكمهما واحد. ثانياًً: كما أفاده في " كشف الشبهات " (1) أن الرجل إذا أظهر الإِسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك، وهو مصداق قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا) . فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإِسلام قتل، وكذلك هذا الحديث وأمثاله. والدليل على هذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الخوارج: " أينما لقيتموهم فاقتلوهم " أخرجه البخاري فلم تنفعهم (لا إله إلا الله) ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإِسلام لما ظهر منهم من مخالفة الشريعة، اهـ. ثالثاً: قال القشيري: أجمع العلماء على أن من منع الزكاة منكراً لوجوبها تؤخذ منه قهراً فإن نصب الحرب دونها قتل كما فعل أبو بكر بأهل الردة ووافق على ذلك جمع من الصحابة. ولا يشترط فيها البلوغ، ولا العقل خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: لا زكاة على مجنون ولا صبي. ثم إنه لا يجوز نقل الزكاة من بلدة المزكي إلى بلدة أخرى لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم " " ويستثنى من ذلك " باتفاق أهل العلم ما إذا استغنى عنها أهل بلدها واختلفوا فيما عدا ذلك. فقال أبو حنيفة: يجوز نقلها لقرابة محتاجين إليها. وقالت الشافعية: إلّا إذا فقد من يستحقها في البلد. وقال مالك: يجوز نقلها إذا وقع في البلد الأخرى حاجة لها، قال: وذلك راجع إلى نظر الإمام واجتهاده. قال في تيسير العلام (2) : والصحيح جواز نقلها سيّما مع المصلحة، بأن يكون له أقارب فقراء في غير بلده، أو إعانة على جهاد أو علم. قال: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث عماله على الصدقة فيأتون بها المدينة ليفرقها فيها، وهي إحدى الروايات عن الإِمام أحمد، والمشهور من مذهبه الأوّل. الحديث: أخرجه
__________
(1) لشيخ الإِسلام محمد بن عبد الوهاب.
(2) " تيسير العلام " ج 1.(3/9)
459 - " بَابُ إِثْمَ مَانِعَ الزكَاةِ "
538 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَلَمْ يُؤدِّ زكَاتَهُ، مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعاً أقْرَعَ، لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يأخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أنَا مَالُكَ أنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلَا (لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) الآيَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشيخان وأبو داود، والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " فأعلِمهم أنّ الله افترض عليهم صدقة "، والله أعلم.
459 - " باب إثم مانع الزكاة "
538 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من آتاه الله مالاً " أي من أعطاه الله مالاً بلغ النصاب الشرعي الذي تجب فيه الزكاة، " فلم يؤد زكاته "، أي فلم يخرج زكاته، " مُثل له يوم القيامة شجاع أقرع "، أي صُوِّر له ماله الذي بخل به، ولم يؤدّ زكاته بصورة ثعبان سامّ، أبيض الرأس.
وهو من أخطر الثعابين، لأنه كلما كثر سم الثعبان ابيض رأسه، كما أفاده الفاكهي، " له زبيبتان " أي فوق عينيه نقطتان سوداوان، وهو من أخبث الحيات " يطوقه " (1) أي يهجم عليه ويلتف حول عنقه " ثم يأخذ بلهزمتيه (2) يعني بشدقيه " أي يمسك بجانبي فمه ويعضهما، ويفرغ سمه فيهما، " ثم تلا (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ
__________
(1) بضم أوّله، وفتح الواو المشددة، أي يصير له الثعبان طوقاً، كما أفاده الحافظ.
(2) بكسر اللام والزاى، كما أفاده الحافظ.(3/10)
460 - " بَابُ الصَّدَقَةِ مِنْ كَسْبٍ طيِّبٍ "
539 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمرَةٍْ مِنْ كَسْب طيَبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إلَّا الطيَبَ، فَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بيمينه، ثُمَّ يُرَبيهَا لِصَاحِبهَا، كَمَا يُرَبِّي أحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وإنما قرأ هذه الآية ليستدل بها على ما قال.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إثم مانع الزكاة والوعيد الشديد المترتب على ذلك، وأن منع الزكاة كبيرة من الكبائر، وإلا لما ترتب عليه هذا الوعيد. ثانياًً: أن العبد إذا لم يشكر النعمة، ويؤدي حق الله فيها تكون نقمة ووبالاً عليه يوم القيامة، وتتمثل له في أبشع الصور التي تؤلمه وتؤذيه. والمطابقة: في قوله: " من أتاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاته مُثِّل يوم القيامة شجاعاً أقرع ... إلخ ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود.
460 - " باب الصدقة من كسب طيب "
539 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من تصدق بعدل (1) تمرة من كسب طيب "، أي بمقدار تمرة من مال حلال اكتسبه عن طريق مشروع بصفة مشروعة، وحصل عليه بوسيلة مشروعة من تجارة؛ أو صناعة؛ أو زراعة؛ أو وظيفة، " ولا يقبل الله إلاّ الطيب "، وهي جملة معترضة بين الشرط وجوابه " معناها " ولا يقبل الله صدقة إلَّا إذا كانت خالصة لله تعالى وكانت من مال حلال "فإن الله
__________
(1) قوله: " بعَدْلِ " بفتح العين، وعَدْل الشيء ما يساويه قدراً وحجماً.(3/11)
يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها"، أي فإن الله يتقبل الصدقة الطيبة بيمينه، كما يتقبل الأشياء الشريفة الكريمة، ثم " يربيها " أي ينميها، ويضاعف ثوابها لصاحبها " كما يربي أحدكم فلوه " (بفتح الفاء وضم اللام وفتح الواو المشددة) ، وهو المهر، أي الصغير من الخيل، أي وما يزال الله عز وجل يضاعف ثواب الصدقة، ويكبر حجمها " حتى تكون مثل الجبل "، أي حتى تكون الصدقة عند وضعها في الميزان يوم القيامة مثل الجبل صورة وحجماً وثقلاً. والحاصل أنّ من تصدق بصدقة قليلة خالصة من الرياء والسمعة من مال حلال، فإن الله يكبر صورتها، ويضاعف ثوابها، ويثقل وزنها في ميزانه يوم القيامة، حتى تكون كالجبل الضخم في صورتها ووزنها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الصدقة لا تقبل عند الله تعالى إلاّ إذا كانت طيبة. ومعنى كونها طيبة، أن يتوفر فيها شرطان:
الأول: أن تكون خالصة لله تعالى ليس فيها رياء، ولا سمعة. والثاني: أن تكون من مال حلال. أما إذا كانت رياءً فإنها ترد على صاحبها لقول الله تعالى كما في الحديث القدسي " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك في معي غيري -أي راءى فيه غيري- تركته وشركه ". وكذلك الصدقة من الحرام لا تقبل، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: " ولا يقبل الله إلا الطيب " وقوله في حديث آخر: " لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول " أي ولا يقبل صدقة من مال حرام. ثانياًً: أن الصدقة، لا تُقَوَّمُ بحجمها، وإنما تقوم بإخلاص صاحبها، وبالمال الذي خرجت منه، حلالاً كان أو حراماً. فإذا توفر فيها الجوهر الطيب، وهو المال الحلال، والنية الخالصة، كان لها حجم ووزن في ميزان الله وإن كانت قليلة. ثالثاً: أن الأعمال الصالحة تحول يوم القيامة إلى أجرام مادية لها صورة وحجم ووزن، فتوضع في ميزان العبد، وتوزن في كفه حسناته. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولا يقبل الله إلاّ الطيب ".(3/12)
461 - " بَابُ الصَّدَقَةِ قَبلَ الرَّدِّ "
540 - عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " تَصَدَّقُوا فإِنَّهُ يَأتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا، يَقُولُ الرَّجُلُ: لَوْ جِئْتَ بِهَا بالأمْسِ لَقَبِلْتُهَا، فأمَّا الْيَوْمَ فَلَا حَاجَةَ لي بِهَا ".
541 - عَنْ أبِي هُرَيْرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيفِيضَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
461 - " باب الصدقة قبل الرد "
540 - معنى الحديث: يقول حارثة بن وهب: " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: تصدقوا فإنه يَأتِي عليكم زمان "، أي بادروا بإخراج الزكاة وانتهزوا فرصة قبولها بوجود الفقراء قبل أن يأتي عليكم زمان يكثر فيه المال حتى أنه " يمشي الرجل بصدقته "، أي يمشى بزكاته يبحث عن فقير يعطيها له فلا يجده، " يقول الرجل " الذي يقدم له الصدقة. " لو جئت بها بالأمس " أي أاعتذر إليك عن قبول صدقتك ولو جئتني قبل هذا اليوم لأخذتها منك، أما اليوم فلا حاجة لي، لأنني غني. الحديث: أخرجه الشيخان.
والمطابقة: في قولة: " يمشي الرجل بصدقته فلا يجد من يقبلها ".
541 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال فيفيض " المراد بالساعة هنا يوم القيامة أو المواد أنه لا ينتهي القرن الأول الهجري حتى يكثر المال، وتعم الثروة وينتشر الرخاء، وتتوفر السيولة النقدية في أيدي الناس جميعاً، فلا يحتاج أحد(3/13)
حَتَّى يُهِمَّ رَبُّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَحَتَّى يَعْرِضَهُ، فَيَقُولُ الَّذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ: لَا أرَبَ لِي فِيهِ".
542 - عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَهُ رَجُلَانِ أحَدُهُمَا يَشْكُو العَيْلَةَ، والآخَرُ يَشْكُو قَطع السَّبِيل، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أمَّا قَطع السَّبِيلِ فَإِنهُ لا يَأتِي عَلَيْكَ إلَّا قَلِيل حَتَّى تَخْرُجَ العِيرُ إلى مَكَّةَ بِغَيْرِ خَفِيرٍ وَأما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلى الصدقة، " حتى عم رب المال من يضل صدقته " أي حتى يجتهد رب المال في البحث عن شخص فقير يقبل منه صدقته فلا يجده. " فيقول الذي يعرضه عليه " أي فيقول الشخص الذي يعرض عليه المال " لا أرب في فيه " أي لا حاجة في فيه. والمطابقة: في قوله: " فيقول الذي يعرضه عليه لا حاجة في فيه ". الحديث: أخرجه الشيخان.
542 - ترجمة راوي الحديث: هو عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه. أسلم سنة تسع، وقال له عمر رضي الله عنه: آمنت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وأول صدقة بيضت وجه رسول الله كانت صدقة جئت بها، شهد فتح العراق، وشارك فيه، وجاهد في سبيل الله، وتوفي سنة ثمان وستين من الهجرة.
معنى الحديث: يقول عدي بن حاتم رضي الله عنه: " كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجلان يشكو أحدهما العيلة " بفتح العين يعني الفقر والفاقة، " ويشكو الآخر قطع السبيل " أي قطع الطريق باللصوص، " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمّا قطع السبيل فإنه لا يَأتِي عليك إلاّ قليل " أي لا يمر عليك سوى زمن قصير وإذا به قد انتشر الإِسلام، واستتب الأمن في جزيرة العرب،(3/14)
الْعَيْلَةُ فَإن السَّاعَةَ لا تَقُومُ حَتى يَطُوفَ أحَدُكُمْ بِصَدَقَتِهِ لَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا مِنْهُ، ثُمَّ لَيَقِفَن أحدُكُمْ بَيْنَ يَدي اللهِ لَيْسَ بيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَاب، وَلَا تَرْجُمَان يُتَرْجِمُ لَهُ، ثُمَّ لَيقُولَنَّ لَهُ: ألَمْ أوتِكَ مالاً! فَلَيَقُولَنَّ: بَلَى، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ: ألمْ أرْسِلْ إلَيْكَ رَسُولاً! فَلَيَقُولَنَّ: بَلَى، فَيَنْظرٌ عَنْ يَمِينهِ فَلا يَرَى إلَّا النَّارَ، ثُمَّ يَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ فلا يَرَى إلَّا النَّارَ، فَلْيَتَّقِيَنَّ أحدُكُمْ النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طيبةٍ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" حتى تخرج العير إلى مكة بغير خفير "، أي حتى تسير القافلة التجارية إلى مكة دون حارس يحرسها. " وأما العيلة فإن الساعة لا تقوم "، أي لا تقوم القيامة أو لا ينتهي القرن الأوّل الهجري حتى يعم الغنى والثراء " حتى يطوف أحدكم بصدقته لا يجد من يقبلها " وذلك لتواجد المال في أيدي الناس، " ثم ليقفن أحدكم بين يدى الله ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان "، أي يقف أمام الله دون حائل، ويكلمه مباشرة بدون واسطة ترجمان، لأن الله عليم بكل اللغات، " ثم ليقولن له: ألم أوتك مالاً، فيقول بلى، ألم أرسل إليك رسولاً " أي ألم أرسل إليك رسولاً يبين لك أركان الإِسلام، ومنها الزكاة، " فيقول: بلى ". أي فيقول مانع الزكاة: بلى قد أرسلت إلي رسولاً وأخبرني أن الزكاة من أركان الإِسلام، " فينظر عن يمينه فلا يرى إلاّ النار، ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلاّ النار " فعند ذلك يتأكد أنه قد حاق به العذاب بسبب شحه وبخله " فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة " أي فليجعل بينه وبين النار حاجزاً من الصدقة، ولو أن يتصدق بنصف تمرة، فإن الصدقة تطفىء غضب الرب، " فإن لم يجد " ما يتصدق، " فبكلمة طيبة " أي فليرد رداً جميلاً يطيب به نفس السائل. الحديث: أخرجه النسائي أيضاً. والمطابقة: في قوله: " لا تقوم الساعة حتى يطوف أحدكم بصدقته لا يجد من يقبلها ".(3/15)
543 - عَنْ أبي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَيَأتِيَنَّ عَلَى النَّاس زَمَانٌ يَطُوفُ فِيهِ الرَّجُلُ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ ثُمَّ لَا يَجِدُ أحداً يَأخُذُهَا مِنْهُ، وَيُرَى الرَّجُلُ الْوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أرْبَعُونَ امْرَأةٍ يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وكَثْرَةِ النِّسَاءِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
543 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " وليأتين على الناس زمان يطوف الرجل بالصدقة من الذهب "، أي يطوف بزكاته من الذهب ويبحث عمن يعطيها له، " ثم لا يجد أحداً يأخذها منه " قيل إن ذلك كان في زمن عمر بن عبد العزيز، وقال المناوي، وقيل: إنه يقع في زمن عيسى.
" ويرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يلذن به " أي يعرضن عليه الزواج منهن " من قلة الرجال " بسبب كثرة الحروب. الحديث: أخرجه الشيخان.
والمطابقة: في قوله: " يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب ثم لا يجد أحد يأخذها منه ".
فقه أحاديث الباب: دلت هذه الأحاديث على ما يأتي: أولاً: الترغيب في المبادرة إلى إخراج الزكاة وانتهاز الفرصة المناسبة لِإخراجها، وعدم التباطؤ بها، والحرص على إخراجها عند مسيس الحاجة إليها، والتحذير من التسويف بها، لأنه قد يكون التأخير سبباً في عدم وجود من يقبلها، ولهذا قال الفقهاء: يجب إخراج الزكاة فوراً، ويحرم تأخيرها عن وقتها إلاّ لعذر شرعي لهذا الحديث، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما خالطت الصدقة مالاً إلاّ أهلكته " أخرجه البخاري، وزاد الحميدي: يكون قد وجب عليك في مالك صدقة فلا تخرجها فيهلك الحرام الحلال. ثانياً: أن من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - إخباره عن التطور الاقتصادي حيث أخبر عن انتشار الغنى بين أفراد المسلمين في آخر الزمان قرب الساعة، حتى لا يوجد من يقبل الصدقة ويحتمل أن يكون إشارة إلى(3/16)
462 - " بَابٌ اتَّقُوا النَّارَ ولَوْ بِشِقِّ تمْرَةٍ "
544 - عن أبي مَسْعُودٍ الأنصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أمرَنَا بالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أحدُنَا إلَى السُّوْقِ فَيُحَامِلُ فَيُصِيبُ الْمُدَّ، وِإنَّ لبَعْضِهِمْ الْيَومَ لَمِائَةِ ألفٍ ".
545 - عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِم (1) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسوُلَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ما وقع في عهد عمر بن عبد العزيز، فقد أغنى عمر الناس حتى كان الرجل لا يجد من يأخذ زكاته. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - حث على الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها.
462 - " باب اتقوا النار ولو بشق تمرة "
544 - معنى الحديث: يقول أبو مسعود الأنصاري: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمرنا بالصدقة انطلق أحدنا إلى السوق فيحامل " بضم الباء، أي يجهد نفسه في الكسب، ويكد وينصب " فيصيب المد " أي وبعد تعب وجهد يكسب مداً من طعام، " وهو رطل وثلث " فيتصدق منه، " وإن لبعضهم اليوم لمائة ألف " أي يمتلك مائة ألف، ولا يتصدق كما كنا نتصدق.
الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في كون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يتصدقون بكل ما يقدرون عليه، ولو كان قليلاً.
545 - معنى الحديث: يحدثنا عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يقول: اتقوا النار " أي اجعلوا بينكم وبين النار ستراً وحجاباً
__________
(1) عدي بن حاتم: هو أبو طريف وقيل أبو وهب عدي بن حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في شعبان سنة سبع ونزل الكوفة وسكنها وشهد صفين والنهروان ومات بالكوفة سنة سبع وستين هجرية.(3/17)
463 - " بَابٌ أيُّ الصَّدَقَةِ أفضلُ "
546 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
جَاءَ رَجُل إلى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أيُّ الصَّدَقَةِ أعْظَمُ أجْراً؟
قَالَ: " أن تَصَّدَّقَ وأنت صَحِيحٌ شَحِيح تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأمَلُ الْغِنَى، ولا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا، ولِفُلان كَذَا، وقَدْ كَانَ لِفُلانٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالصدقة، وتصدقوا بكل ما تستطيعون التصدق به مهما كان يسيراً، " ولو بشق تمرة "، أي ولو لم تجدوا ما تتصدقون به إلاّ نصف تمرة، فتصدقوا به، ولا تحقروا من الصدقة شيئاً، ولو كان قليلاً، فإنّه ينفع المتصدِّق، وينفع المتصدق عليه، كما جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: " يا عائشة استتري من النار ولو بشق تمرة " أخرجه أحمد. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث.
فقه الحديث: دل الحديثان على ما يأتي. أولاً: الترغيب في الصدقة واستحباب الحرص على فعلها مهما كانت يسيرة، لأنّها تسد مسدها، وهي وقاية لفاعلها من النار، مهما قلت، كما يدل عليه الحديث الثاني. ثانياً: أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يكدون ويجدون في كسب المال من عرق جبينهم ليقوا أنفسهم مذلة السؤال، ويتصدقوا منه على إخوانهم.
463 - " باب أي الصدقة أفضل "
546 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة: " جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراً "، أي أكثر ثواباً، " قال: أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى " أي أفضل الصدقة(3/18)
464 - " بَاب إذَا تصَدَّقَ على غَنِي وَهُوَ لَا يَعْلمُ "
547 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "قَالَ رَجُل: لأتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقتِهِ فوضَعَهَا في يَدِ سَارِق، فأصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ على سَارِقٍ! فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ لأتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَها في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أن تتصدق في حال صحتك واستكمال قواك الجسمية، وحرصك الشديد على تنمية ثروتك وطمعك في الغنى وخشيتك من الفقر، وحبك الشديد لمالك، فإذا تصدقت وأنت على هذه الحال كانت صدقتك أعظم أجراً، لما في ذلك من مجاهدة النفس، ومقاومة غريزة الشح فيها، وقد أثنى الله تعالى على من فعل ذلك في قوله: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) ، " ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم " أي بلغت الروح الحلقوم وأوشكت على مفارقة البدن، " قلت: لفلان كذا "، أي أوصيت بجزء من مالك لفلان وفلان، فإن هذه الوصية وإن كانت مشروعة إلاّ أن الصدقة في حال الصحة أفضل، لأن مالك قد أصبح عند مفارقتك الحياة لورثتك.
فقه الحديث: دل الحديث على أن الصدقة في وقت صحة الإِنسان وسلامته أفضل من الوصية، وأن الوصية جائزة مشروعة أيضاً. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث جواباً للترجمة.
464 - " باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم "
547 - معنى الحديث: يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قال رجل " من بنى إسرائيل " لأتصدقن بصدقة " طيبةٍ نافعة أخرجها من مال حلال، وأدفعها لمن يستحقها، وأقسم على ذلك، والتزم به صدقته، " فخرج بصدقته "(3/19)
يَدَيْ زَانِيةٍ، فأصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصدِّقَ اللَّيْلَةَ على زَانِيَةٍ! فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيةٍ، لأتصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا في يَدَيْ غَنِيٍّ، فأصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ على غَنِي! فَقَال: اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ على سَارِق، وَعَلى زَانِيةٍ، وَعَلى غَنِي، فَأتِيَ، فَقِيلَ لَهُ: أما صَدَقَتُكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يريد أن يضعها في يد رجل صالح يستحقها، " فوضعها في يد سارق "، أي فأخطأ عن غير قصد، فوضعها في يد رجل سارق، وهو يظن أنّه رجل صالح وإنسان شريف، " فأصبحوا يتحدثون: تصدق على سارق! " أي يتكلمون في ذلك، ويتعجبون منه، لأن الصدقة كانت عندهم -فيما يبدو- لا تدفع إلاّ لأهل الخير والصلاح، كما أفاده العيني. " فقال: اللهم لك الحمد "، فحمد الله تعجباً مما وقع له حيث إنه أراد أن يتصدق على رجل صالح، فوقعت صدقته في يد فاسق وحمد الله لكونه لم يقدر عليه ما هو أسوأ من ذلك، لأنه ما من بلية إلاّ وهناك أعظم منها، " لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها " خطأً ودون قصد " في يد زانية " وهو يظنها امرأة شريفة، " فقال: اللهم لك الحمد على زانية "، فحمد الله أيضاً، وهو الذي لا يحمد على مكروه سواه، " لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يدي غني "، يعني فأعطى صدقته خطأً لرجل غني، والغني لا تحل له الصدقة، ولكنه لم يجزع، وإنما قال: " اللهم لك الحمد على سارق! وعلى زانية، وعلى غني؟ " أي فحمد الله على خطئه ثلاث مرات راضياً بما قدره الله عليه، وابتلاه به، " فأتي " بالبناء للمجهول، أي فعامله الله عز وجل بحسب قصده، وكافأه على حُسِنْ نيته، فرأى في منامه، أو هاتفاً يخاطبه، " فقيل له: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته "، أي فبشره أن الله قد قبل منه صدقاته كلها، فأمّا الصدقة الأولى فلعله أن ينتفع(3/20)
على سَارِق فَلَعَلَّهُ أنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ، وأمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا، وأمَّا الغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أعْطَاهُ اللهُ".
465 - " بَاب إِذَا تصَدُّقَ عَلى ابْنِهِ وَهُو لَا يَشْعُرُ "
548 - عَنْ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بها ذلك اللص، وتسد حاجته وفقره إن كان فقيراً، وتغنيه عن السرقة، وكذلك الصدقة الثانية كما قال، " وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها "، أي أن تستعين بذلك المال على سد حاجتها وفقرها، وتستغني عن الزنا.
وأمّا الصدقة الثالثة فقد تجعل من ذلك الغني البخيل رجلاً كريماً كما قال: " فأمّا الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله تعالى ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من أخطأ في صدقته أو زكاته فأعطاها إلى غني وهو يظنه فقيراً صحت صدقته، وأجزأته، وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد وأبي عبيد، وذهب مالك والشافعي وأبو يوسف والثوري إلى أنها لا تجزئه، وعن أحمد روايتان. ثانياً: أن الصدقة كانت عندهِم لا تعطى إلاّ لأهل الخير والصلاح، أما في شريعتنا فإنّها تعطى للفقير صالحاً أو فاسقاً. وفي الحديث إشارة إلى استحباب الصدقة على الفاسق إذا كانت تؤدّي إلى إعفافه عن جريمته، وإصلاح حاله. والمطابقة: في قوله: " فخرج بصدقته فوضعها في يد غني ".
465 - " باب إذا تصدق على ابنه وهو لا يشعر "
548 - ترجمة الراوي: وهو " مَعْنُ " بفتح الميم وسكون العين " ابن يزيد السلمي " بضم السين. أسلم هو وأبوه وجده، وشهد فتح دمشق(3/21)
بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنا وأبي وَجَدِّي وخَطَبَ عَلَي فأنْكَحَنِي، وخَاصَمْتُ إلَيْهِ، وكانَ أبي يَزِيدُ أخرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا، فوضَعَهَا عِنْدَ رَجُل في الْمَسْجِدِ فَجِئْتُ فأخَذْتُهَا فأتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ: وَاللهِ مَا إِيَّاكَ أردْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ، وَلَكَ مَا أخَذْتَ يَا مَعْنُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وكان له عند الفاروق منزلة عظيمة، وقتل في مرج راهط سنة أربع وخمسين من الهجرة.
معنى الحديث: يقول معن رضي الله عنه: " بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا وأبي وجدي " وهو الأخنس بن حبيب السلمي، " وخطب علي " أي وخطب لي النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة فزوجني إياها، " وخاصمت إليه " أي شكوت إليه أبي في قضية فحكم لي، " وكان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق بها " في الزكاة المفروضة " فوضعها عند رجل " ليصرفها لمن تجوز عليه الزكاة، " فجئت فأخذتها فأتيته بها "، أي فأخبرت والدي بأني أخذتها، " فقال: والله ما إياك أردت "، أي ما قصدت أن أعطي هذه الزكاة لك، لأنّها لا تحل للولد. وأراد أن يسترجعها مني، " فخاصمته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال " لأبي لا تستردها منه، فإن " لك ما نويت "، من إعطاء زكاتك لمن تحل له شرعاً، " ولك ما أخذت " لأنك فقير.
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من أخطأ هو أو وكيله في الزكاة، فأعطاها لمن تحرم عليه من ولد أو غيره دون قصد، ثم تبين له خطؤه أجزأته، وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد لما في حديث الباب، حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمضى زكاة يزيد حين وصلت إلى ولده خطأً، ولم يطالبه بأخرى، وقال مالك والشافعي: لا تجزئه، وهو مذهب أحمد في(3/22)
466 - " بَابُ مَنْ أمَرَ خادِمَهُ بالصَّدَقَةِ وَلَمْ يُنَاوِلْ بِنَفْسِهِ "
549 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إذَا أنْفَقَتِ الْمَرأةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتهَا غَير مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أجْرُهَا بِمَا أنْفَقَتْ، ولِزَوْجِهَا أجْرُه بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أجْرَ بَعْضٍ شَيْئاً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رواية. ثانياً: أنها لا تجوز الزكاة على الولد إذا كان يعوله، وكذلك كل من ينفق عليه. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: كما قال العيني: من حيث إن يزيد أعطى دنانير ليتصدق عنه، فجاء ابنه فأخذها من الرجل فكأنه تصدق عليه وهو لا يشعر.
466 - " باب من أمر خادمه بالصدقة ولم يناول بنفسه "
549 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة "، أي إذا أعطت المرأة من طعام بيتها لعيال زوجها وأضيافه، غير مبذرة، ولا قاصدة إتلاف ماله، وإلحاق الضرر به، " كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب "، أي كان لها ثواب الإنفاق، وللزوج ثواب آخر مقابل كسبه وسعيه، " وللخادم مثل ذلك "، أَي ولمن عُهِدَ إليه بحفظ الطعام أجر آخر على الإِنفاق من طعام سيده، " لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئاً ". قال العيني: منصوب بنزع الخافض، أي لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئاً، كما في رواية الترمذي، حيث قال فيها: " لا ينقص كل واحد منهما من أجر صاحبه شيئاً ". الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " وللخادم مثل ذلك " أي مثل أجر سيده.
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أن المسلم إذا أمر خادمه(3/23)
467 - " بَابُ مَنْ أحَبَّ تعْجِيلَ الصَّدَقَةِ مِنْ يَوْمِهَا "
550 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - العَصْرَ فأسْرَع، ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ فَلَمْ يَلْبَثْ أنْ خَرَجَ، فَقُلْتُ أو قِيلَ لَهُ، فَقَالَ: " كُنْتُ خَلَّفْتُ في البَيْتِ تِبْراً من الصَّدَقَةِ، فَكَرِهْتُ أنْ أُبيِّته، فَقَسَمْتُهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالصدقة أو أذن له فيها وأخرجها عنه قبلت صدقته، وكان له ثوابها كما لو كان أخرجها بنفسه، لقوله: " وللخازن مثل ذلك " أي يكون للرجل أجر الصدقة، وللخادم أجر إخراجها، وهو ما ترجم له البخاري. ويؤكد ذلك صراحةً قوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية أخرى: " الخازن المسلم الأمين الذي يعطي ما أمر به، فيدفعه إلى الذي أمر به أحد المتصدقين " أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. ثانياً: أن ظاهر الحديث يدل على أنه يجوز للزوجة الإِنفاق من طعام زوجها بإذنه، أو بغير إذنه، ما لم يكن هناك إسراف، لكن ليس على إطلاقه، وإنما هو محمولٌ على ما إذا أذن الزوج بالإِنفاق، أو عُلِمَ رضاه عنه، قال (محيي السنة) : عامة العلماء على أنه لا يجوز لها التصدق من مال زوجها بغير إذنه؛ أو علمها برضاه، وكذلك الخادم، والحديث خرج على عادة أهل الحجاز، يطلقون الأمر للأهل والخادم في التصدق.
467 - " باب من أحب تعجيل الصدقة من يومها "
550 - معنى الحديث: يقول عقبة رضي الله عنه: " صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - العصر فأسرع " وفي رواية أخرى للبخاري " صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة العصر، فسلم ثم قام مسرعاً، فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه "، "ثم دخل البيت " أي دخل أحد بيوت زوجاته، " فقلت له: "(3/24)
468 - " بَابُ التَحْرِيض علَى الصَّدَقَةِ والشَّفاعَةِ فيهَا "
551 - عن أبي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أوْ طُلِبَتْ إلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: " اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا شَاءَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي فسألته عن ممبب خروجه من المسجد مسرعاً " فقال، كنت خلفت في البيت تبراً من الصدقة " وفي رواية أخرى: " ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم، فرأى أنّهم عجبوا من سرعته فقال: ذكرت شيئاً من تبر عندنا ".
قال ابن دريد: التبر هو الذهب كله، أي سبب خروجي أني كنت تركت في بيتى شيئاً من ذهب الصدقة " فكرهت أن أبيته "، أي فرغبت وأحببت أن أبادر إلى قسمته في يومه، وكرهت أن أبيته إلى الغد خوفاً من العوائق والموانع. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي.
ويستفاد من الحديث: فوائد كثيرة منها: استحباب المبادرة إلى إخراج الصدقة والزكاة في وقتها فوراً، وكراهية تأخيرها خوفاً من تغير الأحوال. والمطابقة: في قوله: " فكرهت أن أبيته ... " إلخ.
468 - " باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها "
551 - معنى الحديث: يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءه السائل " المحتاج بطلب الصدقة " أو طلبت " بضم الطاء وكسر اللام " إليه حاجة " أي أو جاءه صاحب الحاجة يطلب منه - صلى الله عليه وسلم - قضاءها له، ومساعدته عليها " قال اشفعوا تؤجروا " أي اسألوني واطلبوا مني قضاء حاجته ما لم تكن معصية أو إسقاط حدٍ من حدود الله تعالى، أما ما عدا ذلك من الحاجات كإنظار المعسر، وإعانة المدين والإِصلاح(3/25)
552 - عَنْ أسْمَاءَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ لِي النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُوكي فَيُوكَى عَلَيْكِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بين متخاصمين فبادروا إلى السعي عندي في ذلك. اهـ. والتحريض والشفاعة متقاربان، فهما يجتمعان غاية، لأنْ كلاً منهما يؤدي إلى إيصال الخير، أو دفع الشر عن المشفوع له؛ أو المحرض له، ويفترقان وسيلة، لأن التحريض يعتمد على الترغيب، والشفاعةُ تعتمد على السؤال (1) . وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفاعة في الخير وبيّن أن الشافع مأجور، سواء حصل المطلوب أم لا، فإن قضاء الأمور وتحقيقها ليست بأيديهم، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " ويقضي الله على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما شاء "، وما أراد من قضاء ذلك الأمر أو عدمه. الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة.
فقه الحديث: دل الحديث على استحباب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها وفي سائر أعمال الخير، وأن الساعي مأجور وإن خاب سعيه. والمطابقة: في قوله: " اشفعوا تؤجروا ".
552 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم - لأسماء: " لا توكي " بضم التاء وكسر الكاف يقال: أوكأ سقاءه إذا شده بالوكاء، وهو الخيط الذي يشد به رأس القربة، أي لا تمنعي ما عندك، " فيوكى عليك " بفتح الكاف منصوب لاقترانه بالفاء في جواب النهي، أي لا تمنعي مالك عن الصدقة خشية (2) نفاده فتنقطع عنك مادة الرزق.
ويستفاد منه: أن الصدقة تنمي المال، وأن البخل بالصدقة سيما الواجبة يؤدي إلى إتلافه. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " لا توكي " حيث حرضها على العطاء والصدقة، وحذرها من البخل.
__________
(1) " فتح الباري " ج 3.
(2) " شرح العيني " ج 8.(3/26)
469 - "بَاب عَلَى كُلِّ مُسْلِم صَدَقَةْ، فَمَنْ لَمْ يَجِد فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ"
553 - عَنْ أبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " عَلَى كُلِّ مُسْلِم صَدَقَةْ " فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: " يَعْمَلُ بِيَدِهِ، فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ، وَيَتَصَدَّقُ " قَالُوا: فَإنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: " يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ " قَالُوا: فإنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: " فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ، وَلْيُمْسِكْ عَنِ الشر فَإنَّهَا لَهُ صَدَقَة ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
469 - " باب على كل مسلم صدقة فمن لم يجد فليعمل بالمعروف "
553 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " على كل مسلم صدقة "، أي: أن الصدقة بغير الزكاة المفروضة حق مطلوب من كل مسلم؟ أن يؤديه ندباً واستحباباً، فيستحب لكل مسلم أن يتصدق مهما كانت ظروفه وأحواله، فلما سمع الصحابة ذلك ظنوا أن الصدقة المطلوبة من كل مسلم هي " الصدقة بالمال " " فقالوا: فمن لم يجد؟ "، أي: فمن كان فقيراً لا يملك مالاً يتصدق منه ماذا يصنع، فبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ليس المقصود من الصدقة صدقة المال فقط، وإنما هي شيء آخر أعم وأشمل، وهو " صنع المعروف " (1) سواء كان بالمال أو بالبدن واللسان، كما وضح ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في بقية الحديث حيث " قال: يعمل بيده، لينفع نفسه ويتصدق " أي إن لم يجد مالاً حاضراً يتصدق منه. فعليه أن يسعى لتحصيله وكسبه بالعمل في أي مهنة شريفة يحصل منها على المال الحلال، فينفق على نفسه ويتصدق على غيره، " قالوا: فإن لم يجد، قال يعين ذا الحاجة الملهوف " أي قالوا:
__________
(1) أي القيام بأي عمل ينفع الناس ويعود عليهم بالخير سواء كان مالياً أو بدنياً أو لسانياً.(3/27)
470 - " بَابُ الْعَرْض في الزَّكَاةِ "
554 - عَنْ أَنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ أبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَتَبَ لَهُ التي أمَرَ اللهُ رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم -،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فإن لم يقدر على العمل، أو لم يجد مهنة يكسب منها المال فيتصدق منه، قال: يعين ذوي الحاجات من عاجز أو مظلوم، بقوله أو فعله قدر استطاعته، فإنّ هذا العمل البدني وهذه الخدمة البدنية التي يقدمها لمن استغاث به تحتسب له صدقة " قالوا: فإن لم يجد " القدرة على مساعدة غيره ببدنه أو لسانه " قال: فليعمل بالمعروف "، أي فليأت بنوافل العبادات البدنية من صلاة وصيام وقراءة قرآن " وليمسك عن الشر " أي يتجنب المحرمات من غيبة ونميمة وكذب، " فإنها في صدقة " أي فإن فعل الخير والكف عن الشر له ثواب الصدقة.
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الصدقة مطلوبة من كل مسلم غنياً أو فقيراً، فإن كان غنياً فالصدقة بالنسبة إليه هي صدقة المال، وإن كان فقيراً فإنّ عليه أيضاً صدقة مندوبة مستحبة وهي فعل الخير وصنع المعروف، سواء كان بالبدن أو باللسان. ثانياًًً: أن كل معروف صدقة فإغاثة الملهوف صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وقراءة القرآن صدقة، ونوافل العبادات البدنية كلها صدقة. ثالثاً: أن الإِمساك عن الشر واجتناب المحرمات صدقة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وليمسك عن الشر فإنها له صدقة ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "على كل مسلم صدقة ".
470 - " باب العرض (1) في الزكاة "
554 - معنى الحديث: يحدثنا أنس في هذا الحديث "أن أبا بكر
__________
(1) أي جواز أخذ العرض - بفتح العين وسكون الراء - والمراد به ما عدا النقدين.(3/28)
" وَمَنْ بَلَغتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ، ولَيْسَتْ عِنْدَهُ، وعِنْدَهُ بِنْتُ لبونٍ، فإنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، ويُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَماً أو شَاتَيْنِ، فإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا، وَعِنْدَهُ ابْنُ لبونٍ، فإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ ولَيْسَ مَعَهُ شَيءٌ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصديق رضي الله عنه كتب له التي أمر الله رسوله"، أي أن الصديق رضي الله عنه كتب لأنس رضي الله عنه كتاباً يبين له فيه فريضة زكاة الماشية التي أمر الله تعالى رسوله بأخذها، " ومن بلغت صدقته بنت مخاض "، أي ومما ذكره رضي الله عنه في هذا الكتاب أن صاحب الماشية إذا أصبحت الفريضة الواجبة عليه بنت مخاض " وهي التي أتمت حولاً ودخلت في الثاني، وتجب في خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين من الإِبل، فإذا وجبت عليه " " وليست عنده، وعنده بنت لبون " وهي التي أتمت عامين ودخلت في الثالث " فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين "، أي فإنّ الساعي يأخذ من صاحب الماشية بنت اللبون، التي هيِ أكثر من الفريضة المطلوبة منه، ويدفع له الفرق بين السنين عشرين درهماً، أو شاتين " فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها، وعنده ابن لبون، فإنه يقبل منه، وليس معه شيء " أي ولا يعطيه شيئاً.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استدل به البخاري على جواز أخذ العرض - وهو ما عدا النقدين - في الزكاة، أي استبدال زكاة الماشية بعرض آخر، ودفعه بدلاً عن الفريضة المطلوبة من صاحب الماشية، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الساعي أن يأخذ من صاحب الماشية بنت اللبون، التي هي أكثر من الفريضة المطلوبة منه، وإعطاءه بدلاً عن الفرق بين السنين شاتين، والشاتان عرض آخر من غير الجنس الواجب، فدل ذلك على أنه(3/29)
يجوز للساعي أن يأخذ أكثر من الفريضة، ويدفع الفرق بين السنين عرضاً آخر، وكذلك العكس، وهو أن يأخذ أقل من الفريضة ويأخذ الفرق بين السِّنيْن عرضاً آخر، وفي هذا دليل على جواز استبدال زكاة الماشية بالعروض الأخرى، وهو مذهب أبي حنيفة. وأجاب الجمهور بأنه لو كان الأمر كذلك لكان الفرق يزيد تارة وينقص أخرى لاختلاف الأمكنة والأزمنة، فلما قدر الشارع التفاوت بمقدار معين لا يزيد ولا ينقص كان ذلك هو الواجب في الأصل. وأجاب الحنفية بأنّ الشارع لم يقدر التفاوت بمقدار محدود لا يزيد ولا ينقص، وإنما نظر إلى قيمة الفرق بين السنين حسب اختلاف الزمان والمكان، وتفاوت الأسعار، بدليل ما روى عن علي رضي الله عنه أنه قدر " الجبران " ما بين السنين في بعض الأحوال بشاة أو عشرة دراهم - أي بأقل مما قدره الصديق، وقد كان علي رضي الله عنه مصدّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وساعيه على الزكاة، فلو كان الفرق دائماً هو شاتان أو عشرون درهماً لما عدل عنه وخالف الصديق في تقديره، فتقدير عليّ للفرق بهذا التقدير الذي يختلف عما جاء في كتاب أبي بكر يدل على أنّ هذا الفرق ما هو إلاّ قيمة تختلف حسب اختلاف الظروف والأسعار وأنّ من باب استبدال الزكاة المفروضة بغيرها من العروض، ولهذا قال البخاري: باب العرض في الزكاة، أي استبدال زكاة الماشية بغيرها من العروض، واستدل على ذلك أيضاً، بقول معاذ لأهل اليمن: إيتوني بعرض ثيابكم (خميص) ، أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثانياًًً: استدل الشافعي وأحمد بهذا الحديث على أنه إذا اختلف السن المطلوب فإن على رب الماشية أن يدفع أعلى منه، ويأخذ من الساعي عشرين درهماً أو شاتين، أو يدفع أدنى منه ويعطى للساعي عشرين درهماً أو شاتين، وأنّ التفاوت بين السنين محدد بذلك كما ذكر في الحديث فهو دائماً عشرون درهماً أو شاتين لا يزيد(3/30)
471 - " بَاب لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرق وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِع "
555 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ أبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَتَبَ لَهُ التي فَرَضَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " وَلا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّق، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولا ينقص. قال في " المنهل العذب " (1) : وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن من لزمه سن ولم يوجد عنده، يدفع أدنى منه، والفرق بين السنين بالغاً ما بلغ أو يدفع أعلى من السن الواجب، ويأخذ الفرق بين السنين من الساعي إن شاء، لأنه في حكم البيع، وهو مبني على التراضي أو يدفع قيمة السن المطلوب، وقالوا: تقدير الفرق في الحديث بالشاتين أو العشرين درهماً بناءً على أن ذلك كان قيمة التفاوت في زمنهم لا أنه تقدير لازم، فقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قدر " الجُبْران " ما بين السنين بشاة واحدة أو عشرة دراهم، وهو كان مصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كان يخفى عليه مثل هذا، ولا يظن به مخالفة رسول الله، وقال مالك: يلزم رب المال بإحضار السن الواجب، وإنْ بشراء والله أعلم. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي.
والمطابقة: في قوله: " ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين ".
471 - " باب لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع "
555 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه في هذا الحديث " أن أبا بكر كتب له التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي بعث إليه كتاباً بيّن له فريضة الزكاة التي فرضها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومما جاء في كتابه هذا " ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة "، أي لا يجوز لأرباب
__________
(1) " المنهل العذب " ج 9 للشيخ محمود خطاب السبكي.(3/31)
472 - " بَابُ مَا كَانَ مِنْ خلِيطَيْنِ فإنهُمَا يَتَراجَعَانِ بالسَّوِيَّة "
556 - وفي روَايةٍ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ الله عَنْهُ:
أنَّ أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَتَبَ لَهُ التي فَرَضَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المواشي أن يجمعوا المواشي المتفرقة بين عدة أشخاص، ويضموها إلى بعضها في مجموعة واحدة احتيالاً منهم لتنقيض الصدقة، كأن يكون هناك ثلاثة أشخاص لكل واحد منهم أربعون شاة، فلما عرفوا أنّ على كل واحد منهم شاة أرادوا جمعها معاً حتى تصير مائة وعشرين فتصبح عليهم شاة واحدة.
فلا يجوز لهم جمعها لأنه احتيال لتنقيص فريضة الزكاة، كذلك لا يجوز لهم التفريق بين مجتمع من أجل تنقيص الزكاة كأن يكون للشريكين مائتا شاة فيكون عليهم ثلاث شياه فيريدان أن يفترقا حتى يكون لكل منهما مائة شاة، ولا تجب عليه سوى شاة واحدة، فلا يجوز لهما التفرق، لأنه حيلة لتنقيص الزكاة.
فقه الحديث: دل الحديث على أنّه لا يجوز الجمع بين متفرق أو التفريق بين مجتمع لتنقيص الزكاة، كما تقدم شرحه، لأنّه تهرُّبٌ عن أداء الحق الشرعي ولا يجوز أيضاً للساعي أن يفرّق المجتمع أو يجمع المتفرق لتكثير الصدقة، فقوله خشية الصدقة، وإن كان في الأصل يرجع إلى رب الماشية إلاّ أنه يرجع أيضاً إلى الساعي بضده، فإذا كان الأوَّل لا يجوز له الجمع والتفريق خوفاً من الصدقة فإنه لا يجوز ذلك للساعي أيضاً طمعاً في زيادتها، ومحل النهي عن ذلك في الجنس الواحد كالإِبل مثلاً. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود في حديث طويل. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث.
472 - " باب ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية "
556 - معنى الحديث: يحدثنا أنس في رواية أخرى "أن أبا بكر(3/32)
" ومَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فإنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّويَّةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتب له التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية " أي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب إلى أنس رضي الله عنه فريضة الزكاة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال فيها ما معناه:
أن الخليطين إذا اشتركا في المكان والمرعى والمورد والفحل والمراح دون الاشتراك في الملك، فإن المالين يصيران كالمال الواحد (1) فيهما زكاة واحدة، يأخذها الساعي من المجموع، ثم يتراجع الخليطان فيما بينهما، أي يتحاسبان فيما بينهما بنسبة ما لكل منهما من الماشية، فإذا كان المجموع مثلاً مائة وثلاث وعشرون شاة، لأحدهما الثلثان، وللآخر الثلث، فإن الساعي يأخذ شاة واحدة من المجموع ثم يتحاسبان فيرجع صاحب الثلث على صاحب الثلثين بقيمة الثلث الذي دفعه زيادة عما عليه. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود. والمطابقة:
في كون الترجمة من لفظ الحديث.
فقه الحديث: دل الحديث على أن الخليطين كالشريكين، مالهما كالمال الواحد، فتؤخذ منهما زكاة واحدة، ثم يتحاسبان بينهما، وهو مذهب الشافعي وأحمد، فإذا بلغت ماشيتهما معاً النصاب وجبت فيها الزكاة، وإن لم يكن لكل منهما نصاب (2) ؛ وقال مالك: لا أثر للخلطة إلاّ إذا كان كل منهما يملك نصاباً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإن لم تبلغ سائمة الرجل أربعين " يعني من الغنم - فليس فيها شيء، لأن هذا الحكم بعمومه يشمل الخليطين.
***
__________
(1) " المنهل العذب " ج 9.
(2) أيضاً " المنهل العذب ".(3/33)
473 - " بَابُ زَكَاةِ الإِبِلَ "
557 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ أعْرَابِيَّاً سَألَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ: " وَيْحَكَ إنَّ شَأنَهَا شَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إبل تُؤَدِّي صَدَقَتَها؟ " قَالَ: نَعَمْ: قَالَ:
" فَاعْمَلْ من وَرَاءِ الْبِحَارِ فإِنَّ اللهَ لَنْ يَتْرِكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئاً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
473 - " باب زكاة الإِبل "
557 - معنى الحديث: يحدثنا أبو سعيد رضي الله عنه: " أن أعرابياً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الهجرة " أي عن حكمها بالنسبة إليه وهل تجب عليه الهجرة من البادية إلى المدينة أم لا؟ " فقال له: ويحك إن شأنها شديد " أي فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر إرشاد وتوجيه أن يصرف نظره عن الهجرة رفقاً به، وشفقة عليه، لأن الهجرة أمر شاق عليه، لما فيها من مفارقة الوطن والأهل والأحباب، " فهل لك من إبل تؤدّي صدقتها " أي تخْرِج زكاتها؟ " قال: نعم " لدي إبل أخرجُ زكاتها الشرعية " قال: فاعمل من وراء البحار، فإن الله لن يترك من عملك شيئاً " أي لن ينقصك من عملك شيئاً ما دمت تؤدي زكاة إبلك فما عليك بعد ذلك إلاّ أن تحافظ على بقية شعائر دينك وعباداتك البدنية، فإذا تمكنت من أداء ما افترض الله عليك في ديار قومك، فلا هجرة عليك وإن الله يثيبك على عملك وعبادتك، ولو كنت في أقصى المعمورة.
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب زكاة الإِبل لقوله - صلى الله عليه وسلم - " فهل لك من إبل تؤدّي زكاتها " وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًًً: أن الهجرة وإن كانت مشروعة مطلقاً لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث معاذ: " ولا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة " إلاّ أنها لا تكون واجبة إلاّ إذا كان المسلم(3/34)
474 - " بَابُ زَكَاةِ الْغنَمَ "
558 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ أبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابِ لَمَّا وَجَّهَهُ إلَى الْبَحْرَيْنِ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا يأمن على نفسه وماله ودينه ولا يتمكن من أداء شعائر الإِسلام في حرية تامة لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) فإنّ هذا يدل على وجوبها على كل مسلم مضطهد، قال الإِمام محمد عبده: ولا معنى عندي للخلاف في وجوب الهجرة من الأرض التي يمنع فيها المؤمن من العمل بدينه أو يؤذى فيها إيذاءً لا يقدر على احتماله، وتكون الهجرة مندوبة فقط إذا كان المسلم في بلد يأمن فيه على نفسه وماله ودينه فلا تجب عليه الهجرة في هذه الحالة لحديث الباب حيث قال - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي لما سأله عن الهجرة: " فاعمل من وراء البحار ". أي فإنك إذا تمكنت من أداء العبادات المفروضة عليك كما أمرك الله لا تجب عليك الهجرة. ولهذا قال الإِمام محمد عبده: وأما المقيم في دار الكافرين ولكنه لا يمنع.. أي لا يمنع من أداء شعائر الدين وأركان الإِسلام، ولا يؤذي إذا عمل بدينه، فلا يجب عليه أن يهاجر، بل ربما كانت الإِقامة في دار الكفر سبباً لظهور محاسن الإِسلام وإقبال الناس عليه. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فهل لك من إبل تؤدّي صدقتها " فإنها تدل على وجوب زكاة الإِبل وهو ما ترجم له البخاري، والله أعلم.
474 - " باب زكاة الغنم "
558 - معنى الحديث: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه عندما(3/35)
" بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم، هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِى فَرَضَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمُسْلِمِينَ، والَّتِي أَمرَ اللهُ بِهَا رَسُولَهُ، فَمَنْ سُئِلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ على وجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا، ومنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلا يُعْطِ: في أرْبَع وعِشْرِينَ منَ الإِبِلِ فَمَاَ دُونَهَا مِنَ الْغَنَمِ مِنْ كُلِّ خَمْس شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَت خَمْسَاً وَعِشْرِين إِلَى خَمسٍ وَثَلاثِينَ ففِيهَا بِنْتُ مَخَاض أُنثى، فإِذَا بَلغَتْ سِتَّاً وثَلَاثِينَ إلى خَمسٍ وأرْبَعِينَ ففيهَا بِنْتُ لبون أُنثى. فإذا بَلَغَتْ سِتاً وأرْبَعِينَ إلى سِتِّينَ فَفيها حِقَّةٌ طروقَةُ الْجَملِ، فَإِذا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وسِتِّينَ إلى خَمسٍ وسَبْعِينَ فِفيهَا جَذَعَةً، فَإِذا بَلَغَتْ يَعْنِي سِتَّاً وسَبْعِينَ إلى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لبونٍ، فَإذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَتسْعينَ إِلى عشْرينَ وَمائَةٍ فَفيهَا حقَّتَان طروقَتَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أرسل أنس بن مالك إلى البحرين ليكون عاملاً عليها، وكلفه بأخذ الزكاة المفروضة (1) من أهلها كتب له هذا الكتاب ليعتمد عليه في معرفة فريضة الزكاة (2) ، وتطبيقها وتحصيلها ممن تجب عليه، وكتب له فيه أن من سئل مقدار هذه الفريضة فإنه يجب عليه دفعها، ومن سئل أكثر من ذلك فلا يجب عليه. وهي كما يلي:
الفريضة في الإِبل:
من 5 إلى 24 في كل خمس شاة.
من 25 إلى 35 بنت مخاض وهي التي دخلت في السنة الثانية.
من 36 إلى 45 بنت لبون وهي التي دخلت في السنة الثالثة.
من 46 إلى 60 حقة وهي التي دخلت في السنة الرابعة.
__________
(1) وهي المقدار الذي فرضه الله في الزكاة، والذي يجب على رب المال أن يدفعه للساعي على الزكاة، والعامل عليها.
(2) فهو بمثابة وثيقة شرعية يعتمد عليها في الزكاة.(3/36)
الْجَمَلِ، فإذا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ ففِي كُلِّ أرْبَعِينَ بِنْتُ لبُونٍ، وفي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا أرْبَع مِن الإِبِلِ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةُ إلَّا أنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، فإذَا بَلَغَتْ خمساً مِنَ الإِبِلِ فَفِيهَا شَاة.
وفي صَدَقَةِ الْغَنَمِ في سَائِمَتِهَا إذَا كَانَتْ أرْبَعَيْنَ إلى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاة، فَإِذَا زَادَتْ على عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إلى مِائَتَيْنِ شاتَانِ، فإِذَا زَادَتْ على مِائَتَيْن إلى ثَلَاِثمِائَةٍ فِفِيهَا ثَلَاثٌ، فَإِذا زَادَتْ على ثَلَاِثمِائَةٍ ففي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أرْبَعِينَ شاةً واحدةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ، إِلَّا أنْ يَشَاءُ رَبُّهَا.
وفي الرِّقَّةِ (1) رُبُعُ الْعُشْرِ، فإنْ لَمْ تَكُن إلَّا تِسْعِينَ ومِائَةٍ (2) ، فَلَيْسَ فِيهَا شَيءٌ إلَّا أنْ يَشَاءَ رَبُّهَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من 61 إلى 75 جذعة وهي التي دخلت في السنة الخامسة.
من 76 إلى 90 فيها بنتا لبون.
من 91 إلى 120 فيها حقتان.
وما زاد على ذلك، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، ولا زكاة في أقل من خمس من الإِبل، فإذا بلغت خمساً ففيها شاة واحدة، ثم في كل خمس شاة، حتى تبلغ أربعاً وعشرين كما أوضحناه. وأما الغنم فلا زكاة فيها حتى تبلغ أربعين شاة فإذا بلغت أربعين. فالفريضة فيها كما يأتي:
من 40 إلى 120 فيها شاة واحدة.
__________
(1) أي الفضة.
(2) وهذا يوهم أنها إذا زادت على التسعين ومائة قبل بلوغ المائتين أن فيها صدقة، وليس كذلك. وإنما ذكر التسعين لأنه آخر عقد قبل المائة، فذكر التسعين ليدل على أن لا صدقة فيما نقص عن المائتين. (ع) .(3/37)
475 - " بَابٌ لَا تُؤْخذُ في الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ ولا ذَاتُ عَوَارٍ ولا تيْسٌ إِلَّا مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ "
559 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ أبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَتَب لَهُ الَّتى أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ: " ولَا يُخْرَجُ في الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ ولا ذَاتُ عَوَارٍ ولا تَيْسٌ إلَّا مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من 121 إلى 200 فيها شاتان.
من 201 إلى 300 فيها ثلاث شياه.
وما زاد على ذلك في كل مائة شاة، ولا تجب الزكاة إلاّ في سائمتها أما فريضة الفضة فهي ربع العشر ونصابها مائتا درهم.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على بيان فريضة زكاة الغنم والإِبل والفضة كما ترجم له البخاري. والمطابقة: في قوله: " وفي صدقة الغنم " حيث بين زكاة الغنم، كما ترجم له البخاري. الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي.
475 - " باب لا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلّا ما شاء الصدق "
559 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه: " أن أبا بكر " كتب له التي أمر الله رسوله: ولا يخرج في الصدقة هرمة " أي أن الصِّدِّيق كتب لأنس كتاباً يبين له فيه فريضة زكاة الماشية التي أمر الله رسوله بأخذها من أصحاب المواشي، ومما كتب له في هذا الكتاب: " أنه لا تؤخذ في الزكاة شاة كبيرة السن سقطت أسنانها. " ولا ذات عوار " أي ولا شاة معيبة بعيب شرعي واضح يمنع قبولها في الأضحية مثل الشاة المريضة أو الهزيلة أو(3/38)
476 - " بَابٌ لَيْسَ فيمَا دُونَ خمْس ذَودٍ صَدَقَةٌ "
560 - عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَيْسَ فيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسَقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ ولَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أواقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَة، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العوراء "ولا تيس" أي ولا يؤخذ الذكر من المعز " إلاّ ما شاء المصدق " إلا إذا وافق الساعي على أخذه لكثرة لحمه أو سمنه فلا مانع من ذلك. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود.
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه لا تؤخذ في الزكاة الشاة المعيبة الواضحة العيب كالمريضة والهزيل والهرمة التي لا تقبل في البيع ولا خلاف في ذلك، فإن كانت كلها معيبة أخذ الوسط عند الجمهور، وكلف بإحضار سليمة عند مالك. ثانياًًً: أنه لا تؤخذ في الزكاة سوى الأنثى وهو مذهب الجمهور، إلاّ إذا كانت كلها ذكوراً فيجزىء الذكر عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: يجزىء الذكر مطلقاً ولو كان فيها إناث.
والمطابقة: في قوله: " ولا يخرج في الصدقة هرمة ".
476 - " باب ليس فيما دون خمس ذود صدقة "
560 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة "، أي لا زكاة في أقل من خمسة أوسق من الحبوب والثمار، والوسق ستون صاعاً، قال في " تيسير العلام ": والصاع النبوي أقل من الكيلة الحجازيّة، والصاع النجدي بالخمس وخمس الخمس، فيكون النصاب بالصاع النبوي ثلاثمائة صاع، وبالصاع النجدي والكيلة الحجازية مائتي صاع وثمانية وعشرين صاعاً نجدياً أو كيلة حجازية. " وليس فيما دون خمس أواق من الوَرِق " بكسر الراء وهي الفضة "صدقة " أي ولا تجب(3/39)
خَمسِ ذَوْدٍ مِنَ الإِبِلِ صَدَقَة".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الزكاة في أقل من خمس أواق من الفضة والأوقية الحجازية أربعون درهماً فيكون نصاب الفضة مئتي درهم. " وليس فيما دون خمس ذود من الِإبل صدقة " أي ولا تجب الزكاة في أقل من خمس من الإبل.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على بيان أنصبة الزكاة، فنصاب التمر والحبوب خمسة أوسق أي ثلثمائة صاع نبوي، وإليه ذهب أكثر أهل العلم (1) خلافاً لأبي حنيفة، حيث أوجب الزكاة في قليلها وكثيرها لعموم قوله: " فيما سقت السماء العشر ". ونصاب الفضة: خمس أواق أي مائتا درهم، فإذا بلغت ذلك ففيها ربع العشر. وأما نصاب الذهب فهو عشرون ديناراً أو مثقالاً، قال في " تيسير العلام ": فيكون اثني عشر جنيهاً سعودياً أو انجليزياً لأن وزنهما واحد. ونصاب الإِبل وهو ما ترجم له البخاري " خمس ذوْد " أي خمس من الإِبل، فإذا بلغت ذلك ففيها الزكاة شاة واحدة، فإذا زادت ففيها فريضة الزكاة المقررة في موضعها، ولا تجب الزكاة فيها إلاّ بثلاثة شروط (2) : أن تبلغ نصاباً وأن يحول عليها الحول، وأن تكون سائمة.
وأوجب مالك الزكاة في المواشي مطلقاً سائمة أو غير سائمة، وقال الشافعي إن علفت قدراً تعيش بدونه وجبت فيها الزكاة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " وليس في خمس ذوْدٍ صدقة ".
***
__________
(1) " فقه السنة ".
(2) وهو قول الجمهور كما في " فقه السنة ".(3/40)
477 - " بَابُ الزَّكَاةِ على الزَّوْجِ والأيْتَامِ في الْحِجْرِ "
561 - عَنْ زَيْنَبَ امرأة عبد اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَت:
انْطَلَقْتُ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَوَجَدْتُ امْرَأةً من الأنْصَارِ على البَابِ، حَاجَتُهَا مِثلُ حاجَتِي، فمرَّ علينا، بِلَالٌ، فَقُلْنَا: سَلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أيجْزِيءُ عَنِّي أن أنْفِقَ علَى زَوْجِي وأيتام لِي في حَجْرِي؟ فَقَالَ: " نَعَمْ، ولَهَا أجْرَانِ، أجْرُ القَرَابَةِ وأجْرُ الصَّدَقَةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
477 - " باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر "
561 - معنى الحديث: تحدثنا الصحابية الجليلة السيدة زينب امرأة ابن مسعود رضي الله عنهما حديثها هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فتقول: " انطلقت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - "، أي ذهبْتُ إليه في منزله كما جاء في حديث خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى يوم العيد حيث قال فيه: فلما صار إلى منزله جاءت زينب امرأة ابن مسعود تستأذن عليه، قالت رضي الله عنها: " فوجدت امرأة من الأنصار على الباب، حاجتها مثل حاجتي " أي قضيتها التي تريد السؤال عنها مثل قضيتي تماماً، لأنَّها كانت تريد السؤال عن الصدقة على الأقارب مثلها تماماً " فمر علينا بلال فقلنا: سل النبي - صلى الله عليه وسلم - أيجزى عنّي أن أنفق على زوجي وأيتام لي في حجري " أي أتجزىء الزكاة وتصح شرعاً إذا دفعتها لزوجي الفقير، وهؤلاء الأيتام الفقراء الذين قمت بتربيتهم. قال العيني: وفي رواية الطيالسي: " وهم بنو أخيها وبنو أختها " " فقال: نعم، لها أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة " قال الحافظ: أي أجر صلة الرحم وأجر منفعة الصدقة.(3/41)
478 - " بَابُ الاسْتِعْفَافِ عن الْمَسْألَةِ "
562 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ ناساً من الأنْصَارِ سَألوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فأعْطَاهُمْ، ثمَّ سَألوهُ فأعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَألوهُ فَأعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: " مَا يَكُونُ عِنْدِي من خَيْرٍ فَلَنْ أدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، ومن يَسْتَعْفِفُ يعفَّهُ اللهُ، ومن يَستَغْن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: قال الحافظ: واسْتُدل بهذا الحديث على جواز دفع المرأة زكاتها إلى زوجها، وهو قول الشافعي والثوري وصاحبي أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وعن أحمد. اهـ.
وقال مالك: إن كان يستعين بما يأخذه على نفقتها فلا يجوز. ثانياًً: جواز إعطاء الصدقة للأيتام في الحجر لما فيه من أجر القرابة، وأجر الصدقة كما جاء في الحديث. ثالثاً: جواز الزكاة على الأقارب الذين لا تلزمه نفقتهم، واستحباب ذلك شرعاً لما فيه من الصدقة والصلة معاً، ولهذا ترجم البخاري في باب آخر بقوله: " باب الزكاة على الأقارب ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في كون امرأة ابن مسعود لما قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أتجزىء عنّي أن أنفق على زوجي وأيتام في حجري قال: نعم " إلخ.
478 - " باب الاستعفاف في المسألة "
562 - معنى الحديث: يحدثنا أبو سعيد رضي الله عنه: " أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده " بكسر الفاء أي حتى انتهى ما عنده من المال، " فقال: ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم " أي إنّي لا أمنع عنكم شيئاً من المال يكون عندي فأحتفظ به لغيركم، ثم حثهم على القناعة والتعفف(3/42)
يُغْنِهِ اللهُ، ومَنْ يَتَصَبَّرَ يُصَبِّرهْ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أحَدٌ عَطَاءً خَيْرَاً وأوْسَعَ من الصَّبْرِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عن السؤال وطرق الأسباب المشروعة لكسب المال، فقال: " ومن يستعفف يعفه الله " أي ومن يكف نفسه عن السؤال مرة بعد أخرى يمنحه الله العفة، ويجعلها طبيعة له راسخة في نفسه، فيأنف السؤال، ويكرهه بطبيعته، "ومن يستغن يغنه الله " أي ومن يعمل ويسعى ويطرق أسباب الكسب الشريف يهيىء الله تعالى له أسباب الغنى ويغنيه عن الناس "ومن يتصبّر يصبره الله" أي ومن يعود نفسه على الصبر مرة بعد أخرى يمنحه الله إياه حتى يصبح طبيعة له " وما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوْسَعَ من الصبر " أي ما أعطى الله أحداً نعمة ولا خلقاً كريماً أفضل ولا أوسع من الصبر، لأنه يتسع لكل الفضائل، فكلها تصدر عنه، وتعتمد عليه من عفة، وشجاعة، وعزيمة، وإرادة، وإباء، وغيرها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: الترغيب في التعفف عن السؤال، لما فيه من إراقة ماء الوجه، وإهدار كرامة الإِنسان، فلا يجوز إلّا لحاجة ماسّة على قدر الكفاية عند العجز عن السعي، قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرَّةٍ سَوِي ". ثانياًً: أن الأخلاق الكريمة يمكن اكتسابها والوصول إليها عن طريق التعود عليها كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " ومن يستعف يعفه الله ". والمطابقة: في قوله: " ومن يستعف يعفه الله ".
***(3/43)
563 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأنْ يأخُذَ أحدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَأتِيَ رَجُلاً فَيَسْألهُ أعْطَاهُ أو مَنَعَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
563 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده" أي يقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالله الذي روحه بيده على أن العمل مهما يكن نوعه فهو أفضل من سؤال الناس وإراقة ماء الوجه لهم، وأنه مهما يكن شاقّاً عنيفاً فهو أرحم من مذلّة السؤال " لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله أعطاه أو منعه " أي لأن يذهب إلى الغابة فيقتطع الحطب من أشجاره، ويجمعه ويحمله على ظهره حتى يأتي السوق فيبيعه فيه، " خير له "، أي أشرف وأكرم وأرحم له من أن يمد يده لغيره، سواء أعطاه أو منعه، فإن منعه فقد كسر نفسه، وإن أعطاه فقد منّ عليه، وقد قال الشاعر:
لَحَمْل الصَخْرِ مِنْ قِمَمِ الجِبَالِ ... أحبُّ إِلَيَّ مِنْ مِنَنِ الرجَالِ
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: الترغيب في السعي والعمل وطرق الأسباب المشروعة لكسب الرزق بشرف وكرامة وعزّة نفسٍ، وليس في الإِسلام مهنة وضيعة إلَّا فيما حرمه الشرع كالمخدرات والقمار، والتسول إلَّا لضرورة. ثانياًًً: محاربة الإِسلام للتسول والبطالة، ولذلك أوجب السعي والعمل، ولو كان شاقاً " كالاحتطاب " مثلاً. ثالثاً: أن الفقير القادر على الكسب لا تحل له الزكاة، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاه في هذا الحديث إلى العمل، ولقوله تعالى: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) وهو مذهب الجمهور وقد نص الشافعية والحنابلة على أنّه لا تجوز الزكاة لقادر على الكسب، وكذلك المالكية، واستثنى الفقهاء من ذلك "القادر على العمل(3/44)
564 - عَنْ حكيم بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَألتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فأعْطَانِي، ثُمَّ سَألتُهُ فأعْطَانِي، ثُمَّ سَألتُهُ فَأعطَانِي، ثُمَّ قَالَ: " يَا حَكِيمُ إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أخَذَهُ بسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يأكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، واليَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى " قَالَ حَكِيمُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ والَّذِي بَعَثَكَ بالْحَقِّ لا أرزَأُ احَداً بَعْدَكَ شَيْئَاً حَتَّى أفَارِقَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إذا لم يجد من يستعمله" أو طالب العلم إذا تفرغ له. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له ".
564 - معنى الحديث: يقول حكيم رضي الله عنه: " سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيم إن هذا المال خضرة " بفتح الخاء وكسر الضاد " حلوة " أي شيء محبوب مرغوب ترغبه النفس وتحرص عليه بطبيعتها، كما تُحَبُّ الفاكهة النضرة، الشهية المنظر، الحلوة المذاق " فمن أخذه بسخاوة نفس " أي فمن حصل عليه عن طيب نفس، وبدون إلحاح وشره " بورك له فيه " أي وضع الله له فيه البركة فينمو ويتكاثر، وإن كان قليلاً، ورزق صاحبه القناعة، فأصبح غنيَّ النفس، مرتاح القلب، وعاش به سعيداً، " ومن أخذه بإشرافِ نفس " أي بإلحاح وشره وبدون طيب نفس " لم يبارك له فيه " أي نزع الله منه البركة، وسلب صاحبه القناعة، فأصبح فقير النفس دائماً ولو أعطي كنوز الأرض، " وكان كالذي يأكل ولا يشبع ", أي كالملهوف الذي لا يشبع من الطعام مهما يأكل منه. " اليد العليا خير من اليد السفلى " أي: اليد المتعففة خير من اليد السائلة لأنّها قد تعالت وترفعت بنفسها عن ذل السؤال، على عكس الأخرى(3/45)
الدُّنْيَا، فَكَانَ أبُو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَدْعُو حَكِيماً إلى الْعَطَاءِ، فَيَأبَى أنْ يَقبَلَهُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فأبَى أنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئَاً، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ على حَكِيمٍ أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْه حَقَّهُ مِنْ هَذَا الفَيْءِ فَيَأبَى أنْ يَأخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأ حَكِيم أحَداً مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى تُوُفِّيَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التي حطت من قدر نفسها وكرامتها بما عرضت له نفسها من المذلة. " فقلت لا أرزأ أحداً بعدك " أي لا أسأل أحداً شيئاً بعدك " فكان أبو بكر يدعوه إلى العطاء فيأبى أن يقبل منه " فلا يأخذ منه شيئاً، ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئاً، فقال عمر: " إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم: أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه " قال العيني: وإنما أشهد عمر على حكيم لأنه خشي سوء التأويل فأراد تبرئة ساحته بالإِشهاد عليه. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: الترغيب في الاستعفاف عن السؤال والقناعة والرضا بالقليل، وأن اليد العفيفة المتعففة خير عند الله من اليد السائلة، لأنّها يد عليا صانت نفسها عن ذل السؤال. وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًًً: أن من أخذ المال من طرقه المشروعة عن سماحة نفس وقنع بما أعطاه الله منه بارك الله له فيه، وجعل له القليل كثيراً، والعكس بالعكس. ثالثاً: أن سؤال السلطان لا عار فيه كما قال المهلب. والمطابقة: في قوله: " اليد العليا خير من اليد السفلى " لأن المراد باليد العليا اليد المتعففة.
***(3/46)
479 - " بَابُ مَنْ أعْطَاهُ اللهُ شيْئاً مِنْ غَيْرِ مَسْألةٍ ولا إِشْرَافِ نفْسٍ "
565 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعْطِيني الْعَطَاءَ فَأقُولُ أعْطِهِ مَنْ هُوَ أفْقَرُ إلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ: " خُذْهُ، إِذا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيء وَأنْتَ غَيْرُْ مُشْرِفٍ ولا سَائِلٍ فَخُذْهُ، ومَالا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ " (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
479 - " باب من أعطاه الله شيئاً من في مسألة ولا إشراف نفس "
565 - معنى الحديث: يقول عمر رضي الله عنه: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيني العطاء " أي: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي لعمر رضي الله عنه شيئاً من مال الزكاة على أنه عمولة على عمله فيها، لا على أنه صدقة، لأنه ليس بفقير. " فأقول: أعطه من هو أفقر مني " لأنّه ظن أنه يعطيه إياه على أنه صدقة، " فقال: خذه، إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف " أي غير متطلع إليه ولا حريص عليه ولا ساع في سبيله، " فخذه " حلالاً.
فقه الحديث: دل الحديث على مشروعية أخذ العطية بدون سؤال ولا إشراف نفس. فإنه يندب أخذها، وليس فيه دليل على إعطاء الزكاة من لا يستحقها، فإن ما أخذه عمر عمولة لا صدقة، أمّا إذا خالط المال حرام، فقد كرهه (2) مالك والثوري، وأجازه ابن مسعود، وابن عمر، وسعيد بن جبير. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة.
__________
(1) أي لا تتطلع إليه، ولا تعلق به قلبك.
(2) أي كره أخذ العطية من المال المخلوط بالحرام.(3/47)
480 - " بَابُ مَنْ سَألَ النَّاسَ تكَثُّراً "
566 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأل النَّاسَ حَتَّى يَأتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ في وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْم، وقالَ: إِنَّ الشَّمسَ تَدْنُو يَومَ القِيَامَةِ حتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأذُنِ، فَبَيْنَما هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ ثُمَّ بِمُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
480 - " باب من سأل الناس تكثراً "
566 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة (1) لحم "، أي ما يزال الرجل المتسول يكثر من التسول ويلحّ في سؤال الناس عن غير عوز وفاقة، وإنما يسأل تكثراً ويذل نفسه ويمتهن كرامته التي أوجب الله عليه صيانتها.
فيغضب الله عليه فيذله ويهينه يوم القيامة كما أذل نفسه في الدنيا، ويفضحه على رؤوس الأشهاد، فيسلخ له وجهه كله، حتى يأتي أمام الناس وليس في وجهه قطعة لحم جزاءً وفاقاً لما فعله في الدنيا من إراقة ماء الوجه، " وقال: إنّ الشمس تدنو يوم القيامة " أي تقترب من رؤوس العباد، ويشتد حرها، فيعرقون " حتى ييلغ العرق نصف الأذُن " فإذا وقع ذلك كان أذاها لمن لا لحم في وجهه أشد وألمها أقوى وأعظم، كما أفاده القسطلاني، " فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد " أي ذهبوا إلى الأنبياء السابقين من آدم إلى نوح إلى عيسى يلتمسون منهم الشفاعة لفصل القضاء، فلم يشفعوا لهم، فذهبوا إلى سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فشفّعه الله في خلقه.
__________
(1) بضم الميم وسكون الزاي.(3/48)
481 - "بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) وكَم الغِنَى"
567 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَيْس الْمِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمَتَانِ والتَّمْرَةُ والتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الذي لا يَجِدُ غِنى يُغْنِيْهِ، وَلَا يُفْطنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَلَا يَقُومُ فَيَسْأل النَّاسَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقه الحديث: دل الحديث على تحريم السؤال على الغني تكثراً، لأن هذا الوعيد لا يترتب إلاّ على معصية، وقد توعد الله المتسول تكثراً بسلخ وجهه يوم القيامة، كما أراق ماء وجهه في الدنيا، والجزاء من جنس العمل، لأن السؤال مذلة، والله لا يرضى للمسلم أن يعرّض نفسه لهذه المهانة إلاّ لضرورة.
الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم ".
481 - " باب قول الله تعالى: (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) وكم الغنى "
ومعنى قوله: " وكم الغنى " أي وما مقدار المال الذي يكون به المسلم غنياً لا تحل له الصدقة ولا الأخذ من الزكاة.
567 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس المسكين الذي يطوف " أي ليس المسكين الأولى بأخذ الزكاة هو ذلك المتسول الذي يتجوّل في الأسواق، ويتكفف الناس، ويلح في التسول صباح مساء، " ولكن المسكين " الذي هو أحق بالصدقة والزكاة، هو ذلك الضعيف الحال، " الذي لا يجد غنى يغنيه " أي لا يملك(3/49)
482 - " بَابُ خرْصِ التَّمرِ "
568 - عن أبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
غزَوْنَا مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - غَزْوَةَ تَبُوكٍ، فلمَّا جَاءَ وَادِي القُرَى إِذَا امْرَأة في حَدِيْقَةٍ لهَا، فقالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأصْحَابِهِ: اخْرُصُوا وخَرَصَ رَسُولُ اللهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلّا قليلاً من المال، لا يكفي لنفقته ونفقة عياله، وهو مع ذلك صابر متعفف يستر حاله عن الناس " ولا يُفطَنُ له " بالبناء للمجهول، أي لا يشعر به أحد من الناس، ولا يتنبهون لفقره بسبب عفته، وشدة حيائه، وتجمُّلِهِ.
" ولا يقوم فيسأل الناس " حتى يعلموا حاجته فيتصدقوا عليه، وفي رواية أخرى: " ولكن المسكين الذي ليس له غنى، ويستحي، ولا يسأل الناس إلحافاً ". الحديث: أخرجه الستة إلا الترمذي. والمطابقة: في قوله: " ولا يقوم فيسأل الناس ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحديد معنى الفقير الذي تحل له الزكاة بأنه هو الذي لا يجد غنى يغنيه، أي الذي لا يجد الكفاية من المال لنفقته ونفقة عياله، فإن وجد الكفاية فهو غني، لا يجوز له الأخذ من الزكاة، واختلفوا في الكفاية، فقالت المالكية والحنابلة كفاية السنة، وقالت الشافعية: كفاية العمر لأمثاله، وقالت الحنفية: امتلاك النصاب الشرعي للزكاة زائداً عن حاجته وحاجة عياله. ثانياًًً: الثناء على الفقير المتعفف، وكونه أحق بالصدقة من المتسول.
482 - " باب خرص التمر "
568 - معنى الحديث: يقول أبو حميد رضي الله عنه: " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك " وهي تلك الغزوة التي خرج فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - في شهر رجب من السنة التاسعة من الهجرة لقتال الروم، "فلما جاء(3/50)
- صلى الله عليه وسلم - عَشرَةَ أوْسُق، فَقَالَ لَهَا: أحْصِي مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَلَمَّا أتيْنَا تَبُوكَ قَالَ: أمَا إِنَّهَا سَتَهُبُّ اللَّيْلَةَ ريحٌ شَدِيدَةٌ، فلا يَقُومَنَّ أَحدٌ، وَمَنْ كانَ مَعَهُ بَعِير فَلْيَعْقِلْهُ، فَعَقَلْنَاهَا وهَبَّتْ ريح شَدِيدَةٌ، فقامَ رَجُل فألْقَتهُ بِجَبَل طيَءٍ، وأهدَى مَلِكُ أْيلَةَ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَغَلَةً بَيضَاءَ، وكسَاهُ بُرْداً، وكَتَبَ لَهُ ببحرِهِمْ، فَلَمَّا أَتى وَادِيَ القُرَى قَالَ لِلْمَرْأةِ: كَمْ جَاءَ حَدِيقَتُكِ، قَالَتْ: عَشرَةَ أوْسُقٍ خَرْصَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّي مُتَعَجِّلٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وادي القُرى إذا امرأة في حديقة لها" أي: فلما وصلنا وادي القرى وجدنا امرأة في بستان لها يحتوي على بعض النخيل المثمرة، " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: " اخرصوا " وخرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة أوسق " أي: وقدر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تلك الثمرة التي على النخل إذا جفت تبلغ عشرة أوسق، أي ستمائة صاع من التمر، لأن الوسق ستون صاعاً، " فقال لها أحصي ما يخرج منها " أي كيليها إذا جفت، واعرفي كم صاعاً بلغت، واضبطي عدد كيلها، " فلما أتينا تبوك قال: أما إنها ستهب الليلة ريح شديدة "، أي عاصفة قويّة " فلا يقومن أحدٌ، ومن كان معه بعير فليعقله "، أي فليربطه لئلا تحمله " العاصفة وتؤذيه " وهبت ريح شديدة فقام رجل فألقته بجبل طيء " (1) في ضواحي حائل. " وأهدى ملك أيلة " وهي العقبة " للنبي - صلى الله عليه وسلم - بغلة بيضاء " تُسمَّى دلدل، واسم الملك يوحنا بن رُوبَة " وكساه بُرْداً "، أي بعث إليه كسوة فاخرة " وكتب له - صلى الله عليه وسلم - ببحرهم " أي وأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - على تلك المنطقة البحرية الواقعة على ساحل البحر الأحمر. " فلما أتى - صلى الله عليه وسلم - وادي القرى قال للمرأة: كم جاء حديقتك " أي: كم صاعاً أثمرت حديقتك " قالت: عشرة أوسق خرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، أي بلغت ثمرتها عشرة أوسق مثل
__________
(1) بتشديد الياء وكسرها.(3/51)
إلى الْمَدِينَةِ، فَمَنْ أراد مِنْكُمْ أنْ يَتَعَجَّلَ مَعِي فَلْيَتَعَجَّلَ، فلَمَّا - قَالَ ابْنُ بَكَّارٍ كَلِمَةً مَعْنَاهَا - أشْرَفَ علَى الْمَدِينَةِ قَالَ: " هَذِه طَابَةُ " فَلمَّا رَأَى أحُداً قَالَ: " هَذَا جُبَيْلٌ يُحبُنّاَ وَنُحِبَّهُ ألا أخْبِرُكُمْ بِخَيرِ دوُرِ الأنْصَارِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: دُورُ بَنِي النَّجَّارِ، ثُمَّ دُورُ بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ، ثُمَّ دُورُ بَنِي سَاعِدَةَ، أو دُورِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرجِ، وفي كُلِّ دُورٍ الأنْصَارِ يَعْنِي خَيْراً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خرص النبي - صلى الله عليه وسلم - تماماً، " فلما أشرف على المدينة " ورأى مبانيها " قال: هذهْ طابة " أي هذه هي المدينة الطيبة التي سماها الله طابة لطيبها " فلما رأى - صلى الله عليه وسلم - أحداً قال: هذا جُبَيْلٌ يحبنا " حقيقة لا مجازاً كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا حاجة إلى تأويله " ألا أخبركم بخير دور الأنصار، قالوا: بلى، قال: دور بني النجار ": أي أفضلها قبائل بني النجار، كما أفاده العيني، " وفي كل دور الأنصار "، أي وجميع قبائل الأنصار لها مزية وشرف وفضل في الجاهلية والِإسلام.
فقه الحديث: دل الحديث على فوائد وأحكام كثيرة " منها " مشروعية الخرص (بفتح الخاء، وقد تكسر) وهو تقدير ما على النخل من الرطب تمراً، ليحصى على مالكه، فيتوصل به إلى تحديد فريضة الزكاة فيها، وهو مذهب الجمهور، عملاً بحديث الباب، وحديث عتاب بن أسيد " أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم " أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة. وفيه انقطاع، لأن ابن المسيب لم يسمع من عتّاب وعنه - صلى الله عليه وسلم -: " إذا خرصتم فخذوا (1) ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث
__________
(1) وفي نسخة لأبي داود: فجذوا، والجذاذ قطع ثمر النخل، وفي نسخة: فجدوا، بالدال بمعنى القطع أيضاً. (ع) .(3/52)
483 - " - بَابُ الْعُشُرِ فِيمَا يُسْقَى مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ أو بالْمَاءِ الْجَارِي "
569 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أوْ كَانَ عَثَرِياً الْعُشْرُ، ومَا سُقِيَ بالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشُرِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فدعو الربع" أخرجه الخمسة. قال مالك: فإذا أخطأ الخارص في التقدير، وكان مأموناً وتحرى الصواب وجب دفع ما خرص. وقال ابن حزم: إذا غلط الخارص أو ظلم رُدَّ إلى الحق. وأنكر أبو حنيفه الخرص، وقال: إنه ظن وتخمين ورجم بالغيب لا يلزم به حكم شرعي. والمطابقة: في قوله: " وخرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود.
483 - " باب العشر فيما يسقى من ماء السماء أو الماء الجاري "
569 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " فيما سقت السماء والعيون أو كان عَثرياً " (1) وهو ما سقى بالأنهار والعيون والوديان الجارية " العشر " أي عشر غلته. " وما سقي بالنضح " بفتح النون وسكون الضاد (2) ، أي: وكل زرع سقي بسبب إخراج الماء من البئر بالبعير أو الآلة فإن فيه " نصف العشر " أي نصف عشر غلته. الحديث: أخرجه أيضاً أصحاب السنن. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فيما سقت السماء إلخ ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان فريضة زكاة الحبوب والثمار، وأنها العشر فيما سقى بالأمطار والعيون والأنهار دون آلة أو مؤنة، ونصف العشر فيما سقى بآلة من ساقية أو مضخة أو نحوهما.
ثانياًًً: دل الحديث بمفهومه على أنّ ما سقي نصف العام بآلة ونصفه بغيرها فيه ثلاثة أرباع العشر، قال ابن قدامة: ولا نعلم فيه خلافاً.
__________
(1) بفتح العين والثاء.
(2) من قولهم نضح البعير الماء إذا حمله من البئر ليسقى به الزرع.(3/53)
484 - " بَابُ أخذِ صَدَقَةِ التَّمْرِ عِنْدَ صرِامِ النَّخلِ، وَهَلْ يُتركُ الصَّبِيُّ فيمسُّ تمر الصَدَقَة "
570 - عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُؤتَى بالتَّمْرِ عِنْدَ صِرَمِ النَّخْلِ، فَيَجِىءُ هذا بِتَمْرِهِ، وهَذَا مِنْ تَمْرِهِ، حتى يَصِير عِنْدَهُ كَوْماً مِنْ تَمْرٍ، فجعَلَ الْحَسَنُ والْحُسَيْنُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَلْعَبَانِ بذَلِكَ التَّمْرِ، فأخَذَ أحَدُهُمَا تَمْرَةً فَجَعَلَهَا في فِيهِ، فَنَظر إِلَيْهِ رَسُولُ - صلى الله عليه وسلم - فأخرَجَهَا مِنْ فِيهِ فَقَالَ: " أمَا عَلِمْتَ أنَّ آل مُحَمَّدٍ لَا يَأكلُونَ الصَّدَقَةَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
484 - " باب أخذ صدقة التمر عند صرام النخل وهل يترك الصبي فيمس تمر الصدقة "
570 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالتمر عند صرام النخل " أي يأتيه الناس بزكاة تمورهم عند قطع التمر عن النخل بعد إدراكه وتمام جفافه (1) ، " فجلس الحسن والحسين يلعبان بذلك التمر فأخذ أحدهما " وهو الحسن " تمرة " من تمور الزكاة فنظر إليه رسول الله " نظرة نهي ولوم له على ما فعل، " فأخرجها من فيه "، أي فأخرج الحسن تلك التمرة من فمه، " فقال: أما علمت أن آل محمد لا يأكلوِن الصدقة "، أي أما علمت أنّ بني هاشم لا تحل لهم الصدقة ولا الزكاة تكريماً وتشريفاً لهم " لأنها من أوساخ الناس " كما قال - صلى الله عليه وسلم - (2) .
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن زكاة التمر تؤخذ
__________
(1) قال الإسماعيلي أراد بقوله عند صرام النخل: أي بعد أن يصير تمراً.
(2) أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.(3/54)
485 - " بَابٌ لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ في عَبْدِهِ صَدَقَةٌ "
571 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لَيْسَ على الْمُسْلِمِ صَدَقَةٌ في عَبْده ولا فَرَسِهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عند جذاذه وتمام إدراكه وجفافه، لأن الصحابة كانوا يأتون بها عند صرام النخل، وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًًً: أن الصدقة مطلقاً فريضة أو تطوعاً لا تحل لآل النبي - صلى الله عليه وسلم - لحديث الباب، وحديث سلمان رضي الله عنه قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية، ولا يقبل الصدقة ". أخرجه أحمد، أما آل النبي الذين لا تحل لهم الصدقة فهم عند مالك وأبي حنيفة بنو هاشم فقط، ويدخل فيهم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس، وقال الشافعي: هم بنو هاشم وبنو المطلب لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام، وإنما نحن وهم شيء واحد " أخرجه البخاري وأحمد. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " يؤتى بالتمر عند صرام النخل ".
485 - " باب ليس على المسلم في عبده صدقة "
571 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسة " أي: لا يجب على المسلم أن يُخْرج زكاةً عن عبده ولا عن فرسه وإن كانت من الأشياء المملوكة. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه لا زكاة في العبيد والجواري وهو مذهب الظاهرية، وقال الجمهور: إن كانت للتجارة ففيها الزكاة. ثانياًًً: أن لا زكاة في الخيل، وهو مذهب الظاهرية، وقال(3/55)
486 - " بَابٌ إذَا تحوَّلَتِ الصَّدَقَةُ "
572 - عنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أتِي بِلَحْمٍ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَريْرَةَ فَقَالَ: " هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَة، وَهُوَ لَنَا هَدِيَّة ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجمهور: إن كانت للتجارة ففيها الزكاة، وقال أبو حنيفة. إن كانت سائمة ففيها الزكاة.
486 - " باب إذا تحولت الصدقة "
572 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بلحم تصدق به على بِرَيْرَة " مولاة عائشة، وكانت امرأة فقيرة يتصدق عليها الناس، فأتت يوماً بشيء من ذلك اللحم الذي تصدق به عليها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعطته إياه فتقبله منها " فقال: هو عليها صدقة وهو لنا هدية " أي فأكل منه - صلى الله عليه وسلم - وقال: إن هذا اللحم الذي هو بالنسبة لبريرة صدقة، قد صار بالنسبة إلينا هدية وحل لنا الأكل منه. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
فقه الحديث: دل الحديث على أن الصدقة إذا وصلت إلى يد صاحبها وتسلّمها المتصدق عليه صارت ملكاً له، يحق له أن يهديها، ويبيعها، ويتصرف فيها كيف يشاء، فيحل للغني وللهاشمي أن يأخذها منه بيعاً أو هدية. ويؤخذ منه أيضاً جواز الهدية لآل بيت النبوة وتحريم الصدقة عليهم، والفرق بين الهدية والصدقة أن الهدية عطية يقصد بها ثواب الدنيا، والصدقة يقصد بها ثواب الآخرة. والمطابقة: من حيث إن الصدقة على بريرة صارت هدية منها بسبب تملكها لها، كما أفاده العيني.(3/56)
487 - " بَابٌ في الرِّكازِ الخمس "
573 - عَنْ أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ، والبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدَنُ جُبَارٌ، وفي الرِّكَازِ الْخُمُسُ ".
488 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى (وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا) وَمُحَاسَبَةِ الْمُصَدِّقينَ مَعَ الإِمَامِ "
574 - عنْ أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
487 - " باب في الركاز الخمس "
573 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "العجماء جبار"، أي أن ما تحدثه البهيمة من تلف أو ضرر فهو هدر لا ضمان فيه، " والبئر جبار، والمعدن جبار " فإذا وقع إنسان في بئر ماء، أو منجم ذهب، فمات فلا ضمان فيه، " وفي الركاز الخمس " أي ويجب إخراج الخمس من كل كنز جاهلي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه إذا انفلتت الدابة فأتلفت مالاً أو نفساً، ولم يكن صاحبها حاضراً، فلا ضمان عليه، أما إن كان معها صاحبها فإنه يضمن ما حدث منها، وهو مذهب مالك. ومن وافقه من أهل العلم (1) . ثانياًًً: أن من وقع في بئر أو منجم فمات فلا ضمان فيه.
ثالثاً: وجوب الخمس في الركاز وهو مذهب الجمهور. الحديث: أخرجه الستة.
488 - " باب قول الله تعالى: (وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا) ومحاسبة المصدقين مع الإِمام "
__________
(1) قال مالك: يضمن من يكون معها مالكاً أو أجيراً أو مستعيراً مطلقاً، وقال أحمد وأبو حنيفة: يضمن الراكب ما أتلفته بيدها، أما ما أتلفته برجلها فلا اهـ. شرح البخاري للشماعي.(3/57)
" اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً مِنَ الأَسْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ ".
489 - " بَابُ وَسْمَ الإِمَامَ إِبِلَ الصَّدَقَةِ بِيَدِهِ "
575 - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
"غَدَوْتُ إلى رَسُولِ - صلى الله عليه وسلم - بِعَبْدِ اللهِ بْنِ أبي طَلْحَةَ لِيُحَنِّكَهُ، فَوَافَيْتُهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي هذا باب يذكر فيه الأحاديث المتعلقة بقوله تعالى: (وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا) ومحاسبة الإِمام للمصدقين، جمع مصدّق، وهو الساعي والعامل الذي يجمع الزكاة من أصحابها.
574 - معنى الحديث: يقول أبو حميد رضي الله عنه: " واستعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من الأسد " بفتح الهمزة وسكون السين أي من: الأزد، وهي قبيلة عربية معروفة، أي أرسله ساعياً وعاملاً لجمع الزكاة من أصحابها، " فلما جاء حاسبه " على الزكاة التي جمعها حرصاً منه - صلى الله عليه وسلم - ومحافظة على حقوق المستحقين لها.
فقه الحديث: دل الحديث على أنه يجب على الإِمام أن يعيّن ساعياً لجمع الزكاة، وأن يحاسبه عليها محافظة على حقوق ذويها والمستحقين لها، ويسمى هذا الساعي عاملاً، وجمعه عاملون، كما في قوله تعالى: (وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا) ويسمى مصدقاً، وهو المعْنِيُّ بقول البخاري: ومحاسبة المصدق. أي محاسبة الإِمام للساعي كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قوله: " فلما جاء حاسبه ".
489 - " باب وسم الإِمام إبل الصدقة "
575 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: "غدوت إلى(3/58)
بِيَدِهِ الْمِيسَمُ يَسِمُ إِبلَ الصَّدَقَةِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعبد الله بن أبي طلحة ليحنكه"، أي ذهبت صباحاً بعبد الله ابن أبي طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل أن يحنكه، والتحنيك: هو أن تمضغ تمرة ثم تجعل في حنك الصبي، وتحك فيه حتى تتحلل في فمه، وكانوا يفعلون ذلك تبركاً بريقه - صلى الله عليه وسلم -. " وافيته في يده الميسَمُ " أي فوجدته في يده الميسم، وهو آلة من حديد يكوى بها البعير فتُحْدِثُ فيه علامة تميزه عن غيره، " يسم إبل الصدقة " أي يكوي بهذه الآلة إبل الصدقة لتحدث فيها " وسماً " أي علامة خاصة بها تختلف عن سواها فتميزها عن غيرها. الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب وسم إبل الصدقة وبقرها وغنمها، فأما الإِبل والبقر فتوسم في أفخاذها أما الغنم فتوسم في آذانها. ثانياًً: أنه يستحب تحنيك الصبي وأن يقوم به أهل الخير والفضل والصلاح. والمطابقة: في قوله: " يسم إبل الصدقة ".
***(3/59)
" أبوابُ صدَقَةِ الْفِطْرِ "
490 - " بَابُ فَرْض صَدَقَةِ الْفِطْرِ "
576 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" فَرَضَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زكَاةَ الْفِطر صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، أو صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ والْحُرِّ، والذَّكَرِ والأنثى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وأمَرَ بِهَا أن تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاس إلى الصَّلَاةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" أبواب صدقة الفطر "
أي الأبواب التي نذكر فيها الأحاديث المتعلقة بزكاة الفطر. وصدقة الفطر: لفظ إسلامي لم يكن معروفاً قبل الإِسلام وإنما هو من الأداء الشرعية والمصطلحات الإِسلامية الخاصة بديننا الحنيف، كما أفاده العيني. والحكمة في مشروعيتها تهذيب النفس وإصلاح الطبيعة البشرية والتسامي بها، وهي طُهْرَةٌ للصائم، وطعمة للمساكين، وإغناء لهم عن السؤال يوم العيد.
490 - " باب فرض صدقة الفطر "
576 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعاً من تمر " أي شرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذه الأمة زكاة الفطر، وحدد حكمها، فجعلها فرض عين على كل مسلم ومسلمة. ثم بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مقدارها صاع وهو خمسة أرطال وثلث عند الجمهور، وثمانية أرطال عند أبي حنيفة. ثم بين الأصناف التي تخرج منها، وأنها من غالب قوت البلد كما قال رضي الله عنه: "صاعاً من تمر(3/60)
أو صاعاً من شعير" وفي رواية أخرى " صاعاً من طعام " وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر ". اهـ. فجعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأصناف لأنّها غالب قوت أهل المدينة، ثم بين - صلى الله عليه وسلم - أنها تجب: " على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير " ويخرجها عنه وليه " والكبير من المسلمين " خاصة " وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة " أي بعد صلاة الفجر وقبل خروج الناس إلى صلاة العيد. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ متعددة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنّ زكاة الفطر فرض على كل مسلم يملك ما يزيد على قوته وقوت عياله، سواء كان ذكراً أو أنثى عبداً أو حراً، صغيراً أو كبيراً، وقال أبو حنيفة: إنها واجبة وليست فرضاً وتجب على من يملك النصاب الشرعي، وليس عليه دليل. ثانياًًً: أنّ مقدارها صاع، وهو خمسة أرطال وثلث عند الجمهور، وثمانية أرطال عند أبي حنيفة. ثالثاً: أنها تخرج من غالب قوت البلد من حنطة أو شعير أو تمر أو زبيب أو أقط (1) أو غيرها، وإنما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأصناف، لأنها غالب قوت المدينة في العهد النبوي. رابعاً: قال أبو حنيفة: الواجب من القمح نصف صاع فقط، لقول معاوية على المنبر: -أي على منبر السجد النبوي- " إني أرى مدين من حمراء الشام تعدل صاعاً من تمر، وموافقة الصحابة على قوله هذا. وقد اختاره ابن تيمية (2) ، والجمهور على أن في البر صاعاً كغيره لعموم الأحاديث. خامساً: أنه يستحب إخراجها قبل صلاة العيد وسيأتي تفصيله. والمطابقة: في قوله: " فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر ".
__________
(1) وهو اللبن الحامض المجفف.
(2) " الاختيارات الفقهية " لابن تيمية.(3/61)
491 - " بَابُ الصَّدَقَةِ قَبلَ الْعِيدِ "
577 - عن ابنِْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بِزَكَاةِ الفِطْرِ قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الصَّلَاةِ ".
578 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال:
" كُنَّا نُخْرِجُ في عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعاً مِنْ طَعَام،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
491 - " باب الصدقة قبل العيد "
أي هذا باب يذكر فيه حكم إخراج زكاة الفطر قبل صلاة العيد وأن إخراجها في هذا الوقت بالذات مستحب لا واجب، وأن الواجب هو إخراجها في جميع نهار عيد الفطر سواء كان قبل الصلاة أو بعدها، قال الحافظ في " الفتح ": وحمل الشافعي التقييد بقبل صلاة العيد على الاستحباب لصدق اليوم على جميع النهار.
577 - معنى الحديث: أن ابن عمر رضي الله عنهما يحدثنا: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة " أي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه وسائر المسلمين أمر ندب واستحباب لا أمر فرض وإيجاب.
أن يخرجوا زكاة الفطر قبل خروج الناس لصلاة العيد، قال العيني: ظاهره يقتضي وجوب الأداء قبل صلاة العيد، لكنه محمول على الاستحباب، وذلك ليحصل الغناء للفقراء في هذا اليوم، ويستريحوا عن الطواف. الحديث:
أخرجه الخمسة، أي ما عدا ابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة " وأقل مقتضيات الأمر الندب والاستحباب وهو ما ترجم له البخاري.
578 - معنى الحديث: يقول أبو سعيد رضي الله عنه: "كنا نخرج(3/62)
وَكَانَ طَعَامُنَا الشَّعِيرُ والزَّبِيبُ والأقطُ والتَّمْرُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفطر" أي كان الوقت الذي نخرج فية زكاة الفطر في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو يوم عيد الفطر " صاعاً من طعام " أي وكانت صدقة الفطر مقدار صاع من غالب قوت المدينة وطعامها الذي نأكله فيها، " وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط " (1) أي وكان غالب طعام المدينة من الأصناف المذكورة، ومنها الأقط. والمطابقة: في قوله: " كنا نخرج في عهد رسول الله يوم الفطر ".
ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: استحباب إخراج زكاة الفطر قبل صلاة العيد، وأن لها وقتين: وقت ندب واستحباب: وهو قبل الصلاة، لقول ابن عمر رضي الله عنهما، كما في الحديث الأول: " أمر - صلى الله عليه وسلم - بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة " وأقل مقتضيات الأمر الاستحباب.
ووقت وجوب: وهو يوم عيد الفطر سواء كان ذلك قبل الصلاة أو بعد الصلاة لقول أبي سعيد: " كنا نخرج في عهد رسول الله يوم الفطر، فمن أخرجها في يوم العبد (2) فقد أدّى ما عليه من زكاة الفطر ". وقد أخرج البخاري حديث أبي سعيد بعد حديث ابن عمر ليوضح أن الأمر في حديث ابن عمر للاستحباب فقط وهو مذهب الجمهور حيث قالوا: إنما يستحب إخراجها قبل الصلاة ولا يجب، وقال ابن حزم: يجب إخراجها قبل الصلاة متمسكاً بظاهر حديث ابن عمر، وقال: يحرم تأخيرها، واختلفوا في يوم الفطر الذي تجب الزكاة فيه فقال أبو حنيفة ومالك: من فجر اليوم إلى الغروب، والباقون على أنه من غروب شمس آخر رمضان. ثانياًً: أن الفطرة من غالب قوت البلد. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ.
__________
(1) بفتح الهمزة وكسر القاف، وقد تسكن، ويتخذ من اللبن المخيض، ويطبخ ثم يترك حتى يمصل اهـ. كما في (المصباح) .
(2) أي اليوم الأول من أيام العيد.(3/63)
بِسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
" كتابُ الْحَجِّ "
492 - " بَاب وجُوبِ الْحَجِّ وَفضلِهِ "
579 - عَنْ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
كَانَ الْفَضْلُ بْن الْعَبَّاس رَدِيفَ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَاءَتْ امْرَأةٍ من خَثْعَمَ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظرٌ إليهَا وتَنْطر إليْهِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَصْرِفُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
492 - " باب وجوب الحج وفضله "
أي هذا باب يذكر فيه الأحاديث الدالة على وجوب الحج ... إلخ. والحج لغة: كما قال الخليل هو " كثرة القصد إلى من تعظمه ". وشرعاً: قصد البلد الحرام لأداء عبادة الطواف والسعي والوقوف بعرفة، وسائر المناسك استجابة لأمر الله تعالى محرِماً بنيّة الحج. والمختار عند الجمهور أنّه شرع في السنة السادسة من الهجرة لأنها هي السنة التي نزل فيها قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) بناءً على أن المراد بالإِتمام " إقامة الحج " ويؤيده قراءة علقمة، ومسروق والنخعي: "وأقيموا الحج والعمرة لله " رواه الطبراني بسند صحيح، ورجح ابن القيم افتراض الحج في السنة التاسعة أو العاشرة (1) . أما حكمه وشروطه فسيأتي بيانها.
579 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "كان
__________
(1) انظر " زاد المعاد " لابن القيم (2/101) .(3/64)
وَجْهَ الْفَضْلِ إلى الشِّقِّ الآخَرِ، فَقَالَتْ: يا رَسُولَ اللهِ إنَّ فَرِيضَةَ اللهِ على عِبَادِهِ في الْحَجِّ قَدْ أدْرَكَتْ أبي شَيْخاً كبيراً لا يَثْبُتُ على الرَّاحِلَةِ، أفأحُجُّ عَنْهُ، قَالَ: " نَعَمْ "، وذلِكَ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الفضل بن العباس رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" أي راكباً خلفه على الدابّة " فجاءت امرأة من خثعم " أي: فجاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة جميلة من خثعم وهي قبيلة يمنية تسأل رسول الله عن الحج، " فجعل الفضل ينظر إليها " أي ينظر إلى جمالها وحسن صورتها " وتنظر إليه " أي وكانت هي أيضاً تبادله نظرة بنظرة، وتكرر النظر إلى وجهه لوسامته وملاحته وحسن صورته، لأنه رضي الله عنه كان شاباً وسيماً مليح الصورة كما في الرواية الأخرى حيث قال: وكان الفضل رجلاً وضيئاً " وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر " أي فلما لاحظ النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهما تبادل النظرات صار يدير وجه الفضل إلى الجهة الأخرى، ليكف بصره عن النظر إليها، ولتقلع هي أيضاً عن النظر إليه " فقالت: يا رسول الله إنّ فريضة الله على عباده في الحج قد أدركت أبي شيخاً كبيراً " أي أن الله قد شرع الحج وفرضه على عباده عندما أصبح أبي شيخاً هرماً طاعناً في السن، أو أنه لم تتوفر فيه شروط الحج إلاّ في هذه السن المتأخرة من عمره التي أصبح فيها عاجزاً ضعيف الجسم منهوك القوى، حتى أنه " لا يثبت على الراحلة " أي لا يستقر جسمه على الدابة التي يركبها، ولهذا فقد أصبح عاجزاً عن الحج، " أفأحج عنه؟ " أي هل يجوز أن أنوب عنه في الحج، وهل يجزىء عنه ذلك في حج الفريضة.
وتسقط عنه حجة الإِسلام وتبرأ ذمته منها. " قال: نعم " حُجِّي عنه، فإنه تصح النيابة عنه فِي الفريضة ما دام عاجزاً عنها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب الحج وكونه(3/65)
ركناً من أركان الإِسلام لقولها: " إن فريضة الله على عباده " حيث سمّت الحج فريضة وأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، ولأن الحديث دل على تأكيد الأمر بالحج حتى إن العاجز عنه لعارض بدني من شيخوخة، أو غيرها لا يعذر في تركه، ولا يسقط عنه، كما قال العيني، بل يحج عنه بدليل أن الخثعمية لما قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أفأحج عنه؟ قال: "نعم " والحج واجب بالكتاب والسنة والإِجماع بشروطه المجمع عليها عند الفقهاء، وهي الإِسلام والبلوغ والعقل والحرية والاستطاعة. وتتحقق الاستطاعة عند الجمهور بثلاثة أمور:
أمن الطريق، والزاد، والراحلة، ومعنى الزاد أن يملك المسلم ما يكفيه ويكفي من يعوله كفاية فاضلة عن حوائجه الأصلية من مسكن وملبس ومركب، أمّا الراحلة فمعناها في عصرنا هذا أن يجد أجرة الطائرة أو السيارة أو الباخرة التي تمكنه من الوصول والعودة. وقال مالك: لا يشترط في الحج الزاد والراحلة، وإنما معنى الاستطاعة عنده القدرة على الوصول راكباً أو ماشياً والتمكن من الحصول على الزاد ولو بالسؤال. والحج واجب في العمر مرة واحدة، لحديث الأقرع بن حابس رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرّة واحدة؟ قال: " بل مرة واحدة، فمن زاد فهو تطوع " أخرجه أبو داود وابن ماجة والدراقطني والحاكم. ثانياًً: دل الحديث على جواز الاستنابة في حج الفريضة لعجز ميئوس من زواله وهو قول الجمهور وابن حبيب من المالكية، سواء وجب الحج حال صحته أو حال عذره، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: لا تجزىء النيابة عنه إلاّ إذا لزمه الحج حال عذره.
وقال مالك والليث: لا يحج أحد عن أحدٍ إلاّ عن ميت لم يحج حجة الإِسلام (1) لقوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
__________
(1) قال العثماني في " رحمة الأمة ": وتجوز النيابة في حج الفرض عن الميت بالاتفاق، وفي حج التطوع عند أبي حنيفة وأحمد، وللشافعي قولان أصحهما المنع.(3/66)
493 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى (يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) "
580 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" رَأيتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْكَبُ رَاحِلَتَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثم يُهِلُّ حِينَ تَسْتَوِي بِهِ قَائِمةً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سَبِيلًا) والاستطاعة لا تكون إلا بالنفس، فمن لم يستطع بنفسه لا يلزمه الحج. وأجابوا عن حديث الباب بجوابين: أولهما: أن هذا الحديث معارض للقرآن والعمل بالقرآن أرجح. وثانيهما: أن هذا الحكم خاص بالخثعمية لما في رواية ابن حزم التميمي حيث جاء فيها: " وليس لأحد بعد " رواه ابن حبيب في " الواضحة " بإسنادين مرسلين. ثالثاً: مشروعية كشف المرأة عن وجهها في الحج. والمطابقة: في قولها: " إنّ فريضة الله على عباده في الحج " حيث سمت الحج فريضة، وأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وأيضاً في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم " في جواب قولها: " أفأحج عنه؟ ". الحديث: أخرجه الستة.
493 - " باب قول الله تعالى: (يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) "
قال مجاهد: سبب نزول الآية أنهم كانوا لا يركبون، فأمرهم بالزاد ورخص لهم في الركوب، ولذلك ذكر البخاري هذه الآية.
580 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركب راحلته" أي بعيره " من ذي الحليفة " أي من آبار علي الذي هو ميقات أهل المدينة " ثم يهل حين تستوي قائمة " أي ثم يرفع صوته بالتلبية عندما تقوم به دابته وتعتدل في قيامها. الحديث: أخرجه(3/67)
الشيخان والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز الركوب في الحج لركوبه - صلى الله عليه وسلم - على راحلته، كما في حديث الباب، ولا خلاف بين العلماء في جواز الركوب والمشي معاً، لقوله تعالى: (يَأْتُوكَ رِجَالًا) أي مشاة (وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) أي وركباناً على الإِبل الضامرة، وإنما اختلفوا أيّهما أفضل في الحج، فذهب البخاري ومالك والشافعي (1) وغيرهم إلى تفضيل الركوب، لأنه - صلى الله عليه وسلم - حج راكباً، وذهب آخرون إلى أن المشي أفضل لأن الله تعالى قدم المشاة على الركبان، ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما: مرفوعاً: " من حج إلى مكة ماشياً كتب له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم " قيل: وما حسنات الحرم؟ قال: " كل حسنة بمائة ألف حسنة " أخرجه الحاكم " وصححه وقال الحافظ الذهبي في " التلخيص ": ليس بصحيح، أخشى أن يكون كذباً، وعيسى (يعنى ابن سوادة الذي في سنده) قال أبو حاتم: منكر الحديث. ثانياًً: أنه يستحب للحاج والمعتمر أن يبدأ الإِحرام والتلبية إذا استوت به راحلته قائمة، أو ركب سيارته متوجهاً لطريقه، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وبه استدل مالك وأكثر الفقهاء (2) على أن يهل الراكب إذا استوت راحلته قائمة، واستحب أبو حنيفة أن يكون إهلاله عقب الصلاة. اهـ. فالأفضل للمحرم عند المالكية والشافعية أن يبدأ الإِحرام والتلبية إذا استوت به راحلته من ذي الحليفة لحديث الباب. ولما رواه مسلم عن جابر " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أهللنا -أي لما أردنا أن نهل- أن نحرم إذا توجهنا ". وقال أبو حنيفة: الأفضل التلبية عقب الصلاة لأنه - صلى الله عليه وسلم - " لبى في دبر صلاته " (3) أخرجه الترمذي والنسائي كما في نصب الراية ". ويجوز
__________
(1) " تفسير القرطبي " ج 12.
(2) " شرح العيني على البخاري " ج 9.
(3) " الفقه الإسلامي وأدلته ".(3/68)
494 - " بَابُ الْحَجِّ عَلَى الرَّحْلِ "
581 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أَنَّ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - حَجَّ عَلَى رَحْلٍ، وكَانَتْ زَامِلَتَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عند الحنابلة على السواء الإِحرام عقب الصلاة أو إذا استوت به راحلته، أو بدأ السير، فإذا استوى على راحلته لبّى. والمطابقة: في قوله: " رأيت رسول الله يركب راحلته ".
494 - " باب الحج على الرحل "
581 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حج على رحل " وهو الشداد الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه صاحبه، بمنزلة السرج للفرس " وكانت زاملته " أي وكانت تلك الرحل وحدها هي حاملته، وحاملة أمتعته، وزاده: " ولم يكن معه سواها اللهم إلّا بعيره ". والمطابقة: في قوله: " وكانت زاملته ". الحديث: أخرجه أيضاً ابن أبي شيبة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب الاقتصار في الحج على قدر الكفاية، والابتعاد عن كل مظاهر الإِسراف والبذخ، لأنه ليس رحلة سياحية للنزهة والاستجمام، وإنما هو عبادة وقربة، ورياضة روحية، وجهاد للنفس، وقد قال عمر رضي الله عنه: " شدّوا الرحال في الحج فإنه أحد الجهادين (1) ، فسماهِ جهاداً لأنه يجاهد فيه الإِنسان نفسه بالصبر على مشقة السفر، وترك الملاذ، ودرء الشيطان عن الشهوات (2) .
ثانياًً: جواز الركوب في الحج، بل هو الأفضل.
__________
(1) أخرجه البخاري.
(2) " شرح العيني على البخاري " ج 9.(3/69)
495 - " بَابُ فضلِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ "
582 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
يا رَسُولَ اللهِ نَرَى الْجِهَادَ أفْضَلَ الأعْمَالِ أفَلَا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: " لا، لَكُنَّ أفْضَلُ الْجِهَادِ حَجٌ مَبْرُورٌ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
495 - " باب فضل الحج المبرور "
582 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها " قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل الأعمال " أي: لقد سمعنا الكثير عن فضائل الجهاد حتى صرنا نظن أنه أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله تعالى " أفلا نجاهد؟ " الهمزة للاستفهام الاستخباري، وقد قُدِّمت على فاء العطف لما في الاستفهام من الصدارة في الكلام، كما أنها تقدم أيضاًً على الواو، وثم (1) نحو أو لا يعلمون أثم إذا ما وقع والنية بها التأخير، وما عداها من حروف العطف لا تقدم عليه عند جمهور النحاة. " والمعنى " إذا كان هذا هو فضل الجهاد، فأخبرنا ألا يجوز لنا أن نجاهد فنشارك الرجال في هذا الفضل العظيم. " قال: لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور " والظاهر أن " لا " تفيد النهي والنفي معاً، ولكن (بفتح اللام وضم الكاف وتشديد النون) . أي لا تقاتلن يا معشر النساء، لأن الجهاد المسلح لم يشرع لكنَّ، وليس هو أفضل الأعمال بالنسبة للمرأة، أمَّا إذا أردتن أن تعرفن أفضل الأعمال وأشرف الجهاد بالنسبة إليكن فإنه " الحج المبرور " أي المقبول عند الله تعالى المستوفي لأحكامه الخالي من الرياء والسمعة والإِثم والمال الحرام، وفي رواية " لكِنّ " بزيادة ألف بعد اللام، وكسر الكاف وتشديد النون، والرواية الأولى أنسب. الحديث:
__________
(1) " حاشية الجمل على الجلالين " ج 1.(3/70)
583 - عَنْ أبِي هُرَيْرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ حَجَّ لله فلَمْ يَرْفُثْ، ولم يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمَ ولَدَتْهُ أمُّهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أخرجه أيضاًً النسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لكن أفضل الجهاد حج مبرور ".
583 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من حج لله فلم يرفث " أي فلم يفعل شيئاً من الجماع أو مقدماته " ولم يفسق " أي: ولم يرتكب إثماً أو مخالفة شرعية صغيرة أو كبيرة تخرجه عن طاعة الله تعالى " رجع كيوم " بالجر على الإِعراب (1) ، وبالفتح على البناء " ولدته أمه " أي عاد بعد حجه نقياً من خطاياه، كما يخرج المولود من بطن أمه، أو كأنه خرج حينئذ من بطن أمه. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " رجع كيوم ولدته أمه ".
فقه الحديثين: دل الحديثان على ما يأتي: أولاً: أن الحج المقبول الخالي من الرياء والسمعة والمال الحرام، ومن الجماع ومقدماته، ومن الآثام والسيئات صغيرها وكبيرها، لا يعدله شيء من القربات، لأنّه أفضل الأعمال بعد الإِيمان بالله تعالى. وقد اختلفت الروايات في الحج والجهاد أيُّهما أفضل، والتحقيق تفضيل الحج، لأنه ركن من أركان الإِسلامٍ الخمسة، وفرض عيني على كل مسلم، رجلاً كان أو امرأة إذا كان مستطيعاً، في حين أنّ الجهاد فرض كفاية إلّا في حالات استثنائية فقط، وذلك إذا تعرضت بلاد المسلمين لمداهمة العدو، فالأصل هو أفضلية الحج. أما تقديم الجهاد في حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: " إيمان بالله ورسوله "، قيل: ثم ماذا؟
__________
(1) " شرح الشرقاوي على مختصر الزبيدي " ج 2.(3/71)
496 - " بَابُ مُهَلِّ أهُلِ مَكَّةَ لِلْحَج وَالْعُمْرَةِ "
584 - عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
"إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وقَّتَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، ولأهلِ الشَّام الْجُحْفَةَ، ولأهلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِل، ولأهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ ولِمَنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال: " جهاد في سبيل الله " قيل: ثم ماذا؟ قال: " حج مبرور " أخرجه البخاري. فإنما قدم الجهاد للحاجة إليه في أوّل الإِسلام، حيث كان الجهاد فرض عين على كل مسلم. ثانياًً: أن المرأة لم يشرع لها القتال وحمل السلاح، وإنما جهادها الحج فقط، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الأول: " لا لكن أفضل الجهاد حج مبرور ". وقال الشاعر:
كتِبَ القَتْلُ والقِتَالُ عَلَيْنَا ... وَعَلَى الغَانِيَاتِ جَرُّ الذّيُوْلِ
ثالثاً: دل الحديث الثاني على أن الحج الخالي عن المخالفات الشرعيّة صغيرة أو كبيرة يكفر جميع الذنوب المتعلقة بحقوق الله تعالى حتى الكبائر بشرط التوبة، كما رجحه الأكثرون، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " رجع كيوم ولدته أمه ".
496 - " باب مهل أهل مكة للحج والعمرة "
584 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما عن مواقيت الحج فيقول: " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقّت لأهلِ المدينة ذا الحليفة " أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع لأهل كل جهة من بلاد المسلمين مكاناً معيّناً يُحْرِمُونَ منه للحج أو العمرة، يسمى " ميقاتاً مكانياً " فجعل ميقات أهل المدينة ذا الحليفة في الجنوب الغربي من المدينة على بعد ستة أميال، " ولأهل الشام الجحفة " وهي قرية بالقرب من " رابغ "، وضعت عندها لوحة باسمها " ولأهل نجد قرن المنازل " (بفتح القاف وسكون الراء) بين مكة والطائف(3/72)
أتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أرَادَ الْحَجَّ والْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فمِن حَيْثُ أنْشَأ حَتَّى أهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يسمى حالياً بالسيل الكبير، على بعد ستة عشر فرسخاً أو 48 ميلاً من مكة، " ولأهل اليمن يلملم " جبل من جبال تهامة يبعد عن مكة ثمانين (كم) كما في " تيسير العلام " " هن لهن ولمن أتى عليهن " أي هذه المواقيت لأهل تلك البلاد، ولكل من مرَّ بها، فلا يجوز لأحد أن يتجاوزها بدون إحرام " ممن أراد الحج والعمرة " أما من لم يردهما فلا مانع من ذلك، " ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ " أي فإنه يحرم من المكان الذي بدأ منه الحج من منزله أو مسجد قريته " حتى أهل مكة من مكة " أي يحرمون من مكة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحديد المواقيت المكانيّة للإِحرام بالحج والعمرة، وهي خمسة، ذكر منها في الحديث أربعة، أما الميقات الخامس، فهو " ذات عرق " لأهل العراق، ويقع في الشمال الشرقي على بعد 94 كم من مكة، والتحقيق أنه ثابت بالنص، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقته كما يراه الجمهور لحديث عائشة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقت لأهل العراق ذات عرق " أخرجه أبو داود والنسائي. ثانياًًً: أنّ هذه المواقيت هي لأهل تلك الجهات، ولكل من مرّ عليها، ولو لم يكن من أهلها، فلا يجوز له مجاوزتها دون إحرام إذا كان حاجاً أو معتمراً، فإن تجاوز الميقات فقد ترك واجباً، وعليه دم، وأما من أراد دخول مكة لغير حج ولا عمرة فإنه يجوز له بغير إحرام كما يدل عليه مفهوم قوله: " ممن أراد الحج والعمرة "، وهو مشهور مذهب الشافعي (1) ، وقال الجمهور: يجب الإِحرام على كل من يريد دخول مكة، ولو لغير نسك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولا يدخل أحد مكة إلاّ محرماً " أخرجه
__________
(1) وهي رواية عن أحمد اختارها ابن تيمية وابن عقيل مستدلين بحديث الباب اهـ. كما في " تيسير العلام ".(3/73)
497 - " بَابٌ " (1)
585 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أناخَ بالبَطْحَاءِ التي بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَصَلَّى بِهَا، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ ".
498 - " بَابُ خُرُوجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى طَرِيقِ الشَّجَرَةِ "
586 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
"أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَخْرُجُ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرةِ وَيَدْخُلُ مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
البيهقي بإسناد جيد. ثالثاً: أن ميقات أهل مكة منها، وهو ما ترجم له البخاري. والمطابقة: في قوله: " حتى أهل مكة من مكة ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
497 - " باب "
585 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة " قال العيني: ويعرفها أهل المدينة " بالمعرس " وقد أناخ بها - صلى الله عليه وسلم - في رجوعه من مكة إلى المدينة، وكان يبيت بها، وهي أسفل من مسجد ذي الحليفة، وقد نزل به - صلى الله عليه وسلم - " فصلى بها " أي فيها.
ويستفاد منه: استحباب النزول بالبطحاء عند العودة إلى المدينة، وليس من سنن الحج. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
498 - " باب خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - على طريق الشجرة "
586 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما: "أن
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " كذا في الأصول بغير ترجمة، وهو بمنزلة الفصل من الأبواب التي قبله ومناسبته لها من جهة دلالة حديثه على استحباب ركعتين عند إرادة الإحرام من الميقات. وقد ترجم عليه =(3/74)
طَرِيقِ المُعَرَّسِ وأنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا خَرَجَ إلى مَكَّةَ يُصَلِّي في مَسْجِدِ الشَّجَرَةِ وِإذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِي وبَاتَ حتَّى يُصْبِحَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج" إلى العمرة أو الحج " من طريق الشجرة " أي من طريق الشجرة التي عند مسجد ذي الحليفة " ويدخل من طريق المعرس " وهو بطحاء ذي الحليفة ويسمى " المعرس " لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رجع إلى المدينة نزل فيه آخر الليل، فسمي معرساً من التعريس، وهو النزول آخر الليل، وكان - صلى الله عليه وسلم - ينزل فيه ويصلي فيه، ويبيت فيه، ويقع أسفل من مسجد ذي الحليفة، قال ابن عمر: " وكان إذا خرج إلى مكة " أي إذا خرج لحج أو عمرة " يصلي في مسجد الشجرة " أي يصلى في مسجد ذي الحليفة، وكان يعرف في ذلك العصر بمسجد الشجرة " وإذا رجع صلى ببطن الوادي " أي وإذا رجع من سفره نزل آخر الليل في وسط وادي ذي الحليفة، وصلى فيه، وبات فيه إلى الصباح (1) .
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يسن للمحرم أن يصلّي ركعتين في مسجد ذي الحليفة، ينوي بها سنة الإِحرام، يقرأ في الأولى بالفاتحة والكافرون، وفي الثانية بالفاتحة والإِخلاص. ثانياًً: أنه يستحب النزول بالمعرس عند العودة إلى المدينة والمبيت فيه. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " كان يخرج من طريق الشجرة ".
__________
= بعض الشارحين (نزول البطحاء) والصلاة بذى الحليفة) . (ع) .
(1) ولذلك سمي المعرس من التعريس وهو النزول آخر الليل.(3/75)
499 - " بَابُ قَوْلَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - " الْعَقِيقُ وَادٍ مُبَارَكٌ "
587 - عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِوَادِي الْعَقِيقِ يَقُولُ: " أتانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ: صَلِّ في هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وقُلْ: عُمرَةً في حَجَّةٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
499 - " باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " العقيق واد مبارك "
587 - معنى الحديث: أن عمر رضي الله عنه يقول: " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - بوادي العقيق يقول: أتاني الليلة آت من ربي " وهو جبريل كما في رواية البيهقي " فقال: صل في هذا الوادي المبارك " أي صل ركعتي الإِحرام في وادي العقيق، ووصفه بالبركة، لأن أهل المدينة يستبشرون به إذا سأل، ويستدلون به على غزارة الأمطار " وقل: عمرةً في حجةٍ " بنصب عمرة على حكاية اللفظ، أي قل جعلتها عمرة في حجة، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ، أي هذه عمرة في حجة، و" في " إما بمعنى " مع " أي عمرة وحجة معاً، فيكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أحرم بهما معاً، أو تكون " في " على أصلها: أي عمرة مدرجة في حجة، فيكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أحرم أولاً مفرداً بالحج وحده، ثم أدخل عليه العمرة، فصار قارناً. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي:
أولاً: فضل وادي العقيق وبركته ونفعه لأهل المدينة قاطبة وللمسلمين عامة، ومن مزاياه أنه إذا سال ارتفع منسوب المياه بالمدينة. ثانياًًً: مشروعية ركعتي الإِحرام في مسجد ذي الحليفة وهي سنة. لقول جبريل: " صل في هذا الوادي المبارك ". ثالثاً: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً، لأنه أمر أن يقول: "عمرة(3/76)
588 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمِا:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - رُئِيَ وهُوَ مُعَرِّسٌ بذي الْحُلَيْفَةِ بِبَطن الْوَادِي فَقِيلَ لَهُ: إنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ ".
500 - " بَابُ غَسْلِ الْخلُوقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنَ الثيابِ "
589 - عَنْ يَعْلَى بْنِ أمَيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في حجة ". والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وقل: عمرة في حجة ".
588 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر في حديثه هذا " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رُئي وهو مُعَرِّسٌ بذي الحليفة ببطن الوادي قيل له: إنك ببطحاء مباركة " أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بينما كان نازلاً في آخر الليل بذي الحليفة، رأى وهو نائم في وسط الوادي جبريل عليه السلام، يقول له: إنك ببطحاء مباركة، أي في أرض رملية خصبة كثيرة الخيرات والبركات. والمطابقة: في قوله: " إنك ببطحاء مباركة ".
فقة الحديث: دل هذا الحديث على فضل وادي العقيق، وكثرة خيراته، لا سيما لأهل المدينة. وعلى أنه يستحب النزول والمبيت فيه، والصلاة به، اقتداءً به - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
500 - " باب غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب "
أي هذا باب يذكر فيه مشروعية غسل الخلوق من الثوب ثلاث مرات، وهو نوع من الطيب مخلوط بالزعفران.
589 - ترجمة راوي الحديث: وهو يعلى بن أمية التميمي صحابي(3/77)
أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أرنِي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ يُوحَى إِلَيْهِ، فَبَيْنَمَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالْجِعْرَّانَةِ ومَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أصْحَابِهِ، جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ تَرى في رَجُلٍ أحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَهُوَ مَتَضَمِّخٌ بِطِيِبٍ؟
فَسَكَتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَاعَةً، فَجَاءَهُ الْوَحْيُ، فأشَارَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى يَعْلى، فَجَاءَ يَعْلَى وَعَلَى رَأسِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ثَوْبٌ قَدْ أظلَّ بِهِ، فَأدْخَلَ رَأسَهُ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُحْمَرُّ الْوَجْهِ وَهُوَ يَغِطّ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنهُ فَقَالَ: " أينَ الَّذِي سَأل عَنِ الْعُمْرَةِ "، فَأتِي بَرجُلٍ فَقَالَ: " اغْسِلْ الطِّيبَ الذي بِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وانْزَعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، واصْنَعْ في عُمْرَتِكَ كما تَصْنعُ في حَجَتِكَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جليل (1) ، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وعشرين، حديثاً اتفق الشيخان على ثلاثة، قتل بصفين سنة 38 هـ.
معنى الحديث: أن يعلى بن أمية رضي الله عنه " قال لعمر: أرني النبي - صلى الله عليه وسلم - حين يوحى إليه " أي أخبرني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءه الوحي لأراه في أثناء ذلك وأتعرّف على كيفية نزوله عليه. " فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة " (بكسر الجيم وإسكان العين وفتح الراء المخففة) موضع بين مكة والطائف وهو أحد مواقيت العمرة لمن كان بمكة. " جاءه رجل فقال يا رسول الله: كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب " أي: وهو متلطخِ بالطيب في ثوبه وبدنه " فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - " عن إجابته، ولم يجبه فوراً
__________
(1) قال الحافظ في " الفتح " وهو المعروف بابن منية، بضم الميم وسكون النون، وهي أمه، وقيل جدته، وهو والد صفوان الذي روى عنه، وليست رواية صفوان عنه لهذا الحديث بواضحة، لأنه قال فيها: " أن يعلى قال لعمر " ولم يقل إن يعلى أخبره أنه قال لعمر، فإن يكن صفوان حضر مراجعتهما، وإلا فهو منقطع، لكن سيأتي في أبواب العمرة من وجه آخر عن صفوان بن يعلى عن أبيه. (ع) .(3/78)
بعد سؤاله، " فجاءه الوحي فأشار عمر " أي فأشار إليَّ عمر بيده لكي أحضر لديه - صلى الله عليه وسلم - وأرى كيفية نزول الوحي عليه، " فجئت وعلى رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوب قد أظل به، فأدخلت رأسي " وراء الثوب، " فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محمرّ الوجه وهو يغط " بفتح الياء وكسر الغين، أي تتردد أنفاسه بصوت مسموع " ثم سرِّي عنه " أي: ثم انقطع عنه نزول الوحي فهدأت نفسه. وأخذت تنكشف عنه تلك الحالة " فقال: اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات " أي كَرِّرْ غسله ثلاث مرات، وفي رواية قال له: " اغسل عنك أثر الخلوق " بفتح الخاء، فأمره بإزالة أثر الطيب عن بدنه وثوبه " وانزع عنك الجبة " لأنها مخيط "واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك" أي اصنع إذا كنت معتمراً ما تصنعه حاجاً من اجتناب الطيب وغيره، لأنّ محظورات الحج والعمرة واحدة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " اغسل الطيب ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم التطيب عند الإِحرام بالنسبة إلى الثياب، بكل ما يبقى أثره لوناً أو رائحة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر الرجل بغسل الطيب ثلاث غسلات وأن ينزع الجبة، وهو ما ترجم له البخاري، والجمهور على أنه لا يكره الطيب على البدن عند الإِحرام، بل يستحب لقول عائشة: " كنت أطيّب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت " أخرجه الجماعة وسيأتي إيضاحه. ثانياًً: أن من لبس مخيطاً أو أصاب طيباً وهو محرم ناسياً أو جاهلاً، ثم بادر بإزالته لا فدية عليه، وكذلك المحظورات الأخرى، وهو قول الشافعي وأحمد وداود، خلافاً لمالك وأبي حنيفة.
***(3/79)
501 - " بَابُ الطِّيبِ عِنْدَ الإِحْرَامِ "
590 - عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
" كُنْتُ أطيَبُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِإحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ، ولِحِلِّهِ قَبْلَ أنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ ".
502 - " بَابُ مَنْ أهَلَّ مُلبِّداً "
591 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُهِلُّ مُلبِّداً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
501 - " باب الطيب عند الإِحرام وما يلبس إذا أراد أن يحرم "
590 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كنت أطيّب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِإحرامه " أي عند إحرامه " ولحله " أي وعند تحلله من الاحرام بعد رمي الجمرة.
فقه الحديث: استدل الجمهور بهذا الحديث على استحباب الطيب عند الإِحرام خلافاً لمالك، حيث منع من ذلك مستدلاً بحديث يعلى بن أمية رضي الله عنه المذكور في الباب السابق، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للرجل المحرم المتطيب اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات، وأجابوا عنه بأنه منسوخ بحديث عائشة هذا، لأنه كان بالجعرانة سنة ثمان، وحديث عائشة في حجة الوداع.
الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قولها: " كنت أطيب رسول الله لإِحرامه ".
502 - " باب من أهل ملبداً "
591 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: "سمعت(3/80)
503 - " بَابُ الإِهْلالِ عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ "
592 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، إِلَّا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدَ " يَعْنِي مَسْجِدِ ذَي الْحُلَيفَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل ملبداً" أي سمعته - صلى الله عليه وسلم - يرفع صوته بالتلبية حال كونه واضعاً الصمغ على رأسه لحفظه من القمل.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب رفع الصوت بالتلبية، وفي الحديث عن زيد بن خالد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " جاءني جبريل فقال: مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية، فإنها من شعائر الحج " أخرجه أحمد وابن ماجة، وهو قول الجمهور: إلاّ أن مالكاً استثنى مساجد الجماعات، فلا يرفع صوته فيها ما عدا المسجد الحرام. ثانياًً: استحباب التلبيد للمحرم وقاية للشعر من القمل، ولا خلاف في ذلك إلاّ أن المالكية خصصوه بالشعر اليسير الذي لا يؤدي تلبيده إلى ستر الرأس. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " يهل ملبِّداً ".
503 - " باب الإِهلال عند مسجد ذي الحليفة "
592 - معنى الحديث: يقول ابن عمر: " ما أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلّا من عند المسجد " أي لم يبدأ الإِحرام والتلبية إلاّ من مسجد ذي الحليفة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يستحب ابتداء الإِحرام والتلبية من مسجد ذي الحليفة بعد الصلاة، وهو مذهب أبي حنيفة، وقالت المالكية والشافعية: الأفضل بدء الإِحرام والتلبية إذا استوت به الراحلة قائمة، وقد تقدم. ثانياًً: أن التلبية تبدأ مع الإِحرام. الحديث: أخرجه(3/81)
504 - " بَابُ الرَّكُوبِ والارْتِدَافِ في الحَجِّ "
593 - عن ابْنِ عَبِّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" أن أُسَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ رِدْفَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عَرَفَةَ إلى الْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أرْدَفَ الْفَضْلَ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ إلى مِنى، فَكِلاهُمَا قَالَ: لَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُلبَي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الخمسة غير ابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " ما أهل رسول الله إلاّ من عند المسجد".
504 - " باب الركوب والارتداف في الحج "
593 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما: " أن أسامة كان ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - من عرفة إلى المزدلفة " أي راكباً خلفه " ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، فكلاهما قال: لم يزل النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يلبّي حتى رمى جمرة العقبة " أي: استمر في التلبية إلى أن رمى جمرة العقبة، وهى الجمرة الكبرى غربي منى مما يلي مكة. الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز الركوب في الحج والارتداف على الدابة، وليس فيه تعذيب للحيوان، لأنه خلق لذلك.
ثانياًً: استمرار التلبية حتى رمي جمرة العقبة بأول حصاة، وهو قول أكثر أهل العلم، وقال أحمد وإسحاق: يلبّي حتى يُنهي الجمرات كلها، وقال مالك: حتى تزول الشمس من يوم عرفة، وأما المعتمر فيلبي حتى يستلم الحجر. والمطابقة: في قوله: " كان ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - ".(3/82)
505 - " بَابُ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثيابِ والأرْدِيَة والأُزُرِ "
594 - عن ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
"انْطَلَقَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ المَدِينَةِ بَعْدَ مَا تَرَجَّلَ وادَّهَنَ وَلَبِسَ إزَارَهُ ورِدَاءَهُ هُوَ وأصْحَابُهُ فَلَمْ يَنْه عَنْ شَيءٍ مِنَ الأرْدِيَة والأزُرِ تُلْبَسُ إلَّا المُزَعْفَرَةَ التي تَرْدَعُ عَلَى الْجِلْدِ، فَأصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى اسْتَوَى على الْبَيْدَاءِ أهلَّ هُوَ وأصْحَابُهُ، وَقَلَّدَ بَدَنَتَهُ، وذَلِكَ لِخَمْسِ بقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَقَدِمَ مَكَّةَ لأرْبَعِ لَيَالٍ خَلَونَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وسَعَى بِيْنَ الصَّفَا والْمَرْوَةِ، وَلَمْ يُحِلّ مِنْ أجْلِ بُدْنِهِ، لأنهُ قلَّدَهَا، ثُمَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
505 - " باب ما يلبس المحرم من الثياب والأردية والأُزر "
594 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة " أي: خرج منها - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع يوم السبت ما بين الظهر والعصر لخمس بقين من ذي القعدة " بعد ما ترجل " أي سرح شعره، " وادهن " أي تطيب بالمسك، " فلم ينه عن شيء من الأردية والأزرِ تلبس إلاّ المزعفرة " أي المصبوغة بالزعفران " التي تردع على الجلد " أي تؤثر في بدن لابسها بلونها أو ريحها " فأصبح بذي الحليفة، ركب راحلته حتى استوى على البيداء أهل " أي حتى اعتدل بناقته على البيداء، رفع صوته بالتلبية، ولم يكن هذا الإِهلال بداية إحرامه، فإنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم من مسجد ذي الحليفة، وأهل إهلاله الأوّل من هناك، ثم أهل إهلاله الثاني حين استقلت به ناقته، ثم أهل للمرة الثالثة حين علا شرف البيداء، وهو ما ذكره هنا " فقدم مكة لأربع ليال خلون من ذي الحجة " أي أنه قدم صبيحة اليوم الرابع منه " فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة " أي طاف طواف القدوم(3/83)
نَزَلَ بأعلى مَكَّةَ عِنْدَ الحَجُونِ، وهو مُهِلّ بالحَجِّ، وَلَمْ يَقْرَبِ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوافِهِ بِهَا حَتَّى رَجِعَ مِن عَرَفَة، وأمَرَ أصْحَابَهُ أن يَطَّوَّفُوا بالبَيْتِ، وبيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، ثُمَّ يُقَصِّروا مِنْ رُووسِهِم، ثُمَّ يُحِلُّوا، وَذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بَدَنَةٌ قَلَّدَهَا، وَمَنْ كَانَتْ مَعَهُ امْرَأتُهُ فهِي لَهُ حَلَال، والطِّيبُ والثَيابُ ".
506 - " بَابُ الْتَّلْبيَةِ "
595 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
"أنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: لَبَّيكَ اللَّهُمَّ لَبَّيكَ، لَبَّيكَ لَا شَرِيكَ لَكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" ولم يحل من أجل بدنه " أي ولم يتحلل من إحرامه من أجل أنه قد ساق الهدي " ثم نزل بأعلى مكة عند الحجون " وهو جبل مشرف على المحصب على بعد ميل ونصف من البيت " ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة " أي لشغلٍ منعه من ذلك " وأمر أصحابه أن يطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة " ثم يقصّروا من رؤوسهم " أي أمرهم أن يفسخوا الحج إلى العمرة، ويتحللوا بالطواف والسعي، " وذلك لمن لم يكن معه بدنة " أي ولكن أمره - صلى الله عليه وسلم - بفسخ الحج إلى العمرة خاص بمن لم يسق الهدي. الحديث: أخرجه البخاري.
فقه الحديث: "دل هذا الحديث على جواز الإِحرام بكل إزار ورداء إلا الثياب المصبوغة بالزعفران، وهو نبت أصفر كالسمسم، له رائحة عطرية، فإنها تحرم، وهي تحرم مطلقاً عند المالكية، ولو لم يكن لها رائحة، وقال الجمهور: تجوز إذا ذهبت رائحتها. والمطابقة: في قوله: " فلم ينه عن شيء من الأردية والأزُر إلاّ المزعفرة ... " إلخ.
506 - " باب التلبية "
595 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما: "أن تلبية(3/84)
لَبَّيكَ إِنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ والْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ".
507 - " بَابُ الإِهْلَالِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ "
596 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" أنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى بِالْغَدَاةِ بذِي الْحُلَيْفَةِ أمَرَ برَاحِلَتِهِ فَرُحِّلَتْ، ثمَّ رَكِبَ، فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ استَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قائماً، ثُمَّ يُلبَي حتَّى يَبْلُغَ الْحَرَمَ، ثم يُمْسِكُ حتَّى إِذَا جَاءَ ذَا طُوىً بَاتَ بِهِ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبيك" أي أن الصيغة التي كان يلبي بها هي " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك " أي أكرر إجابتي لك في امتثال أمرك بالحج، فأنت المستحق للشكر والثناء، لأنك المنفرد بالكمال المطلق، ولأنك المنعم الحقيقي، وما من نعمة إلّا وأنت مصدرها، وأنت المتفرد بالملك الدائم، وكل ملك لغيرك إلى زوال.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية التلبية في الحج، وهي سنة عند الجمهور، واجبة عند مالك، تجبر بالدم، شرط في الإِحرام عند أبي حنيفة. ثانياًً: بيان صيغة التلبية المشروعة المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " إن تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبيك " ... إلخ.
507 - "باب الإِهلال مستقبل القبلة"
596 - معنى الحديث: أن ابن عمر رضي الله عنهما: " كان إذا صلى بالغداة بذي الحليفة " أي إذا صلى الصبح بوقت الغداة " بذي الحليفة أمر براحلته فرحلت " أي أمر بإعداد دابته فأعدّت، ووضع عليها الرحل(3/85)
اغتَسَلَ، وَزَعَمَ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَ ذَلِكَ".
508 - " بَابُ التَّلْبِيَةِ إِذَا انحَدَرَ في الوَادِي "
597 - عَنْ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
__________
" ثم ركب، فإذا استوت به "، أي فإذا وقفت به " استقبل القبلة قائماً، ثم يلبي حتى يبلغ الحرم " أي حتى يصل إلى حدود الحرم " ثم يمسك " أي ينقطع عن التلبية " حتى إذا جاء ذا طوى " (بضم الطاء وفتحها وكسرها) وهو موضع عند باب مكة بأسفلها عند مسجد عائشة ويعرف ببئر الزاهر " بات فيه حتى يصبح فإذا صلى الغداة " أي الصبح " اغتسل " هناك " وزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك " أي وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل مثل ما فعلت. الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استقبال القبلة عند الإِهلال بالتلبية عقب ركوب السيارة من الميقات، لقوله: " فإذا استوت به استقبل القبلة، قائماً ثم يلبي " وهو مستحب للحاج إن أمكنه. ثانياًً: استحباب المبيت بذي طوى، وصلاة الصبح فيها، والاغتسال لدخول مكة وهو سنة، وإنما يستحب المبيت بها لمن كانت في طريقه، كما أفاده النووي. والمطابقة: في قوله: " استقبل القبلة قائماً ثم يلبي ".
508 - " باب التلبية إذا انحدر في الوادي "
أي هذا باب يذكر فيه مشروعية التلبية إذا هبط وادياً كما تدل عليه الأحاديث المذكورة فيه
597 - معنى الحديث: لهذا الحديث بداية وسبب كما في الأصل من " صحيح البخاري " عن مجاهد قال: كنا عند ابن عباس رضي الله عنهما(3/86)
قَالَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أما مُوسى فكأني أنظر إليه إذَا انْحَدَر في الوَادِي يلبِّي ".
509 - " بَابُ قول اللهِ تعَالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) "
598-ْ عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" أشهر الحجِّ شوَالٌ وذو القعدة، وعشرُ من ذي الحجة ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فذكروا الدجال أنه قال: مكتوب بين عينيه كافر، فقال ابن عباس: لم أسمعه، ولكنه قال: " أما موسى فكأني أنظر إليه إذا انحدر من الوادي يلبي " أي كأني أشاهده الآن، وأراه بعيني رؤيا حقيقية، وهو يهبط وادي الأزرق بين مكة والمدينة ملبياً، وفي رواية مسلم: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مر بوادي الأزرق قال: كأني أنظر إلى موسى واضعاً أصبعيه في أذنيه، ماراً بهذا الوادي، وله جؤار إلى الله تعالى بالتلبية ". الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " إذا انحدر في الوادي يلبّي ".
فقه الحديث: دل الحديث على استحباب التلبية عند كل هبوط وصعود وفي بطون الأودية.
509 - " باب قول الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) "
أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على تفسير قوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) فإن الله قد أخبرنا في هذه الآية الكريمة أنه قد جعل للحج أشهراً محددة معينة معروفة عند الناس، وجعل من هذه الأشهر ميقاتاً زمانياً له، فما هي هذه الأشهر التي جعلها الله ميقاتاً زمانياً للحج، هذا ما سنتعرف عليه في الأثر القادم.
598 - معنى الأثر: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: "أشهر(3/87)
510 - " بَابُ التَّمَتُّعِ والإِقْرانِ والإِفْرَادِ بالحَجِّ وفسخِ الْحَجِّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَديٌ "
599 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" كَانُوا يَرَوْنَ أن الْعُمْرَةَ في أشْهُرِ الحَجِّ مِنْ أفْجَرِ الْفُجُورِ في الأرْضِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحج" التي شرع الله تعالى الحج فيها وجعلها ميقاتاً زمانياً للحج هي " شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة " يريد رضي الله تعالى عنه أن الأشهر المعلومات، المذكورة في الآية الكريمة، هي الأشهر المعروفة عند العرب بأشهر الحج، وهي: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، هذه هي الأشهر المعلومات للحج التي قال الله تعالى فيها: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) . الأثر: أخرجه البخاري والدارقطني.
فقه الأثر: دل هذا الأثر على ما يأتي: أولاً: دل هذا الأثر على تفسير الآية الكريمة وبيان الميقات الزماني للحج، وهي الأشهر المذكورة، فمن أحرم فيها فقد أحرم بالحج في وقته، واختلفوا فيمن أحرم قبلها، فقال الشافعي:
الإِحرام فيها واجب، لا ينعقد الحج في غيرها، وقال غيره ينعقد في غيرها، ولا يصح شيء من أفعال الحج إلاّ فيها. ثانياًًً: دل الأثر على دخول يوم النحر وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة، وقال الشافعي: لا يدخل، وقال مالك: يدخل في أشهر الحج شهر الحج كله. والمطابقة: ظاهرة.
510 - " باب التمتع والإِقران والإِفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي "
599 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " كانوا " أي العرب في الجاهلية " يرون أن العمرة في أشهر الحج " أي(3/88)
وَيَجْعَلُونَ المُحَرَّمَ صَفَراً، وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرَا الدَّبَرْ، وعَفَا الأَثَرْ، وانْسَلَخَ صَفَرْ حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ، قَدِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابَهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بالْحَجِّ، فَأمرَهُمْ أن يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عنْدَهُمْ، فَقالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: " حِلٌّ كُلُّهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يعتقدون أن الإِحرام بالعمرة فيها " من أفجر الفجور " أي من أعظم المعاصي، ويحرمون العمرة إلى نهاية محرم، " ويجعلون المحرم صفراً " أي ويتلاعبون في الأشهر الحرم على حسب أهوائهم، فيؤخرون تحريم المحرم إلى صفر، وهو النسيء الذي ذمه الله تعالى في قوله: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ) إلخ " ويقولون إذا برا (1) " بفتح الباء والراء " الدبر " بفتح الدال والباء، وهو الجرح الذي يكون في ظهر الإِبل، بسبب اصطكاك الأقتاب، أي إذا شفيت الجراحات التي في ظهر الإِبل، والتي تحدث بسبب الحمل عليها، وكثرة احتكاكها في أسفارها الطويلة، " وعفا الأثر " أي اندرست آثار أقدام الإِبل التي تحدثها في سيرها، " وانسلخ صفر " (2) أي وانتهى شهر صفر الذي هو في الحقيقة شهر محرم بسبب النسيء " حلت العمرة لمن اعتمر " أي فعند ذلك تجوز العمرة لمن أرادها " قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه " أي دخلوا مكة " صبيحة رابعه " أي صبيحة يوم الأحد الموافق لليوم الرابع من ذي الحجة.
" فأمرهم أن يجعلوها عمرة " أي أن يفسخوا الحج إلى العمرة، ويتحللوا بالطواف والسعي " فتعاظم ذلك عندهم " أي فتعاظم عندهم مخالفة العادة التي كانوا عليها من تأخير العمرة عن أشهر الحج كما قال العيني، وفي رواية: " فكبر ذلك عندهم "، وروي أنّهم قالوا: لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلّا خَمْسٌ أي إلاّ خمسة أيام أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا
__________
(1) بدون همزة.
(2) قال " الحافظ في " الفتح ": وهذه الأسماء تقرأ ساكنة الراء لإرادة السجع. (ع) .(3/89)
600 - عَنْ حَفْصَهً زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنهَا قَالَتْ:
يَا رَسُولَ اللهِ مَا شَأنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ، وَلَمْ تَحْلِلْ أنت مِنْ عُمْرتَكِ! قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي لَبَّدْتُ رَأسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيي، فَلا أحلُّ حَتَّى أنْحَرَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المني، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " قد علمتم بأني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم، ولولا هديي لحللت كما تحلون ". اهـ. كما في حديث جابر. " فقالوا: يا رسول الله أي الحل " أي ما هي نوعية هذا الحل؟ هل هو تحلل خاص ببعض الأشياء، أو عام في جميعها؟ " قال: حل كله " أي بل هو تحلل عام فيحل لكم كل شيء من الأشياء التي كانت محرمة عليكم أثناء العمرة، بما في ذلك الجماع.
الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فأمرهم أن يجعلوها عمرة ".
600 - معنى الحديث: أن حفصة رضي الله عنها " قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحلل " وسبب سؤالها هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم مكة أمر من لم يسق الهدي أن يفسخ الحج ويجعلها عمرة، يتحلل منها بالطواف والسعي، ففعلوا ذلك، أما هو - صلى الله عليه وسلم - ومن ساق الهدي فبقوا على إحرامهم، فسألته زوجته حفصة لِمَ حلّ الناس ولَمْ تحلل؟ " قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحلل " بفتح التاء أي ما المانع لك أن تفعل ما فعلوا، وأن تحل كما حلوا، ما دمت قد أمرتهم به؟ تريد أن تعرف السبب " قال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي " أي أني كنت قارناً -فلبدت رأسي- بالصمغ، وقلدت الهدي وسقته معي، وذلك يمنعني من التحلل قبل نحر الهدي " فلا أحل (1) حتى أنحر " أي فلا أتحلل من
__________
(1) بفتح الهمزة.(3/90)
651 - عَنْ جَابِرٍ بنِ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عَنْهُمَا:
أنَّهُ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ، وَقَدْ أَهَلُّوا بالْحَجِّ مُفْرَداً، فَقَالَ لَهُمْ: " أحِلُّوا من إحْرَامِكُمْ بَطَوَافِ الْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا والْمَرْوَةَ، وَقَصَروا، ثمَّ أقِيمُوا حَلالاً، حتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التروِية، فَأهِلُّوا بالْحَجِّ، وَاجْعَلُوا الَّتِي قدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً "، فَقَالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ، فَقَالَ: " افْعَلُوا مَا أمَرْتُكُمْ بِهِ، فَلَوْلا أنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ لَفَعَلْتُ مِثْلَ الذِّي أمَرْتُكُمْ، وَلَكِنْ لَا يَحِلُ مِنِّي حَرَامٌ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إحرامي حتى أنحر الهدي بمنى. الحديث: أخرجه الخمسة غير الترمذي.
والمطابقة: في قولها: " ما شأن الناس حلوا بعمرة " حيث - صلى الله عليه وسلم - ذلك على تمتعهم بالعمرة، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - أيضاًً: " إني لبدت رأسي وقلدت هديي ". حيث دل ذلك على أنه كان قارناًْ.
601 - معنى الحديث: يحدثنا جابر رضي الله عنه: " أنه حج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ساق البدن (1) معه " من المدينة إلى مكة في حجة الوداع " وقد أهلوا بالحج مفرداً " أي أحرموا مفردين بالحج " فقال لهم " عند قدومهم إلى مكة " أحلوا من إحرامكم " أي افسخوا الحج إلى العمرة، وتحللوا من عمرتكم بالطواف والسعي، " ثم أقيموا حلالاً " يحل لكم كل شيء حتى الجماع " حتى إذا كان يوم التروية " وهو اليوم الثامن من ذي الحجة " فأهِلوا "، أي أحرموا " بالحج "، وتوجهوا إلى عرفة، " واجعلوا التي قدمتم بها متعة (2) " أي تمتعاً بالعمرة، " قالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج " أي كيف نجعلها تمتعاً وقد نوينا الحج مُفْرداً "فقال: افعلوا ما أمرتكم
__________
(1) البُدْن بضم الباء وسكون الدال أي الإِبل المهداة أي الكعبة المشرفة.
(2) بضم الميم وسكون التاء.(3/91)
به، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم" أي لفعلت مثل الذي أمرتكم، وفسخت الحج إلى العمرة. " ولكن لا يحل مني حرام " أي لا يحل في شيء من محظورات الإِحرام " حتى يبلغ الهدي محله " أي حتى يصل الهدي إلى المكان الذي ينحر فيه بمنى يوم النحر. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " أهلو بالحج مفرداً " حيث دل على إفرادهم بالحج عند خروجهم من المدينة، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أحلوا من إحرامكم بطوافٍ " حيث دل أمره - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه بالتمتع عند دخولهم مكة.
فقه أحاديث الباب: دلت هذه الأحاديث على مشروعية الأنساك الثلاثة في الحج: الإِفراد، والقران، والتمتع.
أما الافراد: فلقول عائشة رضي الله عنها: " خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نرى إلاّ أنه الحج، وقول جابر: " وقد أهلوا بالحج مفرداً "، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما: "قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج ".
وأما القران: فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً، ولهذا قال لحفصة: " إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر ". وهناك أحاديث أخرى صريحة في أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً، منها قول أنس " حتى إذا استوت به على البيداء حمد الله، وسبح وكبر، ثم أهل بحج وعمرة، وأهل الناس بهما " أخرجه الشيخان وأبو داود، وحديث عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل عمرة في حجةٍ ". أخرجه البخاري وأبو داود وابن ماجة.
وأما جواز التمتع: فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدموا مكة أمر من لم يسق منهم الهدي أن يجعلها عمرة، ويتحلل بالطواف والسعي، وأبطل ما كان يعتقده العرب في الجاهلية من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور كما في حديث(3/92)
ابن عباس رضي الله عنهما. واختلفوا أيها أفضل؟ فقال أحمد في المشهور عنه وبعض الشافعية واللخمي من المالكية: التمتع أفضل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به أصحابه، ودعاهم عندما قدموا مكة إلى فسخ الحج إلى العمرة، وتمنى أنه لو يسق الهدي حتى يجعلها عمرة ويتحلل مثلهم، وهو لا يختار فيما يأمر به إلاّ الأفضل، وهو أفضل أيضاًً لأنه آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال الإِمام أحمد. واختار مالك الإِفراد وهو المشهور من مذهب الشافعي وغيره من أهل العلم، واحتجوا على أفضليته بأدلة: أولها الأحاديث الصحيحة التي تدل على أنه كان مفرداً عن جابر وابن عمر وعائشة وابن عباس، ففي حديث عائشة " وأهلَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج " وهو لا يحتمل إلاّ الإفراد، وفي حديث جابر " أنّه حج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ساق البدن معه. وقد أهلوا بالحج مفرداً " كما رواه الشيخان، وفي حديث ابن عمر أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل بالحج مفرداً " وفي حديث ابن عباس: " أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج " أخرجه مسلم فهذه الأحاديث الصحاح دالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم مفرداً، ورواتها من أضبط الرواة وأصحهم، أضف إلى ذلك أن المفرد لا دم عليه وانتفاء الدم عنه مع لزومه في التمتع والقران دليل أفضليته، لأن الكامل في نفسه الذي لا يحتاج إلى جبره بالدم أفضل من المحتاج إليه كما في " أضواء البيان "، ثم إن الافراد هو الذي عليه الخلفاء الراشدون وهم أفضل الناس وأتقاهم وأشدهم اتباعاً لسنته - صلى الله عليه وسلم -. ومما يدل على أفضليته أيضاًً إجماع الأمة على جوازه دون كراهة مع اختلافهم في غيره، فقد كره عمر وعثمان التمتع، كما كره بعضهم القران. اهـ. كما في " أضواء البيان " (1) . وقال الثوري وأبو حنيفة: القران أفضل، واختاره ابن القيم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج قارناً، وقال ابن تيمية: " القِران أفضل من التمتع إن ساق هدياً، وهو إحدى الروايتين عن أحمد "
__________
(1) وقال النووي في " الروضة ": تفضيل الإفراد على التمتع والقران، شرطه أن يعتمر تلك السنة يعني من بلده، فلو أخر العمرة عن سنته فكل من التمتع والقران أفضل منه. (ع) .(3/93)
511 - " بَابٌ مِنْ أيْنَ يَخرُجُ مِنْ مَكَّةَ "
602 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
"أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءَ مِنَ الثَّنِيَّةِ العُلْيَا التي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال في " تيسير العلام ": هذا هو الصحيح الذي يسهل رد الأدلة الصحيحة إليه، وقد ساق ابن القيم ما يزيد على عشرين حديثاً صحيحة صريحة في ذلك وكثيرٌ منها في " الصحيحين ". منها: حديث ابن عمر رضي الله عنهما: " أنه - صلى الله عليه وسلم - قرن الحج إلى العمرة، وطاف لهما طوافاً واحداً -ثم قال: - هكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرجه مسلم. " وحديث عمر " قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوادي العقيق يقول: " أتاني الليلة آتٍ من ربي عزّ وجل فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة " أخرجه البخاري.
وحديث سراقة بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " (1) قال: وقرن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع "، أخرجه أحمد، وإسناده ثقات. وحديث جابر: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرن الحج والعمرة فطاف لهما طوافاً واحداً " أخرجه أحمد. قال النووي وأما ما جاء في بعض الروايات من أنه - صلى الله عليه وسلم - أهل بالحج مفرداً فمعناه أنّه أحرم أولاً بالحج مفرداً، ثم أدخل عليه العمرة، فصار قارناً، فمن روى أنه كان مفرداً وهم الأكثرون اعتمدوا أوّل الإِحرام، ومن روى أنّه كان قارناً اعتمد آخره. والمطابقة: في كون هذه الأحاديث تدل على مشروعية التمتع والقران والإِفراد.
511 - " باب من أين يخرج من مكة "
602 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة من كداء " بفتح الكاف والمد والجر بالفتحة لأنه
__________
(1) وقد تقدم عن الإمام أحمد أن التمتع أفضل، وأنه آخر الأمرين منه - صلى الله عليه وسلم -. (ع) .(3/94)
بالبَطْحَاءِ، وَخَرَجَ مِنَ الثَنِيَّةِ السُّفْلَى".
512 - " بَابُ مَا ذُكِرَ في الْحَجَرِ الأَسْوَدِ "
603 - عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ جَاءَ إلى الْحَجَرِ الأسْودِ فَقَبَّلَهُ فَقَالَ: " إِنِّي أعْلَمُ أنَّكَ حَجَرٌ، لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، ولولا إِنِّي رَأيْتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اسم لا ينصرف "من الثنية العليا " وهي الطريق العالية التي ينزل منها الناس إلى المعلى " التي بالبطحاء " أي: الواقعة بجانب الأبطح أو المُحَصَّبِ " وخرج من الثنية السفلى " وهي التي عند باب الشبيكة قرب شعب الشاميين، وتسمى كُدَى (1) . الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " وخرج من الثنية السفلى ".
فقه الحديث: دل الحديث على استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج من السفلى لمن تيسر له ذلك اتباعاً للسنة.
512 - "باب ما ذكر في الحجر الأسود"
603 - معنى الحديث: أن عمر رضي الله عنه " جاء إلى الحجر الأسود فقبله " اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - " فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع " وإنما أراد عمر بقوله هذا: أن تقبيله للحجر لم يكن عن اعتقاد أن له أي تأثير من نفع أو ضر، وإنما فعل ذلك تعظيماً لأوامر الله، واتباعاً لسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - " ولولا أني رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك " أي إنما قبلتك اقتداءً بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الطبري: وإنما قال ذلك لأن الناس كانوا حديثي
__________
(1) بضم الكاف وفتح الدال والألف المقصورة.(3/95)
513 - " بَابُ مَنْ كَبَّرَ في نوَاحِي الْكَعْبَةِ "
604 - عن ابْنِ عِبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَا قَدِمَ أبى أن يَدْخُلَ الْبَيْتَ وفيه الآلِهَةُ، فأَمَرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عهد بعبادة الأصنام (1) ، فخشى أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم الأحجار كما كانت العرب تفعل. الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة.
فقه الحديث: دل الحديث على أن من سنن الطواف تقبيل الحجر الأسود أول الطواف بلا صوت بعد استلامه ولمسه بيده اليمنى أو بكفيه (2) ، فإن لم يستطع تقبيله قبَّل يده لقول نافع: " رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ثم قبل يده وقال ما تركته منذ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله " أخرجه مسلم، قال النووي: وهذا الحديث محمول على من عجز عن تقبيل الحجر، وإلا فالقادر يقبل الحجر، وهذا الذي ذكرناه من استحباب تقبيل اليد بعد الاستلام للعاجز هو مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال القاسم بن محمد التابعي المشهور ولا يستحب التقبيل، وبه قال مالك في أحد قوليه (3) . الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلك ما قبلتك ".
513 - " باب من كبر في نواحي الكعبة "
604 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم " مكة يوم الفتح " أبى " أي كره "أن يدخل البيت
__________
(1) " شرح العيني " ج 9.
(2) " الفقه الإسلامي وأدلته " للدكتور وهبة الزحيلي ج 3.
(3) " شرح النووي على مسلم " ج 9.(3/96)
بِهَا فأخْرَجَتْ، فأخْرجُوا صُورَةَ إبْراهِيمَ وإسْمَاعِيلَ وفي أيدِيهِمَا الأزْلَامُ، فقالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " قاتَلَهُمُ اللهِ أما وَاللهِ قد عَلِمُوا أنَّهُمَا لمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطُّ " فَدَخَلَ الْبَيْتَ فكَبَّرَ في نَوَاحِيهِ ولَمْ يُصَلِّ فِيهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفيه الآلهة" أي والأصنام معلقة على جدرانه، ومنصوبة عليه، " فأمر بها فأخرجت. فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل " أي ومن ضمنها تمثالان لإبراهيم وإسماعيل " وفي أيديهما الأزلام " أي أقداح الأزلام، قال القرطبي (1) : ويقال: كانت في البيت عند سدنة البيت وخدام الأصنام، يأتي الرجل إذا أراد حاجة فيقبض منها شيئاً، فإن كان عليه: أمرني ربي، خرج إلى حاجته على ما أحب أو كره " فقال رسول الله: قاتلهم الله أما والله قد علموا أنهما لم يستقسما بها قط " أي أن هذه الصور التي صوروا فيها إسماعيل وإبراهيم والأزلام في أيديهما صور كاذبة لا تمت إلى الواقع بصلة، لأنهم يعلمون علم اليقين أنهما لم يستقسما بالأزلام طول حياتهما. " فدخل البيت وكبر في نواحيه " أي في جهاته الأربع " ولم يصل فيه " هكذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل في الكعبة عندما دخلها، لكن ثبت في حديث بلال رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى في الكعبة، وهو مقدم عليه، لأنه دخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة، وشاهد ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها، ولم يدخل معه ابن عباس رضي الله عنهما. الحديث: أخرجه أيضاًً أبو داود.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يستحب لمن دخل الكعبة أن يكبر في جهاتها الأربع. ثانياًًً: أنه يستحب دخول الكعبة للحاج وغيره، وليس من المناسك عند الجمهور. ثالثاً: نفى ابن عباس رضي
__________
(1) " تفسير القرطبي " ج 6.(3/97)
514 - " بَابٌ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الرَّمَلِ "
605 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
"قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأصْحَابُهُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وَقَدْ وَهَنَتْهُمُ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأمَرَهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَرْمُلُوا الأشْواطَ الثَّلَاثةَ، وأنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أنْ يَأمُرَهُمْ انْ يَرْمُلُوا الأشْوَاطَ كُلَّهَا إلَّا الإِبقَاءُ عَلَيْهِمْ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الله عنهما أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صلى في الكعبة، لكن المعتمد أنّه صلى فيها لحديث بلال الذي ذكرناه، والجمهور على صحة الصلاة فيها فرضاً أو نفلاً، واستحب الشافعية الصلاة فيها. والمطابقة: في قوله: " فكبر في نواحيه ".
514 - " باب كيف كان بدء الرمل "
605 - معنى الحديث: أن قريشاً أطلقت الشائعات الكاذبة على أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أضعفتهم حمى المدينة، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يثبت للناس كذب هذه الإشاعات، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في عمرة القضاء (1) أن يرملوا أي يسرعوا في الثلاثة الأشواط الأولى من الطواف، ما عدا ما بين الركنين " ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلاّ الإبقاء عليهم " أي إلاّ الشفقة عليهم والرفق بهم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
فقه الحديث: دل الحديث على أن من سنن الطواف (2) للرجال الرملُ
__________
(1) وكانت في السنة السابعة من الهجرة سميتْ عمرة القضاء، لأنها كانت قضاء لعمرة الحديبية التي صدتهم عنها قريش في السنة التي قبلها.
(2) قال في " تيسير العلام ": يؤخذ منه استحباب الرمل في كل طواف وقع بعد قدوم، سواء كان لنسك أو لا.(3/98)
515 - " بَابُ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الأسْوَدِ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ أوَّلَ مَا يَطُوف وَيَرْمُلُ ثَلَاثاً "
606 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ يَقدَمُ مَكَّةَ إِذَا استلَمَ الرُّكْنَ الأسْوَدَ أوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلَاثَةَ أشْوَاطٍ مِنَ السَّبْعِ ".
516 - " بَابُ الرَّمَلِ في الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ "
657 - عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَنَّهُ قالَ: "فَمَا لَنَا ولِلرَّمَلِ إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ أهْلَكَهُمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في الأشواط الثلاثة الأولى. والمطابقة: في كون الحديث جواباً للترجمة.
515 - " باب استلام الحجر الأسود حين يقدم مكة أول ما يطوف ويرمل ثلاثاً "
606 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قدم مكة بدأ طوافه باستلام الحجر الأسود وتقبيله، ثم يرمُل في الأشواط الثلاثة الأولى. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من سنن الطواف: استلام الحجر وتقبيله (1) وكذلك الرمل في الثلاثة الأشواط الأولى. والمطابقة: في قوله: " استلم الركن الأسود ".
516 - " باب الرمل في الحج والعمرة "
607 - معنى الحديث: يقول عمر رضي الله عنه: "فما لنا
__________
(1) أي استلام الحجر الأسود وتقبيله عند بدء الطواف، وسيأتي الكلام على تقبيل الحجر الأسود قريباً في باب تقبيل الحجر.(3/99)
اللهُ، ثُمَّ قَالَ: شَيءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَا نُحِبُّ أن نَتْرُكَهُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وللرمل" قال العيني: ويروى والرَّمل بغير لام، والنصب فيه على الأفْصَح، وفي رواية عن زيد بن أسلم: " فيم الرمل والكشْفُ عن المناكب " "إنما كُنا راءينا به المشركين" أي إنما شرع الرَّمل في الأصل بسبب وهو أن المشركين أشاعوا أن النبي وأصحابه قد أضعفتهم حمي يثرب فأمر النبي أصحابه في عمرة القضاء أن يرملوا في الطواف ليظهروا لهم سلامتهم وصحتهم وقوة أجسامهم تكذيباً لِإشاعتهم الباطلة، أما الآن فقد هزم الله الشرك وأهله، وفتحت مكة وزال السبب الداعي إلى الرمل، ولكنَّهُ بقي سنة مشروعة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنفعلها اقتداءً به، وعملاً بسنته، وإحياءً لهذه الذكريات الإِسلامية الخالدة، وهو معنى قوله: " ثم قال: - شيء صنعه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا نحب أن نتركه " أي فنحن الآن وقد أهلك الله تعالى المشركين ولا حاجة لنا بالرمل (1) ، ولكنه شيء صنعه النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فلا نحب أن نتركه، اتباعاً له، لأنه - صلى الله عليه وسلم - ثبت أنه رمل في حجته ولا مشرك يومئذ، فعلم أنَّه من مناسك الحج.
الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " شيء صنعه النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ".
فقه الحديث: دل الحديث على أن الرمل في الطواف من السنن المشروعة فيه، وأن مشروعيته باقية رغم زوال سببه، وهو من الأعمال التي زال سببها وبقى حكمها ومشروعيتها، قال الخطابي (2) : وقد يحدث شيء من أمر الدين بسبب من الأسباب، فيزول ذلك السبب ولا يزول حكمه، كالعرايا والاغتسال للجمعة. وقال الطبري (3) : ثبت أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رمل في حجته ولا
__________
(1) أي لا حاجة لنا بالرمل لزوال سببه فقد زال سببه وبقي حكمه، كما أفاده العيني.
(2) " شرح العيني على البخاري " ج 9.
(3) أيضاًً " شرح العيني " ج 9.(3/100)
517 - " بَابُ استِلَامِ الرُّكْنِ بالْمِحْجَنِ "
658 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" طَافَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ ".
518 - " بَابُ تقْبِيلِ الْحَجَرِ "
609 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنهُ سَألهُ رَجُل عَنِ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ فَقَالَ: "رَأيتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مشرك يومئذ يراه، فعلم أنه من مناسك الحج، غير أنا لا نرى على من تركه عامداً أو ساهياً قضاءً ولا فدية، لأن من تركه فليس بتارك العمل، إنما هو تارك لهيئته وصفته كالتلبية التي فيها رفع الصوت، فإن خفض صوته بها كان غير مضيع لها. اهـ.
517 - " باب استلام الركن بالمحجن "
608 - معنى الحديث: أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - طاف في حجة الوداع راكباً على بعيره يشير إلى الحجر الأسود بمحجنه وهي عصا محنية الرأس مكتفياً بذلك عن استلام الحجر.
فقه الحديث: دل الحديث على أنه يجوز عند الزحام استلام الحجر بعصا ونحوها، وكذلك تجوز الإِشارة إليه باليد وتقبيلها عند الجمهور. وقال مالك: إن لم يصل إليه بعود كبر إذا حاذاه ومضى ولا يشير إليه. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " يستلم الركن ".
518 - " باب تقبيل الحجر "
609 - معنى الحديث: يحدثنا الراوي "أن ابن عمر سأله رجل(3/101)
يَسْتَلِمُهُ ويُقَبِّلُهُ، فَقَالَ: أرأيْتَ إِنْ غُلِبْتُ قَالَ: اجْعَلْ أرأَيْتَ بِالْيَمَنِ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمهُ ويُقَبِّلُهُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عن استلام الحجر" الأسود، وهو وضع اليد عليه عند بداية الطواف " فقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبله " وهذا يقتضي أنّ استلامه وتقبيله سنة " فقال: أرأيت إن غلبت " أي أخبرني إن زاحمني الناس عليه، وحاولت الوصول إليه فعجزت عنه، هل أعذر في ترك استلامه وتقبيله " قال: اجعل أرأيت باليمن " أي عليك باتباع سنة نبيك، ودع الرأي هناك، وظاهره أنه لا يرى في الزحام عذراً. الحديث: أخرجه أيضاًً الترمذي والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من سنن الطواف استلام الحجر وتقبيله وأن ابن عمر لا يرى في الزحام عذراً، لكن الجمهور على أنه إذا عجز عن تقبيله يكفيه أن يضع يده عليه ويقبلها، ومالك قال لا يقبلها، وإنما يضعها على فمه فقط، أما إن عجز عن استلامه بيده، فإنه يستلمه بشيء في يده كالعصا فإن عجز أشار بيده (1) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال ابن عباس: " طاف على بعير، كلما أَتى الركن أشار إليه بشيء كان عنده "، وإن لم يشر إليه استقبله مهلِّلاً مكبراً. والمطابقة: في قوله: " رأيت النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبله ".
***
__________
(1) أي فإنه يشير إِلى الحجر بيده.(3/102)
519 - " بَابُ مَنْ طَاف بالْبَيْتِ إذَا قَدِمَ مَكَّةَ قَبلَ أنْ يَرْجِعَ إلى بَيْتهِ "
610 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
" أنَّ أَوَّلَ شَيء بَدَأ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأ ثُمَّ طَافَ ثُمَّ لَمْ تَكنْ عُمْرَةٌ، ثُمَّ حَجَّ أبو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِثْلَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
519 - " باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة قبل أن يرجع إلى بيته "
610 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أنّ أوّل شيء بدأ به حين قدم - صلى الله عليه وسلم - مكة " أي أنّ أول عمل فعله النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عند وصوله إلى مكة " أنه توضأ ثم طاف " أي بدأ بالوضوء والطواف بالبيت، فبدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالطواف قبل أن يذهب إلى بيته الذي يريد النزول فيه كما قال البخاري " ثم لم تكن عمرة " أَي: ولم يفسخ النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه (1) الحج إلى العمرة لأنه كان قارناً، وساق الهدي فلم يتمتع بالعمرة كما فعل غيره، " ثم حج أبو بكر وعمر رضي الله عنهما مثله " أي مثل حج النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما أفاده العيني.
فقه الحديث: دل الحديث على أنّ من السنة لمن قدم مكة أن يبدأ بالطواف أولاً، سواء كان حاجاً أو معتمراً أو لم يكن أحدهما، فإن كان قارناً فطوافه طواف قدوم، وهو سنة، أو طواف ركن على أن عليه طوافين، وسعيين، وهو مذهب أبي حنيفة، وإن كان مفرداً فطوافه طواف قدوم، وهو سنةٌ
__________
(1) هكذا فسره القاضي عياض كما أفاده العيني.(3/103)
520 - " بَابُ مَنْ لَمْ يَقْرَبِ الكَعْبَةَ وَلَمْ يَطُفْ حَتَّى يَخرُجَ إلَى عَرَفَةَ "
611 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" قَدِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ فَطَافَ وسعى بين الصَّفا والْمَرْوَةَ، ولم يقرب الكَعْبَةَ بعد طَوافِهِ بها حتى رَجِعَ من عَرَفَةَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وإن كان متمتعاً فطوافه طواف عمرة، وهو ركن من أركانها، وإن لم يكن شيئاً من ذلك فطوافه تطوع وتحية للمسجد. وفي الحديث دليل على أن الوضوء شرط في صحة الطواف، لقولها " أنه توضأ ثم طاف "، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الطواف صلاة إلاّ أنّ الله تعالى أحل فيه الكلام، فمن تكلم فلا يتكلم إلّا بخيرٍ " أخرجه الترمذي والدارقطني وصححه الحاكم، قال العثماني الشافعي: ومن شرط الطواف الطهارة وستر العورة عند الثلاثة، وقال أبو حنيفة: ليس بشرط في صحته (1) . الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قولها رضي الله عنها: " إن أوّل شيء بدأ به حين قدم مكة أن توضأ ثم طاف إلخ ".
520 - " باب من لم يقرب الكعبة ولم يطف حتى يخرج إلى عرفة "
ْ611 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما في هذا الحديث عن عدد المرات التي طافها النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالبيت قبل طلوعه إلى عرفة في حجة الوداع، فيقول: " قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة " يعني في حجة الوداع " فطاف " مرة واحدة، أو طوافاً واحداً " وسعى بين الصفا والمروة " سعياً واحداً، واكتفى بطواف واحد، وسعى واحد قبل طلوعه إلى عرفة، لأنه انشغل بأمور أخرى " ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها " هذه المرة "حتى
__________
(1) " رحمة الأمة في اختلاف الأئمة ".(3/104)
521 - " بَابُ مَا جَاءَ في زَمْزَمَ "
612 - عن ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" سَقَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من زمزَمَ، فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رجع من عرفة" وعند ذلك طاف طواف الإفاضة. الحديث: أخرجه البخاري.
فقه الحديث: دل الحديث على أن الحاج ليس عليه قبل عرفة سوى طواف واحد، فإن كان مفرداً كان طوافه طواف قدوم اتفاقاً وهو سنة، وإن كان متمتعاً فطوافه طواف العمرة، وهو ركن من أركانها اتفاقاً، وإن كان قارناً فطوافه طواف قدوم عند الجمهور، وهو سنة، وليس عليه من أركان الحج سوى طواف واحد وهو طواف الإِفاضة، وقال أبو حنيفة: إن كان قارناً فطوافه ركن، لأن على القارن طوافين وسَعْيَين. والمطابقة: في قوله: " لم يقرب الكعبة بعد طوافه بها ".
521 - " باب ما جاء في زمزم "
612 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما سقيت رسول الله من ماء زمزم فشرب من ذلك الماء حال كونه قائماً.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: قال القسطلاني: فيه الرخصة في الشرب قائماً. ثانياًً: دل الحديث على فضل بئر زمزم وشرفها، لأنه - صلى الله عليه وسلم - ذهب إليها ووقف عليها، وشرب منها، وعلى استحباب الشرب من ماء زمزم والتضلع منه اقتداءً بنبينا - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن المنير: وكأنه عنوان عن حسن العهد، وكمال الشوق، فإن العرب اعتادت الحنين إلى مناهل الأحبة، وموارد أهل المودة، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:(3/105)
522 - " بَابُ وُجُوبِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ " وَجُعِلَ مِنْ شَعَائِرِ الله "
613 - عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنهَا سَألهَا ابْنُ أخْتِهَا عُرْوَةُ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فَقَالَ: فَوَاللهِ ما عَلَى أحدٍ جُنَاح أن لا يَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَتْ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صلّوا في مصلى الأخيار، واشربوا من شراب الأبرار، قيل: وما مصلى الأخيار؟ قال: تحت الميزاب، قيل: وما شراب الأبرار؟ قال: زمزم.
ويستحب استقبال الكعبة عند شربه، والدعاء بصالح الدعاء، وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما إذا شرب منه قال: اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاءً من كل داءٍ. وهو ماء مبارك يستفيد الناس منه في قضاء حاجاتهم بإذن الله تعالى، فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ماء زمزم لما شرب له ". قال ابن القيم: وقد جربت أنا وغيري (1) من الاستشفاء بماء زمزم أموراً عجيبة، واستشفيت به من عدة أمراض فبرأت بإذن الله تعالى، وشاهدت من يتغذى به لأيام ذوات العدد قريباً من نصف الشهر أو أكثر، وأخبرني أنّه ربما بقي عليه أربعين يوماً، وكان له قوة يجامع أهله ويصوم ويطوف مراراً. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زمزم ".
522 - " باب وجوب الصفا والمروة وجعل من شعائر الله "
613 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها " سألها ابن أختها عروة عن قول الله عز وجل (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ
__________
(1) " الطب النبوى " لابن القيم.(3/106)
بِئْسَ مَا قُلْتُ يا ابْنَ أُخْتِي، إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أولْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أنْ لَا يَتَطَوَّفَ بِهِمَا، وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ في الأنْصَارِ، كانُوا قَبْلَ أن يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيةِ التي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ المُشَلَّلِ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أنْ يَطوفَ بالصَّفَا والْمَرْوَةِ، فَلَمَّا أسْلَمُوا سَألوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّج أنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فأنزلَ اللهُ تَعَالَى (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) الآيَة قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) "، أي أنّ عروة سأل خالته عائشة عن معنى هذه الآية، وقال: إني فهمت من قوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) أن السعي غير واجب على الحاج " قال: فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بهما " أي لا إثم على من ترك السعي بينهما، " قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي " أي لقد أخطأت فيما قلت: ولم توفق في فهمك هذا " إن هذه " الآية " لو كانت كما أوّلتها " أي كما فسرتها " كانت لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما " أي لكان لفظها كما قالت عائشة لأنّها لا تدل على عدم وجوب السعي إلاّ إذا اقترنت بلا النافية، ثمَّ بينت سبب نزول الآية الكريمة في قولها: " لكنها أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة " أي يحجون لصنم يسمى مناة عند المُشلَّلِ " بضم الميم، وهي ثنية بين مكة والمدينة تشرف على قديد " فكان من أهل " أي فكان من حج من الأنصار " يتحرجٍ أن يطوّف بالصفا والمروة " أي كان يرى في السعي بين الصفا والمروة إثماً عظيماً، لأنّه كان فيهما صنمان يعبدهما غيرهم، وهما(3/107)
523 - " بَابُ مَا جَاءَ في السَّعْي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ "
614 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
"كَانَ رَسُولُ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا طَافَ الطَّوَافَ الأوَّلَ خَبَّ ثَلَاثاً، وَمشى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" أساف " و" نائلة "، وكانوا يكرهونهما " فلما أسلموا سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك " أي عن السعي بينهما هل فيه إثم كما يظنون " فأنزل الله تعالى (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فبين لهم أن لا إثم عليهم في السعي بين الصفا والمروة كما كانوا يظنون، لأن السعي بينهما من شعائر الله، أي من مناسك الحج والعمرة "وقد سنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما" أي وقد شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - لنا السعي بينهما.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية السعي بين الصفا والمروة، وهو ركن من أركان الحج والعمرة عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: هو واجب يجبر بالدم، وذهب ابن عباس وابن الزبير وابن سيرين وأحمد في رواية إلى أنّه سنة، لما جاء في مصحف ابن مسعود (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) ورجح ابن قدامة وجوبه، لأن الدليل الذي ورد فيه إنما يدل على مطلق وجوبه لا على أنه لا يتم الواجب إلاّ به. وقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله قد كتب عليكم السعي فاسعُوا " رواه الطبراني وهو حديث حسن. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قولها: " وقد سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما ".
523 - " باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة "
614 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا طاف الطواف الأول " أي طواف القدوم أو العمرة(3/108)
أرْبَعاً، وَكَانَ يَسْعَى بَطنَ الْمسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ".
524 - " بَابُ تقضي الْحَائِضُ الْمَنَاسِك كُلَّهَا إلَّا الطَّوَاف بِالبَيْتِ "
615 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنَّهَا قَالَتْ: قَدِمْتُ مكَّةَ وأَنا حَائِضٌ، ولَمْ أطُفْ بالْبَيْتِ، ولا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قَالَتْ: فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " افْعَلِي كَمَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أن لا تَطُوفِي بالْبَيْتِ حتى تطهُرِي ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" خبَّ ثلاثاً " أي أسرع في الأشواط الثلاثة الأولى، وهو ما يسمى بالرمل " وكان يسعى بطن المسيل "، أي وكان يفعل ذلك الإِسراع المسمى بالرمل أو الخبب وسط المسعى بين الميل الأخضر المعلق بجوار المسجد، والميلين الأخضرين المعلق أحدهما بجوار المسجد، والثاني بدار العباس رضي الله عنه.
الحديث: أخرجه الخمسة إلا الترمذي.
ويستفاد منه: بيان كيفية السعي، وأنه كله مشي إلاّ ما بين الميلين فيستحب الرمل للرجال. والمطابقة: في كون الحديث مبيناً لكيفية السعي.
524 - " باب تقضي الحائض المناسك إلا الطواف "
615 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " قدمت مكة " أي وصلت إلى مكة " وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة " أي وكنت حائضاً فلم أطف بالكعبة، ولم أسع بين الصفا والمروة، لأنّ الطهارة شرط في الطواف، ولتوقف السعي على الطواف " فشكوت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي شكوت إليه استمرار الحيض وخشيت أن يمنعني من أداء جميع المناسك " قال: افعلي كما يفعل الحاج " من الوقوف بعرفة(3/109)
525 - " بَابٌ أيْنَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ التَروية؟ "
616 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَنَّهُ سَألهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أخبِرْنِي بِشَيءٍ عَقَلْتَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أينَ صَلَّى الظهْرَ وَالْعَصْرَ يَوْمَ التروِيَة؟ قَالَ: بِمِنَى، قَالَ: فَأيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومزدلفة والمبيت بمنى وغير ذلك " غير أن لا تطوفي بالبيت " أي غير أنّك لا تطوفين بالكعبة طواف الإفاضة " حتى تطهري " من الحيض.
ويستفاد منه ما يأتي: أَولاً: أن الحيض يفسد الحج، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لها: " افعلي كما يفعل الحاج " حيث أمرها - صلى الله عليه وسلم - بالاستمرار في أداء مناسك الحج، وهذا يدل على صحة حجها، وعدم فساده بالحيض. ثانياًًً: أن الحيض يفسد الطَّواف، لأن من شروط الطواف الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، والحيضُ حدث أكبر، والحائض غير طاهرة فلا يصح طوافها. ولذلك فإن الحائض تفعل كل مناسك الحج غير الطواف والسعي، وهو ما ترجم له البخاري حيث قال: " تقضي الحائض - أي تفعل المناسك كلها إلّا الطواف بالبيت " أي فلا تطوف لأنّه لا يصح طوافها، ولا تسعى، لأن السعي يتوقف على الطواف. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " افعلي كما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ". الحديث: أخرجه الشيخان.
525 - " باب أين يصلي الظهر يوم التروية؟ "
616 - معنى الحديث: أن أنساً رضي الله عنه " سأله رجل فقال: أخبرني بشيء عقلته عن النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أين صلى الظهر والعصر يوم التروية؟ " أي أخبرني عن شيء كنت قد أدركته مع النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وحضرته معه، وعلمته من النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مباشرة دون واسطة أو رواية شخص آخر عنه "أين صلى(3/110)
النَّفْرِ؟ قَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: بِالأبْطَحِ، ثُمَّ قَالَ: افْعَلْ كَمَا يفعَلُ أُمَرَاؤُكَ.
526 - " بَابُ صَوْمَ يَوْمَ عَرَفَةَ "
617 - عَنْ أُمِّ الْفَضْل رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: "شَكَّ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الظهر والعصر؟ " أي في أي مكان صلى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صلاة الظهر وصلاة العصر " يوم التروية "؟ وهو اليوم الثامن من ذي الحجة " قال: بمنى " أي صلاهما في منى لا في مكة. " قال: أين صلّى العصر يوم النفر؟ " أي: يوم النفر من منى إلى مكة " قال بالأبطح " أي صلّى العصر يوم النفر في الأبطح بين مكة ومنى. وسيأتي بيانه في موضعه " ثم قال: افعل كما يفعل أمراؤك " في هذه الأعمال. الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب صلاة الظهر والعصر يوم التروية بمنى والخروج إليها بعد صلاة الصبح والمبيت بها ليلة التاسع من ذي الحجة، وأداء المغرب والعشاء والصبح بها، والخروج إلى عرفة بعد طلوع الشمس، لقول ابن عباس رضي الله عنهما: " صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر يوم التروية، والفجر يوم عرفة بمنى " أخرجه مسلم. ثانياًًً: أنه يستحب للحاج أن يصلي العصر بالمحصب يوم النفر بين الحجون وجبل النور إن تيسر، وإلّا فعليه أن يراعي الظروف، لقول أنس رضي الله عنه: افعل كما يفعلُ أمراؤك. والمطابقة: في كون الحديث جواباً للترجمة.
526 - " باب صوم يوم عرفة "
617 - ترجمة راوية الحديث: وهي لبابة بنت الحارث الهلالية زوجة العباس رضي الله عنهما تعرف بلبابة الكبرى أول امرأة أسلمت بعد خديجة رضي الله عنها، وكانت من المنجبات أنجبت ستة لم تلد امرأة مثلهم: الفضل،(3/111)
في صَوْمِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَبَعَثْتُ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ".
527 - " بَابُ التَّهجِير بالرَّوَاحِ إلى عَرَفَةَ "
618 - عَنْ سَالِم بْنُ عَبْدِ الله بْن عُمَرَ قَالَ: كَتَبَ عَبْدُ المَلِك إِلَى الحَجَّاجِ أن لا يُخَالِفَ ابن عُمَر فِي الحَجِّ، فَجَاءَ ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَأنا مَعَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَصَاحَ عِنْدَ سُرادِقِ الْحَجَّاجِ، فخَرَجَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وعبد الله، وعبيد الله، وقثم، ومعبد، وعبد الرحمن.
معنى الحديث: تقول أم الفضل رضي الله عنها: " شك الناس يوم عرفة في صوم النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي شك الصحابة هل صام ذلك اليوم، لكثرة ما ورد في فضل صيامه من الأحاديث أو أفطر، لأن للحاج ظرفه الاستثنائي قالت: " فبعثت إلى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بشراب " أي بقدح من لبن " فشربه "، وعند ذلك تأكدت رضي الله عنها من إفطاره. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود.
فقه الحديث: دل الحديث على أنه يندب للحاج الإِفطار يوم عرفة اقتداءً بالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وعملاً بسنته، فهو الأفضل، وصيامه خلاف الأولى (1) . والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - لم يصم يوم عرفة فِي حجة الوداع.
527 - " باب التهجير بالرواح إلى عرفة "
أي هذا باب يذكر فيه أن من السنة التعجيل بالذهاب إلى عرفة في الهاجرة بعد الزوال، وعقب أداء الظهر والعصر في مسجد نمرة ببطن عرنة.
618 - معنى الحديث: أن ابن عمر " أتى يوم عرفة حين زالت الشمس عند سرادق الحَجَّاج " أي صاح منادياً عليه عند مخيمه لأن عبد الملك لما وَلَّى الحجَّاج إمارة مكة أمره أن لا يخالف ابن عمر في المناسك فحج
__________
(1) ويسن صيامه لغير الحاج. (ع) .(3/112)
وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ فَقَالَ: مَالَكَ يا أبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! فَقَالَ: الرَّوَاحَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ، قَالَ: هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأنْظِرْنِي حتى أُفِيضَ عَلَى رَأسِي ثم أخْرُجَ، فَنَزَلَ حتَّى خَرَجَ الحَجَّاجُ، فسَارَ، فَقَالَ لَهُ سَالِمُ بن عَبْدِ الله وَكَانَ مَعَ أبيهِ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَاقْصُرِ الْخُطْبَةَ وَعَجِّلِ الْوُقُوفَ، فَجَعَلَ يَنْظرٌ إلى عبدِ اللهِ، فَلَمَّا رَأى ذَلِكَ عبد اللهِ قَالَ: صَدَقَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" الحَجَّاجُ " ذلك العام، فلما توجه من مني إلى عرفة نزل في نمرة ونصب سرادقه هناك كما كان يفعل غيره من الأمراء اقتداءً بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما حان وقت الزوال ذهب إليه ابن عمر ليبين له المناسك، فصاح به منادياً عليه " فخرج وعليه ملحفة معصفرة فقال: ما لك يا أبا عبد الرحمن؟ " يعني ابن عمر " فقال: الرواح إن كنت تريد السنة " أي عجّل بالذهاب إلى عرفة بعد الزوال. عقب أداء صلاتي الظهر والعصر قصراً وجمعاً ببطن عُرَنة إن كنت تريد العمل بسنته - صلى الله عليه وسلم - " قال: فأنظرني حتى أفيض على رأسي ثم أخرج، فنزل حتى خرج الحجّاج فسار فقال له سالم وكان مع أبيه: إن كنت تريد السنة فاقصر الخطبة " أي فاختصر الخطبة وأدِّ صلاتي الظهر والعصر ببطن عرنة قصراً وجمعاً وخففهما " وعجل بالوقوف " أي وسارع إلى الوقوف بعرفة عقب الصلاة مباشرة لتقف بها في الهاجرة عند منتصف النهار لما في حديث جابر رضي الله عنه قال: " لما زاغت الشمس أَتى - صلى الله عليه وسلم - بطن الوادي، أي وادي عرنة، فخطب الناس، ثم صلى الظهر والعصر جمعاً وقصراً، ثم ركب القصواء (بفتح القاف) وهي ناقته المشهورة، حتى أتى الموقف " إلخ. الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من السنة أن(3/113)
يصلي الإِمام الظهر والعصر قصراً وجمعاً في مسجد نمرة (بفتح النون وكسر الميم) ويقع هذا المسجد ببطن وادي عُرنَة، ومن السنة أيضاًً أن يخفف الخطبة والصلاة ويسارع بالذهاب إلى الموقف فيقف هناك في الهاجرة كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ما ترجم له البخاري، فالتهجير سنة مستحبة، أما الانتقال من عُرنَةَ إلى الموقف من عرفة فهو أمر لا بد منه، ولا يتحقق الوقوف بدونه، لأنّ عُرنة ليست من عَرفة عند الجمهور، فمن اقتصر على الوقوف فيها لا يجزئه ذلك، فهي واد بين العلمين اللذين هما على حد عرنة، والعلمين اللذين هما على حد الحرم فليست من عرفة ولا من الحرم (1) . اهـ. كما ذكره الفاسي في " تاريخه "، وحكى ابن المنذر عن مالك أن عُرَنَةَ من عرفات، وفي صحة ذلك عنه نظر على مقتضى ما ذكره الفقهاء المالكية في كتبهم، ولعل ما حكاه ابن المنذر عن مالك رواية غير مشهورة في المذهب. فقد نص خليل في " مختصره " على أن من وقف في بطن عرنة لا يصح وقوفه بها ولا يجزئه.
وإنما اختلف المالكية في " مسجد نَمِرَةَ " هل هو من عَرَفَةَ أو من عُرنَة؟ فمن قال إنه من عرفة قال يجزىء الوقوف به ومن قال إنه من عُرنة، قال لا يجزىء.
ولذلك اختلفوا في حكمه على خمسة أقوال: الإِجزاء وعدمه والإِجزاء مع وجوب الدم (2) ، والتوقف في حكمه، فقد روى القرافي عن مالك أنه قال: لم يصب (3) من وقف به، فمن فعل لا أدري (4) وخامسها: الإِجزاء مع الكراهة، وهو ما حكاه خليل في " مختصره " حيث قال: " وأجزأ " أي الوقوف " بمسجدها بكُرْهٍ " قال الحطاب يعني أن من وقف بمسجد نمرة فإنه يجزئه وقوفه مع الكراهة، وعند غيرهم لا يجزىء. إذن فالمعتمد عندهم أن
__________
(1) هذا ما ذكره الفاسي عُرنَةِ وحدودها في " تاريخه " كما نقله عنه الحطاب في " شرح الخليل ".
(2) " مواهب الجليل لشرح مختصر خليل " للحطاب ج 3.
(3) " التاج والإكليل للمواق على هامش مواهب الجليل " ج 3.
(4) أي لا أدري هل يجزئه ذلك الوقوف أم لا؟ وهذ النص صريح على توقفه في حكمه.(3/114)
528 - " بَابُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ "
619 - عَنْ جُبَيْرِ بْن مُطْعِم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" أضْلَلْتُ بَعِيراً، فَذَهَبْت أطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَرَأيتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَاقِفَاً بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ: هَذَا وَاللهِ مِنَ الْخمْسِ فما شَأنُة هَا هُنَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الوقوف بمسجد نمرة يجزىء مع الكراهة (1) . ثانياًًً: أن من دخل عرفة قبل الصلاة فقد خالف سنة النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأن السنة في ذلك اليوم أن تؤدّى الصلاة ببطن عرنة، ثم يعجل بعد ذلك بالرواح إلى الموقف في عرفة، لقوله: " إن كنت تريد السنة فاقصر الخطبة وعجل بالوقوف " وفي حديث جابر الطويل " حتى إذا زاغت الشمس أمر - صلى الله عليه وسلم - بالقصواء فرحلت له، فركب حتى أتى بطن الوادي، فخطب الناس -إلى أن قال- ثم أذن بلال، ثم أقام، فصلّى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً ثم ركب القصواء حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات (بفتح أوَّلِهِ وثانِيه وثالِثه) وهي الأحجار المغروسة في أسفل جبل الرحمة " ومعنى ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم -: لم يذهب إلى عرفة إلاّ بعد الصلاة، إذن فهذا هو السنة. والمطابقة: في قوله: " الرواح إن كنت تريد السنة ".
528 - " باب الوقوف بعرفة "
619 - معنى الحديث: يقول جبير رضي الله عنه: " أضللت بعيراً لي فذهبت أطلبه يوم عرفة " أي أضعت بعيري في الجاهلية فذهبت أبحث عنه يوم عرفة، حتى وصلت إلى عرفات " فرأيت النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - واقفاً بعرفة " كسائر القبائل العربية الأخرى غير قريش وما شابهها. " فقلت: هذا والله من الحمس " وهم قريش وكنانة وجديلة حموا بذلك لتحمسهم في دينهم، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - منهم لأنه قرشي. " فما شأنه ها هنا " أي فما باله يقف ها
__________
(1) وعند غيرهم لا يجزىء.(3/115)
هنا (1) في عرفات وهو من الحمس، والحصر إنما يقفون بمزدلفة ولا يتجاوزونها إلى عرفة، لئلا يخرجوا عن حدود الحرم، قال الحافظ (2) : والمعتمد أن هذه القصة كانت في الجاهلية عن قبل الإِسلام وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حج في ذلك العهد، فخرج جبير يبحث عن بعيره الضائع، فلقيه مصادفة في عرفة، فتعجب لذلك واستنكره، لما رواه اسحاق عن نافع بن جبير بن مطعم قال: كانت قريش إنما تدفع من المزدلفة، ويقولون: نحن الحمس، فلا نخرج من الحرم، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على حمل له ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة، فيقف معهم، ويدفع إذا دفعوا وفي رواية: فلما أسلمت علمت أن الله وفقه لذلك.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الوقوف بعرفة، وهو رُكن من أركان الحج لا يتم الحج إلاّ به، ولا يجزىء ولا يصح إلّا بفعله إجماعاً لما رواه عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة، فجاء نفر من أهل نجد فقالوا: يا رسول الله كيف الحج؟ قال: " الحج عرفة، فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جَمْع - بفتح الجيم وسكون الميم. فقد تم حجه " أخرجه أبو داود وابن ماجة (3) . أي فمن وقف على أرض عرفة ليلة العاشر من ذي الحجة فقد أدرك الحج وأدرك الوقوف بعرفة.
وقد اختلفوا في وقت الوقوف بعرفة، فقال الجمهور: وقت الوقوف بعرفة هو ما بين الزوال، زوال الشمس يوم عرفة وطلوع فجر يوم النحر. وقال أحمد (4) : وقت الوقوف بعرفة ما بين فجر يوم عرفة وفجر يوم النحر. واتفق الجمهور " الحنفية والحنابلة والشافعية " على أن من وقف في أي جزء من هذا
__________
(1) " إرشاد الساري " للقسطلاني ج 3.
(2) " فتح الباري " ج 3.
(3) " شرح المقدسي على عمدة الفقه ".
(4) " تكملة المنهل العذب على سنن أبي داود " ج 2.(3/116)
الوقت من ليل أو نهار فقد أدّى هذا الركن، وحجه صحيح. إلاّ أنهم قالوا: يجب عليه الوقوف بعرفة إلى الليل ليجمع بين الليل والنهار، فإن النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقف بعرفة حتى غابت الشمس - كما في حديث جابر، فإن دفع قبل الغروب فعليه دم لقول ابن عباس: " من ترك نُسكاً عليه دم " (1) . ومشهور مذهب الشافعي أن مدَّ الوقوف إلى الليل سنة فقط ولا دم على من دفع قبل الغروب. وإن لم يعد إليها بعده، لما في الخبر الصحيح " من أَتى عرفة قبل الفجر ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه " ولو لزمه دم لكان حجه ناقصاً، وإنما (2) يسن له " الدم " خروجاً من خلاف من أوجبه. وقالت المالكية: لا يتحقق هذا الركن إلاّ بالوقوف جزءاً من الليل بعد الغروب، فإن مشهور مذهب مالك أنه لا بد من الوقوف جزءاً من الليل، فلو فاته بطل حجه ولا يكفي الوقوف نهاراً فقط، لقول ابن عمر: " من لم يقف بعرفة من ليلة المزدلفة قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحج، ومن وقف بعرفة من ليلة المزدلفة من قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج " أخرجه مالك (3) ، ولهذا قال في " القوانين الفقهية " (4) : " لا يدفع من عرفة إلاّ بعد غروب الشمس فإن دفع قبل الغروب فعليه العود ليلاً وإلّا بطل حجه. وأجاب الجمهور بأن مراد ابن عمر أن الحج يفوت بعدكم الوقوف بعرفة في وقته قبل طلوع فجر يوم النحر لا أنه يفوته بعدم الوقوف ليلاً لأنه أراد بذلك بيان آخر وقت الوقوف، لقول النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " من شهد صلاتنا ووقف معنا حتى ندفع، ووقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه وقضى نسكه " قال: الترمذي حديث
__________
(1) " شرح عمدة الفقه " للمقدسي.
(2) " تكملة المنهل العذب " ج 2.
(3) أيضاًً " تكملة المنهل العذب ".
(4) " القوانين الفقهية " لابن جُزَيّ.(3/117)
529 - " بَابُ السيرِ إذَا دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ "
620 - عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَْ اللهُ عَنْهُمَا:
" أنَّهُ سُئِلَ عَنْ سَيْرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في حِجَّةِ الْوَدَاع حِينَ دَفَعَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ فإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صحيح (1) . واستدل أحمد على أن الوقوت بعرفة يبدأ من طلوع فجر ذلك اليوم بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ووقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً " قال أحمد فإن لفظ الليل والنهار مطلق يشمل كل النهار والليل، وأجاب الجمهور عنه أن المراد بالنهار ما بعد الزوال لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين لم يقفوا إلّا بعد الزوال، ولم ينقل عن أحد منهم خلاف ذلك (2) . والمطابقة: في قوله: " رأيت النبي واقفاً بعرفة ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
529 - " باب السير إذا دفع من عرفة "
620 - معنى الحديث: أن أسامة رضي الله عنه " سئل عن سير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع حَين دفع - صلى الله عليه وسلم - " أي عندما أفاض من عرفات، " قال: كان يسير العنق " بفتح العين، أي: يسير سيراً متوسطاً، ولا يسرع، لئلا يضايق الناس، ويؤذيهم، وليكون قدوة لغيره، " فإذا وجد فجوة " أي طريقاً واسعاً فسيحاً " نصّ " أي أسرع في سيره، قال أبو عبيد: " النص تحريك الدابة حتى تستخرج أقصى ما عندها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
فقه الحديث: دل الحديث على مشروعية الالتزام بالهدوء والسكينة عند
__________
(1) " شرح عمدة الفقه " للمقدسي.
(2) " تكملة المنهل العذب " ج 2.(3/118)
530 - " بَابُ أمْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِالسَّكِينَةِ عِنْدَ الإِفَاضَةِ وِإشارَتِهِ إِلَيْهِمْ بِالسَّوْطِ "
621 - عَنْ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ عَرَفَةَ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَاءَهُ زَجْراً شَدِيدَاً وَضَرْبَاً للإِبِلِ، فَأشَارَ بِسَوْطِهِ إلَيْهِمْ، وَقَالَ: " أيّهَا النَّاس عَلَيْكمْ بالسَّكِينَةِ فَإِنَّ البِرَّ لَيْسَ بالإِيضَاعِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الإِفاضة من عرفة، والمحافظة على السير المتوسط والابتعاد عن السرعة وأن على إدارة المرور أن تقوم بواجبها في ذلك، وعلى الإِمام أن يسير أمام الناس ليكون قدوة لهم. والمطابقة: في قوله: " كان يسير العنق ".
530 - " باب أمر النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالسكينة عند الإِفاضة وإشارته إليهم بالسوط "
621 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما: " أنه دفع مع النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة " أي أفاض مع النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - من عرفة إلى مزدلفة، وشاهد حركة سيره بينهما قال: " فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وراءه زجراً شديداً " أي فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - ينظم حركة السير بين عرفة والمزدلفة، ويسير بينهم ويشرف عليهم إذا به يسمع خلفه ضجة وأصواتاً عاليةً " وضرباً للإِبل " أي ويرى الناس يضربون الإِبل لتسرع في سيرها " فأشار بسوطه إليهم " إشارة ينهاهم فيها عن السرعة الشديدة " وقال: أيها الناس عليكم بالسكينة " أي بالهدوء وتخفيف السرعة، والتزام الرفق وعدم مزاحمة الآخرين ومسابقتهم، " فإن البِرَّ ليس بالإيضاع " أي فليست طاعة الله في سرعة السير. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " عليكم بالسكينة ".(3/119)
531 - " بَابُ مَنْ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أهْلِهِ بِلَيْل فَيَقِفُونَ بالْمُزْدَلِفَةِ، وَيَدْعُونَ ويُقَدِّمُ إذَا غَابَ الْقَمَرُ "
622 - عَنْ أسْمَاءَ بِنْتِ أبِي بَكْير رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
"أنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْع عِنْدَ الْمُزْدَلِفَةِ فَقَامَتْ تُصَلِّي فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: لَا، فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ: هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: فارْتَحِلُوا، فارْتَحَلْنَا وَمَضَيْنَا حَتَّى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من السنة الالتزام عند الإِفاضة من عرفات بالهدوء والسكينة، وتخفيف السرعة، وتنفيذ قواعد المرور محافظة على سلامته وسلامة الآخرين. ثانياًًً: مشروعية تنظيم حركة المرور، لا سيما عند الإِفاضة من عرفات، وإشراف المسؤولين عليها، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتولى ذلك بنفسه، كما في حديث الباب.
531 - " باب من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون ويقدم إذا غاب القمر "
622 - معنى الحديث: يحدثنا عبد الله بن كيسان مولى أسماء رضي الله عنها " عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة " أي أنّها نزلت ليلة العيد بعد الإِفاضة من عرفات في مزدلفة فأحيت بعض الليل بالعبادة والصلاة، وهو معنى قوله: " فصلت ساعة " أي: بعض الوقت من الليل، " ثم قالت " لمولاها عبد الله بن كيسان: " هل غاب القمر؟ " تريد أن تتعرف بغياب القمر على أنّها قد صارت في الثلث الأخير من الليل، لأن غياب القمر ليلة العاشر من الشهر يكون فيه كما هو معروف "قال: لا، فصلت ساعة ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قال: نعم،(3/120)
رَمَتِ الْجَمْرةَ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتْ الصُّبْحَ في مَنْزِلِهَا، فَقُلْتُ لَهَا: يَا هَنْتَاهُ مَا أَرَانَا إِلَّا قَدْ غَلَّسْنَا، أَتالَتْ: يَا بُنَيَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أذِنَ لِلْظُّعُنِ".
623 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
"نَزَلْنَا الْمُزْدَلِفَةَ، فاسْتَأذَنت النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَوْدَةُ أن تَدْفَعَ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاس، وكانت امْرَأةٍ بطيئَةً فَأذنَ لَهَا، فَدَفَعَتْ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاس، وأقَمْنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قالت فارتحلوا" أي فلما علمت بغياب القمر، وعرفت من ذلك أنهما صارت في الثلث الأخير من الليل أمرته بالنزول معها إلى مني " قال: فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة " أي رمت جمرة العقبة في آخر الليل قبل الفجر " ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها فقلت لها يا هنتاه " بفتح الهاء وسكون النون أي يا هذه " ما أرانا إلّا قد غلسنا " أي تسرعنا في الرحيل من مزدلفة ورمي الجمرة بالليل، " قالت: يا بني إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن للظعن " بضم الظاء والعين، أي رخص لضعفه النساء مثلي في النزول من مزدلفة في آخر الليل قبل الفجر. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود ومالك وأحمد والطبراني ". والمطابقة: في قولها رضي الله عنها: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن للظعن ".
623 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " نزلنا المزدلفة، فاستأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - سودة أن تدفع قبل حطمة (1) الناس، وكانت امرأة بطيئة " أي بطيئة الحركة لسِمَنِها وضخامة جسمها كما جاء ذلك في رواية أخرى للبخاري عن عائشة حيث قالت فيها: " وكانت ثقيلة ثبْطَةً " (بفتح الثاء وسكون الباء) أي: وكانت سودة امرأة ضخمة سمينة (2) ثقيلة
__________
(1) بفتح الحاء وسكون الطاء.
(2) " شرح العيني " ج 10.(3/121)
حَتَّى أصْبَحنَا نَحْنُ، ثمَّ دفَعْنَا بِدَفْعِهِ، فلان أكونَ اسْتَأذَنْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا اسْتَأذَنَتْ. سَوْدَةُ أَحَبُّ إِلَّي مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحركة، بطيئة السير، فاستأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تنزل من مزدلفة آخر الليل قبل حطمة الناس - أي قبل شدة الزحام، لأن الزحام يشتد بعد الفجر، فأرادت أن تخلص من شدة الزحام بالنزول قبل الفجر، لأنّها من ضعفة النساء وأهل الأعذار. فلا تقدر على مزاحمة الناس لها، " فأذن لها " بالنزول في آخر الليل فنزلت قبل الفجر، " وأقمنا حتى أصبحنا نحن، ثم دفعنا بدفعه "، أي نزلنا عند الإِسفار " فلأن أكون استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما استأذنت سودة أحبُّ إلي من مفروح به " أي فلما رأيت شدة الزحامِ تمنيت لو كنت فعلت كما فعلت سودة، ولو أني استأذنت مثلها لسررت كثيراً ولفرحت فرحاً عظيماً بالتخلص من ذلك التعب الذي عانيناه من شدة الزحام. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قولها: " وكانت امرأة بطيئة فأذن لها ".
فقه الحديثين: دل هذان الحديثان على ما يأتي: أولاً: أنه يرخُصُ لأهل الأعذار من النساء والصبيان والشيوخ بالنزول من مزدلفة بعد منتصف الليل، لقول أسماء رضي الله عنها: " أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن للظعن "، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - أذن لسودة بالنزول آخر الليل قبل الفجر. ثانياًًً: مشروعية الوقوف بمزدلفة لقول عائشة " نزلنا المزدلفة " ومشروعية المبيت فيها حتى الصباح لقولها: " وأقمنا حتى أصبحنا " أي حتى صلينا الصبح فيها: وهذا المبيت واجب يجبر بالدم، عند أحمد وأبي حنيفة وقالت الشافعية: الواجب التواجد فيها ولو لحظة في النصف الثاني من ليلة النحر، وقالت المالكية: الواجب النزول بمزدلفة ليلة النحر، قبل الفجر بمقدار حط الرحال، سواء كان ذلك أوّل الليل أو آخره. أما المبيت فهو سنة عند المالكية والشافعية. وسيأتي تفصيل ذلك في(3/122)
532 - " بَابُ صَلَاةِ الْفَجْرِ في الْمُزْدَلِفَةِ (1) "
624 - عنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَنَّهُ قَدِمَ جَمْعَاً فَصَلَّى الصَّلَاَتيْنِ، كُلَّ صَلَاةٍ وَحْدَهَا بأذانٍ وِإقَامة، والْعَشَاءُ بَيْنَهُمَا، ثم صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ قَائِلٌ يَقُولُ: طَلَعَ الْفَجْرُ وقائِلٌ يَقُولُ: لَمْ يَطْلَع الْفَجْرُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِنّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الباب القادم فراجعه هناك. ثالثاً: قال العيني: استدل بحديث أسماء قوم على جواز الرمي قبل طلوع الشمس وبعد طلوع الفجر للذين يتقدمون قبل الناس، وهو قول عطاء وطاووس بن كيسان وسعيد بن جبير والشافعي، وقال عياض: مذهب الشافعي رمي الجمرة من نصف الليل، ومذهب مالك أن الرمي يحل بطلوع الفجر، ومذهب الثوري وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وأحمد أنها لا ترمى إلاّ بعد طلوع الشمس (2) فإن رموها قبل ذلك أجزأهم وأساءوا.
532 - " باب صلاة الفجر في المزدلفة "
624 - معنى الحديث: يحدثنا عبد الرحمن بن يزيد " عن عبد الله " ابن مسعود رضي الله عنه " أنه قدم جمعاً " (بفتح الجيم وسكون الميم) اسم لمزدلفة سميت به لاجتماع الناس فيها، أي أنه وصل إلى مزدلفة، فنزل بها " فصلى الصلاتين " أي المغرب والعشاء جمعاً وقصراً، " كل صلاة وحدها بأذان وإقامة " أي كل واحدة منهما بأذان وإقامة مستقلة " والعَشاء بينها " أي وتناول رضي الله عنه طعام العشاء بينهما، " ثم صلى الفجر حين طلع الفجر قائل يقول: طلع الفجر، وقائل يقول: لم يطلع " أي صلّى الفجر
__________
(1) في نسخ: باب متى يصلي الفجر بجمع.
(2) " شرح العيني على البخاري " ج 10.(3/123)
هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ حُوِّلَتَا عَنْ وَقْتِهِمَا في هَذَا الْمَكَانِ الْمَغْرِبَ والْعِشَاءَ، فلا يَقْدَمُ النَّاسُ جَمْعَاً حَتَّى يُعْتِمُوا وَصَلَاةَ الْفَجْرِ هَذِهِ السَّاعَةَ، ثمَّ وَقَفَ حتَّى أسْفَرَ، ثُمَّ قَالَ: لو أنَّ أمِيرَ الْمُؤمِنِينَ أفَاضَ الآنَ أصَابَ السُّنَّةَ، فما أدْرِي أقَوْلُهُ: كَانَ أسْرَعَ أمْ دَفْعُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؟ فلم يَزَلْ يُلبي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في وقت الغلس (1) حتى أن الناس - من شدة الظلام اختلفوا في طلوع الفجر وعدمه " ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان المغرب (2) والعشاء " أي أن المغرب والعشاء غيرتا عن وقتهما، وذلك بتأخير المغرب إلى وقت العشاء " وصلاة الفجر هذه الساعة " أي بعد طلوع الفجر مباشرة، وقبل ظهوره للعامة لشدة الظلام، " ثم وقف حتى أسفر، ثم قال: لو أن أمير المؤمنين " عثمان رضي الله عنه " أفاض الآن أصاب السنة " أي لو نزل الآن في وقت الإِسفار وقبل طلوع الشمس إلى مني لوافق سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الراوى " فما أدري أقوله كان أسرع أم دفع عثمان " أي فبادر عثمان رضي الله عْنه بالنزول حتى كأن نزوله سبق قول ابن مسعود رضي الله عنه. الحديث: أخرجه أيضاًً أحمد.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية المبيت في مزدلفة، والوقوف بها إلى الإِسفار، وهو واجب عند أحمد وأبي حنيفة (3)
__________
(1) عند أول طلوع الفجر ولا زالت ظلمة الليل موجودة منتشرة في الجو.
(2) منصوب على أنه عطف بيان للصلاتين.
تنبيه: قوله: " فلا يقدم " بفتح الذال. " حتى يعتموا " بضم الياء من الإعتام وهو الدخول في وقت العشاء الآخر، كما أفاده العيني.
(3) " شرح العيني " ج 10 و" تكملة المنهل العذب " ج 2.(3/124)
والثوري يجب الدم على من تركه، وقال مالك: المبيت بمزدلفة سنة لا واجب، والواجب النزول بها بقدر حط الرحال وصلاة العشاءين، وتناول شيء من الأكل والشرب فيها، فإذا لم ينزل بها فعليه دم. وقالت الشافعية: الواجب هو الحصول بها لحظة أو المرور بها وإن لم يمكث بها بعد نصف الليل (1) ، وقضاء بقية الليل بها سنة فقط. ثانياًًً: أنه يسن الجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة جمع تأخير، وقد اختلفوا في الأذان والإِقامة لهما، فقال أبو حنيفة: يجمع بينهما بأذان واحد وإقامة واحدة، لقول ابن عمر: " جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المغرب والعشاء بجمع بإقامة واحدة " أخرجه مسلم، وقال الشافعي في الجديد وأحمد في رواية: يقام لهما إقامتين ولا يؤذن لهما، لما جاء في حديث أسامة رضي الله عنه " أنه - صلى الله عليه وسلم - لما جاء المزدلفة نزل فتوضأ، فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة، فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئاً " أخرجه البخاري وأبو داود ومالك في " الموطأ " وقال مالك: يجمع بينهما بأذانين وإقامتين، لحديث الباب، والله أعلم. ثالثاً: أداء صلاة الفجر بالمزدلفة في وقت الغلس، وأنه يسن التبكير بها أوّل الوقت، وهو متفق عليه، وهذا ما ترجم له البخاري. والمطابقة: في قوله: " صلى الفجر حين طلع الفجر - وقائل يقول: لم يطلع ".
***
__________
(1) " الفقه الإسلامي وأدلته " للدكتور وهبة الزحيلي ج 3.(3/125)
533 - " بَابٌ مَتَى يَدفَعُ مِنْ جَمْعٍ "
625 - عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ صَلَّى بِجَمْعِ الصُّبْحَ، ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يُفيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيَقُولُونَ، أشْرِقْ ثَبِيرُ، وَأن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَالَفَهُمْ ثم أفاضَ قَبْلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
533 - " باب متى يدفع من جمع "
أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على وقت النزول من جمع - يعني من مزدلفة.
625 - معنى الحديث: يحدثنا عمرو بن ميمون " عن عمر رضي الله عنه أنه صلى بجمع الصبح " فيقول كما في البخاري: شهدت عمر رضي الله عنه صلّى بجمع الصبح، أي حضرت مع عمر رضي الله عنه، ورأيته بعيني وقد صلى في مزدلفة صلاة الصبح، " ثم وقف " أي ثم إنه لم يسارع بالنزول من مزدلفة بعد صلاة الصبح مباشرة، ولكنه وقف إلى وقت الإِسفار.
" فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس " أي فلما حان وقت الإِسفار قال: إن المشركين كانوا لا ينزلون من مزدلفة إلى منى إلاّ بعد طلوع الشمس والتأكد من طلوعها وإشراقها " ويقولون: أشرِق " (بفتح الهمزة وكسر الراء وسكون الشين) فعل أمر " ثبير " بفتح الثاء وكسر الباء جبل في مزدلفة على يسار الذاهب إلى منى، قيل: إنه أعظم جبال مكة وهو منادى بياء محذوفة " والمعنى " لتطلع عليك الشمس يا ثبير " وأن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خالفهم " أي خالفهم في بقائهم بمزدلفة إلى طلوع الشمس فكان - صلى الله عليه وسلم - ينزل في الإِسفار، " ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس " يحتمل أن يكون الفاعل(3/126)
534 - " بَابُ التَّلْبِيَةِ والتكبير غُدَاةَ النَّحْرِ حِينَ يرمِي الْجمْرَةَ "
626 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عمر، أي ثم نزل عمر من مزدلفة في وقت الإِسفار وقبل طلوع الشمس، ويحتمل أن يكون الفاعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون العطف على قوله خالفهم، وهو ما يقتضيه التركيب والسياق، وهو المعتمد ويؤكده ما جاء في رواية الثوري حيث قال فيها: " لمخالفتهم النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فأفاض " وفي رواية الطبري " وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كره ذلك فنفر قبل طلوع الشمس ". الحديث: أخرجه أيضاًً أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية الإِفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس من يوم النحر. قال العيني: واختلفوا في الوقت الأفضل للإِفاضة، فذهب الشافعي إلى أنه إنما يستحب بعد كمال الإِسفار، وهو مذهب الجمهور لحديث جابر الطويل، حيث قال فيه: " فلم يزل - صلى الله عليه وسلم - واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس ". وذهب مالك إلى استحباب الإِفاضة من المزدلفة قبل الإِسفار (1) ولكن قال خليل: " ووقوفه بالمشعر يكبر ويدعو للإِسفار " قال في " التوضيح ": ظاهر كلامه جواز التمادي بالوقوف إلى الإِسفار، وقال في " المدونة ": وإذا أسفر فلم يدفع الإِمام دفع الناس وتركوه. اهـ. ومعنى ذلك أن حد الوقوف بمزدلفة إلى الإِسفار، فإذا أسفر نزل فوراً. اهـ. هذا هو تحرير مذهب المالكية في المسألة، كما أفاده الحطاب. والمطابقة: في قوله: " ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس ".
534 - " باب التلبية والتكبير غداة النحر حين يرمي الجمرة "
قال العيني: " أي هذا باب في بيان التلبية والتكبير غداة يوم النحر "
__________
(1) هذا ما ذكره العيني، ولكن الموجود في كتب المالكية هو ما ذكرناه من قول خليل ومالك في " المدونة " والله أعلم.(3/127)
أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أرْدَفَ الْفَضْلَ، فَأخبَرَ الْفَضْلُ أنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَزَلْ يُلبِّي حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حتى يرمي جمرة العقبة، وفي رواية الكشميهني " حين يرمي جمرة العقبة ".
626 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما: " أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أردف الفضل "، أي أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الفجر في مزدلفة، وبقى بها حتى الإِسفار، ثم ركب راحلته متوجهاً إلى منى، وأردف الفضل بن العباس، أي أركبه خلفه بين مزدلفة ومنى، " فأخبر الفضل " أي: فحدثه الفضل عن تلبية الرسول - صلى الله عليه وسلم - حديث شاهد عيان، وأخبره عما أبصره بعينه، وسمعه بأذنه، فذكر " أنه لم يزل " النبي - صلى الله عليه وسلم - " يلبي حتى رمى جمرة العقبة "، أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استمر في التلبية ليلة عيد النحر وصبيحة يوم النحر إلى أن رمى جمرة العقبة، فلم يقطع التلبية حتى رمى جمرة العقبة. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ مختلفة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنّه يطلب من الحاج أن يستمر ملبياً حتى يرمي جمرة العقبة يوم النحر، ثم يقطع التلبية، قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أن الحاج لا يقطع التلبية حتى يرمي الجمرة، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. والجمهور، أن الحاج مفرداً أو متمتعاً أو قارناً يقطع التلبية مع أول حصاة يَرْميها من جمرة العقبة لقول ابن مسعود رضي الله عنه: " رمقت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة بأول حصاة " أخرجه البيهقي وفيه شريك وعامر بن شقيق، وقد وثقهما بعض المحدثين وضعفهما البعض الآخر، لكن جاء في رواية أخرى عن الفضل بن العباس " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة " أخرجه الشيخان من حديث طويل. وقال مالك وسعيد بن(3/128)
535 - " بَابُ رُكُوبِ الْبُدنَ "
627 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: " اركَبْهَا "، فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةُ، فَقَالَ: " ارْكَبْهَا "، فَقَالَ: أنَّهَا بَدَنَة، فَقَالَ: " ارْكَبْهَا وَيْلَكَ! " في الثَّالِثَةِ أوْ فِي الثَّانِيةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المسيب: يلبي الحاج إلى زوال شمس يوم عرفة، وهو مروي عن علي وابن عمر وعائشة وجمهور فقهاء المدينة، لما رواه القاسم بن محمد عن عائشة " أنّها كانت تترك التلبية إذا رجعت إلى الموقف " أي بعرفة بعد الزوال، وما رواه جعفر بن محمد عن أبيه " أن علي بن أبي طالب كان يلبي في الحج حتى إذا زاغت الشمس من يوم عرفة قطع التلبية " أخرجهما مالك في " الموطأ " (1) وقال: ذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا. وأجيب بأن ترك علي وعائشة التلبية عند زوال الشمس يوم عرفة يحتمل أنه كان لاشتغالهما بالدعاء، والاستغفار، وأنهما عادا إلى التلبية بعد ذلك. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث تقريباً.
535 - "باب ركوب البدن "
البدن: جمع بدنة وهي الواحد من الإِبل ذكراً كان أو أنثى، والمراد به الهدي (1) .
627 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه " أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسوق بدنة " أي يسوق أمامه بعيراً وهو ماش على قدميه " قال: اركبها " أي فأمره النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بركوبها، " قال: إنها بدنة " أي
__________
(1) " تكملة المنهل العذب " ج 1.(3/129)
536 - " بَابُ من أشْعَرَ وقَلَّدَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ "
628 - عن المِسْوَرِ بْنِ مِخْرَمَةَ ومَرْوَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالا:
"خَرَجَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْمَدِينَةِ في بِضْعَ عَشْرةَ مِائَةٍ حتى إِذَا كانُوا بذِي الْحُليْفَةِ قَلَّدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْهَدْيَ وأشْعَرَهُ وأَحرَمَ بِالْعُمْرَةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إنها بدنة مهداة إلى الكعبة فكيف أركب الهدي، " قال: اركبها ويلك " وأصل الويل العذاب الشديد، وهو غير مقصود، وإنما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغلظ له في القول ليركبها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز ركوب الهدي مطلقاً لحاجة أو لغير حاجة وهو مذهب مالك. وقال أحمد والشافعي: يجوز عند الحاجة لحديث أنس " أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسوق إبله وقد جهده المشي، قال: اركبها " أخرجه النسائي، وهو رواية عن مالك وقال أبو حنيفة: لا يركب الهدي إلاّ لضرورة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود النسائي. والمطابقة: في قوله: " قال: اركبها " حيث أمره - صلى الله عليه وسلم - بركوب الهدي.
536 - " باب من أشعر وقلد بذي الحليفة "
628 - " عن المِسْوَر بن مِخرَمة " بكسر الميم وسكوِن الخاء وفتح الراء بن نوفل بن عبد مناف القرشي، ولد بعد الهجرة بسنتين، وروى اثنين وعشرين حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد كُلٌّ منهما بواحد، وتوفي سنة أربع وستين من الهجرة. " ومروان بن الحكم " ابن أبي العاص، ولد بعد الهجرة بسنتين، وروى عن عثمان وعمر وعلي، ولم يصح له سماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان من الفقهاء، تولى الخلافة نصف سنة، وتوفي سنة خمس وستين من الهجرة.(3/130)
ومعنى الحديث: أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرج من المدينة في عمرة الحديبية سنة ست من الهجرة يريد العمرة ومعه ألف وأربعمائة من أصحابه، وهو معنى قولهما: " في بضع عشرة مائة " والبضع ما بين الثلاث إلى التسع، " حتى إذا كانوا بذي الحليفة " ميقات أهل المدينة، وكل من أتى إلى الحج ومرّ بالمدينة، فإنها كذلك ميقات له، يعني فلما وصل النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الميقات المحدد شرعاً لأهل المدينة ومن مر عليها " قلّد النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدي " أي جعل في أعناق الهدي قلادة تميزه عن غيره، من جلد أو نعلين أو نحوها، قالوا: والحكمة في تعليق النعلين في عنقها أن العرب تعد النعل مركوبة للإنسان، لكونها تقي صاحبها، وتحمل عنه وعر الطريق. فكأن الذي أهدي خرج عن مركوبه لله تعالى، كما خرج حين أحرم عن ملبوسه، ومن ثَمَّ استحب نعلين لا واحدة عند الجمهور، واشترطه الثوري، وقال الجمهور تجريء الواحدة أو قطعة جلد، " وأشعره " أي شق الإبل المعدة للهدي من جانب سنامها الأيمن لتعرف أنها هدي. الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يسن تقليد الهدي، مطلقاً، وكره مالك وأبو حنيفة تقليد الغنم كما يسن إشعاره بأن تشق البدنة من جانب سنامها الأيمن لتعرف أنّها هدي، وهو مذهب الجمهور، وكرهه أبو حنيفة لأنّه مثلة. ثانياًً: أنّه يستحب تقليد الغنم في الاشعار من الميقات اتباعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الزرقاني: وفائدته الإعلام بأنّها هدي ليتبعها من يحتاج إلى ذلك. والمطابقة: في قوله: " حتى إذا كان بذي الحليفة قلّد الهدي وأشعره ".
***(3/131)
537 - " بَابُ مَنْ قَلَّدَ الْقَلَاِئدَ بِيَدِهِ "
629 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
" أنَّهُ بَلَغَهَا أنَّ ابْنَ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَقُولُ مَنْ أهدَى هَدْيَاً حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ على الْحَاجِّ حَتَّى يُنْحَرَ هَدْيُهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْس كَمَا قَالَ ابن عَبَاس، أنَا فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدَيَّ، ثمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدَيهِ، ثُمَّ بَعَثَ بَهَا مَعَ أبي، فَلَمْ يَحرُمْ على رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيءٌ أَحَلَّهُ اللهُ لَهُ حَتَّى نُحِرَ الْهَدْيُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
537 - " باب من قلد القلائد بيده "
629 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا يهدون إلى البيت من غير أن يحجوا، فسمعت عائشة أنّ ابن عباس رضي الله عنهما يقول: من قدم إلى البيت هدياً ولم يحج، يحرم عليه ما يحرم على الحاج من الطيب والنساء وحلق الشعر ونحوه حتى ينحر هديه بمنى، فنفت ذلك، وأكدت أنّه لا يحرم عليه شيء من ذلك، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى إلى البيت ولم يحرّم على نفسه شيئاً، وقالت: مبالغة في تأكيد ذلك " أنا فتلت قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي، ثم قلدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه، ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قولهم: " ثم قلدها بيده ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه يستحب للحاج أن يقلد هديه بيده، كما يستحب لغيره أن يهدي ولا يحرم عليه شيء.(3/132)
538 - " بَابُ تقْلِيدِ الْغنَمِ "
630 - عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
" كُنْتُ أفْتِلُ الْقَلَائِدَ للنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَيُقَلِّدُ الْغَنَمَ ويقيمُ في أهْلِه حَلَالاً ".
539 - " بَابُ الْقَلَاِئدِ مِنَ الْعِهْنِ "
631 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَت:
" فَتَلْتُ قَلَائِدَهَا مِنْ عِهْن كَانَ عِنْدِي ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
538 - " باب تقليد الغنم "
630 - معنى الحديث: أن عائشة تقول: "كنت أفتل (1) القلائد للنبي - صلى الله عليه وسلم -" أي أضم خيوطها بعضها إلى بعض " فيقلد الغنم " أي يعلق القلائد في أعناق الغنم كما يقلد غيرها " ويقيم في أهله حلالاً " أي فلا يحرم على نفسه شيئاً من محظورات الإِحرام.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية تقليد الغنم، وأنّها تُقَلَّد كما يُقَلَّدُ غيرها من الإِبل والبقر وهو مذهب الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة ومالك في المشهور عنه، حيث قالا بكراهته. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قولها: " فيقلد الغنم ".
539 - " باب القلائد من العهن "
631 - معني الحديث.: أن عائشة رضي الله عنها تحدثنا أنّها فتلت قلائد هدي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - من " العهن " أي من الصوف المصبوغ ألواناً.
الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
__________
(1) بكسر التاء كما أفاده القسطلاني.(3/133)
540 - " بَابُ الجلالِ لِلْبُدنِ "
632 - عَنْ عَلِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" أمَرَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ أتَصَدَّقَ بِجِلَالِ الْبُدْنِ الَّتي نَحَرْتُ وَبِجُلُودِهَا ".
541 - " بَابُ ذَبْحِ الرَّجْلِ الْبَقَرَ عَنْ نِسَائِهِ "
633 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
"خَرَجْنَا مَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لا نُرَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب القلائد من الصوف، وهو مذهب الجمهور، وقال مالك وربيعة (1) : الأولى أن تكون من نبات الأرض من الحلفاء وغيرها. والمطابقة: في قولها: " من العهن ".
540 - " باب الجلال للبدن "
632 - معنى الحديث: أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كسا البُدْنَ التي أهداها في حجة الوداع، فلما نحرها أمر علياً أن يتصَدَّقَ بهذه " الجلال " التي كساها بها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه يسن تجليل البدن بكساءٍ فوق ظهرها من أفخر الثياب وأغلاها، ثم التصدق به على الفقراء، كما يتصدق بجلودها ولحومها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " أمرني أن أتصدق بجلالها ".
541 - " باب ذبح الرجل البقر عن نسائه "
633 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج في حجه من المدينة في
__________
(1) " شرح العيني " ج 10.(3/134)
إلَّا الْحَجَّ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ، أَمرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا طافَ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا والْمَرْوَةِ أن يَحِلَّ، قَالَتْ: فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: ما هَذَا؟ قَالَ: نَحَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أزْوَاجِهِ".
542 - " بَابُ النَّحْرِ في منحر النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِنَى "
634 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" أنَّهُ كَانَ يَنْحَرُ في الْمَنْحَرِ يَعْنِي مَنْحَرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اليوم الخامس والعشرين من ذي القعدة، وكان الصحابة محرمين بالحج، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عند دخول مكة بالتمتع بالعمرة، فلما كان يوم النحر أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه البقر. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز البقر في الهدي، وأنه يجوز للحاج أن يذبح عن نسائه كما يذبح عن نفسه دون أمرهن.
ثانياًً: أن نحر البقر جائز، وإن كان الذبح أفضل، لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) . ثالثاً: جواز الاشتراك في هدي التمتع والقران خلافاً لمالك، فقد ثبت ذلك في حديث الباب وغيره، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر عن آل محمد في حجة الوداع بقرة واحدة، وهي رواية تفرد بها يونس إلّا أنه ثقة، وقد أخرجها أبو داود وأحمد وابن ماجة، وفي رواية عن أبي هريرة " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرة بينهن " أخرجه أبو داود وابن ماجة. والمطابقة: في قولها: " نحر عن أزواجه أي نحر عنهن البقر ".
542 - " باب النحر في منحر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى "
634 - معنى الحديث: كما قال الراوي عن ابن عمر: "أنه كان(3/135)
543 - " بَابُ نحْرِ الإبِلِ مُقَيَّدَةً "
635 - عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً قَدْ أناخَ بَدَنَتَهُ يَنْحَرُهَا، فَقَالَ: ابْعَثْهَا قِياماً مُقَيَّدَةً (1) سُنَّةَ مُحَمَّدٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ينحر في المنحر" أي كان ابن عمر رضي الله عنهما يحرص كل الحرص على أن ينحر هديه في الموضع الذي نحر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويواظب على ذلك ويداوم عليه كعادته رضي الله عنه في جميع الأماكن التي لها علاقة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي بألفاظ.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية نحر الهدي في منحر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى وهو مستحب لمن أمكنه ذلك، وليس بواجب لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " نحرت ها هنا ومنى كلها منحر " (2) . والمطابقة: في قوله: "كان ينحر في منحر النبي - صلى الله عليه وسلم -".
543 - " باب نحر الإِبل مقيدة "
635 - معنى الحديث: كما قال الراوي: " أن ابن عمر رضي الله عنهما رأى رجلاً أناخ بدنته " أي رأى رجلاً أقعد بعيره على الأرض لكي
__________
(1) يجوز في " سنة " الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هي سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويجوز فيه النصب على أنه مفعول به لفعل محذوف تقديره اتبع سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما أفاده العيني.
(2) قال النووي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " نحرت ها هنا، ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم ووقفت ها هنا، وعرفة كلها موقف، ووقفت ها هنا وجَمْعٌ كلها موقف " في هذه الألفاظ بيان رفق النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بأمّته، وشفقته عليهم " فإنه ذكر لهم الأكمل والجائز، فالأكمل موضع نحره ووقوفه، والجائز كل جزء من أجزاء منى للنحر، وكل جزء من أجزاء عرفات ومزدلفة للوقوف، قال الشافعي وأصحابه: أفضل موضع للحاج موضع نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى أو الأفضل في حق المعتمر في المروة. اهـ.(3/136)
544 - " بَاب لَا يُعْطِي الْجَزَّارَ مِنَ الْهَديِ شيْئَاً "
636 - عَنْ عَلِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" أمَرَنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ أقُومَ عَلَى الْبُدْنِ، وَلَا أعْطِي عَليْهَا شَيْئَاً فِي جِزَارَتهَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ينحره " فقال: ابعثها قياماً مقيدة " أي أوقفها مقيدة مربوطة اليد اليسرى، ثم انحرها قائمة " سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - " أي فإن تلك هي سنة محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من السنة نحر الإِبل قائمة معقولة اليد اليسرى كما ترجم له البخاري. والمطابقة: في قوله: " ابعثها قياماً ".
544 - " باب لا يعطى الجزار من الهدي شيئاً "
636 - معنى الحديث: يقول علي رضي الله عنه: " أمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على البدن " أي وكّلني النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنابني عنه في القيام بنحر البدن التي أهداها إلى البيت وأن أتولى نحرها، وأقوم بتوزيع لحمها وكانت مائة " ولا أعطي عليها شيئاً في جزارتها " أي ولا أعطي الجزار شيئاً من لحمها على أنه أجرة له على ذبحها وسلخها، وفي رواية أبي داود " ونحن نعطيه من عندنا ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه لا يجوز أن يُعطى الجزار أجرة عمله من الهدي، أما إذا أُعطي أجرته كاملة وكان فقيراً فتصدق عليه فلا بأس. والمطابقة: في قوله: " ولا أعطي عليها شيئاً في جزارتها ".
***(3/137)
545 - " بَابُ مَا يَأكُلُ مِنَ الْبُدنِْ وَما يَتَصَدَّقُ "
637 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كُنَّا لا نَأكلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنا فَوْقَ ثَلَاثِ مِنىً، فَرَخَّصَ لنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " كُلُوا وَتَزَوَّدُوا، فَأكلْنَا وَتَزَوَّدْنَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
545 - " باب ما يأكل من البدن وما يتصدق "
637 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه: " كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث منى " أي كانت قد نزلت بالناس " دافة " أي قحط ومجاعة فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يأكلوا من لحوم الهدي والأضاحي سوى أيّام منى الثلاث، وما زاد عن ذلك يوزع على الفقراء لسد حاجتهم ومواساتهم في محنتهم، ومد يد المعونة لهم، " فرخص لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: كلوا وتزودوا " أي فلما زالت تلك المجاعة، وتحسنت أحوال الناس، أجاز لنا - صلى الله عليه وسلم - أن نتصرف في الهدي والأضاحي بالأكل والتزود والادخار منها، فقال: " كلوا وتزودوا ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز الأكل من الهدي، وهو مصداق قوله تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) . واختلفوا فيما يؤكل منه من الهدي، فقال مالك: يؤكل ما عدا الفدية وجزاء الصيد وما نذر للمساكين، وما عطب من هدي التطوع. وقال أبو حنيفة وأحمد: يجوز الأكل من هدي التمتع والقران والتطوع، وهو المعتمد، وقال الشافعي: لا يؤكل إلاّ من هدي التطوع. ولا حد لما يؤكل اتفاقاً. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وتزودوا ".(3/138)
546 - " بَابُ الذَّبْحِ قَبْلَ الْحَلْقِ "
638 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
قَالَ رَجُل للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: زُرْتُ قَبْلَ أنْ أرْمِيَ، قَالَ: " لَا حَرَج "، قَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أنْ أذْبَحَ! قَالَ: " لا حَرَجَ "، قَالَ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أنْ أرْمِي: قَالَ: " لا حَرَج ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
546 - " باب الذبح قبل الحلق "
638 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: زرت قبل أن أرمي " أي طفت طواف الإِفاضة قبل رمي جمرة العقبة فقدَّمت الطواف على الرمي، " قال: لا حرج "، أي لا مانع من تقديم بعض المناسك على بعض ولا إثم ولا فدية " قال: حلقت قبل أن أذبح " أي قدمت الحلق على الذبح وخالفت الترتيب الشرعي المطلوب الذي يقتضي تقديم الذبح على الحلق " قال: لا حرج " عليك في مخالفة هذا الترتيب ما دمت قد فعلت ذلك ناسياً أو جاهلاً، " قال: ذبحت قبل أن أرمي، قال: لا حرج " فبين النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - للسائل أنه لو خالف الترتيب الشرعي بين هذه الأعمال، وقدم بعضها على بعض ناسياً أو جاهلاً لا إثم عليه ولا فدية.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن الترتيب الشرعي بين أعمال يوم النحر على النحو الآتي: رمي جمرة العقبة، فالنحر، فالحلق، فطواف الإِفاضة أو الزيارة كما سماه في الحديث، وعلى أن النحر أو الذبح قبل الحلق كما ترجم له البخاري، وقد اتفق فقهاء الإِسلام على مشروعية هذا الترتيب، إلاّ أنهم اختلفوا في حكمه، هل هو واوجب أو مستحب. فذهب النخعي والحسن البصري وقتادة إلى أن الترتيب بينها واجب (1) فمن قدم وأخر شيئا ناسياً أو
__________
(1) وهو قول أبي حنيفة كما أفاده العيني.(3/139)
عامداً فقد ترك واجباً، ولزمه دم (1) لحديث أنس " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى جمرة العقبة يوم النحر ثم رجع إلى منزله بمنى، فدعا فذبح، ثم دعا بالحلاق فأخذ بشق رأسه الأيمن فحلقه، فجعل يقسم بين من يليه، ثم أخذ بشقه الأيسر فحلقه فدفعه إلى أبي طلحة ". أخرجه مسلم وأبو داود والبيهقي، ولقول ابن عباس رضي الله عنهما: " من قدم شيئاً من حجه، أو أخر فليهرق لذلك دماً "، أخرجه الطحاويُّ وابن أبي شيبة بسند صحيح على شرط مسلم (2) .
وقال الشافعي وأحمد وعطاء وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وإسحاق: الترتيب بين أعمال يوم النحر سنة فقط فإن قدّم وأخّر فلا شيء عليه، سواء فعل ذلك عالماً أو جاهلاً ناسياً أو عامداً، واستدلوا بحديث الباب، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن الطواف قبل الرمي، والحلق قبل الذبح، والذبح قبل الرمي، قال: " لا حرج " فإنه صريح في أنه لا حرج في ترك الترتيب، ولا دم، ولا إثم فيه (3) ، ولا شيء على من خالفه مطلقاً في عموم الأحوال قال الطبري: لم يسقط النبي - صلى الله عليه وسلم - الحرج إلاّ وقد أجزأ الفعل، إذ لو لم يجزىء لأمره بالإعادة. اهـ. وأيضاًً لو كان الترتيب واجباً لأمره بالفدية. ومما يؤكد أيضاًً عدم وجوبه ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من قدم من نسكه شيئاً أو أخره فلا شيء عليه " أخرجه البيهقي. وفي رواية عن الإِمام أحمد. أنّه فرق بين الناسي والجاهل وغيرهما فقال: إن ترك الترتيب ناسياً أو جاهلاً فلا شيء عليه، وإن تركه عامداً عالماً وجب عليه دم (4) ، وهذا القول وإن كان مخالفاً للقياس والقاعدة العامة، لأن من ترك واجباً وجب عليه دم مطلقاً ناسياً كان أو عامداً، جاهلاً أو عالماً، ولأن الجهل والنسيان
__________
(1) " تكملة المنهل العذب " ج 2.
(2) " تكملة المنهل العذب " ج 2 و" شرح العيني على البخاري " ج 1.
(3) " تكملة المنهل العذب " ج 2.
(4) " تكملة المنهل العذب " ج 2.(3/140)
لا يضعان عن المرء الحكم الذي يلزمه (1) في الحج إلاّ أنه يدعمه الحديث النبوي الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: " سمعت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر في حجة الوداع وهم يسألونه فقال رجل لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح فقال: اذبح ولا حرج، فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، فقال ارم ولا حرج " أخرجه الشيخان. فإن قوله: " ولم أشعر فحلقت قبل أن أذبح " معناه أن السائل قدم وأخر ناسياً، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا حرج عليك " فيما فعلت، لأنه فعله ناسياً ولم يشعر بما وقع منه فعلَّق النبي - صلى الله عليه وسلم - حكمه برفع الحرج عنه على كونه لم يشعر بما وقع منه، ومفهومه أنه لو شعر بذلك وتعمده لكان عليه الحرج ولو جبت عليه الفدية فهذا نص صريح على أن الفدية لا تجب على من خالف الترتيب ناسياً، ومفهومه أنّه لو خالفه -عامداً- لوجبت عليه وما دام قد ورد النص بذلك، فإنه لا يلتفت إلى القياس، لأنّه لا قياس مع النص. " أما المالكية " فإنّهم فرقوا بين هذه الأعمال فقالوا: الترتيب واجب بين رمي جمرة العقبة وبين الحلق والإِفاضة، فلو قدم أحدهما على الرمي لَوَجَبَ عليه دم (2) ، ومستحب بين الرمي والنحر، وبين النحر والحلق وبينها -أي بين النحر والحلق- وبين طواف الإفاضة، فمن نحر قبل الرمي أو حلق قبل النحر، أو طاف قبل الحلق، أو طاف قبل النحر فقد ترك مستحباً ولا دم عليه. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في إجابته للسائل عن الحلق قبل الذبح، بقوله: " لا حرج " فإنه يدل على أن تقديم الذبح على الحلق مستحب وإلّا لترتب الحرج على من حلق قبل أن يذبح، وهو ما ترجم له البخاري.
***
__________
(1) " تكملة المنهل العذب " ج 2.
(2) أيضاًً " تكملة المنهل العذب " ج 2.(3/141)
547 - " بَابُ الْحَلْقِ والتَّقْصِيرِ عِنْدَ الإِحْلَالِ "
639 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" حَلَقَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّتِهِ ".
640 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ "، قَالُوا: والْمُقَصِّرينَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ "، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " والْمُقَصِّرينَ ".
641 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ إِلَّا أنَّهُ قَالَ:
" اغْفِرْ بَدَلَ ارْحَمْ، قَالَهَا ثَلَاثاً، قال: ولِلْمُقَصِّرينَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
547 - " باب الحلق والتقصير عند الإِحلال "
639 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " حلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " شعر رأسه كله بعد أن انتهى من الرمي والنحر " في حجته " أي: في حجة الوداع، كما جاء في رواية أخرى عن أنس " أنه - صلى الله عليه وسلم - أتى جمرة العقبة فرماها، ثم أتى منزله بمنى، ونحر، وقال للحلاق: " خذ " وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس " أخرجه مسلم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قوله: " حلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
640 - معنى الحديث: أنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دعا بالرحمة للمحلقين مرتين، وللمقصرين مرة واحدة، وذلك دليل على فضل الحلق على التقصير. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود.
641 - معنى الحديث: أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دعا بالمغفرة للمحلقين ثلاثاً،(3/142)
642 - عَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قصرت عنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بمِشْقَصٍ.
548 - " بَابُ رَمْي الجِمَارِ "
643 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" أنَهُ سَألهُ رَجُلٌ: مَتَى أرْمِي الْجِمَارَ؟ قَالَ: إِذَا رَمَى إِمَامُكَ فَارمِهْ، فَأعَادَ عَلَيْهِ الْمَسْألةَ، قَالَ: كُنَّا نتحيَّنُ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وللمقصرين مرة. الحديث: أخرجه الشيخان. ومطابقة الحديثين للترجمة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - دعا للمحلقين والمقصرين معاً.
642 - معنى الحديث: يقول معاوية رضي الله عنه: " قصرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي قصرت له شعره وذلك عند تحلله من عمرة الجعرانة " بمشقص " وهو نصل عريض يرمى به الوحش. والمطابقة: في قوله: " قصرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي.
فقه أحاديث الباب: دلت هذه الأحاديث على مشروعية الحلق والتقصير، وكونهما من واجبات الحج التي تجبر بالدم، كما دلت على أنّ الحلق أفضل لكونه - صلى الله عليه وسلم - دعا للمحلقين بالرحمة مرتين، وبالمغفرة ثلاثاً ودعا للمقصرين مرة واحدة.
548 - " باب رمي الجمار "
643 - معنى الحديث: أن رجلاً سأل ابن عمر رضي الله عنهما: عن وقت رمي الجمار الثلاث عدا جمرة العقبة " قال: إذا رمى إمامك فارمه " بهاء السكت أي إذا رمى أمير الحج فارم جمارك، وذلك لأنه خشي أن يخالف، فتحدث فتنة مع أن الأمر واسع "وأعاد عليه المسألة قال: كنا نتحين فإذا(3/143)
549 - " بَابُ رَمْي الْجِمَارِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي "
644 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ رَمَى مِنْ بَطنِ الْوَادِي فَقِيلَ لَهُ: أنَّ نَاساً يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا، فَقَالَ: " وَالَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ هَذَا مَقَامُ الَّذِي أنزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زالت الشمس رمينا" أي نترقب زوال الشمس فنرمي عند الزوال. الحديث: أخرجه أيضاًً أبو داود. والمطابقة: في قوله: " فإذا زالت الشمس رمينا ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية رمي الجمار الثلاث، وهي واجبة عند الجمهور، وأن وقتها من الزوال إلى الغروب، لقوله: " فإذا زالت الشمس رَمَيْنا " وعن ابن عباس رضي الله عنهما " أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رمى الجمار عند زوال الشمس أو بعد زوال الشمس " أخرجه أحمد وابن ماجة والترمذي، وتأخيره إلى الليل جائز مع الكراهة اتفاقاً، أما تقديمه قبل الزوال فلا يجوز عند الجمهور، فإن رماها قبله أعادها، فإذا مضت أيام التشريق وغابت الشمس من آخرها فات الرمي اتفاقاً، ويجبر بالدم، كما أفاده العيني، فإنْ تركها كلها أو بعضها أو واحدة منها عليه دم، وقال أبو حنيفة: إن تركها كلها عليه دم، وإن ترك واحدة فصاعداً فعلى كل جمرة إطعام مسكين نصف صاع حنطة إلى أن تبلغ دمَّا يترك الجميع، إلاّ جمرة العقبة، فمن تركها فعليه دم، وقال الشافعي: في الحصاة مد، وفي الحصاتين مدان.
549 - " باب رمي الجمار (1) من بطن الوادي "
644 - معنى الحديث: أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يرمي جمرة العقبة من أسفل الوادي فيجعل مكة عن يساره ويستقبل الجمرة، فقيل
__________
(1) قال القسطلاني: أي جمار العقبة يوم النحر.(3/144)
550 - " بَابُ رَمْي الْجِمَارِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ "
645 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أنَّهُ انتهَى إلى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى جَعَل الْبَيْتَ عَنْ يِسَارِهِ، ومِنىً عَنْ يَمِينهِ، وَرَمَى بِسَبْعٍ، وَقَالَ: هَكَذَا رَمَى الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ - صلى الله عليه وسلم - ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
له: إن بعض الناس يصعد الجبل ويرميها، فأقسم على أنّ هذا المكان هو الذي رمى منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو معنى قوله: " هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة " وخصها بالذكر لتضمنها معظم أحكام الحج. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية رمي جمرة العقبة وهو واجب اتفاقاً، من تركه فعليه دم، ووقتها المستحبُّ من طلوع الشمس إلى الزوال، وإن أخّرها إلى الليل، فقال مالك: عليه دم، وإن أخّرها إلى الغد فعليه دم عند مالك وأبي حنيفة خلافاً للشافعي، وأما تقديمها فقد أجاز أحمد والشافعي رميها بعد نصف ليلة النحر خلافا لمالك وأبي حنيفة، كما أفاده ابن رشد. ثانياًً: أن السنة رمي جمرة العقبة من بطن الوادي، سواء كان ذلك من أعلاها أو أسفلها أو وسطها فالأمر واسع. والمطابقة: في قوله: " رمى من بطن الوادي ".
550 - " باب رمي الجمار بسبع حصيات "
645 - معنى الحديث: أنّ ابن مسعود رضي الله عنه " انتهى إلى الجمرة الكبرى " أي بلغ جمرة العقبة ووصل إليها فوقف عن يمين الكعبة المشرفة " جعل البيت عن يساره " أي جعل الكعبة عن يساره " ورمى بسبع " أي(3/145)
551 - " بَابُ إذَا رَمَى الْجَمْرَتيْنِ يَقُومُ مُسْتقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَيُسْهِلُ "
646 - عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
"أنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيا بِسَبع حَصَيَاتٍ، يُكَبر على إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمَ حَتَّى يُسهِلَ، فَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلاً، ويدْعُو، وَيَرْفَعُ يَدَيه، ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطىَ، ثم يَأخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بسبع حصيات، " وقال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة " أي هكذا رمى نبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي أنزلت عليه سورة البقرة، وإنما ذكر هذه السورة بالذات لاشتمالها على معظم أحكام الحج.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن عدد حصيات الرمي سبع حصيات. ولا تجزىء ست، وهو مذهب الجمهور، خلافاً لأحمد وعطاء، كما يستفاد منه استحباب جعل الكعبة عن يسار الحاج عند رمى جمرة العقبة، أما عند رمي بقية الجمرات، فإنه يستحب استقبال القبلة. واختلفوا فيمَنْ ترك حصاة فأكثر، فقال مالك: عليه دم، وقال الشافعي: في الواحدة مدٌ، وفي الاثنتين مدين، وفي الثلاثة دم. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " رمي بسبع ".
551 - " باب إذا رمى الجمرتين يقوم مستقبل القبلة ويسهل "
646 - معنى الحديث: يحدثنا سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه " أنه كان يرمي الجمرة الدنيا " أي الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، " ثم يكّبر على إثر كل حصاة " أي بعد كل حصاة " ثم يتقدم حتى يسهل " بضم الياء وسكون السين، أي يتقدم حتى ينزل إلى السهل من بطن الوادي " فيقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلاً ويدعو ويرفع يديه " أي فيقف وقوفاً(3/146)
فَيُسْهِلُ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلاً، وَيَدْعُو، ويَرْفَعُ يَدَيْه، وَيَقُومُ طَوِيلاً، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطنِ الْوَادِي، ولا يقفُ عِنْدَهَا، ثمَّ ينْصَرِفُ فَيَقُولُ: هَكَذَا رَأيْتُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ".
552 - " بَابُ طَوافِ الْوَدَاعَ "
647 - عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" أمِرَ النَّاسُ أنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بالْبَيْت، إلَّا أنَّهُ خُفِّفَ عنِ الحَائِضِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
طويلاً في بطن الوادي متوجهاً إلى القبلة ضارعاً إلى الله بخالص الدعاء، " ثم يرمي الوسطى " أي الجمرة الوسطى، " ثم يأخذ ذات الشمال " أي يتقدم قليلاً إلى الجانب الأيسر، " ويقوم مستقبل القبلة قياماً طويلاً فيدعو ويرفع يديه "، أي: فيصنع عند الجمرة الوسطى كما صنع عند الأولى من الوقوف واستقبال القبلة؛ والدعاء؛ ورفع اليدين عند الدعاء " ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها " كما صنع عند الجمرتين السابقتين، " ويقول: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل " أي مثل هذا الفعل رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل في رمي الجمرات الثلاث. الحديث: أخرجه البخاري.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب الوقوف عند الجمرة الأولى والوسطى مستقبلاً القبلة، ضارعاً بالدعاء رافعاً يديه.
ثانياًًً: أن الرمي يكون بسبع حصيات. ثالثاً: استحباب التكبير إثر كل حصاة. والمطابقة: في قوله: " فيقوم مستقبل القبلة ".
552 - " باب طواف الوداع "
647 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "أمر(3/147)
553 - " بَاب مَنْ صَلَّى العَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ بالأبْطَحِ "
648 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ الله عَنْهُ:
" أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ والْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَرَقَدَ رَقْدَةً بالْمحَصَّبِ، ثمَّ رَكِبَ إلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت" أي أمر النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - الحجاج أن يكون آخر نسكهم بمكة الطواف بالكعبة طواف الوداع، وفي رواية: " لا ينصرف أحد حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت "، " إلاّ أنه خفف عن الحائض "، أي: إلاّ أن الله أراد التخفيف والتيسير على الحائض فرفع عنها طواف الوداع، ورخَّصَ لها في تركه وفي مغادرة مكة بدونه. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
فقه الحديث: استدل به الجمهور على وجوب طواف الوداع على الحاج، قالوا: ويؤكد ذلك قول عمر رضي الله عنه: " فإن آخر النسك الطواف بالبيت، فهو واجب يلزم من تركه الدم إلاّ أنه يسقط عن الحائض والنفساء، وقال مالك وداود: هو سنة لا شيء على تاركه. والمطابقة: في قوله: " أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ".
553 - " باب من صلى العصر يوم النفر بالأبطح ".
648 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلّى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة بالمُحَصَّبِ " وهو الأبطح أو البطحاء التي بين مكة ومنى " والمعنى " أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عجَّل برمي الجمار في اليوم الثالث فرمى عند الزوال مباشرة، ونفر إلى مكة، فنزل بالمحصب أو الأبطح وصلّى به الظهر والعصر المغرب والعشاء "ثم ركب إلى البيت(3/148)
554 - " بَابٌ إِذَا حَاضَتِ الْمَرأةُ بَعْدمَا أفَاضَتْ "
649 - " عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَال:
"رخِّصَ للْحَائِضِ أن تَنْفِرَ إذَا أفَاضَتْ، قالَ: وسَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: إِنَّهَا لا تَنْفِرُ، ثُمَّ سَمعتُهُ يَقُولُ بَعْدُ: إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ لَهُنَّ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فطاف به " طواف الوداع. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " إنه صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة بالمحصب ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب النزول بالمحصب يوم النفر وهو مذهب الجمهور، والحكمة فيه شكر الله تعالى على نصر نبيّه - صلى الله عليه وسلم - على أعدائه الذين حاصروه فيه مع بني هاشم قصداً لإظهار شعائر الإِسلام في المكان الذي أظهروا فيه شعائر الكفر، كما أفاده ابن القيم.
554 - " باب إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت "
649 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للحائض، إذا حاضت بعد طواف الإفاضة، ولم تطف طواف الوداع أن تسافر دون طواف الوداع، وقد كان ابن عمر يفتي بأنه لا يجوز لها أن تسافر حتى تظهر وتطوف، ثم رجع عن ذلك حين بلغه هذا الحديث.
الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " إن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رخص للحائض أن تنفر ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض، وهو مذهب الجمهور، خلافاً لمالك حيث، قال: إنه سنة لا دم فيه.(3/149)
555 - " بَابُ الْمُحَصَّبِ "
650 - عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" لَيْسَ التَّحْصِيبُ بِشَيءٍ، إِنَّمَا هُوَ مَنْزِل نَزَلَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ".
556 - " بَابُ مَنْ نزَلَ بِذِي طُوَى إذَا رجَعَ مِنْ مَكَّةَ "
651 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُمَا:
" أنَّهُ كَانَ إذَا أقْبَلَ باتَ بِذِي طَوَى، حَتَّى إذَا أصْبَحَ دَخَلَ، وإذَا نَفَرَ مَرَّ بِذِي طَوَى، وباتَ بِهَا حَتَّى يُصْبِحَ، وكانَ. يَذْكُرُ أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
555 - " باب المحصب "
650 - معنى الحديث: أن النزول بالمحصب أو ما يسمى الأبطح -كما يرى ابن عباس رضي الله عنهما- ليس من مناسك الحج ولا من السنن.
الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " ليس التحصيب بشيء ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن النزول بالمحصب عند النزول من منى ليس من المناسك، ولا من السنن، وهو مذهب ابن عباس وعائشة وعروة رضي الله عنهم، حيث قالوا: " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل به اتفاقاً، وقال الأئمة الأربعة النزول به سنة اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان أبو بكر وعمر وابن عمر ينزلون به ". اهـ. كما في " تكملة المنهل العذب " ج 1.
556 - " باب من نزل بذي طوى (1) إذا رجع من مكة "
651 - معنى الحديث: أن ابن عمر رضي الله عنهما كان ينزل بذي
__________
(1) ويجوز في الطاء الحركات الثلاث، والأفصح فتحها، ويجوز صرف طوى ومنعه، والله أعلم.(3/150)
طوى ويبيت فيها عند قدومه إلى مكة وخروجه منها، وهو موضع في الزاهر غربي مكة، وقد كان ابن عمر يحدث أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك.
الحديث: أخرجه الخمسة إلا الترمذي. والمطابقة: في قوله: " وإذا نفر مر بذي طوى ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب النزول بذى طوى والمبيت به عند القدوم إلى مكة وعند الخروج منها، وهو ما ترجم له البخاري. كما يستحب أداء صلاة الصبح فيه وليس ذلك من مناسك الحج اتفاقاً. أما الغسل عند دخول مكة فقد استحبه الجمهور مطلقاً حتى للحائض والنفساء، وقال مالك: إنما يستحب لغيرهما.
***(3/151)
بسمْ الله الرحمن الرحيم
" أبوَابُ الْعُمْرَةِ "
557 - " وُجُوبُ الْعُمْرَةِ وَفضلُهَا "
652 - وقال ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" لَيْسَ أحَدٌ إلَّا وعَلَيْهِ حَجَّة وعُمْرَة ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" أبواب العمرة "
أي هذه أبواب أحكام العمرة وأركانها ومواقيتها، وكل ما يتعلق بها ثم قال:
557 - " وجوب العمرة وفضلها "
وذكر بعض الآثار والأحاديث الدالّة على وجوبها وفضلها منها.
652 - " قول ابن عمر رضي الله عنهما: ليس أحدٌ إلاّ وعليه حجة وعمرة ".
ومعنى هذا الأثر: ما من مسلم بالغ قادر مستطيع إلاّ وتجب عليه العمرة كما يجب عليه الحج، وقد جاء التصريح بالوجوب في رواية أخرى عن ابن عمر أنه كان يقول: " ليس من خلق الله تعالى أحدٌ إلاّ وعليه حجة (1) وعمرة واجبتان " أخرجه ابن أبي شيبة، وقيد الوجوب بالاستطاعة في رواية ابن جريج عن نافع فقال: من استطاع إليه سبيلاً، فمن زاد على هذا فهو
__________
(1) " شرح العيني على البخاري " ج 10.(3/152)
653- عن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " الْعُمْرَةُ إلى الْعُمْرَةِ كَفَّارَة لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ المبرورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الجَنَّةُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تطوع وخير" أخرجه ابن خزيمة والحاكم، وفي رواية: " الحج والعمرة فريضتان ". أخرج هذا الأثر: أيضاًً ابن أبي شيبة والحاكم وابن خزيمة بألفاظ مختلفة متقاربة.
فقه هذا الأثر: دل هذا الأثر على وجوب العمرة مرة واحدة في العمر، وأنها فرض كالحج، وهو مذهب الشافعي وأحمد لما في هذا الأثر من الدلالة على وجوبها، ولأن الله عطفها على الحج (1) في قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) والمعطوف على الفرض فرض، وهو المعتمد. وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها سنة لحديث جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن العمرة أواجبة هي؟ قال: " لا، وأن تعتمروا هو أفضل "، أخرجه أحمد والترمذي وفي سنده الحجاج بن أرطأة، وهو ضعيف كما قال الحافظ في " الفتح ". والمطابقة: في قوله: " إلاّ وعليه حجة وعمرة ".
653 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما " أي إذا تكررت العمرة فجاءت عمرة أخرى بعد العمرة الأولى كانت العمرتان سبباً في تكفير السيئات والذنوب التي تقع بينهما، ومحوها من كتاب الحفظة، وإسقاط العقوبة عليها، وعدم المؤاخذة بها يوم القيامة. ثم بين - صلى الله عليه وسلم - فضل الحج فقال: " والحج المبرور ليس في جزاء إلاّ الجنة "، يعني أن الحج الكامل المستوفي لشروطه وأركانه وسننه ومستحباته، الخالص لوجه الله تعالى، المنفق عليه من مال حلال، ليس له ثواب عند الله يوم القيامة إلاّ الفوز بالجنة
__________
(1) " فقه السنة " ج 1 دار الفكر.(3/153)
558 - " بَابُ مَنِ اعْتَمَرَ قبْلَ أنْ يَحُجَّ "
654 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْعُمْرَةِ قبْلَ الحَجِّ، فَقَالَ: لا بَأسَ، وقَالَ: " اعْتَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ أن يَحُجَّ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والنجاة من النار. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما "، حيث دل على فضل العمرة، وهو الجزء الثاني من الترجمة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث: أولاً: على فضل العمرة وأثرها العظيم في تكفير السيئات، ومحوها من كتاب الحفظة، وقد رجح الباجي أنها تكفر الصغائر والكبائر لعموم قوله: " كفارة لما بينهما ". ثانياًً: استحباب مواصلة الاعتمار مرة بعد أخرى لما في قوله: " كفارة لما بينهما " من الترغيب في الإكثار منها ليتكرر الغفران بتكررها، واختلفوا هل يجوز تكرارها في العام الواحد، فذهب أكثر أهل العلم إلى جوازه، وقد اعتمر عبد الله (1) بن عمر عمرتين في كل عام، واعتمرت عائشة في سنة ثلاث مرات ولم يعب عليها أحد، وكره مالك تكرارها في العام أكثر من مرة.
558 - " باب من اعتمر قبل أن يحج "
654 - معنى الحديث: أن ابن عمر سئل عن حكم من أَتى بعمرة قبل أن يؤدي فريضة الحج التي عليه، وقبل أن يحج حجة الإِسلام هل يجوز له ذلك؟ وهل تصح عمرته " فقال: لا بأس " أي لا مانع من ذلك، وعمرته صحيحة مقبولة واستدل على ذلك بأن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اعتمر عدة مرات
__________
(1) " فقه السنة " ج 1 دار الفكر.(3/154)
559- " بَاب كَمَ اعْتَمَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - "
655 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُا سئِلَ كَمِ اعْتَمَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: "أرْبَعَاً، عُمْرةُ الْحُدَيْبِيَّةِ في ذِي القَعدَةِ حيث صدَّهُ المُشْرِكُونَ، وَعُمْرَة منْ الْعَامِ المُقْبِلِ في ذي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قبل أن يحج الفريضة وهو معنى قوله: " اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يحج "، وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر عمرة الحديبية وعمرة القضاء وعمرة الجعرانة كل ذلك قبل أن يحج حجة الوداع. الحديث: أخرجه أيضاًً أبو داود. والمطابقة:
في قوله: "اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يحج ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من اعتمر قبل أن يحج حجة الإِسلام صحت عمرته. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمر قبل أن يحج حجة الوداع. وعن عكرمة بن خالد: قدمت المدينة في نفر من أهل مكة، فلقيت ابن عمر، فقلت: إنا لم نحج قط أفنعتمر من المدينة؟ قال: نعم، وما يمنعكم فقد اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمره كلها من المدينة قبل حجه؟.
559 - " باب كم اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - "
655 - معنى الحديث: " أن أنساً سئل عن عدد عمرات النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أربعاً " أي اعتمر أربع عمرات، وهي عمرة الحديبية، وعمرة القضاء في السابعة من الهجرة، وعمرة الجعرانة -بكسر الجيم وسكون العين وفتح الراء المخففة، وقد تشدَّد- هي موضع بين مكة والطائف، وسمَّيت عمرة الجعرانة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة ليلاً وأدّى مناسك العمرة، ثم خرج منها ليلاً، فبات بالجعرانة حتى أصبح وزالت الشمس من اليوم التالي فتوجه إلى المدينة، وكان ذلك في السنة الثامنة من الهجرة، وأما العمرة الرابعة فهي التي(3/155)
القَعْدَةِ حَيثُ صَالَحَهُمْ، وعُمْرَةُ الجِعْرَّانَة إذ قَسمَ غنيمةَ أرَاهُ حُنَيْنٍ، قُلْتُ: كم حَجَ؟ قَالَ: وَاحِدةً".
560 - " بَابُ عُمْرَةِ التَّنْعِيمَ "
656 - عَنْ عَبدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي بَكْرٍ (1) رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمَرَهُ أن يُرْدِفَ عَائِشَةَ ويُعمِرَهَا من التنعِيم " وأنَّ سُرَاقَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كانت مع حجته - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكرها الراوي في هذا الحديث إلاّ أنها ذكرت في روايات أخرى، ثم قال الراوي: " قلت: كم حج؟ قال: واحدة "، أي حج حجة واحدة بعدما فرض الحج، لم يحج غيرها، وهي حجة الوداع. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في كون الحديث جواباً للترجمة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على عدد عمرات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسمائها، قال في " فيض الباري ": واختلف الرواة في عددها، فبعضهم لم يعدوا عمرة الحديبية لعدم تمامها، وبعضهم لم يعدوا عمرة الجعرانة لكونها في سواد الليل، وبعضهم لم يعد العمرة التي مع حجته لعدم تميزها.
560 - " باب عمرة التنعيم "
656 - معنى الحديث: أن عائشة لما حجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع فاتتها العمرة قبل الحج بسبب الحيض الذي أصابها في " سرف " بالقرب من مكة، فأفسد عليها عمرتها، فلما طهرت وطافت طواف الإِفاضة قالت: يا رسول الله أتنطلقون بعمرة وحجة وأنطلق بالحج؟. أي أتعودون إلى المدينة
__________
(1) هو أبو محمد، عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وأمه أم رومان أم عائشة، أسلم عام الحديبية، وكان اسمه عبد الكعبة، فغيره النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماه عبد الرحمن، وكان أسن ولد أبي بكر مات سنة ثلاث وخمسين، على بريد من مكة وحمل إلى مكة ودفن بها.(3/156)
ابْنَ جُعْشم لَقِىَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالْعَقَبَةِ وهو يَرْمِيهَا فَقَالَ: ألكُمْ خاصةً يا رَسُول اللهِ؟ قَال: " لا، بَلْ لِلأبَدِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بعمرة وحجة معاً، وأعود بالحج وحده دون عمرة، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أخاها عبد الرحمن رضي الله عنه أن يذهب بها إلى " التنعيم " موضع على طريق المدينة على بعد ستة كيلو من مكة، وأمرها أن تحرم بالعمرة من هناك. لأنه بالحل خارج الحرم، ثم ذكر في الحديث أن سراقة بن مالك قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - عند جمرة العقبة " ألكم خاصة يا رسول الله؟ " إلخ وهذه مسألة أخرى سببها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر أصحابه عند قدومهم مكة بفسخ الحج إلى العمرة شك سراقة في جواز ذلك، هل هو حكم استثنائي خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، أو هو عام للمسلمين جميعاً، وباق إلى قيام الساعة، فسأله عن ذلك بقوله:
" ألكم خاصة؟ " يعني جواز فسخ الحج إلى العمرة خاص بكم في تلك الحجة فقط " قال: بل للأبد " أي بل يجوز هذا الفسخ لعموم المسلمين إلى قيام الساعة. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ويعمرها من التنعيم ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث: أولاً: على أنّه يستحب لمن حج مفرداً أن يعتمر بعد حجه فيخرج إلى الحل خارج الحرم، ويحرم منه، ولا يختص ذلك بالتنعيم وإنما أمر - صلى الله عليه وسلم - عائشة بالإِحرام منه مصادفة، أو لأنه أقرب الحل. ثانياًً: أن المعتمر أن كان مكياً أو خارج مكة وداخل الميقات فميقاته الحل، وإن كان خارج الميقات فميقاته ميقات حجه. ثالثاً: جواز فسخ الحج إلى العمرة، وهو مذهب أحمد وأهل الظاهر خلافاً للجمهور.
***(3/157)
561 - " بَابُ أجْرِ الْعُمْرَةِ عَلَى قَدرِ النَّصَبِ "
657 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا في الْعُمْرَةِ: " ولكنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكَ أو نَصَبِكَ ".
562 - " بَابٌ عُمْرةٌ في رَمَضانَ "
658 - عَنْ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لامْرَأة مِنَ الأنْصَارِ: "مَا مَنَعَكِ أن تَحُجِّي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
561 - " باب أجر العمرة على قدر النصب "
657 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة حين أمرها أن تحرم بالعمرة من الحل " ولكنها على قدر نفقتك أو نصَبك " أي أحرمي بالعمرة من التنعيم ولا تأسفي على ما وقع لك من فوات العمرة قبل الحج، فإن تعبك ومجهودك الذي تبذلينه الآن في عمرتك هذه لن يضيع سدى، ولكن أجر العمرة وثوابها يزيد ويتضاعف بقدر زيادة النفقة وكثرة المشقة والتعب.
الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن فضل العمرة بحسب ما أنفق فيها من مال حلال وما بذل فيها من جهد خالص لوجه الله تعالى. والمطابقة: فِى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولكنها على قدر نفقتك ونصبك ".
562 - " باب عمرة في رمضان "
658 - معنى الحديث: يحدثَنا ابن عباس رضي الله عنهما في هذا الحديث: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لامرأة من الأنصار " وهي أم سنان(3/158)
مَعَنَا؟ قالَتْ: كان لَنَا نَاضِح فرَكِبَهُ أبو فلان وابنُهُ لِزَوْجِهَا وابْنِهَا، وتركَ ناضحاًْ ننْضَحُ عَلَيْهِ، قال: " فإِذَا كَانَ رَمَضَانُ اعتمرِي فِيهِ، فإِنَّ عُمْرَة في رَمَضَانَ حَجَّةٌ " أوْ نَحْواً مِمَّا قَالَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رضي الله، عنها كما جاء في رواية أخرى للبخاري ومسلم في باب حج النساء: " ما منعك أن تحجين معنا؟ " على رواية كريمة والأصيلي بإثبات نون الرفع مع سبق أن الناصبة على خلاف القواعد النحوية، قال القسطلاني: وهو قليل، ويُنْقَلُ أنها لغة لبعض العرب، وفي رواية لأبي ذر وابن عساكر: " ما منعك أن تحجي، " بحذف نون الرفع، وهي أفصح من جهة النحو. " والمعنى ": ما هو المانع لك من الحج معنا في حجة الوداع، وما عذرك في ذلك " قالت: كان لنا ناضح " أي بعيرٌ نستقي عليه " فركبه أبو فلان وابنه " أي فركبه زوجي أبو سنان وابني سنان، ولم يبق لي ما أركب عليه " قال: فإذا كان رمضان فاعتمري فيه " أي فإذا جاء رمضان القادم فأت بعمرة في رمضان تعوضين بها عن هذه الحجة التي فاتتك معنا، " فإنّ عمرة في رمضان حجة " أي كحجة أو تعدل حجة في الأجر والمثوبة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على فضل العمرة في رمضان، وأن ثوابها كثواب حجة، ولكنها لا تسقط الحجة المفروضة، بل لا بد من الإِتيان بها، وأنّ ما فات من الحج تطوعاً فالعمرة في رمضان تقوم مقام حج التطوع (1) وهذا فضل من الله ونعمه. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فإن عمرة في رمضان حجة ".
***
__________
(1) " تكملة المنهل العذب " ج 2.(3/159)
563 - " بَابُ متى يَحِلُّ الْمُعْتَمِرُ "
659 - عَنْ أسْمَاءَ بِنْتِ أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" أنَّها كَانَتْ كُلَّمَا مَرَّتْ بالْحَجُونِ تَقُولُ صَلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، لقد نَزَلْنَا مَعَهُ ها هُنَا وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ خِفَافٌ، قَليلٌ ظَهْرُنَا، قَلِيلَة أزوادُنَا، فاعْتَمَرْتُ أنا وأختي عَائِشَةُ والزُّبَيْرُ وفلانٌ، فلما مَسَحْنَا البَيْتَ، أحْلَلْنَا ثم أهْلَلْنَا مِنَ الْعشِىِّ بِالْحَجِّ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
563 - " باب متى يحل المعتمر؟ "
659 - معنى الحديث: أن أسماء رضي الله عنها كانت كلما مرت بالحجون وهو جبل بالمعلى مقبرة مكة على يسار الذاهب إليها تصلّي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وتذكره لأن الشيء بالشيء يذكر، وتقول: " قد نزلنا ها هنا ونحن يومئذ خفاف " أي خفاف الأجسام " قليل ظهرنا " أي وليس معنا. من الدواب التي نمتطيها إلاّ عدد قليل، ثم قالت: " فاعتمرت أنا وعائشة والزبير " أي ففسخنا الحج إلى العمرة بأمر رسول الله، وذلك عند قدومنا مكة، وإنما ذكرت عائشة مع أن عمرتها قد فسدت بالحيض، لأنّها كانت معهم، ثم طرأ عليها الحيض " فلما مسحنا البيت أحللنا " يعني فلما طفنا بالبيت وسعينا بين الصفا والمروة. تحللنا من إحرامنا " ثم أهللنا من العشي بالحج " أي: ثم أحرمنا يوم التروية بالحج.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: على أن المعتمر يتحلل من إحرامه بالطواف والسعي، وعلى أن أركان العمرة ثلاثة: الإحرام والطواف والسعي، وهو مذهب المالكيّة والحنابلة. وقالت الشافعية (1) : أركانها خمسة:
__________
(1) " تكملة المنهل العذب " ج 2 وكتاب " الفقه على المذاهب الأربعة " ج 1.(3/160)
564 - " بَابُ استِقْبَالِ الْحَاجِّ الْقَادِمِينَ "
660 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" لَما قَدِمَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ اسْتَقْبَلَهُ أُغيلمَةُ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَحَمَلَ واحِداً بَين يَدَيْه وآخَرَ خَلْفَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الإحرام من الميقات والطواف والسعي والحلق أو التقصير والترتيب بين الأركان. وقالت الحنفية: لها ركن واحد فقط: الوقوف بعرفة، وأكثر طواف العمرة، وأما الحلق والتقصير والترتيب فهو واجب عند الجمهور خلافاً للشافعية. ثانياًً: فسخ الحج إلى العمرة وقد تقدم. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " فلما مسحنا البيت أحللنا ".
564 - " باب استقبال الحاج القادمين "
660 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل مكة يوم الفتح استقبله غلمان أسرته الهاشمية من بني عبد المطلب مهلّلين فرحين مستبشرين بمقدمه الميمون، فحمل - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن جعفر أمامه وقثم بن العباس خلفه. الحديث: أخرجه أيضاًً النسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من السنة استقبال الحاج، بل استقبال القادم من السفر، والحفاوة به، سيَّما إذا كان قريباً أو صديقاً تقديراً له، وإكراماً لشخصه. والمطابقة: قي قوله: " استقبله أغيلمة بني عبد المطلب ".(3/161)
565 - " بَابٌ: لا يَطْرُقُ أهْلَهُ إِذَا بَلَغ الْمَدِينَةَ "
661 - عن جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
"نَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يَطرقَ أهلَهُ لَيْلاً".
566 - " بَابُ مَنْ أسْرَعَ ناقتهُ إِذَا بَلَغ الْمَدِينَةَ "
662 - عنْ أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَأبصَرَ دَرَجَاتِ الْمَدِينَةِ أوْضَعَ نَاقَتَهُ وإن كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
565 - " باب لا يطرق أهله إذا بلغ المدينة "
661 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى القادم من السفر أن يفاجىء أهله بالدخول عليهم ليلاً لئلا يراهم على حال يكرهها، لأنّهم ربما قصروا في تقديم الخدمات اللازمة له عن غير قصد لعدم استعدادهم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من السنة أن يتحين المسافر عند قدومه الوقت المناسب لدخول بلده، والقدوم على أهله فلا يأتيهم ليلاً لئلا يكونوا على غير استعداد لاستقباله والقيام بخدمته وحسن ضيافته، والنهي في الحديث محمول على كراهة التنزيه بمعنى أن الأفضل والأولى له أن لا يفاجئهم ليلاً، وأن يأتيهم نهاراً ليستعدوا لمقابلته. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة.
566 - " باب من أسرع ناقته إذا بلغ المدينة "
662 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم من سفر " أي كان إذا وصل من سفره وأشرف على المدينة(3/162)
واقترب منها " فأبصر درجات المدينة " أي رأى أشجارها الطويلة ومبانيها العالية " أوضع ناقته " أي دفع ناقته إلى الإِسراع في سيرها " وإن كانت دابّة حركها " بيده الشريفة أو بعصاه ليحثها على السير السريع، أي وإنما كان يفعل ذلك بسبب شدة حبه للمدينة وشوقه إليها. الحديث: أخرجه البخاري والترمذي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على شدة حبه - صلى الله عليه وسلم - للمدينة ذلك الحب الذي يتجلى في كل عمل من أعماله، أو قول من أقواله، أو حركة من حركاته - صلى الله عليه وسلم -، فهو - صلى الله عليه وسلم - يسرع بدابته عند قدومه إلى طيبة، واقترابه منها، شوقاً إليها، حتى إنه - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره طرح رداءه، وقال: هذه أرواح طيبة، كما جاء في بعض الروايات الصحيحة، وفي بعضها " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قدم المدينة يسير أتمَّ السير، ويقول: " اللهم اجعل لنا بها قراراً ورزقاً حسناً وإذا دخل مكة قال: اللهم لا تجعل منايانا بمكة " أخرجه أحمد في " مسنده "، وما ذلك إلاّ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحب الموت بالمدينة، فمن السنة أن يستشعر المسلم عند اقترابه من المدينة مشاعر الفرحة والبهجة وأن يسرع بسيارته، فإنها المدينة التي تحن إليها قلوب المؤمنين، ورحم الله الشاعر إذ يقول في الحنين إلى طيبة:
دَارُ الحَبِيْبِ أحقُّ أن تَهْوِاهَا ... وَتَحِنُّ مِنْ طَرب إلَى ذِكْرَاهَا
والمطابقة: في قوله: " أوضع ناقته ".
***(3/163)
" أبواب المحصر "
وهو اسمٍ مفعول لمن وقع عليه إحصار شرعي منعه عن حجه أو عمرته.
والإحصار لغة المنع، وشرعاً ينقسم إلى إحصار عن العمرة وسيأتي، وإحصار عن الحج. وهو ما سنوضحه هنا: فالإحصار عن الحج: اختلف الفقهاء في معناه وفي سببه.
أما معناه: فإن الفقهاء فيه على مذهبين: الأول: مذهب مالك وأبي حنيفة ومن وافقهم: وهم يرون أن الإِحصار هو أن يمنع الحاج عن الوقوف بعرفة وطواف الإفاضة، فمن لم يتمكن من الركنين فهو محصر يتحلل من إحرامه ويحلق رأسه في المكان الذي أحصر فيه، وإن قدر على أحد الركنين فليس بمحصر (1) ولا سبيل إلى تحلله، ويبقى محرماً أبداً حتى يطوف للزيارة، قال في " الإِفصاح ": وعليه دم (2) لترك الوقوف بالمزدلفة إن لم يكن وقف بها، وعليه دم لرمي الجمار إن لم يكن رماها، وكذلك لتأخير الحلق، وعليه دم لتأخير طواف الزيارة عن أيّام النحر عند أبي حنيفة، وعند مالك يجب عليه دم لتأخير طواف الزيارة إلى محرم (3) . الثاني: مذهب الشافعي وأحمد ومن وافقهم من أهل العلم يرون أن الإِحصار هو أن يمنع الحاج عن إتمام مناسك الحج مطلقاً سواء وقع له هذا المنع قبل الوقوف بعرفة أو بعد الوقوف بعرفة، وسواء طاف بالبيت أو لم يطف، فإن هذا كله سواء، لقوله تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) حيث أطلق الحكم ولم يقيده قال في " الافصاح " (4) والصحيح عندي في هذه المسألة ما ذهب إليه الشافعي
__________
(1) " الفقه الإسلامي وأدلته " للدكتور وهبة الزحيلي ج 3.
(2) " الإفصاح عن معاني الصحاح " ج 1 لأبي المظفر الحنبلي.
(3) أيضاًً " الإفصاح " ج 1.
(4) " الصحاح " لأبي المظفر الحنبلي ج 10.(3/164)
في قوله الجديد وأحمد، فإن قوله تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) محمول على العموم في حق كل من أحصر، سواء كان قبل الوقوف أو بعده، بمكة أو بغيرها، وسواء كان طاف بالبيت أو لم يطف، فإن له أن يتحلل كما قال تعالى، لأنه سبحانه أطلق ذلك ولم يخصصه. اهـ. حيث قال: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) وفيه إضمار.، ومعناه (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) عن إتمام الحج والعمرة وأردتم أن تحلوا فاذبحوا ما تيسر من الهدي.
وأما سبب الإحصار: فإن الجمهور يرون أن الِإحصار لا يكون إلاّ بسبب العدو خاصة، وهو بذهب مالك والشافعي وأحمد في رواية، لأن الآية نزلت في حصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الحديبية من العدو، قال الشافعي (1) : فمن حال بينه وبين البيت مرض حابس فليس بداخل في معنى الآية، لأنها نزلت في الحائل من العدو، ذكره البيهقي، بدليل قوله تعالى: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ) والأمن لا يكون إلاّ من العدو، وقال عبد الله بن عمر: " المحصر بمرض لا يحل حتى يطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة " أخرجه مالك في " الموطأ ". وذهب ابن مسعود وزيد بن ثابت وسفيان الثورى وأبو حنيفة وأحمد في رواية، إلى أن الإحصار يتحقق بكل سبب يمنع من الاستمرار في موجب الإِحرام من مرض ولدغ وجراحة وذهاب نفقة، وعطل سيارة، أو موت محرم، أو زوج، لأنّ الإِحصار في أصل اللغة هو المنع (2) من الشيء بسبب المرض، أما المنع بسبب العَدوِّ فهو حصرٌ، تقول العرب: أحصره المرض إحصاراً فهو محصرٌ، وحصره العدُوُّ حصراً فهو محصور، ولكن لما كان سبب نزول الآية العدو عدل عن لفظ الحصر المختص بالعدو إلى الإحصار المختص بالمرض فدل ذلك على أنه أريد باللفظ ظاهره، وهو المرض، ويدخل
__________
(1) " تكملة المنهل العذب " ج 1.
(2) أيضاًً " تكملة الجهل العذب المورود وشرح سنن أبي داود " ج 1.(3/165)
فيه العدو بالمعنى، لأن (1) العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وأما تَمَسُّكَ الفريق الأول بقوله تعالى: في الآية: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ) واستدلالهم بذلك على أن المراد بالإِحصار إحصار العدو خاصة، لأن الأمن لا يكون إلاّ من العدو، فإنه غير مسلم به لأن الأمن كما يكون من العدو يكون من المرض وغيره من الموانع. ومما يدل دلالة صريحة على أن الإِحصار يكون بأيّ مانع من مرض أو كسر أو جرح أو نحوه، حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من كُسِر أو عَرَجَ أو مرض فقد حَل وعليه الحج من قابل " أخرجه الأربعة (2) ، وقال عكرمة: سألت ابن عباس وأبا هريرة عن ذلك فقالا: صدق، قال الحاكم: حديث صحيح على شرط البخاري.
أما الأحكام المترتبة على الإِحصار فهي: أولاً: فسخ الإِحرام والخروج منه، وهو المسمى شرعاً " بالتحلل " وأما ما يتحلل به، فإن أمكنه الوصول إلى البيت تحلل بعمل عمرة، وإن تعذر عليه ذلك ذبح الهدي -عند الجمهور- حيث أُحصر في حل أو حرم وقت حصره، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما منعه كفار قريش نحر هديه، وحلق رأسه بالحديبية قبل يوم النجز، فله النحر في موضعه كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت الحنفية: لا يذبح الهدي إلاّ في الحرم فيبعث شاة تذبح هناك. ثانياًًً: أن كُلَّ مَنْ أحْصر وجب عليه أن يتحلل بهدي، سواء كان حاجاً أو معتمراً أو قارناً، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صده المشركون عن البيت وكان معتمراً، نحر، ثم حلق، وقال لأصحابه: " قوموا فانحروا ثم احلقوا " واختلفوا في القارن، فقال الشافعية والحنابلة: عليه دم واحد، وقال الحنفية: عليه دمان بناءً على أنه محرم بإحرامين فلا يحل إلاّ بدمين عندهم،
__________
(1) " تكملة المنهل العذب المورود وشرح سنن أبي داود " ج 1.
(2) وأخرجه أيضاًً أحمد والبيقهي والحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاري.(3/166)
وعند الآخرين محرم بإحرام واحد ويدخل إحرام العمرة في الحجة فيكفيه دم واحد (1) . فإن لم يكن مع المحصر هدي، وعجز عنه، انتقل عند الحنابلة إلى صوم عشرة أيّام ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، لأنه دم واجب للإِحرام، فكان له بدل، كدم التمتع، والطيب واللباس، ويبقى على إحرامه حتى يصوم أو ينحر الهدي، لأنهما أقيما مقام أفعال الحج فلا يحل قبلهما وانتقل عند الشافعية على الأصح إلى الإِطعام، فتقوّم الشاة دراهم، ويخرج بقيمتها طعاماً، فإن عجز صام عن كل مد يوماً، وإذ انتقل إلى الصوم فله التحلل في الحال في الأظهر (2) وقال الحنفية: ليس للهدي الواجب بالإِحصار بدل، لأنّه لم يذكر في القرآن، فالمحصر عندهم لا يجزئه شيء عن الهدي (3) .
ثالثاً: أنه لا بد من الحلق عند التحلل في قول أكثر أهل العلم فالتحلل عند الشافعية والحنابلة يكون بثلاثة أشياء، ذبح، ونية التحلل بالذبح، وحلق أو تقصير، والحلق شرط أيضاًً عند المالكية، وقال الإِمام أبو حنيفة ومحمد: لا يشترط الحلق في التحلل، وإنما يحل المحصر بالذبح بدون الحلق لِإطلاق نص الآية حيث قال: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ولم يشترط الحلق، ولم يذكره، قالوا: فمن أوجب الحلق فقد جعله بعض الواجب وهذا خلاف النص، ولأن الحلق للتحلل من أفعال الحج، والمحصر لا يأتي بأفعال الحج، فلا حلق، والحديث في الحلق بالحديبية محمول على الندب (4) . رابعاً: اختلفوا في قضاء المحْصَر لحجه وعمرته من العام القابل على أقوال ومذاهب.
الأول: مذهب الحنفية: وهم يقولون: إذا كان المحرم مفرداً بالحج وتحلل
__________
(1) " الفقه الإسلامي وأدلته " للدكتور وهبة الزحيلي ج 3.
(2) " الفقه الإسلامي " ج 3.
(3) وقال المالكية: المحصر بعدو أو فتنة ينتظر ما رجا كشف ذلك، فإذا يئس تحلل بموضعه ولا هدى عليه. اهـ. كما أفاده في " فتح المبدى " ج 2 وفي " وفي كتاب الفقه الإسلامي " ج 3.
(4) الفقه الأسلامي وأدلته ج 3 للدكتور وهبة الزحيلي.(3/167)
567 - " بَاب إذَا أحْصِرَ الْمُعْتَمِرُ "
663 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" قَدْ أحْصِرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَحَلَقَ رَأسَهُ، وَجَامَعَ نِسَاءَهُ، ونَحَرَ هَدْيَهُ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى اعْتَمَرَ عَاماً قَابِلاً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من إحصاره، فإن عليه حجة وعمرة: قضاء عما فاته، لأنه في معنى فائت الحج الذي يتحلل بأفعال العمرة، فإن لم يأت بها قضاها، هذا إذا لم يحج من عامه، فإن حج منه فلا عمرة عليه. لأنّه ليس في معنى فائت الحج، وإذا كان المحصر محرماً بالعمرة فإنه يجب عليه قضاء ما شرع فيه، وإذا كان المحصر قارناً فعليه حجة وعمرتان، أمّا العمرة الأولى فلأنه في معنى فائت الحج وأما الثانية فلأنه خرج منها بعد صحة الشروع فيها. قالوا: وقضاء الحج من قابل واجب مطلقاً، سواء كان فريضة أو تطوعاً. الثاني: مذهب المالكية وهم يقولون يجب على المحصر إذا تحلل من إحرامه قضاء حجه من قابل إن كان فرضاً أو تطوعاً تحلل منه لمرض أو خطر أو حبس بحق، فإن كان تطوعاً آخر فلا قضاء عليه. الثالث: مذهب الشافعية والحنابلة: أنّهُ يجب على المحصر قضاء الفرض دون النفل، وأما العمرة فلا يجب قضاؤها عند الجمهور خلافاً لأبي حنيفة.
567 - " باب إذا أحصر المعتمر "
663 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " قد أحصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحلق رأسه وجامع نساءه ونحر هديه " أي مُنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أداء العمرة التي قدم إليها في صلح الحديبية سنة ست من الهجرة، حين صده المشركون عن دخول مكة ذلك العام، فلما أحصر، ومنع عن(3/168)
568 - " بَابُ الإِحْصَارِ في الْحَجِّ "
664 - عنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنَّهُ كَانَ يَقُولُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عمرته، تحلل منها في الموضع الذي أحصر فيه، وهو الحديبية، فأتى بالأعمال المشروعة في التحلل. فنحر هديه أولاً، ثم حلق رأسه، ثم جامع نساءه، هذا هو الترتيب الشرعي الذي وقع منه، ولا عبرة بتقديم الحلق في نص الحديث.
لأن الواو لمطلق الجمع، لا تفيد ترتيباً ولا تعقيباً " حتي اعتمر عاماً قابلاً " أي واستمر - صلى الله عليه وسلم - متحللاً من إحرامه يلبس الثياب ويتطيب، ويحلق رأسه، ويباشر النساء، حتى كان العام القادم فقضى عمرته التي أحصر عنها بعمرة أخرى في السنة السابقة سميت بعمرة القضاء.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن المعتمر إذا أحصر ومنع عن أداء عمرته تحلل منها، ونحر هديه، وحلق رأسه حيث أحصر وهو مذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة: لا ينحر إلاّ في الحرم. ثانياًً: مشروعية قضاء العمرة على من أحصر عنها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضاها، وهو واجب عند أبي حنيفة، مستحب عند الجمهور، حيث يرون أنه لا قضاء على المحصر إلّا في حج الفريضة (1) . الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في كون الحديث جواباً للترجمة.
568 - " باب الإِحصار في الحج "
أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على الأحكام المترتبة على الإحصار في الحج. والإحصار في الحج: معناه أن يواجه المحرم بالحج بعد
__________
(1) قالوا: وأما قضاؤه صلى الله عليه لعمرة الحديبية فهو على وجه الندب والاستحباب.(3/169)
"أليْسَ حَسْبُكُمْ سنَّة رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنْ حُبِسَ أحَدُكُمْ عَنِ الْحَجِّ طَافَ بالبَيْتِ وَبِالصَّفَا والْمَرْوَةِ، ثم حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحجَّ عَاماً قَابِلاً، فَيُهْدِي أو يَصُومَ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْياً".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إحرامه به من الأسباب والأعذار ما يمنعه عن إتمام مناسك الحج، سواء وقع له ذلك قبل الوقوف بعرفة أو بعده.
664 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " أليس حسبكم سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي ألا يكفيكم ما جاء في سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - " إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل " أي إن أحصر أحدكم، ومنع عن الوقوف بعرفة لعذر من الأعذار الشرعية ولكنه تمكن من دخول مكة، فإنه يجب عليه أن يتحلل بعمرة فيطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، ثم يخلع ثياب إحرامه فيصبح حلالاً يحل له كل شيء حتى النساء كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " ثم حل من كل شيء " أي تحلل من جميع محظورات الإِحرام وأصبحت له حلالاً يلبس الملابس، ويتطيب، ويحلق الشعر، ويباذر النساء " حتى يحج عاماً قابلاً " أي يشتمر. متحللاً من إحرامه حتى يقضي حجه من العام القادم " فيهدي " أي يذبح هدياً مع الحلق والنية قال العيني: أي يذبح شاة إذ التحلل لا يحصل إلاّ بنية التحلل والذبح والحلق " أو يصوم " أي وإن لم يجد الهدي يصوم عشرة أيام ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع. الحديث: أخرجه أيضاًً النسائي. والمطابقة: ظاهرة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن المحصر عن الوقوف بعرفة إذا بلغ مكة وتمكن من الطواف والسعي فإنه يترتب عليه الأحكام الآتية: الأول: أن يتحلل بعمرة لا تجزئه عن عمرة الإِسلام، وهو مذهب(3/170)
569 - " بَابُ النَّحْرِ قَبلَ الْحَلْقِ في الْحَصْرِ "
665 - عَنْ الْمِسْوِرِ بْنِ مَخْرَمَةٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ وأمرَ أَصْحَابَهُ بذَلِكَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجمهور، وقال الشافعية: لا ينوي بها العمرة. الثاني: أن يقضي حجه الذي أحصر عنه في العام القابل، وهل يقضيه مطلقاً، فريضة أو تطوعاً، أو يقضي الفريضة فقط. قال أبو حنيفة يقضيه مطلقاً، سواء كان الحج فريضة أو تطوعاً، وقال الجمهور: إنما يقضي الفريضة فقط. الثالث: أنّه يجب عليه الهدي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فيهدي " وهو مذهب الجمهور، وقال: أبو حنيفة: لا هدي عليه، ولا يعد محصراً، لأن المحصر عنده من منع الوصول إلى مكة وحيل بينه وبين الطواف والسعي (1) ، وأما من بلغها، فحكمه عنده كحكم من فاته الحج، يحل بعمرة ويحج من قابل، ولا هدي عليه (2) .
ثانياًً: أن من بلغ مكة وتمكن من البيت وحبس عن الوقوف يعد محصراً خلافاً لأبي حنيفة.
569 - " باب النحر قبل الحلق في الحصر "
665 - معنى الحديث: يحدثنا المسور رضي الله عنه: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر قبل أن يحلق " أي أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما أحصر عن أداء العمرة في صلح الحديبية، نحر هديه قبل أن يحلق شعره، فقدم النحر على الحلق، " وأمر أصحابه بذلك "، أي بأن يفعلوا كفعله. الحديث: أخرجه البخاري.
__________
(1) " شرح العيني على البخاري " ج 10.
(2) وقال مالك: المحصر بعدو أو فتنة لا هدي عليه، كما أفاده في " فتح المبدي " ج 2 وفي " كتاب الفقه الإسلامي " ج 3.(3/171)
570 - " بَاب قَوْلِ اللهِ تعَالَى (أَوْ صَدَقَةٍ) وَهِيَ إطْعَام سِتَّةِ مَسَاكِينَ "
666 - عَنْ كَعْبِ بْنِ عجْرَةَ رَضِيَ الله عَنْه قَالَ:
وَقَفَ عَلَيَّ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالْحدَيْبِيَةِ ورأسِي يَتَهَافَت قَمْلاً فقالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب الهدي على المحصر بالعدوِّ وهو مذهب الشافعي وأحمد في أصح الروايتين، قال ابن تيمية: والمحصر يلزمه دم في أصح الروايتين، ولا يلزمه قضاء حجه إن كان تطوعاً، وهو إحدى الروايتين، وقالت المالكية: لا هدي عليه في حصر العدو، وهو مذهب ابن القاسم، وإنما ينتظر مدة من الزمن مَا رَجا كشفَ الإِحصار عنه، فإذا يئس تحلل بموضعه حيث كان من الحرم وغيره، ولا هدي عليه، والمعتمد عندهم أنّه لا يتحلل إلاّ بحيث لو سار إلى عرفة من مكانه لم يدرك الوقوف، فان ظن أو شك (1) في زوال المانع قبل الوقوف فلا يتحلل حتى يفوت، فإن فات الوقوف فعل عمرة، والحديث صريح في وجوب الهدي، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حصره العدوُّ عن عمرته لم يتحلل حتى نحر الهدي، ولكن المالكية يحملون حديث الباب على من ساق الهدي معه، ويقولون: إن كان مع المحصر هدي نحره، وإلّا فلا هدي عليه. ثانياًً: تقديم النحر على الحلق في التحلل. والمطابقة: في قوله: " نحر - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يحلق ".
570 - " باب قول الله تعالى: (أَوْ صَدَقَةٍ) وهي إطعام ستة مساكين "
666 - معنى الحديث: يقول كعب رضي الله عنه: "وقف علي
__________
(1) " الفقه الإسلامي " للدكتور وهبة ج 3.(3/172)
" يُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: " فاحْلِقْ رَأَسْكَ " قَالَ: فيَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ) إلَى آخِرها، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " صُمْ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ أو تَصَدَّق بِفَرْقٍ بَيْنَ سِتَّةٍ أو انْسُكْ بمَا تَيَسَّرَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله بالحديبية ورأسي يتهافت" أي يتساقط " قملاً فقال: يؤذيك هوامك " أي قملك " قلت نعم قال فاحلق رأسك " أي فأمره بحلق رأسه " قال في نزلت هذه الآية " وهو قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مبيناً الفدية المطلوبة: " صم ثلاثة أيام " أي إن شئت صم ثلاثة أيام " أو تصدق بفرق " بفتح الفاء والراء أو سكونها، وهو ثلاثة آصع، " أو أنسك بما تيسر " أي اذبح ما تيسّر لك من الذبائح، وأقلها شاة. الحديث: أخرجه الستة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب الفدية على من ارتكب محظوراً من محظورات الإِحرام، لأن كعب بن عجرة لما ارتكب بحَلْقِ رأسه محظوراً أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفدية، وكذلك سائر المحظورات. ثانياًً: أن الفدية الواجبة ثلاثة أنواع: أولها: صيام ثلاثة أيام غير مقيدة بزمان، ولا بالتوالي كما يدل عليه ظاهر الحديث، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر شيئاً من ذلك وإنما يُسْتَثْنَى من ذلك العيدان عند الجمهور، وقال أبو حنيفة، والشافعي: يستثنى من ذلك العيدان وأيّام التشريق، فلا يجوز صومها في الفدية. الثاني: التصدق بفرق، وهو ثلاثة آصع على ستة مساكين. الثالث: ذبح ذبيحة أقلّها شاة. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أو تصدق بفرق "(3/173)
571 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ (فَلَا رَفَثَ) "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
571 - "باب قول الله عز وجل (فَلَا رَفَثَ) "
معنى الآية: أن الله تعالى قال: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) فنفى عن المحرم هذه الأمور الثلاثة، ومعنى ذلك أن الله تعالى حرم عليه هذه الثلاثة، ومنعه منها، وحظر عليه ارتكابها وهي: 1 - الجدال والمخاصمة مع الرفقاء والخدم، 2 - والفسوق، وهو ارتكاب المعاصي التي تخرج العبد عن طاعة الله، 3 - والرفث وهو الجماع ومقدماته ودواعيه من التقبيل واللمس بشهوة، ومخاطبة المرأة فيما يتعلق بوطئها. واتفقوا على أن الجماع عمداً قبل الوقوف بعرفة يفسد الحج عليهما واجباً أو تطوعاً، طوعاً أو كرهاً، وأن عليهما أن يمضيا في حجهما الفاسد، وعليهما القضاء أنزل أو لم ينزل، وعليه الكفارة وهي شاة عند أبي حنيفة، وهدي عند مالك، وبدنة عند الشافعي وأحمَد. وإن كان الجماع بعد الوقوف وقبل التحلل الأول فإنه يصح حجه عند أبي حنيفه (1) وعليه بدنة، ويفسد عند مالك، ويفسد وعليه بدنة عند الشافعي وأحمد. وإن كان جماعه بعد التحلل الأول: وقبل طواف الإِفاضة، فقال مالك وأحمد: يمضي في الإِحرام الذي أفسده، ويحرم بعد ذلك من التنعيم يتم الطواف والسعي بإحرام صحيح، وقال الشافعي في قول وأبو حنيفة في رواية: يتم حجه ولا يستأنف، وعليه بدنة، أما إذا لمس بشهوة أو قبل فإنه يفسد حجه عند مالك (2) إذا أنزل، ولا يفسد عند الشافعيّة، ويلزمه شاة (3) فقط، هذا إذا أنزل وأما إذا لمس
__________
(1) " الإفصاح عن معاني الصحاح " ج 1.
(2) " الإفصاح " ج 1.
(3) " فقه السنة " ج 1 دار الفكر.(3/174)
667 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أمُّهُ ".
" جَزَاء الصيد "
572 - " بَاب إِذَا صَادَ الحلالُ فأهْدَى لِلْمُحْرِمِ الصَّيدَ أكَلَهُ "
668 - عن أبِي قَتَادَةَ، مِنْ حَدِيثٍ طَوِيل:
"أنَّهُ انْطَلَقَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الْحُدَيْبِيَّةِ فأحْرَمَ أصْحَابُهُ ولَمْ يُحْرِمْ، قَالَ فَنَظرتُ فَإذا أنا بِحِمَارِ وَحش، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ فطَعَنْتهُ فأثْبَتُّهُ، واسْتَعَنْتُ بِهِمْ فأبَوْا أن يُعِينُونِي فأكَلْنَا مِنْ لَحْمِهِ، وخَشِينَا أنْ نُقْتَطَعَ، فَطَلَبْتُ النبي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو قبل ولم ينزل فعليه شاة عند مالك وأبي حنيفة وأحمد في رواية، وقال أحمد في رواية أخرى: عليه بدنة، وإن جامع المعتمر فسدت عمرته وعليه القضاء عند الجمهور.
667 - أما شرح الحديث: فقد تقدم في " في باب الحج المبرور " فراجعه هناك.
572 - " باب إذا صاد الحلال فأهدى للمحرم الصيد أكله "
668 - معنى الحديث: يحدثنا أبو قتادة رضي الله عنه " أنه انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية " أي سافر معه إلى مكة عام صلح الحديبية " ولم يحرم " أي وكان حلالاً غير محرم " قال: فنظرت فإذا أنا بحمار وحش، فحملت عليه " أي عدوت خلفه بفرس فطعنته " فطعنته فأثبته " أي فأرديته قتيلاً(3/175)
- صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ أهْلَكَ يَقْرَءُونَ عَلَيكَ السَّلَامَ وَرَحْمَةَ اللهِ، إِنَّهُمْ قد خَشُوا أنْ يُقْتَطَعُوا دُونَكَ، فانتظِرْهُمْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أصَبْتُ حِمَارَ وَحْشٍ وعِنْدِي مِنْهُ فَاضِلَةٌ، فَقَالَ لِلْقَوْمِ: كُلُوا وَهُمْ مُحْرِمُونَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" واستعنت بهم فأبوا أن يعينوني " أي وكنت قبل أن أتوجه إلى ذلك الحمار الوحشي لأصيده قد طلبت من أصحابي أن يعينوني على صيده فرفضوا أن يعينوني " وخشينا أن نقتطع " أي خفنا أن يحاصرنا العدو ويحول بيننا وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -، "فطلبت النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي فذهبت إليه " قلت: يا رسول الله أصبت حمار وحش وعندي منه فاضلة " أي بقية من لحمه " فقال - صلى الله عليه وسلم - للقوم: كلوا، وهم محرمون " أي فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأكل من ذلك الصيد.
الحديث: أخرجه الستة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه لا يجوز للمحرم أن يعين الحلال على قتل الصيد أو يأمره به، أو يشير إليه لقوله في الحديث: " واستعنت بهم فأبوا أن يعينوني "، فإن أعان المحرم على الصيد أو أمر به أو أشار إليه حرم عليه الأكل منه، ومما يؤكد ذلك ما جاء في رواية أخرى عن أبي قتادة أيضاًً - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: " أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها قالوا: لا، قال: فكلوا من لحمها ". ثانياًً: أنه يجوز للمحرم الأكل من الصيد الذي لم يُعن عليه ولم يأمر ولم يشر إليه كما دل عليه حديث االباب.
ثالثاً: استدل به أبو حنيفة على أنّه يجوز له الأكل من الصيد الذي صاده له غيره ومن أجله (1) ، لأن أبا قتادة إنما صاد هذا الحمار الوحشي له ولمن معه، وقال الجمهور: يحرم عليه ما صاده غيره من أجله لحديث جابر قال:
__________
(1) " تكملة المنهل العذب " ج 2.(3/176)
573 - " بَابُ مَا يَقْتَلُ المُحْرِمُ من الدَّوَابِّ "
669 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " خَمْسٌ من الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ يُقتَلْنَ في الْحَرَمِ: الغُرَابُ، والْحِدَاة، والْعَقْرَبُ، والفَارَةُ، والكَلْبُ الْعَقُورُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم " أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وأحمد وقال الشافعي عنه: هذا أحسن حديث روي في هذا الباب. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كلوا، وهم محرمون ".
573 - " باب ما يَقْتِلُ المحرم من الدواب "
669 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: سمى بعض الحيوانات والحشرات " فاسقاً " أي مؤذياً للإنسان مضرَّاً له بطبعه، وهي خمس: الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور - أي الجارح، لأن بعضها يضر الإِنسان في نَفْسِهِ بما يحمله من مادة سامة يفرغها في جسمه كالعقرب وبعضها يؤذيه في ماله كالغراب والحدأة فإنهما طائران يختلسان أطعمة الناس، وبعضها يضر الإِنسان في نفسه وماله كالفأرة فإنها تنقل جراثيم الطاعون الفتاكة، وتفسد المال وتتلفه، ولذلك أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل هذه الحيوانات في الحل والحرم للمحرم وغيره في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " يقتلن في الحرم " وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عما يقتل المحرم من الدواب فقال: " خمس لا جناح في قتلهن على من قتلهن في الحل والحرم، العقرب والفأرة والحدأة والغراب والكلب العقور " أخرجه أبو داود والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز قتل هذه الأصناف المذكورة(3/177)
في الحل والحرم للمحرم وغيره، وهي: أ - الغراب: وظاهر الحديث جواز قتله مطلقاً، وهو مذهب مالك، وذهب بعض الحنفية ومنهم صاحب " الهداية " إلى أنه لا يقتل إلاّ الغراب الأبقع، وهو الذي يأكل الجيف، وهو قول أحمد ويشمل غراب البين، كما قال ابن قدامة. ب - الحدأة: وهو قول الجمهور خلافاً لمالك في رواية حيث قال: إذا قتلها المحرم تؤدى كغيرها من أنواع الصيد، والمشهور من مذهب مالك جواز قتل الغراب والحدأة. وألحق الشافعي بالحدأة كل الطور الجارحة كالبازي والصقر. ج - العقرب: وألحق بها الشافعية جميع الحشرات المؤذية كالبق والبعوض ونحوه، وألحق بها مالك الزنبور فقط. د - الفأرة. هـ - الكلب العقور: وهو عند الجمهور كل ما عدا على الناس وأخافهم من الأسد والذئب ونحوه. أو بعبارة أخرى، قال الجمهور: المراد بالكلب العقور كل (1) ما عقر الناس وعدا عليهم من السباع والحيوانات المفترسة، أما أبو حنيفة فإنه فسر الكلب العقور بالكلب المعروف، إلَّا أنه ألحق به سائر السباع، وبهذا اتفقوا على جواز قتل السباع كلها. أما الوزغ فالجمهور على جواز قتله للمحرم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الوزغ فويسق " أخرجه البخاري ونقل ابن عبد البر الاتفاق على جواز قتله في الحل والحرم، أما الحية فتقتل اتفاقاً لقول ابن مسعود رضي الله عنه: بينما نحن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بغار بمنى إذ وثبت علينا حية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اقتلوها " فابتدرناها فذهبت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " وقيت شركم ووقيتم شَرَّها ". والمطابقة: في كون الحديث جواباً للترجمة. الحديث: أخرجه الخمسة إلا أبا داود.
***
__________
(1) " تكملة المنهل العذب " ج 2.(3/178)
574 - " بَابُ الْحِجَامَةِ لِلْمُحْرِمِ "
670 - عن ابْنِ بُحَيْنَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال:
" احْتَجَمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُحْرِم بلحْي جَمَل في وَسَطِ رَأْسِهِ ".
575 - " بَابُ تزْوِيجَ الْمُحْرِمَ "
671 - عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَهُوَ مُحْرِم ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
574 - " باب الحجامة للمحرم "
670 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم في حجة الوداع وهو محرم في وسط رأسه " بلحي جَمَل " (1) موضع بين مكة والمدينة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز الحجامة للمحرم مطلقاً سواء كان في موضع يحتاج إلى حلق الشعر كالرأس، أو في غيره، وسواء كان لضرورة أو لغيرها، وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فأما أهل الظاهر فقالوا: تجوز الحجامة للمحرم مطلقاً ولا فدية عليه إلاّ أن يحلق رأسه، وقال الجمهور: تجوز ما لم يقطع شعراً، فإن قطع أي شعر من رأسه أو من جسده، فعليه الفدية، وقال مالك: لا يحتجم المحرم إلاّ لضرورة لما في بعض الروايات " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم لضرر كان به ". والمطابقة: في قوله: " احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم ".
575 - " باب تزوج المحرم "
671 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما: "أن
__________
(1) بفتح اللام وسكون الحاء.(3/179)
576 - " بَابُ الاغتِسَالِ لِلْمُحْرِمِ "
672 - عن أبِي أيُّوبٍ الأنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أنَّهُ قِيلَ لَهُ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَغْسِلُ رَأسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَوَضَعَ أبو أيوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ فَطَأطَأهُ حتى بَدَا لِي رَأسُهُ ثُمَّ قَالَ لإنْسَان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونه " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - عقد عليها عقد زواجه منها أثناء سفره في الطريق إلى مكة " وهو محرم " بعمرة القضاء في السنة السابعة من الهجرة.
فقه الحديث: استدل الإمام أبو حنيفة بهذا الحديث على أنه يجوز للمحرم أن ينكح حال إحرامه، أي أن يعقد على زوجته وهو محرم، على شرط أن لا يدخل بها إلاّ بعد تحلله من إحرامه، وهو قول ابن عباس وابن مسعود مستدلين بهذا الحديث، وقال الجمهور: لا يجوز النكاح للمحرم وإن نكح فنكاحه باطل، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عثمان رضي الله عنه " إن المحرم لا ينكح ولا يُنكح " أخرجه الترمذي، وقال حسن صحيح، وأما حديث الباب فتعارضه أحاديث أخرى فقد روت ميمونة نفسها أسنها كانت حلالاً، ومثله عن أبي رافع، وهو الرسول إليها، فترجح روايتها على رواية ابن عباس، لقول الأصوليين إن رواية من له مدخل في الواقعة مقدمة على رواية الأجنبي. الحديث: أخرجه الخمسة بألفاظ متعددة. والمطابقة: في قوله: " تزوج ميمونة وهو محرم ".
576 - " باب الاغتسال للمحرم "
672 - معنى الحديث: يحدثنا عبد الله بن حُنَين في هذا الحديث أنه قال لأبي أيوب الأنصاري: "كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه وهو(3/180)
يَصُبُّ عَلَيْهِ: اصْبُبْ، فَصَبَّ عَلَى رَأسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأسَهُ بِيَدَيْهِ، فأقْبَلَ بِهِمَا وأدْبَرَ، وَقَالَ: هَكَذَا رَأيْتُهُ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُ".
577 - " بَابٌ دخولِ الحَرَمِ ومكة بِغيرِ إِحْرَام "
673 - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
"أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ وعَلَى رَأسِهِ المِغْفَرُ، فلما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
محرم" أي أنه سأله عن كيفية غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - لرأسه أثناء إحرامه وطلب منه أن يبين له ذلك عملياً " فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا في رأسه "، أي فأمسك أبو أيوب الثوب بيده، فأرخاه حتى ظهر لي رأسه " ثم قال لِإنسان يصبب عليه: اصبب فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه لأقبل بهما وأدبر " أي أمر رجلاً أن يصب على رأسه الماء، فصب الماء عليه، ودلك شعره وحركه بيديه، فذهب بهما إلى آخر الرأس، ثم رجع بهما إلي أوله، " ثم قال: هكذا رأيته - صلى الله عليه وسلم - يفعل " أي على هذه الكيفية كان - صلى الله عليه وسلم - يغتسل. الحديث: أخرجه الستة إلا الترمذي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز الغسل للمحرم، ودلك رأسه بيده إذا أمن سقوط الشعر منه، وهو مذهب الجمهور، خلافاً لمالك حيث قال بكراهته، لأنه قد يسقط بعض الشعر. والمطابقة: في قوله: " هكذا رأيته - صلى الله عليه وسلم - يفعل ".
577 - " باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام "
673 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عام الفتح "، أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خل مكة يوم الفتح بغير إحرام(3/181)
نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُل فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَل مُتَعَلِّق بَأستارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: اقْتُلُوهُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" وعلى رأسه المغفر " أي وقد غطى رأسه بالمغفر، وهو قلنسوة من حديد، توضع على الرأس، " فلما نزعه " أي فلما نزع النبي - صلى الله عليه وسلم - المغفر " جاءه رجل " وهو أبو برزة، " فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة " أي لجأ إلى الكعبة، واحتمى بأستارها، " فقال: اقتلوه " ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة لأنه كان قد أسلم، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بعد أن كان اسمه عبد العزى، فارتد، وانضم إلى المشركين في غزوة الفتح، وخرج يقاتل في صفوفهم، فلما رأى خيل الله دخله الرعب وارتعدت فرائصه، فرجع حتى انتهى إلى الكعبة، فنزل عن فرسه، وطرح سلاحه، ودخل تحت أستارها فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتله، وضربت عنقه بالسيف بين زمزم والمقام.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يكن حاجاً ولا معتمراً، كما ترجم له البخاري. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخلها يوم الفتح كما في حديث الباب، وعلى رأسه المغفر، وعن جابر رضي الله عنه " أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن محرماً " أخرجه مسلم وهو مذهب الشافعي، حيث قال: يجوز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يكن حاجاً ولا معتمراً، والجمهور على أنّه لا يجوز دخول مكة بغير إحرام، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: " لا يدخل أحد مكة إلَّا محرماً " أخرجه البيهقي، وقال ابن حجر: إسناده جيد. ثانياًً: مشروعية إقامة القصاص والحدود بمكة خلافاً لأبي حنيفة.
ثالثاً: استدل به القاضي عياض وغيره من المالكيّة على قتل من آذى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا تقبل توبته. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " دخل - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح وعلى رأسه المغفر ".(3/182)
578 - " بَابُ حَجَّ الصبيَانَ "
674 - عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" حُجَّ بِي مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأَنا ابْنُ سَبْع سِنينَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
578 - " باب حج الصبيان "
أي هذا باب يذكر فيه حكم حج الصبيان الصغار الذين هم دون البلوغ كما تدل عليه الأحاديث الصحيحة.
674 - معنى الحديث: يقول السائب رضي الله عنه: " حج " بضم الحاء وفتح الجيم للمجهول " بي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي حج بي والدي مصاحباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومرافقاً له، كما في رواية الفاكهي عن محمد بن يوسف عن السائب قال: " حج بي أبي "، في رواية الواقدي " حجت بي أمي " ويجمع بين الروايتين بأنه قد حج مع أبويه، كما أفاده العيني، " وأنا ابن سبع سنين " أي وأنا صبي صغير لا أتجاوز السابعة من عمري.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية حج الصبي وصحته وانعقاده، وهو مذهب جمهور العلماء لقول السائب بن يزيد في حديث الباب " حج بي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن سبع سنين " حيث سمى فعله حجاً، ولو لم يكن حجاً شرعياً صحيحاً لما قال ذلك، ومما يؤكد ذلك ما رواه جابر رضي الله عنه أن امرأة رفعت صبياً لها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: " نعم ولك أجر " واختلفوا هل يجزئه حجه هذا عن الفريضة، فقال الظاهرية وبعض أهل الحديث: إن الصبي إذا حج قبل بلوغه كفاه ذلك عن حجة الإِسلام، والجمهور على أنه يصح منه ويثاب عليه، ولا يكفيه عن الفريضة. وذهب أبو حنيفة إلى أن الصبي لا حج له، لأن البلوغ شرط في قبول حجه وصحته. ثانياًًً: جواز تحمل(3/183)
579 - " بَابُ مَنْ نذَرَ الْمَشْيَ إلَى الْكَعْبَةِ "
675 - عنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رَأى شَيْخَاً يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ قَالَ: " مَا بَالُ هَذَا؟ " قَالُوا: نَذَرَ أنْ يَمْشِي قَالَ: " إِنَّ اللهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌ " وَأَمَرَهُ أنْ يَرْكَبَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصبي للحديث إن كان مميزاً، لأن السائب تحمل حديثه هذا وهو لم يتجاوز السابعة من عمره، أي أنه تحمل هذا الحديث وهو في هذه السن، وقبله منه المحدثون. الحديث: أخرجه أيضاًً الترمذي. والمطابقة: في كونه حج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمره سبع سنين.
579 - " باب من نذر المشي إلى الكعبة "
675 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى شيخاً يُهادى (1) بين ابنيه " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً كبيراً طاعناً في السن قد وهن عظمه وضعفت قواه، وأصبح لا يستطيع السير إلاّ مستعيناً بغيره، فهو يمشي معتمداً على ولديه، " قال: ما بال هذا؟ " أي ما شأنه لا يتمالك نفسه ويكاد يسقط على الأرض من شدة الإِعياء والتعب " قالوا: نذر أن يمشي " أي أن يحج ماشياً " قال: إن الله عن تعذيب هذا " الرجل " نفسه " وتكليفها ما تعجز عنه ولا تقدر عليه " لغني " أي إن الله تعالى غني عن الوفاء بهذا النذر الذي يؤدّي بالإِنسان إلى تعذيب نفسه وتكليفها ما لا تقدر عليه، فهو القائل عز وجل: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) " وأمره أن يركب " لعجزه.
__________
(1) بضم الياء وفتح الدال والبناء للمجهول.(3/184)
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من نذر أن يحج ماشياً وعجز عن المشي وجب عليه الركوب، وهل عليه هدي إذا ركب أم لا؟ اختلف في ذلك الفقهاء، فقال الظاهرية: لا هدي عليه، وليس المشي مما يوجب نذراً، وقال أبو حنيفة وعطاء والحسن البصري: يمشي ما استطاع فإذا عجز ركب وأهدى شاة، وقال الشافعي: يهدي احتياطاً، وقال مالك في " الموطأ " يعود، ثم يحج مرة أخرى فيمشي ما ركب ولا هدي عليه (1) . الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث جواباً للترجمة كما أفاده العيني.
***
__________
(1) " شرح العيني على البخاري " ج 10.(3/185)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب فضائل المدينة "
أي هذا كتاب تُذكر فيه الأحاديث الدالة على فضائل المدينة.
والفضائل: جمع فضيلة، مأخوذة من قولهم: أفضل عليه أي زاد عليه، فهى إذن زيادة شيء على شيء آخر في فعل خير أو صفة حميدة، ثم أطلقت على الخصوصية التي ينفرد بها الشيء عن غيره.
وفضائل المدينة: هي المزايا والمحاسن الخاصة التي انفردت بها عن غيرها وامتازت بها عن سواها. ومن فضائلها كثرة أسمائها فإن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى قال السمهودي (1) : وأجمعوا على تفضيل مكة والمدينة على سائر البلاد، واختلفوا أيهما أفضل، فذهب عمر بن الخطاب وابنه ومالك ابن أنس وأكثر المدنيين إلى تفضيل المدينة واستثنى بعضهم فقال: محل الخلاف في غير الكعبة المشرفة، واستدلوا على تفضيل المدينة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: في الحديث الصحيح: " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد " أي: بل أشد، وقد استجاب الله دعوة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فصارت أحب بقاع الأرض إلى نفسه، وهو - صلى الله عليه وسلم - لا يحب إلاّ ما أحبه الله، ولا يفضل إلاّ ما فضله الله، ثم إن الله قد اختارها مهاجراً لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وجعلها له مسكناً وقراراً، وافترض عليه المقام بها، وحث النبي - صلى الله عليه وسلم - على سكناها ووصفها بالأفضلية المطلقة على سائر بلاد الله، فقال: " المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " وتمنى الموت بها فقال:
" اللهم لا تجعل منايانا بمكة " أخرجه أحمد (2) ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما على الأرض
__________
(1) " وفاء الوفاء " ج 1.
(2) من حديث سعيد بن هند عن ابن عمر، وسعيد لا يروي عن ابن عمر. (ع)(3/186)
580 - " بَابُ حَرَمِ الْمَديْنَةِ "
676 - عَن أنَسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الْمَدِينَةُ حَرَمٌ من كَذَا إلى كَذَا لا يُقْطَعُ شَجَرُهَا، ولا يُحْدَثُ فِيها حَدَث، من أحْدَثَ فيها حَدَثاً فَعَلْيهِ لَعْنَةُ اللهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بقعة أحَبُّ إلي أن يكون قبري بها منها" أي من المدينة رواه مالك مرسلاً (1) .
580 - " باب حرم المدينة "
676 - معنى الحديث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل المدينة حرماً بأمر الله تعالى له بذلك كما في حديث جابر رضي الله عنه حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن إبراهيم حرّم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، لا يقطع عضاهها، ولا يصاد صيدها " أخرجه مسلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من كذا إلى كذا " بيان لحدود حرم المدينة، وأنه يمتد من عير إلى ثور لما في حديث عليّ رضي الله عنه: " المدينة حرم ما بين عير إلى ثور " أخرجه الستة فأمَّا عير أو عاثر.
فهو الجبل المعروف في جنوب المدينة، وأما جبل ثور فقد قال ابن النجار: هو جبل صغير وراء أحد، يعرفه أهل المدينة، ولا ينكرونه، وقال ابن تيمية: عير جبل عند الميقات يشبه العير وهو الحمار، وقال الطبري: ثور جبل خلف أحد من شماليه صغير مدور يعرفه أهل المدينة، ومعنى كون المدينة حرماً.
أنه جعل لها حرمة وتشريفاً وتعظيماً في نفوس المسلمين ومشاعرهم، كما جعلها محرمة الصيد والشجر كمكة، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يقطع شجرها " أي لا يقطع نباتها الطبيعي الذي ينبت نبته دون سقي، وعن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) وإسناده ضعيف لإرساله. (ع) .(3/187)
والْمَلائِكَةِ والنَّاسِ أجمَعِينَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطها " والنفي بمعنى النهي، أي لا يجوز قطع شجرها، ولا صيد الصيد في حدودها " من أحدث فيها حدثاً " أي ابتدع فيها بدعة أو ارتكب كبيرة، وفي رواية " أو آوى محدثاً " بفتح الدال وكسرها، أي أعان على بدعة أو معصية " فعليه لعنة الله " أي غضبه وطرده من رحمته وجنته " والناس أجمعين " أي وعليه دعاء الناس باللعنة وفي رواية " لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً " أي لا يقبل الله منه فرضاً ولا نفلاً. الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث: أولاً: على تحريم شجر المدينة وصيدها لقوله - صلى الله عليه وسلم - " المدينة حرم " وتحريم المدينة يشمل تحريم شجرها وصيدها معاً، وإذا كان لم يذكر الصيد في حديث الباب نصاً، فقد ورد في حديث علي رضي الله عنه حيث قال: " ولا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها " فإذا حَرُم تنفيره حرم قتله من باب أولى، وتحريم المدينة صيداً ونباتاً هو ما عليه أكثر أهل العلم وجماهير الفقهاء، وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يحرم صيد المدينة ولا نباتها الطبيعي، وأن الحرمة في حديث الباب حرمة تعظيم وتقديس وتشريف. وقال صاحب " فيض الباري ": نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن قطع أشجارها كان لغرض الابقاء على زينتها وبهجتها وجمالها الطبيعي لا لأنها محرمة تحريم مكة، قالوا: والدليل على ذلك أنه لا يترتب على قطع أشجارها جزاءٌ شرعي كأشجار مكة وأنه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع الأشجار عند بناء مسجده. وفي استدلالهم بذلك نظر، فأما استدلالهم على عدم تحريمه بكونه لا يترتب عليه جزاء شرعي، فهو غير مسلم، لأن المسألة خلافية، وقد قال أحمد وفي رواية للشافعي في قول إن فيه الجزاء، وأما قطعه - صلى الله عليه وسلم - للأشجار عند بناء مسجده - صلى الله عليه وسلم - فلا دليل فيه، لأن الأشجار التي قطعها لم تكن من الأشجار الطبيعية التي يحرم(3/188)
581 - " بَابُ فضلَ الْمَدِينَةِ وأنَّها تَنْفِي الْخبَثَ "
677 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أُمِرْتُ بِقَرْية تأكُلُ الْقُرَى، يَقُولُونَ يَثْرِب وهي الْمَدِينَةُ، تَنْفي النَّاسَ كمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قطعها، وإنما كانت نخيلاً في حائط، وهي خارجة عن موضوع الخلاف، وأما كونه - صلى الله عليه وسلم - نهي عن قطعها لتجميل المدينة، فلا مانع من اجتماع هذه العلة مع التحريم، وقد ذكر مالك هذه العلة حيث قال في سبب النهي إنما نهى عن قطع سدر المدينة لئلا توحش وليبقى فيها شجرها ليستأنس ويستظل به من هاجر إليها، وقد قال الشافعي في القديم: يؤخذ سلب من فعل شيئاً من ذلك لأنّ سعد بن أبي وقاص أخذ رجلاً يصيد في حرم المدينة فسلبه ثيابه فجاءه مواليه فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أخذ أحداً يصيد فيه فليسلبه ثيابه " أخرجه أبو داود والبيهقي وهو مذهب بعض المالكية خلافاً للجمهور. ثانياًًً: التحذير الشديد من الابتداع في المدينة أو انتهاك حرمات الله فيها وأنه كبيرة. المطابقة: في قوله: " المدينة حرم ".
581 - " باب فضل المدينة وأضها تنفي الخبث "
677 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: أمرني الله تعالى أن أسكن مدينة عظيمة تفتح كل بلاد، الدنيا شرقاً وغرباً، وتبسط عليها سلطانها، قال ابن وهب: قلت لمالك: ما تأكل القرى: قال تفتح القرى، " يقولون: يثرب، وهي المدينة " أي يسمونها يثرب واسمها الإِسلامي الذي يليق بها هو المدينة " تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد " الكير هو الجلد الذي ينفخ به الحداد على النار، وقال أكثر أهل اللغة، هو حانوت الحداد نفسه " والمعنى "(3/189)
582 - " بَابُ الْمَدِينَةِ طَابَة "
678 - عَنْ أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
أقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - من تَبُوكَ حتى أشْرَفْنَا على الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: " هَذِهِ طَابَةٌ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أنّ المدينة تخرج شرار الناس كما يخرج الكير الوسخ من الحديد، وقال بعضهم: المراد به إخراج المنافقين منها عند ظهور المسيح الدجال، وقال بعضهم: تنفي الناس أي تصلحهم وتهذب نفوسهم وتخرج الشر والخبث منهم. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على فضل المدينة على سائر البلاد بل على مكة نفسها لقوله: " تأكل القرى " أي تفتحها، وقد فتحت المدينة كل المدن بما فيها مكة. قال المهلب: هذا الحديث حجة لمن فضل المدينة على مكة لأنّها هي التي أدخلت مكة وسائر القرى في الإِسلام (1) . والمطابقة: في قوله: " تنقي الناس ".
582 - " باب المدينة (2) طابة "
678 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عاد من تبوك وقارب دخول المدينة قال - صلى الله عليه وسلم - تنويهاً بشأنها وثناءً عليها بحسن أسمائها: " هذه طابة "
__________
(1) ولكن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مكة حيث قال فيها " والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت " رواه الترمذي وابن ماجة، وهو حديث صحيح، وقد قال ملا علي القاري: فيه تصريح بأن مكة أفضل من المدينة، كما عليه الجمهور. وحديث " اللهم إنهم أخرجوني من أحب البلاد إلي، فأسكني في أحب البلاد إليك " ضعيف. (ع) .
(2) قال القسطلاني " باب المدينة بالإضافة وفي نسخة " بابٌ " بالتنوين المدينة طابةُ ولأبي ذر طابة بالتنوين وأصل طابة طيبة فقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها أي من أسمائها طابة.(3/190)
583 - " بَابُ من رَغِبَ عَنِ الْمَدِينَةِ "
679 - عَنْ سُفْيَانَ بن أبي زُهَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "تُفْتَحُ اليَمَنُ، فَيَأتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي هذه هي المدينة الطيبة التي سماها الله طابة، كما في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما " إن الله سمّى المدينة طابة " أخرجه مسلم، وذلك لطيب سكناها وطيب العيش بها. الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على فضل المدينة وشرف أسمائها وتسميتها بأسماء كريمة ذات معان حميدة، ومن ذلك تسميتها طابة وطيبة (1) بتسكين الياء وطيبة - بتشديد الياء، وطائب ككاتب والطبة والمُطَيَّبة (2) وبعض هذه الأسماء سماها الله بها. وما سميت بذلك إلاّ لوجود هذه الصفات فيها حقيقة. قال ابن بطال: من سكنها يجد من تربتها وحيطانها رائحة حسنة.
وقال ياقوت: من خصائصها طيب ريحها. وقال البكري:
لَا تَحْسَب المِسْكَ الذكي كنُز بِهَا ... هَيْهَات أيْن المِسْكُ مِنْ رَيَّاهَا
وَابْشِر فَفِي الخَبَرِ الصَحيع مُقَرَّر ... أنّ الإلهَ بِطَابَةٍ سَمّاهَا
والمطابقة: في قوله: " هذه طابة ".
583 - " باب من رغب عن المدينة "
679 - راوي الحديث: سفيان بن أبي زهير الشنوي، وقال بعضهم: النمري، وهو من أزْدِ شنوءة، له صحبة، روى حديثين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أفاده ابن عبد البر.
__________
(1) " وفاء الوفاء " ج 1.
(2) وليس فيه ما يدل على أنها لا تسمى بغير ذلك، ولها أسماء كثرة، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، كما أفاده القسطلاني.(3/191)
فَيَتَحمَّلُونَ بأهْلِيهِمْ ومن أطَاعَهُمْ، والمدينَةُ خِيْر لهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وتُفْتَحُ الشَّامُ فيأتِي قوم يَبُسُّونَ فَيتَحمَّلونَ بأهْلِيهِمْ ومن أطَاعَهُمْ، والمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وتُفْتَحُ العِرَاقُ فَيَأتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فيتحَمَّلُونَ بِأهْلِيهِمْ ومن أطَاعَهُمْ، والْمَدِينَةُ خَيْر لَهُم لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
معنى الحديث: أن من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر عن فتح اليمن، وقد فتحت في آخر حياته كما أخبر عن فتح الشام والعراق وقد فتح بعضها في عهد الصديق، وبعضها في خلافة الفاروق، ثمَّ أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا فتحت هذه البلدان يترك بعض الناس المدينة، ويسارعون في الذهاب إليها لخصبها ورخائها، وكثرة خيراتها وثرواتها، طمعاً في الدنيا، ورغبة في لذاتها، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فيأتي قوم ييسون " بفتح الياء وضم الباء وتشديد السين أي يسوقون إبلهم ويسرعون في الذهاب إليها، " فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم " أي فينتقلون إلى اليمن أو الشام أو غيرها بأهليهم ومن اتبعهم من أصحابهم " والمدينه خير لهم لو كانوا يطمون " أي لو كان لديهم شيء من العلم الصحيح، والإِدراك السليم، لعلموا أن طيبة الطيبة خير لهم من تلك البلاد التي انتقلوا إليها لما يتوفر فيها من الخيرات الدنيوية والأخروية التي لا توجد في غيرها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على التحذير من ترك المدينة والانتقال إلى غيرها لمجرد هوى النفس وأن من تركها زهداً فيها فإنه يخسر الحياة الطيبة التي كان - يعيشها ولا يجد مثلها في البلاد التي انتفل إليها لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " والمدينة خير لهم " أمّا المدينة فسيبدلها الله خيراً منه كما في الحديث " لا يخرج أحد رَغْبَةً عنها إلاّ أخلف الله فيها خيراً منه " فإذا كان الخروج لغرض ديني أو عذر شرعي فإنه غير مذموم لأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا في الأمصار.
الحديث: أخرجه الشيخان وابن ماجة.(3/192)
584 - " بابُ الإيمَانِ يَأرِزُ إلى الْمَدِينَةِ "
680 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إنَّ الإيمَانَ لَيَأرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأرِزُ الْحَيَّةُ إلى حُجْرِهَا ".
585 - " بَابُ إثْمَ مَنْ كَادَ أهْلَ الْمَدِينَةِ "
681 - عَنْ سَعْدٍ بنِ أبِي وَقَّاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "لَا يَكِيدُ أهْلَ الْمَدِينَةِ أحَد إلَّا أنمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ في الْمَاء".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
584 - " باب الإِيمان يأرز إلى المدينة "
680 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الإِيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها " أي أن المؤمنين كلما شعروا بالخوف على دينهم وأحسّوا بالخطر على إسلامهم لجأوا إلى المدينة وآووا إليها كما تأوي الحية عندما تحس بالخطر إلى جحرها لتأمن فيه على نفسها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن المدينة قلعة الإِيمان وحصنه الحصين الذي يأوي إليه المسلمون عند اشتداد الفتن حفاظاً على دينهم، وفيه دليل على وجوب الهجرة على من خاف الفتنة على دينه. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
585 - " باب إثم من كادَ أهل المدينة "
681 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يكيد أهل المدينة(3/193)
586 - " بَابٌ لا يَدخلُ الدَّجَّالُ الْمَدِينَةَ "
682 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " على أنقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ لا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ ولا الدَّجَّالُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أحد إلاّ انماع كما ينماع الملح في الماء" أي لا يمكر أحد بأهل المدينة، وينوي إلحاق الشر بهم ويدبر لهم الأذى في الخفاء إلاّ أهلكه الله فوراً وأزاله من الوجود سريعاً، كما يذوب الملح في الماء. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: ظاهرة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن إيذاء أهل المدينة والسعي في الإِضرار بهم كبيرة من الكبائر لأن هذا الوعيد الشديد لا يترتب إلّا على جريمة نكراء. ثانياًًً: تعجيل العقوبة في الدنيا لمن أراد بأهل المدينة شراً وإنذاره بالهلاك السريع، وفي الحديث عن السائب بن خلاد: " من أخاف أهل المدينة ظالماً لهم أخافه الله، وكانت عليه لعنة الله " أخرجه النسائي ثالثاً: الترغيب في حب أهل المدينة والإِحسان إليهم لأن التحذير من الشيء ترغيب في ضده، فيكون مفهوم الحديث أن من أراد الخير لأهل المدينة وسعى فيه كانت له البشري بالحياة السعيدة، سيما إذا كان حبه لهم ناشئاً عن حبه للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال الشاعر:
فَيَا سَاكِني أكْنافَ طِيْبَةَ كُلُّكُمْ ... إِلَى القَلْبِ مِنْ أجْلِ الحَبِيْبِ حَبِيْبُ
586 - " باب لا يدخل الدجال المدينة "
682 - معنى الحديث: أن الله حفظ المدينة وصانها من شرين(3/194)
عظيمين وجعل على أبوابها ومداخلها ملائكة يحرسونها ويمنعون عنها الدجال والطاعون، على كل باب ملكان، كما في حديث أبي بكرة حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال لها يومئذ سبعة أبواب على كل باب ملكان " أخرجه البخاري. فالدجال لا يدخل مكة ولا المدينة لأنّها محرمة عليه، ممنوعة عنه، ويدخل سائر المدن الأخرى سواهما كما في حديث أنس رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليس من بلد إلاّ سيطؤه الدجال إلاّ مكة والمدينة " أخرجه الشيخان والنسائي، ولكنه يصل إلى ضواحي المدينة، وينزل ببعض السباخ التي بها كما في حديث أبي سعيد حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " فينزل ببعض السباخ التي بالمدينة " أخرجه الشيخان، وفي بعض الروايات: " ينزل في هذه السبخة التي بِمَمَرِّ قناة "، أخرجه أحمد، وفي رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركب إلى مجتمع السيول، وقال: " هذا منزله " ويقع مجتمع السيول هذا في الشمال الغربي من المدينة ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: على أن المدينة محروسة محفوظة من الدجال والطاعون معاً لهذا الحديث، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي بكرة " لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال " فإذا كانت في مأمن من إرهابه والخوف منه، فهي في مأمن من دخوله من باب أولى، لأن الملائكة يقفون على مداخلها فيمنعونها عنه، ويحرسونها منه كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " على أنقاب المدينة ملائكة ". ومعنى ذلك أن حدود المدينة كلها محاطة بسور منيع من الملائكة، فلا يتجاوزها الرجال، ولهذا جاء في الأخبار الصحيحة أنه ينزل في السبخة التي تجتمع بها السيول في الشمال الغربي من المدينة، فإذا وصل إلى هناك وقع زلزال بالمدينة، وخرج إليه المنافقون منها، كما في حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال: " ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل كافر ومنافق " أخرجه الشيخان والنسائي، ويقيض الله للاسلام في ذلك الموقف الخطر، وتلك الظروف الصعبة من يناضل عن الدين، ويقف(3/195)
في وجه المسيح الدجال، ويصمد أمام جبروته وطغيانه، فيقول كلمة الحق أمام ذلك الطاغية، ويكدبه ويتحداه أمام الناس كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حيث قال - صلى الله عليه وسلم - " فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس، أو من خير الناس " أي من أفضل أهل المدينة ديناً وصلاحاً وثباتاً على الحق " فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا عنك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً فيقول الدجال: أرأيت إن قتلت هذا ثم أحييته، هل تشكون في الأمر " أي يقول للناس: أخبروني إن أنا قتلت هذا الرجل الذي واجهني بالتكذيب، وأحييته مرة أخرى، هل تشكون في ربوبيتي " فيقولون: لا " أي فيقول المنافقون: لا " فيقتله ثم يحييه، فيقول حين يحييه: والله ما كنت قط أشد بصيرة " أي أشد يقيناً بأنّك الدجال منّي اليوم " لأنه انطبقت عليك صفات الدجال التي أخبرنا بها نبينا - صلى الله عليه وسلم - كما في ها الحديث وأمثاله " فيقول الدجال " لرجل من أتباعه " اقتله فلا يسلط عليه " ولا يقدر على قتله. ثانياًً: أن المدينة محمية من الطاعون، ولم ينقل في التاريخ قط أنه دخل المدينة أصلاً. والطاعون أورام دموية ودمامل خبيثة، قال السمهودي: وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه الدهور الطويلة مع أنه يقع بالحجاز، ودخل جدة وينبع والفرع والصفراء والخبت وغير ذلك من الأماكن القريبة من المدينة، ولم يدخلها كما شاهدنا ذلك في طاعون سنة إحدى وثمانين وثمانمائة فإنه عم أكثر الأماكن القريبة من المدينة وكثر بجدة وهي محفوظة منه أتم الحفظ، فلله الحمد والمنة. والمطابقة: في قوله: " لا يدخلها الطاعون ".
***(3/196)
587 - " باب "
683 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت:
لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبو بَكْرٍ وَبِلال، فَكَانَ - صلى الله عليه وسلم - أبو بَكْرٍ إِذَا أخَذَتْهُ الْحُمَّىْ يَقُولُ:
كُلُّ امْرِىءٍ مُصَبَّح في أهْلِهِ ... وَالْمَوْتُ أدنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وَكَانَ بِلالُ إِذَا اقْلِعَ عَنْهُ الحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ وَيَقولُ:
ألا لَيْتَ شعْرِي هَلْ أبِيْتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادٍ وَحَوْلِى إذْخِر وَجَلِيلُ
وهلْ أرِدَنْ يَوْماً مِيَاهَ مَجنَّةٍ ... وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِيَ شَامَة وَطَفِيلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
587 - " باب "
683 - معنى الحديث: أن المدينة كانت قبل هجرته - صلى الله عليه وسلم - موبوءة كثيرة الحميات والأمراض المعدية، فلما قدم إليها - صلى الله عليه وسلم - ومعه أصحابه المهاجرون انتشرت فيهم الحمى فأصابت أبا بكر وبلالاً وغيرهم، فأحسوا بالغربة واشتاقوا إلى مكة، واستوحشت نفوسهم من المرض الذي أصابهم " كان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كلُّ امرىءٍ مُصَبّح في أهْلِهِ ... وَالمَوْتُ أدْنَى مِنْ شِرَاكِ نعْلِهِ "
يريد رضي الله عنه أنّ المرض قد أخذ منه كل مأخذ، وكابد من آلام الحمى وتجرع كؤوس مرارتها حتي أصبح في حالة سيئة، تتراى له أشباح المنون بين حين وآخر يقال له عند الصباح: " أنعِمْ صباحاً وهو في غاية القرب من الموت بل هو أقرب إليه من شراك نعله " والشراك بكسر الشين أحد سيور النعل. أما بلال فإنه كلما أفاق من غشيته حن إلى مكة وربوعها، وأخذ(3/197)
وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: " اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَة بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وأُمَيَّةَ ابْنَ خَلَفٍ، كَمَا أخرَجُونَا مِنْ أرضِنَا إِلَى أرضِ الْوَبَاءِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إليْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبنا مَكَّةَ، أو أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في صَاعِنَا وَفي مُدِّنَا، وصَحِّحْهَا لَنَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ، قَالَتْ: وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ أوبَأ أرْضِ اللهِ فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِيْ نَجْلاً يَعْنِي مَاءً آجِنَاً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يترنم في شعره بضواحيها ومغانيها، ويذكر طيب لياليها " وكان بلال إذا أقْلِعَ (1) عنه الحمى " أي إذا أفاق من الحمى " يرفع عقيرته " أي صوته
" ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوماً مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل
وهكذا يتمنى بلال أن يبيت ليلة واحدة في ضواحى مكة ويطفىء أشواقه الحارة من مياه مجنة (2) وأن يمتع ناظريه بمشاهدة إذخر وجليل وغيرها من النباتات الخلوية التي حولها، وأن يشاهد " شامة وطفيل " (3) وغيرهما من جبال مكة الشامخة، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أصاب أصحابه دعا على الذين أخرجوهم من مكة " وقال: اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة " وغيرهم ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد " وذلك لكي يتغلب حبهم لوطنهم الثاني على حبهم لوطنهم الأول، ثم قال: " اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا، وصححها لنا، وانقل حماها إلى الجحفة "
__________
(1) بضم الهمزة وكسر اللام والبناء للمجهول.
(2) بفتح الميم وكسرها وتشديد النون موضع على أميال يسيرة من مكة، كما أفاده القسطلاني.
(3) بفتح الطاء وكسر الفاء جبلان على نحو ثلاثين ميلاً من مكة، كما أفاده القسطلاني.(3/198)
فدعا - صلى الله عليه وسلم - ربه أن يغير حال المدينة إلى أحسن حال من الناحية المعيشية والصحية. أما من الناحية المعيشية فإنّه دعا لها بالبركة في مكاييلها المختلفة من مد وصاع وغيرها، فلا يكال بها الطعام حتى يتضاعف وينمو ويتكاثر، ويجزىء منه القليل، ويكفي عن الكثير، وتتغذى به الأجسام غذاءً جيداً فتتحسن الحالة المعيشية، وتتوفر المواد الغذائية. وأما من الناحية الصحية فقد دعا - صلى الله عليه وسلم - ربه أن يصحح لهم المدينة، وأن ينقل ميكروب الحمى منها إلى الجحفة ويقضي على الجراثيم والأوبئة التي كانت فيها فيتمتع أهلها بماء صحي وجو نقي وتطيب بها الحياة. " قالت " عائشة رضي الله عنها " وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله " أي أكثرها وباءً ثم بينت عائشة رضي الله عنها سبب وبائها وكثرة وجود الحميات فيها حيث قالت: " فكان بطحان يجري نجلاً " بفتح النون وسكون الجيم، قال الراوي: " يعني ماء آجناً " قال العيني: " الآجن " بالمد الماء المتغير الطعم واللون. اهـ، أي وكان وادي بطحان في جنوب المدينة يجري طول العام وعلى مدار السنة بالمياه المتغيرة المتعفنة التي تتركد فيه كثيراً، فتتعفن فينشأ عن ذلك البعوض والميكروبات الضاّرة وتتفشى الأمراض، وتكثر الحميات، وينتشر الوباء، كما يحدث عادة في البلاد التي تكثر فيها المستنقعات دون أن تتواجد فيها رعاية صحية كافية للقضاء على تلك الميكروبات التي تنجم عنها. الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن المدينة المنورة كانت قبل الإِسلام " أوبأ أرض الله " فلما هاجر إليها - صلى الله عليه وسلم - طهرها الله من الوباء وصححها من الأدواء استجابة لدعوة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. ثانياًًً: أن الله بارك لأهل المدينة في ثمارهم وأقواتهم، ووضع البركة في مكاييلهم بحيث يكفي فيها من الطعام ما لا يكفي في غيرها استجابة لدعوة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وفي الحديث الصحيح " كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه " أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -. ثالثاً: أشار(3/199)
الحديث إلى وجوب العناية بالناحية الصحية والاهتمام بجودة الهواء، ونقاء الماء والتحذير من المياه الراكدة المتغيرة، لأن المياه المتغيرة الملوثة يتولد فيها البعوض والجراثيم التي تؤدي إلى تفشي الحميات والأمراض المختلفة، كما يدل على ذلك قول عائشة رضي الله عنها في سبب انتشار الحميات، بالمدينة قبل الهجرة:
" وكان بطحان يجري نجلاً - يعني ماءً آجناً " تريد رضي الله عنها أن الماء المتعفن الذي كان في وادي بطحان هو سبب انتشِار الحميات بالمدينة والله أعلم.
***(3/200)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتابَُ الصَّوْمَ "
588 - " بَابُ فضلِ الصَّوْمِ "
684 - عن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:
"الصيامُ جُنَّة فَلا يَرْفُثْ ولا يَجْهَلْ، وِإنِ امْرُؤ قَاتَلَهُ أوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِني صَائِم مرَّتَيْنِ، والذي نَفْسِي بِيَد لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الصوم
الصوم لغة الامتناع عن أي شيء كلاماً أو طعاماً وشرعاً الإمساك عن شهوتي البطن -وهي الأكل والشرب- والفرج " وهي مباشرة النساء من الفجر إلى المغرب " وفرض في الثانية من الهجرة في شهر شعبان، وهو فرض على كل مكلف قادر عليه.
588 - " باب فضل الصوم "
684 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصف الصوم وصفاً دقيقاً يبين فيه فائدته بالنسبة للصائم فقال: " الصوم جنة " أي وقاية للإنسان من المعاصي، لأنه يكسر الشهوة ويسد مسالك الشيطان إلى النفس البشرية فيحميها من الخسران، ويصونها من النيران، ولذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصائم أن يحافظ(3/201)
اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ من أجْلِي، الصيامُ لي وَأَنَا أُجْزِي بِهِ، والْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على وقاية نفسه من مباشرة النساء، وصيانة لسانه من اللغو والفحش فقال: " فلا يرفث " أي لا يباشر النساء ولا يتلفظ بالكلمات القبيحة " وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم " أي فإن تعرض له أحد بالإِساءة فضاربه أو خاصمه أو شتمه فليقل في نفسه إني صائم وليكف عن مجاراته في انتهاك حرمة الصوم، فإن دفعته نفسه للرد عليه فليقل في نفسه مرة أخرى إني صائم، ثم أقسم - صلى الله عليه وسلم - بربه الذي روحه بيده على أن خلوف الصائم وتغير رائحة فمه أجمل رائحة عند الله من رائحة المسك الذي هو أطيب الطيب " يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي " يعني يقول الله تعالى: إن هذا الصائم ترك شهوة بطنه وفرجه طاعة لي وامتثالاً لأمري " الصيام لي "، أي الصيام أخلص العبادات لي وأبعدها عن الرياء والسمعة " وأنا أجزي به " أي ولذلك فإني أجزي عليه من الأجر والمثوبة ما لا أجزي على غيره، أو أتولى المثوبة عليه بنفسي، قال الشرقاوي: وقد علم أن الكريم إذا تولّى الإِعطاء بنفسه كان ذلك إشارة إلى عظم العطاء " والحسنة بعشر أمثالها " أي وإذا كات الجزاء على الحسنات العادية الحسنة بعشر أمثالها، فما بالك بالصوم الذي تولى الله بنفسه الجزاء عليه فإنه يجزي عليه بغير حساب. قال الزرقاني قوله: وأنا أجزي به " أي بلا عدد ولا حساب، كقوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) . الحديث: أخرجه الستة بألفاظ متعددة. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً عليها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضائل الصوم ومزاياه فمن فضائله إصلاح الغريزة، وترويضها على الوقوف عند حدود(3/202)
589 - " بَابُ الرَّيَّانِ للصَّائِمِينَ "
685 - عَنْ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ أنْفَقَ زَوْجَيْنِ في سَبِيلِ اللهِ نُودِيَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشرع والعقل، والالتزام بمنهج الدين وتقوية الإِرادة وسد مداخل الشيطان، مما يؤدي إلى تحقيق السعادة النفسية في الدنيا والنجاة من النار في الآخرة كما في رواية أخرى عن أبي هريرة " الصوم جنة من النار " أي وقاية منها أخرجه الترمذي، وفي رواية عنه " الصوم جنة من عذاب الله " أخرجه البيهقي قال في " الإكمال ": معنى الصوم جنة أنه يستر من الآثام أو من النار، أو من جميع ذلك، وبه جزم النووي. ومن مزاياه مضاعفة حسنات الصائمين بغير حساب، وهو معنى " وأنا أجزي به " أي أضاعف الثواب عليه بلا حدود لما في رواية " الموطأ " " كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلاّ الصيام فهو لي وأنا أجزي به " فالاستثناء يدل على أن مضاعفة أجر الصيام لا حد له. ثانياًًً: أن للعبادات روائح زكية يختلف بعضها عن بعض يوم القيامة فريح الصيام بين العبادات كالمسك، وطيب فم الصائم كرائحة المسك الذي هو أجمل الطيب. ثالثاً: أن الصيام الذي تضاعف له الحسنات هو الذي يجمع بين الكف عن الطعام والشراب والمحرمات. قال أحمد بن قدامة المقدسي: للصوم ثلاث مراتب، صوم العموم وهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة، وصوم الخصوص: وهو كف النظر واللسان والجوارح من اليد والرجل والسمع والبصر عن الآثام، وصوم خصوص الخصوص: وهو صوم القلب عما سوى الله (1) .
589 - " باب الريان للصائمين "
685 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أنفق زوجين في
__________
(1) " مختصر منهاج القاصدين ".(3/203)
مِنْ أبْوَابِ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا خَيْر، فمنْ كَانَ مِنْ أهلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ من بَاب الصَّلَاةِ، ومنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كانَ مِنْ أهلِ الصيام، دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، ومَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصًّدَقَةِ " فقالَ أبو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بأبِي أنتَ وَأمِّي يَا رَسُولَ اللهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأبوَابِ مِن ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَال: " نَعَمْ وأرْجُو أنْ تَكُونَ مِنْهُمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير" أي من تصدق بعدد اثنين من أي شيء من المأكولات أو الملبوسات أو النقود، فأعطى درهمين، أو رغيفين، أو ثوبين لمن هو في حاجة إليهما ابتغاءً لرضوان الله نادته الملائكة من أبواب الجنة مرحبة بقدومه إليها، وهي تقول: لقد قدَّمت خيراً كثيراً تثاب عليه اليوم ثواباً كبيراً، " فمن كان منْ أهل الصلاة دعي من باب الصلاة " أي وقد جعل لكل عبادة في الجنة باباً مخصوصاً لها، فالمكثرون من الصلاة ينادون من باب الصلاة، ويدخلون منه، وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر العبادات، " ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان "، أي والمكثرون من الصوم تستقبلهم الملائكة عند باب الريان داعية لهم بالدخول منه، وسمي بذلك، لأنه كما في رواية الترمذي " من دخله لم يظمأ أبداً " " فقال أبو بكر رضي الله عنه " طامعاً في فضل الله تعالى: " فهل يدعى أحد من تلك الأبواب " ومعناه أنه تساءل قائلاً " فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم " أي يوجد من المؤمنين من يُدعى من أبواب الجنة الثمانية لكثرة عباداته وتنوعها واختلافها، "وأرجو أن تكون منهم " لاجتهادك في كل العبادات وحرصك على جميع الخيرات. الحديث:(3/204)
590 - " بَاب هَلْ يُقَالُ رَمَضانُ أو شَهْرُ رَمَضَانَ؟ "
686 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أبوَابُ السَّمَاءِ وغُلِّقَتْ أبْوَابُ جَهَنَّمَ، وسُلْسِلَتِ الشَيّاَطِينُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أخرجه الشيخان، والترمذي والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن للجنة أبواباً متعددة بتعدد الأعمال لكل عبادة باب يختص بأهلها المتفوقين فيها. ثانياًًً: أن من بين هذه الأبواب باب الصائمين، ويقال له: الريان، لأن من دخل منه يرتوي فلا يظمأ أبداً كما في رواية الترمذي: " ومن دخله لم يظمأ أبداً ". والمطابقة: في قوله: " من كان من أهل الصيام دعى من باب الريان ".
590 - " باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان "
686 - معنى الحديث: أن أبواب السماء تفتح عند قدوم رمضان حقيقة لا مجازاً إحتفاءً بهذا الشهر الكريم. وترحيباً به في الملأ الأعلى، وتنويهاً بفضله وشرفه، وإعلاماً للملائكة بدخوله، كما تفتح أبوابها لكل من مات فيه صائماً قائماً بواجباته غير مفسد له بالمحرمات والآثام استقبالاً له وترحيباً بمقدمه، وتبشيراً له بما أعدَّ الله له في دار الكرامة " وغلقت أبواب جهنم " حقيقة عن الصائمين، فمن مات منهم كان من عتقاء رمضان " وسلسلت الشياطين " أي وربطت الشياطين بالسلاسل، حقيقة أيضاًً وحمله بعضهم على شياطين الوسوسة والإِغواء، وهو أنسب. الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل شهر رمضان، حيث تفتح فيه أبواب السماء وأبواب الجنة كما في رواية أخرى في(3/205)
591 - " بَابُ مَنْ لَمْ يَدَعْ قَولَ الزُّورِ والْعَمَلَ بِهِ فِي الصَّوْمِ "
687 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قالَ رَسوُلُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لله حَاجَةٌ في أن يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
البخاري، " وتغلق أبواب النار " وفيه بشارة عظيمة لمن مات فيه قائماً بحقوقه، والواجبات التي عليه، وأنه تربط فيه الشياطين عن الناس وتمنع عن الوسوسة لهم، ولا يقال كيف تربط ونحن نرى الناس يذنبون في رمضان؟ فالجواب أن هذا لا يتعارض مع الحديث، فإن الإِنسان توسوس له نفسه أيضاًً، فالمعاصي التي يرتكبها في رمضان نتيجة لغرائزه وشهواته النفسية. ثانياًًً: أنه لا مانع من أن يقال رمضان. والمطابقة: في قوله: " إذا دخل رمضان ".
591 - " باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم "
687 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من لم يدع قول الزور والعمل به " أي من لم يترك القول الباطل والكلام المحرّم أثناء صومه من الكذب وشهادة الزور، والغيبة والنميمة والقذف والشتيمة " والعمل به " أي ولم يترك الأعمال الباطلة من الظلم والغش والخيانة وأكل الربا وغيرها " فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه "، أي فإن صيامه لا يكون مرضياً عنه، ولا يقبل قبولاً كاملاً، ولا يثاب عليه ثواب الصائمين الذين يوفَّون أجرهم بغير حساب، وإن كان الصوم في حد ذاته صحيحاً مسقطاً للفرض الذي عليه.
فقوله: " وليس لله حاجة " إلخ مجاز يراد به عَدمُ القبول الكامل من إطلاق السبب وإرادة المُسَبِّبِ، قال ابن المنير: هو كناية عن عدم قبول الصوم،(3/206)
592 - " بَابُ الصَّوْمِ لِمَنْ خاف عَلَى نفْسِهِ الْعُزُوبَةَ "
688 - عنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كُنَّا مَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أغَضُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كما يقول الغضبان لمن رد عليه شيئاً طلبه منه فلم يقم به: لا حاجة في به. الحديث: أخرجه أيضاًً الأربعة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحذير الصائم من الأقوال الباطلة والأفعال المحرمة، لأنّها تسخط الله وتنقص من ثواب الصوم فلا يجازى الصائم على صومه بغير حساب، إلاّ إذا صام عن المحرمات، أما إذا اقترفها فإنه لا يستفيد منه إلا إسقاط الفرض فقط. ثانياًً: أنه ليس الغرض من الصيام الحرمان من الطعام والشراب، بل ما يترتب عليه من تهذيب النفس، وتقويم السلوك الإِنساني، قال البيضاوي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " أي ليس المقصود من شرعية الصيام نفس الجوع والعطش، بل ما يتبعه من كسر الشهوات، وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظر قبول. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
592 - " باب الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة "
688 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من استطاع الباءة " وهي لغةً الجماعُ والمراد بها هنا مؤونة النكاح والقدرة عليه " فليتزوج " أي: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمُرُ بالزواج كلَّ من كان قادراً عليه جسمياً ومادياً إحصاناً لنفسه ودينه، لأنه في حاجة إليه بمقتضى غريزته الجنسية التي أودعها الله فيه فإنّها إذا لم تجد لها مصرفاً شرعياً صرفت قواها في الفواحش والموبقات،(3/207)
لِلْبَصَرِ وأحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاء".
593 - " بَابُ قَوْلِ النَّبِِّي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا رَأيْتُمْ الْهِلالَ فَصُومُوا "
689 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " الشَّهر تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، فَلا تَصُومُوا حتى تَرَوْهُ، فإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فأكْمِلُوا العِدَّةَ ثَلاِثين ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والزواج هو المصرف الشرعي لها، وهو الوقاية والحماية لها من الخبائث، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج " أي فإن النكاح أمنع للبصر والفرج من اقتراف الخطايا " ومن لم يستطع فعيه بالصوم فإنه له وجاء " أي فإن الصوم يكسر الشهوة. الحديث: أخرجه الخمسة غير الترمذي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: الترغيب في الزواج لكل من يقدر عليه مالياً ونفسياً وجسمياً. ثانياًًً: استحباب الصوم لمن خاف على نفسه من العزوبة، وخشي الفاحشة لأنّ الصوم يضعف الشهوة. والمطابقة: في قوله: " ومن لم يستطع فعليه بالصوم ".
593 - " باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأيتم الهلال فصوموا "
689 - معنى الحديث: أن الشهر يكون أحياناً تسعة وعشرين يوماً كما يكون أحياناً ثلاثين، الكل جائز وواقع، ولكن الاعتماد في الصيام والإفطار على الرؤية، أو إكمال ثلاثين يوماً وهو معنى قوله: " فلا تصوموا حتى تروه " أي حتى تروا الهلال بعد غروب شمس اليوم التاسع والعشرين من شعبان وكذلك الحكم في الإِفطار، لا تفطروا حتى تروا الهلال بعد غروب اليوم التاسع والعشرين من رمضان، " فإن غم عليكم " أي فإن لم تروا الهلال ولم يظهر(3/208)
لكم لأي سبب من الأسباب، " فأكملوا العدة ثلاثين " أي فأتموا عدة أيام الشهر ثلاثين يوماً، سواء كان ذلك في الصيام كما نص عليه حديث الباب، أو في الإِفطار من رمضان كما في الأحاديث الأخرى، فقد جاء في رواية أخرى للبخاري عن ابن عمر " إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا " أخرجه البخاري، ومعنى ذلك أن هذا الحكم في الصيام والإِفطار معاً، وفي رواية أخرى عن ابن عمر أيضاًً: " الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له " أخرجه أبو داود والشيخان وأحمد بن حنبل. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن ثبوت رمضان يكون برؤية الهلال بعد غروب شمس اليوم التاسع والعشرين من شعبان بشهادة شاهدي عدل أنهما رأيا الهلال، ولا يثبت بعدل واحد، عند مالك وأحمد في رواية، وقال أكثر أهل العلم: يثبت بعدل واحد لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: " تراءى الناس الهلال (1) فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني رأيته فصام، وأمر الناس بصيامه " أخرجه أبو داود والترمذي وقال الترمذي: العمل على هذا عند أكثر أهل العلم، قالوا: تقبل شهادة رجل واحد في الصيام، وبه يقول ابن المبارك والشافعي في قول: وأحمد في رواية، قال النووي: وهو الأصح. فإن لم ير الهلال فيثبت بإكمال شعبان ثلاثين يوماً. ثانياًً: أن الإفطار كالصيام يثبت أيضاًً بالرؤية أو بإكمال ثلاثين يوماً. إلاّ أنه لا يثبت عند عامة الفقهاء إلاّ برؤية عدلين، خلافاً للظاهرية.
***
__________
(1) " فقه السنة " ج 1 دار الفكر.(3/209)
594 - " بَابُ قَوْلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لَا نكْتُبُ ولا نحْسِبُ "
690 - عنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِنَّا أمَّة أمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ ولا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وعِشْرِينَ، وَمَرَّة ثَلاِثينَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
594 - "باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نكتب ولا نحسب "
690 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنا أمة أمية " أي تغلب علينا الأميّة، وهي البقاء على أصل ولادة الأم، بمعنى أننا لا نعرف القراءة والكتابة، والحساب، وقيل المراد بالحساب حساب النجوم والمنازل والفلك، وذلك باعتبار ما غلب عليهم، وإلّا فقد كان في العرب من يعرف ذلك، ولكنهم قلة " الشهر هكذا وهكذا " يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار بأصابع يديه أولاً ثلاث مرات عقد في الثالثة أصبعاً واحداً يعني تسعة وعشرين يوماً، ثم أشار بأصابع يديه ثانياًً ثلات مرات ولم يعقد شيئاً، يعني ثلاثين يوماً، فبين أن الشهر يكون تسعة وعشرين ويكون ثلاثين يوماً.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن الصيام والإِفطار لا يثبتان كما قال أهل العلم إلاّ بالرؤية، وأما ما نسب إلى الشافعي من أنه. قال: من تبين له من جهة النجوم أن الهلال الليلة وغُمَّ عليه، جاز له أن يُبيته (1) ويجزئه، فقد رده ابن عبد البر، وقال: الذي عندنا في كتبه -أي في كتب الشافعي- أنه لا يصح رمضان إلاّ برؤية أو شهادة عادلة، أو إكمال شعبان ثلاثين يوماً.
الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث جزءاً من الترجمة.
__________
(1) أي جاز له أن ينوي الصيام ليلاً، ويصوم من الغد، ويصح صيامه.(3/210)
595 - " بَاب لا يَتَقَدَّمَنَّ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْم وَلا يَوْمَيْنِ "
691 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لا يَتَقَدَّمَنَّ أحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يوْم أوْ يَوْمَيْنِ إِلَّا أن يَكُونَ رَجُل كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ، فَلْيَصُمْ ذَلِكَ اليَوْمَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
595 - " باب لا يتقدمن رمضان بصوم يوم أو يومين "
691 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين " أي لا يجوز لأحد أن يستقبل رمضان بصيام آخر شعبان، فيصوم قبله يوماً أو يومين، بنية كونهما من رمضان (1) ، لاحتمال كونهما منه، سواء كان الجو صحواً أو غائماً، وإنما ذكر اليومين (2) لأنه قد يحصل الشك في يومين لوجود غيم أو ظلمة في شهرين أو ثلاثة، وإنما، نهى عن ذلك لأن الصيام بنية رمضان قبله مخالفة لحكم الشارع الذي علق الصيام على الرؤية ثم قال: " إلاّ أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم " وهذا استثناء منقطع " معناه " لكن إذا كان للصائم أيّام معتادة يصومها آخر الشهر تطوعاً، أو كان نذراً أو قضاءً فصادف آخر شعبان، فلا مانع من صيامه إذن، لأن ذلك ليس من جنس الصيام المنهي عنه شرعاً. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: كراهية صيام آخر يوم من شعبان المسمى بيوم الشك مطلقاً. سواء صامه وحده أو مع يوم قبله لحديث الباب، ولقول عمار رضي الله عنه: "من صام اليوم الذي يشك
__________
(1) " فتح المبدي " ج 2.
(2) " تحفة الأحوذي " ج 3 المكتبة السلفية.(3/211)
596 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) "
692 - عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
لَمَّا نَزَلَتْ (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) عَمَدْتُ إلى عِقَال أسْوَدَ، وِإلَى عِقَال أبْيَضَ، فَجَعَلْتُهُمَا تحتَ وِسَادَتي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيه فقد عصى أبا القاسم"، قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول (1) سفيان الثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق كرهوا أن يصام اليوم الذي يشك فيه، ورأى أكثرهم أنّه إن صامه وكان من شهر رمضان أن يقضي يوماً مكانه، وعند الحنفية (2) إن ظهر أنّه من رمضان أجزأ عنه. ثانياًً: أنه يجوز صيام يوم الشك في أيّام معتادة أو نذر أو قضاء صادف ذلك اليوم، قال الحافظ: والحكمة في النهي عن صيامه بنية أنه من رمضان أنّ الحكم علق بالرؤية فمن تقدمه بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم (3) .
596 - " باب قول الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) "
692 - معنى الحديث: يقول عدى بن حاتم رضي الله عنه: " لما نزلت (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) عمدت (4) إلى عقال أسود، وإلى عقال أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي " أي
__________
(1) " جامع الترمذي " وتحفة الأحوذي " ج 3.
(2) " فقه السنة " ج 1 دار الفكر.
(3) " فتح الباري " ج 4.
(4) بفتح العين والميم.(3/212)
فجعَلْتُ أنْظُرُ في اللَّيْلِ، فَلا يَسْتَبِينُ لِي، فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: " إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ظننت أن المراد بالخيط الأبيض والأسود معناهما الحقيقي، وأن المقصود بهما حبلان أحدهما أبيض والثاني أسود، وفهمت من الآية أن المسلم لا يزال مفطراً يأكل ويشرب حتى يتجلى النهار، ويظهر له الحبل الأبيض من الحبل الأسود، فأحضرت الحبلين، ووضعتهما تحت وسادتي لأتعرّف منهما على أوّل وقت الصيام، " فجعلت أنظر في الليل " أي فلما طلع الفجر صرت أنظر في الحبلين فلا أميز الأبيض من الأسود، وهو معنى قوله: " فلا يستبين لي " أي لا أعرف هذا من هذا، " فغدوت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فذكرت له ذلك فقال: إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار " أي ليس المقصود بالخيط الأبيض والخيط الأسود حقيقتهما ومعناهما الظاهرى، وإنما المقصود بالخيط الأسود سواد الليل، وبالخيط الأبيض بياض النهار، ونوره وضياؤه، وفي رواية ابن جرير (1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " إذا جاء رمضان فكل واشرب حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر قال ففتلت خيطين من أبيض وأسود فنظرت فيهما عند الفجر، فرأيتهما سواء، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله كل شيء أوصيتني قد حفظت غير الخيط الأبيض من الخيط الأسود، قال: وما منعك يا حاتم، وتبسم، كأنه قد علم ما فعلت، قلت: فتلت خيطين من أبيض وأسود، فنظرت فيهما من الليل فوجدتهما سواء، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى رؤي نواجذه، ثم قال: ألم أقل لك من الفجر إنما هو ضوء النهار وظلمة الليل. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في كون الحديث تفسيراً للآية.
__________
(1) " المنهل العذب " ج 10.(3/213)
597 - " بَابُ بَرَكَةِ السَّحُورِ مِنْ غَيْرِ إِيْجَابٍ "
693 - عن أنس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تَسَحَّرُوا فَإِنَّ في السَّحُورِ بَرَكَةً ".
598 - " بَابُ الصَّائِمِ يُصْبِحُ جُنُبَاً "
694 - عن عَائِشَةَ وأُمِّ سَلَمَةَ رَضي اللهُ عَنْهُمَا:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تفسير الآية الكريمة كما ترجم له البخاري. ثانياًً: على أن الصيام والإِمساك يبدأ من طلوع الفجر.
597 - " باب بركة السحور من غير إيجاب "
693 - معنى الحديث: أن الله أودع في السحور خيراً كثيراً، ونفعاً عظيماً لأنه ينشط البدن، ويقوي الجسم، ويعين على الصيام الذي هو من أفضل القربات وأعظم الطاعات، ولذلك أمر به - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث، ورغب فيه، وبين - صلى الله عليه وسلم - أنه الفارق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب، كما في حديث عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر " (1) أخرجه الخمسة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن السحور سنة مستحبة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به وأقل مقتضيات الأمر الندب، وقد نقل ابن المنذر الإجماع عليه، وبين أنه بركة، وهو ما ترجم له البخاري. الحديث: أخرجه الشيخان والمطابقة: ظاهرة.
598 - " باب الصائم يصبح جنباً "
694 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أحياناً يجامع أهله في ليالي
__________
(1) أيضاًً " المنهل العذب " ج 10.(3/214)
" أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُدْرِكُهُ الفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أهْلِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ ويصُومُ ".
599 - " بَابُ الْمُبَاشَرةِ للصَّائِمِ "
695 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
" كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ أمْلَكَكُمْ لِإرْبِهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رمضان ولا يغتسل بعد جماعه بل يبيت وهو جنب من أهله أي وهو جنب من جماع أهله لا من احتلام، ويطلع عليه الفجر وهو على حال الجنابة، فيصوم، ثم يغتسل ولا يرى في ذلك بأساً. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي بألفاظ مختلفة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنّه يجوز للصائم أن يصبح جنباً كما ترجم له البخاري، وهو مذهب جمهور العلماء والفقهاء، قال النووي: وقد أجمع أهل هذه الأمصار على صحة صوم الجنب، سواء كان من احتلام أو جماع، وبه قال جماهير الصحابة والتابعين، وحكى عن أبي هريرة إبطاله، والصحيح أنّه رجع عنه كما صرح به في رواية مسلم، وحكي عن طاووس وعروة: إن علم بجنابته لم يصح، وعن الحسن البصري أنه يجزئه في صوم التطوع دون الفرض، قال النووي: ثم ارتفع هذا الخلاف وأحمع العلماء بعد هؤلاء على صحته. اهـ. وقال ابن دقيق العيد: صار ذلك إجماعاً أو كالإِجماع (1) . اهـ. والمطابقة: في قوله: " كان يدركه الفجر وهو جنب ".
599 - " باب المباشرة للصائم "
695 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستمتع بنسائه بالتقبيل
__________
(1) " تحفة الأحوذي " ج 3.(3/215)
600 - " بَابُ الصَّائِمِ إِذَا أكَلَ أوْ شَرِبَ ناسياً "
696 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا نَسِيَ فَأكَلَ وَشَرِبَ فَلْيُتمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والملامسة والمعانقة وسائر أنواع المباشرة عدا الجماع وهو صائم، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - كان أقدر على امتلاك نفسه، والسيطرة على شهوته، فهو بالرغم من هذه المباشرة في مأمن من الجماع، وهو معنى قولها: " وكان أملككم لأربه " بفتح الهمزة والراء، على ما رواه أكثر المحدثين أي: لحاجته وشهوته ويروى بكسر الهمزة وسكون الراء، ويطلق على الذكر خاصة. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي وأبو داود وأحمد.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنّه يجوز للصائم المباشرة (1) غير الفاحشة والقبلة إذا أمن على نفسه، أما من لم يأمن على نفسه فإنه يكره له ذلك، كما تكره المباشرة الفاحشة، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وإسحاق، وقال مالك يكره التقبيل (2) إن علمت السلامة، فإذا لم تعلم فهو حرام، وقال الشافعي: تجوز المباشرة والقبلة للشيخ دون الشاب. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً عليها.
600 - " باب الصائم إذا أكل وشرب ناسياً "
656 - معنى الحديث: أن الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً فإن عليه
__________
(1) والمراد بها لمس بشرة الرجل بشرة المرأة والاستمتاع بها بالتقبيل والمعانقة والملامسة والمداعبة، والمباشرة أعم من التقبيل فعطفها عليه من عطف العام على الخاص.
(2) قال النووي: ولا خلاف أن القبلة لا تبطل الصوم إِلا إذا أنزل بها، وقال ابن قدامة: أن قبّل فأنزل أفطر بلا خلاف. اهـ.(3/216)
601 - " بَابٌ إِذَا جَامَعَ في رَمَضَانَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيءٌ فتصُدِّقَ عَلَيْهِ فَلْيُكَفِّره "
697 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
"بَينَما نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أن يتم بقية نهاره، ولا يفسد صومه، ولا يوجب عليه ذلك الأكل أو الشرب إثماً ولا قضاءً، فقد روي عن أبي هريرة أنه نسي صيام أول يوم من رمضان فأصاب طعاماً قال: فذَكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتم صيامك، فإن الله أطعمك وسقاك ولا قضاء عليك " أخرجه الدارقطني، إلاّ أن أحد رواته وهو الحكم بن عبد الله ضعيف الحديث. وإنما لم يترتب على الناسي شيء لأنه أكل وشرب دون إرادته واختياره، وهو معنى قوله: " أطعمه الله وسقاه ".
نسب الإِطعام والإِسقاء إلى الله تعالى، لأن العبد لم يكن له اختيار لنسيانه، فلا يعد إفطاره جناية على صومه. الحديث: أخرجه الستة.
فقه الحديث: استدال به الجمهور على أن من أكل أو شرب ناسياً لا يفسد صومه ولا يلزمه قضاء لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فليتم صومه "، ولا تلزمه كفارة من باب أولى، وقال مالك: يفسد صومه ويلزمه القضاء، ولا إثم عليه ولا كفارة، وحمل المالكية حديث الباب على إسقاط الإثم والمؤاخذة عليه دون القضاء (1) ، ولكن قد جاء التصريح بإسقاط القضاء في حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أفطر في شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة " ذكره الحافظ في " الفتح " وقال فيه: أقل درجات هذا الحديث بهذه الزيادة أن يكون حسناً فيصلح للاحتجاج به. والمطابقة: في قوله: " فليتم صومه ".
601 - " باب إذا جامع في رمضان "
697 - معنى الحديث: أنه بينما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
__________
(1) فقالوا: من أفطر ناسياً فعليه القضاء ولا إثم عليه ولا كفارة، ومن أفطر عامداً فقد أثم وعليه القضاء والكفارة.(3/217)
اللهِ هَلَكْتُ، قَالَ: " مَا لَكَ؟ " قَالَ: وَقَعْتُ على امْرَأتِي وأنَا صَائِم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تَعْتِقُهَا؟ " قَالَ: لا، قَالَ: " فَهَلْ تَسْتَطِيْعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتتَابِعَيْنِ؟ " قالَ: لا، قَالَ: " فَهَلْ تَجِدُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينَاً؟ " قَالَ: لا، فَمَكَثَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فبينا نَحْنُ على ذَلِكَ أُتِيَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعَرَقٍ فيهِ تَمْرٌ، والعَرَقُ المِكْتَلُ، قَالَ: " أينَ السَّائِلُ؟ " فَقَالَ: أنا، قَالَ: " خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ " فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَعَلَى أفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللهِ، فَواللهِ مَا بَيْنَ لابتَيْهَا -يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ- أهلُ بَيْتٍ أفقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيتي، فَضَحِكَ النبي - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ أَنيابُهُ، ثُمَّ قَالَ أطعِمْهُ أهلَكَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مجلسه فوجئوا برجل يدخل عليهم وهو سلمان بن صخر البياضي جاء يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فعلة وقع فيها فقال: هلكت يا رسول الله، أي وقعت في المعصية التي تؤدّي إلى الهلاك، فسأله - صلى الله عليه وسلم - عما وقع له، فأجاب بأنه جامع أهله في رمضان، وفي مرسل ابن المسيب عن سعيد بن منصور أصبت امرأتي ظهراً في رمضان، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هل تملك رقبة " عبداً أو أمة فتعتقه فيكون كفارة لك، أو هل لديك من المال ما تشتري الرقبة فتعتقها قال: لا، " قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين " أي متواليين " قال: لا " وفي رواية للبخاري " قال: لا أقدر " وفي رواية ابن اسحاق: " وهل لقيت ما لقيت إلاّ من الصيام " " قال فهل تجد إطعام ستين مسكيناً، قال: لا " وهكذا ذكر له النبي - صلى الله عليه وسلم - أنواع الكفارة الثلاثة فأجاب بأنه لا يقدر على شيء منها، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجلوس عنده، لينظر في أمره فبينما هو عنده جاء إلى النبي رجل من الأنصار بعرق قال: والعرق المكتل أي الزنبيل(3/218)
الكبير، فسأل عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال له: خذ هذا المكتل من التمر، فتصدق به على ستين مسكيناً يكون كفارة لك، " فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي " أي ليس هناك داخل حدود المدينة التي بين الحرتين من هو أفقر من أهل بيتي، فأنا أولى بهذه الصدقة من غيري، " فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - " من حال هذا الرجل الذي جاءه خائفاً على نفسه راغباً في فدائها، فلما وجد الرخصة طمع أن يأكل ما أُعطيه من الكفارة " ثم قال: أطعمه " أهلك " فأذن له أن يأكل كفارته وأن يتصدق بها نفسه. الحديث: أخرجه الستة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب الكفارة على من جامع في رمضان عامداً وهو قول عامة إلّا ما حكي عن الشعبي وابن جبير والنخعي أن عليه القضاء، أما المجامع ناسياً فلا يفطر ولا كفارة عليه عند الجمهور لمفهوم حديث الباب، وقال أحمد: يفطر وعليه الكفارة، وقال مالك: يفطر وعليه القضاء. والحديث حجة لمن خصص الكفارة بالجماع عمداً لقول السائل " هلكت " أي عصيت الله ولا معصية في النسيان.
واختلفوا في المرأة، فقال مالك وأبو حنيفة عليها القضاء والكفارة، وعن الشافعي قولان وعن أحمد روايتان. ثانياًًً: أن الكفارة تكون بأحد الأنواع الثلاثة على الترتيب وجوباً وهو مذهب الجمهور، خلافاً لمالك وأحمد في رواية، ولا تسقط بالإعسار وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة خلافاً للجمهور والحديث حجة على عدم سقوطها، فإن تكرر الجماع في يوم واحد فالكفارة واحدة إجماعاً وإذا تكرر في يومين أو أيّام فلكل يوم كفارة. ثالثاً: أن من أنواع الكفارة إطعام ستين مسكيناً، لكل مسكين مد (1) عند المالكية والشافعية، وقال أحمد: مدٌّ من بُرّ أو نصف صاع من تمر أو شعير وقالت
__________
(1) " المنهل العذب " ج 10.(3/219)
602 - " بَابُ الْحِجَامَةِ والْقَيءِ لِلصَّائِمِ "
698 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ:
"إِذَا قَاءَ فلا يُفْطِرُ، إِنَّمَا يُخْرِجُ ولا يُوْلِجُ".
699 - عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
"أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ، وهُو مُحْرِم، واحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحنفية: يجب لكل مسكين ما يجب في الفطرة وهو نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير. والمطابقة: في كون الحديث دل على كفارة الجماع وهو ما ترجم له البخاري.
602 - " باب الحجامة والقيء للصائم "
698 - تمهيد: هذا الحديث رواه البخاري موقوفاً على أبي هريرة رضي الله عنه ورواه الأربعة كما قال العيني مرفوعاً من حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً فليقض " إلاّ أن الترمذي قال: إنه حديث حسن غريب (1) لا نعرفه إلاّ من حديث عيسى بن يونس، قال الحافظ في " بلوغ المرام " وقد قواه الدارقطني.
معنى الحديث: أن الصائم إذا غلبه القيء فخرج منه دون اختياره فإنه لا يفسد صومه لأن الصوم إنما يبطل بما يدخل إلى الجوف لا بما خرج منه، وهذا الذي وقع منه القيء " إنما يخرج ولا يولج " أي ولا يدخل شيئاً. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " إذا قاء فلا يفطر ".
699 - معنى الحديث: ظاهر، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم حال إحرامه في حجة الوداع واحتجم حال صيامه أيضاًً. الحديث: أخرجه
__________
(1) " شرح العيني " ج 11.(3/220)
603 - " بَابُ الصَّوْم في السَّفَرِ والإِفْطَار "
700 - عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهَا أن حَمزَةَ بْنَ عَمْروٍ الأسْلَمِيَّ قَالَ للِنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أأصُومُ في السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصَيَّاَمِ، فَقَالَ: " أن شِئْتَ فَصُمْ، وَإنْ شِئْتَ فَأفطِرْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشيخان والترمذي وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: "واحتجم وهو صائم".
فقه الحديثين: دل الحديث الأول على أن من غلبه القيء لا يفسد صومه، ولا قضاء عليه، وقد قام الإجماع على ذلك، أما الاستقاء فإنه مفطر بالإِجماع كما نقله ابن المنذر، ودل الحديث الثاني على جواز الحجامة للصائم، وهو مذهب الجمهور. والحديث دليل على نسخ الفطر بالحجامة، لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة.
603 - " باب الصوم في السفر والإفطار "
700 - معنى الحديث: أن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل أصوم رمضان في السفر أو أفطر فخيره النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الصيام والإِفطار معاً، قال له: " إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر "، أي فيجوز لك هذا وهذا. قال ابن دقيق العيد: ليس فيه تصريح بأنه صوم رمضان، أي لم يصرح في حديث الباب أنه سأله عن صوم رمضان، فلا يكون فيه حجة على من منع صيام رمضان في السفر. وهذا صحيح بالنسبة إلى حديث الباب ولكن ورد التصريح بأنه سأله عن صوم رمضان في رواية أخرى حيث قال: " قلت يا رسول الله إني صاحب ظهر أعالجه أسافر عليه وأكرمه وأنه ربما صادفني هذا الشهر يعني رمضان، وأنا أجد القوة، وأنا شاب، فأجد بأن أصرم يا رسول الله أهون علي من أن أأخره فيكون ديناً،(3/221)
أفأصوم أعظم لأجري أم أفطر؟ قال: " أي ذلك شئت يا حمزة " أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي. الحديث: أخرجه أيضاًً الجماعة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث كما قال النووي على أن الصوم والفطر جائزان (1) في السفر لقوله - صلى الله عليه وسلم - للسائل: " إن شئت فصم وإن شئت فأفطر " وأما احتمال أن يكون ذلك في غير صوم رمضان فإنه قد انتفى بالرواية الأخرى التي جاء فيها النص الصريح على أنّه سأله عن رمضان، حيث قال في سؤاله: ربما صادفني هذا الشهر -يعني رمضان- كما تقدم في الشرح، ولهذا قال الجمهور يجوز في السفر صوم رمضان وإفطاره معاً لحديث الباب، والصوم أفضل لمن يقوى عليه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وابن رواحة صاما مع مشقة السفر وشدة الحرارة، كما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: " خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره في يوم حار، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلاّ ما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - وابن رواحة " أخرجه الشيخان وأبو داود، فالحديث دليل على أن الصيام في السفر أفضل لمن قوي عليه والإِفطار أفضل لمن لم يقو عليه، ولا يقال: إن ذلك كان تطوعاً لما في رواية أخرى عن أبي الدرداء قال فيها: " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته في شهر رمضان في حر شديد " وقال بعض الظاهرية والشيعة: لا يجوز الصوم في السفر ولا يصح لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس من البر الصيام في السفر " أخرجه الشيخان وأبو داود والبيهقي وحمل الشافعي نفي البر فيه على من أبى قبول الرخصة عند الشدة والمشقة وعدم القدرة على الصوم، وقال أحمد والأوزاعي: يجوز الأمران والفطر أفضل عملاً بالرخصة، كما في الحديث " إن الله يجب أن تؤتي رخصة " والمطابقة: في قوله: " إن شئت فصم وإن شئت فافطر".
__________
(1) أي إن صوم رمضان وفطره جائزان في السفر.(3/222)
604 - " بَابٌ مَنْ مَات وعَلَيْهِ صَوْمٌ "
701 - عن عَائِشَةَ رَضي اللهُ عَنْهَا:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ مَاتَ وَعَليْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُْ وَلِيُّهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
604 - " باب من مات وعليه صوم "
701 - معنى الحديث: أن من لم يصم رمضان أو أياماً منه لعذر من الأعذار الشرعية، ثم مات ولم يقض ما عليه من صوم ذلك الشهر أو أيام منه، فإنه يجوز لقريبه أن يصوم عنه، ويصح صيامه عنه، ويجزؤه، ويسقط عن الميت ذلك الفرض الذي عليه، يكون قضاؤه عنه بمنزلة قضائه هو عن نفسه كما جاء ذلك موضحاً في حديث، ابن عباس رضي الله عنهما، قال: " جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنّ أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: نعم، فدين الله أحق أن يُقضى " أخرجه الستة، فقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - قضاء الصوم عن الميت بمنزلة قضاء الدين عنه، وقاسه عليه قياساً أولوياً، حيث قال: " فدين الله أحق أن يقضى ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز قضاء الصوم عن الميت بالصوم عنه، وهو مذهب الشافعي القديم (1) ، وصوبه النووي، وقال الجمهور لا يصوم عنه وإنما يطعم عنه. والمطابقة: في قوله: " صام عنه وليه ".
__________
(1) وعند الإمام أحمد لا يصام عن الميت إلا في النذر، لقول سعد بن عبادة: " يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها نذر ". فقيده بالنذر. (ع) .(3/223)
702 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
جَاءَ رَجُلٌ إِلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أمِّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أفأقْضِيَهِ عَنْهَا؟ قَالَ: " نَعَمْ فَدَيْنُ اللهِ أحَقُّ أن يُقْضَى ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
702 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر " أي وفي ذمتها صوم شهر واجب عليها لم تصمه، يحتمل أنه من رمضان أو غيره، ويحتمل أنه نذر فقد جاء في رواية أخرى أنه قال: " وعليها صوم نذر " " أفأقضيه عنها " أي هل يجزىء القضاء عنها؟ وهل إذا صمت بدلاً عنها ينفعها ذلك ويسقط عنها الصوم الذي لم تصمه؟ " قال: نعم " اقض عنها صومها، فإنك إن فعلت ذلك سقط عنها، ثم ضرب له النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك مثلاً بالدين وقضائه عن الميت، فقال - كما في رواية مسلم: " لو كان على أمّك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال: نعم " " قال: فدين الله أحق أن يقضى " أي إذا كان دين الناس يمكن قضاؤه ويجزى عن الميت فدين الله الذي هو الصوم أولى بالقضاء وقبوله. قال العيني: تقدير الكلام حق العبد يقضى فحق الله أحق. الحديث: أخرجه الستة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز قضاء الصوم عن الميت، وقبوله عنه، وانتفاعه بذلك الصوم، وقد تقدم شرحه. ثانياًً: ترغيب أقارب الميت وحثُّهم على قضاء الحقوق التي عليه سواء كانت من حقوق الله كالصوم والحج وغيره، أو من حقوق الناس كالديون، لأن الرجلَ عندما سأل عن قضاء الصوم عن أمه قال: نعم، فحثه على قضائه، ثم ضرب له مثلاً بقضاء الديون عن الميت، وفيه ترغيب في قضائه، وقد قيده الإِمام أحمد بالنذر. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم ".(3/224)
605 - "بَابٌ مَتَى يَحِلُّ فِطْرُ الصَّائِمِ؟ "
703 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِذَا أقْبَلَ اللَّيْلُ منْ هَا هُنَا، وأدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا، وَغَرَبتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أفْطر الصَّائم ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
605 - " باب متى يحل فطر الصائم "
703 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس " أي إذا جاء الليل (1) من جهة المشرق، وذهب النهار (2) من جهة المغرب، وغابت شمس ذلك اليوم بسقوطها في الأفق، " فقد أفطر الصائم " أي، فقد حان وقت الإِفطار من الصوم، قال ابن خزيمة: لفظهُ خبر، ومعناه الأمر، أي فليفطر الصائم.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الإِفطار من الصوم عند غروب الشمس، وأن غروبها يتحقق بأحد أمور ثلاثة يُعْرَفُ انقضاء النهار برؤية بعضها (3) ، وهي رؤية ظلام الليل بالمشرق، وذهاب ضوء النهار بالمغرب، ومشاهدة مغيب الشمس، ورؤية قرصها يحتجب وراء الأفق وهو أقواها ولا يحتاج بعده لدليل آخر. ثانياًً: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - للصائمين بالإِفطار فوراً عند غروب الشمس مباشرة، وهذا يدل على استحباب تعجيل الفطر، وسيأتي بيانه. والمطابقة: في كون الحديث جواباً للترجمة. الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة.
__________
(1) أي جاءت ظلمة الليل.
(2) أي وذهب ضوء النهار.
(3) " شرح العيني على البخاري " ج 11.(3/225)
606 - " بَابُ تعْجِيلِ الإِفْطَارِ "
704 - عَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا:
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لا يَزَالُ النَّاس بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطر ".
607 - " بَاب إِذا أفْطَرَ في رَمَضَانَ ثُمَّ طَلعَتِ الشَّمْسُ "
705 - عَنْ أسْمَاءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ:
"أفْطرنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ غَيْم ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ قِيلَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
606 - " باب تعجيل الإِفطار "
704 - معنى الحديث: يحدثنا سهل بن سعد رضي الله عنهما " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يزال الناس بخير " أي لا يزال المسلمون على خير وحق وهدى من الله متمسكين بسنة نبيهم، واقفين عند حدوده، غير مبدلين ولا مغيّرين " ما عجلوا الفطر " أي مدة تعجيلهم بالإفطار من صومهم عند غروب شمس يومهم مباشرة، لما في ذلك من المبادرة إلى قبول الرخصة من الله تعالى. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب تعجيل الفطر عند تحقق غروب الشمس مباشرة، لئلا يزاد في النهار من الليل، ولأنه أرفق بالصائم وأقوى في قبول الرخصة، وشكر النعمة. قال الشافعي في " الأم " تعجيل الفطر مستحب، ولا يكره تأخيره إلاّ لمن تعمد ذلك، ورأى الفضل فيه. والمطابقة: في تعليق الخير وارتباطه بتعجيل الفطر.
607 - " باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس "
705 - معنى الحديث: تقول أسماء رضي الله عنها: "أفطرنا على(3/226)
لِهِشَام: أفَأمِرُوا بِالْقَضَاء؟ قَال: لَا بُدَّ مِنْ قَضاءٍ".
608 - " بَابُ التَّنكِيلِ لِمَنْ أكْثرَ الْوِصَالَ "
706 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
نَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنِ الوِصَالِ في الصَّوْمِ، فَقَالَ لَهُ رَجُل مِنَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عهد النبي يوم غيْم" أي احتجبت الشمس بالغيوم فظنوا أنّه قد غربت الشمس لانتشار الظلام فأفطروا، " ثم طلعت الشمس " أي ثم انكشف السحاب وظهرت الشمس فعلمنا أننا أفطرنا قبل الغروب، " قيل لهشام " أي فسئل هشام " فأمروا بالقضاء " أي: هل أمروا بقضاء ذلك اليوم؟ " قال: لا بد من قضاء " أي نعم أمروا بالقضاء ولا سبيل لتركه. الحديث: أخرجه أيضاًً أبو داود وابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من أفطر قبل الغروب ظناً منه أنّ الشمس قد غربت يجب عليه القضاء دون الكفارة، وهو مذهب الجمهور حيث قالوا: يمسك بقية يومه، ويقضي يوماً آخر مكانه، وعن شعيب بن عمرو الأنصاري قال: أفطرنا أنا وأبي مع صهيب في شهر رمضان في يوم غيم فبينما نحن نتعشى إذ طلعت الشمس، فقال صهيب: طعمة الله أتموا صيامكم واقضوا يوماً مكانه، وروي ابن أبي شيبة عن عمر ترك القضاء مكانه. والمطابقة: في كون الحديث جواباً للترجمة.
608 - " باب التنكيل لمن أكثر الوصال "
706 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال " أي نهى أمته رحمة ورفقاً بهم عن مواصلة الصوم يومين بترك الطعام ليلاً ونهاراً قصداً وعمداً فإن أمسك اتفاقاً فلا يعد وصالاً "فقال له رجل:(3/227)
الْمُسْلِمينَ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: " وأيكُمْ مِثْلِي إِنِّي أبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ " فَلَمَّا أبَواْ أنْ يَنْتَهُوا عن الْوِصَالِ، وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمَاً ثُمَّ يَوْماً، ثمَّ رَأوا الْهِلالَ فَقَالَ: " لَوْ تَأخرَ لَزِدْتُكُمْ " كالتنكِيل لَهُمْ حِينَ أبوا أن يَنْتَهُوا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إنك تواصل" أي فكيف تنهانا عن شيء تفعله وقد أمرتنا باتباع سنتك؟ " قال: وأيكم مثلي؟ " وهو استفهام بمعنى النفي، أي ليس الأمر كما تظنون، فإن الوصال لم يشرع لكم، وإنما هو خصوصية من خصوصيات نبيكم، فلا تقيسوا أنفسكم عليَّ، فإنكم لستم مثلي، ولا تقدرون على ما أقدر عليه، وفي رواية " إني لست كهيئتكم " " إني أبيت يطعمني ربي ويسقين " أثناء الليل ويمدني بالطعام والشراب فيه، أو يعطيني قوة الأكل والشرب فيه، وبذلك يمكنني من مواصلة الصيام دون إعياء، ويُحتمل أنه أراد به حقيقة الأكل والشرب. وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله تعالى كرامة له في ليالي صيامه، ولا يقال إن هذا الاحتمال يضعفه قولهم: إنك تواصل، وكونه يؤتى بالطعام والشراب ليلاً ينافي الوصال، لأنّ هذا الإِطعام والاسقاء من باب الكرامة، ولا تجري عليه أحكام المكلفين. " قال " " فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال " أي تمادوا عليه " واصل بهم " أي استمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم على مواصلة الصوم يومين " ثم رأوا الهلال " أي هلال شوال، " فقال - صلى الله عليه وسلم -: لو تأخر لزدتكم " أي ليته تأخر هلال شوال حتى أزيد في عدد أيام الوصال، " كالتنكيل لهم " أي قال ذلك زجراً وتأديباً لهم، حيث كلفوا أنفسهم ما لا يطيقون، ولذلك قال لهم كما في رواية أخرى: " فاكْلَفُوا من العمل ما تطيقون ". الحديث: أخرجه الشيخان.
ويستفاد منه: كراهية الوصال، وهو مذهب الجمهور حيث حملوا النهي(3/228)
609 - " بَابُ صَوْمِ شَعْبَانَ "
707 - عن عَائِشَةَ رَضي اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لا يُفْطرُ، وَيُفْطِرُ حتى نَقوْلَ لا يَصُومُ، فما رَأيتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَكْمَلَ صيامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأيتُهُ أكْثَرَ صِياماً مِنْهُ في شَعْبَانَ ".
610 - " بَابُ حَقِّ الْجِسْمِ في الصَّوْمِ "
758 - عَنْ عَبْدِ الله بْن عَمْرِو بْنِ العَاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَال:
قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يَا عَبْدَ اللهِ ألمْ أُخْبَرْ أنكَ تَصُومُ النَّهَارَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على الكراهة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - واصل بالصحابة كما في حديث الباب، ولو كان حراماً لما واصل بهم، ذهب ابن حزم إلى أن النهي للتحريم، وصححه ابن العربي من المالكية. والمطابقة: في قوله: " كالمنكل لهم ".
609 - " باب صوم شعبان "
707 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم أحياناً أياماً كثيرة من الشهر حتى نظن أنه سيصوم الشهر كله، أحياناً يفطر أياماً كثيرة حتى نظن أنه لن يصوم منه شيئاً، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصم شهراً كاملاً سوى رمضان، وما رأيته صام في شهر من السنة أكثر من شعبان " باستثناء رمضان طبعاً " الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه يستحب الإكثار من الصوم في شعبان. والمطابقة: في قولها: " وما رأيته أكثر منه صياماً في شعبان ".
610 - " باب حق الجسم في الصوم "
708 - معنى الحديث: أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يصوم(3/229)
وَتَقُومُ اللَّيْلَ" فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ وأفْطِرْ، وَقُمْ ونَمْ، فَإِنْ لِجَسَدِكَ عَلَيكَ حَقَّاً، وِإنْ لِعَيْنكَ عَلَيْكَ حَقاً، وِإنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيكَ حَقَّاً، وِإنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقَّاً، وِإن بحسبك أن تَصُومَ من كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أيَّام، فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أمْثَالِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ " فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَليَّ، قْلْتُ: يا رسُولَ اللهِ إني أجِدُ قوةً، قَالَ: " فَصُمْ صِيَامَ نِبِّي اللهِ دَاوُدَ عَلَيه السَّلامُ، ولا تَزِدْ " قُلت: وَمَا كَانَ صِيَام نَبيِّ اللهِ دَاود؟ قَالَ: " نِصْفَ الدَّهْرِ " وكان عَبْدُ اللهِ يَقُولُ بَعْدَمَا كَبِرَ: يَا لَيْتَنِى قَبِلْت رخْصَةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ".
__________
الدهر ويقوم الليل كله، وكان أبوه قد زوجه بامرأة ذات حسب، وكان يتعاهدها فيسألها عن زوجها، فتقول، نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفاً كناية عن أنه لا يباشرها، وذلك لانشغاله طول حياته بالصيام والقيام، فذهب أبوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بحاله، فاستدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: لقد سمعت وأُخبرت بأنك تصوم الدهر وتقوم الليل كله، قال: نعم، فعلت ذلك، فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، لأن الله قد أوجب عليه حقوقاً جسمية واجتماعية لا بد أن يؤديها، فحق الجسم أن يعطيه نصيبه من النوم والراحة، وحق الزوجة أن يجعل لها وقتاً لمعاشرتها ومباشرتها، وحق الزائر أو الضيف أن يستقبله ويكرمه، ويؤانسه فإذا أعطى للعبادة وقته كله قصر في أداء هذه الحقوق الأخرى، وهي واجبة، ولذلك نصحه أن يقتصر في الصوم على صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وله عن كل حسنة عشر أمثالها، فالثلاثة الأيام تحسب عند الله ثلاثين يوماً، فيكون قد صام الدهر والأيام كلها، فقال عبد الله: إني أستطيع أكثر من ذلك، فقال له النبي: صم صيام داود عليه السلام، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وأثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا النوع(3/230)
611 - " بَاب مَنْ زارَ قَوْماً لَمْ يُفطِرْ عِنْدَهُمْ "
709 - عن أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
دَخَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أمِّ سُلَيم فأتَتْهُ بِتَمرٍ وَسَمْن، قَالَ: " اعِيدُوا سَمْنَكُمْ في سِقَائِهِ، وتَمْرَكُمْ في وعَائِهِ فإِنِّي صَائِمٌ "، ثُمَّ قَامَ إلى نَاحِيَةٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من الصيام فقال كما في رواية أخرى: " وهو أعدل الصيام، قال فقلت إني أطيق أفضل من ذلك: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا أفضل من ذلك " (1) أخرجه الستة وإنما وصفه - صلى الله عليه وسلم - بالأفضلية لأنّه يمكن صاحبه من أداء حق الله وحق نفسه وحق المجتمع عليه. والمطابقة: في قوله: " إن لجسدك عليك حقاً ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن الواجب على المسلم أن يراعي في صيام التطوع جسمه ونفسه، ولا يسترسل في الصيام فَيُقْصِّرُ في حقوق أخرى دينية ونفسية واجتماعية ولهذا رغبه - صلى الله عليه وسلم - أن يقتصد في صيامه وقيامه، وبين له أن أفضل الصيام وأعدله صيام داود، ويليه صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وقد تبين لعبد الله بن عمرو قدر هذه النصيحة الغالية عندما كبر سنه، ووهن جسمه، وعجز عن الصيام الذي كان يصومه والقيام الذي كان يقومه أثناء شبابه، وتمنى لو قبل رخصة النبي - صلى الله عليه وسلم - واستجاب لنصيحته. الحديث: أخرجه الستة إلا الترمذي بألفاظ.
611 - " باب، من زار قوماً فلم يفطر عندهم "
709 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زار يوماً أم سليم، فقدمت له طعاماً من سمن وتمر تكريماً له، فاعتذر لها أنه كان صائماً صيام تطوع، ثم تنحى إلى جهة من البيت فصلى ركعتين تطوعاً، ودعا لها ولأهل بيتها،
__________
(1) " سنن أبي داود وشرحه المنهل العذب " ج 10.(3/231)
مِنَ البيتِ فَصَلَّى غَيرَ المَكْتُوبَةِ، فَدَعَا لأم سُلَيمْ وأهْلِ بَيْتهَا، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْم: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّ لي خُوَيْصةً، قَالَ: " مَا هِيَ؟ " قَالَتْ: خَادِمُكَ أَنَسٌ فما تَرَكَ خَيْرَ آخِرَةٍ وَلا دُنيا إِلَّا دَعَا لي بِهِ، قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: " اللهُمَّ ارْزُقْهُ مالاً، وَوَلَداً وَبَارِكْ لَهُ " فإِنِّي لَمِنْ أكْثَرِ الأنصَارِ مَالاً، وَحَدَّثَتْنِي ابْنتِي أمَيْنَةُ أنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِي مَقْدَمَ الحَجَّاجِ بِضْع وَعِشْرُونَ وَمِائَة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقالت يا رسول الله: لي إليك حاجة خاصة أسألك قضاءها، فسألها عن حاجتها، فقالت له: " خادمك أنس " تريد استعطافه عليه، ثم سألته أن يدعو له، فدعا له - صلى الله عليه وسلم - دعاء يجمع بين خير الدنيا والآخرة فقال: " اللهم ارزق مالاً وولداً، وبارك له " وفي رواية ابن سعد: " اللهم أكثر ماله وولده، وأطل عمره واغفر ذنبه " " قال: فإني لمن أكثر الأنصار مالاً وحدثتني ابنتي أمينة أنه دفن لصلبي مقدم الحجاج " أي عند قدوم الحجاج إلى البصرة، وذلك سنة خمس وسبعين " بضع وعشرون ومائة " هؤلاء الذين ماتوا من أولاده، وأما الذين بقوا ففي رواية اسحق بن أبي طلحة عن أنس " أن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة " ولهذا قال رضي الله عنه: " فدعا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاث دعوات، قد رأيت منها اثنتين، وأنا أرجو الثالثة في الآخرة " (1) أخرجه مسلم، ولم يبين الثالثة وهي المغفرة كما تقدم لنا في حديث ابن سعد.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنّ الصائم المتطوع إذا حلّ ضيفاً على أحد، فقدم له طعام له أن يفطر، وله أن يستمر بالصوم، وإنما يندب ويستحب له أن يصلي ويدعو لهم، فإن أفطر فعليه القضاء كما قال مالك
__________
(1) " فتح الباري " ج 4.(3/232)
612 - " بَاب صوْم الْجمعَةِ فَإذَا أصْبَحَ صَائِمَاً يَوْمَ الْجُمُعَةِ فعَلَيْهِ أن يفْطِرَ "
710 - عن جوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ (1) رَضِيَ الله عَنْهَا:
" أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهي صَائِمَة، فَقَالَ: أصُمْتِ أمْسِ؟ قَالَتْ: لا، قَالَ: ترِيدينَ أنْ تَصومِي غَداً؟ قَالَتْ: لا، قَالَ: فأفْطرِي ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأبو حنيفة، خلافاً لغيرهم. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة.
612 - " باب صوم الجمعة، فإذا أصبح صائماً يوم الجمعة فعليه أن يفطر "
710 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل يوم الجمعة على أم المؤمنين جويرية بنت الحارث، رضي الله عنها وهي صائمة صيام تطوع، فسألها ْهل صمت يوماً قبله؟ قالت: لا، قال: تريدين أن تصومي اليوم الذي بعده؟ قالت: لا، فأمرها - صلى الله عليه وسلم - بالإِفطار، لأن إفراد يوم الجمعة وتخصيصه بالصيام منهي عنه شرعاً، كما في حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلّا أن يصوم قبله أو يصوم بعده" أخرجه الشيخان وأحمد وابن ماجة والحاكم والبيهقي والترمذي، والحكمة في النهي عن صيامه وحده على أرجح الأقوال، كونه يوم عيد والعيد لا يصام كما جاء مصرحاً بذلك
__________
(1) جويرية: هي أم المؤمنين جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، سباها النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق، وكانت قبله تحت مسافح بن صفوان المصطلقي، وقعت في سهم ثابت بن قيس، فكاتبها، فقضى عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أعتقها وتزوجها، وكان اسمها برة، فغيره النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماها جويرية. ماتت في ربيع الأول سنة ست وخمسين ولها خمس وستون سنة.(3/233)
711 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لا يَصُومَنَّ أحَدكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ إلَّا يَوْماً قَبْلَهُ أوْ بَعْدَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في رواية أخرى عن أبي هريرة مرفوعاً: " يوم الجمعة يوم عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، إلا أن تصوموا قبله أو بعده " (1) أخرجه الحاكم.
الحديث: أخرجه أيضاًً أحمد وأبو داود (2) مطابقة الحديث للترجمة: في قوله: " فأفطري ".
711 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة: " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يصومن " بنون التوكيد، وفي رواية لا يصوم بدون نون، وهو نَفْي المراد به النهي لا يصومن " أحدكم يوم الجمعة إلاّ يوماً قبله أو بعده " أي لا يجوز لأحد من المسلمين سواء كان ذكراً أو أنثى أن يصوم يوم الجمعة تطوعاً إلاّ أن يصوم (3) يوماً قبله أو يوماً بعده، وقد ورد الحديث بلفظ النهي الصريح في رواية أخرى حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلّا أن يصوم قبله أو يصوم بعده " أخرجه مسلم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجة. مطابقة الحديث للترجمة: في كونه دليلاً عليها.
فقه الحديثين: دل الحديثان على ما يأتي: أولاً: أنه لا يجوز إفراد يوم الجمعة وحده بالصيام، لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى المسلمين عن صومه إلاّ إن يصوموا يوماً قبله أو بعده، وأمر جويرية بالإِفطار حين أفردته بالصوم، وقد ورد النهي الصريح عن تخصيصه بالصوم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه حيث
__________
(1) " تحفة الأحوذي " ج 3.
(2) أيضاًً " تحفة الأحوذي " ج 3.
(3) أي إلا بشرط أن يصوم يوم الخميس قبله أو يوم السبت بعده.(3/234)
613 - " "بَابٌ هَلْ يَخُصُّ شيئاً مِنَ الأيَّامِ "
712 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا:
" أنَّهَا سُئِلَتْ هَلْ كانَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخُصُّ مِنَ الأيَّامِ شَيْئاً؟ قَالَتْ: لا، كَانَ - صلى الله عليه وسلم - عَمَلُهُ دِيمَةً، وأيُّكُمْ يُطِيقُ مَاَ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُطِيقُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا يوم الجمعة بصوم من بين الأيّام إلاّ أن يكون، في صوم يصومه أحدكم " أخرجه مسلم، ولهذا ذهب ابن حزم إلى تحريم صيامه وحده، وقال الشافعية والحنابلة يكره، وقال مالك وأبو حنيفة: يجوز صومه مطلقاً، لما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: " أنه - صلى الله عليه وسلم - قلما كان يفطر يوم الجمعة " أخرجه الترمذي (1) ، وقال مالك في " الموطأ ": لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه ومن يقتدي به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن. اهـ.
613 - " باب هل يَخصُّ شيئاً من الأيّام "
أي هذا باب نذكر فيه هل من المشروع أن يخص الشخص شيئاً من الأيّام بالصيام، ويواظب عليه دائماً، ويلتزم به التزامه بالفرائض بحيث لا يتركه أبداً أم لا؟
712 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها " سئلت " أي سألها علقمة راوي الحديث، فقال لها: " هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخص من الأيّام شيئاً؟ قالت: لا " قال العيني: معناه، أنه كان - صلى الله عليه وسلم - لا يخصُّ شيئاً من الأيام دائماً، ولا راتباً، إلاّ أنه كان أكثر صيامه في شعبان وقد
__________
(1) قال الحافظ: وليس بحجة، لأنه يحتمل أن يريد كان لا يتعمد فطره إذا وقع في الأيام التي كان يصومها، ولا يضاد ذلك كراهة إفراده بالصوم جمعاً بين الحديثين. (ع) .(3/235)
614 - " بَابُ صَوْمِ يَوْمِ الفِطْرِ "
713 - عَنْ أبي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنَ أزْهَرَ قَالَ:
شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهَُ عَنْهُ فَقَالَ: "هَذَانِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَضَّ على صوم الإِثنين والخميس، لكن صومه على حسب نشاطه، فربما وافق الأيام التي رغب، وربما لم يوافقها " كان عمله ديمه " بكسر الدال وسكون الياء، أي دائماً لا ينقطع، ومن ذلك قيل للمطر الذي يدوم ولا ينقطع أياماً الديمة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: ظاهر هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يخص بعض الأيام من الشهر بالصيام، قال الشرقاوي: ويشكل عليه (1) صوم الاثنين والخميس الوارد عند أبي داود والترمذي والنسائي، وصححه ابن حبان، وأجاب في " فتح الباري " باحتمال أن يكون المراد بالأيّام المسؤول عنها الثلاثة من كل شهر، فكان السائل لم سمع أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم ثلاثة أيام سأل عائشة هل كان يخصها بالبيض قالت: لا. " ويحتمل " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يواظب على صيام شيء من الأيام دائماً وأبداً، أو يلتزم بصيامه التزام الفرائض، بحيث لا يتركه أبداً، وإنما كان يصوم بعض الأيّام غالباً، ويترك صيامه أحياناً وهو ما أشار إليه العيني. ثانياًًً: استدل به بعض أهل العلم على أنّه يكره أن يتحرى بصيامه يوماً معيناً من الأسبوع قلت: ولكن يستثنى من ذلك الاثنين والخميس، لورود النص فيها. والمطابقة: في كون الحديث جواباً للترجمة.
614 - " باب صوم يوم الفطر "
أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على حكم صيام اليوم الأوّل
__________
(1) " فتح المبدي شرح مختصر البخاري " للزبيدي ج 2.(3/236)
يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صِيَامِهِمَا، يَوْمُ فِطركُمُ مِنْ صِيَامِكُمْ، واليَوْمُ الآخَرُ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ".
615 - " بَابُ صِيَامَ أَيام التَّشْرِيقَ "
714 - عَنْ عَائِشَةَ وابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ قَالا:
" لَمْ يُرَخِّصِ في أيَّامِ التَّشْرِيقِ أنْ يُصَمْنَ إلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من عيد الفطر، قال العيني: ولم يصرح بالحكم اكتفاءً بالحديث.
713 - معنى الحديث: يقول أبو عبيد مولى ابن أزهر. " شهدت العيد " أي حضرت صلاة عيد الأضحى، لما جاء في الرواية الأخرى " يوم الأضحى " " مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: " أي قال في خطبته كما يدل عليه السياق " هذان يومان نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيامهما " نَهيَ تحريم " يوم فطركم من صيامكم واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم " أي واليومان اللذان حرم عليكم صومهما أحدهما يوم عيد الفطر " وثانيهما " اليوم الأول من أيام عيد النحر الذي تأكلون فيه من ضحاياكم. الحديث: أخرجه الستة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم صومهما يوم الفطر ويوم الأضحى، لأن الأول منهما هو اليوم الذي يفطر فيه الناس، من صيامهم، فيجب عليهم إفطاره، ويحرم عليهم صيامه، وأمّا الثاني فيحرم صيامه لأن الله قد شرع للناس ضحاياهم، وسن لهم نبيه - صلى الله عليه وسلم - الأكل منها في هذا اليوم، فكيف يعارضون ذلك بالصوم. والمطابقة: في قوله: " هذان يومان نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيامهما ".
615 - " باب صيام أيام التشريق "
أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على حكم صيام أيام التشريق(3/237)
616 - " بَابُ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ "
715 - عنِ ابْنِ عَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
"قَدِمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الْمَدينَةَ، فَرَأى اليَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
استناداً إلى ما يذكر في الحديث.
714 - معنى الحديث: تقول عائشة وابن عمر رضي الله عنهم:
" لم يرخص في أيام التشريق أن يُصَمْنَ " أي لم يأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد من المسلمين ذكراً أو أنثى في صيام أيام التشريق " وهي الثلاثة الأيام التي تلي يوم النحر " " إلاّ لمن لم يجد الهدي " أي لم يأذن في صيامهما إلاّ لمتمتع أو قارن لم يقدر على هدي النُّسُك، ولم يستطع الذبح، فإن له أن يصوم أيام التشريق ضمن الأيام العشرة التي عليه لقوله تعالى: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) . الحديث: أخرجه البخاري.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه لا يجوز صيام أيّام التشريق إلّا لمتمتع لم يجد الهدي، ولم يصم الثلاثة الأيام في عشر ذي الحجة، فيجوز له صيامها ضمن العشرة التي عليه، وهو مذهب مالك والأوزاعي والشافعي في القديم. وقال أبو حنيفة: لا يجوز صيامها مطلقاً: وهو مشهور مذهب الشافعية لحديث سعد بن أبي وقاص، قال: " أمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أنادي أيام منى أنها أيام أكل وشرب ولا صوم فيها " أخرجه أحمد. وأجاز أصحاب الشافعي صيامها فيما له سبب من نذر أو كفارة أو قضاء، وهو نظير الأوقات المنهي عنها. اهـ. كما نقله المحاملي والسرخسي. والمطابقة: في قوله: " لم يرخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في أيام التشريق ".
616 - " باب صيام يوم عاشوراء "
715 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "قدم(3/238)
مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هذَا يَوْم نَجى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى: قَالَ: فَأنَا أحَقُّ بموسى (1) مِنْكُمْ، فَصَامَهُ وَأمَرَ بِصِيَامِهِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء" أي لما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من محرم " فقال: ما هذا؟ " أي فسأل عن سبب صيامهم لهذا اليوم، " قالوا: هذا يوم صالح "، أي هذا يوم مبارك مليء بالأحداث والذكريات التاريخية العظيمة أنعم الله علينا فيه بنعمة كبرى حيث " نجّى الله بني إسرائيل " في هذا اليوم " من عدوهم ": فرعون وقومه، فأغرقهم في البحر، كما قال تعالى في سورة الشعراء: (وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ) " فصامه موسى " وفي رواية مسلم: " فصامه موسى شكراً لله تعالى " وفي رواية أبي داود " ونحن نصومه تعظيماً له " " فصامه " النبي - صلى الله عليه وسلم - شكراً لله تعالى على نجاة موسى من الغرق ومن عدوه " وأمر بصيامه ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فصامه وأمر بصيامه ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على فضل يوم عاشوراء، وأنه يوم مبارك يُسَنُّ صيامه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صامه وأمر بصيامه، وأقل مقتضيات الأمر السنية والاستحباب وعن أبي قتادة رضي الله عنه مرفوعاً: " صيام يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفّر السنة التي قبله " أخرجه مسلم.
***
__________
(1) أي أنا أقرب إلى موسى منكم.(3/239)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب صلاة التراويح "
وصلاة التراويح: إنما سميت بذلك لأنهم كانوا يستريحون بين كل تسليمتين، وأطلق عليها ذلك في عصر الخلفاء الراشدين، وقد كانت تعرف في عصر النبوة بقيام الليل. قال في " فقه السنة ": قيام رمضان أو صلاة التراويح سنة للرجال والنساء، تؤدَّى بعد صلاة العشاء، وقبل الوتر ركعتين ركعتين، وليس في القراءة فيها شيء محدود، وقد ورد عن السلف أنهم كانوا يقرأون المئين، ويعتمدون على العصي من طول القيام، ولا ينصرفون إلاّ قبل بزوغ الفجر، فيستعجلون الخدم بالطعام مخافة أن يطَّلع عليهم، وكانوا يقرأون بسورة البقرة في ثماني ركعات. وقال أحمد: يقرأ بالقوم في شهر رمضان ما يخفّ على الناس ولا يشق عليهم، وقال القاضي: لا يستحب النقصان عن ختمة ليسمع الناس جميع القرآن، ولا يزيد على ختمة كراهية المشقة عليهم. أما عدد ركعاتها التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصليها فقد قالت في أصح الروايات عنها " كان يصلي عشر ركعات، ويوتر بسجدة، ويركع ركعتي الفجر، فتلك ثلاث عشرة " أخرجه مسلم فإذا استثنينا الوتر وركعتي الفجر، يكون ما يصليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثماني أو عشر ركعات. وأما ما رواه ابن أبي شيبة من أنه كان يصلي عشرين ركعة فإسناده ضعيف (1) . وهكذا كان القيام على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما كان عهد عمر وعثمان صاروا يصلونها عشرين ركعة كما في
__________
(1) " المنهل العذب " ج 7.(3/240)
617 - " بَابُ فضلِ قِيامِ رَمَضَانَ "
716 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، فَتُوفِّيَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والأمْرُ عَلَى ذَلِكَ، ثمَّ كَانَ الأمْرُ عَلَى ذَلِكَ في خِلافَةِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ، وَصَدْراً مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حديث السائب بن يزيد، قال: " كانوا يقومون على عهد عمر بعشرين ركعة، وعلى عهد عثمان وعلي مثله "، قال الترمذي: وأكثر أهل العلم على ما روي عن عمر وعلي وغيرهما. اهـ. وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية.
617 - " باب فضل من قام رمضان "
716 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من قام رمضان إيماناً واحتساباً " قال النووي: المراد بقيام رمضان صلاة التراويح. اهـ. أي من أحيا ليالي رمضان بالعبادة وأهمها صلاة التراويح إيماناً وتصديقاً بما وعد الله به القائمين وانتظاراً للأجر والمثوبة عند الله تعالى وابتغاءً لمرضاته " غفر له ما تقدم من ذنبه " أي: كان قيامه هذا سبباً في غفران ذنوبه السابقة واللاحقة، لما جاء في رواية أخرى " غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر " (1) " فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك " أي والصحابة طيلة حياته - صلى الله عليه وسلم - يصلون التراويح فرادى، لا يجمعهم إمام، " ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر " أي وما زالوا يصلّون متفرقين في عهد أبي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر ما قاله الحافظ في الفتح حول هذا الحديث. (ع) .(3/241)
بكر، وأول خلافة عمر، ثم جمعهم عمر رضي الله عنه على إمام واحد.
الحديث: أخرجه الجماعة والبيهقي ومالك في " الموطأ ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع للناس صلاة التراويح، وحثهم عليها، فاستجابوا لدعوته، وأدوها في عهده متفرقين منفردين في بيوتهم -غالباً- قال الحافظ: في قوله " والأمر على ذلك " أي على ترك الجماعة. اهـ. ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع الناس على القيام كما في رواية أحمد عن الزهرى واستمر الأمر على ذلك إلى أول خلافة عمر رضي الله عنه، ثم جمعهم عمر رضي الله عنه على أبي بن كعب، فصلّى بهم في المسجد جماعة، فخرج ليلة والناس يصلون خلفه فَسُرَّ بذلك. وقال: " نِعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون " يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله كما في البخاري. ثانياًًً: الترغيب في إحياء ليالي رمضان بالعبادة وقراءة القرآن، والتأكيد على استحباب صلاة التراويح، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل قيام رمضان سبباً في غفران الذنوب، والمراد بقيام رمضان كما قال النووي: صلاة التراويح، قال ابن قدامة: وهي سنة مؤكدة، وأول من سنّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال أبو هريرة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرغِّب في صلاة الليل من غير أن يأمر بعزيمة وهي سنة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد فعلها أصحابه في حياته، وأثنى عليهم، وصوب ما صنعوا كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: " خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا الناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد، فقال: ما هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء قوم ليس معهم قرآن وأُبي بن كعب يؤمهم وهم يصلون بصلاته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أصابوا، ونعم ما صنعوا " أخرجه أبو داود وفي إسناده مسلم بن خالد وهو صدوق كثير الأوهام (1) وفيه دليل على أن الأفضل لغير القارىء أن يصلي التراويح
__________
(1) وأخرجه البيهقي أيضاًً عن ثعلبة بن أبي مالك وقال: إسناده جيد. انظر " التقريب " لابن حجر.(3/242)
618 - " بَابُ فضلِ لَيلةِ الْقَدرِ "
717 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً واحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مأموماً بخلاف القارىء، فإن الأفضل في حقه الانفراد (1) . وقال الجمهور: صلاة التراويح جماعة في المسجد أفضل منها في المنازل (2) وقالت المالكية أداء صلاة التراويح في البيت أفضل من أدائها في المسجد، وهو قول بعض الحنفية، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث زيد بن ثابت " فصلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ المكتوبة " فدل ذلك على أن صلاة التراويح في البيت أفضل إلا أن يكون آفاقياً أو لا ينشط لفعلها في بيته فأداؤها في المسجد أفضل، قال مالك في " المدونة ": قيام الرجل في بيته في رمضان أحب إليّ لمن قوي عليه، وليس كل الناس يقوى على ذلك (3) وقال أبو يوسف وبعض الشافعية: الأفضل صلاتها فرادى. واستدل الجمهور على أن الجماعة فيها أفضل بأن ذلك هو ما فعله عمر ووافقه عليه أصحاب رسول الله، واستمر عمل المسلمين عليه، فكان ذلك إجماعاً من الصحابة على أفضلية الجماعة في صلاة التراويح، ولذلك قال أحمد: يعجبني أن يصلي مع الإِمام ويوتر معه. الحديث: أخرجه أيضاًً الجماعة والبيهقي ومالك في " الموطأ ". والمطابقة: في قوله: " غفر له ما تقدم من ذنبه ".
618- " باب فضل ليلة القدر "
717 - معنى الحديث: أشاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بفضل ليلة
__________
(1) وهو مذهب الشافعي، قال: الترمذي واختار الشافعي أن يصلّي وحده إذا كان قارئاً.
(2) " شرح المنهل العذب على سنن أبي داود " ج 7.
(3) " شرح الإكليل " للعبدري على " متن خليل ".(3/243)
مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، ومن قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيماناً واحتِساباً غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القدر ونوّه بشأنها، وهي الليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن الكريم إلى السماء الدنيا كما قال الله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وسمّاها ليلة القدر لعظم شأنها وعلو قدرها، ولأنها ليلة مباركة ذات منزلة عظيمة، وقدر رفيع، شرفها الله بنزول القرآن، فكانت أشرف الليالي، لأن الأزمنة تشرف وتعظم بما يقع فيها من أحداث جليلة، وقد أنعم الله على عباده في هذه الليلة بنزول القرآن الذي هدى الله به البشرية إلى ما فيه سعادتها وخيرها ونجاتها، فكان أعظم نعمة في أشرف ليلة، ولهذا سماها ليلة القدر. ويقال سميت بذلك لما يقدر فيها وما يكتبه الملائكة من الأقدار والأرزاق والآجال التي تكون في (1) تلك السنة كما أفاده النووي، وفي هذا الحديث يبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من أحيى هذه الليلة المباركة بالصلاة وتلاوة القرآن غفر الله له ذنوبه السابقة واللاحقة على أن يفعل ذلك " إيماناً واحتساباً " أي تصديقاً بفضل هذه الليلة وفضل العمل - فيها ابتغاءً لوجه الله في عبادته.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على شرف ليلة القدر وفضل إحيائها بالعبادة، وأن قيامها لمن وافقها سبب للغفران، وإن لم يقم غيرها، فإن كانت له ذنوب كفرتها، وإن لم تكن له ذنوب فإنه يكتب له بها حَسنات، ويرفع بها درجات. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي " والمطابقة: في قوله: " غفر له ما تقدم من ذنبه ".
***
__________
(1) " فتح الباري " ج 4.(3/244)
619 - " بَابُ تحَرِّي لَيْلَةِ الْقَدرِ فِي الوِتْرِ مِن العَشْرِ الأوَاخِرِ "
718 - عنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " التَمِسُوهَا في العَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، لَيْلَةَ الْقَدْرِ في تَاسِعَةٍ، تبقى في سَابِعَةٍ تَبْقَى، في خَامِسَةٍ تَبْقَى ".
719 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " هِيَ في الْعَشْرِ الأوَاخِرِ هي في تِسْع يَمْضِين، أوْ في سَبْعٍ يَبقَيْنَ، يَعْنِي، لَيْلَةَ الْقَدْرِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
619 - " باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر "
718 - معنى الحديث: أن الله أخفى عنا ليلة القدر، ولم يحدد لنا وقتها، ولكنها لا تخرج عن الليالي الوتر من العشر الأواخر من رمضان التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " في تاسعه تبقى " أي في ليلة الحادي والعشرين من رمضان " في سابعه تبقى " وهي ليلة الثالثة والعشرين منه " في خامسه تبقى " وهي ليلة الخامس والعشرين. والمعنى اطلبوها وتحرّوها في ليالي الوتر من العشر الأواخر من رمضان كليلة الحادي والعشرين، وليلة الثالث والعشرين، وليلة الخامس والعشرين، ويقاس عليها ليلة السابع والعشرين، وليلة التاسع والعشرين، لأنها أوتار. الحديث: أخرجه أيضاًً أبو داود والترمذي والبيهقي وأحمد.
719 - معنى الحديث: أن ليلة القدر الموجودة في العشر الأواخر من رمضان وفي الأوتار منها دون تحديد بليلة معينة، فيحتمل أن تكون " في تسع يمضين " أي في ليلة التاسع والعشرين " أو في سبع يبقين " أي في ليلة الثالث(3/245)
والعشرين وفي رواية " أو في سبع يمضين " فتكون ليلة السابع والعشرين من الشهر والنبي - صلى الله عليه وسلم - عندما ذكر هذه الليالي أراد بها التمثيل لا الحصر، فيقاس عليها بقية ليالي الوتر من العشر الأواخر.
فقه الحديثين: دل هذان الحديثان على أن ليلة القدر في ليالي الوتر من العشر الأواخر من رمضان دون تعيين، وهو مذهب مالك، قال في " الإِفصاح " واتفقوا على أنها تطلب في شهر رمضان إلاّ أبا حنيفة، فإنه قال في جميع السنة، ثم اختلف المتفقون على انها في شهر رمضان في آكد لياليه، فقال الشافعي ليلة إحدى وعشرين، وقال مالك في ليالي الأفراد من العشر الأواخر وقال أحمد: ليلة سبع وعشرين. اهـ. وهو قول أكثر أهل العلم، لحديث ابن عمر مرفوعاً: " من كان متحريها فليتحرها ليلة السابع والعشرين " أخرجه أحمد بإسناد صحيح. فائدة هامة: هل هناك ظاهرة خاصة خارقة للعادة تقع في هذه الليلة المباركة، قال الحافظ بخصوص هذا الموضوع: واختلفوا هل لها علامة تظهر لمن وقعت له أم لا؟ فقيل: يرى كل شيء ساجداً، وقيل: يرى الأنوار في كل مكان ساطعة حتى في المواضع المظلمة، وقيل: يسمع سلاماً وخطاباً من الملائكة، وقيل: علامتها استجابة دعاء من وقعت له، واختار الطبري أن جميع ذلك غير لازم، وأنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء ولا سماعه. الحديث الأخير أخرجه البخاري. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالتماسها ليلة الحادي والعشرين والثالث والعشرين الخ. وهي الوتر من العشر الأواخر.
***(3/246)
620 - " بَابُ الْعَمَلِ في الْعَشْرِ الأوَاخِرِ من رَمَضَانَ "
720 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ، اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
" كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وأحيَا لَيْلَهُ، وأيْقَظَ أهْلَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
620 - " باب العمل في العشر الأواخر من رمضان "
720 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجتهد في الليالي العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها، فإذا كانت ليلة الحادي والعشرين " شد مئزره " أي جد واجتهد في العبادة وقيام الليل، واعتزل النساء، وهو مأخوذ من قول الشاعر:
قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوْا شَدُّوْا مآزِرَهُمْ ... عنِ النِّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ بِأطْهَارِ
" وأحيا ليله " أي قام معظم ليله في الصلاة والذكر وتلاوة القرآن، وليس معناه أنه أحيا الليل كله، لقول عائشة رضي الله عنها: " ما علمته قام ليلة حتى الصباح، ولا صام شهراً كاملاً سوى مضان " أخرجه البخاري " وأيقظ أهله " أي نبههم من نومهم ليقضوا فترة منه في الصلاة وقيام الليل، كما في حديث أمّ سلمة رضي الله عنها أنه لم يكن يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلاّ أقامه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخصُّ العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في غيرها، منها إحياء الليل وإيقاظ الأهل واعتزال النساء. ثانياًًً: استحباب الاجتهاد في العبادة وإحياء الليل وايقاظ الأهل في هذه العشر اقتداءً به - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة من حيث إنَّ شدَّ المئزر وإحياء الليل، وإيقاظ الأهل كلها من العمل في القسم الأواخر كما أفاده العيني.(3/247)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب الاعتكاف "
621 - " بَابُ الاعْتِكَافِ في الْعَشْرِ الأوَاخِرِ "
721 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأوَاخِرَ من رَمَضَانَ حتى تَوَفَّاهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" كتاب الاعتكاف "
الاعتكاف لغة: الإِقبال على الشيء وملازمته خيراً كان أو شراً، فمن الأول قوله تعالى: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) ومن الثاني قوله تعالى: (يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ) أما الاعتكاف شرعاً فهو إقامة المسلم في بيت من بيوت الله بنية حبس النفس على طاعة الله وعبادته بنية، تدريباً لنفسه على تذوق الطاعات، والبعد عن المغريات، قال تعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) وهو شريعة قديمة معروفة في الأديان السابقة والمسجد ركن (1) في صحة الاعتكاف، ولهذا قال البخاري: والاعتكاف في المساجد كلها، ولا بد من النية، وهي ركن عند المالكية والشافعية، وشرط عند الحنفية والحنابلة، وشروطه الإِسلام والتمييز والطهارة الكبرى، وزاد المالكية شرطاً وهو الصوم، واشترط الحنفية الصوم في الاعتكاف الواجب.
621 - " باب الاعتكاف في العشر الأواخر "
721 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يداوم على الاعتكاف في
__________
(1) قال أحمد وأبو حنيفة: لا يكون إلا في مسجد تقام به الجماعة، وقال مالك: يصح الاعتكاف في كل مسجد كما أفاده في " المنهل العذب " ج 10.(3/248)
اللهُ، ثم اعتَكَفَ أزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ".
622 - " بابٌ لا يَدخلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةٍ "
722 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
" إِنْ كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليدْخِلُ عَليَّ رَأسَهُ وَهُوَ في الْمَسْجِدِ فَأرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُل الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَة إِذَا كَانَ مُعْتَكِفَاً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العشر الأواخر من رمضان كل عام طيلة حياته، فلما مات " اعتكف أزواجه من بعده " أي واظب أزواجه على هذه السنة بعد وفاته اقتداءً به - صلى الله عليه وسلم - الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث: أولاً: على مشروعية الاعتكاف وعلى أنه سنة مؤكدة في رمضان، قال ابن عبد السلام: ومقتضى الأحاديث أنه - صلى الله عليه وسلم - داوم على فعله، فيكون سنة وقالت المالكية: حكمه الاستحباب مطلقاً، وفي رمضان آكد، وفي العشر الأواخر آكد. والذي عليه الجمهور أنه سنة مؤكدة في رمضان وفي العشر الأواخر آكد. ثانياًً: مشروعية الاعتكاف للمرأة، ولا خلاف في ذلك عند أهل العلم، قال الشافعي: للمرأة أن تعتكف في كل مسجد، وقال أبو حنيفة والثوري: لها الاعتكاف في مسجد بيتها واعتكافها فيه أفضل وقالت المالكية: لا يصح اعتكافها إلاّ في المسجد.
والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة.
622 - " باب لا يدخل البيت إلّا لحاجة "
722 - معنى الحدايث: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان من سنته المعروفة عنه إذا اعتكف أن يدخل رأسه إلى بيت عائشة الذي كان ملاصقاً لمسجده لتسرحه له وهو معنى قولها: "إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدخل علي رأسه وهو في(3/249)
623 - " بَابُ الأخبِيَةِ في الْمَسْجِدِ "
723 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرادَ أنْ يَعْتَكِفَ، فلمَّا انْصَرَفَ إلى الْمَكَانِ الذي أرَادَ أن يَعْتَكِفَ فِيهِ إِذَا أخْبِيَةٌ، خِبَاءُ حَفْصَةَ، وَخِبَاءُ زَيْنَبَ، فَقالَ: آلبِرَّ تَقُولُونَ بِهِنَّ، ثَمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ حتَّى اعْتَكَفَ عَشْراً مِنْ شَوَّالٍ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المسجد فأرجّله" فكلمة " إنْ " مخففة من " إنَّ " الثقيلة المشددة التي هي حرف توكيد ونصب، واسمها ضمير الشأن محذوف، والمعنى: إن الأمر الذي اعتاد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يفعله دائماً إذا اعتكف أن يدخل رأسه إلى السيدة عائشة رضي الله عنها لتسرح له شعره، " وكان لا يدخل البيت إلّا لحاجة " أي لا يخرج من معتكفه إلى بيته إلاّ لعذر شرعي من قضاء حاجة أو وضوء أو نحوه. الحديث: أخرجه الستة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن المعتكف لا يجوز له الخروج إلاّ لعذر شرعي كقضاء حاجة، أو وضوء، أو غسل جنابة أو حيض أو نفاس أو نحوه، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وأجاز الشافعي وأحمد الخروج لعيادة المريض وتشييع الجنازة لمن شرط ذلك. ثانياًًً: أنه يجوز للمعتكف تنظيف بدنه وتسريح شعره، والغسل والطيب كما يجوز له إخراج رأسه من المسجد لتنظيفه وتسريحه. والمطابقة: في قوله: " لا يدخل البيت إلا لحاجة ".
623 - " باب الأخبية في المسجد "
723 - معنى الحديث: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يعتكف " في رمضان وذهب إلى خبائه من المسجد، فرأى أخبية كثيرة منصوبة في المسجد(3/250)
لنسائه " والخباء خيمة صغيرة من صوف " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مخاطباً من معه: أتظنون أنّ هؤلاء النسوة قد صنعن بفعلهن هذا خيراً؟ ثم انصرف غاضباً، ولم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فاعتكف في شوال قضاءً لما تركه بعد الاعتكاف في رمضان. اهـ. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية نصب الأخبية للاعتكاف فيها في المسجد، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما انصرف إلى المسجد إنّما ذهب إلى خبائه الذي نُصبَ له هناك، كما جاء في رواية أخرى عن عائشة قالت: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباءً، فيصلي الصبح، ثم يدخله " والروايات يفسر بعضها بعضاً.
ثانياًً: استدل به أبو حنيفة - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يصح اعتكاف المرأة في مسجد الجماعة، وأجازه الجمهور، وأما استدلال أبي حنيفة على عدم صحة اعتكافها بإنكاره عليهن في قوله: " آلبرِّ تقولون " فإنما أنكر التضييق على المصلين بتلك الأخبية، لا نفس الاعتكاف، لأن المسجد كان صغيراً. ثالثاً: قال الترمذي: اختلف أهل العلم في المعتكف إذا قطع اعتكافه، فقال بعضهم: وجب عليه القضاء، واحتجوا بالحديث، وهو قول مالك وأبي حنيفة. وقال الشافعي: إن كان تطوعاً ليس عليه أن يقضي إلا أن يحب ذلك. وحمل قضاءه - صلى الله عليه وسلم - الاعتكاف في شوال على الاستحباب. والمطابقة: في قوله: " فلما انصرف إلى المكان الذي أراد أن يعتكف فيه " أي إلى خبائه.
***(3/251)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب البيوع "
مقدمة وتمهيد
من مزايا التشريع الإِسلامي عنايته بتنظيم الحياة الإِنسانية من جميع نواحيها المختلفة، فإن بعض الأديان اقتصر على الجانب الروحي للانسان من العقائد والعبادات والطقوس الدينية دون حياة الإِنسان المعيشية والاجتماعية، فلم تعن بمعاملاته مع الآخرين من أبناء جنسه (1) أو تضع القوانين اللازمة لهذه المعاملات عدا بعض النصائح التي تدعو إلى التسامح والمسالمة دون تحديد المسؤوليات والحقوق والواجبات، ولم تعنَ بوضع القوانين التفصيلية لحماية حقوق الإِنسان، ولهذا اضطر أصحاب هذه الديانات إلى استعمال القوانين الوضعية لتنظيم العلاقات الإِنسانية واعتبروا الدين علاقة روحية بين العبد وربه فقط، لأنهم لم يجدوا في دينهم القوانين الكفيلة بتنظيم حياتهم ومعيشتهم. وإذا كان هذا هو الواقع بالنسبة إلى الأديان الأخرى، فإنه لا ينطبق على شريعة الإِسلام الشاملة لحياة الإِنسان الدينية والدنيوية، وهذه هي النصوص الإِسلامية في الكتاب والسنة والفقه الإسلامي لم تدع حكماً يحتاج إليه البشر في الأحوال الشخصية والاجتماعية والقضائية والمعاملات والجنايات والسياسة والاقتصاد إلّا بينته للناس، ففي المعاملات وضع الإِسلام أحكام البيع والشراء والإِيجار
__________
(1) نعم توجد في التوراة أحكام عملية فقهية ولكن بعضها يتسم بالقسوة والعنف والشدة ومن محاسن الإسلام انه جاء بنسخ هذه الأحكام وإلغائها وإبدالها بأحكام أخرى هي أرحم وأرفق بهذا العالم البشري من تلك الأحكام السابقة كما قال تعالى: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) .(3/252)
والوكالة والكفالة وغيرها لضبط تصرفات الناس في هذه الحياة على وجه يضمن لهم الأمن والاستقرار والسعادة الحقيقية. ولو دققنا النظر في هذه الأحكام من الناحية النفسية والاجتماعية والسياسية لوجدنا فيها كل ضمان للملكية الفردية السليمة والحرية الشخصية الصحيحة فإن كل أحكام المعاملات في الإسلام قائمة على عدم أكل أموال الناس بالباطل ولا شك أن في مقدمة ذلك أَبواب المعاملات " البيوع وما يتعلق بها " وقد عُني الإسلام بالبيع ووضع له الشروط والأحكام لتحقيق الكسب الحلال والحيلولة دون أكل أموال الناس بالباطل، وحماية الإِنسان من أكل الحرام، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " أفضل أنواع الكسب البيع المبرور، وعمل اليد " ولا يكون البيع مبروراً إلاّ إذا كان بيعاً شرعياً صحيحاً. قال القاري: والكسب بقدر الكفاية واجب لنفسه وعياله عند عامة العلماء، وما زاد عليه فهو مباح، وإنما عني الإِسلام بالبيع لحاجة الناس إليه، فالبيع والنكاح كما قال ابن العربي المالكي: عقدان يتعلق بهما قوام العالم، لأن الله خلق الإِنسان محتاجاً إلى الغذاء مفتقراً إلى النساء، وخلق له ما في الأرض جميعاً، ولم يتركه له سدى يتصرف باختياره كيف يشاء، فيجب على كل مكلف أن يتعلم ما يحتاج إليه، وأن لا يفعل شيئاً حتى يعلم حكم الله فيه. وقول بعضهم: يكفي ربع العبادات ليس بشيء إذ لا يخلو مكلف من بيع وشراء. والبيع لغة: تمليك المال بالمال مطلقاً، سواء كان مبادلة سلعة بنقد، أو سلعة بسلعة، ويقال لأحد البدلين مبيع وللثاني ثمن، أما الشراء فهو تملك المال بالمال. أما البيع شرعاً فهو مبادلة مال بمال على سبيل التراضي، ووجه التأبيد، والمراد بالمال: المال الذي له قيه: شرعية، وهو المال الحلال الذي ينتفع به شرعاً، فيخرج بذلك المال الحرام كالخمر مثلاً، فإن مبادلته بالنقد لا يسمى بيعاً، وكذلك يُقالُ في الحشرات التي لا ينتفع بها، والمراد بقولهم على سبيل التراضي أن تكون المبادلة برضا الطرفين فيخرج بذلك كل مبادلة بالإكراه، فإنها لا تسمى بيعاً، ويخرج بقولهم على وجه التأبيد الإِيجار،(3/253)
624 - " بَابُ مَا جَاءَ في قَوْلِ اللهِ تعَالَى (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) "
724 - عَنْ عَبْدِ الرَّحمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْني وَبَيْنَ سعْدِ بْنِ الرَّبِيع فَقَالَ سعْدُ بْنُ الرَّبيع: إِنِّي أكْثَرُ الأنْصَارِ مَالاً، فَأقْسِمُ لَكَْ نِصْفَ مَالِي، وانْظرُ أيَّ زَوْجَتَي هَوِيْتَ نَزَلْتُ لَكَ عَنْهَا، فَإِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا، قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لا حَاجَةَ لي في ذَلِكَ هَلْ مِنْ سُوقٍ فيه تَجَارَةٌ، قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأنه مؤقت فلا يسمى بيعاً.
624 - " باب ما جاء في قول الله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) "
724 - ترجمة راوي الحديث: وهو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أحد الثمانية السابقين إلى الإِسلام وأحد أصحاب الشورى وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان، وأحد العشرة المبشرين بالجنة. ومن كبار الأثرياء المحسنين في الإِسلام تصدق بأربعين ألفاً وله عدة أحاديث في البخاري وغيره، وقد شهد المشاهد كلها، وتوفي سنة واحد وثلاثين من الهجرة.
معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة أراد أن يقيم بين المهاجرين والأنصار رابطة وعلاقة أقوى من النسب، وهي رابطة الأخوة في الإِسلام، فجعل لكل مهاجر أخاً من الأنصار وأقام بينهما علاقة تنزل منزلة أخوة النسب تقتضي المناصرة والمواساة والمشاركة في السراء والضراء، حتى إنهم كانوا يتوارثون في أوّل الإِسلام إلى أن نزل قوله تعالى: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) فاقتصر الإِرث على أصحاب المواريث الشرعية المعروفة(3/254)
سُوقُ قَيْنُقَاعَ، قَالَ: فَغدا إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَأَتَى بَأَقِطٍ وَسَمْنٍ، قَالَ: ثُمَّ تَابَعَ الغُدُوَّ، فَما لَبِثَ أنْ جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنَ عَلَيْهِ أثر صُفْرَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -: " تَزَوَّجْتَ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَمَنْ؟ قَالَ: امْرَأةٍ مِنَ الأنْصَارِ، قَالَ: " كَمْ سُقْتَ لَهَا؟ " قَالَ: زِنَةُ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، أو نُوَاةً مِنَ ذَهَب، فَقَال لَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أَوْلِمْ ولَوْ بِشَاةٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وكان من ضمن هؤلاء المهاجرين عبد الرحمن بن عوف، فقد آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الربيع، فعرض عليه سعد أن يختار إحدى زوجاته، فيطلقها ويزوجها له ويعطيه نصف ماله فأبت، عليه مروءته وعزة نفسه أن يكون عبئاً على غيره، وعالة على سواه، فقال لسعد: " لا حاجة لي في ذلك " لأنني شاب سليم قويّ قادر على العمل، وفي رواية أنه قال له: " بارك الله لك في أهلك ومالك "، ثم سأل عن سوق المدينة التجاري، فدله على سوق بني قينقاع ويقع عند جسر بطحان، وكان يقام عدة مرات في السنة، يجتمع فيه التجار العرب الوافدون إلى المدينة، فصار عبد الرحمن بن عوف يتردد عليه كل يوم صباحاً ليتاجر في السمن والأقط وغيره من المواد الغذائية، والأقط هو اللبن المجفف المعروف في عصرنا هذا (بالمضِير) فلم يمض عليه إلّا زمن قليل، حتى جمع شيئاً من المال، فتزوج منه وأتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعليه أثر الصُّفْرَة، أي صفرة الطيب الذي تطيب به في زفافه " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تزوجت؟ قال: نعم، قال: ومن؟ قال: امرأة من الأنصار " وهي بنت أنس بن رافع من بني عبد الأشهل " قال: كم سقت لها؟ " أي كم دفعت لها من الصداق " قال: زنة نواة من ذهب " وهي وزن ثلاثة دراهم وثلث كما قال أحمد بن حنبل " فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أولم ولو بشاة " أي فأمره - صلى الله عليه وسلم - بالوليمة وهي الطعام الذي يصنع في العرس، والمعنى اصنع(3/255)
625 - " بَابُ مَنْ لَمْ يُبَالِ مِنْ أيْنَ كَسِبَ الْمَالَ؟ "
725 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يَأتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أخَذَ مِنهُ، أَمِنَ الْحَلالَ أمْ مِنَ الْحَرَامَ؟ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بمناسبة عرسك طعاماً، واذبح فيه ولو شاة واحدة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث: أولاً: على تفسير الآية الكريمة، وبيان معنى التجارة الصحيحة التي شرعها الإِسلام، ودل عليها قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) ، وأنها هي البيع والشراء في الأسواق التجارية كما دل على مشروعية البيع، وأنه من أشرف الوسائل لكسب المال الحلال، فقد مارسه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما فعل عبد الرحمن بن عوف حيث قال هَل من سوق تجارة، فلما دلّه عليه تابع الغُدوَّ إليه حتى جمع مالاً، فتزوج، ثم واصل البيع والشراء حتى أصبح من أثرياء الصحابة الأجواد.
فقد بلغ ما تصدق به على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين ألفاً، بالإِضافة إلى ما حمل عليه. ثانياًً: ما كان عليه المهاجرون والأنصار في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من مودة ومحبة وإيثار بالمال وغيره، مما دفع سعد بن الربيع أن يعرض على ابن عوف نصف ماله إلخ. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " هل من سوق؟ ".
625 - " باب من لم يبال من أين كسب المال "
725 - معنى الحديث: أن الناس تتغير بهم الأحوال، وتتبدل الأزمان، ويأتي عليهم زمان يضعف فيه الدين، وتفسد الضمائر والذمم، ويتكالب الناس فيه على جمع المال من حلال أو حرام، فالغاية تبرر الوسيلة عندهم،(3/256)
626 - " بَابُ شِرَاءِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بِالنَّسِيئَةِ "
726 - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ مَشَى إلى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - بِخُبْزِ شَعِيرٍ وِإهَالَةِ سَنِخَةٍ، وَلَقَدْ رَهَنَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - دِرْعَاً لَهُ بالْمَدِينَةِ عِنْدَ يَهُودي، وأخذَ مِنْهُ شعيراً لِأهْلِهِ، ولقدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " مَا أمْسَى عِنْدَ آل مُحَمَّدٍ صَاعُ بُرٍّ، ولا صَاعُ حَبٍّ " وإنْ عِنْدَهُ لَتِسْعَ نِسْوَةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والحلال ما حل في أيديهم كما قال - صلى الله عليه وسلم - " لا يبالي المرء ما أخذ منه " أي لا تهمه الوسيلة التي اكتسب بها المال، والطريق الذي أخذه منه " أمن الحلال " أي سواء كان من، كسب حلال كالبيع المبرور وعمل اليد " أم من الحرام " كالاختلاس والربا والقمار والرشوة، لأن المصلحة المادية هي الهدف الوحيد، والغاية الرئيسية لكل معاملاته.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: التحذير الشديد من اكتساب المال من الطرق غير المشروعة، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ذكر ذلك في موضع الذم والإنكار على من يصنع هذا. ثانياًً: إخباره - صلى الله عليه وسلم - ببعض الأمور في المستقبل، وهذا من معجزاته - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه أيضاًً النسائي. والمطابقة: في قوله: " لا يبالي المرء ما أخذ منه ".
626 - " باب شراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسيئة "
726 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دُعي مرة على خبز من شعير وإهَالة سنخة أي ألية متغيرة الرائحة، فأجاب الدعوة، وأكل من ذلك الطعام، كما أنه - صلى الله عليه وسلم - اشترى مرة من يهودي شعيراً بثمن مؤجل، ورهن عنده درعه مقابل ذلك، لأنه لم يبق في بيته أي شيء من المواد الغذائية كما قال أنس "ولقد(3/257)
627 - " بَابُ السُّهُولَةِ وَالسَّمَاحَةِ في الْبَيْعِ "
727 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " رَحِمَ اللهُ رَجُلاً سَمْحَاً إِذَا بَاعَ، وِإذَا اشْتَرَى، وِإذَا اقْتَضَى ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سمعته يقول: ما أمسى عند آل محمد صاع بر ولا صاع حب " أي سمعته - صلى الله عليه وسلم - يقول: دخل علينا المساء، ولا يوجد في بيت آل محمد صاع من قمح أو شعير " وإن عنده لتسع نسوة " أي في حين أن لديه تسع زوجات هن في أمسِّ الحاجة إلى الغذاء ولذلك اضطر إلى شراء الشعير من اليهودي نسيئة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز بيع الطعام وغيره وشرائه نسيئة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك، ولكن بشرطين: الأول: أن يختلف الجنسان، فلا يجوز (شعير بتمر) نسيئة. الثاني أن لا يكون صرفاً فلا تجوز النسيئة في الصرف، وفيه دليل على جواز التعامل مع أهل الكتاب. الحديث: أخرجه أيضاًً النسائي والترمذي. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - اشترى الشعير من اليهودي نسيئة.
627 - " باب السهولة والسماحة في البيع "
727 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لكل مسلم يلتزم بالسماحة والرفق وحسن المعاملة في بيعه وشرائه أن يسبغ الله عليه رحمته ونعمته وفضله وكرمه، وكذلك كل من تسامح من إخوانه في اقتضاء ديونه، والمطالبة بحقوقه، فتجاوز عن الموسر، وأنظر المعسر.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن حسن المعاملة والتسامح في البيع والشراء واقتضاء الديون سبب في نجاح الإِنسان في تجارته وأعماله، وفوزه بكل ما يصبو إليه من مال وصحة وولد، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا له بالرحمة،(3/258)
628 - " بَابٌ إِذَا بَيَّنَ البَيِّعَانِ وَلَمْ يكْتُمَا وَنصَحَا "
728 - عَنْ حَكِيم بْنِ حِزَام رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - " البَيِّعَانِ بالخِيَارِ ما لَمْ يتفرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنا بُورِكَ لَهُمَا في بَيْعِهِمَا، وإنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ودعوته مستجابة، فهو ولا شك مشمول برحمة الله ونعمته وعنايته.
وَإذَا العِنايَةُ لَاَحَظتْكَ عُيُوْنُهَا ... نَمْ فالحَوَادِثُ كُلُّهُنَّ أمَانُ
والمطابقة: في دعائه - صلى الله عليه وسلم - لأهل السماحة.
628 - " باب إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا "
728 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " أي أن لكل منهما الحق في أن يختار ما يريد من إمضاء البيع أو فسخه ما داما لم يتفرقا، فإذا تفردا وجب البيع، وانتهى الخيار، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " فإن فارقه فلا خيار له "، " فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما "، أي فإن صدق البائع وبين العيب الذي في سلعته، وصدق المشتري وبين العيب الذي في الثمن حلت البركة في ذلك البيع فكان مربحاً، وكثر نفعه لهما، " وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما "، أي رفعت البركة من ذلك البيع، فكان خسارة لهما.
فقه الحديث: دل هذا الحديث دلالة صريحة على ثبوت الخيار للمتبايعين في إمضاء البيع وفسخه حتى يتفرقا، واختلف أهل العلم في التفرق الذي يسقط الخيار، ويوجب البيع، فذهب الشافعي وأحمد وغيرهم إلى أنه التفرق بالأبدان، وأثبتوا خيار المجلس، وقال مالك وأبو حنيفة: هو التفرق بالأقوال عند انتهاء العقد، ووقوع الإِيجاب والقبول، فإذا قال البائع: بعت والمشتري(3/259)
629 - " بَابُ بَيْعِ الْخِلْطِ مِنَ التَّمْرِ "
729 - عَنْ أبي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كُنَّا نرزَقُ تَمْرَ الْجَمْعِ، وَهُوَ الْخَلْطُ مِنَ التَّمْرِ، وكنَّا نَبِيعُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لَا صَاعَيْنِ بِصَاع، ولا دِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اشتريت لزم البيع، واستدل مالك على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله " فلو كان خيار المجلس مشروعاً لم يحتج للاستقالة، لأن من حقه الخيار ما دام في المجلس. الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " فإن صدقا وبينا بورك لهما ".
629 - " باب بيع الخلط من التمر "
أي هذا باب في بيان حكم بيع الخلط، وهو التمر المخلوط المشكل من أنواع مختلفة بتمر من نوع واحدٍ.
729 - معنى الحديث: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يأخذون من الزكاة التمر المشكل من أنواع مختلفة فيبيعونه بالتمر الذي من نوع واحد كل صاعين بصاع لرداءة هذا وجودة ذاك، فأنكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونهاهم عن هذا البيع وقال: " لا صاعين بصاع " أي لا يجوز بيع صاعين من التمر بصاع من التمر، وإن اختلف النوعان في الجودة والرداءة، لاتحادهما في النوع، ولا يحل التفاضل بين البدلين من نوع واحد، فلا يجوز بيع التمر بالتمر، أو البر بالبر أو الشعير بالشعير إلاّ سواء بسواء، يداً بيد، وإلا كان عين الربا.
" ولا درهمين بدرهم " أي ولا يجوز أيضاًً بيع درهمين من الفضة بدرهم من الفضة لاتحاد النوع.(3/260)
630 - " بَابُ مُوكِل الرِّبَا "
730 - عن أبي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَنَّهُ اشْتَرَى عَبْداً حَجاماً فأمَرَ بِمَحَاجِمِهِ فَكُسِرَتْ، وَقَالَ: " نَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وَثَمَنِ الدَّمِ، ونَهَى عَن الوَاشِمَةِ وَالْمَوْشُومَةِ وآكِلِ الرِّبَا وَمُوكِلِهِ، ولَعنَ الْمُصَوِّرَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه لا يجوز بيع التمر المشكل من أنواع مختلفة بالتمر الذي من نوع واحد متفاضلاً، لأنه ربا، وكذلك الطعام كله من بر وشعير ونحوه، لا يجوز بيعه بشيء من نوعه متفاضلاً، فإذا احتاج صاحب التمر الرديء إلى شراء تمر جيد فإنه يبيع تمره بأحد النقدين، ويشتري بثمنه تمراً جيداً كما أرشدنا إلى ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأحاديث الأخرى. ثانياًًً: أنه لا يجوز التفاضل في بيع الفضة بالفضة أو الذهب الذهب. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في نهيه - صلى الله عليه وسلم - بيع التمر بالتمر متفاضلاً، وهو ما ترجم له البخاري.
630 - " باب موكل الربا "
730 - معنى الحديث: أن أبا جحيفة (وقد تقدمت ترجمته) اشترى عبداً كان يعمل في الحجامة، فأمره بكسر الآلة التي كان يحجم بها، ولما سئل عن ذلك قال: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب) أي عن بيع الكلب وأخذ ثمنه " وثمن الدم " أي ونهى أيضاًً عن ثمن إخراج الدم، وأجرة الحجامة، فكسر أبو جحيفة المحاجم، لأنه فهم أنّ النهي عن ذلك على سبيل التحريم، فأراد حسم المادة، وكأنه فهم أنّ ذلك العبد لا يطيع النهي، ولا(3/261)
يترك التكسب بالحجامة إلاّ إذا كسرت محاجمه. اهـ. كما أفاده الحافظ. قال: " ونهى عن الواشمة والموشومة " الكلام على حذف مضاف أي ونهى عن فعل الواشمة والموشومة، وما تقوم به الواشمة من وشم غيرها وما تفعله الموشومة من وشم نفسها، أو تكليف غيرها بوشمها، والوشم غرز جلدة البشرة بالإِبرة، وحشوها بالكحل أو النيل فيسودّ ذلك الموضع، أو يزرق، أو يخضر، وتظهر فيه أشكال وألوان مخالفة للون البدن، وكانوا يرون أن ذلك من التجميل.
" وآكل الربا وموكله " وهو على حذف مضاف أيضاًً تقديره ونهى عن فعل آكل الربا، وعن فعل موكله " والمعنى " أنه نهى عن التعامل بالربا، ومنعه على الطرفين معاً، فمنع آكل الربا أن يأخذه من غيره ومنع موكل الربا أن يدفعه ويعطيه لغيره. " ولعن المصور " أي الصور الحيوانية. الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: على أن موكل الربا " وهو كل من يدفع لغيره فائدة ربوية " عاص وآثم، ومرتكب لكبيرة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إعطاء الربا، كما نهى عن أخذه فآكل الربا وموكله في ارتكاب الكبيرة سواء، حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سوّى بينها في النهي، فكلاهما مرتكب للكبيرة. ثانياًً: تحريم بيع الكلب لنجاسته، وهو مذهب الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة، وفي رواية عن مالك جواز بيع كلب الحراسة والصيد. ثالثاً: النهي عن أجرة الحجامة، وعن الوشم وسيأتي. والمطابقة: في قوله: "وآكل الرِّبا وموكله".
***(3/262)
631 - " بَابُ مَا يَكْرَهُ مِنَ الْحَلِفِ في الْبَيعِ "
731 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن أبِي أوْفَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أنَّ رَجُلاً أقَامَ سِلْعةً وهُوَ في السُّوقِ، فَحَلَفَ باللهِ لَقَدْ أَعْطي بِهَا مَا لَمْ يُعْطَ، لُوقِعَ فِيهَا رجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فنَزَلَتْ (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
631 - " باب ما يكره من الحلف في البيع "
731 - معنى الحديث: كما يرويه ابن أبي أوفى رضي الله عنه " أنّ رجلاً أقام سلعة وهو في السوق " أي عرض في السوق سلعة يعني بضاعة للبيع، " فحلف بالله لقد أعطى بما ما لم يعط " أي فأراد أن يروج سلعته بأي وسيلة من الوسائل، ولو كانت محرمة، فلجأ إلى الأيمان الكاذبة، فحلف بالله -وهو كاذب، في يمينه- أنه أعطي بها بدل سلعته ما لم يعط " ليوقع فيها رجلاً من المسلمين "، أي ليخدع بأيمانه هذه بعض المشترين، ويوقعه في سلعته بالسعر الذي يريده طمعاً وجشعاً ورغبة في جمع المال عن أي طريق، حلالاً أو حراماً، من باب الغاية تبرر الوسيلة " فنزلت (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) " أي إن الذين يتخذون من الأيمان الكاذبة وسيلة لاكتساب الأموال المحرّمة، وينالون بها عوضاً يسيراً من الدنيا، أولئك لا نصيب لهم من الجنة ونعيمها، ولا يكلمهم الله كلمة رضا، ولا ينظر إليهم نظر رحمة، ولا يثني عليهم يوم القيامة، وليس لهم إلاّ العذاب الشديد.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم ترويج السلع التجارية بالأيمان(3/263)
632 - " بَابُ ذِكْرِ الْحَجَّامَ "
732 - عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" احْتَجَم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعطَى الذِي حَجَمَهُ، ولو كَانَ حَراماً لَمْ يُعْطِهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الكاذبة، وكونه من الكبائر، لأنّ هذا الوعيد لا يترتب إلاّ على كبيرة. الحديث: أخرجه البخاري والمطابقة: في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ) إلخ.
632 - " باب ذكر الحجام "
أي هذا باب تذكر فيه الأحاديث الدالة على جواز عمل الحجام وأخذ الأجرة على الحجامة.
732 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي عالج - صلى الله عليه وسلم - نفسه بالحجامة وأمر أبا ظبية أن يحجمه، " وأعطى الذي حجمه " أي وأعطاه أجرته، فأمر له بصاع تمر، وأمر أهله أن يخففوا من خراجه، وكان يعمل، ويدفع لسيده ثلاثة آصع، فوضع عنه صاعاً، ثم قال ابن عباس تعليقاً على حديثه هذا: " ولو كان حراماً لم يعطه " أي ولو كان أجر الحجامة وثمنها حراماً لم يعط النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجام أجرة عليها. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز أجرة الحجام، وهو مذهب الجمهور، قالوا: هو كسب فيه دناءة، ولكنه غير محرم، والنهي عنه في بعض الأحاديث للتنزيه فقط، وقال بعضهم: كان حراماً ثم نسخ، وهذا يحتاج إلى معرفة التاريخ، وذهب أحمد وآخرون إلى أنه يكره للحرِّ احتراف(3/264)
633 - " بَابُ التجَارَةِ فيمَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ والنِّسَاءِ "
733 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
أرْسَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِحُلَّةِ حَرِيرٍ أو سيَرَاءَ، فرآهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: "إِنِّي لَمْ أرْسِلْ بِهَا إليكَ لِتَلْبِسَهَا، إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لا خَلَاقَ لَهُ، إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ لتسْتَمْتِعَ بِهَا" يَعْنِي تَبِيعُهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحجامة، ويحرم عليه الإِنفاق على نفسه منها، وله أن ينفق منها على دوابه ورقيقه فقط، واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " كسب الحجام خبيث " أخرجه مسلم، قال ابن الجوزي: كُرهت لأنَّها من الأشياء التي يجب على المسلم إعانة أخيه بها دون أجر. ثانياًً: جواز التداوي بإخراج الدم. والمطابقة: في قوله: " وأعطى الذي حجمه ".
633 - " باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء "
أي هذا باب في بيان جواز بيع ما يكره لبسه للرجال، وكذلك ما يكره لبسه للنساء، لأن ما لا يصلح لهذا يصلح لهذا وما جاز بيعه جاز شراؤه.
733 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عمر رضي الله عنه بحلة حرير " والحلة لباس من ثوبين " أو سيراء " (بكسر السين) وهي نوع من الثياب يخالطه حرير كالسيور، أي أن تلك الحلة كانت من الحرير الخالص، أو مخلوطة بالحرير " فرآها عليه، فقال: إنّي لم أرسل إليك لتلبسها " أي لم أهدها إليك لتلبسها " إنما يلبسها من لا خلاق له " أي إنما يلبس ثياب الحرير من الرجال في الدنيا الكفار الذين لا نصيب لهم من الحرير أو غيره في الآخرة، أو إنما يلبس الحرير من الرجال من فسدت أخلاقه من المتشبهين بالنساء. "إنما بعثت إليك لتستمتع(3/265)
634 - " بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْخِدَاعِ في الْبَيْعِ "
734 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ رَجُلاً ذُكِرَ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ يُخْدَعُ في الْبُيُوعِ فَقَالَ: " إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بها " أي لتنتفع بها " يعني تبيعها " أو تلبسها لنسائك.
فقه الحديث: دل هذا الحديث كما قال الحافظ على جواز بيع ما يكره لبسه للرجال. اهـ. وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما بعثت بها إليك لتستمتع بها " يعنى تبيعها، وفي رواية أخرى في باب اللباس " إنما بعثت بها إليك لتبيعها أو لتكسوها " وأما ما يكره لبسه للنساء فبالقياس عليه كما أفاده الحافظ.
الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " إنما بعثت إليك لتستمتع بها " يعني تبيعها ".
634 - " باب ما يكره من الخداع في البيع "
734- معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما: " أن رجلاً ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يُخدع في البيوع " أي أن رجلاً يدعى " حبان " (بفتح الحاء) بن منقذ (بفتح القاف) أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه مغفل لا يحسن البيع والشراء، ويغشه الناس لقلة رشده، حتى إن أهله سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحجر عليه، فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: يا رسول الله لا أصبر عن البيع فأذن له، ولكنه أراد أن يحميه من الخداع " فقال: إذا بايعت فقل: لا خلابة " (بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام) أي لا خديعة، وإنما أمره أن يقول ذلك لمن يتعامل معه تنبيهاً له بوجوب الصدق والأمانة والنصح في المعاملة، أي لا تخادعني فإن الإِسلام لا يبيح الخديعة ولا يقرّ(3/266)
635 - " بَابُ مَا ذُكِرَ في الأسْوَاقَ "
735 - عَنْ أنسِ بْنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في السُّوقِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يا أبا الْقَاسِمِ فالْتَفَتَ إلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بيع الخديعة، وفي رواية أخرى أنه قال له " ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال، فإن رضيت فأمسك وإن سخطت فاردد " فبقى ذلك الرجل حتى أدرك زمن عثمان، وهو ابن مائة وثلاثين سنة. فكان إذا اشترى شيئاً فقيل له إنك غبنت فيه رجع فيشهد له رجل من الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جعل له الخيار ثلاثاً فيردوا له دراهمه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم الخداع في البيع والغبن فيه وهو الزيادة في ثمن السلعة زيادة فاحشة على من لا يعرف قيمتها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا بايعت فقل: لا خلابة " أي لا خديعة في البيع شرعاً، وهو نفي بمعنى النهي يقتضي تحريم المنهى عنه. ثانياًًً: ثبوت الخيار بالغبن، فمن غبن في ثمن السلعة، وزيد عليه في الثمن وهو يجهل قيمتها كان له الخيار في ردها، وهو مذاهب مالك وأحمد على شرط أن يكون الغبن فاحشاً والزيادة كثيرة، واختلفوا في تقدير الغبن الفاحش الذي يتحقق به الخيار فقيده بعض المالكية بأن يبلغ الغبن ثلث القيمة أما القليل فيتسامح فيه. وذهب الجمهور إلى عدم ثبوت الخيار بالغبن لعموم أدلة البيع ونفوذه من غير تفرقة بين الغبن وغيره. وأجابوا عن حديث الباب بأنه حكم استثنائي خاص بهذا الرجل لضعف عقله وقلة رَشَده، مما جعل حكم تصرفه كتصرف الصبي المأذون له في التعامل مع الناس. الحديث: أخرجه الستة إلا الترمذي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فقل لا خلابة ".
635 - " باب ما ذكر في الأسواق "
735 - معنى الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - بينما كان يسير في سوق من أسواق(3/267)
النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: إِنَّمَا دعَوْتُ هَذَا، فَقَالَ النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "سَمُّوا باسمي ولا تَكَنَوْا بِكُنْيتِي".
636 - " بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الكَيْلِ "
736 - عن الْمِقْدَام بْن مَعْدِي كَرِبَ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "كيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المدينة التجارية إذا به يسمع صوتاً ينادي يا أبا القاسم فالتفت وهو يظن أنه يناديه، فقال له صاحب الصوت: إنما ناديت هذا، وأشار إلى رجل آخر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي " بفتح التاء والنون المشدّدة على حذف إحدى التاءين، وإنما نهى عن التكني بكنيته في حياته خشية الالتباس.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الأسواق التجارية في الإِسلام، وجواز دخول المسلم إليها لقضاء حاجاته المعيشية، وشراء المواد الغذائية والمنزلية الموجودة فيها، لأنها كانت موجودة منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يدخلها لقوله في حديث الباب " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في السوق " وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًً: النهي عن التكني بكنيته - صلى الله عليه وسلم - المشهورة وهي أبو القاسم، قال القسطلاني: والنهى ليس للتحريم، وقد جوّزه مالك مطلقاً، وقصر النهي على زمنه للالتباس. وقال جمع من السلف: النهي خاص بمن اسمه محمد وأحمد، لحديث النهي عن الجمع بين اسمه وكنيته، ومذهب الجمهور جوازه مطلقاً. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: في قوله: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في السوق ".
636 - " باب ما يستحب من الكيل "
736 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر باستعمال الكيل في جميع(3/268)
637 - " بَابُ مَا يُذْكَرُ في بَيْعِ الطَّعَامِ وَالحُكْرَةِ "
737 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" رَأيتُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مجَازَفَةً يُضْرَبُونَ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يَبِيعُوهُ حتى يُؤْووهُ إلى رِحَالِهِمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المواد التموينية من قمح وشعير وتمر وزبيب وغيرها عند بيعها وشرائها وإحصائها وإخراج زكاتها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " كيلو طعامكم يبارك لكم " أي: تُوضَعُ لكم فيه البركة والخير الكثير والنفع العظيم، فينتفع به بائعه ومشتريه، وآخذه ومعطيه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لأهل المدينة في مدهم وصاعهم. الحديث: أخرجه البخاري وابن حبان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب الكيل في بيع المواد التموينية وشرائها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " كيلو طعامكم " فإن هذا أمرٌ وأقل مقتضيات الأمر الاستحباب والندب. ثانياًًً: أن البركة تحل في الطعام المكيل سيما بالمدينة المنورة، فينمو ويتكاثر ويعظم نفعه الغذائي، فيكفي القليل منه العدد الكثير من الناس، وتقوى به الأجسام، وتصح الأبدان، وتخلو من الأمراض والأسقام وتهنأ، به النفوس لقوله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق: " كيلو طعامكم يبارك لكم " ولا شك أن الطعام المبارك غذاء وشفاء وقوة وصحة وهناء. والمطابقة: في قوله: " كيلو طعامكم ".
637 - " باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة "
737 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: رأيت الذين كانوا يشترون المواد الغذائية من قمح وشعير وتمر " جزافاً " بدون كيل ولا وزن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - يمنعون من بيعها قبل قبضها واستلامها، ويضربون(3/269)
638 - " بَاب لا يَبيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أخِيهِ، ولا يَسُومُ على سوْمِ أخِيهِ حتى يَأذَنَ لَهُ أوْ يَتْرِك "
738 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
"نَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يَبِيعَ حَاضِرٌ لبَادٍ، ولا تَنَاجَشُوا، ولا يَبِيعُ الرَّجُلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لئلا يبيعوا الطعام " حتى يؤوه إلى رحالهم " أي حتى ينقلوه إلى منازلهم، فمن حاول منهم بيعه قبل استيفائه ونقله إلى منزله، منع من ذلك، ولو بالضرب. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم بيع الطعام قبل استلامه ونقله إلى المستودع، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضربهم على ذلك.
ثانياًً: استدل به البخاري على جواز الحكرة، وهي احتكار الطعام انتظاراً لغلاء سعره، وهو غير ظاهر، لأنه ليس في أحاديث الباب للحكرة ذكر، كما أفاده الحافظ. والذي عليه أكثر أهل العلم: تحريم احتكار المواد الغذائية لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من احتكر فهو خاطىء " أخرجه مسلم، وفي رواية لمسلم أيضاًً " لا يحتكر إلا خاطىء " وقد خصه بعضهم بالطعام والقوت الضروري للناس والبهائم نظراً إلى الحكمة المناسبة للتحريم. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - كان يضربهم على بيع الطعام قبل إيوائه إلى مخازنهم.
638 - " باب لا يبيع على بيع أخيه ولا يسوم على سومه حتى يأذن له أو يترك "
738 - معنى الحديث: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أنواع من البيع لما فيها من ضرر محقق منها " أن يبيع حاضر لباد " وقد فسره ابن عباس رضي الله عنهما بأن يكون له سمساراً، ومعناه كما قال بعضهم: أن يجيء الغريب(3/270)
على بَيْع أخِيهِ، ولا يَخْطبُ عَلَى خِطبَةِ أخِيْهِ، وَلا تَسْأل الْمَرأة طلاقَ أخْتِهَا لِتَكْفَأ مَا فِي إِنَائِهَا".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلى البلد بسلعته، يريد بيعها في الحال، فيقول له الحضري: دعها عندي لأبيعها لك على التدريج بأعلى من سعرها الحالي، وهو قول الشافعي ولهذا قال: لا يجوز ذلك، وذلك أبو حنيفة إلى جوازه والله أعلم. ومنها بيع النجش حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " ولا تناجشوا " أي لا يزد أحدكم على غيره في السلعة التي لا يريد شراءها ليدفعه إلى شرائها بثمن أغلى مخادعة له واحتيالاً عليه. ومنها بيع الرجل على بيع أخيه، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " ولا يبيع الرجل على بيع أخيه " بالجزم على أن (لا) ناهية، وبالرفع على أنها نافية، وصورة ذلك أن يقع البيع مع الخيار، فيأتي آخر في مدة الخيار، فيقول للمشتري: افسخ هذا البيع، فأنا أبيعك بأرخص من ذلك، وكذلك شراء الرجل على شراء غيره منهي عنه. ثم إنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك نهى عن أعمال أخرى خارج البيوع فقال: " ولا يخطب على خطبة أخيه " أي لا يأتي رجل بعد الاتفاق على الزواج والتراضي بين الطرفين وركون كل منهما إلى الآخر فيخطب تلك المرأة لنفسه، ويُرغب أهلها في تزويجها له، " ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها " أي ولا تطلب المرأة المخطوبة طلاق الزوجة الأولى لتسلبها ما كانت تنعم به من معاشرة ونفقة ونحوها. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم بيع الحاضر للبادي وهو أن يتولى الحضري بيع السلعة للبدوي في المستقبل، منتظراً ارتفاع سعرها، قال العيني: وهو قول أكثر أهل العلم، وقول مالك والليث والشافعي وأحمد، وحكى مجاهد جوازه وهو قول أبي حنيفة وآخرين (1) وقالوا: النهي
__________
(1) " شرح العيني " ج 11.(3/271)
639 - " بَابُ بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ "
739 - عَنْ جَابِرٍ بنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" أنَّ رَجُلاً أعْتَقَ غُلاماً لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَأخَذَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي، فاشتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بِكَذَا وَكَذَا فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
منسوخ، وهل النهي يقتضي الفساد أم لا؟ ذهب مالك وأحمد إلى أن البيع لا يصح، وذهب الجمهور إلى أنّه يصح مع الحرمة. ثانياًًً: تحريم النجش (1) فإن تواطأ البائع والمشتري أثما معاً، والبيع صحيح عند الشافعية والحنفية، خلافاً للحنابلة، وقالت المالكية: له الخيار. ثالثاً: تحريم بيع الرجل على بيع أخيه بعد الركون والتراضي، ولا خلاف في ذلك. رابعاً: تحريم خطبة الرجل على خطبة أخيه المسلم ما لم يأذن له وإلا كان عاصياً وصح نكاحه عند الجمهور، خلافاً لداود الظاهري ومالك في رواية. وقال مالك في المشهور عنه يفسخ النكاح قبل الدخول، ويلحق الذمي بالمسلم عند الجمهور. خامساً: أنه لا يجوز للمخطوبة أن تسأل طلاق الزوجة الأولى. والمطابقة: هي: " في كون الحديث جزءاً من الترجمة ".
639 - " باب بيع المزايدة "
739 - معنى الحديث: يحدثنا جابر رضي الله عنه: " أن رجلاً أعتق غلاماً عن دبر " أي أن رجلاً أنصارياً يدعى أبا مدكور أعتق عبداً قبطياً بعد وفاته يسمى يعقوب، " فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: من يشتريه " أي فأصابت الرجل ضائقة مالية فعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - عبده للبيع عن طريق المزايدة
__________
(1) وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليرفع من سعرها.(3/272)
640 - " بَابُ بَيْعِ الْغرَرِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ "
740 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
"أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَكَانَ بَيْعَاً يتبَايَعَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" فاشتراه نعيم (1) بن عبد الله " بأغلى ثمن وصل إليه " بكذا " أي بثمانمائة درهم. الحديث: أخرجه الخمسة غير أبي داود.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز بيع المزايدة وهو مذهب الجمهور، وكرهه بعضهم وعدوه من النجش، والحديث حجة عليهم: وعن أنس رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - باع حلساً وقدحاً وقال: من يشتري هذا الحلس (2) والقدح؟ فقال رجل: آخذهما بدرهم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من يزيد على درهم " الخ أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي. ثانياًًً: جواز بيع المدير وهو مذهب، الشافعي وأحمد خلافاً لمالك وغيره.
640 - " باب بيع الغرر وحبل الحبلة "
أي هذا باب تذكر فيه الأحاديث المتعلقة بتحريم بيع الغرر وبيع حَبَلِ الحبلة بفتح الباء فيهما، قال العيني: وهو الصواب. وبيع الغرر، هو كل بيع يجهل فيه الثمن أو المبيع، أو يجهل فيه سلامة المبيع، أو أجله، ومنه بيع حبل الحبلة، فإنه نوع من أنواع بيع الغرر، وعطفه عليه من باب عطف الخاص على العام، وبيع حبل الحبلة كما قال مالك والشافعي: أن يقول البائع بعتك هذه السلعة بثمن مؤجل إلى أن تنتج هذه الناقة، ثم تنتج الذي في بطنها وهو باطل لأنّه بيع غرر لجهالة الأجل: وهناك أقوال أخرى في معناه تأتي
__________
(1) بضم النون وفتح العين وسكون الياء.
(2) بكسر الخاء كساء يوضع على ظهر البعير.(3/273)
أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، كانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الجَزُورَ إلَى أن تُنْتَجَ النَّاقَةُ، ثُمَّ الَّتِي في بَطْنِهَا".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في شرح الحديث.
740 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع حبل الحبلة بفتح الباء في الكلمتين، وهو بيع من البيوع التي كان يمارسها العرب في الجاهلية، فحرمها الإسلام، ونهى عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ومعنى بيع حبل الحبلة الذي كانوا يتعاملون به في الجاهلية كما قال راوي الحديث أن الرجل كان يشتري البعير بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة ناقة، وتكبر تلك الناقة التي ولدتها، وتلد أيضاًً مثل أمها، وإنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا البيع لأن الأجل فيه مجهول، فهو بيع غرر.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم بيع حبل الحبلة، واختلف الفقهاء في معناه، فقال مالك والشافعي وغيرهما: هو أن يقول البائع بعتك هذه السلعة بثمن مؤجل إلى أن تنتج هذه الناقة، ثم تنتج التي في بطنها، وهو بيع حرام وباطل وبيع غرر لأن الأجل فيه مجهول، وقال أحمد: هو بيع ولد الناقة، وهو بيع غرر أيضاًً، لأنه بيع شيء مجهول إلى أجل مجهول، وهو محرم وباطل، لما ذكرنا، ولأنه غير مقدور على تسليمه إلا أن راوي الحديث قد فسر بيع حبل الحبلة بالأول وتفسير الراوي مقدم إذا لم يخالف الظاهر. ثانياًًً: استدل البخاري بنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع حبل الحبلة على تحريم بيع الغرر، وهو كل بيع احتوى على جهالة، أو كان المبيع غير مقدور على تسليمه، أو غير تام الملكية، كالعبد الآبق، والسمك في الماء الكثير، لأن العلة في النهي عن بيع حبل الحبلة هي الغرر، فيدخل في ذلك جميع بيوع الغرر. والحكمة في تحريمه - كما أفاده الزرقاني (1) أنه أكلٌ لأموال
__________
(1) " شرح الزرقاني على الموطأ " ج 3.(3/274)
641 - " بَابُ إِنْ شَاء رَدَّ المصراة وفي حلبتها صاع من تمر "
741 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ اشْتَرى غَنَمَاً مُصَرَّاةً فاحْتَلَبَهَا، فَإِنْ رَضِيَهَا أمْسَكَهَا، وَإنْ سَخِطَهَا فَفِي حَلْبَتِهَا صَاع مِنْ تَمْرٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الناس بالباطل إذا لم يحصل المبيع، وقد نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه العلة في بيع الثمار قبل صلاحها، فقال: " أرأيت إن منع الله الثمرة، فبم يأكل أحدكم مال أخيه ". وقد ورد النهي عن بيع الغرر نصاً وتصريحاً في حديث، سعيد ابن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " نهى عن بيع الغرر " أخرجه مالك في " الموطأ " ثم قال مالك رحمه (1) الله والأمر عندنا أن من المخاطرة والغرر اشتراء ما في بطون الإِناث، من النساء والدواب (2) ، لأنه لا يدري أيخرج أم لا، فإن خرج لم يدر أيكون حسناً أم قبيحاً؟ تاماً أم ناقصاً؟ ذكراً أم أنثى، وذلك كله يتفاضل، إن كان كذا فقيمته كذا وإن كان على كذا فقيمته كذا.
الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " نهى عن بيع حبل الحبلة ".
641 - " باب إن اشاء رد المصراة وفي حلبتها صاع من تمر "
741 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من اشترى غنماً مصراة فاحتلبها " أي أن كل من غُرِّر به أو خدع في البيع، فاشترى غنماً قد حبس اللبن في ضرعها، وترك حَلْبُها مدة من الزمن ليكثر اللبن فيه فيظنَّ أنها حلوب كثيرة اللبن، فلما اشتراها وحلبها، ظهر له قلة لبنها، فإنّ له
__________
(1) " موطأ مالك ".
(2) قال الزرقاني: وهذا لا خلاف فيه لأنه غرر مجهول. اهـ. كما في " شرح الزرقاني " ج 3.(3/275)
الحق في إبقائها أو ردها لبائعها لمدة ثلاثة أيام " فإن رضي أمسكها " أي فإن أحبها ورضي بها فله الحق في إبقائها " وإن سخطها " أي وإن كرهها فله الحق في ردها إلى صاحبها لمدة ثلاثة أيام، كما ذكرنا فإن ردها " ففي حلبتها صاع تمر " أي فإن عليه أن يدفع لصاحبها صاعاً من تمر عوضاً عن الحليب الذي شربه منها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم تصرية الغنم، ولو كان ذلك جائزاً لما كان للمشتري الحق في رد الشاة المصراة، وكذلك الإبل والبقر فإنه يحرم تصريتها لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تصرُّوا الإِبل والغنم ... " إلخ متفق عليه، وفي رواية " لا تُصَرُّ " بالنفي وهو أبلغ، وقد جاء في الحديث الصحيح " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تصرية الحيوان إذا أريد بيعه ". ثانياًًً: أن للمشتري الحق في رد المصراة لمدة ثلاثة أيام على أن يدفعٍ لصاحبها صاعاً من تمر مقابل ما شربه من لبنها، سواء كانت غنماً أو إبلا أو بقراً، لما جاء في رواية أخرى عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تصروا الإِبل والغنم، فمن ابتاعها بعد، فإنه بخير النظرين بين أن يحتلبها، إن شاء أمسك وإن شاء ردّها وصاعَ تمرٍ " متفق عليه وهو مذهب الجمهور، وقالت الحنفية: ليس له أن يردها وإنما يرجع على البائع بنقصان المبيع، وأجابوا عن حديث الباب وغيره بأنه مضطرب، لأنه ذكر التمر مرة، والقمح أخرى، وقالوا: إن هذا الحكم منسوخ، وأجيب بأن الطرق الصحيحة لا اختلاف ولا اضطراب فيها، وأما النسخ فإنه لا يثبت بالاحتمال. اهـ. كما أفاده الصنعاني. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " ففي حلبتها صاع من تمر ".
***(3/276)
642 - " بَابُ مَنْ كَرِهَ أنْ يبيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِأَجْرٍ "
742 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" نَهَى رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ "، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
641 - " باب من كره أن يبيع حاضِرٌ لباد بأجر "
742 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضر لباد " أي نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - الحضري أن يتولى بيع السلعة للبدوي، فيصير له سمساراً، كما فسره بذلك ابن عباس رضي الله عنهما، فقد روى البخاري بسنده المتصل عن ابن عباس أنّ طاووساً قال: قلت لابن عباس: ما قوله لا يبيع حاضر لباد قال: لا يكون له سمساراً. الحديث: أخرجه الخمسة، غير الترمذي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه لا يجوز للحضري أن يبيع للبدوي سلعته، وهو قول بعض أهل العلم منهم الشافعي وغيره، قال النووي: هذه الأحاديث تتضمن تحريم بيع الحاضر للبادي، وبه قال الشافعي والأكثرون، قال أصحابنا: والمراد به أن يقدم غريب من البادية أو من بلد آخر بمتاع تعم الحاجة إليه ليبيعه بسعر يومه، فيقول له البلدي: اتركه عندي لأبيعه على التدرج بأغلى. قال أصحابنا: وإنما يحرم بهذه الشروط وأن يكون عالماً بالنهي، وبه قال جماعة من المالكية، وقال بعض المالكية: يفسخ البيع (1) ما لم يفت، وقال عطاء ومجاهد وأبو حنيفة: يجوز بيع الحاضر للبادي مطلقاً لحديث " الدين النصيحة " قالوا: وحديث " النهي عن بيع حاضر لباد "
__________
(1) وقال الشافعي وإن باع فالبيع جائز أي صحيح كما أفاده الترمذي.(3/277)
643 - " بَابُ بَيعِ الشعير بالشعير "
743 - عَنْ مَالِكِ بْنِ أوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ الْتَمَسَ صَرْفَاً بمائةِ دِينَارٍ قَالَ: فَدَعَانِي طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ فَتَرَاوَضْنَا حَتَّى اصْطرفَ مِنِّي، فَأخَذَ الذَّهَبَ يُقَلِّبُهَا في يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: حَتَّى يَأتِي خَازِنِي مِنَ الْغَابَةِ، وَعُمَرُ يَسْمَعُ ذلك، فَقَالَ: وَاللهِ لا تُفَارِقُهُ حَتَّى تَأخُذَ مِنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " الذَّهَبُ بالذَّهَبِ رِباً إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ والبُرُّ بِالبُرِّ رِباً إِلَّا هَاءَ وهَاءَ، والشَّعِيرُ بالشَّعِيرِ رِباً إِلَّا هَاءَ وهَاءَ، والتَّمْرُ بالتَّمْرِ رِباً إلَا هَاءَ وَهَاءَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
منسوخ. اهـ. واختلف قول مالك في الشراء له، فمرة قال: لا يشتري له ولا يشتري عليه، ومرة أجاز الشراء له وهو قول الليث والشافعي (1) .
الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " فهي أن يبيع حاضر لباد " حيث أنّ النهي يدل على التحريم أو الكراهة على الأقل.
643 - " باب بيع الشعير بالشعير "
743 - معنى الحديث: يحدثنا مالك بن أوس رضي الله عنه " أنه التمس صرفاً بمائة دينار " أي بحث عمن يصرفها له " قال: فدعاني طلحة " أي ناداني " فتراوضنا " أي فتساومنا عليها " حتى اصطرف مني " أي صرفها " ثم قال: " حتى يأتي خازني من الغابة " أي أمهلني في ثمنها حتى يأتي خازني من الغابة " وعمر يسمع ذلك فقال: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه " الثمن " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء " بفتح الهمزة
__________
(1) " تحفة الأحوذي شرح الترمذي " ج 4.(3/278)
أي إلاّ خُذْ وهات. قال العيني: والمراد أنهما يتقابضان في المجلس قبل التفرق منه، يعني أنّه لا يجوز بيع الذهب بالذهب إلاّ يداً بيد، فيتناول المشتري السلعة ويتناول البائع الثمن في وقت واحد ومجلس واحد، أما إذا تأخّر أحد البدلين عن الآخر فلا يجوز البيع، لأنه ربا النسيئة " والبر بالبر ربا إلاّ هاء وهاء " الخ أي وكذلك لا يجوز أن يتأخر أحد البدلين في البر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر، لأنه ربا النسيئة، وهو محرم شرعاً.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز بيع الذهب بالذهب والبر بالبر والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، يداً بيد، أي بشرط أن يستلم البائع الثمن والمشتري السلعة قبل أن يتفرقا. ثانياًًً: أنه لا يجوز أن يتأخر أحد البدلين عن الآخر في بيع الذهب بالذهب، والبر بالبر والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، لأنه ربا النسيئة المحرم شرعاً. وكما لا تجوز النسيئة في بيع هذه الأصناف بنفسها، كذلك لا يجوز التفاضل، أما تحريم النسيئة فيدل عليه حديث الباب وأما تحريم التفاضل فتدل عليه أحاديث أخرى. وقد وردت هذه الأحكام مجتمعة في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرُّ بالبرِّ، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد " أخرجه مسلم فقد دل حديث عبادة هذا على أن بيع هذه الأصناف تعتريه أحكام ثلاثة:
الأول: يحرم بيعها نسيئة وتفاضلاً إذا كان البدلان من نوع واحد، كبُرٍّ ببُرٍّ، وشعير بشعير (1) الثاني: يحرم بيعها نسيئة ويجوز تفاضلاً، إذا اختلف النوعان كبيع الشعير بالتمر (2) . الثالث: يجوز بيعها نسيئة وتفاضلاً إذا بيعت هذه
__________
(1) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد " لدلالته بالنصِّ على وجوب التماثل والتقابض في المجلس بين البدلين المتحدين في النوع ولدلالة مفهومه على تحريم التفاضل والنسيئة بينهما.
(2) وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد " حيث يدل بنصه =(3/279)
644 - " بَابُ بَيْعِ الذَّهَبِ بالذَّهَبِ "
744 - عنْ أبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لا تَبيعُوا الذَّهَبَ بالذَّهَبِ إِلَّا سَوَاءً بِسَواءٍ، والفِضَّةَ بالفِضَّةِ إلَّا سَوَاءً بِسَواءٍ، وبِيعُوا الذَّهَبَ بالفِضَّةِ، والفِضَّةَ بالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْتُمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأصناف بأصناف أخرى غير الأشياء المذكورة في الحديث، وهذا الحكم وإن كان غير منصوص عليه، إلاّ أنه يؤخذ من مفهوم الحديث، والله أعلم.
الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " الشعير بالشعير ربا إلاّ هاء وهاء ".
644 - " باب بيع الذهب بالذهب "
744 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء "، أي أنه - صلى الله عليه وسلم - ينهانا عن بيع الذهب بالذهب إلّا إذا كانا متماثلين متساويين في مقدارهما ووزنهما. " والفضة بالفضة إلا سواء بسواء " أي وكذلك لا تبيعوا الفضة بالفضة إلاّ متماثلين " وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم " أي سواء كانا متماثلين أو متفاضلين أما النسيئة فلا تجوز لما جاء في الحديث السابق.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم التفاضل في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة، وهو ربا الفضل، وكذلك لا يجوز بيع البر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والزبيب بالزبيب، والملح بالملح متفاضلاً، كما جاء النهي عن ذلك في حديث عبادة بن الصامت الذي ذكرناه في شرح الحديث
__________
= ومنطوقه على أنه إذا اختلف النوع جاز التفاضل وحرمت النسيئة. اهـ.(3/280)
645 - " بَابُ بَيْعِ الدِّينَارِ بالديْنَارِ نسَاءً "
745 - عَنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ الله " عَنْهُ قَالَ: "الدِّينَارُ بالدِّينَارِ، والدِّرْهَمُ بالدِّرْهَمِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السابق. وقد اتفق الفقهاء على تحريم ربا الفضل في السبعة الأصناف المذكورة في الحديث، واختلفوا فيما عداها (1) ، فطائفة قصرت التحريم عليها وهم الظاهرية، وطائفة حرمت، التفاضل في كل مكيل أو موزون بجنسه، وهذا مذهب أحمد في ظاهر مذهبه، وأبي حنيفة وطائفة خصته بالنقدين والطعام مطلقاً، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد، سواء كان قوتاً أو فاكهة أو دواء، وطائفة خصته بالطعام مكيلاً أو موزوناً وهو قول للشافعي، ورواية عن أحمد، وطائفة خصته بالقوت وما يُصلحه وهو قول مالك، واعتبره ابن القيم أرجح الأقوال (2) . الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلاّ سواء بسواء ".
645 - " باب بيع الدينار بالدينار نساءً "
745 - معنى الحديث: أن أبا سعيد الخدري " قال: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم " أي لا يجوز بيع الدينار الواحد إلاّ بدينار واحد مثله في القدر والوزن، وكذلك لا يجوز بيع الدرهم من الفضة إلاّ بدرهم يساويه في وزنه، فلا يجوز التفاضل في بيع الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، وفي رواية أخرى عنه: " الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم مثلاً بمثل، من زاد وازداد فقد أربى " أخرجه مسلم، " فقيل له: " أي قال أبو صالح
__________
(1) " الفقه الإسلامي وأدلته " للدكتور وهبة الزحيلي ج 4.
(2) " إعلام الموقعين " ج 2 كما أفاده في " الفقه الإسلامي وأدلته " ج 4.(3/281)
لا يَقُولُهُ فَقَالَ أبو سَعِيدٍ سَألتُهُ، فقُلْتُ سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أوْ وَجَدْتَهُ في كِتَابِ اللهِ؟ قَالَ: كُل ذلِكَ لا أقُولُ وأنتُمْ أعْلَمُ برَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنِّى، ولَكِنَّنِي أخْبَرنِي أُسَامَةُ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لا رِبَا إِلَّا في النَّسِئَةِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الزيات راوي الحديث لأبي سعيد: " إن ابن عباس لا يقوله " أي لا يقول بربا الفضل، ولا يحرمه في بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة والشعير بالشعير الخ. " فقلت: سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي فقال أبو سعيد أتيتُ ابن عباس فسألته: هل سمعت جواز التفاضل بين المتماثلين من هذه الأصناف السبعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - " أو وجدته في كتاب الله " منصوصاً عليه فيه " قال: كل ذلك لا أقول " أي لم أجده في القرآن، ولا سمعته بنفسي من النبي - صلى الله عليه وسلم - " ولكن أخبرني أسامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ربا إلاّ في النسيئة " وهذا يدل على جواز التفاضل.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم ربا الفضل، لقول أبي سعيد: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، وأبو سعيد لا يقوله من عنده، وقد جاء هذا الحديث في رواية أخرى مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ " الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى " أخرجه أحمد والبخاري. ثانياًًً: تحريم ربا النسيئة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ربا إلاّ في النسيئة " ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم. ثالثاً: ذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى جواز بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والشعير بالشعير، وكل شيء بمثله متفاضلاً، وحصر الربا في بيع النسيئة فقط، وحجته في ذلك حديث أسامة " لا ربا إلاّ في النسيئة " وقد اتفقوا على صحته كما أفاده الحافظ، واختلف أهل العلم في الإِجابة عنه، فقال بعضهم: معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ربا إلا في النسيئة " أن غيره(3/282)
646 - " بَابُ بَيْعِ الْوَرِقِ بالذَّهَبِ نسِيئَةً "
746 - عنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ وَزَيْدِ بْنِ أرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ:
أنَّهُمَا سُئِلا عَنِ الصَّرْف فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ: هَذَا خَيرٌ مِنِّي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من أنواع الربا بالنسبة إليه لا يُعَدُّ شيئاً (1) ، لأن الخطر الأشد، والضرر الأعظم إنما هو في ربا النسيئة، فإنه متى وقع في أمة استشرى فيها وتمكن منها تمكن السرطان من الجسم الذي يحل فيه، ولأنه لا يكاد يقع ربا الفضل إلّا كان ربا النسيئة سبباً فيه، فلا تكاد ترى أحداً يقبل شراء التمر بالتمر متفاضلاً إلّا إذا كان الثمن مؤجلاً، وكذلك بيع الدراهم بالدراهم متفاضلاً سببه النسيئة كما نرى في الديون الربوية والمعاملات البنكية. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " الدينار بالدينار " يعني يداً بيد فلا تجوز النسيئة.
646 - " باب بيع الورق بالذهب نسيئة "
746 - معنى الحديث: أنه سئل البراء بن عازب وزيد بن أرقم
__________
(1) بل هناك جوابان أصح مما ذكر الأول للشافعي فقد قال: قد يكون أسامة جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن الصنفين المختلفين مثل الذهب بالورق والتمر بالحنطة، أو ما اختلف جنسه متفاضلاً يداً بيد فقال: إنما الربا في النسيئة فأدرك الجواب ولم يحفظ المسألة أو شك فيها. الجواب الثاني: أن حديث أسامة منسوخ فقد ذكر الحازمي في " الاعتبار " عن البراء بن عازب قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وتجارتنا هكذا فقال: ما كان يداً بيد فلا بأس به (أي ولو كان متفاضلاً من جنس واحد) وما كان نسيئاً فلا خير فيه، قال الحميدى: هذا منسوخ لا يؤخذ به. اهـ. " الاعتبار " ص 316. وهناك جواب ثالث: وهو إذا اختلف حديثان صحيحان وجب المصير إلى ترجيح أحدهما بأحد وسائل الترجيح وإلا تساقطا ورجعنا إلى الاستصحاب كما هو مبين في علم أصول الفقه. وفي هذه المسألة نرجح حديث أبي سعيد على حديث أسامة لأن تحريم ربا الفضل ثبت بأحاديث كثيرة صحيحة لا شك فيها ولأن تحريم ربا الفضل هو الذي عليه جماهير الصحابة والتابعين ومن تبعهم من فقهاء الأنصار إلى يوم الناس هذا ولم يذهب مذهب ابن عباس في ربا الفضل إلا أفذاذ من الناس. اهـ. (حسن السماحي) .(3/283)
وكلاهُمَا يَقُولُ: " نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيع الذَّهَبِ بالْوَرِقِ دَيْناً ".
647 - " بَابُ بَيْعَ الْمُزَابَنَةِ "
747 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لا تَبيعُوا الثَّمَرَ حتى يَبْدُو صَلَاحُهُ، ولا تَبِيعُوا الثَّمَرَ بالتَّمْرِ قَالَ: وأخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ بَعْدَ ذَلِكَ في بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بالرُّطَبِ، ْ أو بالتَّمْرِ، ولم يُرَخِّصْ في غَيْرِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رضي الله عنهم عن صرف الذهب بالفضة أو بالعكس هل يجوز فيه الدين أم لا، فكان كل واحد منهما يدفع الفتوى عن نفسه، ويقول عن الآخر: إنه خير منه، ثم قالا: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الذهب بالورق " يعنى بالفضة " ديناً " أي بالدين، وهو بيع ذهب حاضر بفضة مؤجلة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم الدين في الصرف، لأنه يلزم منه بيع أحد المتماثلين في العلة الواحدة بالآخر مؤجلاً، وهو ربا النسيئة. والمطابقة: في قوله: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الذهب بالورق ديناً ".
647 - " باب بيع المزابنة "
وهو أي بيع المزابنة بيع الرطب بالتمر:
747 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار عامة حتى تنضج، ويظهر صلاحها، وتصبح على الصفة التي يرغبها الناس فيها، وعلامة ذلك أن تحمرّ وتصفرّ، كما في الرطب مثلاً، ونهى - صلى الله عليه وسلم - أيضاًً عن بيع الرطب بالتمر وهو ما يسمى عند العرب ببيع المزابنة، وبيع الزبيب بالعنب، وبيع العرايا، وسيأتي تفسيره، إلاّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استثنى من هذا النهي بيع(3/284)
العرايا، فأجازه ورخص فيها كما روى الزهري في هذا الحديث عن زيد بن ثابت " أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غيره " ومعناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استثنى من هذا بيع العرية فأجازه، وهو بيع الرطب على النخل من التمر بعد معرفة خرصه عند جفافه بشروط معينة. الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم بيع الثمار قبل نضجها وسيأتي في موضعه. ثانياًًً: تحريم بيع المزابنة، وهو بيع الثمار الرطبة الناضجة بالثمار الجافة، كبِيع الرطب بالتمر، والعنب بالزبيب، لأنه يؤدي إلى التفاضل بين المتماثلين نوعاً وعلة، وهو ربا الفضل، ويستثنى من ذلك بيع العرية أو العرايا، وهو أن يبيع رطباً على النخل لا يبلغ خمسة أوسق بخرصه من التمر لمن يأكله رطباً، وقد رخص فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجازه، قال ابن قدامة وهو قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأهل المدينة والأوزاعي والشافعي وإسحاق. وقال أبو حنيفة (1) لا يحل بيعها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع المزابنة، والمزابنة بيع الثمر بالتمر متفق عليه. قال ابن قدامة: ولنا ما روى أبو هريرة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في العرايا في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق " "قال" ورواه زيد بن ثابت، وسهل بن أبي حثمة وغيرهما، وخرجه أئمة الحديث في كتبهم وفي سياقه " إلا العرايا " كذلك في المتفق عليه، وهذه زيادة يجب الأخذ بها. اهـ. ثالثاً: قال في حديث الباب: " وأخبرني زيد ابن ثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر " وظاهره يدل على جواز بيع الرطب على النخل بالرطب على الأرض ولكن الشراح تأوّلوا هذه الرواية كما قال القسطلاني بأن " أو" للشك وأكثر الروايات على أنه إنما قال بالتمر، فلا يعول على غيره. هذا وقد حمل بعض أهل العلم
__________
(1) " المغني " ج 4.(3/285)
648 - " بَابُ إِذَا بَاعَ الثِّمَارَ قَبْلَ أنْ يبدُوَ صَلَاحُهَا ثُمَّ أصَابَتْهَا عَاهَةٌ فَهُوَ مِنَ الْبَائِعِ "
748 - عَنْ أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْع الثِّمَارِ حتَّى تُزْهِيَ، قِيلَ: وَمَا تُزْهِي، قَالَ: حَتَّى تَحْمَرَّ، أرَأيْتَ إِنْ مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأخُذُ أحَدُكُمْ مَالَ أخِيهِ؟ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث على ظاهره فأجازوا بيع الرطب على النخل بالرطب على الأرض، قال القسطلاني: وهو وجه عند الشافعية وقد روى النسائي والطبراني من طريق الأوزاعي عن الزهري ما يؤيّد أن " أو" للتمييز لا للشك حيث قال: بالرطب أو بالتمر. والمطابقة: في قوله: " ولا تبيعوا الثَّمرَ بالتمر " أي الرطب بالتمر.
648 - " باب إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها ثم أصابته عاهة فهو مِنَ البائع "
748 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن بيع الثمار التي على رؤوس النخل منفردة وحدها عن النخل حتى تنضج، ويظهر صلاحه - صلى الله عليه وسلم -، وهو معنى قوله: " حتى تُزْهي " قال الخليل: أزهى النخل بدا صلاحه، وفي رواية تزهو، وصوّبها بعضهم، وأنكر الياء، وصوب الخطابي الياء، ونفى تزهو بالواو، وقال ابن الأثير: والصواب الروايتان على اللغتين، يقال: زها يزهو إذا ظهرت ثمرته وأزهى يزهي إذا احمرّ واصفرّ كما جاء تفسيره بذلك في حديث الباب حيث قال: " فقيل لى: يا رسول الله وما تزهي؟ فقال:
حتى تحمرّ " وفي رواية " أو تصفَرّ "، لأنه إذا احمرت أو اصفرت كان ذلك علامة على تمام نضوجها ثم بين أن العلة الشرعية في تحريم بيع الثمار قبل نضوجها(3/286)
هي ما يحتوي عليه هذا البيع من الضرر والمخاطرة، لأنها قد تتلف الثمرة فيخسر المشتري، فيؤدي ذلك إلي أكل أموال الناس بالباطل لاحتمال حدوث العاهة قبل أخذها " فقال - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه " " والمعنى " أنه إنما نهى - صلى الله عليه وسلم - عن هذا البيع لأنه لا ينبغي لأحد أن يأخذ مال أخيه باطلاً، وبيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها قد يؤدي إلى ذلك، لأنه إذا تلفت الثمرة لا يبقى للمشتري في مقابل ما دفعه شيء. قال القسطلاني: واختلف في هذه الجملة هل هي مرفوعة (1) أو موقوفة فصرح مالك بالرفع، حيث قال في " الموطأ ": وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أرأيت إذا منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه " وقال الدارقطني: خالف مالكاً جماعة، منهم ابن المبارك يعني فقالوا إنها موقوفة على أنس رضي الله عنه، قال الحافظ: وليس في رواية الذي وقفه ما ينفي قولَ من رفعه. الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه والحديث صريح في ثمار النخل، حيث نهى عن بيعها حتى تزهي أي حتى تحمرّ أو تصفرّ، ويتم نضجها، ويظهر صلاحها، وكذلك الحكم في بيع العنب والحبوب، لما جاء في حديث أنس " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع العنب حتى يسودّ، وعن بيع الحب حتى يشتد " أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة. ويعرف صلاح البلح بالاحمرار والاصفرار وصلاح العنب بظهور الماء الحلو اللين والسواد في بعضه والاصفرار في البعض الآخر، وصلاح الحبوب ببياضها واشتدادها وصلاح الفواكه بطيب الأكل، قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، كرهوا بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، قال الزرقاني: وبه قال الجمهور:
__________
(1) أي اختلفوا هل هي مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أنها موقوفة على أنس رضي الله عنه.(3/287)
أما حكم هذا البيع من حيث الصحة والفساد فقد قال ابن قدامة: لا يخلو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها من ثلاثة أقسام. أحدها: أن يشتريها بشرط التبقية فلا يصح البيع إجماعاً، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها والنهى يقتضي فساد المنهي عنه. الثاني: أن يبيعها بشرط القطع في الحال، فيصح بالإِجماع، لأن المنع إنما كان خوفاً من تلف الثمرة، وحدوث العاهة عليها قبل أخذها. والثالث: أن يبيعها مطلقاً ولم يشترطا قطعاً ولا تبقية فالبيع باطل عند الحنابلة وبه قال مالك والشافعي، وأجازه أبو حنيفة، لأن إطلاق العقد يقتضي القطع، فهو كما لو اشترطه. اهـ. والمراد ببيع الثمار قبل بدو صلاحها الذي تجري فيه هذه الأحكام هو بيعها لغير مالك الأصل، أما بيعها مع الأصل فإنه يجوز في جميع الأحوال إجماعاً. فإن اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها: بشرط القطع، ثم أبقاها حتى بدا صلاحها فالبيع صحيح عند أكثر الفقهاء، وهو رواية عن أحمد. ثانياًًً: استدل ابن شهاب الزهري بهذا الحديث على أنه إذا باع البائع الثمرة منفردة عن الأصل قبل أن يبدو صلاحها، فأصابتها جائحة يعني عاهة (1) فأهلكتها كانت في ضمان البائع، فعليه أن يعوّض المشتري عما تلف من الثمرة، وفي هذا يقول الزهري كما رواه عنه البخاري: " ولو أن رجلاً ابتاع تمراً قبل أن يبدو صلاحه ثم أصابته عاهة كان ما أصابه على ربه " أي كان ذلك التلف محسوباً على مالك الثمرة " وهو البائع، والظاهر أن هذا هو مذهب البخاري. أمّا مذهب الفقهاء في هذه المسألة فقد قال ابن قدامة: " ما تهلكه الجائحة من الثمار من ضمان البائع " وبهذا قال أكثر أهل المدينة، منهم يحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك وأبو عبيد وجماعة من أهل الحديث. وقال أبو حنيفة والشافعي في الجديد: هو من ضمان المشتري لما روي أنّ امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت:
__________
(1) أي من ضمانه مطلقاً، سواء كان المبيع قبل نضوج الثمرة أو بعده.(3/288)
649- " بَابُ بَيْعِ الْمُخاضَرَةِ "
749 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ:
" نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْمُحَاقَلَةِ، والْمُخَاضَرَةِ، وَالْمُلامَسَةِ، والمُنَابَذَةِ، والْمُزَابَنَةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إن ابني اشترى ثمرة من فلان فأذهبتها الجائحة فسألته أن يضع عنه، فتألى أن لا يفعل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تألى فلان أن لا يفعل خيراً " متفق عليه ولو كان واجباً لأجبره عليه. قال ابن قدامة: ولنا ما روى مسلم في " صحيحه " عن جابر " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضع الجوائح "، وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن بعت من أخيك تمراً فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، لم تأخذ مال أخيك بغير حق " رواه مسلم وأبو داود. قال ابن قدامة: وفي رواية أخرى أن ما كان دون الثلث فهو من ضمان المشتري، وهو مذهب مالك والشافعي في القديم. اهـ. ويتلخص لنا من ذلك أن ما أتلفته الجائحة فيه " ثلاث أقوال: الأول: أنه في ضمان المشتري مطلقاً قليلاً كان أو كثيراً: وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي في الجديد.
الثاني: أنه في ضمان البائع مطلقاً، لا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها وهو مذهب أحمد وجماعة من أهل الحديث وأكثر أهل المدينة. الثالث: أنه في ضمان المشتري إذا كان دون الثلث، وهو مذهب مالك والشافعي في القديم والله أعلم. والمطابقة: في قوله: " بم يأخذ أحدكم مال أخيه ".
649 - " باب بيع المخاضرة "
749 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أنواع من البيوع. منها بيع المحاقلة: وهو بيع الزرع من البُرِّ والشعير في سنبله، والفول في غلافه(3/289)
650 - " بَابُ بيعِ التَّصَاوِيرِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا رُوحٌ، ومَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ "
750 - عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّهُ أتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يا ابْنَ عَبَّاسٍ إِنِّي إِنْسَانٌ إِنَّمَا مَعِيشَتِي مِنْ صَنْعَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بحبٍ خالص من نوعه كيلاً (1) ومنها المخاضرة: وهي بيع الثمار قبل أن يظهر صلاحها، وقد تقدم، ومنها الملامسة: وهو أن يبيعه الشيء إذا لمسه بيده دون مشاهدته والمنابذة: وهي أن يقول له أي ثوب نبذته إليّ فقد اشتريته بكذا، والمزابنة: وقد تقدم شرحها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم هذه البيوع المذكورة وبطلانها أما المخاضرة فهي بيع الحبوب والثمار قبل أن يبدو صلاحها، وهو بيع محرم وباطل، وقد تقدم شرحه في الباب السابق، كما ترجم له البخاري. أما المحاقلة فهي عند الجمهور بيع الحنطة والشعير في سنبله، والفول في غلافه بحب من نوعه كيلاً، وقال مالك: هي كراء الأرض ببعض ما ينبت منها. أما الملامسة والمنابذة فقد تقدم شرحهما في شرح الحديث على حسب قول الجمهور فيهما. الحديث: أخرجه البخاري.
650 - " باب بيع التصاوير التي ليس فيها روح وما يكره من ذلك "
750 - معنى الحديث: أن رجلاً قال لابن عباس رضي الله عنهما: إنني أعمل في رسم الصور الحيوانية من ذوات الأرواح وأبيعها وأعيش من
__________
(1) وذلك كأن يبيع الشعير في سنبله بعشرين صاعاً من الشعير الجاف. قال الصنعاني: والعلة في النهي عن ذلك هو الربا لعدم العلم بالتساوي. اهـ. وهي العلة أيضاًً في تحريم المزابنة.(3/290)
يَدِي، وإِنِّي أصْنَعُ هَذِه التَّصَاوِيرَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لا أحَدِّثُكَ إلَّا مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فَإِنَّ اللهَ مُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيها الرُّوحَ، وليْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أبَداً " فَرَبا الرَّجُلُ رَبْوَةً شَدِيدَةً، واصْفَرَّ وَجهُهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ إِنْ أبيْتَ إلَّا أن تَصْنَعَ فَعَلَيْكَ بِهَذَا الشَّجَرِ، كلِّ شَيءٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كسبها، وأنفق على عيالي منها، فهل يجوز ذلك؟ فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: إنني لا أريد أن أجيبك على سؤالك هذا إلاّ بحديث سمعته بنفسي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: " من صوّر صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ في الروح، وليس بنافخ " أي من رسم هذه الصور الحيوانية لذوات الأرواح، فإن الله تعالى سيعذبه يوم القيامة عذاباً شديداً طويلاً حتى ينفخ فيها الروح، وهذا أمر لا يقدر عليه، ولا يتمكن منه، فيطول عذابه إذن، " فربا الرجل ربوة شديدة واصفر " أي فلما سمع الرجل هذا الوعيد الشديد الذي يترتب على تصوير الصور الحيوانية فزع فزعاً شديداً حتى اصفرّ لونه من شدة الخوف: " فقال: ويحك إن أبيت إلاّ أن تصنع فعليك هذا الشجر " أي فلما رأى ابن عباس ما أصاب هذا الرجل من الفزع والخوف الشديد من هذا الوعيد، وأدرك الحرج الذي وقع فيه، وأن الرجل بين أمرين أحلاهما مر، أشفق عليه، ورثا لحاله، وعبر عن ذلك بقوله: " ويحك " فهي كلمة ترحم وعطف وإشفاق، ثم أشار عليه بعمل من جنس مهنته لا إثم فيه، فقال: إذا كنت لا بد لك من التصوير، ولا غنى لك عنه، لأنه مهنتك التي لا غنى لك عنها في حياتك، وصنعتك التي لا بد لك منها، ولا تعرف غيرها، وتجارتك التي تتعيش منها، فإن في إمكانك أن ترسم الصور النباتية والطبيعية كالأشجار والأزهار والجبال والأنهار، وتتكسسب منها، ولا يكون عليك في(3/291)
651 - " بَابُ تحْرِيمِ التِّجَارَةِ في الْخمْرِ "
751 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
لَمَّا نَزَلَتْ آيَاتُ سُورَةِ الْبَقَرةِ عنْ آخِرِهَا خَرَجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " حُرِّمَتْ التِّجَارَةُ في الْخَمْرِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رسمها وبيعها أي حرج من الناحية الدينية. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم رسم الصور الحيوانية وتصوير ذوات الأرواح من إنسان ودابّة وطير وبيعها واقتنائها. ثانياًً: جواز تصوير الصور النباتية والطبيعية من غير ذوات الأرواح وبيعها، والتكسب منها، كما أفتى بذلك ابن عباس رضي الله عنهما: وهو ما ترجم له البخاري استناداً إلى قول ابن عباس رضي الله عنهما. والمطابقة: بين قول ابن عباس رضي الله عنهما في الحديث " إن أبيت إلاّ أن تصنع فعليك بهذا الشجر، كل شيء ليس فيه روح " وبين قوله في الترجمة: " باب بيع التصاوير التي ليس فيها روح ".
651 - " باب تحريم التجارة في الخمر "
751 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " لما نزلت آيات سورة البقرة " ولفظه في رواية أخرى: " لما نزلت الآيات من سورة البقرة في الربا " " خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: حرمت التجارة في الخمر " أي أنّه لما نزلت آيات تحريم الربا خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيته إِلى المسجد، فأعلن تحريم التجارة في الخمر والبيع والشراء فيها، لأن كل ما لا يجوز تناوله من المشروبات تحرم التجارة فيه، لما في ذلك من ترويج المشروبات المحرمة بين(3/292)
652 - " بَابُ إِثْمَ مَنْ بَاعَ حُراً "
752 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " قَالَ اللهُ: ثَلَاثَة أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُل أعطى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرَّاً فأكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأجَرَ أجِيراً فاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أجْرَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الناس وتشجيع الناس على تعاطيها وشربها. الحديث: أخرجه الخمسة إلا الترمذي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم بيع المسكرات وأشباهها من المشروبات التي تحجب العقول وتغيبها وكذلك سائر المخدرات، لما في ذلك من ترويج السموم الفتاكة بين الناس، وشلّ حركتهم الجسمية والعقلية والنفسية، والقضاء على إرادتهم وتحطيم شخصيتهم، وانتشار الجنون فيهما. والمطابقة: في قوله: " حرمت التجارة في الخمر ".
652 - " باب إثم من باع حراً "
752 - معنى الحديث: يحدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث عن ربه عز وجل فيقول: " قال الله: ثلاثه أنا خصمهم " أي ثلاثة أنواع من البشر هم أعداء الله، والله خصمهم الشديد الخصومة لهم، ومن كان الله خصمه فقد هلك لا محالة. " رجل أعطى بي ثم غدر " قال العيني: فيه حذف المفعول (1) ، تقديره أعطى العهد باسمي، واليمين بي، ثم نقض العهد، ولم يف به. وقال ابن الجوزي: معناه حلف في قوله، ثم غدر ونقض العهد الذي حلف عليه، واجترأ على الله تعالى. " ورجل باع حراً فأكل ثمنه " أي باع حراً عالماً بحريته، عامداً متعمداً، ثم أخذ ثمنه، وأدخله على نفسه.
__________
(1) " شرح العيني " ج 11.(3/293)
653 - " بَابُ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ "
753 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " بَاعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - المُدَبَّرَ ".
654 - " بَابُ ثَمَنِ الْكَلْبِ "
754 - عَنْ أبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" ورجل استأجر أجراً " أي عاملاً " فاستوفى منه " عمله " ولم يعطه أجرته " أي وأكل عليه أجرة عمله. الحديث: أخرجه البخاري وأحمد وابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم بيع الحر وكونه من الكبائر، لأن هذا الوعيد لا يترتب إلاّ على كبيرة. ثانياًًً: أن من الكبائر الجرأة على الأيمان الباطلة، ونقض العهود، وأكل أجرة الأجير، لأنه استخدمه بغير عوض، وأكل حقه بالباطل، وهو من أقبح المظالم وأشدها. والمطابقة: في قوله: " رجل باع حراً ".
653 - " باب بيع المدبَّر "
753 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه: " باع النبي - صلى الله عليه وسلم - المدبر " وهو العبد الذي أعتقه سيده بعد موته. الحديث: أخرجه أيضاًً أبو داود والنسائي وابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز بيع المدبر، قال الترمذي: والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم، لم يروا في بيع المدبر بأساً وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. وكره قوم بيع المدبر، وهو قول سفيان الثوري ومالك. والمطابقة: في قوله: " باع النبي - صلى الله عليه وسلم - المدبَّر ".
654 - " باب ثمن الكلب "
754 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثلاثة أشياء.(3/294)
" أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، ومَهْرِ البَغِيِّ، وحُلْوَانِ الْكَاهِنَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأول: أنه - صلى الله عليه وسلم - " نهى عن ثمن الكلب " أي عن بيع الكلب، وأخذ ثمنه مطلقاً، سواء كان معلَّماً على الصيد أو غير معلّم، أو كان مما يجوز اقتناؤه مثل كلب الماشية والحرث، أو مما لا يجوز اقتناؤه. الثاني: أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن " مهر البغي " وهو الثمن الذي تتقاضاه الزانية مقابل تسليم نفسها للرجل الأجنبي وسماه مهراً مجازاً. الثالث: أنه نهى - صلى الله عليه وسلم - عن " حلوان الكاهن " وهو ما يأخذه الكاهن أو الكاهنة مقابل تنبأهما بالغيب. والكاهن الذي يدعي علم الغيب، ويخبر الناس بزعمه عن الكائنات الغيبية والأشياء المستقبلية، وهو شامل لكل من يدعي ذلك من منجم وضراب بالحصا ونحوه، وسمّى ما يتقاضاه الكاهن حلواناً تشبيهاً بالشيء الحلو، لأنه يؤخذ سهلاً بلا كلفة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم هذه الأشياء الثلاثة المذكورة، وقد أجمع العلماء على تحريم مهر البغي، ثم اختلفوا فيما يصنع فيه، واختار ابن القيم أنه يجب التصدق به، ولا يرد إلى الدافع، لأنه دفعه باختياره في مقابل عوض لا يمكن استرجاعه، فهو كسب خبيث يجب التصدق به، ولا يعان صاحب المعصية بحصول غرضه، ورجوع ماله. وأجمعوا أيضاًً على تحريم حلوان الكاهن وأنه لا يحل له ما يأخذه، ولا يحل لأحد تصديقه.
أما بيع الكلب وأخذ ثمنه فإن ظاهر الحديث يدل على تحريم بيعه وأكل ثمنه مطلقاً، مأذوناً فيه أو غير مأذون، وهو مذهب أحمد والشافعي والأوزاعي وداود، وعلة تحريم بيعه نجاسته: وجوّز أبو حنيفة بيع الكلب الذي فيه منفعة، وعن مالك ثلاث روايات: الأولى: لا يجوز، وتجب القيمة، والثانية: يجوز بيع ما فيه منفعة: والثالث كالجمهور. الحديث: أخرجه الستة.
والمطابقة: ظاهرة.(3/295)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتابُ السَّلَمِ "
655 - " بَابُ بَيْعِ السَّلَمِ في كَيْل مَعْلُومٍ "
755 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ:
قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ والنَّاسُ يُسْلِفُونَ في التَّمْرِ السَنّتيْنِ والثَّلَاثَ فَقَالَ: " مَنْ أسْلَفَ في شَيْءٍ ففِي كيْل مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلى أجَلِ مَعْلُوم ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" كتاب السلم "
السلم بفتح السين واللام معناه لغة: تسليم رأس المال في مجلس البيع، ويسمى سلفاً أيضاًً، إلاّ أن السلف لغة أهل العراق، والسلم لغة أهل الحجاز، أما السلم شرعاً فهو بيع شيء مؤجل موصوف في الذمة بثمن معجّل مقبوض في مجلس العقد كبيع عشرين أردباً من القمح مؤجلة، إلى عام أو عامين بأربعة آلاف معجلة نقداً في مجلس العقد، وهو بيع شرعه الإِسلام لمنفعة البائع بتوسعه في الثمن ومنفعة المشتري بشراء السلعة بأقل من قيمتها الحاضرة.
655 - " باب بيع السلم في كَيْل معلوم "
755 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة وجد الأنصار يتعاملون بالسلم، فيبيعون التمر مؤجلاً إلى عام أو عامين أو ثلاثة أعوام بثمن معجل مقبوض حالاً في مجلس العقد، فأقرهم - صلى الله عليه وسلم - على بيع السلم(3/296)
-هذا- لما فيه للمتبايعين من مصلحة ظاهرة، ولكنه ضبطه بشروط معينة فقال - صلى الله عليه وسلم -: " من أسلف في شيء " أي من اشترى شيئاً من تمر أو بُرّ أو شعير مؤجلاً إلى عام أو عامين بثمن حاضر مقبوض في مجلس العقد، " فيسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم "، أي فليكن الشيء الذي اشتراه شيئاً معيناً، معلوم المقدار، محدود الكمية كيلاً ووزناً، مضبوطاً بأجل معلوم، ومدة معينة معروفة محددة كسنة أو سنتين مثلاً، لا بأجل مجهول المدة غير محدد الزمن.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز بيع السلم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر أهل المدينة عليه، وضبطه لهم بشروط معينة، وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًً: أنه يشترط في صحة السلم شروطاً لا بد منها:
الأول: أن يكون المبيع محدود الكمية، معلوم المقدار كيلاً أو وزناً أو ذرعاً أو عدداً، فلا يصح السلم في مجهول القدر، لما فيه من الغرر والضرر، وفتح باب النزاع والشقاق. الثاني: أن يكون المبيع مؤجلاً أجلاً معلوماً مؤقتاً بفترة معينة وزمن محدود لا يختلف، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " إلى أجل معلوم " فإذا كان مما يختلف كالجذاذ والحصاد، فلا يجوز، وهو قول أحمد والشافعي وأبي حنيفة، وقال أحمد في رواية: أرجو أن لا يكون به بأس، وهو مذهب مالك وأبي ثور. قال ابن قدامة: (1) ولنا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه قال: لا تبايعوا إلى الحصاد والدياس، ولا تبايعوا إلاّ إِلى شهر معلوم، واستدل المالكية بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى يهودي أن ابعث إليَّ بثوبين إلى الميسرة " ولكن قال أحمد: رواه (حربي) بن عمارة وفيه (غفلة) وهو صدوق. الثالث: أن يقبض الثمن فوراً في مجلس العقد لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فليسلف " والإِسلاف تسليم الثمن مقدماً، وإعطاءه حالاً في مجلس العقد، فإن تفرقا قبل قبض الثمن فالعقد باطل عند
__________
(1) " المغني " ج 4.(3/297)
أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك: يجوز أن يتأخر يومين أو ثلاثاً أو أكثر ما لم يكن ذلك شرطاً. والرابع: أن يكون السلف في الذمة لا في الأعيان، فلا يجوز في ثمرة بستان بعينه، لأنه لا يؤمن من تلفه، قال ابن المنذر: إبطال السلف في ذلك كالإِجماع من أهل العلم. الخامس: أن يكون المبيع مستوفياً لشروط البيع كلها، لأنّ السلم نوع من أنواعه. السادس: أن يكون المبيع مما ينضبط بالصفات التي يختلف الثمن باختلافها، فيصح في الحبوب والثمار والدقيق والثياب والحديد والرصاص والكبريت، وكل مكيل أو موزون أو مزروع أو معدود، قال ابن قدامة: واختلفت الرواية في السلف في الحيوان، فروي: لا يصح السلم فيه، وهو قول الثوري وأصحاب الرأي، قال: وظاهر المذهب يصح السلم فيه، قال ابن المنذر (1) : وممن روينا عنه أنه لا بأس بالسلم في الحيوان ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب والأوزاعي والشافعي، وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: " أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أبتاع البعير بالبعيرين وبالأبعرة إلى مجيء الصدقة ". اهـ. واستدل الحنفية وأهل الكوفة على عدم جوازه بما أخرجه الحاكم في " المستدرك " أنّ (2) النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن السلف في الحيوان "، قال الزيلعي في " نصب الراية ": قال الحاكم: حديث صحيح الإِسناد ولم يخرجاه. إلاّ أن من رواته إسحاق بن إبراهيم، وقد قال فيه ابن حبان: منكر الحديث جداً يأتي عن الثقات بالموضوعات. السابع: أن يضبط المبيع بصفاته التي يختلف الثمن بها ظاهراً من جنس ونوع وجودة ورداءة ولون وبلد، قال ابن قدامة: ولا يجب استقصاء كل الصفات، لأن ذلك متعذر، فيجب الاكتفاء بالأوصاف الظاهرة التي يختلف الثمن بها ظاهراً، فيصف التمر بأربعة أوصاف: النوع برني أو معقلي، والبلد إن كان يختلف، فيقال: بغدادي أو بصري، فإنّ البغدادي أحلى لعذوبة
__________
(1) " المغني " ج 4.
(2) " تحفة الأحوذي " ج 4.(3/298)
الماء، وأقل بقاءً، والبصري بخلاف ذلك، والقدر " يعني الحجم " كبار أو صغار، وحديث أو عتيق، فأما اللون، فإن كان النوع الواحد مختلفاً كالطبرز يكون أحمر ويكون أسود ذكره: ثم ذكر أن البُرَّ يوصف بأربعة أوصاف النوع والبلد والحجم وحديث أو عتيق. اهـ. الثامن: قال الصنعاني: واختلفوا أيضاًً في شرطية المكان الذي يسلم فيه فأثبته جماعة، وذهب آخرون إلى عدم اشتراطه، وفصلت الحنفية فقالت: إن كان لحمله مؤونة فيشترط، وإلّا فلا، وقالت الشافعية: إن عقد حيث لا يصح التسليم كالطريق يشترط وإلا فقولان.
هذا وقد اختلفوا هل يشترط في المبيع أن يكون موجوداً عند بائعه حال العقد، فذهب الشافعي ومالك إلى أنّه لا يشترط، واستدلوا بحديث عبد الرحمن بن أبزى " بفتح الهمزة وسكون الباء " قال: " كنا نصيب الغنائم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنستلفهم في الحنطة والشعير والزبيب قيل: أكان لهم زرع؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك " أخرجه البخاري، قال الصنعاني وهو استدلال بفعل الصحابي أو تركه ولا دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - علم بذلك، وأقره. قال الصنعاني: (1) ويعارض ذلك حديث ابن عمر عند أبي داود: " ولا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه " فإن صح ذلك كان مقيداً لتقريره لأهل المدينة "على سلم السنة والسنتين، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن لا يسلفوا حتى يبدو صلاح النخل، وهذا يؤيد ما ذهب إليه أبو حنيفة من أنه يشترط في المسلم فيه أن يكون موجوداً عند العقد إلى الحلول (2) .
الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فليسلف في كيل معلوم ".
__________
(1) " سبل السلام شرح بلوغ المرام " الصنعاني.
(2) ولكن هذا الشرط يتنافى مع الغرض الشرعي المقصود من السلم بالنسبة إلى البائع، لأن الشارع إنما شرع السلم لمنفعة مقصودة للبائع، وهي أن يتوسع في الثمن، فإذا كان المبيع موجوداً فلا معنى لتأخير تسليمه ولا فائدة في ذلك، بل المنفعة في أن يبيعه بثمنه الحالي في الأسواق التجارية بدل أن يبيعه بثمن أقل من سعره، والله أعلم.(3/299)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتابُ الشُّفْعَةِ "
656 - " بَابُ عَرْض الشُّفْعَةِ عَلَى صَاحِبِهَا قَبلَ الْبيْعِ "
756 - عَنْ أبِي رَافِع مَوْلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
أنَّهُ جَاءَ إِلِى سَعْد بْنِ أبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقالَ لَهُ: ابْتَعْ مِنِّي بَيْتَيَّ في دَارِكَ، فَقَالَ سَعْدُ: وَاللهِ لا أزِيدُكَ على أرْبَعَةِ آلافٍ مُنَجَّمَةٍ أو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
656 - " باب عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع "
الشفعة: مأخوذة من شفع الشيء إذا ضمَّه إليه، لأن صاحبها يضم مال غيره إلى ماله. وهي شرعاً كما قال ابن قدامة: استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه المنتقلة عنه إلى غيره من يد من انتقلت إليه بثمنها، فإذا أراد أحد الشريكين أن يبيع نصيبه، فالذي يقتضيه حسن العشرة أن يبيعه لشريكه، فإذا باعه لأجنبي فقد سلط الشريك على صرف ذلك لنفسه.
756 - معنى الحديث: أن البخاري يروي بسنده عن أبي رافع " أنه جاء إلى سعد بن أبي وقاص فقال له ابتع مني بيتي في دارك "، أي أن أبا رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يملك غرفتين. في دار سعد بن أبي وقاص، فأراد بيعهما لحاجة عرضت له، فعرضهما على سعد، لأن له حق الشفعة " فقال سعد: والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة " أي فسامهما منه سعد بأربعة آلاف(3/300)
مَقَطَّعَةٍ، فَقالَ أبُو رَافِعٍ: لَقَدْ أعْطِيْتُ بِهَا خَمْسَمِائَةِ دينَار ولَوْلا أنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: " الْجَارُ أحقُّ بسَقَبِهِ، ما أعطَيْتُكَهَا بأرْبَعَةِ آلافٍ، وَأنا أُعْطى بِهَا خمْسمِائَةِ دينَارٍ، فأَعطَاهَا أيَّاهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
درهم فقط مقسمة على أقساط معينة، وأقسم أن لا يزيده على ذلك " فقال أبو رافع: لقد أُعطيت بها خمسمائة دينار " أي لقد سيمت منّي بأكثر من هذا الثمن حيث أعطيت فيها خمسمائة دينار " ولولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الجار أحق بسقبه " بفتح السين والقاف، ويجوز إبدال السين صاداً وهو القُرب " ما أعطيتكها بأربعة آلاف " يريد أبو رافع أن يقول: لا بد لي من أن أبيعهما لك، ولو بسعر أقل، وإن الذي يدفعني إلى بيعهما لك بأربعة آلاف مع أنني أعطيت فيهما أكثر هو هذا الحديث الذي سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - والذي قرّر فيه حق الجار في شراء نصيب جاره، وتفضيله في البيع على غيره، وتقديمه على سواه، لما بينهما من علاقة قوية وقرابة وثيقة، ولولا ذلك لما بعتها لك بهذا الثمن الأقل.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه ينبغي للجار إذا أراد أن يبيع ما يخصه من الأرض أو الدار أن يعرضها على جاره كما فعل أبو رافع، وكذلك الشريك، وهو أولى لقوله - صلى الله عليه وسلم - " من كان له شريك في حائط فلا يبيع نصيبه من ذلك حتى يعرضه على شريكه " أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث ليس إسناده بمتصل، لكن يؤيده ما رواه مسلم في صحيحه حيث قال فيه: " لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به ". قال النووي: وهذا محمول عندنا على الندب على إعلامه، وكراهة بيعه قبل إعلامه كراهة تنزيه (1) وليس
__________
(1) أما بالنسبة إلى الجار فيحتمل أن يكون إعلامه بالبيع مستحباً ومندوباً وأن ترك اعلامه مكروه فقط: أما =(3/301)
بحرام، ويصدق على المكروه أنّه ليس بحلال ويكون الحلال بمعنى المباح، وهو مستوى الطرفين والمكروه ليس بمستوى الطرفين، بل هو راجح الترك. ثانياًًً: إثبات حق الشفعة للجار لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب " الجار أحق بسقبه " وبهذا قال أبو حنيفة ومن وافقه من أهل العلم، وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة، منها حديث الباب، ومنها حديث أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " جار الدار أحق بالدار " أخرجه النسائي وصححه ابن حبان. وذهب الجمهور إلى أنه لا شفعة للجار، وإنما الشفعة للشريك فقط، قالوا: والمراد بالجار في هذه الأحاديث الشريك (1) ويدل على ذلك حديث أبي رافع، لأنه سمّى الخليط جاراً، والقول بأنه لا يعرف في اللغة تسمية الشريك جاراً غير صحيح. وأجيب بأن أبا رافع لم يكن شريكاً لسعد، وإنما كان جاراً له، لأنه كان يملك بيتين في دار سعد. واستدل الجمهور على أن الجار لا شفعة له بما جاء في حديث جابر رضي الله عنه حيث قال: " قضى رسول الله بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة " متفق عليه، وفي رواية مسلم " الشفعة في كل شرك في أرض أو رَبع " قالوا: وهذه الأحاديث تدل على حصر الشفعة فيما لم يقسم ولم تحدَّد حدوده، ومفهومه أن كل ما قسم وحددت حدوده لا شفعة فيه، والجار داخل في ذلك كما يقول الجمهور. الحديث: أخرجه أيضاًً أبو داود وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " ابتع مني بيتي في دارك ".
***
__________
= بالنسبة إلى الشريك فظاهر الأحاديث يدل على وجوب إعلامه، وأن له حق الشفعة، وأنه أولى من غيره بشراء الحصة التي يراد بيعها، والله أعلم.
(1) " سبل السلام شرح بلوغ المرام " ج 3.(3/302)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
" كتَابُ الإِجَارَة "
الإِجارة تكاد تكون من البديهيات التي هي ليست بحاجة إلى من يعرفها، ولكن العلماء عنوا بذلك لتحديدها تحديداً دقيقاً مطابقاً للوجه الشرعي الصحيح، فقالوا: الإِجارة لغة: بكسر الهمزة وفتحها وضمها، والكسر أشهر، مصدر سماعي لفعل أجر على وزن ضرب، ومعناها الجزاء على العمل، وقال بعضهم: ليست مصدراً ولكنها اسم لما يعطى على العمل، والتحقيق أنها تأتي على الوجهين. وشرعاً: تمليك منفعة معلومة مقصودة من العين المستأجرة بعوض، كتمليك منفعة الدار سكناً واستغلالاً مقابل العوض والأجرة التي تؤخذ من المستأجر، ويخرج بذلك البيع والهبة، لأنه تمليك للذات لا للمنفعة، وقولنا " معلومة " هذا شرط لا بد منه فيجب أن تكون المنفعة معروفة عند الفريقين. ولا بد أن تكون المنفعة مقصودة، أي معتبرة شرعاً وعقلاً. وأركان الإِجارة كالبيع: عاقد: وهو المؤجر والمستأجر ومعقود عليه: وهو الأجر والمنفعة وصيغة: وهي الإِيجاب والقبول، وتنعقد بأي لفظ يوضّح غرض المتعاقدين.(3/303)
657 - " بَابُ اسْتئجَارِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ وقول الله تعَالى (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) وَمَنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ مَنْ أرَادَهُ "
757 - عن أبي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
أقْبَلْتُ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعِي رَجُلَانِ مِنَ الأشْعرِيِّينَ، فَقُلتُ: ما عَلِمْتُ أنهما يَطْلُبَانِ الْعَمَلَ، فَقَالَ: " لَنْ - أوْ لا نَسْتَعْمِلُ على عَمَلِنَا مَنْ أرَادَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
657 - " باب استئجار الرجل الصالح "
أي هذا باب في بيان مشروعية استئجار الرجل الصالح للعمل الذي يسند إليه من ناحية دينه وأمانته، ومن ناحية كفاءته وأهليته.
757 - معنى الحديث: أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه ذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشفع في رجلين من الأشعريين يطلبان أن يوليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عملاً من الأعمال الهامة التي تتعلق بها مصالح المسلمين، كالجباية أو القضاء أو نحو ذلك " فقال: لن أو لا نستعمل على عملنا من أراده " أي لا نولّي على هذه الأعمال من حرص عليها وسعى إليها، لأنه ينبغي أن يُحْترَسَ من الحريص على الولاية ولأن من طلبها وكل إليها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الأعمال الهامة التي تتعلق بها مصالح المسلمين من أمارة وقضاء وجباية وشرطة، إنما تسند إلى من تتوفر فيه الصلاحية والكفاءة والأهلية لها لا لمن يطلبها ويحرص عليها، لأن الحرص عليها مظنة التهمة، ولأنه إن طلبها وُكِلَ إليها، ولا يعان عليها، قال ابن بطال: لما كان طلب العمالة دلالة على الحرص وجب أن يحترز من الحريص عليها. اهـ. ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرض عن الرجلين الذين سألا الإِمارة(3/304)
658 - " بَابُ إِثْمِ مَنْ مَنَعَ أجْرَ الأجِيرِ "
758 - عن أبي هُريْرَةَ رَضِي اللهُ عَنْه:
عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " قَالَ اللهُ تَعَالى: ثَلَاثَةٌ أنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ أعطى بي ثمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاع حراً فَأكلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأجَرَ أجيراً فاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أجرَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولم يولهما، وولَّى أبا موسى الذي لم يسألها. ثانياًً: أنه لا ينبغي طلب الأعمال الهامة في الدولة والسعي إليها من إمارة وحسبة وقضاء وشرطة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر عليهما طلبهما للولاية، وأعرض عنهما، ولم يولهما إيّاها لحرصهما عليها وقد جاء النهي عن ذلك (1) وظاهره التحريم. ثالثاً: أنه ينبغي لولي الأمر أن لا يولّي العمل من أراده وطلبه وسعى إليه حرصاً على مصالح المسلمين، لأنه مظنة التهمة، وهو ما ترجم له البخاري بقوله: " لن أو لا نستعمل من أراده ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " لا نستعمل من أراده ".
658 - " باب إثم من منع أجر الأجير "
758 - معنى الحديث: هذا حديث قدسي يرويه نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن ربه عز وجل أنه " قال ثلاثة أنا خصمهم " قال ابن التين: وهو سبحانه خصم لجميع الظالمين إلاّ أنه أراد التشديد على هؤلاء بالتصريح. اهـ. وذلك لأن الخصم عدو لخصمه، قوي العداوة له، شديد الكراهة له، والمعنى: أن هؤلاء الثلاثة من أهل الكبائر في يتعرضون يوم القيامة لأشد العقوبة، لأنّهم أعداء لله، خصوم له، والخصم مكروه مبغوض عند خصمه، إذا ظفر به عاقبه
__________
(1) أي وقد جاء النهي في حديث آخر عن سؤال الإمارة وطلبها، وظاهر النهي التحريم، كما قال القرطبي.(3/305)
659 - " بَابُ ما يُعْطَى في الرُّقْيةِ "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أشد العقوبة، فكيف بمن كان الله خصمه ولهذا قال: " ومن كنت خصمه خصمته " كما في بعض الروايات " لأنه العزيز القهار المنتقم الجبار إذا أخذ الظالم لم يفلته " أمّا هؤلاء الثلاثة فأولهم: رجل عاهد عهداً وحلف بالله على الوفاء به، ثم غدر بالرجل الذي عاهده، وخانه ونقض العهد الذي بينه وبينه. والثاني: رجل اغتصب رجلاً حراً أو جحد عتقهُ له، ثم باعه وأكل ثمنه، قال الخطابي: يقع ذلك بأمرين (1) إمّا أن يعتقه ثم يكتم ذلك أو يجحده، وإمّا بأن يستخدمه كرهاً بعد العتق، وإنما كان الله خصمه كما قال ابن الجوزي، لأن الحر عبد لله، فمن جنى عليه فخصمه سيده. والثالث: رجل استخدم غيره في عمل له مقابل أجر معين، فاستوفى منه عمله، ومنعه أجرته. الحديث: أخرجه البخاري وأحمد وابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: ما ترجم في البخاري وهو إثم من منع أجر الأجير، وأنه كبيرة من الكبائر، ولولا أنه كبيرة لما ترتب عليه هذا الوعد الشديد. ثانياًًً: أن هذه الجرائم الثلاثة المذكورة كلها كبائر. والمطابقة: في قوله: " ورجل استأجر أجيراً ".
659 - " باب ما يعطى في الرقية "
والمراد بهذا الباب ذكر الأحاديث الدالة على جواز أخذ الأجرة على الرقية وهي كما أفاده العيني " كل كلام استشفي به من مرض أو خوف أو شيطان أو نحوه، والمراد بها الرقية بالقرآن والأذكار والأدعية المأثورة كما يدل عليه حديث الباب.
__________
(1) " فتح الباري " ج 4.(3/306)
759 - عنْ أَبي سَعِيدٍ الْخدْرِيِّ رَضِيَ الله عَنْه قَالَ:
انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أصحَاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، في سَفْرَةٍ سافَروهَا، حتى نَزَلوا على حٍّي من أحْيَاءِ العَرَبِ، فاسْتَضَافوفمْ، فَأبَوْا أنْ يضَيِّفوهُمْ، فَلدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الحَيِّ، فَسعَوْا لَه بِكلِّ شَيءٍ لا يَنْفَعه شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لو أتَيْتمْ هؤلاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلوا، لَعَلَّة أنْ يكونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيءٌ فأَتوْهُمْ، فَقالُوا: يَا أيُّهَا الرَّهْط إِنَّ سَيِّدَنَا لدِغَ وسعَيْنَا لَة بِكلِّ شَيْءٍ لا يَنْفَعه، فهلْ عِنْدَ أحَدٍ مِنْكُم مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعْم واللهِ إِني لأرْقِي، ولكِنْ واللهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكمْ فَلَمْ تضَيِّفُونَا، فما أنَا بِرَاق لَكمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جعْلاً، فصَالَحوهم عَلى قَطِيع من الغَنَمِ، فانْطَلَقَ يَتْفُل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
759 - معنى الحديث: أن جماعة من الصحابة منهم أبو سعيد رضي الله عنه مروا أثناء سفرهم على قبيلة، فسألوهم الضيافة المعتادة، فامتنعوا عن ضيافتهم لشدة بخلهم، فبينما هم في ديارهم، إذا برئيس القبيلة تلسعه عقرب فيتسمم جسمه وتشتد عليه آلامه، فيحاولون علاجه بشتى الوسائل، فيفشلون في ذلك، فيلجؤون إلى هؤلاء الجماعة من الصحابة فيسألونهم معالجة رئيسهم إن كان لديهم شيء ينفعه ويخلصه مما هو فيه، ويشفيه من آلامه الشديدة، التي تكاد تقضي عليه، فقال أحدهم: أنا أعالجه بالرقية بشرط أن تعطونا أجرة على علاجه، لأنكم بخلتم علينا بالضيافة، فاتفقوا معه على قطيع من الغنم يدفع إليهم مقابل علاجهم لمريضهم، فذهب إلى المريض، وأخذ يتفل عليه، ويرقيه بفاتحة الكتاب، أي يتفل عليه من ريقه مصحوباً بالقراءة. قال أبو سعيد: " فكأنما نشط من عقال " أي فشفي المريض في الحال، وانقطعت آلامه فوراً كأنما كان مربوطاً بحبل وأطلق منه، فأعطوهم قطيعاً من الغنم(3/307)
عَلَيْهِ وَيَقْرأ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَال، فانْطَلَقَ يَمْشِي وما بِهِ قَلَبَة، قَالَ: فَأوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمْ الذي صَالَحُوهُم عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْسِمُوا، فقَالَ الَّذِى رَقَى: لا تَفْعَلُوا حتَّى نَأتِيَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَنَذْكُرَ لَهُ الذي كَانَ، فَنَنْظُرَ مَا يأمُرُنَا، فَقَدِمُوا علَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: " وَمَا يُدْرِيكَ أنَّهَا رُقِيّة؟ " ثم قَالَ: "قد أصَبْتُمْ اقسِمُوا واضْرِبُوا لي مَعَكُمْ سَهْماً، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الذي تعاقدوا معهم عليه، فقال بعض الصحابة، نقسم هذا القطيع بيننا، ونأكله، فقال أبو سعيد: لا تتصرفوا فيه حتى نصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونخبره بما وقع لنا، ونسأله عن حكمه، ونفعل ما يأمرنا به. فلما قدموا إليه، أخبروه بالقصة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " وما يدريك أنها رقية " أي أن الفاتحة رقية عظيمة وشفاء من الأدواء والأسقام، ولكن كيف عرفت هذا، وفي رواية الدارقطني: " وما علمك أنّها رقية " قال: " حق ألقي في روعي " أي فراسة وإلهام من الله تعالى ألقى في قلبي فأحسست به إحساساً داخلياً وعملت بمقتضاه. وهذا توفيق من الله تعالى، حيث ألقى إليه في قلبه بهذا الإلهام الرباني الصادق، فجاء موافقاً للواقع، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - له: " قد أصبتم " أي قد وفقتم فيما ألهِمْتُم به وفي علاجكم لهذا الرجل اللديغ حيث كنتم سبباً في نجاته، ثم أمرهم أن يقسموا تلك الأغنام، وشاركهم فيها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي والترمذي. والمطابقة: في إقراره - صلى الله عليه وسلم - لهم على أخذ الأجرة على الرقية
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الرقية الصحيحة، وثبوت نفعها بإذن الله تعالى، لأن أبا سعيد قال: "والله إني(3/308)
660- " بَابُ عَسْبِ الْفَحْلِ "
760 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" نَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عَسْبِ الْفَحْلِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأرقي" ثم رقى الملدوغ، فشفي في الحال، واستجمع قواه " وانطلق يمشي، وما به قلبة " بفتح القاف واللام أي وليست به أي علة أو مرض. " قال الشوكاني ": وفي الحديث دليل على جواز الرقية بكتاب الله، ويلتحق به ما كان بالذكر والدعاء المأثور، وكذا غير المأثور مما لا يخالف المأثور. اهـ.
ويدل على ذلك حديث الباب وغيره من الأحاديث الصحيحة. ثانياًًً: جواز أخذ الأجرة على الرقية الصحيحة كما تؤخذ على سائر المنافع، وهو ما ترجم له البخاري، وهو قول جمهور أهل العلم. ثالثاً: فضل سورة الفاتحة. وكونها شفاء ودواء ورقية عظيمة، وعن أبي سعيد مرفوعاً: " إنها شفاء من كل سقم ". قال ابن بطال: وموضع الرقية منها " إياك نستعين ". وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: مرض الحسن أو الحسين فنزل جبريل عليه السلام، فأمره أن يقرأ الفاتحة على إناء من الماء أربعين مرة فيغسل يديه ورجليه ورأسه أخرجه أبو داود.
660 - " باب عسب الفحل "
قال العيني: واختلف أهل اللغة: هل هو " الضراب " أو الكراء الذي يؤخذ عليه، أو ماء الفحل.
760 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الأجرة التي تؤخذ على الفحل مقابل تلقيحة وضرابه للناقة أو البقرة أو الشاة. قال في " النهاية " لم ينه عن واحد منهما أي عن ماء الفحل، ولا عن ضراب الفحل، وإنما أراد(3/309)
النهي عن الكراء الذي يؤخذ عليه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب إعارة الفحل من حمل أو ثور أو تيس لينتفع به أصحاب المواشي في ضرابها وتلقيحها دون مقابل، لأنّه لما نهى عن كرائه دل ذلك على استحباب إعارته، وقد جاء التصريح بذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من حقها إطراق فحلها " أي إعارة الفحل للناس ليطرق مواشيهم. ثانياًً: النهي عن كراء الفحل وأخذ الأجرة عليه، وقد حمل النهي على التحريم، وهو قول أكثر الفقهاء، كما حكى عنهم الخطابي، قال العيني: وجزم الشافعي بتحريم البيع، لأن ماء الفحل غير متقوّم ولا معلوم. وذهب أبو هريرة إلى جواز الإِجارة عليه إذا استأجره على نزوات معلومة وعلى مدة معلومة، فإن آجره على الطرق حتى تحمل لم يصح، وهو قول مالك، وأجاز مانعو الأجرة أن يعطي صاحبه شيئاً على سبيل الهدية خلافاً لأحمد، والعلة في تحريم عسب الفحل لأنه ليس من مكارم الأخلاق، ولما فيه من جهالة وغرر، لأنه تسليم أجرة إزاء منفعة غير محققة حيث إنّه لا يعلم أتحمل أم لا؟ والعلة في إباحته عند من يجيزه قياسه على جواز أخذ الأجرة على تلقيح النخل. الحديث: أخرجه أيضاًً الأربعة. والمطابقة: في نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن عسب الفحل، وهو ما ترجم له البخاري.
***(3/310)
بِسْمِ اللهِ الرحْمَنِ الرَّحِيمِ
" كتَابُ الْحَوَالَاتِ "
661 - " بَابُ الْحَوَالَةِ وَهَلْ يَرْجِعُ في الْحَوَالَةِ "
761 - عن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: " مَطل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، فَإِذَا أُتْبعَ أحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
661 - "
كتاب الحوالات "
الحوالة لغة: النقل من محل إلى محل آخر، سواء كان المنقول عيناً أو شيئاً في الذمة، كنقل الدين من شخص لآخر. وشرعاً: نقل الدين من ذمة شخص إلى ذمة شخص آخر نظير دين مماثل له عليه، فتبرأ الذمة الأولى وتشغل الذمة الثانية. وأركانها أربعة: محيل، ومحال به، وهو الدين، ومحال عليه، وصيغة، في لا تنحصر في الإحالة بل تصح بكل ما يدل على نقل الدين، كقوله: " خذ حقك من فلان " فإن كان أخرس أجزأته الإِشارة. هذا وقد اتفقوا على صحة الحوالة وبراءة الذمة الأولى بها إذا كان للمحيل دين على المحال عليه.
661 - " باب الحوالة وهل يرجع في الحوالة "
761 - معنى الحديث: أنه يحرم على المدين أن يتهرّب عن تسديد(3/311)
الدين الذي عليه عند حلول الأجل إذا كان قادراً على الدفع في حينه، فإذا تأخر عن التسديد مع قدرته عليه كان ظالماً للدائن، متعدياً عليه، مستحقاً للعقوبة في الدنيا بالسجن (1) ونحوه، وفي الآخرة بعقوبة الله التي تنال الظالمين من أمثاله، سواء توفر لديه المال بالفعل، أو استطاع الحصول عليه من تجارة أو صناعة أو نحوها. وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مطل الغني ظلم " فإن المطل في اللغة المدافعة، والمراد به هنا: تأخير ما وجب أداؤه لغير عذر من قادر على الأداء، قال الصنعاني: والمعنى على تقدير أنه من إضافة المصدر إلى الفاعل أنه يحرم على الغني القادر أن يمطل بالدين بعد استحقاقه، بخلاف العاجز. اهـ.
فإذا جاء الدائن لاستلام حقه فأحاله المدين على شخص غني فعليه أن يقبل هذه الإحالة لما في ذلك من مصلحة الطرفين، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإذا اتبع على مليء " أي إذا أحيل الدائن على شخص غني قادر على الدفع " فليتبع " أي فليقبل الحوالة لما فيه من السماحة وحسن المعاملة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يحرم تأخير تسديد الدين عند حلول أجله على من كان قادراً عليه، بأن كان المال المطلوب موجوداً لديه بالفعل، أو كان قادراً على تحصيله من جهة ما وذلك إذا طلبه الدائن بلفظ صريح أو إشارة أو تلميح أو قرينة ظاهرة، فلا يحرم التأخير إلّا بهذين الشرطين: القدرة على الدفع ومطالبة الدائن بالسداد فإذا تأخر في هذه الحالة، جاز الحجر عليه وبيع أملاكه لتسديد دينه. ثانياًًً: مشروعية الحوالة بمعناها الشرعي الصحيح، وأن على الدائن إذا أحاله المدين على شخص غني يسهل عليه أخذ حقه (2) منه أن يقبل هذه الحوالة، ولا يعارض فيها، وأنه
__________
(1) وأجاز الجمهور الحجر عليه، وبيع الحاكم عنه ماله، وفي الحديث دليل على أنه يفسق بذلك، ولو كان الدين يسيراً، وهو مذهب المالكية والشافعية، وقال الجمهور: يفسق بمطل عشرة دراهم. اهـ. كما أفاده في " سبل السلام ".
(2) " تيسير العلام " ج 2.(3/312)
لا ينبغي له أن يرفضها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع " أي فليقبل هذه الحوالة، هو أمر بقبول الحوالة، والأمر للوجوب عند الظاهرية، وحمله الجمهور على الندب والاستحباب، فقالوا: لا يجب على المحال قبول الحوالة، وإنما يستحب له ذلك فقط خلافاً للظاهرية، ومن ثم اختلفوا هل يعتبر في الحوالة رضا الشخص المحال أو لا يعتبر، قال في " الإِفصاح " (1) اختلفوا إذا لم يرض المحال، فقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: يعتبر رضاه، عن أحمد روايتان، والحديث بظاهره حجة لمن يقول لا يعتبر رضاه، وهو مذهب الظاهرية وأبي ثور وابن جرير وأحمد في رواية، حيث إن الأصل في الأمر الوجوب. ثالثاً: أن المحال إذا لم يتمكن من أخذ حقه من المحال عليه لسبب ما كالفلس مثلاً، فإنه لا يرجع على المحيل، وهو مذهب أكثر أهل العلم، لأن قوله " فليتبع " معناه قبول الحوالة ندباً، أو وجوباً، والحوالة عقد لازم يجب الالتزام به مهما تغيرت الظروف والأحوال فليس من حق المحال أن يرجع على المحيل بحال من الأحوال. قال ابن رشد: فإن جمهور العلماء أنه إذا أفلس المحال عليه لم يرجع صاحب الدين على المحيل بشيء (2) . اهـ. وهو ما ترجم له البخاري بقوله: " وهل يرجع في الحوالة. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً عليها.
__________
(1) " الإفصاح " ج 1.
(2) وقال أحمد: يرجع عليه إذا لم يعلم بإفلاس المحال عليه، وقال مالك: يرجع عليه إذا علم المحيل بإفلاس المحال عليه أو لم يعلمه، كما أفاده في " فتح الباري ". وقال ابن قدامة: متى رضي بها المحال ولم يشترط اليسار لم يعد الحق إلى المحيل أبداً، سواء أمكن استيفاء الحق أو تعذر لمطل أو مفلس، وهذا ظاهر كلام الخرقي وبه قال الليث والشافعي وأبو عبيد، وعن أحمد ما يدل على أنّه إذا كان المحال عليه مفلساً ولم يعلم المحال بذلك، فله الرجوع إلاّ أن يرضى بعد العلم. اهـ.(3/313)
662 - " بَابٌ إِذَا أحَالَ دَيْنَ الْمَيِّتِ على رَجُلٍ جَازَ "
762 - عن سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ أتِىَ بِجَنَازَةٍ فقالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنُ؟ قَالُوا: لا، قَال: فَهَلْ تَرَكَ شيْئاً؟ قَالُوا: لا، فَصَلَّى عَلَيْهِ. ثُمَّ أتِي بِجَنَازَةٍ أخْرَى فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قِيلَ: نَعَمْ، قال: فَهَلْ تَرَكَ شَيْئاً؟ قَالُوا: ثَلَاَثةَ دَنَانِيرَ، فَصَلَّى عَليْهَا، ثم أُتِي بالثَّالِثَةِ، فَقالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: هَلْ تَرَكَ شَيْئاً؟ قَالُوا: لا، قال: فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قالُوا: ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ؟ قَالَ: صَلُّوا على صَاحِبِكُمْ، قَالَ أبو قُتادة: صَلِّ عَليْهِ يا رَسُولَ اللهِ وعليَّ دَيْنُهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
662 - " باب إذا أحال دين الميت على رجل جاز "
أي إذا أحال أحد دين الميت على رجل وقبل الحوالة جازت الحوالة.
762 - معنى الحديث: أن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه يروي لنا في هذا الحديث أنهم بينما كانوا جالسين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجده قدمت بين يديه جنازة ليصلي عليها فقال - صلى الله عليه وسلم -: " هل ترك هذا الميت مالاً " وهل عليه دين؟ فقالوا: لا، فصلى على جنازته لبراءة ذمته من حقوق الناس.
ثم جيء بجنازة أخرى ليصلي عليها، فسأل: هل على هذا الميت دين؟ فقالوا: نعم عليه دين، قال: هل خلّف مالاً، قالوا ثلاثة دنانير، فصلى عليه - صلى الله عليه وسلم -، لأنه ترك سداد دينه، فبرأت ذمته من حقوق الناس وتبعاتهم. ثم قدمت بين يديه جنازة ثالثة فقال: هل ترك مالاً قالوا: لا، قال: فهل عليه دين،(3/314)
قالوا: عليه دين مقداره ثلاثة دنانير فتوقف عن الصلاة عليه، وأمرهم أن يصلوا عليه، " قال أبو قتادة صلِّ عليه يا رسول الله وعليَّ دينه " يعني فتكفل أبو قتادة بتسديد ذلك الدين الذي عليه " فصلى عليه " النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك. الحديث: أخرجه أيضاًً النسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: التحذير من الدين، والتوقي منه، والإِسراع في تسديده، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على من ترك ديناً لم يترك سداده، لتعلق حق الناس بذمته، قال الصنعاني: ويدل هذا الحديث على شدة أمر الدين، فإنه - صلى الله عليه وسلم - ترك الصلاة عليه لأنها شفاعة، وشفاعته مقبولة لا ترد، والدين لا يسقط إلا بالتأدية. وقال البيضاوي: لعله امتنع عن الصلاة على المدين الذي لم يترك وفاءً تحذيراً عن الدين، وزجراً عن المماطلة، وكراهة أن يوقف دعاؤه عن الإِجابة بسبب ما عليه من مظلمة الخلق. وقد كان - صلى الله عليه وسلم - في أوّل هجرته وقبل فتح الفتوحات لا يصلي على المدين، فلما كثرت الفتوحات، وزاد: رأس المال الإسلامي، وتضاعف الدخل العام، تحمّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديون هؤلاء، فقال - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي هريرة، " أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم " فمن توفي من المؤمنين فترك ديناً فعليَّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته " أخرجه البخاري ولهذا قال بعض أهل العلم: يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه - صلى الله عليه وسلم - صرح بوجوب ذلك عليه في قوله " فعليّ قضاؤه ". اهـ. كما أفاده العيني. ثانياًً: جواز الحوالة في دين الميت، وأن الوارث إذا أحال دين الميت على غني، وقبل هذه الإحالة، صحت الحوالة شرعاً، وهو ما ترجم له البخاري واستدل عليه بحديث الباب، مع أنّه في الضمان والكفالة لا في الحوالة لتقاربهما، لأنهما ينتظمان في كون كل منهما نقل ذمة إلى ذمة أخرى، وقال أبو ثور: الكفالة والحوالة سواء، وكلاهما ينقل الحق عن ذمة المضمون عنه والمحيل، وحكي(3/315)
ذلك عن ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود كما أفاده ابن قدامة، ويرى الحنفية أن لا كفالة ولا حوالة عن الميت إذا لم يترك شيئاً، ونصَّ في " الهداية " على أن دين الميت لا يقبل الحوالة. ثالثاً: جواز ضمان دين (1) الميت الذي لم يترك شيئاً وكفالته، ولا رجوع للكفيل عندئذٍ في مال الميت إن ظهر للميت مال، وهو مذهب الشافعي والصاحبين محمد وأبي يوسف، وقال مالك: له أن يرجع (2) في ماله إن ظهر له مال. وقال أبو حنيفة لا يجوز إذا لم يترك الميت مالاً. والمطابقة: في: " في كفالته لدين الميت والحوالة والكفالة سواء.
***
__________
(1) هكذا قال ابن بطال كما نقله عنه العيني ج 12 وقال ابن قدامة: صحة الضمان عن كل من وجب عليه حق: حياً كان أو ميتاً، مليئاً أو مفلساً، وهو قول أكثر أهل العلم، وقال أبو حنيفة: لا يصح ضمان دين الميت إلا أن يخلف وفاء، قال: ولنا حديث أبي قتادة وعلي فإنهما ضمنا دين ميت لم يخلف وفاء والنبي - صلى الله عليه وسلم - حثهم على ضمانه في حديث أبي قتادة بقوله: ألا قام أحدكم فضمنه.
(2) يشرط أن يكون قد قال: ضمنت لأرجع.(3/316)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
" كتابُ الْوَكَالَةِ "
663 - " بَابُ وَكَالة الشَّرِيكِ الشَّرِيكَ في القِسْمَةِ وَغَيْرِهَا "
763 - عن عُقْبَةَ بْنِ عَامرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أعْطَاهُ غَنَماً يَقْسِمُهَا على صحَابَتِهِ فَبَقِيَ عَتُودٌ فذكَرَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" كتاب الوكالة "
الوكالة لغة: بكسر الواو وفتحها، معناها الحفظ والكفاية والضمان، يقال: فلان وكيل فلان، بمعنى أنه حافظ لأمواله، أو نائب عنه في تدبير أعماله وكافيه فيها، قال الراغب: التوكيل أن تعتمد على غيرك، وتجعله نائباً عنك. وهو فعيل بمعنى المفعول. أما الوكالة شرعاً فهي كما يعرفها الفقهاء " استنابة شخص جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة عنه شرعاً من حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين ". وقولهم: " جائز التصرف " يخرج به كل من لا حقّ له في التصرف من صبي أو سفيه أو مجنون أو متخلف عقلياً، فإن استنابتهم لغيرهم لا تعد وكالة شرعية. أما الحقوق التي تجري فيها الوكالة فهي كثيرة، منها المعاملات كالبيع والشراء والإِجارة والمساقاة والهبة والوقف وغيرها، ومنها النكاح والطلاق والخلع والعتاق، ومنها المطالبة بالحقوق والمحاكمة فيها، ويجوز التوكيل في إقامة الحدود، وفِي العبادات المالية كالزكاة، والحج إذا آيس من الحج بنفسه، ولا يصح التوكيل في الشهادة والأيمان، ولا فِي العبادات البدنية المحضة. إلخ.
663 - " باب وكالة الشريكِ الشريكَ في القسمة وغيرها "
763 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهب مجموعة من غنم(3/317)
للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " ضَحِّ بِهِ أنْتَ ".
664 - " بَابُ الْوَكَالَةِ في قضاءِ الدُّيُونَ "
764 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ:
أنَّ رَجُلاً أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَقَاضَاهُ فأغْلَظَ، فَهَمَّ بِهِ أصْحَابُهُ، فَقَالَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الضحايا لفقراء الصحابة، وأمر عقبة بن عامر رضي الله عنه أن يتولّى قسمتها عليهم، فقبل هذه الوكالة، وقسم هذه الأغنام عليهم، قال: " فبقي عتود " بفتح العين وهو الصغير من ولد المعز " فقال: ضح وبه أنت " أي فأعطاه النبي له ليضحي به.
فقه الحديث: استدل به البخاري على جواز وكالة الشريك لشريكه، لأنه فهم من الحديث أن عقبة كان وكيلاً عن أولئك النفر من الصحابة الذين شاركهم في الغنم وناب عنهم في استلامها وقسمتها. أما نفس القضية فجائزة اتفاقاً، وأما الاستدلال عليها بهذا الحديث، فهي مسألة فيها نظر لجواز أن يكون عقبة وكيلاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه القسمة وهو الأقرب، لأنه هو الذي أمره بها. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " أعطاه غنماً يقسمها على صحابته " حسب مفهوم البخاري.
664 - " باب الوكالة في قضاء الديون "
764 - معنى الحديث: أن بعض الناس كان قد أسلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيراً إلى أجل معين، فلما حان الأجل حضر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يطلب منه تسديد الدين الذي عليه وذلك بأن يعطيه بعيراً مثل البعير الذي استدانه منه، قال أبو هريرة رضي الله عنه: " فأغلظ " يعني فاشتد الرجل في طلبه، وأعنف(3/318)
رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحبِ الْحَقِّ مقَالاً "، ثُمَّ قَالَ: " أعْطُوهُ سِنَّاً مِثْلَ سِنِّهِ، قَالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا لا نَجِدُ إلَّا أمثَلَ مِنْ سِنِّهِ، قَالَ: أعْطُوهُ، فَإِنَّ خَيْركم أحْسَنُكُمْ قَضَاءً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في مقاله واستعمل بعض العبارات الجافة، والكلمات القاسية، إما لكونه كان يهودياً، أو لأنه كان جافاً بطبعه دون أن يقصد الإِساءة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " فهمّ به أصحابه " أي أرادوا الانتقام من هذا الرجل ولكنهم منعوا أنفسهم أدباً معه - صلى الله عليه وسلم -، " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دعوه، فإن لصاحب الحق مقالاً " أي اتركوه، ولا تتعرضوا له بشيء، فإن الله قد جعل لصاحب الحق -سواء كان دائناً أو مؤجراً أو أجيراً- الحق في المطالبة بحقه شريطة عدم التعدي على غيره، " ثم قال: أعطوه سناً مثل سنه " أي ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الصحابة أن يعطيه بعيراً من إبل الصدقة مساوياً لبعيره في السن " قالوا: يا رسول الله إنا لا نجد إلا أمثل من سنه " أي لم نجد إلاّ بعيراً أكبر من بعيره " قال أعطوه " أي أعطوه بعيراً أكبر من بعيره، وسددوا له الدين بأفضل منه، وأكثر قيمة، " فإن خيركم أحسنكم قضاء " أي فإن أفضلكم في معاملة الناس، وأكثركم ثواباً أحسنكم قضاءً للحقوق التي عليه ديناً أو غيره.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز التوكيل في قضاء الدين وهو ما ترجم له البخاري، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكّل بعض الصحابة وهو أبو رافع أن ينوب عنه في قضاء الدين الذي عليه، بإعطاء الدائن بعيراً أمثل من بعيره من إبل الصدقة، كما يدل عليه حديث الباب. وعن أبي رافع رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استلف من رجل بكراً " بفتح الباء وسكون الكاف " أي بعيراً صغيراً فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بَكْرَةً قال: لا أجد إلا خيارًا رباعياً "بفتح الراء، وهو(3/319)
البعير الذي دخل في السنة السابعة من عمره" فقال: " أعطه إياه، فإن خيار الناس أحسنهم قضاء " رواه مسلم. لهذا قال الجمهور: يجوز (1) الوكالة في قضاء الدين استدلالاً بهذه الأحاديث، ولأن الدين من الحقوق المالية التي يصبح التوكيل فيها. ثانياًً: قال العيني: فيه حجة لمن (2) قال بجواز قرض الحيوان، وهو قول الأوزاعي والليث ومالك والشافعي وأحمد واسحاق.
وأجاز استقراض الجواري الطبري والمزني، وعن مالك إن استقرض أمة لم يطأها، وإن حملت ردها بعد الولادة وقيمة ولدها. اهـ. وقال أحمد والشافعي: لا يجوز قرض الإِماء كما أفاده ابن عبد البر وابن قدامة. ثالثاً: قال الصنعاني: في الحديث دليل (3) على أنه يستحب لمن عليه دين من قرض أو غيره أن يرد أجود من الذي عليه (4) ، وأن ذلك من مكارم الأخلاق المحمودة عرفاً وشرعاً، ولا يدخل في القرض الذي يجرّ نفعاً، لأنه لم يكن مشروطاً من المقرض، وإنما ذلك تبرع من المستقرض، وظاهره العموم للزيادة عدداً أو صفة وقال مالك: الزيادة في العدد لا تحل. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة.
***
__________
(1) " فتح المبدي " للشرقاوي ج 2.
(2) " شرح العيني " ج 12.
(3) " سبل السلام " ج 3.
(4) أي أفضل من الدين الذي عليه.(3/320)
665 - " بَاب إِذَا وَكَّلَ رجُلاً فتركَ الْوَكِيلُ شَيْئَاً فَأجَازَهُ الموَكِّلُ فهو جَائِز "
765 - عنْ أبِي هُرَيْرَةَْ رضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" وَكَّلَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأتَانِي آتٍ، فجَعَلَ يَحثُو مِنَ الطَّعَامِ، فأخَذْتُةْ، وَقُلْتُ لأرْفَعَنَّكَ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: إنِّي مُحْتَاجٌ، وعَليَّ عِيَالٌ وَلِي حَاجَة شَدِيدَة، قَالَ: فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، فأصْبَحْتُ فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: يا أبَا هُرَيْرَةَ ما فَعَلَ أسِيرُكَ البَارِحَةَ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ شكا حَاجَةً شَدِيدَةً وعِيَالاً فَرحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: إِمَّا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وسَيَعُودُ، فَعَرَفْتُ أنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
665 - " باب إذا رجلاً فترك شيئاً فأجازه الموكل فهو جائز " (1)
765 - معنى الحديث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكل أبا هريرة على حفظ الزكاة أو الخراج فجاءه شخص مجهول " فجعل يحثو من الطعام " أي يأخذ منه ملء كفه مرة بعد أخرى، ويفرغه في وعائه، ليذهب به، فأمسك به أبو هريرة وتهدده بشكواه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل الرجل يستعطفه، ويرجوه أن يترفق به ويتركه ويعطيه من تمر هذه الزكاة وبُرِّها، لأنه بائس مسكين فقير الحال، كثير العيال، ولولا حاجته الشديدة لما مد يده إلى هذا الطعام فرثى لحاله، وأطلقه، فلما: أصبح من تلك الليلة " قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما فعل أسيرك البارحة " يعني سأل، عن قصته مع ذلك الرجل الذي لقيه ليلة البارحة وأمسك به ثم أطلقه، ولم يكن أبو هريرة قد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء من
__________
(1) هذا الحديث رواه البخاري معلقاً، فقال: وقال عثمان بن الهيثم، ولم يصرح فيه بالتحديث، وقد وصله النسائي والإسماعيلي وأبو نعيم من طرق إلى عثمان بن الهيثم. (ع) .(3/321)
- صلى الله عليه وسلم -: إِنَّهُ سيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ، فَجَاءَ يَحثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأخذْتُهُ، فَقُلْتُ: لأرْفَعَنَّكَ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتاجٌ، وعليَّ عِيَالٌ، لا أعُودُ فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فأصْبَحْتُ فقَال لِي رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أسِيرُكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ شكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وعِيَالاً فرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: أمَا إِنَّهُ قد كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ الثالثة فجاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فأخذْتُهُ فَقُلْتُ: لأرْفَعَنَّكَ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهذَا آخِرُ ثَلاثِ مَرَّاتٍ، إِنَّكَ تَزْعُمُ لا تَعُودُ، ثُمَّ تَعُودُ، قَال: دَعْنِي أُعْلِّمُكَ كَلِمَاتٍ ينْفَعُكَ اللهُ بِهَا، قُلْتُ: ما هُوَ؟ قَال: إِذَا أوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ فاقرأ آيَةَ الْكُرْسِيِّ (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذلك، ولكنّ الله أطلعه على ما وقع له، وأخبره به عن طريق الوحي " قال: قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته، فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك " أي كذب عليك فيما حدثك به، وأخبرك بخلاف الواقع، ثم أخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه سيعود إليه مرة ثانية، فعاد إليه في الليلة الثانية ووقع لهما ما وقع في الليلة الأولى، ولقي أبو هريرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسأله عنه، وأخبره بأنه أطلقه، وقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: قد كذبك، فانتظره أبو هريرة في الليلة الثالثة وجاء وصنع ما صنعه في الليلة السابقة، فقبض عليه أبو هريرة وقال: لن تفلت منّي هذه المرة أبداً لأنّها ثالث مرة تأتيني فيها وفي كل مرة تقول: إنك لن تعود ولا توفي بوعدك، وهو معنى قول أبي هريرة " فجاء يحثو من الطعام فأخذته، فقلت: لأدفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذه آخر ثلاث مرات، إنك تزعم لا تعود ثم تعود " عند ذلك " قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)(3/322)
حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، ولا يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبيلَهُ، فأصْبَحْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ما فَعَلَ أسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟ قلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زعَمَ أنَّهُ يُعَلِّمَنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللهُ بِهَا، فَخَلَّيْتُ سَبيلَهُ، قَالَ: مَا هِيَ؟ قُلْتُ: قَالَ لي: إِذَا أَوَيْتَ إِلى فِراشِكَ فاقْرَأْ، آية الْكُرْسِيِّ مِنْ أوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ، اللهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ، وَقَال لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، ولا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيءٍ علَى الْخَيْرِ، فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كذوب، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلَاثَ لَيَالٍ يا أبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: لا، قَالَ: ذاكَ شَيْطَانٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله " أي اتركني وأطلق سراحي، وأنا أعلمك هذه الكلمات النافعة، وهي أن تقرأ إذا ذهبت إلى فراش نومك قبل أن تنام آية الكرسي، فإنك إذا فعلت ذلك، وكّل الله بك ملكاً يحرسك من شر الجن والإِنس، والإِنسان والحيوان طول ليلك، فلما أصبح أبو هريرة أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أما إنه قد صدقك وهو كذوب " أي قد صدقك فيما حدثك به عن آية الكرسي مع أنّه يغلب عليه الكذب بطبعه، لخبثه وشره، ثم قال له: " تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال: قلت: لا، قال: ذاك شيطان " أي ذاك أحد الشياطين.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الوكيل إذا تصرف في الشيء الذي وكل عليه، فمكن غيره من الأخذ منه، أو أقرض، وأسلف منه، بدون إذن موكله، فإن ذلك يجوز بموافقة موكله. وإجازته له، فإن(3/323)
666 - " بَابُ الْوَكَالَةِ في الْحُدُود "
766 - عن عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" جِيءَ بالنُّعَيْمَانِ -أوْ ابْنِ النُّعَيْمَانِ- شَارِباً، فَأمرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ كَانَ في الْبَيْتِ أنْ يَضْرِبُوهُ، قَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَكُنْتُ أنَا فِيمَنْ ضَرَبَهُ فَضَرَبْنَاهُ بالنِّعَالِ والْجَرِيدِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لم يجزه، لا يجوز تصرفه هذا ولا يصح شرعاً، وهو ما ترجم له البخاري، أمّا دليل جوازه إذا أجازه موكله وأمضاه فهو حديث الباب، حيث إن هذا الشخص المجهول. كان يأخذ كل ليلة من طعام صدقة الفطر الذي كان أبو هريرة وكيلاً عليه، ولم ير أبو هريرة في ذلك حرجاً ما دام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أجازه وأمضاه بعد علمة به. ثانياً: فضل آية الكرسي، وأنها حصن منيع لقارئها تصونه من كل مكروه وتحفظه من جميع الآفات والمخاوف والأرواح الشريرة من الجن والشياطين طوال تلك الليلة حتى الصباح لقوله في الحديث: " فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان " فقد صدّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه المقالة حيث قال: " أما إنه قد صدقك ". ثالثاً: أن الحكمة ضالة المؤمن، وأن كلمة الحق مقبولة من قائلها سواء كان صالحاً أو فاسقاً، فإن العبرة بالقول لا بقائله، قال العيني: وفيه جواز تعلم العلم ممن لم يعمل بعلمه. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة.
666 - " باب الوكالة في الحدود "
766 - معنى الحديث: يقول عقبة بن الحارث رضي الله عنه: جاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل شارب للخمر. شك فيه عقبة هل هو النعيمان(3/324)
أو ابنه، والتحقيق أنه النعيمان نفسه، فوكل النبي الصحابة الذين كانوا في البيت على ضربه وإقامة الحد عليه نيابة عنه، قال عقبة: وكنت من بين هؤلاء فضربناه بالنعال والجريد حتى استوفى الحد الذي عليه. الحديث: أخرجه الستة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على صحة الوكالة وجوازها شرعاً في إقامة الحدود الشرعية، وهو ما ترجم له البخاري، لأنّ هؤلاء الذين أقاموا الحد على نعيمان كانوا وكلاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إقامة الحد عليه. وقد وكل النبي - صلى الله عليه وسلم - أُنَيْساً بإقامة الحد على المرأة الزانية، فقال له: " اغد يا أُنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها " أخرجه البخاري في نفس الباب، وقال الحافظ في " الفتح ": فإن الإمام لما لم يتول إقامة الحد بنفسه، وولاه غيره كان ذلك بمنزلة توكيله لهم في إقامته، أما الوكالة في إثبات الحدود والقصاص فإنها لا تصح عند أكثر أهل العلم، ولا بد من حضور المدعي، لأن الحدود تدرأ بالشبهات، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف، وذهب ابن أبي ليلى وجماعة إلى جوازها والله أعلم. والمطابقة: في قوله: " فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كان في البيت أن يضربوه ".
***(3/325)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
" كتابُ المُزَارَعَة "
667 - " بَابُ فضلِ الزَّرْعَ والْغرْس إِذَا أكِلَ مِنْهُ "
767 - عن أنسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ مُسْلِم يَغْرِسُ غَرْساً، أو يَزْرَعُ زَرْعَاً،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" كتاب المزارعة "
والمزارعة لغة مفاعلة من الزرع، ومعناها الشركة في زراعة الأرض وإنتاجها بين المالك والعامل. وشرعاً هي: دفع أرض وحب لمن يزرعها ببعض ما يخرج منها كثُلث غلتها أو نصفها، سواء كانت غلتها طعاماً كالقمح أو الشعير، أو غير طعام كالقطن والكتان، شريطة أن تكون البذور على المالك.
قال في " فقه السنة ": هي إعطاء الأرض لمن يزرعها على أن يكون له نصيب مما يخرج منها كالنصف أو الثلث أو الأكثر، حسب ما يتفقان عليه. وقال في " الإِفصاح ": واختلفوا في المزارعة وهي أن يدفع أرضه البيضاء إلى آخر ليزرعها ببعض ما يخرج منها بشرط أن تكون البذور على المالك فمنعها على هذه الصفة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأجازها أحمد وحده، وهو مذهب أبي يوسف ومحمد، ثم اختلفوا في الأرض فيها نخل هل تجوز المزارعة فيها، فمنعها أبو حنيفة على الإِطلاق، وقال مالك: إن كان تبعاً للأصول جاز، وأجازها الشافعي وأحمد، إلاّ أن الشافعي اشترط أن يكون البياض فيها يسيراً. اهـ.
667 - " باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه "
767 - معنى الحديث: أنه لا أحد من المسلمين يغرس أي نوع من(3/326)
فَيَأكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أو إِنْسَانٌ أو بَهِيمَةٌ إلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ".
668 - " بَابُ اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِلْحَرْثِ "
768 - عن أبي هُرَيْرَةَ رضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أمسَكَ كلْبَاً فَإِنَّه يَنْقصُ كُلَّ يَوْم مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النخيل والأشجار المثمرة أو يزرع شيئاً من الحبوب الغذائية فيأكل منه أي مخلوق من الكائنات الحية، إنسان أو بهيمة أو طير إلاّ كان له أجر الصدقة وثوابها، وفي حديث جابر: " وما سرق منه فهو له صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة ولا يرزأه أحد إلاّ كان له صدقة، أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: في قوله: " إلَّا كان له به صدقة ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على فضل الزراعة والفلاحة، وما يناله المزارع عند الله من الأجر والمثوبة عن كل ما أكل من ثماره وحاصلاته الزراعية لأن الزراعة هي قوام الحياة للبشرية جمعاء. قال العيني: واستدل به بعضهم على أن الزراعة أفضل المكاسب، واختلف في أفضل المكاسب، فقال النووي: أفضلها الزراعة، وقيل أفضلها الكسب باليد وهي الصنعة، وقيل أفضلها التجارة وأكثر الأحاديث تدل على أفضلية الكسب باليد، منها حديث أبي بردة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الكسب أطيب؟ قال: " عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور " أخرجه الحاكم في " المستدرك " وصححه والتحقيق أن ذلك يختلف باختلاف حاجة الناس وظروفهم. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي.
668 - " باب اقتناء الكلب للحرث "
768 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حذّر من اقتناء الكلاب(3/327)
عَمَلِهِ قِيرَاطٌ، إلَّا كَلْبَ حَرْثٍ أو مَاشِيَةٍ".
669 - " بَابُ اسْتِعْمَالِ الْبَقَرِ لِلْحِرَاثَةِ "
769 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "بَيْنَمَا رَجُلٌ راكبٌ عَلَى بَقَرَةٍ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تحذيراً شديداً حتى إنه - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا وهو الصادق المصدوق، بأن من اقتنى كلباً لأيّ غرض من الأغراض فإنه ينقص من ثواب عمله كل يوم قيراط، وفي رواية مسلم فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان، قال الشرقاوي: والحكم للزائد، لأنه حفظ ما لم يحفظه الآخر، ولم يستثن - صلى الله عليه وسلم - من ذلك سوى ثلاثة أنواع من الكلاب رخص في اقتنائها لحاجة الناس إليها ولما فيها من مصلحة معتبرة شرعاً، وهي كلب الحرث الذي يتخذ لحراسة الحقول الزراعية، وكلب الماشية، وكلب الصيد (1) . والمطابقة: في قوله: " إلّا كلب صيد ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه لا يجوز اقتناء الكلب إلاّ لحاجة معتبرة شرعاً، لأنّ ذلك يؤدي إلى نقصان الحسنات يومياً.
ثانياًً: أنه يرخّص في الكلب لمصلحة من المصالح الشرعية كحراسة الماشية أو الزرع أو الصيد، قال مالك: أما ما جعل في الدور فلا يعجبني، ولا يعجبني أن يتخذ المسافر كلباً يحرسه. الحديث: أخرجه الشيخان.
669 - " باب استعمال البقر للحراثة "
769 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق،
__________
(1) لما جاء في رواية أخرى: " إلا كلب غنم أو حرث أو صيد ".(3/328)
فَقالَت: لَمْ أخْلَقْ لِهَذَا، خلِقْتُ لِلْحِرَاثَةِ"، قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: آمَنتُ بِهِ أنَا وأبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.
وَأخَذَ الذِّئبُ شَاةً فَتَبِعهَا الرَّاعِي، فَقَالَ الذِّئبُ: مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُع يَوْمَ لا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي، قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: آمَنْت بِهِ أنا وَأبو بَكْرٍ وَعُمَرُ، قَالَ الرَّاوِي، عَنْ أبي هُرَيرَةَ: وَمَا هُمَا يَوْمَئِذٍ في الْقَوْمِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يخبرنا عن حادثتين خارقتين للعادة وقعتا في الأزمان الماضية، أما الأولى: فإنه بينما كان رجل راكباً على بقرة، وإذا بالبقرة تتكلم حقيقة، وتقول بلغة الناس ولسان البشر: كيف تركبني مع أنّ الله لم يخلقني للركوب، وإنما خلقني لحرث الأرض. وأما الثانية: فقد اختطف الذئب شاة من الغنم فتبعها الراعي ليأخذها منه، فقال الذئب: إن كنت الآن قد حميت هذه الشاة مني، فسيأتي اليوم الذي لا تجد فيه الغنم راعياً يحميها من الذئاب، وذلك قرب قيام الساعة.
وهو معنى قوله " فقال الذئب: من لها يوم السبع " أي من يحميها مني في ذلك اليوم الذي تخلو فيه الأرض من البشر، ولا يبقى فيها سوى السباع حيث تخرب البلاد، ويهلك العباد ويفنى البشر، فلا يبقى للغنم راع يحميها من السباع والذئاب. وهكذا نطقت البقرة وتكلم الذئب بإذن الله وقدرته، " قال - صلى الله عليه وسلم -آمنت به أنا، وأبو بكر وعمر " أي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - تعليقاً على هاتين الحادثتين: أما أنا وأبو بكر وعمر فإنا قد صدقنا بهاتين الحادثتين وإن كانتا من الأشياء الغريبة الخارقة للعادة المخالفة للنظم الكونية، لأن الذي خلق هذه النظم قادر على خرقها (1) والقدرة الإلهية لا يستعصي عليها شيء.
الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي.
__________
(1) فإن لله خرق العوائد.(3/329)
670 - " بَابٌ إِذَا قَالَ: اكْفِنِي مَؤُونةَ النَّخلِ أو غَيْرِهِ، وتُشْرِكُنِي في الثَّمَرِ "
770 - عنْ أَبِي هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
"قَالَتِ الأَنْصَارُ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: اقسِمْ بَيْنَنَا وبَيْنَ إخْوَانِنَا النَّخِيلَ، قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الدواب لا تستعمل إلاّ فيما جرت العادة باستعمالها فيه -كما قال القاري- لأن الله قد هيأ هذه الكائنات وسخّرها لما خلقت له، فإذا استعملت في غير ما خلقت له، كان ذلك ظلماً لها، وقد قالت البقرة: لم أخلق لهذا -يعني الركوب-، وأقر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فأصبح حجة لما ذكرنا. ثانياًً: أن من الإِيمان التصديق بكل ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً، ولذلك آمن الصديق والفاروق بهاتين الحادثتين رغم غرابتهما لأنه أخبر عنهما النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق. ثالثاً: أن البقر للحرث لا للركوب. والمطابقة: في قولها: " خلقت للحراثة ".
670 - " باب إذا قال أكفني مؤونة النخل أو غيره وتشركني في الثمر "
أي إذا أعطى المالك للفلاح أرضاً مغروسة بالنخل أو الشجر، وقال له: اكفني سقيها وخدمتها والإِشراف عليها، ولك جزءٌ من الثمرة، ولي الباقي، فتكون شريكاً في في ثمارها مقابل عملك فيها، فإن ذلك يجوز شرعاً وهو ما يسمى عند الفقهاء بالمساقاة.
770 - معنى الحديث: أن الأنصار كانوا يملكون البساتين التي في المدينة فلما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها عرضوا عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يقسم النخيل التي(3/330)
لا، فَقَالُوا: تُكْفُونَنَا المَؤونَةَ ونُشْرِكُكُمْ فِي الثَّمَرَةِ، قَالُوا: سَمِعْنَا وأَطَعْنَا".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يملكونها بينهم وبين المهاجرين. فقالوا: يا رسول الله هذه نخيلنا بين يديك، اقسمها بيننا وبين إخواننا من المهاجرين، فأبى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفعل ذلك. فاقترحوا شيئاً آخر " فقالوا: تكفوننا المؤونة، ونشرككم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا " أي فقالوا: ما دام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يوافق على مشاركتكم لنا في هذه النخيل، فإنا نعرض عليكم مشاركتكم لنا في ثمارها مقابل أن تكفونا مؤونتها، وتقوموا بسقيها وخدمتها، وكل ما تحتاج إليه، فتكون منا النخيل ومنكم العمل فيها، ونشترك معاً في ثمرتها، فوافق النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وقال المهاجرون: سمعنا وأطعنا. وهكذا تمت بينهم هذه المعاملة التي تعرف عند الفقهاء بالمساقاة. الحديث: أخرجه أيضاًً النسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية " المساقاة " لقول الأنصار: " تكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمر " قال القسطلاني: أي ويكون الحصيل من الثمر بيننا وبينكم، وهو ما يعرف عند الفقهاء بالمساقاة. قال في " تيسير العلام ": وهي دفع شجر لمن يسقيه ويعمل عليه بجزء معلوم من ثمره، قال: والمساقاة والمزارعة من عقود المشاركات التي مبناها العدل بين الشريكين فإن صاحب الشجر والأرض كصاحب النقود التي يدفعها للمضارب (1) في التجارة، فالغنم بينهما، والغرم عليهما، وبهذا يعلم أنّها أبعد عن الضرر والجهالة من الإِجارة. وأقرب إلى القياس والعدل. اهـ. وقد أجازها مالك والشافعي وأحمد والظاهرية وأكثر أهل العلم. وذهب أبو حنيفة إلى أنّها لا تجوز بحال، لأنها إجارة بثمره لم تخلق، أو بثمرة مجهولة فهي راجعة إلى التصرف بالثمرة قبل بدو صلاحها، أو راجعة إلى جهالة العوض -أي
__________
(1) " تيسير العلام " ج 2.(3/331)
المبيع وكلاهما ممنوع شرعاً. وقد اتفق الجمهور على جوازها إجمالاً لما جاء في حديث الباب من اتفاق المهاجرين والأنصار عليها. قال العيني: ثم ظاهر الحديث يقتضي عملهم على النصف مما يخرج من الثمرة. لأن الشركة إذا أبهمت ولم يكن فيها حد معلوم كانت نصفين، والحديث حجة للجمهور على جواز المساقاة شرعاً. وأما قول من قال: إنها لا تجوز لأنها إجارة بثمرة لم تخلق ولما فيها من جهالة العوض، فالجواب عنه من وجهين الأول: أنه لا اجتهاد مع النص، والنص موجود، وهو حديث الباب. الثاني: أن المساقاة ليست إجارة حتى تطبق عليها أحكامها، وإنما هي شركة مضاربة والشريكان يشتركان في الغرم والغنم معاً. واختلفوا هل تختص بالنخيل التي ورد الحديث فيها فقط، أو تقاس عليها الأشجار الأخرى، فذهب الظاهرية إلى أنها لا تجوز إلّا في النخيل خاصة وقال الشافعي: تجوز في النخل والكرم خاصة، وقال: أحمد تجوز في كل ما له ثمر مأكول (1) ، بل ألحق كثير من أصحابه كل ما له ورق أو زهر ينتفع به. وقال مالك: تجوز في كل ما له أصل ثابت فهي رخصة عامة، قال مالك في " الموطأ ": السّنة في المساقاة عندنا أنها تكون في أصل كل نخل أو كرم أو زيتون أو رمان أو فرسك (بكسر الفاء) وهو الخوخ، أو الخوخ الأحمر الأجرد " أو ما أشبه ذلك من الأصول جائز لا بأس به، على أن لرب المال نصف الثمر أو ثلثه أو ربعه أو أكثر من ذلك أو أقل، وقال مالك: والمساقاة أيضاًً تجوز في الزرع إذا خرج واستقل، فعجز صاحبه عن سقيه وعمله وعلاجه. والمطابقة: في قولهم: " تكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمر " وإقراره - صلى الله عليه وسلم - ذلك.
__________
(1) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل أهل خيبر بالشطر.(3/332)
671 - " بَابُ المزَارَعَةِ بالشَّطْرِ وَنحْوِهِ "
771 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" عَامَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - خيْبَرَ بِشَطر مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ، أوْ زَرْعٍ، فَكَانَ يُعْطِي أزوَاجَهُ مائَةَ وَسْقٍ، ثمانونَ وَسْقَ تَمْرٍ، وَعُشْرُونَ وسقَ شَعِيرٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
671 - " باب المزارعة بالشطر ونحوه "
أي هذا باب يذكر فيه، الأحاديث الدالة على مشروعية المزارعة بنصف ما يخرج من الأرض ونحوه.
771 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فتح خيبر أقرَّ اليهود على البقاء في البساتين والحقول الزراعية، واتفق معهم على المشاركة في إنتاجها، مقابل أن يقوموا بمؤونتها وخدمتها وسقيها، ويكون لهم نصف ما يخرج منها من الثمر وهذا هو المساقاة. ونصف ما يخرج منها من الحبوب - وهذا هو المزارعة، وفي رواية سعيد بن المسيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فتح خيبر قال لهم: " أقركم فيها على ما أقركم الله عز وجل، على أن الثمر بيننا وبينكم " فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص بينه وبينهم، ثم يقول: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي، فكانوا يأخذونه " أخرجه مالك في " الموطأ " وعن جابر رضي الله عنه قال: خرص ابن رواحة أربعين ألف وسق، ولما خيرهم أخذوا الثمرة وأدّوا عشرين ألف وسق. قال ابن عمر رضي الله عنهما: " وكان يعطي أزواجه مائة وسق، ثمانون وسق تمراً وعشرون وسق شعير " والوسق ستون صاعاً.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية المساقاة،(3/333)
لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل يهود خيبر بشطر ما يخرج من الثمر، وهذا هو عين المساقاة، وهو مذهب الجمهور. قال ابن قدامة: وهذا (1) -الأمر- عمل به الخلفاء الراشدون في مدة خلافتهم، واشتهر ذلك فلم ينكره منكر، فكان إجماعاً، وقال أبو حنيفة: لا تجوز المساقاة، لأنها إجارة بثمرة مجهولة، والحديث حجة عليه ولا اجتهاد مع النص. ثانياًً: استدل البخاري بهذا الحديث على مشروعية المزارعة مطلقاً، سواء كانت الأرض المزروعة بين النخيل والأشجار، أو كانت أرضاً بيضاء يعني: سواء كانت تبعاً للمساقاة، أو كانت وحدها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر كما في حديث الباب، وهو مذهب الإِمام أحمد وأبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة، قال البخاري: قال أبو جعفر: ما بالمدينة أهل بيت إلاّ ويزرعون على الثلث والربع، وزارع علي، وسعد، وابن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم، وعروة، وابن سيرين، وممن رأى ذلك سعيد بن المسيب، وطاووس، والزهري، وابن أبي ليلى. اهـ. وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي: لا تجوز المزارعة في الأرض البيضاء (2) واستدلوا بحديث ابن عمر أنه قال: " ما كنا نرى بالمزارعة بأساً حتى سمعنا رافع بن خديج يقول: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها "، وبحديث رافع بن خديج عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من كانت له أرض فليزرعها، أو فليزرعها أخاه ولا يكرها بثلث ولا ربع ولا بطعام مسمّى ". أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وأجاب القائلون بجواز المزارعة بأجوبة: منها كما قال ابن قدامة: أن أحاديث رافع مضطربة جداً، مختلفة اختلافاً كثيراً يوجب ترك العمل بها لو انفردت، فكيف تقدم على مثل حديثنا، أي على حديث الباب. قال الإِمام أحمد: حديث رافع
__________
(1) " المغني " لابن قدامة ج 5.
(2) أمّا المزارعة على ما بين النخيل والشجر تبعاً للمساقاة فقد أجازها مالك والشافعي إذا كانت أقل ومنعها أبو حنيفة مطلقاً.(3/334)
672 - " بَابُ مَنْ أحَيَا أرْضَاً مَوَاتاً "
772 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ أَعْمَرَ أرضَاً لَيْسَتْ لأحدٍ فهُوَ أَحَقُّ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ألوان، وقال أيضاًً: حديث، رافع ضروب، وقال ابن المنذر: قد جاءت الأخبار عن رافع بعلل تدل على أن النهي كان لذلك. ثالثاً: أن المساقاة والمزارعة لا تجوز إلاّ على نسبة معينة مما تنتجه الأرض من الثمر أو الزرع، لأن هذه هي صيغة المساقاة والمزارعة التي عامل بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر، حيث عاملهم على النصف مما يخرج منها. وهي نفس المعاملة التي تمّت بين المهاجرين والأنصار، أما المساقاة أو المزارعة على جهة محددة من الأرض بأن يكون إنتاج هذه الجهة للمالك وإنتاج الجهة الأخرى للفلاح والعامل فهذا لا يجوز، لما فيه من مضرة للمالك وحده أو للعامل وحده إذا أصيبت إحدى الجهتين بآفة سماوية، وقد جاء النهي عن ذلك في الحديث الصريح عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: " كنا نكري الأرض بالناحية منها مسَمَّى لسيد الأرض فمما يصاب ذلك وتسلم الأرض فنهينا " أخرجه الخمسة. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً عليها.
672 - " باب من أحيا أرضاً مواتاً "
772 - معنى الحديث: أن مَنْ عَمر أرضاً بيضاء أو أرضاً خالية من العمران، فأحياها بزراعتها أو بنائها، ولم يعرف لها مالك قبله، فهو أحق بملكيتها من غيره. الحديث: أخرجه البخاري.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحقاق ملكية الأرض الموات لمن أحياها بالزراعة والعمران، وظاهر الحديث أنها تعتبر ملكه مطلقاً، سواء أذن به الإِمام أو لم يأذن، وهو مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا بد من(3/335)
673 - " بَابُ "
773 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
"أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَوْمَاً يُحَدِّث -وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أهلَ البَادِيَة- أَنَّ رَجُلاً من أَهلِ الْجَنَّةِ استَأذَنَ رَبَّهُ في الزَّرْعِ فَقَالَ لَهُ: ألسْتَ فيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلى، ولكني أُحِبُّ أَنْ أَزرَعَ، قَالَ: فَبَذَرَ فَبَادَرَ الطرفُ نَبَاتُهُ واسْتِوَاؤهُ واستِحْصَادُهُ فَكَانَ أمثَالَ الْجِبَالِ، فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: دُونَكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إذنه، وقال مالك: إذا كانت مما لا يستأنس فيها الناس له تملكها ولا حاجة إلى إذن الإِمام وإلا فلا. والمطابقة: في كون الترجمة من معنى الحديث.
673 - " بابُ "
هكذا بدون عنوان ولا تنوين، لأن التنوين يتبع الإِعراب، ولا إعراب إلّا في التركيب، اللهم إلاّ إذا قدرنا له مبتدأ محذوف تقديره هذا بابٌ فينون، كما أفاده العيني.
773 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوماً يحدّث أصحابه عن الدار الآخرة واستطرد إلى الجنة والنار، فذكر أن رجلاً من أهل الجنة اشتهت نفسه أن يمارس الزراعة التي كان يهواها في الدنيا، فاستأذن ربه في ذلك، فقال الله عز وجل: ألست تعيش في هذه الجنة التي تنعم فيها بكل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين من ثمار يانعة، وقطوف دانية، وقصور وحور، وأنهار من عسل مصفى، وأخرى من خمر لذة للشاربين، والتي تجد فيها كل ما تريده وتحبه نفسك. دون مشقة أو عناء، فما حاجتك إلى الزراعة الذي تكد فيها وتكدح " قال: بلى، ولكني أحب أن أزرع، قال: فبذر، فبادر الطرف نباته، واستواؤه وحصاده " أي فأذن الله له أن يمارس هوايته في الجنة فما كاد يبذر بذره حتى نبت الزرع ونضج واستحصد في أسرع من(3/336)
يا ابْنَ آدَمَ فَإِنَّهُ لا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ، فَقَالَ الأعْرَابِيُّ: واللهِ لا تَجدُهُ إِلَّا قُرَشِيَّاً (1) أو أَنْصَارِيَّاً، فَإِنَّهُمْ أصْحَابُ زَرْعٍ وأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بأَصْحَابِ زَرْعٍ، فضحِكَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
طرفة عين ولمحة بصر " فكان أمثال الجبال " أي فجُمع القمح الذي زرعه فصار أكواماً ضخمة كالجبال، عند ذلك قال الله تعالى له: تلك هي طبيعتك أيها الإِنسان لا يمكن أن يغنيك شيء عن هوايتك المفضلة لديك، وكان بين الحاضرين أعرابي " فقال الأعرابي والله لا تجده، إلاّ قرشياً أو أنصارياً " لأن الأنصار هم الذين يعملون في الزراعة. الحديث: أخرجه البخاري.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن لكل إنسان هوايته المفضلة التي لا يشغله ولا يغنيه عنها شيء مهما عظم قدره حيث إن الجنة بما فيها لم تنس هذا الرجل حبه للزراعة، فسأل ربه ذلك.
***(3/337)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب المساقاة "
674 - " بَابٌ في الشِّرْبِ وَمَنْ رَأى صَدَقَةَ الْمَاءِ وَهِبَتَهُ وَوَصِيَتّهَ جَائِزَةً مَقْسُومَاً أوْ غَيْر مَقْسوم "
774 - قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيكُونُ دَلْوُهُ مِنْهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ " فَاشْتَراهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
674 - " باب في الشرب، ومن رأى صدقة الماء وهبته ووصيته جائزة، مقسوماً كان أو غير مقسوم " (1)
قال القسطلاني: " الشرب النصيب والحظ من الماء " والظاهر أن المراد بهذا الباب بيان أحكام الماء من حيث الملكية وعدمها، فمنه ما يملكه صاحبه ويتصدق به ويهبه ويوصي به إن شاء، ومنه ما لا يُمْلك. قال العيني: الماء على أقسام: قسم منه لا يملك أصلاً وكل الناس فيه سواء في الشرِب وسقي الدواب، كالأنهار العظام. وقسم منه يملك وهو الماء الذي يدخل في قسمة أحد أو يكون بئراً موجوداً في أرض مملوكة له، فالناس فيه شركاء في الشرب، وسقى الدواب دون ري الأرض، وقسم منه يكون مُحْرَزاً في الأواني ونحوها، وهذا مملوك لصاحبه بالإِحراز وانقطع حق غيره منه.
774 - معنى الحديث: كما قال ابن بطال: أن بئر رومة -وهي في الشمال الغربي من المدينة- كانت ليهودي يقفل عليها، ويغيب
__________
(1) رواه البخاري معلقاً على عثمان رضي الله عنه، وقد وصله الترمذي والنسائي وابن خزيمة. (ع) .(3/338)
675 - " بَابُ مَنْ قَال: إِنَّ صَاحِبَ المَاءِ أحَقُّ حَتَّى يَرْوَى "
775 - عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: " لا يُمْنَعُ (1) فَضْلُ الْمَاءِ ليَمْنَعَ بِهِ الْكَلأُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيأتي المسلمون ليشربوا منها، فلا يجدونه حاضراً، فيرجعون بغير ماء فشكا المسلمون ذلك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "من يشتريها ويمنحها المسلمين، ويكون نصيبه فيها كنصيب أحدكم فله الجنة" فاشتراها عثمان رضي الله عنه بخمسة وثلاثين ألف درهم فوقفها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الماء يملك ما لم يكن من المياه العظيمة كمياه الأنهار ونحوها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عثمان بشراء بئر رومة من اليهودي، ومنحها للمسلمين، فاشتراها عثمان رضي الله عنه، وأوقفها، ومالا يُملك، لا يشترى ولا يوقف، فدل الحديث على أنّ الماء يملك ويوهب ويتصدق به لأنّ الوقف صدقة. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من يشتري بئر رومة ".
675 - " باب من قال إن صاحب الماء أحق بالماء حتى يروى "
775 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى من كان لديه ماء من بئر أو غيره يزيد عن حاجته وحوْلَهُ عُشْبٌ ترعاه ماشية أن يمنع تلك الماشية من الشرب منه، فيضطر راعيها إلى منعها عن الأكل من ذلك الكلأ، لأنّها لو أكلت منه لظمأت ولا تجد ماءً فتهلك. الحديث: أخرجه الستة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث كما قال الحافظ: على أنه يجب على صاحب
__________
(1) " يمنع " بضم الياء وفتح النون على صيغة المجهول كما أفاده العيني.(3/339)
676 - " بَابُ إِثْمِ مَنْ مَنَعَ ابْنَ السَّبِيلِ مِن الْمَاءِ "
776 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " ثَلَاثَة لا يَنْظُرُ اللهِ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ولا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَاب ألِيم: رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءِ بِالطرَّيقِ فَمَنَعَهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُل بَايَعَ إِمَاماً لَا يُبَايِعُهُ إلَّا لِدُنيا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِيَ، وِإنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا سَخِطَ، وَرَجُل أقامَ سِلْعَتَهُ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَ: وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ أعطَيْتُ بِهَا كَذَا أَو كَذَا، فَصَدَّقَهُ رَجُل، ثُمَّ قَرَأ هَذِهِ الآيَةِ (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
البئر أن يبذل ما يفضل عن حاجته من الماء لسقي الماشية وأنه يحرم عليه منعها من الشرب كما ذهب إليه أكثر أهل العلم، وهو مذهب مالك والأوزاعي والجمهور، إلاّ أن مالكاً ألحق بالماشية الزرع خلافاً للجمهور. مطابقة الحديث للترجمة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يُمنَعُ فضل الماء ليمنع به الكلأ ".
676 - " باب إثم من منع ابن السبيل الماء "
776 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم " أي أنّهم محرومون يوم القيامة من رحمة الله فلا ينظر الله إليهم نظرة رضا، ولا يغفر لهم ذنوبهم، ولهم عذاب موجع شديد. " رجل له فضل ماء بالطريق فمنعه ابن السبيل " أي رجل قاسي القلب له ماء على قارعة الطريق، زائد عن حاجته وحاجة عياله، فمنع المسافر الغريب أن يشرب منه. " ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلاّ لدنيا، فإن أعطاه منها رضي، وإن لم يعط سخط " يعني والصنف الثاني - من بايع إمامه، وعاهده على السمع والطاعة لمنفعة وغرض دنيوي، إن حقق له تلك(3/340)
المنفعة أحبه ورضي عنه، وإلا كرهه ونقم عليه. والصنف الثالث: " رجل أقام سلعته بعد العصر، فقال: والله الذي لا إله غيره لقد أعطيت بها كذا وكذا فصدقه رجل " أي رجل عرض سلعته وبضاعته للبيع بعد صلاة العصر، فأقسم بالله كذباً أنه اشتراها بسعر كذا ليروجها بأيمانه الكاذبة " ثم قرأ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) " أي إن الذين ينقضون العهد ويحلفون الأيمان الكاذبة لكي ينالوا بذلك عوضاً يسيراً من حطام الدنيا من مال أو مركز أو جاه (أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ) أي لا نصيب لهم من نعيمها (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ) بما يسرهم (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) نظر رحمة (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي شديد الإِيلام والإِيجاع لهم وإنما تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية ليستدل بها، على أن الذين ينفقون سلعهم، ويروجون تجارتهم بالأيمان الكاذبة داخلون في هذا الوعيد الشديد ضمن الأصناف الثلاثة المذكورة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يحرم على صاحب الماء أن يمنع ما زاد عن حاجته عن المسافر، لأن هذا الوعيد الشديد المذكور في الحديث لا يترتب إلّا على ارتكاب محرم، وفيه حجة لمالك على أنّه لا يجوز منع فضل الماء عن كل من يحتاج إليه. سواء كان إنساناً أو ماشية أو زرعاً كما يقول: ثانياًً: وجوب السمع والطاعة لولي الأمر فيما أحبه المسلم أو كرهه من أمور الدنيا. ثالثاً: تحريم الأيمان الكاذبة والوعيد الشديد عليها.
الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي بألفاظ متعددة. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة حيث عدَّ - صلى الله عليه وسلم - من الأصناف الثلاثة المحرومين من رحمة الله وغفرانه رجلاً له فضل ماء بالطريق فمنعه ابن السبيل، وهذا الوعيد لا يترتب إلا على من ارتكب إثماً ومعصية، وهو ما ترجم له البخاري.
***(3/341)
" كتَابٌ فِي الِاسْتِقْرَاضِ وَأدَاءِ الدُّيُونِ والْحَجْرِ والْتَّفْلِيس "
677 - " بَابُ مَنِ اشْتَرَى بالدَّيْنِ ولَيْس، عِنْدَهُ ثَمَنُهُ "
777 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضي اللهُ عَنْهُماَ قالَ:
غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - " قَالَ: " كَيْفَ تَرَى بَعِيرَكَ، أتَبيعُهُ؟ "، قُلْتُ: نَعَمْ، فَبِعْتُهُ إِيَّاهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، غَدَوْتُ إِلَيْهِ بالبَعِيرِ، فَأعْطَانِي ثَمَنَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
677 - " كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس "
والاستقراض: طلب القرض، وهو شرعاً: دفع مال لمن ينتفع به ويَرُد بدله، وأما الحجر والتفليس فسيأتي بيانهما.
" باب من اشترى بالدين وليس عنده ثمنه وليس بحضرته "
777 - معنى الحديث: أن جابراً رضي الله عنه يقول: " غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي خرجت معه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الفتح " قال: كيف ترى بعيرك "؟ أي فأبطأ به جمله، فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلاً كيف ترى بعيرك؟ قال جابر: قلت: يا رسول الله قد أعيا، أي اشتد عليه التعب والضعف حتى عجز عن السير، قال: فنزل رسول الله يحجنه بمحجنه " أي يجره بعصى معوجة الرأس، ثم قال: اركب فركبته فلقد رأيته أكفه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي فرأيته يجري بسرعة شديدة وأنا أمنعه عن السرعة، لئلا يتقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم " قال: أتبيعه؟ قلت: نعم، فبعته إياه " أي فبعت له ذلك البعير ديناً " فلما قدم المدينة غدوت إليه بالبعير فأعطاني ثمنه " أي فلما وصل(3/342)
إلى المدينة ذهبت إليه بالبعير صباحاً، فأعطاني ثمنه، وفي رواية: فاشتراه مني بأوقية وهي أربعون درهماً، وفي رواية أخرى: " بأربعة دنانير " وفي رواية أخرى قال: " قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلي وقدمت بالغداة -أي صباحاً- فجئنا إلى المسجد، فوجدته على باب المسجد قال: الآن قدمت؟ قلت: نعم، قال: فدع جملك وادخل فدخلت، وصليت، فأمر بلالاً أن يزن لي فوزن بلال فأرجح لي في الميزان، فانطلقت حتى وليت، فقال: ادعو لي جابراً، فقلت: الآن يردّ علي الجمل ولم يكن شيء أبغض إلي منه، قال: خذ جملك ولك ثمنه ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز الشراء بالدين، وقد أجمعوا على جوازه لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) . ثانياًًً: مشروعية الدين عامة سواء كان في البيوع أو ديناً خالصاً - إذا كان مستوفياً لشروطه الشرعية، ولم يكن في الأشياء الربوية، كالصرف، أو بيع التمر بالشعير نسيئة، أو كان قرضاً جرَّ نفعاً، فإنه لا يجوز. ثالثاً: استدل به الإِمام أحمد على جواز بيع دابة يشترط البائع (1) ركوبها لنفسه إلى موضع معلوم، وأجازه مالك بشرط أن تكون المسافة قريبة، وقالت الشافعية والحنفية: لا يصح، سواء بعدت المسافة، أو قربت، لحديث النهي عن بيع وشرط، وأجابوا عن حديث الباب بأنه واقعة عين يتطرق إليها الاحتمال، والدليل إذا طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال.
الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - اشترى بعير جابر بالدّين.
__________
(1) واختلف العلماء: هل يجوز للبائع أن يشترط نفعاً معلوماً في المبيع؟ كسكنى الدار المبيعة شهراً، فذهب الأئمة الثلاثة إلى عدم صحة العقد والشرط، وذهب أحمد إلى جواز شرط واحد فقط. اهـ. كما في " تيسير العلام شرح عمدة الأحكام ".(3/343)
678 - " بَابُ مَنْ أَخذَ أمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أدَاءَهَا أو إِتْلَافَهَا "
778 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ أخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أدَاءَهَا أدَّى اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
678 - " باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها "
778 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها " أي من أخذ شيئاً من أموال الناس ديناً أو وديعة يريد قضاء الدين وتسديده لصاحبه عند أوّل فرصة سانحة، كما يريد المحافظة على تلك الوديعة حتى يعيدها إلى صاحبها سالمة كاملة " أدّى الله عنه " أي يسّر الله له قضاء الدين في الدنيا وهيأ له من أسباب الرزق ما يقضي به ذلك الدين، وإن مات ولم يتيسّر له قضاء ذلك الدين مع حسن نية، وصدق عزيمة وشدة رغبة في قضائه ومات والدين باق عليه، فإن الله يؤدي عنه ذلك الدين في الآخرة بإرضاء غريمه عنه بما شاء أن يرضيه به، كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ما من مسلم يدان ديناً يعلم الله أنه يريد أداه إلاّ أداه الله عنه في الدنيا والآخرة " أخرجه ابن ماجة وابن حبان والحاكم. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله " أي ومن أخذ شيئاً من أموال الناس ديناً أو وديعة يريد تضييع ذلك المال على صاحبه، ولا ينوي إعادته إليه أو حفظه له، وإنما ينوي أن يضيعه على شهواته ومصالحه الشخصية، فإنّ الله سيجازيه من جنس نيته وعمله، فيصيبه بالتلف والهلاك والشقاء في نفسه وصحته وماله وولده وكل ما يحبه ويهواه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنّ النية الصالحة تيسر قضاء الديون، وتسهل أداءها، على عكس النية السيئة، وكذلك الحال(3/344)
679 - " بَابُ أَدَاءِ الدُّيُونَ "
779 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَوْ كانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبَاً مَا يَسُرُّنِي أَنْ لا يَمُرَّ عَليَّ ثَلَاثٌ وعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا شَيْءٌ أرْصُدُهُ لِدَيْنٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالنسبة إلى من كانت لديه عُهَدٌ مالية، فإنه إذا حَسُنَتْ نيته، وتعرض لظروف خارجة عن إرادته، أعانه الله تعالى، وأدّى عنه ما عليه في الدنيا والآخرة لعموم الحديث. ثانياًً: قال ابن بطال: فيه الحث على حسن التأدية عند المداينة وأن الجزاء من جنس العمل. الحديث: أخرجه أيضاًً أحمد وابن ماجة. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
679 - " باب أداء الديون "
779 - معنى الحديث: يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لو كان لي مثل أحد ذهباً ما يسرني أن لا يمر علي ثلاث " أي ما يسرني: أن يمر علي ثلاثة أيام " و (لا) زائدة كما قال بعض أهل العلم " وعندي منه شيء إلّا شيء أرصده لدين " أي لو كنت أملك من المال مقدار جبل أحد من الذهب الخالص لأنفقته كله في سبيل الله، ولم أُبْقِ منه إلاّ الشيء الذي أحتاج إليه في قضاء الحقوق، وتسديد الديون التي عليَّ، وما زاد على ذلك فإنه لا يسرني أن يمضي علي ثلاثة أيام وعندي منه شيء، والمطابقة: في قوله: " إلاّ شيءٌ أرصده لدين ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على وجوب الاهتمام بالدين، والحرص على قضائه والمسارعة إلى تسديده وتقديمه على الإِنفاق والصدقة في سبيل الله، لأن تسديد الديون أولى من الصدقة. الحديث: أخرجه الشيخان.(3/345)
680 - " بَابُ حُسْنِ التَّقَاضِي "
780 - عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَاتَ رَجُلٌ فَقِيْلَ لَهُ، قَالَ: كُنْتُ أبَايع النَّاسَ فأتَجَوَّزُ عنِ الْمُوسِرِ، وأُخَفِّفُ عَنِ الْمُعْسِرِ فَغُفِرَ لَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
680 - " باب حسن التقاضي "
780 - معنى الحديث: يقول النبي: " مات رجل فقيل له " أي فسئل عما قدم في دنياه من أعمال صالحة، " قال: كنت أبايع الناس فأتجوّز عن الموسر " أي كنت تاجراً أبايع الناس بالدين فأيسّر عليهم في قضاء ديونهم، فمن كان غنياً تساهلت معه في تسديد ما عليه، ولم ألزمه بدفعه عند حلول الأجل. " وأخفف عن المعسر " أي وإن كان المدين غير قادر على الدفع خففت عنه بتأجيل الدين حتى يتيسر له أو بإعفائه من بعض الدين أو كله. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فغفر له " أي فغُفِرَتْ ذنوبه مكافأة له على رحمته بالناس، ورفقه بهم، وتيسيره عليهم. وفي رواية النسائي: " إن هذا الرجل لم يعمل خيراً قط، وكان يداين الناس " وفي رواية الحاكم أنه كان يقول لرسوله: " خذ ما تيسر، ودع ما تعسّر، وتجاوز لعل الله أن يتجاوز عنا، فقال الله تعالى: قد تجاوزت عنك ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فأتجوَز عن الموسر، وأخفف عن المعسر فغفر له ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب التسامح والتساهل مع الناس عند تقاضي الحقوق والديون منهم بانظار المعسر، والتجاوز عن الموسر، فإنّه سبب في مغفرة الله تعالى، والجزاء من جنس العمل.(3/346)
681 - " بَابُ حُسْنِ الْقَضَاءِ "
781 - عن جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
أتَيْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وَهُمَ في الْمَسْجِدِ -قَالَ مِسْعَرُ: أرَاهُ قَالَ: ضُحَى- فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: " صَلِّ رَكْعَتَيْنِ " وكانَ لِي عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَانِي وزَادَنِي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
681 - " باب حسن القضاء "
781 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه: " أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد " أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد اشترى من جابر رضي الله عنه في غزوة الفتح بالدين، فلما قديم المدينة ذهب - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجده ليسلم عليه، فأحسن النبي - صلى الله عليه وسلم - استقباله، وأمره بتحية المسجد، " فقال: صل ركعتين " لأن تحية المسجد مقدمة على كل عمل، " وكان لي عليه دين " وثمن البعير الذي اشتراه منه بالدين " فقضاني وزادني " أي فأعطاني الدين الذي عليه، وزادني عن حقي فأعطاني أكثر منه، وفي رواية: " زادني: قيراطاً، قال جابر: قلت هذا القيراط الذي زادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يفارقني، فجعلته في كيس، فلم يزل عندي حتى جاء أهل الشام يوم الحرة فأخذوه فيما أخذوا ". الحديث: أخرجه الستة بألفاظ.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: الترغيب في حسن قضاء الدين، وأقله أن يقضي عند حلول الأجل دون تسويف أو مماطلة. ثانياًًً: أن من حسن القضاء أن يَرُدَّ الدين بأجود أو أكثر منه، فيزيد الدائن عما أخذه منه، قال الصنعاني: ولا يدخل ذلك في القرض الذي يجر نفعاً، لأنه لم يكن مشروطاً من المقرض، وإنما ذلك تبرع، وظاهره جواز الزيادة(3/347)
682 - " بَابُ إِذَا وَجَدَ مَالَهُ عِنْدَ مُفْلِسٍ في الْبَيْعِ والْقَرْضِ والوَدِيعَةِ فَهُو أحَقُّ بِهِ "
782 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ أدرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَوْ إِنْسَانٍ قَدْ أفلَسَ فَهُوَ أحَقُّ بِهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عدداً وصفة وقال مالك: لا تجوز في العدد. والمطابقة: في قوله: " فقضاني وزادني ".
682 - " باب إذا وجد ماله عند مفلس في البيع والقرض والوديعة فهو أحقُّ به "
782 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحقُّ به من غيره " أي من وجد ماله بعينه دون زيادة أو نقصان أو تغيير أو تبديل عند إنسان مفلس لا تتسع أمواله لسداد ديونه، فإنه أحق باسترداد ماله من بقية الغرماء. قال الحافظ: فإن تغيرت العين في ذاتها بالنقص مثلاً، أو في صفة من صفاتها فهو أسوة بالغرماء.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من وجد ماله عند مفلس دون تغير في ذاته أو في صفة من صفاته، فإن له الحق في استرداده، سواء كان متاعاً أو سلعة تجارية، ولا يكون أسوة بالغرماء، وهو مذهب الشافعي مطلقاً حيث قال: المقرض أحق باسترداد ماله من البائع كما أفاده الصنعاني. وذهب غيره إلى أن هذا الحكم يختص بالبائع دون المقرض، للتصريح بذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أيما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض الذي باعه من الثمن شيئاً، فوجد متاعه فهو أحق به " أخرجه أبو داود. لكن حديث الباب(3/348)
683 - " بَابُ مَنْ بَاعَ مَالَ الْمُفْلِس أو الْمُعْدِمِ فقَسَّمَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَأعْطَاهُ حَتَّى يُنْفِقَ عَلَى نفْسِهِ "
783 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
أعتَقَ رَجُلٌ غُلاماً لَهُ عنْ دُبُرٍ فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يَشْتَرِيْهِ مِنِّي " فاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، فَأخذَ ثَمَنَهُ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عام في كل من له مال على آخر بقرض أو بيع إن وجد ما له بعينه فهو أحق به، ولا يلزم أن تكون أحاديث البيع مخصصة له كما أفاده الصنعاني. وذهب أبو حنيفة إلى أن من وجده ماله بعينه عند مفلس فهو أسوة بالغرماء مطلقاً.
وذهب الشافعية إلى أن الميت، كالمفلس، فمن وجد ماله بعينه عند ميت فهو أحقُّ به، وفرق المالكية بين الفلس والموت، فقالوا: لا حق في حال الموت.
الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الترجمة متضمنة لمعنى الحديث.
683 - " باب من باع مال المفلس أو المعدم فقسمه بين الغرماء وأعطاه حتى ينفق على نفسه "
أي هذا باب في بيان حكم من باع من الحكام مال المفلس ليقسم ثمنه على غرمائه بنسبة ديونهم، وأعطاه منه ما يحتاج إليه يومياً من نفقته ونفقة عياله.
783 - معنى الحديث: أن رجلاً من الأنصار أعتق عبداً له بعد وفاته، وهو معنى قوله: " عن دُبُر " ثم افتقر وأفلس، وركبته الديون، فعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - غلامه للبيع في طريق المزايدة، حتى رسى على نعيم بن عبد الله، فاشتراه بثمانمائة درهم، كما في رواية أخرى للبخاري، قال جابر: " فأخذ - صلى الله عليه وسلم - ثمنه فدفعه إليه " أي سلمه إليه ليأخذ منه قدْر نفقته، ويقضي بالباقي(3/349)
دينه ويقسمه على غرمائه، فقد جاء في رواية النسائي: " أن الرجل كان مديناً، وباع النبي - صلى الله عليه وسلم - الغلام الذي دبره، فدفعه إليه وقال له: اقض دينك " الحديث: أخرجه أيضاًً النسائي بألفاظ مختلفة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن المدين إذا أفلس فإن للحاكم الشرعي أن يبيع ماله، ويقسمه على غرمائه ويعطيه منه قدر نفقته اليومية، كما يفيد هذا الحديث برواياته المختلفة. قال الحافظ: وذهب (1) الجمهور إلى أن من ظهر فلسه فعلى الحاكم الحجر عليه في ماله حتى يبيعه عليه، ويقسمه بين غرمائه على نسبة ديونهم، وخالف الحنفية، واحتجوا بقصة جابر حيث قال في دين أبيه: فلم يعطهم الحائط، قال: ولا حجة فيه، لأنه أخّر القسمة ليحضر فتحصل البركة في الثمرة بحضوره. اهـ. " فإن قلت " ليس في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم المال بنفسه بين الغرماء، وإنما المذكور في الحديث أنّه دفع إليه ماله، فالجواب كما قال العيني: أنه لما أمره - صلى الله عليه وسلم - بقضاء دينه من ثمنه، فكأنه هو الذي تولى قسمته بين غرمائه، لأن البيع لم يكن إلّا لأجلهم (2) . اهـ. ومن الأحاديث الصحيحة الصريحة في الحجر على المفلس وتقسيم ماله على غرمائه ما روي عن كعب بن مالك " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حجر على معاذ ماله، وباعه في دين كان عليه " رواه الدارقطني (3) وصححه الحاكم وأخرجه أبو داود مرسلاً، ورجح إرساله، قال عبد الحق: المرسل أصح من المتصل، وقال ابن الصلاح: هو حديث ثابت كان ذلك سنة تسع، وجعل لغرمائه خمسة أسباع حقوقهم، فقالوا: يا رسول الله بعه لنا فقال: ليس لكم إليه سبيل. قال الصنعاني: والحديث دليل على أنه يحجر الحاكم على المدين التصرف في ماله ويبيعه عنه لقضاء غرمائه، والقول بأنه حكاية فعل
__________
(1) " فتح الباري " ج 5.
(2) " شرح العيني " ج 12.
(3) " سبل السلام " ج 3.(3/350)
غير صحيح. فإن هذا فعل لا يتم إلاّ بأقوالٍ تصدر عنه - صلى الله عليه وسلم - يحجر بها تصرفه، وألفاظ يباع بها ماله، وألفاظ يقضى بها غرماؤه، وما كان بهذه المثابة لا يقال إنه حكاية فعل: اهـ. واختلفوا هل يختص الحجر بالمدين المفلس أم أنه يشمل كل مدين لم يقض الدين الذي عليه عند حلول الأجل ولو كان غنياً، فقال الجمهور: يدخل في ذلك الغني إذا ماطل في تسديد الدين، فيبيع الحاكم عليه ماله لينصف منه غريمه أو غرماءه، ومما يدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبتهِ " فإنْه يدل على أنه يحجر عليه، ويباع عنه ماله، لأنه داخل تحت مفهوم العقوبة. وقال بعضهم: لا يحجر على المدين إن كان غنياً وإنما يجب حبسه حتى يقضي دينه قالوا: وليس في حجره - صلى الله عليه وسلم - على معاذاً أي دليل على أنه يحجر - على الغني إذا لم يقض الدين الذي عليه، لأن معاذاً كان في الحقيقة مفلساً لما في رواية أبي داود عن عبد الرحمن بن كعب ابن مالك مرسلاً قال: " وكان معاذ بن جبل رجلاً سخياً، وكان لا يمسك شيئاً، فلم يزل يدان حتى أغرق ماله كله في الدين، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلمه ليكلم غرماءه، فباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم ماله حتى قام معاذ بغير شيء (1) " وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - " ليُّ الواجد بحل عرضه وعقوبته " فمعناه أن الغني إذا ماطل في قضاء الدين حلت عقوبته بسجنه لا بالحجر عليه. أما كيف يقسم مال المفلس على الغرماء؟ فقد اتفق أهل العلم على أن المفلس الذي له مال لا يفي بديونه يَحْجُرُ الحاكم عليه إذا طلب غرماؤه أو بعضهم ذلك، ويكف يده عن التصرف فيه ويبيع عليه ماله " عند الجمهور " (2) ويقسمه بالحصص على غرمائه الحاضرين المطالبين بحقوقهم الذين حلّت آجالهم فقط، دون الحاضرين الذين لم يطالبوا بحقوقهم، أو الغائبين الذين لم يوكّلوا أحداً عنهم، أو الدائنين
__________
(1) " فقه السنة " ج 2.
(2) إذا منع عن بيعه بنفسه كما في " فقه السنة " ج 2.(3/351)
الذين لم تحل آجالهم، كما ذهب إليه أحمد والشافعي، خلافاً لمالك حيث قال: يحل الدين بالحجر وإن لم يحضر أجله. أما الميت المفلس: فإنه يقضي من الموجود من ماله لكل حاضر أو غائب طلب أو لم يطلب، حل أجله أو لم يحل، بعد قضاء حق الله تعالى من زكاة أو كفارة لقوله - صلى الله عليه وسلم - " فإن دين الله أحقُّ أن يقضى " ولا بد أن يترك الحاكم للمفلس ما يقوم بمعيشته من مسكن يؤويه، ومال يتجر فيه، وآلة حرث، وأجرة خادم، وذهب مالك والشافعي إلى أنه تباع داره في هذه الحالة. وأما البالغ السفيه الذي يسيء التصرف في ماله، ويصرفه فيما لا مصلحة فيه، فقد قال ابن المنذر: أكثر العلماء على أن من بلغ عاقلاً لا يحجر عليه إلا أن يكون مفسداً لماله، فإذا كان كذلك حجر عليه حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة، فإذا بلغها سلم المال إليه بكل (1) حال، واستدل الجمهور على أنه يحجر على السفيه بما في الحديث الصحيح من النهي عن إضاعة المال (2) والسفيه يضيعه بسوء تصرفه، أما الصغير فإنه يحجر عليه حتى يبلغ الحلم ويؤنس منه الرشد. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم -: دفع إليه ثمن العبد ليقسمه بين غرمائه.
***
__________
(1) أيضاً " فقه السنة " ج 2.
(2) " سبل السلام " ج 3.(3/352)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
" "كتابُ الخُصُومَاتِ "
684 - " بَابُ ما يُذْكَرُ فِي الأشْخاص والخُصُومَةِ "
784 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَجُلاً يَقْرَأُ آيَةً سَمِعْتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ (1) خِلافَهَا فأخذْتُ بِيَدِهِ فأتيْتُ بِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ فلا تَخْتَلِفُوا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" كتاب الخصومات "
الخصومات: جمع خصومة، وهي المنازعة بين شخصين أو أكثر يدّعى أحدهما أو أحدهم ما ينكره الطرف الآخر، فيتشاجران، ولا يلزم أن تكون على حق مالي يدعيه أحد الطرفين على الآخر، بل قد تنشأ عن اختلاف في قضية علمية، فإنها كما تكون في حق شخصيٍّ أو تعد جنائي، فإنها تكون كذلك في مسائل علمية أو دينية أو أمور أخرى.
684 - " باب ما يذكر في الأشخاص والخصومة "
784 - معنى الحديث: أن ابن مسعود سمع رجلاً يقرأ آية من القرآن قراءة تختلف عما سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان هذا الرجل هو عمر رضي الله عنه، قال ابن مسعود: " فأخذت بيده فأتيت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي فأمسكت بيده وذهبت به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أشكوه إليه، "فقال: كلاكما
__________
(1) هكذا لفظ الحديث كما في " مختصر الزبيدي " وفي نسخة العيني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافها، والمعنى واحد.(3/353)
محسن" أي فسمع - صلى الله عليه وسلم - قراءة كل منهما فقال: " كلاكما محسن " أي مصيب في قراءته " لا تختلفوا " أي لا تتنازعوا وتتخاصموا في مثل هذه الأمور التي لها أصل شرعي، لأنها جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأوجه مختلفة كلها صحيحة كالأحرف السبعة فإنها ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا "، يعني فإن بني اسرائيل لما اختلفوا كان اختلافهم سبب هلاكهم.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: التحذير عن الخصومة في الأمور التي لها أصل شرعي من الكتاب والسنة كالأحرف السبعة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو الاختلافات الفقهية، فإن المسلمين قد اختلفوا في الأحكام التشريعية منذ عهد الصحابة والتابعين، وتغايرت فتاوى الصحابة فيها، ولا ينبغي النزاع والخصومة فيها، فإن هؤلاء المجتهدين جميعاً على هدى من الله، ويؤجرون على كل حال، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطؤوا فلهم أجر واحد. ثانياًً: أن اختلاف أهل العلم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان، وكذلك اختلاف فقهاء الإِسلام، والأئمة الأعلام في المسائل الفقهية والأحكام الشرعية لا يدخل ضمن الاختلاف المذموم شرعاً (1) فقد قال الإِمام ابن قدامة في أول كتابه " المغني " وهو يتحدث عن أئمة المذاهب الإِسلامية: إن الله مَهَّد بهم قواعد الإِسلام، وأوضح بهم مشكلات الأحكام، اتفاقهم حجةٌ قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، تحيا القلوب بأخبارهم، وتحصل السعادة باقتفاء آثارهم، ثم اختصّ منهم نفراً أعلى قدرهم ومناصبهم، وأبقى ذكرهم ومذاهبهم، فعلى أقوالهم مدار الأحكام، وبمذاهبهم يعتني فقهاء الإِسلام. اهـ. وقال في " شرح الطحاوية " فإذا وُجِدَ لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلا بد له في تركه من عذر، وجماع الأعذار ثلاثة أصناف. أحدها: عدم اعتقاده أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله:
__________
(1) وإنما هو اختلاف محمود يدخل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: كلاكما محسن.(3/354)
685 - " بَابُ كَلَامِ الخصُومِ بَعضِهِمْ في بَعْضٍ "
785 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَاَلَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -: " مَن حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، وَهوَ فِيهَا فَاجِر، لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ "، قَالَ: فَقَالَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة. الثالث: اعتقاده أن ذلك منسوخ. ثم قال: " فلهم الفضل علينا، والمنة بالسبق، وتبليغ ما أرسل به الرسول إلينا، وإيضاح ما كان منه يخفى علينا. اهـ. فهذا الاختلاف الفقهي لا حرج فيه، وإنما الاختلاف المذموم المنهي عنه شرعاً هو اختلاف التضاد وهو كما قال في " شرح الطحاوية " الذي تُحمدُ فيه إحدى الطائفتين وتذم الأخرى كما في قوله تعالى: (وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) . اهـ. ويدخل في ذلك الاختلاف العقائدي كاختلاف أهل البدع والأهواء الذي يؤدّي إلى سفك الدماء، واستباحة الأموال، والعداوة والبغضاء بين المسلمين، كما وقع من الخوارج الذين حاربوا أهل السنة، وكما وقع من المعتزلة الذين عذبوا أئمة الهدى ونكلوا بهم. الحديث: أخرجه أيضاًً النسائي في الكبرى. والمطابقة: في قوله: " فلا تختلفوا " إلخ.
685 - " باب كلام الخصوم بعضهم في بعض "
785 - معنى الحديث: قال عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه يوماً وهو يتحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من حلف على يمين وهو فيها فاجر " أي من أقسم بالله تعالى على شيء وهو كاذب في يمينه، متعمد الكذب، عالم بأنه غير محق في قوله ودعواه " ليقتطع بها مال امرىء مسلم " أي ليأخذ حقاً لغيره، أو يسقط عن نفسه حقاً لغيره، مسلماً كان أو ذمياً، قال القسطلاني: والتقييد بالمسلم جرى على الغالب، فلا فرق(3/355)
الأشْعَثُ: فيَّ وَاللهِ كَانَ ذَلِكَ، كَانَ بَيْني وَبَيْنَ رَجُل مِنَ الْيَهُودِ أرْضٌ فَجَحَدَنِي، فَقَدَّمْتُهُ إِلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " ألكَ بَيَنة؟ " قُلْتُ: لا، قَالَ: فَقَالَ لِليَهُودِيِّ: " احْلِفْ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِذَنْ يَحْلِفُ وَيَذْهَبُ بِمَالِي! فَأنزَلَ اللهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) إِلى آخِرِ الآيَة.
__________
بين المسلم والذمي والمعاهد وغيرهم. اهـ. وذلك لأن الناس بالنسبة إلى الحقوق الإِنسانية سواء لا فرق بين مسلم وكافر، فكما تحرم هذه تحرم هذه، فمن حلف يميناً كاذبة ليأخذ بها حق إنسان مهما كان دينه أو ملته " لقي الله وهو عليه غضبان " قال الصنعاني: وإذا كان الله. . . . . . جنته، وأوجب عليه عذابه، " فقال الأشعث: فيَّ والله كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض "، أي فلما سمع الأشعث هذا الحديث من ابن مسعود رضي الله عنه قال: إنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث بسببي، وذلك لأنه كان بيني وبين يهودي خصومة على أرض فجحدني، أي فأنكر حقي فيها " فقدمته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي شكوته إليه، " فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألك بينة "، أي شهود، " قلت: لا فقال لليهودي: احلف قال: قلت يا رسول الله إذن يحلف ويذهب بمالي "، أي إذن يحلف كذباً، ويأكل مالي بالباطل، " فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) " وقد تقدمت هذه الآية مع شرحها في باب " إثم من منع ابن السبيل ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز كلام الخصوم بعضهم في بعض، لأن الأشعث طعن في اليهودي، ووصفه بالكذب واليمين الغموس.
الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " إذن يحلف ".(3/356)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
" كتابُ اللُّقَطَةِ "
686 - " بَابٌ إِذَا لَمْ يُوجَد صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ فهِيَ لِمَنْ وَجَدَهَا "
786 - عن زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فسَألهُ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: " اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفها سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وِإلَّا فَشَأنَكَ بِهَا "،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" كتاب اللقطة "
بفتح القاف على المشهور، وقال الخليل: بسكون القاف وهو القياس إلّا أنه غير مستعمل، وهي لغة: المال الملتقط، وشرعاً: ما وجد من مال ضائع غير ممتنع بقوته.
686 - " باب إذا لم يوجد صاحب اللقطة بعد سنة فهي لمن وجدها "
786 - معنى الحديث: أن رجلاً وهو عقبة بن سويد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حكم اللقطة " أي المال الضائع " إذا وجده المسلم ماذا يصنع به؟ " فقال: اعرف عفاصها (1) ووكاءها "، أي تعرّف على جميع مميزاتها وعلاماتها من شكل الوعاء والحبل ولونهما، " ثم عرفها سنة "، أي أعلن للناس عن وجود متاع ضائع عندك لمدة سنة كاملة، ويكون ذلك في أوّل الأمر مرتين يومياً أول (2) النهار وآخره، ثم مرة واحدة في اليوم، ثم مرة في
__________
(1) العقاص الوعاء، والوكاء الحبل.
(2) " شرح القسطلاني على البخاري ".(3/357)
قَالَ فَضَالَةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: " هِيَ لَكَ أو لأخيكَ، أو للذِّئْبِ " قَالَ فَضَالَةُ الإِبِلِ؟ قَالَ: " مَا لَكَ وَلَهَا، مَعَهَا سِقَاؤهَا وحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ، وتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأسبوع، وإنما أمر - صلى الله عليه وسلم - بتعريفها لمحاولة إيصالها إلى صاحبها " فإن وجد صاحبها وإلا فشأنك بها " أي فإن حضر صاحبها خلال السنة فسلمها له، " وإلا فشأنك بها " (1) أي وإن لم يحضر صاحبها بعد سنة فتصرف فيها، وفي رواية أخرى: ثم استمتع بها، فإن جاء ربها فأدها إليه يعني فإن جاء ربها بعد السنة، وذكر علاماتها المميزة لها من شكل ولون ووعاء ونحوه، وكانت موجودة لديك بعينها فسلمها له، وادفعها إليه، وإن تصرفت فيها فعليك ضمانها، فادفع إليه قيمتها وثمنها " قال: فضالة الغنم " أي فما حكم الشاة الضائعة هل ألتقطها أيضاًً؟ " قال: لك، أو لأخيك، أو للذئب " أي فأمره - صلى الله عليه وسلم - ضمناً بأخذها لأنه إن لم يأخذها هو أخذها غيره من الناس، فإن لم يأخذها هو ولا غيره كانت طعاماً للذئاب والسباع. " قال: فضالة الإِبل؟ " أي فسأله عن الجمل الضائع أو الناقة الضائعة " قال: ما لك ولها؟ " وهذا استفهام إنكاري، أي لِمَ تأخذها وهي لا حاجة لها بك " معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر " أي لا داعي لأخذها أبداً، لأنها توفرت لها كل أسباب المعيشة من حذاء قوي صلب تسير عليه، وهو خفها، وسقاء ضخم تحفظ به الماء وهو بطنها ثم هذا هو العشب بين يديها، والماء موجود ترده ولو بعد أيام فتختزنه في بطنها فيرويها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية التقاط اللقطة واستحبابه حفظاً لمال المسلم، وصيانة له عن الضياع، وهو مذهب
__________
(1) بالنصب أي إلزم شأنك بها، والشأن الحال، أي تصرف فيها كما أفاده القسطلاني.(3/358)
أبي حنيفة والشافعي وقال مالك وأحمد: ترك التقاطها أفضل لحديث: " ضالة المسلم حرق النار " ولما يخشي، من الضمان والدين، وذهب قوم إلى أن الالتقاط واجب، وتأوّلوا حديث الوعيد بمن أخذها للانتفاع بها من أول الأمر، وهو رواية عن الشافعي، واستدل على وجوبه بقوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) وولاية المؤمن للمؤمن تقتضي التقاط ماله، واختار أبو الخطاب الحنبلي أنه إذا وجدها بمضيعة وأمن نفسه عليها، فالأفضل أخذها. ثانياًً: أنه ينبغي التعرف على جميع مميزات اللقطة من شكل الوعاء والحبل ولونهما، وأن يقوم بتعريفها، والإِعلان عنها لمدة سنة وجوباً، لحديث الباب، حيث إن إمساكها دون تعريف لها وأكلها والتصرف فيها دون ذلك من أكل أموال الناس بالباطل، ومعنى التعريف لها الإِعلان عنها أولاً في مكان التقاطها ثم في المجتمعات القريبة منه، ثم في المجتمعات العامة كالمساجد (1) والأسواق ونحوها، أو بتبليغ الجهات المسؤولة عنها. ثالثاً: أنه إذا حضر صاحبها قبل انقضاء السنة، وذكر العلامات المميزة لها سلّمها إليه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " اعرف عفاصها ووكاءها " فإنه لم يأمر الملتقط بمعرفة الوعاء والحبل ونحوه إلاّ ليسأل من يزعم أنّه صاحبها عن هذا العلامات التي تميزها. رابعاً: أنه إذا لم يحضر صاحبها بعد سنة، فله أن ينتفع بها، ويتصرف فيها شريطة ضمانها لصاحبها عند حضوره، فيدفع إليه ثمنها. قال ابن قدامة (2) : وترد اللقطة بمجيء صاحبها، ويضمن له بدلها إن تعذر ردها، وهو مذهب أكثر أهل العلم، وقال الشوكاني: " ذهب الجمهور (3) إلى وجوب الرد إن كانت العين موجودة، أو البدل إن كانت استهلكت " وأجاز أبو حنيفة تملكها لمن كان فقيراً. خامساً: أنه ينبغي أخذ ضالة الغنم لضعفها وعدم تمكنها من المعيشة
__________
(1) " تيسير العلام " ج 2.
(2) " المغني " لابن قدامة.
(3) نيل الأوطار للشوكاني.(3/359)
687 - " بَابٌ إِذَا وجَدَ تمْرَةً في الطَّرِيقِ "
787 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنِّي لأنْقَلِبُ إِلى أهْلِي فأجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً على فِرَاشِيِ فَأرْفَعُهَا لآكُلَهَا، ثُمَّ أخشَى أنْ تَكُونَ صَدَقَةً، فَأُلقِيهَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دون صاحبها، فإن أكلها هل يضمنها؟ قال مالك: يأكلها ولا يضمنها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لك أو لأخيك أو للذئب "، قال الجمهور: يضمنها. سادساً: أن ضالة الإبل لا تؤخذ لاستغنائها بنفسها. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله " فإن وجد صاحبها وإلّا فشأنك بها ".
687 - " باب إذا وجد تمرة في الطريق "
787 - معنى الحديث: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: والله إني لأجد التمرة على فراشي بعد رجوعي إلى بيتي. فتميل نفسي إليها، فأرفعها إلى فمي لآكلها، فأخشى أن تكون من تمر الزكاة فأتركها وأردها إلى مكانها. الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الأشياء التافهة إذا التقطها المسلم يملكها بمجرد التقاطه لها، ولا يحتاج ولا يجب عليه تعريفها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وجد التمرة على فراشه رفعها ليأكلها دون تعريف لها، فدل ذلك على أنّ اللقطة إذا كانت من الأشياء التي يعلم بداهة أن صاحبها لا يطلبها فإنها لا يجب تعريفها، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنّه مر على أعرابي يعرف تمراً - أي تمراً يسيراً فخفقه بالدرّة وقال: كل يا بارد الزهد. ثانياًً: أنه يستحب من باب الورع التوقف عن تناول الأشياء التافهة حرصاً على سلامة الدين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها " فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد امتنع عن أكلها تورعاً واحتياطاً، مخافة أن تكون من تمر الصدقة. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة.(3/360)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
" كتابُ الْمَظَالِمِ "
688 - " بَابُ قِصَاصِ الْمَظَالِمِ "
788 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا خَلُصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بقَنْطرةٍ بَيْنَ الْجَنةِ والنَّار، فيتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كانَتْ بَيْنَهُمْ في الدُّنيا، حَتَّى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
688 - "
كتاب المظالم باب قصاص المظالم "
المظالم لغة جمع مظلمة بكسر اللام وفتحها، حكاه الجوهري وغيره، والكسر أكثر، حتى أن صاحب " القاموس " اقتصر عليه حيث قال: المظلمة بكسر اللام ما يظلمه الرجل لغيره، فلم يذكر غير الكسر، وهي مشتقة من الظلم. والظلم كما قال الراغب: " وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة، وإمّا بعدول عن وقته ومكانه " ومنه أخذت المظلمة، وهي في اللغة كما قال الحافظ: " اسم لما أخذ بغير حق ". أمّا المظلمة شرعاً فإنها التعدي على حقوق الآخرين، سواء كان ذلك بأخذ أموالهم بالباطل، أو بانتهاك أعراضهم، ويدخل في المظالم كل الاعتداءات المالية والجسمية والأخلاقية وغيرها، وكل الجنايات وجميع المخالفات الشرعية والذنوب، وإن لم تتعد إلى الغير، لأن فاعلها يظلم نفسه، ويتعدى عليها بتعريضها للعقوبة الإلهية.
788 - معنى الحديث: أن المؤمنين يوم القيامة إذا تجاوزوا الصراط المنصوب على متن جهنم أوقفتهم الملائكة عند جسر آخر، ليقتص المظلوم من ظالمه حقه الذي اعتدى عليه فيأخذه من حسناته، أي فيأخذ من حسناته بقدر تلك المظلمة وهو معنى قوله: " فيتقاصون مظالم كانت بينهم "(3/361)
إِذَا نُقُّوا وهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، فوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ في الْجَنَّةِ أدلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ في الدُّنيا".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(بالصاد) أي فيقتص المظلوم من حسنات الظالم بقدر المظلمة التي أصابته منه، وفي رواية " فيتقاضون " (بالضاد) أي فيتحاكمون في هذه المظالم إلى رب العزة والجلال " حتى إذا نقوا وهذبوا أُذن لهم بدخول الجنة " أي فإذا طُهّروا وتخلصوا من حقوق الناس أدخلوا الجنة " فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم بمسكنه في الجنة أدل بمنزله كان في الدنيا " أي أن أهل الجنة أعرف بمنازلهم فيها من أهل الدنيا بمنازلهم. الحديث: أخرجه البخاري وأحمد.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: التحذير الشديد من ارتكاب المظالم والتعدي على حقوق الآخرين سواء كانت بدنية أو مالية أو أخلاقية أو غيرها، لأن المظلوم يوم القيامة يأخذ من حسنات ظالمه، حتى يستوفي حقّه منه، وإذا كان هذا الحديث قد دل على أن القصاص في الحقوق والمقاضاة فيها تكون بعد المرور على الصراط فقد أكد المحققون على أن هذا القصاص الذي بعد الصراط إنما هو في المظالم الخفيفة، فذكر ابن بطال بأنه يختصُّ بالذين لا تستغرق مظالمهم حسناتهم، لأنهم لو استغرقت مظالمهم حسناتهم لما جاز أن يقال فيهم خلصوا من النار. إذن فهؤلاء الذين يحاكمون في حقوق العباد بعد الصراط هم الذين عليهم تبعات يسيرة، ولكل واحد منهم على أخيه مظلمة، وله مظلمة، ولم يكن في شيء منه ما يستحق النار.
فالجميع يدخلون الجنة إلاّ أنهم يتفاوتون في المنازل. ثانياًًً: أن أهل الجنة يعرفون منازلهم أكثر من معرفة أهل الدنيا بمنازلهم. والمطابقة: في قوله " فيتقاصون مظالم ".(3/362)
689 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى ألا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمينَ "
789 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ اللهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَليْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ: أَتَعْرِفْ ذَنْبَ كَذَا؟ أتَعْرِفْ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، حَتَّى إذَا قَرَّرَهُ بذُنُوبِهِ، وَرَأى في نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، وأَنا أغفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فيُعْطى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وأَمَّا الكَافِرُ والْمُنَافِقُ فَيَقُولُ الأشْهَادُ: هَؤُلاءِ الَّذِيْنَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، ألا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
689 - " باب قول الله تعالى ألا لعنة الله على الظالمين "
789 - معنى الحديث: أن ابن عمر رضي الله عنهما يحدثنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه سمعه بنفسه يقول: " إن الله يدني المؤمن " أي يقربه إليه يوم القيامة ليكلمه ويعرض عليه ذنوبه فيما بينه وبينه، " فيضع عليه كنفه (1) ويستره " أي فيشمله بعنايته ورعايته ولطفه ورحمته، ويستر عليه ذنوبه، ويكلمه فيها سراً، " فيقول له " فيما بينه وبينه دون أن يطلع على ذلك أحد ويعرض عليه ذنوبه سرَّاً قائلاً له في لطف " أتعرف ذنب كذا " هكذا يذكره بما فعله في الدنيا في لطف وخفاء " حتى إذا قرره بذلك " واعترف بذنوبه " ورأى في نفسه أنه هلك " أي وتيقن أنه دخل النار إِلا محالة إلاّ أن يتداركه عفو الله، " قال: سترتُها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم " أي أغفرها لك في هذا اليوم كما سترتها عليك في الدنيا " أما الكافر أو المنافق " في عقيدته
__________
(1) قال القسطلاني: أي حفظه وستره.(3/363)
690 - " بَاب الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "
795 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم " أي فيقول الحاضرون من الملائكة والنبيين والجن والإِنس: هؤلاء الذين كفروا ونسبوا إلى الله ما لا يليق به من الشريك والولد والزوجة " ألا لعنة الله على الظالمين " أي ألا إن هؤلاء الكفار هم الذين اختصهم الله باللعنة والطرد من رحمته. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الظالمين المستحقين للعنة هم الكفار والمنافقون لقوله في الحديث: " وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين " أما المؤمنون فلا يلعنون ولو كانوا عصاة، لأن مصيرهم إلى الجنة، ولأن رحمة الله لا بد أن تنالهم، فلا يلعن العاصي بعينه، أما اللعن بدون تعيين فلا مانع منه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ". ثانياًً: سعة رحمة الله وعفوه على عباده، وأنه لا يأس مع الإيمان. والمطابقة: في قوله " وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين ".
690 - " باب الظلم ظلمات يوم القيامة "
790 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الظلم ظلمات " قال القاضي عياض: هو على ظاهره، فيكون ظلمات على صاحبه فلا يهتدي يوم القيامة بسبب ظلمه في الدنيا، فربما وقعت قدمه في ظلمة ظلمه فهوت في حفرة من حفر النار، كما أفاده القسطلاني.(3/364)
691 - " بَابُ مَنْ كَانتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ فَحَلَّلَهَا لَهُ هَلْ يُبَيِّنُ لَهُ مَظْلَمَتَهُ "
791 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَحَدٍ مِنْ عِرْضِهِ أو شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أن لَا يَكُونَ دِينَارٌ ولا دِرْهَمٌ، إِنْ كَان لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ من سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقه الحديث: دل هذا الحديث على التحذير من عواقب الظلم الوخيمة لأنه يتحول يوم القيامة إلى ظلمات تغشى بصر فاعله، وتحجب عليه طريقه.
الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: في كون الترجمة هي لفظ الحديث.
691 - " باب من كانت له مظلمة عند رجل فحللها له هل ييين له مظلمته "
791 - معنى الحديث: أن من أخذ من أخيه شيئاً بالباطل، أو تعدى على حق من حقوقه المالية أو البدنية أو غيرها " فيتحلله منه اليوم " أي فليبادر إلى استرضائه والاستسماح منه (1) في الدنيا وليُعِدْ إليه حقه من ماله، " قبل أن لا يكون دينارٌ ولا درهم "، أي قبل أن يأتي ذلك اليوم الذي لا يملك فيه نقوداً يستطيع بها أن يرد للمظلوم حقه المالي الذي ظلمه فيه فيحاكمه إلى ربه عز وجل، فإن كان له عمل صالح فإنه يؤخذ من حسناته
__________
(1) ويكفيه ذلك إذا كان التعدي بدنياً. أو أخلاقياً مثلاً، فإن كان مالياً فلا بد من إعادة حقه إليه أو سؤاله التنازل عنه.(3/365)
692 - " بَابُ إِثْمِ من خاصَمَ في بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ "
792 - عن أمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ خُصَومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ فَخَرَج إِلَيْهِمْ فَقَالَ: "إِنَّمَا أنا بَشَرٌ وِإنَّه يَأتِيني الْخَصْمُ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أن يَكُونَ أبلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأحسِبُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأعماله الصالحة بقدر تلك المظلمة، ويضاف إلى حسنات خصمه، فيزيد المظلوم في حسناته، ويخسر الظالم من حسناته، وإن لم يكن للظالم حسنات، فإنه يؤخذ من سيئات المظلوم، وتضاف إلى الظالم، وربما تضاعفت سيئاته وتراكمت وألقي به في النار، فيهلك الظالم، ويربح المظلوم.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن الظالم إذا أراد أن يتوب إلى الله توبة صادقة وكانت عليه حقوق مالية للمظلومين أن يتحلل منهم قبل كل شيء، ويبرىء ذمته من حقوقهم بإعادة حقوقهم إليهم، أو استسماحهم بعد أن يبين لهم الشيء الذي ظلمهم فيه حتى يكونوا على معرفة تامة به، ولتبرأ ذمته من تلك المظلمة المعينة، لأن صحة البراءة والتحلل يتوقفان على إعادة الحق إليهم أو مسامحتهم في الشيء المعين الذي ظلموا فيه وذلك أمر قام الإِجماع عليه، كما أفاده الحافظ. أما البراءة والتحلل من المجهول فهو محل خلاف بين أهل العلم. الحديث: أخرجه البخاري والترمذي. والمطابقة: في قوله: "فليتحلله منه".
692 - " باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه "
792 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع مشاجرة بين اثنين، من الصحابة رضوان الله عليهم فخرج من بيته إليهم ليتعرف على الخصومة التي بينهما، ويقضي فيها، فقال لهم قبل أن يقضي بينهما محذراً لكل واحد منهما من المخاصمة في الباطل " إنما أنا بشر مثلكم " قال العيني: أي لا أعلم الغيب(3/366)
أنَّهُ صَدَقَ، فَأقْضِيَ لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ، فإِنَّما هِيَ قِطْعَة مِنَ النَّارِ، فَلْيَأخُذْهَا أوْ لِيَتْرُكْهَا".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وبواطن الأمور كما هو مقتضى الحالة البشرية، وإنما أحكم بالظاهر " من البينة أو اليمين " والله يتولى السرائر " وإنه يأتيني الخصم " أي يأتيني الخصمان المدعي والمدعى عليه " فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض " يعني فقد يكون أحد الخصمين أقدر على إثبات دعواه بالحجة والبينة من الآخر " فأحسب أنه قد صدق " أي فيغلب على ظني أنّه صادق محقٌّ " فأقضي له بذلك " أي فأحكم له بالقضية لما معه من الحجة والبينة " فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها " أي فمن حكمت له بحق أخيه المسلم وسلمته له فلا يستحله فإنه إذا أخذ ذلك الحق وهو يعلم أنه باطل وظُلْمٌ لغيره فإنه يأخذ مالاً حراماً يؤدي به إلى النار. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: التحذير الشديد عن الدعوى الباطلة التي يراد منها أكل أموال الناس بالباطل، لما تؤدي إليه من النار وبئس القرار، وأن المخاصمة في الباطل إثم ومعصية، وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحكم بين الناس بالحجة الظاهرة من بينة أو يمين تشريعاً للقضاة والحكام في كل العصور والأزمان، فإن أساس القضاء في الإِسلام يعتمد على أصول ثلاث: البينة، اليمين، الإِقرار، أي إقرار الشخص على نفسه بالحق الذي عليه، وهو سيّد الأدلة، ولا يجوز الحكم بغيرها حتى قال بعض أهل العلم: إن القاضي لا يحكم بعلمه، فلو علم حقيقة الأمر في القضية المعروضة عليه في مجلس القضاء لا يحكم بعلمه، وإنما يحيل القضية إلى قاض آخر، ويأتي شاهداً فيها. والدليل على أن القاضي يحكم(3/367)
693 - " بَابٌ لا يَمْنَعُ جَار جَارَهُ أنْ يَغرِزَ خشبَةً في جِدَارِهِ "
793 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بما يظهر له. قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صدق فأقضي له "، وإنما حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ليكون الحكم بالظاهر قاعدة من قواعد القضاء الشرعي في الإِسلام، لأن الحكم باليقين ليس في مقدور البشر، وحقيقة الأمر في صدق أحد الخصمين وكذب الآخر غيب لا يعلمه إلاّ الله، فلا يصلح أن يكون أساساً للقضاء. ثالثاً: أن حكم الحاكم لا يحل حراماً ولا يبيح مظلمة، فمن حكم له بشيء من حق غيره فإنه يحرم عليه أخذه ما دام يعلم أنّه حق غيره، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار " وبهذا أخذ الجمهور فقالوا: إن حكم الحاكم لا يحلل الحرام للمحكوم له، سواء كان ذلك في الأموال أو الأعراض، وذهب أبو يوسف ومن وافقه من أهل العلم إلى أن كل ما يقضي به الحاكم من تمليك مال، أو إزالة ملك، أو إثبات نكاح أو طلاق أو ما أشبه ذلك، فهو على ما حكم (1) ، وإن كان في الباطن على خلاف ما شهد به الشاهدان، كما أفاده العيني، ولكن حديث الباب حجة عليه. والمطابقة: في قوله " فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار".
693 - " باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره "
793 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره " يجوز فيه الرفع على أن لا نافية، والجزم على أنها ناهية.
ومعنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا ينبغي للمسلم إذا كان له
__________
(1) " شرح العيني " ج 3.(3/368)
جِدَارِهِ"، ثُمَّ قَالَ أبو هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهُ: ما لي أراكُمْ عنهَا مُعْرِضينَ، واللهِ لأرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أكتَافِكُمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بناء أن يمنع جاره الملاصق لداره من أن يغرز خشبة في جداره وعلى أن " لا " جازمة، يكون معناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ينهى كل مسلم له بناء أن يمنع جاره من غرز خشبة في جداره، هكذا روى أبو هريرة هذا الحديث. وفي رواية أخرى عن أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا استأذن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره فلا يمنعه، قال: فلما حدث أبو هريرة طأطأوا رؤوسهم " أي نكسوا رؤوسهم " فقال: ما في أراكم عنها معرضين، والله لأرمينّ بها بين أكتافكم، أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجة، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب " ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه: ما لي أراكم عنها معرضين " أي ما لي أراكم منصرفين عن سماع مقالتي هذه، أو معرضين عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما وجّه إليهم هذه الملامة حين طأطأوا رؤوسهم ثم اشتد عليهم بكلامه فقال: " والله لأرمين بها بين أكتافكم "، أي لأشيعن (1) هذه المقالة فيكم ولأقرّعنكم بها كما يُضْرَب الإِنسانُ بالشيء بين كتفيه ليستيقظ من غفلته. وقال الخطابي: معناه إن لم تقبلوا هذا الحكم وتعملوا به راضين لأجعلن الخشبة على رقابكم كارهين.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من حق الجار أن يمد خشبة في الجدار، ولهذا قال أحمد والشافعي وإسحاق: يجب عليه أن يمكنه من ذلك عند احتياجه، وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي في الجديد يستحب له ذلك.
الحديث: أخرجه الشيخان والجماعة عدا النسائي. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
__________
(1) " تحفة الأحوذي " ج 4.(3/369)
694 - " بَابُ النُّهْبَى بِغيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ "
794 - عن عبدِ اللهِ بْنِ يَزِيْدٍ الأنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " نَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النُّهْبَى وَالمُثْلَةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
694 - " باب النُّهبى بغير إذن صاحبه "
النهبى (1) على وزن فعلى من النهب، وهو أخذ الشيء من أحد عياناً، والمراد به بيان حكم أخذ الشيء من صاحبه عياناً عنوة واقتداراً وهو ما يسمى بالغصب.
794 - قوله رضي الله عنه: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النهبى والمثلة ".
معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أمرين من الكبائر، الأولى " النهبى " وهي أخذ الشيء من صاحبه بدون إذنه عياناً عنوة واقتداراً. والنهبى والغصب بمعنى واحد. الثاني: المثلة بضم الميم وسكون الثاء، وهي العقوبة بقطع الأعضاء كجدع الأنف والأذن وفقىء العين وغيره.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب احترام الملكية الفردية في الإِسلام، والنهي عن الغصب والنهب، وتحريم ذلك تحريماً شديداً، سواء كان المنهوب مسلماً أو كافراً، لأن الحقوق الإِنسانية من نفس ومالٍ وعرضٍ وغيره يستوي فيها المسلم والكافر، وقد دل الحديث على أن الاعتداء على الأموال باغتصابها من الكبائر، وإلّا لما ترتب عليه هذا الوعيد الشديد، وكذلك كل اعتداء على مال الغير سواء كان بالغصب أو بالسرقة أو بالخيانة كبيرة، ولا شك لأنه أكل لأموال الناس بالباطل. ثانياً: تحريم المثلة بالإِنسان، أو الحيوان، وهي قطع بعض الأعضاء إمعاناً في التشفي
__________
(1) بضم النون وسكون الهاء.(3/370)
695 - " بَابُ مَنْ قَاتلَ دُونَ مَالِهِ "
795 - عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
سَمِعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والإِنتقام، والمثلة جريمة وحشية حرمها الإِسلام أشد التحريم لما فيها من العنف والقسوة وإهدار كرامة الإِنسان. والمطابقة: في قوله " نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النهبى ". الحديث: أخرجه البخاري.
695 - " باب من قاتل دون ماله فهو شهيد "
795 - قوله " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: من قتل دون ماله ".
معنى الحديث: يروي لنا ابن عمرو في هذا الحديث أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه " يقول: من قتل دون ماله فهو شهيد " أي من تعرّض له لص أو غاصب وحاول أخذ ماله منه غصباً قوة واقتداراً بغير حق شرعي، فإنّ عليه أن يقاتله دفاعاً عن ماله، فإن قتل في الدفاع عن ماله فهو شهيد في حكم الله تعالى، وكذلك من قُتل دفاعاً عن نفسه، وقد جاء هذا المعنى الذي ذكرناه مصرحاً به نصاً في رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء (1) رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي، قال: " فلا تعطه مالك " قال: أرأيت إن قاتلني قال: " قاتله " قال: أرأيت إن قتلني، قال: " فأنت شهيد " قال: أرأيت إن قتلته، قال: " هو في النار " أخرجه مسلم. وفي لفظ أحمد، قال: يا رسول الله أرأيت إن عدى على مالي قال: " انشد الله " قال: فإن أبوا عليّ قال: " انشد الله " قال: فإن أبوا علي قال: " قاتل فإن قتلت ففي الجنة، وإن قَتَلْتَ ففي النار ".
__________
(1) " تحفة الأحوذي " ج 4.(3/371)
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الدفاع عن المال ومقاتلة من يريد اغتصابه أو سرقته، لأن ذلك حق مشروع في جميع الأديان السماوية، إلا أنه يبدأ بالمدافعة عنه دفاعاً خفيفاً، فإن رجع عنه فبها وإلا دافعه بالأشد فالأشد حتى يصل ذلك إلى درجة المقاتلة، فإن قُتِلَ المعْتدي من غاصب أو سارق فدمه هدر، وإن قتل المعتدى عليه فهو شهيد. قال الشوكاني: وأحاديث الباب فيها دليل على أنها تجوز مقاتلة من أراد أخذ مال إنسان من غير فرق بين القليل أو الكثير إذا كان الأخذ بغير حق، وهو مذهب الجمهور كما حكاه النووي والحافظ في الفتح، وقال بعض العلماء: إن المقاتلة واجبة، وقال بعض المالكية: لا تجوز إذا طلب الشيء الخفيف، ولعل مستمسك من قال بالوجوب ما في حديث أبي هريرة من الأمر بالمقاتلة كما في رواية مسلم. وأما القائل (1) بعدكم الجواز في الشيء الخفيف فعموم أحاديث الباب ترده، ولكنه ينبغي تقديم الأخف فالأخف فلا يعدل المدافع إلى القتل مع إمكان الدفع بدونه. ويدل على ذلك أمره - صلى الله عليه وسلم -كما في رواية أحمد- بانشاد الله قبل المقاتلة، وحكى ابن المنذر عن الشافعي أنه قال: من أريد ماله أو نفسه أو حريمه فله المقاتلة وليس عليه عقل ولا دية، ولا كفارة، وقال أبو حنيفة في رجل خرج (2) بالسرقة فاتبعه الرجل فقتله فلا شيء عليه. قال ابن المنذر: والذي عليه أهل العلم أن للرجل يدفع عما ذكر إذا أريد ظلماً بغير تفصيل، إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث أجمعوا على استثناء السلطان للآثار الواردة في الأمر بالصبر على جوره، وترك القيام عليه. اهـ. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله " من قتل دون ماله فهو شهيد " لأن تقدير الترجمة "من
__________
(1) " تحفة الأحوذي " ج 4.
(2) " شرح العيني على البخاري " ج 13.(3/372)
696 - " بَابٌ إِذَا كَسَرَ قَصْعَةً أوْ شَيْئاً لِغيْرِهِ "
796 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَصْعَةٍ فيهَا طَعَام، فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ فَضَمَّهَا، وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ وَقَالَ: كُلُوا: وَحَبَسَ الرَّسُولَ وَالقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا، فَدَفَعَ القَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قاتل دون ماله فقتل فحكمه أنه شهيد" قال العيني واقتصر في الحديث على لفظ قتل لأنه يستلزم المقاتلة، وبهذا تتضح المطابقة.
696 - " باب إذا كسر قصعة أو شيئاً لغيره "
أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على حكم من كسر قصعة يعنى إناءً من الخشب، أو شيئاً آخر غيره لشخص آخر، هل يضمن المثل أو القيمة أم لا؟.
796 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عند بعض نسائه "، أي كان في بيت عائشة رضي الله عنها " فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم بقصعة فيها طعام " أي فبينما كان في بيت عائشة أهدت إليه إحدى زوجاته الأخريات، وهي زينب بنت جحش قصعة فيها طعام (1) من حيس، " فضربت بيدها فكسرت القصعة " أي فضربت عائشة رضي الله عنها القصعة بيدها فكسرتها غيرة منها على رسول الله حيث تملكتها الغيرة من تلك الزوجة الأخرى، فأثارت غضبها ولم تتمالك نفسها فكسرت القصعة انتقاماً منها، لأنها اغتاظت من ضرتها كيف ترسل تلك الهدية
__________
(1) " شرح العيني " ج 13.(3/373)
إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيتها فدفعتها الغيرة إلى الانتقام منها بكسر قصعتها. " فضمها " أي فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - أطراف تلك القصعة التي انكسرت. " وجعل فيها الطعام وقال: كلوا " أي وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان معه من الصحابة بالأكل منها، وكان الطعام الذي فيها من الحيس وهو طعام يصنع من التمر والأقط والسمن، قال العيني: وقد يجعل عوض الأقط الدقيق. اهـ.
قال الشاعر:
وإذا تَكُوْنُ كَرِيْهَة أدْعَى لَهَا ... وَإذَا يحَاسُ الحَيْسُ يُدْعَى جُنْدُبُ
قال الراوي: " وحبس الرسول والقصعة " أي وأبقى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرسول والقصعة المكسورة عنده وأخرهما " حتى فرغوا " أي حتى انتهوا من أكل طعامهم، " فدفع القصعة الصحيحة " أي فغرّم السيدة عائشة مثل القصعة التي كسرتها، وأخذ قصعة صحيحة من أوانيها فدفعها إلى زينب بدل قصعتها التي كسرتها عائشة، وهكذا ألزم النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة رضي الله عنها بالضمان بالمثل، لأن " من أتلف شيئاً فعليه ضمانه " كما في الحديث الصحيح والمطابقة: في قوله " فدفع القصعة (1) الصحيحة ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية ضمان المتلفات من العروض والحيوان بالمثل، قال ابن التين (2) : احتج بهذا الحديث من قال: يقضى في العروض بالأمثال، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن مالك، وفي رواية ما صنع الآدميون غرم مثله كالثوب وبناء الحائط ونحو ذلك، وكل ما كان من صنع الله عز وجل مثل العبد والدابَّة ففيه القيمة، والمشهور من مذهبه أن كل ما كان ليس بمكيل ولا موزون ففيه القيمة، وما كان مكيلاً أو موزوناً فيقضى بمثله يوم استهلاكه. قال العيني: ومذهب أبي حنيفة أن
__________
(1) أي في قوله: " فدفع القصعة الصحيحة ".
(2) " شرح العيني " ج 13.(3/374)
كل ما كان مثلياً يجب عليه مثله، والمثلي كالمكيل مثل الحنطة والشعير والموزون كالدراهم والدنانير وغير المثلي كالعدديات المتفاوتة كالبطيخ والرمان والثياب، والعددي المتقارب كالجوز والبيض ففيه القيمة. الحديث: أخرجه أيضاًً الترمذي والنسائي وابن ماجة.
***(3/375)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب الشركة "
الشركة لغة: بكسر الشين، وسكون الراء على الأفصح، وقد تفتح الشين وتكسر الراء، هي خلط أحد المالين بالآخر بحيث لا يتميّزان عن بعضهما أو يتميزان. أمّا الشركة شرعاً: فهي ثبوت الحق الشرعي في شيء لاثنين فصاعداً، وهي نوعان: شركة ملك، وشركة عقد، فالأولى أن يملك الاثنان عيناً، والثانية أن يقول أحدهما للآخر: شاركتك في كذا ويقبل الآخر.
وتنقسم شركة العقود إلى خمسة أقسام: الأولى: شرح العنان: وهي أن يشترك اثنان أو أكثر بمالين أو أموال على الاتجار فيها، واقتسام الربح بينهما أو بينهم على ما اصطلحا عليه واشترطا، أو يشترك اثنان بمالهما على أن يعمل أحدهما فقط، بشرط أن يكون للعامل جزء أكثر من الربح مقابل عمله، وهي جائزة صحيحة عند الجمهور. الثانية شركة المضاربة: وهي أن يدفع صاحب المال قدراً معيناً من ماله إلى من يتجر فيه مقابل جزء مشاع معلوم النسبة من الربح شريطة أن يكون نقداً، وهي جائزة عند الجميع إلاّ أن أبا حنيفة لا يسميها شركة. الثالثة شركة الأبدان: وهي أن يشترك عاملان أو أكثر، ويتَّفقا على العمل بأبدانهما وما يرزقانه من الأجر بينهما، وهي جائزة صحيحة عند الجمهور خلافاً للشافعي، إلا أن مالكاً اشترط الاتفاق في العمل الواحد، والصناعة الواحدة، كحداد وحداد. الرابعة شركة المفاوضة: وهي الاشتراك في استثمار المال مع تفويض كل واحد منهما أو منهم لصاحبه في البيع والشراء والتوكيل، وهي جائزة صحيحة عند مالك وأبي حنيفة، إلاّ أن أبا حنيفة اشترط أن تكون بين مسلمين حرّين جائزي التصرف، وأن يكون المالان متساويين والتصرف متساوياً والربح متساوياً، وأن لا يبيعا من جنس مال الشركة شيئاً إلاّ ويُدْخِلانه في الشركة، وأن يضمن كل منهما(3/376)
697 - " بَابُ الشَّرِكَةِ في الطَّعَامِ والنَّهْدِ والعُروضِ "
797 - عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الأشْعَرِيينَ أَذَا ارمَلُوا في الْغَزْوِ أوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ في ثَوْبٍ واحدٍ، ثم اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ في إِنَاءٍ وَاحِدٍ بالسَّوِية، فَهُمْ مِنِّي وَأنا مِنْهُمْ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صاحبه في البيع والشراء، وأن يكون كل ما يشتريانه على الشركة عدا طعام أهلهم وأولادهم. الخامسة شركة الوجوه: وهي اشتراك اثنين أو أكثر في شراء تجارة في ذمتهما - أي بثمن مؤجل متعلق بالذمة اعتماداً على وجاهتهما على أن يكون الربح بينهما، وهي جائزة عند أحمد وأبي حنيفة خلافاً لمالك والشافعي.
697 - " باب الشركة في الطعام والنهد والعروض "
" والنهد " بفتح النون وكسرها هي أن ينثر الرفقة زادهم على سفرة واحدة ليأكلوا جميعاً منه. " والعروض " بضم العين جمع عرض (بسكون الراء) وهو المتاع، ويقابل النقد، وتجوز فيه شركة العنان والمفاوضة عند مالك إذا اتحد الجنس، وقال الشافعي: تجوز في العروض المثلية، وقال أبو حنيفة: لا تجوز مطلقاً (1) ولا تكون إلاّ بالنقدين.
797 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الأشعريين إذا أرملوا " أي إذا قلّ زادهم في السفر " أو قلّ طعام عيالهم بالمدينة " أي: أو قل طعامهم في الحضر وخافوا أن لا يسد حاجتهم "جمعوا ما كان عندهم
__________
(1) وهو مذهب الجمهور، وقال ابن قدامة: فأمّا العروض فلا تجوز الشركة فيها في ظاهر المذهب، نص عليه أحمد، وكره ذلك ابن سيرين والشافعي وأصحاب الرأي.(3/377)
في ثوب واحد" أي جمعوا الطعام الذي كان متفرقاً بعضه عند هذا وبعضه عند ذاك، واشتركوا فيه جميعاً ووضعوه في ثوب واحد، " ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية "، أي بالتساوي بينهم.
فقه الحديث: استدل البخاري بهذا الحديث على جواز الشركة في النهد أو في الطعام، والنهد كما قلنا أن ينثر الرفقة زادهم على سفرة فيأكلوا جميعاً، أو يجمعوه ويقتسموه بينهم قسمة متساوية، كما في هذا الحديث أو غير متساوية.
قال العيني: وذلك جائز في جنس واحد أو في الأجناس. وإن تفاوتوا في الأكل، وليس هذا من الربا في شيء وإنما هو من باب الإِباحة. وقال في " فيض الباري ": ليست هذه من باب المعاوضات التي تجري فيها المماكسة أو تدخل تحت الحكم، وإنما هي من باب التسامح، وقد جرى بها التعامل من لدن عهد النبوة. وأما الشركة في الطعام وكل ما يملك فقد قال الحافظ: والجمهور على صحة الشركة في كل ما يتملك -يعني من طعام وغيره- والأصح عند الشافعية اختصاصها بالمثلي، وعند المالكية تكره الشركة في الطعام. هذا ومما يستفاد من الحديث استحباب خلط الطعام والمشاركة فيه حضراً وسفراً، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثنى على الأشعريين ومدحهم بعملهم هذا، لما يترتب عليه من حلول البركة في الطعام، وكفايته للعدد الكثير من الناس، وانتفاع الأبدان به، وغير ذلك من المؤانسة والمباسطة أثناء تناوله، ولهذا كان هذا العمل من سنته - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله " جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ".
***(3/378)
698 - " بَابُ تقْوِيمِ الأشْيَاءِ بَيْنَ الشُرّكَاءِ بِقِيمَةِ عَدل "
798 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ أعتَقَ شَقِيْصاً مِنْ مَمْلُوكه فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ في مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، قُوِّمَ الْمَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ اسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
698 - " باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل "
798 - قوله: " من أعتق شَقِيْصاً من مملوكه فعليه خلاصه "
" الشقيص " بفتح الشين المشددة هو نصيب المالك من العبد، أو نصيب الشريك من العبد المشترك.
ومعنى الحديث: أنه إذا كان المملوك " عبداً أو أمة " مشتركاً بين شخصين وأعتق أحدهما نصيبه منه، سواء كان نصفه أو أكثر أو أقل، فإنّ عليه أن يشتري بقية العبد من شريكه، ويأخذ ثمن ذلك من مال العبد إن كان له مال " فإن لم يكن في مال قوّم المملوك "، أي سئل أهل الخبرة عن ثمنه، ثم جعلت له قيمة مثله، وهو معنى قوله: " قيمة عدل " أي قيمة مناسبة له، وهي ثمن أمثاله، " ثم استسعي غير مشقوق عليه " أي ثم كلف المملوك بالعمل في صناعة أو زراعة أو نحوها حتى يجمع المال الكافي لتحرير بقيته، وتخليص رقبته من الرق، ودفع القيمة العادلة للشريك حتى يتم عتقه كله. الحديث: أخرجه الستة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه إذا أعتق أحدُ الشريكين نصيبه من العبد فإن على ذلك العبد إذا كان غنياً أن يشتري ما تبقى منه لسيده الآخر من ماله الخاص، ويعتق نفسه من ماله كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " فعليه خلاصه في ماله " وكما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده:(3/379)
699 - " بَابُ مَشَارَكَةِ الذِّمِيِّ وَالْمُشْرِكينَ في الْمُزَارَعَةِ "
799 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
"أَعْطى رَسوُلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْبَرَ اليَهُودَ أن يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" من أعتق شقصاً من رقيق كان عليه أن يعتق نفسه فإن لم يكن له مال يستسعى العبد ". اهـ. أي وإن كان العبد فقيراً كلف بالعمل حتى يجمع ما يخلص به بقيته. وهناك صورة ثالثة لم تذكر في الحديث وهي أن يضمن المعتق نصيب شريكه من ماله إن كان موسراً، دون الرجوع على مملوكه بشيء كما جاء منصوصاً عليه في حديث ابن عمر: " من أعتق شركاً له من عبد، وكان له مال يبلغ ثمن العبد قُوِّم العبد عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد " وبهذه الأحكام الثلاثة أخذ أبو حنيفة ومن وافقه من أهل العلم فقالوا: إن كان المعتق موسراً ضمن نصيب شريكه من ماله، وإن كان فقيراً والعبد موسراً اشترى بقية العبد من مال العبد نفسه، وإن لم يكن هذا ولا ذاك استسعى على المملوك حتى يخلص رقبته. وذهب الجمهور إلى أن من أعتق نصيبه إن كان موسراً غرّم نصيب صاحبه. وعتق العبد كله، وإن لم يكن له مال أعتق من العبد ما عتق لحديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أعتق شركاً من عبد وكان له مال يبلغ ثمنه قيمة عدل فهو عتيق وإلّا فقد عتق منه ما عتق ". ثانياًًً: تقويم الأشياء بين الشركاء قبل قسمتها بالقيمة العادلة المعروفة في الأسواق التجارية، ومن ذلك الرقيق لا تجوز قسمته على الشركاء إلاّ بعد تقويمه، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة خلافاً لمالك وأبي يوسف: يجوز عندهما قسمة الرقيق قبل تقويمه، أما بقية الأشياء فلا بد من تقويمها اتفاقاً. والمطابقة: في قوله " قوم المملوك قيمة عدل ".
699 - " باب مشاركة الذمي والمشركين في المزارعة "
799 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: "أعطى(3/380)
شَطر مَا يَخْرُجُ مِنْهَا".
700 - " بَابُ الشَّرِكَةِ في الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ "
800 - عن عَبْدِ اللهِ بْنِ هِشَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وذَهَبَتْ بِهِ أُمُّهُ زَيْنَبُ بِنْتُ حُمَيْدٍ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ بَايِعْهُ، فَقَالَ: هُوَ صَغِيرٌ، فَمَسحَ رَأْسَهُ، ودَعَا لَهُ، وَكَانَ يَخْرُجُ إلَى السُّوقِ فَيَشْتَرِي الطَّعَامَ، فَيَلْقَاهُ ابْنُ عُمَرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ْرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر لليهود" أي سلمهم أراضيها الزراعية، وعقد معهم عقد مزارعة ينص هذا العقد " على أن يعملوها ويزرعوها " أي أن يقوموا بزراعتها وسقيها والعمل فيها وحرثها " ولهم شطر " أي نصف " ما يخرج منها " وللنبي - صلى الله عليه وسلم - النصف الآخر. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " ولهم شطر ما يخرج منها ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز مشاركة المسلمين للكفار، سواء كانوا من أهل الذمة أو غيرهم في استثمار الأراضي الزراعية بأن يدفع المسلم الأرض للكافر ليقوم بزراعتها وخدمتها مقابل مشاركته في انتاجها الزراعي بنسبة معينة، ويسمى ذلك بالمزارعة، وقد تقدم في أوائل كتاب المزارعة.
700 - " باب الشركة في الطعام وغيره "
800 - ترجمة راوي الحديث: وهو عبد الله بن هشام التيمي ولد سنة أربع من الهجرة، وسكن المدينة ودعا له - صلى الله عليه وسلم - بالبركة، ليس له سوى هذا الحديث وحديث آخر.(3/381)
وَابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِي اللهُ عَنْهُمْ فَيَقُولانِ لَهُ: أشْرِكْنَا فَإِنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَدْ دَعَا لَكَ بالبَرَكَةِ، فيَشْرَكُهُمْ، فَرُبَّمَا أصَابَ الرَّاحِلَةَ كما هِيَ (1) فَيَبْعَثُ بِهَا إِلى المَنْزِلَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
معنى الحديث: أن عبد الله بن هشام رضي الله عنه " ذهبت به أمه زينب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله بايعه فقال: هو صغير " أي صغير السن لم يبلغ سن التمييز بعد، لأنه ولد في السنة الرابعة وذهبت به أمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو لم يتجاوز السابعة " فمسح رأسه ودعا له " بالبركة "وكان يخرج إلى السوق فيشتري الطعام " أي يتاجر في المواد الغذائية من بُرّ وشعير ونحوه، " فيلقاه ابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم فيقولان له: أشركنا " في تجارتك، وذلك أملاً في الربح، لأنه دعا له - صلى الله عليه وسلم - بالبركة فكان كما جاء في آخر هذا الحديث ربما ربح راحلة محملة بالطعام من صفقة واحدة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز الشركة في الطعام، وهو مذهب الجمهور خلافاً لمالك. الحديث: أخرجه أيضاًً أبو داود والمطابقة: في قوله " فيقولان له أشركنا ".
***
__________
(1) أي كثيراً ما يربح راحلة كاملة محمّلة بالطعام في صفقة واحدة.(3/382)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
" كتابُ الرَّهْنِ "
701 - " بَاب الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ "
801 - عن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " الظَّهْرُ (1) يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كانَ مَرْهُوناً، ولَبَنُ الدَرِّ يُشْرَبُ بَنَفَقَتِهِ إِذا كَانَ مَرْهُوناً، وعلى الذي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَفَقَةُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
701 - " باب الرهن مركوب ومحلوب "
الرهن لغة: الثبوت والدوام. " ماء راهن " أي راكدٌ " ونعْمة راهنة " يعني دائمة، ومن معانيه الحبس أيضاًً كما في قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) أي محبوسة في موقف الحساب حتى تسأل عن أعمالها في الدنيا.
وشرعاً: كما قال الراغب: ما يوضع وثيقة للدين، وقال ابن قدامة: الرهن في الشرع المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفى من ثمنه إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه، أي حتى يكون ضماناً مالياً للدين فإذا لم يسدده المدين عند حلول الأجل كان له الحق في بيع ذلك المرهون واستيفاء حقه من ثمنه، أما قبل حلول الأجل فإن الرهن يكون وديعة لديه وأمانة عنده لا يحق له التصرف فيه.
801 - معنى الحديث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً ". إلخ أي أن المرتهن له أن يركب ظهر الدابة المرهونة لديه من فرس أو جمل أو نحوه وأن يحلب البقرة والشاة وينتفع بلبنها مقابل إنفاقه عليها، وقال بعضهم: معنى قوله " يُركَب ويُشرب " أن الظهر المرهون يركبه الراهن
__________
(1) وفي رواية: " الرهن يركب بدل الظهر ".(3/383)
ويشربه. بمعنى أن الراهن هو الذي ينفق على الرَّهن أثناء رهنه، وهو الذي يركبه ويشرب لبنه. وينتفع به. والمسألة خلافية كما سيأتي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استدل به بعض أهل العلم على أن الرهن إذا كان له منفعة، ويحتاج إلى نفقة كالدواب المركوبة أو المحلوبة فإن على المرتهن نفقته مقابل انتفاعه به وهو مذهب أحمد وإسحاق.
وقال الجمهور: نفقة الرهن ومنفعته للراهن، فهو الذي يركبه ويشربه مقابل نفقته ولا ينتفع المرتهن بشيء كما أنه لا نفقة عليه. وأجابوا عن حديث الباب بجوابين الأول قال الشافعي: المراد بقوله: " الظهر يركب بنفقته " الخ أنه لا يمنع الراهن من ظهره ودره - أي لا يمنع من ركوبة وشرب لبنه إن كان محلوباً، قال الصنعاني: وَرُدَّ بأنه وَرَدَ بلفظ المرتهن فتعين الفاعل " الثاني: أن هذا الحديث كما أفاده ابن عبد البر ترده أصول مجتمعة وأنه منسوخ بحديث ابن عمر رضي الله عنهما " لا تحلب ماشية امرىء بغير إذنه " قال الصنعاني أما النسخ (1) فلا بد له من معرفة التاريخ ولا يحمل عليه إلا إذا تعذر الجمع ولا تعذر هنا إذ يخص عموم النهي بالمرهون. الثالث: أن هذا الحديث خالف القياس في تجويز الركوب والشرب لغير المالك بدون إذنه وتضمينه بالنفقة لا بالقيمة، وأجاب عن ذلك الصنعاني بأن الأحكام الشرعية ليست مطردة على نسق واحد، بل الأدلة تفرق بينها والشارع حكم هنا بركوب المرهون وشرب لبنه وجعله قيمة النفقة، كما حكم ببيع الحاكم عن المدين المتمرد وجعل صاع التمر عوضاً عن اللبن في المصراة. ثانياًً: أن ما لا يحتاج إلى نفقة لا يجوز الانتفاع به كالثوب والأرض، فلا يلبس الثوب المرهون مثلاً ولا ينتفع من الأرض المرهونة بزراعتها أذن له الراهن أو لم يأذن له وهو قول الجمهور.
الحديث: أخرجه أيضاًً أبو داود والترمذي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة.
__________
(1) " سبل السلام " ج 3 للصنعاني.(3/384)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
" كتاب العتق "
العتق لغة: كما قال ابن قدامة الخلوص، ومنه عتاق الخيل وعتاق الطير أي خالصها. وسمّى البيت الحرام عتيقاً لخلوصه (من أيدي الجبابرة) لعبادة الله وحده.
والعتق شرعاً: تحرير الرقبة وتخليصها من الرق، يقال: عتق العبد وأعتقه وهو عتيق ومعتق. اهـ. ولا شك أن هذه الأبواب من عتق وتدبير ومكاتبة تظهر بوضوح موقف الإِسلام من (1) الأرقاء، ومدى تشوفه إلى تحريرهم، وتكشف زيف المتهمين له بأنه يهدر كرامة الإِنسان، فالإِسلام لم يكن أول من شرع الرق، بل كان مشروعاً في معظم قوانين العالم ودياناته، وفي اليونان أقره أفلاطون وأرسطو، وكذلك القانون الروماني حتى أنه أباح استرقاق المدين إذا لم يف بدينه واسترقاق الأسرى والتلهي بقتلهم وتعذيبهم، وأقر الفرس والإِسرائيليون الرق، واستباحوا استرقاق أهل المدن المفتوحة من النساء والأطفال، أما الرجال فليس لهم سوى القتل، كما هو موجود في كتبهم، والنصارى أقروا الرق، وأوصوا بالأرقاء خيراً، وجاء الإِسلام فنظّم الرق، وألغى كثيراً من أسبابه فقد كان الرجل قبل الإِسلام يبيع ولده بل يبيع نفسه، فوضع الإِسلام للرق حدوداً، واشترط في الأسرى أن يكون أسرهم في حرب شرعية ينظمها الإِمام لسبب مشروع، وأجاز له أن يمن على الأسير وللأسير أن يفتدي من ماله، ثم أكثر الإِسلام بعد ذلك من أسباب العتق فجعله كفارة للظهارِ والقتل وفطر رمضان، وشرع المكاتبة إلى غير ذلك مما يدل على حرص الإِسلام على تحرير الإِنسان.
__________
(1) هذه خلاصة لما قاله الأستاذ فايد في تعليقه على " المغني " ج 10 ص 20 - 392 مكتبة القاهرة.(3/385)
702 - " بَابُ مَا جَاءَ في الْعِتْقِ وَفضلِهِ "
802 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أيُّمَا رَجُلٍ أعْتَقَ امرءاً مُسْلِمَاً اسْتَنْقَذَ اللهُ تَعَالَى بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوَاً مِنَ النَّارِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
702 - " باب ما جاء في العتق وفضله "
802 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أيما رجل أعتق امرءاً مسلماً إلى آخره ".. إلخ.
معنى الحديث: أنه ما من عبد مسلم يخلّص رقبة مسلم من الرق ويحرره من العبودية لغيره، ويشتريه ويعتقه أو يكون مملوكاً له فيعتقه لوجه الله تعالى ويجعله حراً بعد أن كان عبداً مملوكاً، أو جارية مملوكة، إلا " استنقذ الله بكل عضوٍ منه عضواً من النار " أي إلاّ خلّص الله بكل عضو من تلك النفس البشرية التي أعتقها عضواً من جسمه من النار، وبذلك ينجو من العذاب، ويفوز بالجنة مع السابقين الأولين، لأن من نجا من النار دخل الجنة لا محالة، وفي رواية: " من أعتق رقبة مسلمة " والمراد بالرقبة ذات الإِنسان كلها، من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، فهو مجاز مرسل، وقال في " النهاية " الرقبة في الأصل العتق، جعلت كناية عن جميع ذات الإِنسان تسميةً للشيء ببعضه، فإذا قال: أعتق رقبة، فكأنما قال: أعتق عبداً أو أمةً. وقوله: " أيما رجل " كلمة أيما مركبة من " أي " الشرطية " وما " الزائدة للتأكيد، ورجل مجرور بالإِضافة، أو مرفوع بالبدلية، وفي رواية: " أي مسلم " وقوله: " استنقذ الله بكل عضو منه عضواً من النار " يشعر بأن الله ينجيه من النار بعد استحقاقه لها: الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.(3/386)
703 - " بَابٌ أيُّ الرِّقَابِ أفضَلُ "
853 - عَنْ أَبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَأَلْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " إِيمَان باللهِ، وَجِهَادٌ في سَبِيلِ اللهِ "، قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَغْلاهَا ثَمَنَاً،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل العتق في الإِسلام، وأن عتق الرقبة المسلمة من الرق سبب في النجاة من النار لمن استحق دخولها. " قال الصنعاني " (1) : في تقييد الرقبة المعتقة بالإِسلام أيضاًً دليل على أن هذه المثوبة لا تنال إلا بعتق المسلمة، وإن كان في عتق الكافرة فضل، لكن لا يبلغ ما وعد به هنا من الأجر. ثانياًًً: قال الخطابي: يستحب أن لا يكون العبد المعتق ناقص العضو بالعور أو الشلل أو نحوهما بل يكون سليماً، ليكون معتقه قد نال الموعود في عتق أعضائه. ثالثاً: أن هذا الفضل يترتب على عتق الذكور والإِناث معاً لأن قوله: " من أعتق امرءاً مسلماً " يتناول الجنسين (2) معاً إلاّ أن عتق الذكور أفضل على الأصح كما أفاده العيني. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة.
703 - " باب أي الرقاب أفضل "
803 - قوله رضي الله عنه: " سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أفضل إلخ ".
معنى الحديث: أن أبا ذر رضي الله عنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل
__________
(1) " سبل السلام " ج 4.
(2) ومما يؤكد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: أيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار أخرجه أبو داود وإلّا أن بعضهم فضل عتق الذكور لأنّ المنفعة بهم أكثر، وقال بعضهم الأنثى أفضل لأنه يكون ولدها حراً سواء تزوجها حر أو عبد. اهـ. كما في " سبل السلام ".(3/387)
وأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا" قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ، قَالَ: " تُعِينَ صَانِعَاً أو تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ "، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ، قَالَ: " تَدَعُ النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَة تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأعمال فأجابه - صلى الله عليه وسلم - أن أفضل الأعمال وأكثرها ثواباً على الإِطلاق الإِيمان بالله ويدخل فيه التصديق بكل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - واعتقاد أنه حق لا شك فيه ويليه في المرتبة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " الجهاد في سبيل الله " لنشر دينه، وإعلاء كلمته، لا لقومية ولا عصبية، ولا رياء ولا سمعة، قال أبو ذر: " قلت: فأي الرقاب أفضل ": يعني أي الرقاب في العتق أفضل وأعظم أجراً " قال: أغلاها ثمناً " أي أرفعها قيمة وسعراً في الأسواق التجارية " وأنفسها عند أهلها " اسم تفضيل، أي وأفضلها أيضاًً: أحبها وأكرمها عند أصحابها، وأكثرها رغبة عند أهلها، وأعزها في نفوس مالكيها، لأن عتق العبد أو الجارية النفيسة دليل على قوة إخلاص سيدها " قال: فإن لم أفعل " أي فإن لم أقدر على عتق الرقاب لأني لا أملك مالاً " قال: تعين صانعاً " أي تعين صاحب مهنة على مهنته، أو أي عامل على عمله " أو تصنع لأخرق " وهو الذي لا يحسن العمل، ومعنى تصنع لأخرق أي ترشده وتوجهه أو تعمل له العمل الذي لا يقدر عليه، وروى الدارقطني ضائعاً " بالضاد المعجمة " قال الحافظ: وقد وجهت بأن المراد بالضائع ذو الضياع من فقر أو عيال (1) قال أبو ذر: " قلت: فإن لم أفعل " أي فإن لم أستطع مساعدة العامل على عمله لعجز بدني أو مهني أو لم أستطع مساعدة الفقير لأني فقير مثله، " قال: تدع الناس من الشر فإنها صدقة " أي تكف شرك وأذاك عن الناس فيحسب لك ذلك عند الله، وتؤجر عليه أجر الصدقة وثوابها. الحديث: أخرجه الشيخان
__________
(1) أي تعين الإنسان الفقير كثير العيال.(3/388)
704 - " بَابٌ إِذَا أَعْتَقَ عَبْداً بَيْنَ اثْنَيْنِ أو أَمَةً بَيْنَ الشُّرَكَاءِ "
854 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أَعْتَقَ شِرْكَاً لَهُ في عَبْدٍ فكانَ لَهُ مَالٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والنسائي وابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن أفضل الرقاب في العتق وأكثرها ثواباً أغلاها ثمناً وأحبها إلى نفس سيدها، لأن المعتق في هذه الحالة يفارق أعز الناس عنده، وذلك من أصعب الأمور وأشقها على النفس البشرية، وأعظمها جهاداً لها، فإذا تغلب عاد نفسه وهواه، وأعتق من يحبه ويهواه دل ذلك على قوة دينه وإيمانه ويقينه. ثانياًًً: أن أفضل الأعمال على الإِطلاق الإِيمان بالله عقيدة وقولاً وعملاً، لأنه أساس كل خير ومصدر كل سعادة، وشرط في قبول جميع الأعمال الشرعية، وصحتها شرعاً، ويليه الجهاد، لما فيه من حماية الدين، سواء كان جهاداً للنفس أو جهاداً للعدو. ثالثاً: الترغيب في الأعمال المهنية والدعوة إلى ممارستها ولو على سبيل المشاركة للصانع والمعاونة له، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " تعين صانعاً ". رابعاً: الحث على حسن المعاملة والمعايشة السلمية مع الناس ما أمكن وكف الشر عنهم، فإن ذلك حسنة عظيمة يثاب عليها ثواب الصدقة. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب عن الترجمة بل هو جواب لها بالفعل حيث قال البخاري في الترجمة: " أي الرقاب أفضل " وهذا سؤال جوابه من الحديث " أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها ".
704 - " باب إذا أعتق عبداً بين اثنين أو أمة بين الشركاء "
804 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أعتق شركاً له في عبد" أي من أعتق حصته ونصيبه من عبد مشترك بينه وبين غيره "فإن(3/389)
يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ العَبْدُ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأعطى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ، وِإلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كان له مال يبلغ ثمن العبد" أي فإن كان غنياً موسراً يمكنه ماله من شراء بقية العبد من شريكه أو شركائه " قوِّم عليه قيمة عدل، فأعطي شركاءه حصصهم، وعتق عليه " أي عتق عليه العبد، يعني فإن كان موسراً، فإنه يضمن لشركائه حصصهم، فيقوّم العبد بالقيمة العادلة التي يقدّرها أهل الخبرة حسب أمثاله في الأسواق التجارية، فيدفع قيمة بقية العبد إلى شركائه، ويعتق العبد كله كما جاء مصرحاً به في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فعليه عتقه كله " أخرجه البخاري وكما في رواية شعبة عن قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أعتق مملوكاً بينه وبين آخر فعليه خلاصه " أخرجه أبو داود، وعن أبي هريرة رضي الله عنه " أن رجلاً أعتق شقيصاً له من غلام " أي أعتق نصيباً له في عبد، فأجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - عتقه، وغرّمه بقية ثمنه " وإلا فقد عتق منه ما عتق " بفتح التاء في الفعل الأول والثاني، أي وإن كان المعتق معسراً لا يستطيع شراء بقية العبد، فإنه يعتق من العبد ما أعتق، ويبقى الباقي مملوكاً، قال البخاري: في هذه العبارة لا أدري أشي قاله نافع أو من الحديث، أي هل هي مدرجة موقوفة على نافع أو مرفوعة موصولة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن مالكاً رحمه الله رفعها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الأرجح لأن أهل مكة أدرى بشعابها، قال الشافعي: لا أحسب عالماً بالحديث يشك في أنّ مالكاً أحفظ لحديث نافع من أيوب، لأنه ألزم له منه. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ متعددة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من أعتق نصيباً له في مملوك وكان موسراً فإنّه يضمن حصة شريكه أو شركائه، ويدفع إليهم قيمة حصصهم، ويعتق العبد كله وإن كان معسراً أعتق من العبد ما أعتق،(3/390)
وبقي الباقي مملوكاً، فأصبح بعضه حراً وبعضه عبداً، وكذلك الحكم في الأمة، وهو مذهب الجمهور. قال ابن رشد: فأمّا العبد بين الرجلين يعتق أحدهما حظه منه، فإن الفقهاء اختلفوا في حكم ذلك، فقال مالك والشافعي وأحمد: إن كان المعتق موسراً قوّم عليه نصيب شريكه قيمة عدل، فدفع ذلك إلى شريكه أو شركائه، وعتق الكل عليه، وإن كان المعتق معسراً لم يلزمه شيء، وبقي المعتق بفتح التاء - بعضه حراً وبعضه عبداً. وقال: أبو يوسف ومحمد: استسعى العبد في قيمته للسيد الذي لم يعتق حظه منه، وهو حر يوم أعتق حظه منه، ويكون ولاؤه للأوّل، وبه قال الأوزاعي وجماعة الكوفيين. قال: وعمدة مالك والشافعي حديث ابن عمر وهو حديث الباب، وعمدة محمد وأبي يوسف صاحبي أبي حنيفة حديث أبي هريرة أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أعتق شقيصاً له في عبد فخلاصه في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه " قال: وكلا الحديثين خرجه أهل الصحيح البخاري ومسلم. اهـ. واختلفوا على أي أساس يقوّم العبد هل يقوم على أنه عبد كله أو يقوم على أن بعضه حر وبعضه عبد. قال القرطبي: وظاهره أي الحديث أنّه يقوم كاملاً لا عتق فيه، وهو معروف المذهب - أي مذهب المالكية، وقيل يقوم على أن بعضه حرٌ والأول أصح لأن سبب التقويم جناية المعتق بتفويته نصيب شريكه فيقوم على ما كان عليه يوم الجناية. اهـ. كما أفاده الزرقاني. ثانياًًً: أن نصيب المعتق يعتق في نفس وقت الإِعتاق حالاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وإلّا فقد عتق منه ما عتق " وقد أجمع العلماء كما قال الصنعاني على (1) أن نصيب المعتق يعتق بنفس الاعتاق. اهـ.
هذا وقد تقدم الكلام على هذه المسألة، واختلاف المذاهب فيها في " باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل " من كتاب الشركة. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة.
__________
(1) " سبل السلام " ج 4.(3/391)
705 - " بَابُ كَرَاهِيَّةِ التَّطَاوُلِ على الرَّقِيقِ وقولِهِ: عَبْدِي وأَمَتِي "
805 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَال رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -: " لا يَقُلْ أحَدُكُمْ أطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّىءْ رَبَّكَ، اسْقِ رَبَّكَ، ولْيَقُلْ سَيِّدِي مَوْلايَ، وَلا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي أمَتِي ولْيَقُلْ: فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
705 - " باب كراهية التطاول على الرقيق وقوله عبدي وأمتي "
805 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يقل أحدكم أطعم ربّك وَضِّىء ربك " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - نهي عن المغالاة في الكلام واستعمال الألفاظ التي فيها شبهة في العقيدة تنافي التوحيد، كقول السيد لعبده: " أطعم ربك " فإن كلمة الرب وإن كانت تطلق بمعنى السيد إلاّ أنها تطلق أيضاًً بمعنى الخالق، ولذلك ينبغي له أن لا يقول: أطعم ربك، لئلا يظن السامع أنه أراد أطعم خالقك، فتكون عليه هذه الكلمة شبهة في عقيدته وتوحيده. " وليقل سيدي ومولاي " وهذا خطاب للمماليك، أي وليقل العبد أو الجارية سيدي ومولاي بدل ربي حرصاً على سمعة عقيدته " ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي " أي لا يستعمل هذه الألفاظ التي تكسر خاطر مملوكه، وتجرح شمعوره، والتي فيها شبهة عقائدية أيضاًً.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على النهي عن التطاول على المملوك والترفع عليه، واستعمال الألفاظ التي تشعره بضعفه وذلته، وإظهار الاستعلاء والتعاظم عليه أثناء مخاطبته، مثل اسق ربّك فإنه منهي عنه لأمرين أولهما: الحرص على مراعاة شعور المملوك، وعدم إيذائه، وثانيهما: البعد عن كل شبهة تؤدّي إلى تشويه سمعة العقيدة لئلا يسيء الناس الظن في عقيدته. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله " لا يقل أحدكم عبدي أمتي ".(3/392)
706 - " بَابٌ إِذَا أَتاهُ خادِمُهُ بطَعَامِهِ "
806 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بطَعَامِهِ فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أو لُقْمَتَيْنِ، أَوْ أكْلَةً أو أكْلَتَيْنِ، فَإِنَّهُ وَلِيَ عِلَاجَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
706 - " باب إذا أتاه خادمه بطعامه "
806 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أَتى أحدكم خادمه بطعامه " أي إذا وضع له خادمه الطعام على سفرته " فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين، أو أكلة أو أكلتين " بضم الهمزة وهي اللقمة، أي فالأفضل له أن يجلسه على طعامه، فإن لم يفعل ذلك، فليعطه من ذلك الطعام لقمة أو لقمتين. " فإنّه ولي علاجه " أي فإن ذلك الخادم المسكين هو الذي قام بعمل ذلك الطعام، وتولى إعداده وإحضاره بين يدي سيده، فإن كان جارية فقد تكون هي التي تولت طهيه، وباشرت صنعه، ولذلك فإن الأولى إطعامها شيئاً منه تطبيباً لنفسها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على الترغيب في مكارم الأخلاق، وحسن معاملة الخدم، وتطييب نفوسهم، ومواساتهم، ومشاركتهم في الطعام على مائدة واحدة، أو إعطائهم شيئاً منه، ويستحب إجلاسهم على المائدة، ولا يجب، ويتأكد استحباب ذلك في حق من صنع الطعام، وحمله وشم رائحته، وتعلقت به نفسه. قال المهلب: هذا الحديث يفسر حديث أبي ذر في التسوية بين العبد والسيد على سبيل الندب (1) الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في كون الحديث بمنزل الجواب للترجمة.
__________
(1) " شرح العيني على البخاري " ج 13.(3/393)
707 - " بَابٌ إِذَا ضَرَبَ الْعَبْدَ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ "
807 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا قَاتَل أحَدُكُمْ فَلْيَتَجَنَّبِ الْوَجْهَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
707 - " باب إذا ضرب العبد فليجتنب الوجه "
807 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قاتل أحدكم " وفي رواية مسلم: إذا ضرب أحدكم " فليجتنب الوجه " أي إذا ضرب أحدكم شخصاً تأديباً أو تعزيراً له، أو في حد من حدود الله تعالى فليحذر أن يضربه على وجهه، وليبتعد عن ذلك كل البعد، ولو في إقامة حد من حدود الله، فقد روى أبو بكرة في قصة المرأة التي زنت، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجمها وقال: " ارموا واتقوا الوجه ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الضرب وجوازه كوسيلة وعقوبة إسلامية مشروعة لتأديب الأولاد عند الضرورة إذا لم تنفع معهم الوسائل الأخرى من نصح، وتوجيه، وعتاب، وتقريع، وتوبيخ، فيلجأ إلى الضرب من باب (آخر الدواء الكي) وكذلك جواز الضرب في التعزير والحدود الشرعية كما دل عليه هذا الحديث إجمالاً، ودلت عليه النصوص الشرعية تفصيلاً. ثانياًً: الابتعاد عن ضرب الوجه في أي عقوبة، سواء كانت حداً أو تعزيراً أو تأديباً لعموم حديث الباب، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر برجم المرأة التي زنت قال: " ارموا واتقوا الوجه " أخرجه الشيخان وأبو داود. قال العيني: فإذا كان ذلك في حق من تعين إهلاكه(3/394)
فمن دونه أولى (1) ، وذلك لأن الوجه، لطيف يجمع الحواس كلها فيخشى من ضربه تعطيل حاسة منها، أو تشويه صورته، كما أفاده (2) النووي. والمطابقة: في قوله " فليجتنب الوجه " فإن هذا عام في ضرب أي إنسان ولو كافراً، فكيف إذا كان المضروب مسلماً.
***
__________
(1) " شرح العيني " ج 13.
(2) " شرح النووي على مسلم ".(3/395)
منار القاري
شرح مختصر
صحيح البخاري
تأليف حمزة محمد قاسم
راجعه الشيخ عبد القادر الأرناؤوط
عني بتصحيحه ونشره بشير محمد عيون
الجزء الرابع
مكتبة دار البيان
ص. ب 2854 - هاتف 229045
دمشق - الجمهورية العربية السورية
مكتبة المؤيد
ص. ب 10 - هاتف 7321851
الطائف - المملكة العربية السعودية(4/1)
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
بيروت
1410 هـ - 1990 م(4/2)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
" بَابٌ فِي الْمُكَاتبِ "
708 - " بَابُ ما يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَاتبِ ومن اشترَطَ شَرْطاً لَيْسَ في كِتَابِ اللهِ "
808 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنَّ بريرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُهَا في كِتَابَتِهَا ولمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئَاً، (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" باب في المكاتب "
قال الحافظ: " والمكاتب " بالفتح من تقع له الكتابة، وبالكسر من تقع منه. والمكاتبة لغة: اشتقاقها -كما قال الراغب- من كتب بمعنى أوجب، ومنه قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) أو بمعنى كتب الخط، وعلى الأول تكون مأخوذة من معنى الالتزام، وعلى الثاني تكون مأخوذة من الخط الموجود عند عقدها غالباً. والمكاتبة شرعاً: وتسمى الكتابة كما قال ابن قدامة: والكتابة إعتاق السيد عبده على مال في ذمته يؤدَّى مؤجلاً، سميت كتابة لأن السيد يكتب بينه وبينه كتاباً بما اتفقا عليه، وقيل سمّيت كتابة من الكتب، لأن المكاتب يضم بعض النجوم - أي يجمع بعض الأقساط التي يدفعها إليه العبد إلى بعض. قال البخاري:
708 - " باب ما يجوز من شروط المكاتِب ومن اشترط شيئاً ليس في كتاب الله "
808 - قول عائشة رضي الله عنها: " إن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها " إلخ.
__________
(1) قوله " ولم تكن قضت من كتابتها شيئاً " أي ولم تكن سددت شيئاً من قيمها.(4/3)
قَالَت لَهَا عَائِشَةُ: ارْجِعِى إلى أهْلِكِ إنْ أحَبُّوا أنْ أقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ ويَكُونُ وَلاؤكِ لي فَعَلْتُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ لأهلِهَا فَأبَوْا، وَقَالُوا: إِنْ شَاءَتْ أنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ فَلْتَفْعَلْ، ويَكُونَ وَلاؤكِ لَنَا، فذكرَتْ ذَلِكَ لِرَسوُلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ لها رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ابْتَاعِي فَأعْتِقِي، فَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أعْتَقَ"، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " مَا بَالُ أُنَاسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ في كِتَابِ اللهِ، مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطاً لَيْسَ في كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَيْسَ لَهُ، وِإنْ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ، شَرْطُ اللهِ أحقُّ وَأَوْثَقُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
معنى الحديث: أن بريرة كانت أمة مملوكة لبعض الأنصار، فكاتبها أهلها على أن تجمع ثمنها، وتدفعه إليهم على أقساط مؤجلة، تنتهي كلها في زمن محدد، فإذا أدت ما عليها كانت حرة، فأتت إلى عائشة تسألها معونة مالية تساعدها على هذه المكاتبة، فطلبت منها عائشة أن ترجع إلى أهلها وتعرض عليهم موافقة عائشة على أن تدفع لهم جميع المال الذي كاتبوها عليه، على أن يكون الولاء لها والولاء هو وراثة العبد أو الأمة بعد وفاتهما فرفضوا ذلك " وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل، ويكون ولاؤك لنا " أي إن أرادت أن تعينك تفضلاً وتكرماً وتحتسب أجرها ومثوبتها عند الله، ويكون ميراثك لنا، فلتفعل، وإلّا فلا " فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ابتاعي فأعتقي، فإنما الولاء لمن أعتق " أي فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - اشتري بريرة وأعتقيها ولا تبالي بالشرط الذي اشترطوه لأنفسهم، فإنه شرط باطل غير نافذ شرعاً، لأن ميراث العبد أو الأمة لسيده الذي أعتقه ولسيدها الذي أعتقها " ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي قام في الناس خطيباً(4/4)
" فقال: ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله " أي ليست موافقة لأحكام الله تعالى، " من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله عزّ وجل فليس له، وإن اشترط مائة شرط " أي من اشترط شرطاً مخالفاً لحكم الله فإنه باطل لا ينفذ شرعاً، " شرط الله أحق وأوثق " أي شرط الله أولى بتنفيذه والعمل به من شروط الناس، لأنه لا يُقَدَّم على حكم الله شيء، وهو الصواب لما يتضمنه من العدل والحكمة، ولأنه حكم العليم الحكيم.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية المكاتبة، لأن هؤلاء الأنصار كاتبوا بريرة وأقرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك، واختلفوا هل كانت معروفة قبل الإِسلام؟ والصحيح كما قال الحافظ: أنها كانت في العصر الجاهلي (1) ، قال ابن خزيمة: " وقد كانوا يكاتبون في الجاهلية " وأقرها الإِسلام، قال ابن خزيمة: وأوّل من كوتب في الإِسلام سلمان، كما أفاده الحافظ، واختلفوا فيما إذا بقي على المملوك شيء، فروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم " أخرجه أبو داود والنسائي وصححه (2) الحاكم، قال مالك (3) في " الموطأ " وهو رأيي. وهو مذهب الجمهور أيضاً.
قال الزرقاني: وكان فيه خلاف عن السلف، فعن علي: إذا أدى الشطر فهو غريم " وعنه يعتق منه بقدر ما أدّى، وعن ابن مسعود: لو كاتبه على مائتين وقيمته مائة فأدّى المائة عتق، وعن عطاء: إذا أدى المكاتب ثلاثة أرباع كتابته عتق، وروى النسائي عن ابن عباس مرفوعاً: " المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى " ورجال إسناده ثقات، لكن اختلف في إرساله ووصله. اهـ. كما أفاده الزرقاني. ثانياًً: أنه لا يجوز للمكاتب أن يشترط شرطاً مخالفاً لأحكام الله
__________
(1) " فتح الباري " ج 5.
(2) " شرح الزرقاني " ج 4.
(3) " موطأ مالك ".(4/5)
تعالى وإن فعل ذلك فالشرط باطل، ولو مائة شرط، كما في الحديث، وهو ما ترجم له البخاري لأن حكم الله أولى بالتنفيذ. ثالثاً: مشروعية الولاء للمعتق، فهو صاحب الحق الشرعي فيمن أعتقه يرثه بعد موته، قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على أنّ من أعتق عبداً أو أعتق عليه أن له عليه الولاء، وأجمعوا أيضاً على أن السيد يرث عتيقه إذا مات جميع ماله إذا اتفق دينهما، ولم يُخَلِّف وارثاًَ سواه، وذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الولاء لحمة كلحمة النسب " ويقدم المولى على الرد وذوي الأرحام في قول جمهور العلماء، فمن خلف بنتاً ومولاة فلبنته النصف والباقي لمولاه ولا يرد على الوارث شيء.
رابعاً: الحديث دل على مشروعية المكاتبة، وهل هي واجبة أو مستحبة؟ قال ابن رشد (1) رحمه الله: اختلفوا في عقد الكتابة هل هو واجب أو مندوب؟ قال أهل الظاهر: هو واجب واستدلوا بظاهر قوله تعالى: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) ، وأما الجمهور فإنهم لما رأوا أن الأصل أن لا يُجبر أحد على عتق مملوكه حملوا هذه الآية على الندب. اهـ. وقال مالك في " الموطأ " ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك، ولم أسمع أحداً من الأئمة أكره رجلاً على مكاتبة عبده. اهـ. والمطابقة: في قوله " كل شرط ليس في كتاب الله فليس له ". الحديث: أخرجه الستة.
***
__________
(1) " بداية المجتهد " ج 2.(4/6)
بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
709 - " كتابُ الهِبَةِ وَفضلِهَا والتَّحْرِيض عَلَيْهَا "
809 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: " ابْنَ أخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظر إِلى الْهِلالَ ثُمَّ الهِلَالِ ثُمَّ الهِلَالِ ثلاثَة أهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وما أوقِدَتْ في أبيَاتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَارٌ، فَقُلْتُ: يا خالةُ مَا كَانَ يَعِيشُكُمْ؟ قَالَتْ: الأسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلَّا أنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جيرَانٌ مِنَ الأنْصَارِ كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -َ مِنْ ألبَانِهِمُ فَيَسْقِيْنَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
709 - " كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها "
809 - قول عائشة رضي الله عنها: " يا ابن أختي: إنْ كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نار " إلخ.
معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغ من زهده وتقشفه أنه كان يمضي عليه وعلى آل بيته شهران يرون فيهما ثلاثة أهلة لا يوقد في أبياتهم نار، ولا يطبخ طعام، علماً بأنهم كانوا تسع نسوة، هكذا قالت عائشة لعروة رضي الله عنها، فلما سمع عروة منها هذا الحديث، تملكته الدهشة، فسألها على أي شيء كانوا يعيشون، وأي طعام يأكلون، قالت: كنا نعيش على " التمر والماء " إلاّ أنه كان لنا جيران من الأنصار، لديهم بعض الشياه والنياق التي وهبت لهم، فكانوا يعطوننا من ألبانها. الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الهبة،(4/7)
710 - " بَابُ الْقَلِيلِ مِنَ الْهِبَةِ "
810 - عن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَوْ دُعِيتُ إلى ذِرَاعً أو كُراعٍ لأجَبْتُ، ولو أهْدِيَ إِليَّ ذِرَاعٌ أو كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولها معنيان معنى عام وهي ما تعطيه لغيرك في حياتك تقصد من ورائه بدلاً، فإن كان منفعة دنيوية فهو الهدية وإن كان ثواباً أخروياً فهو الصدقة، أو لا تقصد بذلك العطاء بدلاً، بل لمجرد المحبة والمساعدة للغير وهو المنحة والعطية، ومعنى خاص: وهو ما يدفع إلى الغير لا يقصد من ورائه بدلاً، ويسمى منحة، أيضاً وهذا النوع يثاب عليه، ويؤجر على فعله، لا سيما إذا كان للجيران وأمثالهم (1) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة ". ثانياًً: ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وآل بيته من التقشف والزهد والقناعة بالقليل مع أن في إمكانه أن يملك الدنيا بحذافيرها. والمطابقة: في قولها " وكانوا يمنحون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ألبانها " فإن المنحة نوع من أنواع الهبة.
710 - " باب القليل من الهبة "
قال العيني: 1 - أراد به أن المهدي إليه بشيء قليل لا يستقله ولا يرده لقلته قلت: ولهذا ساق الحديث الآتي ليستدل به على ما ترجم له.
810 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت " الذراع هو ساعد الشاة، والكراع ما دون الركبة من الشاة أو البقرة، وهو ما تسميه العامة (بالمقدم) .
معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتأخر عن إجابة أي دعوة
__________
(1) كالأقارب مثلاً.(4/8)
711 - " بَابُ ما لا يُرَدُّ مِنَ الْهَدِيَّة "
811 - عن أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
"كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يَرُدُّ الطِّيْبَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وحضورها والأكل من الطعام الذي يقدم له، سواء كان هذا الطعام كثيراً أو قليلاً، وسواء كان هذا الطعام طعاماً فاخراً نفيساً أو لم يكن كذلك، وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يرفض أي هدية تقدم إليه ولو كانت يسيرة. الحديث: أخرجه البخاري وأحمد.
فقه الحديث: أن من السنة إجابة الدعوة، والأكل من طعامها وقبول الهدية، ولو كان الطعام والهدية لا قيمة لهما. وهذا معنى تمثيله - صلى الله عليه وسلم - بالكراع والذراع، قال الحافظ: وخصَّ الذراع والكراع بالذكر ليجمع بين الحقير والخطير، لأن الذراع كانت أحب إليه من غيرها، والكراع لا قيمة له، وفي المثل: أعط العبد كراعاً يطلب منك ذراعاً، قال ابن بطال: أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى الحض على قبول الهدية، ولو قلت. اهـ. وذلك لما فيه من التواضع وجبر خاطر المهدي ومراعاة شعوره حتى لا يتألم نفسياً بالرفض فيكون ذلك إيذاءً له. والمطابقة: في قوله " ولو أهدي إليه ذراع أو كراع لقبلت ".
711 - " باب ما لا يرد من الهدية "
811 - قوله: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرد الطيب ". إلخ.
معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أهدي إليه الطيب يقبله، ولا يرده على صاحبه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحب الروائح الزكية والعطور الشذية، ويرغبها كثيراً لأنه يناجي الملائكة، وهي تحبها بطبيعتها، وقد أوصى - صلى الله عليه وسلم - أمته بقبول هدية الطيب، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " من عرض عليه طيب فلا يرده لأنه خفيف المحمل، طيّب الرائحة " أخرجه أبو داود والنسائي، وفي حديث آخر: "ثلاثة(4/9)
712 - " بَابُ الْمُكَافَأةِ في الْهِبَةِ "
812 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
" كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيثيْبُ عَلَيْهَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا ترد الوسائد والدهن واللبن" أخرجه الترمذي، وقال: يعني بالدهن الطيب. اهـ. كما أفاده الشرقاوي وأخرجه أيضاً الترمذي والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب قبول الهدية عامة، والطيب خاصة لحسن رائحته وخفة مؤونته، لأنه لا تكليف فيه على مهديه، والطيب كما قال ابن القيم: غذاء الروح، وله تأثير في حفظ الصحة، ودفع كثير من الآلام. والمطابقة: في قوله " لا يرد الطيب ".
712 - " باب المكافأة في الهبة "
812 - قولها رضي الله عنها: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويثيب عليها ".
معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يراعي مشاعر الناس، ويقدر عواطفهم فلا يرد أي هدية تقدم إليه مهما كانت يسيرة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " لو أهدي إليّ ذراع أو كراع لقبلت "، لأنه يعلم أن صاحبها لم يهدها إليه إلاّ تعبيراً عما يكنه له من محبة ومودة فكيف يردها إليه، أليس من مقابلة الإِحسان بالإِحسان ومواجهة المشاعر الطيبة بمثلها قبول الهدية تطييباً لنفس مهديها، ْفهو - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية جبراً لخاطر صاحبها ولئلا يسيء إليه بردها مع أنه عبر له عن محبته بإهدائها. " ويثيب عليها " أي يكافىء عليها بأعظم منها، ليقابل المعروف بأكثر منه، وتلك شيمة الكرام.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه يستحب قبول الهدية، والمكافأة عليها لهذا الحديث، حيث قال: " ويثيب عليها " أي يقبلها ويكافىء عليها،(4/10)
713 - " بَابُ الْهِبَةِ لِلْوَلَدِ، وِإذَا أعْطَى بَعضَ وَلَدِهِ شَيْئَاً لَمْ يَجُزْ حتى يَعْدِلَ بَيْنَهُمْ ويُعْطِيَ الآخرِيْنَ مِثلَهُ "
813 - عَنِ النّعْمَانِ بْنِ بَشِير رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أن أَبَاهُ أتى بِهِ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلاماً، فَقَالَ: " أكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فارْجِعْهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفي رواية ابن أبي شيبة: " ويثيب ما هو خير منها ". قال الخطابي: من العلماء من جعل أمر الناس في الهدية على ثلاث طبقات. (أ) : هدية الرجل من دونه كالخادم ونحوه، إكراماً له، وذلك غير مقتض ثواباً (ب) : هدية الصغير للكبير رفدٌ ومنفعة، والثواب فيها واجب. (ج) : هدية النظير للنظير، والغالب فيها التودد والتقرب، وقد قيل: إن فيها ثواباً. واستدل بعض المالكية بهذا الحديث على وجوب الثواب على الهدية إذا أطلق الواهب، ممن يطلب مثله الثواب. كالفقير للغني، وبه قال الشافعي في القديم: وقال أبو حنيفة والشافعي في الجديد: الهدية للثواب باطلة لا تنعقد، لأنها بيع بثمن مجهول. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي وأبو داود. والمطابقة: في قوله " ويثيب عليها ".
713 - " باب الهبة للولد، وإذا أعطى بعض ولده شيئاً لم يجز حتى يعدل بينهم ويعطي الآخرين مثله "
813 - " عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن أباه أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نحلت ابني هذا غلاماً " إلخ.
معنى الحديث: أن بشير بن سعد الأنصاري كان له عدة أبناء، وكان ابنه النعمان محظوظاً عنده، فوهب له غلاماً من غلمانه، وخصه بهذه العطية(4/11)
دون بقية إخوانه، فأرادت أمه عمرة بنت رواحة أن توثق وتؤكد هذه الهبة وتثبتها بالبينة والشهود، حتى لا يستطيع أحد إبطالها، فقالت لزوجها كما في رواية أخرى للبخاري: " لا أرضى حتى يشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وغرضها من ذلك تثبيت العطية، عند ذلك " أتى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نحلت ابني هذا " أي أعطيت ابني هذا وهو النعمان " غلاماً " أي عبداً من عبيدي، وفي الرواية الأخرى قال: " إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله " فقال: " أكل ولدك نحلت مثله؟ " وفي رواية مسلم: " كلهم وهبت لهم مثل هذا " " قال: لا، قال: فأرجعه "، أي فاسترجع هبتك هذه لما فيها من ظلم الآخرين من أبنائك، وأبى - صلى الله عليه وسلم - أن يتم هذه المعاملة، أو يشهد عليها وعد ذلك جوراً، كما جاء مصرحاً به في رواية ابن حبان والطبراني أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا أشهد على جور "، وفي رواية لمسلم: " فإني لا أشهد على جور ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب المساواة بين الأبناء في جميع الحقوق المالية، وعدم تخصيص بعضهم بهدية أو هبة أو عطية دون الآخرين، لما يترتب على ذلك من زرع العداوة والبغضاء في نفوسهم، وقطع الصلات الودية بينهم، ولما في ذلك من الظلم والإِجحاف بحقوق الآخرين، وقد تمسك بهذا الحديث من أوجب التسوية في العطية بين الأولاد، وبه صرح البخاري، وهو مذهب طاووس والثوري وأحمد بن حنبل وبعض المالكية، وقالوا: إن التفضيل بينهم باطل، وجورٌ، واستدلوا على ذلك بحديث الباب، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " سووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء " وذهب الجمهور إلى أن التسوية مستحبة (1) والتفضيل مكروه فقط، وإن فعل
__________
(1) " فقه السنة " ج 2 دار الفكر.(4/12)
ذلك نفذ، وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة منها: أن الموهوب للنعمان كان جميع مال أبيه، حكاه ابن عبد البرّ. وتعقب بأن الكثير من طرق الحديث مصرحة بالبعضية كما في حديث مسلم حيث قال: " تصدق علي أبي ببعض ماله ". ومنها: أن قوله: " ارجعه " دليل الصحة، ولو لم تصح الهبة لما صح الرجوع، قالوا: وإنما أمره بالرجوع لأن للوالد أن يرجع فيما وهب لولده، وتعقبه " الحافظ " بأن معنى قوله: " ارجعه " أي لا تمض الهبة المذكورة ولا يلزم من ذلك تقدم صحة الهبة. ومنها: أنه قد ثبت عن الصديق أنه نحل ابنته عائشة، وروى الطحاوي عن عمر أنه نحل ابنه عاصماً دون سائر ولده، ولو كان التفضيل غير جائز لما وقع من الخليفتين، وقد أجاب عروة عن قصة عائشة بأن إخوانها كانوا راضين، قال الحافظ: ويجاب بمثل ذلك في قصة عاصم. ومنها: أن الإِجماع انعقد. على جواز عطية الرجل لغير ولده فجوازه للولد أولى، وأجاب عنه الحافظ بأنه قياس مع النص وهو باطل. قال ابن قدامة: يجب (1) على الإنسان التسوية بين أولاده في العطية إذا لم يختص أحدهم بمعنى يفيد التفضيل، فإن خص بعضهم بعطية أو فاضل بينهم فيها أثم، ووجبت عليه التسوية بأحد أمرين: إما ردّ ما فضل به البعض، وإما إتمام نصيب الآخر. قال طاووس: لا يجوز ذلك ولا رغيف محترق، وبه قال ابن المبارك. وروي معناه عن مجاهد وعروة، وكان الحسن يكرهه ويجيزه في القضاء. وقال مالك والليث والثوري والشافعي وأصحاب الرأي: ذلك جائز لأن أبا بكر رضي الله عنه نحل عائشة جذاذ عشرين وسقاً دون سائر ولده. واحتج الشافعي بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أشهد على هذا غيري " حيث أمره بتأكيدها دون الرجوع فيها، ولأنها عطية تلزم بموت الأب، فكانت جائزة كما لو ساوى بينهم. قال ابن قدامة: ولنا ما روى النعمان بن بشير
__________
(1) " المغني " ج 6.(4/13)
رضي الله عنهما قال: تصدق علي أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء أبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليشهده على صدقته، فقال: " أكل ولدك أعطيت مثله "، قال: لا، قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم " قال فرجع أبي فردّ تلك الصدقة، وفي لفظ " فاردده " وفي لفظ " فارجعه " وفي لفظ " لا نشهد على جور " وفي لفظ " سوِّ بينهم " وهو حديث صحيح متفق عليه، وفيه دليل على التحريم، لأنّه سماه جوراً وأمر بردّه وامتنع عن الشهادة عليه، والجور حرام، والأمر يقتضى الوجوب - وتفضيل بعضهم على بعض يورث العداوة والبغضاء وقطيعة الرحم، فمنع منه كتزوج المرأة على عمتها أو خالتها، وفعل أبي بكر لا يعارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يحتجُّ به معه، ويحتمل أنّ أبا بكر رضي الله عنه خصها بعطية لحاجتها وعجزها عن الكسب والتسبب فيه مع اختصاصها بفضلها، وكونها أم المؤمنين زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغير ذلك، ويحتمل أنه قد نحلها ونحل غيرها من ولده، أو نحلها وهو يريد أن ينحل غيرها فأدركه الموت قبل ذلك، ويتعين حمل هديته على هذه الوجوه، لأن حمله على مثل محل النزاع منهي عنه، وأقل أحواله الكراهة، والظاهر من أبي بكر اجتناب المكروهات وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " فاشهد على هذا غيري " ليس بأمر، لأن أدنى أحوال الأمر الندب والاستحباب، ولا خلاف في كراهة هذا، وكيف يجوز أن يأمر بتأكيده (1) مع أمره برده وتسميته جوراً، وحمل الحديث على هذا حملٌ لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - على التناقض والتضاد. قال ابن قدامة: فإن خص بعضهم لمعنى يقتضي تخصيصه مثل اختصاصه بحاجة، أو زمانة أو عمى أو كثرة عائلة أو اشتغاله بالعلم أو نحوه من الفضائل، أو صرف عطيته عن بعض ولده لفسقه أو بدعته أو لكونه يستعين بما يأخذه على معصية الله، أو ينفقه
__________
(1) أي بتأكيده بالإشهاد عليه.(4/14)
714 - " بَابُ هِبَةِ الْمَرأةِ لِغيْرِ زَوْجِهَا وَعِتْقِهَا إِذَا كَانَ لَهَا زوْجٌ فَهُوَ جَائِز إذَا لَمْ تكُنْ سَفِيهَةً "
814 - عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيها، فقد روي عن أحمد ما يدل على جواز ذلك، لقوله في تخصيص بعضهم بالوقوف لا بأس به إذا كان لحاجة، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة، والعطية في معناه. قال ابن قدامة: ويحتمل ظاهر لفظه المنع من التفضيل والتخصيص على كل حال، لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل بشيراً في عطيته والأوّل أولى إن شاء الله لحديث أبي بكر، ولأن بعضهم اختص بمعنى يقتضي العطية، فجاز أن يختص بها، وحديث بشير قضية في عين لا عموم لها، وترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستفصال يجوز أن يكون لعلمه بالحال (1) . اهـ. ثانياً: مشروعية الإِشهاد في الهبة لاثباتها وتوثيقها وتأكيدها قال العيني: وفيه أن الإِشهاد (2) في الهبة مشروع وليس بواجب ولا تتوقف عليه صحة الهبة شرعاً، لأنه ليس ركناً من أركانها، والإِشهاد وإن لم يصرح به في حديث الباب، فقد صرح به في الروايات الأخرى، وكلها حول قصة واحدة، وقد قال في حديث الباب " إنّ أباه أتى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " إني نحلت ابني هذا غلاماً " ومعناه أنه أخبره - صلى الله عليه وسلم - بإعطاء الغلام له لِيُشْهِدهُ على ذلك كما جاء في الروايات الأخرى، والأحاديث يفسر بعضها بعضاً. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً عليها.
714 - " باب هبة المرأة لغير زوجها وعتقها إذا كان لها زوج فهو جائز إذا لم تكن سفيهة "
__________
(1) " المغني " لابن قدامة ج 6 مكتبة القاهرة.
(2) " شرح العيني " ج 13.(4/15)
أنَّهَا أعتقت وَلِيدَةً ولمْ تَسْتَأذِنْ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الذي يَدُورُ عَلَيْهَا، قَالَتْ: أشَعَرْتَ يا رَسُولَ اللهِ أَني أعْتَقْتُ وَلِيدَتِي، قَالَ: " أَوَفَعَلْتِ؟ " قَالَت: نَعَمْ، قَالَ: " أمَا إِنَّكِ لَوْ أعطَيْيهَا أخْوَالَكِ كانَ أعْظَمَ لأجْرِكِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يعني أن هبة المرأة لغير زوجها بدون إذنه صحيحة نافذة، وكذلك عتقها جاريتها إذا كانت رشيدة، أما إذا كانت سفيهة فلا يصح ذلك منها.
814 - قولها رضي الله عنها: " أنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - ".
معنى الحديث: أن أم المؤمنين ميمونة أعتقت جارية لها دون أن تخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تستأذنه في عتقها، فلما كان يوم نوبتها " قالت: أشعرت أني أعتقت وليدتي قال: أوفعلت؟ " أي قالت له: أعلمت أني أعتقت جاريتي، فقال لها: هل أعتقتيها؟ ولم ينكر عليها أنها أعتقت بدون إذنه إلّا أنه " قال: أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك " ومعناه: حسناً ما فعلت، إلاّ أنك لو وهبتها لأخوالك من بني هلال لكان ذلك أفضل وأكثر ثواباً لما فيه من صلة الرحم. وهذه الجملة الأخيرة هي موضع الترجمة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يجوز للمرأة
إذا كانت رشيدة أن تتصرف في مالها بالهبة لغير زوجها، وبالعتق ولو بدون
إذنه، لأن ميمونة تصرفت في وليدتها - فأعتقتها بدون إذنه - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه - صلى الله عليه وسلم -
قال لها: " لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك "، فدل ذلك على أنّها لو وهبت جاريتها لغيره لكانت هبتها جائزة صحيحة، ولو بغير إذنه، وهو مذهب الجمهور، وقال مالك: لا يجوز لها أن تتصرف بدون إذنه إلاّ في ثلث مالها، كما أفاده العيني. أما هبة الرجل لزوجته أو الزوجة لزوجها فإنها صحيحة نافذة(4/16)
715 - " بَابُ قَبولِ الْهَدِيَّة مِنَ الْمُشْرِكِينَ "
815 - عَنْ أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أهْدَى إِلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا يجوز الرجوع فيها عند الجمهور، وقالت المالكية: إذا ادّعت الزوجة: أن الزوج خدعها أو أكرهها على هذه الهبة رجعت في هبتها لما رواه عبد الرزاق والطحاوي عن محمد بن سيرين أن امرأة وهبت لزوجها هبة ثم رجعت فيها فاختصما إلى شريح فقال للزوج: شاهداك أنّها وهبت لك من غير إكراه وهوان، وعن عبد الرزاق بسند منقطع عن عمر: أنه كتب أن النساء يعطين رغبة فأيما امرأة أعطت زوجها فشاءت أن ترجع رجعت. ثانياًً: أن الأعمال تتفاضل في الثواب بحسب ما يترتب عليها من المنفعة، ولهذا قال لميمونة: " لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك "، ففضل - صلى الله عليه وسلم - هبة هذه الأمة على العتق الذي فيه تحرير النفس، لما يترتب على الهبة من انتفاع أقاربها " الفقراء " بها، ولما فيه من صدقة وصلة رحم. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - أقرّ ميمونة على عتق جاريتها بدون إذنه، وقال لها: " لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك ". وهذا يدل على جواز عتق المرأة جاريتها أو هبة شيء من مالها لغيره بدون إذنه، وهو ما ترجم له البخاري. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
715 - " باب قبول الهدية من المشركين "
815 - قوله: " إن أكيدر دومة أهدى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " (1) إلخ.
معنى الحديث: أن أكيدر بضم الهمزة وكسر الدال، ابن عبد الملك كان ملكاً نصرانياً على دومة الجندل بضم الدال "وهي مدينة بقرب تبوك، بها نخل فأرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد في سرية فقاتله وقتل أخاه،
__________
(1) ذكره البخاري معلقاً، فقال: وقال سعيد (يعني ابن أبي عروبة عن قتادة عن أنس) وقد وصله أحمد. (ع) .(4/17)
716 - " بَابُ الْهَدِيَّة لِلْمُشْرِكِينَ "
816 - عَنْ أسْمَاءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ:
"قَدِمَتْ عَلَيَّ أمِّي وَهِيَ مُشْرِكَة في عِهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فاسْتَفْتَيْتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقدم به إلى المدينة أسيراً، فصالحه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهدى أكيدر للنبي - صلى الله عليه وسلم - جبَّة من سندس، وهو مارقّ من الديباج، فعجب الناس منها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا "، وفي رواية أنه لما قدم أخرج قباءً من ديباج منسوجاً بالذهب فرده النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه، ثم إنه وجد في نفسه (1) من رد هديته فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ادفعه إلى عمر، وفي رواية مسلم " أن أكيدر دومة أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثوب حرير، فأعطاه علياً فقال شققه خمراً بين الفواطم ". الحديث: أخرجه أيضاً مسلم وأحمد موصولاً.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز قبول هدية الكافر، لأن أكيدر كان نصرانياً، وقد قبل منه - صلى الله عليه وسلم - هديته، وعن علي رضي الله عنه أن كسرى أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبل منه، وأهدى له قيصر فقبل، وأهدت له الملوك فقبل منها، أخرجه الترمذي وأحمد، وعن عبد الرحمن بن علقمة الثقفي أنه قال: لما قدم وفد ثقيف قدموا معهم بهدية فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أهدية أم صدقة، قالوا: بل هدية فقبلها منهم " أخرجه النسائي. وعن أنس " أن ملك ذي يزن أهدى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حلة فقبلها " أخرجه أبو داود. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - قبل هدية أكيدر وهو نصراني، فدل على قبول هدية المشركين.
716 - " باب الهدية للمشركين "
816 - معنى الحديث: " تقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها:
__________
(1) "فتح الباري" ج 5 "إرشاد الساري" ج 4.(4/18)
رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قُلْتُ: إِنَّ أمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغبَةٌ أفَأَصِلُ أمِّي؟ قَالَ: " نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" قدمت عليَّ أمي وهي مشركة " أي جاءت إليَّ أمي من النسب والولادة على الأصح لا من الرضاعة، وذلك لما رواه عبد الله بن الزبير في حديثه قال: قدمت قتيلة على بنتها أسماء بنت أبي بكر من مكة -وكان أبو بكر طلقها في الجاهلية- بهدايا وزبيب وحسن وقرظ فأبت أسماء أن تقبل هديتها، أو أن تدخلها بيتها، فأرسلت إلى عائشة سلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لتدخلها، واختلفوا في اسمها فقيل قُتيلة بضم القاف وفتح التاء وقال الزبير بن بكار: قَتْلة بفتح القاف وسكون التاء والصحيح الأول " في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي في المدة التي ما بين صلح الحديبية وفتح مكة، أو في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - " فاستفتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصل أمي " أي فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها فقلت: قدمت عليَّ أمي وهي لا تزال على كفرها، وهي راغبة، أي راغبة في بر ابنتها، أو مؤملة طامعة في أن أصلها وأحسن إليها بالهبات والهدايا وحسن الضيافة والقِرى " أفأصل أمي " بضيافتها وإهدائها " قال: نعم صليها " ولو كانت كافرة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز الهدية للمشركين لا سيما إذا كانوا من ذوي القربى. ثانياً: مشروعية صلة الرحم الكافرة كالرحم المسلمة (1) . ثالثاً: استدل به بعضهم على وجوب النفقة للأب الكافر. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قوله " نعم صلي أمك ".
__________
(1) " شرح العيني " ج 13.(4/19)
717 - " بَابُ لَا يَحِل لِأحَدٍ أنْ يَرْجِعَ في هِبَتِهِ "
817 - عنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ الَّذِي يَعُودُ في هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ في قَيْئهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
717 - " باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته "
817 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليس لنا مثل السوء " أي لا ينبغي لنا ولا يحل لنا أن نرتضي لأنفسنا مثل السوء، بأن نتصف بتلك الصفة الذميمة التي لا توجد إلا في أخس الحيوانات وأقذرها وهو الكلب " الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه " أي فإن الشخص الذي يرجع في هبته التي يعطيها لغيره، هو كالكلب الذي تسمح له نفسه الدنيئة، وطبيعته القذرة في استرجاع قيئه، فالإنسان الذي يعود في هديته كأنما استعاد قيئه، وزاد أبو داود قال همام: قال قتادة: " ولا نعلم القيء إلاّ حراماً " أي ولا نعلم عودة المرء في قيئه إلا حراماً. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله " ليس لنا مثل السوء ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من الأفعال الذميمة والتصرفات الدنيئة التي تنافي المروءة ولا يرتضيها الطبع السليم أن يرجع المرء في هبته، وقد احتج به الشافعية والحنابلة على تحريم الرجوع في الهبة والصدقة بعد إقباضها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمى ذلك مثل سوء، وقال: " ليس لنا مثل السوء " أي لا ينبغي لنا ولا يحل لنا أن نتصف بهذه الصفة الذميمة، ولهذا قال ابن بطال: جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجوع في الهبة كالرجوع في القيء، وهو حرام، فكذا الرجوع في الهبة. وقال أبو حنيفة: للواهب الرجوع في هبته ما دامت قائمة، وكان الموهوب أجنبياً ولم يعوضه منها لحديث ابن عمر أنّ(4/20)
718 - " بَابُ مَا قِيلَ في الْعُمْرَى والرُّقْبَى "
818 - عن جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
"قَضَى النبي - صلى الله عليه وسلم - بِالْعُمْرَى أنَّهَا لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثب منها " (1) وأجاب عن حديث الباب بأن التشبيه من حيث أن الرجوع في الهبة أمر ظاهر القبح مروءة وخلقاً لا شرعاً، لأن الراجع في القيء هو الكلب لا الرجل والكلب غير متصف بتحريم أو تحليل.
718 - " باب ما قيل في العمرى والرقبى "
والعمرى: نوع من الهدية، وهي أن يهب الإِنسان إنساناً آخر شيئاً مدى عمره أي على أنه إذا مات الموهوب له عاد الشيء للواهب، وتكون بلفظ أعمرتك هذا الشيء - أي جعلته لك مدة عمرك، ويسمى القائل مُعْمِراً، والقول له مُعْمَراً، والرقبى: أن يقول لصاحبه أرقبتك داري إن مت قبلي رجعت إليَّ وإن مت قبلك فهي لك ولعقبك، وسميت رقبى لأنّ كل واحد منهما يرقب موت صاحبه، قال الحافظ: ترجم البخاري بالرقبى ولم يذكر إلّا الحديثين الواردين في العمرى، وكأنه يرى أنهما متحدا المعنى، وهو قول الجمهور. اهـ.
818 - قول جابر رضي الله عنه: " قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمرى أنها لمن وهبت له ".
معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم في العمرى أنها تكون هبة مملوكة لمن أعمرت له، لا تعود إلى المعمر بحال من الأحوال، وإنما تكون ملكاً للمُعْمَرِ في حياته وملكاً لورثته من بعده. الحديث: أخرجه الستة.
__________
(1) أخرجه الحاكم.(4/21)
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية العمرى وجوازها، وصحتها ونفاذها شرعاً، لقوله رضي الله عنه: قضى في العمرى، وقضاؤه فيها دليل مشروعيتها وصحتها، وأنها من المعاملات والعقود الشرعية.
قال الحافظ: وذهب الجمهور إلى صحة العمرى إلاّ ما حكاه أبو الطيب الطبري عن بعض الناس وما روي عن داود، لكن ابن حزم قال بصحتها، وهو شيخ الظاهرية، قال الحافظ: ومنع الرقبى مالك وأبو حنيفة ومحمد، ووافق أبو يوسف الجمهور، وقد روى النسائي بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً العمرى والرقبى سواء، والجمهور على أن العمرى والرقبى جائزان. ثانياًً: أن العمرى تكون هبة مملوكة لمن أعمرت له، ولعقبه من بعده، فمن أعمر بستاناً لشخص فقد وهبه إياه وملكه له ولأولاده من بعده، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -كما في حديث الباب- قضى بأنها لمن وهبت له، وفي رواية مسلم: لا ترجع إلى الذي أعطاها، لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث، وفي رواية أخرى له عن الزهري، فقد قطع قوله حقه، وهي لمن أُعْمِر ولعقبه، فلو قال: إن مت عاد إليَّ أو إلى ورثتي صحت الهبة (1) وألغي الشرط، لأنه فاسد لِإطلاق الحديث، وعليه العمل عند أكثر أهل العلم، يرون أن العمرى تمليك للرقبة خلافاً لمالك. قال في " الإفصاح " واختلفوا في العمرى فقال أبو حنيفة (2) والشافعي وأحمد: العمرى تملك الرقبة، فإذا أعمر رجلاً داراً فقال: أعمرتك داري هذه، أو قال: جعلتها لك عمرك أو عمري سواء، قال: المعمر للمعمر هي لك ولعقبك أو أطلق، فإن لم يكن له وارث فلبيت المال، ولا يعود إلى المعمر شيء وقال مالك: هي تمليك المنافع، فإذا مات المعمر رجعت إلى المعمر، وإن ذكر في الإِعمار عقبه رجعت
__________
(1) " شرح القسطلاني " ج 4.
(2) " الإفصاح " ج 2.(4/22)
إليهم، فإن انقرض عقبه رجعت إلى المعْمرِ، فإن أطلق لم ترجع إليهم، بل إلى المعمر، فإن لم يكن المعمر موجوداً عادت إلى ورثته، وحاصل ما ذكر في العمرى أنها ثلاثة أنواع: إما أن تؤبد كقولك: لك ولعقبك، أو تطلق كقولك: هي لك عمري أو عمرك، وجمهور العلماء على صحة هذين النوعين وأن كلاً منهما هبة مؤبدة، وقال مالك إن أطلقها عادت إليه، وإن أبّدها كانت هبة مؤبّدة، والصورة الثالثة أن يشترط الواهب الرجوع إليه بعد موت المُعْمَرِ فالشرط نافذ صحيح عند جماعة من العلماء (1) منهم الزهري ومالك وداود وأحمد في رواية اختارها ابن تيميّة، وذهب الباقون إلى إلغاء الشرط ولزوم الهبة، واستدل المالكية على رجوع العمرى إلى صاحبها بعد وفاة المعمر بأدلة: منها: ما رواه مالك في " الموطأ " عن نافع أن حفصة كانت قد أسكنت بنت زيد بن الخطاب دارها ما عاشت، فلما توفيت بنت (2) زيد قبض عبد الله بن عمر المسكن ورأى أنّه له، والإِسكان معناه هنا العمرى، ومنها: القياس، قال الباجي (3) : ودليلنا من جهة القياس أن تعليق الملك بوقت معين يقتضي تمليك المنافع دون الرقبة لأن تعليق الملك يمنع ملك الرقبة. وأجابوا عن حديث الباب بأن معناه: إذا قال في العمرى هي لك ولعقبك، فإنها لمن وهبت له، لما جاء في رواية " الموطأ " عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذى يعطاها، لا ترجع إلى الذى أعطاها أبداً لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث " أخرجه مسلم، ومالك في " الموطأ " والأحاديث يفسر بعضها بعضاً. ثالثاً: أن البخاري ذكر في الترجمة " الرُّقبى " مع أنه ليس في الأحاديث التي أخرجها أي ذكر لها، ولكنه يرى أن العمرى والرقبى يرجعان إلى معنى واحد، وهو الهبة المؤبدة، كما
__________
(1) " تيسير العلام " ج 2.
(2) " موطأ مالك ".
(3) " شرح الباجي على الموطأ " ج 7.(4/23)
719 - "بَابُ الاسْتعَِارَةِ لِلْعَرُوس عِنْدَ الْبِنَاءِ "
819 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنَّهَا دَخَلَ عَلَيهَا أيْمَنُ وعَليْهَا دِرْعُ قِطرٍ ثَمَنُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، فَقَالَتْ: ارْفَعْ بَصَرَكَ إلى جَارِيتي انْظرُ إِلَيْهَا فَإِنَّها تُزْهَى أنْ تَلْبَسَهُ في الْبَيْتِ، وَقَدْ كانَ لي مِنْهُنَّ دِرْعٌ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَمَا كَانَتْ امْرَأة تُقَيَّنُ بِالْمَدِينَةِ إِلَّا أرْسَلتْ إِليَّ تَستَعِيرُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عليه أكثر أهل العلم، وعن الحنفية أن التمليك في العمرى يتوجه إلى الرقبة، وفي الرقبى إلى المنفعة، وقال في " الإِفصاح " (1) قال أبو حنيفة: تبطل الرقبى المطلقة، وصفتها أن يقول: هذه الدار رقبى. اهـ. أما مالك، فإن صفة الرقبى الحائزة عنده أن يقول: هي لك حياتك، قال الزرقاني (2) : فهي جائزة، وهي بهذا التفسير بمعنى العمرى - أي أنها تمليك للمنافع مدة حياة الشخص. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة.
719 - " باب الاستعارة للعروس عند البناء "
819 - قولها رضي الله عنها: " أنه دخل عليها أيمن وعليها درع من قطن ".
معنى الحديث: أن أيمن الحبشي رضي الله عنه راوي الحديث دخل على عائشة رضي الله عنها وعليها ثوب يمني غليظ خشن، فقالت له: إن هذا الثوب الذي تتكَبَّرُ وتتَرَفَّعُ جاريتي أن تلبسه اليوم في البيت كان في ثوب مثله في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يفتخر) النساء بلبسه في أعراسهن حتى أنه "ما
__________
(1) " الإفصاح " ج 2.
(2) " شرح الزرقاني على الموطأ " ج 4.(4/24)
720 - " بَابُ فضلِ المنِيْحَةِ "
820 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْروٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أرْبَعُونَ خَصْلَةً أعْلاهُنَّ مَنِيحَةُ العَنْزِ، ما مِنْ عَامِل يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوابِهَا، وتَصْدِيْقَ مَوْعُودِهَا إلَّا أدخَلَهُ اللهُ بِهَا الْجَنَّةَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كانت امرأة تُقيَّن" بضم التاء وتشديد الياء المفتوحة أي ما كانت امرأة تلبسُ وتُزَيَّنُ وَتُزَفُّ عروساً لزوجها " إلاّ وأرسلت إليّ تستعيره " لتلبسه في عرسها لما كانوا عليه من التقشف وضيق المعيشة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية إعارة الثياب، واستعارتها، وكذلك غيرها من الحلي والجواهر النفيسة للعروس وغيرها. ثانياًً: ما كان عليه أصحاب رسول الله من فقر وضيق وتقشف في الطعام واللباس والسكنى حتى أن أقل الملابس قيمة كان عندهم من الثياب النفيسة التي يتجملون بها في أعراسهم، ثم إنهم سرعان ما أقبلت عليهم الدنيا حتى إنّه لم ينته القرن الأول الهجري إلاّ وقد أصبحت هذه الملابس يأنف الإماء لبسها في البيوت فضلاً عن السيدات. والمطابقة: في قول عائشة: " ما كان امرأة تُقَيَّنُ إلاّ وأرسلت إلي تستعيره ".
720 - " باب فضل المنيحة "
820 - قوله - صلى الله عليه وسلم - " أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز ". إلخ.
معنى الحديث: أن هناك أربعين خصلة من خصال الإِيمان والبرِّ والإحسان، ما من مسلم يحافظ على خصلة منها، ويداوم عليها مبتغياً من وراء ذلك رضا الله تعالى، راغباً في ثوابه، موقناً كل اليقين بما وعد الله العاملين(4/25)
بها من عظيم المثوبة والأجر، مخلصاً في عمله، إلاّ أدخله الله الجنة مع السابقين الأولين. ومن هذه الخصال إطعام الجائع، وسقي الظمآن، وبدء السلام، وطلاقة الوجه، وستر المسلم، وإعانة المحتاج، والتفسح في المجالس، وتفريج هموم الناس، وإدخال السرور على نفوسهم، وغرس الشجر وعيادة المريض، وقد أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث عن أفضل هذه الخصال وأرفعها درجة عند الله فقال: " أعلاهن منيحة العنز " أي أفضل هذه الأعمال وأكثرها ثواباً " منيحة العنز " أي إعارة العنز للمسلم ليشرب من لبنها مدة وجود اللبن فيها، فإذا انقطع لبنها أعادها إلى صاحبها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية منيحة العنز واستحبابها. قال في " المنهل العذب ": والمراد بها ذات اللبن من العنز تعار ليؤخذ لبنها، ثم ترد على صاحبها، ويقاس عليها منيحة الإِبل والبقر، ثانياً: الترغيب في منيحة العنز وكونها من أفضل أعمال الخير التي تبلغ أربعين خصلة، قال في " المنهل العذب ": فقد أبلغها بعضهم أربعين فأكثر منها، وقال ابن المنير، الأولى أن لا يعتنى بعدها لعدم عدِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لها. والمطابقة: في قوله: " أعلاها منيحة العنز ". الحديث: أخرجه البخاري وأحمد وأبو داود.
***(4/26)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب الشهادات "
الشهادة: عُرفت بتعريفات كثيرة ترجع أكثرها إلى أن الشهادة هي الإخبار بخبر قاطع عن شيء معين، أي عن صحة ذلك الشيء أو بطلانه وعن وقوعه أو عدمه، بشرط أن يستند ذلك الإِخبار إلى علم يقيني من مشاهدة ومعاينة أو سماع، أو استفاضة فيما يتعذر علمه، فلا يحل لأحد أن يشهد إلّا عن علم يستند إلى ما ذكر. وتصح الشهادة بالاستفاضة عند الشافعية في النسب والولادة والموت والعتق والولاية والوقف والعزل والنكاح والولاية والتعديل والتجريح والوصية والرشد والسن والملك. وقال أبو حنيفة: تجوز في خمسة أشياء النكاح، والدخول، والنسب، والموت، وولاية القضاء.
وقال أحمد وبعض الشافعية: تصح في سبعة: النكاح، والنسب والموت والعتق والولاء والوقف والملك. وشروط الشهادة سبعة: الأول: الإِسلام فلا تجوز شهادة الكافر إلاّ في الوصية أثناء السفر عند أبي حنيفة، وشهادة الذمي على المسلم في الوصية أثناء السفر عند أحمد والشافعي ومالك، وشهادة الكفار بعضهم على بعض عند الحنفية. الثاني: العدالة بحيث لم يجرب عليه الكذب ولا الخيانة ولا الفسق، ولم يتصف بشيء يخل بالمروءة (1) . الثالث والرابع: البلوغ والعقل، والخامس: الكلام، وقال مالك: تصح شهادة الأخرس إذا كان له إشارة مفهومة. السادس: الحفظ والضبط، فلا تقبل شهادة كثير النسيان والسهو والغلط. السابع: نفي التهمة، فلا تقبل شهادة المتهم بمحبة أو عداوة، خلافاً للشافعي ولا تقبل شهادة الوالد لولده، ولا الولد لأبيه عند الجمهور، خلافاً لأحمد في رواية.
__________
(1) والمروءة ترك ما يشين من الأقوال والأفعال.(4/27)
721 - " بَابُ مَا قِيلَ في شَهادَةِ الزُّورِ "
821 - عَنِ أبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أُنَبِّئُكُمْ بَأكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ " ثَلاثاً، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " الإِشْرَاكُ باللهِ، وعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ " وَجَلَسَ، وَكَانَ مُتَّكِئَاً، فَقَالَ: " أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ " فما زَالَ يُكَرِّرُهَا حتى قلْنا لَيْتَهُ سَكَتَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
721 - " باب ما قيل في شهادة الزور "
821 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً ". إلخ الكبائر: جمع كبيرة وهي كل معصية ترتب عليها حد في الدنيا أو عقوبة شديدة في الآخرة. و" ألا " استفهام، وتكرار لسؤال ثلاثاً للمبالغة في تنبيه السامعين إلى إلقاء السمع والإِصغاء لما يلقيه إليهم لأهميته.
ومعنى الحديث: أن النبي حرصاً منه على نجاة أمته وسلامتهم وسعادتهم أراد أن يحذرهم عن أخطر المعاصي وأعظمها عند الله تعالى ليجتنبوها فيسلموا من غضب الله ويسعدوا بطاعته ورضاه، فقال لهم: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً " وإنما وجه إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا السؤال أولاً وكرره عليهم ثلاث مرات، ليوجه أسماعهم إليه، ويحضّر قلوبهم لاستماع ما يلقيه إليهم حتى يكون أشد وقعاً على نفوسهم، وأعظم تأثيراً فيها، ولهذا قال لهم: ألا ترغبون أن أخبركم عن أعظم المعاصي عقوبة عند الله تعالى وكرر هذا السؤال ثلاث مرات " قالوا: بلى يا رسول الله " نريد أن تخبرنا عنها لنتجنبها وننجو من شرها، فأخبرهم أن أكبر الكبائر على الإطلاق ثلاثة أعمال " قال: الإشراك بالله " أي أولها الإِشراك بالله بأن يجعل لله شريكاً في ربوبيته أو ألوهيته أو صفاته، وهو الكبيرة الأولى التي لا تغتفر، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ(4/28)
بِهِ) ومن مات عليها كان مخلداً في النار كما قال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ) " وعقوق الوالدين " أي وثانيها عقوق الوالدين. أي الاساءة إليهما بالقول أو الفعل، لأنهما السبب الظاهري في وجود الإِنسان. وقد قرن الله تعالى حقهما بحقه في قوله تعالى: " (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) فالإِساءة إليهما من أعظم أنواع الجحود ونكران الجميل، لأن إحسانهما وفضلهما لا يماثله أي إحسان في هذا الوجود، ولهذا جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عقوق الوالدين من أعظم الكبائر " وجلس وكان متكئاً فقال: " ألا وقول الزور " فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت " أي ولما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخبر أمته عن المعصية الثالثة التي هي من أكبر الكبائر وهي " شهادة الزور " اعتدل في جلسته بعد أن كان معتمداً على وسادة اهتماماً بما سيقوله من التحذير عنها " فقال: ألا وقول الزور " أي وانتبهوا فإن من أكبر الكبائر شهادة الزور وهي أن تشهد شهادة كاذبة مخالفة للواقع، قال الشرقاوي: وإضافة القول إلى الزور من إضافة الموصوف إلى صفته، والمراد به شهادة الزور، وفي رواية " ألا وقول الزور، وشهادة الزور " والعطف للتأكيد، ومعناه أن قول الزور وشهادة الزور شيء واحد.
" قال: وما زال يكررها " أي يكرر قوله: ألا وقول الزور حتى قلنا ليته سكت " يعني تمنينا سكوته شفقة عليه. الحديث: أخرجه الشيخان وأحمد والترمذي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحذيره - صلى الله عليه وسلم - الشديد لأمته عن شهادة الزور حيث لم يكتف بعدها من أكبر الكبائر، وإنما أضاف إلى ذلك مبالغته - صلى الله عليه وسلم - في الاهتمام بها، فاعتدل في جلسته، وكرر التحذير منها مرات كثيرة حتى قالوا: ليته سكت، وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك إلاّ لشدة خطورتها، وعظم جُرْمِها وسهولة وقوعها، والتهاون بأمرها، وتعدي ضررها، وتطاير شررها حتى قالوا شهادة الزور تقضي على صاحبها في الدنيا(4/29)
722 - " بَابُ شَهَادَةِ الأعْمَى "
822 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
" تَهَجَّدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في بَيْتي فَسَمِعَ صَوْتَ عَبَّادٍ يُصَلِّي في الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: " يا عَائِشَةُ أصَوْتُ عَبَّادٍ هَذَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: " اللَّهُمَّ ارْحَمْ عَبَّاداً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والآخرة. ثانياًً: أن الذنوب ثلاثة أنواع: صغائر، وكبائر، وأكبر الكبائر كما يدل عليه هذا الحديث: والمطابقة: في قوله " ألا وقول الزور ".
722 - " باب شهادة الأعمى "
822 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " تهجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتي، فسمع صوت عباد يصلي في المسجد " أي فسمع صوت عباد بن بشر رضي الله عنه وهو يتلو القرآن في صلاة التهجد " فقال: يا عائشة أصوت عباد " أي فغلب على ظنه أنه صوت عباد، وأراد أن يتأكد من ذلك، فسأل عائشة عنه قالت: " قلت: نعم " هو صوت عباد " قال: اللهم ارحم عباداً " فدعا له - صلى الله عليه وسلم - بالرحمة الإِلهية التي تقتضي كثرة الإِحسان والإِنعام عليه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز شهادة الأعمى وصحتها اعتماداً على جماعه في كل ما يعرف بالسماع، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل عائشة عن الصوت الذي سمعه هل هو صوت عباد؟ واعتمد على إخبارها بأنه صوته، فدل ذلك على قبول شهادة الأعمى في المسموعات، وبه أخذ مالك وأحمد فقالوا: تجوز شهادته في النكاح والطلاق والبيع والإِجارة والنسب والوقف والإقرار سواء كان تحملها وهو أعمى، أو كان بصيراً ثم عمي، قال ابن القاسم: قلت لمالك: فالرجل يستمع من وراء الحائط، ولا يراه،(4/30)
723 - " بَاب تعْدِيلِ النِّسَاءِ بَعْضهِنّ علَى بَعضٍ: - حَدِيث الإِفْكِ "
823 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
" كَانَ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أرَادَ أنْ يَخْرجَ سَفَراً أقْرَعَ بَيْنَ أزْوَاجِهِ، فَأيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ، فَأقْرَعَ بَيْنَنَا في غَزَاةٍ غزَاهَا، فخَرَجَ سَهْمِي، فَخَرَجت مَعَهُ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ، فَأنَا أحْمَلُ في هَوْدَج وَأُنزل فِيهِ، فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ، وَقَفَلَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يسمعه يطلق امرأته فيشهد عليه، وقد عرف الصوت، قال مالك: شهادته جائزة. وقالت الشافعية: لا تقبل شهادته إلاّ في النسب، والموت، والملك المطلق. وقال أبو حنيفة: لا تقبل مطلقاً. ثانياًً: أن الدعاء بالرحمة لا يختص بالأموات. والمطابقة: في كون النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل شهادة عائشة أن الصوت صوت عباد وهي لم تره. الحديث: أخرجه البخاري.
723 - " باب تعديل النساء بعضهن على بعض: حديث الإفك "
أي هذا باب في بيان تعديل النساء بعضهن لبعض، أي تزكيتهن لبعضهن، والمراد بحديث الإِفك هذا، الحديث الذي تحدثت فيه السيدة عائشة رضي الله عنها عن تلك التهمة الباطلة والإِشاعة الكاذبة التي أشاعها الناس عنها فبرأها الله منها.
823 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه " أي أجرى بينهن قرعة، فأيتهن خرج سهمها صحبها معه، " فأقرع بيننا في غزاة " وهي غزوة بني المصطلق في رمضان سنة خمس من الهجرة " فخرج سهمي فخرجت معه " إليها "حتى(4/31)
وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ آذَنَ لَيلَةً بالرَّحِيل، فَقمْت حِينَ آذَنوا بالرحِيل فَمَشَيْت حَتَّى جَاوَزْت الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيت شَأنِي أقْبَلْت إِلَى الرَّحْل، فَلَمَسْت صَدْرِي فَإِذا عِقدٌ لي مِنْ جَزْعِ أظَفَارَ قَدِ انْقَطَعَ، فَرَجَعْت فالتمسْت عِقْدِي فحبَسَنِي ابتغَاؤُهُ، فَأقبَلَ الَّذِينَ يَرْحَلونَ لي، فاحْتَمَلوا هَوْدَجِي، فَرَحَلوه عَلَى بَعِيري الذي كُنْت أرْكَبُ، وَهُمْ يَحْسَبونَ أنِّي فِيه، وكانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافاً لَمْ يَثْقُلْنَ، ولمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْم، وِإنَّما يَأكلْنَ الْعُلْقَةَ مِنَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته تلك وقفل" أي عاد من غزوته، " ودنونا من المدينة " أي اقتربنا منها " آذن بالرحيل " أي أعلن عن رحيله " فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني " أي فلما انتهيت من قضاء حاجتي " فإذا عقد لي من جزع أظفار " بالفتح، الخرز اليماني، اشتهرت بهذه العقود المنظومة من الخرز الأسود الذي فيه عروق بيضاء، " قد انقطع " أي فلما لمست صدري وجدت عقدي هذا قد انقطع " فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه " أي فعدت أبحث عن عقدي فأخّرني التفتيش عنه عن العودة إلى هودجي " فأقبل الذين يُرَحلون " (بضم الياء، وفتح الراء) أي فجاء الذين يشدون رحلي على بعيري " فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه " أي يظنون أنني موجودة داخل الهودج، ولم يشعروا بعدكم وجودي، لأن وجودي أو عدمه لا يؤثر في ثقل الهودج أو خفته بشيء ثم بينت سبب ذلك فقالت: " وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلن " أي كن خفاف الأجسام، لم يثقلهن الشحم الكثير، والسمن الفاحش لأنهن لم يكن يأكلن كثيراً، ولا يتناولن الأطعمة الدهنية الدسمة إلاّ نادراً " وإنما يأكلن العُلقة من الطعام " بضم العين وسكون اللام، وهو القليل من الطعام، حيث كن يرين ثلاث(4/32)
الطَّعَامٍِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْم حِينَ رَفَعوة ثِقَلَ الْهَوْدَجِ، فاحْتَمَلوة، وكنْت جَارِيَة حَدِيْثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثوا الْجَمَلَ وَسَاروا، فَوَجَدْت عِقْدِي بَعْدَ ما اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فجِئْت منْزِلَهمْ وَلَيْسَ فِيهِ أحَدٌ، فَأمَمْت مَنْزِلي الَّذِي كُنْت فِيهِ، فَظَنَنْت أنَّهُمْ سَيَفْقِدونَنِي فيَرْجِعونَ إليَّ، فَبَيْنَا أنَا جَالِسَةٌ غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْت، وكَانَ صَفْوَان بْن الْمَعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ من وَرَاءِ الْجَيش، فَأصبَحَ عِنْدَ مَنْزلي، فَرَأى سَوَادَ إِنْسَان نَائِم فَأتانِي، وَكَانَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أهلة في شهرين، ولا يوقد في بيوتهن نارٌ " فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج " أي لم يلاحظوا خفة وزنه " وكنت جارية حديثة السن " أي صغيرة السن لم أكمل خمسة عشر عاماً " فبعثوا الجمل وساروا "، أي فأوقفوا الجمل وساروا به، وهم يظنون أني بداخله، " فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش، أي بعدما قطع الجيش مسافة طويلة، " فجئت منزلهم، وليس فيه أحداً، أي فلما عدت إلى المكان الذي كان فيه الجيش إذا بي أفاجأ برحيلهم، وإذا هو بقعة خالية " فأممت منزلي الذي كنت فيه " أي فقصدت المكان الذي فيه هودجي " وظننت " أي علمت أنهم سيفقدونني فيرجعون إليَّ " فبينا أنا جالسة غلبتني عيناي " أي غلبني النعاس، " وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني " بضم السين وفتح اللام، وبالذال المعجمة، وكان صحابياً فاضلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعله على الساقة، فكان إذا رحل القوم قام يصلي، ثم اتبعهم فمن سقط له شيء أتاه به. أخرجه الطبراني، وكان يتخلف عن الناس فيصيب القدح والجراب والأزواد، فيحمله ويقدم به فيفرقه في أصحابه " من وراء الجيش "، أي يتفقد مخلفاتهم بعد رحيلهم، فيوصلها إليهم " فأصبح عند منزلي " أي فكان في الصباح عند المكان الذي أنا فيه " فرأى سواد إنسان نائم " أي فأبصر شخص إنسان نائم، "فأتاني وكان(4/33)
يَرَانِي قَبْلَ الْحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ باستِرْجاعِهِ حينَ أناخَ رَاحِلَتَهُ، فَوَطِأ يَدَهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُعَرِّسِينَ في نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الإِفْكَ عَبْدُ اللهِ بْن أُبَيِّ بْنُ سَلُولٍ، فقدِمْنَا المَدِينَةَ فاشْتَكَيْتُ بها شَهْراً والنَّاسُ يفيضُونَ مِنْ قَوْلِ أصْحَابِ الإِفْكِ، وَيَرِيبُنِي في وَجَعِي أَنِّي لا أرَى مِنَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اللُّطْفَ الذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أمرَضُ، إِنَّمَا يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يعرفني قبل الحجاب"، أي فلما نظر إليَّ عرف أني عائشة، لأنه كان يعرفني قبل الحجاب، " فاستيقظت باسترجاعه " أي فاستيقظت من نومي على صوته وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، " حين أتاني في راحلته فوطأ يدها " أي داس على يدها ليقعدها " فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا معرسين في نحر الظهيرة " أي بعد ما نزلوا وقت الظهيرة ليستريحوا " فهلك من هلك " يعني فتورط من تورط في هذه القضية، وخاض في هذه التهمة الباطلة من حديث الإِفك. " وكان الذي تولى الإِفك عبد الله ابن أُبي بن سلول " أي وكان رأس هذه الجماعة الذي تبنى هذه التهمة الكاذبة على عائشة ودعمها وروج لها، وأشاعها هو عبد الله بن أُبي رئيس المنافقين، أما بقية أهل الإِفك فهم كما أفاده النسفي: يزيد بن رفاعة وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش ومن ساعدوهم " فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهراً "، أي مرضت شهراً " والناس يفيضون في قول أصحاب الإِفك " أي يتحدثون في هذه الإِشاعة الكاذبة قالت: " ويرييني في وجعي أني لا أرى من النبي - صلى الله عليه وسلم - اللطف الذي كنت أرى منه حين أمرض " أي ومما بعث في نفسي الريبة والشك والإحساس الداخلي بأن هناك أمراً قد حدث، هو هذا التغير في معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - لي حيث لم أعد أجد منه تلك المعاملة(4/34)
فَيَقُولُ: كيْفَ تِيْكُمْ، لا أشْعُرُ بِشَيْءٍ من ذلكَ، حتَّى نَقَهْتُ، فَخَرَجْتُ أنَا وأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِع مُتَبَرَّزُنَا، لا نَخْرُجُ إلَّا لَيْلاً إلى لَيْل، وذلكَ قَبْلَ أنْ نَتَّخِذَ الكُنُفُ قَرِيباً مِن بُيُوتِنَا، وأمْرُنَا أمْرُ الْعَرَبِ الأوَلِ في البَرِّيَّةِ أو في التَّنزَهِِ فَأقْبَلْتُ أنَا وأمُّ مِسْطَح بنتُ أبي رُهْم نَمْشِي، فَعَثَرَتْ في مِرْطِهَا، ْ فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٍ، فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَمَا قُلْتِ: أتَسُبِّينَ رَجُلاً شَهِدَ بَدْراً! فَقَالَتْ: يا هَنْتَاهْ، ألمْ تَسْمَعِي مَا قَالُوا؟ فَأخْبَرَتْنِي بقولِ أهْلِ الإِفْكِ فازْدَدْتُ مَرَضاً إلى مَرَضِي، فَلَمَّا رَجَعْتُ إلى بَيْتي، دَخَلَ عَليَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسلَّمَ، فَقَالَ: كَيفَ تِيْكُمْ، فقُلْتُ: إِئْذَنْ لي إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرقيقة التي كنت أجدها منه إذا مرضت " ولا أشعر بشيء " أي ولا أعلم بسبب ذلك " حتى نقهت " أي حتى تماثلت للشفاء من مرضي، " فخرجت أنا وأم مسطح قِبل المناصع متبرزنا " (1) وهو موضع شرقي المدينة كانوا يتبرزون فيه " قبل أن تتخذ الكنف " أي قبل أن نتخذ المراحيض " وأمرنا أمر العرب الأول في البرية، أو في التنزه " أي وشأننا في قضاء الحاجة شأن العرب القدامى الذين يتبرزون في الخلاء، لا في البنيان " فأقبلت أنا وأم مسطح بنت أبي رهم نمشي فعثرت في مرطها " بكسر الميم كساء من صوف " فقالت تعس مسطح " دعت عليه بالتعاسة والخيبة " فقلت بئسما قلت " أي لقد قلت قولاً سيئاً ذميماً، لأن بئس من أفعال الذم " أتسبين رجلاً شهد بدراً!! " استفهام تعجبي إنكاري أي كيف تسبين رجلاً من أهل بدر، وهم الذين أثنى عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووصفهم بالفضل والعاقبة الحميدة. " فقالت: يا هنتاه " أي يا هذه " ألم تسمعي ما قالوا: " من التهمة لك، ثم أخبرتها عما دار حولها من حديث الإفك قالت: " فأخبرتني بقول أهل الإفك "
__________
(1) قال القسطلاني: أي هي متبرزنا، أي موضع قضاء الحاجة.(4/35)
أبَوَيَّ، قَالَتْ وَأنَا حِينَئِذٍ أرِيدُ أنْ أسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، فَأذِنَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، َ فَأتَيْتُ أبوَيَّ فَقُلْتُ لأُمِّي: مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ؟ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي على نَفْسِكِ الشَّأنَ، فَوَاللهِ لقَلَّمَا بهَانَتْ امْرَأة قَط وَضيئَةٌ عِنْدَ رَجُل يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إلَّا أكْثَرْنَ عَلَيْهَا، فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ وَلَقَدْ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهَذَا، قَالَتْ: فَبِتُّ تِلْكَ اللَّيْلَة حَتَّى أصبَحْتُ لا يَرْقَأ لِي دَمْعٌ ولا أكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ أصْبَحْتُ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي بما تكلموا به في عرضي. قالت عائشة: " فازددت مرضاً على مرضي " عندما علمت بما قذف الناس في عرضي، " فلما رجعت إلى بيتي دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلم، فقال: كيف تيكم " أي كيف حال تلك يشير إلى عائشة، فسأل عنها بلهجة جافة فاترة، تختلف عن لهجته التي كان يتحدث بها سابقاً مع زوجته الحبيبة " فقلت ائذن لي إلى أبوي، قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر " أي وإنما ذهبت إلى بيت أبي لأتعرّف من أبوي على حقيقة ما دار حولي من حديث الإِفك " فقلت لأمي: ما يتحدث الناس به؟ فقالت: يا بنية هوّني على نفسك الشأن " أي فأرادت أمها " أم رُومَان " تسليتها والتخفيف عنها، فقالت لها: لا تهتمي بالإِشاعة كل هذا الاهتمام، ولا تحزني كل هذا الحزن، وخففي عن نفسك من همومها وأحزانها، فلست أوّل امرأة حسناء قيل عنها ما قيل، بل قلما كانت امرأة جميلة محبوبة عند زوجها لها ضرائر يغرن منها إلاّ تحدثن عنها بما تكره، وهو معنى قولها " لقلما كانت امرأة قط وضيئة " أي جميلة لا عند رجل يحبها، ولها ضرائر إلاّ أكثرن عليها " أي إلاّ أكثرن عليها الأحاديث بما يسيء إليها " فقلت: سبحان الله " تعجباً مما سمعت " قالت: فبت تلك الليلة لا يرقأ لي دمع " أي فبت تلك الليلة كلها أبكي لا يكف لي دمع وقضيتها كلها ساهرة، لا أذوق طعم النوم(4/36)
عَلِيَّ بْنَ أبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهمَا حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْي يَسْتَشِيرهمَا في فِرَاقِ أهْلِهِ، فَأمَّا أسَامَة فَأشَارَ عَلَيْهِ بالَّذِي يَعْلَم في نَفْسِهِ مِنَ الْودِّ لَهمْ، فَقَالَ أسَامَة: أَهلُكَ يَا رَسولَ اللهِ ولا نَعْلَم وَاللهِ إِلَّا خَيْراً، وأمَّا عَلِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ يُضَيِّقِ الله "عَلَيْكَ، وَالنِّسَاء سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَسَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ، فَدَعَا رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَرِيرَةَ فَقَالَ: يَا بَرِيرَة هَلْ رَأيْتِ فِيهَا شَيْئاً يرِيبُكِ؟ فَقَالَتْ بَرِيرَة: لا وَالَّذِي بَعَثَكَ بالْحَقِّ إِنْ رَأيْت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من شدة ما أقاسيه من الهموم والأحزان، وكنت في حالة نفسية سيئة جداً لهول تلك الصدمة العنيفة التي فاجأتني. وفي رواية أخرى عن أم رومان، أن عائشة قالت لها: سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: نعم، وأبو بكر؟ قالت: نعم، فخرت مغشياً عليها، فما أفاقت إلاّ وعليها نافض أي مصحوبة برجفة ورعشة بدنية، وهو ما يسمى " النفاضة " " فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أيى طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي " أي عندما تأخر الوحي " يستشيرهما في فراق أهله " أي في طلاق عائشة " فأما أسامة فأشار عليه بالذي يعلم في نفسه من الود لهم " أي أما أسامة فتحدث عنهم بما يشعر به نفسياً من المودة لهم " فقال أهلك " أي فقال له: احفظ أهلك " ولا نعلم إلاّ خيراً " أي ولا نعلم عن سيرتها وسلوكها إلاّ الخير والصلاح، وأما علي فقال: يا رسول الله " لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير " وفي رواية قال له مسلياً له، مخففاً من همومه وأحزانه، قد أحل الله لك غيرها وأطاب، طلقها فانكح غيرها، قال ذلك لما رأى ما عنده - صلى الله عليه وسلم - من الغم والقلق " فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة فقال: " يا بريرة هل رأيت فيها شيئاً يريبك؟ " أي هل رأيت في سلوكها وتصرفاتها ما يبعث على الشك والريبة فيها؟ " فقالت: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت فيها أمراً أغمصه عليها "(4/37)
مِنْهَا أَمْرَاً أغمِصُهُ عَلَيْهَا أكْثَرَ مِنْ أنَّهُّا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنِ الْعَجِين فَتَأتِي الدَّاجِنُ فَتَأكُلَهُ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ يَوْمِهِ، فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلْولَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُل بَلَغَنِي أذَاهُ في أهْلِي، فوَاللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أهْلِي إِلَّا خَيْراً، وَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً ما عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْراً، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أهْلِي إِلَّا مَعِي، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مَعَاذٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أنَا وَاللهِ أعْذِرُكَ مِنْهُ إِنْ كَانَ مِنَ الأوْس ضَرَبْنَا عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا فِيهِ أمْرَكَ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُو سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلاً صَالِحاً، وَلكنِ احْتَمَلَتْهُ الحَمِيَّةُ فَقَالَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللهِ والله لا تَقْتُلُهُ وَلا تَقْدِرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي ما رأيت منها شيئاً يعيبها " أكثر من أنها جارية حديثة السن " أي فتاة صغيرة السن تغفل عن بعض الأمور " تنام عن العجين، تأتي الداجن فتأكله " أي فتأتي الشاة فتأكله " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي " أي من ينصرني عليه " وقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلاّ خيراً " أي وقد اتهموا أهلي برجل صالح، حسن السيرة والسمعة بين الناس " فقام سعد فقال: يا رسول الله أنا والله أعذرك منه " أي آخذ لك الحق منه " إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك " أي فنفذنا فيه أمرك، وعاقبناه بالعقوبة التي تريدها، " فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً " غير متهم في عقيدته " ولكن احتملته الحمية " أي غلبت عليه الأنفة والعصبية لقبيلته فعارض سعد بن معاذ " فقال: كذبت لَعَمْرُ الله والله لا تقتله، ولا تقدر على ذلك " لأنه رأى أنه ليس من حق سعد بن معاذ أن يتدخل في أمر يتعلق(4/38)
عَلى ذَلِكَ: فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ: كَذَبتَ لَعَمْرُ الله، وَاللهِ لَنَقْتُلَنَّهُ فَإِنَّكَ مُنَافِق تُجادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، فَثَارَ الْحَيَّانِ الأوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَلَ فَخَفَّضَهُمْ حَتَّى سَكَتُوا، وَسكَتَ وَبَكَيْتُ يَوْمِي لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ ولا أكْتَحِلُ بِنَوْم، فأصْبَحَ عِنْدِي أبوَايَ قَدْ بَكَيْتُ لَيلَتَيْنِ ويَوْماً حَتَّى أظُنُّ أنَّْ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبدِي، قَالَتْ: فَبَيْنَما هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وأنا أبْكِي، إذ استأذَنَتِ امْرأةَ بن الأنْصَارِ فأذنتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَكَ إِذ دَخَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَجَلَس وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مِنْ يَوْمِ قِيلَ فِيَّ مَا قِيلَ قَبْلَهَا، وَقَدْ مَكَثَ شَهْراً لا يُوِحَى إلَيْهِ في شَأنِي شَيءٌ، قَالَتْ: فتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ فَإنهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَان كُنْتِ بَرِيْئَةً فسَيُبَرِّئُكِ اللهُ، وإنْ كُنْتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالخزرج، وأن ذلك من اختصاصه هو، أو أن معنى لا تقتله لا تجد إلى قتله سبيلاً لمبادرتنا إلى قتله قبلك كما أفاده في " بهجة النفوس " " فقام أسيد ابن حضير فقال: كذبت لعمر الله لنقتلنه " أي تأكد وتحقق أنه لو أمرنا رسول الله بقتله قتلناه ولا نبالي ما يكون " فإنك منافق تجادل عن المنافقين " ولم يقصد بذلك وصفه بالنفاق حقيقة، وإنما قال ذلك للمبالغة في زجره، ثم إن هذا السباب لا يقام له وزن، لأنه صدر في حالة غضب، والغضب من الشيطان " فثار الحيان حتى هموا " بالقتال " فخفضهم " أي فهدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - من غضبهم وثائرتهم " وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم " وقد تقدم شرحه " حتى أظن أن البكاء فالق كبدي " أي حتى غلب على ظني أن البكاء يشق كبدي " فبيما نحن كذلك إذ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس " أي جلس عندي " ثم قال: يا عائشة لقد بلغني عنك كذا وكذا "(4/39)
ألْمَمْتِ بِذَنْبٍ فاسْتَغْفِرِي اللهَ وتُوبِي إِلَيْه، فإِنَّ الْعَبْدَ إِذا اعْترفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطرةً، وَقُلْتُ لِأبِي: أجب عَنِّي رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: وَاللهِ ما أدْرِي ما أقُولُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ: لأمي أجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا قَالَ، قَالَتْ: واللهِ ما أدْرِي ما أقُولُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَتْ: وأنَا جَارِيَة حَدِيثَةُ السِنِّ لا أقْرَأ كَثِيراً مِنَ القُرآنِ، فَقُلْتُ: إِني وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أنَّكُمْ سَمِعْتُمْ ما يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ، وَوَقَر في أنْفُسِكُمْ، وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِني بَريئَة وَاللهُ يَعْلَمُ إِنِّي لَبَرِيئَة لَا تُصَدِّقُونِي بذَلِكَ، وَلَئِنْ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بَأمْر، واللهُ يَعْلَمُ أني بَرِيئَة لتصَدِّقُنِّي، واللهِ مَا أجَدُ لِي وَلَكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي لقد أشاع عنك بعض الناس أنك فعلت كذا وكذا مع صفوان بن المعطل " وإن كنت ألممت " أي وإن كنت فعلت ذنباً، واقترفت خطيئة حقاً " فاستغفري الله وتوبي " أي فاعترفي بالذنب واستغفري الله وتوبي إليه " فإن العبد إذا اعترف بذنبه فتاب تاب الله عليه " لأنّ التوبة توجب المغفرة، ويتوب الله على من تاب. " فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته قلص دمعي " أي فلما انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حديثه هذا جف دمعي لهول ما سمعت، وعند ذلك التفت إلى أبويّ استنجد بهم في الدفاع عني " قلت لأبي أجب عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: والله ما أدرى ما أقول " لأن الصدمة النفسية كانت قاسية عنيفة غلبت عليه وعلى تفكيره، وأعجزت لسانه عن الإجابة، فهو في موقف يحار فيه أعظم الرجال ماذا يقول، وبماذا يجيب، إذا نظر هنا وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومقامه فوق كل مقام، وإذا نظر هناك وجد عائشة ابنته الكريمة الشريفة الطاهرة المطهرة تتعرض لهذه التهمة الشنيعة، أمران يحق(4/40)
مَثَلاً إِلَّا أبَا يُوسُفَ إِذْ قَالَ (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) ثُمَّ تَحَوَّلْتُ عَلَى فِرَاشِي، وَأنا أرجُو أن يُبَرِّئَنِي اللهُ، وَلَكِنْ واللهِ مَا ظَنَنْتُ أنْ يُنْزِلَ في شَأنِي وَحْياً، ولأنَا أحْقَرُ في نَفْسِي مِنْ أنْ يَتَكَلَّمَ بالْقُرْآنِ في أمْرِي، وَلَكِنِّي كُنْتُ أرْجُو أنْ يَرَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في النَّوْمِ رُؤيَا تُبَرِّئُنِي، فَوالله مَا رَامَ مَجْلِسَهُ وَلَا خَرَجَ أحَدٌ مِنْ أهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
للمرء أن يقول أمامهما لا أدري ما أقول " قالت: وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن " أي لا أحفظ الكثير منه، ولكنني أفقه معانيه، فقارنت بين حالي وحال يعقوب، فقلت " والله: لقد علمت أنكم سمعتم ما يتحدث به الناس، ووقر في أنفسكم " أي واستقر حديث الناس في نفوسكم وأثر في قلوبكم " ولئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني بذلك "، لأنكم تظنون أني كذبت عليكم خشية العار " والله ما أجد في ولكم مثلاً إلاّ أبا يوسف إذ قال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) " أي لا يسعني في هذا الموقف إلاّ الصبر والتسليم لأمر الله وانتظار الفرج والبراءة منه عز وجل، فهو الذي يبرئني وحده دون غيره، وهو الذي يدافع عني دون سواه " ثم تحولت إلى فراشي وأنا أرجو أن ييرئني الله، ولكن والله ما ظننت أن ينزل في شأني وحياً، ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم بالقرآن في أمري، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا تبرئني " أي ما كنت آمل أن ينعم الله علي بمثل ما أنعم، وأن يكرمني بمثل هذا التكريم، فينزل الوحي الصريح، والآيات القرآنية التي تتلى على مر العصور في تبرئتي، لأني في نظري أقل شأناً من ذلك، ولكن من تواضع لله رفعه كُلُّ ما كنت آمله وأتوقعه أن يبرئني الله تعالى من هذه التهمة الباطلة برؤيا مناميّة تثبت براءتي فوقع ما هو أعظم من ذلك "فوالله(4/41)
أُنْزِلَ عَلَيْهِ الوَحْىَ فَأخَذَهُ مَا كَانَ يَأخُذُهُ مِنَ البُرحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ في يَوْم شَاتٍ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أنْ قَالَ لِي: يا عَائِشَةُ احْمَدِي اللهَ فَقَدْ بَرَّأكِ الله"، فَقَالَتْ لِي أمِّي: قُومِي إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ: لَا وَاللهِ لَا أقومُ إِلَيْهِ، ولا أحْمَدُ إِلَّا اللهَ، فَأنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) الآيَاتِ، فلمَّا أنزلَ اللهُ عزَّ وَجَلَّ هَذَا في بَرَاءَتِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ما رام مجلسه" أي ما فارق النبي - صلى الله عليه وسلم - مجلسه " حتى أُنزِلَ عيه الوحي فأخذه ما كان يأخذه " أي فأصابه ما كان يصيبه أثناء نزول الوحي " من البرحاء " أي من ارتفاع الحرارة وشدة العرق " حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان " أي حتى صار العرق يتساقط منه كما تتساقط اللآلىء المتناثرة " في يوم شات " أي حال كونه - صلى الله عليه وسلم - قد حدث له ذلك في يوم شتوي شديد البرودة " فلما سرّي عن رسول الله " بضم السين وكسر الراء المشددة أي فلما انكشف عنه الوحي " وهو يضحك " أي حال كونه ضاحكاً متهلل الأسارير، مشرق الوجه من شدة السرور والفرح ببراءة زوجته الحبيبة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها " فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي قومي إليه واشكريه على بشراه لك بهذه البراءة "، " فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلاّ الله " لأنه هو الذي برأني مما نسب إليَّ بقرآن يتلى إلى يوم القيامة، أما أنتم فقد شككتم في أمري " فأنزل الله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) الآيات " إلى آخر قوله تعالى: (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) فأثبت الله تعالى بالوحي الصريح براءة عائشة حيث قال: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) وسمى الله تلك التهمة الشنيعة " إفكاً " فقال: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ(4/42)
قَالَ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وكانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أثَاثَةَ لِقَرَابتهِ مِنْهُ: وَاللهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطحٍ شَيْئَاً أبَدأً بَعْدَ مَا قَالَ لِعَائِشَةَ، فَأَنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى -إلى قَوْلِهِ- وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فَقَالَْ أبو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: بَلَى وَاللهِ إِنِّي لأحِبُّ أنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي، فَرَجَعَ إلى مِسْطِحٍ الَّذِي كانَ يُجْرِي عَلَيْهِ، وكانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسأل زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْش عَنْ أمرِي، فَقَالَ: يَا زَيْنَبُ مَا عَلِمْتِ مَا رَأيتِ، فَقالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أحْمِى سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلَّا خَيْراً، قَالَتْ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِيني فَعَصَمَهَا اللهُ بالْوَرَعِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْكُمْ) إعلاناً عن كذبهم وافترائهم فيها، ثم هددهم بالعقوبة عليها في الدنيا والآخرة، حيث قال: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ) " قال أبو بكر الصديق وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه " وذلك أن أم مسطح سلمى كانت بنت خالة أبي بكر الصديق، فغضب وقال: " والله لا أنفق على مسطح شيئاً " بعد ما فعل الذي فعل " فأنزل الله تعالى (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) " أي لا يحلف أصحاب المال والغنى " أن يؤتوا أولي القربى " أي لا يحلفوا على أن لا يعطوا أقاربهم من أموالهم، لأنهم أساؤوا إليهم، قال تعالى: " (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) " يعني ألا تحبون أن يغفر الله لكم ذنوبكم مقابل عفوكم عنهم " فقال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه " أي فأعاد إلى مسطح ما كان يعطيه، وكفّر عن يمينه. " فقال: يا زينب ما علمت وما رأيت " أي ما الذي تعلمينه عن عائشة وما هي مرئياتك عنها فيما يتعلق(4/43)
بسلوكها " فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري " أي أصون سمعي من أن أقول سمعت ولم أسمع أو بصرى عن أن أقول رأيت ولم أر " فعصمها الله بالورع " أي فمنعها الورع من الوقوع فيما وقع فيه غيرها، وهو خُلقٌ في النفس يمنع صاحبه من الوقوع في المحرمات والشبهات. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وأحمد.
ما يستفاد من الحديث: ويستفاد منه فوائد كثيرة نعجز عن استقصائها ونكتفي ببعضها. أولاً: صحة القرعة بين النساء في السفر وغيره، وبه استدل مالك وغيره في العمل بالقرعة في القسم بين الزوجات في السفر وغيره والعتق والوصايا والقسمة ونحو ذلك، وهو مذهب الشافعي وأحمد وجماهير العلماء. وحكي عن أبي حنيفة إبطالها، وحكي عنه إجازتها، قال العيني (1) : وليس المشهور عن أبي حنيفة إبطال القرعة وأبو حنيفة لم يقل ذلك وإنما قال القياس يأباها، لأنه تعليق الاستحقاق بخروج القرعة، وذلك قمار، ولكن تركنا القياس للآثار، وللتعامل الظاهر من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا من غير نكير. ثانياً: جواز الغزو بالنساء، وخدمة الرجال لهن في الأسفار، لقول عائشة فأقبل الذين يُرَحلون لي فاحتملو هودجي. ثالثاً: فضيلة الاقتصاد في الأكل، وعدم الإِسراف فيه صحياً ودينياً، لقول عائشة رضي الله عنها في وصف نساء الصحابة رضوان الله عليهن في العهد النبوي: " وإنما يأكلن العلقة من الطعام ".
رابعاً: أنه يستحب أن يُسَرَّ عَنِ الإِنسان (2) ما يقال فيه إذا لم يكن في ذكره فائدة كما كتموا عن عائشة ما يدور حولها من إشاعات كاذبة شهراً، ولم تسمعه بعد ذلك إلا بعارض عرض. خامساً: أن المرأة مهما كانت الأسباب لا تذهب إلى بيت أبويها إلاّ بإذن زوجها لأن عائشة رضي الله عنها قالت:
__________
(1) " شرح العيني " ج 13.
(2) " شرح العيني " ج 13.(4/44)
" فقلت ائذن لي إلى أبوي " فاستأذنته وهي في أسوأ الأحوال بدنياً ونفسياً، وهكذا يجب أن تكون المرأة الصالحة لأن سيرة هؤلاء الأبرار إنما ندرسها لنتأسى بها في حياتنا ونطبقها عملاً في سلوكنا، لا نستعرضها كما تستعرض التحف القديمة الثمينة، حتى إذا ما تحدث أحدٌ عن تطبيقها، قالوا: ذلك عصر وهذا عصر، أين نساؤنا من نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأين نحن منه، كلمة حق أريد بها باطل. نعم أين نحن منه في عصمته ومكانته عند ربه، أما في الواجبات والفرائض فإننا يجب علينا أن نتبعه فيها، لأنها يستوي فيها المسلمون جميعاً، لا فرق بين طبقة وطبقة، وكذلك نساؤنا يجب عليهن أن يتبعن أمهات المؤمنين في الواجبات التي لا بد منها، كالحجاب واستئذان الزوج في خروجهن، وطاعة أمره، والمحافظة على ماله وعرضه، هذه كلها واجبات لا يجوز لمسلم أو مسلمة إذا أمر باتباع سيرة المصطفى أو الصحابة أو الأسرة النبوية الكريمة أن يقول: أين نحن من أولئك حتى تطالبنا باتباعهم فالواجب واجب، والحق حق، والفرض فرض في كل قرن وعصر. نعم فيما يتعلق بالفضائل والمستحبات والمندوبات الأمر فيها واسع بعض الشيء، أما الواجبات، أو المحرمات فلا نقاش فيها " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم " هذا هو أساس التشريع الإِسلامي في كل عصر ومصر. سادساً: لُبابُ هذا الحديث وجوهره والعنصر الأساسي فيه هو بيان فضل السيدة عائشة وتبرئتها القاطعة من التهمة الباطلة التي نسبت إليها بوحي صريح منزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقرآن يتلى على مر العصور والأزمان يقطع ألسنة المرجفين، ويقضي على إشاعات المغرضين والملحدين، وأدلة براءتها من حديث الباب والآيات المنزلة في شأنها كثيرة، وأهمها ثلاثة الأول: التبرئة الصريحة الحاسمة في قوله تعالى: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) قال البغوي يعنى عائشة وصفوان ذكرهما بلفظ الجمع (1) . الثاني: شهادة القرآن لعائشة
__________
(1) " تفسير البغوي " سورة النور.(4/45)
بأنها الطاهرة المطهرة حيث قال فيها (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ) قال ابن كثير أي ما كان (1) الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلاّ وهي طيبة، لأنه أطيب من كل طيّب من البشر، ولو كانت خبيثة لما صلحت له لا شرعاً ولا قدراً. الثالث: أن الله سمي هذه التهمة الباطلة إفكاً حيث قال: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) والإفك أبلغ الكذب (2) ، وأشنع الافتراء والبهتان الذي لا تشعر به حتى يفجأك. وقد افتخرت عائشة رضي الله عنها بهذه الفضائل التي ميزها الله بها، وأنعم بها عليها، قال البغوى: روي (3) أن عائشة كانت تفتخر بأشياء أعطتها لم تعط امرأة مثلها، وهي أن جبريل أتى بصورتها في قطعة من حرير، وقال: هذه زوجتك، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوج بكراً غيرها، وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأسه في حجرها، ودُفِن في بيتها وكان ينزل عليه الوحي وهو معها في لحافه، ونزلت براءتها من السماء، وأنها ابنة خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدِّيقه، وخلفت طيبة ووعدت مغفرة ورزقاً كريماً. سابعاً: ما ترجم له البخاري من جواز تعديل النساء للنساء، وتزكية بعضهن لبعض، لأنّه - صلى الله عليه وسلم - سأل بريرة وزينت عن عائشة فزكتاها، وتحدثتا عن صلاحها وكمال دينها، حيث قالت: زينب والله ما علمت عنها إلّا خيراً. وقالت بريرة: إن رأيت منها أمراً أغمضه عليها، أي ما رأيت منها أمر قبيحاً أعيبها عليه من أجله، وفي رواية أن بريرة لما سئلت عن عائشة قالت: سبحان الله، ما علمت عليها إلا كما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر (4) وإلى ذلك ذهب أبو حنيفة حيث قال: بجواز تعديل النساء بعضهن (5) بعضاً، وقبول تزكية المرأة للمرأة إذا شهد امرأتان ورجل في
__________
(1) " مختصر تفسير ابن كثير " للصابوني ج 2.
(2) " تفسير أبي السعود " ج 6.
(3) " تفسير البغوي " سورة النور.
(4) " تفسير البغوي " سورة النور.
(5) " شرح العيني " ج 13.(4/46)
724 - " بَاب إِذَا زَكَّى رَجُلٌ رَجُلاً كَفَاهُ "
824 - عن أبي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
أثْنَى رَجُل عَلى رَجُلٍ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنَقَ صَاحِبِكَ " مِرَاراً، ثُمَّ قَالَ: " مَنْ كان مِنْكُمْ مَادِحاً أخَاهُ لَا مَحَالَةَ " فَلْيَقُلْ أحْسِبُ فُلاناً واللهُ حَسِيبَهُ، ولا أُزَكِّي عَلى اللهِ أحَداً، أحسِبُهُ كَذَا وَكَذا إنْ كان يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قضية، وهو مذهب البخاري، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل بريرة عن حال عائشة ولما أجابت ببراءتها اعتمد النبي - صلى الله عليه وسلم - قولها، فخطب واستعذر من ابن أُبيّ.
وقال مالك والشافعي ومحمد (1) بن الحسن: لا تقبل تزكية المرأة للمرأة، وأجاب القاضي عياض عن حديث الباب بأن قضية عائشة ليست من باب الشهادات، وإنما هي من باب التحقيق الشرعي لإظهار براءة المتهم أو إدانته (2) والله أعلم. ثامناً: قال ابن بطال: من سَب عائشة رضي الله عنها بما برأها الله تعالى منه يقتل لتكذيبه بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. مطابقة الحديث للترجمه: في كونه - صلى الله عليه وسلم - سأل زينب وبريرة عن عائشة فعدلتاها، وزكتاها، فدل ذلك على مشروعية تعديل النساء بعضهن لبعض كما ترجم له - البخاري.
724 - " باب إذا زكى رجل رجلاً كفاه "
أي تكفي في تزكية الشاهد المزكي الواحد والمسألة فيها خلاف قوله رضي الله عنه: " أثنى رجل على رجل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ويلك قطعت عنق صاحبك " إلخ.
__________
(1) " شرح القسطلاني على البخاري " ج 4.
(2) " شرح العيني " ج 13 هـ.(4/47)
معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع رجلاً يثني على رجل آخر ويطريه، ويبالغ في مدحه ويصفه بما ليس فيه، فحذره من ذلك " فقال: ويلك قطعت عنق صاحبك " أي أهلكته وأضررت به، حيث وصفته بما ليس فيه، فربما جره ذلك إلى العجب والغرور والشعور بالكمال، فلا يزداد من الفضائل، فيصبح كالمقطوع الرأس المتوقف عن الحركة، أو كالمشلول العاجز عن العمل.
" ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: من كان منكم مادحاً أخاه لا محالة " أي إذا كان لا بد من مدحه لأن المقام يقتضي الثناء عليه اقتضاًء شرعياً كتزكية الشاهد مثلاً " فليقل: أحسب فلاناً والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً، أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه "، أي إن كان لا بد من الثناء عليه لمصلحة مشروعة فليقتصر على وصفه بما يعلم فيه من خصال الخير الموجودة، ويقول أثناء وصفه له: أحسبه رجلاً عدلاً، أو صالحاً، أو كريماً مثلاً، أو شجاعاً، أو ماهراً في صنعته إن كان يعلم أن هذه الصفة موجودة فيه، لا أن يثني عليه جزافاً، ثم يقول: " والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً " أي ولا أقطع لأحد بشيء في المستقبل ولا أقطع له بشيء في ضميره، لأنه لا يعلم الغيب إلاّ الله، وإنما أظن أنه على هذه الصفة: والله أعلم به. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود وأحمد وابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية تزكية المسلم بما يعلم فيه عند الشهادة أو غيرها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فليقل أحسبه كذا أو كذا إن كان يعلم ذلك منه " أي يصفه بما يعلم عنه دون إسراف في الثناء أو مبالغة فيه. ثانياًً: استدل أبو حنيفة بهذا الحديث على جواز الاكتفاء في التزكية برجل واحدٍ وهو مذهب البخاري كما تدل عليه الترجمة، وبه قال أبو يوسف، وقال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن: لا بد في التزكية من اثنين. والمطابقة: في كون الحديث يدل على الترجمة حسب مفهوم البخاري.(4/48)
725 - " بَاب إِذَا تسَارَعَ قَوْمٌ في اليَمِينَ "
825 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عَرَضَ على قَوْم الْيَمِينَ فأسْرَعُوا، فَأمرَ أن يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ في اليَمِينِ أيُّهُمْ يَحْلِفُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
725 - " باب إذا تسارع قوم في اليمين "
825 - قوله " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض على قوم اليمين " الخ.
معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أفاده الحافظ تخاصم إليه اثنان تنازعا عيناً ليست في يد واحدٍ منهما، ولا بينة لواحد منهما، وكانت تلك العين في يد شخص ثالث غيرهما، فعرض عليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - اليمين، فتسارعا إليه، وبادر كل منهما لأدائه، قال: " فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف " أي فأجرى - صلى الله عليه وسلم - بينهما قرعة، فأيهم خرج سهمه وجه إليه اليمين.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه إذا تداعى رجلان متاعاً في يد ثالث، ولم يكن لهما بينة، أو لكل منهما بينة، وقال الثالث: لا أعلم إن كان هذا المتاع لهذا أو ذاك، فالحكم أن يقرع بين المتداعيين، فأيهما خرجت له القرعة يحلف ويعطى له، وهو قول علي رضي الله عنه، وقال الشافعي: يترك في يد الثالث، وقال أبو حنيفة: يجعل بين المتداعيين، وقال أحمد والشافعي في قول: يقرع بينهما في اليمين كقول على. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله " فأمر أن يسهم بينهم ".
***(4/49)
726 - " بَاب كَيْفَ يسْتَحْلَفُ "
826 - عن ابْنِ عمَرَ رَضِيَ الله "عَنْهمَا:
أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ كَانَ حَالِفَاً فَلْيَحْلِفْ باللهِ أوْ لِيَصْمتْ "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
726 - " باب كيف يستحلف "
أي إذا وجهت اليمين إلى أحد الخصمين فبأي شيء يحلف.
826 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت " إلخ.
معنى الحديث: هذا الحديث رُوِيَ في هذه الرواية مختصراً من حديث آخر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ركب، أي في جماعة راكبين على الإبل أكثر من عشرة " وعمر يحلف بأبيه " فناداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت " بضم الميم، ومعناه من احتاج إلى القَسَم لتأكيد خبر من الأخبار، أو للوصول إلى حقه، أو للدفاع عن نفسه أمام الحاكم الشرعي، فليقسم بالله تعالى، أو بأحد أسمائه وصفاته "، كما كان - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا، ومقلب القلوب " وإلا فليسكت ولا يقسم بشيء من مخلوقات الله أبداً، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك صريحاً، الحديث: أخرجه الشيخان.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه لا يجوز الحلف بغير الله تعالى، وهو ما أجمع عليه أهل العلم، كما أفاده ابن عبد البرّ، وقال الصنعاني: لا يخفى أن الأحاديث واضحة في التحريم لما سمعت، ولما أخرجه أبو داود، والحاكم واللفظ له من حديث ابن عمر أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف بغير الله كفر " ثانياًً: أن اليمين التي يستحلف بها هي اليمين بالله تعالى، وهي التي توجّه إلى المدعى عليه. والمطابقة: في قوله: " فليحلف بالله ".(4/50)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتابُ الصُّلْحِ "
727 - " بَاب لَيْسَ الْكَاذِبُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ الناس "
827 - عَنْ أمِّ كُلْثُوم بنْتِ عُقْبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لَيْس الكَذابُ الذي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاس فَيَنْمِي خَيراً، أوْ يَقُولَ خَيْراً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" كتاب الصلح "
والصلح لغة: حسم الخصام بين المتخاصمين، بإنهاء الخلاف بينهم بالوسائل السلمية. وشرعاً: عقد ينهي الخصومة بين المتخاصمين، ويسمى كل منهما مصالحاً، والحق المتنازع عليه مصالحاً عنه، وما يؤديه أحدهما لخصمه بدل الصلح. وهو نوعان: (أ) عام: ويشمل كل اتفاقية بين طرفين متنازعين تؤدي إلى إنهاء النزاع بينهما، سواء كانا زوجين أو متداعيين، فرداً أو جماعة (ب) خاص: وهو الصلح بين المتداعيين أمام الحاكم الشرعي.
وخلاصة القول ما ذكره ابن رشد حيث قال: " واتفق المسلمون على جواز الصلح على الإِقرار، واختلفوا في جوازه على الإنكار، فقال مالك وأبو حنيفة: يجوز، وقال الشافعي: لا يجوز، لأنه منَ أكل أموال الناس بالباطل.
727 - " باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس "
827 - راوية الحديث: هي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط الأموية، أخت عثمان بن عفان لأمه رضي الله عنهما، أسلمت قديماً، وهاجرت إلى المدينة عام الحديبية، فجاء أخواها يطلبانها من النبي - صلى الله عليه وسلم - فأبى أن يردها إليهما، روت حديثين، أحدهما هذا الحديث.
معنى الحديث: أن الذي يكذب ويخبر بخلاف الواقع ليصلح بين شخصين(4/51)
728 - " بَابُ قَوْلِ الإمَامِ لأصْحَابِهِ: اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِح "
828 - عن سَهْل بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ أهلَ قُبَاءَ اقْتَتَلُوا حتَّى تَرَامَوْا بالحِجَارَةِ، فأخْبِرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بِذلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
متنازعين ليس هو الكذاب المذموم شرعاً ما دام يريد أن يصلح بين رجلين من المسلمين، ويزيل ما في قلبيهما من العداوة والبغضاء والكراهية " فينمي (1) خيراً " أي فينقل كلام الخير، ويروي لأحدهما أن صاحبه أثنى عليه ومدحه، وذكره بالأوصاف الجميلة، وهو كاذب في قوله ليقارب بين قلبين متباعدين، ويزيل ما فيهما من نفور ووحشة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: الترغيب في الاصلاح بين الناس، وإزالة الخصومات فيما بينهم، سواء كانت في القضايا المالية، أو في الأحوال الشخصية، أو بين أعضاء الأسرة فإنه مندوب إليه شرعاً.
ثانياً: جواز الكذب للإصلاح بين المتخاصمين بأن ينقل بينهم من كلام الخير ما لم يقولوه ليلين قلوبهم، كما في هذا الحديث، وفي رواية أخرى عن أم كلثوم رضي الله عنها أنها قالت: " لم أسمعه - صلى الله عليه وسلم - يرخص في شيء مما يقول الناس أنه كذب إلا في ثلاث، وهي الحرب، وحديث الرجل لامرأته، والإصلاح بين الناس " أخرجه مسلم والنسائي، وقال آخرون: لا يجوز الكذب مطلقاً، وحملوا الكذب هنا على التورية والتعريض، كمن يقول للظالم: دعوت لك أمس، وهو يريد اللهم اغفر للمسلمين. الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة. والمطابقة: في قوله " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ".
728 - " باب قول الإِمام: اذهبوا بنا نصلح "
828 - معنى الحديث: يحدثنَا سهل بن سعد رضي الله عنهما "أن
__________
(1) بفتح الياء وسكون النون كما أفاده القسطلاني.(4/52)
فَقَالَ: " اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ (1) بَيْنَهُمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أهل دماء اقتتلوا" أي وقعت بينهم خصومة شديدة أدّت إلى الاشتباك بالأيدي والضرب بالحجارة، حتى ترامت أخبارهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة " فقال: اذهوا بنا نصلح بينهم " أي فخرج إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في جماعة من أصحابه، وروي في سبب ذلك أن امرأة من الأنصار يقال لها " أم زيد " كان بينها وبين زوجها شيء فحبسنها في عُلِّيَّةِ بيته، فبلغ ذلك قومها، فجاءوا وجاء قومه، واقتتلوا بالأيدي والنِّعال، فأنزل الله تعالى (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) . الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي بألفاظ مختلفة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث. على مشروعية خروج الإمام عند حدوث النزاع والخصام، وتفاقم الأمر، للإصلاح بين الطرفين المتنازعين، وهو مصداق قوله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) قال قتادة: نزلت في رجلين من الأنصار، كانت بينهما مدارأة -أي خصومة- في حق بينهما، فقال أحدهما: لآخذن حقي عنوة لكثرة عشيرته، ودعاه الآخر أن يحاكمه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأبى أن يتبعه، فلم يزل الأمر بينهما حتى تواقعا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنِّعال والسيوف (2) ، فنزلت هذه الآية. قال أهل العلم: لا يخلو الأمر إما أن يقع البغي منهما جميعاً فالواجب حينئذ السعي بينهما بما يصلح ذات البين، ويؤدي إلى المكافّة والموادعة، فإن لم يصطلحا قوتلا، وإما أن يقع البغي من إحداهما، فالواجب أن تقاتل فئة البغي حتى تكف وتتوب، فإن التحم القتال بينهما
__________
(1) يجوز فيه الجزم لأنه جواب الأمر، ويجوز الرفع على تقدير نحن نصلح كما أفاده العيني.
(2) " تفسير القرطبي " ج 16.(4/53)
729 - " بَابٌ كَيْف يَكْتُبُ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ فُلانُ بنُ فُلان، وفلانُ بْنُ فلان، وإنْ لَمْ يَنْسُبهُ إلى قبيلَتِهِ أو نسَبِهِ "
829 - عنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
"اعْتَمَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذِي الْقَعْدَة، فأبَى أهْلُ مَكَّةَ أنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ، حتَّى قَاضَاهُمْ علَى أنْ يقيمَ بِهَا ثَلَاَثةَ أيَّامٍ، فَلَمَّا كتبُوا الْكِتَابَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لشبهة دخلت عليهما، وكلتاهما عند نفسها محقة، فالواجب إزالة الشبهة فإن أصرتا على القتال، ولم ترجعا إلى الحق، فهما باغيتان يجب قتالهما (1) . اهـ. كما أفاده القرطبي في " تفسيره ". والمطابقة: في قوله " اذهبوا بنا نصلح بينهم ".
729 - " باب كيف يكتب هذا ما صالح عليه فلانُ بن فلان فلانَ بن فلان "
829 - معنى الحديث: يقول البراء رضي الله عنه: " اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة " أي خرج - صلى الله عليه وسلم - في شهر ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة إلى مكة معتمراً، " فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة " أي فلما وصل - صلى الله عليه وسلم - الحديبية صده كفار قريش. ومنعوه من دخول مكة، وحالوا بينة وبين العمرة في تلك السنة، فعقد معهم النبي - صلى الله عليه وسلم - صلحاً وهدنة لمدة عشر سنوات على شروط معينة، منها أن يعود إلى المدينة ذلك العام دون عمرة على أن يعتمر من العام القابل، وأن يدخلوا مكة وسلاح كل واحد منهم في قرابه، أي في جعبته، وأن لا يقيم بها أكثر من ثلاثة أيام وهو معنى قوله: " حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام " أي: حتى صالحهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يعتمر من العام القابل، ولا يقيم بمكة أكثر من ثلاثة أيام، وأن لا
__________
(1) " تفسير القرطبي " ج 16.(4/54)
كَتَبُوا: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالُوا: لا نُقِرُّ بِهَا، فلوْ نَعْلَمُ أنَّكَ رَسُولُ اللهِ مَا مَنَعْنَاكَ، لَكِنْ أنتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُ اللهِ، فَقَالَ: أُنا رَسُولُ اللهِ، وأُنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبدِ اللهِ، ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ، امْحُ رَسُولُ اللهِ، فَقَالَ: لا واللهِ لا أمْحُوكَ أبَداً، فَأخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْكِتَابَ فَكَتَبَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، لا يَدْخُلُ مَكَّةَ سِلَاحٌ إلا في القِرَابِ، وأنْ لا يَخْرُجَ مِنْ أهلِهَا بأحَدٍ إِنْ أرادَ أن يَتَّبِعَهُ، وأن لا يَمْنَعَ أحَداً مِنْ أصْحَابِهِ أرادَ أنْ يُقِيمَ بِهَا، فلمَّا دَخَلَهَا ومضى الأجَلُ، أتَوْا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يأتيه أحد منهم أثناء الهدنة إلا رده إليهم، وأن لا يمنع أحداً من أصحابه يريد الإِقامة بمكة أن يقيم بها، " قال البراء: فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه " أي هذا هو العهد الذي صالح عليه وعقده " محمد رسول الله، فقالوا: لا نقر بها، فلو نعلم أنك رسول الله ما منعناك " أي لو كنا نعلم ونؤمن برسالتك ما منعناك عن البيت، " ولكن أنت محمد بن عبد الله " أي: ولكن الذي نعرفه عنك أنك محمد بن عبد الله - الذي هو اسمك واسم أبيك المعروف عندنا، " فقال: أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله "، فلا مانع من استبدال هذا بذاك، " ثم قال لعلي: امح رسول الله، فقال: لا والله لا أمحوك " أي لا أمحو عنك صفة الرسالة، فأنت رسول الله حقاً وصدقاً " فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكتاب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله " أي ما صالح عليه " لا يدخل مكة سلاح إلّا في القراب "، أي إلا في جعبته، " وأن لا يخرج من أهلها بأحد أراد أن يتبعه "، وفي رواية وعلى أن لا يأتيك منا رجل هو على دينك إلا رددته إلينا، " وأن لا يمنع أحداً من أصحابه أراد أن يقيم بها " أي بمكة، "فلما(4/55)
عَلِيَّاً، فقالُوا: قُلْ لصاحِبِكَ: اخْرُجْ عنَّا فَقَدْ مَضَى الأجَلُ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَتَبِعَتْهُمْ ابنَةُ حَمْزَةَ: يا عَمِّ يا عَمِّ، فَتَنَاوَلَهَا عليُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فأخَذَ بِيَدِهَا، وقَالَ لِفَاطِمَةَ: دونَكِ ابنةَ عَمِّكِ احمِلِيهَا، فاخْتَصَمَ فيها عَلِيٌّ وزيْدٌ وجَعْفَرُ، فقالَ عَلِى: أنَا أحَقُّ بِهَا وهي ابنةُ عَمِّي، وقال جَعْفَرُ: ابْنَةُ عَمِّي وَخَالتهَا تَحْتِي، وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أخِي، فقَضَى بِهَا النبي - صلى الله عليه وسلم - لخَالَتِهَا، وَقَالَ: " الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأمِّ " وَقَالَ لِعَلِي: أنتَ مِنِّي وَأنَا مِنْكَ، وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: أشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي، وَقَالَ لِزَيْدٍْ: أنْتَ أخونَا وَمَوْلَانا".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دخلها ومضى الأجل أتوا علياً، فقالوا: قل لصاحبك أخرج عنا، فقد مضى الأجل "، أي فلما دخلها - صلى الله عليه وسلم - في عمرة القضاء، وانتهت ثلاثة أيام جاءوا إلى علي بن أبي طالب وطلبوا منه أن يبلغ صاحبه بالرحيل، " فتبعتهم ابنة حمزة " بن عبد المطلب واسمها أمامة تريد أن ترحل معهم، " فتناولها علي بن أبي طالب، فأخذها بيدها وقال لفاطمة: دونك ابنة عمك " أي خذيها، " فاختصم فيها علي وزيد وجعفر " وأراد كل واحد منهم أن يأخذها، فأمّا زيد فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد آخى بينه وبين حمزة، وأما علي فلأنها ابنة عمه، وأما جعفر فهي بنت عمه وزوجته خالتها. قال البراء: " فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالتها، وقال: " الخالة بمنزلة الأم " أي فحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بحضانتها لخالتها أسماء بنت عميس زوجة جعفر رضي الله عنهما، لأن الخالة بمنزلة الأم في المحبة " وقال لعلي أنت مني " في النسب والمحبة والأسبقية إلى الإِسلام إلى غير ذلك من الفضائل " وقال لجعفر: أشبهت خلقي " بفتح الخاء وسكون اللام، وهو الصورة الظاهرة " وخلقي " بضم الخاء واللام، وهو الصورة الباطنة من الأخلاق والفضائل " وقال لزيد أنت أخونا ومولانا " أي أخونا(4/56)
في الإِسلام وعتيقنا، والولاء لحمة كلحمة النسب.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الصلح مع الكفار، وعقد الاتفاقيات والمعاهدات السياسية والعسكرية. معهم لصالح المسلمين، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية حيث صالحهم هذا الصلح الذي كان فتحاً عظيماً للمسلمين على الرغم مما وقع فيه من تنازلات عظيمة ثم إن هذا الصلح كان بأمر إلهي لا مجال فيه للرأي والاجتهاد، فلا يحق لأحد أن يقول كيف فعل كذا. ثانياًً: أن عقد الصلح يكون بصيغة المصالحة الصريحة كقوله: هذا ما صالح فلان بن فلان فلان بن فلان، وهو ما ترجم له البخاري، أو بما يدل على المصالحة كما في نص الحديث. ثالثاً: جواز المصالحة مع المحاربين لمدة محدودة، وهو ما يسمى في التعبير الحديث بالهدنة المؤقتة، قال العيني: واختلفوا في المدة، فقيل لا تتجاوز عشر سنين، وبه قال الشافعي والجمهور.
رابعاً: قال القسطلاني: واستنبط منه أن الخالة مقدمة في الحضانة على العمة، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بها لخالتها مع وجود عمتها صفية بنت عبد المطلب.
هذا وقد اختلف العلماء في الخالة والأخت أيهما أولى بالحضانة، فقال أبو حنيفة: الأخت من الأم أولى من الأخت من الأب ومن الخالة، والخالة أولى من الأخت من الأب، وقال الشافعي وأحمد: الأخت من الأب أولى من الأخت من الأم ومن الخالة، وقال مالك: الخالة أولى من الأخت مطلقاً.
والأخت من الأم أولى من الأخت من الأب (1) . والمطابقة: في قوله " ما قاضي عليه محمد بن عبد الله " الحديث: أخرجه الشيخان.
***
__________
(1) " الإفصاح عن معاني الصحاح " لابن هبيرة الحنبلي ج 2.(4/57)
730 - " بَابٌ هلْ يُشِيرُ الإِمَامُ بالصُّلْحَ "
835 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
" سَمِعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - صوْتَ خُصُوم بِالبَابِ، عَالِيةً أصْوَاتُهُمَا، وَإذَا أحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ، وَيَسْتَرْفِقُهُ في شَيءٍ وهُوَ يَقُولُ: واللهِ لا أفْعَلُ، فخرجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أينَ المُتَألِّي علَى اللهِ لا يَفْعَلُ المَعْرُوفَ؟ فَقَالَ: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ وَلَهُ أيَّ ذَلِكَ أحًّب ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
730 - " باب هل يسير الإِمام بالصلح "
830 - قولها: " سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - صوت خصوم بالباب عالية أصواتهم " إلخ. معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع صوت خصمين يتنازعان في قضية مالية، وقد ارتفعت أصواتهما حتى وصلت إلى مسامع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته، فأصغى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الأصوات، وإذا به يسمع أحد الرجلين " يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء ". أي يطلب منه أن يضع عنه شيئاً من دينه أو يتنَازل " وهو يقول: والله لا أفعل، فخرج عليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أين المتألي على الله أن لا يفعل المعروف؟ " أي أين الحالف بالله على عدم فعل المعروف " فقال: أنا يا رسول الله، فله أي ذلك أحب " أي أنا الذي حلفت، ولكن حيث شفعت فيه فإني أجيبه إلى ما يطلب.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب تدخل الإِمام للإصلاح بين الخصمين، والشفاعة لدى صاحب الحق بالتنازل عن بعض حقه.
الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة.(4/58)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب الشروط "
الشروط جمع شرط، والشرط شرعاً -كما قال العيني- هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، ولم يكن داخلاً فيه، وقيل: ما يلزم من انتفائه انتفاء المشروط، ولا يلزم من وجوده وجود المشروط. وقد قسم الأصوليون الشرط شرعاً إلى ثلاثة أقسام الأول: شرط مكمل لحكمة المشرع، ملائم لها كاشتراط الرهن، والحميل، والنقد في الثمن، وهذا لا خلاف في صحته.
الثاني: شرط غير ملائم لمقصود الشارع، بل هو على الضد من ذلك، كشرط إسقاط النفقة على الزوجة أو عدم الانتفاع بالبيع، وهذا لا خلاف في بطلانه لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: " ابتاعي فأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق، ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما بال أناس يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله عز وجل فليس له وإن اشترط مائة شرط، شرط الله أحق وأوثق " فقد أبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث كل شرط مخالف لأحكام الشريعة، مناقض لمقصود الشارع، فمقصود الشارع مثلاً من البيع الانتفاع بالمبيع، فإذا اشترط البائع عدم الانتفاع فقد ناقض (1) مقصود الشارع، وشرطه فاسد غير نافذ لمناقضته للحكمة التشريعية المقصودة من البيع. ومن أغراض الشارع في النكاح الإِنفاق على الزوجة وكفايتها مؤونة معيشتها، فإذا اشترط الزوج عدم الإِنفاق فقد ناقض غرض الشارع من النكاح، وشرطه باطل، وقس على هذه المسائل غيرها من الشروط. الثالث: الشرط الذي لا يظهر فيه منافاة لمقصود الشارع، ولا ملاءمة له، وهذا ما دام في باب المعاملات فإنه يكتفى فيه بعدم المنافاة، والأصل فيه الجواز حتى يدل الدليل على خلافه.
__________
(1) " أصول الفقه " للخضري.(4/59)
731 - " بَابُ الشُّرُوطِ في الْمَهْرِ عِنْدَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ "
831 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -: " أحَقُّ الشروطِ أنْ تُوُفُوا بِهِ ما اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الفُرُوج ".
732 - " بَابٌ إِذَا اشْتَرَطَ في الْمُزَارَعَةِ إذَا شِئْتُ أخرَجْتُكَ "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
731 - " باب الشروط في المهر عند عقدة النكاح "
831 - معنى الحديث: يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج " أي أولى الشروط بالوفاء شروط النكاح، سواء تعلقت بالمهر، أو بالنفقة وحسن العشرة، أو غير ذلك، ما لم تكن محظورة، أو منافية لعقد النكاح. الحديث: أخرجه الستة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن الشروط التي تشترط في النكاح هي شروط صحيحة واجبة التنفيذ، فما هي هذه الشروط المقصودة والتي تصح شرعاً؟ الشروط ثلاثة أقسام: الأول ما يقتضيه العقد من مقاصد النكاح، كاشتراط المهر، وحسن العشرة، والنفقة، والكسوة، والسكنى، والقَسم، ونحو ذلك، وهذا صحيح يجب الوفاء به اتفاقاً. الثاني: ما يخالف مقتضى العقد، كاشتراط عدم النفقة، أو اشتراطها أن لا يطأها، وهذا الشرط باطل، ويصح العقد عند أكثر أهل العلم، ويبطل عند الشافعي في قول. الثالث: ما لا يقتضيه العقد ولا ينافيه كاشتراطها أن لا يتزوج عليها، فالشرط باطل، والعقد صحيح عند الجمهور، وقال الأوزاعي وأحمد: الشرط صحيح ويجب الوفاء به عملاً بحديث الباب والله أعلم. والمطابقة: كما قال العيني تؤخذ من معنى الحديث.
732 - " باب إذا اشترط في المزارعة إذا شئت أخرجتك "(4/60)
832 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
"لَمَّا فَدَعَ أهْلُ خَيْبَرَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، قَامَ عُمَرُ خَطِيباً فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ علَى أمْوَالِهِمْ، وقَالَ: نُقِرُّكُمْ ما أقَرَّكُمْ اللهُ، وإنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ خَرَجَ إلى مَالِهِ هُنَاكَ، فعُدِيَ عَلَيْه مِنَ اللَّيْلِ فَفُدِعَتْ (1) يَدَاهُ ورِجْلَاهُ، ولَيْسَ لَنَا هُنَاكَ عَدُو غَيرَهُمْ، هُمْ عَدُوُّنَا وتُهْمَتُنَا، وقدْ رَأيْتُ إجْلَاءَهُمْ، فَلَمَّا أجْمَعَ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ أتَاهُ أحَدُ بني أبِي الحُقَيقِ فَقَالَ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ أتُخْرِجُنَا وَقَدْ أقَرَّنَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -، وعَامَلَنَا على الأمْوَالِ، وشَرَطَ ذَلِكَ لَنَا؟ فَقَالَ عُمَرُ: أظَنَنْتَ أنِّي نَسِيتُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: كَيْفَ بِكَ إذَا أخْرِجْتَ مِنْ خَيْبَرَ تَعْدُو بِكَ قَلُوصُكَ لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ، فقَالَ: كَانَتْ هَذِهِ هُزَيْلَةً مِنْ أبِي القَاسِمِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
832 - معنى الحديث: أن يهود خيبر غدروا بابن عمر فدفعوه وأسقطوه من مكان عال، فاعوجت يداه ورجلاه، وانقلبت كفاه وقدماه، فخطب عمر رضي الله عنه وأخبر الناس بما وقع لولده من أشخاص مجهولين في خيبر، وأنه ليس له أعداء سوى اليهود فإن التهمة تتوجه إليهم، " وقد رأيت إجلاءهم " يعني إخراجهم من خيبر، " فلما أجمع عمر على ذلك، أتاه أحد بني أبي الحقيق " وهو رئيسهم، " فقال: تخرجنا وقد أقرنا محمد "، أي اتفق معنا على البقاء في خيبر، وعاهدنا عليه، " وعاملنا على الأموال " أي وتعاقد معنا على العمل في مزارع خيبر على طريقة المزارعة والمساقاة، " فقال عمر: أظننت أني نسيت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك " أي لا تظن أني نسيت إخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) قال في " القاموس " الفدَع " محركة اعوجاج الرسغ من اليد والرجل حتى ينقلب الكف أو القدم.(4/61)
فَقَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللهِ، فأجْلَاهُمْ عُمَرُ، وأعطَاهُمْ قيمَة مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الثَّمَرِ وإبلاً وعُرُوضاً مِنْ أقتَابٍ وحِبَالٍ وغَيْرِ ذَلِكَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إخراجكم من خيبر حيث قال لك: كيف يكون حالك إذا أخرجت أنت وقومك من خيبر " تعدو بك قلوصك " بفتح القاف أي تسرع بك نياقك، " فقال: كانت هذه هزيلة " (بضم الهاء) أي إنما قال ذلك مازحاً لا جاداً، " فقال: كذبت يا عدوَّ الله. فأجلاهم عمر، وأعطاهم ما كان لهم من الثمر مالاً " الخ أي وأعطاهم قيمة الثمار التي لهم دراهم وإبلاً وأمتعة، " من أقتاب وحبال وغير ذلك " والأقتاب هي جمع قتب وهو ما يوضع فوق ظهر الجمل لوقايته عند الحمل عليه. الحديث: أخرجه البخاري.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه إذا اشترط مالك الأرض في عقد المزارعة أو المساقاة أن يخرج العامل عليها متى شاء كان له ذلك، كما ترجم له البخاري، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد اشترط ذلك بقوله كما في حديث الباب " نقركم على ما أقركم الله " وفي رواية أخرى للبخاري أنه قال لهم: " نقركم على ذلك ما شئنا " وثانياً: بهذا الحديث أخذ أهل الظاهر، فقالوا بجواز المساقاة على مدة مجهولة خلافاً للجمهور. قال ابن رشد: وأما الوقت الذي هو الشرط في مدة المساقاة فإن الجمهور على أنه لا يجوز أن يكون مجهولاً، وأجاز طائفة أن يكون إلى مدة غير مؤقتة، منهم أهل الظاهر، وعمدةُ الجمهور ما يدخل في ذلك من الغرر قياساً على الإِجارة، والمطابقة: في قوله " نقركم على ما أقركم الله ".
***(4/62)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب الوصايا "
الوصايا جمع وصية. والوصية لغة: إيصال شيء لِإنسانٍ ما غائباً أو حاضراً، مالاً أو غيره، فيدخل في ذلك. إيصال السلام والنصيحة والعقاب، والأمر والنهي، والمال والطعام، مأخوذة من وصيته وأوصيته إذا أوصلته إليه.
والوصية شرعاً لها معنيان: (أ) معنى عام (ب) ومعنى خاص.
(أ) فأما الوصية بالمعنى العام: فهي كل ما تقدمه لغيرك لكي ينتفع به، سواء كان علماً أو أدباً أو أخلاقاً أو مالاً، قال القاري: وقد (1) تستعمل الوصية بمعنى النصيحة، ومنه قوله تعالى (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) وقال الحافظ في " الفتح ": " وتطلق على ما يقع به الزجر عن المنهيات، والحث على المأمورات (2) . (ب) وأما الوصية بالمعنى الخاص فإنها تأتي لمعنيين: الأول أن يعين الميت قبل موته وصياً على أولاده القاصرين، يشرف عليهم، ويحفظ لهم أموالهم بعد وفاته. الثاني: أن يهب لإنسان ما عيناً أو ديناً أو منفعة يملكها بعد وفاته، وهي ثابتة بالكتاب والسنة، أمَا الكتاب فقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) حيث جعل الوصية مقدمة على قسمة المواريث. وأما السنة: فإن أول حديث يأتينا يحثُّ على الوصية. ويدخل في النوع الثاني من الوصية ما يهبه الإِنسان بعد وفاته من المال لجهة من الجهات الخيرية كبناء مسجد، أو إنشاء مستشفى، أو غير ذلك من أعمال البر. ومن الملاحظ أن البخاري قد أدخل في كتابه هذا " كتاب الوصايا " جميع أنواع الوصايا، سواء كانت بالمعنى العام أو الخاص حيث نجد فيه كثيراً من المواعظ والزواجر والنصائح البليغة.
__________
(1) " المرقاة شرح المشكاة " للقاري.
(2) " فتح الباري " ج 5.(4/63)
733 - " بَابُ الوَصَايَا وقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَصِيَّةُ الرَّجُلِ مَكتوبَة عِنْدَه "
833 - عنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَا حَقُّ امْرِىء مُسْلِم لَهُ شَيْء يُوصِي فِيهِ يَبِيْتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوصِيتُهُ مكْتوبَة عِنْدَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
733 - " باب الوصايا وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وصية الرجل مكتوبة عنده "
833 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما حق امرىء مسلم له شيء يوصي فيه إلخ "
معنى الحديث: قال الشافعي: معناه: ما الحزم والاحتياط للمسلم إلّا أن تكون وصيته مكتوبة عنده إذا كان له شيء يريد أن يوصي فيه، لأنه لا يدري متى تأتيه منيته، فتحول بينه وبين ما يريد من ذلك. وقوله " يبيت ليلتين " هذا القيد تأكيد لا تحديد، والمعنى لا ينبغي له أن يمضي عليه زمان، وإن كان قليلاً إلا أن يبيّت وصيته مكتوبة عنده، ولا يكتفي بمجرد الحديث عنها، بل لا بد من كتابتها لضمانها وتوثيقها.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية الوصية لمن له ورثة يخشى ضياعهم، أو مال يريد أن يهب منه بعد وفاته لشخص. قال داود وغيره: الوصية واجبة. اهـ. والذي عليه أكثر أهل العلم أنها إذا كانت بمعنى هبة بعض المال بعد الوفاة لجهة معينة فهي مندوبة، أما إذا كانت لبيان حق متعلق بالذمة، كدين، أو وديعة فهي واجبة. ولا بد من كتابة الوصية مطلقاً لضبطها وضمانها وتوثيقها. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.(4/64)
834 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبي أوفى رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" أنه سُئِل هلْ كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أوْصَى؟ فَقَالَ: لا، فَقِيْلَ لَهُ: كَيْفَ كُتِبَ عَلَى النَّاسِ الْوَصِيَّةُ، أوْ أمِرُوا بِالوَصِيَّةِ؟ قَالَ: أوْصَى بِكِتَابِ اللهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
834 - قوله: " أنه سئل هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى؟ فقال: لا " إلخ معنى الحديث: أن بعض الناس سأل ابن أبي أوفى هل أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من ماله بعد وفاته؟ فقال: لا، قال النووي: لعله أراد أنه لم يوص بثلث ماله، لأنه لم يترك بعده مالاً، وأما السلاح والبغلة ونحو ذلك فقد أخبر بأنها لا تورث، بل جميع ما يخلفه صدقة، وأما الوصايا بغير ذلك، فلم يرد ابن أبي أوفى نفيها: اهـ. وإنما قصد أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يترك مالاً موروثاً حتى يحتاج إلى الوصية " فقيل له: كيف كتب على الناس الوصية أو أمروا بالوصية " أي كيف شرعَ - صلى الله عليه وسلم - للناس الوصية، وأمرهم بها، ولم يفعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو إمامنا وقدوتنا، " قال: أوصى بكتاب الله " أي لم يوص بأي وصية مالية، لأنه لا يملك مالاً، ولكنه أوصى لأمته بكنز أعظم من كنوز الدنيا جميعاً وهو القرآن الكريم والسنة النبوية.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن الوصية المالية إنما تندب لمن ترك (1) مالاً يحتاج إليه، ولذلك لم يوص النبي - صلى الله عليه وسلم - أي وصية بهذا المعنى، لأنّه لم يترك بعده مالاً موروثاً، وإنما تنحصر وصيته في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وما أعظمها من وصية تتحقق بها سعادة الدنيا والآخرة. أخرج هذا الحديث: الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله " كيف كتب على الناس الوصية ".
__________
(1) وذهب ابن حزم إلى أنها واجبة على من ترك مالاً قليلاً كان أو كثيراً.(4/65)
734 - " بَابُ الْوَصيَّةِ بِالثلُثِ "
835 - عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
لَوْ غَضَّ النَّاسُ إلى الرُّبُع، لأنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " الثُّلُثُ والثُّلُثُ كَثِير أوْ كَبِيرٌ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
734 - " باب الوصِية بالثلث "
835 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " لو ينقِّص الناس إلى الربع " يحتمل أن تكون " لو " للِتمني، والمعنى: أتمنى أن يُنقِّص الناس في وصاياهم عن الثلث فيكتفوا في الوصية بالربع فقط، ويحتمل أن تكون " لو " شرطية، وجوابها محذوف (1) تقديره لو غض الناس إلى الربع في الوصية لكان أولى وأفضل، " لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " لسعد بن أبي وقاص لما أراد الوصية: " الثلث " أي الوصية تكون بالثلث ولا تزيد عنه، " والثلث كبير " أي والوصية بالثلث كثيرة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز الوصية بالثلث. قال ابن رشد: " وأما القدر فإن العلماء اتفقوا على أنه لا تجوز الوصية في أكثر من الثلث لمن ترك ورثة. واختلفوا فيمن لم يترك ورثة، وفي القدر المستحب منها هل هو الثلث، أو دونه؟ وإنما صار الجميع إلى أن الوصية لا تجوز في أكثر من الثلث لمن له من وارث لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه - صلى الله عليه وسلم - عاد سعد بن أبي وقاص، فقال له: يا رسول الله قد بلغ مني الوجع ما ترى، ولا يرثني إلا ابنة لي، فأتصدق بثلثي مالي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) " شرح العيني " ج 14.(4/66)
735 - " بَابٌ لا وَصِيةَ لِوَارِثٍ "
836 - عنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ ما أحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأنثيينِ، وجَعَلَ لِلأبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ، وجَعَلَ لِلْمَرْأةِ الثمُنَ والربُعَ، وَلِلْزَوْجِ الشَّطر والربُعَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" لا " فقال سعد. فالشطر، قال: " لا " ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس " وأما اختلافهم في جواز الوصية بأكثر من الثلث لمن لا وارث له (1) فإن مالكاً لا يجيز ذلك، وكذلك الأوزاعي، واختلف فيه قول أحمد، وأجاز ذلك أبو حنيفة وإسحاق، وهو قول ابن مسعود، وسبب الخلاف هل هذا الحكم خاص بالعلة التي علله بها الشارع؟ أم ليس بخاص؟ وهو أن لا يترك ورثته عالة يتكففون الناس كما قال عليه الصلاة والسلام، فمن جعل هذا الحكم خاصاً بما فيه هذه العلة وجب أن يرتفع الحكم بارتفاعها، ومن جعل الحكم عبادة -أي حكماً تعبدياً- وإن كان قد علل بعلة أو جعل جميع المسلمين بمنزلة الورثة، قال: لا تجوز الوصية إطلاقاً بأكثر من الثلث. ثانياً: أن الوصية بأقل من الثلث أفضل، وقد قال بهذا كثير من السلف كما أفاده ابن رشد.
والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم - " الثلث، والثلث كثير ".
735 - " باب لا وصية لوارث "
836 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " كان المال للولد ". أي كان مال الميت كله لولده لا يشاركه فيه زوجة ولا غيرها،
__________
(1) " بداية المجتهد " لابن رشد ج 2.(4/67)
ولا أب ولا أمّ لا وكانت الوصية للوالدين " أي وكانت الوصية في أوّل الإِسلام مشروعة للأبوين دون الأولاد، " فنسخ الله من ذلك ما أحب " أي فلما نزلت آية المواريث، نسخ الله ما شاء من الأحكام السابقة، فنسخت الوصية للورثة من الوالدين وغيرهم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا وصية لوارث " ونُسِخَ أيضاً تخصيص الولد بالميراث دون البنت، وأشركها مع الولد بقوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) فجعل لها سهماً، وللولد سهمين، " وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس " أي وفرض لكل واحد من الأبوين السدس عند وجود الولد من الصلب، أو ولد الولد، واحداً، أو متعدداً، فإن كان للميت بنت أو بنت ابن فإن للأم السدس أيضاً لا يزيد ميراثها عنه لوجود الفرع الوارث، وأما الأب فإنه في هذه الحالة يكون له السدس فرضاً وما تبقى عن أصحاب الفرائض تعصيباً، وقد لا يبقى له شيء، فلا يرث إلاّ سدس الفرض، " وجعل للمرأة الثمن " كما أي وفرض للزوجة عند وجود الفرع الوارث ذكراً أو أنثى الثمن كما قال تعالى: (فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) " والربع " أي وفرض للزوجة الربع عند عدم الفرع الوارث ذكراً كان أو أنثى فقال سبحانه: (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ) " وللزوج الشطر "، أي وفرض للزوج النصف عند عدم الفرع الوارث ذكراً أو أنثى، فقال سبحانه: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) ، " والربع " عند وجوده فقال: (فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ) .
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الميراث كله كان خاصاً بالولد لا يشاركه فيه غيره، ولا يرث معه سواه، فنسخ الله ذلك، وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، فأشرك معه البنت في الميراث، فجعل لها سهماً وجعل له سهمين. وأشرك معه الزوجة والزوج أيضاً. ثانياً: أن الأم ترث السدس عند وجود الفرع الوارث ذكراً كان أو أنثى، سواء كان ولداً(4/68)
أو بنتاً وولد ولد أو بنت ولد، لقوله تعالى: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ) ، وسواء كان واحداً أو أكثر. مثال ذلك: إذا كان للميت بنت، وبنت ابن، وأخت شقيقة، وأم، فللأم السدس لوجود الفرع الوارث وهو البنت، وللبنت النصف، ولبنت الابن السدس (1) ، وللأخت الشقيقة الباقي. ويختلف ميراث الأم بحسب اختلاف الأحوال، فترث السدس في حالتين: الأولى عند وجود الفرع الوارث كما تقدم. الثانية عند وجود الأخوة اثنان فصاعداً، ذكوراً أو إناثاً أو مختلفين، وقد أجمع الأئمة الأربعة على أن الأخوين أو الأختين يحجبان الأم من الثلث إلى السدس، خلافاً لابن عباس رضي الله عنهما، فإنه كان يرى أنه لا يحجبها إلى السدس إلا ثلاثة فأكثر لقوله تعالى: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) واتفق أهل العلم ما عدا ابن عباس رضي الله عنهما على أن للأم السدس عند وجود الإِخوة أو الأخوات اثنين فصاعدا أشقاء أو لأب وأم، أو مختلفين. مثال ذلك: إذا خلّف الميت أختين وأماً وعماً. فإن للأختين الثلثين، وللأم السدس فرضاً، وللعم الباقي تعصيباً. وترث الأم الثلث عند عدم الفرع الوارث والأب والإِخوة والزوجين، لقوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) مثال ذلك: إذا خلّف الميت أبوين فقط، فإن للأم الثلث فرضاً وللأب الباقي تعصيباً، لأن الله تعالى قد أضاف المال لهما، ثم جعل للأم الثلث فكان الباقي للأب تعصيباً (2) . وترث الأم ثلث الباقي بعد الفرض إذا كانت مع الأب وأحد الزوجين ولم يكن له إخوة، ولا فرع وارث. مثال ذلك: إذا خلّف الميت أباً وأماً وزوجة، فللزوجة الربع فرضاً، وللأم ثلث ما بقى بعد فرض الزوجة
__________
(1) تتمة للثلثين، أي للبنت وبنت الابن ثلثان، فلما استحقت البنت النصف بقي لبنت الابن السدس تتمة الفرض.
(2) " شرح عمدة الفقه " للمقدسي.(4/69)
فرضاً، وللأب الباقي تعصيباً. ثالثاً: أن الأب يرث السدس إذا كان للميت ولد ذكر، أو ولد ولد واحداً كان أو أكثر، لقوله تعالى: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ) ولقوله في حديث الباب: " وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس "، ويختلف ميراث الأب باختلاف الأحوال، فيرث السدس عند وجود الولد. ويكون عصبة فقط عند عدم الفرع الوارث ذكراً كان أو أنثى. مثال ذلك: إذا خلّف الميت أباً وزوجة فقط، فللزوجة الربع فرضاً، وللأب الباقي تعصيباً. ويرث الأب فرضاً وتعصيباً معاً: إذا اجتمع مع إناث الولد - أي إذا كان للميت بنت أو بنات أو بنت ولد أو بنات ولد. فيكون له السدس فرضاً والباقي تعصيباً، مثال ذلك: إذا خلّف الميت أباً وبنتاً فقط، فللبنت النصف فرضاً، وللأب السدس فرضاً والباقي تعصيباً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر " متفق عليه، فالأب أولى رجل ذكر بعد الابن وابنه (1) .
رابعاً: أن للزوج الربع عند وجود الفرع الوارث " وهو أولاد الميت ذكوراً وإناثاً وإن نزلوا (2) وله النصف عند عدمه، وللزوجة الثمن عند وجود الفرع الوارث، والربع عند عدمه. خامساً: دل الحديث على أن لا وصية لوارث، قال ابن المنذر: " تبطل الوصية للوارث عند أكثر أهل العلم، وذهب بعضهم إلى أنّها لا تجوز، ولو أجازها الورثة، وهو قول أهل الظاهر، واتفق مالك (3) والثوري والكوفيون والشافعي على أن الورثة إذا أجازوا ذلك بعد وفاته لزمهم. والمطابقة: في قوله " كانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب " الحديث: أخرجه البخاري.
__________
(1) " شرح عمدة الفقه " للمقدسي.
(2) " الرائد في الفرائض " للدكتور الخطراوي.
(3) " شرح العيني على البخاري " ج 14.(4/70)
736 - " بَابُ الصَّدَقَةِ عِنْدَ المَوْتِ "
837 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَجُل للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: يَا رَسُولَ اللهِ أيُّ الصَّدَقَةِ أفْضَلُ؟ قَالَ: " أنْ تَصَدَّقَ وأنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ، تَأمُلُ (1) الغِنَى وتَخشَى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلْ حتى إذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلَان كذَا، ولِفُلَان كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
736 - " باب الصدقة عند الموت "
أي هذا باب يذكر فيه جواز الصدقة، أي الوصية عند الموت وصحتها ونفاذها إذا كانت على الوجه الشرعي الصحيح.
837 - معنى الحديث: أن أحد الصحابة سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل أوقات الصدقة، وأعظمها أجراً، وأكثرها مثوبة، فقال: " أن تصدّق وأنت صحيح حريص " أي في وقت صحتك، واستكمال قواك الجسمية، حيث يكون قلبك متعلقاً بالمال، حريصاً عليه، متطلعاً إلى تنميته وزيادته، فإذا سارعت إلى الصدقات، في وجوه الخير، وبادرت إلى قضاء ما عليك من الديون وأنت على هذه الحال، كان أفضل لك من أن تمسك مالك في حال صحتك وقوتك، " حتى إذا بلغت الحلقوم " أي حتى إذا دنت المنيّة ووصلت الروح إلى مجرى الطعام وأوشكت على الخروج " قلت: لفلان كذا ولفلان كذا " أي تبرعت من مالك بعد وفاتك لفلان وفلان، " وقد كان لفلان " أي وبينت الدين الذي عليك لفلان ليسدد من تركتك.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي. أولاً: جواز الوصية لأنه
__________
(1) بسكون الهمزة وضم الميم، أبي تطمع في الغنى كما أفاد القسطلاني " وتخشى الفقر " أي تخاف الفقر، وهو مصداق قوله تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) الخ.(4/71)
- صلى الله عليه وسلم - كما في حديث الباب: لما سئل أي الصدقة أفضل؟ قال: " أن تصدَّق وأنت صحيح حريص، تأمل الغنى، وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا. ثانياًً: أن الوفاء بالدين والمبادرة إلى قضائه في حال الحياة أفضل من وصية الورثة بقضائه بعد الموت، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان " فإن المراد بقوله: " وقد كان لفلان " الإِقرار بالدين كما أفاده الحافظ رحمه الله. ثالثاً: أن الوصية - كما قال في " تيسير العلام " (1) مشروعة بالسنة وإجماع المسلمين في جميع الأعصار والأمصار، وهي من محاسن الإِسلام حيث جعل لصاحب المال جزءاً من ماله يعود عليه عند الموت، سواء كانت هذه الوصية تبرعاً أو كانت بياناً لدين على الميت، أما الأول: فدليله قوله - صلى الله عليه وسلم -: " حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا " فإن المراد به الوصية، وأما الثاني فدليله قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وقد كان لفلان " فإن المراد به الدين كما أفاده الحافظ رحمه الله. والحاصل أن الوصية في جميع الأوقات مشروعة جائزة نافذة المفعول على شرط أن يكون الموصي كامل الأهلية بالعقل (2) والبلوغ والحرية والاختيار غير سفيه ولا مغفل، فإن كان صغيراً أو مجنوناً، أو عبداً، أو مكرهاً، أو محجوراً عليه، فلا تصح وصيته ولا تنفذ، وأن يكون الموصى له غير وارث، وإلّا فلا تنفذ الوصية إلاّ برضا الورثة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا وصية لوارث " رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، رابعاً: أن الصدقة في الحياة وفي حال الصحة أفضل من الوصية والتبرع بشيء من المال يعود إليه بعد الموت ثوابه وأجره. وهي من لطف الله بعباده ورحمته بهم، ولهذا جاء في بعض الأحاديث القدسية يقول الله تعالى:
__________
(1) " تيسير العلام " ج 2.
(2) " فقه السنة " للسيد سابق ج 3.(4/72)
737 - " بَاب هَلْ يَدخل الْوَلَد والنِّسَاءُ في الأقَارِبِ "
838 - عَنْ أبي هرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه قَالَ:
قَامَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أنزلَ الله "عَزَّ وَجلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فَقَالَ: " يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أو كَلِمَةً نَحْوَهَا، اشْتَروا أنفسَكُمْ لا أغْنِي عَنْكمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً، يا بَني عَبْدِ مَنَافٍ لا أغْنِي عَنْكمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لا أغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً، يا صَفِيَّة عَمَّةَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئاً، يا فَاطِمَة بِنْتَ محَمَّدٍ سَلِيني مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لا أغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئَاً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" يا ابن آدم جعلت لك نصيباً من مالك حين أخذتُ بكظَمك لأطهرك (1) به وأزكيك " (2) . الحديث: أخرجه. البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود.
والمطابقة: في قوله " حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت لفلان كذا ".
737 - " باب هل يدخل الولد والنساء في الأقارب "
أي إذا أوصى للأقارب ببعض ماله هل يدخل فيهم النساء والأولاد؟
838 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزل عليه قوله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) وأمره الله تعالى بإنذار عشيرته وأقاربه، سمع الناس وقام فيهم خطيباً على الصفا، فعمم بخطابه أولاً قريشاً كلها وقال: " يا معشر قريش " أي يا جماعة قريش أو يا قبيلة قريش، " اشتروا أنفسكم " أي خلّصوا أنفسكم من عقاب الله بتوحيده، والدخول في دينه، "لا أغني
__________
(1) الكَظَم: بفتح الكاف والظاء: مخرج النفَس من الحلق، أي عند خروج روحه. والحديث أخرجه ابن ماجة رقم (1210) قال البوصيري في الزوائد: في إسناده تعال. (ع) .
(2) " تيسير العلام " ج 2.(4/73)
عنكم من الله شيئاً" أي فإني لا أدفع عنكم من عذاب الله شيئاً إن لم تؤمنوا به وتوحدوه وتتركوا عبادة آلهتكم الباطلة " يا (1) بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي " أي اطلبي من مالي ما تريدين فإنني لا أبخل به عليك، أما في الآخرة " فإني لا أغني عنك من الله شيئاً " إن لم تؤمني بالله وتوحديه. الحديث: أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من أوصى للأقارب دخل فيهم الذكور والإِناث معاً، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، سواء كانوا من قبل أبيه أو من قبل أمه، وقال أحمد: تدخل الأنثى من قبل الأب خاصة، ولا تدخل الأم ولا ما تفرع منها كما أفاده العيني وأبو المظفر في " الافصاح "، وهو مذهب مالك في رواية، وحاصل مذهب أحمد في أظهر الروايتين عنه " أنه ينظر من كان يصله في حال حياته ينصرف إليه ذلك، وإلَّا فالوصية لقرابته من قبل أبيه، وهم أباؤه وأجداده وأولاده لصلبه وأولاد البنين، وإخوته وأخواته، وأعمامه وعماته، ولا تدخل الأم في ذلك بحال " وهكذا فإنّ الأنثى تدخل في الوصية للأقارب إذا كانت من قبل الأب، أما من كان من قبل الأم فإنه لا يدخل في الوصية عند أحمد مطلقاً، سواء كان ذكراً أو أنثى. أما الآباء والأولاد، فقد اختلف الفقهاء فيهم، فذهب أبو حنيفة إلى عدم دخولهم في الوصية للأقارب، وقال الشافعي وأحمد في أظهر روايتيه: يدخل الآباء والأجداد والأولاد، إلاّ أن أحمد اشترط في ذلك أن لا يكون له من يصله في حال حياته، وإلّا رجعت الوصية إليه خاصة. اهـ. كما أفاده أبو المظفر في " الإفصاح " والعيني في " شرح البخاري " (2) . ثانياً:
__________
(1) أي ثم وجه الخطاب إلى بني عبد مناف فخصص بعدما عمم
(2) " شرح العيني " ج 14 و " الإفصاح عن معاني الصحاح " ج 2.(4/74)
738 - " بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُتَوَفَّى فَجْأةً أنْ يَتَصَدَّقُوا عَنْهُ، وَقضَاءِ النُّذُورِ عَن الْمَيْتِ "
839 - عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنَّ رَجُلاً قَالَ لِلْنَبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ أمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وأرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أفَأتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ: " نَعَمْ تَصَدَّقْ عَنْهَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أن قرابة النسب من الأنبياء والصالحين لا تنفع الكافر في النجاة من دخول النار. مطابقة الحديث ترجمة أن الحديث بمنزلة الجواب عنها.
738 - " باب ما يستحب لمن يتوفّى فجأة أن يتصدقوا عنه وفاء النذور عن الميت "
839 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أن رجلاً " قال بعضهم: " هو سعد " بن أبي وقاص رضي الله عنه " قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن أمي أفتلتت نفسها " بالرفع على أنه نائب فاعل، وبالنصب على أنّه مفعول ثاني، أي بادرتها المنية وماتت فجأة " وأراها لو تكلمت تصدقت " بضم الهمزة أي وأظنها لو تمكنت من الكلام لتصدقت في حياتها، كما جاء في رواية أخرى في الجنائز، قال فيها: " إن أمي افتلتت نفسها، وأظنها لو تكلمت تصدقت " " فأتصدق عنها؟ قال: نعم تصدق عنها " فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتصدق عن أمه بعد وفاتها. الحديث: أخرجه الخمسة (1) . والمطابقة: في قوله " نعم تصدق عنها ".
__________
(1) وأخرجه البخاري والترمذي بلفظ: " أن رجلاً قال: يا رسول الله إن أمي توفيت أفينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: " نعم " من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.(4/75)
840 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ اسْتَفْتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إِنَّ أمِّي مَاتَتْ وَعَلْيْهَا نَذْرٌ، فَقَالَ: " اقْضِهِ عَنْهَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
840 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما: " أنّ سعد بن أبي وقاص استفتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حكم قضاء النذر عن أمه بعد وفاتها " فقال: إن أمي ماتت وعليها نذر " لم توفه، لوجود بعض الأعذار الشرعية أو لأنها ماتت فجأة، كما يدل عليه الحديث السابق - أما النذر فقد جاء في بعض الآثار أنّه كان عتقاً، وفي بعضها كان صوماً، وفي بعضها صدقة. " فقال: اقضه عنها " أي فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بقضاء النذر عنها بعد وفاتها. الحديث: أخرجه أيضاً مالك والنسائي بألفاظ مختلفة. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " اقضه عنها ".
فقه الحديثين: دل الحديثان على ما يأتي: أولاً: أنه يستحب لقريب الميت أن يتصدق عنه، قال الترمذي: وبه يقول أهل العلم (1) ، يقولون: ليس شيء يصل إلى الميت إلاّ الصدقة والدعاء. اهـ. أي إن وصول نفعهما إلى الميت مجمع عليه، واختلفوا في العبادات البدنية، كالصوم، والصلاة، وقراءة القرآن، فذهب أبو حنيفة وأحمد وجمهور السلف إلى وصولها، والمشهور من مذهب الشافعي ومالك عدم وصولها. اهـ. كما أفاده القاري في " شرح الفقه الأكبر " ونقله عنه في " تحفة الأحوذي " (2) . ثانياً: أن موت الفجأة ليس بمكروه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تظهر منه كراهة حين أخبره الرجل أن أمه افتلتت نفسها وإن كان مستعاذاً منها، لما يفوت بها من خير الوصية، والاستعداد
__________
(1) " جامع الترمذي ".
(2) " تحفة الأحوذي " ج 4.(4/76)
739 - " بَابُ الْوَقْفِ كَيْفَ يُكْتَبُ "
841 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
أصَابَ عُمَرُ بِخَيْبَرَ أرْضَاً، فَأتَى النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَْ: أصَبتُ أرْضاً لم أصبْ مَالاً قَطُّ أنفَسَ مِنْهُ، فَكَيْفَ تَأمُرَنِي بِهِ؟ قَالَ: " إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا، فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أنّهُ لا يباعُ أصْلُهَا، ولا يُوهَبُ، ولا يُورَثُ، في الفُقَرَاءِ والْقُرْبَى والرِّقَابِ وفي سَبِيلِ اللهِ والضَّيفِ وابْن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
للمعاد بالتوبة، وغيرها من الأعمال الصالحة، كما أفاده القسطلاني (1) . ثالثاً: دل الحديث الثاني على استحباب قضاء النذر عن الميت من صوم أو صدقة أو نحو ذلك وأنه ينفعه ذلك ويبرىء ذمته من ذلك النذر ويسقطه عنه وهو قول الجمهور، وقال الظاهرية يجب قضاء النذر عن الميت تعلقاً بظاهر (2) الأمر سواء كان مالياً أو غيره. اهـ. والله أعلم.
739 - " باب الوقف كيف يكتب "
أراد البخاري بهذه الترجمة بيان مشروعية كتابة الوقف لضبطه وتوثيقه.
841 - معنى الحديث: أن عمر رضي الله عنه اشترى قطعة أرض من خيبر كما في رواية النسائي: أنه كان لعمر مائة رأس، فاشترى بها مائة سهم من خيبر فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - راغباً في أن يتصدق بها في سبيل الله، لأنها أغلى أمواله وأحبها إلى نفسه، وسأله أن يأمره - صلى الله عليه وسلم - بما يفعل فيها، فعرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يوقفها على الفقراء والأقارب، وعتق الرقاب وتجهيز الغزاة وإعانة المسافرين حيث " قال: إن شئت حبست أصلها " أي أوقفت الأرض وأصول الشجر الموجودة فيها " لا يباع ولا يوهب ولا يورث " أي فلا يتصرف
__________
(1) " شرح القسطلاني على البخاري " ج 2.
(2) " شرح الزرقاني على الموطأ " ج 3.(4/77)
السبيلِ، لا جُنَاحَ على مَنْ وَلِيَهَا أنْ يَأكلَ منها بالْمَعْرُوفِ، أو يُطْعِمَ صَدِيقاً غَيْرَ مُتَمَوِّل فِيهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أحد في أصلها ببيع ولا هبة ولا ميراث " في الفقراء والرقاب الخ " وتصدقت بها على الفقراء وغيرهم فيكون أصلها موقوفاً غير قابل للتصرف فيه، ويكون الريع والدخل السنوي صدقة، تصرف في الجهات المذكورة " ولا جناح على من وليها " أي ولا حرج على من تولى النظارة عليها " أن يأكل منها بالمعروف " أي أن يأخذ منها بقدر أجرة عمله " أو يطعم صديقاً " من ثمرها " غير متمول فيه " أي غير متملك لها. الحديث: أخرجه الخمسة إلا ابن ماجة بألفاظ.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الوقف والترغيب فيه، وكونه من أفضل الصدقات، ولذلك أشار به النبي - صلى الله عليه وسلم - على عمر، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: " إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها " الخ وذلك لأن الوقف يدخل في الصدقة الجارية التي يستمر بها عمل العبد، ويتجدد ثوابه بعد وفاته، لأن العلماء قد فسروا الصدقة الجارية بالوقف، وكان أول وقف في الإِسلام كما أخرجه ابن أبي شيبة وأشار الشافعي إلى أنه من خصائص الإسلام، ولا يعرف في الجاهلية، وهو لغة الحبس، وشرعاً: حبس مال يمكن الانتفاع به على مصرف مباح مع بقاء عينة، وقطع التصرف في رقبته كما أفاده الصنعاني. وقال بعضهم: هو حبس الأصل وتسبيل الثمرة، أي وصرف منافعه فِي الأقارب ويسمّى بالوقف الأهلي (1) ، أو في جهة من جهات الخير ويسمّى بالوقف الخِيري. ثانياًً: مشروعية كتابة الوقف في كتاب يكتب فيه هذه الشروط المذكورة، وغيرها من الشروط المشروعة، والجهة الموقف عليها، كما فعل عمر رضي الله عنه. ثالثاً: مشروعية تعيين ناظر للوقف بأجر
__________
(1) أو الوقف الذري.(4/78)
740 - " بَابُ قَولِ اللهِ تعَالَى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) إلى قوله: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
معين، ونسبة محددة يتقاضاها من غلته، لقوله في حديث الباب: " ولا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف " ولقوله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي هريرة: " ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقة ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: " كما قال العيني في قوله. " إن شئت حبست أصلها " الخ.
740 - " باب قول الله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ... ) "
معنى هذه الآية: أن الله جلّت حكمته، شرع لعباده الوصية في الحضر، وأكدها في هذه الآية في السفر حفظاً لحقوق الناس، فقال: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت " الخ أي أن الله أمر المسافر إذا أحس بدنو أجله أن يوصي ويشهد على وصيته عدلين من المسلمين إن وجدا، وإلّا أشهد اثنين كافرين ويدفع لهما ما معه من مال ليوصلاه إلى ورثته قال تعالى: " فيقسمان بالله إن ارتبتم " أي فإن شك الورثة في الرجلين فإنهما يوقفان، ويستحلفان بعد العصر أنّهما ما كذبا، ولا خانا قائلين " لا نكتم شهادة الله إنا إذن لمن الآثمين " فإذا ظهرت بعد ذلك خيانتهما، كما قال تعالى: " (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) " أي فإن ظهر كذبهما في يمينهما وشهادتهما، ردت اليمين إلى ورثته، فيقوم رجلان من أوليائه وورثته فيقسمان(4/79)
842 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهمَا قَالَ:
" خَرَجَ رَجُل مِنْ بَنِي سَهْم مَعَ تَمِيم الدَّارِي وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ، فماتَ السَّهْمِي بأرْضٍ لَيْسَ بها مُسْلِم، فَلَمَّا قَدِمَا بتَرِكَتِهِ فَقَدوا جَاماً مِنْ فِضَّةٍ مخَوَّصاً مِنْ ذَهَبٍ، فأحْلَفَهمَا رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ وجِدَ الْجَامُ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: ابْتَعْنَاهُ مِنْ تَمِيم وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلانِ مِنْ أوْلِيَاءِ السَهْميِّ فحلَفَا لَشَهَادَتنَا أحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وِإنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ، قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ) ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالله إنه قد كان معه كذا وكذا، وأن شهادتهما ويمينهما على ذلك أحق وأصدق من شهادة الذين حضروا الوصية التي شرعها الإِسلام في قوله: " ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها " أي إنما أمركم الله بما أمرم به، لاتخاذ أقوى الوسائل التي تدفع الشهود إلى الصدق في شهادتهم خوفاً من الفضيحة، وتهمة الخيانة.
842 - معنى الحديث: أن " بزيل السهمي " بضم الباء وفتح الزاي وفي رواية " بديل " بضم الباء وفتح الدال سافر مع تميم الداري وعدي بن بَدَّاءٍ، فمات غريباً بأرض ليس فيها أحد من المسلمين، فلما حضرته الوفاة، أوصى بمتاعه وماله لأهله وأشهد على ذلك هذين الرجلين، ودفع إليهما ما كان معه من مال ومتاع، ليوصلاه إلى ورثته، فلما قدما بتركته على أهله وورثته وتفقدوها، وجدوا أن هناك كأساً فضياً مزخرفاً بالذهب، مثبتاً في وصية الميت بخط يده غير موجود في التركة، فطالبوهما به، فأنكرا، فاحتكموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان عدي وتميم قد أسلما، فاستحلفهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهما لم يجدا الكأس المذكورة في تركته، فحلفا، ثم وجد الكأس بمكة(4/80)
عند بعض الناس، فلما سئلوا عنه أجابوا بأنهم اشتروه من تميم وعدي، وظهرت خيانتهما، وهو معنى قوله في الحديث: " ثم وجد الجام بمكة، فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي " عند ذلك قام رجلان من أقارب الميت، فشهدا وأقسما على أن هذه الكأس هي كأس الميت المفقودة، وأن شهادتهما ويمينهما أصدق من شهادة الرجلين ويمينهما، فنزلت الآية المذكورة. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: سبب نزول الآية الكريمة، وهو ما تضمنته هذه القصة المذكورة في الحديث، وهذا ما ترجم له البخاري. ثانياًً: تأكيد الوصية والإِشهاد عليها في السفر. ثالثاً: تكليف الشاهدين باليمين عند ارتياب الورثة فيقسمان بالله قائلين " نقسم بالله على كذا، وعلى أننا لم نكتم شهادة الله إنا إذن لمن الآثمين. رابعاً: أنه إذا ظهر ما يدل على خيانتهما، ردت اليمين إلى أقرب الورثة، " فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما، وما اعتدينا، إنا إذن لمن الظالمين. خامساً: قال الحافظ: استدل بهذا الحديث على جواز شهادة الكفار بناءً على أن المراد بالغير الكفار، وبذلك قال أبو حنيفة ومن تبعه، وخص جماعة القبول بأهل الكتاب وبالوصية، منهم ابن عباس والأوزاعي والثوري وأبو عبيد وأحمد وهؤلاء أخذوا بظاهر الآية، وحديث الباب والله أعلم. والمطابقة: في كون القصة المذكورة سبباً في نزول هذه الآية.
***(4/81)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب الجهاد والسير "
للجهاد معنيان (أ) جهاد أصغر وهو مكافحة النفس والشيطان (ب) وجهاد أكبر وهو مقاتلة الكفار إعلاءً لكلمة الله تعالى، ونشراً لدينه وهل الجهاد أفضل أو طلب العلم أفضل مسألة اختلف فيها العلماء؟ قال في " فيض الباري ": واعلم أن شغل العلم أفضل الأشغال عند أبي حنيفة ومالك، وعند أحمد الجهاد أفضل، كذا في " منهاج السنة " لابن تيمية، وفي كتاب السفاريني: عند أحمد رواية نحو أبي حنيفة ومالك، وهذا كله إذا لم يكن الجهاد فرض الوقت، لأن الكلام في باب الفضائل دون الفرائض ". اهـ.
وأما السير: فإن المراد بها هنا أبواب الجهاد أيضاً لأنها متلقاة من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أفاده القسطلاني. هذا وقد شرع الجهاد، في السنة الثانية من الهجرة، حيث نزل قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) . وحكمه في الأصل فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، حيث قال تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ) فإن الآية تدل على أن الجهاد ليس فرضاً عينياً واجباً على كل فرد من المسلمين، إنما هو فرض كفائي، يجب أن يقوم به طائفة من المسلمين، فإذا قامت به سقط وجوبه عن بقيتهم، ومما يؤكد ذلك ما رواه الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى لما شدد على المتخلفين (1) قالوا: لا يتخلف منا أحد عن جيش أو سرية أبداً، ففعلوا ذلك، وبقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده، فنزل قوله تعالى: (وَمَا كَانَ
__________
(1) " تفسير الآلوسي " ج 11.(4/82)
741 - " بَابُ فضلِ الْجِهَادِ والسيرِ "
843 - عَنْ أبي هُريْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
جَاءَ رَجُل إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: دُلَّنِي على عَمَل يَعْدِلُ الْجِهَادَ، قَالَ: " لا أجِدُهُ: قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ ولا تَفْتُرَ (1) ، وتَصُومَ ولا تفْطِرَ، قَالَ: ومَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُؤْمِنُونَ) الآية، ولكن هناك ظروف خاصة يتعين فيها الجهاد على كل مسلم، وذلك إذا هاجم العدو البلد الذي يقيم به المسلمون فإنّه يجب عليهم جميعاً أن يخرجوا لقتاله، وكذلك إذا استنفر الحاكم أحداً من المكلفين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وإذا (2) استنفرتم فانفروا ".
741 - " باب فضل الجهاد والسير "
843 - معنى الحديث: أن رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدله على عمل يساوي الجهاد في منزلته وقدره، وعظم أجره ومثوبته، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا أجد عملاً يماثل الجهاد أو يساويه، لأن رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا كما في الحديث الصحيح " والروحة يروحها أحدكم في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها. وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها " ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك وتعتكف فيه للعبادة دائماً، فتقوم في الصلاة دون انقطاع، وتواصل الصوم دون إفطار، إذا كان هذا ممكناً فإنه هذا وحده هو الذي
__________
(1) قوله " ولا تفتر " بفتح التاء الأولى، وإسكان الفاء، وضم التاء الثانية، وفتح الراء، بالنصب على أنه معطوف على " تدخل ".
(2) " فقه السنة " ج 3.(4/83)
742 - "بَابُ أفضلَِ النَّاسِ مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ في سَبِيلِ اللهِ "
844 - عَنْ أبي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أيُّ النَّاسِ أفْضَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ في سَبِيلِ اللهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ " قَالُوا: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " مُؤْمِن في شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللهَ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يعدل الجهاد، عند ذلك قال الرجل: " ومن يستطيع ذلك " يعني ومن يستطيع مواصلة الصلاة والصيام دائماً وأبداً لا شك أن ذلك أمر فوق مقدور البشر. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الجهاد أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله تعالى وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًً: أن الأعمال قسمان: مقاصد كالحج والصلاة، ووسائل، وأفضلها إطلاقاً الجهاد، لأنه وسيلة إلى إعلاء الدين. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة.
742 - " باب أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله "
844 - معنى الحديث: أن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الناس أفضل إيماناً، وأعلى درجة، وأعظم مثوبة وأجراً عند الله تعالى، فأجابه - صلى الله عليه وسلم -: أن أفضل المؤمنين رجل مؤمن قام بما يجب عليه نحو دينه وأدى حقّ الله عليه، ثم جاهد بنفسه وماله لِإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، فقال بعض الصحابة: ثم من؟ أي من يليه في الأفضلية، فأجاب - صلى الله عليه وسلم -: بأنه يليه في الأفضلية رجل مؤمن رأى فساد المجتمع وانتشار المنكرات فيه، وشعر بأنه لا يستطيع أداء شعائر دينه، وخاف الفتنة، فاعتزل الناس، فعاش في شعب من الشعاب " وهو ما انفرج بين الجبلين " والمراد أنه ابتعد عن الناس ليسلم من شرهم وفتنتهم حيث يتقي الله ويتمكن من طاعته وعبادته،(4/84)
845 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَثَلُ الْمُجَاهِدِ في سَبيلِ اللهِ -واللهُ أعلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ في سَبِيلِهِ- كَمَثَل الصَّائِمِ الْقَائِمِ، وَتَوَكَّلَ اللهُ لِلْمُجَاهِدِ في سَبِيلهِ بأنْ يَتَوَفَّاهُ أنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أو يَرْجِعَهُ (1) سَالِماً مَعَ أجرٍ أوْ غَنِيْمَةٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلاّ أن يهرب بدينه من شاهق إلى شاهق " أخرجه البيهقي. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
845 - معنى الحديث: أن المجاهد في سبيل الله لِإعلاء كلمة الله ونصرة دينه يساوي ويماثل القائم الدائم القيام، والصائم الدائم الصيام الذي لا يفتر ولا ينقطع عن صلاته وصيامه طول حياته، كما في رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة، أخرجه مسلم. وإنما كان المجاهد كذلك لأنه لا تفوته ساعة دون أجر كما قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " والله أعلم بمن يجاهد في سبيله " جملة اعتراضية معناها: ولا يعلم بالمجاهد الحقيقي إلاّ الله تعالى، لأنه وحده هو المطلع على نيته، " وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالماً مع أجر وغنيمة " أي ضمن له إحدى الحسنيين، الشهادة والجنة، أو العودة بالسلامة والأجر والغنيمة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
__________
(1) هكذا بفتح الياء ونصب الفعل عطفاً على يتوفاه كما أفاده العيني.(4/85)
743 - " بَابُ الغدوَةِ (1) والرَّوْحَةِ في سَبيلِ اللهِ "
846 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لقَابُ قَوْسٍ في الْجَنَّةِ خَيْر مما تَطْلُعُ عليه الشَّمْسُ وتَغْرُبُ " وقالَ: " لَغَدْوَةٌ أوْ رَوْحَةٌ في سبيلِ اللهِ خَيْرٌ مما تَطْلَعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والمطابقة: في قوله " يدخله الجنة " الخ
فقه الحديثين: دل الحديثان على ما يأتي: أولاً: أن أفضل المؤمنين من أضاف إلى إيمانه الجهاد في سبيل الله. ثانياً: أن المجاهد لِإعلاء كلمة الله يساوي العابد الدائم العبادة طول حياته، الذي لا يفتر عن الصيام والقيام في فضله، ويزيد عليه بأن الله ضمن له الجنة أو العودة بأجر وغنيمة. ثالثاً: فضل العزلة عند تفاقم الفتن والخوف على الدين منها.
743 - " باب الغدوة والروحة في سبيل الله "
846 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لقاب قوس في الجنة خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب " أي لو خير المجاهد بين الفوز بجزءٍ يسير من الجنة لا تزيد مساحته على طول قوس واحد، أو امتلاك هذه الدنيا وما تصل إليه أشعة الشمس من رحابها وكائناتها العلوية والسفلية لاختار هذا الجزء اليسير من الجنة، وفضله على الدنيا بأسرها، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " ولغدوة أو روحة في سبيل الله خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب " أي مشاركة يسيرة في الجهاد أوّل النهار أو آخره يزيد ما يفوز به صاحبها من النعيم الأخروي على ما يفوز به من يمتلك الدنيا كلها بما فيها من كنوز ونفائس وذخائر،
__________
(1) بفتح الغين " الغَدْوة ".(4/86)
744 - " بَاب من يُجْرَحُ في سَبِيلِ اللهِ عزَّ وَجَلَّ "
847 - عَنْ أبي هرَيرةَ رَضِيَ الله عَنْه:
أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " والَّذِي نَفْسِي بِيَده لا يكْلَمُ أَحَدٌ في سَبِيلِ اللهِ -وَالله أَعْلَم بِمَنْ يُكْلَمُ في سَبِيلِهِ- إلَّا جَاء يَوْمَ الْقِيَامَةِ والَّلْون لَوْن الدَّمَ والرِّيْحُ رِيْحُ الْمِسْكِ " (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو يزيد ثواب هذه المشاركة اليسيرة على ثواب من امتلك الدنيا بأسرها وأنفقها في سبيل الله. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على عظيم فضل الجهاد، والترغيب في المساهمة فيه بأي مشاركة ولو قليلة، لأن المشاركة اليسيرة تعدل الدنيا بأسرها، والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
744 - " باب من يجرح في سبيل الله عز وجل "
847 - معنى الحديث: أقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - بربه وخالقه المالك لروحه المتصرف فيها كيف يشاء على أنه ما من أحد يجرح وهو يقاتل حقيقة لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، لا لقومية ولا عصبية " إلا جاء يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك " أي أن دمه الزكي وان كان يشارك الدماء في لونها إلا أنه تفوح منه رائحة المسك. قال القسطلاني: والظاهر أن الذي يجيء يوم القيامة وجرحه يتصبب من فارق الدنيا وجرحه كذلك، وقوله: " والله أعلم بمن يكلم في سبيله " جملة معترضة بين المستثنى منه والمستثنى، قال القسطلاني: ومعناه والله أعلم تعظيم شأن من يكلم في سبيل الله ويجوز أن يكون تتميماً وتنبيهاً على الإِخلاص في الغزو، وأن الثواب المذكور لمن
__________
(1) وقد ثبت ذلك في الدنيا وظهر للناس، وتواترت الأخبار أن دماء الشهداء الأفغان تفوح مها رائحة المسك. أهـ.(4/87)