منار القاري
شرح مختصر
صحيح البخاري
تأليف حمزة محمد قاسم
راجعه الشيخ عبد القادر الأرناؤوط
عني بتصحيحه ونشره بشير محمد عيون
الجزء الأول
مكتبة دار البيان
ص. ب 2854 - هاتف 229045
دمشق - الجمهورية العربية السورية
مكتبة المؤيد
ص. ب 10 - هاتف 7321851
الطائف - المملكة العربية السعودية(1/1)
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
بيروت
1410 هـ - 1990 م(1/2)
تقديم الكتاب
لصاحب الفضيلة خادم السنة النبوية الشيخ عبد القادر الأرناؤوط
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن هذا الكتاب العظيم الذي جمعه أمير المؤمنين في الحديث، الِإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، المتوفى سنة (256) هـ حيث قوّى عزمه على ذلك أستاذُه أمير المؤمنين في الحديث والفقه الِإمام أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه المتوفى سنة (238) هـ حيث قال الِإمام البخاري: كنا عند إسحاق بن راهويه، فقال: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فوقع ذلك في قلبي، فأخذتُ في جمع الجامع الصحيح، فجمعه وسمَّاه (الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله علمه وآله وسلم وسننه وأيامه) والتزم أن لا يورد فيه إلا حديثاً صحيحاً، وقصد من جمعه لهذا الجامع الذبَّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والدفاع عنه، والرد على الجهمية والمعطلة وبعض الطرق المنحرفة. ولما انتهى من جمعه عرضه على شيخه الِإمام(1/3)
أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلى بن المديني وغيرهم، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة. وقد اتفق العلماء على أن هذا الجامع أصح كتاب في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد اعتنى بهذا الجامع الصحيح كثير من أهل العلم من المتقدمين ومن المتأخرين: فشرحه علماء كثيرون، واختصره أئمة آخرون، لا مجال لذكر أسمائهم لكثرتها.
ولقد سمت هِمَّة الأستاذ الجليل فضيلة الشيخ حمزة محمد قاسم فاختصر الجامع الصحيح اختصاراً وسطاً، ثم قرَّر بعد اختصاره أن يشرحه شرحاً مبسطاً يستفيد منه طلاب العلم، فقام بذلك حق قيام، جزاه الله تعالى خيراً، وسمى شرحه هذا (منار القاري في شرح مختصر البخاري) واعتمد في شرحه على الأئمة المتقدمين الذين شرحوه من الفقهاء والمحدثين.
وإن الأخ في الله الشارح لهذا الجامع الصحيح حفظه الله. درس على أفاضل من علماء المدينة وتخرج من القسم العالي (1) من مدرسة العلوم الشرعية بالمدينة المنورة، ولقد أتى في شرحه لكتابه هذا بما قاله العلماء في المذاهب الأربعة وسواها، وذكر ما قاله الجمهور من الفقهاء ومن خالفهم في ذلك.
وفي شرحه لأحاديث العقائد ذكر توحيد الربوبية والأسماء والصفات، وتوحيد الِإلهية والعبادة، دون تشبيه أو تمثيل أو تعطيل، بأسلوب سهل، على عقيدة السلف الصالح، وأهل السنة والجماعة التي تلقوها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وهي العقيدة
__________
(1) وقد تحدث عن هذا القسم الأستاذ عبد القدوس الأنصاري في كتابه "بناة العلم في الحجاز"، كما تحدث عنه الدكتور محمد العيد الخطراوي في كتابه عن مدرسة العلوم الذي سيصدر قريباً (المؤلف) .(1/4)
السليمة، والطريقة المستقيمة التي ينبغي على كل مسلم أن يسلك سبيلها، وأن يسير على نهجها. وقد بحث حفظه الله تعالى في القضاء والقدر بحثاً جيداً على طريقة أهل السنة والجماعة، وأقوال الأئمة المجتهدين، والعلماء المحققين.
وبين بوضوح كل ما يتعلق بالعقائد، والأحكام، والمعاملات، والحدود، والأخلاق، وعرَّف السنة والبدعة، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسنة الخلفاء الراشدين، وما استقر عليه عمل الصحابة، وقد توسَّع في المعاملات، والطب، والأدب، والرقاق، والاعتصام بالكتاب والسنة، فنقل أشياء جديدة عرفت في عصرنا الحاضر، في المواضيع الاجتماعية والأمور الطبية التي يستفيد منها طلاب العلم والشباب المثقف في هذا العصر.
وقد ختم شرحه هذا بآخر حديث ختم به الِإمام البخاري رحمه الله صحيحه هذا، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".
فكان ختاماً حسناً، وشرحاً واضحاً يستفيد منه العام والخاص، فجزاه الله تعالى خيراً.
إن الشارح حفظه الله جاء إلى دمشق الشام ليقوم بطبع هذا الكتاب وتفضل علي وزارني في داري جزاه الله تعالى خيراً. وأطلعنى على عمله المبارك، فقدَّمه إليّ، وطلب مني أن أقرأ كتابه هذا، وأن أراجعه وأنظر في أحاديثه وشرحه، وأن أبدي ملاحظاتي عليه، فاستجبت لذلك على ضعفي، وقرأته من ألفه إلى يائه، ومن أوله إلى آخره، فوجدته كتاباً جيداً نافعاً إن شاء الله لطلاب العلمٍ والقراء الذين يطلعون عليه، وقد رتبه ترتيباً حسناً، ونظمه تنظيماً دقيقاً، وشرحه شرحاً جيداً لا لبس فيه ولا غموض.(1/5)
فوضعت عليه بعض الملاحظات، وعلقت بعض التعليقات على الأحاديث النبوية، وربما أبدلت حديثاً بحديث، أو ذكرته بلفظه جاء في المصادر التي نقل عنها، وَرَجعت في ترجيح أقوال العلماء إلى قول أهل السنة والجماعة، وأهل العلم بالسنة من المحققين والمدققين من المتقدمين والمتأخرين، هذا وقد أضاف حفظه الله بعمله هذا إلى المكتبة الِإسلامية كتاباً حافلاً بالخير والبركة جعله الله تعالى في صحيفة أعماله، وصحيفة من شارك فيه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الاعتقاد الصحيح، والسبيل المستقيم، وأن يوفقنا لاتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطريقته وهديه، وأن يجعل عملنا هذا خالصاً لوجهه الكريم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
دمشق 17 ربيع الأول 1409 هـ
الموافق 27 تشرين الأول 1988 م
خادم السنة النبوية
عبد القادر الأرناؤوط(1/6)
كلمة شكر وتقدير ...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على نعمه العظام، وآلائه الجسام؛ والحمد لله الذي وفقني لخدمة سنة المصطفى خير الأنام، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه ورسله، سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه البررة الكرام، ما توالت الأيام وتتابعت السنون والأعوام.
وبعد. يسرني في هذه اللحظة المباركة التي أقدم فيها كتابي هذا إلى القراء، أن أوجه خالص شكري وتقديري وامتناني إلى صاحب الفضيلة المحدث الكبير، والعالم السلفي الجليل، الشيخ عبد القادر الأرناؤوط على تفضله مشكوراً بمراجعة أحاديث هذا الكتاب سنداً ومتناً، وتدقيق معانيها وفقهها وأحكامها وتذييل حواشيه بإرشاداته القيمة وتعليقاته العلمية المفيدة وآرائه الصائبة، فأفاض عليه من غزارة علمه، وسعة اطلاعه، ما هو جدير بفضيلته وأهل له، وكل تعليق ختم بـ (ع) فهو لفضيلته.
جزاه الله عن الحديث وأهله خير الجزاء، ونفع به الِإسلام والمسلمين.
ويطيب لي في هذه المناسبة السعيدة، أن أنوه بالجهود الكبيرة التي بذلها الأستاذ الجليل السيد بشير محمد عيون صاحب دار البيان في خدمة هذا الكتاب، حيث قام بإعداده وطبعه وإخراجه، وأشرف عليه في جميع مراحله، وعني كل العناية بتحقيق نصوصه وتدقيق ألفاظه وكلماته، وراجعه مرات ومرات، فله مني وللأستاذ الفاضل السيد حسن السماحي الذي قام بتصحيحه(1/7)
وترقيمه جزيل الشكر وعاطر الثناء، وعميق التقدير، وأتمنى لهؤلاء السادة الأفاضل كل نجاح وتوفيق فيما يبذلونه من نشاط واسع في خدمة الكتب الدينية وإحياء التراث الإسلامي، وعلى الأخص ما يتعلق منه بالحديث النبوي الشريف والسنة المحمدية المطهرة وعقيدة السلف الصالح.
سدد الله خطاهم ووفقهم لما يحبه ويرضاه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
دمشق 12 ربيع الأول سنة 1409 هـ
المؤلف
حمزة محمّد قاسم(1/8)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الكتاب
الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً عبده ورسوله. أرسله الله بالهدى ودين الحق على فترةٍ من الرسل، وقلةٍ من العلم، وضلالةٍ من الناس.
وصلّى الله على سيدنا محمدٍ الذى أرسله الله إلى الثقلين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.
وبعد فإنّ أصدقَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشرف العلوم علم السنة المحمدية، ودراسة أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواية ودراية، فقهاً وأحكاماً، فالكتاب والسنّة توأمان. وقد كان جبريل ينزل بالسنّة كما ينزل بالقرآن. فهي وحي إلهي منزل، وهي المرجع الأول في تفسير القرآن الكريم، والمصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي.
ولذلك كان لعلم الحديث مكانته السامية، وكان لأهل الحديث مكانتهم المرموقة بين العلماء. ويكفيهم شرفاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نوَّه بشأنهم، ودعا لهم بالوجاهة بين الناس، فقال - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه: "نَضَّرَ اللهُ امرءاً سَمِعَ مِنَّا حديثاً فَحَفِظَهُ حتَّى يُبلغَه، فرُبَّ حامِل فَقهٍ إلى مَنْ هُوَ أفْقَهُ مِنْه، وَرُب حَامِل فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيْهٍ" أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن.(1/9)
وقد استجاب الله تعالى دعوة نبيه - صلى الله عليه وسلم - لأهل الحديث كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله: فما من أحد يطلب حديثاً إلا وفي وجهِه نضرةٌ. والمراد أنه لا يوجد أحد من طلاب الحديث إلاّ وقد منحه الله تعالى نشاطاً وقوةً في جسمه، وصفاءً في لونه، وبهجةً في صورته ووجاهةً بين الناس. وإنما دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الدعوة المباركة، لأنه سعى في تجديد سنة المصطفى، فكان جزاؤه من جنس عمله، أفاده القسطلاني.
قال بعض السلف: ويرجى لأهل الحديث أن يفوزوا بنضرة النعيم في الدار الآخرة. ولا عجب فأهل الحديثِ هم خلفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - على سنته.
وقد كانت أمنية عمري أن يمنَّ الله عليَّ بخدمة "صحيح البخاري" وما زال هذا الحُلُم يراود مخيلتي سنين طوالاً، حتى وافتني الفرصة، وتحقق الأمل، فوفّقني الله تعالى إلى تأليف هذا المختصر الذي لخصته من صحيح البخاري، ووضعت عليه شرحاً وسطاً يقع في خمس مجلدات أو في خمسة أجزاء، تحرّيت فيه أن يكون محقِّقاً للغرض، مشتملاً على ما لا بدَّ منه، من ترجمة بعض الرواة، وشرح معنى الحديث، وبيان فقهه وأحكامه، وتخريجه (1) ، ومطابقته للترجمة.
وحرصت أن يكون - قدر الإمكان - بأسلوب سهل، وعبارة واضحةٍ، قريبةٍ من القراء، وفي متناول مداركهم. وبذلت جهدي في تحْقيقه معتمداً على أوثق المصادر الإسلاميّة. فإنْ أصبت فبفضل من الله (وما توفيقي إلا بالله) وإنْ أخطأت فالمؤلفون عُرْضة للزلل، ومن ألَّف فقد استُهدِف.
وسميته "منار القاري شرح مختصر البخاري" أسأل اللهَ ربَّ العرش العظيم، أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، ويمنحه القبول، وينفع به القرّاء.
__________
(1) اعتمدت في ذلك على شرح العيني غالباً، وفي بعضه على "جامع الأصول".(1/10)
وإنّي لأطمع أن يشملني قوله - صلى الله عليه وسلم - "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وَأَصْلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصْلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) اللَّهم إني أسألك أن تمنّ علينا وعلى والدينا وأوْلادنا وآل بيتنا ومشايخنا وأقاربنا وأصدقائنا، وعلى جميع المؤمنين والمؤمنات بعفوك وغفرانك، ورحمتك ورضوانك. (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وصلّى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
حمزة محمّد قاسم(1/11)
"لمحات عن البُخاري وكتابه الجامع الصحيح"
" الإمام البخاري: ترجمته، حياته، مؤلفاته"
عصر البخاري:
ظهر البخاري في القرن الثالث الهجري الذي ازدهرت فيه العلوم الإِسلامية، وأصبح لها مراكز متعددة بالمدينة ومكة (1) والبصرة والكوفة وبغداد عاصمة الخلافة ومركز العلوم والحضارة، في ذلك العصر الذي نمت فيه المذاهب الفقهية وتطورت علوم القرآن من تفسير وغيره، وأُلفت الكتب المتعددة في السيرة والتاريخ والطبقات، ووضعت علوم العربية لخدمة القرآن الكريم.
أما علوم الحديث: فقد بلغت في هذا العصر قِمَّة مجدها، وظهر فيه أعلام السنة وكبار المحدثين، منهم أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ومُسْلم بن الحجاج والترمذي وابن ماجة وأبو داود، كل هؤلاء ظهروا في هذا العصر الذهبي للعلوم الإِسلامية وألفوا المسانيد والمجاميع وتركوا تراثاً إسلامياً ضخماً في الحديث وعلومه.
ولم يكن هذا العصر عصر بداية الحديث وتدوينه وإنما كان عصر تطوره وازدهاره، أما بداية تدوينه فقد كانت في القرن الثاني الهجري، عندما أمر عمر بن عبد العزيز بجمع الحديث خشية ضياعه، وكتب إلى واليه أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم كتاباً يأمره فيه أن ينظر ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته فيكتبه خوفاً من أن يندرس هذا العلم بذهاب العلماء (2) فكان
__________
(1) الإمام البخاري للدكتور تقي الدين الندوي.
(2) ضحى الإسلام للأستاذ أحمد أمين ج 2.(1/12)
أوَّل من استجاب لهذه الدعوة إمام المحدثين في ذلك العصر محمد بن مسلم بن شهاب الزُّهري، فكتب فرائد في علم الحديث، حتى عدّه بعضهم واضع مصطلح الحديث. وكان أوَّل من جمع الأحاديث والآثار.
ثم اقتفى المحدثون أثره ونهجوا نهجه، واقتصروا في أوَّلِ الأمرِ على مجرد تدوين الحديث وجمعه، ثم خطوا خطوة جديدة انتقلوا فيها من مرحلة التدوين إلى مرحلة التنسيق والترتيب الفقهي، فوزعوا الأحاديث على أبواب الفقه الإسلامي، فهذا كتاب الصلاة وأبوابها، وهذا كتاب الزكاة وأبوابها، وهذا كتاب الصوم وأبوابه، وهكذا إلى آخره.
وكان من الروّاد الأوائِل في تنسيق الأحاديث وترتيبها ابن جريج ومالك وعبد الله بن المبارك وعبد الرزّاق (1) ، ثم جاء من بعدهم النسائي وابن ماجة وغيرهم، وفي مقدمتهم الإمامان الجليلان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم ابن الحجاج القشيري.
البخاري، نسبه، ولادته، نشأته:
البخاري هو حجة الإسلام وقدوة الأَنام وأمير المحدثين الأَعلام، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن المغيرة بن "بَرْدِزْبَة" (2) الجعفي، أَسلم جدّه المغيرة على يد ابن اليمان الجعفي والي بخارى، ولذلك نسب إليه. وكان والده إسماعيل من ثقات المحدثين، كما ترجم له ابن حبان، وذكر عنه البخاري أنه سمع من مالك، وصحب ابن المبارك، وكان محدِّثاً ورعاً صالحاً تقياً. ولد البخاري عند صلاة الجمعة من اليوم الثالث عشر من شوال سنة 194 هـ ببلدة بخارى من أسرة كريمة، وأراد الله أن ينشأ يتيماً في حجر أمّه، وكانت صالحة فأَنفقت
__________
(1) الإمام البخاري للدكتور الندوي أيضاً.
(2) بردزبة بفتح الباء وكسر الدال ومعناه "الفلاح أو المزارع باللغة الفارسية".(1/13)
عليه من مال أبيه، وأحسنت تربيته فنشأ نشأة علمية صالحة، ولاحظته العناية الإِلهية منذ صغر سنه، فقد روي أنّه ذهبت عيناه في صغره، فأخذت أمُّه تضرع إلى الله تعالى، وتبتهل إليه حتى استجاب دعاءها وردّ إليه بصره، وأسلمته أمه إلى الكتاب، فحفظ فيه القرآن الكريم، وظهرت عليه آثار النجابة، ورزقه الله تعالى قلباً واعياً، وحافظة قوية، وألهمه حفظ الحديث، فأخذ منه بحظٍ وافر وهو لم يبلغ العاشرة من عمره، وتردد على علماء بلده، وما إنْ بلغ السادسة عشرة حتى حفظ عدداً كبيراً من كتب الأئمة وكيع وابن المبارك وغيرهم من أعلام عصره.
رحلاته العلمية: كان البخاري واسع الطموح قوي الرغبة في طلب العلم، أفنى عمره كله في رحلته الطويلة بين العواصم الإسلامية للالتقاء بالمحدثين والسماع منهم، فبدأ رحلته بالحج برفقة أمّه وأخيه أحمد الذي كان أكبر منه سنّاً، وأقام بمكة زمناً، ثم طاف على معظم مراكز الحديث في العالم الإِسلامي وسمع من مشايخه في خراسان والحجاز ومصر والشام، ودخل المدينة المنوّرة، وصنَّف في روضتها الغراء كتابه "التاريخ الكبير" وقال رحمه الله: قلّ اسم في التاريخ إلاّ وله عندي قصة. ودخل بغداد ثماني مرات، وكان يجتمع فيها كل مرة بالِإمام أحمد، فيحثه على الإقامة فيها.
كثرة شيوخه: لا شك أن هذه الرحلة الطويلة كانت سبباً في كثرة مشايخ البخاري وكلهم من أعلام المحدثين ذوي الثقة والعدالة. قال رحمه الله تعالى: "كتبت عن ألف وثمانيْن نفساً، ليس منهم إلاّ صاحب حديث. وكان بعض مشايخه رحمه الله من التابعين، وبعضهم من أتباع التابعين، وهم الطبقة الوسطى من مشايخه.
تلامذته: أخذ عن البخاري وسمع منه خلق كثيرٌ حتى قال الفربري: سمع(1/14)
منه كتاب البخاري سبعون ألف رجل، وكان من أعْلام تلاميذه الترمذي
والنَسائي ومسلمٌ وابن خزيمةِ وأبو زُرعة.
سعة حفظه: كان رحمه الله في الحفظ نادرة زمانه، وأعجوبة دهره، ولم يكن له نظير في عصره، بل كان آية من آيات الله في أرضه، رُوِى عنه أنه كان ينظر في الكتاب فيحفظه من نظرة واحدة، قال رحمه الله تعالى: أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائَتَيْ أَلفِ حديثٍ غير صحيح، وروى أبو العباس البغدادي "أن البخاري لما قدم بغداد اجتمع به محدثوها وأَرادوا امتحان حفظه، فعمدوا إلى مائة حديث قلبوا متونها وأسانيدَها، وجعلوا إسناد هذا لهذا ودفعوا لكل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم أن يلقوا ذلك إلى البخاري، فلما انعقد المجلس من كبار علماء العراق وخراسان، قام إليه رجل فسأله عن حديث منها، فقال البخاري: لا أعرفه، فما زال يلقى إليه واحداً واحداً (1) ، والبخاري يقول: لا أَعرفه، ثم قام إليه ثان وثالث ورابع حتى فرغوا كلهم، فالتفت إلى الأَول فقال: أمَّا حديثك الأول فقلت: كذا، وصوابه كذا، وحديثك الثاني كذا، وصوابه كذا، حتى أَتى على تمام العشرة فرد كل متنٍ إلى إسْنَادِهِ، وفَعَل بالآخرين مثل ذلك، قال الحافظ: فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب فإنّه كان حافظاً، بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه.
ثناء أهل العلم عليه: لقد أجمع علماء الإِسلام على أن البخاري قد فاز بقَصَب السبق، وتفوّق على غيره في علم الحديث حتى أصبح يلقَّب بأمير المؤمنين في الحديث، وشهد له بذلك أهل العلم في جميع العصور قديماً وحديثاً، فقال الإمام أحمد رحمه الله: ما أخرَجَت خراسان مثل محمد بن إسماعيل، رواه الخطيب بإسناد صحيح.
__________
(1) المقدمة لابن حجر العسقلاني.(1/15)
واعترف له بالفضل جميع أئِمة عصره، فقال الدارمي: لقد رأيت العلماء بالحرمين والحجاز والشام والعراق فما رأيت فيهم أَجمع من محمد بن إسماعيل.
وقال قتيْبة بن سعيد: جالست الفقهاء والزهاد والعباد، فما رأَيت منذ عقلْت مثل محمد بن إسماعيل، وهو في زمانه كعمر في الصحابة.
وأما مكانته في الحديث وعلو منزلته بين المحدثين، فقد قال عنه الحافظ ابن كثير: البخاري إمام المحدثين في زمانه، والمقتدى به في أَوانه، والمقدم على سائِر أقْرانه.
وقال السبكي: البخاري إمام المسلمين وقدوة المؤْمنين، وشيخ الموحدين، والمعوَّل عليه في حديث سيد المرسلين، وكتب إليه أهْل بغداد شعراً قالوا فيه:
المُسْلِمُونَ بِخَيْرٍ مَا بَقِيْتَ لَهُمْ ... وَلَيْسَ بَعْدَكَ خَيْرٌ حِيْنَ تُفْتَقَدُ
وقال فيه أبو مصعب: لو أدركتَ مالكاً ونظرت إلى وجهه ووجه محمد بن إسماعيل لقلت كلاهما واحدٌ. وهكذا اشتهر البخاري، وأصبح حديث الدنيا، وتطلعت إليه الأنظار، وأجع العلماء على محبته وتقديره، واشتاقت إلى رؤيته القلوب، وشخصت الأبصار حتى قال أبو سهيل: أكثر من ثلاثين عالماً من علماء مصر يقولون: حاجتنا في الدنيا النظر إلى وجه محمد بن إسماعيل.
وقال يحيى بن جعفر: لو قَدِرْتُ أن أزيد من عمري في عمر محمد بن إسماعيل لفعلت، فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموت محمد بن إسماعيل فيه ذهاب العلم.
صفات البخاري وشمائله: كان البخاري رحمهُ الله ربعة القوام، عظيم الحياء والشجاعة والورع والزهد، كثير الجود وتلاوة القرآن، أنفق المال الذي ورثه عن والده على طلبة العلم، وكان شغوفاً بتلاوة القرآن يختم في رمضان في كل(1/16)
يوم ختمةً قال محمد ابن أبي حاتم.
وفاة البخاري: عاد البخاري أخيراً إلى مسقط رأسه (بخارى) وتلقَّاه أهلها بالحفاوة والتقدير. إلاّ أنَّ أميرها خالد بن أحمد الذهلي سأله أن يحضر إلى منزله ليحدِّث أولاده بالجامع الصحيح، فامتنع، وقال كلمته المشهورة: لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب السلاطين، فإن كانتْ له حاجة فليحضر إلى مجلسي. فغضب عليه الوالي، ونفاه عن بخارى. فدعا عليه بقوله: اللهم أرهم ما قصدوني به في أنفسهم وأولادهم وأهاليهم، فلم يأت شهر على ذلك الوالي حتى عُزِّرَ به، وأركب على أتان ونودي عليه في أسواق بخارى. أما البخاري فإنه سار إلى سمرقند بدعوة من أهلها، فوقعت بسببه فتنة، فتوقف بقرية خَرْتَنْك، على ثلاثة فراسخ من سمرقند، ومرض هناك ووافاه أجله المحتوم، ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومائتين من الهجرة النبوية.
مؤلفات البخاري كثيرة منها:
1- الجامع الصحيح أو صحيح البخاري.
2- الأدب المفرد.
3- القراءة خلف الإِمام.
4- التاريخ الكبير.
5- التاريخ الأوسط.
6- التاريخ الصغير.
7- خلق أفعال العباد.
8- أسامي الصحابة.
9- كتاب الضعفاء.
قال القسطلاني: وسارت مؤلفات البخاري مسير الشمس، ودارت(1/17)
الدنيا، فما جحد فضلها إلاّ الذي يتخبطه الشيطان من المس.
الجامع الصحيح - أو صحيح البخاري:
صحته: لا شك أن هذا الجامع الصحيح المشهور بصحيح البخاري هو أجل كتب الإِسلام بعد كتاب الله شاناً وأعلاها منزلة، وأصح كتب الحديث على الإطلاق، وهو الكتاب الذي خلّد اسم البخاري، ودخل به التاريخ من أوسع أَبوابه، وأصبح ذكره على كل لسان على مر العصور والأَزمان، لأنه خطا في كتابه هذا خطوةً عظيمة وانفرد بميزة لم يشاركه فيها غيره، حيث اقتصر فيه على أصح الصحيح من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واشترط في الأحاديث التي أخرجها شرطاً لم يشترطه سواه، وقد كان المحدثون قبله لا يعنون إلا بجمع ما وصل إليهم من الحديث، تاركين البحث عن رواته إلى القرّاء، فلما ظهر البخاري أراد أن يجرِّد الصحيح من الأحاديث في كتاب على حدة، ليريح الطالب من عناء البحث، فأَلَّف كتابه هذا الذي اقتصر فيه على الحديث الصحيح، الذي ينطبق عليه شرطه هو دون سواه، قال ابن الصلاح: أوَّلُ من صنف الصحيح أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي مولاهم، وتلاه أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري ... ثم إِن كتاب البخاري أصح الكتابين وأكثرها فوائد.
فصحيح البخاري أصح من صحيح مسلم، لأن شرط البخاري أَقْوى، فقد اشترط فيما يخرجه من الأحاديث " اللقيا " بين الراوي ومن روى عنه، بينما لم يشترط مسلم سوى " المعاصرة بينهما "، ولهذا قال العسقلاني: أما رجحان البخاري من حيث الاتصال فلاشتراطه أن يكون الراوي قد ثبت له لقاء من روى عنه، واكتفى مسلم بمطلق المعاصرة. أهـ. ولهذا أجمعوا على أنه أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى.(1/18)
قال البخاري رحمه الله تعالى: سمعت شيخي إسحاق بن راهويه يقول: لو جمعتم كتاباً مختصراً في الصحيح من سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوقع ذلك في نفسي أو في قلبي، فأخذت في جمع "الجامع الصحيح" ورأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، وكأني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذب عنه، فسألت بعض المعبّرين فقال: أنت تذب عنه الكذب (1) ، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح.
وقد تحرى في صحته ما أمكنه التحري وبذل في ذلك أقصى الجهد ومكث فيه سنوات طويلة، قال رحمه الله: " صنفت الجامع في ست عشرة سنة، وجعلته حجةً فيما بيني وبين الله، ما أدخلت فيه حديثاً حتى استخرت الله تعالى، وصليت ركعتين وتيقنت صحته. وأكد ابن الصلاح أن الأحاديث التي انفرد بها البخاري ومسلم أحاديث مقطوع بصحتها، تفيد (2) العلم اليقينى لتلقي الأمة كلَّ واحد من كتابيهما بالقبول، ويقول الأستاذ أحمد محمد شاكر " الحق (3) الذي لا مرية فيه عند أهْل العلم بالحديث من المحققين، أن أحاديث الصحيحين صحيحة كلها، ليس في واحد منها مطعن أو ضعْف "، أهـ.
ولقد كان من العوامل التي ساعدت البخاري على أن يكون الرائد الأَوَّلَ في تجريد الأحاديث الصحيحة كما قال أحمد أمين في ضحى الإِسلام: أنه رزق خصلتين بارزتين مكَّنتاه من غرضه:
__________
(1) مقدمة البخاري للحافظ بن حجر.
(2) المقدمة لابن الصلاح.
(3) سرح ألفية الحديث لفضيلة الأستاذ أحمد مَحمد شاكر.(1/19)
الأولى: حافظة قويّة لاقطة خاصةً (1) فيما يتعلق بالحديث، فقد بالغ الرواة في كثرة ما كان يحفظه عن ظهر قلبه من أَحاديث بسندها، فروي عنه أنه كان يحفظ في صباه سبعين ألف حديث وأكثر، ولا يجيء بحديث عن الصحابة والتابعين إلا ويعرف مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم وأوصافهم، ومهما كانت هذه الأخبار التي رويت عنه فإنها تدلنا على قدرته في الحفظ، وكان يستعين على حفظه بالتقييد، فقد رووا عنه أنه كان يقول ما تركت حديثاً في البصرة إلا كتبته.
الثانية: مهارة فائِقة في تعرف الرجال ونقدهم، وقد وضع في ذلك كتابه " التاريخ " لتمييز الرجال، ورووا عنه أنه قال: قَلَّ اسْمٌ قي التاريخ إلا وله عندي قصة.
أما عدد أحاديث صحيح البخاري: فقد ذكر ابن الصلاح (2) أنها سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثاً بالأحاديث المكررة (3) ، وقيل إنها بإسقاط المكرر أربعة آلاف حديث وتبعه النووي في مختصره ... وقال القاري (4) : الذي حققه الحافظ في شرح البخاري، أن جملة أحاديثه مع التعاليق والمتابعات والشواهد والمكررات تسعة آلاف وإثنان وثمانون حديثاً، وبإسقاط المكرر تبلغ أَحاديثه المرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أَلفين وستمائة وثلاثاً وعشرين، وتبلغ ثلاثيات البخاري وهي أعلى الأسانيد مع المكرر اثنين وعشرين حديثاً، وبإسقاط المكرر ستة عشر حديثاً.
__________
(1) ضحى الإسلام للأستاذ أحمد أمين.
(2) علوم الحديث للإمام ابن الصلاح.
(3) وقد أحصى أحاديثه الأستاذ المرحوم محمد فؤاد عبد الباقي فبلغت (7563) .
(4) المرقاة شرح الشكاة للقاري ج 1.(1/20)
أما ثناء الناس عليه: فقد أَجمع علماء الإِسلام على تلقي هذا الكتاب الصحيح بالقبول، لأنه الكتاب المبارك الذي جمع بين دُفتَيْهِ السنّة الصحيحة، ولا شك أن صاحبه رحمه الله تعالى عندما أسماه " الجامع المسند الصحيح " قد عنى بالفعل أن يكون هذا الكتاب مطابقاً لعنوانه، فنفَّذ ما وصفه به بكل دقة وعناية، والتزام، ولهذا حظي الكتاب بما لم يحظ به غيره، من تقدير علماء الإسلام وإعجابهم به شرقاً وغرباً، فأثنوا عليه بالغ الثناء، ووصفوه بما يليق به، فقال الذهبي في تاريخ الِإسلام: أما جامع البخاري الصحيح فأجل كتب الإسلام، وأفضلها بعد كتاب الله وهو أعلى في وقتنا هذا إسناداً للناس.
وقال شيخ الإِسلام ابن تيميّة: ليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن (1) .
وشارك الشعراء في الثناء على هذا الكتاب العظيم، والتغني بمدحه فقال العجلى:
كأنَّ البخاري في جمعه ... تلقى من المصطفى ما كتبْ
فلله خاطره ما وعَى ... وساق فرائده وانتخبْ
وقال الجرجاني في وصفه:
أسانيدُ مثلُ نجوم السماء ... أمَامَ متونٍ كمثل الشُّهُبْ
به قام ميزانُ دينِ النبي ... ودانَ له العُجْمُ بعد العربْ
وخير طريق إلى المصطفى ... ونور مبين لكشف الريبْ
صحيح البخاري لو أنصفوه ... لما خط إلاّ بماء الذهبْ (2)
نفعنا الله به ووفقنا للعمل بما فيه والله أعلم.
__________
(1) الإمام البخاري للدكتور الندوي.
(2) شرح القسطلاني ج 1.(1/21)
قال البخاري:
بسم الله الرحمن الرحيم
1- " باب كيف كان بدءُ الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(بسم الله الرحمن الرحيم)
1- " باب كيف كان بدءُ الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "
أقول وبالله التوفيق: جرت عادة المصنِّفين على إطلاق لفظ الباب على مجموعة من المسائل العلمية المشتركة في حكم واحد، وعلى هذا جرى البخاري حيث ذكر في هذا الباب الأحاديث المتعلقة بالوحي، وكيف بدأ وتدرج من مرحلة إلى أخرى، ومن رؤيا منامية إلى وحي صريح. كما ذكر فيه الأحاديث المتعلقة بالوحي المحمدي وتقرير صحته وثبوته وصدقه. ولا شك في أن تصدير البخاري. كتابه بباب بدء الوحى أمر في غاية المناسبة، والإِبداع والتوثيق العلمي. فإنّ فيه إشارة صريحة إلى أن ما بين دفتيه من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وحى إلهي، وكذلك السنة الصحيحة كلها. قال يحيى بن كثير: كان جبريل ينزل بالسنَّة كما ينزل بالقرآن، أخرجه الدارمي، وقال عز وجل: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله ". أما الوحي فله معنيان معنى لغوي ومعنى شرعي وإنْ شئتَ قلت: له في اللغة معان عديدة، وله شرعاً معنى واحد. فالوحي لغة يأتي لعدة معان وهي:
(أ) الإشارة الحسية باليد والعين وغيرهما، كما قال الشاعر:
__________
(1) حديث "إنما الأعمال بالنيات ... " سيأتي شرحه وافياً صفحة (145) .(1/23)
نظرت إليْها نظرةً فَتَحَيَّرَتْ ... دَقَائِق فِكْري فِى بَدِيْع صِفَاتِهَا
فَأوحَى إِلَيْهَا الطرفُ أنَّي أحبّهَا ... فأثَّر ذَاكَ الوَحيُ في وَجنَاتِهَا
ومنه قوله تعالى: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) .
(ب) : الكتابة كقول لبيد (1) :
فمدافعُ الرَّيَّان عُرِّي رَسْمُها ... خَلَقاً كما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلاَمُها
(فالْوُحِىُّ جمع وَحْيٍ وهو الكتابة) ، وإنما سميت الإِشارة والكتابة وحياً لدلالتهما على المعنى بسرعة لا يدانيهما فيها غيرهما. والعرب تسمي السرعة وحياً، فيقولون: تَوَحَّى الرجل إذا جاء بسرعة، فهما يرجعان إلى أصل واحد وهو السرعة.
(جـ) الإِلهام القلبي وهو ما يلقيه الله في قلب الإنْسان من علم، أو أمر، أو نهي. كما قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) .
(د) التسخير الغريزى للحيوان (2) كقوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) : أي أنَّ الله سخرها عن طريق الغريزة أنْ تصنع هذه الأشياء
العجيبة.
(هـ) الوسوسة الشيطانية، ومنه قوله تعالى: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ) . وإنما سمي " الإلهام " و " التسخير الغرْيزي " و " الوسوسة الشيطانية " وحياً، لأنّها إعلام في خفاء، والعرب تسمي الإعلام الخفي
__________
(1) ديوانه: 297
(2) الوحي المحمدي للسيد رشيد رضا.(1/24)
وَحْياً، قال الكسائي: تقول وحيت إليه إذا كلمته بكلام تخفيه عن غيره. أما الوحي شرعاً: فهو إعلام الله تعالى لنبيٍّ من أنبِيَائه بالشريعَة الْمنْزَلَةِ عليه، وما يتعلق بها من أخبار وأحكام سواءً كان هذا الإِعلام الإِلهي مَناماً أو إلهاماً أو كلاماً بواسطة أو بغير واسطةٍ. وِإنما سمي إعلام الله لأنْبِيَائِهِ وحياً لأمرين:
أولاً: لأنه يأتي غالباً إِلى الأنبياءِ في سرِّية وخفاءٍ، وأصل الوحي في اللغة " الإِعلام الخفي ".
ثانياً: أنه غالباً مما يتم في سرعةٍ شديدةٍ حتى أنَّ القسطلاني قال: والتلقي من الملك، وفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أُلقي إليه كأنه في لحظة واحدة، بل أقرب من لمح البصر، ولذلك سمي وحْياً لأن الوحي في اللغة الإِسْراع. والحاصل أنه سُمِّيَ وحياً لما يتصف به غالباً من الخفاءِ والسرعة، حتى قال بعضهم: الوحي شرعاً هو إلقاء الله تعالى الكلام أو المعنى في نفس النبي بخفاء وسرعة.
ولكن هذا التعريف في الحقيقة، لا ينطبق على الوحي في كل الأَحوال، فليس كل وحي يأتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في سرعة وخفاء، فقد يأتي أحياناً عَلانيةً، ويلقاه جبريل أمام أصحابه، فيرونه ويشاهدونه، ويسأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ويجيبه - صلى الله عليه وسلم - وهو بين أظهرهم، وَيقولُ لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم ". وقد تطول مدة نزول الوحي، ويستغرق فترة من الزمن، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فالسرية والسرعة ليست صفة لازمة للوحي، ولا حالة مطرِّدَة فيه، وإنما هي حالة أغلبية والله أعلم.
أنواع الوحي: قال ابن القيم: وكمل الله له - صلى الله عليه وسلم - من مراتب الوحي مراتب عديدة.(1/25)
أحدهما: الرؤيا الصادقة، وكانت مبدء وحيه (1) ، كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه (2) من غير أن يراه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " إنّ روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلاّ بطاعته ".
الثالثة: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتمثل له الملك رجلاً فيخاطبه حتى يعي ما يقول، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياناً.
الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده، عليه فيلتبس به الملك حتى أن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد. وحتى إن راحلته لتبرك به إِلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاءه الوحي مرّة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليها حتى كادت ترضها.
الخامسة: أن يرى الملك في صورته (3) التي خُلق عليها فيوحى إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين، كما ذكر الله ذلك في سورة النجم.
السادسة: ما أوحاه الله إليه وهو فوق السموات ليلة المعراج. من فرض الصلاة وغيرها.
__________
(1) واستمر على هذه الصورة ستة أشهر من ربيع الأول إِلى رمضان، حيث نزل عليه الوحي الصريح، وأتاه جبريل في غار حراء.
(2) وهو ما يسمى بالإلهام، ومعناه إلقاء العلم الإلهي في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -، دون سبب ظاهرى، من إدراك حس أو نظر واستدلال.
(3) وهو نادر جداً، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يره على صورته الأصلية إلا مرتين، مرة سأل ربه أن يريه كذلك، فظهر له كما هو، فسد الأفق، ومرة أخرى عند سدرة المنتهي، ليلة المعراج، كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد، وجاء فيه أنه رآه - صلى الله عليه وسلم - في المرة الأولى، له ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق. أخرجه أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه.(1/26)
السابعة: كلام الله له، منه وإليه بلا واسطة ملك، كما كلم الله تعالى موسى بن عمران، وكلَّم أيضاً نبينا - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج، قال ابن القيم: وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة وهي تكليم الله له كفاحاً، " مباشرة دون حجاب " وهذا على مذهب من يقول: إنه - صلى الله عليه وسلم - رأَى ربه (1) تبارك وتعالى، وهي مسألة خلافية بين السلف والخلف، وقد بدأ الخلاف في هذه المسألة منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم، فعائِشةُ وجماعة من الصحابة يقولون: لم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه، وابنُ عباس ومن وافقه يقولون: رأى - صلى الله عليه وسلم - ربه، ليلة المعراج، وروى الخلال في " كتاب السنة " عن المروزي أنه قال: قلت لأحمد: يقولون إنَّ عائشة قالت: " من زعم أنّ محمداً رأى ربَّه فقد أعظم على الله الفرية " فبأي معنى تدفع قولها قال بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: رأيت ربي (2) ، وقال ابن كثير: وصرح بعضهم بالرؤية بالعين، واختاره ابن جرير وبالغ فيه (3) وقال النووي في شرح مسلم: الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بعيني رأسه (4) ، لحديث ابن عباس وغيره، حيث قال " أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وإثبات هذا لا يأخذونه إِلا بالسماع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (5) .
عناصر الوحي: لا شك أنّ الوحي يتألف من عنصرين هما: كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فالسنة توأم القرآن، والمصدر الثاني للتشريع الإسلامي، وهي وحي إلهي من أنكرها فقد أنكر نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وكفر بشهادة أن محمداً رسول الله؛ لأنها لا تتحقق إلا بتصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به، والعمل
__________
(1) زاد المعاد لابن القيم.
(2) " مختصر سيرة الرسول " للشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
(3) " البداية والنهاية " لابن كثير ج 3.
(4) شرح النووي على مسلم ج 3.
(5) والرؤية محمولة على المقيدة بالفؤاد، ومن روى أن الرؤية بالبصر، فقد أغرب فإنه لا يصح في ذلك شيء عن الصحابة رضي الله عنهم، ومن قال: إنه رآه بعيني رأسه، ففيه نظر. (ع) .(1/27)
بسنته، ومن لم يعمل بالسنة لم يعمل بالقرآن؛ لأنه خالف قوله عز وجل (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) . ولا تتحقق طاعة الله إلّا بطاعة نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ لقوله عز وجل (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من أطاعنى فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله " أخرجه البخاري. وقال يحيى بن كثير: كان جبريل ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن. وفي الحديث عن المقدام بن معدي كرب قال: قال النبي: - صلى الله عليه وسلم - " ألا إني أُوتيت الكتاب ومثله " إلى أن قال - صلى الله عليه وسلم -: " وإنّ ما حرم رسول الله كما حرم الله " أخرجه أبو داود. وقال طاووس رحمه الله تعالى: وقيل: لم يسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط إلا بوحي، فمن الوحي ما يتلى، ومنه ما يكون وحياً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسن به (1) .
من هو أول الأنبياء ومن أول الرسل؟
لا خلاف بين أهل العلم في نبوة آدم عليه الصلاة والسلام، فقد اتفقوا على أَنه نبي، وأنه أوّل الأنبياء، لثبوت ذلك بالأحاديث الصحيحة، قال الأستاذ الصابوني (2) وقد ورد في السنة الصحيحة ما يدل على نبوته صراحة وذلك في حديثين:
الأول: عن أبي سعيد الخدرى رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدى لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشقّ عنه الأرض ولا فخر "، رواه الترمذي.
الثاني: عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله
__________
(1) ترتيب مسند الإمام الشافعي لمحدث المدينة في القرن الثالث عشر الهجري الشيخ محمد عابد السندي المتوفى سنة 1257 هـ.
(2) النبوّة والأنبياء للأستاذ محمد علي الصابوني.(1/28)
أي الأنبياء كان أول؟ قال: آدم، قلنا: يا رسول الله ونبي كان؟ قال: نعم، نبي يكلَّم، قلت: يا رسول الله كم المرسلون؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر جَمَّاً غفيراً.. رواه أحمد. قال: ولهذه الأدلة نرى علماء المسلمين متفقين على نبوته، لم يخالف في ذلك أحد، والله تعالى أعلم " قال " وأما رسالته فالأمر فيها مختلَفٌ فيه، فيرى بعض العلماء أنه رسول، وأنه أرسل إلى ذُرِّيته، ويرى الآخرون أنه لم يكن رسولاً، وإنَّما كان نبيّاً، ويستدل هؤلاء بحديث الشفاعة الوارد في صحيح مسلم أن الناس يذهبون إلى نوح يقولون له أنت أوّل رسل الله إِلى الأرض، فلو كان آدم رسولاً لما ساغ هذا القول.
والرأي الأرْجح أنه من الرسل. ومن أقوى الأدلة على رسالته قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) فقد روي عن الحسن وابن عباس رضي الله عنهما تفسير الإِصطفاء في الآية بالاختيار للرسالة، كما أخرجه ابن عساكر وابن جرير (1) ، وهذا يدل على أن آدم أوّل الرسل، قالوا: إنما لم يذكر اسمه مع الرسل في قوله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) إلخ لأن الوحىَ الذي أنزل عليه كان غالباً حول الأمور الكونية (2) ، لا التشريعية والله أعلم.
***
__________
(1) تفسير الآلوسي ج 3.
(2) فيض الباري على صحيح البخاري للشيخ محمد أنور الكشميري.(1/29)
1- عَنْ عائِشَةَ رضي الله عنها:
أنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَام سأل رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ يَأتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أحْيَاناً يَأتِيني مِثْلَ صَلْصَلَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1- الحديث: أخرجه الشيخان
راوية الحديث: هي أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، عقد عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة قبل هجرته، وعمرها ست سنوات، ودخل عليها بالمدينة في شوّال من السنة الثانية وعمرها تسع سنوات.
ولها مناقب عظيمة، فمن مناقبها أنها حبيبة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وأن الوحي كان ينزل عليه في فراشها، ونزلت براءتها من السماء، وتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجرها، ودفن في حجرتها، وكانت من الستة المكثرين من رواية الحديث، وهم أبو هريرة وعائشة وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك رضي الله عنهم. روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاً ومائتين وعشرة أحاديث في حين أنها لم تتجاوز الثامنة عشرة عند وفاته - صلى الله عليه وسلم -. وكانت مرجعاً للناس في الفقه والفتيا والكتاب والسنة، كما كانت موضعٍ تقدير الخلفاء، توفيت في رمضان سنة خمس وخمسين للهجرة مخلّفة بعدها تراثاً إسلامياً ضخماً يُعَدُّ مصدراً من مصادر التشريع الإِسلامي.
معنى الحديث: تُحدثنا السيدة عائشة رضي الله عنها " أن الحارث بن هشام " ابن المغيرة الخزومي شقيق أبي جهل، أسلم رضي الله عنه يوم الفتح، وأصبح من فضلاء الصحابة، خلّف اثنين وثلاثين ولداً منهم عبد الرحمن بن الحارث، أحد الفقهاء السبعة، وحضر اليرموك واستشهد فيها. " سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟ " أي أن الحارث ابن هشام رضي الله عنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا السؤال ليتعرّف على كيفية(1/30)
الْجَرَس" وَهُوَ أشَدُّهُ علَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وأحْيَاناً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نزول الوحى، لأن الوحي هو مصدر هذا الدين، ولأن التعرف عليه والتأكد منه مما يقوِّي الإيمان ويزيد في اليقين. أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد عُني بسؤاله هذا لأهميته، وأجابه عنه " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس " أي أن للوحي صوراً مختلفةً، ومن هذه الصور أنه يأتي " في بعض الأوقات " على شكل صوت قوي غريب مبهم، يشبه دقات الجرس. لو سمعه الإِنسان العادي لم يفهم منه شيئاً، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعي هذا الصوت، ويفهم معناه، فور انتهائه. لأنّ الله تعالى الذي علَّم آدم الأسماء كلها قد هداه إلى معناه، وأقدره على فهمه.
أما مصدر هذه الصلصلة وصوت من هي؟ فالظاهر أنها صوت المَلَك الوكل بالوحي، لما جاء في رواية أخرى للبخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " يأتي الملك أحياناً في مثل صلصلة الجرس " أي يأتي الملك بالوحي أحياناً، فيكلم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بصوت مثل صلصلة الجرس (1) . وقد كان هذا النوع من الوحي يأتي بأصوات مختلفة، وربما أَتى كدويّ النحل، وكان الصحابة رضي الله عنهم يسمعونه أحياناً، فقد روى عمر في حديثه أنه - صلى الله عليه وسلم - إِذا نزل عليه الوحي يُسْمَعُ عنده كدويّ النحل، أخرجه الترمذي، والنُسائي والحاكم والبيهقي وأبو نعيم بإسناد جيد، قال القاضي (2) : وما جاء مثل ذلك يجري على ظاهره، وكيفيّة ذلك مما لا يعلّمه إلاّ الله سبحانه، ومن أطلعه الله على شيءٍ من ذلك من ملائكته ورسله، قال - صلى الله عليه وسلم - " وهو أشده على " أيْ والوحي على هذه الصورة أشد أنواع الوحي على نفس النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك كما أفاده الحافظ أمر
__________
(1) قال الكرماني الجرس شبه ناقوس صغير، أو سطل مقلوب في داخله قطعة نحاس يعلق على البعير منكوساً فإذا تحركت النحاسة فأصابته تحصلُ الصلصلة.
(2) أى القاضي عياض.(1/31)
يَتَمَثَّلُ لِىَ الْمَلَكُ رَجُلاً فيُكَلِّمُني، فأعيَ ما يَقُولُ" قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: ولقَدْ رَأيتُهُ ينزلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ في اليوْمِ الشَّديدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" واضح " لأن الفهم من كلام مثل صلصلة الجرس، أَشكل " وأصعب " من الفهم من الكلام العادي بالتخاطب المعهود. قال - صلى الله عليه وسلم - " فيفصِمُ عنّي وقد وعيت عنه ما قال " أي فلا يكاد ينتهي هذا الصوت المبهم الشبيه بالصلصلة وينقطع الإرسال إلا وقد فهِمْتُ ما يعنيه، وماذا قال فيه، لأن الله الذي علم آدم الأسماء كلها قد هدى نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأقدره ومكّنه من فهم هذه الصلصلة، ثم قال " وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً " أي وفي بعض الأوقات يصل إليَّ الوحي عن طريق الالتقاء الشخصي بالمَلَكِ الذي يحمله، فيأتي الملك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة إِنسان من البشر، ويراه النبي - صلى الله عليه وسلم - عياناً، ويكلمه ويسمع منه كلاماً واضحاً جليًّا، ويلتقي به حقيقةً لا خيالاً، قال ابن خلدون: وفي هذه الحالة (1) ينتقل الملك من الروحانية المحضة إلى الصورة البشرية، وكان غالباً ما يأتي على صورة دحية الكلبي، أوسم العرب، ولا غرابة في ذلك، فإن الملائكة تتشكل كيف شاءت، لأنّها أجسام نورانية لطيفة قادرة بإذن الله على التشكل بأشكال مختلفة، إلاّ أنها لا تتشكل إلاّ بالصور الشريفة.
والملك كما يقول السيد رشيد رضا: قد منحه الله تعالى قوة التصرف في مادته وصورته، فالملائكة تكبر وتصغر كيف شاءت بإقدار الله تعالى لها على ذلك.
" فيكلمني فأعي ما يقول " أي فيبلغنى ذلك الملك الوحْي الذي جاء به من عند الله تعالى بكلام صريح واضح، فأفهمه في الحال، وهو معنى قوله: " فأعي ما يقول " لأن المضارع المقترن بالفاء يدل على الحال. "قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم
__________
(1) مقدمة ابن خلدون.(1/32)
عَنْهُ، وإنَّ جَبينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عنه" أي فينقطع عنه " وإن جبينه ليتفصد عرقاً " أي يسيل العرق من جبينه بغزارة شديدة، كما يسيل الدم من العِرْقِ المفصود. بسبب ما يكابده من شدة الكرب والمعاناة، وما يبذله من جهد أثناء نزول الوحي عليه، وقد وردت في وصف ما يعانيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نزول الوحي أحاديث كثيرة، ففي الحديث الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - كانت تأخذه عند الوحي الرحضاء " أي يتقاطر منه مثل عرق الحمى " وفي حديث عبادة بن الصامت " كان نبي الله إذا أنزل عليه كرب تربد وجهه " وهذه الشدة التي يعانيها مصداق قوله تعالى (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) أي ثقيلاً عند تلقيه وحياً، والالتزام به عملاً ولكن هذه المشقة تهون وتزول متى تكرر نزول الوحي، فتذهب متاعبه ومشقته، وتبقى حلاوته وعذوبته. كما أفاده فضيلة الأستاذ الشعراوي في فتاويه (1) والله أعلم.
ويستفاد من الحديث ما يأتي:
أولاً: تنوع الوحي إلى أنواع مختلفة، فمن أنواعه: أن يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - صوتاً مثل صوت الجرس أو دويّ النحل ومنها التقاء الملك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - متمثلاً في صورة إنسان من البشر يبلغه عن الله عز وجل ما شاء الله أن يبلغه له من أمر أو نهي أو خبر أو بشارة أو نذارة أو غيرها. وقد يلتقي به في سمع من الصحابة فيسأله ويُجيبُهُ ثم يعرفهم به - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " هذا جبريل جاء يعلمكم أمر دينكم " كما في حديث جبريل المشهور.
ثانياً: بيان ثقل الوحي وشدته على النبي - صلى الله عليه وسلم - سيما ما كان منه مثل صلصلة الجرس.
__________
(1) الفتاوى لفضيلة الأستاذ الشعراوي.(1/33)
2- عَنْ عَائِشَةَ أمِّ الْمُؤْمِنينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
أوَّلُ مَا بُدِىءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْوَحْي الرؤيَا الصَّالِحَة في النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرى رؤيا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إليْهِ الْخَلاءُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثالثاً: إثبات وجود الملائكة وقدرتهم على التشكل بأشكال مختلفة والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أحياناً، وأحياناً " فإنّه يدل على أن للوحي صوراً مختلفة.
2- الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي
معنى الحديث: تحدثنا السيدة عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث، عن بَدْءِ نزول الوحي على نبينا - صلى الله عليه وسلم - فتذكر لنا أن أول ما أوحي إليه في البداية هو الرؤيا الصالحة والصادقة، التي اقتصر عليها الوحي مدة ستة أشهر، من ربيع الأول إلى شهر رمضان المبارك حيث جاءه الوحي الصريح. وإنما اقتصر الوحي في بدايته على الرؤيا فقط مراعاةً لسنّة التدرج، وتلطفاً وإيْناساً له - صلى الله عليه وسلم -، ورفقاً به، لئلا يَفْجَأهُ الملك يقظةً فيشق عليه. " فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح (1) " أي فكانت رؤياه - صلى الله عليه وسلم - كلها صحيحة صادقة، لا يرى رؤيا إلاّ تحقَّقَ تفسيرها وظهر، كما يظهر الصباح في هذا الوجود، لأنَّ رؤيا الأنبياء ليست من أضغاث الأحلام، وإنّما هي حق ووحي من الله.
وأفئدة الأنبياء كأجهزة الاستقبال (2) المعدة لالتقاط الأنباء في كل حين، فهي مستعدة لتسجيل ما يقذفه الملك فيها يقظة أو مناماً. " ثم حبب إليه الخلاء " أي حَبب الله تعالى لنبيّه العزلة والانفراد عن الناس، والانقطاع لعبادة الله
__________
(1) قال بعضهم: فلق الصبح ضياؤه، وقال الخليل: هو الصبح نفسه، فيكون قوله " فلق الصبح " من إضافة الشيء إلى نفسه لتأكيده، كقولهم عين الشيء وسوّغ ذلك اختلاف اللفظين.
(2) هكذا شبه الأستاذ محمد الغزالي قلوب الأنبياء في استقبالها للوحي الإلهي وهو تشبيه لطيف.(1/34)
وَكَانَ يَخْلُو بغَارِ حِرَاءَ، فَيَتَحنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التُّعَبُّدُ اللَّيَالِي ذَوَاتِ الْعَدَدِ- قَبْلَ أنْ يَنْزِعَ إلى أهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ، وَهُوَ في غَارِ حِرَاءَ، فجاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأ، قَالَ: مَا أنَا بِقَارِىءٍ، قَالَ: فَأخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تصفيةً لقلبه، وتزكية لروحه، وإبعاداً له عن الباطل وأهله. فاختار - صلى الله عليه وسلم - لنفسه هذه العزلة عن رغبة وعاطفة، حيث وجد فيها لذة الروح، وسلوة النفس، ومتعة القلب، بالأنس بالله تعالى، وذلك من مقدمات نبوته. " فكان يخلو بغار حراء " (1) أي فكان - صلى الله عليه وسلم - يذهب إلى غارٍ منزوٍ في جبل حراء، على يسار الذاهب إلى منى، وعلى بعد ثلاثة أميال من مكة، فينفرد في ذلك الغار، لكْي يجمع بين الخلوة والتعبد والنظر إلى بيت الله الحرام، ولا تجتمع هذه المزايا العظيمة إلاّ في غار حراء الذي يطل على الكعْبة، فيمكنه من النظر إليها، والنظرُ إلى البيت عبادَة. " فيتحنث فيه " أي فيكثر هناك من عبادة الله تعالى ليالي وأياماً عديدة، ولا يمكن القطع في كيفية عبادته - صلى الله عليه وسلم - لأنّه لم يرو شيء عن ذلك في الأخبار الصحيحة، ولكنّ الذي يرجحه المحققون من أهل العلم أنه كان يتعبد بالتفكير والتأمل في هذا الكون ومُبْدِعه، والفكر عبادة " قبل أن يَنْزِعَ إلى أهله " (2) أي فيمكث هناك في غار حراء فترة من الزمن حتى يحن إلى أهله، ويقوى اشتياقه إليهم، ويفرغ زاده " ثم يرجع إلى خديجة " أي فإِذا اشتد به الحنين إلى أهله، وانتهي ما معه من الزاد عاد إِلى خديجة مرَّة أخرى. " فيتزود لمثلها " أي فيأخذ من خديجة زاداً جديداً، يصطحبه معه إلى غار حراء. " حتى جاءه الحق " أي واستمر سيدنا محمد
__________
(1) بالمد والقصر والتذكير والتأنيث والصرف وعدمه.
(2) يقال نزع إلى أهله إذا حن إلى رؤياهم، وناقة نازع إذا حنت إلى مرعاها.(1/35)
الْجَهْدَ، ثُمَّ أرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرأ، فقُلْت: مَا أنَا بِقَارِىء، فأخذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ، ثمَّ أرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرأ، فَقُلْتُ: مَا أنا بقَارِىءٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقَالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) فَرَجَعَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- صلى الله عليه وسلم - على الخلوة والتعبد، حتى أشرقت عليه أنوار النبوة، ونزل عليه الوحي الصريح، يوم الاثنين السابع عشر من رمضان، فأتاهُ ملك الوحي جبريلُ عليه السلام -حقيقة لا خَيالاً- مرسلاً من ربِّ العزة، وكان - صلى الله عليه وسلم - قد أَتمَّ الأربعين من عمره وتلك سنة الله في الأنبياء، لا يأْتيهم الوحي حتى يتم نضجهم الجسمي والعقلي والنفسي ببلوغ أربعين سنة.
قال الشاعر:
وَأتتْ عَلَيْهِ أرْبَعُوْنَ فَأشْرَقَتْ ... شَمسُ النُبُوَّةِ مِنْهُ فِي رَمَضَانِ
" فقال اقرأ " أي فلم يشعر إِلّا وجبريل شاخصٌ أمامَ عينيْهِ يقول له: اقرأ. قال في فيض الباري: وهذا الأمر بالقراءة من باب التلقين والتلقي، كما يقول المعلم لتَلميذه: اقرأ، ومعناه: خذْ عَنّي ما ألقيه إليك من القراءة.
" قال ما أنا بقارىء " أي كيف أستطيع القراءة وأَنا أُمي لا أقدر عليها ولا علم لي بها " قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد " أي فأمسك بي ذلك الملَكُ، وضمني ضمة شديدة، حتى بلغ مني أقصى ما تتحمله الطاقة البشرية.
وإنما فعل ذلك إيناساً له، وتقوية لنفسه، وتنشيطاً لقلبه، على تلقي الوحي الإلهي. " ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارىء " أي ثم أطلقني، وأمرني بالقراءة ثانياً، فقلت: ما أنا بقارىء، وهو تأكيد للجواب الأول، ومتضمن لمعناه " فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء " أي ماذا تريد مني أن أقرأ. "فأخذني(1/36)
بِهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيلدٍ فَقَالَ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُوْني فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَديجَةَ وأخبَرَهَا الْخَبَرَ: لَقَدْ خَشيتُ علَى نَفْسِي، فقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: كَلَّا، وَاللهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) " أي إِقرأ ما أقولُه لك، وأبلغه إليك مستعيناً باسم الله وحوله وقوته، وِإقداره لك على القراءة، فإن الخالق العظيم الذي وهب الوجود لكل موجود، وأوجد الأشياء على غير مثال سابق، قادرٌ على تمكينك من القراءة دون أن تتوفر فيك أسبابها.
(خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) وهذا تأكيد للمعنى الأول، وجوابٌ لقوله - صلى الله عليه وسلم - ما أنا بقارىء، لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل: ما أنا بقارىء، قال الله تعالى له: وما يمنعك من القراءة وإن كنت أُميّاً لا تملك أسبابها؟. فإِن الذي خلق هذا الإنسان الحي العاقل المفكر من علقة جامدة، قادر على أن يمنحك القراءة والعلم وأنت أمي. (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) أيْ اقرأ وأنت واثق من أن ربك الكريم الأكرم، الواسع العطاء، الذي أنعم عليك بالنبوة دون كسب واختيار، قادر على أن يمنحك القراءة والعلم، وأنت أُمي لا قدرة لك عليها، ولا تملك اسبابها. فإن النبوة هبة إلهية يمنُّ الله بها على من يشاء من عباده، كما قالت الرسل لمن أنكر عليهم نبوتهم (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) . وإن الذي وهبك النبوة دون كسب، هو الذي أكرمك بالقراءة والعلم دون سبب، ليكون ذلك آية واضحة على صدق نبوتك، كما قال الشاعر:
كَفَاكَ بِالْعِلْمِ فِي الأمِّيِّ مُعْجِزَةً ... فِي الجَاهِلِيَّةِ وَالتَأدِيْبِ فِي اليُتُمِ
" فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده " أي فعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الآيات، وبهذه الأمور العجيبة إلى خديجة، يضطرب قلبه بين جنبه خوفاً(1/37)
مَا يُخْزِيكَ الله أبداً، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضِّيفَ، وتُعِيْنُ على نوائب الحق. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حتى أتتْ به وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَل بنِ أسَد بْنِ عبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مما وقع له، ويرتعش جسمه فزعاً، لأن الخوف الشديد يرتجف له الفؤاد تلقائياً، ويذهب بالحرارة الباطنة، ويعقبه البرد والقشعريرة، والرِعشة البدنية.
وكذلك جميع الانفعالات النفسيّة تنعكسُ على أعضاء الجسم الداخلية والخارجية، ولذلك ارتعد قلبه - صلى الله عليه وسلم - بسبب شدة الخوف، وارتجف جسمه.
وإنما قال يرجف فؤاده، ولم يقل: يرجف قلبه، لأن الفؤاد وعاءُ القلب، فإذا حصلت الرجفة للوعاء حصلت لما في داخله من باب أولى، فهو أبلغ " فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زمّلوني زمّلوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع " أي فدخل على خديجة، وجسمه يرتجف وينتفض من القشعريرة وهو يقول: غطوني بالثوب، فغطه خديجة حتى ذهب خوفه، وأحس بالدفء، فهدأ جسمه. " فقال لخديجة وأخبرها الخبر، " أي قصَّ عليها ما وقع له في حراء قائلاً: " لقد خشيت على نفسي " أي لقد خفت على نفسي مما حدث لي اليوم في حراء، وهذه هي طبيعة الإنسان إذا رأى ما يفاجأ به (1) ، فقد حكى الله عنٍ موسى أنه خاف من سحر السحرة كما قال تعالى: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى) " فقالت له خديجة: كلا " أي: لا داعي لهذا الخوف والقلق، فليس الشيء الذي رأيته من الأشياء الكريهة التي تستوجب الخوف والهلع والفزع. " والله ما يخزيك الله أبداً " (2) . أي أقسم بالله أنه لن يصيبك هوان أو مكروه، أو ينالك ذلٌّ أو فضيحة مدى
__________
(1) قال علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله فبدا له جبريل فرأى منظراً هاله، إذ لم يتقدم له شيء من ذلك.
(2) والخزي هو الهوان والذل والفضيحة.(1/38)
وَكَانَ امْرَأً تنَصَّرَ فِى الْجَاهِليَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ العِبْرانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنَ الإنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ ما شَاءَ اللهُ أنْ يَكْتُبَ، وكانَ شيخَاً كَبِيراً قَدْ عَمِيَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحياة لأنّك على جانب عظيم من مكارم الأخلاق، " وصنائع المعروف تقي مصارع السوء، " إنك لتصل الرحم " أي تحسن إلى أقاربك بالبذل والعطاء، والخدمة والسماحة، وطلاقة الوجه، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - شديد الحرص على الإحسان إلى قرابته، ولو كانوا كفاراً. فإنّه لما جيء إليه بالشيماء (1) بنتِ حليمة السعديّة في سبايا هوازن بسط لها رداءه، وقال لها: إن أحْببت أقمت مكرَّمَة مُحَبَبّةَ (2) أو رجعت إلى أهلك، فاختارت أهلها، فأعطاها عبداً وجارية (3) . " وتحمل الكَلَّ " بفتح الكاف وتشديد اللام، وهو في الأصل الثقل ويطلق على الإنسان العاجز عن مؤنة عياله، لثقل أعباء الحياة عليه، أي وتساعد العجزة والضعفاء، وتعينهم، وتحمل عنهم أعباء حياتهم، فإنْ كانوا فقراء أعطيتهم، وبذلت لهم من مالك، وإن كانوا مرضى واسيتهم، وإن كانوا في ضيق فرجته عنهم، ثم إنك تحمل من الصعاب والشدائد ما لا يحمله غيرك، لما فطرك الله عليه من الشجاعة والصبر على المكاره. " وتكسب المعدوم " (4) قال عياض: رويناه عن الأكثر بفتح التاء مضارع كسب، وعن بعضهم بضمها مضارع أكسب. اهـ. أمّا بفتح التاء فمعناه أنّها وصفته - صلى الله عليه وسلم - بحسن الحظ في التجارة، فهي تقول له: إنك تكسب من المال ما لا يكسبه غيرك، وتربح في تجارتك ما لا يربحه سواك، وقد كانت العرب لا سيما قريش يتمدحون بكسب المال.
__________
(1) بفتح الشين وسكون الياء وهي أخته من الرضاعة.
(2) بضم الميم وفتح الحاء وتشديد الياء.
(3) شرح الشفا للشهاب الخفاجي، وشرح الشفا لعلي القاري.
(4) والمعدوم هو المال الذي يعدم كسبه من الغير.(1/39)
فقالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِن ابْنِ أخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأما بضم التاء فمعناه أنه - صلى الله عليه وسلم - جواد كريم، يعطي الناس ما لا يعطيهمٍ غيره، وقيل المعدوم هو الإِنسان الضعيف العاجز عن الكسب. سُمِّيَ معدوماً لعجزه عن التصرف فتكون رضي الله عنها قد وصفته بمساعدة العجزة والضعفاء، والبذل لهم من ماله، ويحتمل أنها أرادت كل هذه المعاني، فإنّها كلها تنطبق عليه - صلى الله عليه وسلم - " وتقري الضيف " أي وتقوم بضيافة الضيْف، وتكريمه بما يليق به، والقِرى بكسر القاف: الطعام الذي يقدَّم للضيف، فهي تصفه بإكرام الضيْف، وتقديم الطعام له، والقيام بواجبه، والترحيب به، وطلاقة الوجه عند مقابلته. " وتعين على نوائب الحق " أي وتعين الناس عند وقوع الحوادث، وتقف من ذلك في جانب الحق فتناصر المظلوم، وتأخذ على يد الظالم، وتسعف الملهوف، وتجير من استجار بك، قال العيني: النوائبُ جمع نائبة، وهي الحادثة، والنازلة خيراً أو شراً، وإنما قال: نوائب الحق لأنّها تكون في الحق وفي الباطل، والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا يعين على باطل، فلا يعين ظالماً على ظلمه. هذا وقد شملت هذه الأوصاف المحاسن كلها. وكأنّها رضي الله عنها أرادت أن تصفه بالكمال الإنساني الذي لا يشوبه نقص. وهكذا الأنبياء كما قال الأستاذ الغزالي: يكملهم الله من جميع النواحي الأخلاقية والنفسية والعقلية، لأن النبوة امتداد في جميع المواهب، بخلاف العظمة أو العبقرية، فإنّها قلما تخلو من شائبة نقص.
" فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل " أي ذهبت به إلى ورقة بن نوفل " ابن عم خديجة " لأن والدها خويلد بن أسد ووالده نوفل ابن أسد أخوان " وكان امرءاً تنصّر في الجاهلية " أي اعتنق النصرانية، وترك عبادة الأوثان، وذلك أنه سافر مع زيد بن نوفل إلى الشام، واتصل بالرهبان، ودرس عليهم وأخذ عنهم النصرانيّة، ولم يكن يوجد من المتدينين إلا قليل(1/40)
يا ابْنَ أخِى مَاذا تَرَى؟ فأخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ خَبَر مَا رَأى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الذي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى. يَا لَيْتَنِي فيهَا جَذَعاً، لَيْتَنِي أكونُ حَياً إذْ يُخْرِجُكَ قَومُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهو منهم " وكان يكتب الكتاب العبراني " أي يعرف الكتابة العبرية ويجيدها كما يعرف لغَتها لأنها لغة الكتب السابقة، وسميت عبرية لأن إبراهيم نطق بها بعدما عبر النهر فارّاً من النمرود، قال العيني: وكان آدم يتكلم باللغة السريانية، وكذلك أولاده من الأنبياء وغيرهم، غير أن إبراهيم حُوِّلَتْ لغته إلى العبرانية حين عبر النهر. " فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب "، أي يكتب منه الشيء الكثير، من أَيِّ موضع شاء بالعبرانية أو العربية كما أفاده السنوسي، ويُترجم إلى العربية إن شاء. " وكان شيخاً كبيراً قد عمَي " أيْ فقد بصره عندما كَبِرَ سِنَّهُ " فقالت له خديجة يا ابن عَمِّ اسمع من ابن أخيك " ولم تقل من محمد تلطفاً منها وتحبيباً لابن عمها فيه حتى يقبل عليه ويُعْنَى بشأنه " فقال ورقة يا ابن أخي ماذا ترى " ولم يكن ابن أخيه نسباً، ولكن أراد إشعاره بعظم منزلته لديه، وأنه حل من نفسه في المعزّة والمحبّة منزلة ابن أخيه منه، فأطلق عليه ذلك مجازاً، كقول العرب " يا أخا العرب ". " فأخبره رسول - صلى الله عليه وسلم - " أي قص عليه قصته " فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل الله علىَ موسى " أي طمأنه وبشره بأنّ ما رآه هو الملك الذي كان ينزل على موسى بالوحي، قال ابن دريد: الناموس هو صاحب سر الوحي، وقال القاري (1) : وأهل الكتاب يسمون جبريل بالناموس " يا ليتني فيها جذعاً " بالذال المعجمة المفتوحة والنصْب على الأكثر، أي ليتني أكون شاباً قوياً عندما يخرجك قومك، لأساهم في نصرتك، والدفاع عنك، والجذع من المعز ما
__________
(1) المرقاة شرح المشكاة للقاري.(1/41)
أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ لَمْ يَأتِ رَجُلٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إلَّا عُودِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنصُرْكَ نَصْراً مُؤَزَّراً. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أنْ تُوُفِّي، وَفَتَرَ الوَحْيُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دخل في سنته الثانية، ومن الإبل ما بلغ الخامسة (1) ، ومن الخيل ما بلغ سنتين، واستعير هنا للشابّ القوي، ونصب على الحاليّة أي يا ليتني حَي موجود في مكة حال كوني جذعاً كما أفاده عياض " ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك " أي حين تخرجك قريش، وهذا تنازل في التمني، لأنه لما رأى استحالة كونه شاباً قوياً حين إخراجه، لأنه قد أصبح شيخاً هَرماً كفيف البصر، تنازل عن أمنيته السابقة، وتمنى أن يكون موجوداً، ولو على حالتة الراهنة.
ليساعده بالرأي والمشورة والتدبير وحض الناس، على اتّباعه. " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أو مخرجى (2) هم؟ " وهذا استفهام تعجبي أي كيف تخرجني قريش من مكة مع شدة حبهم لي، وتعلقهم بي، ووصفهم لي بالأمين " قال: نعم لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلاّ عودي ". أي إلاّ عاداه قومه " وإن يدركني يومك أنصرك نصْراً مؤزراً " أي قوياً. " ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي " أي لم يلبث ورقة إلاّ قليلاً حتى مات، وانقطع الوحي.
ويستفاد من الحديث ما يأتي:
أولاً: إيمان ورقة بن نوفل، وقد ذكر السهيلي أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أشهد أنك نبي مرسل، وأنك الذي بشر بك عيسى، وستأمر بالجهاد، وإن يدركني ذلك أجاهد معك. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه: " لقد رأيت القس في الجنة، وعليه ثياب الحرير، لأنَّه آمن بي وصدقني " أخرجه البزار. وذكره
__________
(1) أي أن الجذع من الإبل ما بلغ عمره خمس سنوات.
(2) بتشديد الياء لأن أصله مخرجوني.(1/42)
ابن مندة في الصحابة والبلقيني في أول من أسلم.
ثانياًً: أن رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء جميعاً وحي إلهي، لقول عائشة رضي الله عنها " أوَّل ما بُدِىءَ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا إلخ.
ثالثاً: أن أوّل ما نزل من الوحي القرآنى (اقرأ باسم ربك) .
رابعاً: أن الخائف لا ينبغي أن يُسْألَ حتى يهدأ، حتى قال مالك: المذعور لا يلزمه بيع ولا إقرار ولا غيره، ولذلك فإن خديجة لم تسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ذهب عنه الخوف.
خامساً: أن مكارم الأخلاق سبب للسَّلامة من المكاره لقول خديجة - رضي الله عنها- " والله ما يجزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم " الخ وقد صدقت في قولها، وبرت في قسمها.
سادساً: جواز مدح الإِنسان في وجهه بصدق إذا لم يُخْشَ عليه الغرور والإِعجاب بنفسه، لأن السيدة خديجة رضي الله عنها قد مدحت النبي - صلى الله عليه وسلم - بخصال الخير الموجودة فيه.
سابعاً: محاولة التخفيف عمن أصابه الفزع، والتسرية عنه، وتطمين قلبه وتهدئة نفسه.
ثامناً: في الحديث دلالة على فضل السيدة خديجة ورجاحة عقلها، وحسن تصرفها في المواقف الصعبة.
تاسعاً: دل الحديث على وجود الرؤيا الصادقة التي لا بد أن يظهر لها وجود في الواقع، ويقع تفسيرها في اليقظة على حسب تعبيرها، ومنها رؤيا الأنبياء التي هي أعظم أنواع الرؤيا، وأعلاها شأناً، وأشرفها مقاماً، وأصدقها وقوعاً. لأنّها وحي إلهيٌ كما قالت عائشة رضي الله عنها: "أول ما بدىء(1/43)
به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح.
وإذا كانت الرؤيا الصادقة موجودة كما يدل عليه نص الحديث، فكذلك الرؤيا الكاذبة موجودة أيضاً كما يدل عليه مفهوم الحديث، فالرؤيا أنواع مختلفة:
منها الأحلام الشيطانية: التي يصورها الشيطان للإِنسان في أثناء نومه أشكالاً مختلفة من الأشباح المخيفة، التي تؤذي النائم، وتثير في نفسه الآلام والمخاوف، وتسبب له القلق النفسي، فقد يرى أسداً يفترسه، أو عدواً يقتله، وما هي إلاّ مجرد خيالات لا تمت إلى الواقع بصلة، وقد نبهنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا النوع من الرؤي الشيطانية، وأرشدنا إلى علاجه، وكيف نتخلص منه ونتغلب عليه، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " الحلم من الشيطان فإذا رأى أحدكم الشيء يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثاً وليتعوَّذ من شرها. فإنها لا تضره " وإنّما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتعوذ منها مع أنها خيال، لا حقيقة له ليتخلص من تأثيرها النفسي، وما تحدثه من وساوس، وأوهام وآلام نفسية، قد تؤدي بصاحبها إذا استسلم لها إلى الجنون، أو الموت المحقق، لأن الوهم وحش كاسر يقتل صاحبه، ويفتك به. فالتعوذ من هذه الرؤي يقضي على آثارها النفسية، ويخلص المرء من شرها، كما روي عن أبي سلمة رضي الله عنه أنه قال: لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني، حتى سمعت أبا قتادة رضي الله عنه يقول: وأنا كنت لأرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " الحُلُمُ من الشيطانِ ". الخ فما كنت أباليها، أي فما عادت تخيفني لقناعتي نفسياً بعدم تأثيرها سيما بعد الاستعاذة منها.
ومنها الأحلام النفسية: التي قد تنشأ عن مؤثرات خارجية، كأن يرى النائم ناراً تحرقه بسبب سقوط أشعة الشمس على عينيه. أو يسمع دقات الساعة(1/44)
فيرى مطارق حديدية تهوي على جسمه، وقد تنشأ عن موثرات عضوية فيرى معسور الهضم عدُواً، يخنقه، وربما نشأت عن رغبات مكبوتة في العقل الباطن، يريد أن ينفِّس عنها بهذه الأحلام، ولم يعرف فرويد وغيره من علماء النفس التحليليين غيرَ هذا النوع من الرؤيا فحصروا الرؤيا كلها فيه، فليست الرؤيا عندهم إلاّ تحقيقاً لرغبات نفسية لم يقدر لها أن تتحقق في الحياة العادية فينفس الإنسان عنها أثناء نومه، ويحاول تحقيقها ولو في النوم. وأنكروا وجود الأنواع الأخرى من الرؤيا، لقصور علمهم، وضيق أفقهم، فذلك هو مبلغهم من العلم، والإِسلام يقرّ هذا النوع من الرؤيا ويضيف إليه أنواعاً كما قال - صلى الله عليه وسلم - " الرؤيا ثلاث، رؤيا صالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا يحدث بها المرء نفسه " وعلماء النفس لا يعرفون إلا الأخير، وينطبق عليهم قوله تعالى: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) فهم لا يتحدثون إلّا عن هذه الأحلام النفسية، ويحصرون فيه كل الرؤى، في حين أن الرؤيا أنواع مختلفة، منها ما عرفه علماء النفس وتحدثوا عنه.
ومنها أيضاً الرؤيا الصادقة: التي يظهر تفسيرها في حياة الانسان، فيقع في اليقظة ما رآه في النوم على حسب التعبير الصحيح الذي تعبر به، وقد أثبت الإِسلام وجودها، وتحدث عنها علماء المسلمين، وهي كما يقولون: إلهام يلقيه الله تعالى في قلب العبد أثناء نومه، أو يلقيه الموكل بالرؤيا، أو ما تراه الروح عند عروجها إلى السماء أثناء النوم. فالأرواح -كما قال الإِمام علي رضي الله عنه- " يُعْرَج بها في منامها، فما رأت وهي في السماء فهو الحق " (1) وقال الأستاذ سعيد حَوَّى " هذا النوعِ من الرؤيا مهم جداً (2) لأنه يكون مبشراً أو منذراً أو مخبراً أو محذراً "، والرؤيا
__________
(1) كتاب الروح لابن القيم.
(2) تربيتنا الروحية للشيخ سعيد حوى.(1/45)
الصادقة تشمل الرؤيا الصالحة وغيرها، فإن كانت رؤيا حسنة تسَرُّ لها النفس فهي رؤيا صادقة وصالحة، وإن كانت سيئة تكرهها النفس فهي صادقة غير صالحة، وذلك لأنّ الرؤيا السيئة ليست كلها من الشيطان، بل هي على نوعين: ما يكون منها حقاً بحسب التعبير، فهو رؤيا صادقة، ولو كانت سيئة، وما يكون باطلاً لا يعلم له معنى من طريق التعبير فهو رؤيا شيطانية كاذبة، كما أفاده ابن أبي جمرة. وقد روِي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه، أتاه رجل فقال: إنه رأى في المنام كأن رأسه قطع، والرأس يتدحرج، وهو يجري خلفه فزجره النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: هذه من الشيطان، أأحَدٌ يقطع رأسه ويبقى حياً (1) ؟! ومن أعظم الرؤيا الصادقة رؤيا الأنبياء والفرق بينها وبين رؤيا الآخرين أنها قطعية، ووحي من الله تعالى لا شك فيه، ولهذا كانت حجة شرعية تبنى عليها الأحكام الفقهيّة، بخلاف رؤيا غيرهم، فإنّها تحتمل الصدق والكذب ولا يعتمد عليها في حكم شرعي.
عاشراً: جواز ذكر العاهة الموجودة في الشخص لفائدة، كقول السيدة عائشة رضي الله عنها: " وكان شيخاً أعْمى ".
الحادي عشر: أنه ينبغي للمستشار أن يوضِّح رأيه، ويدعمه بالأدلة المقنعة، كما فعل ورقة عندما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أو مخرجيّ هم؟ " لم يكتف بقوله " نعم " وإنّما دعّم قوله بالتجربة التاريخية فقال: لم يأت رجل بمثل ما أتيت به إلاّ عُودي، أي إنَّ تلك سنة الله في أنبيائه جميعاً وقد قال قوم شعيب لنبيّهم: (لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) - (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) ولهذا قيل: لا كرامة لنبيٍّ في وطنه.
والمطابقة: في قول عائشة رضي الله عنها " أوّل ما بدىء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة.. " فهو مطابق لقوله في الترجمة "باب كيف
__________
(1) بهجة النفوس لابن أبي جمرة الأندلسي.(1/46)
3- عنْ جابرِ بنِ عَبْدِ اللهِ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا قَالَ وهُوَ يُحَدِّثُ عن فَتْرَةِ الوَحي، فقَالَ فِي حَدِيثهِ:
بينَا أنا أمشِى إذْ سَمِعتُ صَوْتاً مِنَ السَّمَاءِ فرَفَعْتُ بَصَرِي، فإذا الْمَلَكُ الَّذي جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسٌ على كُرْسي بَيْنَ السَّمَاءِ والأرْضِ، فَرُعِبْتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -".
3- الحديث: أخرجه الشيخان
ترجمة راوي الحديث: وهو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الخزرجي الأنصاري أحد المكثرين من الرواية، روى ألفاً وخمسمائة حديث وأربعين حديثاً، اتفقا على ثمانية وخمسين، وانفرد البخاري بستة وعشرين، ومسلم بمائة وستة وعشرين، توفي بالمدينه سنة (78) هـ.
معنى الحديث: أن جابراً رضي الله عنه " قال وهو يحدث عن فترة الوحي " أي عن المدة التي انقطع فيها الوحي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت سنتين ونصف، كما في بعض الأحاديث التي ذكرها السهيلي " فقال في حديثه " الذي يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء " أي قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: سمعت أثناء مسيري بأطراف مكة صوتاً غريباً ينبعث من السماء فأثار ذلك الصوت انتباهي " فرفعت بصري "، أي فشخصت ببصري إلى أعلى كي أتعرّف على مصدر ذلك الصوت " فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض " أي فلما نظرت إلى السماء فوجئت برؤية ذلك الملك الذي سبق له أن جاءني بحراء، وهو جالس على كرسي بين السماء والأرض قال: " فرعبت منه " أي فأصابني بسبب مشاهدة ذلك الملك خوف، وفزع شديد فقدتُ معه السيطرة على قوايَ الجسمية، كما في رواية مسلم حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: "فَجثثتُ فرقاً حتى هويت(1/47)
مِنْهُ، فرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فأنزلَ اللهُ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ) إلى قَولِهِ (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) ، - فَحَمِىَ الْوَحْيُ وَتَتابَعَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلى الأرض" أي غلب علي الخوف وارتعدت فرائصي حتى سقطت على الأرض " فرجعت فقلتُ: زَمِّلوني " أي فشعرت ببرد شديد، وقشعريرة عظيمة ارتعش لها جسمي بسبب الخوف والفزع الذي أصابني عند مشاهدة الملك الجالس على كرسي بين السماء والأرض فأسرعت بالعودة إلى خديجة ألتمسُ عندها الأمن والطمأنينة، وأقول لها: " زملوني " أي لفوني بالثوب، لأجد في ذلك بعضَ الدفء الذي أستعين به على تلك الرعشة البدنية، والتخْفيف من حدتها. فأنزل الله تعالى (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ) أي يا أيها المتلفف بثيابه لمقاومة تلك الرعشة البدنية التي أصابته عند مشاهدة ملك الوحي خوفاً وفزعاً منه، هدأ من روعك، وتهيأ لما يوحى إليك فإنّا قد بعثناك إلى الناس كافة، فبلِّغهم ما يوحى إليك. " إلى قوله (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) " أي فأنزل الله عليه (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) فأمره الله تعالى أن يعظّمه وحده، ولا يرى كبيراً سواه، وأن يتوكل عليه في تبليغ رسالته، ولا يخشى أحداً، لأنه الكبير المتعال، القادر على حمايته ونصرته. كما أمره في قوله عز وجل (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) بتطهير ثوبه وبدنه ومكانه من النجاسات التي كان المشركون لا يتطهرون منها، وبتطهير قلبه عن سائر المعاصي والآثام، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: ثم ختم ذلك بقوله (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) والرجز بضم الراء على قراءة حفص هي الأصنام، ومعناه: أن الله أمره أن يجرّد نفسه من العبودية لغير الله، والابتعاد عن عبادة الأصنام وغيرها من الآلهة الباطلة، إذ لا معبود بحق إلاّ الله. " فحمي الوحي "(1/48)
أى فعاد إليه الوحي بعد ذلك، وقوي، وتتابع أي وتكاثر وتوالى نزوله، تقول العرب حميت النار والشمس، أي اشتدت وقويت حرارتها، ومنه قولهم: " سمي الوطيس ".
ويستفاد منه ما يأتي:
أولاً: انقطاع الوحي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فترة من الزمن، وفي مرسل الشعبي أن فترة الوحي كانت مدة عامين ونصفاً، ولا يثبت. وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح ": ويعارضه ما جاء عن ابن عباس أن مدة الفترة كانت أياماً.
ليزول عنه الخوف الذي أصابه في غار حراء عند نزول جبريل عليه لأول مرة، ليطمئن قلبه، ويشتاق إلى الرحمن، ويحن إلى عودته إليه.
ثانياً: أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أرسل بالمدثر، أي بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ) حيث أمره الله تعالى بتبليغ ما أوحى إليه فأصبح منذ نزول هذه الآية رسولاً إلى الناس كافةً كما نبىء باقرأ، عندما نزل عليه في حراء قوله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) .
ثالثاً: مشروعية الطهارة من النجاسة في قوله تعالى (وثيابك فطهر)
ولذلك قال الفقهاء: الطهارة من النجاسة شرط في صحه الصلاة، مستدلين
بهذه الآية الكريمة.
رابعاً: استدل أبو حنيفة بقوله تعالى: (وربك فكبر) على أنه يكفي للدخول في الصلاة مطلق الذكر المشعر بالتعظيم، دون التقيد بلفظ معين لكنّ الأحاديث الصحيحة دلت على أن الصيغة المشروعة في تكبيرة الإِحرام هي لفظ (الله أكبر) لأنّه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أي صيغة أخرى غيرها.
والمطابقة: في قوله " وهو يحدث عن فترة الوحي " حيث دل ذلك على(1/49)
4- عن ابْنِ عَبَّاس رَضِىَ اللهُ عَنْهُمَا في قَوْلِهِ تَعَالَى (لا تُحرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) قال:
كَانَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - يُعَالِجُ من التنزِيلَ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وجود فترة من الزمن انقطع فيها الوحي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم عاوده.
4- الحديث: أخرجه الشيخان.
ترجمة راوي الحديث: وهو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحد العبادلة الأربعة، بلغ الذروة في التفسير والفقه والأحكام، مع صغر سنه، استجابة لدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " حتى عُرف بحَبْر الأمة، وكان من الستة المكثرين من الرواية، حنكه النبي - صلى الله عليه وسلم - بريقه، فأصبح لا يجاريه أحد في فتاويه، وُلدَ رضي الله عنه قبل الهجرة بثلاث سنوات، وكان بهيّ الصورة، جميل الطلعة، سمح المحيا، حتى قال عطاء: ما رأيت البدر ليلة الرابع عشر إلاّ ذكرت وجه ابن عباس رضي الله عنهما، وكان عمر رضي الله عنه يعظمه كثيراً ويستشيره، ويستفتيه، كفَّ بصرُه في آخر عمره، وقضى آخر حياته بالطائف حتى توفي بها سنة ثمانٍ وستين من الهجرة، وله من العمر واحد وسبعون عاماً، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاً وستمائة وستين حديثاً، ولما مات صلّى عليه محمد بن الحنفية ابن عمه، وقال: اليوم مات رباني هذه الأمة.
معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه " أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعاني من نزول الوحي القرآني مشقة عظيمة، بما يبذله من جهد كبير في تلاوة الآيات أثناء نزولها، وكان يتعب نفسه كثيراً بسبب تحريك شفتيه بتلاوتها مع جبريل أثناء نزولها، حيث كان يقرأها كلمة كلمة حرصاً على(1/50)
شَفَتَيْهِ، فقَالَ ابْنُ عَبَّاس رضي اللهُ عنهما: فَأنا أحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَرِّكُهُمَا، فأنزلَ اللهُ تَعَالَى (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ) قَالَ: جَمْعَهُ لَك (1) في صَدْرِكَ، وَتَقْرَأهُ (فإذَا قَرَأنَاهُ فَاتَّبعْ قُرْآنَهُ) قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وأنْصِتْ، (ثم إنَّ عَلَيْنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حفظها، خشية أن يتفلت منه القرآن، فكان يرهق نفسه في حفظ ما أنزل عليه من القرآن خشية أن يتفلت منه، " فأنا أحركهما كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحركهما " أي أن ابن عباس حرّك شفتيه أمامهم، وقال: أنا أحرك شفتيّ أمام أعينكم كتحريك النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد بذلك أن يؤكد لهم أنه شاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك، وفي استطاعته أن يمثل لهم ما رآه عملياً، وفي هذا دلالة قوية على أنه يروي هذا الحديث عن مشاهدة وعيان. " فأنزل الله تعالى (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) " أي فلما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرك شفتيه أثناء الوحي نهاه الله عن تحريك لسانه بتلاوة القرآن متعجلاً حفظه خشية نسيانه، وتكفل له بحفظه في قوله (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ) قال جمعه لك في صدرك أي قال ابن عباس: معناه أن علينا جمعه للنبي - صلى الله عليه وسلم - " في صدره " يعنى إننا نضمن لنبينا - صلى الله عليه وسلم - أن نثبت القرآن ونرسخه في صدره، فيحفظه ولا ينساه أبداً، كما قال تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى) قال ابن عباس رضي الله عنهما: فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى مات إلاّ ما شاء الله (فإذَا قَرَأنَاهُ فَاتَّبعْ قُرْآنَهُ) قال: فاستمع له وأنصت. أي قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه فاستمع للقرآن، وأنصت إليه، ولا تشغل نفسك بتلاوته أثناء نزوله، وتحرك به لسانك، ولكن اسكت أثناء قراءته عليك، ولا تجهد نفسك في حفظه، فإن علينا جمعه في صدرك " (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) ثم
__________
(1) كذا بضمير المخاطب في أكثر الروايات، كما أفاده القسطلاني إلا أنه في بعض الروايات بفتح الجيم وسكون الميم، وفي بعضها "جَمَعتَ" بفتح الجيم والميم.(1/51)
بَيَانَهُ) ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا أنْ تَقْرَأهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أتاهُ جِبْريلُ اسْتَمَعَ، فإذَا انْطَلَقَ جِبْريلُ قَرَأهُ النَّبيُ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا قَرَأهُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إن علينا أن تقرأه" ومعنى قوله تعالى (ثم إن علينا بيانه) كما يقول ابن عباس رضي الله عنهما: ثم إن علينا أن تقرأه ". " إذن" فهو على هذا التفسير ضمان إلهي للنبي - صلى الله عليه وسلم - بحفظ القرآن وقراءته كما أنزل، يقول الله تعالى فيه: إن كنت تخشى ضياع القرآن منك فإنّا نضمن لك أن نمكنك من حفظه دون جهد أو عناء فتحفظه من غير حاجة إلى قراءته مع جبريل أثناء نزوله "ثم إن علينا" ثم إنا نضمن لك " أن تقرأه " كله عن ظهر قلب قراءة تامة كاملة كما أنزل، فلا تنقص منه كلمة، ولا تنس حرفاً، وهو مصداق قوله تعالى (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى) " فكان رسول الله بعد ذلك " أي فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك الوعد الإلهي له بحفظ القرآن وقراءته كما أنزل "إذا أتاه جبريل استمع" أي إذا جاءه جبريل بالوحي القرآني سكت، وأصغى إليه ثقة بوعد الله تعالى، وامتثالاً لأمره عزَّ وجل " فإذا انطلق جبريل قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قرأه " أي فإذا ذهب جبريل، قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن مثلما قرأه جبريل تماماً، وذلك لأنّ الله تعالى وعده بذلك، والله لا يخلف الميعاد.
ويستفاد منه ما يأتي:
أولاً: ما كان يعانيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء الوحي بالقرآن من جهد ومشقة.
بسبب قراءة القرآن أثناء قراءة جبريل وتحريك شفتيه معه حرصاً على حفظه.
ثانياًً: وعد الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بحفظ القرآن، وقراءته كما أنزل، وهو مصداق قوله تعالى (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى)
والمطابقة: في قول ابن عباس رضي الله عنهما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنزيل شدة.(1/52)
5- وعن ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أجْوَدَ النَّاس، وكانَ أجْوَدَ مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وكانَ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فلرسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أجودُ بالخيرِ من الريح المرسلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5- الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " كان رسول الله أجود الناس " أي أعظم الناس وأكثرهم جوداً على الإطلاق، لأن جوده - صلى الله عليه وسلم - كان خلقياً وشرعياً معاً. فأمّا جوده الخلقي فهو السخاء، وسهولة الانفاق الناشىء عن الطبع والوراثة، وأما جوده الشرعي فهو كما يقولون " إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي خالصاً لوجه الله تعالى دون رياء أو سمعة سواء كان هذا العطاء واجباً كالزكاة، أو مندوباً كالصدقة، وقد جمع الله تعالى في نبينا - صلى الله عليه وسلم - بين كرم الطبع الموروث عن أسرته الهاشمية العريقة، وكرم الشرع الذي أدّبه به ربه، فأحسن تأديبه، وقد وصفه أنس رضي الله عنه بقوله: " كان أجود الناس، وكان أشجع الناس، فلو كانت الدنيا له فأنفقها لرأى على نفسه بعد ذلك خوفاً " " وكان أجود ما يكون فى رمضان " أي وكان يتضاعف جوده في هذا الشهر الكريم، فيتصف بأكثر الجود في رمضان " حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن " أي والسبب في زيادة كرمه، ومضاعفة جوده، يرجع إلى أمرين:
الأول: التقاؤه بالروح الأمين جبريل عليه السلام. حيث كان يلتقي به كل ليلة من شهر رمضان فكان - صلى الله عليه وسلم - يتوسَّع في البذل والعطاء فرحاً بلقائه، وشكراً لله تعالى على ذلك اللقاء، فكأنه كان يستضيف جبريل بكثرة إنفاقه على الفقراء، كما أفاده السنوسي في شرح مسلم: وقال الشهاب الخفاجي:(1/53)
" كان - صلى الله عليه وسلم - يُسَرُّ بملاقاة جبريل وإمداده بالبشرى والكرامة فيحسن كما أحسن الله إليه.
الثاني: مدارسة القرآن حيث كان يلقاه جبريل في كل ليلة فيدارسه القرآن، أي يتناوب معه قراءة القرآن، فيقرأ جبريل عشراً، ويقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - عشراً آخر، أو يشتركان معاً في القراءة في وقت واحد، على طريقة القراءة الجماعية من المدارسة بمعنى المشاركة في القراءة. أو يكون معنى المدارسة " العرض " ومعناه أن يقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده وجبريل يستمع إليه، كما جاء في بعض روايات البخاري حيث قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان، حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن" ويحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يستعمل الطرق الثلاثة. والحاصل أن سبب زيادة جوده أمران: التقاؤه بجبريل، ومدارسته للقرآن: " فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة " أي كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - أكرم وأكثر عطاءً وفعلاً للخير، وأعظم نفعاً للخلق من الريح الطيبة التي يرسلها الله بالغيث والرحمة، تسوق السحاب إلى الأرض الميتة، تحييها بالنبات الذي يتغذى به الحيوان، وينتفع به الإنسان.
لأنّها قد تتخلف عن العطاء، أما عطاؤه - صلى الله عليه وسلم - فلا يتخلف أبداً، ولا يقف عند حد، ولأنّها إنما تعطى الدنيا فقط، أما نبينا - صلى الله عليه وسلم - فإنه يعطي الدنيا والآخرة، لأنه جاء بنعمة الإِسلام التي تتحقق بها سعادة الناس في الدارين، هذا بالإِضافة إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مضرب الأمثال في جوده وكرمه، ففي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما "أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يُسْألُ شيئاً إلاّ أعطاه" أخرجه أحمد.
ويستفاد من الحديث ما يأتي:
أولاً: الحث على الجود والإفضال في كل الأوقات -كما أفاده العيني- والزيادة منه في رمضان، وعند الاجتماع بالصالحين اقتداءً به - صلى الله عليه وسلم -. قال(1/54)
6- عن ابْنِ عَبَّاس رَضِىَ اللهُ عَنْهُما:
أنَّ أُبا سُفْيَانَ بْنَ حَرْب أخْبَرَه أنَّ هِرَقْلَ أرْسَلَ إلَيْهِ في رَكْبٍ مِنْ قُرَيْش وكانُوا تجَّاراً بالشَّامِ في الْمُدَّةِ التي كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مادَّ فِيهَا أبا سُفْيانَ وكُفَّارَ قُرَيْش، فأتَوه وَهُمْ بإيلِيَاء، فَدَعَاهُمْ في مَجْلِسِهِ، وَحَوْلَه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السنوسي: ولذلك اعتاد الناس جعل الطعام، ونداء الناس إليه عندما ينزل بهم مَنْ يجب تعظيمه كأكابر العلماء ومن يفرحون به.
ثانياً: زيارة الصلحاء وأهل الفضل، ومجالستهم، لأنّها سبب الخير والصلاح.
ثالثاً: الإكثار من البذل والعطاء والإحسان وقراءة القرآن في شهر رمضان.
مطابقة الحديث للترجمة: في قوله " فيدارسه القرآن.. " لأن القصد من هذه المدارسة تثبيت الوحي القرآني في صدره - صلى الله عليه وسلم -.
6- الحديث: أخرجه الخمسة، ولم يخرجه ابن ماجه
ترجمة ابن عباس وأبي سفيان رضي الله عنهم، أما ابن عباس فقد تقدم.
وأما أبو سفيان: فهو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي، ولد قبْل الفيل بعشر سنوات، وأسلم ليلة الفتح، وكان شيخ مكة، وقائد قريش في حروبها، شهد الطائف وحنيناً، وأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من غنائمها مائة من الإبل، فقئت عينه الأولى في غزوة الطائف، والثانية يوم اليرموك، ونزل المدينة، فمات بها سنة إحدى وثلاثين من الهجرة عن عمر يبلغ ثمان وثمانين سنة.
معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما "أن أبا سفيان بن(1/55)
عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثم دَعَاهُمْ، فَدَعَا بِتَرْجُمَانِه، فقالَ: أيّكُمْ أقْرَبُ نسباً بهذا الرَّجُلِ الَّذي يَزْعُمُ أنهُ نَبِي؟ قَالَ أبو سُفيَانَ: فَقُلْتُ: أنَا أقْرَبُهُمْ نَسَباً، قَالَ: ادْنُوهُ مِنِّي، وقرَّبُوا أصْحَابَهُ، فاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حرب أخبره أنَّ هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً في الشام" أي أن أبا سفيان أخبره أنه بينما كان في رحلة تجارة ببلاد الشام مع جماعة من قريش أرسل إليه هرقل ملك الروم يطلب مقابلته، وسبب ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل (1) مع دحية الكلبي كتاباً إلى هرقل يدعوه فيه إلى الإِسلام، فلما وصل إليه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: هل هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي قالوا: نعم. فدعي في نفر من قريش لمقابلته، وكان سبب اجتماع أبي سفيان بهرقل في بلاد الشام، واهتمامه بمقابلته، أنه لما حاربته الفرس نذر إن نصره الله عليهم أن يسير من حمص إلى بيت المقدس ماشياً على قدميه، فلما انتصر عليهم وفى بنذره، فمُدت له البسط الفاخرة على طول الطريق، من حمص إلى بيت المقدس، وفرشت الورود والرياحين، وسار هرقل في موكب النّصر، حتى وصل إلى بيت المقدس، فلما وصل إليها، كان أبو سفيان موجوداً في مدينة غزة، وصادف ذلك وصول كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل، ورؤيته في النجوم أن ملك الختان قد ظهر، فدفعته هذه الأسباب مجتمعة إلى الحرص على الاجتماع بأبي سفيان، ليتعرّف منه على حقيقة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فدعاه إلى مجلسه " وأرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش ": أي في مدة الهدنة التي تمّت بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وكفار قريش بعد صلح
__________
(1) كما جاء في رواية مسلم عن أبي سفيان رضي الله عنه قال: انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل وكان دحية الكلبي جاء به فدفعه إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل فقال هرقل هل هنا أحد من قوم هذا الرجل إلخ.(1/56)
قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إنّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ فإنْ كَذَبَني فَكَذِّبُوهُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحديبية " فأتوه وهم بإيلياء " أي فاجتمع أبو سفيان وأصحابه بهرقل في مدينة بيت المقدس " فدعاهم وحوله عظماء الروم " أي فدعاهم إلى مقابلته في مجلسه، وحوله علماء الدين، وكبار رجال الدولة، " ثم دعاهم " أي أدناهم منه، وقربهم إليه " ودعا بترجمانه " بفتح التاء وضم الجيم، كما رجحه النووي ويجوز ضم الجيم والتاء كما حكاه الجوهري. أي وأرسل إلى ترجمانه " فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي " أي فلما حضر الترجمان بين يديه قال له هرقل: قل لهؤلاء العرب، أي واحد منكم أقرب نسباً إلى هذا الرجل الذي يدعي النبوة؟ وإنما سأل عن أقرب الناس إليه ليسأله عن صفاته وأخلاقه، لأن القريب أدرى الناس وأعلمهم بأحوال قريبه، ولأنه لا يطعن فيه بما ليس فيه، كما أفاده العيني، ووصفه بالزعم ليشجع المسؤول عنه على أن يتحدث عنه بحرية مطلقة على شرط أن يتحرى الصدق في حديثه عنه، "قال أبو سفيان: فقلت أنا أقربهم نسباً" وهو الواقع، لأن بني هاشم وبني أمية أبناء عمومة، ينحدرون عن أصل واحد. "قال أدنوه مني" أي فأمر قيصر الروم بتقريب أبي سفيان منه وأدناه من مجلسه تكريماً له وحفاوة به، لأنه شيخ مكة وعظيمها جرياً على عادة الملوك في تقدير النبلاء، ووجهاء الناس، وعظماء الرجال، وإنزالهم منازلهم، " وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره " أي وراء ظهره لئلا يمنعهم الحياء منه عن مواجهته بالتكذيب إذا كذب على محمد - صلى الله عليه وسلم - " ثم قال لترجمانه إني سائل هذا عن هذا الرجل " أي عن محمد، " فإن كذبني فكذّبوه " بتشديد الذال، وذلك ليتحرى الصدق في كلامه، ولا يشهد إلّا بالحق " فوالله لولا الحياء من أن يَأثِروا علي كذباً " بكسر الثاء أي لولا الحياء من أن يرووا عني الكذب في بلادي فأعاب به عند قومي " لكذبت عنه " أي لكذبت في الحديث عنه ووصفته بخلاف(1/57)
فَوَاللهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أن يأثِرُوا عَلَيَّ كَذِباً لَكَذَبْتُ عَنْهُ، ثُمَّ كَانَ أوّلَ مَا سَألنِي عَنْهُ أنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُم؟ قُلْتُ: هُوَ فِينا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ منكُمْ أحدٌ قَطّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فأشْرافُ النَّاسِ اتَبّعَوْه أم ضعفاؤهم؟ قُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤهُمْ، قَالَ: أيزِيدُونَ أمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الواقع.
" ثم كان أول (1) ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ " أي فكان أوّل سؤال وجهه إلىَّ قولَهُ كيف نسبه فيكم؟ وهل هو ذو نسب شريف أم وضيع "قلت: هو فينا ذو نسب" والتنكير للتعظيم، أي هو ذو نسب رفيع، وأصل عريق في قومه لأنّه من بني هاشم ذروة قريش، وأكرمها نسباً وحسباً، وحسباً في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريش، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم " أخرجه الترمذي فهو من تلك الأسرة الهاشمية التي عرفت منذ الجاهلية بكريم الخصال، ومن ذلك النسب الطاهر الشريف، الذي صانه الله تعالى من سفاح الجاهلية، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح ".
" قال " هرقل: " فهل قال هذا القول أحد قبله قط "؟ أي فهل ادعى أحد من العرب " النبوة " قبل ظهوره " قلت: لا " أي لم يحدث أن ادعى أحد النبوة قبله.
" قال " هرقل: " هل كان أحد من آبائه من ملك "؟ أي هل تولّى
__________
(1) يجوز في "أول" الرفع على أنه اسم كان "وإن قال" في تأويل مصدر خبر كان، ويجوز فيه العكس. اهـ.(1/58)
بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أحدْ مِنْهُمْ سُخْطَةً لِدِينهِ بَعْدَ أن يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بالكَذِبِ قَبْلَ أنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلتُ: لا، قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لا، ونَحْنُ منه في مُدَّةٍ لا ندري
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أحد من آبائه الملك " قلت: لا " أي لم يحدث شيء من هذا.
" قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم " أي هل أكثر أتباعه السادة والقادة من أهل الكبر والخيلاء، أم المساكين والأحداث والفقراء. " قلت: بل ضعفاؤهم " أي بل أكثر أتباعه الضعفاء. قال ابن حجر: وهو محمول على الأكثر والأغلب، فإنه غالباً ما يتبعه المستضعفون كبلال وعمار وصهيب وغيرهم الذين لا منافسة ولا حسد عندهم أما أصحاب الحسد كأبي جهل فهم أبعد الناس عنها قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون " ويتكاثر عددهم.
قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة " بضم السين وسكون الخاء (1) "لدينه" أى هل يعود أحد من أتباعه إلى الكفر بغضاً للاسلام وكراهية له ونفوراً منه " قال: لا " لم يخرج أحد من دينه كراهية له.
"قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال"؟ أي قبل أن يدعي النبوة، ويأتيكم بهذا الدين الذي يخالف دين آبائكم ويقول لكم ما قال من الدعوة إلى التوحيد، وترك عبادة الأصنام. " قلت: لا " وذلك لأنه كان معروفاً عندهم بالصدق والأمانة، ولقد شهد له أعداؤه بالصدق حتى بعد أن قال لهم ما قال حيث قال أبو جهل: والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟!
__________
(1) وهي كراهية الشيء وعدم الرضا به.(1/59)
ما هُوَ فَاعِل فِيهَا، ولم يُمْكِنِّي كَلِمَة أدْخِلُ فيهَا شَيْئاً غَيْرَ هذ الكَلِمَةِ، قالَ: فَهَلْ قاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إياهُ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وبَيْنَهُ سِجَال، يَنَالُ مِنَّا، وَنَنَالُ مِنْهُ، قَالَ: مَاذَا يَأمرُكُمْ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــ
"قال: فهل يغدر"؟ أي ينقض العهد " قال: لا " وإنما اشتهر في حياته كلها بالوفاء. " ونحن فى مدة " أي في هدنةٍ مؤقتة بعشر سنوات وهي صلح الحديبية " لا ندري ما هو فاعل فيها " من الوفاء أو الغدر " قال: ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة " أي لم أجد كلمة أنتقصه فيها غير هذه، على أنها ليست بشيء، لأن شهادتهم له في الماضى بالوفاء يَجعل احتمال وقوع الغدر منه في المستقبل ضعيفاً، فانّ من شب على شيء شاب عليه. قال أبو سفيان: فوالله ما التفت إليها - أي لم يعر هرقل هذه الجملة اهتماماً.
" قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال " أي نُوَب، نوبة لنا، ونوبة له " ينال منا " أي مرة ينتصر علينا ومرة ننتصرُ عليه.
" قال: فماذا يأمركم؟ " به من العقائد والأعمال " قلت يقول اعبدوا الله وحده " أي يأمرنا بالتوحيد وإفراد الله بالعبادة " ولا تشركوا به شيئاً واتركوا ما يقول آباؤكم " قال أبو السعود: شيئاً نصب على أنه مفعول به، أي لا تشركوا به شيئاً من الأشياء، صنماً أو غيره، أو على أنه مصدر أي لا تشركوا به شيئاً من الإشراك جلياً أو خفياً والمراد أنه ينهاهم عن الشرك بأنواعه، وعن عبادة غير الله مطلقاً، " ويأمرنا بالصلاة " المعروفة، "والصدق"، وفي رواية والصدقة، وفي رواية أبي ذر في الجهاد بالصلاة والصدق والصدقة، كما أفاده الحافظ، والمراد بالصدق القول المطابق للواقع،(1/60)
قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبَدُوا اللهَ وَحْدَه، ولا تشرِكُوا بِهِ شَيْئاً، واتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤكُمْ، ويأمرنا بالصَّلَاةِ، والصِّدْقِ، والعَفَافِ، والصِّلَةِ، فقَالَ لِلترجُمَانِ: قُلْ لَهُ إنِّى سَألْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فذكرتَ أنَهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فكَذَلِك الرُّسُلُ تُبْعَثُ في نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَألتُكَ: هَلْ قَالَ أحَدٌ منكُمْ هذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ، فذكَرْتَ أنْ لَا، فقلتُ: لَوْ كَانَ أحدٌ قَالَ هذَا القَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلْتُ رَجُلٌ يَتَأسّى بِقَوْل قِيْلَ قَبْلَهُ، وَسَألْتُكَ: هلْ قال مِنْ آبائه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو للاعتقاد، وهو الأنسب هنا، لأن الإنسان لا يكلف إلاّ بما يعلمه كما في الأصول " والعفاف " أي الكف عن المحارم، وكل ما ينافي المروءة " والصلة " أي الإِحسان إلى الأقارب خاصة وإلى الناس عامة، فيدخل فيه جميع أنواع البر.
" فقال للترجمان إني سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، أي وهكذا الرسل يختارهم الله من أشرف القوم نسباً وحسباً، لأن جودة الأخلاق يرثها الرجل من آبائه، وإن من القضايا المسلم بها أن الفرعٍ يشبه أصله، وأن الأصل ينتج مثله، فالأبناء يحملون خصائص آبائهم وراثياً كما ثبت ذلك علمياً، واشتهر أيضاً عند العرب حتى قال شاعرهم.
أعْرِف فِيْهِ قِلّةَ النُّعَاس ... وَخِفَّةً في رَأسِهِ مِنْ رأسِ
وذوو الأحساب كما قال القاري أبعد عن انتحال الباطل وأقرب إلى انقياد الناس لهم.
" وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله فذكرت أنْ لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يتأسى بقول قيل قبله " أي لظننت أنه اقتدى بغيره من أدعياء النبوة.(1/61)
مِنْ مَلِكٍ، فذكَرْتَ أنْ لا، فَقُلتُ: لوْ كَانَ منْ آبائِهِ مِنْ مَلِكٍ، قُلْتُ: رَجُل يَطْلُبُ مُلْكَ آبائِهِ، وسَألتُكَ: هلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بالكَذِبِ قَبْلَ أنْ يَقُولَ مَا قَالَ، فَذَكَرْتَ أنْ لَا، فَقَد أعْرِفُ أنهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ على النَّاس وَيَكْذِبَ عَلَى اللهِ، وَسَألتُكَ: أشْرَافُ النَّاس اتَبّعَوهُ أمْ ضُعَفاؤهُمْ، فَذَكَرْتَ أنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَبّعَوهُ، وَهُمْ أتباعُ الرُّسُلِ، وسَألتُكَ: أيَزِيدُونَ أمْ يَنْقُصُونَ، فَذَكَرْتَ أنَهُمْ يَزِيدُونَ، وكَذَلِكَ أمْرُ الإِيمَانِ حتَّى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" وسألتك هل كان من آبائه من ملك، فذكرت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه " أي يحاول أن يستعيد ملك أبيه لنفسه، ولكنه ليس من أبناء الملوك حتى يظن به ذلك، وعن جرير رضي الله عنه أنه أتي برجل فأرعد من هيبته، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: " هوِّن عليك، فلست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد " أخرجه الحاكم.
" وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أنْ لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب " أي ليدع الكذب " على الناس ويكذب على الله "، لأن الكذب على الله أشنع وأعظم جرماً قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) .
" وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت: أنّ ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل " قال الأبي: لأن ذوي الرئاسات يأبون تسويد غيرهم عليهم، وتأبى أنفسهم الاتباع، إلا من هداهم الله.
" وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإِيمان حتى يتم " كما قال تعالى: (ويأبى الله إلاّ أن يتم نوره ولو كره(1/62)
يَتِمَّ، وسأَلْتُكَ: أيرْتَدُّ أحدهم سُخْطَةً لدِينه بَعْدَ أنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فذَكَرْتَ أنْ لا، وَكذلِكَ الإِيمانُ حينَ يُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلوبَ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ، فَذَكَرْتَ أنْ لا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لا تَغْدِرُ، وسَألتُكَ: بِمَا يَأمُرُكُمْ، فَذَكَرْتَ أنَهُ يأمُرُكُمْ أنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَه، وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، ويْنْهَاكُمْ عن عِبَادَةِ الأوثَانِ، ويأمُرُكُمْ بالصَّلاةِ والصَّدَقَةِ والعَفَافِ، فإن كَانَ مَا تَقُولُ حَقَّاً فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أعلَمُ أنهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الكافرون) فلابد أن ينمو عدد المؤمنين، وتتضاعف قواهم البشرية على مر الزمان، حتى تتحقق لدين الله العزة والمنعة.
" وسألتك أيرتد أحد منهم سخطَةً لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا وكذلك الإِيمان حين تخالط بشاشته القلوب " أي حين تمازج حلاوته قلوب معتنقيه لأن الإِيمان إذا دخل القلب السليم ارتاح له الضمير والوجدان، واطمأنت إليه النفس، فهو فطرة الله التي فطر الناس عليها، فلا تفارقه كراهية له.
" وسألتك هل يغدر، فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر " لأنّ الغدر نقيصة يتنزه عنها فضلاء الناس، فضلاً عن الأنبياء.
" وسألتك بماذا يأمركم؟ فذكرت: أنه يأمركم أن تعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدقة والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً، فسيملك موضع قدمي هاتين " قال القسطلاني أي أرض بيت المقدس، أو أرض ملكه "وقد كنت أعلم أنه خارج" أي وقد سبق لي أن علمت من الإِنجيل والكتب السابقة عن ظهور رسول بعد عيسى، وذلك مصداق قوله تعالى: (وإذ قال عيسى بن مريم(1/63)
خَارِج، ولم أكنْ أظُنُّ أنَه منكم فَلَو كُنْتُ أعلم أني أخْلُصُ إليْهِ، لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَن قَدَمِهِ، ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةَ إلى عَظِيم بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إلى هِرَقْلَ، فَقَرَأهُ فإذَا فيه: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: مِن مُحَمَّدٍ عَبد الله وَرَسُولِهِ إلى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَام على مَنِ اتَبّع الهُدَى، أما بعدُ: فإني
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد" وفي الفصل العشرين من السفر الخامس من التوراة ما نصه " أقبل الله من سيناء وتجلى من جبال فاران معه الربوات الأطهار عن يمينه وفاران جبال مكة " ولم أكن أظن أنه منكم " ولعله لم يطلع على ما في التوراة، أو لم يفهمه " فلو كنت أعلم أني أخلص إليه " أي أصل إليه " لتجشمت لقاءه " أي لتكلفت عناء السفر إليه " ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه " أي لغسلتُ وجهي من الماء الذي يسيل من قدمه.
" ثم دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بعث به دحية الكلبي إلى عظيم بصرى " أي إلى أميرها الحارث ابن أبي شمر الغساني، "فدفعه إلى هرقل"، فأرسله عظيم بصرى إلى هرقل، " فقرأه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله " قال القسطلاني: وصف نفسه بالعبودية تعريضاً ببطلان قول النصارى في المسيح أنه ابن الله، لأن الأنبياء مقرون في أنهم عباد الله، "إلى هرقل عظيم الروم" أي المعظم عندهم، ولم يصفه بالملك، لأنّه معزول بحكم الإسلام، "سلام على من اتبع الهدى" خاطبه بذلك لأنّ هذه هي صيغة التحية المشروعة في مخاطبة الكفار، حيث إنَّ السلام لا يوجّهُ إلاّ لمن آمن بالله، واتبع شريعة الله، " أما بعد " وهي كلمة ينتقل بها من موضوع إلى آخر، ولهذ سميت فصل الخطاب "فإني أدعوك بدعاية(1/64)
أدْعُوكَ بِدِعَايَه الإِسْلامِ، اسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللهُ أجرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ
تَوَلَّيْتَ فإنَّما عَلَيْكَ إِثْمُ اليَرِيْسِيِيْنَ، و (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الإِسلام" أي بدعوته "أسلم تسلم" في الدنيا بالنجاة من الحرب والجزية، وفي الآخرة بالنجاة من النار " يؤتك الله أجرك مرتين " مرة على إيمانك بنبيك عيسى، ومرة على إسلامك (1) ، " فإن توليت فإنما عليك إثم اليريسيين " أي إثم أتباعك من عامة الشعب " ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " أي نستوي فيها جميعاً، لأنها تتفق عليها جميع الأديان السماوية " أن لا نعبد إلا الله " وهكذا صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعوة امبراطور الروم وحامي الديانة المسيحية إلى توحيد الله تعالى، وذلك لنفي ألوهية المسيح التي يزعمونها، وإثبات أنه عبد الله، وهي الحقيقة التي قالها المسيح نفسه، كما جاء في القرآن الكريم، وكما جاء في " إنجيل برنابا " عندما سأل الكاهن عن قول الناس فيه فأجابه: بأن فريقاً يقول إنك الله، وآخر يقول إنك ابن الله، ويقول فريق: إنك نبي، فقال يسوع: أيتها اليهودية الشقية إني أشهد أمام السماء، وأشهد كل ساكن على الأرض اني بريءٌ من كل ما قال الناس عني من أني أعظم من بشر، لأنني بشر مولود من امرأة وعرضة لحكم الله، أعيش كسائر البشر (2) اهـ. كما في الفصل الثالث والتسعين. ولما قال لهم كما في إنجيل برنابا - ما قولكم أنتم وأجابه بطرس بقوله: "إنك المسيح ابن الله" غضب " يسوع وانتهره قائلاً: " انصرف عني لأنك أنت الشيطان ". وقد صرح المحققون من علماء المسيحية المعاصرين بنفي ألوهية المسيح. وأنه ليس ابن الله. ومن ذلك ما نشرته جريدة الندوة في عددها (5774) الصادر في
__________
(1) أي على إيمانك بمحمد والدخول في دينه
(2) " نظرات في إنجيل برنايا " للأستاذ محمد علي قطب.(1/65)
بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) قَالَ أبو سفْيَانُ: فلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الكِتَابِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(16/3/1398 هـ) تحت عنوان رابطة العالم الإسلامي حيث قالت: وقف الدكتور روبرت إلي رئيس قسم المسيحية بجامعة (رومنتوا موند) الأمريكية يخطب في إحدى الجمعيات متحدثاً عن الدين المسيحي وذكر أن المسيح ليس ابن الله كما يدعون، وليست له أية ألوهية كما يعتقدون وقال إن المسيح لم يدّع هذا في يوم من الأيام، وان هذه الاعتقادات دخيلة على الدين المسيحي" وهذا مطابق لما جاء في القرآن الكريم، حكاية عن عيسى عليه السلام أنه قال (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) الخ الآية.
" ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله " قال القاري: فلا نقول عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحليل والتحريم " فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " أي فقد لزمتكم الحجة فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم، وأنكم كافرون بالله " فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب " أي اللغط والخصام " وارتفعت الأصوات وأخرجنا " من مَجْلِسهِ " فقلت لأصحابي لقد أمر أمرٍ ابن أبي كبشة " أي لقد عظم شأن محمد الذي كنا ندعوه استهزاءً وسخرية به عندما كان يحدثنا بهذه الكنية فنقول " هذا ابن أبي كبشة يكلم من السماء " وأبو كبشة أبوه من الرضاعة، واسمه الحارث بن عبد العزى " إنه يخافه ملك بني الأصفر " أي أن هذا الذي كنا نستخف به، فندعوه بهذه الكنية، قد وصل إلى هذا المستوى، وعلا قدره، حتى أصبح يخافه ملك الروم، ويعترف له بالفضل والنبوة " فما زلت موقناً أنه سيظهر " أي ينتصر وينشر دينه في المستقبل القريب " حتى أدخل الله علي الإِسلام " ووفقني إليه.(1/66)
كثُر عِنْدَه الصَّخَبُ وارْتَفَعَتِ الْأصْوَاتُ، وأخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لأصْحَابِي: لَقَدْ أمِرَ أمْرُ ابْنِ أبي كَبْشَة إنَّهُ يَخَافهُ مَلِكُ بني الأصْفَر، فما زِلْتُ مُوقِنَاً أنه سَيَظْهَرُ حتى أدْخَلَ اللهُ عليَّ الإسْلامَ، وكانَ ابْنُ الناطُور صَاحِبُ (1) إيليَاء وَهِرَقْلَ، أسْقِفَ على نَصَارَى الشَّامِ، يُحَدِّثُ أنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إيلياء أصْبَحَ خبيثَ النَّفْس، فقالَ لَهُ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قد اسْتَنْكَرْنَا هَيئتَكَ، قَالَ ابْنُ النَّاطُورِ: وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظرٌ في النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَالوهُ: إِنى رَأيت اللَّيْلَةَ حِيْنَ نَظرتُ فِي النُّجُومِ، أن مَلِكَ (2) الخِتَانِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
واعلم أنه إلى هنا ينتهي الجزء الأول من الحديث الذي يرويه أبو سفيان ويبدأ الجزء الثاني منه الذي يرويه الزهري فيقول: " وكان ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل أسقف على نصارى الشام " أي، وكان ابن الناطور وهو أمير بيت المقدس وصديق هرقل رئيساً للديانة المسيحية بالشام " يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح خبيث النفس " أي قلقاً مهموماً " فقال له بعض بطارقته " أي قواده: " قد استنكرنا هيئتك "!! أي لاحظنا عليك تغير وجهك، مما يدل على معاناتك لبعض الهموم النفسية " قال ابن الناطور: وكان هرقل حزاء: ينظر إلى النجوم " أي ينظر إليها، فيستدل بها في زعمه على ما يقع في المستقبل أو في الحال، والحَّزاء: الكاهن المنجم، " فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم أن مَلِكَ الختان قد ظهر " أي عرفت من النجوم أن مَلِكَ الأمّة التي تختتن قد ظهر، "فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا ليس يختتن إلاّ اليهود، فلا يهمنك شأنهم" لأنّهم لا دولة لهم ولا صولة، "واكتب إلى مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من
__________
(1) ويجوز في صاحب الرفع على أنه خبر مبتدأ، أي وهو صاحب إيلياء، والنصب على الاختصاص.
(2) " مَلِكَ " قال القسطلاني بفتح الميم وكسر اللام، ولغير الكشميهي " مُلْك " بالضم والإسكان.(1/67)
قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إلَّا اليَهودُ، فلا يَهُمنَّكَ شَأنُهُمْ، واكتُبْ إلى مَدَائِنِ مُلْكِكَ فَيَقْتُلُوا مَنْ فيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ، فَبَيْنَمَا هُمْ على أمرِهِمْ، أتِي هِرَقْلُ بِرَجُل أرسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا اسْتَخْبَرَه هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فانْظرُوا أمخْتَتِن هُوَ أمْ لا؟ فَنَظروا إليْهِ فَحَدَّثُوهُ أنهُ مُخْتَتِن وسألَهُ عَن الْعَربِ، فقالَ: هُمْ يَخْتَتِنُون، فقالَ هِرَقْلُ هَذَا مَلِكُ هَذِهِ الأمَّةِ قدْ ظَهَرَ، ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إلى صَاحِبٍ لَهُ برُومِيّةَ، وكانَ نَظيراً لَهُ في الْعِلْمِ، وَسَارَ هِرَقْلُ إلى حِمْصَ، فلم يرم حِمْصَ حَتَّى أتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأيَ هِرَقْلَ، على خُرُوج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اليهود" (1) أي إن كنت تخشى منهم فاستأصلهم، " فبينما هم على أمرهم " أي فبينما هم في حيرة من أمرهم " أتي هرقل برجل أرسله ملك غسان " وهو عدي بن حاتم "يخبر عن خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" أي يتحدث فيقول: خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبي اتبعه ناس، وخالفه ناس، " فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ أي فلما أحضره هرقل بين يديه، وسأله عن قصَّة هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي أمرهم بالكشف عليه، حتى ينظروا أهو مختتن أم لا؟ "فنظروا إليه" وكشفوا عليه "فحدثوه أنه مختتن" أي فأخبروه أنهم وجدوه مُخْتتناً، " وسأله عن العرب فقال: هم يختتنون " فعرف أنَّ ما شاهَدَهُ هم العرب، "فقال هرقل: هذا ملَكُ هذه الأمة قد ظهر" أي هذا الذي رأيته في النّجوم معناه أن ملكَ الأمة التي تختتن وهم العرب قد ظهر على هذه الأرض وأنَّ دولتهم ستغْلب على هذه البلاد كلها، " ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية " وهي روما عاصمة إيطالية اليوم، "وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص"
__________
(1) وفي رواية الأصيلي وابن عساكر فليقتلوه كما أفاده القسطلاني.(1/68)
النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وأنَّهُ نَبِي، فَأذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَماءِ الرُّومِ في دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ ثُمَّ أمَرَ بابوابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ: اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ هَلْ لَكُمْ في الْفَلَاح والرُّشْدِ، وأن يَثْبُت مُلْكُكُمْ، فَتُبايِعُوا هَذَا الرَّجُلَ، فحاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إلى الأْبوابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رأى هِرَقْلُ نَفْرَتَهمْ، وِإيس من الإِيمان، قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ، وَقَالَ: إنِّى قُلْتُ مَقَالَتي آنِفَاً أخْتَبِرُ بِها شِدَّتَكُمْ على دِيْنكُمْ، فَقَدْ رأيتُ، فسجدوا له، ورَضُوا عَنْهُ، فكانَ ذلِكَ آخِرَ شَأنِ هِرَقْلَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي لم يكد يصل إليها " حتى أتاه كتاب من صاحبه " في رومِيَّةَ، وكان أسقف روما " يوافق رأي هرقل على خروج النبي وأنه نبي " أي على ظهور النبي الذي بشر به عيسى وأن محمداً هو النبي المبشر به، " فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص " أيْ فأعلن هرقل لعظماء دولته عن عقد اجتماع في قصر عظيم بحمص، لكي يلقي فيهم خطاباً هاماً، " ثم أمر بأبوابها فغلّقت " أي دخل جناحاً خاصاً أغلق أبوابه عليه "ثم اطلع" أي أطل عليهم من الشرفة " فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح "، أي هل ترغبون في الفوز والظفر، " والرشد " بفتحتين، أو بضم الراء وتسكين الشين، وهو إصابة الحق عقيدة وقولاً وعملاً، " وأن يثبت ملككم " أي يبقى ويدوم لكم، " فتبايعوا هذا الرجل " أي تعاهدوا محمداً على الإسلام، " فحاصوا حيصة حمر الوحش " أي ثاروا ثورة الحمر الوحشيه، " إلى الأبواب " أي: وهجموا على الأبواب يريدون الوصول إليه ليفتكوا به " فوجدوها قد غلقت فلما رأى هرقل نفرتهم " أي فلما رأى نفورهم من الإِسلام وثورتهم العنيفة عليه "وايس من الإيمان قال: ردوهم علي" أي قال لجنده: ردوهم عني " وقال إني قلت مقالتي آنفاً " أني قلت كلامي الذي قلته لكم الآن " أختبر شدتكم(1/69)
على دينكم" أي لأختبر صلابتكم في دينكم، وشدة تمسككم به وقوة دفاعكم عنه " فقد رأيت " وفي رواية فقد رأيت منكم ما أحببت " فسجدوا له " على عادة الأعاجم " فكان ذلك آخر شأن هرقل " أي نهاية قصته وموقفه من كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
يستفاد من الحديث: ما يأتي:
أولاً: ملاطفة المكتوب إليه، وتقديره التقدير اللائق المناسب، الذي لا يتجاوز حدود الشريعة الإِسلامية، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عظيم الروم، ولم يقل إلى ملك الروم لأنه أصبح معزولاً بحكم الإِسلام، ولم يقل: إلى هرقل، ليكون فيه نوع من الملاطفة.
ثانياًً: تصدير الكتاب بالبسملة ولو كان المبعوث إليه كافراً.
ثالثاً: من السنة في الخطابات الإِسلامية أن يبدأ أولاً باسمه ثم باسم المكتوب إليه كما فعل - صلى الله عليه وسلم - في خطابه إلى هرقل.
رابعاً: في الحديث حجة ظاهرة لن يمنع بدء الكافر بالسلام وهو مذهب الشافعى، وأجازه جماعة مطلقاً، وجماعة للاستئلاف أو الحاجة، ولكن قد جاء النهي عنه في الأحاديث الصحيحة، ولا اجتهاد مع النص.
خامساً: استحباب أما بعد.
سادساً: أن الكتابي إذا أسلم له أجران.
سابعاً: مشروعية دعاء الكفار إلى الإِسلام قبل قتالهم، وهو واجب، والقتال قبل الدعوة حرام إن لم تكن بلغتهم الدعوة، وإلا فهي مستحبة كما قال الشافعي، وقال مالك: يجب الانذار مطلقاً، والأول مذهب الجماعة.
ثامناً: استقباح الكذب عند جميع الأمم والشعوب.(1/70)
تاسعاً: أن الرسل لا تبعث إلا من ذوي الأنساب العريقة.
عاشراً: أن صدق الرسالة المحمدية كان معلوماً عند أهل الكتاب علماً قطعياً، لقول هرقل: " وقد كنت أعلم أنه خارج ".
الحادي عشر: تكريم قيصر الروم لكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنايته بشأنه، حيث اهتم بقراءته، وعرضه على رعيته، وتتبع أخبار مرسله، وسأل عن صفاته وشمائله، بخلاف كسرى الذي مزق كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فمزق الله دولته.
قال دحية الكلبي:
لقيت قيصر بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بدمشق، فأدخلت عليه خالياً، فتناول الكتاب، فقبّل خاتمه، وفضه، وقرأه، ثم وضعه على وسادة أمامه، ثم دعا بطارقته، ثم خطبهم فقال: هذا خطاب النبي الذي بشر به عيسى، وأخبر أنه من ولد إسماعيل، قال: فنفَروا نفرة عظيمة وحاصوا فأومأ إليهم أني جربتكم لأرى غضبكم لدينكم الخ. وذكر السهيلي (1) " أن هرقل وضع هذا الكتاب في قصبة من ذهب تعظيماً له، ولم يزالوا يتوارثونه كابراً عن كابر في أعز مكان، وأن ملك الفرنج في دولة الملك المنصور قلاوون الصالحي أخرج لسيف الدين صندوقاً مصفحاً بالذهب، واستخرج منه مقلمة ذهبية، فأخرج منها كتاباً زالت أكثر حروفه فقال: هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا به، يعنى بالاحتفاظ به، وقالوا: إنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه " اهـ. ونقل ابن كثير في " البداية والنهاية " عن الشافعي أنه قال: وحفظنا أن قيصر الروم أكرم كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووضعه في مسك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ثبت الله ملكه " وهو إخبار منه - صلى الله عليه وسلم - لا دعاء له، لأنه لا يدعو لكافر. فإن صح
__________
(1) شرح السهيلي على سيرة ابن هشام.(1/71)
هذا الخبر فمعناه " أنه سيبقى من دولة الروم بقية، فإن زال سلطانها من الشرق بفتح القسطنطينية، فإنه ستبقى منها بقية في أوروبة، ولا زالت هذه البقية من الروم موجودة حتى الآن في إيطالية وليست " روما " عاصمة إيطالية اليوم سوى مدينة " رومية " المذكورة في حديث الباب: هي المعنية والمقصودة بقوله: ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وقد ذكر ياقوت هذه المدينة في معجم البلدان (1) باسمها القديم " رومية "، وأطال الحديث عنها، فراجعه إن شئت.
مطابقة الحديث للترجمة: في اشتماله على صفات من يوحى إليه من الأنبياء ودلالته على إثبات الوحي المحمدي، ورسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -..
***
__________
(1) معجم البلدان لياقوت الحموي (حرف الراء) .(1/72)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال البخاري رحمه الله: " كتاب الإِيمان "
أقول وبالله التوفيق: لما فرغ البخاري من باب بدء الوحي. شرع في المقاصد الشرعية، وأهمها الإيمان، لأنه أساس الأعمال، والشرط الأول في صحتها، كما يدل عليه قوله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) وغيره من الآيات القرآنية. أما معنى الإيمان:
فالإِيمان لغة: مشتق من الأمن بمعنى الاطمئنان إلى الشيء والوثوق به، ثم أطلق على التصديق، تقول العرب: آمَنَهُ إذا صدَّقَه، لأن مَنْ صدق شخصاً أمِنَه من الكذب والخيانة. أما الإيمان شرعاً: فهو عند أكثر أهل السنة مركب من ثلاثة أركان لا بد منها، فقد ذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق وسائر أهل الحديث إلى أنه تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، هذا هو الإيمان عند السلف، كما في " شرح الطحاوية " فهو يتكون من ثلاثة أركان أو ثلاثة عناصر أو أجزاء. الأول التصديق بالجنان: أي القلب، ومعناه: التصديق القلبي الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وكذلك التصديق بكل ما أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وبكل ما عُلِمَ من الدين بالضرورة، كأركان الإسلام الخمسة مثلاً، وهذا التصديق لا بد منه في صحة الإيمان، ولا يتحقق الإيمان إلا بوجوده، كاملاً، فمن أنكر شيئاً من ذلك فهو غير مؤمن أصلاً، بل هو كافر مخلد في النار، لأنّ التصديق لا يقبل التجزئة أو التفرقة بين الأشياء التي يجب الإيمان بها فإذا صدق بالبعض، وكفر بالبعض كان كافراً ولو كان هذا البعض قضية واحدة(1/73)
من قضايا الإِيمان، وأقر بلسانه وأتى بجميع شعائر الإسلام، ولم يصدقه بقلبه، لا ينفعه ذلك، لأن التصديق القلبي هو الركن الأول من أركان الإيمان، ولا يكفي في الإِيمان مجرد الإِقرار باللسان، لأن المنافقين على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقرّون بألسنتهم، لكنهم لما لم يصدقوا بقلوبهم، نفى الله عنهم اسم الايمان في قوله عز وجل: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) . الثاني الإقرار باللسان: أي النطق بالشهادتين مع الاعتراف بأن كل ما أخبر به نبينا - صلى الله عليه وسلم - أو جاء به حق وصدق عن الله تعالى، فمن لم يقر بذلك ويعترف به بلسانه لغير عذر شرعي من خرس أو إكراه فهو جاحد كافر عند الله والناس ولو صدَّق بقلبه، فإن التصديق وحده دون إقرار ممن هو قادر عليه لا يكفي خلافاً لما زعمه الجهم بن صفوان، من أنّ من عرف الله بقلبه وجحد بلسانه ومات قبل أن يقر فهو مؤمن كامل الإِيمان كما أفاده الرازي، وهذا قولٌ باطلٌ، لأن فرعون كان مصدقاً بقلبه، فلم ينفعه ذلك حين أنكر التوحيد بلسانه، فسجَّل الله عليه وعلى قومه الكفر والجحود في محكم قرآنه، ووصفهم بقوله: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) . الثالث العمل بالجوارح: وهو أن يؤدي المؤمن كل أركان الإسلام، ويلتزم بفعل الواجبات، وترك المحرمات، فالعمل جزء من الإيمان، وقد أنكر السلف على من أخرج الأعمال من الإيمان إنكاراً شديداً، وقال البخاري: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار (1) ، فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص. وقال الأوزاعي: كان من مضى من السلف لا يفرقون بين العمل والإيمان، والدليل من القرآن على أن العمل جزء من الإِيمان قوله تعالى (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ
__________
(1) " التنبيهات السنية شرح العقيدة الواسطية " للشيخ عبد العزيز بن ناصر الراشد.(1/74)
هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) فجعل الأعمال المذكورة التي هي الهجرة والجهاد والنصرة جزءاً من الإيمان الحق، الذي يستحق صاحبه النجاة من النار، والفوز بالجنة ابتداء مع الَأولين الأبرار، أما الدليل من السنة على أن العمل جزءٌ من الإِيمان فهو قوله - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد القيس: " هل تدرون ما الإِيمان بالله؟ شهادةَ أن لا إله إلاّ الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا الخمس من المغنم " فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرّف الإِيمان بالشهادة والصلاة والزكاة والصوم، فجعل هذه الأعمال المذكورة جزءاً من الإيمان، قال ابن القيم: فيه أن الإِيمان بالله هو مجموع هذه الخصال من القول والعمل كما علم ذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون وتابعوهم وعلى ذلك ما يقارب مائة دليل (1) من الكتاب والسنة اهـ. وهو مذهب السلف الصالح، قال ابن تيمية: " ومن أصول أهل السنة أن الدين والإِيمان قول وعمل (2) ، قول القلب (3) واللسان (4) وعمل القلب (5) واللسان والجوارح (6) . اهـ. فالعمل جزء من الإِيمان ولكن لا ينتفي الإيمان بانتفائه ولا يبطل باقتراف كبيرة، أو ارتكاب معصية، فأهل السنة لا ينفون عن العاصي الإيمان بالكلية، ولا يخرجونه من الدين، ولا يحكمون عليه بالكفر والخلود في النار، وهم كما قال ابن تيمية: " لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج بل الأخوة الإِيمانية ثابتة مع المعاصي، وقال أيضاً: " ولا يسلبون الفاسق الإِيمان بالكلية، ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة " فالعاصي، ومرتكب الكبيرة لا يسلب من الإِيمان
__________
(1) التنبيهات السنية شرح العقيدة الواسطة.
(2) العقيدة الواسطية لابن تيميّة.
(3) وهو التصديق القلبي الجازم المساوي لليقين الذي لا يقبل شكاً ولا ريبة بكل ما أخبر به الله تعالى أو أخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من وجود الله وصفاته وأفعاله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
(4) قول اللسان هو النطق بالشهادتين، مع الاعتراف بكل قواعد الإيمان المذكورة في الفقرة السابقة.
(5) وهو شامل لكل أعمال القلوب من نية وإخلاص وتوكل وخوف ورجاء وغيرها.
(6) وهو شامل لجميع العبادات الشرعية من صلاة وحج وصوم ونحوها.(1/75)
بالكلية، ولا يدخل في الإِيمان المطلق الكامل الذي يستحق به الجنة ابتداء، وإنما هو مؤمن فاسق. قال ابن تيميّة " هو مؤمن ناقص الإيمان أو هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الإِيمان " (1) ومعنى ذلك أننا لا ننفي عن العاصي اسم الإِيمان، ونقول إنه كافر خارج عن الملة، ولا نطلق عليه الإيمان دون أن نقيده بالفسق. والدليل على أن العاصي لا ينتفى عنه الإِيمان أَن الله أثبت للقاتل والباغي إخوة الإِيمان، فقال في القاتل: (فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) وقال في البغاة: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) والدليل على أن العاصى لا يدخل في الإِيمان المطلق الكامل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" لأن الله نفى عن هؤلاء العصاة الإِيمان المطلق الكامل الذي يستحقون به النجاة من النار، والفوز بالجنة، ابتداء مع الأوَّلين الأبرار خلافاً للمرجئة والجهمية فإنهم قالوا، لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة وقالوا: إيمان أفسق الناس كإيمان أبي بكر وعمر (2) .
فالخوارج والمعتزلة غلوا والمرجئة جفوا، أولئك تعلّقوا بأحاديث الوعيد وهؤلاء تعلّقوا بأحاديث الوعد فقط، وهدى الله أهل السنة والجماعة للقول الوسط الذي تدل عليه أدلة الكتاب والسنة فقالوا: إن الفاسق لا يخرج من الإيمان بمجرد فسقه، ولا يخلد في النار في الآخرة، بل هو تحت مشيئة الله إن عفا عنه دخل الجنة من أول وهلة، وإن لم يعف عنه عذب بقدر ذنوبه، ثم دخل الجنة، فلا بد له من دخول الجنة، فالعاصي معرّض لعقوبة الله وعذابه، وقابل لعفو الله وغفرانه، حيث قال عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) فهذه الآية صريحة في أن من مات غير
__________
(1) العقيدة الواسطية.
(2) التبيهات السنية شرح العقيدة الواسطية.(1/76)
مشرك فهو تحت مشيئة الله، وفيها الرد على الخوارج المكفرين بالذنوب، وعلى المرجئة القائلين بأن الذنوب لا تضر، وأن الناس في الإِيمان سواء لا تفاضل بينهم. والحاصل أن المرجئة قالوا: العمل ليس من الإِيمان، أما أهل السنة فإنهم قالوا: الأعمال داخلة في الإِيمان، وكذلك قال المعتزلة والخوارج: العمل جزء من الإِيمان، ولكن الفرق بين أهل السنة من جهة وبين المعتزلة والخوارج من جهة أخرى -كما في " شرح العقيدة الواسطية " (1) أن أهل السنة يقولون: إن الأصل في الإِيمان التصديق، والعمل ليس جزءاً أصلياً في الإِيمان وأما الخوارج فإنهم جعلوا العمل جزءاً أصلياً في الإِيمان، مساوياً للتصديق، فإذا انتفى انتفى الإِيمان فيكون كافراً ويخلد في النار. ومن أوضح الأدلة وأصرحها على بطلان قولهم هذا، ما جاء منصوصاً عليه في السنة الصريحة أنّ من أصول الإيمان.. " أن لا يكفر أحدٌ بذنب " ففى الحديث " عن أنس رضي الله عنه: " " ثلاث من أصل الإِيمان: الكف عَمَّن قال لا إله إلا الله، لا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإِسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله حتى يقاتل آخر أمتى الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، والإِيمان بالأقدار " أخرجه أبو داود، فهل بقي بعد كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - كلام لمتكلم وهل بعد قوله هذا قول لقائل)) ومن الأدلة الصريحة على أن مرتكب الكبيرة لا يخلَّد في النار.
حديث أبي ذر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "قال لي جبريل: من مات من أمتك
لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، أو قال: لم يدخل النّار، قال: وإن زنى، وإن سرق؛ قال: وإن " أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. قال الخطابي: والمعنى أن من مات على التوحيد فإن مصيره إلى الجنة، وإن ناله قبل ذلك من العقوبة ما ناله، وأما قوله " لم يدخل النار " فمعناه لم يدخل دخول تخليد، ويجب التأويل بمثله جمعاً بين الآيات والأحاديث والله أعلم. أمّا الإِسلام فإنّه
__________
(1) المنحة الإلهية شرح العقيدة الواسطية، للأستاذ علي مصطفى الأستاذ بكلية أصول الدين.(1/77)
لغة الانقياد بالقلب أو باللسان والجوارح، وشرعاً النطق بالشهادتين. مع الإقرار لله بالوحدانية، ولمحمد - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة، والالتزام بأحكام الشريعة، وَأداء أركانها، فمن فعل ذلك حكمنا بإسلامه، وعاملناه معاملة المسلمين في جميع الأحوال، الشخصية من ميراث ونكاح وطلاق، والصلاة عليه بعد موته، ودفنه في مقابر المسلمين، وعصمة نفسه وماله، في حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أمرت أنْ أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم إلاّ بحق الإِسلام، وحسابهم على الله " أخرجه الشيخان ومعنى قوله: " وحسابهم على الله " كما قال القاري: " أننا نحكم عليهم بظاهر حالهم، فنرفع عنهم ما على الكفار ونؤاخذهم بحقوق الإِسلام بحسب ما يقتضيه ظاهر حالهم، والله يتولى حسابهم -يعني على ما في قلوبهم- فيثيب المخلص، ويعاقب المنافق " اهـ. وإنما يختلف معنى الإِسلام عن معنى الإِيمان إذا اجتمعا في نص واحد، أما إذا افترقا فإن معناهما يكون واحداً ولهذا قال أهل العلم: إذا اجتمعا افترقا، كما في حديث جبريل، حيث دل الإِسلام على الانقياد للأعمال الظاهرة، ودل الإِيمان على الأعمال الباطنة، وإذا افترقا اجتمعا، فإذا انفرد الإِسلام وحده تضمن معنى الإِيمان. كما في قوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) وإذا انفرد الإِيمان تضمن معنى الإِسلام، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - " الإِيمان بضعٌ وسبعون شعبة ".
***(1/78)
2- " بَابُ الإيمَانِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بُنِيَ الإسْلَامُ علَى خمْس "
7- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِىَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "بُنِي الإسْلَامُ عَلَى خَمس، شَهَادَةِ أنْ لَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
2- باب الإِيمان، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " بني الِاسلام على خمس "
7- الحديث: أخرجه الشيخان.
ترجمة راوي الحديث: هو عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل العدوي القرشي، أسلم قديماً قبل البلوغ، وهاجر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وعرض عليه ببدر وأحد فاستصغره، ولم يأذن له، وأجازه في الخندق، وهو أحد الستة المكثرين في الحديث، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاً وستمائة وثلاثين حديثاً، اتفقا على سبعين ومائة، وانفرد البخاري بواحد وثمانين حديثاً، وكان كثير الاتباع لآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - شديد الاحتياط والتوقي لدينه، توفى رضي الله عنه سنة 73 هـ، وهو آخر صحابي توفي بمكة.
معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " بني الإِسلام على خمس " أي أن الإِسلام لا يقوم ولا يتحقق كاملاً إلاّ بهذه الأعمال الخمسة، كما لا يقوم البيت من الشعر إلاّ على خمس دعائم، الدَّعامة الوسطى، وبقية الدعائم الأربعة في أطرافه " شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله " روي بالجر والرفع، ومعناه أن أحدها شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله، أي أن العمل الأول من أعمال الإِسلام الشهادتان، وهما العنصر الأساسي الذي لا يتحقق إسلام العبد إلاّ بوجوده، فمن لم يأت بالشهادتين لا يكون مسلماً أصلاً، فكما يَسْقُطُ البيت إذا سقطت دعامته الوسطى، كذلك يبطل إسلام المرء إذا لم يأت بالشهادتين. أما إذا أَتى بهما، وقصَّرَ في بقية الأعمال الأربعة، فإنه لا يبطل إيمانه، ولا يكفر وإنما يكون مؤمناً فاسقاً. ومعنى(1/79)
إِلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحَمَّداً رَسولُ الله، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الَزّكَاةِ، والْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشهادتين: أن ينطق العبد بشهادة أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله، معترفاً بوحدانية الله، ورسالة محمد بن عبد الله، مصدقاً بقلبه بهما، معتقداً لمعناهما، عاملاً بمقتضاهما، هذه هي الشهادة التي تنفع صاحبها في الدار الآخرة، فيفوز بالجنة، وينجو من النار. أما مجرد النطق بالشهادتين، والانقياد لشرائع الإِسلام ظاهراً مع عدم اعتقادها باطناً، فإن ذلك لا ينفع صاحبه في الدار الآخرة، ولا ينجيه من النار (1) . لأنَّ الشهادة التي نطق بها لسانه دون موافقة القلب عليها لا ينطبق عليها معنى الشهادة الذي هو الإِخبار عن أمر متيقن قطعاً، ولا تتوفر فيها شروط الشهادة التي هي العلم واليقين والاعتقاد والصدق والإخلاص، فلا بد في الشهادة من اعتقاد القلب بها، وإيمانه بمعناها، ويؤكد ذلك ما جاء في رواية أخرى للبخاري " بني الإِسلام على خمس، إيمان بالله ورسوله " وفي رواية مسلم " على أن يعبد الله ويكفر بما دونه ".
" وإقام الصلاة " أي والثاني من أركان الإِسلام " إقام الصلاة " يعني المحافظة على أداء الصلوات الخمس في أوقاتها بشروطها وأركانها الخ، " وإيتاء الزكاة " أي وثالث أركانه إيتاء الزكاة أي إخراج الزكاة المفروضة، وصرفها لمستحقيها، " والحج " أي ورابع أركان الإِسلام الحج إلى بيت الله الحرام مرة واحدة في العمر على من استطاع إليه سبيلاً " وخامسها " وهو آخر الأركان " صوم رمضان " وسيأتي مفصلاً شرح هذه الأركان.
__________
(1) قال في " فتح المجيد ": فلا بد في الشهادتيْن من العلم واليقين، والعمل بمدلولهما، كما قال تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) أما النطق بها من غير معرفة لمعناها، ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه من البراءة من الشرك وإخلاص القول والعمل وقول القلب واللسان وعمل القلب واللسان فغير نافع بالإجماع. فإنَّ الشهادة لا تصح إلا إذا كانت عن علم ويقين وصدق وإخلاص.(1/80)
ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: أن أركان الإِسلام تنقسم إلى أربعة أقسام " منها " ما هو عمل لساني قلبي، وهو الشهادتان، إذ لا بد فيهما من نطق اللسان وتصديق الجنان. " ومنها " ما هو عمل بدني، وهو الصلاة والصوم " ومنها " ما هو مالي محض، وهو الزكاة. " ومنها " ما هو عمل بدني مالي، وهو الحج. ثانياً: قال العيني: يدل ظاهر الحديث على أن الشخص لا يكون مسلماً عند ترك شيء من هذه الأركان، لكن الإجماع منعقد على أن العبد لا يكفر بترك شيء غير الشهادتين اتفاقاً، وغير الصلاة عند أحمد، وبعض المالكية اللهم إلاّ إذا تركه جاحداً. والأدلة على كفر تارك الصلاة كثيرة، منها قوله - صلى الله عليه وسلم - " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " أو قال، وهي عامة في كل من ترك الصلاة ولو كسلاً، ومما يؤكد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " رأس الأمر الإِسلام، وعموده الصلاة " فإنه يدل على عظم شأن الصلاة، وأن مكانها من الدين مكان العمود من الفسطاط - أي الخيمة - فكما أن عمود الفسطاط إذا سقط سقط الفسطاط، فكذلك إذا فقدت. الصلاة سقط دين تاركها (1) ، فلم يبق له دين، لأن مجرد ترك الصلاة كفر، يخرج من الملة (2) . وهذا دليل على ما ذهب إليه الإِمام أحمد وغيره من أنه إذا تركها كسلاً فهو كافر، فإن قوله عمودها الصلاة يدل على أن المراد فعل الصلاة، وليس المراد الإِقرار بها، فإن المبتدأ والخبر معرفتان يقتضيان الحصر وأنها وحدها عمود الدين. وأما من جحد وجوبها فقد كفر إجماعاً وإن فعلها، أن جحد شيء مجمع عليه ومعلوم من الدين بالضرورة كفر عند أئمة الإِسلام. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
__________
(1) " حاشية الثلاثة الأصول " للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم النجدي الحنبلي.
(2) وهناك نصوص أخرى تدل على أن مجرد ترك الصلاة ليس بكفر مخرج عن الملة. (ع) .(1/81)
3- " بَابُ أمُورِ الإيمَانَ "
8- عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيَ - صلى الله عليه وسلم - قال: " الإِيمَانُ بضع وَسِتُّوْنَ شُعْبَةً، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِن الإيمَانَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
3 - باب أمُور الإِيمان
باب الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
ترجمة راوي الحديث: هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر، أسلم عام خيبر وشهدها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسلمت أمه ميمونة بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - نشأ أبو هريرة يتيماً، وهاجر مسكيناً، وعمل أجيراً ليسرة بنت غزوان، فزوجه الله إيّاها، وقد كان عريف أهل الصُفة. أما مكانته في رواية الحديث. فقد كان رضي الله عنه أكثر الصحابة روايةً لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما أجمع عليه كافة أهل العلم، وسائر المحدثين، وروى من الأحاديث ما لم يروه غيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد بلغ عدد أحاديثه خمسة آلاف وثلثمائة حديث، وأربعة وسبعين حديثاً، اتفق البخاري ومسلم على ثلثمائة وخمسة وعشرين حديثاً، وانفرد البخاري بثلاثة وتسعين حديثاً ومسلم بمائة وتسعين حديثاً.
رُوي عنه أنه لمّا مرض مرض موته دخل عليه مروان فقال: شفاك الله، فقال أبو هريرة: اللهم إني أحب لقاءك فأحب لقائي، فما بلغ مروان وسط الدار حتى مات. وكان ذلك بالمدينة سنة تسع وخمسين من الهجرة رضي الله عنه وأرضاه.
معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الإِيمان بضع " بكسر الباء وفتحها وهو في الأصل القطعة من الشيء، ثم استعمل في العدد، وأطلق على ما بين الثلاثة إلى العشرة. وخصه الخليل بسبعة " أي أنه بمنزلة السبعة ومعناها،(1/82)
فيعامل معاملتها في التذكير والتأنيث، فيذكر مع المؤنث ويؤنث مع المذكر، فيقال: " بضعة رجال وبضع نسوة " أي سبعة رجال وسبع نسوة " بضع وستون شعبة " بضم الشين وسكون العين وهي في الأصل غصْن الشجرة، تقول: أمسكت بشُعْبةِ الشجرة، أي بغصنها، والمراد بها هنا الخصلة الواحدة من خصال (1) الخير. وقد اختلفت الأحاديث في عدد شعب الإيمان، ففي رواية البخاري " بضع وستون "، وفي رواية مسلم وأصحاب السنن ما عدا ابن ماجه " بضع وسبعون " وهو الراجح، كما قال القاضي عياض وغيره ولهذا قالوا ليس المقصود " تحديد العدد " وإنما المراد به التكثير. والمعنى: كما قال العيني: " إن الإِيمان ذو خصال متعددة، ويتكون من أعمال كثيرة، منها أعمال القلوب كالتوحيد، والتوكل، والرجاء، والخوف، ويدخل في ذلك عواطف الخير من رحمة ومحبة وغيرها " ومنها " أعمال اللسان من ذكر ودعاء، وتلاوة قرآن وغيرها " ومنها " أعمال الجوارح كالصلاة والصوم، وإغاثة الملهوف، ونصر المظلوم ". ومعرفة هذه الشعب على وجه التفصيل ليس بواجب، وإنما الواجب الإِيمان بها إجمالاً لأنّ الشارع لم يوقفنا عليها حداً وعداً، كما رجحه الخطابي والقاضي عياض، ويمكننا التعرف عليها من الكتاب والسنة، كما أفاده في فيض الباري ثم قال - صلى الله عليه وسلم - " والحياء شعبة من الإِيمان "، أي والحياء خصلة من خصال الإِيمان، وهو في الأصل انفعال نفسي يحدث للنفس عند نفورها من القبيح، وشعورها بقبحه، وإحساسها بالخجل منه، تظهر آثاره على الوجه حمرة أو صفرة، ولهذا عرفه بعضهم بأنه رقة تعتري وجه الإِنسان عند فعل القبيح، أو إرادة النفس له. والحياء نوعان: فطري وشرعي. والمراد في هذا الحديث " الحياء الشرعي " الذي هو في الحقيقة حياء من الله تعالى أن يراك حيث نهاك، وأن يفقدك حيث أمرك، وهو بهذا المعنى أقوى باعث
__________
(1) فيكون المعنى اللفظي لقوله - صلى الله عليه وسلم - " الإيمان بضع وستون شعبة " على حد قول الخليل: إن الإيمان سبعة وستون خصْلة من خصال الخير.(1/83)
على الخير، ورادع عن الشر، ولذلك كان من الإِيمان، بل من كمال الإيمان.
قال العيني: " الحيي يخاف فضيحة الدنيا وفضيحة الآخرة. فينزجر عن المعاصي ويمتثل الطاعات، ولهذا أفرد النبي - صلى الله عليه وسلم - الحياء بالذكر دون سائر الأخلاق الأخرى، فقال: " الحياء من الإيمان ".
ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: أن الأعمال جزء من الإيمان كما يقول جمهور أهل السنة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الإيمان بضع وستون شعبة " ومن هذه الشعب أعمال اللسان والجوارح. ثانياً: أن الإِسلام دين أخلاقي، أهم عناصر الأخلاق فيه الحياء، ولهذا قال في فيض الباري (1) : " وإنما نبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - على كون الحياء شعبة من الإيمان لكونه أمراً خلقياً يذهل الذهن عن كونه من الإِيمان، فدل على أن الأخلاق الحسنة منه. ثالثاً: أن الحياء من الله، كما قال الحليمي، هو طريق إلى فعل كل طاعة وترك كل معصية، فيفوز صاحبه بكمال الإِيمان في الدنيا ودخول الجنة في الآخرة، كما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الحياء من الإيمان، والإِيمان في الجنة -أي يوصل إليها- والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار " أخرجه الترمذي. رابعاً: أن الحياء كما أفاده الماوردي (2) على ثلاثة أوجه، أحدها الحياء من الله تعالى، بامتثال أوامره، والكف عن زواجره - وهو إنما ينشأ عن قوة الدين وصحة اليقين. والثاني: الحياء من الناس، وترك المجاهرة بالقبيح، واجتناب كل ما يدعو إلى إساءة الظن بفاعله ولو كان بريئاً. فقد روي عن حذيفة أنه أتى الجمعة، فوجد الناس قد انصرفوا، فتنكب الطريق عن الناس، وقال: لا خير فيمن لا يستحي من الناس، وذلك لأن الناس لا يعلمون عذره أمّا ربه فإنه مطلع عليه. والثالث: حياء المرء من نفسه بالعفة والصيانة في الخلوة. وذلك ينشأ عن معرفة المرء قدر نفسه، أو تكريمه
__________
(1) " فيض الباري على صحيح البخاري " الشيخ محمد أنور الكشميرى، ج 1.
(2) " أدب الدنيا والدين " للماوردي.(1/84)
4 - " باب الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ "
9 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن عمرو بْنِ الْعَاص رضي الله عنهما:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لها، ولهذا قال بعضهم من عمل في السر عملاً يستحي منه في العلانية فليس لنفسه عنده قَدْر. مطابقة الحديث للترجمة: في قوله " الإِيمان بضع وستون شعبة " حيث دلَّ ذلك على أنّ الإيمان أمور كثيرة، ومنها أعمال الجوارح.
4 - باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده
9 - الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم.
ترجمة الراوي: هو عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي السهمي، الصحابي ابن الصحابي: العابد الزاهد، أسلم رضي الله. عنه قبل أبيه، وهو أصغر من أبيه باثني عشر عاماً فقط، أعطى العبادة كل وقته، وعكف أولاً على القرآن، فكان كلما نزلت آية حفظها وفهمها، ثم عكف على رواية السنة المطهرة، حتى أصبح أحد الستة المكثرين من رواية الحديث، وتوفي سنة خمس وستين من الهجرة رضي الله عنه وأرضاه.
معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " أي أن المسلم الكامل (1) في إيمانه ودينه هو من حسنت معاملته للناس ابتغاء مرضاة اللهِ، فحافظ على حقوق خلقه، وكف أذاه وشره عن عباده، وآمن يقيناً أن الدين المعاملة، فعامل الناس بالحسنى، ولم يتعد على أحد منهم بلسانه أو يده، ولم يؤذ إنساناً بقوله أو فعله. والمراد من الحديث أن المسلم
__________
(1) فالألف واللام في قوله " المسلم " للكمال كما في قولهم زيد الرجل، أي الكامل في رجولته.(1/85)
والْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الكامل هو من سلم المسلمون من إيذائه لهمٍ، وعدوانه عليهم بأي عضو من أعضائه، سواء كان لساناً أو يداً أو رجلا أو غيرهما، ونجوا من شروره.
وإنّما خُصَّ اللسان واليد لكثرة أخطائهما وأضرارهما، فإنّ معظم الشرور تصدر عنهما، فاللسان يكذب ويغتاب، ويسب ويشتم، ويأتي بالنميمة، وشهادة الزور، واليدُ تضرب وتقتل، وتسرق، إلى غير ذلك، قال القاري: (1) وقدم اللسان لأنّ الإِيذاء به أكثر وأسهل، وأشد نكاية، ويعم الأحياء والأموات جميعاً. وإنما اهتم الإِسلام بكفِّ الأذى عن الناس لتوثيق الروابط الاجتماعية بينهم، وصيانة المجتمع عن كل ما يؤدي إلى التفكك والتقاطع والتدابر. " والمهاجر من هجر ما نهي الله عنه " أي أن المهاجر الكامل الصادق في هجرته هو من ترك كل ما نهي الله عنه من المعاصي، سواء كانت من الأقوال الكريهة، أو الأفعال الذميمة، لأن هذا هو الهدف الأسمى المقصود من الهجرة، ولهذا قال الحافظ (2) : كأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلوا على مجرد التحول من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه.
ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: اهتمام الإِسلام البالغ بكف الأذى عن الناس وحسن معاملتهم، حتى أنه حصر الإِسلام الكامل فيه، وحثّ المسلمين عليه، " لأن الدين المعاملة " فالمسلم لا يؤذي أحداً ولو كان كافراً، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية النسائي وابن حبان " المسلم من سلم الناس من لسانه ويده " وقد أجمعت كل الأديان السماوية على حفظ حقوق الإِنسان وصيانتها، حتى قال - صلى الله عليه وسلم - " من قتل ذميَّاً لم يرح رائحة الجنة " وإنّما خص اللسان بالذكر لما يصدر عنه من الأفعال التي قد يتساهل المرء بها مع شدة خطورتها، ومن
__________
(1) شرح مشكاة المصابيح للقاري.
(2) فتح الباري.(1/86)
5- " بَاب أيُّ الإِسْلامِ أفضلُ "
10 - عَنْ أبي مُوسَى رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالُوا: يا رَسُولَ اللهِ! أيُّ الإِسْلَامِ أفْضَلُ؟ قَالَ: "مَنْ سَلِمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أشدها ضرراً الغيبة والنميمة، وقد قال المأمون النميمة لا تقرب مودة إلاّ أفسدتها ولا عداوة إلاّ جددتها، ولا جماعة إلا بددتها، وقال الشاعر:
مَن نَمَّ فِي النَّاسِ لَمْ تُؤمَن عَقَارِبُه ... عَلى الصَديقِ ولَمْ تُؤمَن أفاعِيْهِ
وقد ينطق الإنسان، بالكلمة يظنها يسيرة وهي كبيرة من الكبائر، فقد روى أن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: حسبك من صفية كذا -تريد أنها قصيرة- فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لقد قلتِ كلمةً لو مزجت بماء البحر لمزجته " أخرجه أبو داود. ثانياً: أن الإِيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية لأنّه لما كمل بحسن المعاملة، فإنه ينقص بسوء المعاملة حتماً. ثالثاً: أن الهجرة إنما تتحقق بترك المعاصي لا بمجرد الانتقال من بلد لآخر لقوله - صلى الله عليه وسلم - " المهاجر من هجر ما نهي الله عنه ". رابعاً: أن ترك المحظورات مقدَّم على فعل المأمورات وأن الدين المعاملة. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
5- باب أي الإِسلام أفضل
10- الحديث: أخرجه الشيخان، والترمذي والنسائي.
ترجمة راوى الحديث: هو أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري اليمني الصحابي الجليل؛ هاجر إلى الحبشة، واستعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على زبيد وعدن وساحل اليمن، وولاه عمر رضي الله عنه الكوفة والبصرة، وكان من أهل الفتوى، قال ابن المديني: قضاة الأمة أربعة: عمر وعلي وأبو موسى(1/87)
المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ".
6- " بَابُ إطْعَامِ الطّعَامِ مِنَ الإِسْلَامِ "
11- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرَو رضيَ اللهُ عنْهُمَا:
أنَّ رَجُلاً سَألَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أيُّ الإِسْلامِ خَيرٌ؟ فَقَالَ: "تُطْعِمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وزيد بن ثابت رضي الله عنهم. وكان جيد التلاوة، حسن الصوت بالقرآن، حتى قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " لقد أُوتيت مزماراً من مزامير آل داود " روى (360) حديثاً اتفقا منها على خمسين حديثاً، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بخمسة عشر، توفي بالكوفة سنة خمس وأربعين عن ثلاث وستين سنة رضي الله عنه.
معنى الحديث: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل " أي الإسِلام أفضل " يعني أي أصحاب الإِسلام أفضل من غيرهم، وأكثر ثواباً من سواهم. " قال: من سلم السلمون من لسانه ويده " وفيه مبتدأ محذوف للعلم به تقديره هو من سلم المسلمون، ومعناه خبر المسلمين - وأفضلهم إيماناً، وأكثرهم مثوبة وأجراً من سلم الناس من أذى يده ولسانه (1) .
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: الترغيب في حسن المعاملة للناس، وأن الدين المعاملة. ثانياًً: بيان أفضل المسلمين، وأنه هو من حَسُنت معاملته، وطابت عشرته، وكف عن الناس شره، وهو ما ترجم له البخاري. المطابقة: في كون الحديث جواباً للترجمة.
6 - باب إطعام الطعام من الإِسلام
11 - الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وأبو داود، وابن ماجه.
معنى الحديث: يحدثنا عبد الله بن عمرو بن العاص في حديثه هذا "أن
__________
(1) يلاحظ أنني اختصرت في شرح هدا الحديث لمشابهته للحديث السابق.(1/88)
الطَّعَامَ، وَتَقْرأ السَّلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الإِسلام خير؟ " يعني أي أعمال الإِسلام خيرٌ من غيرها، وأفضل من سواها بعد الإِيمان وأداء الأركان " فقال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام " أي أفضل الأعمال بعد الإيمان وأداء الأركان أمران: الأول: الإكثار من إطعام الطعام للضيوف والفقراء ابتغاء وجه الله تعالى، فيدخل في ذلك الضيافة والوليمة والصدقة وغيرها. الثاني: إقراء السلام على كل من لقيْنا، سواء كان عن معرفة أو غير معرفة، قريباً أو بعيداً، وإشاعته على المسلمين جميعاً، لأن السلام لله فينبغي بذله وإفشاؤه لكل مسلم ابتغاء وجه الله دون تمييز بين شخص وآخر ولأنّه تحية الإِسلام لعموم المسلمين.
فينبغي أن لا تؤثر فيه العواطف والمجاملات.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: فضل إطعام الطعام الإِسلام، وكونه من أفضل الأعمال شريطة أن يكون لوجه الله تعالى، لا رياءً وسمعة قال السنوسي (1) : " أما ما كان لفائدة غير شرعية كالمباهاة والانتفاع والثناء ونحو ذلك، فليس بمقصود، بل ربما كان بعضه محرماً، كالاطعام لبعض اللئام من الظلمة والفساق يستعين بهم على فساده ". ثانياً: أن إفشاء السلام من سنّة خير الأنام، ومن أفضل شرائع الإسلام. لما فيه من التواضع للمسلمين، وخفض الجناح للمؤمنين، وتوثيق الروابط معهم، واكتساب محبتهم ومودتهم فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم ". ثالثاً: أن السلام لا يكون سنة وقربة إلى الله إلَّا إذا كان على من عرفت ومن لم تعرف من المسلمين، دون تخصيص بعضهم به. قال الحافظ (2) : "ولا يَخصُّ به أحداً تكبراً أو تصنعاً غير أنه لا يسلم على كافر
__________
(1) شرح السنوسي على صحيح مسلم، ج 1.
(2) فتح البارى، ج 1.(1/89)
7- " بَابٌ مِنَ الإيمَانِ أنْ يُحبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ "
12- عَنْ أنَسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنَ النَبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لا يُؤْمِنُ أحَدُكْم حتَى يُحِبَّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابتداءً لقوله - صلى الله عليه وسلم - " لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام ". والمطابقة: في قوله " إن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الإِسلام خير قال تطعم الطعام ".
7 - " باب من الإِيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه "
12- الحديث: أخرجه الستة.
ترجمة راوي الحديث: هو أنس بن مالك بن النضر النجاري الأنصاري خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنه، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمره عشر سنين وشهد بدراً، وجاءت والدته أم سُلَيْم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله خويدمك أنس، ادعُ الله له، فقال - صلى الله عليه وسلم - " اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه " أخرجه الطبراني، وفي رواية " وأطل عمره " فكان رضي الله عنه أكثر الصحابة ولداً، وله بستان يحمل في السنة مرتين، وطال عمره حتى قال: لقد بقيت حتى سئمت من الحياة، وأنا أرجو الرابعة وهي غفران ذنبه.
وكان رضي الله عنه من المكثرين في الرواية روى (2286) حديثاً اتفقا على (168) حديثاً وانفرد البخاري بثلاثة وثمانين، ومسلم بواحد وتسعين. مات بالبصرة (90) هـ، وهو آخر من مات بها من الصحابة.
معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا يؤمن أحدم " أي لا يتحقق الإيمان الكامل لأحد من المسلمين " حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " أي حتى يحب لأخيه الإنسان من الخير والمنفعة ما يحبه ويريده لنفسه، قال ابن الصلاح:(1/90)
(أي حتى يحب لأخيه أن يساويه في الخير) ولا يصعب ذلك على القلب السليم. وقال ابن العماد: الأولى أن يحمل قوله " حتى يحب لأخيه " على عموم الأخوة، حتى يشمل الكافر والمسلم فيحب لأخيه الكافر ما يحب لنفسه من الدخول في الإسلام، ولذلك ندب الدعاء له بالهداية (1) وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو لكفار قريش بالخير، ويحبه لهم، ويقول: " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " ومما يؤكد أن المراد محبة الخير للناس جميعاً، لا فرق بين مسلم وكافر قوله - صلى الله عليه وسلم - أفضل الإيمان أن تحب للناس ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك " أخرجه أحمد في " مسنده " ولكن هذا إذا لم يكن في الخير الذي يصيبهم مَضَرَّة للمسلمين وإلّا دخل ذلك في موالاة أعداء الله.
ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: أن عاطفة المحبة للناس وحب الخير لهم جميعاً من كمال الإيمان، ولا يتحقق ذلك إلاّ إذا تجرد الإنسان من الأنانية والحقد (2) والكراهية والحسد، وأحب لغيره من المباحات ما يحبه لنفسه من السلامة، والأمن، ورغد العيش والهداية والتوفيق. أما المعاصي فليس من الإِيمان أن يحبها لغيره، لأنها شرٌّ لا خير فيها، أما محبة المسلم لأخيه المسلم فإنها آكد وأقوى، ولا يكفى فيها مجرد العواطف النفسية، بل لا بد أن تظهر آثار هذه العواطف في معاملته. ثانياً: التحذير من الحقد والحسد وغير ذلك من المشاعر الكريهة التي تنافي المحبة. المطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
***
__________
(1) شرح الشبرخيني المالكي على الأربعين النووية.
(2) الوافي في شرح الأربعين النووية.(1/91)
8- بَابُ حُبِّ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْإيمَانِ
13- عَنْ أبى هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " والَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُؤْمِنُ أحدُكم حَتَّى أكوُنَ أحَبَّ إليْهِ مِنَ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ ".
14- وَعَنْ أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
ْقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى أكُونَ أحَبَّ إليْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ والنَاس أجْمَعِين ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان
13- الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفسي بيده " الواو: واو القسم، و " الذي " صفة لمحذوف تقديره والله الذي نفسي بيده -خلقاً وملكاً وتصرفاً وتدبيراً " لا يؤمن أحدكم " أي لا يؤمن أحد من المسلمين الإِيمان الكامل " حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده " أي حتى يكون حبه لي أقوى من حبه لأعز الأشياء لديه فيحبني أكثر من والده الذي هو سبب وجوده وولده الذي هو امتداد لحياته من بعده. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - علق وجود الإيمان الكامل على محبته - صلى الله عليه وسلم -.
14- الحديث: أخرجه الشيخان.
معنى الحديث: هذا الحديث معناه كالحديث السابق لأنه مثله غير أنه زاد فيه قوله " والناس أجمعين " ليؤكد أن حب المؤمن لنبيه - صلى الله عليه وسلم - لا يصل إليه أي إنسان في هذا الوجود مهما عزت مكانته عنده.
ويستفاد من الحديثين: أولاً: أن من كمال الإيمان أن يتغلب حب المسلم(1/92)
9 - " بَابُ حَلَاوَةِ الْإيمَانِ "
15- عن أنس رضي اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "ثَلَاث مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإيمَانِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لنبيه - صلى الله عليه وسلم - على حبه لأي شيء في هذا الوجود، مهما يكن عزيزاً لديه، ولا غرابة لأن العاطفة الدينية إذا قويت تغلبت على الغريزة النفسية، وسادت عليها، فيحب المؤمن نبيه الذي هو سبب هدايته أقوى مما يحب والده وولده، بل أقوى مما يحب نفسه، وهُوَ ما يعرف عند علماء النفس بالعاطفة السائدة، وإذا كان هذا الحب صادقاًْ فإنّه لا بد أن يحمل صاحبه على متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والعمل بسنته، لأنّ من البدهيات المعروفة نفسياً، أن كل إنسان يتبع من يحبه، ويطيعه في كل شيء. فالحب الصادق. لا بد أن يؤدى بصاحبه إلى المتابعة كما قال الشاعر:
تَعْصِي الإِلهَ وَأنتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ ... هذا لَعَمْرِي في القِيَاسِ بَدِيْعُ
لَوْ كان حُبُّكَ صَادِقاً لأطَعْته ... إنّ المُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيْعُ
ولهذا كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمعون بين الحب والعمل معاً.
ثانياً: أن من علامات الحب الصادق للنبي - صلى الله عليه وسلم - التمسك بسنته، وكمال متابعته، لأنه لن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من كل شيء إلاّ إذا قدم أمره ونهيه على كل شيء ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به ". مطابقة الحديثين للترجمة: في كونه علق الإيمان الكامل على محبته - صلى الله عليه وسلم -.
9 - باب حلاوة الإِيمان
15 - الحديث: أخرجه الشيخان، والترمذي والنسائي أيضاً.
الراوي: هو أنس بن مالك تقدمت ترجمته.(1/93)
أنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أحبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأنْ يُحبَّ الْمَرءَ لا يُحِبُّهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
معنى الحديث: أن للإِيمان حلاوة روحية، ولذة قلبية، لا تعدلها لذة أخرى في هذا الوجود، ولكن لا يتذوق هذه الحلاوة إلاّ من وجدت فيه ثلاث صفات كما قال - صلى الله عليه وسلم - " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ". الصفة الأولى: " أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما " أي أن يتغلب الحب الإِلهي على نفسه، ويسيطر على كل عواطفه ومشاعره، فيكون حبه لله ورسوله أقوى من حبه لوالده وولده وماله وجاهه، بل أقوى من حبه لنفسه ومن كل شهواته النفسية، وهذه هي حقيقة الإِيمان التي إذا بلغها العبد كان هواه تبعاً لما جاء به - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في الحديث، ومن علامات ذلك كمال الطاعة، وتمام المتابعة، ولهذا قال ابن قدامة (1) رحمه الله تعالى: " من أحب الله لا يعصيه " ومراده أن الحب الإلهي الكامل يحول دون المعصية، لأن حلاوة الإِيمان وحب الله تمنع عن كل ما يغضب الله. والصفة الثانية " وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله " أي أن يحب أخاه المسلم محبة خالصة ابتغاء مرضاة الله لمزية دينية موجودة فيه، أو فائدة شرعية يستفيدها منه، من علم نافع أو سلوك حسن، أو صلاح أو عبادة. والصفة الثالثة " أن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار " أي أن تخالط قلبه بشاشة الإِيمان، فيكره الرجوع إلى الكفر - بعد أن هداه الله إلى الإِسلام، كما يكره أن يلقى في النار لعلمه يقيناً أن الكفر سبب للخلود فيها. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الإِيمان الكامل يربي في النفس أسمى العواطف الدينية، وهي ثلاث عواطف. عاطفة الحب الإِلهي: وقد أشار إليها
__________
(1) " مختصر منهاج القاصدين ".(1/94)
إلَّا للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ إِلَى الْكفْرِ كمَا يَكْرَة أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ".
10- " بَابٌ عَلَامَةُ الإيمَانِ حُبُّ الْأنصَارِ "
16 - عن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأنصَارِ، وآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ". وعاطفة الحب في الله والبغض في الله، وقد أشار إليهما - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " وأن يحب المرء لا يحبه إلاّ لله ". وعاطفة البغض لكل ما حرّم الله، وقد أشار إليها - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار ". وكذلك يبغض سائر المعاصي، لأنها تؤدي إليها، فإذا خطرت بباله تصور النار وهي تحرق جسمه، فتنفر نفسه منها حرصاً على سلامته. ثانياًً: قال ابن أبي جمرة: " ظاهر الحديث يدل على أنّ الإِيمان على قسمين: بحلاوة، وبغير حلاوة، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - " الإِيمان إيمانان، إيمان لا يدخل صاحبه في النار، وإيمان لا يخلد صاحبه في النار "، فالأول ما كان بالحلاوة، والثاني ما كان بغير حلاوة ". وهذا يؤكد أنَّ الإِيمان الكامل له حلاوة روحيّة تفوق كل حلاوة في هذا الوجود، ولهذا قال بعضهم: " إن القلب السليم من أمراض الغفلة والهوى يجد في طعم الإيمان حلاوة العسل. ثالثاً: أن اختيار الأصدقاء هو من كمال الإِيمان، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " وأن يحب المرء لا يحبه إلاّ لله " وقد قال عمر رضي الله عنه " لا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره " واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى.
10 - باب علامة الإِيمان حب الأنصار
16 - الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.(1/95)
الأنْصَارِ".
11- " بَابٌ "
17- عَن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " آية الِايمان حب الأنصار " أي علامته الظاهرة الواضحة محبة الأنصار من أجل محبتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومناصرتهم وتأييدهم له - صلى الله عليه وسلم -، فمن أحبهم لهذا الغرض كان ذلك علامة واضحة، ودليلاً قاطعاً على كمال إيمانه، لأنه قد أحبهم في الله، ومن أحب في الله وأبغض في الله فقد استكمل الإيمان. " وآية النفاق بغض الأنصار " أي وعلامة النفاق بغض الأنصار من أجَل مناصرتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فمن أبغضهم لهذا السبب فهو منافق ولا شك، قال الأبي: فمن أبغضهم من هذه الحيثية فهو منافق، فلا يتناول الحديث من أبغضهم لذواتهم، أو لأسباب أخرى (فإنه لا يكون منافقاً) نعم هو في بغضهم عاصٍ فليجتهد في رد ذلك.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: الترغيب في حب أولياء الرحمن، والاعتراف بفضلهم، والتحذير من بغضهم ومعاداتهم، وقد جاء ما يؤكد ذلك في الأحاديث الصحيحة، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب ". ثانياً: أن عواطف الحب والبغض لها أهميتها في نظر الإِسلام، وأنه يحاسب على البغض كما يثاب على الحب، لكنه لا يحاسب على البغض أو يكون مسيئاً إلاّ إذا استجاب لتلك العاطفة أما إذا قاومها واستعاذ بالله منها، وقصد بمقاومتها وجه الله، فإنه يكون محسناً ويثاب على ذلك.
والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
11 - " باب "
17 - الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.(1/96)
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَة مِنْ أصْحَابِهِ: " بَايِعُوني على أنْ لَا تُشْرِكُوا باللهِ شَيْئاً ولَا تَسرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، ولَا تَقْتُلُوا أوْلَادَكُمْ وَلا تَأتُوا بِبُهْتَان تَفْتَرُونَهُ بين أيدِيكُمْ وأرْجُلِكُمْ، ولا تَعْصَوا في مَعْرُوفٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ترجمة الراوي: هو عبادة بن الصامت بن قيس الخزرجي الأنصاري، شهد العقبتين كما شهد بدراً والمشاهد كلها، وكان طويلاً جسيماً جميلاً، وجهه عمر رضي الله عنه إلى الشام قاضياً ومعلماً، فأقام بحمص، ثم انتقل إلى فلسطين، ومات بها سنة (34) هـ روى (181) حديثاً، اتفقا منها على ستة، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بحديثين، رضي الله عنه وأرضاه.
معنى الحديث: يحدثنا عبادة رضي الله عنه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وحوله عصابة من أصحابه " أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في بيعة العقبة الأولى التي تمت بينه وبين نقباء الأنصار وفي السنة الثانية عشرة من البعثة وحوله " عصابة من أصحابه " أي جماعة من الأنصار (1) ، وكانوا اثني عشر رجلاً "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً" أي عاهدوني على التوحيد والخلوص من الشرك، وإفراد الله بالعبادة، مقابل أن تكون لكم الجنة. وأصل المبايعة: المعاهدة بين طرفين على الالتزام بشروط معينة. أما المبايعة على الإِسلام فهي عقد إلهي له طرفان وسلعة وثمن، فالطرفان هما: الله تعالى من جهة، والمؤمنون من جهة أخرى، والثمن هو الأعمال الشرعية المطلوبة، والسلعة هي الجنة.
" ولا تسرقوا " أي ولا ترتكبوا جريمة السرقة، لأن الإِسلام جاء لحماية الأموال " ولا تزنوا " لأن الإِسلام يحمي أعراض الناس وأنسابهم. " ولا تقتلوا أولادكم " وإنما خص الأولاد لأنهم كانوا في الغالب يقتلون أولادهم خشية الإملاق. " ولا تأتوا يهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم " أي ولا
__________
(1) وهم نقباء الأنصار الذين ابتعثوا من المدينة لمفاوضة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومبايعته، ومنهم " عبادة " رضي الله عنه، قال العيني: وهم اثنا عشر رجلاً، وهم العصابة المذكورة.(1/97)
فمنْ وفَّى مِنْكُمْ فأجْرُهُ على اللهِ، ومَنْ أصابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً فَعُوقِبَ بِهِ في الدُّنيا فَهُوَ كَفَّارَة لَهُ، ومَنْ أصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً ثُمَّ سَتَرَهُ اللهُ، فَهُوَ إلَى اللهِ، إن شَاءَ عَفَا عَنْهُ وإن شَاءَ عَاقَبَهُ"، فَبَايَعْنَاهُ علَى ذَلِكَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تختلقوا الإشاعات الكاذبة، والتهم الباطلة، التي لا أساس لها من الصحة، مثل القذف بالزنا كذباً وزوراً، أو ترويج بعض الإشاعات التي تمس الناس في أعراضهم، من الخيانة، والرشوة، والظلم، فإنّ الأولى أن يحمل هذا النهي على عموم الكذب على الناس، وعلى كل تهمة تنقص من قدرهم، وتخدش من كرامتهم. " ولا تعصوا في معروف " أي ولا تخالفوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أي عمل يأمركم به أو ينهاكم عنه. أو لا تعصوا ولاة الأمور في أوامرهم ونواهيهم، ما دامت لا تتعارض مع الشريعة الغراء، فإنْ أمروا بمنكر، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. " فمن وفّى منكم فأجره على الله " أي فمن وفّى منكم بهذه المعاهدة، وحافظ عليها، ولم يرتكب معصية، من هذه المعاصي التي نهيتكم عنها، فثوابه محقق وسيجده يوم القيامة عند ربه لا محالة، لأنه لا يخلف الميعاد. " ومن أصاب من ذلك شيئاً " أي ومن ارتكب معصية من المعاصي التي تستوجب الحد الشرعي كالزنا والسرقة " فعوقب وبه في الدنيا " أي فنال جزاءه في هذه الحياة، وأقيم عليه الحد في الدنيا " فهو كفارة له " أي فإنّ ذلك الحد يمحو عنه " تلك المعصية " ويسقط عنه عقوبتها في الآخرة، لأن الله أكرم وأرحم من أن يجمع على عبده عقوبتين. " وَمَنْ أصَابَ مِنْ ذلِك شيئاً، ثم ستره الله، فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه " أي من ستره الله في الدنيا، ولم يعاقَبْ على تلك الجريمة، فهو تحت مشيئة الله، وأمره مفوّض إليه، إن شاء غفر له، فأدخله الجنة مع الأولين، وإن شاء عاقبه بالنار على قدر جنايته ثم أدخله الجنة.(1/98)
12- " بَاب مِنَ الدِّينِ الفِرَارُ مِنَ الْفِتَنِ "
18- عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنَّ التوحيد أساس الإِيمان وشرط لقبول جميع الأعمال، وهو كذلك في سائر الأديان السماويّة، ولذلك بدأ به في المبايعة فقال: " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ". ثانياً: أن هذه البيعة كانت أول ميثاق إسلامي، بل أول ميثاق عالمي لحماية حقوق الإِنسان في دينه وماله ونفسه وعرضه، فهي ميثاق عظيم لحماية جميع الحقوق الإِنسانية.
ثالثاً: أن دين الإِسلام ليس دين عبادة فقط، وإنما هو دين عقيدة وعبادة ومعاملة وأخلاق وغير ذلك من المبادىء والقيم، وهذه المبايعة الإسلامية الخالدة ضَمَّتْ كل هذا. رابعاً: مدى قبح الكذب وخطورته على المجتمع، ولذلك خصه بالذكر دون سائر الأخلاق الذميمة، لأنه يفسد أكثر المعاملات، ولأنه أساس كل رذيلة وخطيئة، وأم الخبائث الأخلاقية: من خيانة وغدر ونفاق، وتدليس وشهادة زور وقذف ونحوها. خامساً: أن الحد الشرعي كفارة للمحدود لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له " وهو مذهب الجمهور خلافاً لأبي حنيفة حيثُ يرى أنه لا يسقط عنه عقوبة الآخرة. سادساً: أن مرتكب الكبيرة لا يخلد في النار لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه " أي عاقبه ثم أدخله الجنة. سابعاً: مشروعية المبايعة لولي الأمر إذا توفرت فيه شروط الإمامة، وهي الإِسلام والذكورة والبلوغ والعقل والأهلية للقيام بمصالح المسلمين.
12 - " باب من الدين الفرار من الفتن "
18 - الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي ومالك في الموطأ.(1/99)
قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يُوشِكُ أنْ يَكُونَ خَيْر مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَماً يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ، وَمَوَاضِعَ الْقَطرِ، يَفِرُّ بِدِينهِ مِنَ الفتَنِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ترجمة راوي الحديث: هو أبو سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان، الذي ينتهي نسبه إلى خِدرة بن عوف الخزرجي الأنصاري كان من شبان الصحابة ومشاهيرهم، غزا اثنتي عشرة غزوة عدا بدر، وروى ألفاً ومائة وسبعين حديثاً، اتفقا منها على ستة وأربعين، وانفرد البخاري بستة عشر، ومسلم باثنين وخمسين حديثاً، توفي سنة أربع وستين من الهجرة رضي الله عنه.
معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بما شعف الجبال " بفتح الشين والعين، والمعنى: سيأتي عن قريب زمان تسوء فيه الأحوال، وتفسد الدنيا، وتكثر المعاصي ويألفها الناس، ويزول الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ويضعف الدين حتى تصبح خير حياة يحياها المسلم حياة العزلة، وخير مال يعيش عليه أن يكون له غنم يرعاها على ذرى الجبال، ويتبع بها مواضع الأمطار " يفر بدينه من - صلى الله عليه وسلم - " أي من أجل أن يهرب من الفتن.
ويستفاد منه: كما قال العيني: " فضل العزلة في أيام الفتن إلاّ لمن كان له قدرة على إزالتها، فإنه يجب عليه السعي في إزالتها وجوباً عينياً، أو كفائياً أما في غير الفتنة فقد قال النووي: ذهب الشافعي والأكثرون إلى تفضيل المخالطة لما فيها من شهود شعائر الإسلام، وتكثير سواد المسلمين. والمطابقة: في قوله: يفر بدينه من الفتن.
***(1/100)
13- " بَابُ قَوْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنا أعْلَمُكُمْ باللهِ، وأنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُ القَلْبِ "
19 - عنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أمَرَهُمْ أمَرَهُمْ مِنَ الأعْمَال بِمَا يُطيقُونَ، قَالُوا: إنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ إنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ومَا تَأخَّرَ، فَغَضِبَ حَتَّى يُعْرَفَ الْغَضَبُ في وَجْهِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: " إِنَّ أتْقَاكُمْ وَأعْلَمَكُمْ بِاللهِ أنَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
13 - باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا أعلمَكُم بالله وأن المعرفة فعل القلب
19 - الحديث: أخرجه البخاري، وهو من أفراده.
معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان رؤوفاً بأمته، ميسِّرا عليها، لا يكلف المسلمين إلاّ بما يستطيعون المداومة عليه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان حريصاً على المداومة على الأعمال لا على الإكثار منها، لما تؤدي إليه المداومة على العمل من التفاعل به نفسياً، والتأثر به أخلاقياً، وذلك مقصدٌ أسمى من مقاصد الإسلام. " قالوا: يا رسول الله، إنا لسنا كهيئتك، إنّ الله قد غفر لك " أي أنه ينبغي لنا أن نكثر من العبادات أكثر منك، لتكون سبباً لمغفرة ذنوبنا، أما أنت فقد غُفر لك " فغضب (1) - صلى الله عليه وسلم - حتى يعرف الغضب في وجهه، ثم يقول: إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا " أي ليس الأمر كما تظنون، فلو كان في الاسراف في العبادة وتكليف النفس ما لا يطاق منها طاعة لله لسبقتكم إلى ذلك، لأنني أكثركم علماً بما يرضي الله، وكلما كان
__________
(1) وفي بعض النسخ فيغضب بصيغة المضارع وأكثرها غضب كما أفاده العيني.(1/101)
14- " بَابُ تفَاضُلِ أهْلِ الإيمَانِ "
20 - عَنْ أبي سَعِيد الْخُدْرِي:
عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يَدْخُلُ أهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وأهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى أخرِجُوا مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةِ خَرْدَل مِنْ إيمَان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العبد أكثر علماً كان أكثر طاعة وعبادة وتقوى.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن أعلم الناس بالله تعالى هو نبينا - صلى الله عليه وسلم - وبقية الأنبياء. ثانياًً: أن من السنة الاقتصاد في النوافل على قدر الطاقة لأن إرهاق النفس بالعبادة يؤدي إلى كرهها والانقطاع عنها. والمطابقة: في قوله: " إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا ".
14- باب تفاضل أهل الإِيمان
20 - الحديث: أخرجه الشيخان.
معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " يدخل أهل الجنة الجنة " أي. يدخل المؤمنون من أهل الجنة الجنة، بفضل الله ورحمته ثم بسبب أعمالهم الصالحة، " وأهل النار النار " أي ويدخل المؤمنون من أهل النار النار لمجازاتهم على سيئاتهم " ثم يقول " الله عز وجل: " أخرجوا " من النار " من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان " أي أخرجوا من النار كل من عمل مقدار حبة خردل من أعمال الإيمان بعد التوحيد والتصديق بما جاء به نبينا - صلى الله عليه وسلم - أمَّا من نقص شيئاً من التوحيد، أو أنكر شيئاً مما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا يدخل في ذلك، ولا يخرج من النار، بل يخلد فيها، لأن التوحيد والتصديق القلبي لا يقبل التجزئة، فمن نقض منه شيئاً فهو كافر مخلد في النار، وقد نبه على ذلك العيني حيث قال: " واعلم أن المراد بالخردلة ما زاد عن أصل التوحيد، وقد جاء في الصحيح بيان ذلك، ففي رواية البخاري "أخرجوا(1/102)
فَيَخْرُجُون منها قدِ اسْوَدَّوا، فيُلْقَوْنَ في نهر الحَيَاةِ فينبتون كما تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِى جَانِبْ السَّيْلِ، ألمْ تَرَ أنَهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من قال لا إله إلاّ الله وعمل من الخير" ثم بعد هذا يخرج منها من لم يعمل خيراً " فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون في نهر الحياة " الذي من غمس فيه حَيي إلى الأبد " فينبتون كما تنبت الحبة " بكسر الحاء، أي كما تنبت البذرة المزروعة " ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية " أي ألا ترى كيف تخرج من الأرض عند بدايتها صفراء اللون جميلة المنظر منعطفة الأوراق، ثم تتمدد وتتفتح أوراقها بعد ذلك، وهذا مما يزيد الرياحين حسناً " كما أفاده القسطلاني.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: تفاضل أهل الإيمان في درجات إيمانهم، وذلك بسبب تفاضل أعمالهم، كما ترجم له البخاري، وأن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهو مذهب أهل السنة والحديث، حجة ظاهرة لهم لأنه دل على أن من المؤمنين من يقل عمله حتى يكون كالخردلة، فينقص إيمانه تبعاً لذلك، وكل شيء قابل للنقص قابل للزيادة. ثانياً: أن مرتكب الكبيرة لا يخلد في النار، ولا بخرج من الملة خلافاً للخوارج، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ". ثالثاً: أن مرتكب المعاصي معرض للعقوبة في الدار الآخرة، ودخول النار، إلاّ أن يعفو الله عنه، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " فيخرجون منها وقد اسودوا " خلافاً للمرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإِيمان ذنب، حيث صرح في هذا الحديث أنّ العصاة يدخلون النار حتى تسوّد وجوههم. المطابقة: في كونه يدل على أنّ الإِيمان يتفاوت في القلة والكثرة وهو عين التفاضل كما أفاده العيني.
***(1/103)
21- عَنْ أبي سَعِيْدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " بَينَا أنا نَائِمٌ رَأيت النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَليَّ وَعَلَيْهِمْ خُمُصٌ، مِنْها ما يَبْلُغُ الثَّدْيَ، ومنها مَا دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَليَّ عُمَرُ ابْنُ الخَطَّابِ وعليْهِ قَمِيص يَجُرُّهُ " قَالُوا: فَما أوَّلْتَ ذلِكَ؟ قَالَ: " الدِّينَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
21- الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص "، أي بينما كنت نائماً رأيت الناس أثناء نومي وهم يمرون من أمامي وعليهم أقمصة مختلفة الأطوال " منها ما يبلغ الثدي " بضم الثاء وكسر الدال وتشديد الياء أي من الناس من تصل قمصهم إلى ثُدِيّهم " ومنها ما دون ذلك " أي ومن هذه القمص ما هو أقصر من ذلك " وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره " أي وعليه قميص طويل يسحبه " قالوا فما أوّلت ذلك " أي بماذا فسّرت ذلك " قال الدين " بالنصب على المفعولية أى فسّرت القميص بالدين، لأنه يستر المؤمن، ويصونه من النار كما يستر القميص البدن. والمطابقة: في قوله " فما أولت ذلك قال الدين ".
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: تفاضل أهل الإيمان في إيمانهم كتفاضل أصحاب القمص (1) في قمصهم فكما أن تلك القمص التي رآها - صلى الله عليه وسلم - في منامه تزيد وتنقص، ومنها الأطول والأقصر، فكذلك الإيمان يزيد وينقص. ثانياًً: أن رؤيا الأنبياء كلها حق، ولذلك استدل النبي - صلى الله عليه وسلم - برؤياه على زيادة إيمان عمر رضي الله عنه.
__________
(1) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر القمص المختلفة الأطوال التي يزيد بعضها وينقص بعضها بالدين - أي الإيمان. وفسر طول قميص عمر بزيادة إيمانه فدل على أن الإيمان يزيد وينقص.(1/104)
15- " بَابُ الْحَيَاءِ مِنَ الإِيمَانِ "
22- عن ابْنِ عُمَرَ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أخَاهُ في الْحَيَاءِ،
فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: " دَعْهُ فإنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ ".
16- " بَاب "
(فإنْ تابُوا وأقَامُوا الصَّلَاةَ وآتوُا الزَّكَاةَ فَخلّوا سَبِيلَهُمْ) "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
15- باب الحياء من الإِيمان
22- الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي.
معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّ على رجل من الأنصار، وهو يعظ أخاه في الحياء " أي ينصحه أن يخفف من حيائه، وفي رواية يعاتب أخاه في الحياء، يقول: إنك لتستحي، حتى كأنه يقول: قد أضرّ بك، وذلك أن الرجل كان كثير الحياء " وكان ذلك يمنعه من استيفاء حقوقه، فعاتبه أخوه على ذلك: " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعه " أي اتركه على هذا الخلق الحسن " فإن الحياء من الإِيمان " لأنه يمنع صاحبه عما نهي الله عنه.
ويستفاد منه: أن ديننا الإسلامي دين أخلاق، كما أنه دين عقائد وأحكام، ولهذا كان الحياء جزءاً منه، لأنه سبب لجميع الأخلاق الفاضلة. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
16- باب (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم)
23- الحديث: أخرجه الشيخان.(1/105)
23- عنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " أمِرْتُ أنْ أقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إِلَهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤتُوا الزَّكَاةَ، فإِذَا فَعَلُوا ذَلكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأموَالَهُمْ، إلَّا بِحَقِّ الإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله " أي أمرني الله تعالى بقتال الكفار جميعاً حتى يقروا بالشهادتين، ويعترفوا لله بالوحدانية، ولمحمد بالرسالة " ويقيموا الصلاة " المكتوبة " ويؤتوا الزكاة " المفروضة " فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم " أي فإذا نطقوا بالشهادتين، وأدوا شعائر الإِسلام وأركانه العملية، من صلاة وغيرها، فقد منعوا مني دماءهم وأموالهم. لأنّها أصبحت معصومة بعصمة الإِسلام " إلا بحق الإسلام " وهذا استثناء من العصمة، أي فإن الإِسلام يعصم دماءهم وأموالهم، فلا يحل قتلهم إلا إذا ارتكبوا جريمة أو جناية يستحقون عليها القتل بموجب أحكام الإِسلام، فإنه ينفذ فيهم الحكم الشرعي، فيقتل القاتل قصاصاً، ويقتل المرتد والزاني المحصن حداً كما قال - صلى الله عليه وسلم - " لا يحل دم امرىء مسلم إلاّ بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس، والتارك لدينه، المفارق للجماعة " " وحسابهم على الله " أي وما علينا إلاّ أن نعاملهم بمقتضى الظاهر من أقوالهم وأفعالهم، ونفوض سريرتهم إلى الله تعالى، ولا نتدخل في أحوالهم الأخروية من الجنة والنار، فإن ذلك لله وحده، قال القاري: " نحكم بظاهر حالهم فنرفع عنهم ما على الكفار، ونؤاخذهم بحقوق الإِسلام بحسب ما يقتضيه ظاهر حالهم، والله يتولى حسابهم فيثيب المخلص ويعاقب المنافق ".(1/106)
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: قتل تارك الصلاة لأن هذا الحديث كما قال الشوكاني دل دلالة صريحة على وجوب قتله، وأنه لا يكون معصوم الدم والمال، إلاّ إذا أقام الصلاة، وقد شرط الله في القرآن التخلية بالتوبة وإقام الصلاة، فقال: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) فلا يخلي سبيل من لم يُقِمْ الصلاة " اهـ. فإن تركها جاحداً قتل كافراً بإجماعٍ المسلمين إلاّ أن يكون حديث عهد بالإِسلام، وإن تركها كسلاً قتل حداً عند الجمهور وكفراً عند أحمد، وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة والمزني صاحب الشافعي إلى أنه لا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلي. " قال الشوكاني ": والجمهور على أنه يقتل لترك صلاة واحدة. واختلف أصحاب الشافعي: هل يقتل على الفور أم يمهل ثلاثة أيامِ. الأصح الأول (1) . ثانياًً: دل الحديث على أن من منع الزكاة إذا كان خارجاً عن قبضة الإِمام قاتله الإِمام حتى يأخذ منه الزكاة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بمقاتلة الناس حتى يؤدوا الزكاة.
أما من كان ببلاد الإِسلام ومنعها، فإن كان منكراً وجوبها فهو مرتد، تجري عليه أحكام المرتدين. يستتاب ثلاثاً، فإن تاب، وإلّا قتل كافراً، وإن منعها معتقداً وجوبها، وقدر الإمام على أخذها منه أخذها منه وعزره، ولم يأخذ منه زيادة عليها عند أكثرَ أهل العلم، منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي كما أفاده ابن قدامة. ثالثاً: أن من نطق بالشهادتين وانقاد لأحكام الشريعة ظاهراً فهو في عصمة الإِسلام، يحرم دمه وماله، ولا يحل قتله إلاّ في قصاص أو حد من حدود الله، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلّا بحق الإِسلام. والمطابقة: في كون الحديث مطابق للآية الكريمة في معناها.
__________
(1) وهناك أحاديث أيضاً تدل على أن تارك الصلاة كسلاً لا يخرج من الملة. (ع) .(1/107)
17- " بَابُ مَنْ قَالَ إنَّ الإيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ "
24- عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ أيُّ الْعَمَلِ أفْضَلُ؟ قَالَ: " إيمانٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ " قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: " الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ " قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: " حَجٌ مَبْرُورٌ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
17- باب من قال: إن الإِيمان هو العمل
24- الحديث: أخرجه الشيخان، والترمذي والنسائي.
معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل أي العمل أفضل "؟ أي سأله رجل وهو أبو ذر رضي الله عنه: أي الأعمال أعظم عند الله أجراً وثواباً " قال: إيمان بالله ورسوله " أي أن أفضل الأعمال على الإِطلاق، الإِيمان بالله ورسوله، والتصديق بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه شرط في صحة جميع العبادات الشرعية، من صلاة، وزكاة وصوم وغيرها " قيل: ثم ماذا "؟ أي فقال أبو ذر: ثم ما هو أفضل الأعمال بعد الإِيمان؟
" قال: الجهاد في سبيل الله " وهو القتال لِإعلاء كلمة الله، لا لأي غرض من الأغراض الأخرى، فإن كان لغرض آخر، من وطنية أو قومية، أو عصبية، فإنه ليس جهاداً " قيل ثم ماذا "؟ أي ثم ما هو العمل الذي يأتي بعد الجهاد في الأفضلية " قال: حج مبرور " وهو الحج الخالص لوجه الله (1) تعالى، المقبول عنده، لخلوصه من الرياء والسمعة والمال الحرام، وقد قُدِّمَ الجهاد على الحج في هذه الرواية، كما قدم الحج في رواية أخرى، والتقديم والتأخير بحسب اختلاف الظروف والأحوال، فقدم الجهاد في أول الإِسلام
__________
(1) من قولهم " برّ يمينه إذا سلمت من الحنث " وكذلك يقال بر حَجُّه إذا سلم من الرياء والمال الحرام.(1/108)
18- " بَاب إذا لَمْ يَكُن الإِسْلَامُ علَى الْحَقِيقَةِ، وكَانَ عَلى الإسْتِسْلَامِ أو الْخوفِ مِنَ القَتْلِ "
25- عَنْ سَعْدِ بْنِ أبي وَقَّاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أعطى رَهْطَاً وَسَعْدٌ جَالِسٌ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لحاجتهم إليه، ثم قدم الحج بعد ذلك لأنه فرض عين، والجهاد فرض كفاية.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استدل به البخاري على أن العمل ركن من أركان الإِيمان، كما أن القول باللسان والتصديق بالقلب ركنان منه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل في هذا الحديث عن أفضل الأعمال، أجاب بأن أفضل الأعمال، إيِمان بالله ورسوله، فدلّ ذلك على أن الإِيمان عمل، كما أنه تصديق وقول. " قال القسطلاني: وغرض البخاريِ وغيره من هذا الباب إثبات أن العمل من أجزاء الإِيمان رداً على من يقول إن العمل لا دخل له في ماهية الإيمان " اهـ والقول بأن العمل جزء من الإِيمان هو قول أكثر أهل العلم خلافاً لأَبي حنيفة ومن وافقه. ثانياًً: أهمية الجهاد، ومكانته في الإِسلام، حتى أنه يقدم أحياناً على الحج الذي هو أحد أركان الإِسلام الخمسة، وذلك عند الحاجة إليه كما تقدم في هذا الحديث؟ والمطابقة: في اطلاق العمل على الإيمان كما أفاده العيني.
18- باب إذا لم يكن الإِسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل
25- الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود.
ترجمة راوي الحديث: هو سعد بن أبي وقّاص بن وهيب بن عبد مناف ابن زهرة بن كلاب القرشي، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، يلتقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كلاب، الأب الخامس له، أسلم(1/109)
- صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً هُوَ أعْجَبُهْم إليَّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا لَكَ عَنْ فُلَان؟ فَوَاللهِ إنِّى لأرَاهُ مُؤْمِنَاً، فَقَالَ: " أوْ مُسْلِمَاً " فَسَكَتُّ قَلِيلاً، ثُمَّ غَلَبَنِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قديماً وهو ابن أربع عشرة سنة، وقال رضي الله عنه: إني لثالث الإِسلام، هاجر إلى المدينة قبله - صلى الله عليه وسلم - وشهد المشاهد كلها، وكان مجاب الدعوة لقوله - صلى الله عليه وسلم - اللهم استجب لسعد إذا دعاك، فكان لا يدعو إلاّ استجيب له كما في حديث الترمذي، وهو فارس الإِسلام وأوّل من رمى بسهم في سبيل الله، وكان رئيس القادة في فتح العراق، فتح المدائن وبني مدينة الكوفة، وصار والياً عليها في عهد عمر وعثمان وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (270) حديثاً اتفقا منها على خمسة عشر وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بثمانية عشر. مات بقصره في العقيق سنة سبع وخمسين هـ وهو يومئذ والي المدينة ودفن (1) بالبقيع.
معنى الحديث: يحدثنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى رهطاً " أي الجماعة من المؤلفة قلوبهم، والرهط من ثلاثة إلى عشرة " وسعد جالس فترك رجلاً هو أعجبهم إليّ " أي أفضلهم عندي إيماناً وصلاحاً، " فقلت: يا رسول الله: ما لك عن فلان "؟ أي أي شيء منعك عن إعطائه " فوالله إني لأراه مؤمناً " أي فإني أعتقد إيمانه، وأقطع به، وأقسم عليه " فقال: أوْ مسلماً " بسكون الواو، أي لا تسرع بالحكم عليه بالإِيمان، ولا تقطع له أو لغيره به، لأن الإِيمان أمر غيبي قلبي، ولا يلزم من إسلامه في الظاهر إيمانه في الباطن فقد يكون مسلماً على غير الحقيقة، ناطقاً بالشهادتين، منقاداً لشعائر الإِسلام خوفاً من سلطة المسلمين، وهو في الباطن كافر منكر لعقائد الإِسلام، فلا يكون مؤمناً، ولكنا نسميه مسلماً، ونحكم بإسلامه باعتبار ظاهره، وقد أُمِرْنا أن نحكم بالظاهر. فحسبك يا
__________
(1) شرح العيني على البخاري، ج 1.(1/110)
ما أعْلَمُ مِنْهُ، فعُدْتُ لِمَقَالَتِي، فَقُلْتُ: مَا لَك عَنْ فُلَان، فواللهِ إنِّي لأرَاهُ مُؤمِنَاً، فقالَ: " أوْ مُسْلِماً " فَسَكَتُّ قَلِيلاً، ثُمَّ غَلَبَنِي ما أعْلَمُ مِنْهُ، فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، وَعَادَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ: " يَا سَعْدُ إنِّي لأعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُه أحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أنْ يَكُبَّهُ اللهُ في النَّارِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سعد أن تصفه بالإِسلام، لتكون صادقاً بارَّاً بقسمك في جميع الأحوال، فإن كان مؤمناً حقاً صدق عليه اسم الإِسلام، لأن كل مؤمن مسلم، وإن كان غير مؤمن حقاً صدق عليه اسم الإسلام، باعتبار أن الحكم على ظاهره، والله يتولى السرائر أما إذا وصفته بالإِيمان، وكان إسلامه على غير الحقيقة، أي بلسانه فقط فقد كذبت في وصفك، وحنثت في يمينك " فسكت قليلاً ثم غلبني ما أعلم منه " من الإِيمان والصلاح " فعدت لمقالتي، فقلت: مالك عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمناً فقال: أو مسلماً. فسكت قليلاً ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي، وعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ومعناه أن سعداً أعاد سؤاله ثلاث مرات وكان - صلى الله عليه وسلم - يجيبه في كل مرة بقوله: " أوْ مسلماً " أي لو قلت إني لأراه مسلماً لكان أفضل " ثم قال: يا سعد إني لأعطي الرجل، وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار " أي ثم خاف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون سعد قد أساء الظن بهذا الرجل، وشك في إيمانه بسبب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُعْطِهِ، فقال له: لا تظن أنني لم أعطه لضعف إيمانه، لأنني قد أدع الرجل القوي الإِيمان، فلا أعطيه شيئاً ثقة بإيمانه ويقينه، وأعطي الرجل الضعيف الإِيمان تأليفاً له، لئلا يرتد فيقع في النار. والمطابقة: في قوله " أوْ مسلماً " حيث نهاه عن القطع بإيمانه، لأنه قد يكون إسلامه على غير الحقيقة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الإِسلام قد يكون على الحقيقة وذلك إذا كان باللسان والقلب معاً، والظاهر والباطن جميعاً فيكون إسلاماً وإيماناً.(1/111)
19- " بَابُ كُفْرَانِ العَشِير وَكُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ "
26- عنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " أرِيتُ النَّارَ، فإِذَا أكثَرُ أهلِهَا النِّسَاءُ يَكْفُرْنَ "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقد يكون الإِسلام على غير الحقيقة، وذلك إذا كان ظاهرياً باللسان فقط، مع إنكار القلب. فلا يكون إيماناً، وإن كان يسمى إسلاماً، باعتبار الظاهر وهو ما ترجم له البخاري بقوله " باب إذا لم يكن الإِسلام على الحقيقة ".
ثانياً: أن من أدب الإِسلام أن لا نقطع لأحد بالإِيمان، أو نقسم على ذلك اعتماداً على ما يظهر لنا من إسلامه وانقياده الظاهري لأن الإِيمان أمر قلبي غيبي (1) ، وإنما إذا أردنا أن نثني على أحدٍ بالدين، فإننا نصفه بما يظهر لنا من حاله. وهو الإِسلام، لأن هذا هو الذي نعلمه عنه، فنحكم له بأنه رجل مسلم، ولا نقطع بإيمانه، لأنه قد يكون مسلماً في الظاهر كافراً في الباطن. ثالثاً: قال عياض: هذا الحديث أصح دليل على الفرق بين الإِسلام والإِيمان، وأن الإِيمان باطن من عمل القلب، والإِسلام ظاهر من عمل الجوارح لكن لا يكون مؤمن إلاّ مسلماً وقد يكون مسلم غير مؤمن. رابعاً: مشروعية الشفاعة إلى ولاة الأمور وغيرهم كما شفع سعد لهذا الرجل. والمطابقة: في قوله " أوْ مسلماً " حيث نهاه عن القطع بإيمانه، لأنه قد يكون إسلامه على غير الحقيقة.
19- باب كفران العشير وكفر دون كفر
26- الحديث: أخرجه الشيخان.
معنى الحديث: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على النساء يوم العيد فأراد أن ينتهز فرصة
__________
(1) أي ولا يلزم أن يكون كل من أقر بأركان الإِسلام ظاهراً أن يكون مصدقاً بقلبه، فإنه قد يكون مصدقاً بلسانه كافراً بقلبه، فلا يكون مؤمناً.(1/112)
قيلَ أيَكْفُرْنَ باللهِ؟ قَالَ: " يَكْفُرْنَ الْعَشيْرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ لَوْ أحْسَنْتَ إلى إحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأتْ مِنْكَ شَيْئاً قالَتْ: مَا رَأيْتُ مِنْك خَيْراً قَط ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وجوده بينهن في نُصْحِهنَّ ووعظهن وتحذيرهن عن بعض المساوىء التي يغلب صدورها منهن، فكان أوّل ما بدأ حديثه أن " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أريت النار " أي أطلعني الله تعالى على النار وكشف لي عنها، فرأيتها ببصري رأي العين " فإذا أكثر أهلها النساء " أي فلما نظرت إليها، وشاهدت من فيها من البشر، فوجئت بأن أكثر أهلها النساء، " يكفرن " أي فلما ذكر - صلى الله عليه وسلم - أن أكثر أهل النار من النساء، قالت إحداهن: ولم يا رسول الله؟ فأجابها - صلى الله عليه وسلم - بقوله " يكفرن " أي إنما كن أكثر أهل النار لأنّهن يكفرن، ولم يبين - صلى الله عليه وسلم - يكفرن بماذا لتذهب أفكارهن كل مذهب، ويشتد خوفهن، وتتطلع نفوسهن لمعرفة هذا الكفر الذي وصفهن به النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما أراد، فلم يكد ينطق بهذه الكلمة حتى " قيل أيكفرن بالله " أي قالت إحداهن أيكفرن بالله؟ " قال: يكفرن العشير " أي ينكرن نعمة الزوج وإحسانه إليهن " لو أحسنت إلى إحداهن الدهر " أي العمر كله " ثم رأت منك شيئاً " واحداً مما تكره " قالت: ما رأيت منك خيراً قط " أي ما وجدت منك شيئاً ينفعني أو يسرني طيلة حياتي كلها.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن نكران الجميل من الكبائر كما أفاده النووي، ولولا ذلك لما ترتب عليه هذا الوعيد الشديد، وقد جاء في الحديث " إذا قالت المرأة لزوجها ما رأيت منك خيراً قط فقد حبط عملها " أخرجه ابن عدي وابن عساكر ولكنه حديث ضعيف كما رمز له السيوطي، وذلك لأن في سنده يوسف التميمي، ولا يحل الاحتجاج به كما أفاده المناوي. ثانياً: أن هناك كفراً دون كفر، ومعناه أن الكفر نوعان، كفر يخرج عن الملة، وهو الكفر الاعتقادي، وكفر لا يخرج وهو العملي كجحود نعمة الزوج مثلاً.(1/113)
20- " بَابُ الْمعَاصِي مِنْ أمرِ الْجَاهِلِيَّةِ، ولا يكْفُرُ صَاحِبُها بارْتِكَابِهَا "
27- عَنْ أبي ذَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثالثاً: ما جبل عليه أغلب النساء من كفران العشير وجحود نعمة الزوج، ومن أغرب ما روي في ذلك قصة المعتمد بن عباد مع زوجته (1) فقد روي أنّه لما تزوج اليرمكية قضى معها حيناً من الدهر في سرور وغبطة، وحدث أن رأت بعض النساء يمشين في الطين فاشتهت ذلك، فأمر المعتمد فسحقت الطيوب. أي فطحنت أنواع الطيب من العود ونحوه، وذرت في ساحة القصر وصب عليها ماء الورد حتى صارت كالطين، فخاضته معِ جواريها. ومرت الأيام فغاضبها المعتمد يوماً، فأقسمت أنّها لم تر منه خيراً قط، فقال لها: ولا يوم الطين فاستحيت واعتذرت (1) . والمطابقة: في كون الحديث يدل على أن الكفر أنواع منها الكفر بالله ومنها كفر العشير كما صرح بذلك الحديث.
20- باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر (2) صاحبها بارتكابها
27- الحديث: أخرجه الشيخان، والترمذي.
ترجمة راوي الحديث: هو أبو ذر جندب " بضم الجيم والدال " ابن جنادة " بضم الجيم " الغفاري: " نسبة إلى غفار بكسر الغين قبيلة من كنانة أسلم قديماً وكان من رابع أربعة، وعاد إلى قبيلته، ثم هاجر إلى المدينة بعد الخندق، واشتهر بالزهد، حتى أنه كان يرى أنه يحرم على المسلم أن يدخر ما زاد عن
__________
(1) طرائف ونوادر من التراث العربي للدكتور نايف معروف نقلاً عن كتاب دولة النساء للبرقوقي.
(2) بفتح الياء وضم الفاء كما أفاده القسطلاني، ويجوز ضم الياء وفتح الياء والفاء المشددة المفتوحة، كما ذكره الحافظ في الفتح.(1/114)
سَابَبْتُ رَجُلاً فَعَيَّرْتُهُ بأمِّهِ، فَقَالَ لي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " يَا أَبَا ذَرٍ أعَيَّرْتَهُ بأمِّهِ!! إِنَّكَ امْرؤ فِيْكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أْيدِيْكُمْ، فَمَنْ كَانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأكلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، ولا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبْهُم فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأعينُوهُمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حاجته، وخالفه في ذلك جمهور الصحابة. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (281) حديثاً اتفقا منها على اثني عشر وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بسبعة عشر، توفي بالربذة سنة (31) هـ.
معنى الحديث: يقول أبو ذر رضي الله عنه " ساببت رجلاً " أي تخاصمت مع رجل " وهو بلال رضي الله عنه، وشتمته " فعيرته بأمه " أي فعبت أمه ووصفتها بالسواد، حيث قلت له: يا ابن السوداء، وخالفت بذلك شريعة الإسلام، التي لا تفرق بين لون ولون، ولا تفضل إنساناً على آخر إلّا بالتقوى كما قال تعالى: (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم) وكما قال - صلى الله عليه وسلم - " لا فضل لعربي على عجمي إلاّ بالتقوى " " فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: أعيرته بأمه " وهذا استفهام إنكاري (1) تعجبي، أي كيف تعيبه بسواد أمّه، وتستنقصه بذلك، وأنت تعلم أن الإِسلام لا يميز بين الناس بالألوان، وإنما يفاضل بينهم بالتقوى والعمل الصالح " إنك امرؤ فيك جاهلية " أي إن ما فعلته معه من تعيير بسواد أمّه نعرة جاهلية، وأثر من آثار التمييز العنصري الذي كان موجوداً قبل الإِسلام. " إخوانكم خولكم " (2) أي إن هؤلاء الخدم ليسوا في الحقيقة سوى إخوانكم في الدين أو الإِنسانية سخرهم الله لكم
__________
(1) والمقصود من هذا الاستفهام الإنكاري تقبيح تَعْيير المسلم بأمه أو أخته أو أحد أقاربه، سيما النساء، فالتعيير من حيث هو قبيح، فإذا كان بالنساء، كان أقبح اهـ.
(2) وهي جملة اسمية مكوّنة من خبر مقدم - وهو إخوانكم - ومبتدأ مؤخر - وهو خولكم - وأصل الجملة خولكم إخوانكم فقدم الخبر لإفادة الحصر.(1/115)
21- " بَابُ (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) فَسَمَّاهُمْ الْمؤمِنين)
28- عَنْ أبي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حيث " جعلهم الله تحت أيديكم " أي تحت سلطتكم وطوع أمركم " فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس " أي وما داموا إخوة لكم، فإن عاطفة الأخوة تقتضي منكم حسن معاملتهم، والرفق بهم ومراعاة مشاعرهم، وتوفير العيش الكريم لهم، وإطعامهم من طعامكم وإلباسهم من لباسكم " ولا تكلفوهم ما يغلبهم " أي ولا تكلفوهم من الأعمال الشاقة ما لا يطيقونه، ولا يقدرون عليه، " فإن كلفتموهم فأعينوهم " أي فإن كلفتموهم من العمل ما يشق عليهم فيجب عليكم إعانتهم عليه ومساعدتهم ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن مرتكب المعصية لا يكفر، كما ترجم له البخاري، لأن تعيير المرء بأمّه معصية، ومع ذلك لم يسمه - صلى الله عليه وسلم - كفراً، كما نبه عليه ابن بطال، والظاهر من كلامه وكلام العيني أن تعيير المرء بأمّه كبيرة. ثانياً: أن من محاسن الإِسلام إلغاء التمييز العنصري الذي كان في الجاهلية. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - لم يسم تعيير المرء بأمه كفراً، مع أنه كبيرة.
21- باب (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) فسماهم الؤمنين
28- الحديث: أخرجه الشيخان، وأبو داود والنسائي.(1/116)
فالقَاتِلُ والمَقْتُولُ فِي النَّارِ" فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ هذَا الْقَاتِلُ، فَما بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصاً عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ترجمة الراوي: هو أبو بكرة نُفَيْع - بالتصغير ابن مَسْروحٍ مولى الحارث بن كَلَدَةَ -بفتح اللام- يكنى بأبي بكرة، لأنه تدلى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الطائف ببكرة، وكان مولى للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأعتقه، وهو من فضلاء الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة يوم صفين، وانقطع للعبادة بالبصرة حتى توفي بها سنة إحدى وخمسين من الهجرة، روى مائة وثلاثين حديثاً، اتفقا على ثمانية، وانفرد البخاري بخمسة ومسلم بحديث رضي الله عنه وأرضاه.
معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا التقى المسلمان بسيفيهما " أي إذا تقابلا بسيفيهما في حرب أو معركة شخصية " فالقاتل والمقتول في النار " أي فكلاهما يستحقان دخول النار، إلاّ أنهما لا يتساويان في العقوبة، فإنَّ القاتل أشد عذاباً، وأكثر مكثاً في النار من المقتول " فقلت هذا القاتل " أي هذا القاتل عرفنا ذنبه الذي استحق به النار " فما بال المقتول " أي فما ذنب المقتول؟ " قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه " أي إنه يعاقب بالنار لعزمه وتصميمه على قتل صاحبه.
ويستفاد ما يأتي: أولاً: أن قتال المسلم لأخيه بغير وجه شرعي كبيرة من الكبائر. ثانياًً: أن كلا المتقاتلين عاص مستحق للنار، إلاّ أن القاتل أشد معصية وأعظم عقوبة. ثالثاً: أن المسلم يحاسب على ما يستقر في نيته من العزم على المعصية، لقوله " فإنه كان حريصاً على قتل صاحبه ". رابعاً: أن صاحب الكبيرة لا يكفر بفعلها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمي المتقاتلين مسلمين.
والمطابقة: في قوله " إذا التقى المسلمان " حيث سماهما مسلمين مع ارتكابهما الكبيرة.(1/117)
22- " بَابٌ ظُلْمٌ دُونَ ظُلْم "
29- عن ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنه قَالَ:
لَمَّا نَزَلَتْ (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) قَالَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أينَا لَمْ يَظْلِمْ؟ فَأَنزَلَ اللهُ تعالى: (إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْم عَظِيْمٌ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
22- باب ظلم دون ظلم
29- الحديث: أخرجه الشيخان.
ترجمة الراوي: هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أحد الستة السابقين إلى الإِسلام، شهد بدراً والمشاهد كلها، وهو أول من جهر بالقراءة في مكة، كان يشبه النبي - صلى الله عليه وسلم - في هديه وسمته رُوي عنه أنه قال ما نزلت آية إلاّ وأنا أعلم أين نزلت، وفيم أنزلت. روى (848) حديثاً اتفقا منها على أربعة وستين حديثاً، وتوفي بالمدينة سنة 32 من الهجرة.
معنى الحديث: يقول ابن مسعود رضي الله عنه: " لما نزلت (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) " أي لم يخلطوا إيمانهم بظلم (أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) " قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أينا لم يظلم " أي شق على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في رواية أخرى " وقالوا: أينا لم يظلم " أي لم يقترف معصية، لأنّهم فهموا أن المراد بالظلم اقتراف المعاصي، وأنه لا يسلم من الخلود في النار إلاّ من سلم منها، فخافوا على أنفسهم لأنه لا يسلم أحد من الخطايا " فأنزل الله تعالى (إن الشرك لظلم عظيم) " فبين لهم أن المراد بالظلم الذي لا يسلم أحد من الخلود في النار إلاّ إذا سلم منه هو الشرك بالله تعالى.
ويستفاد ما يأتي: أولاً: أن صاحب الكبيرة لا يخلد في النار لأنّ(1/118)
23- " بَابُ عَلامَاتِ النِّفَاقِ "
30- عن أبِي هريْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاث: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وِإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وإذَا ائْتُمِنَ خَانَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث دل على أن الظلم الذي يخلّد صاحبه في النار هو الشرك فقط. ثانياًً: أن الظلم نوعان: ظلم أكبر: يخلد صاحبه في النار وهو الشرك بالله تعالى، وظلم أصغر: لا يخلد صاحبه في النار وهو المعاصي وأن هناك ظلم دون ظلم كما ترجم له البخاري. والمطابقة: في كون الحديث يدل على أن الظلم أنواع كما أفاده المعنى.
23 - باب علامات النفاق
30- الحديث: أخرجه الشيخان، والترمذي والنسائي.
معنى الحديث: اعلم أولاً أن النفاق نوعان: نفاق اعتقادي يخرج صاحبه عن الإيمان وهو إظهار الإِسلام وإخفاء الكفر ونفاق عملي: وهو التشبه بالمنافقين في أخلاقهم، وهذا لا يخرج صاحبه عن الإيمان، إلاّ أنه كبيرة.
وقد تحدث النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث عن النفاق العملي وبين لنا العلامات المميزة له فقال: " آية المنافق ثلاث " أي من علامات النفاق العملي التي تدل على أن صاحبها يشبه المنافقين في أعمالهم وأخلاقهم أن توجد في المرء هذه الخصال الثلاث أو بعضها: الخصلة الأولى: " إذا حدث كذب " أي أن يشتهر ذلك الإنسان بالكذب في الحديث عامداً متعمداً، فلا يخبرك بشيء إلا تعمد إخفاء الحقيقة والإِخبار بخلاف الواقع الذي يعتقده تضليلاً وتمويهاً وخداعاً. الخصلة الثانية: " إذا وعد أخلف " أي أن يشتهر بخلف الوعد عمداً، بحيث إذا وعد بشيء تعمد الخلف، وعزم عليه في نفسه مسبقاً،(1/119)
24- " بَابُ صَوْمِ رَمَضَانَ احتِسَاباً مِنَ الإيمَانِ "
31- عَنْ أبِي هريْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَاناً واحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وصمم من أول الأمر على عدم الوفاء به. الخصلة الثالثة: " إذا ائتمنٍ خان " أي أن يشتهر بالخيانة بين الناس، فلا يثق به أحد، لأنه إذا أودع سراً أفشاه، وإذا أودع مالاً تصرف فيه خلاف الوجه الشرعي المطلوب منه، وإذا استشير لم ينصح في مشورته، وإذا عهد إليه بعمل لم يؤده.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الكذب نفاق عملي وخصله من خصال المنافقين، وكبيرة من الكبائر، وهو في الأصل الإِخبار بخلاف الواقع، إلا أنه لا يكون كبيرة إلا إذا خالف ما يعتقده صاحبه، أما إذا تحدث بما يعتقده ثم ظهر الواقع خلافه فلا إثم عليه لأنه لا تكليف إلا بعلم. ثانياً: أن خلف الوعد من النفاق، وكبيرة من الكبائر، بشرطين: الأول: أن يكون وعد خير، فإن كان وعد شر. فإن خُلْفَه واجب (1) أو مستحب، وليس من النفاق في شيء، بل هو برٌّ وطاعة. والثاني: أن يكون قد عزم على الخلف مسبقاً، أما إذا نوى الوفاء وحال دونه عذر شرعي فلا شيء عليه. ثالثاً: أن الخيانة من الكبائر ومن أخلاق المنافقين سواء كانت في سر أو وديعة أو وظيفة، وسواء كانت في حق من حقوق الله، أو من حقوق العباد. المطابقة: في قوله " آية المنافق ثلاث " إلخ.
24- باب صوم رمضان احتساباً من الإِيمان
31- الحديث: أخرجه الشيخان، ومالك في " موطئه " وأحمد في
__________
(1) وقد أفادَ الحافظ في الفتح: أنه إذا كان الوعد بشر أو باطل فلا ينفذه، ويُستحب إخلافه، وقد يجب، ما لم يترتب على ترك إنفاذه مفسدة أعظم.(1/120)
مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
25- " بَابٌ إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ "
32- عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وقَارِبُوا، وأبشِرُوا، وَاسْتَعِيْنُوا بِالغُدْوَةِ والرَّوْحَةِ وَشَيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" مسنده ".
معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من صام رمضان إيماناً واحتساباً " أي من صام هذا الشهر معتقداً أنه من أعمال الإِيمان منتظراً المثوبة عليه " غفر له ما تقدم من ذنبه " وفي رواية غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والمعنى، أن صيامه هذا يكفر جميع ذنوبه السابقة واللاحقة إذا كانت من الصغائر.
ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: فضل رمضان، وفضل صيامه وكونه يكفر الذنوب المتقدمة والمتأخرة. ثانياًً: أن الصيام الذي هو عمل من أعمال الجوارح جزء من الإِيمان لقوله - صلى الله عليه وسلم - من صام رمضان إيماناً. وإذا كان الصوم جزءاً من الإِيمان، فإن هذا يدل على أن جميع الأعمال الصالحة من الإِيمان أيضاً. وهو ما ترجم له البخاري، أو ما أراد من هذه الترجمة.
والمطابقة: في قوله " من صام رمضان إيماناً ".
25- " باب إنَّ الدين يسر "
32- الحديث: أخرجه الشيخان.
معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الدين يسر " أي أن هذا الدين الذي هو دين الإِسلام يمتاز على غيره من الأديان السماوية بسهولة أحكامه،(1/121)
وعدم خروجها عن الطاقة البشرية، وملاءمتها للفطرة الإِنسانية، وتجردها وخلوها من التكاليف الشاقة، التي كانت في الشرائع السابقة فقد كان الرجل من بني إسرائيل إذا أذنب ذنباً لا تقبل توبته إلا بقتله، وإذا أصابته النجاسة لا يطهر إلا بقطع ما أصابته من ثوب أو بدن، أما هذا الدين فقد تنزه عن كل ذلك كما قال تعالى: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) ومن سماحة هذا الدين ويسره أن الاستطاعة شرط في جميع تكاليفه الشرعية حيث قال - صلى الله عليه وسلم - " ما أمرتكم به فأدوا منه ما استطعتم " ومن ذلك أيضاً ما شرعه لهذه الأمة من رخص وأحكام استثنائية راعى فيها الظروف والأحوال كالقصر والإِفطار في السفر. " ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه " بنصب الدين على المفعولية، قال النووي الأكثر في ضبط بلادنا النصب -أي لا يبالغ أحد في نوافل العبادات، ويتجاوز فيها حدود الشريعة والسنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتعدى حدود الطاقة البشرية، بحيث لا يدع وقتاً للراحة وأداء حقوق النفس والجسد والزوجة والولد إلا أرهق نفسه، وانقطع في النهاية لسآمته وملله، وكانت النتيجة عكسية، فإن لكل فعل كما يقوٍل العلماء رد فعل، وردُّ الفعل الذي يترتب على التنطع في الدين سيء جداً، لأنه يؤدي حتماً إلى ترك العبادة وقد ذم الله أقواماً شددوا على أنفسهم، وحبسوها في الصوامع، رهبانية ابتدعوها، وذمهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونهي أمته أن يشددوا على أنفسهم، ويصنعوا صنيعهم، فقال " لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديار- رهبانية ابتدعوها، ما كتبناها عليهم " رواه أبو داود.
وأمر - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بالاقتصاد والتوسط في العبادة حيث قال: " فسدّدوا وقاربوا "، وهو أمر بالسداد، أي بالتوسط والاعتدال في الأعمال دون إفراط ولا تفريط، كما قال الشاعر:
خَيْرُ الأمُورِ الوَسَطُ الوَسِيطُ ... وَشرُّهَا الإفْرَاطُ والتَّفْرِيطُ(1/122)
ثم قال - صلى الله عليه وسلم - " وقاربوا " أي إذا لم تستطيعوا الإِتيان بالأفضل من النوافل والطاعات والإتيان بها جميعاً، فأتوا بما يقارب الأفضل، لأن ما لا يدرك كله، لا يترك جله، فمن لم يستطع أن يصوم يوماً ويفطر يوماً - الذي هو أفضل الصيام، فليأت بما يقارب ذلك، كصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ومن لم يستطع ذلك فليصم يوم عاشوراء ويوم عرفة، وستة أيام من شوال.
" وأبشروا " أي ولا تظنوا أن القليل من العبادة لا ينفع بل أبشروا بحسن القبول متى حسن العمل وخلصت النية، فإن العبرة بالكيف لا بالكم.
" واستعينوا بالغدوة " بضم الغين المعجمة، وهي السير أول النهار إلى الزوال " والروحة " بفتح الراء، وهي السير بعد الزوال إلى الليل. " والدلجة " بضم الدال وإسكان اللام كذا جاءت الرواية ويجوز فتحها وهي السير آخر الليل (1) وقد استعار هذه الأوقات الثلاثة لأوقات النشاط أي واستعينوا على أداء هذه العبادات والصلوات بفعلها في أرقات النشاط وفراغ القلب للطاعة، ولا تشغلوا بالعبادة كل أوقاتكم لئلا تسأموا فتنقطعوا عنها بالكلية، فينبغي للعبد إذا أراد المداومة على العمل، وأحَبُّ العمل إلى الله وإلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أدْوَمُهُ، وإن قل- أن يختار للعبادة بعض الأوقات المناسبة كوقت الصباح وبعد الزوال وساعة من آخر الليل.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: يُسر هذا الدين، وسهولة أحكامه، وملاءمته للفطرة الإِنسانية. ثانياًً: أن قدرة الإِنسان وطاقته البدنية شرط في جميع التكاليف الشرعية. ثالثاً: أن رفع الحرج عن المكلفين أصل من أصول التشريع الإِسلامي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن هذا الدين يسر " وقوله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا ". رابعاً: الترغيب في الأخذ بالرخص كالقصر
__________
(1) وقال العيني: وهي بالضم سير آخر الليل، وبالفتح سير الليل اهـ.(1/123)
26- " بَابُ الصَّلَاةِ مِنَ الإيمَانِ "
33 - عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما:
أنَّهُ مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أنْ تُحَوَّلَ رِجَالٌ وَقُتِلُوا، فَلَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ، فأنْزَلَ اللهُ تَعَالَى (وَما كانَ اللهُ ليُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والإِفطار في السفر، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " ولن يشادّ هذا الدين أحد إلاّ غلبه ".
خامساً: الترغيب في الاقتصاد في عبادات التطوع دون إفراط ولا تفريط لهذا الحديث ولما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها حين ذكرت عنده الحولاء أنها لا تنام الليل كله، فكره ذلك، وقال: " مَه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا ". والمطابقة: في كون الترجمة جزءًا من الحديث.
26 - باب الصلاة من الإِيمان
33 - الحديث: أخرجه أيضاً مسلم والنسائي والترمذي وابن ماجه.
ترجمة الراوي هو البراء بن عازب الأوْسي الأنصاري الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - اثنتي عشرة غزوة، ولم يشهد بدراً لصغر سنه، وفتح الري سنة (24) هـ وشهد وقعة الجمل مع علي رضي الله عنه وكذلك سائر مشاهده، ونزل الكوفة حتى مات بها سنة اثنتين وسبعين من الهجرة. روى ثلاثمائة وخمسة أحاديث، اتفقا على اثنين وعشرين حديثاً، وانفرد البخاري بخمسة عشر، ومسلم بستة رضي الله عنه وأرضاه.
معنى الحديث: يحدثنا البراء رضي الله عنه " أنه مات على القبلة قبل أن تحول " أي مات على القبلة السابقة - وهي بيت المقدس - قبل أن تُنْسَخَ وتحول إلى الكعبة " رجال " أي عشرة رجال منهم- البراء بن معرور الأنصاري، " وقتلوا " أي وبعضهم استشهد في سبيل الله، " فلم ندر ما(1/124)
27- " بَابُ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ "
34- عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إِذَا أسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نقول فيهم" أي فلم نعلم حكم صلاتهم إلى بيت المقدس - سابقاً -، وهل هي مقبولة عند الله تعالى، أم لا. " فأنزل الله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمانكم) " أي وما كان الله ليضيع ثواب صلاتكم إلى بيت المقدس، فمتى كنتم تصلون تلك الصلاة إيماناً واحتساباً لا رياء ولا سمعة، فصلاتكم مقبولة (1) لأنّها أثر الإِيمان الراسخِ في القلب المصلح للنفس.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الصلاة عمل من أعمال الإِيمان وجزء من أجزائه لأن الله تعالى قال: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) أي صلاتكم إلى بيت المقدس، فسمّى الصلاة إيماناً، وفي هذا دليل على أن الصلاة وغيرها من أعمال الجوارح جزء من الإِيمان خلافاً لمن أنكر ذلك من علماء الإِسلام.
ثانياً: أن صلاة المسلمين من الصحابة إلى بيت المقدس قبل النسخ مقبولة مثاب عليها. ثالثاً: قال الحافظ: وفيه بيان ما كان في الصحابة من الحرص على دينهم، والشفقة على إخوانهم، وقد وقع لهم نظير هذه المسألة لما نزل تحريم الخمر، كما صح من حديث البراء أيضاً، فنزل (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناحٌ فيما طعموا) إلى قوله (إن الله يحب المحسنين) .
والمطابقة في قوله (وما كان الله ليضيع إيمانكم) حيث سمّى الصلاة إيماناً، وهذا يدل على أن الصلاة من الإِيمان كما ترجم له البخاري.
27- باب حسن إسلام المرء
34- الحديث: أخرجه البخاري معلقاً، ووصله أبو داود.
__________
(1) تفسير المنار، ج 2.(1/125)
يُكَفِّرُ اللهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَان بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمثَالِهَا إلى سَبْعِمَائَةِ ضِعْفٍ، والسَّيِّئةُ بِمِثْلِهَا إلَّا أن يَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهَا".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
معنى الحديث: يحدثنا أبو سعيد رضي الله " أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفر الله عنه كل سيئة كان زلفها " أي إذا أسلم العبد إسلاماً حقيقياً بقلبه ولسانه، وباطنه وظاهره، فإنّ الله تعالى يمحو عنه كل معصية سبق له ارتكابها قبل إسلامه. " وكان بعد ذلك القصاص " أي ثم يعامل بعد إسلامه بمقابلة كل عمل من أعماله بمثله، خيراً كان أو شراً، فيجازى على الحسنة بالمثوبة، وعلى السيئة بالعقوبة، مع اختلاف مقدار العقوبة في السيئات عن مقدار المثوبة في الحسنات، وهو معنى قوله " الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف " أي فيثاب على الحسنة بعشر أضعافها (1) - وقد تتضاعف المثوبة إلى سبعمائة ضعف كما قال تعالى في ثواب الصدقة: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء) وقد يثاب على الحسنة بغير حساب كما في قوله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " والسيئة بمثلها، إلا أن يتجاوز الله عنها " أي ولا يجازي على السيئة إلاّ بمثلها، وقد يعفو الله عنها بفضله وكرمه، ومنّه وإحسانه، فلا يعاقب عليها فاعِلَها.
ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: أن الإِسلام الحقيقي يهدم ما قبله من المعاصي صغائر أو كبائر، لقوله - صلى الله عليه وسلم - "إذا أسلم العبد فحسن اسلامه يكفر الله عنه كل سيئة كان قد زلفها" وهو مصداق قوله تعالى: (قل
__________
(1) وهذا هو أقل ثواب الحسنة، وقد يثاب عليها بغير حساب.(1/126)
28- " بَابٌ أحَبُّ الدِّينِ إلى اللهِ أَدْوَمُهُ "
35- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا وعِنْدَهَا امْرَأة فَقَالَ: " مَنْ هَذِه؟ " قَالَتْ: فُلَانَةُ تَذْكُرُ مِنْ صَلَاتِهَا، قَالَ: "مَهْ عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقونَ، فَوَاللهِ لا يَمَلُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الإِسلام يَهْدِم ما كان قبله ". ثانياً: أن كل كبيرة عدا الشرك قابلةٌ للعفو والغفران، لقوله - صلى الله عليه وسلم - "والسيئة بمثلها إلاّ أن يتجاوز الله عنها" أي إلا أن يعفو الله عنها فلا يعاقب عليها. وهو مصداق قوله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فما من كبيرة بعد الشرك بالله مهما عظمت إلاّ وعفو الله أعظم منها وقد جاء في الحكم " لا صغيرة إذا قابلك عدله، ولا كبيرة إذا واجهك فضله "، وذلك لقوله تعالى: (قل يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً، إنّه هو الغفور الرحيم) لكن العبد يجب أن يكون بين الخوف والرجاء، لأنهما جناحا المؤمن. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
28 - " باب أحبُّ الدين إلى الله أدومه "
35 - الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي ومالك.
معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، دخل عليها وعندها امرأة " أي وعندها امرأة من بني أسد اسمها الحولاء بنت تويت بضم التاء وفتح الواو وبالتاء في آخره، " قال: من هذه؟ قالت: فلانة تذكر من صلاتها " أي فقالت هذه فلانة وسمتها باسمها حال كونها مادحة(1/127)
اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا" وَكَانَ أحَبَّ الدِّينِ إليهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لها، ذاكرة كثرة صلاتها وعبادتها، وأطنبت في مدحها، وبالغت في الثناء عليها، حتى قالت في رواية: " هذه فلانة أعبد أهل المدينة " وقالت في رواية أخرى: " هذه الحولاء لا تنام الليل فكره ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى عرفت الكراهية في وجهه " أخرجه مالك في الموطأ، فلما قالت عائشة فيها ما قالت، ووصفتها بما لا تستحقه، " قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: مه " (1) أي كفِّي عن إطرائك لهذه المرأة، ومبالغتك في مدحها والثناء عليْها، بما لا تستحقه من الثناء، لمخالفتها السنة الصحيحة، فإن الدين في متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والعمل بسننه، وليس من السنة إحياء الليل كله، ولا من الإِسلام التشديد على النفس وإرهاقها بالعبادة، ولكن " عليكم بما تطيقون " أَي افعلوا ما تقدرون عليه من الصيام والقيام، ولا تشقوا على أنفسكم فإنّ الدين يسر، ولن يشادّ هذا الدين أحدٌ إلَّا غَلَبهُ " فوالله لا يمل الله حتى تملوا " أي لا يقطع الله عنكم الثواب حتى تسأموا من العمل، فإذا فتر النشاط قلَّ الثواب، ومتى انقطع انقطع الثواب أيضاً. قالت عائشة رضي الله عنها " وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه " أي وكان أحب العبادة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفضلها لديه العبادة المستمرة الدائمة، ولو كانت قليلة، لأن العبادة رياضة روحية، فكلما كانت أدوم كانت أجدى نفعاً وتهذيباً لنفس صاحبها، ومثل العبادة كما يقول الإِمام الغزالي مثل الماء إذا قطر على الحجارة قطرة قطرة ولم يزل كذلك فإنه يثقبها " أي يخرقها " بخلاف ما إذا صب صباً، فإنه لا يؤثر فيها، وهو مصداق قول الشاعر:
__________
(1) " مه " اسم فعل أمر، إن دخله التنوين كان نكرة معناه كف عن الحديث أي حديث كان، وإن لم يدخله التنوين كان معرفة، ومعناه كف عن حديثك هذا، وحيث لم يدخله هنا التنوين فهو اسم معرفة معناه كفي عن حديثك هذا الذي بالغت فيه في مدح هذه المرأة.(1/128)
29- " بَابُ زِيَادَةِ الإيمَانِ وَئقْصَانِهِ "
36- عَنْ أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وفي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، ويَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ وَفي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ وَفي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَةٍ مِنْ خَيْرٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أمَا تَرَى الحَبْل لِتِكْرَارِهِ ... في الصَخْرَةِ الصَّمَاءِ قَد أثَّرَا
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: فضل العمل الدائم ولو كان قليلاً، لقول عائشة رضي الله عنها " وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه ". ثانياً: كراهية قيام الليل كله، وإليه ذهب مالك رحمه الله تعالى، وقال: في رسول الله أسوة حسنة، كما أفاده النووي. والمطابقة: في قوله " وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه ".
29 - " باب زيادة الإِيمان ونقصانه "
36 - الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي.
معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " يخرج من النار من قال: لا إِله إلَّا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير " أي يخرج من النار بعد استيفاء عقوبته على ذنوبه من نطق بالشهادتين مع اعتقاد معناهما، ولو لم يأت من أعمال الإيمان - بعد التصديق القلبي إلَّا بمقدار وزن شعيرة فقط. وكذلك " يخرج من النار من قال: لا إِله إلَّا الله، وفي قلبه وزن بُرَّة " بضم الباء " من خير " أي مقدار وزن حبة واحدة من القمح. " ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن ذرّة " أي نملة صغيرة.(1/129)
37- عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْه:
أنَّ رَجُلاً مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يا أميْرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ في كِتَابِكُمْ تَقْرَؤونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عِيداً، قَالَ: أيُّ آيةٍ؟ قَالَ: (الْيَومَ أكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وأتمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الإِيمان يزيد وينقص، كما ترجم له البخاري، لأن منه ما يزن الشعيرة، ومنه ما يزن البرة، ومنه ما يزن الذرة، وهذه الأشياء متفاضلة، بعضها أكبر من بعض، وذلك يقتضي أن الإِيمان يزيد وينقص، وهو قول الجمهور خلافاً لأبي حنيفة. ثانياًً: أن العصاة لا يخلدون في النار ما داموا قد ماتوا على التوحيد والإِيمان. والمطابقة: في قوله " وفي قلبه وزن شعيرة، وفي قلبه وزن برة ... إلخ ".
37 - الحديث: الحديث أخرجه الشيخان، والترمذي.
ترجمة راوي الحديث: هو الخليفة الراشد عمر بن الخطاب العدوي القرشي يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كعب بن لؤي الجد الثامن للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أسلم رضي الله عنه سنة ست من الهجرة، ولقب بالفاروق لقول جبريل: إنّ عمر فرق بين الحق والباطل، وبويع له بالخلافة بعد الصديق رضي الله عنه حيث عهد له بها سنة ثلاث عشرة من الهجرة، فقام يفتح البلدان الكثيرة، والإِصلاحات الكبيرة، واستشهد على يد أبي لؤلؤة المجوسي غلام المغيرة بن شعبة في محراب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة سنة (23) من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين عاماً على الأصحِ، وكانت مدة خلافته عشر سنوات ونصفاً روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (537) حديثاً اتفقا على ستة وعشرين حديثاً، وكان نقش خاتمه " كفى بالموت واعظاً " رضي الله عنه وأرضاه.
معنى الحديث: يحدثنا عمر رضي الله عنه في حديثه هذا "أنَّ رجُلاً(1/130)
ورَضِيْتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينَاً) قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من اليهود" وهو كعب الأحبار كما أفاده الطبري في تفسيره، والطبراني في الأوسط " قال له: آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً " أي لجعلناه عيداً نحتفل به تقديراً وتكريماً لذلك اليوم، لأهميته الدينيَّة والتاريخية، وإشادةً بفضله، وتذكيراً للناس بمناسبته التاريخيّة العظيمة قال: أيُّ آية؟ قال: (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي) فهي آية عظيمة جديرة بأن يحتفل بيوم نزولها، لأن الله أتم بهذه الآية المباركة أحكام الدين وشرائع الإِسلام، بعد أن أتم نعمته على المسلمين بالهداية والتوفيق، وفتح البلد الحرام، والقضاء على النفوذ الوثني فيه، واختار لهذه الأمة دين الإِسلام الحنيف، وارتضاه لهم دون سواه، فقال: (إن الدين عند الله الإِسلام) وقال تعالى: (ومن يبتغ غير الإِسلام ديناً فَلن يقبل منه) " قال عمر قد عرفنا ذلك اليوم " الذي نزلت فيه الآية الكريمة " والمكان الذي نزلت فيه " أي وعرفنا المكان الذي نزلت فيه، فأنت لم تأت بجديد، ولم تنبهنا على شيءٍ كنا نجهلُهُ فهي قد نزلت " على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم بعرفة يوم جمعة " فأصبح ذلك اليوم عيداً لأنه يوم عرفة وعيداً أيضاً لأنه يوم جمعة، فاجتمع فيه عيدان، كما جاء مصرحاً بذلك في رواية الطبراني حيث قال " وهما لنا عيدان " وفي رواية إسحاق عن قبيصة أن عمر قال: نزلت يوم جمعة ويوم عرفة وكلاهما بحمد الله لنا عيد، وروى ابن عباس رضي الله عنه أنّ يهوديّاً سأله عن ذلك، فقال: نزلت في يوم عيدين يوم جمعة ويوم عرفة أخرجه الترمذي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن آخر آية نزلت في التشريع الإِسلامي(1/131)
30- " بَابُ الزَّكَاةِ مِنَ الإِسْلَامِ "
38- عن طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والأحكام الفقهية هي قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإِسلام ديناً) من سورة المائدة. ثانياًً: أن في هذه الآية إشارة إلى وفاته - صلى الله عليه وسلم -َ لأنّه ليس بعد التمام إلَّا النقصان كما قال الشاعر:
إذا تَمَّ شيء بدا نقصه ... فحاذر تماماً إذا قيل تمْ
ولذلك لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما يبكيك يا عمر " قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فإذا أكمل فإنه لا يكمل شيء إلَّا نقص، فقال عليه الصلاة والسلام: " صدقت يا عمر " فكانت هذه الآية، نعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما لبث بعدها إلَّا واحداً وثمانين يوماً. ثالثاً: فضل يوم الجمعة وكونه عيداً أسبوعياً للمسلمين. رابعاً: فضل يوم عرفة ومكانته في الإِسلام. خامساً: استدل أهل السنة بهذا الحديث على أن الإيمان يزيد وينقص لاشتماله على قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم) حيث إن هذا الدين قد كمل بتمام أعماله، وكل شيء كمل بتمام أعماله فإنه ينقص بنقصانها، وفي هذا دليل واضح على زيادة الإِيمان، ونقصانه، كما ترجم له البخاري، وهو مذهب أكثر أهل السنة. والمطابقة: في قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم) فإن كل ما يقبل الكمال يقبل النقصان.
30- " باب الزكاة من الإِسلام "
38- الحديث: أخرجه مسلم والنسائي في الإِيمان، وأبو داود في الصلاة، والبخاري في الشهادات والصوم وترك الحيل، كما أخرجه هنا في هذا الباب.(1/132)
جَاءَ رَجُل إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أهْلِ نَجْدٍ ثَائِر الرَأسِ، نَسمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ ولا نَفْقَهُ ما يَقُولُ حتَّى دَنَا، فإِذَا هُوَ يَسْأل عَنِ الإسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: خَمْسُ صَلَواتٍ في الْيَومِ واللَّيْلَةِ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا، إلَّا أنْ تَطَّوَّعَ. قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: وَصِيَامُ رَمَضَانَ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيرُه؟ قَالَ: لَا، إلَّا أنْ تَطَّوَّعَ، وَذَكَرَ لَهُ
__________
ترجمة راوي الحديث: هو طلحة بن عبيد الله التيمي القرشي، أحد العشرة المبشرين بالجنة، يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جده السابع، سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - طلحة الخير، وطلحة الجود، وطلحة الفياض، شهد المشاهد كلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عدا بدر حيث غاب عنها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجهه مع سعيد بن زيد ليتجسسا عير قريش، وضرب له بسهم، وكان في يوم أحد يقي وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأصيب خنصره وشل، وهو أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإِسلام، والستة أصحاب الشورى روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وثلاثين حديثاً، اتفقا على خمسة، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثلاثة، توفي يوم الجمل سنة 36 هـ وقبره بالبصرة.
معنى الحديث: يقول طلحة رضي الله عنه: " جاء رجل إلى رسول - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد " وهو ضمام بن ثعلبة " ثائر الرأس " أي ثائر شعر الرأس على عادة المسافر ويجوز فيه الرفع على أنه نعت، والنصب على الحالية " نسمع دوي صوته " أي بعد صوته في الهواء، " ولا نفهم ما يقول " أي ولا نفهم قوله، أو نميز كلماته، لأنه كان ينادي من بعد: " حتى دنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يعني اقترب منه " فإذا هو يسأل عن الإِسلام " أي يسأل عن أركان الإِسلام وأعماله البدنية والمالية " فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: خمس صلوات في اليوم والليلة " بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف التقدير: الإِسلام خمس صلوات، والمعنى: أول أعمال الإِسلام الصلوات الخمس في اليوم والليلة(1/133)
رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الزَّكَاةَ قَالَ: هَلْ عليَّ غَيْرُها قَالَ: لَا إلَّا أنْ تَطَّوَّعَ.
قال: فَأدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: واللهِ لَا أزِيدُ علَى هَذَا ولَا أنْقُصُ، قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " افلَحَ الرَّجُلُ إِنْ صَدَقَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهي من الأعمال البدنِية " فقال: هل علي غيرها " أي هل يجب علي من الصلاة غير هذه الصلوات الخمس " قال: لا " أي لا يجب عليك من الصلوات غيرها " إلَّا أن تطوع " الاستثناء منقطع، والمعنى: لكن إذا أتيْتَ بما زاد على هذه الصلوات الخمس من النوافل فإنه تطوع مستحب تثاب عليه، وقال بعضهم: الاستثناء متصل، والمعنى لا يجب عليك أي صلاة أخرى إلَّا إذا شرعت في صلاة نافلة فيجب عليك إتمامها، وكذلك أي تطوع تشرع فيه من صيام أو غيره. ثم " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وصيام رمضان " أي والثاني من أعمال الإِسلام صيام رمضان " قال: هل عليَّ غيره، قال: لا، إلَّا أن تطوع " وقد تقدم شرحه. " وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة " أي وبين له - صلى الله عليه وسلم - أن من أركان الإِسلام أيضاً الزكاة " قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع " أي لكن إن تصدقت بغيرها فهو تطوع تثاب عليه لا واجب تأثم بتركه " فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص " أي لا أزيد على هذه الفرائض بفعل شيء من النوافل، ولا أترك شيئاً منها " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفلح الرجل إن صدق " أي إذا صدق في قوله هذا، فأدَّى هذه الأركان، فقد فاز بالجنة، ونجا من النار، ولو لم يأت من النوافل شيئاً.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن من أركان الإِسلام البدنية الصلاة والصوم، ومن أركانه المالية الزكاة، ولم يذكر الحج، ولعله لم يكن فرض بعد. ثانياًً: أن الزكاة من الإِسلام وقد ذكر البخاري عدة تراجم على هذا المنوال فقال في بعضها: " باب الصلاة من الإِيمان " وفي بعضها: "باب(1/134)
31- " بَابُ ائباعِ الْجَنَائِزِ مِنَ الإِيمَانِ "
39- عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَن اتَبّع جَنَازَةَ مُسْلِم إِيمَاناً واحْتِساباً، وكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الأجْرِ بِقِيرَاطَيْن، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أن تُدْفَنَ، فإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاط ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اتباع الجنائز من الإيمان" إلى غير ذلك، وغرضه منها ومن الأحاديث المخرجة فيها إثبات قضية من القضايا الإسلامية الهامة، وهي أنَّ العمل جزء من الإيمان، فليس الإِيمان مجرد تصديق بالقلب وإقرار باللسان، وإنما هو تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، كما عليه المحققون من أهل السنَّة. ثالثاً: أن صلاة الوتر ليست واجباً، لأن السائل لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - هل عليه غير الصلوات الخمس قال: لا. والمطابقة: في قوله: وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة.
31- " باب اتباع الجنائز من الإِيمان "
39- معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً" أي من شيع جنازة أخيه المسلم، وتبعها من بيت أهلها إلى المسجد معتقداً أن تشييع الجنازة من أعمال الإيمان، مصدقاً بما وعد الله المتبعين من الأجر والمثوبة: راجياً أن ينال ذلك، ورافقها إلى المسجد " حتى يصلى عليها " صلاة الجنازة " ويفرغ من دفنها " أي وخرج معها من المسجد، فشيعها ورافقها إلى مثواها الأخير، واستمر معها حتى دفنت " فإنه يرجع من الأجر قراطين، كل قيراط مثل أحد " أي فإنه يعود بمقدارين عظيمين من الأجر،(1/135)
32- " بَابُ سُؤَالِ جِبْريلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الإيْمَانِ وَالإِسْلَامِ والإِحْسَانِ "
40- عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كل واحد منهما يكون يوم القيامة مثل جبل أحد حجماً ووزناً. قال ابن دقيق العيد (1) : وقد مثلهما في الحديث بأن أصغرهما مثل أحد والأعمال تجسم -يوم القيامة- وتوزن ويكون لها جرم كما يدل على ذلك حديث عدي حيث قال فيه " أخفهما في ميزان يوم القيامة أثقل من أحد " وبقية الحديث ظاهر.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن اتباع الجنائز من الإِيمان كما ترجم له البخاري لقوله - صلى الله عليه وسلم -: من اتبع جنازة مسلم إيماناً، وغرضه من هذا الباب وأمثاله إثبات أن العمل جزء من الإيمان، قال ابن بطال (2) : هذا مذهب جماعة أهل السنة، وإنما أراد البخاري الرد على المرجئة في قولهم إن الإِيمان قول بلا عمل. ثانياًً: أن مشيّع الجنازة لا يثاب بقيراطين إلَّا إذا اتبعها حتى تدفن. والمطابقة: في قوله " من اتبع جنازة مسلم إيماناً ". الحديث: أخرجه الستة.
32- " بَاب سؤال جبريل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الإِيمان والإِسلام والِإحسان "
40- الحديث: أخرجه مسلم في الإيمان، والترمذي في الإِيمان، وأبو داود، وابن ماجه في السنة، كما أخرجه الطبراني وأبو عوانة، وابن خزيمة، والبخاري في التفسير والزكاة وفي هذا الباب.
ترجمة راوي الحديث: تقدمت.
معنى الحديث: قال أبو هريرة رضي الله عنه: " كانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يوماً
__________
(1) شرع عمدة الأحكام لابن دقيق العيد.
(2) شرح النووى على مسلم، ج 1.(1/136)
كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَاً بَارِزاً للنَّاس، فَأتَاهُ رَجُلٌ، فقَالَ: ما الإِيمَانُ؟ قَالَ: أنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ وتؤمِنَ بالبَعْثِ، قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَارزاً" أي ظاهراً لأصحابه، غير محتجب، ولا ملتبس بغيره كما أفاد الحافظ.
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - في أول أمره يجلس بين أصحابه كواحد منهم لا يميزه شيء عنهم، فصار الغريب لا يعرفه، فبنوا له " دكاناً " أي دكة مرتفعة، ليعرفه السائل من بين أصحابه " فأتاه رجل " أي مَلَكٌ في صورة رجل، وهو جبريل عليه السلام، جاءه على صورة أحسن الناس وجهاً، وأطيبهم ريحاً، كما هو شأنُ الملائكة عند النزول بالوحي، كما تقدم توضيحه في باب كيف كان بدء الوحي " فقال: ما الإِيمان؟ " أي ما هي أركان الإِيمان وعقائده وقضاياه التي لا يصير الإنسان مؤمناً إلَّا إذا صدق بها؟ " قال: أن تؤمن بالله " أي الركن الأول أن تصدق تصديقاً جازماً لا شائبة فيه ولا شك بوجود الله وربوبيته وصفاته ووحدانيته وتعتقد ذلك اعتقاداً راسخاً، " وملائكته " والركن الثاني أن تصدق بوجود الملائكة وهم عالم من خلق الله يتميز بالعصمة الذاتية والطاعة الفطرية، خلقوا من أصل تكوينهم على الطاعة والخير والاستقامة، فلا يقترفون المعصية بطبيعتهم، كما قال تعالى (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) " وبلقائه " أي والركن الثالث من أركان الإِيمان أن تصدق بوجود حياة أخرى بعد الموت، وهي حياة روحية جسمية معاً، خلافاً للمسيحيين في زعمهم أنها روحية فقط، وأن نعيمها وعذابها للأرواح دون الأجسام. أما المؤمنون فيعتقدون أنهم يحيون حياة روحية جسميّة ليحاسبوا على أعمالهم، ويلقوا جزاءهم العادل حيث يثاب الطائع بالجنة، ويعاقب العاصي بالنار. " ورسله " أي والركن الرابع التصديق بجميع الرسل من آدم - صلى الله عليه وسلم - إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنهم أرسلوا من عند الله لهداية البشر وأوحي إليهم بدين حق، " وتؤمن بالبعث " أي بإعادة الحياة إلى أجساد الأموات وإخراجهم(1/137)
ما الإِسْلَامُ؟ قَالَ: الإِسْلامُ أنْ تَعْبُدَ اللهَ ولا تُشْرِكَ بِهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، قَالَ: ما الإِحْسَانُ؟ قَالَ: أن تَعْبُدَ اللهَ كَأنكَ تَرَاهُ، فإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فإِنَّهُ يَرَاكَ. قَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بأعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَسَأخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا، إِذَا وَلَدَتِ الأمةُ رَبَّها، وِإذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإِبِلِ الْبُهْمِ في الْبُنْيَانِ.
في خَمْس لَا يعْلَمُهُنَّ إلَّا اللهُ، ثُمَّ تَلَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - (إنَّ الله عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) الآية ثُمَّ أَدْبَرَ فَقَالَ: رُدُّوهُ، فَلَمْ يَرَوْا شَيْئاً، فَقَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاس دِينَهُمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من قبورهم للحشر والحساب، وما بعد ذلك من الميزان والصراط والجنة والنار، وهو تأكيد لقوله " وبلقائه ". " قال: ما الإِسلام؟ " أي ما أركان الإسلام؟ " قال أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان " وقد تقدم شرح هذه الأركان في حديث بني الإِسلام على خمس. " قال ما الإِحسان "؟ أي ثم سأل عن المرتبة الثالثة من مراتب هذا الدين فقال: ما الإِحسان؟ أي ما هي الصفة التي إذا تحلى بها المسلم يكون محسناً في عبادته متقناً لها، مؤدياً لها على الوجه الأتم الأكمل.
" قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " أي للإِحسان مرتبتان، مرتبة عليا، وهي مشاهدة الحق بالقلب أثناء العبادة، كأنما يشاهده العبد ببصره ومرتبة أدنى من ذلك، ولكنها من الإِحسان أيضاً، وهي مراقبة الله تعالى أثناء العبادة واستحضار كونه مطلعاً عليك اهـ كما أفاده الحافظ.
" قال: متى الساعة؟ قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل " أي لست أنا بأعلم بها منك، بل نحن في الجهل بها سيان " وسأخبرك عن أشراطها " أي عن علاماتها الصغرى " إذا ولدت الأمة ربها " أي فمن علاماتها الصغرى(1/138)
كثرة السراري فيتسرى الرجل جارية تلد له ولداً، فيصبح ذلك الولد سيدَ الأمةِ، وقيل هو كناية عن كثرة العقوق، حتى يعامل الولد أمه معاملة السيد لجاريته. " وإذا تطاول رعاة الإِبل البهم في البنيان " أي ومن علاماتها الصغرى أيضاً أن يتنافس رعاة الإِبل السود في تشييد القصور والمباني العالية. " في خمس لا يعلمهن إلاّ الله " أي وأما العلم بالساعة ووقت قيامها على وجه التحديد فذلك أمر غَيْبي يدخل ضمن الغيبيات الخمسة التي لا يعلمها أحد إلاّ الله " ثم تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن الله عنده علم الساعة) " أي ثم قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية الكريمة مستدلاً بها على أن الله وحده هو الذي عنده علم الساعة، كما نصت عليه الآية " ثم أدبر " أي ثم ذهب ذلك الرجل " فقال: ردوه، فلم يروا شيئاً " لأنه كان قد اختفى عن أبصارهم " قال: هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم " أي هذا السائل هو جبريل مَلَك الوحي، جاء ليعلم الناس أركان دينهم، وفي رواية أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال " والذي نفسي بيده ما جاءني قط إلّا وأنا أعرفه إلاّ هذه المرة " وهكذا سلك جبريل في تعليمه طريق السؤال والجواب لأنه أوقع في النفس اهـ.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الإِيمان هو التصديق بجميع القضايا الاعتقادية التي جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجود الله وربوبيته ووحدانيته وصفاته، والتصديق بالملائكة، والبعث والرسل والكتب السماوية والقدر وجميع الشؤون الغيبية. ثانياً: أن أركان الإِسلام خمسة بعضها لساني قلبي كالشهادتين، وبعضها بدني كالصلاة، وبعضها مالي كالزكاة والحج. ثالثاً: أن الإِحسان وهو مقام المراقبة أغلى مقامات الدين، وهو منهاج النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. رابعاً: ظاهر الحديث أن الإِسلام والإِيمان حقيقتان متباينتان، وأن الإِسلام يطلق على الأعمال الظاهرة. والإِيمان على الأعمال الباطنة. قال الحافظ ابن حجر: "وعن الإِمام أحمد الجزم بتغايرهما، وعن(1/139)
المزني (1) صاحب الشافعي أنهما عبارة عن معنى واحد" قال الحافظ: ولكل من القولين أدلة متعارضة، والذي عليه البخاري أن الإِسلام والإِيمان والدين عبارات مختلفة (2) عن معنى واحد، والناظر في النصوص، يرى أنهما إذا اجتمعا افترقا كما في حديث جبريل هذا، وإذا افترقا اجتمعا فإذا ذكر الإِسلام وحده كان جامعاً لمعنى الإِسلام والإِيمان معاً، وإذا ذكر الإِيمان وحده كان جامعاً لمعنى الإِيمان والإِسلام معاً وهذا يدل على أنهما في الأصل اسمان لحقيقة واحدة كما ذهب إليه البخاري ويرى ابن حجر في ذلك رأياً وسطاً حيث يقول (3) : والذي يظهر من مجموع الأدلة أن لكل منهما حقيقة شرعية، لكن كل منهما مستلزم للآخر، بمعنى التكميل له، فكما أن العامل لا يكون مسلماً إلّا إذا اعتقد، فكذلك المعتقد لا يكون مؤمناً كاملاً إلاّ إذا عمل، وحيث يطلق الإيمان في موضع الإِسلام، أو الإِسلام في موضع الإيمان، أو يطلق أحدهما على إرادتهما معاً، فهو على سبيل المجاز ويتبين المراد بالسياق، فإن وردا معاً في مقام السؤال حملا على الحقيقة، وكان لكل منهما معنى خاصاً، وإن لم يردا معاً أو لم يكن في مقام سؤال أمكن الحمل على الحقيقة أو المجاز، بحسب ما يظهر من القرائن، قال: وقد حكي ذلك الإِسماعيلي عن أهل السنة والجماعة. خامساً: أن وقت قيام الساعة أمر غيْبي اختص الله بعلمه دون سواه، أما أمارات الساعة فإنها قسمان صغرى، وقد ذكر بعضها في هذا الحديث، وكبرى كالمهدي، والدجال، ونزول عيسى، وقد ذكرت في أحاديث أخرى. سادساً: من آداب العلماء أن لا يجيبَ العالم عما لا يعرفه، وأن يقول لا أدري، لأن العلم أمانة ومسؤولية، وليس التوقف عن الإِجابة نقيصة للعالم، بل هو فضيلة فيه اقتداءً بسيد المرسلين حيث قال: ما المسؤول عنها
__________
(1) فتح الباري، ج 1.
(2) شرح العيني، ج 1.
(3) فتح الباري، ج 1.(1/140)
33- " بَابُ مَنِ اسْتَبْرَأَ لِدِينهِ وَعِرْضِهِ "
41- عن النُّعْمَانِ بْنِ بَشير رَضِيَ الله عنهما قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيّنٌ، وَبَيْنَهُمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بأعلم من السائل. سابعاً: الترغيب في السؤال عما ينفع في الدنيا والآخرة، وترك السؤال عما لا فائدة فيه. المطابقة: في قول جبريل " ما الإِيمان، ما الإِسلام، ما الإِحسان ".
33- " باب من استبرأ لدينه وعرضه "
41- الحديث: أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، والترمذي في البيوع وابن ماجه في الفتن، والبخاري في البيوع وفي هذا الباب.
ترجمة راوي الحديث: هو النعمان بن بشير الأنصاري الخزرجي، ولد بعد أربعة عشر شهراً من الهجرة، وهو أول أنصاري ولد بعد الهجرة، صحابي ابن صحابي، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة وأربعة عشر حديثاً، وله في البخاري ستة أحاديث، كان عاملاً على حمص لابن الزبير، فلما تمرد أهل حمص خرج هارباً فقتل في واسط بين دمشق وحمص (؟) سنة خمس وستين هجرية.
معنى الحديث: يقول النعمان بن بشير رضي الله عنهما: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحلال بين والحرام بين " يعني أن الحلال ظاهر واضح وهو كل شيء لا يوجد دليل على تحريمه من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس، وذلك لأنّ الأصل في الأشياء الإِباحة كما يقول علماء التشريع الإِسلامي لقوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) وكذلك الحرام ظاهر واضح، وهو ما دل دليل على تحريمه، سواء كان هذا الدليل من الكتاب كالزنا فإنه حرام بنص القرآن حيث قال تعالى: (ولا تقربوا الزنا إنه كان(1/141)
مُشَبَّهَاتٌ، لا يَعْلمها كَثِير مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ فقَدِ اسْتَبْرَأ لِدِينهِ وعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ في المُشَبَّهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أن يُواقِعَه، ألا وِإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمىً، ألا وِإنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، ألا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فاحشة وساء سبيل) أو كان من السنة كأكل الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، فهو محرم بالسنة، أو كان دليل التحريم من الإِجماع كحفر الآبار في طريق المسلمين وإلقاء السم في الطعام إذا علم أو ظهر أنهم يأكلونه فإنه حرام بالإجماع. أو كان الدليل من القياس كتحريم كل (1) إساءة للأبوين قياساً على تحريم التأفف في قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) وكتحريم التغوط في الماء الراكد والاغتسال فيه، قياساً على تحريم التبول. من قوله - صلى الله عليه وسلم - " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه " وهذا القياس يسمى عند علماء الأصول بالقياس الأولوي. ثم قال - صلى الله عليه وسلم - "وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس " أي وبين الحلال والحرام قسم ثالث وهو المشتبهات - أي الأمور التي تكون غير واضحة الحكم من حيث الحل والحرمة، فلا يعلم الكثيرون هل هي حلال أو حرام، ويدخل في ذلك جميع الأمور المشكوك فيها، مثل المال المشبوه أو المخلوط بالربا، أو غيره من الأموال المحرمة (2) أما إنْ تأكد أن هذا من عين المال الربوي فإنه حرام صرف دون شك. وكذلك لو تأكد أنه من عين المال الحرام كالمغصوب مثلاً أو القمار فإنه حرام أيضاً، ولا يعد من المشتبهات. " فمن اتّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " أي من اجتنبها فقد طلب البراءة لنفسه ديناً وعرضاً، فيسلم له دينه من النقص، وعرضه من القدح والذم والسمعة السيئة "ومن وقع في الشبهات: كراع
__________
(1) " أصول الفقه " لفضيلة العلامة التونسي الشيخ محمد الطاهر النيفر.
(2) ومن المتشابه أيضاً ما تعارضت فيه الأدلة الشرعية كيمين الحرام كما أفاده ابن رجب.(1/142)
وِإنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه" أي ومن اجترأ على الشبهات فقد عرض نفسه للخطر، وأوشك على الوقوع في الحرام، مثله في ذلك مثل راع يرعى حول الأرض التي حماها الملك لنفسه، وجعلها خاصة له، فإن هذا الراعي قد تدخل ماشيته في الحمى، فيستحق عقوبة السلطان، كذلك من يتهاون بالشبهات، فإنه على خطر لأنّها ربما كانت حراماً فيقع فيه، وهناك معنى آخر، وهو أنه ربما تساهل في الشبهات فأدى به ذلك إلى الاستهتار واللامبالاة، فيقع في الحرام عمداً، فإن الشبهة تجر إلى الصغيرة. والصغيرة تجر إلى الكبيرة نسأل الله السلامة. " ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمي الله محارمه " أي وإن حمى الله هي المعاصي التي حرمها على عباده، فمن دخل حماه بارتكاب شيء من المعاصي هلك، ومن قاربه بفعل الشبهات كان على خطر، وقد قال الشاعر:
إنَّ السلامَةَ مِن لَيْلى وَجَارَتِهَا ... أن لَا تَمُرَّ بِنَا مِنْ حَوْلِ نَادِيْهَا
" ألا وإن في الجسد مضغة " أي قطعة لحم صغيرة بقدر ما يمضغ " إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب "
فكما أن القلب من الناحية الجسمية هو العضو الرئيس في الجسد، ومصدر الحياة فيه لارتباط حركة الدم به، فكذلك هو في نظر الإِسلام مصدر صلاح الإنسان وفساده من الناحية الروحية والدينية، وهو الموجه لسلوك الإِنسان وَأعماله من الأقوال والأفعال فمتى كان القلب سليماً من العقائد الخبيثة كالكفر والنفاق. والإِلحاد، ومن الأمراض النفسية كالكبر والاستعلاء والحقد والحسد والكراهية وغيرها، عامراً بالإِيمان والخوف من الله والحب في الله، صلحت(1/143)
أعمال الجوارح واستقام سلوك الإِنسان دينيا واجتماعياً، والعكس بالعكس، وهو معنى قوله: "إذا صلحت صلح الجسد كله" أي صلحت أعْمال الجسد وسلوكه الظاهري ولهذا جاء في الحديث "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه".
ويستفاد منه: ما يأتي: أولاً: أن أحكام الشريعة الإسلامية من حلال وحرام، وواجب ومندوب ومكروه، كلها واضحة جلية لا عذر لأحد في الجهل بها، لأنها ميسورة العلم سهلة المنال ومن جهل منها شيئاً فعليه أن يسأل أهل العلم فذلك واجب. ثانياً: الترغيب في الورع واتقاء الشبهات لكي يسلم للمؤمن دينه وعرضه، وقد قسم ابن المنذر الشبهات إلى ثلاثة أقسام: الأول: شيء يعلمه المرء حراماً، ثم يشك فيه هل هو باق على حرمته أم لا فلا يحل الإِقدام عليه إلاّ بيقين كشاتين ذبح إحداهما كافرٌ، وشككنا في تعيينها. الثاني: أن يكون الشيء حلالاً فيشك في تحريمه كالزوجة، يشك في طلاقها، فلا يعتبر ذلك، ولا أثر له. الثالث: شيء يشك في حرمته وحله على السواء فالأوْلى التنزه عنه، كما فعل رسول الله في التمرة الساقطة، حيث تركها خشية أن تكون من تمور الصدقة اهـ واتقاء هذا النوع الأخير مستحب على أرجح الأقوال، وفعله مكروه، وقد قال سفيان: لا يصيب عبد حقيقة الإِيمان حتى يدع الإِثم وما تشابه منه. ثالثاً: أن من أتى شيئاً يظنه الناس شبهة ويخشى طعن الناس عليه بسببه، وهو يعلم أنه حلال، فإنه يحسن له تركه، لسلامة عرضه، وأن من وقع في أمرٍ يدعو الناس إلى الوقيعة فيه، أن يتخذ ما يصونه عن سوء الظن به، كمن أحدث في صلاته مثلاً، فإنه يستحب له أن يأخذ بأنفه موهماً أنه رعف. رابعاً: أنه يجب على الإنسان أن لا يعرِّض نفسه لمواقف التهم، محافظة على سلامة عرضه، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " ولهذا قال بعض السلف: من عرّض نفسه للتهم فلا يلومن من أساء الظن به، وقد قال الشاعر:(1/144)
34- " بَابُ مَا جَاءَ أنَّ الأعْمَالَ بِالنيةِ والْحِسْبَةِ " (1)
42- عنْ عمرَ بْنِ الْخَطابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -: "الأعْمَالُ بِالنيةِ، وَلِكُلِّ امْرِىءٍ ما نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ ورَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ، ومَنْ كَانَتْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمَنْ دَعَا النَّاسَ إِلى ذَمِّهِ ... ذَمُّوْهُ بِالحَقِّ وَبِالبَاطِلِ
خامساً: ينبغي للمسلم إذا خشي اشتباه الناس فيه وتوقع سوء الظن منهم أن يشرح لهم حقيقة أمره محافظة على سلامة عرضه، ففي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج مع صفية من المسجد ووقف يتحدث معها مر رجلان فأسرعا فقال - صلى الله عليه وسلم - " على رسلكما إنها صفية " فقالا: سبحان الله، يا رسول الله، أي هل نظن بك إلاّ خيراً، " فقال - صلى الله عليه وسلم -: إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً، أو قال شيئاً "، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقف موقف التهم، والله أعلم. مطابقة الحديث للترجمة: في كونها جزءاً منه.
34- باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة
42- الحديث: أخرجه الستة، وسائر كتب الحديث ما عدا الموطأ (2) .
معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " الأعمال بالنية " أي لا تصح جميع العبادات الشرعية إلاّ بوجود النيَّة فيها، سواء كانت من المقاصد كالصلاة والصوم ونحوها، أو من الوسائل كالوضوء والغسل، فإذا وقعت العبادة بدون
__________
(1) هذا الحديث ذكره الإمام البخاري في أول الكتاب، في باب بدء الوحي، ولكن المؤلف حفظه الله تعالى حذفه هناك، وذكره هنا بهذه الرواية، وبهذا اللفظ الذي جاء هنا، مع شرحه لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. (ع) .
(2) أخرجه " الموطأ " ص (401) برواية محمد بن الحسن.(1/145)
هِجْرَته لِدُنيا يُصِيبها أوِ امْرَأةٍ يَتَزَوَّجهَا فهِجْرَتة إِلى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نية كانت باطلة. أما المعاملات والجنايات، وأعمال القلوب، والأعمال العادية فإنها لا تتوقف صحتها على النية، لأن الأعمال وإن كانت في الأصل تطلق على جميع الأقوال والأفعال الصادرة من الإِنسان عبادة أو معاملة أو غيرها، إلّا أن المراد بها في هذا الحديث العبادات خاصة. " ولكل امرىء ما نوى " أي وإنما يعود على المسلم من عمله ما قصده منه، والحكم في هذه العبارة عامٌّ في جميع الأعمال من العبادات والمعاملات والأعمال العادية فمن قصد بعمله منفعة دنيوية، لم ينل إلاّ تلك المنفعة، ولو كان عبادة، فلا ثواب له عليها. ومن قصد بعمله التقرب إلى الله تعالى، وابتغاء مرضاته، نال من عمله المثوبة والأجر، ولو كان عملاً عادياً كالأكل والشرب والجماع، فإن عمل الدنيا يتحول بحسن النية إلى عبادة فنتائج الأعمال بنياتها إلاّ المحرمات فإن حسن النية لا يبرر اقتراف المعصية، فالحرام حرام، ولو حسنت نية فاعله.
ثم ختم النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثه هذا بضرب الأمثلة العملية لبيان تأثير النيات في الأعمال، واختلاف النتائج باختلافها حيث قال: " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله " أي فمن قصد بهجرته امتثال أمر ربه، وابتغاء مرضاته، والفرار بدينه من الفتن، فهجرته هجرة شرعية مقبولة عند الله تعالى، مأجور عليها بأجر المهاجرين، ولو مات في طريقه قبل الوصول إلى مهجره كما قال عز وجل: (ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) " ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها " أي ومن قصد بهجرته منفعة دنيوية وغرضاً شخصياً من مال أو تجارة أو زوجة حسناء، أوْ وَجَاهَة وسمعة، أو مركز يحصل عليه " أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " أي فلا ينال من هجرته إلاّ تلك المنفعة التي نواها، ولا نصيب له من الأجر والثواب. لأنَّه لا هجرة له شرعاً، وإنما هي رحلة عادية.(1/146)
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن العبادات تتوقف صحتها على النية، سواء كانت مقاصد أو وسائل، وهو مذهب الجمهور، وذهب أبو حنيفة إلى تخصيص النية بالمقاصد فهي التي تحتاج إلى نية، أما الوسائل كالوضوء والغسل فإنه لا تتوقف صحته على النية، قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في شرح هذا الحديث: " وقد اتفق العلماء على أن العبادة المقصودة لنفسها، كالصلاة والصوم والحج لا تصلح إلاّ بالنية، وتنازعوا في الطهارة مثل من يكون عليه جنابة، فينساها ويغتسل للنظافة، فقال مالك والشافعي وأحمد: النية شرط لطهارة الأحداث كلها، وقال أبو حنيفة: لا تُشترط في الطهارة بالماء، بخلاف التيمم، وقال زفر: لا يُشترط في هذا ولا هذا. والذين يوجبون النية في طهارة الأحداث يحتجون بهذا الحديث على أبي حنيفة، قال ابن تيمية: وأبو حنيفة يسلم أن الطهارة غير المنْوية ليست عبادة ولا ثواب فيها، وإنما النزاع في صحة الصلاة بها فقوله: " إنما الأعمال بالنيات " لا يدل على محل النزاع إلّا إذا ضمت إليه مقدمة أخرى وهي أن الطهارة لا تكون إلاّ عبادة، والعبادة لا تصح إلاّ بنية (1) . فالمسألة مدارها على أن الوضوء هل يقع على غير العبادة -أم لا- والجمهور يحتجون بالنصوص الواردة في ثوابه، كقوله - صلى الله عليه وسلم - " إذا توضأ العبد المسلم خرجت خطاياه مع الماء أو مع آخر قطر الماء " يقولون ففيه الثواب، والثواب لا يكون إلاّ مع النية فالوضوء لا يكون إلاّ بنية. وأبو حنيفة يقول: الطهارة شرط من شرائط الصلاة فلا تشترط لها النية كاللباس وإزالة النجاسة. وأولئك يقولون: اللباس والإِزالة يقعان عبادة وغير عبادة، ولهذا لم يرد نص بثواب الإِنسان على جنس اللباس والإِزالة، وقد وردت النصوص بالثواب على جنس الوضوء اهـ. والحاصل أن الجمهور يرون أن الوضوء والغسل " لا يقعان إلاّ عبادة يثاب عليهما كسائر العبادات بخلاف أبي
__________
(1) رسالة في شرح هذا الحديث لابن تيمية، طبع دار الجيل، مكتبة التراث الإسلامي، القاهرة.(1/147)
حنيفة، فإنه يرى أنّهما يقعان عبادة وغير عبادة، ولذلك لم يوجب النية فيهما، فإنْ نوى صح الوضوء والغسل وأثيْبَ عليهما وإن لم ينو صح الوضوء والغسل، ولم يثب عليهما. فالفرق بين من نوى ومن لم ينو إنما هو في الأجر والثواب، فهذا يؤجر، وذاك لا يؤجر، هذا هو قول أبي حنيفة عن النية في الوسائل، والحاصل أن النية عند المالكية فرض في الوضوء والغسل والتيمم والصلاة والزكاة والصوم، وركن في الحج، وعند الشافعية فرض في الوضوء والغسل والصوم وشرط في الزكاة، وركن في التيمم والصلاة والحج (1) وعند الحنابلة شرط في الوضوء والغسل والتيمم والصلاة والزكاة والصوم، وركن في الحج، وعند الحنفية شرط في التيمم والصلاة والزكاة والصوم والحج، سنة في الوضوء والغسل (2) ، قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: " وقال بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد: تشترط لإزالة النجاسة، وهذا القول شاذ، فإن إزالة النجاسة لا يشترط فيها عمل للعبد، بل تزول بالمطر النازل والنهر الجاري ونحو ذلك، فكيف تشترط لها النية، وأيضاً فإن إزالة النجاسة من باب التروك لا من باب الأعمال، ولهذا لو لم يخطر بباله في الصلاة أنه مجتنب النجاسة صحت صلاته إذا كان مجتنباً لها، ولهذا قال مالك وأحمد في المشهور عنه والشافعي في أحد قوليه: لو صلّى وعليه نجاسة لم يعلم بها إلّا بعد الصلاة لم يعد، لأنه من باب التروك (3) ". ثانياً: أن الأعمال العادية كالأكل والشرب والنكاح تتحول بحسن النية وقصد القربة والتقوّي على طاعة الله بإعفاف النفس، وصيانتها عن المآثم إلى عبادة يثاب عليها، كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - " وإنما لكل امرىء ما نوى " وكما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث
__________
(1) فيض الإله للشيخ محمد أحمد الداه الشنقيطي.
(2) فيض الإله للشيخ محمد أحمد الداه الشنقيطي.
(3) رسالة ابن تيمية في شرح حديثاً " إنما الأعمال بالنيات "، طبع دار الجيل، بروت، مكتبة التراث الإسلامي، القاهرة.(1/148)
43- عَنْ أبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إذَا أنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهْ صَدَقَة ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القادم: " إذا أنفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها فهو له صدقة ". ثالثاً: أن من نوى عملاً صالحاً لم يعمله لعذر حال بينه وبينه كتب له أجر ذلك كما يدل عليه عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولكل امرىء ما نوى " ويؤكد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله يقول للحفظة يوم القيامة اكتبوا لعبدي كذا وكذا من الأجر، فيقولون يا ربّنا لم يحفظ ذلك عنه ولا هو في صحفنا، فيقول الله تعالى: إنه نواه ". مطابقة الحديث للترجمة: أنها جزء منه.
43- الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
ترجمة راوي الحديث: هو أبو مسعود الأنصاري الخزرجي اسمه عقبة يقال له: البدري، وإن لم يشهد بدراً، لأنه سكنها، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة وخمسين حديثاً، اتفقا منها على تسعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بسبعة سكن الكوفة ومات بها سنة إحدى وثلاثين من الهجرة رضي الله عنه وأرضاه.
معنى الحديث: أن أبا مسعود الأنصاري رضي الله عنه يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إذا أنفق الرجل على أهله " أي إذا صرف الرجل ماله على أهله الذين يعولهم، وتجب عليه نفقتهم من زوجة وأولاد وغيرهم من أقاربه أي شيء من المال قليلاً كان أو كثيراً " يحتسبها " أي حال كونه يريد بتلك النفقة وجه الله وابتغاء مرضاته، ويقصد بها القربة إليه وامتثال أمره، راجياً منه الأجر والمثوبة، لا لمجرد العاطفة الإِنسانية، أو لكونه ملزماً بالنفقة عليهم " فهو له صدقة " أي فإن ذلك الانفاق يحتسب له عند الله عملاً صالحاً، وحسنة يثاب عليها ثواب الصدقة وليس معناه أن تلك النفقة تعطى حكم الصدقة، وإلا لما جاز الإنفاق على الزوجة الهاشمية.(1/149)
35- " بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الدِّينُ النَّصِيحَةُ "
44- عنْ جرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ البجلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَايعتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وِإيتَاءِ الزَّكَاةِ والنُّصْحِ لِكًلِّ مُسْلِمٍ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويستفاد من الحديث: الترغيب في النية الصالحة في جميع الأعمال، ولو كانت عادية، لأن حسن النية فيها يحولها إلى طاعة يؤجر عليها. مطابقة الحديث لترجمة: في قوله " يحتسبها ".
35- باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الدين النصيحة
أي أن هذا الدين قائم على النصيحة لا قيام له بدونها، لأنها أساسه وعماده، وهي كما قال الراغب: تحرّي كل قول أو فعل فيه صلاح صاحبه، من قولهم: نصَحت له الود أي أخلصته.
44- الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي.
ترجمة راوي الحديث: هو جرير بن عبد الله البجلي، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان من السنة العاشرة، وبايعه على الإِسلام، ورحب به - صلى الله عليه وسلم - وقال: أكرموه " إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه " أخرجه الطبراني. وكان رضي الله عنه بهي الطلعة، جميل الصورة استعمله - صلى الله عليه وسلم - على اليمن، وشهد فتح المدائن عاصمة الفرس، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث، اتفقا منها على ثمانية، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بستة. نزل الكوفة، ثم تحول منها إلى قرقيسيا، فعاش فيها حتى مات بها سنة (51) هـ.
معنى الحديث: يقول جرير رضي الله عنه " بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة " من المبايعة وهي معاهدة من له الأمر من(1/150)
45- وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أتيت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ: أبَايِعُكَ علَى الإِسْلَامِ، فَشَرَطَ عَلَيَّ
" وَالنُّصْحَ لِكُلِّ مُسْلِم ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المسلمين، من رسول، أو إمام، أو ملك، أو غيره، على السمع والطاعة والوفاء بشروط معينة، ومعناه. عاهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة وأداء أركان الإِسلام " والنصح لكل مسلم " أي وعاهدته أيضاً على النصيحة لكل مسلم ومسلمة، وذلك بالحرص على منفعتهما، وإيصال الخير إليهما، ودفع الشر عنهما بالقول والفعل معاً. والمطابقة في قوله: " والنصح لكل مسلم ".
45- الحديث: أخرجه الشيخان.
معنى الحديث: تقدم. والمطابقة: في قوله: شرط عليّ " والنصح لكل مسلم ".
ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: وجوب النصح للمسلمين، ومعاملتهم معاملة حسنة خالصة من المكر والخديعة والغش والخيانة. ثانياً: تحري الخير لهم، والحرص على مصالحهم، والسعي في منافعهم، فإن ذلك من مبادىء الإِسلام، التي أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها البيعة، كما رواه جرير، حيث قال: وشرط عليَّ " والنصح لكل مسلم ". ثالثاً: أن من أهم الحقوق الإِسلامية إرشاد المسلمين إلى الخير، وتعليم جاهلهم، وتنبيه غافلهم، والذب عن أعراضهم، وتوقير كبيرهم، والرحمة بصغيرهم فإنّ هذا كله يدخل في النصح لهم، الذي شرطه النبي - صلى الله عليه وسلم - على كل مسلم والله أعلم.
***(1/151)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب العلم "
بدأ الإِمام البخاري كتابه هذا " بالوحي " لأنه أصل الدين ومصدره وأساسه، وثنى " بالإِيمان " لأنه كيانه وقوامه، وثلث " بالعلم " لأنه غذاؤه، ثم أَتى بعد ذلك بأحكام العبادات والمعاملات والجنايات وغيرها، لأنها فروع الدين. " والعلم " كما قال ابن خلدون: على نوعين، منه ما هو طبيعي يهتدي إليه الإنسان بتفكيره وهو العلوم الإِنسانية أو الفلسفية، ومنه ما هو نقلي سماعي يأخذه الإِنسان عن الشارع، وهو العلوم الشرعية المستندة إلى الكتاب والسنة، ولا محل للعقل فيه إلاّ في إلحاق الفروع بالأصول، وهو ما يسمى بالقياس الشرعي. ويدخل في العلم الشرعي بمعناه العام معرفة العقائد الإِسلامية والأحكام الشرعية، ومصادرها ومراجعها من حديث وتفسير وفقه وأصول وآثار الصحابة واختلاف العلماء، وعلوم الآلة من لغة ونحو وصرف وبلاغة، وعلم الرجال وأنسابهم وصفاتهم، وأسماء الصحابة، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وعلم القراءات ومخارج الحروف إلى غير ذلك من المعارف الإِسلامية. وهو قسمان: فرض عين، وفرض كفاية: فأما فرض العين فهو ما يجب على كل مسلم معرفتِه ذكراً كان أو أنثى. قال ابن القيم (1) " وهو الذي لا يسع مسلماً جهله كأصول الإِسلام الخمسة، وشرائع الإِسلام من وضوء وغيره، والمحرمات التي اتفقت الأديان على تحريمها، وهي المذكورة في قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ
__________
(1) سفر السعادة لابن القيم.(1/152)
وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) الخ. وأحكام المعاشرة والمعاملة، إلا أن القدر الكافي في فقه المعاملات ما تمس الحاجة إليه " اهـ والحاصل أن العلم الواجب على كل مسلم هو معرفة الله ومعرفة رسوله، ومعرفة قواعد الإِيمان وأركان الإِسلام، وأن يعرف من الأحكام ما تتوقف عليه صحة العبادة، ويعرف من أحكام المعاملات ما يمارسه، ويحتاج إليه، فلا يقدم على شيء من بيع أو شراء أو نكاح أو طلاق حتى يعرف حكم الله فيه، ويسأل أهل العلم عنه. قال الحسن بن الربيع: سألت ابن المبارك عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " طلب العلم فريضة على كل مسلم " فقال: ليس هو الذي يطلبونه، ولكن فريضة على من وقع في شيء من أمر دينه أن يسأل عنه حتى يعلمه. وروى ابن عبد البر عن ابن وهب قال: سُئل مالك عن طلب العلم أهو فريضة على الناس، فقال: لا، ولكن يطلب المرء ما ينتفع به في دينه. وأما فرض - صلى الله عليه وسلم - الكفاية: فهو ما يجب أن يتخصص فيه طائفة من المسلمين فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولو تركه أهل البلد كلهم لأثموا جميعاً، وقد اختلف أهل العلم فيما يدخل في فرض الكفاية من العلوم الإِسلامية والإنسانية والمدنية قال ابن القيم: (1) كل واحد يدخل في ذلك -أي في هذا العلم الذي هو فرض كفاية- ما يظنه فرضاً، فيدخل بعض الناس الطب والحساب والهندسة، وبعضهم المساحة، وبعضهم الصناعة، ومن الناس من يقول: علوم العربية كلها فرض كفاية لتوقف فهم كلام الله ورسوله عليها، ومن الناس من يقول: إن أصول الفقه منها، لأنه العلم الذي يعرف به الدليل ومرتبته وكيفية الاستدلال به، ويرى ابن القيم أن هذه العلوم من باب ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب، وهو قول الغزالي أيضاً حيث يرى أن كل علم لا يُستغنى عنه (2) في قوام أمر الدنيا كالطب الذي هو ضروري لحاجة بقاء الأبدان، والحساب الذي هو
__________
(1) " سفر السعادة " لابن القيم.
(2) " إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي.(1/153)
ضروري في المعاملات، وقسمة الوصايا والمواريث وغيرها من العلوم المدنية والإِنسانيّة، فهو فرض كفاية، وهذا ما رجحه علماء المسلمين وقد اتسعت دائرة العلوم الإِسلامية، حتى أن الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى عد في مجلس الرشيد ثلاثة وستين علماً، ونقل السيوطي عن القاضي أبي بكر ابن العربي المالكي أنه ذكر في قانون التأويل أن علوم القرآن بلغت أضعاف كلماته أربع مرات.
***(1/154)
36- " بَابُ مَنْ شِلَ عَنِ الْفُتْيَا وَهُوَ مُشْتَغِلٌ في حَدِيبهِ فَأتمَّ الحَدِيثَ، ثُمَّ أجَاَب السَّائِلَ "
46- عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
بَيْنَمَا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في مَجلِس يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أعرَابِيّ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَومِ: سَمِعَ مَا قَالَ فكرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهم: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: أيْنَ -أرَاهُ- السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ، قَال: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
36- باب من سئل عن الفتيا وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل
46- الحديث: أخرجه البخاري فقط. قال القسطلاني: وهو مما تفرد به عن بقية الكتب الستة.
معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه " بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس يحدث القوم " أي يتحدث مع أصحابه " جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ " أي حضر إلى مجلسه الشريف رجل أعرابي، فلما وصِل إليه قال: متى تقوم الساعة؟ وتنتهي هذه الدنيا؟ " فمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث " أي استمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثه مع من يحدثه لئلا تضيع الفائدة " فقال بعض القوم: سمع ما قال وكره ما قال " أي سمع كلام الأعرابي، وكره سؤاله، لأنَّ الساعة لا يعلمها أحد، ولذلك أعرض عن جوابه، ولم يلتفت إليه "وقال بعضهم: لم يسمع" سؤاله لانشغاله بالحديث مع غيره " حتى إذا قضى حديثه " أي ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - استمر في حديثه الأول حتى انتهي منه، ثم التفت إلى السائل، وسأل عنه " فقال أين -أراه- السائل عن الساعة "(1/155)
قَالَ: إِذَا ضُيِّعَتِ الأمَانَةُ فانتظِر السَّاعَة"، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: " إِذَا وُسِّدَ الأمْرُ إِلى غَيْرِ أهْلِهِ فانتظِرِ السَّاعَةَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي أين السائل عن الساعة؟ "قال: ها أنا يا رسول الله" أي لبيك يا رسول الله أنا حاضر بين يديك، قريب منك " قال: فإذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة " أي إذا ارتفعَتِ الأمانة، وصار الناس لا يشعرون بالمسؤولية نحو أي حق يتعلق بذمتهم، سواء كان هذا الحق مالاً أو عملاً أو سراً فقد أوشكت تلك الأمة أن تنتهي، ويقضى عليها، فانتظر ساعة نهايتها وزوالها، فإنها قد دنت، أو أوشكت الدنيا على الزوال إذا ارتفعت الأمانة منها. " قال: كيف إضاعتها " أي ما هي الأسباب المؤدية إلى إضاعتها وما علامة ذلك " قال: إذا وسدَ الأمر إلى في أهله فانتظر الساعة " أي إذا أسندت الأمور الهامة التي ترتبط بها مصالح المسلمين من إمارة وقضاء وحسبة وشرطة إلى غير أصحاب الكفاءات الشرعية والإِدارية والعلمية والفنية وسلمت لغير ذوي الاختصاص فقد ضاعت الأمانة وأوشكت الساعة أن تقوم، لأن الولاية أمانة ومسؤولية لا يمكن أن يؤديها إلاّ من كان عالماً بها ناصحاً فيها، مقدراً لمسؤوليته نحوها، فإذا وليها غير أهلها من الجهلة أو الخونة لم يقوموا بأدائها، فتضيع مصالح الناس، وتنتشر الفوضى، ويعم الظلم، وتتفشى العداوة والبغضاء، فينهار كيان المجتمع، ويؤدي ذلك إلى القضاء على الأمة، وعند ذلك انتظر الساعة، إما ساعة تلك الأمة خاصة إذا كان ضياع الأمانة في نطاقها، أو ساعة العالم كله إذا ارتفعت الأمانة من الدنيا كلها، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: وجوب العناية بالسائل وطالب العلم، والاهتمام به، وإجابته على سؤاله (1) ، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال،
__________
(1) وقد أمر الله تعالى بالعناية بالسائل وطالب العلم فقال عز وجل (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) قال بعض المفسرين: ليس السائل الذي يسأل الطعام، وإنما هو من يسأل العلم.(1/156)
" أين السائل " فسأل عنه، واهتم به، وتوجه إليه، وهذا هو واجب العالم، فإن كان السؤال مما يمكن الإجابة عليه أجابه، وإلا أقنعه بكل لطف عن عدم إمكانية الإجابة عن سؤاله، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر العلماء أن يرحّبوا بطلاب العلم، لأنهم وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ثانياً: من الأدب أن لا تسأل العالم ما دام مشغولاً بالحديث مع غيرك، فإذا سئل العالم أثناء حديثه مع الغير أخر الإجابة حتى ينتهي من حديثه لئلا تضيع الفائدة، هذا مع الرفق بالسائل إذا أخطأ في سؤاله، لأن الأعرابي قد أخطأ في سؤاله عن الساعة ولكنه - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخذه أو يعاتبه على سؤاله هذا، بل أجابه بما يمكن الإِجابة عليه، وهو بيان العلامات الدالة عليها، أو الدالة على الساعة الخاصة. ولم يعاتبه أيضاً على سؤاله أثناء حديثه، وإنما اكتفى بتأخير إجابته. ثالثاً: أنه لا حياء في السؤال عن العلم، والإِلحاح فيه وتكراره، لزيادة العلم، لأن السائل كرر السؤال بقوله: وكيف إضاعتها.
رابعاً: أن الولايات كلها من قضاء أو إمارة أو شرطة أو غيرها أمانة ومسؤولية يجب إسنادها إلى مستحقيها من ذوي الدين والأمانة والاختصاص، وإلا فسدت البلاد والعباد، وكان ذلك إيذاناً بانهيار الأمة، والقضاء عليها. خامساً: قال الحافظ: فيه إشارة إلى أن العلم سؤال وجواب، ومن ثَمَّ قيل: السؤال نصف العلم. والمطابقة: في قوله: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث القوم جاءه أعرابي فقال: متى الساعة، فمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث أصحابه.
***(1/157)
37- " بَابُ مَنْ رَفَعَ صَوْئهُ بالْعِلْمِ "
47- عَنِ ابْنِ عُمَروٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ:
تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في سَفْرَةٍ سَافَرْنَاها، فأدْرَكَنَا وَقَدْ أرْهَقَتْنَا الصَّلَاةُ، وَنَحْنُ نَتَوَضَّأ، فَجعَلْنَا نَمْسحُ أرْجُلَنَا فنَادَى بأعْلَى صَوْتِهِ: " وَيْلٌ للأعْقَابِ مِنَ النَّارِ " مَرَّتَيْنِ أو ثَلَاثاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
37 - باب من رفع صوته بالعلم
47 - الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
معنى الحديث: يقول ابن عمرو رضي الله عنهما " تخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافرناها " بين مكة والمدينة كما رواه مسلم " فأدركنا " أي فلحقنا النبي - صلى الله عليه وسلم - " وقد أرهقتنا الصلاة " أي وقد تأخرنا عن صلاة العصر، حتى أوشكت الشمس على الغروب وكادت تفوتنا " ونحن توضأ " أي ولم ننته بعد من الوضوء " فجعلنا نمسح أرجلنا " أي فاستعجلنا في الوضوء وصرنا نغسل أعضاءنا غسلاً خفيفاً يشبه المسح " فنادى بأعلى صوته ويل للأعقاب " جمع عقب، وهو مؤخر القدم " من النار " أي فنادى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه منذراً لذين لا يغسلون أعقابهمِ بالعذاب الشديد يوم القيامة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: وجوب تعليم الجاهل وتنبيهه على خطئه، وتحذيره من التقصير في الواجبات الشرعية سواء كان ذلك عمداً أو سهواً.
ثانياً: أن الفرض في الوضوء هو غسل الرجلين خلافاً لمن يرى أن الفرض مسحها فقط، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنذر الذين يغسلون أرجلهم غسلاً خفيفاً بهذا الوعَيد الشديد، فكيف بمن يمسحونها. ثالثاً: مشروعية رفع الصوت بالعلم لقوله " فنادى بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار ". والمطابقة: في قوله " فنادى بأعلى صوته " إلخ.(1/158)
38- " بَابُ قَوْلِ الْمحَدِّثِ حَدَّثَنَا وَأخبَرنا وأنبأنا "
48- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ مِن الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وِإنَّها مِثْلُ الُمسْلِمِ فَحَدِّثُونِي مَاْ هِيَ؟ فوقَعَ النَّاسُ في شَجَرِ الْبَوَادِي، وَوَقَعَ في نَفسِي أنَها النَّخْلَةُ، فاسْتَحييْتُ ثم قالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهَ؟ قَالَ: " هِي النَّخْلَةُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
38- باب قول المحدث حدثنا وأخبرنا وأنبأنا
48- الحديث: أخرجه الشيخان.
معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طرح يوماً على أصحابه بعض الأسئلة فقال: " إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم " أي هناك شجرة لا يسقط ورقها في الخريف كبقية الأشجار الأخرى وهي تُشْبه المسلم في كثرة خيراتها، وتعدد منافعها، فكما أنَّ المسلم يُنتفَع به في كل شيء، فيكرِم الجار، ويقري الضيف، ويغيث الملهوف، فكذلك هذه الشجرة المباركة ينتفع بكل أجزائها " فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر الوادي " أي فظن الناس أنها من أشجار البادية " ووقع في نفسي أنها النخلة " يعني وخطر في بالي أن هذه الشجرة هي النخلة، لأنها هي التي تدوم خضرتها، ولا يسقط ورقها، ويكثر نفعها، ويستفاد من جميع أجزائها من جذع وثمر، وجريد وليف وغيره، " فاستحييت " أي فمنعني عن الإِجابة توقير غيري من كبار الصحابة " ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة " كما وقع في نفسي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية الحوار والنقاش العلمي وتشبيه(1/159)
39- " بَابُ القِرَاءَةِ والعَرْض على المحدِّثِ "
49- عنْ أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في المَسْجِدِ دَخَلَ رَجُلٌ على جَمَلٍ فأنَاخَهُ في الْمَسْجِدِ، ثُمَّ عَقَلَهُ، ثمَّ قَالَ: أيكُمْ مُحَمَّدٌ، والنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُتَّكِىء بينَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَقُلْنَا: هذا الرَّجُلُ الأبيَضُ الْمُتَّكِىءُ، فَقَالَ لَهُ الرجلُ: ابْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟ فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: قد أجبتُكَ، فقالَ الرَّجُلُ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إِني سَائِلُكَ فَمُشَدِّد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأشياء بنظائرها تحريكاً لعقول الطلبة. ثانياًً فضل النخلة، وكثرة منافعها.
ثالثاً: مشروعية قول المحدث حدثنا، وأنه لا فرق بين حدثنا وأخبرنا وأنبأنا، وسمعت فلاناً وهو مذهب البخاري وذهب آخرون إلى أنه يقول لما سمعه من لفظ الشيخ سمعت أو حدثنا ولما قرأه عليه أخبرنا والأحوط الإِفصاح بالواقع كما أفاده القسطلاني. والمطابقة: في قوله: " حدثنا ما هي ".
39- باب القراءة والعرض على المحدث
قال في المصباح: عرضت الشيء عرضاً، من باب ضرب، والمراد بالعرض هنا قراءة الحديث على الشيخ وهو يسمع.
49- الحديث: أخرجه الستة.
معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " بينما نحن جلوس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد " أي بينما كنا جالسين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجده فوجئنا برجل يدخل راكباً على بعيره، فسار به حتى أناخه داخل المسجد، " ثم عقله " بفتح العين والقاف، أي ثنى ساقه وذراعه وربطهما، وفي رواية ابن عباس رضي الله عنهما: فأناخ بعيره على باب المسجد فعقله ثم دخل، " ثم قال: أيكم محمد؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم - متكىء(1/160)
عَلَيْكَ، فلا تجِدْ عليَّ في نَفْسِكَ، فَقَالَ: سَل عَمّا بَدَا لَكَ، فَقَالَ: أسْألكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ آللهُ أرْسَلَكَ إِلى النَّاس كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: أنشُدُكَ باللهِ، آللهُ أمَرَكَ أنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ في الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: أنشُدُكَ باللهِ آللهُ أمَرَكَ أنْ تَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَنّةَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: أنْشُدُكَ باللهِ آللهُ أمَرَكَ أنْ تَأخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بين ظهرانيهم" أي جالس بين أصحابه مستند إلى وسادة في وسطهم " فقلنا: هذا الرجل الأبيض " أي هو هذا الرجل الأبيض المشرب بحمرة " فقال له الرجل: ابن عبد المطلب " أي فناداه بقوله: يا ابن عبد المطلب " فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أجبتك " أي سمعتك وتهيأت لِإجابتك " فقال: إني سائلك فمشدد عليك " أي سائلك في لهجة شديدة " فلا تجِدْ عليَّ " أي فلا تغضب علي في نفسك فإني لم أقصد الإِساءة إليك " قال سل عما بدا لك " أي اسأل عن كل ما تحتاج إلى معرفته من أحكام الإِسلام وأركانه فسأجيبك عنه.
" فقال أسألك بربك ورب من قبلك " أي أسألك وأستحلفك بربك الذي خلقك وخلق من قبلك من هذا العالم أن تصدُقني الحديث فيما أسألك عنه " آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ " أي هل الله أرسلك إلى الناس جميعاً أو إلى قريش خاصة " فقال: اللهم نعم " أي أقسم بالله واستشهد به علي أن الله أرسلني إلى الناس كافة. " قال: أنشدك " بضم الشين " بالله " أي أسألك بالله ومن سئل بالله فليجب " آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس " بضم النون وفتح الصاد أي هل الله أمرك أن تكلفنا بهذه الصلوات الخمس في كل يوم وليلة " قال: اللهم نعم " أي أقسم على أنّ الله أمرني بذلك. " قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر قال: اللهم نعم ". قال: أنشدك(1/161)
اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِما جئْتَ بِهِ، وأنا رَسُولُ مَنْ وَرَائي مِنْ قَوْمِي، وَأنا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالله آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة " أي الزكاة " فقال: اللهم نعم " أى أقسم على ذلك " فقال الرجل: آمنت بما جئت به " أي فإني منذ الآن أعلن إيماني بما جئت به " وأنا رسول من ورائي من قومي " أي وأنا رسول قومي الموفد إليك من قبلهم لأتلقى منك أركان هذا الدين، وأبلغها لهم " وأنا ضِمام " بكسر الضاد " ابن ثعلبه أخو بني سعد بن بكر " أي من قبيلة بني سعد التي استرضع فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتي منها حليمة السعدية مرضعته - صلى الله عليه وسلم -، وكان قدوم ضمام سنة تسع من الهجرة الذي هو عام الوفود.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن لآخذ الحديث عن المحدث طرقه المتعددة، منها العرض عليه كما في هذا الحديث، فإن ضمام كان يعرض (1) على النبي - صلى الله عليه وسلم - أركان الإِسلام - أي يذكرها واحداً واحداً: والنبي - صلى الله عليه وسلم - يسمعها منه، ويصادق عليها، وهذا هو ما يسمى عند المحدثين بالعرض، قال الحافظ: وهو عبارة عما يعارض به الطالب أصل شيخه معه أو مع غيره بحضرته، وقد كان بعض السلف لا يعتدون إلَّا بما سمعوه من ألفاظ المشايخ، دون ما يقرأ عليهم، ولهذا بوَّب البخاري على جوازه، وأورد فيه قول الحسن البصري: لا بأس بالقراءة على العالم، وكذا ذكر عن سفيان الثوري ومالك موصولاً أنهما سوَّيا بين السماع من العالم والقراءة عليه. ثانياًً: اشتمل الحديث على بيان بعض أركان الإِسلام. ثالثاً: أنه يجوز الاستحلاف على الخبر للتأكد منه. رابعاً: استدل به ابن بطال على طهارة أبوال الإِبل وأرواثها، لأن ضمام أدخل بعيره المسجد، ولا يؤمن أن يبول فيه، فلو كان نجساً لمنعه النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) بكسر الراء يقال عرضَ يعرض، على وزن ضرَب يَضْرِبُ.(1/162)
40- " بَابُ مَا يُذْكَرُ في الْمُنَاوَلَةِ وَكتَابِ أهْلِ الْعِلْمِ بالْعِلْمِ إِلَى الْبُلْدَانِ "
50- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلاً وَأمَرَهُ أنْ يَدْفَعَهُ إلى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إلى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأهُ مَزَّقَهُ، فَحَسِبْتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهو من أقوى أدلة المالكية على طهارتها. والمطابقة: في كون السائل إنما أخذ من النبي - صلى الله عليه وسلم - أركان الإِسلام عن طريق عرضها عليه.
40- باب ما يذكر في المناولة (1) ، وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان
50- الحديث: أخرجه البخاري.
معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بكتابه رجلاً، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين " أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل مع رجل من الصحابة وهو عبد الله بن حذافة كتاباً إلى كسرى ملك الفرس يدعوه فيه إلى الإِسلام، وأمره أن يسلِّم هذا الكتاب إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين ليوصله إلى كسرى " فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى " أي فأوْصله أمير البحرين إلى كسرى ملك الفرس، وهو أبرويز بن هرمز ابن أنوشروان " فلما قرأه مزَّقه " أي فلما قرأ " أبرويز " كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثارت ثائرته وتهدد وتوعد، وقطَّعه " فدعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يمزَّقوا كل ممزَّق " أي فدعا - صلى الله عليه وسلم - على الفرس أن يمزِّق الله شملهم، ويقضي على دولتهم، ويزيل سلطانهم، فاستجاب الله دعاء نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فسلط على
__________
(1) وهو أن يعطى الشيخ الكتاب للطالب، ويقول له: هذا سماعي من فلان، وقد أجزت لك أن ترويه عني.(1/163)
أنَّ ابنَ المُسَيَّب قال (1) : فَدَعَا عَلَيْهِم رَسُولُ اللهِ أنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّق".
51- عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَتَبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - كِتَاباً أوْ أرَادَ أنْ يَكْتُبَ كِتَاباً، فَقِيْلَ لَهُ: إنَّهُمْ لا يَقْرَؤونَ كِتَاباً إلَّا مَخْتُوماً، فَاتَّخَذَ خَاتَمَاً مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ مُحَمَّد رَسُول الله كأنِّى أنْظرُ إِلى بَيَاضِهِ في يَدِهِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" أبرويز " ابنه شيرويه، فطعنه في بطنه، ومزق أحشاءه، ولم تمض سوى سنوات قلائل حتى زال سلطان الفرس نهائياً.
51 - الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاباً أو أراد أن يكتب كتاباً فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتاباً إلَّا مختوماً " أي قال له - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه رضي الله عنهم علِى سبيل المشورة: إنَّ ملوك الأعاجم لا يتراسلون إلَّا بالكتب المختومة توثيقاً وتأكيداً " فاتخذ خاتماً من فضة نقشه: محمد رسول الله " أي فاتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - له خاتماً من فضة مكتوباً عليه محمد رسول الله ليختم به على رسائله، لأنه استحسن ذلك، ورأى حاجته إليه.
ْويستفاد من الحديثين: أولاً: مشروعية المراسلات العلمية ونشر الدعوة الإِسلامية والعلوم الشرعية عن طريق الكتابة إلى الأقطار الأخرى. ولهذا كان من طرق نقل الحديث التي جرى عليها المحدثون، ما يسمى عندهم بالمكاتبة.
وهي كما عرفها ابن الصلاح: أن يكتب الشيخ إلى الطالب وهو غائب شيئاً من حديثه بخطه، أو يكتب له ذلك وهو حاضر، أو يأمر غيره بأن يكتب
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " قوله: فحسبت، القائل هو ابن شهاب الزهرى راوي الحديث، فقصة
الكتاب عنده موصولة، وقصة الدعاء مرسلة، ووجه دلالته على المكاتبة ظاهر ويمكن أن يستدل به على المناولة،
من حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ناول الكتاب لرسوله وأمره أن يخبر عظيم البحرين بأن هذا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يكن يسمع ما فيه ولا قرأه. (ع) .(1/164)
له ذلك عنه، وهي نوعان: أحدهما: أن تتجرد المكتابة عن الإِجازة.
والثاني: أن تقترن بالإِجازة بأن يكتب إليه ويقول: أجزت لك ما كتبته لك، أو ما كتبت به إليك أو نحو ذلك. فأما الكتابة بدون إجازة فقد أجاز الرواية بها كثير من المتقدمين والمتأخرين منهم السختياني والليث بن سعد وبعض الشافعية وجعلها أبو المظفر السمعاني وبعض الأصوليين أقوى من الاجازة ومنع بعض الشافعية الرواية بها، قال ابن الصلاح: والمذهب الأول هو الصحيح المشهور بين أهل الحديث (1) ، وكثيراً ما يوجد في مسانيدهم قولهم: كتَبَ إلَيَّ فلان قالَ: حدثنا فلانٌ، والمراد به هذا. وذهب غير واحد من علماء المحدثين وأكابرهم إلى جواز إطلاق حدثنا وأخبرنا في الرواية بالمكاتبة، والمختار قول من يقول فيها كتب إلي فلان. قال ابن الصلاح: " أما المكاتبة المقرونة بلفظ الإِجازة فهي في الصحة والقوة شبيهة بالمناولة المقرونة بالإجازة. قلت: وتدخل هذه المكاتبة في مضمون حديث الباب، ويدل عليها دلالة مباشرة.
ثانياًً: دل الحديث، على جواز المناولة في الحديث كما ترجم له البخاري، وأقوى أنواعها المناولة المقرونة بالإِجازة، وهي كما عرفها القسطلاني " أن يعطي الشيْخ الكتاب للطالب ويقول له فيه: هذا سماعي من فلان، وقد أجزت لك أن ترويه عنه، اهـ. ولها صور أخرى أيضاً، منها: أن يعير الشيخ الكتاب للطالب لينسخه ويقابل به ثم يعيده للشيخ، أو يعطي الطالب للشيخ الكتاب فينظر فيه الشيخ ويتأمله حتى يتأكد أنه أصل صحيح، وأنه من روايته، ثم يُعيده الشيخ للطالب، ويخبره أنه من روايته، ويأذن له بأن يرويه عنه.
قال فضيلة الشيخ أحمد شاكر: فهذه الصور كلها مناولة مقرونة بالإِجازة، وهي أعلى أنواع الإِجازة. اهـ. واختلف المحدثون في حكمها: هل هي كالسماع فيقال فيها حدثنا وأخبرنا أم لا؟ فذهب الزهري وربيعة ويحيى بن
__________
(1) المقدمة لابن الصلاح.(1/165)
41- "بَابُ مَنْ قَعَدَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ ومنْ رَأى فُرْجَةً في الْحَلْقَةِ فجلَسَ فِيهَا "
52 - عَنْ أبِي وَاقِدٍ اللَّيْثي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي المَسْجِدِ، وَالنَّاسُ مَعَهُ إذْ أقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَاقْبَلَ اثْنَانِ إِلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وذهبَ وَاحِدٌ، فوقَفَا على رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأما أحدُهُمَا فَرَأى فُرْجَةً في الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وأمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ وأمَّا الثَّالِثُ فأدْبَرَ ذَاهِباً، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سعيد الأنصاري ومجاهد والشعبي وعلقمة ومالك وابن وهب وابن القاسم وجماعة آخرون، كما أفاده النووي إلى أن هذه المناولة في القوة كالسماع.
والصحيح المختار كما قال ابن الصلاح: المنع من إطلاق حدثنا وأخبرنا ونحو هذه وأنه لا بد من عبارة تشعر بالمناولة، بأن يقول حدثنا فلان مناولةً، أو إجازةً، وهو الذي عليه الجمهور. ومطابقة الحديثين للترجمة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - كان يوصل كلامه إلى الملوك عن طريق الكتابة.
41- باب من قعد حيث ينتهي به المجلس ومن رأى فرجة في الحلقة فجلس فيها
52- الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي.
ترجمة راوي الحديث: هو أبو واقد الليثي اسمه الحارث، واشتهر بكنيته، أسلَم يوم الفتح، وشهد حنين واليرموك، ثم جاور بمكة، روى أربعة وعشرين حديثاً اتفقا على حديث واحد، وهو هذا، وزاد مسلم حديثاً، توفي بمكة سنة ثمانٍ وثمانين من الهجرة، وعمره خمس وستون سنة.
معنى الحديث: يحدثنا أبو واقد رضي الله عنه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1/166)
اللهَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " ألا أخْبِرُكُمْ عَنُ النَّفَرِ الثلَاَثةِ، أمَّا أحَدُهُمْ فأوَى إلى اللهِ فآواهُ اللهُ، وأما الآخَرُ فاسْتَحْيَا مِنَ اللهِ فاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ، وأمَّا الْآخَرُ فأعْرَضَ فأعرَضَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر" أي عندما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - جالساً في مسجده بين أصحابه، أقبل ثلاثة رجال. والنفر من الثلاثة إلى العشرة من الرجال " فأمّا أحدهم فرأى فرجة في الحلقة " أي فأما الأول منهم فرأى مكاناً خالياً في حلقة النبي - صلى الله عليه وسلم - " فجلس فيها " أي في الحلقة نفسها " وأما الآخر فجلس خلفهم " أي وأما الثاني فلم يجد مكاناً في الحلقة فجلس وراء الجالسين فيها، حيث انتهي به المجلس، " وأما الثالث فأدبر ذاهباً " أي فإنه تولى ذاهباً، ولم يحاول الجلوس خلف الحلقة، " فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة " أي ألا تحبون أن أخبركم عن حال هؤلاء الثلاثة ثم شرع - صلى الله عليه وسلم - في بيان أحوالهم فقال: " أما أحدهم فأوى " بقصر الهمزة " إلى الله فآواه " بمد الهمزة " الله " ومعنى " أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله " أي فأما الأول الذي جلس في نفس الحلقة فإنه قد تقرب إلى الله وانضم إلى حلقة العلم ومجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - فقربه الله إليه، وأدخله في حيّز مرضاته، فإذا كان يوم القيامة آواه الله إلى ظل عرشه، كما أفاده العيني " وأما الآخر فاستحيا من الله " أي وأما الثاني الذي لم يجد مكاناً في الحلقة " فجلس خلفهم " أي فإنه قد منعه الحياء من الله عن مزاحمه غيره فجلس حيث ينتهي به المجلس، " أستحيا الله منه " وقبل عذره وأشركه مع أهل تلك الحلقة في فضلهم وثوابهم، لأنه تعالى حيي كريم لا يمنع فضله وجوده عمّن منعه الحياء من الله تعالى عن مضايقة غيره مع حرصه على العلم ورياض جناته، فشمله فضل ذلك المجلس، وسعد بمجالسة أهله،(1/167)
42- " بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعَى مِنْ سَامِع "
53- عن أبي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَعَدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى بَعِيرِهِ، وأمسكَ انْسَان بِخِطَامِهِ أو بِزِمَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: أيُّ يَوْم هذَا؟ فسكتنَا حتى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيْهِ سوى اسْمِهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أليْس يَوْمَ النَّحْرِ، قُلْنَا بَلَى، قَالَ: فأيُّ شَهْرٍ هذَا؟ فَسَكَتنا حتَّى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْر اسْمِهِ، فَقَالَ: أليْس بذي الْحِجَّةِ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وأمْوَالَكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فإنهم هم القوم لا يشقى بهم جليسهم. " وأما الآخر " وهو الذي انصرف ولم يجلس " فأعرض فأعرض الله عنه " أي فإن كان قد انصرف كارهاً فقد باء بسخط الله وغضبه، وإن كان له عذره فقد حُرِمَ من شرف ذلك المجلس وثوابه.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن من آداب المجالس العلمية وغيرها أن يجلس القادم حيث ينتهي به المجلس، ويشمل ذلك النوادي الأدبية والمساجد والمجتمعات العامة أو الخاصة، كما ترجم له البخاري، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثنى على من جلس خلف الحلقة ولم يزاحم غيره. ثانياًً: أن مجالس العلم هي مجالس الخير ورياض الجنة، من جلس إليها كان في كنف الله تعالى، وفاز برضوانه، وآواه الله إليه. ثالثاً: أنه يستحب لمن وجد فرجة في الحلقة أن يجلس فيها. والمطابقة: في قَوله وأما الآخر فجلس خلفهم.
42- باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ربَّ مبلغ أوعى من سامع "
53- الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
معنى الحديث: يقول أبو بكرة رضي الله عنه " قعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على بعيره " يوم النحر بمنى في حجة الوداع " وأمسك إنسان " وهو بلال رضي(1/168)
وأعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرامٌ كحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا في شَهْرِكُمْ هَذَا في بَلَدِكُمْ هَذَا، لِيُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فإنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أوْعَى له مِنْهُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الله عنه " بخطامه أو بزمامه، ثم قال: أي يوم هذا؟ فسكتنا " لأنَّه سأل عن شيءٍ لا يجهله أحد، فظنوا أنه أراد غيره، " فظننا أنه سيسميه سوى اسمه " المعروف لدينا " قال: أليس يوم النحر! قلنا: بلى " هو كما ذكرت " قال: فأي شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: أليس بذي الحجة؟ قلنا: بلى " هو كما ذكرت " قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام " أي فإن حقوق كل واحد منكم أيها الناس من دم أو مال أو عرض محرمة على أخيه في جميع الأديان السماوية " كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا " أي إن الله حرم هذه الحقوق الإِنسانية، كما حرم القتال في هذا اليوم من هذا الشهر في هذا البلد منذ خلق السموات والأرض، وإنما شبه تحريم حقوق الإنسان هذه بحرمة يوم النحر في شهر ذي الحجة في هذا البلد الأمين لأن تحريمه كان ثابتاً عند العرب راسخاً في قلوبهم، بخلاف حقوق الإنسان، فإنهم كانوا يجهلونها، ويتهاونون فيها في الجاهلية، فشبه لهم هذه بهذه لتأكيد حرمتها. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " ليبلغ الشاهد الغائب " فأمرهم أن لا يكتفوا بسماع حديثه هذا والعمل به فقط، بل عليهم أيضاً أن يقوموا بتبليغه وروايته إلى غيرهم، فليبلغ الحاضر منهم الغائب، ويروي له حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا، ليبقى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موجوداً في أمته تتداوله الأجيال جيلاً بعد جيل إلى قيام الساعة ولتؤخذ منه المسائل، وتستنبط الأحكام الفقهية على مر الأزمان والعصور " فإن الشاهد عسى أن ييلغ من هو أوعى منه " أي فإنَّ راوي الحديث قد يبلغه إلى من هو أفقه وأقدر على استنباط الأحكام الشرعية منه.(1/169)
43- " بَابُ مَا كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَخوَّلُهُمْ بالموْعِظَةِ وَالعِلْم كَي لا يَنْفِرُوا "
54- عنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَوَّلُنَا بالْمَوْعِظَةِ في الأيامِ، كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية التبليغ ورواية الحديث، وشرف هذا العلم، وأهله، ورحم الله السيوطي إذ يقول:
مَنْ كَانَ مِنْ أهلِ الحَدِيْثِ فَإنهُ ... ذُوْ نَضْرَةٍ في وَجْهِهِ نُورٌ سَطَعْ
إِنَّ النبيَّ دَعَا بِنَضْرِةِ وَجْهِ مَنْ ... أدَّى الحَدِيْثَ كَمَا تَحَمَّل وَاتَّبّعْ
يشير رحمه الله إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - "نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيرهُ ". ثانياً: تقرير حقوق الإِنسان وأنَّها محرمة على أخيه الإِنسان مطلَقاً بصرف النظر عن دينه ومذهبه وعنصره وجنسيته، فلا يجوز الاعتداء عليها بحال من الأحوال، ولم تشرع الحدود الشرعيّة إلَّا لصيانة الدين والنفس والمال والعرض والنسب والعقل، وحماية هذه الحقوق الانسانية كلها، كما هو مقرر في أصُول التشريع الإِسلامي. ثالثاً: أن العلم بالحديث شيء والفقه فيه شيءٌ آخر، فقد يروي المحدث، إلى من هو أفقه منه، وقد يكون المحدث غير فقيه. والمطابقة: في قوله " فإن الشاهد عسى أن يُبلِّغ من هو أوعى منه ".
43 - باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا
54 - الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي أيضاً.
معنى الحديث: يقول ابن مسعود رضي الله عنه: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بالموعظة في الأيام " أي كان - صلى الله عليه وسلم - من شدة حرصه على انتفاع أصحابه(1/170)
55- عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يَسِّروا ولَا تعَسِّروا وبَشِّروا ولَا تُنَفِّرُوا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
واستفادتهم من وعظه وإرشاده لا يكثر عليهم من ذلك، وإنّما يتعهدهم بالموعظة في بعض الأيام دون بعض، ويتحرى الأوقات المناسبة التي هي مظنة استعدادهم النفسي لها، وإنما كان يقتصر على الوقت المناسب " كراهة السآمة علينا " أي خوفاً على نفوسنا من الضجر والملل، الذي يؤدي إلى استثقال الموعظة وكراهتها ونفورها، فلا تحصل الفائدة المرجوة، وقد قال الشاعر:
إِنّما تَنْفَعُ المَقَالَةُ في المَرْءِ ... إِذا صَادَفت هُوىً في الفُؤَادِ
والمطابقة: في قوله: يتخولهم بالموعظة.
55 - الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
معنى الحديث: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بأمرين، يتوقف على الأول منهما استقامة الإِنسان في ذات نفسه، وعلى الثاني نفعه لغيره، ونهى عن ضدهما، لما يؤدي إليه من نتائج عكسية.
أمّا الأمر الأول الذي يرتبط به صلاح الإِنسان واستقامته فهو التيسير، وضده التعسير، وفي هذا يقول - صلى الله عليه وسلم - " يسروا " أي خففوا على أنفسكم بممارسة الأعمال التي تطيقونها، والاقتصاد والتوسط في نوافل العبادات والطاعات من صيام وقيام ونحوه، فأتوا منها ما استطتعم، مع المحافظة على الحقوق البدنية والنفسية والاجتماعية من طعام وشراب ولباس ونوم وراحة وزوجة وولد وغيرها، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن لبدنك عليك حقاً، وإنّ لنفسك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك -أي ضيفك- عليك حقاً " " ولا تعسروا " أي لا تشددوا على أنفسكم بتكليفها ما لا تطيق من العبادات والطاعات، وإهمال حقوق الجسد والروح وحقوق الأهل والولد(1/171)
44- " بَابٌ مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خيراً يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ "
56- عنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وغيرها، فإن ذلك يؤدي إلى نتيجة عكسية وخيمة العاقبة، وهي السآمة والملل المؤدي إلى كراهية الأعمال الصالحة، ثم إلى كراهية الدين نفسه. أما الأمر الثاني فهو التبشير الذي يتوقف عليه نجاح الموعظة وانتفاع الغير بها، وضده المبالغة في الترهيب والتخويف، المؤدي إلى النفور، وفي هذا يقول - صلى الله عليه وسلم - " وبشروا " أي بشروا المؤمنين بفضل الله وثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته، كما أفاد القسطلاني " ولا تنفروا " الناس بالإكثار من أحاديث الترهيب وأنواع الوعيد. والمطابقة: في قوله " ولا تنفروا ".
ويستفاد من الحديثين: أولاً: استحباب اختيار الأوقات المناسبة للموعظة، وعدم الإكثار منها، ليستفيد بها السامعون، لأن الإكثار منها يُمِلُّهم وينفرهم. ثانياً: أن من السنة الاقتصاد في نوافل الطاعات والعبادات من صيام وقيام وإعطاء النفس حقوقها الطبيعية حتى تقبل على الطاعة في شوق ورغبة فتكون أجدى لها وأكثر نفعاً. ثالثاً: حث المرشدين على تبشير الناس وترغيبهم، وفتح أبواب الأمل والرجاء أمامهم حتى يقبلوا على ربهم في حب ورغبة، ويحسنوا الظن به، مع الاجتهاد في العمل، والاخلاص فيه، فإن حقيقة الرجاء أن يقترن الأمل بحسن العمل. وإلَّا فهو أماني باطلة، لا تجدي صاحبها شيئاً.
44- باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين
56- الحديث: أخرجه الشيخان وأحمد وابن ماجه.
ترجمة راوي الحديث: هو معاوية ابن أبي سفيان القرشي الأموي، أسلم مع أبيه يوم الفتح، وظهرت عليه النباهة منذ صغره، نظر إليه أبوه وهو غلام(1/172)
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ في الدِّيون، وإنَّما أنَا قَاسِمٌ، واللهُ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي، وَلَنْ تَزَالَ هِذِهِ الأمَّةُ قائِمَةً على أمْرِ اللهِ لَا يَضُرَّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يأتِيَ أمْرُ اللهِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقال: إن ابني هذا لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه فقالت أمه هند: قومه فقط! ثكلتْهُ أمه إن لم يسد العرب قاطبة، تولى الإِمارة عشرين سنة، والخلافة مثلها، وقال فيه عمر رضي الله عنه: هذا كسرى العرب روى (163) حديثاً انفرد البخاري بثمانية، ومسلم بخمسة، وتوفي سنة 60 من الهجرة.
معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من يرد الله به خيراً " أي خيراً عظيماً، ونفعاً كثيراً، فإن التنكير للتعظيم " يفقهه في الدين " أي يمنحه العلم الشرعي الذي لا يدانيه خير في هذا الوجود في فضله وشرفه، وعلو درجته، لأنه ميراث الأنبياء، الذي لم يُورِّثُوا غيره " وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم ". وللفقه في لسان الشرع معنيان، معنىً خاص: وهو معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بالعبادات والمعاملات والجنايات والأحوال الشخصية. ومعنىً عام: وهو معرفة علوم الدين من توحيد وتفسير وحديث وفرائض وأحكام، وهو المراد هنا " وإنما أنا قاسم " أي وإنما أنا مجرد قاسم للعلوم الشرعية، ومبلغ لها، أبلغها وأنقُلها إليكم عن ربكم " والله عز وجل يعطي " أي والله وحده هو الذي يعطي الحفظ والفهم من يشاء وعلى قدر ما يشاء " ولن تزال هذه الأمة " أي لا تزال طائفة من المسلمين " قائمة على أمر الله " أي ثابتة على دينه إلى قيام الساعة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن العلم الشرعي أشرف العلوم إطلاقاً، لعلاقته بالله. ثانياً: أن الفقه في الدين موهبة ربانية يختلف الناس فيها وكذلك كل الملكات الإِنسانية. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث.(1/173)
45- " بَابُ الْفَهْمِ في الْعِلْمِ "
57 - عنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
كُنَّا عِنْدَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فأتِيَ بِجُمَّارٍ، فَقَالَ: "إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُسْلِمِ، فَأرَدْتُ أنْ أقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ، فَإِذَا أرنا أصْغَرُ الْقَوْمِ، فَسَكَتُّ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "هِيَ النَّخْلَةُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
45 - " باب الفهم في العلم "
أراد البخاري هنا أن يثبت بالأحاديث الصحيحة أن الفهم قدر زائد على العلم الذي هو مطلق الإدراك، لأنه قوة ذهنيَّة يتوصل بها إلى استنباط الأشياء الدقيقة التي قد يصل إليها الفهم ولا يصل إليها العلم.
57- معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتي بجمّار فقال: إن من الشجر شجرة مثلها مثل المسلم " بفتح الميم والثاء أي أن هناك شجرة غريبة بين الأشجار الأخرى، تشْبه المسلم في صفاته الطيبة، وفي رواية " إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة " إلخ " فأردت أن أقول: هي النخلة فإذا أنا أصغر القوم: فسكت " أي فنظرت إلى الحاضرين من أجلاء الصحابة وشيوخهم، فوجدت نفسي أصغرهم سناً، فسكت عن الجواب حياءً وتكريماً وتوقيراً لكبار السن منهم. " قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هي النخلة " وأجاب بما توقعت وإنما عرف ابن عمر أن تلك الشجرة هي النخلة من " الجُمّار " الذي أهدي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله " فأردت أن أقول هي النخلة ".
ويستفاد منه: أن الفهم قدر زائد على العلم، وأنه قوة ذهنية يتوصل بها صاحبها عن طريق الاستنباط إلى ما لا يتوصل إليه غيره من العلماء، كما(1/174)
46- "بَابُ الاغْتِبَاط في الْعِلْمِ"
58 - عَن ابنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا حَسَد إلَّا في اثْنَتَيْنِ، رَجُل آتَاهُ اللهُ مَالاً فسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ في الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
استنبط ابن عمر من قرينة الجمّار الذي أهدي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الشجرة المسؤول عنها هي النخلة، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما طرح هذا السؤال بعد إهدائه الجمّار الذي هو رأس النخلة، فدلّ على أنها هي.
46 - " باب الاغتباط في العلم "
58- معنى الحديث: يشير النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا إلى أن الحسد أنواع مختلفة فمنه حَسَدٌ مذموم محرم شرعاً، وهو أن يتمنى المرء زوال النعمة عن أخيه، وحسد مباح وهو أن يرى نعمة دنيوية عند غيره فيتمنى لنفسه مثلها، وحسد محمود مستحب شرعاً، وهو أن يرى نعْمةً دينية عند غيره فيتمنّاها لنفسه. وهو ما عناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " لا حسد إلاّ في اثنتين " أي أن الحسد تختلف أنواعه وأحكامه حمسب اختلاف أنواعه ولا يكون محموداً مستحباً شرعياً إلاّ في أمرين: "رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته (1) في الحق " أي الأمر الأول أن يكون هناك رجل غني تقي، أعطاه الله مالاً حلالاً، فأنفقه فيما ينفعه وينفع غيره ويرضي ربه من وجوه الخير، فيتمنى أن يكون مثله، ويغبطه على هذه النعمة. " ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها " أي والأمر الثاني: أن يكون هناك رجل عالم، أعطاه الله علماً نافعاً يعمل به: ويعلمه لغيره، ويحكم به بين الناس فيتمنى مثله.
__________
(1) هلكته بفتح الهاء واللام كما أفاده القسطلاني.(1/175)
47- " بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: اللَّهُمَّ عَلّمْهُ الْكِتَابَ "
59- عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
ضَمَّنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ: " اللَّهُمَّ علِّمْهُ الْكِتَابَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويستفاد منه: أن من الحسد ما هو مشروع، وليس بحرام، وهو الغبطة.
ومعناها: أن يرى المرء نعْمة عند غيره فيتمنى مثلها، فإن كانت الغبطة في أمر دنيوي من صحة أو قوة أو مركز أو ولد فهي مباحة، وإن كانت في أمر ديني كالعلم النافع أو المال الصالح فهي مستحبة شرعاً. والمطابقة: في قوله " ورجل آتاه الله الحكمة " إلخ. الحديث: أخرجه الشيخان وأحمد وابن ماجة.
47 - " باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللهم علمه الكتاب "
59 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " ضمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إلى صدره أي طوقه بذراعيه، ووضع صدره على صدره تعبيراً عن محبته له، وشفقته عليه، وإيناساً لقلبه، وتبريكاً له بملامسة جسده الشريف ليحصل على العلم النافع، الذي يتفوق به على غيره، ثم أتبع ذلك بالدعاء له " وقال: اللهم علمه الكتاب " أي علمه القرآن حفظاً وفهماً وتفسيراً وتأويلاً وفقهاً وأحكاماً فاستجاب الله دعاءه.
ويستفاد من الحديث مما يأتي: أولاً: فضل ابن عباس رضي الله عنهما، وتميزه عن غيره بهذا الدعاء المبارك، الذي استجاب الله فيه دعوة نبيه، فأصبح ابن عباس رضي الله عنهما مضرب الأمثال، وبحر العلوم، وحَبر الأمة، وترجمان القرآن، وتفوق في الفقه على من هم أكثر منه حديثاً وروايةً حتى قال ابن القيم: أين تقع فتاوى ابن عباس واستنباطاته من فتاوى أبي هريرة، وهو أحفظ منه إلاّ أنه يؤدي الحديث كما سمعه. ثانياً: مشروعية الضم والمعانقة(1/176)
48- " بَاب متَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ "
60- عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
أقْبَلْتُ رَاكِبَاً على حِمَارٍ أرتانٍ، وأرنا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلَامَ، وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بِمِنَىً إلى غَيْرِ جِدَارٍ فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْض الصَّفِّ، وأرْسَلْتُ الأتَانَ تَرْتَعُ، فَدَخَلْتُ في الصَّفِّ، فلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَي".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عند المناسبات، ومنها استقبال المسافر فإنه مما يشرع المعانقة عنده. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجه. والمطابقة: في كون الترجة جزءاً من الحديث.
48 - " باب متى يصح سماع الصغير "
60 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " أقبلت راكباً على حمار أتان " بفتح الهمزة والتاء أي على حمار أنثى " وأنا قد ناهزت الاحتلام " أي وأنا غلام كنت قد قاربت البلوغ ولم أبلغ بعد، وكان عمره رضي الله عنهما في ذلك الوقت ثلاث عشرة سنة " ورسول الله يصلّي بمنى إلى غير جدار " أي إلى غير سترة من جدار أو غيره " فمررت بين يدي بعض الصف (1) " أي فمررت وأنا راكب حماري أمام بعض صفوف المصلين في حين أن إمامهم وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - لا سترة له " فلم ينكر ذلك علي " أي فلم ينكر أحدٌ علي مروري هذا. الحديث: أخرجه الستة.
__________
(1) وفي رواية الترمذي: كتب رديف الفضل على أتان فجئنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه بمنى. فنزلنا عنها فوصلنا الصف، فمرت بين أيديهم، فلم تقطع صلاتهم. قال أبو عيسى: حديث حسن صحيح قال والعمل عليه عند أكثر أهل العلم، قالوا: لا يقطع الصلاة شيء، وبه يقول سفيان وأبو حنيفة.(1/177)
61- عنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيع رضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
عَقَلْتُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَجَّةً مَجَّهَا في وَجْهِي وأنا ابْنُ خَمْسِ سِنين مِنْ دَلْوٍ".
49 - " بَابُ فضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ "
62 - عَنْ أبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
61 - معنى الحديث: يقول محمود بن الربيع رضي الله عنه:
" عقلت من النبي - صلى الله عليه وسلم - مجة مجها في وجهي " أي حفظت في ذاكرتي رشة من الماء رشها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فمه في وجهي "وأنا ابن خمس سنين " أي وأنا حينئذ صبي صغير لم أتجاوز الخامسة من عمري. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي وابن ماجة.
ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: جواز سماع الصغير وتحمله الحديث إذا كان متمكناً من ضبطه، ولا يشترط البلوغ، لأن السلف قبلوا رواية ابن عباس وابن الربيع مع صغر سنهما. ثانياًً: أن مرور الحمار بين يدي المصلي لا يقطع الصلاة، لأن ابن عباس مر أمام بعض الصف بحماره، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بغير سترة، ولم يأمرهم - صلى الله عليه وسلم - بالإِعادة. مطابقة الحديثين للترجمة: في قبول أهل العلم لحديث ابن عباس وابن الربيع وهما صغيران.
49- " باب فضل من عَلِم وعَلّم "
62- معنى الحديث: شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا العلم الشرعي المستمد من كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بغيْث عميم، ومطر غزير، نزل على أنواع مختلفة من الأرض في جدبها وخصبها، " فكان منها نقية " أي فكان البعض(1/178)
كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أصَابَ أرْضاً، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّة قَبِلَتِ الْمَاءَ، فأنبهتَتِ الْكَلأ وَالْعُشْبَ الكَثِير، وكانَتْ مِنْهَا أجَادِبُ، أمْسَكَتْ الْمَاءَ، فَنَفعَ اللهُ بهَا النَّاسَ، فَشرَبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أخْرَى، إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَاتُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلأ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ في دِين اللهِ وَنَفَعَهُ ما بَعَثَنِي بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بذَلِكَ رَأسَاً ولَمْ يَقْبَل هُدَى اللهِ الذي أرْسِلْتُ بِه".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
منها أرضاً خصبة نقيّة من الحشرات والديدان، التي تفتك بالزرع. " قبلت الماءَ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير " أي شربت مياه الأمطار، فأنبتت النبات رطباً ويابساً، فاستفادت في نفسها نضرةً وجمالاً، وأفادت الإِنسان والحيوان غذاءً وكساءً. " وكانت منها أجادب " أي وكان بعضها أرضاً صلبة مجدبة، لا تنبت زرعاً، ولكن فيها غدْرَانٌ " أمسكت الماء " فكانت بمثابة خزانات ضخمة، حفظت الماء، وأمدت به غيرها " فنفع الله بها الناس، فسقوا " مواشيهم " وشربوا " " منها ما يرويهم " وزرعوا " أي وحولوا الماء إلى أرض خصبة فزرعوها، فهي وإن لم تنتفع بالغيث في نفسها، إلاّ أنها نفعت غيرها من الإنسان والحيوان. " وأصاب منها طائفة أخرى " أي وأصاب ذلك الغيث نوعاً آخر من الأرض " إنما هي قيعان " أي أرض مجدبة مستوية لا غدران فيها " لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ " أي فهي لا تحفظ الماء لاستواء سطحها، ولا تنبت العشب لجدبها وصلابتها فلم تنتفع بذلك الغيظ في نفسها، ولم تنفع غيرها فهي شر أقسام الأرض وأخبثها. ثم بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - لنا في بقية الحديث هذه الأمثلة ووضّحها لنا بقوله: " فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم " أي فتلك (1) الأرض الخصبة النقية هي
__________
(1) وذلك لأن اسم الإشارة يعود إِلى صنفين من الأرض هما: النقية، والأجادب.(1/179)
مثل العالم المتفقه في دين الله العامل بعلمه المعلم لغيره، وتلك الأجادبُ التي تحفظ الماء لغيرها هي مثل العالم الذي يعلم غيره، ولا يعمل بعلمه، فهو كالشمعة تضيء لغيرها. وتحرق نفسها " ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به " أي وأمّا القيعان التي لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فإنها مثل لصنفين من الناس: أولهما: المسلم الجاهل، أو المسلم العالم الذي لم يعمل بعلمه، ولم يعلمه غيره، وهو المقصود بقوله: " من لم يرفع بذلك رأساً ". وثانيهما: الكافر الذي لم يدخل في الدين أصلاً وهو المعني بقوله: " ولم يقبل هدى الله ". الحديث: أخرجه الشيخان.
ويستفاد ما يأتي: أولاً: أن الناس ازاء هذا العلم الشرعي والاستفادة منه على أربعة أقسام: عالم عامل معلّم لغيره، وهو أشرف الأقسام، ومن ورثة الأنبياء، وعالم يعلّم غيره ولا يعمل بعلمه، فهذا ينفع الناس ولا ينفع نفسه، ويكون علمه حجة عليه، ومسلم جاهل أو عالم لا يعلم غيره، ولا يعمل بعلمه، هذا شرٌ ممن سبق، وكافرٌ لم يدخل في هذا الدين أصلاً فهذا هو أخبث الأقسام وشرها وأشقاها. ثانياً: فضل من علم وعمل وعلّم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبهه بخير أجزاء الأرض وأشرفها وأزكاها وهي " الأرض النقية ".
والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ".
***(1/180)
50- " بَابُ رَفْعِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ "
63- عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ مِنْ أشْرَاطِ السَّاعَةِ أنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزنَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
50- " باب رفع العلم وظهور الجهل "
63- معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن من أشراط (1) الساعة" أي من علامات قرب قيام الساعة " أن يرفع العلم " على مراحل متعددة فيرفع أولاً " العلم النافع المقترن بالعمل الصالح "، حتى لا يبقى منه إلاّ كلمات تتردد على ألسنة العلماء، لا أثر لها في سلوكهم وتصرفاتهم الشخصية، وقد جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر يوماً رفع العلم فقيل له: كيف يذهب العلم وقد قرأنا القرآن وأقرأناه أبناءَنا ونساءَنا؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: " هذه التوراة والإنجيل عند اليهود فما تغني عنهم ". وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: لو شئت أخبرتك بأولي علم يرفع من الناس: " الخشوع " يزول هذا، فيتهاون الناس به ولا يعملون بمقتضاه لا حملة العلم ولا غيرهم، ويبقى علم اللسان حجة عليهم. ثم يذهب علم اللسان، فلا يبقى محدث ولا مفسر: إنما هي الكتب في المكتبات، ثم يرفع العلم كله من الكتب والقلوب معاً " ويثبت الجهل ". أي ويتمكن من الناس، ويفشو بينهم "ويشرب الخمر، ويظهر الزنا " أي ويكثر الزنا وشرب الخمور كنتيجة حتمية لارتفاع العلم وانتشار الجهل وزوال الخشية من القلوب. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي أيضاً.
والمطابقة: في قوله " أن يرفع العلم ويثبت الجهل ".
__________
(1) أشراط جمع شرط بفتح الشين والراء.(1/181)
64- وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
لأحَدِّثَنَّكُمْ حَديثاً لا يُحَدِّثُكُمْ أحدٌ بَعْدِي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ مِنْ أشْرَاطِ السَّاعَةِ أن يَقِلَّ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا وَتَكْثُرَ الِّنسَاءُ، وَيَقلَّ الرِّجَالُ، حَتَّى يَكُون، لِخَمْسِينَ امْرَأةٍ القَيِّمُ الوَاحِدُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
64- معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " لأحدثنكم حديثاً " أي أقسم بالله لأحدثنكم حديثاً بالغ الأهمية " لا يحدثكم أحد بعدي " أي أنفرد بهذا الحديث وحدي فلا يحدثكم به من أهل البصرة أحدٌ بعد وفاتي لأنه كان آخر من مات بالبصرة من الصحابة كما أفاده الحافظ " سمعت رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن من أشراط الساعة أن يقل العلم " أي يقل العلم الشرعي في هذه الأرض لكثرة موت العلماء كما في حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء " " ويظهر الجهل " أي وينشر الجهل في الناس " وتكثر النساء ويقل الرجال " أي يتضاعف عدد النساء بالنسبة إلى عدد الرجال الذين تفنيهم الحروب الدامية، وقيل: تكثر النساء بسبب كثرة الفتوح والسبايا " حتى يكون للخمسين امرأة القيم الواحد " أي حتى لا تجد الخمسون امرأة سوى رجل واحد يكفلهن ويعولهن ويقوم بشؤونهن. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله " يقل العلم ".
ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: أن من علامات الساعة رفع العلم الشرعي، وقلة وجوده، وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًً: أن من علامات الساعة انتشار الفاحشة كنتيجة حتميّة لكثرة وجود النساء غير المتزوجات، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر: " إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلَّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ".(1/182)
51- " بَابُ فضلِ الْعِلْمِ "
65- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " بَيْنَا أنا نَائمٌ أتِيْتُ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ حَتَّى إِنِّي لأرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ في أظْفَارِي، ثُمَّ أعطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ " قَالُوا: فَمَا أولْتَهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " الْعِلْمَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
51- " باب فضل العلم "
65- معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " بينا أنا نائم أتيت بقدح من لبن " أي رأيت في أثناء نومي شخصاً جاءني بقدح من لبن " فشربت حتى اني لأرى الري يخرج في أظفاري " أي فشربت وارتويت كثيراً حتى صرت كأني أرى اللبن بعيني يخرج من أصابعي، ويسيل على أظفاري من شدة الري، فالري هنا المراد به اللبن على سبيل الاستعارة " ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب " أي أعطيته ما تبقى مني فشربه " دلوا: فما أولته؟ قال العلم " (1) أي فسرت اللبن بالعلم، لأن العلم كما قال القاري: يصور في ذلك العالم الروحاني بصورة اللبن، بمناسبة أن اللبن أول غذاء البدن وسبب صلاحه، والعلم أول غذاء الروح وسبب صلاحها.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: فضل العلم وشرفه. وأهميته بالنسبة للإِنسان، لأنه أفضل غذاء لروحه، كما أن اللبن أفضل غذاء لبدنه. ولأنه ميراث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي تبقى لنا من بعده، ولذلك فُسِّر به اللبن الذي تبقى منه وشربه عمر رضي الله عنه. ثانياً: فضل عمر رضي الله عنه وتفوقه في
__________
(1) يجوز فيه النصب والرفع معاً كما أفاده الحافظ.(1/183)
52- " بَابُ الفُتْيا وهوَ وَاقِفٌ علَى الدَّابَّةِ وَغَيْرِهَا "
66- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عمرِو بنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وقَفَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ بِمِنىً لِلنَّاسِ يَسْألونَهُ، فجَاءَهُ رَجُل فقالَ: لمْ أشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قبلَ أنْ أذْبَحَ؟ فَقَالَ: اذْبَحْ ولا حَرَجَ. فجاءَ آخَرُ فَقَالَ: لمْ أشْعُرْ فنَحَرْتُ قَبْلَ أن أرْمِيَ فَقَالَ: ارْمِ ولا حَرَج.
فما سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ شَيءٍ قُدِّمَ ولا أُخِّرَ إلَّا قَالَ: افْعَلْ وَلا حَرَج ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
علوم الشريعة، لأنّه نَهِلَ من ذلك اللبن الذي شرب منه النبي - صلى الله عليه وسلم - فدل ذلك على اختصاصه وامتيازه بقدرٍ زائدٍ من العلم، والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - فسر اللبن الذي بقي منه بالعلم، فدل ذلك على فضل العلم.
52- " باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها "
66- معنى الحديث: يحدثنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه " أي وقف - صلى الله عليه وسلم - على راحلته عند الجمرة بعد الزوال من يوم النحر في ذلك المشهد العظيم والجم الغفير يسأله الحجاج ويستفتونه فيما يحتاجون إليه من أحكام الحج، " فجاءه رجل فقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح " أي غفلت ونسيت فخالفت الترتيب بين المناسك، فقدمت الحلق على الذبح " فقال: اذبح ولا حرج " أي لا إثم عليك ولا دم، " فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي " جمرة العقبة " قال: ارم ولا حرج، فما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -(1/184)
53- " بَابُ مَنْ أَجَابَ الْفُتْيَا بإشَارَةِ الْيَدِ وَالرَّأس "
67- عَن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يُقْبَضُ الْعِلْمُ وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ وَالْفِتَنُ، ويَكْثُرُ الْهَرْجُ، قيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْهَرْجُ؟ فقَالَ: هَكَذَا بِيَدِه فَحَرَّفَهَا، كأنَّهُ يُرِيدُ الْقَتْلَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عن شيء قدم ولا أخر إلاّ قال: افعل ولا حرج" أي لا إثم ولا دم عليك. ويستفاد منه يأتي: أولاً: جواز سؤال العالم راكباً أو ماشياً أو واقفاً، وهو ما ترجم له البخاري لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن المناسك وهو راكب على بعيره. ثانياًً: أن الترتيب بين أعمال يوم النحر (1) سنة لا واجب، وسيأتي تفصيله في الحج. ثالثاً: أنه يستحب لمن يتصدى للفتوى أن يتحرى الأماكن العامة الحافلة بالناس، ليتمكن من أداء واجبه على الوجه الأكمل. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع للناس يسألونه ".
53- " باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس "
67- معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " يقبض العلم " أي من علامات الساعة أن يرفع العلم بموت العلماء "ويظهر الجهل والفتن " التي تصيب الناس في دينهم حتى يصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر " ويكثر الهَرْج " بسكون الراء " قيل: يا رسول الله وما الهرج؟ فقال: هكذا يده فحرفها " أي حركها " كأنه يريد القتل " أي فلما سئل - صلى الله عليه وسلم - عن معنى الهرْج حرك يده - صلى الله عليه وسلم - كالضارب يشير بذلك إلى أن معناه القتل
__________
(1) وهي رمي جمرة العقبة والنحر والحلق.(1/185)
68- عَنْ أسْمَاءَ بنتِ أبِي بكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ أتيتُ عَائِشَةَ وهِىَ تُصَلِّي فَقُلتُ: مَا شَأنُ النَّاس؟ فأشَارَتْ إلى السَّمَاءِ، فإذَا النَّاسُ قِيَامٌ، فَقَالَتْ سُبْحَانَ اللهِ! قُلْتُ: آيَةٌ؟ فَأشَارَتْ بِرَأسِهَا، أيْ نَعَمْ، فَقُمْتُ حتَّى عَلَانِيَ الغَشْيُ، فَجَعَلْتُ أصُبُّ على رأسِي الْمَاءَ، فَحَمِدَ اللهَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وسفك الدماء. يعني ويكثر في الناس القتل وسفك الدماء وتنتشر الحروب والمعارك الدامية. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله " فقال هكذا بيده فحركها ".
68 - ترجمة راوية الحديث: هي أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أخت عائشة من أبيها، وأم عبد الله بن الزبير، ولدت قبل الهجرة بسبع وعشرين عاماً، وهاجرت إلى المدينة بعبد الله، روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (56) حديثاً اتفقا على أربعة عشر، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بأربعة، وتوفيت بمكة سنة (73) هـ بعد أن عاشت مائة عام.
معنى الحديث: تقول أسماء رضي الله عنها " أتيت عائشة وهي تصلي فقلت ما شأن الناس فأشارت إلى السماء " أي جئت إلى عائشة رضي الله عنها وهي تصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الجماعة في غير الأوقات المعتادة للصلوات الخمس، فأثار ذلك انتباهي، وأحسست أن شيئاً قد حدث، فقلت لعائشة: ما بال الناس يصلون جاعة في غير وقت الفريضة، فأشارت بيدها إلى السماء، إشارة معناها انظري إلى السماء تعرفين سبب هذه الصلاة، وهو كسوف الشمس. " فقالت سبحان الله " أي فلما أشارت بيدها إلى السماء، قالت: سبحان الله لتنبِّهني إلى ما حدث بالتسبيح والإِشارة معاً " قلت: آية؟ " أي هذا الكسوف آية من آيات الله يخوف الله بها عباده " فأشارت برأسها أي نعم " أي فأشارت إشارة تفسيرُها نعم " قمت حتى علاني الغشي "(1/186)
النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأثْنَى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ: مَا مِنْ شَىءٍ لَمْ أكنْ أرِيتُهُ إلَّا رَأيْتُهُ في مَقَامِي هَذَا، حَتَّى الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فأوْحَى اللهُ إليَّ أنكُمْ تُفْتَنُونَ في قُبُورِكُمْ مِثْلَ أوْ قَرِيبَاً مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، يُقَالُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فأمَّا الْمُؤْمِنُ أو الْموْقِنُ لا أدْرِي بأيَّهُمَا قَالَتْ أسْمَاءُ فَيَقُولُ: هُو مُحمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، جَاءَنَا بالبَيِّناتِ والْهُدَى، فأجَبْنَاهُ واتَبّعْنَاهُ، هُوَ محمدٌ ثَلَاثاً، فَيُقَالُ: نَمْ صَالِحاً (1) ، قَدْ عَلِمْنَا إنْ كُنْتَ لَموقِنَاً بِهِ، وأمَّا الْمُنَافِقُ أو المُرْتَابُ لا أدْرِي أي ذلِكَ قَالَتْ أسْمَاءُ فَيقُولُ: لا أدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئَاً فَقُلْتُهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بفتح الغين وسكون الشين أو بكسر الشين وتشديد الياء، أي فدخلت معهم في الصلاة فوقفت وقوفاً طويلاً حتى أصابتني غشاوة، وهي حالة مرضية تحدث عادةً بسبب طول في الوقوف في شدة الحر " فجعلت أصب على رأسي الماء " لتخفيف الحرارة " فحمد الله وأثنى عليه " أي فلما فرغ من صلاته خطب خطة بليغة بدأها بحمد الله والثناء عليه " ثم قال: ما من شيء لم أكن أريته إلاّ رأيته في مقامي هذا " أي ما هناك شيء لم يسبق لي رؤيته والاطلاع عليه إلاّ رأيته في مكاني وزماني هذا " حتى الجنة " بالرفع على أنه مبتدأ وخبرُه محذوف تقديره حتى الجنة مرئية مكشوفة أمامي " فأوحى الله إليّ أنكم تفتنون في قبوركم " بسؤال الملكين " مثل أو قريياً من فتنة المسيح الدجال " أي فتكون فتنة القبر شديدة تشبه فتنة الدجال أو تقرب منها " يقال: ما علمك بهذا الرجل؟ " المشار إليه وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - أي ماذا تعرف عنه؟
" فأمّا المؤمن أو الموقن فيقول: هو محمد رسول الله " أي فأما من كان في دنياه مؤمناً موقناً حقاً، فإن الله يثبته بالقول الثابت، ويلهمه الجواب
__________
(1) قوله ثم صالحاً أبي صالحاً للتكريم وإهلاله.(1/187)
54 - " بَابُ الرِّحْلَةِ في الْمَسألَةِ النَّازِلَةِ "
69 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصحيح رغم هول الموقف، ووحشة القبر، وإبهام السؤال، فيعرف من هو المشار إليه، ويجيب عنه، وإن لم يصرَّحْ باسمه، فيقول: هو محمد رسول الله وذلك هو مصداق قوله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) قال البَرَاءُ المراد بالحياة الدنيا المساءلة في القبر، وبالآخرة المساءلة في القيامة. وقال القفال وجماعة: " في الحياة الدنيا " أي في القبر لأن الموتى في الدنيا إلى أن يبعثوا، وفي الآخرة، أي عند الحساب اهـ.
فإذا سئل المؤمن في القبر، وقيل له: ما علمك بهذا الرجل؟ قال: هو محمد رسول الله " جاءنا بالبينات " أي بالآيات القرآنية الواضحة " والهدي " أي وأرشدنا إلى الدين القويم " وأمّا المنافق والمرتاب " أي المتردد " فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته " أي لم أكن على يقين من نبوته وإنما وافقت الناس على قولهم ظاهراً. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قول الراوي " فأشارت برأسها أي نعم ".
ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن انتشار الفتن في آخر الزمان والحروب بين المسلمين، وأن ذلك نتيجة حتمية لارتفاع العلم، وظهور الجهل. ثانياًً: إثبات سؤال القبر للمؤمن والمنافق والكافر (1) . ثالثاً: الإِجابة عن الفتيا بإشارة اليد والرأس كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الأول، وكما فعلت عائشة في الثاني.
54 - " باب الرحلة في المسألة النازلة "
69 - ترجمة الراوي وهو عقبة بن الحارث القرشي أسلم رضي الله عنه
__________
(1) ودليله قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح " وأما المنافق والكافر فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل "(1/188)
أنَّه تَزَوَّجَ ابْنَةً لَأبِي إهَابِ بْنِ عَزيزٍ، فأتَتْهُ امْرأة فقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أرْضَعْتُ عُقْبَةَ والتي تَزَوَّجَ بِهَا، فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ، ما أعْلَمُ أَنكِ أرْضَعْتِنِي، ولا أخْبَرْتِنِي، فَرَكِبَ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمَدِيْنَةِ، فَسَألهُ فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: كَيْفَ وقَدْ قِيْلَ، ففارقَهَا عُقْبَةُ، ونَكَحَتْ زَوْجَاً غَيرهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يوم الفتح، وسكن مكة، أخرج له البخاري، ولم يخرج له مسلم.
معنى الحديث: يحدثنا عقبة رضي الله عنه عن نفسه " أنه تزوج ابنةً لأبي إهاب بن عزيز " أي أنه تزوج بنت هذا الرجل، واسمها غَنِية. بفتح الغين العجمة وكسر النون، " فأتته امرأة " أي فأتته امرأة مُرْضعة " فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج بها " أي فأخبرته بأن المرأة التي تزوجها هي أخته من الرضاعة، لأنّها أرضعتهما معاً " فقال: ما أعلم أنك أرضعتني " أى فاعتذر بأنه لا علم له بذلك " فركب إلى رسول الله بالمدينة فسأله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فكيف وقد قيل " أي كيف تباشرها، وقد قيل بأنها أختك من الرضاعة " ففارقها " اتقاءً للشبهات، أو لفساد النكاح.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب اتقاء الشبهات لأن عقبة إنما فارق هذه المرأة ورعاً واتقاءً للشبهات، وإلّا فشهادة المرأة الواحدة لا تكفي عند الجمهور، خلافاً لأحمد، فإنه قال: تكفي شهادة المرضعة ولو كانت وحدها.
ثانياً: مشروعية الرحلة في طلب العلم، كما فعل عقبة رضي الله عنه، وقد قال الشعبي: لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن لحفْظِ كلمة تنفعه فيما بقي من عمره لم أر سفره يضيع، ويحكى عن ابن الأعرابي اللغوي المشهور أنه رأى في مجلسه رجلين أحدهما من سنجاب على حدود الصين والثاني من الأندلس، وكان يحيى بن سعيد يسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي والنسائي. مطابقته(1/189)
55- " بَابُ التَّنَاوُبِ في طَلَبِ الْعِلْمِ "
70 - عنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ أنا وَجَارٌ لي من الأنْصَارِ في بَنِي أمَيَّة بْن زَيْدٍ، وهيَ مِنْ عَوالِي الْمدِينَةِ، وكُنَّا نتَنَاوبُ النُّزولَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يَنْزِلُ يَوْمَاً وَأنْزِلُ يَوْماً، فإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وإذا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَنَزَلَ صَاحِبي الْأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ، فَضَربَ بَابِي ضَرْباً شَدِيداً، "فَقَالَ: أثَمَّ هُوَ؟ ففَزِعْتُ، فخَرَجْتُ إِليْهِ، فقَالَ: قَدْ حَدَثَ أمْرٌ عَظِيْم، قَالَ: فدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فإِذَا هِيَ تَبْكِي، فَقُلْتُ: طَلَّقَكُنَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟
ـــــــــــــــــــــــــــــ
للترجمة: في قوله: فركب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة.
55- " باب التناوب في طلب العلم "
70- معنى الحديث: يقول عمر رضي الله عنه: " كنت أنا وجار لي من الأنصار " وهو عتبان بن مالك رضي الله عنه " في بني أمية بن زيد " أي نسكن في هذه القبيلة التي تقع منازلها بالعالية " وكنا نتناوب النزول على رسول الله " أي ينزل مرة وأنزل مرة، لأنّ ظروف العمل لا تمكن كل واحد منا من الذهاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخذ العلم منه يومياً " فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته فضرب بابي ضرباً شديداً " أي فلما رجع من المدينة دق الباب بشدة على خلاف عادته، " ففزعت " أي فخشيت أن يكون قد وقع مكروه، لأنهم كانوا يتوقعون هجوماً مفاجئاً من ملك غسان " فقال حدث أمر عظيم " فسأله عمر: هل جاءت غسان، فقال عتبان: أعظم من ذلك، طلّق رسول الله نساءه، " فدخلت على حفصهٌ فإذا هي تبكي " أي فنزلت المدينة فوجدت حفصة تبكي " ثم دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - " وكان معتزلاً في مشربة بفتح(1/190)
قَالَتْ: لَا أدرِي، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقلْتُ وأنا قَاِئمٌ: أطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ قَالَ: لا. فَقُلْتُ اللهُ أكبَرُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الميم وسكون الشين وضم الراء، أي في غرفة صغيرة، وقال عمر في رواية فانطلقت، فأتيت غلاماً أسود فقلت: استأذن لعمر قال: فدخل، ثم خرج فقال: قد ذكرتك فلم يقل شيئاً، فانطلقت إلى المسجد، فإذا حول المسجد نفر يبكون، فجلست إليهم، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام واسمه رباح، فقلت: استأذن لعمر، فدخل، ثم خرج إليَّ قال: قد ذكرتك له فلم يقل شيئاً، فانطلقت إلى المسجد فجلست ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام، فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إلي فقال: ذكرتك له فلم يقل شيئاً، قال: فوَلَّيت منطلقاً، فإذا الغلام يدعوني، فقال: ادخل فقد أذن لك، قال: فدخلت فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - متكىء على حصيره، فرأيت أثره في جنبه " فقلت وأنا قائم: أطلقت نساءك؟ قال: لا فقلت: الله أكبر " أي فاطمأنت نفسه، وجاشت مشاعره بهجة وسروراً، فكبر من شدة الفرح.
ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: عناية الصحابة رضي الله عنهم بأخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وأخبار المسلمين عامة، سيما أخبار الوحي الإِلهي، وما ينزل به من الشرائع والأحكام، بدليل قول عمر رضي الله عنه " فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره ". ثانياً: الترغيب في طلب العلم، والحرص على حضور مجالسه مهما كانت الظروف، فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تكن تمنعهم أعمالهم عن حضور هذه المجالس، حتى أن عمر كان يتناوب مع جاره الأنصاري الحضور إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لسماع حديثه، وأخذ العلم عنه، فهذا يدل على مشروعية التناوب في العلم لأصحاب الأعمال كما ترجم له البخاري. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي والترمذي.
والمطابقة: في قوله " كنا نتناوب النزول ... إلخ ".(1/191)
56- " بَابُ الْغَضَبِ في الْمَوْعِظَةِ والتَّعْلِيمِ إذا رَأى مَا يَكْرَهُ "
71- عنْ أَبِي مُوسَى الأشْعَرِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: " سُلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ، قَالَ رَجُلٌ: مَنْ أبِي؟ قَالَ: أَبوكَ حُذَافَةُ، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أبيْ يا رسول الله، فقَالَ: أبوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ، فلَما رأى عُمَرُ مَا في وَجْهِهِ، قَال: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نَتُوبُ إلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
56 - " باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره "
71 - معنى الحديث: يقول أبو موسى رضي الله عنه: " سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أشياء كرهها " أي كره السؤال عنها لعدم فائدته دينياً ودنيوياً، بل قد تنجم عنه مضرة للسائل أو لغيره " فلما أُكثِرَ " بضم الهمزة وسكون الكاف وكسر الثاء والبناء للمجهول. أي فلما أكثر الناس عليه من هذه الأسئلة التي لا تتعلق بها فائدة شرعية " غضب " لأن من العبث السؤال الذي لا فائدة فيه ولأنهم كانوا يسألونه عن بعض المغيبات والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبعث لذلك، وإنما بعث لبيان الشرعيات من العقائد والأحكام " ثم قال: سلوني عما شئتم " أي فسوف أجيبكم عما تسألون عنه، ولكن ليس هذا من مصلحتكم " قال رجل من أبي " وكان يقصد من وراء سؤاله هذا أن يتأكد من صحة نسبه المعروف عند الناس " قال: أبوك حذافة " فنسبه إلى أبيه الذي يعرف به بين الناس " فقام آخر فقال: من أبي يا رسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: أبوك سالم " فنسبه إلى أبيه الشرعي المعروف به " فلما رأى عمر ما في وجهه قال: يا رسول الله إننا نتوب إلى الله " من هذه الأسئلة التي أغضبتك، والتي قد(1/192)
57- " بَابُ مَنْ أعَادَ الْحَدِيثَ ثَلَاثاً لِيُفْهَمَ عَنْهُ "
72 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - أنَهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أعَادَهَا ثَلَاثاً حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ، وِإذَا أتى عَلى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِم، سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثَاً".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تنشأ عنها مضرة، كأن يكون السائل منسوباً إلى غير أبيه، فيفتضح أمره بسبب هذا السؤال مثلاً.
ويستفاد من هذا الحديث ما يأتي: أولاً: أن من حق العالم أن يغضب على السائل إذا سأل عما فيه مضرة، أو لا يتناسب مع الموضوع، فلا ينبغي للطالب أن يخرج من موضوع لآخر أو يسأل في موضوع الدين عن أمور لا علاقة لها به، قال في فيض الباري: وإنما غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - لكونه بعث لتعليم الشرائع، فجعل بعضهم يسألونه عن المغيبات. قلت: وأيضاً لأن كثرة هذه الأسئلة قد تؤدي إلى أجوبة تسيء إلى سمعة السائل أو غيره، فما كل مرة تسلم الجرة. ثانياًً: فضل عمر رضي الله عنه ودقة ملاحظته. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله فلما أكثر عليه غضب.
57 - " باب من أعاد الحديث ثلاثاً ليفهم عنه "
72- معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً " أي إذا تكلم بالجملة (1) من القول أعادها ثلاث مرات " حتى تفهم عنه " أي من أجل أن يفهمها المخاطبون ويستوعبوا معناها، لأنّ التكرار أعْوَن على الحفظ (2) وقد قال الشاعر:
__________
(1) فالمراد بالكلمة هنا الجملة قال ابن مالك: وكلمة بها كلام قد يؤم.
(2) فيض الباري للشيخ محمد أنور الكشميري ج 1.(1/193)
58- " بَابُ تعْلِيمِ الرَّجُلِ أمَتَة وَأهْلَه "
73 - عَنْ أبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْة قَالَ:
قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " ثَلَاثَةٌ لَهمْ أجْرانِ، رَجُلٌ من أهْلِ الكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وآمَنَ بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، والْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إذا أدَّى حَقَّ اللهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَة أَمَةٌ يَطَؤُهَا، فَأدبَها فَأحْسَنَ تَأدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أمَا تَرَى الحَبْلَ لِتِكرَارِهِ ... في الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ قد أثَّرا
" وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلّم ثلاثاً " الأوْلى قبلِ الدخول للاستئذان، والثانية بعد الدخول تحية والثالثة عند الخروج وداعاً.
ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: أن من أصول التربية التعليمية في الإِسلام إعادة الجملة ثلاث مرات لكي يستوعبها الطالب فإن كان حديثاً نبوياً فمن السنة إعادته ثلاثاً، لأن الثلاثة غاية ما يقع به البيان والأعذار كما قال ابن بطال، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يداوم على ذلك عملياً لكي تقتدي به أمته، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يسرد الكلام سرداً وإنما يأتي به كلمة كلمة، فلو اقتصر على مرة واحدة لكفت، ولكن مع ذلك كان يكرر ثلاثاً ليكون أسوةً لغيره.
ثانياً: مشروعية السلام ثلاثاً، كما أوضحناه. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي. والمطابقة: في قوله رضي الله عنه " إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً ".
58 - " باب تعليم الرجل أمته وأهله "
73 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاثة لهم أجران " أي ثلاثة أصناف من البشر يضاعف لهم الأجر مرتين " رجل من أهل الكتاب " أي من اليهود والنصارى " آمن بنبيه " الذي أرسل إليه سابقاً، وهو موسى(1/194)
فَأحْسَنَ تَعْلِيمَها، ثمَّ أعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أجْرَانِ".
59 - " بَابُ عِظَةِ الإِمَامِ النِّسَاءَ وتعْلِيمِهنَّ "
74 - عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ وَمَعَهُ بِلَال، فَظنَّ أنهُ لَمْ يُسْمِع النِّسَاءَ، فوعَظَهُنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو عيسى عليهما الصلاة والسلام، " وآمن بمحمد " عندما بلغته دعوته، فله أجران، أجر على إيمانه بموسى أو عيسى، وأجر على إيمانه بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، " والعبد المملوك إذا أدّى حق الله " أي قام بعبادة الله تعالى وأدى ما يكلفه به سيده على أحسن وجه فله أجران أيضاً. " ورجل كانت عنده أمة " أي جارية مملوكة " يطؤها " أي كان يجامعها بحق ملكيته لها. " فأدبها " أي فرباها تربية صالحة "وعلمها " أركان دينها وأحكام شريعتها " ثم أعتقها فتزوجها فله أجران " أجر على تعليمها وعتقها، وأجر على نكاحه لها. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي أيضاً.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: فضل هؤلاء الأصناف الثلاثة، وكونهم تضاعف أجورهم. ثانياًً: فضل تعليم الأمَةِ وهو ما ترجم له البخاري.
والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ورجل عنده أمة فأدبها فأحسنَ تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها ".
59- " باب عِظة الإِمام النساء وتعليمهن "
74- معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس، رضي الله عنهما " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج ومعه بلال فظن أنه لم يُسْمِع النساء " أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بينما كان يعظ أصحابه، خطر بباله أن صوته لم يصل إلى مسامع النساء لجلوسهن خلف الرجال بالمصلى في عيد الفطر، فخرج من بين صفوف الرجال حتى(1/195)
وأمَرَهُنَّ بالْصَّدَقَةِ، فجَعَلَت الْمَرْأةُ تُلْقِي الْقُرْطَ والخَاتَمَ، وبِلال يَأْخُذُ في طَرَفِ ثَوْبِهِ.
60- " بَابُ الْحِرْص على الْحَدِيثِ "
75- عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قِيْلَ يا رَسُول اللهِ مَن أسْعَدُ النَّاس بشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَقَدْ ظَنَنْتُ يا أبَا هُرَيْرَةَ أنْ لَا يَسْألنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أحَدٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التقى بهن " فوعظهن " وذكّرهن الجنة والنار، ونبههن إلى بعض الخطايا التي تقع منهن، " وأمرهن بالصدقة " قائلاً: تصدقن، فإني أريتكنّ أكثر أهل النار وذلك لأنّ الصدقة تطفىء غضب الرب " فجعلت المرأة تلقي القرط " أي تتصدق بالقرط وهو الحلق " والخاتم، وبلال يأخذ في طرف ثوبه " أي يجمع هذه الحلي والصدقات لتدفع لمستحقيها.
ويستفاد منه: كما قال النووي: استحباب وعظ الإِمام النساء، وتذكيرهن بالآخرة وأحكام الإِسلام، وحثهنّ على الصدقة إذا لم يترتب على ذلك مفسدة.
الحديث: أخرجه الخمسة، ولم يخرجه الترمذي. والمطابقة: في قوله " فوعظهن ".
60 - " باب الحرص على الحديث "
75 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه " قيل: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك " أي من الذي يسعد يوم القيامة بشفاعتك، ويفوز بها دون غيره من البشر، وهل هي للناس جميعاً مؤمنهم وكافرهم؟ أم هي خاصة بالمؤمنين فقط "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد ظننت(1/196)
أوَّلَ مِنْكَ لِمَا رَأيتُ مِنْ حِرْصِكِ عَلَى الْحَدِيثِ، أسْعَدُ النَّاس بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ خَالِصاً مِنْ قَلْبِهِ أو نفسه".
61- " بَابٌ كَيْفَ يُقْبَض الْعِلْمُ "
76 - عنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بقَبْض الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِم، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوساً جُهَّالاً، فسُئِلُوا فَأفتَوْا بِغَيْرِ عِلْم، فَضَلُّوا وأضلوا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يا أبا هريرة أن لا يسألني (1) عن هذا الحديث أحد أول منك " أي قبلك " لما رأيت من حرصك على الحديث " أي بسبب ما رأيت من حرصك على أخذ الحديث " أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلاّ الله خالصاً من قلبه أو نفسه " أي إنما يفوز بشفاعتي يوم القيامة من نطق بالشهادتين معتقداً معناهما، عاملاً بمقتضاهما " إجمالاً " ولو كان عاصياً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: الترغيب في أخذ الحديث وحفظه، والثناء على أبي هريرة رضي الله عنه بذلك. ثانياًً: أن شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - تختص بالمؤمنين يوم القيامة. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في قوله " لما رأيت من حرصك على الحديث ".
61 - " باب كيف يقبض العلم "
76 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنّ الله لا يقبض العلم
__________
(1) يجوز في " يسأل " النصب على أن " أن " مصدرية، والرفع على أنها مخففة من الثقيلة.(1/197)
انتزاعاً ينتزعه من العباد" أي إن الله لا يرفع العلم من الناس بإزالته من قلوب العلماء ومحوه من صدورهم، أو برفع الكتب العلمية من الأرض " ولكن يقبض العلم بقبض العلماء " أي ولكنه يرفع العلم بموت العلماء " حتى إذا لم يبق عالم " وفي راوية: لم يُبْقِ عالماً، أي إذا مات أهل العلم الحقيقي، ولم يبق هناك أحد منهم، وصل الجهلاء إلى المراكز العلمية التي لا يستحقونها من تدريس وإفتاء ونحوه، " واتخذ الناس رؤوساً جهالاً " أي وجعل الناس من الجهلاء وأدعياء العلم علماء يسألونهم كما جاء في رواية أخرى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اتخذ الناس رؤساء جهالاً " " فسئلوا " عن الحلال والحرام وأحكام العبادة والمعاملة " فأفتوا بغير علم " أي فأفتوا الناس على جهل، فأحلوا الحرام وحرّموا الحلال، " فضلوا " في ذات أنفسهم عن الحق " وأضلوا " من اتبعهم وأخذوا بفتواهم من عامة الناس. الحديث: أخرجه الخمسة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: التحذير الشديد من الجرأة على الفتوى بغير علم، لما في ذلك من إضلال الناس، فإن المفتي الجاهل يتحمل وزر من أضلّه، بالإِضافة إلى وزره هو، ويدخل في مصداق قوله تعالى: (وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم) . ثانياًً: تحذير ولاة الأمور من تعيين الجهلاء في المناصب الدينية لهذا الحديث، وقد قال محمد بن سيرين من التابعين: " إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم ". ثالثاً: أن موت العالم خسارة عظيمة، لأنَّ العلم يرفع بموت العلماء. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة.
***(1/198)
62- " بَابٌ هَلْ يَجْعَلُ لِلنِّسَاءِ يَوْمَاً عَلَى حِدَةٍ في الْعِلْمِ "
77 - عَن أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَتِ "النِّسَاءُ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ، فاجْعَلْ لَنَا يَوْمَاً مِنْ نَفْسِكَ، فوَعَدَهُنَّ يَوْماً لَقِيَهُنَّ فِيهِ فَوَعَظَهُنَّ، وأمَرَهُنَّ فكَانَ فيما قَالَ لَهُنَّ: مَا مِنْكُنَّ امْرأةٌ تُقَدِّمُ ثَلَاثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَاباً مِنَ النَّارِ، فَقَالَتْ امْرأةٌ فيْهُنَّ: واثْنَيْنِ؟ فَقَال: واثْنَيْنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
62 - "باب هل يجعل للنساء يوماً على حدة في العلم "
77 - معنى الحديث: يقول أبو سعيد رضي الله عنه " قالت النساء
للنبي - صلى الله عليه وسلم - غلبنا عليك الرجال " أي شغلك عنا الرجال الوقت كله، فأصبحنا لا نجد وقتاً نلقاك فيه ونسألك عن ديننا، لملازمتهم لك سائر اليوم " فاجعل فما يوماً من نفسك " أي فاجعل لنا يوماً خاصاً نلقاك فيه ونأخذ عنك العلم " فوعدهن يوماً " أي فخصص النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً معيناً " فكان فيما قال لهن " في ذلك اليوم " ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها " أي ليسِ منكن امرأة يموت لها ثلاثة من أولادها ذكوراً أو إناثاً فتقدمهم للدار الآخرة قبلها " إلاّ كان لها حجاباً " أي إلاّ كان مصابها فيهم وقاية لها من النار " فقالت امرأة منهن: واثنين؟ فقال: واثنين " أي وكذلك من تقدم اثنين.
ويستفاد منه مما يأتي: أولاً: عظم أجر المصيبة في الولد، وكونه لا جزاء لها إلاّ الجنة، فمن فقد ثلاثة أو اثنين وصبر نجا من النار بنص هذا الحديث وكذلك من فقد واحداً، لما جاء في حديث أبي هريرة في الرقاق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احْتسبه إلاّ الجنة. ثانياًً: أنه ينبغى للعالم أن يجعل يوماً للنساء، إذا لم(1/199)
63- " بَابُ مَنْ سَمِعَ شَيْئَاً فَرَاجَعَهُ حَتَّى يَعْرِفَهُ "
78 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ (1) : " مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ " قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ الله عنها: أوَلَيْسَ يَقُولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابَاً يَسِيراً) فقال: " إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلَكَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يترتب على ذلك مفسدة، كما ترجم له البخاري. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله " فوعدهن يوماً ".
63 - " باب من سمع شيئاً فراجعه حتى يعرفه "
78 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من حوسب عذب " أي أن كل من حاسبه الله يوم القيامة فلا بد أن يناله شيء من العذاب، لأن الحساب إنما هو مناقشة للعبد في أخطائه، وتوقيفه على جميع ذنوبه، واستقصاء لكل سيئاته، وللعذاب معنيان: أحدهما: نفس المناقشة والثاني ما يفضي إليه من دخول النار. " قالت " عائشة رضي الله عنها: " أوليس يقول الله عز وجل (فسوف يحاسب حساباً يسيراً) " أي فكيف تقول " من حوسب عذب " وقد قال تعالى: (فأمّا من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً) " فقال: إنما ذلك العرْض " بسكون الراء أي إنما ذلك الحساب اليسير شيء آخر وهو العرض، ومعناه تذكير المؤمن على انفراد بأخطائه مع تطمينه بالعفو عنه، كما في الصحيح " إن الله يدني عليه كنفه - أي ستره ويقول له: فعلت كذا وكذا - ثم يطمئنه
__________
(1) اعتمدت في اختصار هذا الحديث على مختصر البخاري المسمى " بالتجريد الصريح " للزبيدي.(1/200)
64- " بَاب لِيُبْلِّغِ الْعِلْمَ الشَّاهِدُ الغائِبُ "
79- عَن أبي شُرَيْحٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْفَتْحِ يَقُولُ قَولاً سَمِعَتْهُ أذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ (1) حِيْنَ تَكَلَّمَ بِهِ، حَمِدَ اللهَ وَأثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بعد هذا العتاب الرقيق فيقول له: سترت عليك في الدنيا، وأنا أغفر لك اليوم " ولكن من نوقش الحساب يهلك " أي يعذب لا محالة ويتعرض للهلاك ودخول النار.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن من حق طالب العلم أن يسأل فيما اشكل عليه، وأن يراجع كما فعلت عائشة رضي الله عنها، وعلى العالم أن يقابل مراجعته برحابة صدر، وأن يجيبه كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثانياًً: أن الحساب نوعان، حساب مناقشة وهو عسير وشديد، ولا يخلو من العذاب، وحساب عرض ومعاتبة، وهو حساب يسير لا عذاب فيه. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قول عائشة يقول الله: (فسوف يحاسب حساباً يسيراً) .
64 - " باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب "
79 - ترجمة راوى الحديث: هو أبو شريح بفتح الراء خويلد بن عمرو الخزاعي، أسلم رضي الله عنه قبل فتح مكة، وكان من عقلاء المدينة، وذوي الرأي فيها، روى عشرين حديثاً اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديث. توفي سنة ثمان وثمانين من الهجرة.
معنى الحديث: يقول أبو شريح رضي الله عنه: "سمعت رسول الله
__________
(1) أي وشاهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيني وهو ينطق به.(1/201)
قَالَ: إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللهُ، ولَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلا يَحِلُّ لامْرِىءٍ يُؤْمِنُ باللهِ والْيَوْمِ الآخِرِ أنْ يَسْفِكَ بِهَا دَماً، ولا يَعْضِدَ بهَا شَجَرَةً، فإن أحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقولُوا: إنَّ اللهَ قَدْ أذنَ لِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَأذَنْ لَكُمْ، وِإنَّمَا أذنَ لي فيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بالأمْس، وَلِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح يقول قولاً سمعته أذناي، ووعاه قلبي " أي سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً تلقيته منه بإنصات كامل وعناية تامة، وقلب حاضر، حفظه ورسخ فيه، وحواه كما يحوي الوعاء مما وضع فيه، وذلك لما لهذا القول من الأهمية البالغة. " حمد الله " أي استهل النبي - صلى الله عليه وسلم - كلامه هذا أو خطبته البليغة بالثناء على الله تعالى " ثم قال: إن مكة حرّمها الله تعالى " أي حرمها بنفسه، وفي محكم كتابه حيث قال في سورة الحج: (والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء) وقال أيضاً: (قل إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها) " فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً " أي لا يجوز فيها القتال وإراقة الدماء، ولا يحل للمؤمن أن يفعل ذلك " ولا يعضد بها شجرة " بفتح الياء وسكون العين وكسر الضاد أي ولا يقطع فيها شجرة من الأشجار البرية التي تنبت بنفسها، " فإن أحدٌ ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي فإن استباح أحد القتال في مكة مستدلاً على ذلك بقتال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها يوم الفتح " فقولوا له: إن الله قد أذن لرسوله - صلى الله عليه وسلم - " أي فقولوا له لا حجة لك في قتال الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمكة، لأن قتاله هذا كان رخصة استثنائية خاصة به - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله قد أحل له القتال فيها ذلك اليوم، وأذن له فيه " ولم يأذن لكم " أي ولم يحل لكم القتال فيها أبداً " إنما أذن لي " بالقتال فيها " ساعة من نهار " أي في وقت محدود وجزء معين من يوم الفتح، وذلك(1/202)
من طلوع الشمس إلى العصر. كما في حديث ابن عمر. " وليبلغ الشاهد الغائب " ومعناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر كل من حضر ذلك المجلس أن يبلغ حديثه هذا لمن غاب عنه، ويرويه لغيره حتى يصل إلى مسامع أكبر عدد ممكن من المسلمين. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي.
ويستفاد منه ما يأتي:
أولاً: وجوب تبليغ الدعوة، ورواية حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعليمه للناس. قال ابن بطال: إن كان من خاطبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بتبليغ العلم ممن كان في زمنه، فالتبليغ عليه متعين - أي فرض عين، يجب على كل من سمع حديثاً منه أن يرويه لغيره، وأمّا من كان بعده فالتعليم عليهم فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين. فالحديث أصل في رواية السنة وتبليغها، وإن لم يكن المحدث عالماً بشرحها، فقيهاً في معانيها وأحكامها، لأن المحدث لا يلزم منه أن يكون فقيهاً، ولكن عليه أن يروي الأحاديث التي حفظها لغيره، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " ربَّ مبلَّغ أوعى من سامع " وقال في حديث آخر: " رب حامل فقه ليس بفقيه " فإن جمع المحدث بين الرواية والفقه فهو نور على نور. ثانياً: تحريم القتال في مكة، وسفك الدماء فيها، وقطع أشجارها، والاصطياد من صيدها، وسيأتي إيضاح ذلك. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ليبلغ الشاهد الغائب "، وإن شئت قلت: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
***(1/203)
65- " بَابُ إِثْمَ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - "
85 - عَنْ عَلِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "لا تَكْذِبُوا عَلَيَّ، فَإِنَّ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلجَ النَّارَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
65 - " باب إثم من كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - "
80 - ترجمة راوي الحديث: هو الإِمام علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي، الخليفة الراشد، أمير المؤمنين رضي الله عنه، وابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وزوجٍ ابنته فاطمة رضي لله عنها أمُّهُ فاطمة بنت أسد، أول هاشمية ولدت هاشمياً، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنت أخي في الدنيا والآخرة، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأول خليفة هاشمي، وهو أول من أسلم من الصبيان، ولد قبل البعثة بعشر سنين وتربى في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفارقه، وشهد المشاهد كلها إلاّ تبوك، حيث استخلفه - صلى الله عليه وسلم - على المدينة، وكان فارس الإسلام، وأحد الشجعان المعدودين، بارز " مرحب " يوم خيبر وقتله، وتم الفتح على يديه، ولي الخلافة سنة خمس وثلاثين هـ بعد عثمان رضي الله عنه، واغتاله عبد الرحمن بن ملجم، حيث ضربه الخبيث بسيفه ضربة قاتلة وصلت إلى دماغه، فتوفي منها ليلة الأحد التاسع عشر من رمضان سنة أربعين من الهجرة. روى (586) حديثاً اتفقا منها على عشرين وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر حديثاً رضي الله عنه.
معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا تكذبوا عليّ " أي لا تنسبوا إليّ أيَّ حديث لم يصدر عني، ولا تخبروا عني بخلاف الواقع، فتقولوا: قال، أو فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً لم أقله ولم أفعله، ولا تفتروا علي بالأحاديث(1/204)
81- عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَع رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَن يَقُلْ عَلَىَّ مَا لَمَْ أقُل فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الموضوعة سواء كان ذلك في الخير أو الشر، بسوء نية أو بحسن نية، " فإن من كذّب علي "عامداً متعمداً " فليلج النار " فقد وجب عليه دخول النار، وأمر الله ملائكته بإدخاله إليها، ومتى صدر الأمر الإِلهي بشيءٍ فهو واجب الوقوع، نافذ المفعول لا محالة. قال الحافظ: أو هو بلفظ الأمر، ومعناه الخبر ويؤيده رواية مسلم بلفظ: من يكذب عليَّ يلج النار، فلا بد له من النار ما لم يغفر الله له. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي.
81 - ترجمة راوي الحديث: هو " سلمة " بفتح السين واللام ابن الأكوع الأسلمي المدني شهد بيعة الرضوان، وكان شجاعاً رامياً عدّاءً يسبق الخيل، قال رضي الله عنه: رأيت الذئب قد أخذ ظبياً فطلبته حتى نزعته منه فقال: ويحك مالك عمدت إلى رزق رزقنيه الله تعالى ليس من مالك تنتزعه مني فقلت: يا عباد الله إن هذا لعجب! ذئب يتكلم، فقال: أعجب منه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصول النخل يدعوكم إلى عبادة الله وتأبون إلّا عبادة الأوثان، فلحقت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلمت (1) روى (77) حديثاً اتفقا منها على ستة عشر، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بتسعة، وتوفي بالمدينة سنة أربع وسبعين هـ.
__________
(1) ذكر قصة سلمة بن الأكواع هذه ابن عبد البر في الاستيعاب عن ابن إسحاق، وأجدها عند ابن إسحاق عن سلمة وإنما عن راعٍ من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رقم (432) و (435) وقد رواها أحمد في المسند (3 /83 و84) والحاكم في المستدرك (3/ 467 و468) من حديث أبي سعيد الخدري عن راعٍ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وهو كما قالاه. (ع) .(1/205)
82- عَنْ أبِي هرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "تَسَمَّوْا بِاسْمِي، ولا تَكْتَنوا بِكنْيَتي، وَمَنْ رَآنِي في الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فإِنَّ الشيطَانَ لَا يَتَمَثَّل في صورَتِي، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ متَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَأ مَقْعَدَه مِنَ النّارِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
معنى الحديث: يقول سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من يقل علي ما لم أقل " أي من ينسب إليّ قولاً لم أقله، أو فعلاً لم أفعله " فليتبوأ مقعده من النار " أي فليستعد لدخول النار التي اتخذ لنفسه فيها منزلاً. الحديث: أخرجه البخاري. وهو أول حديث ثلاثي وقع في صحيح البخاري. وسنده هكذا: حدثنا المكي بن إبراهيم، حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: تحريم الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً، وهو كبيرة باتفاق أهل العلم، وقد ذهب أحمد والحُمَيدي وابن الصّلاح إلى أنّه لو كذب في حديث واحد، فسق، ولم تقبل توبته، والمختار كما قال النووي: قبول توبته. والصحيح أنه كبيرة مطلقاً سواء كان في الأحكام أو في الترغيب أو الترهيب ولا يبرره حسن النية والقصد، بأن يقال: فعلت ذلك للدعوة إلى الخير، فإن في الأحاديث الصحيحة ما يغني عن الأحاديث الموضوعة. ثانياًً: أنه يجب على راوي الحديث أن يعرف من النحو ما يمكّنه من النطق الصحيح، قال الأصمعي: أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في قوله - صلى الله عليه وسلم - " من كذب علي متعمداً ". مطابقة: الحديثين للترجمة في قوله: " فليلج النار " وقوله " فليتبوأ مقعده من النار ".
82 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي " أي لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي للشخص الواحد، فيقال له: محمد(1/206)
66 - " بَابُ كتَابَةِ الْعِلْمِ "
83 - عَنْ هَمَّام بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أخيهِ قَالَ:
سَمِعْتُ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَقُولُ: " مَا مِنْ أصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أحَدٌ أكْثَرَ حَدِيثاً عَنْهُ مِنِّي إِلَا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو، فإِنَّهُ كَانَ يَكْتُب وَلَا أكتُبُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أبو القاسم. " ومن رآني في المنام فقد رآني " وفي رواية فقد رأى الحق - أي فإن رؤيته هذه رؤية صادقة صحيحة " فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي " أي لا يقدر على التشكل بصورة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنّه قد حيل بينه وبين ذلك. وبقية الحديث تقدم شرحه.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: تحريم الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدم. ثانياًً: النهي عن التكني بكنية النبي - صلى الله عليه وسلم - ولهذا قال الشافعى: ليس لأحد أن يتكنّى بأبي القاسم سواء اسمه محمد أم لا، وقيل: لا يجمع بينهما، والجمهور على أنّ النهي منسوخ، وأنه كان في وقت حياته - صلى الله عليه وسلم -. ثالثاً: أن رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام حق، لأن الشيطان لا قدرة له على التشكل بصورته - صلى الله عليه وسلم - وكذلك الملائكة والأنبياء، ولكن متى يقال رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام؟ ومتى يعتبر أن الذي رآه هو النبي - صلى الله عليه وسلم - هناك علامة واضحة تدل على ذلك، قال العيني وضعوا لرؤيته - صلى الله عليه وسلم - ميزاناً، وقالوا رؤيته - صلى الله عليه وسلم - هي أن يراه الرائي بصورة شبيهة بصورته الثابتة بالنقل الصحيح، فلو رآه في صورة مخالفة لصورته التي كان عليها في الحس لم يكن رآه - صلى الله عليه وسلم -. مثل أن يراه طويلاً أو قصيراً جداً أو شديد السُّمرة ونحو ذلك. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله " فليتبوأ مقعده من النار ".
66 - " باب كتابة العلم "
83 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "ما من(1/207)
84 - عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَجَعُهُ، قَالَ: ائتونِي بِكِتَابٍ أكتُبْ لَكُمْ كِتَابَاً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد أكثر حديثاً عنه منّي" أي لا يوجد أحد من الصحابة روى من الأحاديث أكثر مني " إلاّ ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب " وهو استثناء منقطع، تقديره لكن الذي كان من عبد الله بن عمرو، وهو الكتابة، لم يكن مني فالخبر محذوف بقرينة السياق، سواء لزم منه كونه أكثر حديثاً لما تقتضيه عادة الملازمة مع الكتابة أمْ لا، والمعنى، لكن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يمتاز عنّي وينفرد دوني بالكتابة فيكتب ما يسمعه، ولا أكتب شيئاً. وقال القسطلاني: ويجوز أن يكون الاستثناء متصلاً فكأنه قال: ما أحدٌ حديثه أكثر مني إلّا أحاديث حصلت من عبد الله. والمطابقة: في قوله: " فإنه كان يكتب ولا اكتب ". الحديث: أخرجه البخاري والترمذي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية كتابة الحديث وتدوينه، لأن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكتبه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقره - صلى الله عليه وسلم - على كتابته، وإقراره - صلى الله عليه وسلم - حجة شرعية على مشروعية ما يقر. ثانياًً: يقول أبو هريرة: إن عبد الله بن عمرو بن العاص كان أكثر منه حديثاً مع أن الموجود من أحاديثه أقل، وذلك لأنه سكن مصر والواردون عليها قليل بالنسبة إلى المدينة التي سكنها أبو هريرة.
84 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " اشتد بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وجعه " أي اشتدت عليه آلام الحمى في مرضه الأخير الذي توفي فيه، " فقال: اتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً " هكذ الرواية بجزم " أكتب " لوقوعه في جواب الطلب. أي أحضروا لدي أدوات الكتابة من قلم وقرطاس(1/208)
لا تَضِلوا بَعْدَهُ، قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - غَلَبَهُ الْوَجَعُ، وعِنْدَنَا كِتَابُ اللهِ حَسْبُنَا، فاخْتَلَفُوا وَكَثُرَ اللَّغْطُ، قَالَ: قُومُوا عَنِّي وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَنّاَزُعُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ونحوه لكي آمر بعض أصحابي بتحرير كتاب هام " لن تضلوا بعده " يعني لكي يكون هذا الكتاب هادياً لكم إلى الطريق القويم والصراط المستقيم، فلا تميلوا بعده عن جادة الحق ولا تنحرفوا عن منهج الصواب، والظاهر أنّ هذا الكتاب كان يتعلق بأمر الخلافة ومن يليها بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يعهد فيه لمن يكون بعده خليفة للمسلمين " قال عمر: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - غلبه الوجع " قال ابن الجوزي: إنما خاف عمر أن يكون ما يكتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حالة غلبة المرض عليه فيجد المنافقون سبباً إلى الطعن في ذلك المكتوب " وعندنا كتاب الله حسبنا " أي يكفينا كتاب الله، وإنما لم يتمم عمر هذا الكتاب لأمرين: أولهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد غلبه الوجع. وثانيهما: أنه رأى أن أمره - صلى الله عليه وسلم - هذا إنما كان توجيهاً وإرشاداً وليس على سبيل الوجوب.
قال ابن عباس رضي الله عنهما " فاختفوا وكثر اللغط " أي كثر الكلام وارتفعت الأصوات " قال قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع " لأن حالته المرضية لم تعد تسمح له بسماع الكلام الكثير والضجيج والأصوات العالية.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية كتابة العلم، لأن ما أراده النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - داخل في ذلك مهما كان مضمونه، سواء كان الكتاب في بيان بعض الأحكام الشرعية، أو في بيان أسماء الخلفاء من بعده. ثانياً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوصِ لأحد بالخلافة من بعده، ولم يوجد هناك أي نص أو وثيقة شرعية عهد فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد أن يكون خليفة عنه بعد وفاته، وإنما تمت الخلافة لأبي بكر عن طريق الانتخاب والشورى وإجماع الصحابة على مبايعته بالخلافة،(1/209)
67 - " بَابُ تعْلِيمِ الْعِلْمُ وَالْعِظَةِ باللَّيل "
85 - عَنْ أمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: "سُبْحَانَ اللهِ، مَاذا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتَنٍ؟ وَمَاذَا فُتِحَ مِنَ الخَزَائِنِ؟ أيْقِظُوا صَوَاحِب الْحُجَرِ فَرُبَّ كَاسِيَةٍ في الدُّنيا عَارِيةٍ في الآخِرَةِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حتى أن علي بن أبي طالب نفسه قد بايعه بالخلافة كما أَجمع على ذلك المؤرخون وأهل السير. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أكتب لكم كتاباً ".
67 - " باب تعليم العلم والعظة بالليل "
85 - ترجمة راوية الحديث: وهي أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية المخزومي كانت تحت أبي سلمة رضي الله عنه، وتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته في شوال سنة أربع من الهجرة، فكانت نعم الزوجة الصالحة، روت ثلاثمائة وثمانية وسبعين حديثاً، اتفقا منها على ثلاثة وعشرين، وهي آخر أمّهات المؤمنين وفاة توفيت بالمدينة سنة 59 هـ.
معنى الحديث: تقول أم سلمة رضي الله عنها: " استيقظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فقال: سبحان الله: ماذا أنزل الليلة من الفتن " أي ما أعظم الفتن التي قدر الله في هذه الليلة ظهورها في المستقبل القريب، وأطلع عليها نبيه - صلى الله عليه وسلم - في منامه " وماذا فتح من الخزائن؟ " أي ما أعظم ما قدر الله تعالى أن يفتح لهذه الأمة من خزائن الأرزاق وكنوز الأموال التي تصل إليها عن طريق المغانم والفتوحات شرقاً وغرباً "أيقظوا صواحب الحجر" أي أيقظوا أمّهات المؤمنين لصلاة الليل " فرُبَّ كاسية في الدنيا عارية الآخرة " أي(1/210)
68- " بَابُ السَّمَرِ في العَلْمِ "
86 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعِشَاءَ فِي آخِر حَيَاتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ، فَقَالَ: " أرأيتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ عَلَى رَأس مِائَةِ سَنَةٍ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأرْض أحَد ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فكم من امرأة تلبس الثياب الشفافة التي لا تستر جسمها وتفتن الرجال بمحاسن جسدها يعاقبها الله في الآخرة بتعريتها من ثيابها فضيحة لها وتشهيراً بها.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية التعليم والعظة بالليل، لأنه - صلى الله عليه وسلم - وعظ نساءه فيه. ثانياًً: مشروعية الذكر والتسبيح عند التعجب من شيء أو الخوف منه، كأن يقول: لا إله إلاّ الله، أو الله أكبر، أو سبحان الله، وهو الأكثر. الحديث: أخرجه الترمذي أيضاً. والمطابقة: في قوله " ماذا أنزل الليلة من الفتن ".
68 - " باب السمر في العلم "
86 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء في آخر حياته " أي قبل وفاته بشهر، " فلما سلّم قام فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحدٌ " أي فلما سلم - صلى الله عليه وسلم - خطب فينا خطبة قال فيها ما معناه: لقد رأيتم هذه الليلة التي نعيشها الآن فاضبطوا تاريخها فإنّها لا تمضي مائة سنة بعدها إلاّ وينقرض هذا الجيل الموجود من الصحابة، هذا ما أراده النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديثه هذا، كما فهم ابن عمر رضي الله عنهما حيث قال: " إنما يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها تخرم ذلك القرن " أي أن ذلك الجيل ينقرض،(1/211)
69 - " بَابُ حِفْظِ الْعِلْمِ "
87 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
إِنَّ الناسَ يَقولُونَ أكْثَرَ أبو هُرَيْرَةَ، وَلَوْلا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثَاً، ثُمَّ يَتْلُو (إنَّ الَّذِيْن يَكْتُمُونَ ما أنزلْنَا من البَيناتِ والْهُدَى -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولا يبقى منه أحد بعد انتهاء المائة الأولى من هجرته - صلى الله عليه وسلم - وليس المراد منه فناء العالم البشري كله. الحديث: أخرجه الشيخان.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز السمر في العلم بعد العشاء تعليماً وتعلماً ووعظاً وتأليفاً لأنه - صلى الله عليه وسلم - وعظ أصحابه بعد العشاء بقصر أعمارهم ليجتهدوا في العبادة. ثانياً: مشروعية قيام الواعظ بعد الصلاة مباشرة.
والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - وعظ أصحابه بعد العشاء.
69 - " باب حفظ العلم "
87- معنى الحديث: يقول أبو هريرة: " إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة ولولا آيتان في كتاب الله ما حدَّثت حديثاً، ثم يتلو (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي أن أبا هريرة كان أكثر الصحابة حديثاً ورواية حتى بلغت أحاديثه (5374) فقال الصحابة: أكثر أبو هريرة، فخشي رضي الله عنه أن يداخلهم الشك في صحة أحاديثه، فقال رضي الله عنه: لولا وجود هاتين الآيتين اللتين توعد الله تعالى بهما كاتم العلم باللعنة لما رويت لكم حديثاً واحداً، ولكني أخشى أن تصيبني هذه اللعنة إن أنا كتمت حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(1/212)
إلى قَوْلِهِ- الرَّحِيمِ) وَإنَّ إخْوانَنَا مِنَ الْمُهَاجِرينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ، وإنَّ إخْوَانَنَا مِنَ الأنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الْعَمَلُ في أمْوالِهِمْ، وإنَّ أبا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِشِبَعِ بَطْنِهِ، فَيحْضُرُ مَا لا يَحْضُرُونَ، وَيَحْفَظُ مَا لا يَحْفَظُونَ.
88 - وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أسْمَعُ مِنكَ حَدِيثَاً كَثِيرَاً أنسَاهُ، قَالَ: ابْسُطْ رِدَاءَكَ، فَبَسَطتهُ، قَالَ: فَغَرَفَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: ضُمَّهُ، فَضَمَمْتُهُ، فَما نَسِيتُ شَيْئَاً بَعدَهُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثم بين رضي الله عنه السبب الذي ساعده على حفظ هذا العدد الكثير من الأحاديث التي لم يحفظها غيره، وهو ملازمته للنبي أكثر من سواه، فقال: " إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم (1) الصفق في الأسواق " أي كان يشغلهم عن ملازمة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمواظبة على حضور مجالسه ممارستهم للبيع والشراء في أسواقهم التجارية " وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم " أي في بساتينهم وحقولهم " وإنّ أبا هريرة كان يلزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشبع بطنه " أي مكتفياً بقوت يومه " ويحفظ ما لا يحفظون " لدوام ملازمته. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله " يحفظ ما لا يحفظون ".
88 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " قلت: يا رسول الله إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه " لكثرته. " قال ابسط رداءك فبسطته فغرف بيديه " أي فضم كفيه وغرف بهما من الفيض الإِلهي
__________
(1) بفتح أوّله وثالثه، وحكي ضم أوله من الرباعي وهو شاذ كما أفاده القسطلاني.(1/213)
89 - وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وِعَاءَيْن، فَأمَّا أحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وأمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا البُلْعُومُ"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" ثم قال: ضمه " إلى صدرك ليحل فيه من ذلك الفيْض الإِلهي المبارك ما يملأه نوراً وقوةً وملكة في حفظ الحديث تحصيله " فضممته فما نسيت شيئاً بعده " وفي رواية فما نسيتُ شيئاً سمعته منه - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي. والمطابقة: في قوله " فغرف بيده ثم قال: ضمه فضممته، فما نسيت شيئاً بعده ".
89 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعاءين " (1) أي صنفين مختلفين من العلم " فأما أحدهما " وهو علم الشريعة المتعلق بالعقائد والأحكام " فبثثته " أي نشرته فيكم وبلغته لكم. " وأما الآخر " أي وأما الصنف الآخر " فلو بثثته فيكم قطع هذا البلعوم " (2) أي فلو بلغته وتحدثت به إلى الناس لذبحت ذبح الشاة، والراجح أنّ هذا العلم هو ما يتعلق بأخبار ولاة السوء كيزيد بن معاوية وغيره، وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: لو شئت أن أسميهم بأسمائهم لفعلت، ويقول: أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان، يشير إلى خلافة يزيد، وقد استجيب دعاؤه فمات سنة 59 من الهجرة. الحديث: أخرجه البخاري.
والمطابقة: في قوله " حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعاءين ".
ويستفاد من أحاديث الباب ما يأتي: أولاً: أن من الأسباب التي تساعد على كثرة حفظ العلم وتحصيله ملازمة العلماء والتفرغ عن الشواغل والانقطاع
__________
(1) قال الحافظ " وعاءين " أي ظرفين أطلق المحل وأراد الحال أي نوعين من العلم.
(2) بضم الباء، وكنى به عن القتل كما أفاده القسطلاني.(1/214)
70 - " بَابُ الإِنصَاتِ لِلْعُلَمَاءِ "
90 - عَنْ جَرِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ: "اسْتَنْصِتِ النَّاسَ، فَقَالَ: لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْض".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
للدراسة كما كان أبو هريرة رضي الله عنه يلزم النبي - صلى الله عليه وسلم - لشبع بطنه، فحفظ ما لا يحفظون، وتفوق على غيره. ثانياً: أن من الأسباب التي مكنت أبا هريرة رضي الله عنه من كثرة الحفظ والتحصيل ما ألقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - في ردائه من ذلك الفيض الإِلهي المبارك. ثالثاً: أن من العلم ما يجب تبليغه وروايته، وهو ما يحتاج الناس إليه من أحكام دينهم ومنه ما لا يجب كأخبار الفتن وأمراء الجور.
70 - " باب الإِنصات للعلماء "
90 - معنى الحديث: يحدثنا جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع " بفتح الحاء أي قال في منى يوم النحر في حجة الوداع: عند جمرة العقبة " استنصت الناس " أي مرهم بالإنصات إليّ والاستماع إلى هذا التحذير الخطير الذي أوجهه إليهم بقلب حاضر وأذن واعية " فقال: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " أي احذروا أن تحملكم العداوة والبغضاء فيما بينكم على استحلال بعضكم دماء بعض، فإنّ المسلم إذا استحل دم أخيه دون سبب شرعي كفر والعياذ بالله تعالى، أما إذا قاتله دون أن يستحل دمه فإنه يكون فاسقاً كافراً بنعمة الأخوة الإِسلامية. الحديث: أخرجه أيضاً مسلم والنسائي وابن ماجة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية الإنصات إلى العلماء لا سيما(1/215)
71- " بَابُ ما يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ إذَا سُئِلَ أيُّ النَّاس أعْلَمُ فَيَكِلُ الْعِلْمَ إلى اللهِ "
91 - عن أبيّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: قَامَ مُوسَى النَّبِيُّ خَطِيباً في بني إسْرائِيلَ، فَسُئِلَ: أيُّ النَّاس أعْلَمُ؟ فَقَالَ: أنَا أعْلَمُ، فَعَتَب اللهُ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إلَيْهِ فأوحَى اللهُ إليْهِ أنَّ عَبْداً مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَع الْبَحْرَيْن هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إذا كان الحديث مما تمس الحاجة إليه دينياً أو اجتماعياً أو خلقياً، أو يتعلق بمصلحة من مصالح المسلمين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " استنصت الناس ". ثانياً: تحريم القتال بين المسلمين وأقل ما يقال فيه إنه كبيرة، أما إذا استحله فاعله فإنه يكفر كفراً يخرجه عن الملة الإِسلامية والعياذ بالله تعالى. والمطابقة: في قوله " استنصت الناس ".
71 - " باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم فَيَكِل العلم إلى الله "
91 - ترجمة الراوي: هو أبي بن كعب النجاري الأنصاري أقرأُ هذه الأمة من أصحاب العقبة الثانية، شهد المشاهد كلها وأثنى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بغزارة العلم حيث قال له: " ليهنك العلم أبا المنذر "، وسماه سيِّد الأنصار، وكان من أصحاب الفتيا، توفي سنة ثلاثين من الهجرة رضي الله عنه وأرضاه.
معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قام موسى النبي خطيباً فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم" لأنه أفضل أنبياء بني إسرائيل، وكلهم تحت شريعته، وقد اصطفاه الله لرسالته، وأنزل عليه التوراة، التي فيها علم كل(1/216)
قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ بِهِ؟ فقِيلَ لَهُ: احْمِلْ حُوتاً في مِكْتَل فإذَا فَقَدْتَهُ فَهُو ثَمَّ، فانْطَلَقَ، وانطَلَقَ بفَتَاهُ يُوشَعَ بْن نُونٍ، وحَمَلا حُوتاً في مِكْتَلٍ، حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُؤسَهُمَا وَنَامَا، فانْسَلَّ الْحُوتُ مِنَ المِكْتَلِ، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ في الْبَحْرِ سَرَباً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شيء، وكلّمه تكليماً "فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه" أي فلم يرض الله له قوله هذا، ولامه عليه، لعلو قدره لديه، فكان ينبغي له مهما بلغ من العلم ما ينبغي للعالم وهو أن يقول: الله أعلم، فيكل العلم إلى الله تعالى تواضعاً وتأدباً معه عز وجل " فأوحى الله إليه أن عبداً من عبادي " وهو الخضر عليه السلام " في مجمع البحرين " وهو كما قال البقاعي: ملتقى النيل بالبحر الأبيض عند دمياط " هو أعلم منك " وليس المراد أنه أعلم من موسى على الإِطلاق، وإنما هو أعلم منه ببعض الأمور، قال الحافظ: والحق أن المراد بهذا الإِطلاق تقييد الأعلمية بأمر مخصوص لقوله بعد ذلك: إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمك الله لا أعلمه.
قال الحافظ: وقع لبعض الجهلة أن الخضر أفضل من موسى تمسكاً بهذه القصة، ولم ينظر فيما خص الله به موسى من الرسالة وسماع كلام الله وإعطائه التوراة التي فيها علم كل شيء، وأن أنبياء بني إسرائيل كلهم داخلون تحت شريعته، ومخاطبون بحكم نبوته حتى عيسى. والخضر وإن كان نبياً فليس برسول باتفاق. والرسول أفضل من نبي ليس برسول، ولو فرضنا أنه رسول فرسالة موسى أعظمُ وأمته أكثر، وغاية الخضر أن يكون كواحدٍ من أنبياء بني إسرائيل، وموسى أفضلهم " فقال يا رب وكيف به " أي وكيف أهتدي إليه وأعثر عليه " فقيل له: احمل حوتاً في مكتل " أي في زنبيل " فإذا فقدته فهو ثم " أي فإن الخضر في ذلك المكان الذي تفقد فيه الحوت " فانطلق "(1/217)
وكانَ لمُوسَى وفتَاهُ عَجَباً، فانطلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمِهما، فَلمَّا أصْبَحَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: آتِنَا غَداءَنَا، لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفرِنَا هذَا نَصَباً، وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى مَسَّاً مِنَ النَّصَبِ حَتَّى جَاوَزَ الْمكَانَ الذي أمِرَ به، فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ: أرأيت إذْا أويْنَا إلى الصَّخْرَةِ فإنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، قَالَ مُوسَى: ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا علَى آثارِهِمَا قَصَصاً، فلَمَّا انتهَيا إلى الصَّخْرَةِ، إذا رَجُلٌ مُسَجىً بِثَوْبٍ أو قَالَ: تَسَجَّى بِثَوْبِهِ فَسَلَّمَّ مُوسَى، فَقَالَ الْخَضِرُ: وأنَّي بأرْضِكَ السَّلامُ؟ فَقَالَ: أنَا مُوسَى، فقالَ: مُوسَى بني إسْرائِيلَ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي فسار موسى - صلى الله عليه وسلم - بصحبة فتاه يوشع بن نون " حتى إذا كانا عند الصخرة " التي على الساحل " وضعا رؤوسهما فناما، فانسل الحوت فاتخذ سبيله في البحر سرباً " أي فصار الطريق الذي سار فيه الحوت مثل السرب وهو الشق الطويل الذي لا نفاذ له، لأن الله أمسك عن الحوت جري الماء وجمده فانحاز عنه، وصار كالكوة، ولم يلتئم كما كان، " وكان لموسى وفتاه عجباً " أي ورأى موسى وفتاه منظراً عجيباً " فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما، فلما أصبح قال موسى (لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا) " أي لقد أصبحنا نشعر بالتعب وشدة الجوع بسبب طول سفرنا فأعطنا بعض الطعام " فقال فتاه: (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) " أي هل علمت أننا عندما نمنا تحت تلك الصخرة استيقظت أنا، فرأيت الحوت قد دبت فيه الحياة، فانتفض وألقى بنفسه في البحر، وأردت إخبارك بذلك فنسيت " قال موسى: (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ) " أي هذا ما كنا نريده ونبحث عنه، وتلك هي ضالتنا المنشودة، لأن الرجل الصالح هو في ذلك المكان الذي فقدنا فيه الحوت (فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا) أي فعادا يتتبعان آثارهما " فلما انتهيا إلى الصخرة إذا رجل مسجى بثوب " أي مغطى بثوب(1/218)
قَالَ: نَعَم، قَالَ: هلْ أتَبِعُكَ على أنْ تُعَلِّمنْي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشداً: قَالَ: إِنَّكَ لنْ تَسْتَطِيعَ معَي صَبراً، يَا مُوسَى إنِّي عَلى عِلم منْ عِلْمِ اللهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أنتَ، وأنتَ عَلَى عِلْم عَلَّمَكَهُ اللهُ لا أعْلَمُهُ، قَالَ: سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللهُ صَابِراً ولا أعْصِي لَكَ أمْراً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" فسلم موسى، فقال الخضر: وأنَّى بأرضك السلام؟ " أي كيف سمعت منك كلمة السلام، وأهل هذه الأرض لا يعرفونها " فقال: أن موسى، فقال موسى بني إسرائيل؟ قال (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) " أي هل تأذن لي في صحبتك لأتعلم منك علماً ينفعني وأسترشد به. (قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) قال ابن كثير: أي لا تقدر على مصاحبتى لما ترى مني من الأفعال التي تخالف شريعتك " يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت " أي وإنما لا تستطيع الصبر على مصاحبتي لأني أنفرد بعلم مخالف لعلمك، وهو العلم بهذه الأمور التي أوحى الله تعالى بها إلى الخضر وأطلعه عليها، وخصه بها دون موسى (1) والتي من ضمنها علمه بذلك الملِك الذي يغتصب السفن البحرية، والغلام الذي طبع كافراً وبالغلامين اليتيمين اللذين كان أبوهما صالحاً وبالكنز الذي لهما المدفون تحت الجدار " وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه " أي وأنت على علم انفردت به عني لا أعلم منه شيئاً، وهو العلم بالشريعة وبالكتاب الذي أنزل عليك. واختلف أهل العلم في علم الخضر الذي انفرد به عن موسى هل هو علم وحي ونبوة، أم علم فراسة وإلهام وهل هو نبي أم ولي؟ والصحيح أنه نبي، قال في فيض الباري: "الخضر نبي عند الجمهور ليس داخلاً في شريعة موسى. وقال الآلوسي: فيه أقوال ثلاثة فالجمهور على أنه عليه السلام
__________
(1) ويترتب على ذلك أن موسى سيرى من الخضر أموراً غريية ينكرها وهو ما وقع.(1/219)
فانْطَلَقَا يمْشِيَانِ علَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، لَيْسَ لَهُمَا سَفِينَةٌ فَمرَّتْ بِهِمَا سَفِينَة فَكَلَّمُوهُمْ أنْ يَحْمِلُوهُمَا فَعُرِفَ الخِضْرُ فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْل، فجاءَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نبى وليس برسول، وقيل: هو رسول، وقيل هو ولي، وعليه القشيرى وجماعة، والصحيح ما عليه الجمهور، وشواهده من الآيات والأخبار كثيرة، وبمجموعها يكاد يحصل اليقين. اهـ. واستدل القائلون بنبوته بقوله كما حكى الله عنه: (وما فعلتة عن أمري) أي وإنما فعلت ما فعلت بأمر الله تعالى، لأن تنقيص أموال الناس، وإراقة دمائهم لا يكون إلا بنص وأمر إلهي صادر عن وحي سماوي، وذلك للأنبياء خاصة، ولهذا قال العيني: إن قوله: (وما فعلته عن أمري) يدل على أنه فعله بالوحي، فلا يجوز لأحد أن يقتل نفساً لما يتوقع وقوعه منها، لأن الحدود لا تجب إلاّ بعد الوقوع، وكذا الإِخبار عن أخذ الملك السفينة، وعن استخراج الغلامين الكنز، لأنّ هذا كله لا يدرك إلاّ بالوحي. اهـ. قال الآلوسي " وهو أي الاستدلال بهذه الآية الكريمة على نبوة الخضر ظاهر في ذلك، واحتمال أن يكون هناك نبي أمر بذلك عن وحي كما زعمه القائلون بولايته احتمال بعيد. ومما اختلف فيه أهل العلم أيضاً مسألة هل الخضر حي الآن أم هو قد مات؟ والصحيح أنه قد مات، فقد سئل البخاري عنه وعن الياس عليهما السلام هل هما حيان، فقال: كيف يكون هذا وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أي قبل وفاته بقليل: " لا يبقى على رأس المائة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد ". اهـ والذي في صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته: " ما من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنه وهي يومئذ حية " وهذا أبعد عن التأويل، وسئل شيخ الإِسلام ابن تيميّة عن الخضر فقال: لو كان الخضر حياً لوجب عليه أن يأتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويجاهد بين يديه ويتعلم منه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: "اللهم(1/220)
عُصْفُور فوَقَعَ عَلى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ نَقْرَةً أوْ نَقْرَتَيْنِ فِي البَحْرِ، فَقَالَ الخَضِرُ: يا مُوسَى ما نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلم اللهِ إلا كنَقْرَةِ هذَا الْعُصْفُورِ في البَحْرِ، فَعَمَدَ الخَضْرُ إلى لَوْحٍ مِنْ الوَاحِ السَّفينَةِ فَنزَعَهُ، فَقَالَ موسى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْل عَمَدْتَ إلى سَفِينَتِهِم فَخَرَقْتَها لِتُغرِقَ أهْلَهَا، قَالَ: ألَمْ أقُلْ: إِنَّكَ لَنْ تَستَطِيعَ مَعي صَبراً، قَالَ: لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسيتُ، وَلا ترهِقْنِي مِنْ أمْرِي عُسْراً، فَكَانَتِ الأولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَاناً، فانْطَلَقَا فإذا غُلَام يَلعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فأخَذَ الخَضِرُ بِرَأْسِهِ مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض" وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً معروفين بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم فأين الخضر حينئذ اهـ (قال ستجدني إن شاء الله صابراً) على ملازمتك " فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهما فعرف الخضر فحملوهما بغير نول) أي بغير أجرة " قال فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة " أي فنزل على طرفها " فقال الخضر يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلاّ كنقرة هذا العصفور في البحر " وليس النقص هنا على حقيقته، لأن علم الله لا ينقصه شيء، وإنما المراد أن علمي وعلمك بالنسبة إلى العلم الإِلهي كنسبة قطرة الماء إلى هذا البحر، وهذا التشبيه أيضاً ليس على حقيقته وإنما المراد به التوضيح والتقريب للأذهان " فعمد " بفتح العين " الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه " أي فلما بلغت السفينة لجج البحر عَمدَ الخضر إليها بيده عمداً، فاقتلع بفأسه لوحاً أو لوحين من جهة البحر، ولكن الماء لم يدخلها " فقال موسى: قوم حملونا بغير نول " أي بدون أجرة " عمدت " بفتحٍ الميم " إلى سفينتهم فخرقتها " أي مددت يدك إلى سفينتهم، فخرقتها عمداً " لتغرق أهلها " أي ألا تعْلم أن خرقك لهذه السفينة يؤدي إلى دخول الماء إليها فيكون نتيجة فعلك هذا(1/221)
أعلَاهُ فاقْتَلَعَ رَأسَهُ بيده، فقالَ مُوسَى: أقَتَلْتَ نفْساً زكِيَّةً بغَيْر نَفْسٍ؟ قال: ألم اقُل لَكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً - قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَهَذَا أوكَدُ - فانْطَلَقَا حتَّى إذَا اتيَا أهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أهْلَهَا فأبَوْا أنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وعاقبته (1) إغراق السفينة بمن فيها. (قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً) أي قال الخضر لموسى مذكِّراً له بما قاله له سابقاً: ألم أقل لك إنك لا تقدر على مصاحبتي لأنك لا تطيق السكوت على ما تراه مني من أمور غريبة (قال لا تؤاخذني بما نسيت) أي فاعتذر موسى للعبد الصالح وقال له: لا تلمني على سؤالي هذا، فإنما سألتك ناسياً وغافلاً عن الوعد الذي قطعته لك على نفسي، ولا حرج على الناسي فيما يصدر عنه وقال في الآية التي في سورة الكهف (ولا ترهقني من أمري عُسْراً) أي ولا تشدد علي أثناء مصاحبتي لك بكثرة اللوم والمعاتبة " فانطلقا فإذا بغلام يلعب مع الغلمان " أي فسارا في طريقهما فإذا بهما يجدان صبياً صغيراً لم يبلغ الحلم بعد " فأخذ الخضر برأسه من أعلاه " أي فأمسك الخضر برأس ذلك الصبي " فاقتلع رأسه " أي فانتزع رأسه من جسده " فقال موسى: (أقتلت نفساً زكيَة بغير نفس) " أي فلم يطق موسى صبراً على ما رأى، ووجه إلى الخضر إنكاراً شديداً على فعلته هذه، وقال له: كيف تقتل نفساً بريئة لم تقتل أحداً مع أنها لو قتلت لم تستوجب القتل، لأنها لا تزال صغيرة لم تبلغ الحلم، " وهنا أعاد الخضر على موسى ما سبق أن قاله له بصيغة أقوى وآكد حيث قال له: (ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً) فأتى بضمير المخاطب المسبوق بلام الجر لزيادة التأكيد (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل القرية) وهي قرية
__________
(1) فإن اللام في قوله " لتغرق أهلها " ليست للتعْليل لأن الخضر عندما خرق السفينة لم يقصِدْ قطعاً أن يكون فعله هذا سبباً في إغراقها وإهلاك ركابها، ولم يكن موسى يعتقد ذلك، وإنما اللام هنا للعاقبة، لأن موسى أراد أن يقول للخضر إن عاقبة فعلك هذا، والنتيجة الحتمية له هي غراق السفينة.(1/222)
يُضَيِّفُوهُمُا، فَوَجَدَا فيها جِدَاراً يُرِيدُ أن يَنْقَضَّ فأقَامَهُ، قَالَ الْخَضِرُ بِيَده فأقَامَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْراً، قَالَ: هذَا فِرَاقُ بِيْني وَبَيْنكَ. قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حتَّى يَقُصَّ عَلَيْنَا مِنْ أمرِهِمَا".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أنطاكية وكانا جائعين. (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا) أي فطلبا من أهل تلك القرية الطعام، ولكنهم كانوا بخلاء فشحّوا عليهم (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا) أي فامتنعوا عن إطعامهم وضيافتهم (فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض) أي فوجدا في تلك القرية جداراً خَرِباً موشكاً على السقوط " قال الخضر بيده فأقامه " قال الطبري (1) ذُكِر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: هدمه ثم قعد يبنيه، وعن ابن عباس قال: رفع الجدار بيده فاستقام، ثم قال: والصواب أن صاحب موسى وموسى وجدا جداراً يريد أن ينقض فأقامه صاحب موسى، بمعنى عدل ميله، حتى عاد مستوياً، وجائز أن يكون ذلك بإصلاح بعد هدم، وجائز أن يكون برفع منه له بيده، فاستوى بقدرة الله، وزال عنه ميله بلطفه فقال موسى: (لو شئت لاتخذت عليه أجراً) أي لو أردت أن تأخذ على عملك هذا أجراً لكان من حقك، لا سيما من قوم أشحاء بخلوا علينا ونحن جياع (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) أي سؤالك هذا هو السؤال الأخير المفِّرق بيننا ثم فسر له هذه الأمور الثلاثة، فقال: أما السفينة فكانت لأناس ضعفاء يعيشون منها وكان هناك ملك ظالم لا يدع سفينة سليمة إلّا اغتصبها، فخرقتها لتنجو منه، وأما الغلام فمطبوع على الكفر وأخشى على والديه أن يحملهما حبهما له على الكفر بالله تعالى. قال الحافظ: فلعل قتل الغلام الذي هو على هذه الحالة جائز في شريعتهم. وأما الجدار فهو لغلامين
__________
(1) تفسير الطبرى ج 16.(1/223)
72- " بَابُ مَن سأل وهو قائم عالماً جالساً "
92- عَنْ أبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يتيمين تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحاً فأراد الله أن يحفظه لهما، فأقمت ذلك الجدار امتثالاً لأمر ربي " قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يَرْحَمُ الله موسى لوددنا لو صبر " أي أحببت وتمنيت لو صبر مع العبد الصالح، ولزمه مدة أكثر " حتى يقص علينا من أمرهما " أي حتى يقص علينا أشياء كثيرة مما وقع لهما.
الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
ويستفاد منه: فوائد كثيرة: منها. فضيلة العلم، والرحلة في طلبه، فإن موسى - صلى الله عليه وسلم - رحل مسافات طويلة ولقي النصب في طلبه. ومنها: التأدب مع المعلم، والتلطف في مخاطبته لقول موسى (هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً) حيث أخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة فاستأذن منه في مصاحبته وأقر أنه يتعلم منه علماً هو في حاجة إليه يستفيد منه ويسترشد به. ومنها: تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه، وذلك ليأخذ منه العلم الذي مهر فيه، وان كان دونه في العلم والفضل بدرجات كثيرة، فلا شك أن موسى أفضل من الخضر، ولكن لما كان عند الخضر من هذا العلم الخاص ما ليس عند موسى حرص على التعلم منه (1) . ومنها: أنه ينبغي للعالم مهما بلغ من العلم إذا سئل أي الناس أعلم أن يكل العلم إلى الله تواضعاً وتأدباً فيقول: الله أعلم. والمطابقة: في قوله: " فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه تعالى ".
72 - " باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً "
92 - معنى الحديث: يقول أبو موسى رضي الله عنه: "جاء رجل
__________
(1) تفسير للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي القصيمي.(1/224)
جَاءَ رَجُل إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ ما القِتالُ في سَبيلِ اللهِ؟ فَإِنَّ أحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضباً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، فَرَفَعَ إلَيْهِ رَأسَهُ، قَالَ: وما رَفَعَ إليه رأسَهُ إلَّا أنه كَانَ قائِمَاً فَقَالَ: مَنْ قَاتَل لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ في سَبِيل واللهِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ما القتال في سبيل الله" أي ما هو الجهاد الصحيح الذي تُنَالُ به الشهادة والفوز بدار الكرامة " فإن أحدنا يقاتل غضباً ويقاتل حمية " أي فإن البعض يقاتل مدفوعاً بدافع الغضب والرغبة في الانتقام، ويريد أن يثأر من عدوه، والبعض يقاتل أنفةً وغيرة ودفاعاً عن قومه " فرفع إليه رأسه، قال: وما رفع إليه رأسه إلا أنه كان قائماً " أي فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السائل رأسه متهيئاً لإجابته، لأن السائل كان قائماً " فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا " أي من كان غايته ونيته من قتاله أن تصبح كلمة التوحيد هي الكلمة النافذة في هذه الأرض التي لها سلطانها الذي لا يرد، وسيطرتها التي لا تحد " فهو في سبيل الله " أي فهو المجاهد الحقيقي الذي إن قتل نال الشهادة، وإن رجع رجع بأجر وغنيمة. الحديث: أخرجه الخمسة. والمطابقة: في قوله: إلا أنه كان قائماً.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن النية الصالحة شرط لقبول العمل عند الله، فالمقاتل لا ينال الشهادة، ولا يقبل قتاله إلاّ إذا قصد به نصرة الدين، والدفاع عن كلمة التوحيد. ثانياً: أنه يجوز أن يسأل السائل وهو قائم عالماً جالساً لقوله " فرفع إليه رأسه وما رفع إليه رأسه إلا أنه كان قائماً " وهو ما ترجم له البخاري.
***(1/225)
73 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) "
93 - عن ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
بَيْنَا أنَا أمْشِي مَعَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - في خَرِبِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ علَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَن الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تَسْألوهُ، لا يَجيءُ فيهِ بِشَيءٍ تَكْرَهُونَه، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَنَسْألنَّهُ فَقَامَ رَجُل مِنْهُمْ وَقَالَ: يَا أبَا الْقَاسِم! ما الرُّوحُ؟ فَسَكَتَ، فَقُلْتُ إنَّهُ يُوحَى إليْهِ فَقُمْتُ، فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ قَالَ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
73 - " باب قول الله تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) "
93 - معنى الحديث: يقول ابن مسعود رضي الله عنه " بينا أنا أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خرب المدينة " بفتح الخاء وكسر الراء، جمع خربة، أي في بعض الأماكن الخربة " وهو يتوكأ على عسيب " أي على عصا من جريد النخل " فمرّ بنفر من اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح " أي اسألوه عن الروح ليعجز عن الجواب عنها، فتثيروا - حوله الشكوك والشبهات " وقال بعضهم: لا تسألوه لا يجيء فيه بشيء تكرهونه " أي لا تسألوه خشية أن يجيبكم بما هو موجود في كتابكم فيخيِّب ظنكم ويقع ما تكرهون " فقال بعضهم لنسألنه " أي والله لنسألنه مهما كانت النتائج " فقام رجل منهم فقال: يا أبا القاسم ما الروح؟ فسكت فقلت: إنَّهُ يوحى إليه " فعرفت أنه يوحى إليه في تلك الساعة " فلما انجلى عنه " أى فلما انقطع عنه الوحي " قال: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ(1/226)
74- " بَابُ مَنْ خصَّ بالْعِلْمِ قَوْماً دُونَ قَوْم كَرَاهية أن لا يَفهَموا "
94 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ علَى الرَّحْلِ قَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ قَالَ: لَبَّيكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: يَا مُعَاذُ، قَالَ: لَبَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ ثَلاثاً. قَالَ: مَا مِنْ أحَدٍ يَشْهَدُ أنْ لا إِلَه إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحَمَّداً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَمْرِ رَبِّي) " أي قل لهم يا محمد إن الروح أمر رباني استأثر الله بعلمه دون سواه (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) أي وإن العلم الذي لديكم ليس إلّا شيئاً قليلاً وجزءاً يسيراً لأن علم الإنسان بالغاً ما بلغ، فهو محدود، وعقله أيضاً محدود، وأسرار هذا الوجود أوسع من أن يحيط بها العقل البشري المحدود. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي والترمذي. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الروح غيب، وسر من أسرار الله القدسية استأثر الله بعلمه، وأودعه بعض مخلوقاته نعرف آثاره، ونجهل حقيقته، وقد وقف هذا الإنسان حسيراً أمام (1) ذلك السر اللطيف لا يدري ما هو: ولا يعرف عنه إلا ما جاء في بعض الأخبار الصحيحة. ثانياً: قلة علم الإنسان وضالته، وأن العقل البشري لا يحيط بكل شيء.
74 - " باب من خص بالعلم قوماً دون قوم "
94 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه " كان معاذ رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي كان راكباً خلفه " على الرحل " وهو كل شيء أعِدَّ
__________
(1) في ظلال القرآن المجلد الرابع.(1/227)
رَسُولُ اللهِ صِدْقَاً من قَلْبِهِ، إلَّا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أفلَا أخْبِرُ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: إِذَاً يَتَّكِلُوا (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للبعير، وجمعه أرحل ورحال، كما أفاده في المصباح " قال: يا معاذ بن جبل قال: لبيك يا رسول الله وسعديك قال: يا معاذ، قال لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثاً " أي ها أنا حاضر بين يديك أجيبك إجابة بعد إجابة وأسعدك إسعاداً بعد إسعاد " قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه " أي لا ينطق أحدٌ بالشهادتين نطقاً مطابقاً لما في قلبه " إلاّ حرمه الله على النار " أي حرم عليه الخلود فيها. الحديث: أخرجه الشيخان.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن مرتكب الكبيرة لا يخلد في النار خلافاً للخوارج لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إلاّ حرمه الله على النار ". فإن أقل ما يدل عليه أن الفاسق لا يخلد في النار. ثانياً: أن من العلم ما يعطى لعامة الناس، ومنه ما يعطى للخاصة فقط كما ترجم له البخاري، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خصّ بهذا الحديث معاذاً، فدل ذلك على أن من العلم ما لا يقال إلاّ لأهله ممن يتوفر فيهم الذكاء والفهم الصحيح، ولا يُحدِّث به من لا يفهمه، وقد قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله.
مطابقة الحديث للترجمة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - خص معاذاً بهذا الحديث.
***
__________
(1) أي يعتمدون على مجرد الشهادتين، ويتركون العمل وهو جزء من الإيمان.(1/228)
75- " بَابُ الْحَيَاءِ في الْعِلْمِ "
95 - عَنْ أمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
جَاءَتْ أمُّ سُلَيْم رَضِيَ اللهُ عَنْهَا إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ اللهَ لَا يَستحييَ مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرأةِ مِنْ غُسْل إذا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " إِذَا رَأتِ الْمَاءَ، فَغَطَّتْ أمّ سَلَمَةَ تَعْنِي وَجْهَها، وقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ وَتَحْتَلِمُ الْمَرأةُ؟ قَالَ: نَعَمْ تَرِبتَ يَمِينُكِ، فبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
75 - " باب الحياء العلم "
95 - معنى الحديث: تقول أم سلمة رضي الله عنها " جاءت أم سليم رضي الله عنها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن الله لا يستحي من الحق ".
وهو مقتبس من قوله تعالى: (وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) وإنما قالت ذلك تمهيداً لما تريد أن تطرحه من سؤال يستحي منه النساء، لعلاقته بالحياة الجنسية، ومعنى قولها هذا أنه لا حياء في العلم والدين، ولا في السؤال عما يتعلق به ولو كان في المسائل المتعلقة بالجنس. ثم قالت: " فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت " أي هل عليها غسل إذا رأت الجماع في نومها " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأت الماء " أي نعم يجب عليها الغسل إذا رأت المني في ثوبها " فغطت أمُّ سلمة تعني وجهها " حياءً وخجلاً " فقالت: يا رسول الله وتحتلم المرأة " أى هل تحتلم وتنزل المني كالرجل " قال: نعم " تحتلم وتنزل مثل الرجل " تربت يمينك " ومعناها في الأصل التصقت بالتراب، وهو غير مقصود، ولكنها كلمة جارية على اللسان، ولا يقصد بها الدعاء على المخاطب كما أفاده القسطلاني " فيم يُشبهها ولدها " أي فلماذا يشبهها ولدها لو لم يكن(1/229)
76 - "بَابُ من استحيا فأمر غيره بالسؤال "
96 - عَنْ عَلِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً، فأمَرْتُ الْمِقْدَادَ أن يَسْأل النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَألهُ، فَقَالَ: فِيهِ الْوُضُوءُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لها ماء، وسيأتي تفصيله في موضعه. الحديث: أخرجه الخمسة أيضاً.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه لا حياء في طلب العلم والسؤال عن الدين لأنه حق. ثانياً: أن للمرأة ماء، ومنه يكون الشبه بالأم. والمطابقة: في قولها " إن الله لا يستحيي من الحق، وإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لها ".
76 - "باب من استحيا فأمر غيره بالسؤال "
96 - معنى الحديث: يقول علي رضي الله عنه " كنت رجلاً مذاءً " صيغة مبالغة، أي كثير المذي وذلك بسبب صحته وقوة جسمه " فأمرت المقداد أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - " يعني أن يسأله عن حكم المذي، وماذا يجب فيه، لأنه رضي الله عنه استحيا أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا السؤال، وابنتُهُ تحتهُ " فسأله المقداد " نيابة عن علي رضي الله عنه " فقال: فيه الوضوء " أي يجب فيه الوضوء بعد غسل الفرج أولاً، لإزالة أثره، لأنه نجس.
ويستفاد منه: أولاً: أن المذي يوجب الوضوء مع غسل الذكر، وهو مذهب الجمهور حيث قالوا يجب منه الوضوء مطلقاً. وقال مالك: لا يجب منه الوضوء إلَّا إذا كان عن ملاعبة. ثانياً: مشروعية الإنابة في السؤال والاستفتاء إذا استحيا من مباشرة ذلك بنفسه وهو ما ترجم له البخاري، وكذلك إذا كان عذر آخر يمنعه من السؤال، فإنه يقاس ذلك على الحياء.(1/230)
77 - " بَابُ ذِكْرِ العِلْمِ وَالْفُتْيَا في الْمَسْجِدِ "
97 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ رَجُلاً قَامَ في الْمَسْجِدِ فقَالَ: يَا رَسُولَ الله مِنْ أيْنَ تَأمُرنَا أن نُهِلَّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: يُهِلُّ أهْلُ الْمَدِيْنَةِ من ذِى الحُلَيْفَةِ، وَيُهِلُّ أهْلُ الشَّامِ من الجُحْفَةِ، وَيُهِلّ أهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ " وَقَالَ ابْنِ عُمَرَ: يَزعُمُونَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث. أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وأحمد والطبراني والطحاوى كما أخرجه البخاري في هذا الباب. مطابقته للترجمة: في كون علي أناب المقداد عنه في السؤال عن المذي لمَّا استحيا أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه لكون ابنته تحته، كما جاء في رواية أخرى عن علي أنه قال: كنت رجلاً مذاءً، فأمرت عمار بن ياسر أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل ابنته عندي فقال يكفي من ذلك الوضوء، وفي رواية أخرى عن عمار: يغسل مذاكيره ويتوضأ أخرجه النسائي. وفي رواية عن المقداد: ليغسل ذكره وأنثييه أخرجه أبو داود.
77 - " باب ذكر العلم والفتيا في المسجد "
97 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما: " أن رجلاً قام في المسجد فقال: يا رسول الله من أين تأمرنا أن نهل؟ " أي من أي مكان تأمرنا أن نحرم بالحج والعمرة، ونرفع أصواتنا بالتلبية " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يهل أهل المدينة من ذي الحليفة " أي يحرم أهل المدينة وكل من أتى عليها من ذي الحليفة ويبدؤون التلبية من عندها. " ويهل أهل الشام من الجحفة " وهي قرية بالقرب من رابغ محددة بأعلام وضعتها الدولة. " ويهل أهل نجد من قَرْن " بفتح القاف وسكون الراء أي من قرن المنازل "قال(1/231)
أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: وَيُهِلُّ أهْلُ الْيَمَن مِنْ يَلَمْلَمَ، وكانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَمْ أفْقَهْ هَذِهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.
78 - " بَابُ منْ أجَابَ السّائِل بأكثر مِمَّا سَألِهِ "
98 - عَنْ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهمَا عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ رَجُلاً سألهُ مَا يَلْبَسُ الْمحْرِم؟ فَقَالَ: "لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن عمر: ويزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أي ويقول بعض الصحابة إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ويهل أهل اليمن من يلملم " وهو جبل في جنوب مكة على مرحلتين منها وفيه دليل على إطلاق الزعم على القول المحقق لأن ابن عمر سمع ذلك من رسول الله، لكنه لم يفهمه. " وكان ابن عمر يقول: لم أفقه هذه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي لم أفقه هذه الجملة الأخيرة فصار يرويها عن غيره، لشدة تحريه وورعه.
ويستفاد منه: أولاً: مشروعية الفتيا في المسجد، لأن هذا السؤال والجواب قد وقعا في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان هذا المسجد الشريف مركز العلم والفتيا لي الفقه والتشريع في الإِسلام بالإضافة إلى كونه مركز القيادة العسكرية والحربية والسياسية والاقتصادية، إلى غير ذلك. ثانياً: بيان المواقيت المكانية للحج، وسيأتي تفصيلها في موضعها. الحديث: أخرجه مسلم وأبو داود أيضاً. مطابقته للترجمة: في كون هذه الفتيا وقعت في المسجد الشريف.
78 - " باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله "
98 - معنى الحديث: أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الألبسة التي يجوز للمحرم أن يلبسها ولما كانت كثيرة يصعب حصرها وعدها، ترك النبي(1/232)
ولا الْعِمَامَةَ ولا السَّرَاوِيلَ ولا البُرْنُسَ ولا ثَوْبَاً مَسَّهُ الوَرْسُ أو الزَّعْفَرَانُ، فإِنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حتى يكونَا تَحْتَ الكَعْبَيْنَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- صلى الله عليه وسلم - الإِجابة عليها وأجاب السائل عن الألبسة المحظورة على المحرم، لأنها محدودة معدودة: وهذا من الأسلوب الحكيم " قال: لا يلبس القميص ولا عمامة ولا السراويل ولا البرنس " وهو لباس مغربي معروف، فأما العمامة فلا يلبسها لأنها محيط، وأما بقية الأشياء المذكورة فإنها تحرم لأنها مخيط والله أعلم " ولا ثوباً مسه الوَرْس " (1) أي ويحرم الثوب الذي أصابه الورس وهو نبت طيب الرائحة " والزعفران " لأنه من الطيب، وهو محرّم على المحرم. ثم ذكر له النبي - صلى الله عليه وسلم - جواز لبس الخفين للمحرم بعد قطع أعلاهما إذا لم يجد النعلين بقوله: " فإن لم يجد النعْلين فليلبس الخفين، وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين " أي فيجوز له لبس الخفّين وليقطعهما من أعلاهما حتى يكشفا عن الكعبين، وهكذا فقد أجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأكثر من سؤاله.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز إجابة السائل بأكثر من سؤاله إتماماً للفائدة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - زاد في الجواب عن السؤال حيث بين للسائل حكم من لم يجد النعلين وهو ما ترجم له البخاري. ثانياً: بيان محظورات الإِحرام وسيأتي تفصيلها في موضعها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجه. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: فإن لم يجد النعلين فليلبس الخفين ... إلخ.
***
__________
(1) الورس بفتح الواو وسكون الراء.(1/233)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كِتَابُ الوُضُوءِ "
79 - " بَاب لا تقْبَلُ صَلَاة بِغيْرِ طُهُورٍ "
99 - عن أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لا تُقْبَلُ صَلَاةُ مَنْ أحْدَثَ حتَّى يَتَوَضَّأ "
قَالَ رَجلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ: ما الْحَدَثُ يا أبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: فُسَاءٌ، أو ضُرَاطٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" كتاب الوضوء "
79 - " باب لا تقبل صلاة بغير طهور "
99 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقبل (1) صلاة من أحدث حتى يتوضأ " أي لا تصح صلاة من أحدث حدثاً أصغر حتى يتوضأ لها وضوءًا جديداً. " قال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة، قال: فساء أو ضراط " أي فسئل أبو هريرة عن الحدث الموجب للوضوء فأجاب بأنه الحدث الأصغر، وهو الخارج من السبيلين، ومثَّل له بالفساء والضراط، ومنه أيضاً البول والغائط، والمذي والودي.
__________
(1) لا تقبَل بضم أوله وبنائه للمجهول.(1/234)
80- " بَابُ الْوضوءِ وَالْغرُّ الْمحَجَّلونَ مِنْ آثارِ الْوضوءِ "
100- عن أبي هرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه قَالَ:
سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: " إنَّ أمَّتِي يُدْعَوْنَ يَومَ الْقِيَامَةِ غُرَّاً محَجّلِينَ منْ آثارِ الْوُضوءِ، فمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أنْ يطِيلَ غرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الوضوء شرط في صحة الصلاة على كل محدث حدثاً أصغر، وينوب عنه التيمم لعذر. ثانياً: أن الحدث الأصغر الموجب للوضوء هو الخارج من السبيلين كالفساء والضراط مثلاً، وقد اتفق أهل العلم على وجوب الوضوء من البول والغائط والريح والمذي والودي.
واختلفوا فيما يخرج من غير السبيلين. فذهب أحمد وأبو حنيفة إلى أن كل نجاسة خرجت من الجسد يجب منها الوضوء، سواء كانت من المخرجين أو من غيرهما كالدم والقيء إلاّ البلغم عند أبي حنيفة. وذهب الشافعي إلى وجوب الوضوء من كل ما خرج من المخرجين ولو غير معتاد كالدم والحصا، سواء خرج على وجه الصحة أو المرض، وقال مالك: لا يجب الوضوء إلاّ من الخارج المعتاد من المخرج المعتاد على سبيل الصحة والاعتياد، فلم يوجب الوضوء في سلس البول لأنه لم يخرج على سبيل الصحة، ولا في الدود والحصا، لأنه غير معتاد، ولا في الدم لأنه من غير المخرجين. والمطابقة: في قوله لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي.
80- " باب فضل الوضوء والغر المحجلون من آثار الوضوء "
100- معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن أمتي يدعون يوم القيامة " أي أن هذه الأمة(1/235)
المحمدية ينادون يوم القيامة عند الحوض ليشربوا منه شربة لا يظمئون بعدها أبداً، وإنما ينادون أمام الناس تنويهاً بشأنهم، وإشادة بفضلهم " غراً محجلين من آثار الوضوء " والغرة في الأصل بياض في جبهة الفرس، والتحجيل بياض في قوائمه، وهما في محل نصب على الحال. " والمعنى " أنهم ينادون عند الحوض المورود، وقد أشرقت أنوار الوضوء على جباههم وأيديهم وأرجلهم تشريفاً وتكريماً لهم في ذلك الموقف العظيم " فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل " أي فمن تمكن من إسباغ الوضوء على المكاره، فليحرص على ذلك أشد الحرص، ليزيد من نوره يوم القيامة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب تطويل الغرة (1) وقد اختلف فيه أهل العلم فقال بعضهم: هو الزيادة على محل الفرض، بغسل ما فوق المرفقين والكعبين، وهو مذهب ابن عمر وأبي هريرة وبعض الشافعية. والجمهور على أن تطويل الغرة هو إسباغ الوضوء - أي إتقانه وإتمامه، وكرهوا الزيادة على محل الفرض. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ومن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم " ونقل ابن تيمية عن جمع من الحفاظ أن قوله " فمن استطاع منكم أن يطيل غرته " مدرج من أبي هريرة، وكذلك أفاد كلام الحافظ ابن حجر في " الفتح ". ثانياً: فضل الوضوء، لأنّ هذه الأنوار التي تتلألأ على جباه المؤمنين وأيديهم وأرجلهم يوم القيامة إنما هي من آثار الوضوء كما نص عليه الحديث. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
***
__________
(1) لأنها سبب في تنوير جباه هذه الأمة وأيديهم وأرجلهم.(1/236)
81 - " بَاب لَا يَتَوَضَّأ مِنَ الشَّكِّ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ "
101 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدَ بْنِ عَاصِم المَازِنيّ الأنْصَارِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ شَكَا إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الرَّجُلَ الذي يُخَيَّلُ إليْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيءَ في الصَّلَاةِ، فَقَالَ: لَا يَنْفَتِلُ أو لا يَنْصَرِفْ حتَّى يَسْمَعَ صَوْتَاً أو يَجِدَ رِيحاً".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
81 - " باب لا يتوضأ من الشك "
101 - ترجمة راوي الحديث: هو عبد الله بن زيد بن عاصم الخزرجي الأنصاري اتفق البخاري ومسلم على رواية ثمانية. أحاديث عنه، قتل شهيداً يوم الحرة سنة 67 هـ.
معنى الحديث: يحدثنا عبد الله بن زيد، رضي الله عنه " أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة " أي شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حال الرجل الذي يحس أثناء الصلاة كأن شيئاً قد خرج منه، ويشك في خروج الريح منه أثناء ذلك، ما حكمه؟ وهل ينتقض وضوؤه أم لا؟ " فقال لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً " أي فأجابه - صلى الله عليه وسلم - بأن الشَّك في خروج الريح أثناء الصلاة لا ينقض الوضوء فلا ينصرف من صلاته حتى يسمع صوت الريح، أو يشم رائحته. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله " لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً " إلخ حيث بيّن له - صلى الله عليه وسلم - أن الشكّ في الحدث أثناء الصلاة لا ينقض الوضوء، وكذلك إذا شك خارج الصلاة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن من تيقن الطهارة وشك في الحدث(1/237)
82 - " بَابُ التَّخفِيفِ في الْوُضُوءِ "
102 - عنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ لَيْلَةً فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ في بَعْض اللَّيْلِ، قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فتَوَضّأ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّق وُضُوءاً خَفِيفاً -يُخَفِّفُهُ عَمْرو وَيُقَلِّلُهُ- وقام يُصَلِّي، فَتَوَضَّأتُ نَحوَاً مِمَّاْ تُوَضَّأ ثُمَّ جِئْتُ فقُمْتُ عَنْ يَسارِهِ -وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ عَنْ شِمَالِهِ- فَحَوَّلَنِي فًجَعَلَنِي عَنْ يَمِينهِ ثم صَلَّى مَا شَاءَ اللهُ، ثم اضْطَجَعَ فَنَامَ، حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ أتاهُ الْمُنَادِي، فآذَنَهُ بالصَّلَاةِ، فقَامَ مَعَهُ إلَى الصَّلَاةِ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا يبطل وضوؤه، سواء كان في الصلاة أو خارجها، لأن السبب واحدٌ فيكون الحكم أيضاً واحداً، وهو مذهب الجمهور ومالك في رواية، وقال مالك في رواية أخرى، يلزمه الوضوء مطلقاً، وقال في رواية ثالثة: إن كان خارج الصلاة يلزمه الوضوء، وإن كان داخل الصلاة لا يلزمه، أما من تيقن الحدث، وشكَّ في الطهارة، فإنه يلزمه الوضوء اتفاقاً، سواء كان داخل الصلاة أو خارجها. ثانياً: أن الشكوك التي تقع في الصلاة إنما هي وساوس لا يعتد بها.
82 - " باب التخفيف في الوضوء "
102 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما " بت عند خالتي ميمونة ليلةً فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل " أي فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - عند منتصف الليل ليصلي صلاة التهجد " فتوضأ من شن " بفتح الشين وهو القربة القديمة " وضوءاً خفيفاً " مقتصراً على مرة واحدة، أو مرتين فقط، " وقام يصلي " صلاة التهجد " فقمت عن يساره فحولني فجعلني عن يمينه " أي فسحبني(1/238)
83- " بَابُ إسبَاغِ الْوُضُوءِ "
103- عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّهُ قَالَ: دَفَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عَرَفَةَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشِّعْبِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من يساره، وجعلني عن يمينه " ثم اضطجع فنام حتى نفخ " أي حتى استغرق في النوم، وسُمِعَ صوت شخيره " ثم أتاه المنادي " أي المؤذن " فآذنه بالصلاة " أي فأعلمه بطلوع الفجر ودخول وقت صلاة الصبح " فقام معه إلى الصلاة، فصلى ولم يتوضأ " أي فصلى الصبح بالوضوء الأول، ولم يتوضأ بعد الاستيقاظ من نومه وضوءاً جديداً. الحديث: أخرجه الشيخان.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يجوز تخفيف الوضوء وأن أقل الوضوء يجزىء ولو مرة واحدة، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ في هذه الليلة وضوءً خفيفاً.
ثانياً: أن نوم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو كان مضطجعاً لا ينقض الوضوء -كما أفاده العيني- وكذلك سائر الأنبياء فيقظة قلوبهم تمنعهم من الحدث. ثالثاً: أن موقف المأموم الواحد عن يمين الإِمام، حتى أنه روي عن أحمد أنه إن وقف عن يساره بطلت صلاته - كما أفاده العيني والجمهور على خلافه، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبطل صلاة ابن عباس. والمطابقة: في قوله " فتوضأ من شن معلق وضوءاً خفيفاً ".
83 - " باب إسباغ الوضوء "
103 - ترجمة الراوي: هو أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - وابن حاضنته أم أيمن، أمّره النبي - صلى الله عليه وسلم - على آخر جيش في حياته، كان - صلى الله عليه وسلم - قد وجهه إلى الروم وعمره خمسة عشر عاماً، ومات - صلى الله عليه وسلم - قبل توجهه، فأنفذه الصديق رضي الله عنه وكان عمر يفضله في العطاء على ولده، روى مائة وثمانية وعشرين حديثاً، اتفقا منها على خمسة عشر حديثاً، وانفرد(1/239)
نَزَلَ فبَالَ ثمَّ تَوَضَّأ، وَلم يسبغ الْوضوءَ، فَقلْت: الصَّلَاةَ، يَا رَسولَ اللهِ، فَقَالَ: الصَّلَاة أمَامَكَ، فرَكِبَ، فلمَّا جَاءَ الْمزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأ، فأسْبَغ الْوضوءَ، ثمَّ أقيمَتِ الصَّلَاة، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثمَّ أناخَ كلُّ إنْسَان بَعيرَة في مَنْزِلِهِ ثم أقيمتِ العِشَاء، فصَلَّى وَلَمْ يصَلِّ بَيْنَهمَا".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كل منهما بحديثين توفي بوادي القُرى سنة أربع وخمسين من الهجرة.
معنى الحديث: يقول أسامة رضي الله عنه: " دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة " أي أفاض من عرفة يوم حجة الوداع حتى إذا كان بالشعب، بكسر الشين وسكون العين وهو الطريق المعهودة للحاج كما أفاده القسطلاني " نزل فبال ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء " أي وإنما اقتصر فيه على غسل الأعضاء مرة واحدة، فخفف الوضوء لأنه لم يتوضأ للصلاة وإنما توضأ لاستدامة الطهارة " فقلت: الصلاة يا رسول الله " بالنصب على المفعولية أي أتريد الصلاة " قال: الصلاة أمامك " أي صلاة المغرب تصلى أمامك في المزدلفة " فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء " أي أتمه وأكمله "فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت صلاة العشاء فصلى ولم يصل بينهما" نافلة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب اسباغ الوضوء، لأنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك في المزدلفة، وهو سنته في أغلب أحيانه، ويجوز تخفيف الوضوء، لأنه قد فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشِّعْب (1) . ثانياًً: مشروعية جمع المغرب والعشاء جمع تأخير في مزدلفة. والمطابقة: في قوله فتوضأ فأسبغ الوضوء.
__________
(1) فدل ذلك على أن التخفيف جائز، الاسباغ مستحب لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خفف في الشعب لبيان الجواز، وأسبغ في مزدلفة لبيان الاستحباب.(1/240)
84- " بَابُ غَسْلِ الْوَجْهِ باليَدَيْنِ مِنْ غرْفَةٍ وَاحِدَةٍ "
104 - عن ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
"أنَّهُ تَوَضَّأ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ، أخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَمَضْمَضَ بِهَا، واسْتَنْشَقَ، ثُمَّ أخذَ غَرْفَةً من مَاءٍ، فَجَعَلَ بِهَا هكَذَا أضَافَهَا إلى يَدِهِ الأخْرَى، فَغَسَلَ بهَا وَجْهَهُ، ثمَّ أخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ اليُمْنَى، ثُمَّ أخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يدَهُ اليُسْرَى، ثم مَسَحَ بِرَأسِهِ، ثمَّ أخَذَ غَرْفةَ مِنْ مَاءٍ فَرَشَّ عَلَى رِجْلِهِ اليُمْنَى حَتَّى غَسَلَهَا، ثم أخَذَ غَرْفَةً أُخْرَى، فَغَسَل بِهَا يَعْنِي رِجْلَهُ الْيُسرَى، ثمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
84 - " باب غسل الوجه باليدين من غرفة واحدة "
104 - معنى الحديث: أن ابن عباس رضي الله عنهما " توضأ، فغسل وجهه، ثم أخذ غرفة " وهي بفتح الغين المصدر، وبالضم المغروف وهو ملء الكف. "فمضمض بها واستنشق" أي فجمع المضمضة والاستنشاق في غرفة واحدة " ثم أخذ غرفة " واحدة " فغسل بها وجهه " مرة واحدة، " ثم أخذ غرفة من ماء، فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح برأسه " أي جميع رأسه " ثم أخذ غرفة من ماء فرشّ على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها، يعني رجله اليسرى، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ " أي هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ مثل وضوئي هذا. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز غسل الوجه مرة واحدة، وهي(1/241)
85- " بَابُ مَا يقوُلُ عِنْدَ الخلاءِ "
105- عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَ النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا دخل الخَلاءَ قَالَ: " اللَّهُمَّ انِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ والْخَبَائِثِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الفرض، أمّا الغسلة الثانية والثالثة فهما سنتان، وكذلك الحكم في سائر الأعضاء المغسولة. ثانياً: الجمع بين المضمضة والاستنشاق في غرفة واحدة، وهو حجة للشافعية كما أفاده العيني. ثالثاً: وجوب مسح جميع الرأس.
والمطابقة: في قوله ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها هكذا أضافها إلى يده الأخرى فغسل بها وجهه.
85 - " باب ما يقول عند الخلاء "
105 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم -إذا دخل الخلاء " بفتح الخاء، وهو موضع قضاء الحاجة، سمِّي بذلك لخلوه في غير أوقاتها، وأصله المكان الخالي، ثم كنوا به عن المرحاض، أى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يدخل المكان المعد لقضاء حاجته " قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث " أي اللهم إني أستجير وأتحصن بك من ذكور الشياطين وإناثهم، لأنهم هم الخبث والخبائث سموا بذلك لقذارتهم وشرهم وإضرارهم وإيذائهم للبشر، وإنما كان - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من شرهم عند دخول الخلاء، لأنّ هذه الأماكن هي مأوى الأرواح الشريرة كما قال - صلى الله عليه وسلم - " إن هذه الحشوش محتضرة " أي تحضرها الشياطين. الحديث: أخرجه الستة.
والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة.
ويستفاد منه: استحباب هذه الاستعاذة المأثورة عند دخول الخلاء،(1/242)
86 - " بَابٌ لا تُسْتَقبِلُ القِبْلَةَ بِغائِطٍ أوْ بَوْل، إِلَّا عنْد البِنَاءِ: جِدَار أو غيرِهُ "
106 - عنْ أبي أيوبَ الأنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إذَا أتى أحدُكُمْ الغَائِطَ فلا يَسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ ولا يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ، ولكنْ شَرِّقُوا أو غَرِّبُوا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ليكون المسلم في حرز منيع وحصن حصين من تلك الشياطين، التي تسكن هناك. ولو أنّ الناس استعملوا هذه التعاويذ المباركة، لتخلصوا مما يعانونه في هذا العصر من الهواجس والوساوس والأمراض الجسميّة والنفسية، نسأل الله أن يحمينا منها، ويقينا شرّها.
86 - " باب لا يستقبل القبلة بغائط أو بول إلا عند البناء "
106 - ترجمة راوي الحديث: هو أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري النجاري، نزل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - عند هجرته، وأقام في منزله شهراً، وأخذ من لحيته - صلى الله عليه وسلم - فقال له: " لا يصيبك السوء يا أبا أيوب " أخرجه الحاكم وصححه، وكان من النجباء روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (150) حديثاً، اتفقا منها على سبعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بخمسة، وتوفي في غزوة القسطنطينية سنة (52) هـ.
معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا أَتى أحدكم الغائط " أي مكان قضاء الحاجة " فلا يستقبل القبلة ولا يولِّها ظهره " أي لا يستقبلها، ولا يستدبرها ويجعلها وراء ظهره " ولكن شرقوا أو غربوا " أي استقبلوا المشرق أو المغرب وذلك بالنسبة إلى أهل المدينة ومن على خطهم.
ويستفاد منه: تحريم استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة مطلقاً،(1/243)
87 - " بَابُ الاسْتِنجَاءِ بالْمَاءِ "
107 - عنْ أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا خرَجَ لِحَاجَتِهِ أجيءُ أنا وَغُلَامٌ، مَعَنَا إداوَةٌ مِنْ مَاءٍ يَسْتَنْجِي بِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهو قول أبي حنيفة وأحمد في رواية سواء كان في الفضاء أو البنيان، وذهب مالك والشافعي إلى تحريم الاستقبال والاستدبار في الفضاء خاصة، لحديث ابن عمر أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً على لبنتين مستقبلاً بيت المقدس أخرجه الستة، وقال أحمد: يحرم الاستقبال مطلقاً دون الاستدبار لحديث سلمان قال: " نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلة بغائط أو بول " أخرجه مسلم. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله " فلا يستقبل القبلة ".
87 - " باب الاستنجاء بالماء "
107 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -إذا خرج لحاجته أجيء أنا وغلام معنا إداوة من ماء " أي كان - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج لقضاء الحاجة صحبته أنا وغلام آخر لنقوم بخدمته، وإعداد ما يلزم لطهوره فنحضر له " إدَاوَةً " (1) أي إناءً صغيراً من الماء ليستنجي به. أما ذلك الغلام فقيل هو ابن مسعود رضي الله عنه؛ لقول أبي الدرداء رضي الله عنه: أليس فيكم صاحب النعلين والطهور، يريد ابن مسعود رضي الله عنه، وقيل: هو جابر لقوله رضي الله عنه ذهب رسول الله يقضي حاجته فأتيته بإداوة من ماء. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية الاستنجاء بالماء. كما ترجم له
__________
(1) إداوة بكسر الهمزة في أوله.(1/244)
88 - " بَابُ النَّهْي عنِ الاسْتِنْجَاءِ بالْيَمِيْنِ "
108 - عن أبي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا شَرِبَ أحَدُكُمْ فلا يَتَنَفَّسْ في الإناءِ، وإذَا أتُى الْخَلَاءَ فلا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينهِ، ولا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينهِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
البخاري خلافاً لمن كرهه كابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم وابن حبيب من المالكية لكونه مطعوماً، وسئل حذيفة عن الاستنجاء بالماء فقال: إذن لا يزال في يدي نتن، أخرجه ابن أبي شيبة، ولكن حديث الباب يدل على مشروعيته وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - له، وأنه من سنته، ولا اجتهاد مع النص. ثانياًً: استحباب خدمة الصالحين، وكونها من الآداب الإسلامية التي عرفها المسلمون منذ عهد النبوة، كما يظهر لنا من فعل أنس وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم وغيرهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. والمطابقة: في قوله " يستنجي بالماء ".
88 - " باب النهي عن الاستنجاء باليمين "
108 - ترجمة راوي الحديث: هو أبو قتادة رضي الله عنه الحارث ابن ربعي - بكسر الراء " السلمي " بفتح اللام، فارس النبي - صلى الله عليه وسلم -، شهد ما بعد أحد من المشاهد، وروى (170) حديثاً، اتفقا منها على أحد عشر حديثاً وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بثمانية، وتوفي بالمدينة سنة أربع وخمسين من الهجرة.
معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن التنفس في الإناء أثناء الشرب فقال: " إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء " أي فلا يتنفس داخل الإناء، مريضاً كان أو صحيحاً سواء كان المشروب ماءً أو لبناً أو عصيراً أو غيره، حرصاً على النظافة والسلامة العامة، ووقاية من العدوى. ونهي أيضاً عن(1/245)
89 - " بَابُ الاستِنجَاءِ بالْحجَارَةِ "
109 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
اتبَّعْتُ النَّبِيَّ وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ، فكانَ لَا يَلْتَفِتُ، فَدَنَوْتُ (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الاستنجاء باليد باليمنى، فقال: " وإذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه " أى بيده باليمنى " ولا يتمسح بيمينه " أي ولا يستنج بيده اليمنى أيضاً تكريماً لها عن مس الأذى. الحديث: أخرجه الخمسة، ولم يخرجه النسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: كراهية الاستنجاء باليد اليمنى في قبل أو دبر وهو مذهب الجمهورَ، حيث حملوا النهي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولا يتمسّح بيمينه " على كراهة التنزيه. ثانياً: يكره مس الذكر باليمين. ثالثاً: النهي عن التنفس داخل الإناء أثناء الشرب خشية الإضرار بالآخرين، واختلفوا في حكمه فذهبت الظاهرية إلى أنه حرام، حيث حملوا النهي على التحريم، وذهب الجمهور إلى أنّه مكروه لأن النهي في الحديث نهي إرشاد، فيحمل على الكراهة.
والمطابقة: في قوله " ولا يتمسّح بيمينه ".
89 - " باب الاستنجاء بالحجارة "
أي هذا باب يذكر فيه مشروعية الاستنجاء بالحجارة بدلاً عن الاستنجاء بالماء، وهو ما يسمى عند الفقهاء بالاستجمار، فالاستنجاء بالحجارة والاستجمار اسمان لمعنى واحد.
109 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " اتبعْتُ " بتشديد التاء " اتبعت النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي سرت وراءه " وخرج لحاجته " أى وكان قد خرج لقضاء حاجته " فكان لا يلتفت " أي فكان من عادته وحسن
__________
(1) دنوت منه أي اقتربت منه لأكون على استعداد لخدمته فيما يحتاج إليه واحضار طلباته.(1/246)
مِنْهُ، فَقَالَ: ابغِني أحْجاراً أسْتَنْفِضْ. بِهَا أو نَحْوَهُ، ولا تأتِني بعَظْمٍ ولا رَوْثٍ، فَأتَيْتُهُ بأحْجَارٍ بِطرَفِ ثِيابِي فَوَضَعْتُهَا إلَى جَنْبِهِ، وأعْرَضْتُ عنه، فلَمَّا قَضَى أتْبعَهُ بِهِنَّ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سلوكه أنه لا يلتفت أثناء سيره إلاّ لضرورة وحاجة لأن كثرة الالتفات دون سبب أو عذر يقتضيه لون من ألوان العبث، وأفعال العُقلاء تصان عن العبث، ثم هو يدل على الحماقة والطيش والرعونة، وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك " فقال ابغني أحجاراً أستنفض بها " بالجزم على أنه جواب الأمر، وبالرفع على الاستئناف، والاستنفاض الاستخراج قال في القاموس: استنفضه استخرجه، وبالحجر استنجي. فالاستنفاض هنا كناية عن الاستنجاء بالحجارة، أي اطلب لي ثلاثة أحجار وأحضرها لكي أستنجي بها " ولا تأتي بعظم ولا روث " أي وأنهاك عن أن تحضر لي شيئاً من العظم أو الروث (1) لأنه لا يجوز الاستنجاء بهما لنجاسة الروث، وعدم صلاحية العظم للانقاء وإزالة النجاسة وتنظيف المحل، قد يكون هذا هو سبب النهي عنهما - أو لأنهما طعام المؤمنين من الجن كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، فقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن وفد الجن قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا محمد إنه أمتك عن الاستنجاء بالعظم والروث، لأن الله تعالى جعل لنا فيه رزقاً، فنهاهم عن ذلك، وقال: " إنّه زاد إخوانكم من الجن " رواه أبو داود (2) . قال: " فأتيتهُ بأحجار طرف ثيابي " أي فأتيته ببعض الأحجار أحملها في طرف ثوبي " وأعرضت عنه " أي ابتعدت عنه " فلما قضى " أي فلما انتهي من قضاء حاجته " أتبعه بهن " وهو كناية عن الاستجمار أي فلما
__________
(1) وهو رجيع ذوات الحافر.
(2) شرح صحيح البخاري للشيخ قاسم الشماعي الرفاعي.(1/247)
90 - " بَاب لا يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ "
110 - عنْ ابنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
أتَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْغَائِطَ فأمَرَنِي أنْ آتِيَهِ بِثَلاثَةِ أحْجَارٍ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ، فالتَمَسْتُ الثَّالِثَ، فَلَمْ أجدْهُ، فأخَذْتُ رَوْثَةً فأتَيْتُهُ بهَا، فأخَذَ الْحَجَرَيْنِ، وألْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: هَذَا رِكْسٌ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فرغ من حاجته استنجى واستجمر بتلك الأحجار التي أحضرتها لديه.
فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الاستجمار وجواز الاستغناء بالحجارة عن الماء لقوله - صلى الله عليه وسلم - " ابغني أحجاراً أستنفض بها " وقد ذهب أحمد وأهل الظاهر إلى أن الاستجمار لا يكون إلاّ بالأحجار خاصة، لأنها هي المنصوص عليها في لفظ الحديث، والجمهور على جواز الاستجمار بكل جامد طاهر منق غير مطعوم ولا محترم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه إلاّ عن العظم والروث، وذلك لكونهما مطعومين للجن، ولكون العظم غير منق، فكل ما كان مطهراً منقياً غير مطعوم لآدمي فإنّه يجوز الاستجمار به. ثانياً: لا يجوز الاستجمار بالعظم والروث وما في معناهما. الحديث: أخرجه الخمسة. والمطابقة: في قولة ابغني أحجاراً.
90 - " باب لا يستنجي بروث "
110 - معنى الحديث: يقول ابن مسعود رضي الله " أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط " أي ذهب لقضاء حاجته " فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين فالتمست الثالث فلم أجده " أي وبحثت عن حجر ثالث فلم أعثر عليه " فأخذت روثة " أي قطعة من رجيع بعض الحوافر كالحمار وغيره " فأتيته بها " أي فأتيته بالحجرين والروثة " فأخذ الحجرين وألقى(1/248)
الروثة، وقال: هذا ركس" أي الروث نجس، أو لا يجوز استعماله لأنّه طعام الجن، وهو الثابت في الأحاديث الصحيحة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه لا يجوز الاستجمار بالروث إمّا لنجاسته، أو لأنه طعام المؤمنين من الجن، ويلحق به في النهي كل ما يشبهه من المطعومات أو النجاسات، فلا يجوز الاستنجاء بكل مطعوم للآدمي لحرمته، فإن اختص بالبهائم أو غلب فيها لم يحرم. وكذلك لا يجوز الاستجمار بالنجس، وما عدا ذلك فإنه يجوز، سواء كان من الأحجار أو غيرها، وإنما خَصَّ الأحجار بالذكر لكثرة وجودها ولهذا قالوا: يجوز الاستجمار بكل جامد طاهر منق غير محترم. وإنما نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بنهيه عن الروث على تحريم الاستنجاء بكل نجس أو بكل مطعوم لآدمي كما ورد النهي عن العظم في الحديث السابق حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تأتني بعظم ولا روث " والمراد بالعظم، العظم وكل ما شابهه من الأشياء اللزجة الملساء التي لا تزيل النجاسة، كالزجاج الأملس، فإنها لا يجوز الاستنجاء بها. ثانياًً: مشروعية التثليث في الاستجمار لقوله رضي الله عنه " فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار " وهو شرط عند الشافعيّة، فلا بد أن يكون، بثلاثة أحجار أو بحجر له ثلاثة رؤوس، قال في " كفاية الأخيار ": والواجب ثلاث مسحات فإن حصل الإنقاء بها وإلّا وجبت الزيادة إلى الانقاء، وهدو مذهب الظاهرية أيضاً، وقال الجمهور: التثليث سنة، والواجب الانقاء، وسبب اختلافهم تعارض المفهوم وظاهر اللفظ (1) في الأحاديث التي ذكر فيها العدد، فمن كان المفهوم عنده من الأمر إزالة عين النجاسة، لم يشترط العدد، ومن صار إلى ظواهر هذه الآثار واستثناها من المفهوم قال بوجوب العدد في الاستجمار وغيره مما ذكر فيه العدد. الحديث: أخرجه النسائي وابن ماجة أيضاً. والمطابقة: في قوله " وألقى الروثة ".
__________
(1) بداية المجتهد لابن رشد ج 1.(1/249)
91 - " بَابُ الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً "
111 - عن ابْنِ عَبَّاس رَضِيِ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
تَوَضَّأ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّةً مَرَّةَ.
92 - " بَابُ الُوضُوءِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ "
112 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ الأنْصَارِيِّ:
أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
91 - " باب الوضوء مرة مرة "
111 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة " أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ في بعض الأوقات مرة مرة فغسل كل عضو مرة واحدة وتمضمض مرة واحدة واستنشق مرة واحدة. الحديث: أخرجه أيضاً الأربعة. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
92 - " باب الوضوء مرتين مرتين "
112 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ في بعض الأوقات مرتين مرتين، فغسل كل عضو مرتين، وتمضمض واستنشق مرتين.
الحديث: أخرجه الستة إلا ابن ماجه. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
***(1/250)
93 - " بَابُ الْوُضُوءِ ثَلاثاً ثَلاثَاً "
113 - عنْ عُثمانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ دَعَا بإنَاء فَأفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرارٍ، فَغَسَلَهُمَا، ثمَّ أدْخَلَ يَمِيْنَهُ في الإنَاءِ فَمَضْمَضَ، واستنْثَرَ، ثمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرارٍ، وَيَدَيْه إلى المِرْفَقَيْن ثَلَاثَ مِرَارٍ، ثمَّ مَسَحَ بِرَأسِهِ، ثمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثَ مَرارٍ إلى الْكَعْبَيْنِ، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَوَضَّأ نَحْوَ وُضُوئِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
93 - " باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً "
113 - ترجمة راوي الحديث: هو الخليفة الراشد عثمان بن عفان بن أبي العاص الأموي، أسلم رابع أربعة، ولقب بذي النورين لأنّه تزوج رقية وأم كلثوم ابنتي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان - صلى الله عليه وسلم - يعظمه، ويستحي منه ويقول: " ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة " كان رضي الله عنه جواداً كريماً، جهز جيش العسرة بألف دينار، واشترى بئر رومة بعشرين ألف درهم، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ولي الخلافة أول يوم من محرم سنة أربع وعشرين وقتل شهيداً يوم الجمعة 18 ذي الحجة سنة 35 من الهجرة، روى (146) حديثاً أخرج البخاري منها أحد عشر حديثاً، رضي الله عنه وأرضاه.
معنى الحديث: أن عثمان رضي الله عنه " دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار، فغسلهما " أي فغسل يديه مجتمعتين أو متفرقتين ثلاث مرات، كما أفاده ابن دقيق العيد " ثم أدخل يمينه فمضمض واستنشق " أي ثم أدخل يده اليمنى في الإناء، فأخذ غرفة واحدة من الماء فتمضمض واستنشق من تلك الغرفة " واستنثر " أي أخرج الماء من أنفه بقوة النفس، " ثم غسل وجهه ثلاث مرار ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار " أي وغسل يديه إلى المرفقين ثلاث(1/251)
هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فيهما نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مرات " ثم غسل رجَليه ثلاث مرار إلى الكعبين " أي ثم كرر غسل رجليه ثلاث مرات أيضاً " ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ نحو وضوئي هذا " أي ثم نسب رضي الله عنه هذه الكيفية التي توضأ بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسندها إليه، فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من توضأ مثل وضوئي هذا "، أي في الإِسباغ والإِتقان والإِتمام، وتكرار الغسل ثلاث مرات " ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه " أي لا يفكر أثناءهما في شيء من أمور الدنيا " غفر له ما تقدم من ذنبه " أي كان ذلك سبباً في غفران ذنوبه السابقة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - غسل وجهه ويديه ورجليه ثلاثاً.
ويستفاد من الأحاديث الثلاثة: أولاً: أن الفرض في الوضوء هو غسل العضو مرة واحدة كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، لأنه لو كانت المرة الواحدة لا تكفي لما اقتصر عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن غسْل الأعضاء مرتين أو ثلاثاً سنة لما في حديث ابن زيد وعثمان رضي الله عنهما من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غسل مرتين وثلاثاً. ثانياً: مشروعية غسل اليدين إلى الكوعين قبل إدخالهما في الإِناء، وهو سنة. ثالثاً: مشروعية الترتيب في الوضوء، ولولا ذلك لا أدخل الرأس بين اليدين والرجلين، وهما مغسولتان.
***(1/252)
94 - " بَابُ الاستنثارِ في الْوُضُوءِ "
114 - عن أبي، هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَنْ تَوَضَّأ فَلْيَسْتَنْثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِر ".
95 - " بَابُ الاسْتِجْمَارِ وِتراً "
115 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إذَا تَوَضَّأ أحَدُكُمْ فلْيَجْعَلْ في أنْفِهِ مَاءً، ثمَّ لِيَنْثُرْ، ومَنِ اسْتَجْمَرَ فلْيُوتِر، وإذَا اسْتَيْقَظَ أحَدُكُمْ مِنْ نَومِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْل أنْ يُدْخِلَهَا في وَضُوئِهِ، فإنَّهُ لَا يَدْرِي أينَ بَاتَتْ يَدُهُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
94 - " باب الاستنثار في الوضوء "
114 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من توضأ فليستنثر " أي فليخرج الماء من أنفه بقوة النفس لتنقيته من الأقذار الموجودة فيه، " ومن استجمر فليوتر " أي فليستجمر وتراً، وسيأتي إيضاحه. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
ويستفاد منه: مشروعية الاستنثار في الوضوء، وهو سنة اتفاقاً. قال العيني: والإِجماع قائم على عدم وجوبه. والمطابقة: في قوله: من توضأ فليستنثر.
95 - " باب الاستجمار وتراً "
115 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر " أي(1/253)
96 - " بَابُ غَسْلِ الإِعْقَابِ "
116 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنهُ قَالَ:
أسْبِغُوا الْوُضُوءَ فَإِنَّ أبَا القَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " وَيْل لِلأعْقَابِ مِنَ النَّار ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فليستنشق في أنفه بالماء ثلاث مرات " ومن استجمر فليوتر " أي ومن استنجى بالحجارة فليوتر بثلاثة أحجار، أو خمسة، أو نحو ذلك " وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه " أي فليغسل يده خارج الإِناء لينظفها من الأقذار قبل أن يدخلها في الماء الذي يتوضأ به " فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده " أي فلعل يده قد أصابتها النجاسة أثناء نومه وهو لا يدري.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية الاستجمار وتراً بثلاثة أحجار أو خمسة أو نحوها، كما ترجم له البخاري، وهو سنة عند الجمهور، والواجب هو الإِنقاء، وقال أحمد والشافعى: التثليث واجب (1) . ثانياً: مشروعية غسل اليدين قبل إدخالهما في الإِناء لمن استيقظ من النوم استحباباً، وهو مذهب الجمهور. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله " من استجمر فليوتر ".
96 - " باب غسل الأعقاب "
أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على وجوب غسل الأعقاب في الوضوء، جمع عقب بكسر القاف، وهو العظم المرتفع عند مفصل الساق والقدم.
116 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه " أسبغوا
__________
(1) قال ابن قدامة في عمدة الفقه: " ولا يجزىء أقل من ثلاث مسحات منقية ".(1/254)
الوضوء" أي اجتهدوا في إتمام الوضوء، واحرصوا كل الحرص على غسل جميع الأعضاء غسلاً كاملاً، واستيعاب كل عضو منها بحيث يصيب الماء ذلك العضو كله من أوله إلى آخره، ولا يبقى شيء منه لا يمسه الماء، ولاحظوا المواضع التي لا يصل إليها الماء، وفي مقدمتها الأعقاب، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب غسلها، وحذر من تركها دون غسل فقال - صلى الله عليه وسلم - " ويل للأعقاب من النار " أي العذاب الشديد يوم القيامة للذين لا يغسلون أعقابهم -عمداً- عند غسل أقدامهم وقيل: ويل اسم لوادٍ في جهنم والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن استيعاب الأعضاء المغسولة، وغسلها كلها من أولها إلى آخرها فرض من فروض الوضوء، فيجب غسل اليدين من رؤوس الأصابع إلى آخر المرفقين، وغسل الوجه من منابت الشعر إلى آخر الذقن، وغسل الرجلين من رؤوس الأصابع إلى آخر الكعبين فمن ترك شيئاً من العضو دون غسل، فقد ترك الفرض الذي عليه، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - توعد الذين يتركون غسل أعقابهم عند غسل أقدامهم بالعذاب الشديد يوم القيامة، والعذاب لا يترتب إلاّ على ترك فرض، ولهذا قال الفقهاء: من ترك شيئاً من العضو المغسول عمداً ولم يغسله كله بطل وضوءه، لأنه ترك فرضاً.
ثانياً: ان ترك أي شيء من العضو المغسول في الوضوء عمداً كبيرة من الكبائر لأن هذا الوعيد لا يكون إلاّ لمن ارتكب كبيرة. والمطابقة: في قوله " ويل للأعقاب من النار " لأن هذا العقاب المترتب على ترك غسل الأعقاب يدل على وجوب غسلها، وهو ما ترجم له البخاري.
***(1/255)
97 - " بَابُ الْتَيَمُّنِ في الوُضُوءِ والْغسْلِ "
117 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعْجِبُهُ التَيّمَّنُ في تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطَهُورِهِ وفي شَأنِهِ كُلِّهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
97 - " باب التيمن في الوضوء والغسل "
117 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن " أي كان - صلى الله عليه وسلم -ّ يسرُّه ويطيب له أن يبدأ باليمين في جميع الأعمال الشريفة، فيبدأ بالجهة اليمنى " في تنعله " أي في لبس نعله، فُيلْبسُ رجله اليمنى قبل اليسرى. " وترجله " أي ويبدأ باليمين أيضاً عند تسريح شعر رأسه. " وطهوره " أي ويبدأ باليمين في طهارة الحدث من وضوء أو غسل، فيقدم اليد اليمنى على اليسرى في الوضوء والميامن على المياسر في الغسل " وفي شأنه كله " أي وكذلك يتيامن في جميع الأعمال الشريفة كلبس الخف.
والاكتحال، ونحو ذلك.
ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: استحباب تقديم الميامن على المياسر في الوضوء والغسل وغيره من الأعمال الشريفة. قال ابن المنذر، وأجمعوا على أنَّه لا إعادة على من بدأ بيساره قبل يمينه، ونص الشافعي على أن الابتداء باليسار مكروه، كما أفاده النووي. ثانياًً: قال النووي: وأما ما كان بضد التكريم فإنه استحب فيه التياسر، كالاستنجاء والامتخاط والخروج من المسجد. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قولها كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن.
***(1/256)
98 - "بَاب الْتِماس الْوضوءِ إذَا حَانت الصَّلَاة"
118 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ الله عَنْه قَالَ:
رَأيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَحَانَتْ صَلَاةُ العَصرِ، فالْتَمَس النَّاسُ الْوَضُوءَ، فَلَمْ يَجِدُوه، فأتِيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِوَضُوءٍ فَوَضَعَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ في ذَلِكَ الإناءِ، وَأمَرَ النَّاسَ يَتَوَضَّؤوا مِنْه، فَرَأيْت الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أصَابِعِهِ حتَّى تَوضَّؤوُا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
98 - " باب التماس الوضوء إذا حانت الصلاة "
118 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وحانت صلاة العصر " أي وقد دخل وقت صلاة العصر، " فالتمس الناس الوضوء " بفتح الواو أي فطلب الصحابة الماء بعد دخول الوقت، ليتوضؤوا به، فلم يجدوه، وكان ذلك بالزوراء عند المسجد المعروف بمسجد السيدة فاطمة كما رجحه فضيلة الشيخ عطية محمد سالم في تكملة " أضواء البيان " (1) " فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوضوء " أي فجيء إلى - النبي - صلى الله عليه وسلم - بإناء صغير فيه ماء قليل يصلح للوضوء، فوضع يده في ذلك الإناء المذكور " فرأيت الماءَ ينبع من تحت أصابعه حتى توضؤوا عن آخرهم " أي فلما وضع - صلى الله عليه وسلم - يده في الإناء حدثت المعجزة العظيمة، فشاهدت الماء يتدفق بقوة من بين أصابعه الشريفة، وتكاثر الماء حتى كفاهم جميعاً فتوضؤوا منه من أوَّلِهم إلى آخرهم، قال قتادة لأنس: كم كنتم قال ثلاثمائة أو زُهاء -بضم الزاي- ثلاثمائة أبي ما يقارب هذا العدد. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
__________
(1) تكملة " أضواء البيان " لفضيلة الشيخ عطية سالم.(1/257)
99 - " بَاب إذَا شَرِبَ الْكَلْبُ في إِناءِ أحَدِكُمْ فَلْيَغسِلْهُ سَبْعَاً "
119 - عن أبي هريْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْه:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْه وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ في إِنَاءِ أحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَاً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه لا يجب طلب الماء للوضوء، إلاّ بعد دخول الوقت لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على أصحابه التأخير في طلب الماء إلى ما بعد دخول الوقت، وقد فرّع الفقهاء على ذلك عدم جواز التيمم قبل دخول الوقت، وهو مذهب مالك والشافعي، وأجازه الحنفية. ثانياًً: وجوب المواساة عند الضرورة. ثالثاً: إثبات " المعجزات لنبينا - صلى الله عليه وسلم - ". والمطابقة: في كونهم لم يطلبوا الماء إلاّ لما حان وقت العصر، وإقرار النبي لهم على ذلك.
99 - " باب إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً "
119 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا شرب الكلب في إناء أحدكم " أي إذا شرب الكلب من أي إناء فيه سائل، ماء أو غيره، مملوكاً له أو لسواه، كما في رواية أخرى: " إذا ولغ الكلب في الإِناء " أي شرب منه بطرف لسانه، أو أدخل لسانه فيه وحركه، وهذا شامل لجميع الكلاب، سواء كان كلب صيد أو غيره " فليغسله سبعاً " أي فإنه مأمور أن يغسله سبع مرات قبل أن يستعمله في وضوء أو غسل أو غيره. وهذا الحديث وإن اقتصر على الأمر بغسله إلاّ أنه جاء الأمر في حديث آخر بتتريبه كما في رواية أبي داود حيث قال: فاغسلوه سبع مرات السابعة بالتراب " وفي رواية عند أحمد ومسلم وأبي داود " وعفروه الثامنة بالتراب ". الحديث: أخرجه الستة.(1/258)
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: وجوب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبع مرات، وان التسبيع أمر لا بد منه، وهو مذهب الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: لا يجب التسبيع وإنما يجب غسله فقط، والحديث في دلالة ظاهرة على وجوب غسل الإناء سبعاً كما ذهب إليه الجمهور (1) من الصحابة والتابعين وسائر فقهاء الإسلام، إلاّ أن الحنفية حملوا السبع على الندب (2) واختلفوا في التتريب، فذهب الجمهور إلى وجوبه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات السابعة بالتراب " خلافاً لأبي حنيفة. والحكمة في تتريبه أن ريق الكلب فيه لزوجة فأمر - صلى الله عليه وسلم - بغسله بالتراب لأن فيه طهورية وإزالة لها ويجزىء عن التراب الاشنان والصابون ونحوهما والصابون ونحوه أبلغ (3) وأقوى في الإزالة والإنقاء. ثانياً: نجاسة الكلب ونجاسة سؤره وكل ما خرج منه، وبهذا قال الجمهور، لأن العلة عندهم في غسل الإناء تنجسه بسؤر الكلب الذي وقع فيه، ومما يؤكد أن النجاسة هي العلة الشرعية في الأمر بغسله ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب " (4) فإن قوله - صلى الله عليه وسلم - " طهور إناء أحدكم " يدل على نجاسة الإناء الذي ولغ فيه الكلب -لأن الطهور والطهارة معناهما إزالة النجاسة، فيكون معنى الحديث أن تطهير الإناء الذي ولغ فيه الكلب، وإزالة النجاسة منه لا تكون إلّا بغسله سبعاً، ومعنى ذلك أن الإناء قد تنجس، وأنه لا يطهر إلاّ بغسله سبعاً، فالعلة إذن هي النجاسة. وذهب مالك إلى طهارة الكلب وسؤره، وقال: العلة في الأمر بغسل- الإناء من شربه فيه شيء آخر غير النجاسة، وأن
__________
(1) الإحكام شرح أصول الأحكام ج 1 للشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الحنبلي النجدي المتوفى سنة 1392.
(2) ويكفى غسله ثلاثاً كما في عون المعبود ج 1.
(3) الإحكام شرح أصول الأحكام للشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي الحنبلي.
(4) أخرجه مسلم وأبو داود.(1/259)
120 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
كَانَتِ الكِلَابُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ في الْمَسْجِدِ في زمَانِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئَاً مِنْ ذَلِكَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الأمر بغسله سبعاً إنما هو أمر تعبدي لم نَطّلِع على حكمته، وسر مشروعيته، ولم تظهر لنا العلة فيه، هذا هو قول مالك وقد كشف الطب عن وجود جرثومة مرضية في الكلب هي جرثومة الكلب التي تنتقل عن طريق العدوى من الكلب المصاب بهذا المرض إلى الإِنسان فيصاب بهذا المرض الخبيث، وبذلك فقد أصبحت العلة في غسل الإناء إنما هي أمر صحي وهو الوقاية من العدوى ولا علاقة لذلك بالنجاسة. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث.
120 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " كانت الكلاب تقبل وتدبر في المسجد " أي تمر في المسجد وتسير فيه وتقطعه ذهاباً وإياباً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بل كانت تبول فيه كما في رواية أبي نعيم والبيهقي " فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك " أي فما كانوا يرشون شيئاً من مواضع بولها. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود.
ويستفاد منه: كما قال مالك: أن الكلب طاهر، وكذلك سؤره، وكل
ما خرج منه، قال مالك: ولولا طهارة الكلاب لما تركها الصحابة تسير
في المسجد وتبول فيه على مرأى من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما أقرهم - صلى الله عليه وسلم - على ذلك
دون أن يأمرهم بإخراجها من المسجد وتطهير مواضع بولها فيه: وقالت الحنفية: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يتركوا الكلاب في المسجد لطهارتها وطهارة أبوالها، ولكن لأن أرض المسجد كانت معرّضةً للشمس والريح، فهما تطهرانها كما عليه أكثر أهل العلم. قال (1) شيخ الإِسلام وغيره: إذا أصابت الأرض
__________
(1) الإحكام شرح أصول الأحكام للشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الحنبلي النجدي.(1/260)
100 - " باب مَنْ لَمْ يَرَ الوضوءَ إلا من الْمَخرَجَيْنِ مِنَ الْقبلِ والدُّبرِ "
121 - عن أبي هرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْه قَالَ:
قَالَ النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: لا يَزَال الْعَبْد في صَلَاةٍ مَا كَانَ في الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصلَاةَ مَا لَمْ يُحدِثْ، فَقَال رَجل أعْجَمِي (1) : ما الْحَدَث يَا أبا هرَيْرَةَ؟ قَالَ: الصَّوْت -يَعْنِي الضرطَة-.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نجاسة فذهبت بالشمس أو الريح أو الاستحالة فمذهب الأكثر طهارة الأرض، وجواز الصلاة عليها، هذا مذهب أو حنيفة، وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد، والقول القديم للشافعي، وهذا القول أظهر من قول من لا يطهرها بذلك " اهـ. ويدل على ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما " أن الأرض إذا جفت بالشمس طهرت " والله أعلم. والمطابقة: في قولها كانت الكلاب تقبل وتدبر في المسجد ".
100 - " باب من لم ير الوضوء إلاّ من المخرجين من القبل أو الدبر " 121 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يزال العبد في صلاة ما كان في المسجد ينتظر الصلاة ما لم يحدث " أبي يعتبر العبد المسلم في صلاة ويحتسب، له أجرها وثوابها مدة كونه داخل المسجد، ما لم يقع منه حدث، أو ما دام لم ينتقض وضوءه بحدث " فقال رجل أعجمي (1) ما الحدث؟ " أي ما هو الحدث الذي ينقض الوضوء، " قال الصوت " أي فأجابه أبو هريرة. بأن الحدث الموجب للوضوء هو ما خرج من أحد
__________
(1) الأعجمي: من لا يفصح وإن كان عربياً، والعجمي: من جنسه العجم وإن أفصح. (ع) .(1/261)
101 - " بَابُ الرَجُلَ يُوَضِّأُ صَاحِبَه "
122 - عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِى اللهُ عَنْهُ:
أنهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، وَأَنَّهُ ذَهَبَ لحَاجَةٍ لَهُ، وأَنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السبيلين، ومثل له بالريح، لأنه لا يقع في المسجد غيره. الحديث: أخرجه الستة إلا ابن ماجة.
ويستفاد منه: كما قال بعضهم: أنه لا يجب الوضوء إلاّ فيما خرج من أحد السبيلين القبل أو الدبر خاصة، كما ترجم له البخاري، وهو مذهب مالك والشافعي. إلاّ أن الشافعي عمم الوضوء في كل ما خرج منهما سواء كان معتاداً أو غير معتادٍ على وجه الصحة أو المرض. ولذلك قال ينقض الوضوء بما خرج منهما، ولو كان غير معتاد كالدود والحصى، ولو خرج على سبيل المرض كسلس البول والغائط. واعتبر مالك الخارج والخرج وصفة الخروج فقال: لا يجب الوضوء إلاّ من الخارج المعتاد، من المخرج المعتاد، على سبيل الصحة والاعتياد، ولذلك أوجب الوضوء من البول والغائط والريح والمذي والودي إذا خرجت من الخرجين في حال الصحة، ولم يوجبه في سلس البول والغائط والريح لأنّه خرج في حال المرض، وكذلك قال مالك: لا يجب الوضوء من الدود والحصى إذا خرجا من المخرجين لأنّه خارج غير معتاد.
والمطابقة: في قول أبي هريرة لما سئل عن الحدث فقال الصوت. حيث فسر الحدث بما خرج من السبيلين، ومثل له بالصوت أي خروج الريح.
101 - " باب الرجل يوضأ صاحبه "
122 - ترجمة راوي الحديث: هو المغيرة بن شعبة أسلم عام الخندق وشهد الحديبية، روى (136) حديثاً اتفقا على تسعة، وانفرد البخاري(1/262)
مُغِيرَةَ جَعَلَ يَصُب الْمَاءَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَتَوَضأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْه، وَمَسَحَ بِرَأسِهِ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بواحد، ومسلم بحديثين، توفي بالكوفة سنة خمسين من الهجرة.
معنى الحديث: يحدثنا المغيرة رضي الله عنه " أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر " أي في غزوة تبوك " وأنه ذهب لحاجة له، وأن مغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ " أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب لقضاء حاجته، فرافقه المغيرة يحمل له الماء الذي يستنجي منه ويتوضأ به، كما في رواية مسلم عن المغيرة رضي الله عنه قال: " فحملت معه إداوة قبل صلاة الفجر " فلما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من قضاء حاجته، وأراد الوضوء، جعل المغيرة يصب عليه الماء وهو يتوضأ " فغسل وجهه " ثلاثاً، كما في رواية أحمد، " ومسح رأسه ومسح على الخفين " بدلاً منْ غسل الرجلين. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز الاستعانة بالغير في الوضوء، وأن يوضأ الرجل صاحبه كما ترجم له البخاري، وذلك بأن يصب عليه الماء أثناء وضوئه كما فعل المغيرة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث. وهل يجوز الاستعانة بالغير مطلقاً في الصب والدلك، أو في صب الماء فقط، كما جاء في نص الحديث، ذهب إلى الأول الجمهور، وذهب إلى الثاني أبو حنيفة. ثانياً: أن من الآداب الإسلامية التي سنها النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الأمة خدمة الصغير للكبير، ويدخل في ذلك خدمة الطالب لشيخه، والولد لأبيه، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر المغيرة لخدمته تشريعاً لأمته. والمطابقة: في قوله: جعل يصب الماء عليه.
***(1/263)
102 - " بَابُ قِراءَةِ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْحَدَثِ وَغَيْرِهِ "
123 - عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوج النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَام رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إِذَا انتصَفَ اللَّيْلُ أو قَبْلَهُ بِقَلِيل أو بَعْدَهُ بِقَلِيل، اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأ الْعَشْرَ الآيَاتِ الْخَواتِمَ مِنْ سُورَةِ آلَ عِمْرَانَ" (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
102 - "باب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره "
أي هذا باب يذكر فيه جواز قراءة القرآن بعد الحدث - أي جواز قراءته على غير وضوء، وأن الوضوء لا يجب على من يريد قراءة القرآن.
123 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما " أنه بات ليلة عند ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي نام عندها في بيت رسول الله ليلة من الليالي وهو غلام صغير " حتى إذا انتصف الليل " أي فلما كان نصف الليل " استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من نومه ليصلي صلاة التهجد كعادته كل ليلة " فجعل يمسح النوم عن وجهه " أي يمسح بيده على وجهه وعينيه ليطرد النوم عنها ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران " أي ثم قرأ العشر الآيات الأخيرة من سورة آل عمران وهي من قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) إلى آخر السورة على غير وضوء. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز قراءة القرآن بغير وضوء كما ترجم
__________
(1) هذا الحديث اختصرناه من حديث طويل تقدم في باب التخفيف في الوضوء، وذكرنا منه ما يتناسب مع الترجمة اهـ.(1/264)
103 - " بَابُ مَسْحِ الرَّأس كُلِّهِ "
124 - عَنْ عبْدِ اللهِ بْنِ زَيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ قالَ لَهُ رَجُل: أتستطِيعُ أنْ تُرِيني كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأ؟ فَدَعَا بماءٍ فَأفْرَغَ عَلَى يَدَيْه فَغَسَلَ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَضْمَضَ واسْتَنْثَرَ ثَلَاثاً، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثاً، ثم غَسَلَ يَدَيْه مَرَّتَيْنِ إلى الْمِرْفَقَيْنِ، ثم مَسَحَ رَأسَهُ بِيَدَيْه، فَأقْبَلَ بِهِمَا وأدْبَرَ، بَدَأ بِمُقَدَّمِ رَأسِهِ حتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إلى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلى المَكَانِ الذِّي بَدَأ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
له البخاري " بشرط أن يكون بدون مس المصحف " وهو مذهب الجمهور.
ثانياًً: استحباب قراءة العشر الآيات الأخيرة من سورة آل عمران عند الانتباه من النوم في الليل. والمطابقة: في قوله " ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران ".
103 - " باب مسح الرأس كله "
124 - معنى الحديث: يحدثنا الراوي عن ابن زيد رضي الله عنه " أنه قال له رجل أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ " أي هل بامكانك أن تتوضأ أمامي مثل وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - فتعلمني كيفية وضوئه عملياً " فدعا بماء فأفرغ على يديه فغسل " أي غسل كفيه خارج الإناء " مرتين " قبل أن يدخلهما فيه " ثم مضمض واستنثر ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين " يعني أنه - صلى الله عليه وسلم - غسل بعض الأعضاء ثلاثاً وبعضها مرتين " ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر " أي مسح رأسه كله من أوله إلى آخره مقبلاً بيديه ومدبراً، ثم فسر ذلك بقوله " بدأ بمقدم رأسه حى ذهب بهما إلى قفاه " أي مسح رأسه بكفيه من أول رأسه(1/265)
104 - " بَابُ اسْتِعْمَالِ فضلِ وَضُوءِ النَّاس "
125 - عن أبِي جُحَيْفَةَ (1) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالْهَاجِرَةِ فأتي بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَأخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَيَتَمَسَّحُونَ بهِ، فَصَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ والْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ يَدَيْه عَنَزَة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلى آخره " ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه " أي ثم مسحه من آخره إلى أوله ورجع بكفيه من قفاه إلى ناصيته. الحديث: أخرجه الخمسة.
ويستفاد منه: أن الفرض في الوضوء مسح الرأس كله، ولا يجزىء مسح بعضه وهو مذهب مالك وأحمد لقوله: " فأقبل بهما وأدبر " وفي رواية ابن زيد الأخرى " مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ناصيته إلى قفاه ثم ردّ يديه إلى ناصيته، فمسح رأسه كله " أخرجه ابن خزيمة، وقال أبو حنيفة: يجزىء ربع الرأس، وقال الشافعي يجزىء أقل ما يقع عليه اسم المسح " (2) اهـ كما في الإِفصاح (3) .
والمطابقة: في قوله " فأقبل بهما وأدبر ".
104 - " باب استعمال فضل وضوء الناس "
125 - معنى الحديث: يقول أبو جحيفة رضي الله عنه: " خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة " أي عند الزوال " فأتي بوضوء " أي بماء
__________
(1) هو أبو جحيفة بن وهب بن عبد الله، وقيل: ابن وهب بن مسلم بن جنادة بن جندب بن حبيب بن سواءة ابن عامر بن صعصعة السوائي العامري، نزل الكوفة، وكان من صغار الصحابة، ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي ولم ييلغ الحلم، ولكنه سمع منه، وروى عنه، وكان جعله علي بن أبي طالب على بيت المال بالكوفة، وشهد معه مشاهده كلها، ومات بالكوفة سنة أربع وسبعين. اهـ. " تراجم جامع الأصول ".
(2) فلو مسح أي جزء كفاه على مذهب الشافعي.
(3) الإفصاح عن معاني الصحاح ج 1.(1/266)
126 - عن السَّائِبِ بْنِ يَزيدَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
ذَهَبَتْ بي خَالَتِي إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَقِعٌ، فَمَسَحَ رَأسِي ودَعَاْ لِي بالْبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ، فَنَظرتُ إلى خَاتَمِ النبوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يتوضأ به " فتوضأ فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه " أي فصار الصحابة يأخذون من بقية الماء الذي يتوضأ منه " فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر ركعتين والعصر ركعتين " لأنه كان مسافراً " وبين يديه عنزة " أي وأمامه عصا صغيرة اتخذها سترة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله " فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه.
126 - ترجمة راوي الحديث: هو السائب بن يزيد الكندي حج به أبوه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمره سبع سنين، وتوفي سنة إحدى وثمانين من الهجرة.
معنى الحديث: يقول السائب رضي الله عنه: " ذهبت بي خالتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله إن ابن أختي وقع " (1) بكسر القاف أي مصاب بوجع في قدميه " فمسح رأسي ودعا لي بالبركة " أي بكثرة أنواع الخير والنعم، ومنها الصحة " ثم توضأ فشربت من وضوئه، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زر الحجلة " أي بيضة النعامة. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله شربت من وضوئه.
ويستفاد من الحديثين: طهارة الماء المستعمل في الوضوء، لأنهم أخذوا من فضل وضوئه - صلى الله عليه وسلم - وهو طاهر مطهر عند مالك وأحمد، وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أنه طاهر غير مطهر والله أعلم.
__________
(1) وفي بعض النسخ: وَجِع.(1/267)
105 - " بَابُ وُضُوءِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأتِهِ وَفضْلِ وَضُوءِ الْمَرْأةِ "
127 - عنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَتَوضَّؤُونَ في زَمَانِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَمِيعَاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
105 - " باب وضوء الرجل مع المرأة "
127 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميعاً " أي كان الرجل من الصحابة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ ويغتسل مع زوجته من إناء واحد، ويغترفان من الإِناء، ويدخلان أيديهما في الماء كما في الرواية الأخرى حيث قال: " كنا نتوضأ نحن والنساء من إناء واحد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ندلي فيه أيدينا " أخرجه أبو داود. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي ومالك.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز وضوء الرجل والمرأة من إناء واحد لأن الصحابة كانوا يفعلون ذلك في زمنه - صلى الله عليه وسلم - ويقرهم عليه. ثانياً: جواز الوضوء والغسل بالماء المستعمل وطهوريته (1) ، لأنهم كانوا يتوضؤون ويغتسلون من إناء واحد فكانوا يدخلون أيديهم فيه، وذلك يؤكد أن كل واحد من الرجل والمرأة قد توضأ أو اغتسل بالماء المستعمل، ولو كان غير مطهر لما تطهروا به. والمطابقة: في قوله " يتوضؤون في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميعاً "
***
__________
(1) وهو مذهب مالك وأحمد، وقال الشافعي وأبو حنيفة هو طاهر غير مطهر كما في الحديث السابق.(1/268)
106 - "بَابُ صَبِّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -وَضُوءَهُ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ "
128 - عن جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
جَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُنِي وأنا مَرِيض لا أعْقِلُ، فَتَوَضَّأ، وصَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ فَعَقَلْتُ، فَقُلْتُ لَهُ: لِمَنْ المِيرَاثُ؟
إِنَّما يَرِثُنِي كَلَالَة، فَنزَلَتْ آيَةُ الْفَرائِض.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
106 - " باب صب النبي - صلى الله عليه وسلم - وضوءه على المغمي عليه "
128- معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه: " جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني وأنا مريض لا أعقل " (1) أي جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يزورني في مرض شديد ألم بي حتى فقدت الوعي، فصرت لا أفهم شيئاً " فتوضأ وصب عليّ من وضوئه " أي وأفرغ على جسمي من الماء الذي توضأ منه، فأفقت وشعرت ببعض النشاط " فقلت: لمن الميراث إنما يرثني كلالة " أي لمن يكون الميراث من بعدي وأنا لم أخلف ولداً، وليس لي أب ولا أم وإنما يرث إخوتي كل مالي، فكيف يكون ميراثهم " فنزلت آية الفرائض " التي في آخر سورة النساء، وهي قوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ (2) إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) . الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية رقية المريض، وصب ماء الوضوء
__________
(1) قال الشوكاني: أي لا أفهم، وحذف المفعول إشارة إلى عظم الحال أو لغرض التحميم، أي لا أعقل شيئاً من الأمور.
(2) الكلالة الذي لا والد له ولا ولد فيرث إخوته كل ماله.(1/269)
107 - " بَابُ الْغسْلِ والْوُضُوءِ في الْمِخضَبِ والْقَدَحِ "
129 - عنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَقَامَ مَنْ كَان قَرِيبَ الدَّارِ إلى أهلِهِ، وبقي قَوْمٌ، فَأُتي رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - بِمِخْضَبٍ مِنْ حِجَارَةٍ فيهِ مَاءٌ، فَصَغُرَ المِخْضَبُ أنْ يَبْسُطَ فيه كَفَّهُ، فَتَوَضَّأ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، قُلْنَا: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: ثَمانِينَ وَزيادَةً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عليه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك بجابر رضي الله عنه، وهو ما ترجم له البخاري. ثانياً: قال ابن بطال: فيه دليل على طهورية الماء المستعمل وفضل الوضوء لأنه لو لم يكن طاهراً لما صب عليه. ثالثاً: بيان ميراث الكلالة في آية الفرائض التي نزلت بسبب سؤال جابر رضي الله عنه. والمطابقة: في قوله " وصب عليه من وضوئه ".
107 - " باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح "
129 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " حضرت الصلاة " أي بينما كان الصحابة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة حضرت صلاة العصر " فقام من كان قريباً من المسجد " أي فذهب الذين دارهم قريبة من ذلك المكان إلى الدار ليتوضؤا منها " وبقي قوم " أي وبقي الذين دارهم بعيدة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - "فأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بمخضب من حجارة فيه ماء" أي فأحضر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إناء صغير من حجر فيه قليل من الماء، " فصغر المخضب أن يبسط كفه فيه " أي فضاق ذلك الإِناء الصغير على كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أراد أن يمدها في وسطه. " فتوضأ القوم كلهم، قلنا كم كنتم؟ قال: ثمانين وزيادة " أي ثمانين فأكثر. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة:(1/270)
130 - عَنْ أبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَعَا بِقَدَح فِيهِ مَاء، فَغَسَلَ يَدَيْه وَوَجْهَهُ فِيهِ، وَمَجَّ فِيهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في قوله " فأتي بمخضب من حجارة ".
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الأواني كلها، سواء كانت حجرية أو خشبية أو من أي جوهر من جواهر الأرض طاهرة لا كراهة في استعمالها.
ثانياًً: دل الحديث على معجزة مادية كبيرة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - وهي تكاثر الماء ونبعه من بين أصابعه، حتى إن هذا الإناء الصغير كفى لوضوء. هذا العدد الكثير الذي يبلغ ثمانين أو أكثر، وفي رواية أخري قال أنس: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالزوراء، والزوراء بالمدينة عند السوق والمسجد، دعا بقدح فيه ماء فوضع كفيه فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ جميع أصحابه قال: قلت كم كانوا يا أبا حمزة؟ قال: كانوا زهاء الثلاثمائة. أخرجه مسلم.
130 - معنى الحديث: يحدثنا أبو موسى رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا بقدح فيه ماء "أي طلب قدحاً فيه ماء. " فغسل يديه ووجهه (1) " من الماء الموجود في ذلك القدح " ومج فيه " أي طرح الماء من فمه في ذلك الإناء " ثم قال لهما: خذا منه وافرغا على وجوهكما ونحوركما (2) يخاطب بذلك أبا موسى وبلالاً رضي الله عنهما وكان ذلك بالجعرانة كما أفاده الحافظ في الفتح.
ويستفاد منه يأتي: أولاً: جواز استعمال القدح وغيره من الأواني الخشبية، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل القدح، وهو كما قال ابن الأثير: الإناء الذي يؤكل فيه، وأكثر ما يكون من الخشب مع ضيق فيه. ثانياًً: جواز
__________
(1) أي غسل يديه ووجهه تبرداً بالماء لا وضوءاً.
(2) كما أخرجه البخاري تعليقاً في " باب استعمال وضوء الناس ".(1/271)
108 - " بَابُ الْوُضُوءِ بِالْمُدِّ "
131 - عَنْ أنس رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَغْسِلُ، أو كَانَ يَغْتَسِلُ بالصَّاعِ إلى خمسةِ أمْدَادٍ، وَيَتَوَضَّأ بِالْمُدِّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشرب من الماء الذي مجّ فيه والإِفراغ منه على الوجوه والنحور. لما جاء في رواية أخرى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لهما (1) : اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما. ثالثاً: تبرك الصحابة بآثاره - صلى الله عليه وسلم - كما دل عليه هذا الحديث وغيره من الأحاديث الصحيحة. والمطابقة: في قوله " دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ". الحديث: أخرجه الشيخان.
108 - " باب الوضوء بالمد "
131 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد " أي كان يقتصد في الماء الذي يتطهر به، فغالباً ما كان يقتصر في غسله على قدر صاع من الماء، وهو أربعة أمداد، وربما زاد على ذلك، فاغتسل بخمسة أمداد على حسب حاجة جسمه، " ويتوضأ بالمد " وهو رطل وثلث عند الجمهور. وقال فقهاء العراق وأبو حنيفة، هو رطلان، قال في عون المعبود: المد بالضم: ربع الصاع لغة، وقال في " القاموس ": أو ملء كفيَّ الإِنسان المعتدل إذا ملأهما، ومد يده بهما، ومنه سمي مداً، وقد جربت ذلك فوجدته صحيحاً. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة، مع اختلاف بعض الألفاظ.
__________
(1) أي قال لبلال وأبي موسى رضي الله عنهما " اشربا منه " الخ.(1/272)
109 - "بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخفيْنِ"
132 - عنْ سَعْدِ ابْنِ أبي وَقَّاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ مَسَحَ عَلى الْخُفَّيْنِ وأنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ سَألَ عُمَرَ عَنْ ذَلِكَ فقَالَ: نَعَمْ إِذَا حَدَّثَكَ شَيْئَاً سَعْدٌ عنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فلا تَسْألْ عَنْهُ غَيْرَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويستفاد منه: كما قال الفقهاء: استحباب تقليل الماء في الوضوء بلا حد، والاقتصار على القدر الكافي لحاجة الجسم دون إسراف، ولا نقصان ولا إجحاف. قال في عون المعبود: وليس الغسل بالصاع والوضوء بالمد للتحديد والتقدير، بل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربما اقتصر على الصاع وربما زاد. روى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: " أنها كانت تغتسل هي والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد هو الفرق " قال ابن عيينة والشافعي وغيرهما: هو ثلاثة آصع.
وروى مسلم أيضاً من حديثها أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل من إناء يسع ثلاثة أمدادٍ، فهذا. يدل على اختلاف الحال في ذلك بقدر الحاجة. ويكره الإسراف في الماء لحديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بسعد وهو يتوضأ فقال: ما هذا السرف يا سعد قال: أفي الوضوء سرف، قال: نعم وإن كنت على نهر جار " أخرجه أحمد وابن ماجة. والمطابقة: في قوله " ويتوضأ بمد ".
109- باب المسح على الخفين "
132 - معنى الحديث: أنّ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان يمسح على خفيه، ويروي " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على الخفين " وأن ذلك من السنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " وأن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما سأل عمر عن ذلك فقال: نعم " أي وأن عبد الله بن عمر لما رأى سعداً يمسح على الخفين، وسمعه يروي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر عليه، فلما اجتمع(1/273)
133 - عَنْ عَمْرِو بْنِ أمَيَّةَ الضَّمْرِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ رَأى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ على الْخُفَّيْنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هو وسعد عند عمر رضي الله عنهم سأله عن المسح على الخفين هل هو مشروع وثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بحديث صحيح فقال عمر، نعم. الحديث الذي يرويه سعد حديث صحيح، ثم قال لولده عبد الله " إذا حدثك شيئاً سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا تسأل عنه غيره " أي فخذ حديثه دون تردد، فإنه حديث صحيح ولست في حاجة إلى أن تسأل غيره من الصحابة لثقته وعدالته.
الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله " انه مسح على الخفين ".
133 - ترجمة راوي الحديث: وهو عمرو بن أمية الضمري - بفتح الضاد صحابي جليل من فرسان الصحابة روى عشرين حديثاً، وتوفي بالمدينة سنة ستين من الهجرة.
معنى الحديث: أن عمرو بن أمية " رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - " بعينه " يمسح على الخفين " ولم يُخبره بذلك غيره والمعاينة أقوى من السماع. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين ".
ويستفاد من الحديثين: مشروعية المسح على الخفين، وأنه سنة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد روى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك أربعين حديثاً كما قال ابن قدامة، ولهذا صرح جمع من الحفاظ أن المسح على الخفين متواتر ولم يثبت إنكاره إلاّ عن الرافضة (1) والخوارج.
__________
(1) فتح الباري ج 2.(1/274)
110 - " بَابٌ إذَا أدْخلَ رِجْلَيْهِ وَهُمَا طَاهِرَتانِ "
134 - عنِ الْمغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، فَأهْوَيْتُ لأنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ: "دَعْهُمَا فَإِنِّي أدْخلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ"، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
110 - " باب باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان "
134 - معنى الحديث: يقول المغيرة رضي الله عنه " كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر " وذلك في غزوة تبوك بعد نزول آية الوضوء " فأهويت لأنزع خفيه " أي فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ، فمددت يدي لأخلع خفيه عن قدميه ليتمكن من غسلهما " فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين " أي فقال لي: اتركهما فإني أريد أن أمسح عليهما بدلاً من غسل الرجلين، لأني لبستهما على طهارة كاملة، فيجوز لي أن أمسح عليهما، ولا حاجة إلى خلعهما، وهو معنى قوله: " فإني أدخلتهما طاهرتين " وفي رواية " فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان ". الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي وأبو داود.
والمطابقة: في قوله " فإني أدخلتهما طاهرتين ".
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن المسح على الخفين رخصة شرعية وسنة
نبوية ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه - صلى الله عليه وسلم - مسح خفيه بعد نزول آية الوضوء،
فدل ذلك على أن المسح عليهما باقٍ لم تنسخه الآية المذكورة، خلافاً للخوارج. ثانياًً: أن من أهم شروط المسح على الخفين. أن يلبسهما على طهارة لقوله - صلى الله عليه وسلم - " دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين " ويشترط أن تكون طهارة مائية كاملة " عند الجمهور " وأجاز أبو حنيفة والمزني والثوري المسح عليهما ولو كانت الطهارة ناقصة، فلو غسل إحدى قدميه وأدخلها، ثم غسل الأخرى(1/275)
111 - " بَابُ مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأ مِنْ لَحْمِ الشَّاةِ وَالسَّوِيق "
135 - عَنْ عَمْرِو بْنِ أمَيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ رَأى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شاةٍ فَدُعِيَ إلى الصَّلَاةِ فَألقَى السِّكِّينَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأدخلها جاز، وأما بقية الشروط فهي أن يكون الخف من جلد ساتراً للكعبين صحيحاً مباحاً، ويحدد المسح عند الجمهور بيوم وليلة خلافاً لمالك حيث أطلق مدة المسح بلا حد.
111 - " باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق "
135 - معنى الحديث: يحدثنا عمرو بن أمية رضي الله عنه " أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يحتز من كتف شاة " أي يقطع اللحم من كتف شاة ويأكله " فدعي إلى الصلاة فألقى السكين فصلى ولم يتوضأ " أي فقام إلى الصلاة بعد الأكل من لحم تلك الشاة، وصلى دون أن يتوضأ، لأن الأكل من لحم الشاة ليس موجباً للوضوء.
ويستفاد منه: أنه لا يجب الوضوء من أكل اللحم، وقد كان ذلك واجباً في أول الإِسلام حيث كانوا يتوضؤون - مما مست النار، ثم نسخ بعد ذلك بهذه الأحاديث الصحيحة. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - " احتز من لحم الشاة ثم صلّى ولم يتوضأ ".
***(1/276)
112 - " بَابُ مَنْ مَضْمَضَ مِن السَّوِيق وَلَمْ يَتَوَضَّأ "
136 - عَنْ سُوِيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ رَضِيَ اْللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ خَيْبَرَ حَتَّى إذَا كَانُوا بالصَّهْبَاء، وهِيَ أدْنَى خَيْبَرَْ، فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَعَا بالأزْوَادِ، فَلَمْ يُؤتَ إلَّا بالسَّويقِ، فأمرَ بِهِ فَثُريَ، فَأكلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأكلْنَا، ثم قَامَ إلى الْمَغْرِبِ، فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
112 - " باب من مضمض من السويق ولم يتوضأ "
136 - ترجمة الراوي: هو سويد. بضم السين وفتح الواو ابن النعمان الأنصاري الأوسي من أصحاب بيعة الرضوان شهد أحداً وما بعدها من المشاهد. روى سبعة أحاديث ليس في البخاري منها سوى هذا الحديث فقط. معنى الحديث: يحدثنا سويد رضي الله عنه " أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر " أي خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة خيبر " حتى إذا كان بالصهباء وهي أدنى خيبر " أي والصهباء أول قرى خيبر بالنسبة إلى القادم من المدينة " فصلى العصر، ثم دعا بالأزواد، فلم يؤت إلاّ بالسويق " أي أمر بإحضار أطعمة المسافرين، فلم يحضروا بين يديه سوى السويق، " وهو ما يطحن من الحنطة والشعير وُيتزود به في السفر " " فأمر به فثُرِّي " أي رش بالماء " فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وَأكلنا، ثم قام إلى المغرب، فمضمض ومضضنا ثم صلّى ولم يتوضأ " أي ثم صلى بعد أكل السويق دون أن يتوضأ.
الحديث: أخرجه أيضاً النسائي وابن ماجة.
ويستفاد منه: أنه لا يجب الوضوء من أكل السويق وغيره مما مست النار،(1/277)
113 - " بَاب هَلْ يُمَضْمِضُ مِنَ اللَّبَنِ "
137 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شَرِبَ لَبَنَاً فَمَضْمَضَ وَقَال: " إِنَّ لَهُ دَسَمَاً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقد كان الوضوء من ذلك واجباً في أوّل الإسلام، ثمَ نسخ بهذا الحديث وأمثاله. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - أكل السويق ثم صلى المغرب بعده من غير وضوء.
113 - " باب هل يمضمض من اللبن "
137 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرب لبناً فمضمض " أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرب شيئاً من اللبن فلما أراد أن يقوم إلى الصلاة، مضمض فمه بالماء ونظفه من ذلك اللبن " وقال: إنّ له دسماً " أي إن لِلَّبن دسماً يَعْلَق بالفم، فينبغي لمن شربه أن ينظف فمه منه خشية أن يُحْدِثَ ذلك الدسم في الفم رائحة كريهة يتأذى بها الشارب. أو يبقى منه شيء في الفم فيصل إلى المعدة أثناء الصلاة.
الحديث: أخرجه الستة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يستحب لمن شرب لبناً أو تناول غيره من الأطعمة وأراد الصلاة أن يغسل يديه ويتمضمض قبل أن يصلي سواء كان ذلك الطعام مطبوخاً أو غير مطبوخ تنظيفاً لليد والفم من آثار ذلك الطعام.
ولئلا يصل منه شيء إلى المعدة أثناء الصلاة. ثانياً: أنه لا يجب الوضوء من اللبن وغيره من الأطعمة الدسمة لأنّه - صلى الله عليه وسلم - شرب اللبن، ثم صلى ولم يتوضأ كما في الحديث. والمطابقة: في قوله " شرب لبناً فمضمض ".(1/278)
114 - " بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ "
138 - عن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَتَوَضَأ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، قُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: يُجزِىءُ أحَدَنَا الْوُضُوءَ مَا لَمْ يُحْدِثْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
114 - " باب الوضوء من غير حدث "
138 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ عند كل صلاة "، أي يجدد الوضوء لكل صلاة فرضاً أو نفلاً تطوعاً لا وجوباً رغبة منه - صلى الله عليه وسلم - وترغيباً لأمّته في فضائل الوضوء، وما فيه من تكفير السيئات، واكتساب الحسنات، ورفع الدرجات، " وكان يجزىء أحدنا الوضوء ما لم يحدث " وهذا استدراك معناه: ولم يكن الوضوء لكل صلاة واجباً، وإنما هو مستحب فقط، فقد كان يكفي أحدنا الوضوء الواحد لعدة صلوات، ولا يجب عليه وضوء آخر حتى يحدث. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي والنسائي وابن ماجة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الوضوء الواحد يجزىء لعدة صلوات ما لم يحدث، وهو مذهب الجمهور، خلافاً لعكرمة وابن سيرين وغيرهم، حيث أوجبوا الوضوء لكل صلاة لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) الخ حيث علّق الأمر بالوضوء على القيام إلى الصلاة، فدل على وجوب تكرار الوضوء لكل صلاة. واستدل الجمهور بحديث الباب وغيره (1) على أن الوضوء إنما يجب على من أحدث وأراد الصلاة دون غيره. وأن هذا هو معنى الآية، لأنّ السنة تفسِّر القرآن، قال الترمذي:
__________
(1) كقوله - صلى الله عليه وسلم - لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ.(1/279)
115 - " بَاب مِنَ الكبَائِرِ أنْ لا يَسْتَتِرَ مِنَ بَوْلِهِ "
139 - عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
مَرَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ أو مَكَّةَ، فَسَمِعَ صَوْتَ إنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ في قُبُورِهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " يُعَذَّبَانِ! وما يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ "، ثُمَّ قَالَ: " بَلَى كَانَ أحَدُهُمَا لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وكانَ الآخَرُ يَمْشِي بالنَّمِيمَةِ، ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا كِسرَتَيْنِ، فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والعمل على هذا عند أهل العلم. ثانياً: استحباب الوضوء لكل صلاة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك، وفي الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: " من توضأ على طهر كتب الله له به عشر حسنات " أخرجه الترمذي ويكره الوضوء لغير صلاة، وحديث " الوضوء على الوضوء نور على نور " ضعيف ضعفه ابن حجر. والمطابقة: في قوله " كان - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ عند كل صلاة ".
115 - " باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله "
أي من الكبائر أن لا يحافظ المسلم على طهارة بدنه، ولا يحترز من النجاسة.
139 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما " مرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بحائط " أي ببستان مسوّر " فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما " أي سمع صراخهما من شدة ما يقاسيان من العذاب الشديد " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يعذبان " أي إنهما يعذبان عذاباً شديداً، وقد سمعت صراخهما من شدة الآلام التي يشعران بها " وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى " أي وما يعذبان من أجل فعل شيء له قدر وقيمة بحيث ترغب فيه النفس وتشتهيه، وإنما هو شيء(1/280)
قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرةً، فَقِيلَ لَهُ.: يَا رَسُولَ اللهِ! لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: " لَعَلَّهُ أنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ تَيْبَسا ".
116 - " بَابُ ما جَاءَ في غَسْلَ الْبَوْلَ "
140 - عَنْ أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا تَبَرَّزَ لِحَاجَتِهِ أتَيْتُه بِمَاءٍ يَغْسِلُ بِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حقير لا شأن له، ولكنه مع ذلك هو ذنب عظيم، وكبيرة تؤدي بصاحبها إلى عذاب القبر " كان أحدهما لا يستتر من البول " أي لا يحترز منه، ولا يتطهر من نجاسته (1) " وكان الآخر يمشي بالنميمة " أي ينقل الحديث بين الناس بقصد الإِفساد بينهم " ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين، فوضع على كل قبر منها كسرة " أي نصفاً لأنّه - صلى الله عليه وسلم - سأل لهما الشفاعة، فأجيب بالتخفيف عنهما حتى ييبسا. الحديث: أخرجه الستة.
ما يستفاد منه: دل الحديث على أن الطهارة من نجاسة البدن واجبة وأن تركها كبيرة من الكبائر، يترتب عليها. عذاب القبر وكذلك النميمة. والمطابقة: في قوله " ثم قال بلى " أي بلى إنّه ذنب كبير.
116 - " باب ما جاء في غسل البول "
140 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تبرز لحاجته " أي إذا ذهب لقضاء حاجته " أتيته بماء يغسل به " أي يغسل بذلك الماء ذكره، قال القسطلاني: وحذف المفعول به لظهوره، أو للاستحياء من ذِكْرِه. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود.
والمطابقة: في قوله يغسل به.
__________
(1) ولا يتوقى منه عند بوله.(1/281)
117 - " بَابُ صَبّ المَاءِ على البول في المَسجِدِ "
141 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَامَ أعرَابٌِّي فَبَالَ في الْمَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " دَعُوهُ وَهَرِيْقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ، أوْ ذَنُوباً مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَم تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويستفاد منه: وجوب غسل البول عن الذكر بالماء حتى لا يبقى منه شيء وهو ما ترجم له البخاري.
117 - " باب صب الماء على البول في المسجد "
141 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه " قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس " أي سلطوا عليه ألسنتهم، وأغلظوا له في القول وفي رواية فزجره الناس " فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعوه " أي اتركوه حتى يتم بوله، ولا تقطعوه عنه، لأنه ربما أدّى ذلك إلى الإِصابة بحصر البول، أو أدّى انتقاله من مكان لآخر إلى تلويث عدة مواضع من المسجد بدل موضع واحد " وأهريقوا على بوله سجلاً " بفتح السين وسكون الجيم " من ماء " أي وصبوا على موضع بوله دلواً كبيراً من الماء. " إنما بعثتم ميسرين " في تعليم الناس أمر دينهم. الحديث: أخرجه الستة.
ويستفاد منه: أن الأرض تطهر من النجاسة بكثرة صب الماء، وهو مذهب الجمهور وقال أبو حنيفة: لا تطهر حتى تحفر إلى المكان الذي وصلت إليه القذارة إن كانت رخوة يتسرب الماء إلى داخلها. والمطابقة: في قوله: " وأهريقوا على بوله سجلاً من ماء ".(1/282)
118 - " بَابُ بَوْلَ الصبيَانَ "
142 - عنْ أمِّ قَيْس بِنْتِ مِحْصَن رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنَّهَا أتَتْ بابْن لَهَا صَغِيرٍ لمْ يأكلِ الطَّعَامَ إلى رَسُولِْ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأجْلَسَهُ رَسولُ الله في حَجْرِهِ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
118 - " باب بول الصبيان "
142 - ترجمة راوية الحديث: هي أم قيس بنت محصن أخت عكاشة ابن محصن -واسمها جذامة- صحابية جليلة أسلمت قديماً ودعا لها - صلى الله عليه وسلم - بطول العمر فلم تعرف امرأة من عصرها عمرت مثلها، روت (24) حديثاً.
معنى الحديث: أن أم قيس رضي الله عنها " أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجلسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجره " بفتح الحاء وقد تُكْسَر، أي فوضعه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجره " فبال على ثوبه فنضحه ولم يغسله " أي فاكتفى النبي - صلى الله عليه وسلم - برش ذلك الثوب بالماء، ولم يغسله.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه لا يجب غسل الثوب من بول الرضيع الذي لم يأكل الطعام إذا كان ذكراً، وإنما يكفي رشه بالماء فقط. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث الباب نضح الثوب من بول الصبي، ولم يغسله ويجب غسله من بول الأنثى، وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وابن حزم لهذا الحديث، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام " أخرجه ابن خزيمة والحاكم، وذهب مالك وأبو حنيفة إلى وجوب غسل الثوب من بول الصبي مطلقاً ذكراً كان أو أنثى وأجابوا عن حديث الباب أن المراد من النضح الغسل، والعرب تسمي الغسل نضحاً كما أكد ذلك الطحاوي واستشهد عليه ببعض كلامهم، وقد استعمل النضح بمعنى الغسل في الأحاديث الصحيحة كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الثوب يصيبه الحيض "تحته ثم تقرصه بالماء(1/283)
119 - "بَابُ الْبَوْلِ قَائِمَاً وَقَاعِدَاً "
143 - عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
أتَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سُباطَةَ قَوْم، فَبَالَ قَائِمَاً، ثمَّ دَعَا بِمَاءٍ، فَجِئْتُهُ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وتنضحه (1) وأمّا قوله: " ولم يغسله " فقد قال الأصيلي إنه من قول ابن شهاب. ثانياً: استدل به أحمد واسحاق على طهارة بول الصبي. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله " فنضحه ".
119 - " باب البول قائماً وقاعداً "
أى هذا الباب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على جواز البول قائماً وقاعداً، وإن كان يستحب البول قاعداً، ويكره البول قائماً كراهة تنزيه لا تحريم.
143 - ترجمة الراوي: هو حذيفة بن اليمان رضي الله عنه من السابقين إلى الإسلام، شهد أحداً والخندق وفتوح العراق، وكان صاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يعلمه غيره، روى مائة حديث، اتفقا على اثنى عشر حديثاً، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بسبعة عشر، توفي سنة (36) من الهجرة.
معنى الحديث: يقول حذيفة رضي الله عنه: " أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُباطة قوم " وهي المكان الذي تُلقى فيه الزبالة، وكانوا يجعلونها قريبة من بيوتهم لتكون مرفقاً لهم " فبال قائماً " أي فبال واقفاً على خلاف عادته المعروفة وسنته المألوفة، فإنه كان - صلى الله عليه وسلم - غالباً ما يبول قاعداً ويبول أحياناً وفي النادر
__________
(1) أي تغسله.(1/284)
120 - " بَاب غَسْلَ الدَّمَ "
144 - عنْ أسْمَاءَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَتْ:
جَاءَتْ امْرَأة إلى النّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: أرَأيْتَ إحْدَانَا تَحِيض في الثَّوْبِ كَيْفَ تَصْنَع؟ قَالَ: " تَحُتُّه، ثُمَّ تَقْرضه وَتَنْضَحُه وَتصَلي فِيهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اليسير قائماً لبيان الجواز. الحديث: أخرجه الستة.
فقه الحديث: دل الحديث على أنه يجوز التبول قائماً مع الكراهة، بمعنى أنه لا يأثم فاعله، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله إلا أنه خلاف الأولى لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كاان يبول غالباً جالساً، ولا يبول قائماً إلاّ نادراً. أهـ كما أفاده ابن القيم في زاد المعاد. والمطابقة: في قوله فبال قائماً.
120 - " باب غسل الدم "
144 - معنى الحديث: تقول أسماء رضي الله عنها: " جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب: كيف تصنع " أي أخبرني عن حكم المرأة يصيب ثوبها دم الحيض ماذا يجب عليها أن تصنع به؟ " قال: تحته " أي تحكه بيدها أولاً " ثم تقرصه " بفتح التاء وسكون القاف وضم الراء. أي ثم تدلك موضع الدم بأطراف أصابعها ليتحلل ويخرج " وتنضحه " أي تغسله بالماء " والمعنى " أنها تزيل ذلك الدم من ثوبها بحكه أولاً ثم بدلكه وغسله حتى تزول آثاره من ثوبها. الحديث: أخرجه الستة.
والمطابقة: في قوله: " وتنضحه " أي تغسله بالماء، وهو ما ترجم له البخاري.
ويستفاد منه: وجوب غسل ما أصابه الدم من الثوب، سواء كان هذا الدم قليلاً أو كثيراً، وهو مذهب الشافعي في جميع النجاسات دماً أو غيره،(1/285)
121 - " بَابُ غَسْلِ الْمَنِيِّ وَفَرْكِهِ وَغَسْلِ مَا يُصِيبُ مِنَ المَرْأةِ "
145 - عن عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
كُنْتُ أغْسِلُ الْجَنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - خْرُجُ إلى الصَّلَاةِ، وإنَّ بُقَعَ الْمَاءِ في ثَوْبِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حيث قال: لا يعفى عن شيء من النجاسة، بل يغسل الدم وغيره قليلاً كان أو كثيراً استدلالاً بهذا الحديث، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أسماء رضي الله عنها بغسل الثوب من دم الحيض، ولم يفرق بين قليله وكثيره. قال الشافعي، ولا فرق بين الدم وغيره، لأنه كله نجاسة. وفرق مالك بين الدم وغيره من النجاسات، فقال: أما غير الدم، فيجب غسله مطلقاً قليلاً كان أو كثيراً، وأما الدم فيغسل كثيره ويعفى عن يسيره لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: " ما كان لِإحدانا إلاّ ثوب واحد فيه تحيض فإن أصابه شيء من دم بلته بريقها فقصعته بظفرها أخرجه البخاري وأبو داود، وقال أبو حنيفة: يعفى عن اليسير في سائر النجاسات ويغسل الكثير منها.
121 - " باب غسل المني وفركه "
145 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كنت أغسل الجنابة من ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي أغسل المني بالماء من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه " أي فيخرج مسرعاً إلى الصلاة قبل أن يجف ثوبه حتى إن آثار الماء لا تزال بادية عليه.
ويستفاد منه: نجاسة المني لأنها رضي الله عنها كانت تزيله من ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم - بغسله بالماء، ولو لم يكن نجساً لما فعلت ذلك، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة أن المني نجس. وقال الشافعى وأحمد وداود الظاهري: المني طاهر(1/286)
122 - " بَابُ أبوَالَ الإِبلَ والدَّوَابِ وَالْغنَمَ وَمَرَابِضِهَا "
146 - عن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَدِمَ نَاسٌ مِنْ عُكْل أوْ عُرَيْنَةَ فاجْتَوَوُا الْمَدِينة فأمَرَهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِلِقَاحٍ، وأنْ يَشْرَبُوا مِنْ أبوَالِهَا وألبَانِهَا، فانْطَلَقُوا، فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا الرَّاعِي واستَاقُوا النَّعَمَ، فَجَاءَ الْخَبرُ فِي أوَّلِ النَّهَارِ، فَبَعَثَ في آثارِهِمْ، فلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جيءَ بِهِمْ، فأمَرَ بِقَطعِْ أيدِيهِم وأرجُلِهِم، وسُمِّرَتْ أعيُنُهُمْ، وألقُوا في الحَرَّةِ يَستَسقُونَ فلا يُسْقَونَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لما جاء في الرواية الأخرى عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تفركه من ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي.
والمطابقة: في قول عائشة رضي الله عنها " كنت أغسل الجنابة من ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم - ".
122 - " باب أبوال الإِبل والدواب والغنم ومرابضها "
146 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " قدم ناس من عكل " وهي قبيلة من تيم " أو عرينة " وهي حيٌّ من قضاعة، أي جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من هاتين القبيلتين متظاهرين بالإِسلام " فاجتووا المدينة " أي فأقاموا مدة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة ثم شكوا المرض وأنّ جو المدينة لا يلائمهم صحياً " فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلقاح " بكسر اللام جمع لقوح، وهي الناقة الحلوب من الإِبل، أي فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يلحقوا بنياق حلوب له خارج المدينة، وأن يذهبوا إليها، ويقيموا عندها " وأن يشربوا من أبوالها وألبانها " لأنّها علاج وشفاء " فلما صحّوا " أي فلما شفوا من مرضهم " قتلوا الراعي، واستاقوا النعم " بفتح النون والعين أي ساقوا الإِبل، وهربوا بها،(1/287)
فقابلوا الإحسان بالإساءة، والمعروف بالنكران " فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم " أي كحلت بالمسامير. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يشربوا من أبوالها، - وهذا دليل طهارتها.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: قال العيني: استدل مالك بهذا الحديث على طهارة بول ما يؤكل لحمه، سواء كان من الإبل أو الغنم أو غيرها من الدواب، وبه قال أحمد ومحمد بن الحسن والاصطخري والروياني الشافعيان، وهو قول الشعبي وعطاء والنخعي والزهري وابن سيرين والثوري، وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو يوسف وآخرون كثيرون: الأبوال كلها نجسة إلاّ ما عفي عنه، وأجابوا عنه بأن ما في حديث العُرَنيين قد كان للضرورة، فليس فيه دليل على أنه يباح في غير حال الضرورة، لأنّ ثمة أشياء أبيحت في الضرورات ولم تبح في غيرها كما في لبس الحرير، فإنه حرام على الرجال، وقد أبيح لبسه في الحرب أو للحكة أو لشدة البرد إذا لم يجد غيره، وله أمثال كثيرة في الشرع. وقال ابن حزم صح يقيناً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما أمرهم بذلك على سبيل التداوي (1) من السقم الذي كان أصابهم، وأنهم صحت أجسامهم بذلك، والتداوي منزلة ضرورة، وقد قال عز وجل: (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) فما اضطر المرء إليه فهو غير محرم عليه من المآكل والمشارب.
ثانياً: مشروعية معاقبة المحاربين، وهو موافق لقوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتّلوا أو يصلّبوا) ... إلخ.
***
__________
(1) شرح العيني ج 3.(1/288)
147 - عَنْ أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَ النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي قَبْلَ أنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ في مَرَابِضِ الْغَنَمِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
147 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي قل أن يبني المسجد " أي قبل أن يتم بناء مسجده الشريف " في مرابض الغنم " أي في مواضع نومها ليلاً، أو في أماكن شربها، يعني أنه كان - صلى الله عليه وسلم - لا يرى مانعاً من الصلاة في مباركها عند نومها، أو في المواضع التي تشرب فيها، علماً بأنها لا تخلو من بعرها وبولها. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في مرابض الغنم " لأنّه يدل على جواز الصلاة في مرابضها، وطهارة أبوالها كما ترجم له البخاري.
ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: جواز الصلاة في مرابض الغنم مطلقاً، وهو مذهب الجمهور. قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم على إباحة الصلاة في مرابض الغنم إلاّ الشافعي فإنه قال: لا أكره الصلاة في مرابض الغنم إذا كان سليماً من أبعارها وأبوالها، وقال ابن بطال: حديث الباب حجة على الشافعي رضي الله عنه (1) ، لأن الحديث ليس فيه تخصيص موضع من آخر، ومعلوم أن مرابضها لا تسلم من البعر والبول، فدل على الإباحة. ثانياً: طهارة أبوال الغنم - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أباح الصلاة في مرابضها وهي كما قال ابن بطال " لا تسلم من البعر والبول " فدل على الإباحة، وعلى طهارة البول والبعر. وقال ابن حزم: هذا الحديث منسوخ، لأنّ فيه أن ذلك كان قبل أن يبني المسجد، فاقتضى أنه في أوّل الهجرة، ولكن يرد عليه ما جاء في حديث أبي زرعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه: قال " الغنم من دواب الجنة، فامسحوا رغامها، وصلوا في مرابضها " أخرجه البيهقي.
__________
(1) شرح العيني ج 3.(1/289)
123 - " بَابُ مَا يَقَعُ مِنَ النَّجَاساتِ في السَّمْنِ وَالمَاءِ "
148 - عَنْ مَيْمُونَة (1) رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ فَأرَةٍ سَقَطَتْ في سَمْنٍ فَقَالَ: " ألْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا فاطْرَحُوهُ، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ " (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
123 - " باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء "
148 - معنى الحديث: تحدثنا ميمونة رضي الله عنها " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة سقطت في دمه " أي سأله بعض الصحابة عن حكم الفأرة إذا سقطت في سمن جامدٍ " فقال: ألقوها وما حولها فاطرحوه وكلوا سمنكم " أي وكلوا بقية سمنكم، فإنّه طاهر مباحٍ الأكل، لأن النجاسة لا تسري فيه ما دام جامداً. الحديث: أخرجه أيضا أبو داود والترمذي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة.
ويستفاد منه: أن الزيت والسمن وغيره إذا وقعت فيه النجاسة من فأرة ونحوها وكان جامداً طرحت النجاسة وما حولها، وأكل الباقي لأنه طاهر مباح الأكل، أما إذا كان سائلاً فإنه ينجس كله.
__________
(1) هي أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بُجير بن الهزم بن روبية بن عبد الله بن هلال بن عامر صعصعة الهلالية العامرية، وأمها هند بنت عون بن زهير بن الحارث من حمير، وقيل: من كنانة، ويقال: إن اسمها كان برة فسماها النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة، كانت تحت مسعود بن عمرو الثقفي في الجاهلية، ففارقها فتزوجها أبو رهم بن عبد العزى، وتوفي عنها، فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذي العقدة سنة سبع في عمرة القضاء بسرف على عشرة أميال من مكة، وقدر الله تعالى أنها ماتت في المكان الذي تزوجها فيه بسرف سنة إحدى وستين، وقيل إحدي وخمسين، وقيل: ثلاث وستين، وقيل ست وستين، وقيل غير ذلك.
وصلى عليها ابن عباس، وهي أخت أم الفضل امرأة العباس وأخت أسماء بنت عميس، وهي آخر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل أنه لم يتزوج بعدها. اهـ " تراجم جامع الأصول ".
(2) اعتمدت في لفظ هذا الحديث على ما جاء في " مختصر الزبيدي ".(1/290)
124 - " بَابُ الْبَوْلَُ في الْمَاءِ الدَّائِمَ "
149 - عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنهُ قَالَ: " لا يَبُولَنَّ أحدُكُمْ في الْمَاءِ الدَّائِم لَا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
124 - " باب البول في الماء الدائم "
149 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري " (1) أي أنه - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن التبول أو التغوط في الماء الساكن الذي لا يتحرك ولا يجري سواء كان قليلاً أو كثيراً " ثم يغتسل فيه " بالرفع على المشهور، وقال ابن مالك: يجوز الجزم عطفاً على يبولن.
فعلى " الرفع " يكون معناه النهي عن البول في الماء الساكن، لأنه قد يحتاج إليه في وضوء أو غسل، فيمنع منه، أو يكره له استعماله وعلى الجزم يكون معناه أنه - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن التبول أو التغوط في الماء الساكن لئلا يؤدي إلى نجاسته أو كراهته، ونهانا أيضاً عن الاغتسال والانغماس فيه لئلا يسلبه ذلك طهوريته، أو يؤدي إلى كراهته.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: النهي عن التبول " أو التغوط " في الماء الراكد. وقد اختلفوا في حكمه، فقال مالك: يكره التبول في الماء القليل إذا كان لا يتغير به (2) ويحرم إذا كان يؤدي إلى تغييره قليلاً كان أو كثيراً.
وفرّق الجمهور بين القليل والكثير، فقالوا: يحرم في القليل مطلقاً، غيّره أو لم يغيره، ويكره في الكثير إذا لم يغيره، فإن غيره يحرم. ثانياًً: استدل به
__________
(1) وإنما فسره بالذي لا يجري، لأن الدائم من الأضداد، يطق على الساكن والمتحرك فلو لم يفسره لوقع الالتباس.
(2) والسبب في اختلافهم أن مالكاً يرى أنّ الماء لا ينجسه إلا ما غيره، بينما يرى الجمهور أن قليل الماء تنجسه قليل النجاسة، ولو لم تغيره.(1/291)
125 - " بَابٌ إذَا ألْقِيَ عَلَى ظَهْرِ المُصَلِّي قَذَرٌ أو جيفَة لم تفْسُد صَلَاتهُ "
150 - عنْ عبدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وأبو جَهْل وأصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، إذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لبَعْضٍ: أيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلا جَزُورِ بَنِي فُلانٍ، فَيَضَعُهُ على ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إذا سَجَدَ، فانبعَثَ أشْقَى الْقَوْمِ، فَجَاءَ بهِ، فَنَظر حَتَّى إِذَا سَجَدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وأنا أَنْظرٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحنفية والشافعية على أن الماء المستعمل في وضوء أو غسل هو ماء غير مطهر، فلا يجوز الوضوء أو الاغتسال فيه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنّما نهي عن استعماله لئلا يسلب طهوريته، وحمل المالكية النهي عن الاغتسال فيه على الكراهة.
الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: قي قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ".
125 - " باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذرٌ أو جيفة لم تفسد عليه صلاته "
150 - معنى الحديث: يحدثنا ابن مسعود رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي عند البيت. وأبو جهل وأصحاب له " وهم السبعة المذكورون في الحديث الذين دعا عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يأتي بسلا جزور بني فلان " وهو الجلد الذي يكون فيه ولد الماشية أثناء حملها به. " فانبعث أشقى القوم " أي فتصدى للقيام بهذا العمل الدنيء أشقى هؤلاء الرجال، وهو عقبة بن أبي معيط " فجاء " أي فأتى بسلا ذلك الجزور، " فنظر " أي فانتظر " حتى إذا سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وضعه على(1/292)
لا أُغْنِي شَيئاً، لَوْ كَانَ لي مَنَعَة، قَالَ: فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ، وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ علَى بَعْضٍ، وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَاجِدٌ لا يَرْفَعُ رَأسَهُ. حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فَطرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَرَفَعَ رَأسَهُ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْش " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إذْ دَعَا عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أنَّ الدَّعْوَةَ في ذَلِكَ الْبَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ، ثمَّ سَمَّى فَقَال: " اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بأبِي جَهْل، وَعَليْكَ بعُتبةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وأمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أبي مُعَيْط "، وَعَدَّ السَّابعَ، فَلَمْ نَحْفَظْهُ، قَالَ: فَوالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأيْتُ الَّذِيْنَ عَدَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَرْعَى فِي القَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ظهره بين كتفيه وأنا أنظر لا أغني شيئاً" أي لا أستطيع أن أدفع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحميه منهم، أو أرد عنه شيئاً " لو كانت لي منعة " أي وكم تمنيت في ذلك الوقت أن لو كانت لي أسرة قوية في مكة، تساعدني على أن أقوم بحماية النبي - صلى الله عليه وسلم - والذود عنه، وأداء واجبي نحوه " قال: فجعلوا يضحكون " سخرية بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وفرحاً بما يفعلونه به " ويحيل بعضهم على بعض " بالحاء كما عليه أغلب الروايات، قال الحافظ: يحتمل أن يكون من حال يحيل بفتح الياء إذا وثب على ظهر دابته أي يثب بعضهم على بعض من المرح والبطر، وفي مسلم من رواية زكريا، ويميل بالميم أي من كثرة الضحك، وكذا للمصنف من رواية اسرائيل والله أعلم " فرفع رأسه ثم قال: اللهم عليك بقريش ثلاث مرات " أي فلما رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه من الركوع دعا على هذه الفئة الخبيثة من قريش بالهلاك لجرأتهم عليه، وإمعانهم في إيذائه، ولأنّ الله تعالى أخبره بأنه لا مطمع في إيمانهم، لأنه قد طبع على قلوبهم فلا(1/293)
خير فيهم، بل في هلاكهم الخير كل الخير لقريش وغيرها من العرب. " فشق عليهم إذ دعا عليهم، وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة " أي فصعب على نفوسهم أن يدعو عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك البلد الأمين، وتملكهم الخوف والفزع الشديد، لأنّهم كانوا يعتقدون أن دعوة المظلوم في البلد الحرام مستجابة، سيما إذا كانت في ذلك المقام. " ثم سمّى " أي ثم عيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الأشرار، فدعا عليهم بأسمائهم " فقال: اللهم عليك بأبي جهل وعليك بعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية ابن خلف، وعقبة بن أبي معيط " أي دعا على هؤلاء واحداً واحداً بالهلاك، فاستجاب الله دعاءه، فلم يمض إلا زمن يسير حتى هلكوا عن آخرهم، وأصبحوا كأمس الذاهب. " قال " ابن ميمون: " وعد السابع، فلم نحفظه " أي وعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السابع، أو عده عبد الله بن مسعود فلم يحفظ اسمه عمرو بن ميمون راوي الحديث والله أعلم. " قال " ابن مسعود رضي الله عنه: " فوالذي نفسي بيده لقد رأيت الَّذِيْنَ عدّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صرعى بالقليب قليب بدر " أي رأيتهم موتى، قد ألقيت جثثهم في بئر بدر.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الطهارة من النجاسة واجبة مع القدرة، ساقطة عند العجز، وهو مذهب مالك رحمه الله لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ألقيت عليه النجاسة في الصلاة، ولم يكن قادراً على إزالتها، أتم صلاته، ولم يقطعها، ولو كانت النجاسة عند عدم القدرة تفسد الصلاة لقطعها، وقال الجمهور: الطهارة من النجاسة شرط في صحة الصلاة مطلقاً في جميع الأحوال لقوله تعالى: (وثيابك فطهر) وللمالكية فيها قولان مشهوران: الوجوب والسنيّة حال التذكر والقدرة والتمكن. فإن صلى بالنجاسة عامداً قادراً على إزالتها أعاد صلاته وجوباً لبطلانها، وعلى القول بأن إزالة النجاسة سنة تندب الإِعادة، وعلى كلا القولين تندب الإِعادة للناسي والعاجز عنها عند المالكية. ثانياً:(1/294)
126 - " بَابُ الْبُزَاقِ وَالْمخاطِ وَئحْوِهِ في الثَّوْبِ "
151 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
بَزَقَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في ثَوْبِهِ.
127 - بَابُ غَسْلِ الْمَرأةِ أباهَا الدَّم عَنْ وَجْهِهِ "
152 - عنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
استدل به البخاري (1) على أن من حدث له في صلاته ما يمنع انعقادها ابتداءً لا تبطل صلاته لو تمادى فيها. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - لم يقطع الصلاة حين ألقيت عليه النجاسة.
126 - " باب البزاق والمخاط ونحوه في الثوب "
151 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " بزق النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثوبه " روي بالزاي، والصاد والسين، وهي رواية ضعيفة أي بصق - صلى الله عليه وسلم - في ثوبه أثناء الصلاة، ولم يغسله من البصاق.
ويستفاد منه: طهارة البصاق والمخاط ونحوه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يغسل ثوبه منه، فدل ذلك على طهارته. ويؤخذ منه أيضاً أن الحركة اليسيرة لا يفسد الصلاة. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: بزق النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثوبه.
127 - " باب غسل المرأة أباها الدم عن وجهه "
152 - الراوي: هو سهل بن سعد الساعدي الأنصاري روى عن
__________
(1) هكذا قال بعض الشراح، ونسبه إلى البخاري، وهو قول بعض المالكية.(1/295)
أنَّهُ سَألهُ النَّاسُ بأيِّ شَيءٍ دُوْوِيَ جُرْحُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: مَا بَقِيَ أحَدٌ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي، كَانَ عَلى يَجِيءُ بِتُرسِهِ فِيه ماء، وفَاطِمَةُ تَغْسِلُ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ، فَأخذ حَصِيْرٌ، فأحْرِقَ، فَحُشِيَ بِهِ جُرْحُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (138) حديثاً أخرج البخاري منها تسعة وثلاثين حديثاً، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة سنة (91) هـ.
معنى الحديث: أن الناس سألوا سهل بن سعد رضي الله عنه " بأي شيء دووي جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي بأي شيء دووي جرحه عندما شُجَّ في غزوة أحد " فقال ما بقي أحد أعلم به مني " أي لم يبق أحدٌ من أهل المدينة أعلم بذلك مني لأنه آخر من مات بالمدينة من الصحابة " كان علي يجيءُ بترسه فيه ماء " أي يحضر الماء في ترسه " وفاطمة تغسل عن وجهه الدم، فأخذ حصير فأحرق فحشي به جرحه " أي أن فاطمة رضي الله عنها غسلت وجهه - صلى الله عليه وسلم - بالماء، ثم أحرقت حصيراً، وأخذت رماده، وحشت جرحه، فوقف الدم في الحال.
ويستفاد منه: أولاً: جواز مباشرة المرأة أباها وذا رحمها إذا كان مريضاً أو جريحاً بتمريضه وعلاجه وخدمته، وهو ما عناه البخاري بالترجمة. ثانياًً: أن من الأدوية الطبية المعروفة عند العرب لايقاف الدم الرماد المستخرج من الحصير المحروق، حيث يحشى به الجرح، فيقف النزيف حالاً، لأنه مادة مجففة للدم. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: وفاطمة تغسل عن وجهه الدم.
***(1/296)
128 - " بَابُ السِّوَاكِ "
153 - عَنْ أبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
أتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَوَجْدتُهُ يَسْتَنُّ بِسِوَاكٍ بِيَدِهِ يَقُولُ أُعْ أُعْ والسِّوَاكُ في فِيهِ، كَأنَّهُ يَتَهَوَّعُ.
154 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ:
كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بالسِّوَاكِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
128 - " باب السواك "
153 - معنى الحديث: يقول أبو موسى رضي الله عنه " أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجدته يستن بسواك " أي ينظف أسنانه بالسواك، ويبالغ في ذلك حتى يسمع منه صوت " ويقول: أُعْ أُعْ " بضم الهمزة وسكون العين " كأنه تهوع " أي يتقيىء. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي أيضاً.
والمطابقة: في قوله: يستن بسواك.
154 - معنى الحديث: يقول حذيفة رضي الله عنه: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يشوص فاه " أي إذا قام من نوم الليل يَدْلُك أسنانه بالسواك يزيل الرائحة التي تحدث عادة في الفم بعد النوم الطويل. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " يشوص فاه ".
ويستفاد من الحديثين: أن السواك سنة مؤكدة لمواظبته - صلى الله عليه وسلم - عليه ليلاً ونهاراً حتى أنه كان يستاك عند استيقاظه من النوم ليلاً، مما يدل على مواظبته عليه في جميع الأوقات.(1/297)
129 - "بَابُ دَفْع السِّوَاكِ إلى الأكْبَرِ"
155 - عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما:
أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: أرانِي أتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ، فجَاءَنِي رَجُلانِ أحَدُهُمَا أكْبَرُ مِنَ الآخَرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأصْغَرَ مِنْهُمَا فَقِيلَ لِي: كَبِّر، فَدَفَعْتُهُ إلى الأكبر، مِنْهُمَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
129 - " باب دفع السواك إلى الأكبر "
155 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أراني أتسوك بسواك " أي رأيت نفسي في المنام أني أستاك بسواك " فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر " في السن " فناولت السواك الأصغر " أي فلما انتهيت من السواك ناولته أصغرهما سناً " فقيل لي كبّر " أي فقال لي جبريل عليه السلام: إدفع السواك إلى الأكبر، وقدمه على من هو أصغر منه سناً. الحديث: أخرجه الشيخان.
ويستفاد منه: أنه يستحب دفع السواك إلى أكبر الحاضرين سناً، وتقديمه على غيره احتراماً له، وتكريماً وتقديراً لسنِّه، فإن من السنة تقديمه على غيره في كل شيء، قال القسطلاني: يستفاد منه تقديم ذي السن في السواك والطعام والشراب والمشي والركوب والكلام، نعم إذا ترتب القوم في الجلوس فالسنة تقديم الأيمن فالأيمن والله أعلم. والمطابقة: في قوله: " كبّر ".
***(1/298)
130 - " بَابُ فَضل مَنْ بَات عَلى الوُضُوءِ "
156 - عَنِ البَرَاءِ بْنِ عِازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ:
قَالَ لِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأ وُضُوءَكَ لِلصَّلاةِ، ثمَّ اضْطَجِعْ علَى شِقِّكَ الأيْمَنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ أسْلَمْتُ وَجْهِي إليْكَ، وفَوَّضْتُ أمْرِي إلَيْكَ، وألجَأتُ ظَهْرِي إليْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إليْكَ، لا مَلْجَأ ولا مَنْجَا مِنْكَ إلَا إِلْيكَ، اللَّهُمَّ آمْنتُ بِكِتَابِكَ الَّذي أنزلْتَ، وَنَبِيِّكَ الذي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
130 - " باب فضل من بات على الوضوء "
156 - معنى الحديث: يرغّب النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته في الوضوء قبل النوم، والدعاء بهذا الدعاء المأثور، فيقول - صلى الله عليه وسلم - للبراء بن عازب: " إذا أتيت مضجعك " أي إذا أردت أن تذهب إلى فراش نومك " فتوضأ وضوءك للصلاة " أي فتوضأ قبل أن تذهب إلى الفراش وضوءاً كاملاً، كما لو كنت تتوضأ للصلاة، حتى تنام وأنت على طهارة تامة " ثم اضطجع على شقك الأيمن "، لأنه أدعى إلى النشاط والاكتفاء بالقليل من النوم، وأعون على الاستيقاظ في آخر الليل، وأنفع للقلب لأنّه أخف عليه حيث يكون في الجهة العليا " ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك " أي أسلمت روحي عند نومي، وأودعتها ثم أمانة لديك، " وفوضت أمري إليك " أي توكلت في جميع أموري عليك، راجياً أن تكفيني كل شيء، وتحميني من كل سوء، لأنك قلت، وقولك الحق (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) " وألجأت ظهري إليك " أي وتحصنت بجوارك، ولجأت إلى حفظك، فاحرسنِي بعينك التي لا تنام، " رغبة ورهبة إليك " أي وإنما فعلتُ ذلك كله " رغبةً " أي طمعاً في رحمتك " ورهبة " أي خوفاً منك، فامنن علي برحمتك، وقني عذابك " لا ملجأ(1/299)
أرْسَلْتَ، فإنْ متَّ من لَيْلَتِكَ فَأنتَ عَلَى الفِطرةِ، وَاجْعَلهنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّم بِهِ " قَالَ فَرَدَّدتهَا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا بَلَغْت اللهمَّ آمَنْت بِكِتَابِكَ الذي أنزلْتَ قلْت: وَرَسولكَ، قَالَ: لا! وَنَبيِّكَ الذي أرْسَلْتَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولا منجا منك إلاّ إليك" أي فإنه لا مفر منك إلاّ إليك، ولا ملاذ من عقوبتك إلاّ بالالتجاء إلى عفوك ومغفرتك يا أرحم الراحمين. " آمنت بكتابك الذي أنزلت " وهو القرآن الكريم " ونبيك الذي أرسلت " وهو نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم قال له - صلى الله عليه وسلم - بعد أن علمه هذا الذكر المبارك " فإن مِتَّ من ليلتك فأنت على الفطرة " أي فإن متَّ في تلك الليلة التي نمت فيها على وضوء، واضطجعت على شقك الأيمن، وتحصنت فيها بهذا الذكر فإنّك تموت على دين الإِسلام وسنة خير الأنام.
ويستفاد منه: استحباب الوضوء عند النوم، والاضطجاع على الشق الأيمن وتلاوة هذا الذكر المأثور، وأن من قرأه قبل نومه وبات على وضوء ثم مات من ليلته مات على الإِيمان والسنة، قال العسقلاني: وإنما ندب الوضوء عند النوم لأنه قد يقبض روحه في نومه، فيكون قد ختم عمله بالوضوء، وليكون أصدق لرؤياه، وأبعد عن تلاعب الشيطان به في منامه. الحديث: أخرجه الخمسة. والمطابقة: في قوله: " متّ على الفطرة " لدلالته على أن من مات على وضوء مات على السنة.
***(1/300)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب الغسل "
الغسل لغةً: إن كان بضم الغين فهو إراقة الماء على البدن مع الدلك، وأما بكسرها فهو ما يغسل به من ماء وصابون ونحوه، وبفتح الغين اسم للماء الذي يغسل به خاصة، ونقل القاري (1) : أنه بالضم مشترك بين الفعل المعروف، والماء الذي يغسل به، ومنه قول ميمونة: " وضعت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسلاً ". أما الغسل شرعاً فهو كما في " المنهل العذب " (2) إيصال الماء إلى جميع ظاهر الجسد مع داخل الفم والأنف بنية رفع الحدث، ومع الدلك عند المالكية. ومن أسبابه: الجنابة وانقطاع دم الحيض والنفاس. والحكمة في الغسل: إزالة الفتور الذي يعقب الجنابة واستعادة القوة والنشاط البدني، ولهذا قال أبو ذر رضي الله عنه بعد اغتساله: " كأني ألقيت عني حملاً " قال ابن القيم (3) " وفي الغسل والوضوء بعد الوطءِ من النشاط وطيب النفس، وإخلاف ما تحلل من الجماع وكمال الطهر، والنظافة، واجتماع الحار الغريزي إلى داخل البدن بعد انتشاره بالجماع، وحصول النظافة التي يحبها الله. اهـ. أمّا من الناحية النفسية فإن الإنسان بعد الجماع يحصل له نوع من التبلد الذهني الذي ينشأ عن ركود الدم (4) ، ومن رحمة الحكيم الخبير أنه
__________
(1) المرقاة شرح المشكاة للقاري ج 1.
(2) المنهل العذب شرح سنن أبي داود ج 1
(3) زاد المعاد لابن القيم.
(4) تيسير العلام شرح عمدة الأحكام ج 1.(1/301)
131 - " بَابُ الْوُضُوءِ قَبلَ الْغسْلِ "
157 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأ فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأ كما يَتَوَضَّأ للصَّلَاةِ، ثمَّ يُدْخِلُ أصَابِعَهُ في الْمَاءِ، فَيُخَلَل بِهَا أصُولَ الشَّعْرِ، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأسِهِ ثَلَاثَ غَرَفَاتٍ، ثُمَّ يفيضُ الْمَاءَ على جِلْدِهِ كُلِّهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شرع هذا الغسل الذي يعيد للبدن قوته وللدم حركته، وللنفس الإنسانية نشاطها من جديد، وأما غسل الحائض والنفساء فهو لِإزالة القذارة والرائحة الكريهة.
131 - " باب الوضوء قبل الغسل "
157 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه " قبل إدخالهما في الإِناء لتنظيفهما، مما يحتمل أنه علق بهما من الأقذار، وفي رواية ثم يغسل فرجه، وذلك لئلا يحتاج إلى غسله بعد الوضوء فينتقض وضوءه " ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة " أي مثل وضوئه للصلاة، " ثم يدْخِل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول الشعر " أي ثم يبلل أصابعه بالماء، فيحرك بها أصول الشعر ليصل الماء إلى بشرة الرأس، " ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات " أي يغسل رأسه ثلاث مرات، كل مرة بغرفةٍ مستقلة " ثم يفيض الماء على جلده كله " أي ثم إذا انتهي من الوضوء وتخليل الشعر وغسل الرأس ثلاثاً يصب الماء على جسده فيعممه بالماء. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي ومالك أيضاً.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: بيان كيفية غسله - صلى الله عليه وسلم - وأنه يبدأ بغسل(1/302)
158 - عَنْ مَيمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَضِي اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: تَوَضَّأ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ غَيْرَ رِجْلَيهِ، وَغَسَلَ فَرْجَهُ وما أصَابَهُ مِنَ الَأذَى، ثُمَّ أفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، ثُمَّ نَحَّى رِجْلَيْهِ فَغَسَلَهُمَا هَذَا (1) غُسلُهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْجَنَابَةِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اليدين، ثم الفرج، ثم يتوضأ كوضوئه للصلاة، ثم يخلل شعر رأسه ويغسله ثلاثاً، ثم يعمم جسده بالماء. ثانياً: مشروعية أو استحباب الوضوء قبل الغسل كما ترجم له البخاري. ثالثاً: مشروعية تخليل شعر الرأس واللحية، قال الزرقاني: ثم هذا التخليل غير واجب اتفاقاً، إلاّ إذا كان الشعر ملبداً. بمعنى أنه مستحب، ولكن هذا في الحقيقة هو مذهب الجمهور، أمّا المالكية فمشهور مذهبهم وجوب تخليل اللحية والرأس وغيرهما كما أفاده الخطاب، حيث نقل عن ابن الحاجب أنه قال: الأشهر وجوب تخليل اللحية والرأس وغيرهما.
والمطابقة: في قولها: "ثم يتوضأ وضوءه للصلاة".
158 - معنى الحديث: تصف لنا أم المؤمنين السيدة ميمونة رضي الله عنها غُسْل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتقول: " توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءه للصلاة غير رجليه وغسل فرجه " الواو لمطلق الجمع، وليست للترتيب، والمعنى: أنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ أولاً بغسل فرجه، ثم توضأ مثل وضوئه للصلاة إلّا أنه لم يغسل رجليه، وإنما أخر غسلهما إلى نهاية غسْله. والمراد أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يبدأ بغسل الفرج قبل الوضوء، كما يدل عليه حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أنّه كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فأفرغ على يده اليمنى، ثم غسل فرجه " إلخ " ثم أفاض عليه الماء " أي ثم بعد الفراغ من الوضوء غسل جسده
__________
(1) وفي رواية الأكثرين هذه غسله أي هذه الأفعال المذكورة أو هذه صفة غسله، وهي عليها النسخ التي شرح عليها العيني والحافظ ابن حجر.(1/303)
132 - " بَابُ غُسْلَ الرَّجُلَ مَعَ امْرَأتِهِ "
159 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
كُنْتُ أغْتَسِلُ أنَا والنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - من إنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ قَدَحٍ يُقَالُ لَهُ: الْفَرَقُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كله وصب عليه الماء. الحديث: أخرجه الستة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية الوضوء قبل الغسل كما ترجم له البخاري وهو سنّة عند الجمهور لهذه الأحاديث، وليس بواجب لقوله - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة: " يكفيك أن تفيضي عليك الماء " وذهب داود وأبو ثور إلى وجوبه، ولا دليل عليه في هذا الحديث. ويكون بعد غسل الفرج. ثانياً: تأخير غسل القدمين إلى ما بعد نهاية الغسل لقول ميمونة " ثم أفاض عليه الماء، ثم نحّى رجليه فغسلهما " وهو مذهب الجمهور وبعض المالكية كما أفاده الزرقاني، وذهب الشافعي ومالك في المشهور عنه إلى تقديم غسل الرجلين وفعله في الوضوء، وقالت الحنفية: يؤخرهما إن كان المغتسل يجتمع فيه الماء كما أفاده في " فيض الباري ".
132 - " باب غسل الرجل مع امرأته "
159 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد " الواو واو المعيّة، ويحتمل أن تكون عاطفة والمراد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل مع السيدة عائشة من إناءٍ واحد، يغترف منه وتغترف منه، قال الحافظ يحتمل أن يكون " النبي " مفعولاً معه، ويحتمل أن يكون عطفاً على الضمير " من قدح يقال له الفرَق " بفتح الراء كما رواه الحافظ، وقال ابن التين باسكان الراء. وهو ثلاثة آصع. الحديث:(1/304)
133 - " بَابُ الْغسْلِ بالصَّاعِ وَئحْوِه "
160 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنَّهَا سُئِلَتْ عنْ غُسْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَدَعَتْ بإنَاءٍ نَحْوٍ مِنْ صَاع فاغْتَسَلَتْ وأفَاضَتْ عَلَى رَأسِهَا، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا حِجَاب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أخرجه الشيخان والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز اغتسال الرجل مع زوجته من إناء واحد. قال الترمذي، وهو قول عامة الفقهاء أن لا بأس أن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد، وقد نقل القرطبي والطحاوي والنووي الاتفاق على جوازه. ثانياً: جواز اغتسال المرأة بفضل طهور الرجل، وجواز اغتسال الرجل بفضل طهور المرأة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعائشة رضي الله عنها اجتمعا في الغسل من إناء واحد وذهب أحمد في الرواية المشهورة عنه إلى المنع من التطهر بفضل طهور المرأة إذا خلت به (1) لحديث الترمذي " نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فضل طهور المرأة " قال أبو عيسى: وهو قول أحمد وإسحاق كرها فضل طهورها. اهـ. والمطابقة: في قولها: كنت أغتسل أنا والنبي من إناء واحد (2) .
133 - " باب الغسل بالصاع ونحوه "
160 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها " سئلت عن غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي سألها عبد الله بن يزيد، وهو أخوها من الرضاعة،
__________
(1) كما أفاده ابن قدامة قال: والثانية أي الرواية الثانية يجوز الوضوء به للرجال والنساء اختارها ابن عقيل، وهو قول أكثر أهل العلم.
(2) قال العيني: وفي حديث عائشة تطهر المرأة بفضل الرجل، وأما العكس فجائز، عند الجمهور سواء خلت المرأة بالماء أو لم تخل، وذهب أحمد إلى أنها إذا خلت بالماء واستعملته لا يجوز للرجل استعمال فضلها اهـ.(1/305)
161 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ سَألهُ رَجُلٌ عَنِ الْغُسْلِ فَقَالَ: يَكْفِيكَ صَاعٌ. فَقَالَ رَجُل: مَا يَكْفِيني! فَقَالَ جَابِرُ: كَانَ يَكْفِي مَنْ هُوَ أوْفَى مِنْكَ شَعْراً وخَيْرٌ مِنْكَ، ثُمَّ أمَّنَا في ثَوْبٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ورجح العيني أنه عبد الرحمن بن أبي بكر والله أعلم " فدعت بإناءٍ نحو (1) من صاع " أي فطلبت أن يُحْضِروا لها إناءً يسع مقدار صاع من الماء، والصاع عند الجمهور خمسة أرطال وثلث " فاغتسلت وأفاضت على رأسها " أي فاغتسلت بذلك الماء الذي يبلغ مقداره صاعاً وصبت الماء على رأسها، وعَمَّتْ جسدها كله بالماء، ولم يذكر في هذا الحديث أنها توضأت قبل الغسل إما اختصاراً أو اقتصاراً على القدر الواجب الذي لا يصح الغسل إلاّ به، وهذا يحتمل وجهين: إما أن تكون عائشة اقتصرت على مجرد الغسل ولم تتوضأ بياناً للجواز واقتصاراً على القدر الواجب وإما أن تكون قد توضأت، ولكن الراوي اختصر الحديث.
ويستفاد منه: استحباب الاقتصاد في الماء عند الغسل، والاكتفاء بقدر الصاع إذا أجزأ الجسم وكفى لغسل جيع أعضائه، وإلّا فالقدر الكافي بلا حد. دون إسراف في الماء، أو تقتير في غسل بعض الأعضاء بتركها دون غسل أو عدم استيعابها وإتمام غسلها. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " فدعت بإناءٍ نحو من صاع ".
161 - معنى الحديث: أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما " سأله رجل عن الغسل " أي سأله عن قدر الماء الذي يستحب له أن لا يزيد عليه في الغسل إن أمكنه وكفاه: " فقال: يكفيك صاع " وهو خمسة أرطال
__________
(1) بالجر صفة لإناء كما أفاده القسطلاني.(1/306)
134 - " بَابُ مَنْ أفَاضَ علَى رَأسِهِ ثَلَاَثاً "
162 - عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِم رَضي اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أمَّا أنا فأُفِيضُ عَلَى رَأسِي ثَلَاثاً " وأشَارَ بِيَدَيْه كِلْتَيْهِمَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وثلث، أي قال جابر لهذا السائل وهو أبو جعفر محمد الباقر: يكفيك هذا القدر من الماء " فِقال رجل " وهو الحسن بن محمد بن الحنفية " ما يكفيني " هذا القدر " فقال جابر: كان يكفي من هو أوفى منك شعراً وخير منك " أي كان الصاع من الماء يكفي في الغسل من هو أكثر منك شعراً، وأفضل منك، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. " ثم أمّنا " أي صلى بنا إماماً " في ثوب " أي صلى بنا وهو في ثوب واحد فقط.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب تقليل الماء في الغسل بلا حدٍ كما تقدم شرحه في الحديث السابق. ثانياً: جواز الصلاة في الثوب الواحد إذا كان ساتراً. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: يكفيك صاع.
134 - " باب من أفاض على رأسه ثلاثاً "
162 - ترجمة راوي الحديث: هو جبير بن مطعم بكسر العين النوفلي من سادات قريش، وكبار نسابيها، أسلم عام خيبر، وروى ستين حديثاً، اتفقا منها على ستة، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بواحد، توفي بالمدينة سنة أربع وعشرين هـ.
معنى الحديث: أن بعض القوم كما في رواية مسلم قال: أما أنا فأغسل رأسي بكذا وكذا - أي أغسله مرات كثيرة تزيد على ثلاث مرات فأجابه(1/307)
135- " بَابُ مَنْ بَدأ بالْحِلَابِ عِنْدَ الغسل "
163 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا اغْتَسَلَ من الْجَنَابَةِ دَعَا بِشَيءٍ نَحْوَ الْحِلَابِ، فَأخَذَ بِكَفَّيْهِ فَبَدَأ بِشِقِّ رَأسِهِ الأيْمَنِ، ثمَّ الأيْسَرِ، فَقَالَ بِهِمَا عَلَى وَسَطِ رَأسِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله " أما أنا فأفيض (1) على رأسي ثلاثاً " أي إذا كنت تغسل رأسك أكثر من ثلاث مرات، فليس ذلك من سنتي، لأنني إنما أغسل رأسي ثلاث مرات فقط، ولا أزيد على ذلك، فإن زدتَ فقد خالفت السنة، ولا ينبغي. ذلك. الحديث: أخرجه الخمسة غير الترمذي. والمطابقة: في قوله: " فأفيض على رأسي ثلاثاً ".
ويستفاد منه: أنه يستحب التثليث في غسل الرأس وسائر الأعضاء وهو مذهب الجمهور، قال العيني: ويستنبط منه (2) أن المسنون في الغسل أن يكون ثلاث مرات، وعليه إجماع العلماء، وأمّا الفرض منه فغسل سائر البدن بالإجماع - أي مرةً واحدة، وقال ابن بطال: العدد في ذلك مستحب عند العلماء وما عم وأسبغ أجزأ.
135 - " باب من بدأ بالحلاب عند الغسل "
163 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب " أي كان - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد الغسل من الجنابة استعد له، فأمر بإحضار ما يلزمه من إناء وماء، وطلب
__________
(1) بضم الهمزة من الإفاضة بمعنى الإسالة كما أفاده العيني.
(2) شرح العيني على البخاري ج 3.(1/308)
136 - " بَاب هَلْ يُدخِلُ الْجُنُبُ يَدَهُ فِي الإِناءِ قبلَ أنْ يَغسِلَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى يَدِهِ قَذَرٌ غَيْرُ الْجَنَابَةِ "
164 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
كُنْتُ أغْتَسِلُ أنَا والنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ تَخْتَلِفُ أيدِينَا فِيهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إناءً مثل الحلاب، وهو إناء يسع ثمانية أرطال، وسمى حلاباً لأنه يسع قدر حَلْبَةِ الناقة كما أفاده الخطابي، ومنه قول الشاعر:
صَاحِ هَلْ رَأيت أو سَمِعْتَ بِرَاعٍ ... رَدَّ في الضَّرعِ مَا بقِيَ مِنْ حِلابَ (1)
" فأخذ بكفيه " الماء " فبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر " أي فبدأ بغسل الجانب الأيمن من الرأس، ثم الأيسر منه، " فقال بهما على وسَط رأسه " قال العيني: أي قلب بكفيه على وسط رأسه، والظاهر أن معناه أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - غسل شق رأسه، الأيمن أولاً، ثم الأيسر، ثم قلب الماء بكفيه على وسط رأسه، فغسله أخيراً والله أعلم.
ويستفاد منه: استحباب الاستعداد للغسل من الجنابة قبل الشروع فيه وإحضار ما يلزم له من إناء وماء، وأن يبدأ بالميامن قبل المياسر في الرأس وسائر الأعضاء. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: بدأ بالحِلاَب.
136 - " باب هل يدخل الجنب يده في الإناء قبل أن يغسلها إذا لم يكن على يده قذر غير الجنابة "
164 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد " يجوز في النبيّ الرفع على العطف،
__________
(1) شرح العيني على البخاري ج 3.(1/309)
فيكون المعنى كنت أشترك أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - في الاغتسال من الماء الموجود في الإِناء الواحد، ويجوز فيه النصب على أنه مفعول معه فيكون معناه كنت أغتسل مع النبيّ من إناء واحد " تختلف أيدينا فيه " أي فأدخل يدي في الإِناء مرة لأغترف منه، ويدخل يده - صلى الله عليه وسلم - في الإِناء مرة ليغترف منه، كما جاء في رواية للبخاري عن عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، نغرف منه جميعاً " أخرجه البخاري في باب تخليل اللحية. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قولها: " تختلف أيدينا فيه ".
ويستفاد من الحديث: كما قال الحافظ: جواز اغتراف الجنب من الماء (1) القليل وأن ذلك لا يمنع من التطهر بذلك الماء، ولا بما يفضل منه. " قال ": وتوجيه الاستدلال به للترجمة أن الجنب لما جاز له أن يدخل يده في الإِناء ليغترف بها قبل ارتفاع حدثه، دل على أن الأمر بغسل يده قبل إدخالها ليس لأمر يرجع إلى الجنابة. اهـ.
***
__________
(1) فتح الباري ج 1.(1/310)
137 - " بَابٌ إذَا جَامَعَ ثُمَّ عَاوَد، وَمْن دَارَ عَلَى نِسَائِهِ في غُسلٍ وَاحِدٍ "
165 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
كُنْتُ أطيَبُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَيَطُوفُ على نِسَائِهِ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمَاً يَنْضَحُ طِيباً.
166 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ في السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ اللَّيْلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
137 - " باب إذا جامع ثم عاود، ومن دار على نسائه في غسل واحد "
165 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليطوف على نسائه " أي فيجامعهن كلهن بغسل واحدٍ كما في رواية أنس رضي الله عنه: " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يطوف على نسائه بغُسلٍ واحد "
أخرجه البخاري " ثم يصبح محرماً ينضح طيباً " أي تفوح منه رائحة الطيب.
الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز معاودة الجماع بغسل واحد لزوجة واحدة أو لعدة زوجات، وعدم كراهية الإكثار من الجماع عند القدرة عليه.
ثانياً: استحباب الطيب عند الجماع، لأنه يزيد الرغبة، قال ابن القيم (1) القوى تزيد بالطيب، كما تزيد بالطعام والشراب. والمطابقة: في قوله: " فيطوف على نسائه ".
166 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: "كان رسول
__________
(1) الطب النبوى لابن القيم.(1/311)
والنهَارِ، وَهُنَّ إحْدَى عَشرَةَ -وفي رِوَاية تِسْعُ نِسْوةٍ- قِيلَ: أوَكَانَ يُطِيقُهُ؟ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أنَّهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ ثَلَاِثينَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الله - صلى الله عليه وسلم - يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل أو النهار " أي يباشرهن جميعاً في ساعة واحدة، إما بغسل واحد كما في رواية الترمذي أنه - صلى الله عليه وسلم - " كان يطوف على نسائه في غسل واحد أو يغتسل عند هذه وهذه كما كان يفعل أحياناً " " وهن إحدى عشرة وفي رواية تسع نسوة " وهي الأرجح كما أفاده الحافظ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يجتمع عنده أكثر من تسع، وتحتمل رواية إحدى عشرة، أنه عد منهن مارية، وريحانة. وهما جواريه لا زوجاته " قيل " أي فقال بعضهم لأنس رضي الله عنه " أو كان يطيقه قال: كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين " رجلاً، وفي رواية أبي نعيم " وأعطي قوة أربعين من رجال أهل الجنة ". والرجل منهم كما في الحديث " يعطى قوة مائة في الأكل والشرب والشهوة " أخرجه النسائي وأحمد والحاكم وصححه. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في قوله: " كان يدور على نسائه ".
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يجوز للرجل أن يطوف على نسائه جميعاً في وقت واحد لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك، وأنه لا بأس بكثرة الجماع لمن يطيقه، كما يجوز له أن يطوف عليهن بغسل واحد لما في حديث الترمذي الذي مرَّ بنا إلاّ أنه يستحب الغسل لكل جماع. ثانياًً: ما أعطي - صلى الله عليه وسلم - من قوة الجماع، وتلك فضيلة من الفضائل. قال ابن العربي المالكي: كان العرب وغيرهم من الأمم يتمدحون بقلة الأكل وكثرة الجماع.
***(1/312)
138 - " بَابُ تخلِيلِ الشَّعَرِ حَتَّى إِذَا ظَنَّ أنَّهُ قَدْ أرْوَى بَشَرَتهُ، أفَاضَ عَلَيْهِ "
167 - عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ غَسَلَ يَدَيْهِ، وتَوَضَّأ وُضُوءَهُ للصَّلَاةِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ، ثُمَّ يُخَلل بِيَدِهِ شَعْرَهُ، حَتَّي إِذَا ظَنَّ أنَّهُ قَدْ أرْوَى بَشَرَتَهُ أفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثم غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ.
وَقَالَتْ: كُنْتُ أغْتَسِلُ أنَا وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ نَغْرِفُ مِنْهُ جَمِيعَاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
138 - " باب تخليل الشعر حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه "
167 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه وتوضأ وضوءه للصلاة ثم اغتسل " وقد تقدم شرحه في باب الوضوء قبل الغسْلِ " ثم يخلل بيده شعره " وفي رواية للبخاري ثم يدخل أصابعه الماء فيخلل بها أصول شعره - أي يغمس أصابع يديه في الماء حتى تبتل، ثم يدخلها في شعره، فيحرك بها أصول الشعر ليروي بشرته ويبلها بالماء، " حتى إذا ظنّ أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء " أي فإذا غلب على ظنه أنه أوصل الماء إلى جلدة رأسه صب الماء على رأسه " ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده " أي ثم غسل بقية بدنه.
الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قولها: " ثم يخلل بيده شعره ".
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية تخليل الشعر في الغسل، وهو(1/313)
139 - " بَابٌ إِذَا ذَكَرَ فِي الْمَسْجِدِ أنَّهُ جُنُبٌ يَخرُجُ كما هُوَ ولا يَتَيَمَّمُ "
168 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
أقِيمَتِ الصَّلَاةُ، وَعُدِّلَتِ الصُفُوفُ قِياماً، فَخَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فلمَّا قَامَ في مُصلَّاهُ ذكر أنَّه جُنُبٌ فقال لنا: مَكَانَكُمْ، ثم رَجَعَ فاغْتَسَلَ ثم خَرَجَ إليْنَا ورَأسُهُ يَقْطرٌ، فَكَبَّرَ فَصَلَّيْنَا مَعَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مستحب أثناء صب الماء أو بعده عند الحنفية والشافعية والحنابلة في الرأس واللحية (1) إذا أمكن وصول الماء إلى البشرة بدونه، وإلّا وجب. وذهبت المالكية إلى وجوبه في الرأس (2) واللحية سواء كان الشعر خفيفاً أو كثيفاً كما أفاده الحطاب. ثانياً: مشروعية التثليث في غسل الرأس، وهو سنة اتفاقاً وألحق به الشافعي سائر الجسد.
139 - " باب إذا ذكر في السجد أنه جنب يخرج كما هو ولا يَتَيَمَّم "
168 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف قياماً " أي أقيمت صلاة الجماعة، وسويت الصفوف واعتدل الناس قياماً " فلما قام في مصلاه " أي فلما وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - في المكان الذي يصلي فيه " ذكر أنه جنب فقال فما: مكانكم " أي قفوا مكانكم وانتظروني حتى أعود إليكم، " ثم رجع " أي ثم خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من المسجد: وعاد إلى بيته " فاغتسل، ثم خرج إلينا ورأسه يقطر
__________
(1) المنهل العذب ج 3.
(2) فالمعتمد عند المالكية أن تخليل الشعر واجب مطلقاً كما في شرح الخطاب على متن الخليل.(1/314)
140 - " بَابُ مَنِ اغْتَسَلَ عُرْيَاناً وَحْدَهُ في الْخلْوَةِ وَمَنْ تسَتر فالتَّسَتُّرُ أفضل "
169 - عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً، ينْظرٌ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْض، وكان مُوسَى يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فقالُوا: وَاللهِ مَا يَمْنَعُ موسَى أنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلَّا أنه آدَرُ، فذَهَبَ مَرَّة يَغْتَسِلُ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ فخرَجَ مُوسَى في إِثْرِهِ يَقُولُ: ثَوْبِي يَا حَجَرُ ثَوْبِى يَا حَجَرُ، حَتَّى نَظرتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إلى مُوسَى، فَقَالُوا: وَاللهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فكبر" تكبيرة الإحرام ولم يعد الإقامة " وصلينا معه " صلاة الفجر.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن من تذكر الجنابة في المسجد فإن عليه أن يخرج منه، ولا يجب عليه التيمم قبل الخروج، وهو مذهب الجمهور كما ترجم له البخاري ودل عليه الحديث خلافاً للثوري وأبي حنيفة حيث قالوا: يجب عليه التيمم قبل الخروج. ثانياً: جواز الفصل بين الإِقامة والصلاة بفعل أو قول يتعلق بمصلحة الصلاة، ولا تجب إعادة الإقامة، وهو مذهب الجمهور. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - ذكر الجنابة فخرج من المسجد دون أن يتيمم.
140 - " باب من اغتسل عرياناً وحده في الخلوة ... إلخ "
169 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة " أي يغتسل بعضهم مع بعض عراة فيرى كل واحد منهم عورة الآخر، ولا يرون في ذلك بأساً " وكان موسى يغتسل وحده " أي يختلي وينفرد وحده عند الاغتسال يستر عورته عن الناس حياءً واحتشاماً وامتثالاً(1/315)
مَا بِمُوسَى من بَأْسٍ، وأخَذَ ثَوْبَهُ فَطفِقَ بالْحَجَرِ ضَرْباً". فَقَالَ أبو هُرَيرَةُ: واللهِ إنَّهُ لنَدَبٌ بالْحَجَرِ سِتَّة أوْ سَبْعَة ضَرْباً بالحْجَرِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأمر الله لأن شريعته كانت تأمر بذلك " فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلاّ أنه آدر " أي فقالوا بناءً على ظنهم الكاذب: والله لم يعتزل موسى عنا عند اغتساله إلاّ لأنه آدر - أي منتفخ الخصيتين، فهو يستتر ليخفي عن الناس هذه العاهة الجسمية الموجودة خشية الفضيحة، " فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر " أي فأراد الله تعالى أن يبرأ موسى عليه السلام مما قالوا، ويكشف لهم عن سلامة جسمه من جميع العيوب البدنية، فذهب موسى كعادته ليغتسل وحده، فخلع ثوبه ووضعه على حجر، فهرب الحجر بثوبه، ليتم ما أراده الله " فخرج موسى في إثره " بكسر الهمزة وسكون الثاء، وحكى فتحمها، أي فخرج موسى من المكان الذي كان يغتسل فيه يسير وراء الحجر، وهو " يقول ثوبي يا حجر " أي أعطني ثوبى يا حجر، ورأى اليهود موسى وهو عار من ثيابه، وظهرت لهم براءته وسلامته من العيوب الجسمية، والأمراض البدنية " فقالوا: والله ما بموسى من بأس " أي فتبين لهم كذب ظنهم في موسى فأقسموا على خلوه من كل عيب وعاهة. " فطفق بالحجر ضرباً " أي فأخذ موسى بضرب ذلك الحجر ضرباً شديداً لأنه كان سبباً في ظهور عورته " والله إنه لَنَدَبٌ " (1) أي والله إن آثار الضرب ظاهرة على الحجر " ستة أو سبعة " أي بحيث يتبين للناظر عددها ستة آثار أو سبعة آثار. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كونه اغتسل وحده عرياناً.
__________
(1) بفتح النون والدال.(1/316)
170 - وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " بَيْنَا أيوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانَاً فخرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ من ذَهَب فجَعَلَ أيُّوبُ يَحْتَثِي في ثَوْبِهِ فَنَادَاهُ رَُّبهُ يا أيوبُ ألمْ أكُنْ أغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى، قَالَ: بَلَى وعِزَّتِكَ، ولكِنْ لَا غِنَى لِي عَنْ بَرَكَتِكَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
170 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " بينا أيوب يغتسل عرياناً " أي بينما كان يغتسل وحده عرياناً " فخر عليه جراد من ذهب " أي فسقط عليه جراد من الذهب اختباراً له، ومعجزة من معجزاته عليه السلام، " فجعل أيوب يحتثي (1) في ثوبه " أي يجمع تلك القطع الذهبية التي تساقطت عليه في ثوبه " فناداه ربه " معاتباً له " ألم أكن أغنيتك عمَّا ترى؟ قال: بلى وعزتك! ولكن لا غنى لي عن بركتك " أي فأجاب أيوب بذلك الجواب السديد. -ونعم الناصر الجواب الحاضر- فقال: بلى أغنيتني بفضلك الواسع فأنعمت على بالصحة بعد المرض، وبالغنى بعد الفقر، وبالسلامة من العاهات البدنية التي كنت أعانيها مدة من الزمان، فطهّرت جسمي منها ولكن هذا الذهب نعمة من نعمك، وخيرٌ من عندك، فكيف أستغني عن خيرك ونعمتك، وأنا لما أنزلت إلي من خير فقير. الحديث: أخرجه البخاري والنسائي. والمطابقة: في قوله: " بينا أيوب يغتسل عرياناً ".
ويستفاد من الحديثين: جواز التعرّي عند الخلوة، لأنَّ شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يدل الدليل على نسخه، وقد قال عز وجل: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) .
__________
(1) بالحاء الساكنة.(1/317)
141 - " بَابُ التَّسَتُّرِ في الْغُسْلِ عِنْدَ النَّاسِ "
171 - عن أمِّ هَانِىءٍ بِنْتِ أبي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وفَاطِمَةُ تَسْتُرُهُ، فَقَالَ: " مَنْ هَذِهِ؟ " فقُلْتُ: أنا أمُّ هَانِىءٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
141 - " باب التَّستر في الغُسْل عند الناس "
171 - ترجمة راوية الحديث: هي أم هانىء " فاختة " بنت أبي طالب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخت عليّ رضي الله عنهما، روت ستة وأربعين حديثاً، اتفقا على حديث، ولها في البخاري حديثان.
معنى الحديث: تقول أم هانىء رضي الله عنها: " ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح " أي ذهبت للسلام عليه عندما قدم إلى مكة في غزوة الفتح " فوجدته - صلى الله عليه وسلم - يغتسل وفاطمة تستره " أي تضع له ستاراً كثيفاً يحجبه عن الناس " فقال من هذه " وفي رواية الموطأ: فسلمت عليه فقال: من هذه؟ " فقلت أنا أم هانىء " أي فعرّفته بنفسي، وذكرت له اسمي.
الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: وجوب التستر أثناء الغسل عن أعين الناس، وتحريم الاغتسال أمامهم دون ستار، وقد قال ابن بطال: من دخل الحمام بغير مئزرٍ تسقط شهادته، وهو قول الجمهور. ثانياًً: جواز الاغتسال بحضرة المحرم إذا حال بينهما ساتر من ثوب ونحوه. والمطابقة: في قوله: " وفاطمة تستره ".
***(1/318)
142 - " بَابُ عَرَقِ الْجُنُبِ وأنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ "
172 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَقِيَهُ في بَعْض طُرُقِ الْمَدِيْنَةِ وَهُوَ جُنُبٌ، قَالَ: فَانْخَنَسْتُ، فَذَهَبْتُ فاْغْتَسَلْتُ، ثُمَّ جِئْتُ (1) فَقَالَ: " أيْنَ كُنْتَ؟ "، قَالَ: كُنتُ جُنُبَاً فَكَرِهْتُ أن أجَالِسَكَ وأنا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، فَقاَل: " سُبْحَانَ اللهِ إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
142 - " باب عرق الجنب وأن المسلم لا ينجس "
172 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب " أي والحال أن أبا هريرة كان في ذلك الوقت جنباً " قال فانخنست " بالخاء المعجمة من الخنوس، وهو الاختفاء أي فتغيبت عن وجهه، وأخفيت شخصي لئلا ألقاه بجنابتي ظناً منه أنّ الجنابة نجاسة ذاتية تمنعه عن مقابلة النبي - صلى الله عليه وسلم - " فقال أين كنت؟ قال: كنت جنباً فكرهت. أن أجالسك. وأنا على غير طهارة " أي فكرهت أن أجالسك وأنا نجس " فقال: سبحان الله " أي فسَبَّحَ النبي - صلى الله عليه وسلم - تعجباً من ظن أبي هريرة أن الجنابة نجاسة تمنعه عن مقابلته أو مقابلة غيره، وتحول دون مجالسته - صلى الله عليه وسلم - أو مجالسة سواه، لأنّه ظن غير صحيح، فالجنابة إنما تمنع من الصلاة ومس المصحف ودخول المسجد، ولا تمنع من مجالسة المسلمين ومقابلتهم، ولا يصير بها الجنب نجساً، فإن المؤمن طاهر الذات أبداً، سواء كان جنباً أو غير جنب ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن المؤمن لا ينجس " أي لا
__________
(1) هكذا في بعض الروايات، وهو المناسب لما قبله، وفي بعضها فذهب واغتسل اهـ كما أفاده الشرقاوي في شرحه على مختصر البخاري للزبيدي ج 1.(1/319)
143 - " بَابُ كَيْنُونةِ الْجُنُبِ في الْبَيتِ إذَا توَضَّأ قَبلَ أنْ يَغتسِلَ "
173 - عَن عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ سَأل النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أيَرْقُدُ أحَدُنَا وَهُوَ جُنب؟ قَالَ: " نَعَمْ، إذَا تَوَضَّأ أحَدُكُمْ فَلْيَرْقُدْ وَهُوَ جُنُبٌ ".
تَتَنَجَّسُ ذاته ولا تصيّره الجنابة نجساً. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: طهارة المسلم في جميع الأحوال، فهو طاهر الذات ولو كان جنباً أو ميتاً وجسمه ولعابه وعرقه كله طاهر، سواء كان جنباً أو حائضاً أو نفساء، وسواء كان حياً أو ميتاً، وذهب الشافعي في أحد قوليه: إلى نجاسة الميت، وكذلك الكافر طاهر عند الجمهور، خلافاً للظاهريّة. ثانياًً: أنه ينبغي أن لا يلام المرء على شيء حتى يسأل عنه أولاً.
والمطابقة: في قوله: " إن المؤمن لا ينجس ".
143 - " باب كينونة الجنب في البيت إذا توضأ قبل أن يغتسل "
أي هذا باب يذكر فيه أنه يجوز للجنب أن يبقى بجنابته في البيت مكتفياً بالوضوء، وأن ينام بذلك دون أن يغتسل.
173 - معنى الحديث: أن عمر رضي الله عنه " سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أيرقد أحدنا وهو جنب؟ " أي هل يجوز للمسلم أن ينام على جنابة دون أن يغتسل " قال: نعم " يجوز له أن ينام قبل أن يغتسل " إذا توضأ أحدكم فليرقد وهو جنب " أي لا مانع من أن ينام بجنابته دون غسل، ما دام قد توضأ قبل نومه، وهذا الوضوء أيضاً مستحب لا واجب. فلو نام دون وضوء لا حرج عليه.(1/320)
144 - " بَاب إِذَا الْتَقَى الْخِتَانانِ "
174 - عَنْ أبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأرْبَع ثُمَّ جَهَدَهَا، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويستفاد منه: جواز نوم الجنب دون غسل لأنّ الغسل إنما يلزم للصلاة ونحوها، وإن كان النوم على غسل أفضل ويستحب له -إن لم يغتسل- وأراد نوماً أو أكلاً أو شرباً أو معاودة جماع أن يتوضأ عند الجمهور، وقالت الظاهرية: يجب عليه الوضوء. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم " في جواب قوله أيرقد أحدنا وهو جنب.
144 - " باب إذا التقى الختانان "
174 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا جلس بين شعبها " أي إذا جلس بين أطرافها الأربعة " ثم جهدها " أي جامعها بإدخال تمام الحشفة في الفرج " فقد وجب الغسل " على كِلا الزوجين أنزلا، أم لم ينزلا.
الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
ويستفاد منه: أن الجماع يوجب الغسل مطلقاً، ولو لم ينزلا. أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنّما الماء من الماء " الذي يدل على أنه لا يجب الغسل إلاّ من نزول المنى فإنه منسوخ. والمطابقة: في قوله: " ثم جهدها فقد وجب الغسل " كما أفاده العيني.
***(1/321)
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الحيض
والحيض لغة: من حاض السيل: إذا فاض، والماء التدفق بغزارة. ويطلق أيضاً على نفس الجريان، سواء كان الجاري ماءً أو عيره من السوائل، تقول العرب: حاض الوادي إذا سال، وحاضت الشجرة سال منها الصمغ، وحاضت المرأة سال منها دم الحيض، فهو مصدر يطلق على السيلان، واسم يطلق على المادة السائلة. أما الحيض شرعاً: فهو كما في " تيسير العلام ": دم جعله الله من رحمته وحكمته في رحم المرأة غذاء لجنينها، فإذا وضعت تحول إلى لبن يرضعه طفلها، فإذا كانت غير حامل ولا مرضع برز الزائد منه في أوقات معلومة وله ألوان مختلفة حمرة وصفرة وكدرة، ولهذا عرفه خليل بقوله: " الحيضُ دَمٌ كَصُفْرَةٍ أو كُدْرَةٍ خَرَجَ بِنَفْسِهِ مِنْ قُبُل مَنْ تَحْمِلُ عَادَةً " قال الحطاب: يخرج بهذا التعريف دم النفاس لأنّه بسبب الولادة، ودم البكارة لأنه بسبب الافتضاض، ودم الاستحاضة لأنه بسبب علة أو فساد. اهـ.
فإن هذه الأنواع ليست حيضاً لأنّها لا تخرج بنفسها، وإنما بأسباب أخرى، وإنما قال: " من قُبُلِ من تحمل عادة " لأن الصغيرة واليائس لا تحيضان.
أما الحامل، فإنها تحيض عند المالكية والشافعية، خلافاً للحنفية والحنابلة.
والحكمة في الحيض: تغذية الإِنسان في بطن أمه جنيناً وتغذيته باللبن رضيعاً، قال ابن قدامة: فإذا حملت -المرأة- انصرف الحيض لتغذية الجنين بإذن الله تعالى، فإذا وضعت الولد قلبه الله بحكمته لبناً يتغذى به الطفل اهـ. ومن(1/322)
145 - " بَاب كَيْفَ كَانَ بَدءُ الحَيْض وقَولُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - هَذَا شَيءٌ كتبَهُ اللهُ على بَنَاتِ آدَمَ "
175 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
- خَرَجْنَا لا نَرَى إلَّا الْحَجَّ، فَلمَّا كُنْتُ بِسَرِفَ حِضْتُ، فَدَخَلَ عَليَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأنَا أبْكِى فَقَالَ: " مَا لَكِ أنَفِسْتِ؟ " قَلْتُ: نَعَمْ، قَال: " إِنَّ هذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللهُ عَلى بَنَاتِ آدَمَ، فاقْضِ ما يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أنْ لا تَطُوفي بالبَيْتِ "، وَضَحَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ نِسَائِهِ بالْبَقَرِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فوائده الدينية كونه علامةً لعدّة المطلقة وبلوغ الأنثى، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار ".
145 - " باب كيف كان بدء الحيض وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا شيء كتبه الله على بنات آدم "
175 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " خرجنا لا نرى إلا الحج " أي خرجنا في حجة الوداع محرمين بالحجِّ فقط " فلما كنا بسرف " بفتح السين وكسر الراء ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث وهي على عشرة أميال من مكة " حضت فدخل عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي " حُزْناً لأننى ظننت أن الحيض يفسد علي حجي " قال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم " أي لا داعي للبكاء، لأَنَّكِ إذا كنت تخافين الملامة على ذلك الحيض الذي أصابك في الحج، فإنّك معذورة، لأن الحيض ظاهرة طبيعية في المرأة منذ بدء هذا العالم البشري، لا قدرة للمرأة على دفعه أو تأجيله، فهو عذر شرعي لا ملامة فيه، وإن كنت تخافين من فساد الحج، فإنه لا(1/323)
146 - " بَابُ غَسْلِ الحَائِض رَأسَ زَوْجِهَا وترجِيله "
176 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
كُنْتُ أغْسِلُ رَأسَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأنا حَائِضٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يفسده الحيض، وعليك أن تستمري في أفعال الحج " فاقضي ما يقضي الحاج " أي افعلي ما يفعله الحاج من المناسك " غير أن لا تطوفي بالبيت " طواف الإِفاضة حتى تطهري. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الحيض ظاهرة طبيعية في المرأة منذ وجودها على هذه الأرض كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن ابتداء الحيض كان على حواء بعد أن أهبطت من الجنة. أخرجه الحاكم بإسناد صحيح، فهو عذر شرعي. ثانياً: أنه لا يفسد الحج، وإنما يمنع الطواف فقط.
والمطابقة: في قوله: إنّ هذا أمر كتبه الله على بنات آدم ".
146 - " باب غسل الحائض رأس زوجها وترجيله "
176 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كنت أرجِّل رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حائض " أي كنت أسَرِّح شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم أثناء حيضي أحياناً في البيت وأحياناً وهو في المسجد لما جاء في رواية أخرى أنها كانت ترجل تعني رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حائض ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذ مجاور في المسجد يدني لها رأسه وهي في حجرتها فترجله وهي حائض.
الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
ويستفاد من الحديث: أنه يجوز للحائض تسريح رأس زوجها وغسل شعره سواء كان في البيت أو في المسجد بأن يُخْرِج إليها رأسه فتسرحه.
والمطابقة: ظاهرة من لفظ الحديث.(1/324)
147 - " بَابُ قِراءَةِ الرَّجُلِ في حِجْرِ امْرَأتِهِ وَهِيَ حَائِضٌ "
177 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَت:
كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَّكِيءُْ في حِجْرِي وأنا حَائِضٌ، ثُمَّ يَقْرأ الْقُرْآنَ.
148 - " بَابُ مَنْ سَمَّى النفاسَ حَيْضَاً "
178 - عَنْ أمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
بَيْنَا أنا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُضْطَجِعَةٌ في خَميصَةٍ، إِذْ حِضْتُ فانْسَلَلْتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
147 - " باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض "
177- معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتكىء في حجري " بتثليث الحاء وسكون الجيم وهو ما بين الإِبط والكشح (1) أي كان يستند - صلى الله عليه وسلم - إلى حجري ويضع رأسه في حضني " وأنا حائض " أي أثناء حيضي " ثم يقرأ " أي يقرأ القرآن في حجري وأنا حائض.
ويستفاد منه: جواز قراءة القرآن في حجر الزوجة الحائض لأنّها طاهرة الذات. والمطابقة: ظاهرة من لفظ الحديث. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
148 - " باب من سمّى النفاس حيضاً "
أراد البخاري بهذه الترجمة ذكر الأحاديث الدالة على تسمية الحيض نفاساً، ولكنه قلب العبارة، وكان حقه أن يقول " باب من سمّى الحيض نفاساً "، كما أفاده الحافظ.
__________
(1) والكشح من لدن السرة إلى المتن وقيل هو الخصر كما أفاده ابن منظور.(1/325)
فأخَذْتُ ثِيَابَ حَيْضِي فقَالَ: " أنَفِسْتِ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ: فاضْطَجَعْتُ مَعَهُ في الْخَمِيلَةِ.
149 - " بَابُ مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ "
179 - عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
كُنْتُ أغْتَسِلُ أنا والنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - من إنَاء وَاحِدٍ، كِلَانَا جُنُبٌ، وَكَانَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
178 - معنى الحديث: تقول أم سلمة رضي الله عنها: " بينا أنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مضطجعة في خميصة " بكسر الميم وفتح الصاد كساء مربع من صوف أسود اللون " إذ حضت " أي فاجأني الحيف. والمعنى.. بينما كنت مضطجعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على الفراش في كساء صوفي واحد لم أشعر إلاّ وقد أتاني الحيض فجأة " فانسللت " أي فانسحبت من الفراش خفية " فأخذت ثياب حيضتي " بكسر الحاء أي الثياب الخاصة بالعادة الشهرية " فقال: أنفست " أي فتَنَبه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: هل أتاك الحيض، وسمى الحيض نفاساً، لأنّ النفاس في الأصل هو خروج الدم مطلقاً كما أفاده القاضي عياض " قلت: نعم، فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة " أي فعدت إليه مرة أخرى واضطجعت معه في الكساء المذكور. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
ويستفاد منه: أن الحيض كما ترجم له البخاري يسمّى نفاساً لغة وشرعاً وأنه يجوز مباشرة الحائض والاستمتاع بها أثناء الحيض بما فوق الإِزار وسيأتي تفصيله والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أنفست " حيث سمي الحيض نفاساً.
149 - " باب مباشرة الحائض "
179 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: "كنت(1/326)
يَأمُرُنِي فأتَّزِرُ فيُبَاشِرُنِي وأنا حَائِضٌ، وَكَانَ يُخْرِجُ رَأسَهُ إليِّ وهُوَ مُعْتَكِفٍ فأغسِلُهُ وأنا حَائِضٌ.
180 - وَعَنْهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
كَانَتْ إحْدَانَا إِذَا كَانَتْ حَائِضَاً فأرَادَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُبَاشِرَهَا أمَرَهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - (1) من إناء واحد " أي أغتسل معه من الإناء الواحد وأشاركه فيه فيأخذ غرفة، وآخذ غرفة كما تقدم في بابه " وكان يأمرني فأتزر " بفتح الهمزة وتشديد التاء كما رواه الحافظ، وأصله فأأتزر بهمزة ساكنة بعد همزة مفتوحة فأدغمت الهمزة في التاء على مذهب الكوفيين " فيباشرني وأنا حائض " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر السيدة عائشة أثناء حيضها أن تشد الإِزار على وسطها وتستر ما بين السرة والركبة، ثم يباشرها ويستمتع بجميع جسدها ما عدا ما تحت الإزار وهو ما بين السرة والركبة قال الحافظ في " الفتح " وهو الجاري على قاعدة المالكية في باب سد الذرائع، وذهب كثير من السلف والثوري وأحمد وإسحاق إلى أن الذي يمتنع من الاستمتاع بالحائض الفرج فقط، وذكر الأدلة الصحيحة الواردة في ذلك " وكان يخرج رأسه وهو معتكف " أي وكان يخرج رأسه لي من المسجد أثناء اعتكافه " فأغسله وأنا حائض " أي وأنا في حال الحيض وقد تقدم شرحه في " باب غسل الحائض رأس زوجها ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجة. والمطابقة: في قولها: " فيباشرني وأنا حائض ".
180 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها في هذه الرواية: " كانت إحدانا إذا كانت حائضاً فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يباشرها " أي كان
__________
(1) والنبي مرفوع بالعطف على الضمير البارز وهو أنا.(1/327)
أن تَئْزِرَ في فوْرِ حَيْضِهَا، ثُمَّ يُبَاشِرُهَا، وأيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَمْلِكُ إِرْبَهُ.
150 - " بَابُ ترْكِ الْحَائِضِ الصوم "
181 - عَنْ أبِي سعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في أضْحى أو فِطرٍ إلى الْمُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدِّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكنَّ أكثَرَ أهْل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يستمتع بإحدى زوجاته أثناء حيضها " أمرها أن تتزر " أي أمرها أن تشد الإِزار على وسطها " في فور حيضتها " أي في ابتداء حيضها " ثم يباشرها " فيما فوق الإِزار وما عدا ما بين السرة والركبة " قالت وأيكم يملك إربه " بكسر الهمزة أي لا أحد. منكم يملك شهوته مثله، ومع ذلك كان يباشر فوق الإِزار لا تحته. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجة. والمطابقة: في قولها: " ثم يباشرني ".
ويستفاد من الحديثين: أنه لا يجوز مباشرة الحائض إلاّ فيما فوق الإزار وما عدا ما بين السرة والركبة، وهو مذهب الجمهور خلافاً لصاحبي أبي حنيفة وبعض الشافعية حيث قالوا يجوز كل شيء إلاّ الجماع (1) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " أخرجه مسلم.
150 - " باب ترك الحائض الصوم "
181 - معنى الحديث: يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه " خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى أو فطر " أي خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مسجده
__________
(1) أي يجوز الاستمتاع بما بين السرة والركبة فيما عدا الفرج. قال النووي: وهو الأرجح دليلاً.(1/328)
النَّارِ"، فَقُلْنَ: بِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، مَا رَأيْتُ مِنْ ناقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أذْهَبَ لِلُبْ الرجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُن "، قُلْنَ: وَمَا نُقْصَانُ عَقْلِنَا وَدِيْننَا يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في صلاة عيد الأضحى أو الفطر " فمَّر " في طريقه " على النساء " أي فأراد أن ينتهز الفرصة في هذا اليوم في وعظهن وتذكيرهن وترغيبهن في الصدقة، لأنهن كن في أمس الحاجة إليها لوقايتهن من النار، فإن الصدقة تطفىء غضب الرب. ولهذا قال لهن: " يا معشر النساء تصدقن فإنِّي أُريتكن أكثر أهل النار " أي أكْثِرْنَ من الصدقة لوقاية أنفسكن من عذاب الله، لأني اطلعت على النار وشاهدتها بعيني، فرأيت أكثر أهلها النساء لسوء أعمالهن فتصدقن فإن الصدقة تطفىء الخطيئة، وتطفىء غضب الرب " فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن " أي توجهن اللعنة إلى الناس كثيراً، وهي شر دعاء يوجه إلى إنسانِ، لأنّ معناها الطرد من رحمة الله، والإبعاد عن الخير في الدنيا والآخرة " وتكفرن العشير " أي تسترن نعمة الزوج وتجحدن فضله وتنكرن المعروف وتَنْسَيْنَ الجميل " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن " أي لا أحد أقدر على سلب عقول الرجال من المرأة لقوة تأثيرها العاطفي وسحر جمالها ودلالها وإغرائها، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " وقال الشاعر (1) :
إنَّ العُيُوْنَ الَّتِي فِي طَرْفِهَا حَوَرٌ ... قَتَلْنَنَا ثُمَّ لَمْ يُحْيِيْنَ قَتْلَانَا
يَصْرَعْنَ ذَا اللُّبَّ حَتَى لَا حَرَاكَ بِهِ ... وَهُنَّ أضعَفُ خَلْقِ اللهِ إنْسَانَا
"فقلن وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله، قال: أليست شهادة
__________
(1) هو: جرير والبيت في ديوانه: 1/162 من قصيدة مطلعها:
بان الخليط ولو طوعت ما بانا
وعجز البيت الثاني في الديوان: وهن أضعف خلق الله أركانا.(1/329)
" أليْسَ شَهَادَةُ الْمَرأةِ مِثْلُ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ! " قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: "فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا، أليْسَ إذَا حَاضَتِ الْمَرْأةُ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟ " قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: "فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ دِينهَا".
151 - " بَابُ الْاستحَاضَةِ "
182 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أبي حُبَيْش لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي لا أطْهُرُ أفَأدَعُ الصَّلَاةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها " أي فإن اعتبار شهادتها بنصف شهادة الرجل من أجل نقصان عقلها " قال: أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم قلن: بلى قال: فذلك من نقصان دينها " لأنه يفوتها ثواب الصلاة التي تركتها أثناء حيضها. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة.
ويستفاد منه: من الفوائد أنه يجب على المرأة ترك الصوم أثناء حيضها.
فلا يجب عليها ولا يصح منها لأن من شروط وجوب الصوم وصحته الطهارة من الحيض والنفاس. والمطابقة: في قوله: " أليس إذا حاضت لم تصل ".
151 - " باب الاستحاضة "
182 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها في حديثها هذا عن حكم دم الاستحاضة فتقول " قالت فاطمة بنت أبي حبيش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله إني لا أطهر " وفي رواية " إني امرأة أُستحاض فلا أطهر "(1/330)
وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فاتْرُكِى الصَّلَاةَ فإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فاغْسِلِى عَنْكِ الدَّمَ وَصَلي".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي لا ينقطع عني الدم، كَنَّتْ بعدم الطهر (1) عن استمرار جريان الدم، لأنّها ظنت أنّ الحائض لا تطهر إلاّ إذا انقطع دمها فشكّت في أنه يمنع الصلاة، ولذلك قالت: " أفأدعُ الصلاة " وهو عطف على مقدّر أي هل يكون ذلك الدم في حكم الحيض فأتْرك الصلاة إلى انقطاعه " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما ذلك عرق " أي إنما ذلك الدم دم استحاضة، وهو دم مرضي ينشأ عن انقطاع عرق في الرحم يسمى العاذل كما في حديث الدارقطني حيث قال: " إنما ذلك عرق انقطع وانفجر (2) " وليس بالحيضة " أي وليس ذلك الدم الذي تسألين عنه حيضاً شرعياً، ولا تجري عليه أحكام الحيض الشرعية، وإنما هو دم مرض حكمه حكم الحدث الدائم (3) من سلس البول والغائط وغيره، لا يمنع شيئاً مما يمنعه الحيض والنفاس من صلاة وصوم ولو نفلاً ونحو ذلك " فإذا أقبلت الحيضة " بفتح الحاء وكسرها كما أفاده النووي، أي فإذا جاء وقت عادتك الشهرية، وهو الوقت الذي كنت تحيضين فيه عادة قبل أن تصابي بالاستحاضة " فاتركي الصلاة " عند حلول ذلك الوقت من أوّل الشهر أو وسطه أو آخره " فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي " أي وامكثي تاركة للصلاة والصوم وغيرها من ممنوعات الحيض مدة عادتك الشهرية التي كنت تحيضين فيها قبل إصابتك بالاستحاضة، فإذا انتهي مقدار تلك المدة، وانقضت عدة أيامها فإنك قد طهرت من الحيض، فاغسلي موضع الدم تنطيفاً له واغتسلي وإن لم يذكر الاغتسال إلاّ أنه مراد كما أفاده ابن دقيق العيد،
__________
(1) " أوجز المسالك شرح موطأ مالك " ج 1.
(2) أيضاً أوجز المسالك ج 1.
(3) " الفقه الإسلامي وأدلته " للدكتور وهبة الزحيلي.(1/331)
وقد جاء الأمر به في رواية أبي أسامة عن هشام حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " ثم اغتسلي وصلّي (1) " وهكذا اختلفت الروايات عن تلامذة هشام (2) ففي بعضها ذكر الاغتسال، وفي بعضها غسل الدم، وكلهم ثقات فتحمل الروايات بعضها على بعض، ويجمع بينها كلها فيقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالاغتسال وغسل الدم معاً.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن دم الاستحاضة ليس حيضاً شرعياً وإنما هو كالحدث الدائم لا يمنع شيئاً من ممنوعات الحيض والنفاس، فالمستحاضة تصلي وتصوم فرضاً أو نفلاً، ولا يمنعها ذلك عن شيء، ويجوز لها كل ما يجوز لغير الحائض من طواف وقراءة قرآن ومس مصحف ودخول مسجد.
والمستحاضة يجوز وطؤها عند الجمهور وهو قول أحمد في رواية، وقال في رواية أخرى يظهر أنها الراجحة عند الحنابلة: لا توطأ المستحاضة إلاّ أن يخاف على نفسه الوقوع في محظور لما روى الخلال في إسناده عن عائشة أنّها قالت: المستحاضة لا يغشاها زوجها - ولأن بها أذى، فيحرم وطؤها كالحائض (3) .
ثانياًً: أنّ المستحاضة -إذا كانت معتادة- ترد لعادتها ميزت أم لا وافق تمييزها عادتها أو خالفها عملاً بحديث الباب لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر فاطمة بنت أبي حبيش أن تعمل بعادتها وأن تعتمد عليها عند الدخول في الحيض والخروج منه، فإذا جاء وقت عادتها الشهرية تنقطع عن الصلاة وتدخل في الحيض وتجري أحكامه عليها وإذا انتهت مدة عادتها تغتسل وتصلّي، وتدخل في الطهر وتجري أحكامه عليها، فإن قوله - صلى الله عليه وسلم - " فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم " صريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تعمل بعادتها ومما يؤكد ذلك، ويدل دلالة صريحة على أنّ المعتادة ترد إلى عادتها حديث أم سلمة رضي الله عنها أن امرأة كانت
__________
(1) " أوجز المسالك: شرح موطأ مالك " ج 1.
(2) أيضاً " أوجز المسالك " ج 1.
(3) " الفقه الإسلامي وأدلته " للدكتور وهبة الزحيلي ج 1.(1/332)
نهراق الدماء -بضم التاء وفتح الهاء وتسكينها- أي يتصبب منها الدم دون انقطاع في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك، فإذا خلّفت ذلك فلتغتسل، ثم لتستثفِرْ بثوب " أي تشد خرقة عريضة على فرجها " ثم لتصلِّ " أخرجه أبو داود والنسائي فإنّ الحديث صريح في أن المعتادة تعمل بعادتها، فتمكث ممتنعة عن الصلاة وغيرها مدة عادتها، فإذا انتهت تلك الأيام التي كانت تعهدها، وجاوزت مدة الحيض التي كانت معتادة عليها قبلِ إصابتها بالاستحاضة، فإنها تطهر وتغتسل وتصلّي. ومما يدل على ذلك أيضاً حديث أسماء عند أبي داود وغيره ولفظه: " فأمرها أن تقعد الأيام التي كانت تقعد، ثم تغتسل " وحديث أم حبيبة أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الدم فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي " أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي. فإن هذه الأحاديث ليس فيها إلاّ الرد إلى العادة لا سيما حديث أم سلمة. قال ابن قدامة: وحديث أم سلمة رضي الله عنها إنما يدل على العادة بلا نزاع فيه.. اهـ. ولهذا قال أكثر أهل العلم " المستحاضة ترد إلى عادتها ولو كانت مميزة " فلا اعتبار للتمييز، وإنما تعتبر العادة. قال الزرقاني: " وهو مذهب أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وأشهر الروايتين عن أحمد " (1) اهـ. قال ابن قدامة: وظاهر كلام أحمد اعتبار العادة وهو قول أكثر الأصحاب (2) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رَدَّ أم حبيبة والمرأة التي استفتت لها أم سلمة إلى العادة ولم يستفصل بين كونها مميزة أو غيرها. وذهب الشافعي على الأصح إلى أنّ المميزة تعمل بالتمييز ولا تعمل بالعادة، إلاّ إذا كانت غير مميزة. وأما المالكية: فقد نسب الزرقاني إليهم أن المستحاضة تعمل بتمييزها
__________
(1) شرح الزرقاني على الموطأ ج 1.
(2) المغني، لابن قدامة ج 1.(1/333)
152 - " بَابُ الاعتكاف للمستحاضة "
183 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
اعتَكَفَتْ معَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - امْرَأةٌ مِنْ أزْوَاجِهِ فكَانَتْ تَرَى الدَّمَ والصُّفْرَةَ والطَّسْتُ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي ...
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مثل الشافعية، ولكن المسألة عندهم فيها تفصيل فهم يفرقون بين الدخول في الحيض والخروج منه فيعتبرون التمييز في الأول والعادة في الثاني. ويقولون: لا تنتقل المستحاضة بن الطهر إلى الحيض إلا باجتماع ثلاثة أمور. الأول: أن تكون مميزة. الثاني: أن ترى تغير الدم من (1) لون إلى آخر وتغير رائحته. الثالث: أن يحدث هذا التغيُّر بعد انقضاء أقل الطهر وهو خمسة عشر يوماً. وأما بالنسبة إلى الخروج من الحيض فإن المستحاضة في مشهور المذهب تنتقل من الحيض إلى الطهر بانقضاء مدة عادتها وزيادة ثلاثة أيام عليها للاستظهار. قال الباجي: فإن تمادى بها الدم فعن مالك روايتان إحداهما أنها تقيم أيام عادتها ثم تستظهر ثلاثة أيام (2) ، والثانية تقيم أكثر الحيض وما يظهر من كتب الفروع أن المالكية اختاروا الاستظهار ومعناه أن تمكث أيام عادتها مع إضافة ثلاثة أيام استظهاراً. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود.
والمطابقة: في قوله: " إنما ذلك عرق وليس بالحيضة ".
152 - " باب الاعتكاف للمستحاضة "
183 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " اعتكفت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من أزواجه " أي إن إحدى أمهات المؤمنين اعتكفت
__________
(1) القوانين الفقهية لابن جُزي.
(2) شرح الباجي على الموطأ ج 1.(1/334)
153 - " بَاب هَلْ تُصَلِّي الْمَرأةُ في ثَوْبٍ حَاضَتْ فِيهِ "
184 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
ما كَانَ لِإحْدَانَا إلَّا ثَوْب وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ، فَإِذَا أصَابَهُ شَيء مِنْ دَمٍ قالَت بِرِيقهَا فَقَصَعَتْهُ بِظُفْرِهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي مستحاضة "فكانت ترى الدم والصفرة " أي فكانت ترى ألواناً مختلفة من الدم فأحياناً ترى الدم الأحمر، وأحياناً ترى الدم الأصفر (1) ، حسب قلته وكثرته "والطست تحتها وهي تصلي" أي والحال أن الطست موضوع تحتها يسيل فيه الدم المتدفق منها، وإنما كانت تضعه تحتها لئلا تلوث المسجد وكان الدم يتدفق منها وهي قائمة تصلي. أما التي اعتكفت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء استحاضتها فقد اختلفت الأقوال، ورجح الحافظ أنّها أمّ سلمة لحديث سعيد بن منصور عن عكرمة أن أم سلمة كانت عاكفة وهي مستحاضة، وربما جعلت الطست تحتها.
يستفاد منه: أنه يصح اعتكاف المرأة المستحاضة في المسجد كما تصح صلاتها، ويجوز لها المكث في المسجد إن أمن تلويثه، ومثلها دائم الحدث كما أفاده في "المنهل العذب". الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود (2) والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قولها: " اعتكفت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من أزواجه " أي امرأة مستحاضة.
153 - "باب هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيه "
184 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " ما كان
لِإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه " هذا النفي عام شامل لجميع زوجاته - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) قال في " المنهل العذب ": أي ترى الدم الأصفر مرة عند قلة الدم، ومرة ترى الدم الأحمر عد كثرة الدم.
والله أعلم.
(2) " المنهل العذب " ج 10.(1/335)
154 - " بَابُ الطِّيبِ لِلْمَرْأةِ عِنْدَ غُسْلِهَا مِنَ الْحَيْض "
185 - عَنْ أمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي لم تكن زوجة واحدة من أمهات المؤمنين تملك أكثر من ثوب واحد، فكانت تلبس ذلك الثوب أثناء حيضها وطهرها معاً. " فإذا أصابه شيء من دم " أي فإذا أصاب ثوبها شيء من دم الحيض " قالت بريقها فقصعته بظفرها " قال العيني: يعني صبت عليه من ريقها، فقصعته أي دلكته بظفرها، وإنما تكتفي بدلكه بريقها عن غسله إذا كان قليلاً، لأنه معفوٌ عنه، وأما الكثير فقد صح عن عائشة أنها كان تغسله (1) كما أفاده القسطلاني.
الحديث: أخرجه الستة بألفاظ متعددة. والمطابقة: في قولها: " ما كان لِإحدانا إلا ثوب واحد ".
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - مرت عليهن في أوّل الإِسلام فترة من الزمن كانت الواحدة منهن لا تملك إلاّ ثوباً واحداً كما يدل عليه قول عائشة رضي الله عنها " ما كان لِإحدانا إلاّ ثوب واحد " قال العيني: فإنهم كانوا حينئذٍ في شدة وقلة، ولما فتح الله الفتوح واتسعت أحوالهم اتخذت النساء ثياباً للحيض سوى ثياب لباسهن، كما يدل عليه حديث أم سلمة حيث قالت " فأخذت ثياب حيضتي ". ثانياًً: استدل به البخاري وغيره من أهل العلم على أنه يجوز للمرأة أن تصلي في الثوب الذي تحيض فيه. ثالثاً: جواز إزالة النجاسة بغير الماء إجماعاً.
154 - " باب الطيب للمرأة عند غسلها من الحيض "
185 - ترجمة راوية الحديث: هي أم عطية نُسَيْبَة -بالتصغير- بنت الحارث الأنصارية من فضليات الصحابة رضي الله عنها كانت تمرّض
__________
(1) فقد جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت " كانت إحدانا تحيض ثم تقرص الدم من ثوبها عند طهرها " أخرجه البخاري وابن ماجة ومعنى تقرصه أي تغسله بأطراف أصابعها.(1/336)
كُنَّا نُنهَى أنْ نَحُدَّ على مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إلَّا عَلَى زَوْج أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراًَ، ولَا نَكْتَحِلُ، ولا نَتَطَيَّبُ، ولا نلْبَسُ ثَوْبَاً مَصْبُوغاً إلَّا ثَوْبَ عَصَبٍ، وقَدْ رُخِصِّ لَنَا عِنْدَ الطُّهْرِ إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيْضِهَا في نُبْذَةٍ مِن كُستِ أظْفَارٍ وكُنَّا نُنْهَى عنِ اتِّباعِ الْجَنَائِزِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المرضى وتداوي الجرحى وتغسل الموتى، روى لها البخاري خمسة أحاديث.
معني الحديث: تقول أم عطية رضي الله عنها: " كنا ننهي أن نحد على ميت فوق ثلاثة " أيام أي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهانا عن ترك الزينة حزناً على ميت من أقاربنا مدة تزيد عن ثلاثة أيام، يقال أحدَّت المرأة إذا لبست ثياب الحزن هجرت الزينة والطيب لفقد عزيز عليها " إلاّ على زوج " أي إلاّ لفقد زوجها، فإن الشارع أوجب عليها أن تحدّ عليه أربعة أشهر وعشراً " ولا تكتحل " إلاّ لمرض " ولا تتطيب ولا تلبس ثوباً مصبوغاً " بالألوان الخلابة الجذابة كالأحمر والأصفر والأزرق الصافي " إلاّ ثوب عصب " وهو المصبوغ بالنبت اليمني المعروف بالعصب، لأنه لا يلفت النظر ولا يخلب البصر. " وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها في نبذة من كست أظفار " " بضم الكاف وسكون السين ويقال له القسط والكسط، وهو نوع من الطيب على شكل ظفر الإِنسان يوضع في البخور، فرخص النبي - صلى الله عليه وسلم - للحائض الحادة أن تضع شيئاً منه بعد غسلها لتطييب الموضع وإزالة الرائحة الكريهة.
ويستفاد منه: أنه يستحب للحائض أن تضع شيئاً من الطيب عند غسلها، أو تتبخر بالعود، لأنه لما رخص للحادّة أن تفعل ذلك عند طهرها، دل ذلك على استحبابه لغيرها. ومشروعيته لسواها من باب أولى. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في قوله: "رخص لنا(1/337)
155 - " بَابُ دلْكِ الْمَرأةِ نفسَهَا إِذَا تطَهَّرَتْ مِنَ الْمَحِيض وكَيْفَ تغتسِل، وتأخذ فِرصة ممسَّكة فتتبع بها أثر الدم "
186 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله وعَنْهَا:
أنَّ امْرأةً سَألتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ غسْلِهَا مِنَ الْمَحِيض، فأمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ قَالَ: " خُذِي فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ فتَطَهَّرِي بِهَا "، قالَتْ: كيْف أتُطَهَّر؟ قَالَ: " سبحَانَ اللهِ، تَطَهَّرِي! " فَاجْتَذَبتُها إِليَّ، فقلْتُ: تَتَبَّعِي بهَا أثَرَ الدَّمَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عند الطهر ... في نبذة من كست أظفار ".
155 - " باب دلك المرأة نفسها إِذَا تطهرت من المحيض وكيف تغتسل وتأخذ فرصة ممسكة فتتبع بها أثر الدم "
186 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أن امرأة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسلها من المحيض " أي أن امرأة من الصحابة وهي أسماء بنت شكل -بفتح الشين والكاف- سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كيفية الغسل، " فأمرها كيف تغتسل " أي فوصف لها النبي - صلى الله عليه وسلم - كيفية الغسل وأمرها أن تغتسل على هذه الكيفية، فقال لها كما في رواية مسلمٍ: " تطهري فأحسني الطهور، ثم صبي على رأسك ماءً فادلكيه دلكاً شديدا، حتى يبلغ شؤون رأسك، ثم صبي الماء عليك، ثم " قال خذي فرصة من مسك " أي خذي قطعة من القطن فاغمسيها في المسك " فتطهري بها ".. فلما قال لها ذلك " قالت: كيف أتطهر بها؟ " فأعاد عليها اللفظ مرة أخرى " قال: تطهري بها " ولم يشرح لها ذلك " قالت: كيف أتطهر؟ قال: سبحان الله تطهري!! " أي فسبح الله تعجباً من عدم فهمها ثم أعاد الكلمة نفسها،(1/338)
156 - " بَابُ نقْض الْمَرأةِ شَعْرَهَا عِنْدَ غُسْلِ الْمحِيض "
187 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
خَرَجْنَا مُوَافِينَ لِهِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ أحَبَّ أنْ يُهِلَّ بِعُمرةٍ فَلْيُهْلِلْ، فإِنِّي لَوْلا أني أهدَيت لأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ "،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولم يشرحها، لأنه أراد أن يسلك مسلك الإِيجاز في الأمور التي يستحيا منها، ولا يحسن التفصيل عنها إلَّا عند الضرورة، ولعله ترك ذلك لعائشة، فأدركت عائشة ما أراد، فاستجابت لرغبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فشرحت لتلك السائلة ما خفي عليها كما قالت رضي الله عنها " فأجتذبتُها إليَّ " أي جذبتها إلي " فقلت لها: تتبعي بها أثر الدم " أي امسحي بتلك القطنة المغموسة في المسك موضع الدم من الرحم لِإزالة الرائحة منه. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
ويستفاد منه: أنه يستحب للمرأة عند غسلها من الحيض، وفراغها منه أن تأخذ قطنة فِتغمسها في المسك (1) ثم تمسح بها موضع الدم لتطييب المكان وإزالة الرائحة القبيحة منه. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " خذي فرصة من مسك فتطهري بها ".
156 - " باب نقض المرأة شعرها عند غسل المحيض "
187 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها في حديثها هذا عن حجة الوداع، فتقول: " خرجا موافين لهلال ذي الحجة " أي خرجنا في آخر ذي القعدة مستقبلين لهلال ذي الحجة وذلك لخمس بقين من ذي القعدة " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحب أن يهل بعمرة فليهلل " أي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين اقتربوا من مكة: من أحب أن يهل بعمرة فليهلل، وأمر من
__________
(1) أو غيره من الطيب.(1/339)
فأهَلَّ بَعْضُهُمْ بِعُمْرَةٍ، وأهلَّ بَعْضُهُمْ بِحَجٍ، وكنُتُ أنا مِمَّنْ أهلَّ بِعُمْرَةٍ، فَأدرَكَنِي يَوْمُ عَرَفَةَ وَأنا حَائِضٌ، فَشَكَوْتُ إلى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " دَعِي عُمْرَتَكِ وانْقُضِي رَأسَكِ، واْمْتَشِطي وَأهلِّي بِحَجِّ "، فَفَعْلتُ حتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ أرْسَلَ مَعِي أَخِي عْبدَ الرَّحْمَنِ بن أبي بَكْرٍ إلى الْتَنْعِيمِ، فأهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ مَكَان عُمْرَتِي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لم يسق الهدي بفسخ الحج إلى العمرة. وأكد ذلك بقوله: " فإِني لولا أني أهديت لأهللت بعمرة " أي لولا أني سقت الهدي لفسخت الحج وأهللت بالعمرة " فأهل بعضهم بعمرة وأهل بعضهم بحج " أي فأما الذين لم يسوقوا الهدي فإنهم فسخوا الحج، وأهلوا بالعمرة، وأما الذين ساقوا الهدي فإنهم استمروا على إحرامهم بالحج، لأنّه لا يجوز لمن ساق الهدي أن يتحلل حتى ينحر هديه " وكنت أنا ممن أهل بعمرة " أي وكنت أنا من الذين لم يسوقوا الهدي ففسخت الحج، وأهللت بالعمرة " فأدركني يوم عرفة وأنا حائض " أي فجاء يوم عرفة وأنا لا زلت حائضاً، وذلك لأن الحيض جاءها عند دخول مكة بعد إهلالها بالعمرة، واستمر معها إلى يوم عرفة ومنعها من أداء مناسك العمرة، لأن الحائض لا تطوف، قالت " فشكوت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " ما حل بي، وكيف أن الحيض استمر معي إلى يوم عرفة، ومنعني من المناسك، وأفسد عليَّ عمرتي " فقال: دعي عمرتك " ومعناه كما يدل عليه ظاهر الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرها بإلغاء عمرتها ورَفْضِها، لعدم تمكنها من أداء مناسكها، فألغتها كما أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومما يؤكد ذلك أنها أتت بعمرة منفردة بعد حجها، ولو كانت عمرتها هذه باقية لم تبطل، لما احتاجت إلى عمرة أخرى بعد الحج والله أعلم، " وانقضي رأسك " أي واغتسلي للحج، وحُلِّي شعرك عند الغسل، " وأهلِّي بحج " أي وأحرمي بالحج، وارفعي صوتك ملبية به(1/340)
" ففعلت حتى إذا كان ليلة الحصبة " بفتح الحاء وسكون الصاد، ويجوز في ليلة الرفع على أن كان تامة، أي حتى إذا جاءت ليلة الحصبة، وهي ليلة النزول من منى كما يجوز فيها النصب على أن كان ناقصة، والمعنى حتى إذا كان الوقت ليلة الحصبة " أرسل معي أخي عبد الرحمن بن أبي بكر، فخرجت إلى التنعيم " وهو موضع على طريق المدينة، على بعد فرسخ من مكة " فأهللت بعمرة مكان عمرتي " أي فأحرمت من التنعيم بعمرة بدلاً عن العمرة التي أفسدها الحيض، وإنما أحرمت من التنعيم لأنه أول الحل، ولا يتعين، وإنما يجب الإحرام من الحل من أي جهة أو موضع كان. الحديث: أخرجه الخمسة بألفاظ متعددة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية نقض المرأة شعرها عند الغسل أي حل شعرها، واختلف في ذلك الفقهاء، فذهبت الحنابلة إلى أنّه يجب نقضه في الحيض والنفاس دون الجنابة، وهو قول الحسن وطاووس لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة عند غسلها: " وانقضي رأسك " أمّا الجمهور فقالوا يستحب للمرأة نقض شعرها، ولا يجب، سواء كان الغسل من الحيض والنفاس أو من الجنابة، لحديث أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: إني امرأة أشد ضفر (1) رأسي أوَ أنقضه للجنابة؟ قال: " لا " أخرجه مسلم ولا فرق بين الجنابة والحيض، فلا يجب عليها حله إِلَّا إذا كان عليه طيب يمنع من وصول الماء. ثانياًً: استدل به الحنابلة على أفضلية التمتع لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لولا أني أهديت لأهللت بعمرة " ثالثاً: استدل به الكوفيون على رفض العمرة أي إلغائها قبل تمامها، والخروج منها إلى الحج، وجواز ذلك للمرأة إذا حاضت قبل الطواف لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " دعي عمرتك " وقال الجمهور: لا يجوز لها ذلك وإنما تردف عليها الحج فتكون قارنة (2) ، وحملوا الحديث عليه. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) شرح القسطلاني ج 1.
(2) شرح العيني ج 3.(1/341)
157 - " بَابٌ لا تَقْضِي الْحَائِضُ الصَّلَاةَ "
188 - عن عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنَّ امْرأَةً قَالَتْ: أَتَجْزِىء إِحْدَانَا صَلَاَتهَا إِذَا طَهُرَتْ؟ فَقَالَتْ:
أحرُورِيَّةٌ أنتِ، كُنَّا نَحِيضُ معَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فلَا يأمُرُنَا بِهِ، أو قَالَتْ فَلَا نَفْعَلُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" وانقضي شعر رأسك ".
157 - " باب لا تقضي الحائض الصلاة "
188 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أن امرأة " وهي "مُعاذة " بضم الميم العدوية " قالت لها: أيجزىء إحدانا صلاتها إذا طهرت؟ " أي أتكفيها صلاتها الحاضرة، ولا يجب عليها قضاء الصلوات الفائتة التي فاتَتْها أثناء حَيضِها " فقالت: أحرورية أنت " أي فقالت عائشة رضي الله عنها مستنكرة عليها قولها هذا: هل أنت أيتها المرأة من الخوارج الذين يشددون في الدين، وينسبون إليه ما ليس منه، لأنها لما سألت هذا السؤال الغريب ظنت عائشة أنها حرورية، أي خارجية نسبة إلى حروراء، وهي قرية بقرب الكوفة نشأ الخوارج فيها، " كنا نحيض مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يأمرنا به " أى فلا يأمرنا عند انتهاء الحيض بقضاء الصلاة. الحديث: أخرجه الخمسة.
ويستفاد منه: أن الحائض إنما تقضي الصوم فقط، ولا تقضي الصلاة، وهو مذهب سائر فقهاء الأمصار عدا الخوارج. والمطابقة: في قولها: " كنا نحيض مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يأمرنا به ".
***(1/342)
158 - " بَابُ النَّوْمِ مَعَ الْحَائِض وَهِيَ في ثِيَابِهَا "
189 - عَن أمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
حِضْتُ وأَنا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الْخَمِيلَةِ، فانْسَلَلْتُ، فخَرَجْتُ مِنْهَا فأخَذْتُ ثِيَابَ حَيْضَتِي فَلَبِسْتُهَا، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أنُفِسْتِ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَانِي، فأدخَلَنِي مَعَهُ في الْخَمِيلَةِ وَأَنَّ النَّبِيَّ كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ، قَالت: وكنتُ أغْتَسِلُ أنا والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنَ الْجَنَابَةِ.
159 - " بَابُ شُهُودِ الحَائِضِ الْعِيدَيْن ودَعْوَة المُسلِمين، ويعْتَزِلْنَ المُصَلَّى "
190 - عن أمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
158 - " باب النوم مع الحائض وهي في ثيابها "
189 - معنى الحديث: تقدم قريباً في " باب من سمَّى الحيض نفاساً، وإنما أعاده للمناسبة ".
ويستفاد منه: جواز النوم مع الحائض، والاستمتاع بها فيما عدا ما بين السرة والركبة، وما عدا الفرج عند البعض، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - باشر أم سلمة رضي الله عنها ونام معها وهي حائض، وأدخلها معه في الخميلة، والله أعلم.
الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قولها: " وأدخلني معه في الخميلة ".
159 - " باب شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين ويعتزلن المصلى "
190 - معنى الحديث: تقول أم عطية رضي الله عنها "سمعت(1/343)
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ. " يَخْرُجُ الْعَواتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ، أوْ العَوَاتِقُ وَالحُيَّضْ ولْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى "، قيل لَهَا: آلحُيَّضُ؟ فَقَالَتْ: أليْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ وكَذَا وَكَذَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يخرج العواتق" أي يخرج لصلاة العيد وسماع الخطبة النساء جميعاً بما فيهن البنات الأبكار، " وذوات الخدور " وهما شيء واحد، يقال لهن: العواتق، لأنهن لم يملكهن زوج بعد، ولعتقهن من الخدمة في بيوت آبائهن، ويقال لهن ذوات الخدور لصيانتهن في خدورهن، وبعدهن عن الأنظار، " والحيض " أي وكذلك يخرج إليها النساء الحيض، والحاصل أنه يخرج لحضور صلاة العيد النساء جميعاً صغاراً وكباراً ولو كن في حالة الحيض " وليشهدن الخير، ودعوة المؤمين " أي ليحضرن خطبة العيد، ودعاء المؤمنين أثناءها " ويعتزل الحيض المصلى " أي يبقين خارج المصلى، لأنه بمثابة المسجد " قيل: آلحيض؟ " بهمزة الاستفهام ممدودة، أي فقالت حفصة متعجبة: حتى الحيض يحضرن صلاة العيد والخطبة " فقالت: أليس تشهد عرفة " أي قالت أم عطية: وأي غرابة في هذا ألسن يقفن في عرفة " وكذا وكذا " أي ويقفن أيضاً بمنى ومزدلفة.
ويستفاد منه: أن الحائض تخرج إلى المصلى في العيدين، وتشهد الخطبة والدعاء، وتبقى خارج المسجد، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بالحضور للمصلى فيستحب لها ذلك. الحديث: أخرجه الخمسة أيضاً. والمطابقة: في قوله: " والحيّض "
***(1/344)
160 - " بَابُ الصُّفْرَةِ وَالْكُدرَةِ في غَيْرِ أيَّامِ الْحَيْضِ "
191 - وعَنْ أمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنَّا لَا نَعُدُّ الْكُدْرَةَ وَالصُّفْرَةَ شَيئَاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
160 - " باب الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض "
191 - معنى الحديث: تقول أم عطية رضي الله عنها: " كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئاً " أي كانت أمهات المؤمنين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعتبرن الدم الأصفر أو الدم الذي بين البياض والسواد في غير وقت العادة شيئاً " وهنا اختلف الفقهاء ".
ويستفاد منه: كما قال الجمهور: اعتبار التمييز باللون في وقت الطهر - بمعنى أن المرأة إذا جاءها الدم في غير وقت العادة فإنها تميزه بلونه وتعرف إن كان حيضاً أو لا. فإن كان الدم أحمر أو أسود فإنّها تعتبره حيضاً، وتمتنع عن الصلاة والصوم وغيره، وإن كان كدرة أو صفرة اعتبرته دم استحاضة ولا تمتنع عن شيء من الصلاة أو غيرها لقول عائشة: " كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئاً " (1) وقال مالك: لا اعتبار لِلَّوْنِ أصلاً بل الدم بجميع ألوانه يعتبر حيضاً شرعياً سواء كان في وقت العادة أو في وقت الطهر، لأن معنى قول عائشة " كنا لا نعُد الصفرة والكدرة شيئاً " أي لا نعتبره شيئاً مميزاً للدم (2) ولا علامة فَارِقةً بين دم الاستحاضة ودم الحيض، لأن اللون لا اعتبار له، بهذا فسر مالك قول عائشة هذا، ولكل وجهه والله أعلم. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي وابن ماجه. والمطابقة: في قولها: " لا نعد الصفرة والكدرة شيئاً ".
__________
(1) لأن معناه كما يقول الجمهور: " لا نعد الصفرة والكدرة حيضاً وإنما نعده دم استحاضة ".
(2) يعنى لا نعتبر اللون الأصفر ولا اللون الترابي شيئاً مميزاً لدم الاستحاضة عن دم الحيض، بل الدم بجميع الوانه حيض سواء كان حمرة أو صفرة أو كدرة وهي اللون الترابي الذي بين الصفرة والشقرة كما أفاده في المنهل العذب.(1/345)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب التيمم "
تمهيد: جرياً على عادة المصنفين فقد وضع البخاري التيمم في المكان الملائم له بعد الوضوء والغسل وما يتعلق بهما، وقد فُرض التيمم سنة ستٍ من الهجرة على الأرجح. والتيمم لغة: قصد الشيء، ومنه قوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) . وشرعاً: كما قال ابن قدامة: " مسح الوجه واليدين بالصعيد "، وقال الحافظ: " هو القصد إلى الصعيد لمسح الوجه واليدين بنية استباحة الصلاة. اهـ. وهو من خصائص هذه الأمة التي يسر الله لها أمورها، وجعل لها من الحرج فرجاً، كما قال تعالى: (ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج ولكن يريد ليطهركم) . والحكمة في التيمم: أن الله جعله حلاً لمشكلة فقدان الماء، أو عدم القدرة عليه، وشرعه تقديراً لظروف الإِنسان، ومراعاةً لأحواله، ومحافظةً على صحته البدنية، حيث جعله بالنسبة للمريض بديلاً عن الماء، ورخص فيه عند وجود المرض بالفعل، أو خشية حدوثه، وقد يعيب بعض المغرضين على المسلمين استعمال التراب لأنّه ناقل للميكروب، ونسوا أنّه يشترط فيه أن يكون طاهراً نقيَّاً، وذلك مما يضمن السلامة التامة. وينوب التيمم عن الوضوء والغسل عند الجمهور. ويجزىء في دخول المسجد ومس المصحف والصلاة فرضاً أو نفلاً، فيستباح به عند الجمهور الفرض الواحد وما شاء من النوافل، ولا يجمع بين فريضتين، وإن(1/346)
161 - " كتَابُ التَيّمَّمَ وَقَولُ اللهِ تعَالى (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ)
192 - عَن عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ورَضِي اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في بَعْض أسُفَارِهِ حَتَّى إِذا كُنَّا بالبَيْدَاءِ، أو بِذَاتِ الْجَيْشِ، انْقَطعَ عِقْدٌ لِي، فأقَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلى الْتِمَاسِهِ، وأقامَ النَّاسُ مَعَهُ، ولَيْسُوا على ماءٍ، فَأتى النَّاسُ إلى أبي بَكْرٍ الصِّدِّيق فَقَالُوا: ألا ترى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ، أقامَتْ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالنَّاس ولَيْسُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تيمم لفرض صلى بعده نفلاً دون العكس خلافاً لأبي حنيفة (1) .
192 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره " وهي غزوة بني المصطلق سنة ست من الهجرة، كما ذكره ابن عبد البر وابن سعد وابن حبان، وقيل: إنها غزوة أخرى بعد غزوة المريسيع التي وقعت فيها قصة الإِفك، وأن العقد ضاع في الغزوتين " حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش " موضعان بعد ذي الحليفة " انقطع عقد لي " وكان من جَزْعِ ظفار بفتح الجيم وسكون الزاي وهو خرز يماني يجلب من ظفار على ساحل البحر، " فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه " أي نزل - صلى الله عليه وسلم - هناك للبحث عنه " وليسوا على ماء " إلخ، أي ولا يوجد في ذلك المكان ماء، ولا يحملون معهم ماءً " فأتى الناس إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة " إلخ، أي فجاء الناس إلى أبي بكر يشتكون إليه ما صنعتْ بهم عائشة، حيث كانت السبب في إقامتهم بذلك
__________
(1) فإنه يرى التيمم بدل مطلق عن الوضوء، والغسل، يصلى به ما شاء من فرض أو نفل، وسواء كانت فريضتين أو أكثر، سواء كان نفلاً بعد فرض، أو فرض بعد نفل. اهـ.(1/347)
عَلىَ مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاء، فجاءَ أبو بَكْرٍ ورَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - واضِعٌ رَأسَهُ عَلَى فخِذِي قَدْ نَامَ، فقَالَ حَبَسْتِ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - والنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاء، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أبو بَكْرٍ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللهُ أنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ في خَاصِرَتِي، فلَا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فأنزلَ اللهُ آيَةَ التيمُّمِ، فَتَيَمَّمُوا فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الحُضَير: مَا هِيَ بأوَّلِ بَركَتِكُم يا آل أبِي بَكْرٍ، قَالَ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذي كُنْتُ عَلَيْهِ، فأصَبْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المكان على غير ماء (1) " فقال: حبست رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس " أي فقال أبو بكر لعائشة مؤنباً لها: لقد كنت السبب في إقامة الناس هنا، وتأخيرهم عن السفر" وقال ما شاء الله " من ألفاظ التأنيب القاسية " وجعل يطعنني " أي ينخسني بيده " فلا يمنعني من التحرك إلَّا مكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذي " أي فنخسني بيده كثيراً، حتى آلمني ألماً شديداً، وهممت أن أقوم من مكاني، ولم يمنعني من ذلك إلَّا وجود رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - على فخذي " فأنزل الله تعالى آية التيمم " التي في سورة المائدة لما جاء في رواية الحميدي عن عائشة أنها ذكرت الحديث ثم قالت فيه: فأنزل الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) إلخ، "قال أسيد بن حضير ما هي بأول بركتكم
__________
(1) لأنه لولا انقطاع عقدها لما نزل الناس بذلك الموضع الذي لا ماء فيه.(1/348)
193 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " أُعْطِيتُ خَمْسَاً لَمْ يُعْطَهُنَّ أحدٌ قَبْلِي، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسيرَةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً، فأيُّمَا رَجُلٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يا آل أبي بكر" أي أن بركاتكم كثيرة، وهذه إحداها " قالت فبعثنا البعير الذي كنت عليه فأصبنا العقد تحته " أي فأقمنا البعير الذي كنت راكبة عليه، فوجدنا العقد الضائع تحته. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قولها: " نزلت آية التيمم ".
ويستفاد منه: بيان مشروعية التيمم، وسبب مشروعيته، وأنه بدل عن الوضوء والغسل لقوله تعالى في الآية المشار إليها (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) أي جامعتموهن (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) فإن قوله: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ) يدل على أنه يقوم مقام الوضوء، وقوله: (أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) يدل على أنه يقوم مقام الغسل.
193 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي " أي خصني الله تعالى من بين النبيين والمرسلين وسائر البشر أجمعين بخصائص كثيرة، ومزايا عديدة - ذكر السيوطي أنها تزيد على المائتين، لكن أبرزها وأهمها وأعظمها وأشملها له ولأمته هذه الخصائص الخمسة: أولها: هذه الخصلة، بل هذه المعجزة العظيمة المذكورة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " نصرت بالرعب " أي نصرني الله تعالى بإلقاء الخوف في نفوس الأعداء " مسيرة شهر " أي إلى مسافة شهر، وهي أقصى مسافة في عصره بينه وبين أعدائه. ثانيها: هذه الرخصة الاستثنائية التي انفرد بها محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته، دون سائر الأنبياء والأمم الأخرى، وهي التي ذكرها في قوله: " وجعلت لي الأرض مسجداً " أي جعل الله لي ولأمتي هذه الأرض كلها مكاناً صالحاً للعبادة والصلاة فيها بعد أن كان الْمَعْبَدُ في اليهودية والمسيحية شرطاً في صحة(1/349)
مِنْ أمَّتِي أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وأحِلَّت لِي الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِي، وأعْطِيتُ الشفاعةَ، وكانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إلَى النَّاس عَامَّةً".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصلاة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " وكان من قَبلي إنما كانوا يصلون في كنائسهم " " وطهوراً " أي وجعلت لي الأرض مطهرة من الحدث الأصغر والأكبَرْ، فيتيمم المسلم عند عدم الماء بدلاً عن الوضوء والغسل، " فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل " أي فلا شيء يمنعُه من الصلاة، لأنّه سيجد في أرض الله مسجده، وفي صعيدها طهوره، إن فقد الماء فيصلي بالتيمم حيث كان، كما في حديث أبي أمامة " فأيما رجل أدركته الصلاة فلم يجد ماءً وجد الأرض طهوراً ومسجداً ". ثالثها: أنه " أحلت لي الغنائم " وقد كان الأنبياء السابقون على قسمين، منهم من لم يؤذن له في القتال أصلاً، ومنهم من أذن له، فإن غنم شيئاً أخذته نار من السماء فأحرقته. رابعها: " وأعطيت الشفاعة " العظمى لفصل القضاء، وإراحة الناس من شدة ذلك الموقف الرهيب. خامسها: أني " بعثت إلى الناس عامة " بل إلى الثقلين جميعاً.
ويستفاد منه ما يأتي:
أولاً: أن من خصائص هذه الأمة التي أنعم الله عليها بالإِسلام أن جعل لها الأرض مسجداً وطهوراً، أي مطهرة للمسلم من الحدث والجنابة، فيتطهر بالتيمم بها عند عدم الماء، كما يتطهر بالوضوء والغسل عند وجود الماء، وفيه دليل على أن التيمم بدل مطلق عن الوضوء والغسل، حكمه حكمهما في جواز أداء الفرائض المتعددة به والنوافل ما لم يحدث أو يجد الماء. قال العيني: وهو قول أصحابنا (1) -أي الحنفية- وبه قال إبراهيم وعطاء وابن المسيب
__________
(1) شرح العيني على البخاري ج 4.(1/350)
والزهري والليث وداود بن علي، والمنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال ابن حزم: " وروينا عن حماد بن سلمة عن الحسن البصري قال: يصلي الصلوات كلها بتيمم واحد مثل الوضوء ما لم يحدث. اهـ، وذلك لأنَّ التيمم بدل مطلق يرتفع به الحدث إلى وقت وجود الماء في حق الصلاة المؤداة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " التيمم وضوء المسلم، ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء أو يُحْدِثْ " أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي من حديث أبي ذر، وقال الترمذي حديث حسن صحيح (1) ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: " جُعِلَتْ لي الأرض مسجداً وطهوراً " والطهور اسم للمطهر، فيدل على أن الحدث يزول بالتيمم زوالاً مؤقتاً إلى غاية وجود الماء، فإذا وجد الماء عاد الحدث (2) . وقال الجمهور " المالكية والشافعية والحنابلة ": التيمم بدل ضروري تستباح به الصلاة مع قيام الحدث بصاحبه كطهارة المستحاضة، لحديث أبي ذر الذي جاء فيه: " فإذا وجدتَ الماء فأمِسَّه جلدك فإنَّه خير لك " ولو رفع الحدث لم يحتج إلى الماء إن وجده، فهذا يدل على أن الحدث لم يرتفع، لكن أبيح له أداء الصلاة مع قيام الحدث للضرورة كما في المستحاضة، ومما استدلوا به على أن الحدث والجنابة لا يزالان باقيين بعد التيمم ما رواه البخاري عن عمرو ابن العاص رضي الله عنه أنَّه تيمم من الجنابة في شدة البرد فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " صليت بأصحابك وأنت جنب "، فقال: بل سمعت الله يقول: (ولا تَقتلوا أنفسكم) الآية فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -: ولم ينكر عليه. ومحل الشاهد قوله - صلى الله عليه وسلم -: " صليت بأصحابك وأنت جنب " فإنَّه أثبت بقاء جنابته مع التيمم. ولكن هذا الحديث ليس نصاً على بقاء الجنابة بعد التيمم، فقد قال فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي " يمكن أن يجاب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو ابن العاص رضي الله عنه: " صليت وأنت جنب " بأنه قال له ذلك قبل
__________
(1) كما في " نصب الراية " للزيلعي.
(2) " الفقه الإسلامي وأدلته " ج 1 للدكتور وهبة الزحيلي.(1/351)
أن يعلم عذره بخوف الموت إن اغتسل، وبعد أن علم عذره أقره وضحك (1) اهـ. وأما احتجاجهم بقوله - صلى الله عليه وسلم - "فإِذا وجدت الماء فأمِسَّه جلدك" فإنّه لا يدل على أن التيمم لا يرفع الحدث أصلاً، وإنما يدل على أنه لا يرفعه نهائياً، وإنما يرفعه مؤقتاً لحين وجود الماء، وهذا هو عين ما يقوله الحنفية ومن وافقهم من أهل العلم، وحاصل الخلاف بين الفريقين أنهم اختلفوا هل التيمم بدل مطلق أو بدل ضروري. فذهب أبو حنيفة ومن وافقه إلى أنّه بدل مطلق وطهارة مطلقة لها حكم الوضوء والغسل تماماً، ولذلك فإنه يجوز التيمم قبل دخول الوقت، لأن التوقيت لا يكون إلَّا بدليل سمعي ولا دليل فيه فيقاس على الوضوء، والوضوء يصح قبل الوقت (2) ويجوز أيضا أن يصلي بالتيمم ما شاء من الفرائض والنوافل، فيتيمم لأكثر من فرض، ولغير الفرض من النوافل، لأنه طهور عند عدم الماء، وإذا تيمم للنفل جاز له أن يؤدي به النفل والفرض معاً. وله أن يصلي بالتيمم الواحد فرضين معاً أو أكثر وما شاء من نافلة لأنَّ التيمم عندهم كالوضوء يصلي به من الحدث إلى الحدث، أو وجود الماء (3) اهـ. وقال الجمهور: لا يعدو التيمم عن كونه بدلاً ضرورياً، ولذلك فإنّه لا يصح التيمم إلَّا بعد دخول وقْتِ ما يتيمم له من الصلوات، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "جعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجداً وطهوراً، فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة، فعنده مسجده وطهوره " أخرجه أحمد فجعل - صلى الله عليه وسلم - الأرض طهوراً عند إدراك الصلاة - أي عند دخول وقتها، وإنما جاز الوضوء قبل الوقت لكونه رافعاً للحدث، بخلاف التيمم، فإنه لا يجوز قبله، لكونه طهارةٌ ضرورية (4) كطهارة المستحاضة، فلا يجوز قبل الوقت. كما
__________
(1) " أضواء البيان " لفضيلة العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي.
(2) الفقه الإسلامي وأدلته ج 1 للدكتور وهبة الزحيلي.
(3) " رحمة الأمة في اختلاف الأئمة " لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الدمشقي العثماني الشافعي.
(4) أي فهو لا يرفع الحدث.(1/352)
162 - " بَابُ التَيّمُّمِ في الْحضرَ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ وخاف فوت الصَّلاةِ "
194 - عن أبي جُهَيْم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
أقْبَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَل فَلَقِيَهُ رَجُلٌ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا يجوز للمتيمِّم أن يصلي فرضين بتيمم واحد، ولو كانت الفريضتان مَجموعتين في وقت واحد -عند المالكية والشافعية- كالظهر والعصر، ويجوز عند الحنابلة الجمع بين عدة فرائض إن كانت فوائت خلافاً للمالكية والشافعيّة، ويجوز له عند الجمهور أن يجمع بين النوافل وبين فريضة ونافلة إن قدم الفريضة عند المالكية وإن نوى نفلا، أو نوى استباحة الصلاة لم يصل إلَّا نفلاً، قال العثماني الشافعي " ويجوز للمتيمم أن يؤم المتوضئين والمتيممين بالإجماع، وحكِيَ النفي عن ربيعة ومحمد بن الحسن. ثانياًً: أن التيمم يكون بكل أجزاء الأرض من تراب وحجر وحَصىً وغيره، وسيأتي تفصيله قريباً (1) . الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ".
162 - " باب التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء وخاف فوت الصلاة "
194 - راوي الحديث: هو أبو جهيم - بضم الجيم وفتح الهاء عبد الله بن الحارث الأنصاري النجاري من كبار الصحابة روى له البخاري ومسلم حديثين.
معنى الحديث: يقول أبو جهيم رضي الله عنه "أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من
__________
(1) وهناك فوئد كثيرة ليس هنا موضع استقصائها.(1/353)
يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى أقْبَلَ علَى الْجِدَارِ، فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نحو بئر جمل" أي من جهة الموضع المسمى ببئر جمل - بفتح الجيم، وهو موضع قرب المدينة " فلقيه رجل " وهو أبو جهيم راوي الحديث نفسه، " فسلم عليه " أي فسلم الرجل - وهو أبو جهيم على النبي - صلى الله عليه وسلم - " فلم يرد عليه " أي فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - السلام " حتى أقبل على الجدار " أي حتى توجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أقرب جدار إليه، فتيمم عليه " فمسح بوجهه ويديه " أي فضرب - صلى الله عليه وسلم - الجدار بيديه الشريفتين ضربة واحدة مسح بهما وجهه ويديه إلى الكوعين لأن لفظ اليدين وإن كان مجملاً يحتمل أن يكون إلى المرفقين أو إلى الكوعين إلَّا أنه يفسره حديث عمار رضي الله عنه حيث قال: " فضرب - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض، ثم مسح بهما وجهه وكفيه "، قال الصغاني: ولم يصح من أحاديث صفة التيمم سوى حديثين حديث أبي جهيم وهو مجمل، وحديث عمار في الصحيحين وهو مبين بذكر الكفين، فينبغي أن يفسر هذا بهذا، والله أعلم.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز التيمم في الحضر عند عدم وجود الماء أو فقدان القدرة عليه، وهو ما ترجم لها البخاري. ثانياًً: أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، وهو مذهب أحمد ومن وافقه من أهل العلم، وهو قول مالك رحمه الله تعالى لحديث أبي جهيم هذا، حيث دل على أنّه ضربة واحدة، وحديث عمار الذي قال فيه " فضرب - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض، ثم مسح بهما وجهه، وكفيه " وقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمّار " التيمم ضربة واحدة للوجه واليدين " (1) ولأن اليد إذا أطلقت لا يدخل فيها الذراع بدليل السرقة،
__________
(1) أخرجه أحمد والأئمة الستة بإسناد صحيح كما في " نصب الراية ". (ع) .(1/354)
163 - " بَابُ الْمُتَيَمِّمُ هَلْ يَنْفُخُ فِيهِمَا "
195 - عَن عَمَّارِ بْنِ يَاسِر (1) رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" أنه قَالَ لِعُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أما تَذْكُر أنَّا كُنَّا في سَفَرٍ أنا وَأنْتَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والأكمل عند المالكية والحنابلة خروجاً من خلاف من أوجبه ضربتان يمسح بالثانية يديه إلى المرفقين، وكيفية المسح أن يُمِرَّ اليد اليسرى على اليمنى من فوق الكف إلى المرفق ثم على باطن المرفق إلى الكوع، أما الحنفية والشافعية فإنهم يقولون التيمم ضربتان ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين لما رواه أبو أمامة وابن عمر رضي الله عنهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين " ولأن اليد عضو في التيمم فوجب استيعابه كالوجه (2) . الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - تيمم وهو بالمدينة.
163 - " باب المتيمم هل ينفخ فيهما " (3)
195 - سبب الحديث ومعناه: جاء في سبب هذا الحديث أن
__________
(1) هو أبو يقظان عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن يام بن مالك بن عنس، وهو زيد بن مذحج العنسي، مولى بني مخزوم وحليفهم، وذلك أن ياسراً والد عمار قدم مكة مع أخوين له يقال لهما الحارث ومالك في طلب أخ لهم رابع، فرجع الحارث ومالك إلى اليمن، وأقام ياسر بمكة، فحالف حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، فزوجه أبو حذيفة أمة له يقال لها سمية، فولدت له عماراً، فأعتقه أبو حذيفة، فعمار مولى، وأبوه حليف، أسلم عمار قديماً، وكان من المستضعفين الذين عذبوا بمكة ليرجعوا عن الإِسلام، وأحرقه المشركون بالنار، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمر به، فيمر يده عليه، ويقول: يا نار كوني برداً وسلاماً على عمار كما كنت على إبراهيم، وهاجر إلى الحبشة وإلى المدينة، وصلى القبلتين، وهو من المهاجرين الأولين، وشهد بدراً والمشاهد كلها، أبلى فيها، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - الطيب والمطيب، قتل بصفين مع علي بن أبي طالب سنة سبع وثلاثين، وهو ابن ثلاث وتسعين سنة " تراجم جامع الأصول ".
(2) الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي. أقول: وهو حديث ضعيف، والصحيح عن عمار ضربة واحدة. (ع) .
(3) أي هل ينفخ في كفيه بعد ضربهما على الأرض.(1/355)
فَأمَّا أنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وأمَّا أنَا فَتَمَعَّكْتُ فَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا " فَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ الأرْضَ، ونَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْههُ وَكفَّيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رجلاً قال لعمر رضي الله عنه: ربما نمكث الشهر والشهرين فتصيبنا الجنابة ولا ماء ثمةَ أفنتيمَّم؟ فقال له عمر: أما أنا فلم أكن أصلي حتى أجد الماء " أخرجه أبو داود والنسائي. فقال له عمار: " أما تذكر أنّا كنا في سفر " أي أما تذكر أنا كنا معاً في سفر فأصابتنا جنابة، وليس معنا ماء فأدركَتْنَا الصلاة ولم نجد ما نغتسل به، فاختلفنا فيما نفعل إزاء الصلاة " فأما أنت يا عمر فلم تصَل " لأنك لم تجد ماءً تتطهر به من الجنابة " وأما أنا فتمعكت " أي وأما أنا فهداني الله تعالى إلى عمل آخر يقوم مقام الغسل وهو التيمم، فتيممت بدلاً عن الغسل، فمرغت جسمي كله بالتراب ظناً مني أن صفة التيمم كصفة الغسل تماماً، وأنه كما يعمم المغتسل جسمه بالماء، كذلك يجب على المتيمم أن يعمم جسمه كله بالتراب، وإنما عملت باجتهادي لعدم وجود نص شرعي في التيمم، ولذلك اجتهدت رأيي. " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا " أي إنما كان يكفيك في التيمم أن تقتصر على هذه الكيفية التي أبينها لك عملياً " ضرب بكفيه الأرض فنفخ فيهما " أي فنفخ في كفيه تخفيفاً للتراب الذي علق بهما " ثم مسح بهما وجهه وكفيه " إلى الكوعين.
الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن التيمم ضربة واحدة فقط للوجه والكفين، وهو مذهب أحمد ومكحول وعطاء، قال ابن قدامة في العمدة (1) : وصفته أن يضرب بيديه على الصعيد ضربة واحدة، فيمسح بهما وجهه
__________
(1) عمدة الفقه لابن قدامة الحنبلي.(1/356)
164 - " بَابُ الصَّعِيدِ الطيَبِ وَضُوءُ الْمُسْلمِ يَكْفِيهِ مِنَ المَاءِ "
196 - عَن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْن رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وكفيه. قال: وإنْ تَيمم بأكثر من ضربة أو مسح أكثر جازَ. قال المقدسي: وذلك لحديث ابن الصمة، فإنه دل على جواز التيمم بضربتين وحديث عمار يدل على الإِجزاء بضربة، ولا تنافي بينهما، لأن الله سبحانه قال: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) ولم يذكر عدداً فمن ضرب ضربتين أو مسح أكثر من اليد إلى الكوع فقد وفَّى بموجب النص (1) . اهـ. وذهب أبو حنيفة والشافعي في الجديد إلى أن التيمم ضربتان واجبتان، الأولى للوجه، والثانية لليدين إلى المرفقين، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: "التيمم ضربتان، ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين " رواه الدارقطني (2) . وأما المالكية فقد قال ابن جُزَيّ: " يسن تجديد ضربة لليدين إلى المرفقين (3) ، وقيل يجب " قال النفراوي " وعلى كل لو اقتصر على كوعيه فصلى يستحب له الإِعادة في الوقت (4) . ثانياً: أن النفخ في الكفين بعد ضربهما بالأرض أو غيرها سنة أو مستحب كما أفاده العيني، والحكِمة فيه إزالة التلويث عن الوجه والكفين، خشية أن يكون علق بهما شيء فيصيب الوجه. والمطابقة: في قوله: " ونفخ فيهما ".
164 - " باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء "
196 - ترجمة الراوي: هو عمران بن حصين رضي الله عنه الخزاعي أسلم عام خيبر، وكان صاحب راية خزاعة يوم الفتح، وهو من فضلاء
__________
(1) العدة في شرح عمدة الفقه لبهاء الدين المقدسي.
(2) وقد تقدم قبل أنه حديث ضعيف. (ع) .
(3) القوانين الفقهية لابن جزي.
(4) الفواكه الدواني للنفراوي.(1/357)
كُنَّا في سَفَرٍ مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَإنَّا أسْرَيْنَا حتَّى إِذَا كُنَّا في آخِرِ اللَّيْلِ وَقَعْنَا وَقْعَةً، لَا وَقْعَةَ أحْلَى عِنْدَ الْمُسَافِرِ مِنْها، فَمَا أيقَظَنَا إلَّا حَرُّ الشَّمس، وكانَ أوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ فُلَانٌ ثُمَّ فُلَانٌ وَفُلانٌ ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ الرابعُ، وَكَان النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا نامَ لَمْ يُوقَظْ حَتَّى يكُونَ هُوَ يَسْتَيْقِظُ لأنَّا لا نَدْرِي مَا يَحْدُثُ لَهُ في نوْمِهِ، فلمَّا اسْتَيْقَظَ عُمَرُ وَرَأى مَا أصَابَ النَّاسَ، وكَانَ رَجُلاً جَلِيداً، فَكَبَّر، وَرَفَعَ صَوْتَهُ بالتَّكْبِير، فما زَالَ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصحابة وفقهائهم، ومن مزاياه ومناقبه المشهورة أنه كانت الملائكة تسلم عليه، ويرى الحفظة وتكلمه، وكان مجاب الدعوة، روى رضي الله عنه مائة وثمانين حديثاً، اتفقا على ثمانية، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بتسعة، قال الذهبي، وكان ممن اعتزل الفتنة، وقال ابن سيرين سقى بطن عمران ابن حصين ثلاثين سنة، كل ذلك يعرض عليه الكي فيأبى حتى كان قبل موته بسنتين فاكتوى، وتوفي عمران سنة اثنتين وخمسين (1) من الهجرة، وله مسند من مائة وثمانين حديثاً. اهـ.
معنى الحديث: يقول عمران بن حصين رضي الله عنه: " كنا في سفر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنَّا أسرينا " أي سرنا في آخر الليل " حتى إذا كنا في آخر الليل وقعنا وقعة لا وقعة أحلى عند المسافر منها " أي فسرنا مسافة طويلة، فأجهدنا السير وطال علينا السهر، فنزلنا في آخر الليل، ونحن في أشد الحاجة إلى النوم والراحة فنمنا نومة لذيذة حلوة، ليس لدى المسافر أحلى منها " وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نام لم يوقظ فإنا لا ندري ما يحدث له في نومه " أي لا نحب أن نوقظه من نومه، لأننا لا ندري ما يقع فيه من الرؤى، فقد يرى - صلى الله عليه وسلم - رؤيا، والرؤيا من الوحي فكيف نوقظة "فلما استيقظ عمر رأى ما أصاب
__________
(1) سير أعلام النبلاء للذهبي ج 2.(1/358)
بالتَّكْبِيرِ حتى اسْتَيْقَظَ بِصَوْتِهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ شَكَوْا إِلَيْهِ الَّذِي أصَابَهُمْ، قالَ: لا ضَيْرَ -أوْ لا يَضِيرُ- ارْتَحِلُوا، فارْتَحَلَوا، فَسَارَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ نَزَلَ فَدَعَا بِالْوَضُوءِ فَتَوَضَّأ، ونُودِيَ بالصَّلَاةِ فَصَلَّى بِالنَّاس، فلما انْفَتَلَ مِنْ صَلَاِتهِ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ لمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ، قال: مَا مَنَعَكَ يا فُلَانُ أن تُصَلِّىَ معَ الْقَوْمِ؟ قَالَ: أصَابَتْنِي جَنَابَةٌ ولا مَاء، قَالَ: عَلَيْكَ بالصَّعِيدِ فإنَّهُ يَكْفِيكَ، ثمَّ سَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فاشْتكَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الناس" من النوم عن صلاة الصبحٍ حتى طلعت الشمس " وكان رجلاً جليداً " أي وكان عمر رجلاً قوياً صلباً حازماً " فما زال يكبر " أي فكبر وتابع التكبير، وما زال يتابع التكبير " حتى استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصوته " على صوت عمر رضي الله عنه وعرف ما حدث لهم " قال لا ضَيْر " أي فطمأنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال لهم: لا ضير ولا حرج، ولا إثم عليكم في تأخيركم لصلاة الصبح عن وقتها بسبب النوم الذي غلب عليكم، لأن النوم عذر شرعي " ارتحلوا، فارتحلوا، فسار غير بعيد ثم نزل، فدعا بالوضوء " أي فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فانتقلوا من ذلك المكان، ثم طلب ماء يتوضأ به " فلما انفتل من صلاته " أي فلما انتهي النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلاته نظر، وتفقد الصحابة، فلما تفقدهم " إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم " فلفت ذلك انتباه النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه، ودفعه إلى التساؤل عن حاله، وسبب اعتزاله لذلك " قال " للرجل " ما منعك أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد " أي إذا كنت لم تجد الماء، فإن هذا لا يمنعك من الصلاة، بل تيَمَّم بالصعيد الطاهر وصلِّ، " فإنه يكفيك " أي فإن التيمُّمَ بالصعيد الطاهر يكفيك عن الغسل بالماء عند عدم وجوده، لأنَّ الله قد شرع لعباده التيمم بدلاً عن الغسل عند عدم الماء أو عدم القدرة عليه. والصعيد(1/359)
إليْهِ النَّاسُ مِنَ الْعَطَشِ، فنَزَلَ فَدَعَا فُلَاناً، كَانَ يُسَمِّيهِ أبُو رَجَاءٍ، نَسِيَهُ عَوْفٌ، وَدَعَا عَلَيَّاً فَقَال: اذْهَبَا فابْتَغِيَا الْمَاءَ، فانْطَلَقَا، فَتَلَقَّيَا امْرأَة بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ أو سَطِيحَتَيْن مِنْ مَاءٍ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا، فقالا لَها: أيْنَ الْمَاءُ؟ قَالَتْ: عَهْدِي بالْمَاءِ أمْسِ هَذ السَّاعةَ، ونَفَرُنَا خُلُوفٌ، قالا لَهَا: انطَلِقِي إذَنْ، قَالَت: إلى أين؟ قَالا: إلَى رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَتْ: الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الصَّابِىءُ؟ قالَا: هُوَ الَّذِي تَعْنِينَ، فانطَلِقِي، فجاءَا بِهَا إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وحَدَّثَاهُ الحدِيثَ، قَالَ: فاسْتَنْزَلُوهَا عَنْ بَعِيرِهَا، ودَعَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كل ما صعد على وجه الأرض من تراب أو حجارة أو حصى أو غيره " فدعا فلاناً كان يسميه أبو رجاء نسيه عوف " وهو عمران بن حصين راوي الحديث نفسه " ودعا علياً، فقال: اذهبا فابتغيا الماء " أي ابحثا عنه " فانطلقا " أي فذهبا يبحثان عن الماء " فتلقيا امرأة بين مزادتين " أي فوجدا امرأة راكبة على بعير مدلية رجليها بين قربتين " فقالا لها: أين الماء؟ فقالت - عهدي بالماء أمس هذه الساعة " أي عهدي بمكان الماء أمس في مثل هذه الساعة " ونفرنا خلوف " أي ورجالنا مسافرون وغائبون، ولا يوجد في ديارنا إلَّا النساء " فقالا لها انطلقي إذن " أي اذهبي معنا " قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: الذي يقال له الصابىء؟ " أي أتعنون برسول الله ذلك الرجل الذي تصفه قريش بالصابىء أي الخارج على دينه، وكانوا يصفونه بذلك ذماً له وطعناً فيه، ونسبة له إلى الكفر والضلال بمفارقة دينه، وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما خرج عن دينهم الباطل إلى الدين الحق الذي بعثه الله به، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الحق " فجاءا بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحدثاه الحديث قال: فاستنزلوها عن بعيرها " أي فطلبوا منها أن تنزل عن بعيرها تنفيذاً لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - "ودعا(1/360)
بإنَاءٍ فَفَرَّغَ فِيِه مِنْ أفْوَاهِ الْمزَادَنَيْنِ أو السَّطِيْحَتَيْنِ، وأوكأ أفْوَاهَهمَا، وأطْلَقَ العَزَالِي، ونودِيَ في النَّاسِ: اسْقوا واسْتَقُوا، فَسَقَا مَنْ شَاءَ، واستقَى مَنْ شَاءَ، وَكَانَ آخِرَ ذَاكَ أنْ أعْطى الَّذِي أصَابَتْه الْجَنَابَة إِنَاءً مِنْ مَاءٍ، قالَ: اذْهَبْ فافرِغْهُ عَلَيْكَ، وَهِي قَائِمَةٌ تَنْظر إلى ما يُفْعَلُ بِمَائِهَا، وأيم اللهِ لَقَدْ أقْلِعَ عَنْهَا، وإِنَّه لَيخَيَّل إِلَيْنَا أنهَا أشَدُّ مِلأة مِنْهَا حين ابْتَدَأ فيهَا، فَقالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: اجْمَعوا لَهَا، فجَمَعُوا لها مِنْ بَيْنِ عَجْوَةٍ وَدَقِيقَةٍ وَسَوِيْقَةٍ حَتَّى جَمَعُوا لَهَا طَعَاماً، فَجَعَلُوهَا في ثَوْبٍ، وَحَمَلُوْهَا عَلى بَعِيرِهَا، وَوَضَعوا الثَّوْبَ بَيْنَ يَدَيْهَا، قَالَ لَها: تَعْلَمِينَ مَا رَزِئْنَا مِنْ مَائِكِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النبي - صلى الله عليه وسلم - بإناء ففرغ فيه من أفواه المزادتين" أي ففرغ الماء في ذلك الإِناء من أفواه المزادتين " وأوكأ أفوههما " أي ربط أفواه القربتين العليا " وأطلق العزَالِي " بفتح الزاي وكسر اللام، أي وفتح أفواه القربتين السفلى لكى يخرج الماء منها، " ونودي في الناس اسقوا واستقوا " أي اسقوا دوابكم واشربوا من هذا الماء الذي ساقه الله إليكم " فسقا من شاء، واستقى من شاء " أي فشربوا وسقوا دوابهم ومواشيهم " وهي قائمة تنظر " أي وهي واقفة تشاهد هذه الحوادث العجيبة بعينيها " وايم الله " وهو لفظ من ألفاظ القسم، أصله أيمن الله بضم الميم والنون، فحذفت النون تخفيفاً " قد أقلع عنها " بضم أوله وكسر ثالثه والبناء للمجهول، أي تُركتْ وكف الناس عنها " وإنه ليخيل إلينا أنها أشد مِلْأةً " بكسر الميم وسكون اللام أي امتلاءً " منها حين ابتدأ فيها " ومعنى ذلك أن الراوي يقسمٍ بالله تعالى على أن هاتين القربتين لم ينقصْ من مائهما بعد الشرب منهما شيئاً، بل إنه ليتراءى لأعينهم أن الماء قد زاد بعد شربهم منه عما كان عليه قبل أن يشربوا منه "فجمعوا من بين عجوة(1/361)
شَيئَاً، وَلَكِنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي أسْقَانَا، فَأتتْ أهلَهَا، وَقَدْ احتبست عَنْهُمْ قَالُوا: مَا حبسَكِ يَا فُلَانَةُ؟ قَالَتِ: الْعَجَبُ، لَقِيَني رَجُلَانِ فَذَهَبَا بي إلى هَذَا الَّذِي يُقَالُ لَه الصَّابِىءُ، ففعل كَذَا وكَذَا، فواللهِ إِنَّهُ لأسْحَرُ النَّاس من بين هذِه وَهَذِه، وقَالَتْ بأصْبَعَيْهَا الْوُسْطى والسَّبَّابَةِ فَرفَعَتُهُمَا إِلى السَّمَاءِ تَعْنِي السَّمَاءَ والأرْضَ، أو إِنَّهُ لَرَسُولُ الله حِقاً، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ودقيقة وسويقة" أي فجمعوا لها من أصناف الطعام، والأزواد الموجودة لديهم " وحملوها على بعيرها " أي وأركبوها على بعيرها " قال: تعلمين ما رزئنا (1) من مائك شيئاً " أي لقد علمت يقيناً، وشاهدت ببصرك، ورأيت رأي العين أننا لم ننقص من مائك شيئاً فنكون سبباً في إيذائك وإلحاق الضرر بك " ولكن الله هو الذي سقانا " أي ولكننا قد شربنا من الماء الذي ساقه الله إلينا وسقانا منه وقد أراد - صلى الله عليه وسلم - من كلامه هذا أن يلفت نظر تلك المرأة إلى أنّهم حين شربوا من القربتين لم يضروها بشيء وإنما شربوا من الماء الذي سقاه الله لهم، حيث أن ماء القربتين زاد ولم ينقص، فكان ذلك معجزة ظاهرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - نبهها إليها لتحدث قومها عنها، وهذا ما وقع منها عند رجوعها إليهم كما قال الراوي " فأتت أهلها وقد احتبست عنهم " أي تأخرت عنهم بعض الشيء " فقالوا ما حبسك يا فلانة، قالت: العجب " أي الذي أخرني عنكم أمرٌ عجيب، وقصة غريبة، ثم حكت لهم قصتها فقالت: " لقيني رجلان فذهبا بي إلى هذا الرجل الذي يقال له الصابىء " أي فذهبا بي إلى محمد بن عبد الله الذي تسميه قريش " الصابىء " أي الخارج عن دينه، وكانوا يصفونه بذلك طعناً فيه وتشنيعاً عليه كما ذكرنا " ففعل كذا وكذا " أي فسقى الجيش كله من هاتين المزادتين دون أن ينقص من مائهما شيئاً، إلى غير ذلك
__________
(1) مَا رَزِئْنَا بفتح الراء وكسر الزاي.(1/362)
بَعْدَ ذَلِكَ، يُغِيرُونَ على مَنْ حَوْلَهَا مِنَ المُشْرِكِينَ ولا يُصيبُونَ الصِّرْمَ الذِي هِيَ مِنْهُ، فَقَالَتْ يَوْماً لِقَوْمِهَا: ما أرَى أنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ يَدَعُونَكُمْ عَمداً، فهلْ لكُمْ في الإِسْلامِ؟ فأطَاعُوهَا، فَدَخَلُوا في الإِسْلامِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من العجائب التي شاهَدَتْها، وحدثتهم عنها " فوالله إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه (1) ، أو إنه لرسول الله حقاً " أي إنه لا يخلو من أمرين: إما أن يكون أسحر شخص موجود بين السماء والأرض، أو يكون نبياً ورسولاً صادقاً في نبوته ورسالته، لأن هذه الخوارق إما أن تكون سحراً، أو معجزةً " فكان المسلمون بعد ذلك يغزون مَنْ حولها من المشركين، ولا يصيبون الصِّرم " بكسر الصاد " التي هي فيه " أي ولا يغيرون على بيوت الشعر التي يسكنها قومها " فقالت يوماً لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمداً " أي الذي أراه وأعتقده أن المسلمين قد تركوا قتالكم متعمدين قاصدين ذلك حفظاً للجميل ووفاءً لصحبتي معهم، لا صدفة ولا خوفاً منكم " فهل لكم في الإسلام " أي فإني أرغبكم في الإِسلام، وأحثكم عليه وأنصح لكم به ما دامت هذه هي أخلاق المسلمين وشيمهم وهذه معجزات نبيهم - صلى الله عليه وسلم - " فأطاعوها فدخلوا في الإِسلام " أي وشرح الله صدورهم لدين الإِسلام.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية التيمُّم بجميع أجزاء الأرض من تراب ورمل وحجارة وغيرها متى كانت طاهرة لأنّ هذا ما يعنيه الصعيد الطيب في لغة العرب وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتيمم بالصعيد في قوله: " عليك بالصعيد الطيب فإنه يكفيك " وهو مصداق قوله تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) وفيه حجة للجمهور على جواز التيمم بكل أجزاء الأرض لا
__________
(1) أي وأشارت بأصبعها الوسطى والسبابة إلى السماء والأرض مشيرة بالسبابة إلى السماء وبالوسطى إلى الأرض. والله أعلم.(1/363)
165 - " بَابٌ إِذَا خاف الْجُنُبُ علَى نفْسِهِ الْمَرضَ أو الْمَوْت، أو خاف الْعَطَشَ تيَمَّمَ "
197 - قَالَ الْبُخَارِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فرق بين تراب وغيره، خلافاً للشافعي فالصعيد يشملها جميعاً كما ترجح عند أهل اللغة حتى قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافاً عند أهل اللغة، ويؤكد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر رضي الله عنه " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " قال النووي: احتج به مالك وأبو حنيفة في جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض. وقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن التيمم بالتراب ذي الغبار جائز، وعند مالك يجوز بالتراب والرمل والحشيش والشجر والثلج، والمطبوخ كالجص والآجر. وقال الثوري والأوزاعي: يجوز بكل ما كان على الأرض حتى الشجر والثلج، ونُقِل عن ابن علية جوازه بالمسك والزعفران.
ويجوز التيمم عند الحنفية بالتراب والرمل والحجر الأملس المغسول والجص والنورة، والزرنيخ، والكحل والكبريت والتوتياء والحائط المطيّن والمجصص والياقوت والزمرد، والفيروزج والمرجان والملح الجبلي، ولا يجوز بالزجاج ولا بالذهب والفضة.. إلخ، كما أفاده العيني. ثانياً: معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - الظاهرة التي تجلّت في تكاثر الماء، حتى شرب منه الجيش كله. ثالثاً: تقدير الصحبة وحفظ الجميل الذي يتضح لنا من فعل هؤلاء الصحابة الأوفياء حيث كانوا يغيرون على من حولها ولا يغيرون على قومها. الحديث: أخرجه الشيخان والدارقطني. والمطابقة: في قوله: " عليك بالصعيد الطيب ".
165 - " باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت أو خاف العطش تيمم "
أي هذا باب يذكر فيه أن الجنب يجوز له أن يتيمم عند وجود الماء إذا(1/364)
ويُذْكَرُ أن عَمْرو بْنَ الْعَاصِ أجنَبَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ، فَتَيَمَّمَ وَتَلَا (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) فَذَكَرَ ذلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُعَنِّف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خاف أن يحدث له من الماء ضرر في نفسه إما بحدوث مرض متلف، أو موت محقق أو عطش بأن لا يكون لديه إلاّ قليل من الماء، فإذا اغتسل به عطش ولم يجد غيره، فإنه يجوز له التيمم في هذه الحالات، ولو مع وجود الماء لفقده القدرة على استعماله.
197 - معنى الحديث: أن البخاري رحمه الله يروي هذا الحديث عن عمرو بن العاص معلقاً بدون سند (1) فيقول: " ويذكر أن عمرو بن العاص أجنب في ليلة باردة " أي أصابته الجنابة في غزوة ذات السلاسل بسبب الاحتلام وكان ذلك في ليلة باردة شديدة البرد، فخاف على نفسه إن هو اغتسل بالماء البارد في هذا البرد القارس أن يصيبه المرض لا محالة، أو يهلك برودة الماء " فتيمم " بدل أن يغتسل خوفاً على نفسه من المرض أو الموت، وصلّى بالصحابة صلاة الصبح " وتلا (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) أي وقرأ قوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بارتكاب ما يؤدي إلى هلاكها (إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) ولذلك فإنه لم يكلفهم ما لا يطيقون، واستدل عمرو بهذه الآية على أنه يجوز له في هذه الحالة التيمم بدلاً عن الغسل وقاية لنفسه من الهلاك، لأن الله تعالى يقول: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) " فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - " أي فذكر عمرو ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بما حدث له، ورُوي بضم الذال، أي فذكر ذلك الصحابة للنبي
__________
(1) وقد رواه موصولاً أبو داود في سننه، كما أخرجه الحاكم وابن حبان والبيهقي، وحسنه المنذري كما في المنهل العذب ج 3.(1/365)
- صلى الله عليه وسلم - عند رجوعهم، وأخبروه بما وقع من عمرو بن العاص " فلم يُعنف " أي فلم يَلُمْهُ بعد أن سأله وعرف حقيقة أمره ووجهة نظره وصحة فعله، كما جاء في رواية أخرى أنه قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلتُ أن أهلك، فتيمَّمْتُ ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا عمرو أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ "، فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئاً " أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي.
ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: أنه يجوز للجنب التيمم مع وجود الماء عند الخوف من حدوث المرض أو زيادته (1) لأن عمراً تيمم بدلاً عن الغسل بسبب شدة البرد، خوفاً على نفسه من الهلاك، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعله هذا، ولم يعنفه. ثانياًً: جواز الاجتهاد في زمنه - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه موصولاً أبو داود وابن حبان والحاكم والبيهقي. والمطابقة: في قوله: " فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنفه ".
***
__________
(1) أو خشي على نفسه الخطر والهلاك والموت كما ترجم له البخاري.(1/366)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب الصلاة "
وهي من البدهيات المعروفة عند عموم المسلمين، فلا حاجة إلى تعريفها.
ومن مزاياها أنها عماد الدين، وَملاك الفضائل كلها، لما تؤدي إليه من تهذيب النفس، ووقايتها من الخطايا كما قال عز وجل (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) بالإضافة إلى أن للصلاة أثرها الواضح في مقاومة الشدائد، وتفريج الكروب، والتغلب على الأزمات النفسية، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وما من حركة من حركات الصلاة إلاّ وفيها تدريب للنفس على فضيلة من الفضائل. كما قال بعض أهل العلم. وفي بعض الآثار أن الله تعالى يقول: " إنما أقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، وقطع نهاره بذكري، وكف نفسه عن الشهوات من أجلي، يطعم الجائع، ويؤوي الغريب، ويرحم المصاب فذلك الذي يضىء نوره في السموات كالشمس، إن دعاني لبيته، وإن سألني أعطيته. وفرضت الصلوات الخمس ليلة المعراج قبل الهجرة بعام، كما جزم به النووي من بين عشرة أقوال.(1/367)
166 - " بَابٌ كَيْفَ فُرِضَتِ الصَّلَوَات في الإِسْرَاءِ "
198 - عنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ أبو ذَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُحَدِّث أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتي وَأنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ " فَفَرجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
166 - " باب كيف فرضت الصلوات في الإِسراء "
198 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه " كان أبو ذر رضي الله عنه يحدث أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فرج " بضم الفاء وكسر الراء " عن سقف بيتي " أي بينما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة في بيت أم هانىء بمكة لم يشعر إلاّ وقد فُتح السقف، ونزل منه الملك - وهو جبريل عليه السلام، ودخل عليه، وكان ذلك إشارة واضحة إلى قدومه من الملأ الأعلى.
أما ما جاء في رواية مالك بن صعصعة رضي الله عنه أن نبي الله حدثهم ليلة أسري به قال: " بينا أنا في الحطيم وربما قال في الحجر مضطجعاً إذ أتاني آت، فشق ما بين هذه وهذه " وكيف الجمع بينهما؟ فقد قال العيني: أما على كون العروج مرتين فظاهر، وأما على كونه مرة واحدة فلعله - صلى الله عليه وسلم - بعد غسل صدره دخل بيت أم هانىء، ومنه عُرِجَ به إلى السماء. " قلت " وهذا الاحتمال الأخير يتعارض مع حديث الباب في السياق، والاحتمال الأقرب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه جبريل في بيت أم هانىء، فخرج به إلى الحجر أو الحطيم، فشق صدره هناك الخ ما جاء في الحديث حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " فنزل جبريل ففرج صدري " بفتح الفاء الأولى والثانية، وفتح الراء، أي فشق جبريل صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - من ثغرة نحره إلى شِعْرته بكسر الشين " "فاستخرج(1/368)
ذَهَبٍ مُمْتَلىءٍ حِكْمَةً وإيمَاناً، فأفْرَغَهُ في صَدْرِي، ثُمَّ أطْبَقَهُ، ثُمَّ أخَذَ بِيَدِي، فَعرَجَ بِي إلى السَّمَاءِ الدُّنيا، فَلَمَّا جِئْتُ إلى السَّمَاءِ الدُّنيا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قَالَ: هَلْ مَعَكَ أحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ مَعِى مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -، فقَالَ: أرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَم، فلمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنيا، فإِذَا رَجُلٌ قَاعِد عَلَى يَمِنيهِ أسْوِدَة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قلبي" (1) أي فأخرج الملك قلبه الشريف - صلى الله عليه وسلم - حقيقة لا مجازاً، ولا حاجة إلى العدول عن الحقيقة إلى المجاز في خبر الصادق المصدوق، ولا عجب في ذلك، فإن المعراج معجزة من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - والمعجزات كلها أمور خارقة للعادة، خارجة عن نظام العالم، والسنن الكونية، وما هي إلاّ تحديات لقدرة البشر بقدرة الله تعالى. " ثم غسله بماء زمزم " أي ثم غسل الملك قلبه - صلى الله عليه وسلم - بماء زمزم تطهيراً وتقوية له بهذا الماء المبارك، لما فيه من غذاء روحي ومادي معاً " ثم جاء بطست من ذهب " وكان هذا الطست من الأواني الذهبية الموجودة في الجنة فأتى به من هناك تكريماً للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإعلاءً لشأنه، وحفاوة به " ممتلىء حكمة " بالنصب، على أنه تمييز ملحوظ، أي جاءه بطست ذهبي من الجنة، ممتلىء بالعلم الرباني النافع، المؤدي إلى التوفيق والصواب في القول والعمل " فأفرغه في صدره، ثم ختمه " أي ثم ختم صدره الشريف بعد غسله وتطهيره وإفراغ ذلك الطست فيه، وضمه على العلم الرباني والنور الإِلهي الذي أودعه فيه، لئلا يجد الشيطان إليه سبيلاً. قال - صلى الله عليه وسلم - " فعرج بي إلى السماء الدنيا " أي فأسرى بي أولاً على البراق من مكة إلى بيت المقدس، ثم صعد بي الملكُ من بيت المقدس على المعراج إلى السماء الدنيا، والبراق
__________
(1) والسين هنا إمّا أن تكون للطلب، والمعنى أن الملك حاول إخراج القلب من الصدر، وعمل ذلك حتى أخرجة، أو لتأكيد الفعل والله أعلم.(1/369)
وعَلَى يسَارِهِ أسْوِدَة، إِذَا نَظرَ قِبَلَ يَمِينهِ ضَحِكَ، وِإذَا نَظرَ قِبَل يَسارِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَباً بالنبي الصَّالِحِ والْابنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ لِجِبْرِيْلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ، وَهَذِهِ الأسْوِدَةُ عَنْ يَمِينهِ وشَمَالِهِ نَسَمُ بَنِيْهِ فَأهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أهْلُ الْجَنَّةِ، والأسْوِدَةُ التي عَنْ شِمَالِهِ أهْلُ النِّارِ، فَإِذَا نَظرَ عَنْ يَمِينهِ ضَحِكَ، وِإذَا نَظر قِبَلَ شِمَالِهِ بكَى، حَتَّى عَرَجَ بِي إلى السَّمَاءِ الثَّانِيَة، فَقَالَ لخَازِنِهَا: افْتَحْ! فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ الْأوَّلُ، فَفَتَحَ، قَالَ أنَسٌ: فذكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ في السَّمَواتِ آدَمَ وِإدْرِيسَ وَمُوسَى وَعِيسَى وِإبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلَهُمْ، غَيْرَ أنَّهُ ذَكَرَ أنَّهُ وَجَدَ آدَمَ في السَّمَاءِ الدُّنيا، وإبْراهِيمَ في السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، قَالَ أنسٌ: فَلَمَّا مَرَّ جِبْريل بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بإِدْرِيسَ قَالَ: مَرْحَباً بالنَّبِيِّ الصَّالِح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دابة من دواب الجنة (1) دون البغل وفوق الحمار. أما المعراجِ فهو كما قال ابن سيده: شبه سلم تعرج عليه الأرواح وقد اختاره الله مصعداً لنبيه إلى السماء " فإذا رجل قاعد عن يمينه أسودة " أي أشخاص " قال هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه " بفتح النون والسين أي أرواحهم، حيث تشكلت على صورة أجسامهم (2) " حتى عرج بي إلى السماء الثانية " أي وبعد الأولى صَعِد بي الملك إلى الثانية، وانتقلت من سماء إلى سماء، والتقيت بالأنبياء، " ولم يثبت منازلهم " أي لم يعين - صلى الله عليه وسلم - السماء التي فيها كل نبي منهم إلا السماء الدنيا والسادسة، وفي مسلم فذكر آدم في السماء الأولى، ويحيى وعيسى في الثانية، ويوسف في الثالثة، وإدريس في الرابعة، وهارون
__________
(1) وورد في وصفه أنه يضم حافره عند منتهي طرفه.
(2) وذلك لأن الله شكل أرواحهم على صورة أجسامهم كما أفاده العيني. اهـ. ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - " وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه " أي هؤلاء الأشخاص هي أرواح بني آدم.(1/370)
وَالأخِ الصَّالِحِ، فقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ، ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى فَقَالَ: مَرْحَباً بِالنَّبِيِّ الصَّالِحُ وَالأخُ الصَّالِحُ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُوسَى، ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى، فَقَالَ: مَرْحَباً بالأَخِ الصَّالِح وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عِيسَى، ثُمَّ مَرَرْتُ بإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: مَرْحَباً بالنَّبِيِّ الصَّالِحِ والابنِ الصَّالِحِ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِبْراهِيم - صلى الله عليه وسلم -. قَالَ ابْن شِهابِ: فأخبَرَنِي ابْنُ حَزْم أنَّ ابْن عَبَّاسٍ وَأبَا حَبَّةَ الأنْصَارِي كَانَا يَقُولانَ: قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ عُرِجَ بي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوَىً أسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأقْلَام، قَالَ ابْنُ حَزْم وَأَنَسٌ: قَال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: فَفَرَضَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أُمَّتِيَ خَمْسِينَ صَلَاةٍ، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: مَا فَرَضَ اللهُ عَلَى أمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ: فَارْجِعْ إلى رَبِّكَ فَإِنَّ أمَّتَكَ لا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُ (1) فوَضَعَ شَطرهَا، فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى، قُلْتُ: وَضع شَطرهَا، فَقَالَ: راجِع رَبَّكَ فَإِنَّ أمَّتَكَ لَا تُطيقُ، فَرَاجَعْتُ، فَوَضَعَ
__________
في الخامسة، وموسى في السادسة، وابراهيم في السابعة " قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فعرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام " أي حتى علوت لمستوى أسمع، فيه حركة أقلام الملائكة وهي تكتب الوحي والأقدار " فرجعت بذلك حتى مررت على موسى، فقال: ما فرض الله على أمتك؟ قلت: فرض خمسمين صلاة، قال: فارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك.. " أي لا تقدر على أداء خمسين صلاة في كل يوم وليلة، "فراجعت، فوضع
__________
(1) هذه رواية، وفي رواية أخرى فراجعني، والمعنى واحد كما أفاده العيني.(1/371)
شَطرهَا، فَرَجَعْتُ إليْهِ فَقَالَ: ارجِعْ إلى رَبِّكَ فإنَّ أمَتّك لا تُطيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُهُ، فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وهيَ خَمْسُونَ لا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، فَرَجَعْتُ إلَى مُوسَى فقَالَ: رَاجِع رَبَّكَ. فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، ثُمَّ انْطَلَقَ بي حَتَّى انتهَى بِي إلى سِدْرَةِ الْمُنْتَهي وغَشِيَهَا ألْوَانٌ لا أدرِي ما هِيَ، ثُمَّ أدْخِلْتُ الجَنَّةَ فَإِذَا فيها حبَائلُ اللؤلُؤِ وِإذَا تُرابُهَا المِسْكُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شطرها" أي نقَّصَ جزءاً منها، وما زال - صلى الله عليه وسلم - يراجع ربه، والرب عز وجل يُنقِصُ من عدد الصلوات حتى صارت خمساً، " فقال: هي خمسٌ " أي خمس في عددها " وخمسون " في مضاعفة ثوابها " لا ييدل القول لديَّ " أي هذا هو قضاء الله تعالى ووعده الذي لا يقبل التخلف " ثم أدخلتُ الجنة، فإذا في حبائل اللؤلؤ " أي أسلاك اللؤلؤ المنظوم. الحديث: أخرجه الشيخان، والترمذي والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الصلوات الخمس فرضت في السموات ليلة المعراج، كما ترجم له البخاري، وأجمع عليه أهل العلم، إلاّ أنهم اختلفوا في تاريخه، فقيل قبل الهجرة بعام ورجحه النووي، وقال: الزهري وابن اسحاق قبل الهجرة بخمسة أعوام ورجحه القاري. حتى وصلت إلى عشرة أقوال. ثانياًً: إثبات الإِسراء والمعراج، والراجح الذي عليه الجمهور أنه كان يقظة لا مناماً، وبالروح والجسد معاً لقوله - صلى الله عليه وسلم - "فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل، ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم" فإن هذا لا يكاد يسمعه أحد إلاّ تبادر إلى ذهنه أن الإِسراء والمعراج بالروح والجسد. والمطابقة: في قوله: " ففرض على أمتي خمسين صلاة ".
***(1/372)
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
فرض اللهُ الصَّلَاةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ في الْحَضَرِ والسَّفَرِ، فأُقرَّت صلاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الحَضَرِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
199 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " فرض الله تعالى الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر " أي أوجب الله تعالى جميع الصلوات المكتوبة في أول الأمر ركعتين ركعتين في الحضر والسفر معاً عدا المغرب فإنها ثلاث ركعات، ثم غيّر بعض الصلوات في الحضر " فأقرت صلاة السفر " أي فأبقى الله تعالى الصلاة في السفر ركعتين كما فرضها أول مرة، " وزيد في صلاة الحضر " في الظهر والعصر والعشاء فصارت أربعاً في الحضر، بعد أن كانت ركعتين، وأصبحت رباعية بعد أن كانت ثنائية. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: ظاهرة حيث بَيّنَ في الحديث كيف فرضت الصلاة ركعتين وهو ما ترجم له البخاري.
ويستفاد منه: أن الصلاة فرضت في أول الأمر ركعتين، وقد استدل به أبو حنيفة على أن قصر الرباعية في السفر واجب، لأن صلاة المسافر فرضت من أول الأمر ركعتين.
***(1/373)
167 - " بَابُ الصَّلَاةِ في الثَّوْبِ الْوَاحِدِ مُلْتَحِفاً "
200 - عَنْ عُمَرَ بْنِ أبي سَلَمَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى في ثَوْب وَاحِدٍ قَدْ خَالفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ.
201 - عَنْ عُمَرَ بْنِ أبي سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
رَأيتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي في ثَوْبٍ واحِدٍ مُشْتَمِلاً بِهِ في بَيْتِ أمِّ سَلَمَةَ وَاضِعاً طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
167 - " باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفاً به "
200 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلاة في ثوب واحد فقط هو إزاره ورداؤه " قد خالف بين طرفيه " أي وضع طرفه الأيمن على عاتقه الأيسر، وطرفه الأيسر على عاتقه الأيمن. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي.
ويستفاد منه: جواز صلاة الرجل في ثوب واحد ساترٍ لعورته، فإن كان واسعاً التحف به ووضع طرفيه على عاتقيه، وإن كان ضيقاً اتزر به، وهو مذهب الجمهور. والمطابقة: في قوله: " صلى في ثوب واحد ".
201 - معنى الحديث: يقول عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما، " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى في ثوب واحدٍ مشتملاً به في بيت أمِّ سلمة " (1) أي رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيني يصلي في بيت أمّ سلمة رضي الله عنها في ثوب واحدٍ فقط هو إزاره ورداؤه حال كونه ملتحفاً به ساتراً به جسمه " واضعاً طرفيه على عاتقيه " أي واضعاً طرف ثوبه الأيمن على عاتقه الأيسر، وطرفه الأيسر على عاتقه الأيمن. الحديث: أخرجه الخمسة. والمطابقة:
__________
(1) قال العيني وقوله: " في بيت أم سلمة " إما ظرف لقوله: يصلي أو للاشتمال، أولهما.(1/374)
202 - عَنْ أبَي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ سائِلاً سَألَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الصَّلَاةِ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " أوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في قوله: مشتملاً به، لأنّ معنى مشتملاً به، أي ملتحفاً به، وهو ما ترجم له البخاري.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز الصلاة في الثوب الواحد دون كراهة، وهو مذهب الجمهور، وذهب طاووس وإبراهيم النخعي وأحمد في رواية - كما أفاده العيني إلى أن الصلاة في ثوب واحد مكروهة إذا كان قادراً على ثوبين، واحتجوا بحديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه فإنّ الله أحق من تزين له " أخرجه البيهقي. ثانياًً: أنه إذا صلى في ثوب واحدٍ، فإنْ كان واسعاً اشتمل به، وإن كان ضيقاً اتزر به وهو مذهب الجمهور، خلافاً لطاووس والنخعي (1) وابن وهب، ومحمد بن جرير حيث قالوا: السنة أن يأتزر به ولو كان واسعاً.
202 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه في حديثه هذا " أن سائلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في ثوب واحد " أي سأله عن حكم الصلاة في الثوب الواحد هل هي جائزة وصحيحة أم لا؟ " قال: أو لكلكمْ ثوبان؟! " وهو استفهام إنكاري يتضمن الجواب والفتوى، ومعناه أنه إذا لم يكن لكل شخص ثوبان، والصلاة واجبة، فإنها تصح في الثوب الواحد ما دام ساتراً للعورة لأنّ هذا الدين يسر، ولا يكلف الله نفساً إلّا وسعها.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز الصلاة في الثوب الواحد بشرط
__________
(1) شرح العيني ج 3.(1/375)
168 - " بَاب إذَا صَلَّى في الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَلْيَجْعَلْ عَلى عَاتِقَيْهِ "
203 - عَنْ أبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَا يُصَلِّي أحَدُكُمْ في الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ شيءٌ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أن يكون ساتراً للعورة وأن يكون غير قادر على ثوبين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أو لكلكم ثوبان ". ثانياً: يسر هذا الدين وسماحته ومراعاته لظروف الناس وأحوالهم، حيث إنه لما كان بعض الناس لا يجدون ثوبين أجاز لهم الصلاة في ثوب واحد. ثالثاً: في الحديث دليل لمن يقول: إن الصلاة في الثوب الواحد مكروهة لمن يقدر على ثوبين، لأن مفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أو لكلكم ثوبان " ان من وجد ثوبين لا يصلي في ثوب واحد، وهو مذهب طاووس والنخعي وغيرهم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وأحمد والدارمي والبيهقي والطحاوي. والمطابقة: في قوله: " أو لكلكم ثوبان ".
168 - " باب إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه "
203 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس كل عاتقيه شيء " ومعناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن الصلاة في الثوب الواحد الذي لا يستر العاتقين، لأنهما وإن لم يكونا عورة، إلّا أن سترهما أمكن من ستر العورة، لأنه إذا ائتزر بالثوب ليس على عاتقه شيء، لم يأمن أن تنكشف عورته كما أفاده الحافظ. الحديث: أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي أيضاً. والمطابقة: ظاهرة لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهي عن الصلاة في الثوب الواحد ليس على عاتقيه شيء.(1/376)
204 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
أشْهد - أنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ صَلَّى في ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَلْيُخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
204 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "من صلى في ثوب واحد " أي وليس عليه إلاّ ثوب واحد وهو " الإِزار " " فليخالف بين طرفيه " بأن يجعل طرفه الأيمن على عاتقه الأيسر، وطرفه الأيسر على عاتقه الأيمن.
الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود. والمطابقة: في قوله: " فليخالف بين طرفيه ".
ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: مشروعية ستر العاتقين في الصلاة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بسترهما في الحديث الثاني حيث قال: " فليخالف بين طرفيه " ونهي عن كشفهما في الحديث الأول فقال: " لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه شيء " واختلفوا في ذلك. فذهب الجمهور إلى أنه يستحبُّ ستر العاتقين، ويكره كشفهما لمن يقدر على سترهما، وحملوا الأمر على الندب، والنهي على الكراهة (1) . وذهب أحمد إلى وجوب سترهما، وتحريم كشفهما للقادر على ذلك، ومن صلى مكشوف العاتقين مع قدرته على سترهما لا تصح صلاته، لأن سترهما مع القدرة شرط في صحة الصلاة.
قال ابن قدامة (2) : يجب أن يضع المصلي على عاتقه شيئاً من اللباس إن كان قادراً على ذلك، وهو قول ابن المنذر. وقال أكثر الفقهاء لا يجب ذلك، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي لأنهما ليسا بعورة، فأشبها بقية
__________
(1) قال النووي: قال مالك وأبو حنيفة، والشافعي والجمهور: هذا النهي للتنزيه، فلو صلى في ثوب واحد ساتر عورته ليس على عاتقه منه شيء صحت صلاته مع الكراهة، وأما أحمد وبعض السلف فذهبوا إلى أنه لا تصح عملاً بظاهر الحديث.
(2) المغني ج 1.(1/377)
169 - " بَابٌ إِذَا كَانَ الثَوْبُ ضَيِّقَاً "
205 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في بَعْضِ أسْفَارِهِ، فَجِئْتُ لَيْلَةً لِبَعْضِ أَمْرِي فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، وَعَلَيَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فاشْتَمَلْتُ بِهِ، وصَلَّيْتُ إلى جَانِبِهِ، فلمَّا انْصَرفَ قَالَ: " مَا السُّرَى يَا جَابِرُ، فَأخْبَرْتُهُ بِحَاجَتِي، فلمَّا فَرَغْتُ قَالَ: مَا هَذَا الاشْتَمَالُ الذِي رَأيتُ؟ قَلتُ: كَانَ ثَوْبٌ (1) ، قَالَ: فَإِنْ كَان وَاسِعاً فَالْتَحِفْ بِهِ، وِإنْ كَانَ ضَيِّقَاً فاتَّزِرْ بِهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
البدن، قال: ولنا ما روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا يصّلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء " رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة وغيرهم " قال ابن قدامة ": وهذا نهي يقتضي التحريم، ويقدم على القياس، ويشترط ذلك لصحة الصلاة في ظاهر المذهب، قال القاضي: وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه ليس بشرط. اهـ. والله أعلم.
ثانياًً: أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة مع ستر العاتق، وهو مذهب الجمهور، والله أعلم.
169 - " باب إذا كان الثوب ضيقاً "
205 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه " خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره "، وذلك في غزوة بواط بالقرب من المدينة " فجئت ليلة لبعض أمري، فوجدته يصلي " أي فوجدت النبي - صلى الله عليه وسلم - قائماً يصلي " وعليَّ ثوب واحد " أي وكنت لابساً ثوباً واحداً، وهو الإِزار " فاشتملت به " أي التحفت به ووضعْت طرفيه على عاتقي "فصليت إلى
__________
(1) يجوز فيه الرفع على أنه فاعل لكان التامة، والنصب على أنه خبر كان الناقصة.(1/378)
206 - عَنْ سَهْلِ بْنِ سعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
كَانَ رِجَال يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَاقِدِي أزرِهِمْ على أعناقِهِمْ كَهَيْئَةِ الصبيَانِ وَيُقَالُ للنِّسَاءِ: لا تَرْفَعْنَ رُؤوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسَاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جانبه، فلما انصرف قال: ما السُرّى" أي ما هو السبب الذي دعاك إلى السير في هذه الساعة المتأخرة من الليل " فأخبرته بحاجتي، فلما فرغت، قال: ما هذا الاشتمال " استفهام إنكاري معناه أنه - صلى الله عليه وسلم - أنكر عليه التحافه بالثوب، لأنه ضَيَق وقال له: " فإن كان واسعاً فالتحف به، وإن كان ضيقاً فاتزر به " لأنه إذا التحف بالثوب الضيق يخشى أن تنكشف عورته.
الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود أيضاً. والمطابقة: في قوله: " وإن كان ضيقاً فاتزر به ".
206 - ترجمة الراوي: وهو سهل بن سعد الساعدي الخزرجي الأنصاري، صحابي ابن صحابي، له رضي الله عنه ولأبيه صحبة، وهو من المعمرين المشهورين عاش حتى أدرك الحجاج، وامتحن معه، وتوفي سنة ثمان وثمانين من الهجرة، وقد بلغ مائة سنة، وكان آخر من مات بالمدينة من الصحابة، قال أبو حازم: سمعت سهل بن سعد يقول: لو مت لم تسمعوا أحداً يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي لم تسمعوا محدثاً يرفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا، أو قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، أو رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل كذا من أهل المدينة.
معنى الحديث: يقول سهل رضي الله عنه: " كان رجال يصلون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عاقدي أزُرِهم " أي كان بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بلغوا من الفقر والفاقة مبلغاً عظيماً حتى إنهم لا يملكون غير ثوب واحد يأتزرون به، ويرتدونه في الصلاة، فيربطونه حول أعناقهم ليكون رداءً وإزاراً لهم وثوباً(1/379)
170 - " بَابُ الصَّلَاَةِ في الجُبَّةِ الشامِيَّةِ "
207 - عنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كُنْتُ مَعَ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، فقالَ: يَا مغُيرَةُ! خُذِ الإدَاوَةَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شاملا يستر جسمهم. " كهيئة الصبيان " أي كما كان يفعل الصبيان الصغار في ذلك الزمن " ويقال للنساء لا ترفعن رؤوسكن حى يستوي الرجال جلوساً " أي ويؤمر النساء أن لا يرفعْن رؤوسهن من السجود حتى ينهض الرجال من السجود، ويعتدلوا في جلوسهم، لئلا يرين عورات الرجال إذا رفعن رؤسهن من السجود قبلهم، كما جاء مصرحاً به في رواية أحمد حيث قال: " كراهية أن يرين عورات الرجال ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " عاقدي أزرهم ".
ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: جواز الصلاة في الثوب الواحد، فإنْ كان واسعاً اشتمل به، أي لفَّ جسمه به، وخالف بين طرفيه، فوضع طرفه الأيمن على عاتقه الأيسر، وطرفه الأيسر على عاتقه الأيمن، ثم عقد طرفي الثوب على صدره. وإن كان ضيقاً اتزر به، ولا يلتحف به، لئلا تظهر عورته عند الركوع أو السجود كما قال - صلى الله عليه وسلم - " وإن كان ضيقاً اتزر به ".
ثانياً: ما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفقر والفاقة، وخشونة العِيش حتى أنهم لا يجدون إلاّ ثوباً واحداً لا يكاد يستر عوراتهم.
170 - " باب الصلاة في الجبة الشامية "
207 - معنى الحديث: يقول المغيرة رضي الله عنه " كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر " أي كنت مسافراً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة من غزواته، وهي غزوة تبوك، وكانت في السنة التاسعة من الهجرة " قال: يا مغيرة خذ الإداوة " بكسر الهمزة، وفتح الدال، وهي وعاء صغير يوضع فيه الماء للوضوء(1/380)
فأخَذْتهَا، فانْطَلَقَ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى تَوَارَى عَنِّي فَقَضَى حَاجَتَه، وَعَلَيْهِ جبَّة شَامِيَّة، فَذَهَبَ لِيُخْرِجَ يَدَة مِنْ كُمِّهَا فضَاقَتْ، فأخْرَجَ يَدَة مِنْ أسْفَلِهَا فَصَبَبْت عَلَيْهِ، فَتَوَضَّأ وضوءَة لِلصَّلَاةِ، وَمَسَحَ عَلَى خفَّيْهِ (1) ثمَّ صَلَّى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ونحوه " فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توارى عنِّي " أي فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيراً طويلاً وقطع مسافة كبيرة، حتى ابتعد عني واختفى عن عيني، فأصبحتُ لا أراه، " فقضى حاجته " هناك بعيداً عني، " وعليه جبة شامية " أي وكانت عليه جبة منسوجة في بلاد الشام، وهي من تلك الثياب التي يلبسها النصارى، لأنّ بلاد الشام حينذاك كانت تحت حكم الروم، وأهلها من النصارى " فذهب ليخرج يده من كمِّها فضاقت " أي فحاول النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخرج يده من كُمِّها فلم يستطع ذلك لشدة ضيقه " فصببت عليه فتوضأ وضوءه للصلاة " أي فتوضأ وضوءه الشرعي الذي يفعله للصلاة.
الحديث: أخرجه الشيخان وابن ماجة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز الصلاة في ملابس الكفار سواء كانت جبة أو ثوباً أو عباءة أو سروالاً أو سواه ما لم يتحقق من نجاستها، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى في الجبة الشامية التي كانت في ذلك العصر من لباس النصارى، فدل ذلك على جواز الصلاة في ملابسهم، والمسألة خلافية بين الفقهاء، فروي عن مالك أنه لا يصلى في ثيابهم، وأنه إن صلى فيها أعاد في الوقت، وروي عن أبي حنيفة كراهية الصلاة فيها ما لم تغسل وأجاز غيرهم الصلاة فيها كما أفاده الحافظ. ثانياً: مشروعية التستر عند قضاء الحاجة، والابتعاد عن الناس، وفي الحديث عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) أي اكتفى بمسح خفيه عن غسل رجليه.(1/381)
171 - " بَابُ كَراهِيَةِ التَّعَرِّي في الصَّلَاةِ وَغَيرها "
208 - عنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَنْقُلُ مَعَهُمْ الْحِجَارَةَ للكَعْبَةِ وعَلَيْهِ إِزَارَهُ فقالَ لَهُ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ: يا ابْنَ أخِي لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ فَجَعَلْتَ على مَنْكِبَيْكَ دُونَ الْحِجَارَةِ (1) ، قَالَ فَحَلَّهُ فَجَعَلَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فسَقَطَ مَغْشِياً عَلَيْهِ، فمَا رُؤِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْيَاناً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كان إذا ذهب المذهب أبعد" أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة والدارمي والترمذي، وقال: حسن صحيح (2) ومعناه أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب لقضاء حاجته سار إلى مكان بعيد عن الناس، لئلا يروه فيستحب الابتعاد عن الناس عند قضاء الحاجة لئلا يروه ولا يسمعوا له صوتاً، ولا يجدوا رائحة. والمطابقة: في قوله: " وعليه جبة شامية ".
171 - " باب كراهية التعرّي في الصلاة وغيرها "
208 - معنى الحديث: يحدثنا جابر رضي الله عنه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينقل معهم الحجارة للكعبة " أي يحمل الحجارة مع أعمامه أثناء بناء الكعبة عندما عمرتها قريش قبل الإِسلام وعمره إذ ذاك خمس وثلاثون عاماً كما نص عليه ابن اسحاق " فقال له العباس عمه " خوفاً عليه من الحجارة أن تؤذي منكبيه: " لو حللت إزارك فجعلت على منكبيك " أي ليتك تفك الإِزار من وسطك، وتضعه على منكبيك وتعقد طرفيه على صدرك ملتحفاً به ليحول بين الحجارة وبين منكبيك "قال فحله فجعله على منكبيه فسقط
__________
(1) أي حتى يكون حائلاً بين جسمك وبين الحجارة.
(2) " عون المعبود: شرح أبي داود " ج 1.(1/382)
172 - " بَابُ مَا يَسْتُر مِنَ الْعَوْرَةِ "
209 - عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَنَّهُ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عنِ اشْتِمَالِ الصَّمَاءِ وأن يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ علَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيءٌ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مغشياً عليه" أي فسقط الإِزار، وظهر شيء من عورته - صلى الله عليه وسلم - دون قصد منه، فاشتد عليه الأمر حتى أغمي عليه من شدة خجله وحيائه وخر مغشياً عليه، وعند ذلك نزل الملك فشدّه عليه كما في رواية أخرى في غير الصحيحين.
الحديث: أخرجه الشيخان.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: وجوب ستر العورة، وتحريم التعرّي مطلقاً في الصلاة أو في غير الصلاة، كما ترجم له البخاري، وذلك لأن ستر العورة كما في " فيض الباري ": " أول فرائض الإيمان، وهو شرط لصحة الصلاة، وفرض عين في خارجها ". ثانياًً: عصمته - صلى الله عليه وسلم - عن القبائح قبل البعثة وبعدها، وأنه كان محمياً عن مساوىء الجاهلية قبلِ النبوة. والمطابقة: في قوله: فسقط مغشياً عليه فما رؤي بعد ذلك عرياناً.
172 - " باب ما يستر العورة "
209 - معنى الحديث: يقول أبو سعيد رضي الله عنه: " نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اشتمال الصماء " وهو كما يقول أهل اللغة أن يلف بالثوب جسده كله ويسد المنافذ جميعها فلا يبقى ما يخرج منه يده حتى يصير كالصخرة الصماء، أما الفقهاء فيقولون اشتمال الصماء هو أن يلتحف المرء بالثوب الضيق ثم يضع طرفيه على منكبيه فتنكشف عورته أثناء الصلاة، وهذا الفعل هو المنهي عنه في الحديث. أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن الالتحاف بالثوب الضيق(1/383)
210 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" نَهَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَن بَيْعَتَيْنِ عَنِ اللِّمَاس والنِّبَاذِ، وأنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ، وَأن يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ ".
211 - عَن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
بَعَثَنِي أبو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في تِلْكَ الْحَجَّةِ في مُؤَذِّنين يَوْمَ النَّحْرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في الصلاة، لما يؤدي إليه من انكشاف العورة أثناءها سيما في الركوع " وأن يَحْتَبي الرجل في ثوب واحد ليس على فَرجِهِ منه شيء " وكذلك نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يجلس الرجل على إليتيه وينصب ساقيه ملتحفاً بثوب واحد ضيق فتظهر عورته، أما إذا كان الثوب واسعاً فلا مانع من ذلك. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " نهي عن اشتمال الصماء " حيث إنه إنما نهى عن ذلك لئلا تنكشف العورة، فدل ذلك على وجوب ما يسترها من الثياب.
210 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة: " نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين عن اللماس " بكسر اللام، وهو بيع الثوب بمجرد لمسه دون النظر إليه، " والنباذ " أو المنابذة وهو بأن يقول: بعتك من هذه الثياب ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها، أمّا اشتمال الصماء والاحتباء، فقد تقدم شرحهما في الحديث السابق. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - إنما نهي عن اشتمال الصماء والحبوة لما فيهما من كشف العورة.
211 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة " التي كانت في السنة التاسعة من الهجرة، والتي أناب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها أبا بكر ليحج بالناس وعينه أميراً عليهم " في مؤذنين "(1/384)
نُؤَذِّنُ بِمِنىً: ألا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْركٌ، ولا يَطُوفُ بالْبَيْتِ عُرْيَان، ثمَّ أرْدَفَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - عَلياً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فأمرَهُ أنْ يؤَذِّنَ بِـ (بَرَاءَةٌ) ، قال أبو هُرَيرَةَ: فأذَّن مَعَنَا في أهْلِ مِنىً يَوْمَ النَّحْرِ لَا يَحُجُّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، ولا يطُوفُ بالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي أرسلني في مجموعة من الرجال نُنادي في الناس، ونعلن لهم الأحكام الجديدة التي شرعها الله لهم وهي " ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان، ثم أردف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علياً "، أي ثم أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً وألحقه بنا " فأمره أن يؤذن في الناس ببراءة " أي فأمره أن ينادي في الناس بالآيات المذكورة في أول سورة التوبة والتي تبدأ بقوله تعالى: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وتتضمن إلغاء المعاهدات المطلقة مع الكفار، وعدم تجديد المعاهدات المؤقتة، وأن لا يحج بعد العام مشرك إلى غير ذلك من الأحكام " فأذن معنا عليّ في أهل مني يوم النحر ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان " كما كانت قريش تفرض على غيرها من القبائل. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
والمطابقة: في قوله: " ولا يطوف بالبيت عُرْيان ".
ويستفاد من أحاديث الباب ما يأتي: أولاً: أن ستر العورة فرض مطلقاً وشرط لصحة الصلاة والطواف، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن اشتمال الصماء لما فيه من كشف العورة، وكذلك نهي عن الحبوة للسبب نفسه، والنهي عن الشيء أمرٌ بضده، ولأنه نهى عن التعري في الطواف، وهذا يدل على أن ستر العورة شرط لصحة الطواف. ثانياً: تحريم الحبوة واشتمال الصماء في الثوب الضيق إذا أدّى ذلك إلى كشف العورة سواء كان داخل الصلاة أو خارجها كما أفاده العيني. ثالثاً: النهي عن كل عمل يؤدّي إلى كشف العورة قياساً على اشتمال الصماء والحبوة.(1/385)
173 - " بَابُ مَا يُذْكَرُ في الْفَخِذِ "
212 - عنْ أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - غَزَا خَيْبَرَ، فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا صَلَاةَ الغداة بغلسٍ، فركِبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَرَكِبَ أبو طَلْحَةَ وأنا رَدِيفُ أبي طلحة، فأجرى نَبيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في زُقَاق خَيْبَرَ، وِإنَّ ركْبَتَي لَتَمَسُّ فَخِذَ نبِّي الله - صلى الله عليه وسلم - ثم حَسَر الإِزارَ عَنْ فَخِذِهِ حَتَّى إنِّي أنظرٌ إلَى بَيَاضِ فَخِذِ نبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فلما دَخَلَ الْقَرْيَةَ قَالَ: "اللهُ أكبَرُ، خَرُبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إذا نزلنا بساحة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
173 - " باب ما يذكر في الفخذ "
212 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزا خيبر " أي غزا يهود خيبر في بلادهم، وهي على بعد ستة مراحل شمالي المدينة " فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس " أي فصلينا صلاة الصبح في ضواحيها عند أول طلوع الفجر، ولا زالت ظلمة آخر الليل موجودة (1) " فأجرى نبي الله في زقاق خيبر " أي فأسرع النبي - صلى الله عليه وسلم - بدابته في شوارع خيبر " ثم حسر الإِزار عن فخذه " أي رفع الإِزار عن فخذه، ليتمكن من الإِسراع بدابته، فانكشف فخذه " فلما دخل القرية قال: الله أكبر، خربت خيبر " أي فلما دخل مدينة خيبر، أخبر عن خرابها، ولم يرد بذلك خراب عمرانها. فإن الإِسلام ما زاد خيبر إلاّ عمراناً وازدهاراً، ولكن المراد بخرابها القضاء على الكيان اليهودي، وسقوط دولة اليهود، وتقويض نفوذهم فيها " إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " أي إنّا إذا أغرنا على قوم من أعدائنا ونزلنا بساحتهم صباحاً فما أسوأ صباحهم، وما أشد هزيمتهم
__________
(1) قال الأزهري: الغلس بقايا ظلمة آخر الليل.(1/386)
قَوْم فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرين" قالَهَا ثَلاثاً، قَالَ: وَخَرَجَ الْقَوْمُ إلى أعْمَالِهِمْ، فَقَالُوا: مُحَمَّدٌ والْخَمِيسُ، يَعْنِي الْجِيْشَ قَالَ: فأصَبْنَاها عَنْوَةً فَجُمِعَ السَّبْيُ فجاء دِحْيَةُ، فَقَالَ: يَا نَبيَّ اللهِ أعْطِنِي جَارِيةً مِنَ السَّبْي، قَالَ: اذْهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً، فأَخذ صفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ، فجَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يا نَبيَّ اللهِ أعْطَيْتَ دِحْيَةَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ سَيِّدَةَ قُرَيْظَةَ والنَّضيرِ، ْلَا تَصْلُحْ إلَّا لَكَ، قَالَ: ادْعُوهُ فجاءَ بِهَا، فَلَمَّا نَظرَ إليها النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: خُذْ جَارِيَةً من السبي غيْرَهَا، قَالَ: فَأَعْتَقَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَزَوَّجَهَا، فَقَالَ لَهُ ثَابِت: يا أَبا حَمْزَة، ما أصْدَقهَا؟ قَالَ: نَفْسها، أعتقها وتَزَوَجَها، حَتَّى إذَا كَانَ بِالطرَّيقِ جَهَّزَتْهَا لَهُ أمُّ سُلَيْمٍ، فأهْدَتْهَا لَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فأصْبَحَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَرُوساً، فَقَالَ: مَنْ كَان عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيَجِيءْ بِهِ، وَبَسطَ نِطْعاً، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالتَّمْرِ وجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بالسَّمْنِ، قَالَ: وَأَحْسِبُهُ قَدْ ذَكَرَ السَّويقَ، قَالَ: فَحَاسُوا حَيْساً، فَكَانَتْ وَليمةَ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" فقالوا: هذا محمد والخميس " أي قال اليهود: هذا محمد، وهذا جيشه العظيم " فأصبناها عنوة " (1) أي فاستولينا على بلادهم بالقوة والحرب " فجمع السبي " أي فجمع الجواري السبايا، وكان من بينهم صفية بنت حيي " فجاء دحية فقال: أعطني جارية: فقال: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية بنت حيي " عظيم اليهود من بني النضير " قال: ادعوه، فجاء بها، فلما نظر إليها " وعرف أنَّها سيدة قومها شرفاً وحسباً ونسباً " قال: خذ جارية من السبي غيرها " لأنه إنَّما أذن له في جارية من حشو السبي،
__________
(1) بفتح العين وسكون النون.(1/387)
فلما أخذ أفضلهن استرجعها منه، لئلا يتميز بها عن غيره مع أن فيهم من هو أفضل منه " فأعتقها النبي - صلى الله عليه وسلم - وتزوجها " بدون مهر " وجعل صداقها عتقها " أي وجعل العتق صداقاً لها " فأصبح النبي عروساً " أي فأعرس عليها في الطريق، فلما كانت صبيحة ليلة العرس " قال: من كان عنده شيء " من الطعام " فليجىء به، وبسط نطعاً " أي بساطاً من الجلد يوضع عليه الطعام يشبه السفرة، يجوز فيه فتح النون وكسرها " قال: فحاسوا حيساً " أي فصنعوا من التمر والسمن والسويق طعاماً وضعوه على السفرة، وأكلوه " فكانت وليمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي فكان الحيس هو طعام عرسه - صلى الله عليه وسلم -.
ويستفاد من الحديث: أولاً: استدل به بعض أهل العلم على أن الفخذ ليس بعورة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث الباب قد حسر عن فخذه يوم خيبر، ورآه أنس، ولو كان عورة لما فعل ذلك، وبهذا قال داود الظاهري وابن أبي ذؤيب وأحمد في رواية وابن حزم، واختلفت الرواية عن مالك، وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الفخذ عورة، لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " الفخذ عورة " قالوا: وما وقع لى - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر كان اضطراراً بسبب السرعة وشدة الزحام، ولم يكن مقصوداً بدليل ما جاء في رواية مسلم حيث قال: " فانحسر الإزار عن فخذه " أي أن الإِزار هو الذي انكشف بنفسه، ولم يكشفه - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: وهو اللائق بحاله صلوات الله وسلامه عليه. ثانياً: مشروعية الذكر والتكبير عند لقاء العدو، وإلقاء كلمات أو اقتباس آيات تنزل الرعب في قلب العدو، كما قال - صلى الله عليه وسلم - "الله أكبر، خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذَرين ". ثالثاً: استحباب ْعتق الرجل أمته، وتزوجه بها، وهو من الثلاثة الذين لهم أجران، وأن له أن يجعل عتقها صداقها، وبه قال قتادة وأحمد وابن المسيب، وقال الجمهور: ما جاء في الحديث خصوصية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس لغيره أن يفعله.
الحديث: أخرجه مسلم، وأبو داود والنسائي أيضاً. ومطابقته للترجمة(1/388)
بسم الله الرحمن الرحيم
174 - " بَابٌ في كَمْ تُصَلِّي الْمَرأة فِي الثياب "
213 - عن عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالَتْ:
لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الفَجْرَ فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ من الْمُؤْمِنَاتِ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَرْجِعْنَ إلَى بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أحَدٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في قوله: " ثم حسر الإِزار عن فخذه، حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ".
174 - " باب في كم تصلي المرأة في الثياب "
213 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الفجر فتشهد معه نساء من المؤمنات " أي فيحضر معه بعض النساء المؤمنات صلاة الفجر " متلفعات بمروطهن " يعنى متحجبات متسترات بثيابهن الصوفية أو القطنية، فالمروط جمع مِرط بكسر الميم، وهو كساء من صوف أو قطن، والتلفع كما قال ابن حبيب في شرح الموطأ: هو أن تلقي المرأة الثوب على رأسها، ثم تلتحفِ به: فلا يكون إلاّ بتغطية الرأس. اهـ. ثم قالت: " ما يعرفهن أحد " وفي رواية مالك وأبي داود " ما يعرفن من الغلس " وهو ظلمة آخر الليل.
وخلاصة معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي صلاة الصبح عند أول طلوع اليفجر فيحضر معه هذه الصلاة في المسجد بعض النسوة المؤمنات متسترات بثيابهن، فإذا خرجن من المسجد لا يميزن من الرجال، أو بعبارة أخرى لا(1/389)
175 - " بَابٌ إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ لَهُ أعْلَامٌ وَنظَرَ إلى عَلَمِها "
214 - وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى في خَمِيصَةٍ لَهَا أعْلَامٌ، فنَظرَ إلَى أعْلَامِهَا نَظرةً، فلَمَّا انصَرَفَ قالَ: " اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هذِهِ إلى أبِي جَهْمٍ، وأئْتُونِي بأنْبِجَانِيةِ (1) أبِي جَهْمٍ، فَإِنَّهَا ألهَتْنِي آنِفَاً عَنْ صَلَاتِي ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يعرف النساء من الرجال بسبب الظلمة الموجودة في الجو المتبقية من آخر الليل.
الحديث: أخرجه الستة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث: أولاً: على جواز صلاة المرأة وصحتها في الثوب الواحد فقط إذا كان ساتراً لها، وهو ما ترجم له البخاري. ثانياً: استدل به الجمهور على أن أداء صلاة الصبح في أول وقتها أفضل لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها في ظلمة الغلس، " وهي الظلمة المتبقية من آخر الليل " وقال أبو حنيفة: الإِسفار بصلاة الصبح أفضل، وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه مفصلاً. والمطابقة: في قولها: " متلفعات بمروطهن ".
175 - " باب إذا صلى في ثوب له أعلام ونظر إلى علمها "
214 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها في هذا
الحديث: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى في خميصة لها أعلام " أي صلى في كساء مزخرف بخطوط جميلة، تروق النظر، وتستهوي البصر، وتشغل القلب والفكر، " فنظر إلى أعلامها نظرة فلما انصرف قال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم " أي فلما فرغ من صلاته أمر بإعادتها إلى أبي جهم، ثم بين علة استنكاره - صلى الله عليه وسلم - لها، وكراهيته لاستعمالها، فقال: " فإنها ألهتني آنفاً "
__________
(1) وهي كساء غليظ من صوف.(1/390)
176 - " بَابٌ إن صَلَّى في ثَوْبٍ مُصَلَّبٍ أو تصَاوِيرُ هَلْ تفْسُدُ صَلَاتُهُ وَمَا يُنْهي عَن ذَلك "
215 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَ قِرَامٌ لعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتهَا، فَقَال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " أمِيطِي عَنَّا قرامَكِ هَذَا، فَإِنَّهُ لا تَزَال تَصَاوِيرُهُ تعرِضُ لي ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي فإنما كرهتها لأنها كادت أن تشغلني عن الصلاة لا أنهَا شغلته بالفعل، لأنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم من ذلك. أو أن معناه: فإني خفت أن تشغلني بها أثناء صلاتي. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يكره كل ما يشغل، عن الصلاة من الألوان الجميلة والنقوش المزخرفة في الثوب أو البساط أو الجدار لأنّها تحول دون الخشوع في الصلاة. ثانياً: مشروعية التهادي بين الاخوان. ثالثاً: صحة الصلاة في ثوب، أو على بساط مزخرف بنقوش جميلة مع الكراهية لأنه - صلى الله عليه وسلم - أتم صلاته في الخميصة، ولم يقَطعها. والمطابقة: في قولها: " صلى في خميصة لها أعلام ".
176 - " باب إذا صلى ثوب مصلّب أو تصاوير هل تفسد صلاته؟ وما ينهي عن ذلك "
آي باب يذكر فيه حكم الصلاة في الثوب المصور بصلبان أو صور أخرى، هل يجوز ذلك أم لا؟ والحديث لم يذكر فيه الصلبان، وإنما ألحقها بالصور، لأن كلّاً منها عُبد من دون الله.
215 - معنى الحديث: يقول أنس رضيْ الله عنه: " كان قرام لعائشة " أي ستار رقيق منقوشة عليه بعض الصور " سترت به جانب بيتها "(1/391)
أي خزانة صغيرة لها " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أميطي عنا قرامك " أي فأمرها - صلى الله عليه وسلم - بإزالته وعلل ذلك بقوله: " فإنها لا تزال تصاويره تعرض لي " أي تظهر أمام عيني في الصلاة فأخاف أن تلهيني.
ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: النهي عن الصلاة في الغرفة التي فيها تصاوير سواء كانت في ستار أو بساط أو تحف زخرفية لقوله - صلى الله عليه وسلم -: أميطي عنا قرامك هذا " لأنها تحول دون حضور القلب، وتشغل عن الخشوع في الصلاة قال شيخ الإِسلام ابن تيميّة في " اختياراته الفقهية ": " والمنصوص عن أحمد والمذهب الذي عليه عامة الأصحاب كراهة دخول الكنيسة المصورة، والصلاة فيها، وفي كل مكان فيه تصاوير، أشد كراهة.
هذا هو الصواب الذي لا ريب فيه. اهـ (1) . وأما حكم الصلاة فيها، فإنّها تصح مع الكراهة، لكونه - صلى الله عليه وسلم - لم يعد صلاته. قال ابن بطال في قوله - صلى الله عليه وسلم - " أميطي عنا قرامك هذا ": وهذا كله على الكراهة فإن من صلى فيه فصلاته مجزئة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعد الصلاة، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر أنها عرضت له، ولم يقل إنها قطعتها، ومن صلى بذلك أو نظر إليه فصلاته مجزئة عند العلماء. اهـ.
كما نقله عنه العيني في شرح البخاري ج 4. ثانياً: النهي عن تصوير الصور الحيوانية، واتخاذها وتزيين البيوت بها، قال الإِمام النووي في شرح مسلم: " قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهم: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم وهو من الكبائر، لأنّه متوعَّدٌ عليه بالوعيد الشديد سواء صنعه بما يمتهن أو بغيره، وسواء كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها، وأما تصوير صورة الشجر ورحال الإِبل وغير ذلك مما ليس صورة حيوان فليس بحرام. هذا حكم نفس التصوير، وأما اتخاذ الرجل صورة حيوان فإن كان معلقاً في حائط أو ملبوساً أو عمامة أو نحو ذلك مما لا يعد ممتهناً
__________
(1) " كتاب الاختيارات الفقهية ".(1/392)
فهو حرام، وإن كان في بساط يداس ومخدة ووسعادة ونحوها مما يمتهن فليس بحرام. اهـ. وأما الشافعية فقد حرموا الصور مطلقاً كما نقله عنهم العيني حيث قال: " وأما الشافعيّة فإنهم كرهوا الصور مطلقاً سواء كانت على الثياب أو على الفرش والبسط ونحوها، واحتجوا بعموم الأحاديث الواردة في النهي عن ذلك، ولم يفرقوا في ذلك والله تعالى أعلم. وأما حديث بسر (1) بن سعيد، عن زيد بن خالد، عن أبي طلحة أنه قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة " ثم قال بسر: ثم اشتكى زيد فعدناه، فإذا على بابه ستر فيه صورة، فقلت لعبيد الله الخولاني، ربيب ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألم يخبرنا زيد عن الصور يَوْمَ الأوَّل فقال عبيد الله: ألم تسمعه حين قال إلاّ رقماً في ثوب. الذي أخرجه البخاري وأبو داود واستدل به بعض أهل العلم على جواز الصور غير المجسمة فقد فسره الإِمام النووي بالصور الطبيعية والنباتية. حيث قال: " يجمع بين الأحاديث بأن المراد باستثناء الرقم في الثوب ما كانت الصور فيه من غير ذوات الأرواح، كصورة الشجرة، وقال: ويحتمل أن يكون ذلك قبل النهي كما يدل عليه حديث أبي هريرة قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أتاني جبريل فقال لي: أتيتك البارحة، فلم يمنعني أن أكونَ دخلت إلاّ أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فَمُرْ برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهذه الشجرة، ومر بالستر فليقطع، فليجعل منه وسادتين منبوذتين توطآن، وتخرج الكلب " ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخ أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، فإن الله قد أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقطع الستار الذي فيه الصور الحيوانية المنقوشة وجعله وسادتين. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. مطابقة الحديث: في كونه بمنزلة الجواب للترجمة.
__________
(1) بضم الباء الموحدة وسكون السين.(1/393)
177 - " بَابُ مَنْ صَلَّى في فَرُّوج حَرِير ثُمَّ نزَعَهُ "
216 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أُهْدِيَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَرُّوجُ حَرِيرٍ فَلَبِسَهُ فَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَنَزَعَهُ نَزْعَاً شَدِيداً كالْكَارِهِ لَهُ، وَقَالَ: " لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلمُتَّقِين ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
177 - " باب من صلى في فرّوج حرير ثم نزعه "
216 - راوي الحديث: هو عقبة بن عامر صحابي جليل كان قارئاً فصيحاً، وشاعراً بليغاً، وكاتباً مجيداً، وكان أحد الرجال الذين جمعوا القرآن في المصحف، ويختلف مصحفه عن مصحف عثمان رضي الله عنه، شهد صفين مع معاوية وأمَّره على مصر، توفي في خلافة معاوية رضي الله عنه.
معنى الحديث: يقول عقبة: " أهدي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فروج حرير " أي أَهْدَى إليه - صلى الله عليه وسلم - أكيدر أمير دومة الجندل قباءً من حرير مشقوقاً من الخلف " فلبسه فصلى فيه " قبل أن ينهي عن لبس الحرير، كما في حديث جابر " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في قباء ديباج، ثم نزعه وقال: نهاني عنه جبريل " وهذا هو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - " فصلى فيه ثم انصرف " أي سلم من صلاته " فنزعه نزعاً شديداً " أي فخلعه بشدة، لأنه نزل عليه الوحي بتحريم الحرير " فقال: لا ينبغي هذا للمتقين " أي لا ينبغي لبس الحرير لعباد الله الطائعين لأنه محرم، فلا يلبسه إلاّ العصاة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: تحريم لبس الحرير على الرجال إلاّ في حالات مرضية استثنائية كحالة الجرب مثلاً، وهو مذهب الجمهور عملاً بهذا الحديث، وأجازه الظاهرية، والحديث حجة عليهم. ثانياً: تحريم الصلاة في الثوب الحرير، فمن فعل ذلك صحت صلاته مع الإِثم والعصيان، وهو مذهب(1/394)
178 - " بَابُ الصَّلَاةِ في الثَوْبِ الأَحْمَرِ "
217 - عَنْ أبي جُحَيْفَةَ قالَ:
رَأيتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - في قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أدَمٍ، ورَايْتُ بِلَالاً أخذَ وَضُوءَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ورأَيْتُ النَّاسَ يَبْتَدِرُونَ ذَلِكَ الْوَضُوءَ، فمنْ أَصَابَ منْهُ شَيئاً تَمَسَّحَ بِهِ، ومنْ لمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئاً أخذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صاحِبِهِ، ثُمَّ رأيتُ بِلَالاً أخذَ عَنْزَةً فرَكَزَهَا، وَخَرَج النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مُشَمِّرَاً، صَلَّى إلى العَنَزَةِ بالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ، ورأيتُ الناسَ والدَّوَابَّ يَمرُّون بينَ يَدَيْ الَْعَنَزَةِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجمهور، قال خليل: " وعصى وصحت إن لبس حريراً ". وروى ابن القاسم عن مالك أنه يعيد في الوقت وقال أشهب: لا إعادة عليه. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. مطابقة الحديث للترجمة: في كونه بمنزلة الجواب عليها.
178 - " باب الصلاة في الثوب الأحمر "
217 - معنى الحديث: يقول أبو جحيفة رضي الله عنه: " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبة حمراء من أدم " أي في خيمة من الجلد حمراء اللون، وكان ذلك بالأبطح بين منى والمعلا " ورأيت بلالاً أخذ وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي بقية الماء الذي توضأ منه النبي - صلى الله عليه وسلم - "ورأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء" (1) أي يتسابقون إلى بقية الماء الذي توضأ منه - صلى الله عليه وسلم - ليتمسحوا به كما في رواية: " فأخرج فضل وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فابتدره الناس، " ومن لم يصب منه شيئاً أخذ من بلل يد صاحبه " أي أخذ من بلل يد غيره " ثم رأيت بلالاً أخذ عَنزة " أي عصا صغيرة " فركزها " أمامه
__________
(1) وهو الماء الذي يتوضأ به.(1/395)
179 - " بَابُ الصَّلَاةِ في السُّطُوحِ والمِنْبَرِ والخشَبِ "
218 - عنْ سَهْلِ بْنِ سعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
وقد سُئِلَ مِنْ أيِّ شَيْءٍ المِنْبَرُ؟ فقَال: مَا بَقِىَ بالنَّاس أعْلَمُ مِنِّي، هُوَ مِنْ أثْلِ الْغَابَةِ، عَمِلَهُ فُلَانٌ مولى فُلَانَةَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقامَ عَلَيْهِ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَينَ عُمِلَ وَوُضِعَ، فاستقْبَلَ القِبْلَةَ، كبَّرَ وَقَامَ الناسُ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ وَرَكَعَ، وَرَكَعَ النَّاسُ خَلْفَهُ، ثم رَفَعَ رَأسَهُ، ثمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى فسَجَدَ علَى الْأَرْضِ، ثم عادَ إلى المِنْبَرِ، ثُم قَرَأَ، ثمَّ رَكَعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى حتى سَجَدَ بِالأرْضِ، فَهَذَا شَأنُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- صلى الله عليه وسلم - "وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حلة حمراء " أي في إزار ورداء أحمرين " صلى إلى العنزة " صلاة الظهر " ركعتين " وصلاة العصر ركعتين كما في مسلم " يمرون بين يدي العنزة " أي يمر الناس والدواب أمام العنزة. الحديث: أخرجه الستة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز لبس الثوب الأحمر والثياب الملونة عامة، وهو مذهب أكثر أهل العلم، وكره الحنفية الثوب الأحمر الخالص.
ثانياً: طهورية الماء المستعمل، وكونه طاهراً مطهراً. والمطابقة: في قوله: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حلة حمراء.
179 - " باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب "
218 - معنى الحديث: أن سهل بن سعد رضي الله عنهما " سئل من أي شيء المنبر فقال: ما بقي بالناس أعلم مني " أي ما بقي من أهل المدينة مَن هو أعْلمْ بأخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآثاره " من منبر وغيره " مني لأنه آخر من مات بها من الصحابة " هو من أثْلِ الغابة " أي هو مصنوع(1/396)
180 - " بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الْحَصِيرِ "
219 - عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى طَعَامٍ صَنَعَتْهُ لَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ ثم قَالَ: " قُومُوا فَلأصَلِّي لَكُمْ " قَالَ أنسٌ: فَقُمْتُ إلى حَصِيرٍ لَنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
منا طرفاء الغابة كما في رواية أبي داود " عمله فلان مولى فلانة " أي صنعه ميمون مولى فكيهة الأنصارية زوجة سعد بن عبادة " وقام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين عمل " أي واتخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أوّل الأمر محراباً، فوقف يصلّي فيه " فاستقبل القبلة وكبَّر، وقام الناس خلفه، فقرأ وركع، وركع الناس خلفه، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقرى " أي فلما أراد أن يسجد رجع إلى الوراء ليتمكن من السجود " فسجد على الأرض " قال الخطابي: وكان المنبر ثلاث مراقي، فلعله قام على الثانية منها، فليس في نزوله وصعوده إلّا خطوتان.
ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: جواز ارتفاع الإِمام عن المأمومين، وهو مذهب الجمهور مع الكراهة، ومنع مالك من ذلك لحديث " إذا أم الرجل القوم فلا يقف في مكان أرفع من مكانهم " أخرجه أبو داود. ثانياً: أن العمل اليسير لا يبطل الصلاة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: وقام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
180 - " باب الصلاة على الحصير "
219 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أن جدته مُلَيكةً " أي أن جدته لأمّه (1) واسمها مليكَة "دعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى
__________
(1) لأن والدته أم سليم بنت مليكة كما أفاده ابن سعد.(1/397)
قد اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَْ، فَنضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَصَفَفْتُ أَنَا والْيَتيمُ وَرَاءَهُ والْعَجُوز مِنَ وَرَائِنَا، فَصَلَّى لنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
طعام صنعته له فأكل منه" أي فأجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوتها وأكل من طعامها " ثم قال قوموا فلأُصلي لكم (1) " أي قوموا لأصلي بكم من أجل أن أعلمكم كيفية الصلاة بطريقة عملية " قال أنس فقمت إلى حصير قد اسود من طول ما لبس " أي فذهبت إلى حصيرٍ بالٍ قديم، قد اسود لونه من كثرة استعماله " فنضحته بماء " أي رششته بقليل من الماء لتليينه وتهيئته للجلوس عليه، أو لِإزالة الشك في نجاسته كما أفاده ابن دقيق العيد " فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصففت أنا واليتيم " وهو ضميرة بن سعد الحميري وكان صبياً مميزاً " وراءه " أي ووقفت أنا وهذا الصبي اليتيم في صف واحد خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - " والعجوز من ورائِنَا " أي ووقفت العجوز وهي جدته مليكة وراءنا. الحديث: أخرجه الشيخان، وأبو داود والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: صحة الصلاة على الحصير، وهو مذهب الجمهور، ويقاس عليه جميع المنسوجات النباتية خلافاً لعمر بن عبد العزيز.
ثانياً: صحة الجماعة في النافلة (2) . ثالثاً: صحة صلاة المنفرد خلف الصف لقوله " والعجوز من ورائنا ". والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - صلى على الحصير.
***
__________
(1) قوله " فلأصلي " بكسر اللام وضم الهمزة وفتح الياء، وهي مضارع منصوب بأن المضمرة بعد لام التعليل وقوله: " لكم " أي من أجل تعليمكم.
(2) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما صلى بهم صلاة نافلة.(1/398)
181 - " بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الْفِرَاشِ "
220 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أنامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرِجْلايَ في قِبْلَتِهِ، فإذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، وإذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا، قَالَتْ: وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ.
221 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أَنَّ، رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي وهِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ عَلَى فِراش أهْلٍ اعْتِرَاضَ الْجَنَازَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
181 - " باب الصلاة على الفراش "
220 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها " كنت أنام بين يدي، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته " يعني كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة التهجد علِى فراش أهله، وكنت أنام أمامه أثناء صلاته وأنا متوسطة بينه وبين القبلة مادةَ قدمي في موضع سجوده - صلى الله عليه وسلم - في رواية أبي داود حيث قالت: " كنت بين النبي وبين القبلة، وأحسبها قالت: وأنا حائض "، " فإذا سجد غمزني " أي لمسني بيده الشريفة لينبهني إلى أنه يريد السجود " فَقَبَضْتُ رجلَّي " أي ضممتهُما ليتمكن من السجود " فإذا قام بسطتهما " أي مددتهما، وهذا الحديث دليل على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود.
221 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهي بينه وبين القبلة " أي كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي التهجد وهي(1/399)
182 - " بَابُ السُّجُودِ على الثَّوْبِ في شِدَّةِ الْحَرِّ "
222 - عن أنَسٍ رَضِيَ الله عَنْه قَالَ:
كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَيَضَع أحَدُنَا طَرَفَ الثَّوْبِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ في مَكَانِ السُّجُود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مضطجعة أمامه، متوسطة بينه وبين القبلة " على فراش أهله " أي على الفراش الذي ينام عليه مع زوجته " اعتراض الجنازة " أي وأنا معترضة بينه وبين القبلة اعتراض الجنازة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود.
ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: جواز الصلاة على الفراش دون كراهة سواء كان فراش نوم أو غيره، وهو مذهب الجمهور، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وكره جماعة الصلاة على غير الأرض منهم عروة وجابر وابن مسعود، والذي يبدو من كلام مالك: كراهية السجود على البساط.
ثانياً: استدل أبو حنيفة بقولها: " فإذا سجد غمزني " على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء. والمطابقة: في قولها: " كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لأن نومها كان على الفراش. وفي قولها: "كان يصلي وهي بينه وبين القبلة على فراش أهله ".
182 - " باب السجود على الثوب في شدة الحر "
222 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " كنا نصلّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الظهر في شدة الحر " فيضع أحدنا طرف الثوب " أي يجعل طرف ثوبه تحت جبهته ليكون فاصلاً بينها وبين الأرض " من شدة الحر " أي ليقي نفسه من شدة حرارة الأرض المتوقدة " في مكان السجود " حيث تلتهب الأرض من حرارة أشعة الشمس في فصل(1/400)
183 - " بَابُ الصَّلَاةِ في النِّعَالِ "
223 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ سُئِلَ أكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّى في نَعْلَيْهِ، قَالَ: نَعَمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصيف. الحديث: أخرجه الخمسة. والمطابقة: في قوله: " فيضع أحدنا طرف الثوب ".
ويستفاد منه: جواز السجود على الثوب متصلاً كان أو منفصلاً، وهو مذهب الجمهور خلافاً للشافعي حيث قال: يجوز السجود على المنفصل دون المتصل.
183 - " باب الصلاة في النعال "
223 - معنى الحديث: أن أنساً رضي الله عنه " سُئِل أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في نعليه " أي هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو لابس نعليه " قال: نعم " أي كان يصلي في نعليه. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
ويستفاد منه: جواز الصلاة في النعال، قال ابن دقيق العيد وغيره من أهل العلم: الصلاة في النعال من الرُّخَص لا من المستحبات، لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصلاة، وقال عياض: الصلاة في النعال رخصة مباحةٌ. والمطابقة: في قوله: " نعم " أي نعم كان يصلي في نعليه.
***(1/401)
184 - " بَابُ الصَّلاة في الخِفَاف "
224 - عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّهُ بَاكَ ثُمَّ تَوَضَّأ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثم قَامَ فَصَلَّى، فَسُئِلَ فقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَنَعَ مِثْلَ هَذَا، فَكَانَ يُعْجِبُهُمْ لأنَّ جَريراً كَانَ مِنْ آخِرِ مَنْ أسْلَمَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
184 - " باب الصلاة في الخفاف "
224 - معنى الحديث: أن جرير بن عبد الله رضي الله عنهما " بال ثم توضأ ومسح على خفيه " أي ولم يغسل رجليه، وإنما مسح على الخفين بدلاً من غسل الرجلين " ثم قام فصلّى " أي صلى في خفيه، ولم ينزعهما وهو موضع الترجمة " فسئل " أي فسأله بعضهم، لماذا مسح على خفيه وصلى فيهما " فقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع مثل هذا " أي رأيته - صلى الله عليه وسلم - اكتفى بمسح خفيه، وصلى فيهما فاقتديت به، وعملت بسنته " فكان يعجبهم " أي فكان يعجبهم حديث جرير هذا ويستدلون به على مشروعية مسح الخفين وعلى أن هذا الحكم باق لم ينسخ " لأن جرير كان مِنْ آخر من أسلم " من الصحابة، وفي رواية لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة التي فيها آية الوضوء، وفي هذا حجة ظاهرة، ودليل واضح على أنّ المسح على الخفين لم ينسخ بها وأنّه باق إلى قيام الساعة. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ.
والمطابقة: في قوله: " ومسح على خفيه ".
ويستفاد منه: مشروعية المسح على الخفين والصلاة فيهما، لقوله: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع مثل هذا.(1/402)
185
- " بَابٌ بيدِي ضَبْعَيْهِ (1) ، ويُجَافِي في السُّجُودِ "
185 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَإلِكٍ بنِ بحينة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا صَلَّى فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
185 - " باب ييدي ضَبْعَيْهِ ويجافي في السجود "
" يبدي ضَبْعيه " بفتح الضاد وتسكين الباء تثنية ضَبْع وهو العضد، أي يبعد عضديه عن جنبيه.
225 - ترجمة الراوي: وهو عبد الله بن مالك بن بحينة، بضم الباء وفتح الحاء، اسم لأمه، فإنه كان ينسب رضي الله عنه تارة إلى أبيه فيقال: ابن مالك، وتارة إلى أمه فيقال: ابن بحينة. كما في سنن أبي داود، أما البخاري هنا فقد نسبه إلى أبيه وأمّه معاً، وهو عبد الله رضي الله عنه بن مالك الأزدي، حليف بني المطلب، أسلم قديماً، وكان ناسكاً فاضلاً يصوم الدهر، توفي في إمارة مروان الأخيرة على المدينة رضي الله عنه.
معنى الحديث: يحدثنا عبد الله بن بحينة رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى " أي إذا سجد في صلاته " فرّج بين يديه " أي باعد بين يديه وجنبيه يقال: فَرَجَ يَفْرِجُ على وزن ضرب يضرب، وفرَّج يُفَرِّجُ على وزن فرَّح يُفَرِّحُ بتخفيف الراء وتشديدها " حتى يبدو بياض إبطيه " بكسر الهمزة، وسكون الباء تثنية إبْطٍ، قال في المصباح: والجمع آباط، مثل حمل وأحمال، أي كان يبعد يديه عن جنبيه حتى يظهر وينكشف بياض إبطيه. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
ويستفاد منه: أنه يستحب للرجل التفريج بين عضديه وجنبيه أثناء السجود وإبعادهما عن بعضهما، قال الشوكاني: حتى إن ظاهر بعض الأحاديث يدل
__________
(1) قال السفاقسي: الضبْع ما تحت الإبط، ومعنى يبدي ضبعيه أي لا يلصق عضديه بجنبيه.(1/403)
على وجوب هذه الهيئة، والحكمة فيها إعطاء كل عضو حقه من العبادة، ولأن ذلك أقرب إلى النشاط وأبعد عن الكسل. والمطابقة: في قوله: " حتى يبدو بياض ابطيه ".
***(1/404)
منار القاري
شرح مختصر
صحيح البخاري
تأليف حمزة محمد قاسم
راجعه الشيخ عبد القادر الأرناؤوط
عني بتصحيحه ونشره بشير محمد عيون
الجزء الثاني
مكتبة دار البيان
ص. ب 2854 - هاتف 229045
دمشق - الجمهورية العربية السورية
مكتبة المؤيد
ص. ب 10 - هاتف 7321851
الطائف - المملكة العربية السعودية(2/1)
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
بيروت
1410 هـ - 1990 م(2/2)
أبْوَابُ القِبْلَة
186- " بَابُ فضلِ اسْتقْبَالِ الْقِبْلَةِ "
226 - عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ:
قَال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ صَلى صلاَتنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلا تَخْفِرُوا اللهَ في ذِمَّتِهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
186 - " باب فضل استقبال القبلة "
226 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا " أي من صلى كما نصلي مستقَبلاً الكعبة المشرفة كما أفاده العيني " وأكل ذبيحتنا " أي ولم يتوقف عن الأكل من ذبائح المسلمين " فذلك المسلم " أي فإنه مسلم معصوم الدم والمال، يتمتع بكل الحقوق التي يتمتع بها المسلمون، وتطبق عليه أحكامهم الشرعية المتعلقة بالأحوال الشخصية وذلك لأن تلك الصفات الثلاثة التي هي الصلاة واستقبال القبلة وأكل ذبائح المسلمين لا تجتمع إلاّ في مسلم مقر بالتوحيد والنبوة، معترف بالرسالة المحمدية، ولهذا قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: " فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله " أى الذي له أمان الله وأمان رسوله، والذي يتمتع بحماية الإِسلام " فلا تخفروا الله في ذمته " أي فلا تنقضوا عهد الله فيه، ولا تخونوه بانتهاك حقوقه، فإن أي اعتداء عليه هو خيانة لله ورسوله، ونقض لعهدهما، وإهدار لكرامة الإسلام. الحديث: أخرجه النسائي أيضاً.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: فضل استقبال القبلة، وكونه من شعائر(2/3)
187- " بَابُ التَّوَجُّهِ نحْوَ الْقِبْلَةِ حَيْثُ كَانَ "
227 - عنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ، فإذَا أرادَ الفَرِيضَةً، نَزَلَ فاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الإسلام التي يميز بها بين الكافر والمسلم، وتتحقق به عصمة الدم والمال، وتكون لمن استقبلها ذمةُ اللهِ وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ثانياًً: أن استقبال القبلة شرط من شروط صحة الصلاة، لا يسقط إلاّ عند العجز عنه أو في صلاة النافلة في السفر، وذلك بإجماع المسلمين، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرن الصلاة باستقبالها فقال: " من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا " فدل ذلك على أن استقبال القبلة شرط في صحتها، وأن الصلاة من دونه باطلة، وقد أمر الله تعالى باستقبال القبلة في الصلاة حيث كان المصلي وفي أي موضع كان، فقال: (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) . ثالثاً: أن الأكل من ذبائح المسلمين من العلامات المميزة للمسلم عن غيره، وهذا هو الواقع، فإن اليهود مثلاً يمتنعون عن أكل ذبائحنا وكذلك بعض الطوائف الأخرى (1) . والمطابقة: في قوله: " واستقبل قبلتنا " حيث قرن استقبال القبلة بالصلاة.
187 - " باب التوجه إلى القبلة حيث كان "
227 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته " أي كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي أثناء سفره راكباً فوق دابته.
" حيث توجهت به " أي مستقبلاً الجهة التي تتوجه إليها راحلته، ولا ينزل إلى الأرض ويلتزم باستقبال القبلة إلاّ في صلاة الفريضة "فإذا أراد فريضة
__________
(1) كالمجوس مثلاً(2/4)
نزل فاستقبل القبلة" أي فإذا كانت الصلاة التي يريدها صلاة مكتوبة من الصلوات الخمس، فإنه ينزل عن دابته، ويستقبل القبلة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: وجوب استقبال القبلة في صلاة الفريضة، وأنه شرط من شروط صحة الصلاة، فمن صلّى إلى غير القبلة متعمداً بطلت صلاته في حضر أو سفر، فإن كان على الدابة وجب عليه النزول لصلاة الفريضة، واستقبال القبلة ولا يسقط عنه ذلك إلاّ لعذر شرعي من مطر أو مرض أو خوف عدوٍ أو لص. ودليل الوجوب قوله " فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة ". ثانياً: جواز النافلة في السفر على الدابة حيثما توجهت به، ولا خلاف في ذلك، إلاّ أن أحمد استحب أن يستقبل القبلة بتكبيرة الاحرام لما رواه أنس من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يتطوع في السفر استقبل بناقته القبلة، ثم صلى حيث وجَّهه ركابه (1) كما أن مالكاً خصَّ ذلك بسفر القصر خلافاً للجمهور. والمطابقة: في قوله: " فإذا أراد فريضة نزل فاستقبل القبلة ".
***
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني.(2/5)
أبْوَابُ المَسَاجِد
188 - "بَاب حَكِّ البُزَاقِ بالْيَدِ منَ المسْجِدِ "
228 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رأَى بُصَاقَاً فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ فَحَكَّهُ، ثُمَّ أقْبَلَ عَلَى النَّاس فقَالَ: " إِذَا كَانَ أحَدُكُم يُصَلِّي فَلا يَبْصُق قِبَلَ وَجْهِهِ، فإنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ إذَا صَلَّى ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
188 - "باب حكّ البزاق باليد من المسجد"
228 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما في هذا الحديث: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى بصاقاً في جدار القبلة " أي في الجدار القبلي من المسجد النبوي " فحكه " أي فحك ذلك البصاق حتى أزاله بيده عن جدار المسجد. " فقال: " أي وبعد أن أزال ذلك البصاق، ونظف المسجد منه توجه إلى أصحابه بالنصيحة والموعظة الحسنة فقال لهمَ: " إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه " أي إذا كان أحدكم في الصلاة، فلا يتفل أمامه جهة وجهه وقبلته " فإنّ الله قبل وجهه " وهذا من صفات الله تعالى التي ثبتت في الأحاديث الصحيحة، فيجب الإيمان بها دون تحريف ولا تَعْطيل ولا تكييف ولا تمثيل. اهـ. وفي رواية: " وَلا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه " (1) . الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
__________
(1) وهي من الروايات المتفق عليها بين البخاري ومسلم.(2/6)
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: في هذا الحديث صفة من الصفات الإلهية التي وصف بها الرسول ربه عز وجل، وجاءت في الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول، فوجب الإيمان بها. وهي صفة القرب الإِلهي التي وصف بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه في قوله - صلى الله عليه وسلم - " فإن الله تعالى قبل وجهه " فأثبت - صلى الله عليه وسلم - أن الله قريب من عبده الذي يصلي (1) على الوجه الذي يليق بعظمته وجلاله، مع كونه فوق عرشه. قال ابن تيمية: " وكذلك العبد إذا قام يصلي فإنه يستقبل ربه، وهو فوقه، فيدعوه من تلقائه، لا عن يمينه ولا عن شماله، ويدعوه من العلو لا من السفل " (2) قالأ في " التنبيهات السنية ": " وقد نزع بهذا الحديث بعض المعتزلة إلى أن الله في كل مكان بذاته " وهو جهل فاضح، والأدلة المتواترة تردُّ ذلك وتفيد علو الله واستواءه على عرشه.
ثانياً: أنه يندب للمصلي أن يستحضر قربه سبحانه وتعالى منه أثناء الصلاة، وفي كل عبادة من عباداته الشرعية، فإنّ ذلك هو مقام الإِحسان الذي يوجب الخشية والخوف من الله تعالى، ويدعو إلى إتمام العبادة، واتقان العمل، لأنه يستشعر أنه قائم أمام ربه، يستقبله ويتوجه إليه، ويراه كما قال - صلى الله عليه وسلم - "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك". ثالثاً: جواز البصاق أثناء الصلاة. ولكن بشرطين: " الأول " أن يكون خارج المسجد، أما البصاق في المسجد فلا يجوز بحال من الأحوال لقوله - صلى الله عليه وسلم - " البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها " فهذا الحديث مخصِّص لمفهوم حديث الباب، ومنطوق الأحاديث الأخرى. " الثاني " أن لا يبصق إلى جهة القبلة فإن البصاق إليها حرام مطلقاً سواء كان في المسجد أو خارج المسجد لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: " فلا يبصق قبل وجهه ": وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتَفْله بين عينيه " أخرجه ابن خزيمة وابن حبان من حديث حذيفة، وفي الحديث عن السائب بن خلاد أن رجلاً أم قوماً فبصق في القبلة. فلما
__________
(1) " المنحة الإلهية شرح العقيدة الواسطية " للأستاذ على مصطفى الغرابي.
(2) " التنبيهات السنية شرح العقيدة الواسطية " للشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد.(2/7)
189 - " بَابُ كَفَّارَةِ الْبُزَاقَ "
229 - عَنْ أَنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "البُزَاقُ في الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فرغ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يصلي لكم " (1) . أخرجه أبو داود وابن حبان.
" ولا يبصق عن يمينه " تشريفاً لهذه الجهة، وفي رواية للبخاري " ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكاً " وإنما يبصق عن يساره، أو تحت قدمه، لما جاء في رواية أخرى " فلا يبصق قبل وجهه ولا عن يمينه، لكن عن يساره أو تحت قدمه ". رابعاً: أن النخامة والبصاق طاهران وإلا لم يكتف النبي - صلى الله عليه وسلم - بحك البصاق، والله أعلم. والمطابقة: في قوله: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى بصاقاً في جدار القبلة فحكه ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
189 - " باب كفارة البزاق "
229 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " البزاق في المسجد خطيئة " أي إلقاء البصاق على أرض المسجد ذنب وإثم يستحق فاعله عقوبة الله تعالى " وكفارتها دفنها " بالتراب فمن ارتكب هذه السيئة وندم عليها، وأراد أن يعفو الله عنه ويمحو عنه سيئته هذه فليبادر إلى إزالتها من المسجد، بدفنها إن كان تراباً أو يمسحها منه إن كان غير ذلك. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود أيضاً.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: التحذير من البصاق في المسجد، لأنه خطيئة يأثم فاعلها، حتى قال ابن العماد: لا خلاف في أن من بصق في المسجد استهانة به كفر والعياذ بالله. ثانياًً: أن كفارة البصاق في المسجد إزالته بأي
__________
(1) أيضاً: " التنبيهات السنية ".(2/8)
190 - " بَابُ عِظَةِ الإِمَامِ النَّاسَ في إتْمَامِ الصَّلَاةِ وذِكْرِ الْقِبْلَةِ "
230 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أن رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا، فَوَاللهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ خُشُوعُكُمْ، وَلَا رُكُوعُكُمْ إنِّي لأرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وسيلة كانت، إمَّا بالدفن إن كان المسجد تراباً، أو الغسل والحك والمسح إن كان مبلطاً أو مفروشاً. والمطابقة: في قوله: " وكفارتها دفنها ".
190 - " باب عظة الإِمام الناس في إتمام الصلاة وذكر القبلة "
230 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " هل ترون قبلتي ها هنا " استفهام إنكاري معناه النهي والنفي، أي لا تظنوا أنني لا أرى إلاّ الجهة التى أمامي، كلا فإنني أرى مَنْ خلفي كما أرى مَنْ أمامي " فوالله ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم " أي فأقسم بالله أنني أرى من يخشع منكم في الصلاة، ومن لا يخشع فيها " إني لأراكم من وراء ظهري " أي وذلك لأنني أشاهدكم بعيني وأنتم خلف ظهري. قال العيني: والذي عليه الجمهور أنها رؤية بصرية بالعين. فإن قيل الخشوع أمر قلبي وشعور نفسي فكيف يراه النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فالجواب: أنه وإن كان من أعمال القلب إلاّ أنه تظهر آثاره على الجوارح، فمن خشع قلبه سكنت جوارحه. الحديث: أخرجه الشيخان.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية وعظ الإِمام للناس بإتمام الصلاة.
ثانياً: استحباب الخشوع لأنّه روح الصلاة. ثالثاً: أن من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - رؤية. من خلفه أثناء الصلاة. والمطابقة: في قوله: " فوالله ما يخفى عليَّ خشوعكم " حيث وعظهم - صلى الله عليه وسلم - بإتمام الصلاة.(2/9)
191 - " بَابٌ هَلْ يُقَالُ مَسْجِدُ بَنِي فُلانٍ؟ "
231 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ التي أضْمِرَتْ مِنَ الحفْيَاءِ، وأمَدُهَا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ، وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ التي لَمْ تُضْمَرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إلى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ وأنَّ عَبْدَ اللهِ بن عُمَرَ كَانَ فيمَنْ سَابَقَ بِهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
191 - " باب هل يقال مسجد بني فلان "
231 - معنى الحديث: يخبرنا ابن عمر رضي الله عنهما " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابق بين الخيل التي أضمرت " وهي التي ذهب شحمها وذوى لحمها، واشتد جريها " من الحفياء " بفتح الحاء " وأمدها ثنية الوداع " أي بقطع مسافة تبدأ من الحفياء، وتنتهى بثنية الوداع " وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق " ويقع بالمدينة جنوب باب المصري سابقاً (1) .
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية إضافة المسجد إلى بانيه. ثانياًً: مشروعية سباق الخيل. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ متعددة. والمطابقة: في قوله: " في مسجد بني زريق ".
***
__________
(1) مكان بالمدينة كان يسمى سوق الحمير سابقاً، كما أفاده العياشي في كتابه " المدينة بين الماضي والحاضر ".(2/10)
192 - " بَاب هَلْ تُنْبَشُ قُبورُ مُشْرِكِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيُتَّخذُ مَكَانهَا مَسَاجِدَ "
232 - عن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَدِمَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ أعْلَى الْمَدِينَةِ في حَي يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَمْرو بْنِ عَوْفٍ، فَأقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِمْ أرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ثمَّ أرْسَلَ إلى بَنِي النَّجَّارِ، فجَاءُوا مُتَقَلِّدِي السُّيُوفَ، فَكَأنِّي أنظرٌ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَاحِلَتِهِ، وأبو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رِدْفُهُ، وَمَلأ بَني النَّجارِ حَوْلَهُ، حتَّى ألْقَى بِفِنَاءِ أبي أيوبَ، وَكَانَ يُحَبُّ أنْ يُصَلِّي حَيْثُ أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
192 - " باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد "
232 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه عن هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول " قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة فنزل أعلى المدينة " أي وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بعد الزوال، فنزل في قباء، وأناخ ناقته في الشمال الشرقي من بئر عذق - وهي بئر السقيا أو بئر الخاتم. غربي دار كلثوم بن الهرم كما أفاده المؤرخ العياشي (1) " في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف " وكانت منازلهم تمتد ما بين العُصبة جنوباً ومسجد قباء شمالاً " ثم أرسل إلى بني النجار فجاءوا متقلدي السيوف " أي متسلحين بسيوفهم خوفاً على النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليهود وكانوا زهاء خمسمائة رجل تجمعوا في رحبة بني زيد الملاصقة لمسجد قباء، وتقع مئذنته القديمة في طرفها، كما أفاده العياشي "فكأني أنظر إلى النبي
__________
(1) " المدينة بين الماضي والحاضر " لفضيلة الاستاذ العياشي.(2/11)
وَيُصَلِّي في مَرَابِض الْغَنَمِ، وَأنَّهُ أمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسجِدِ، فأرْسَلَ إلى مَلَأٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ فَقَالَ: يَا بني النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائطِكُمْ هَذَا، قَالُوا: لا واللهِ لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إلَّا إلَى اللهِ تَعَالى، قَالَ أنَسُ: فَكَانَ فِيهِ مَا أقُولُ لَكُمْ: قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وفِيهِ خَرِب، وفِيهِ نَخْلٌ، فَأمرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِقُبُورِ الْمُشركِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بالْخَرِبِ فسُوِّيَتْ، وبالنَّخْل فَقُطِعَ، فَصَفُّوا الْنَخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ، وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ وهم يرتجزون، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَهُمْ وَهُوَ يَقُولُ:
" اللَّهُمَّ لا خَيْرَ إلَّا خَيْرُ الآخِرَةِ ... فَاغْفِرْ لِلأنصَارِ والْمُهَاجِرَة "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- صلى الله عليه وسلم - على راحلته وأبو بكر رضي الله عنه ردفه " أي راكب خلفه " حتى ألقى بفناء أبي أيوب " حيث بركت ناقته عند باب داره، فنزل بها، وأقام فيها أكثر من سبعة أشهر " (1) كما أفاده الاستاذ الأنصاري " وأنه أمر ببناء المسجد " أي أمر ببناء مسجده الشريف " فقال يا بني النجار ثامنوني بحائطكم " أي اذكروا لي ثمنه لأني أريد شراءه منكم " فقالوا: والله لا نطلب ثمنه إلاّ إلى الله تعالى " أي لا نأخذ منك مالاً، وإنما نطلب عليه الأجر من الله تعالى وكان لغلامين من الأنصار فاشتراه منهما " وفيه خرب " بفتح الخاء وكسر الراء جمع خربة مثل كَلِم وكلمة أي آثار أبنية قديمة متساقطة " فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبور المشركين فنبشت " أي فأخرج ما فيها من الرمم البالية " ثم بالخرب فسوّيت " أي أزيلت تلك الأطلال المتبقية من آثار المنازل والديار، حتى سويت بالأرض " وبالنخل فقطع، فصفوا النخل قبلة المسجد " أي فجعلوا جذوع النخل أعمدة للرواق القبلي من المسجد، وسقفوه بالجريد
__________
(1) آثار المدينة للأستاذ عبد القدوس الأنصاري.(2/12)
193 - " بَابُ الصَّلاةِ في مَوَاضِعَ الإِبِلَ "
233 - عن نَافِعَ قَالَ:
رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يُصَلِّي إلى بَعِيرِهِ وَقَالَ: رَأَيْتُ النَّبيَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" وجعلوا عضادتيه الحجارة " أي بنوا جانبي باب المسجد من الحجارة كما جاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما " أن مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت سواريه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جذوع النخل وأعلاه مظلل بجريد النخل " الخ. أخرجه أبو داود " وجعلوا ينقلون الصخور وهم يرتجزون " أي ينشدون ويقولون: " اللهم لا خير إلا خير الآخرة " أي إن الخير الحقيقي في نعيم الآخرة، لأنّه دائم وغيره إلى الزوال.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز نبش قبور المشركين مطلقاً لبناء المساجد عليها، لأنه لا حرمة لهم " قال العيني " فإن قلت: هل يجوز أن تبنى المساجد على قبور المسلمين؟ قلت: قال ابن القاسم: لو أن مقبرة من مقابر السلمين عفت، فبنى قوم عليها مسجداً لم أو بذلك بأساً، وذكر أصحابنا أي الحنفية: أن المقبرة إذا عفَت ودثرت تعود ملكاً لأربابها، فإذا عادت ملكاً يجوز أن يبنى موضع المقبرة مسجداً. اهـ. وقال الحنابلة: إذا صار الميت رمماً جازت زراعتها وبناؤها. ثانياًً: جواز قطع الأشجار المثمرة لاستعمال خشبها، واتخاذ موضعها مسجداً. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " فأمر النبي بقبور المشركين فنبشت ".
193 - " باب الصلاة في مواضع الإِبل "
233 - معنى الحديث: يقول نافع: " رأيت ابن عمر رضي الله عنهما يصلي إلى بعيره " أي رأيته يصلي متوجهاً في صلاته إلى بعيره جاعلاً(2/13)
- صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
البعير سترة له في الصلاة " وقال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله " أي رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل مثلما فعلت، فيصلي خلف بعيره متوجهاً إليه. وقد جمع نافع في هذا ... بين الأثر الصحيح والحديث المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما الأثر فهو قوله " رأيت ابن عمر رضي الله عنهما يصلي إلى بعيره " وأما الحديث المرفوع فهو قوله: وقال ابن عمر: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استدل به قوم على جواز الصلاة في معاطن الإبل (1) - أي في مباركها عند شرب الماء، وهي مسألة خلافية. فقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز الصلاة في مبارك الإبل مستدلين بهذا الحديث حيث قالوا: الصلاة في مباركها مثل الصلاة خلفها، فإذا كانت العلة المانعة من الصلاة في مباركها هي نفارها وكونها من الشياطين، فإن هذه العلة موجودة في الصلاة خلفها، وقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خلفها، فدل ذلك على جواز الصلاة في معاطنها قياساً على الصلاة خلفها. وذهب الجمهور إلى أنه لا يصلى في معاطن الإِبل واستدلوا على ذلك بالأحاديث الصحيحة الصريحة التي وردت في النهي عن ذلك. " منها " حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإِبل " أخرجه الترمذي وقال حديث حسمن صحيح كما أخرجه ابن حبان أيضاً. وحديث عبد الله بن مغفل عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: " صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإِبل، إنها خلقت من الشياطين " أخرجه ابن ماجة وأشار السيوطي إلى صحته، وقال مغلطاي حديث صحيح متصل. اهـ. وقال المناوي " ثم إن النهي في هذه الأحاديث للتنزيه عند الشافعي والجمهور، فتكره الصلاة في العطن،
__________
(1) وهو ظاهر مذهب البخاري.(2/14)
194 - " بَابُ مَنْ صَلَّى وَقُدَّامَهُ تنُّورٌ أوْ نار أوْ شَيْء مِمَّا يَعْبُدُ فَأرَادَ بِهِ الله "
234 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال:
قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " عُرِضَتْ عَلي النَّارُ وأُنا أصَلِّي ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وتصح حيث كان بينه وبين النجاسة حائل، وللتحريم عند أحمد، ولا تصح عنده - الصلاة في العطن بحال " اهـ (1) . ثانياً: جواز جعل البعير سترة في الصلاة. والمطابقة: في كونه صلى خلف البعير. فدل ذلك على جواز الصلاة في عطنه (2) .
194 - " باب من صلى وقدامه تنور ... إلخ "
234 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " عرضت علي النار وأنا أصلي " أي كشف لي عن نار جهنم، وأظهرها الله لي وأطلعني عليها وأنا أصلي صلاة الكسوف فرأيتها أمامي وشاهدتها ببصري. الحديث: أخرجه الشيخان.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز الصلاة إلى كل شيء فيه نار، سواء كان تنوراً أو موقداً أو غيره. ثانياً: معجزته - صلى الله عليه وسلم - الظاهرة في رؤيته - صلى الله عليه وسلم - النار أثناء صلاته. والمطابقة: في قوله: " عرضت علي النار ".
***
__________
(1) " فيض القدير شرح الجامع الصغير " للمناوي ج 4.
(2) أي فدل ذلك على جواز الصلاة في العطن قياساً على الصلاة خلف البعير.(2/15)
195 - " بَابُ كَرَاهِيَّةِ الصَّلَاةِ في الْمقَابِر "
235 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " اجْعَلُوا في بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ ولا تَتَّخِذُوهَا قُبُوراً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
195 - " باب كراهية الصلاة في المقابر "
235 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " اجعلوا في بيوتكم من صلاكم " أي صلّوا بعض صلاتكم " وهي النوافل " في بيوتكم لتنوروها بالصلاة والذكر وقراءة القرآن، وفي رواية مسلم: " إذا قضى أحدكم الصلاة " أي صلاة الفريضة " في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته " أي فليصل النافلة في بيته ليجعل لها نصيباً من صلاته " ولا تتخذوها قبوراً " أي لا تجعلوها كالقبور التي لا يصلّى فيها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: كراهية الصلاة في المقابر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولا تتخذوها قبوراً " فإنّ معناه: ولا تتخذوها كالمقابر، فإنها هي التي لا يصلى فيها، وهو قول أكثر أهل العلم، وعند أحمد في صحة الصلاة فيها ثلاث روايات المشهور منهن أنها تبطل على الإِطلاق، والثانية أنها تصح مع الكراهة، والثالثة إن كان عالماً بالنهي أعاد، وإن لم يكن عالماً لم يعد، ومما يدل على عدم جواز الصلاة في المقبرة حديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الأرض كلها مسجد إلاّ المقبرة والحمام " أخرجه الترمذي. ثانياًً: أن النوافل في البيت أفضل لورود الأمر بذلك، وأقل مقتضياته الأفضلية والاستحباب، والله أعلم. والمطابقة: في قوله: " ولا تتخذوها قبوراً ".(2/16)
196 - " بَابٌ "
236 - عَنْ عَائِشَةَ وابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ قَالَا:
لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طَفِقَ يَطرحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: " لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ والنَّصارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أنبِيَائِهِم مَسَاجِدَ " يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
196 - " باب "
236 - معنى الحديث: يقول ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم " لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي لما نزل به الموت واشتد عليه المرض " طفق يطرح خميصة " وهي كساء مخطط " على وجهه " أي صار يرخي هذا الكساء على وجهه، " فإذا اغتم كشفها " أي فإذا ضاقت أنفاسه بسبب اشتداد الحرارة كشف الخميصة " فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " أي فأخبر الحاضرين عنده من الصحابة عن حلول اللعنة باليهود والنصارى، وطردهم من رحمة الله بسبب بنائهم المساجد على قبور أنبيائهم، ولا يقال ليس للنصارى نبي غير عيسى، وهو في السماء، لأن الثلاثة المذكورين في سورة (يس) كانوا أنبياء. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
ويستفاد منه: تحريم بناء المساجد على القبور، قال الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي (1) : وما جرت به العادة اليوم من بناء المساجد على القبور محرّم، وهو من عمل اليهود والنصارى.
__________
(1) " شرح زاد المسلم ".(2/17)
197 - " بَابُ نوْمَ الْمَرْأةِ فِي الْمَسْجِدِ "
237 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنَّ وَلِيدَةً كَانَتْ سَوْدَاءَ لِحَي مِنَ الْعَرَبِ فأعْتَقُوهَا، فَكَانَتْ مَعَهُمْ، قَالَتْ: فَخَرَجتْ صَبِيَّة لَهُمْ عَلَيْهَا وِشاح أحْمَرُ مِنْ سُيُورٍ، قَالَتْ: فَوَضَعَتْهُ أو وَقَعَ مِنْهَا، فَمرَّتْ بِهِ حُدَيَّاة، وهُوَ مُلْقَى، فَحَسِبَتْهُ لَحْمَاً فخَطَفَتْهُ، قَالَتْ: فَالْتَمَسُوهُ، فلمْ يَجِدُوهُ، قالتْ: فاتَّهَمُونِي به، قَالَتْ: فَطَفِقُوا يُفَتِّشُونَ حتى فَتَّشُوا قُبُلَهَا، قَالَتْ: وَاللهِ إنِّي لَقَائِمَة مَعَهُمْ، إذْ مَرَّتْ الْحُدَيَّاةُ، فألْقَتْهُ، قَالَتْ: فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ، قَالَتْ: فقُلْتُ: هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ زَعَمْتُمْ وأَنا مِنْهُ بَرِيْئَة، وَهُوَذَا هُوَ، قَالَتْ: فجاءَتْ إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
197 - " باب نوم المرأة في المسجد "
237 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب " أي أن أمة سوداء كانت مملوكة لبعض قبائل العرب " فخرجت صبية لهم عليها وشاح " بكسر الواو وضمها، وهو قطعة من الجلد مرصّعة باللؤلؤ تشبه الحزام تشدها المرأة بين عاتقها وكشحها " فمرت حُدَيَّاة " بضم الحاء وفتح الدال وتشديد الياء تصغير حدأة التي هي الطائر المعروف، " فخطفته " أي فاختطفت الوشاح حيث ظنته لحماً لحمرة لونه " فاتهموني به " أي بسرقته " حتى فتشوا قبلها " أي ففتشوا ثيابها وجميع جسمها حتى فتشوا فرجها " قالت: فوقع منها " أي فلما لم تجده الحدأة لحماً ألقته في وسطهم، وهم يشاهدون ذلك " فأسلمت هذا الذي اتهمتموني به زعمتم " أي هذا هو الوشاح الذي زعمتم أني سرقته "فأسلمت، قالت(2/18)
رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فأسْلَمَتْ، قَالَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: فكانَ لَهَا خِبَاء في الْمَسْجِدِ أو حِفْش، قَالَتْ: فَكَانَتْ تَأتِيني، فَتَحَدَّثُ عِنْدِي، فَلَا تَجلِسُ عِنْدي مَجْلِساً إلَّا قَالَتْ:
وَيَوْمَ الْوِشَاحِ مِنْ أعَاجِيبِ رَبِّنَا ... ألَا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أنْجَانِي
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ لَهَا: مَا شَأنُكِ، لا تَقْعُدِينَ مَعِي مَقْعَداً إلَّا قُلْتِ هَذَا؟ قَالَتْ: فَحَدَّثَتْنِي بهذَا الْحَدِيثِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عائشة رضي الله عنها: فكان لها خباء" بكسر الخاء وفتح الباء المخففة، أي خيمة من وبر أو صوف " في المسجد " أي وكانت الخيمة منصوبة في المسجد " أو حفش " وهو البيت الصغير " قالت: فلا تجلس ضدي مجلساً إلاّ وقالت: وَيَوْمَ الوِشَاحِ مِنْ أعَاجيب رَبِّنَا ... إلخ " أي كانت الفتنة التي تعرضت لها من إيذائها واتهامها سبباً في إسلامها وهجرتها، وكان الوشاح سبباً في نجاتها، وكان يوم الوشاح من الأعاجيب، لأن ما وقع فيه من اختطاف الحدأة للوشاح، واتهامها به كان من أعاجيب الزمان، وغرائب الأيام وكان من نعم الله عليها حيث كان نقطة تحول في حياتها من شقاء إلى سعادة، وسبباً في إسلامها، وهجرتها من دار الكفر إلى دار الإِيمان على حد المثل القائل " رب ضارة نافعة ".
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز نوم المرأة في المسجد، كما ترجم له البخاري لقول عائشة رضي الله عنها: " فكان لها خباء في المسجد " وذلك يقتضي أن هذه الأمة السوداء كانت تبيت في المسجد وتنام فيه، وقد أقرها - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وإقراره حجة شرعيّة فدل على جوازه، إلا أن ذلك مشروط بأمن الفتنة، وقد كانت تلك الأمة عجوز شمطاء لا مطمع فيها للرجال، قال(2/19)
198 - " بَابُ نوْمَ الرِّجَالَ في الْمَسْجِدِ "
238 - عَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
جَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْتَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فَلَمْ يَجِدْ عَلِياً في البَيْتِ، فقالَ: " أينَ ابْنُ عَمِّكِ؟ "، قَالَتْ: كَانَ بَيني وَبَيْنَهُ شَيءٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحافظ: وفي الحديث إباحة المبيت والمقيل في المسجد لمن لا مكان له من المسلمين رجلاً أو امرأة عند أمن الفتنة. أما إذا كانت المرأة شابة فلا يجوز لها ذلك لما تتعرض له من خطر. ثانياًً: جواز نصب الخيمة وشبهها في المسجد للمسكين الذي لا مأوى له، شريطة أن لا يؤدي ذلك إلى التضييق على المسلمين.. ثالثاً: مشروعية هجرة الإِنسان من البلد التي يفتن فيها في دينه أو نفسه أو عرضه أو ماله، وربما كانت هذه الهجرة سبب خير، وبداية حياة سعيدة، كما وقع لهذه المرأة التي كانت تترنم بهجرتها قائلة:
وَيَومَ الوِشَاح من أعاجِيْبِ رَبِّنَا ... ألا إنه من بَلْدَةِ الكُفْرِ أنجاني
فتذكر دائماً يوم الوشاح بالحمد والشكر لله، لأنه كان سبباً لهجرتها إلى بلدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتقالها من بلاد الكفر إلى بلاد الإِسلام. الحديث: أخرجه البخاري في هذا الباب. والمطابقة: في قولها: "فكان لها خباء في المسجد".
198 - " باب نوم الرجال في المسجد "
238 - معنى الحديث: يقول سهل رضي الله عنه: " جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت فاطمة رضي الله عنها " بعد الظهر، وفي وقت القيلولة ليتفقد أحوال ابنته وعلاقتها مع زوجها " فلم يجد علياً في البيت " في ذلك الوقت الذي جرت فيه العادة بوجود الرجال في منازلهم، فلفت ذلك نظره - صلى الله عليه وسلم -،(2/20)
فَغَاضَبَنِي، فَخَرَجَ فَلَمْ يقلْ عِنْدِي، فقالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لإنْسَانٍ: " انْظر أينَ هُوَ "، فَجَاء فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هُوَ في الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ، فجاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُضْطَجِعٌ قد سَقَطَ رِدَاؤهُ عِن شِقِّهِ، وأصَابَهُ تُرَاب، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَيقُول: " قُمْ أبا تُرَابٍ قُمْ أبا تُرَابٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأدرك أن تغيب عليّ لا بد أن يكون لسبب ما " فقال: أين ابن عمك؟ قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج " أي حدث بينيِ وبينَه نزاع واختلاف أدّى إلى إثارة الغضب في نفسي ونفسه، فخرج متألماً مستاءً مني " ولم يقل عندي " أي ولم يقض وقت القيلولة عندي " فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مضطجع " أي فوصل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مضطجع في المسجد وهذا هو موضع الترجمة ودليلها " فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح عنه " أي يمسح عنه التراب بيده الشريفة، " ويقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب " بحذف حرف النداء والتقدير قم يا أبا تراب.
ويستفاد منه: أولاً: جواز نوم الرجال في المسجد، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر علياً على نومه فيه، وإقراره - صلى الله عليه وسلم - حجة شرعية. قال الترمذي: وقد رخص قوم من أهل العلم بالنوم في المسجد وهم الجمهور. اهـ. وكرهه الحنفية (1) إلّا لغريب، وقال مالك: لا أحب لمن له منزل أن يبيت فيه. ثانياً: جواز التكنية بغير الولد ممازحة وملاطفة لمن لا يُغضبه ذلك. الحديث: أخرجه مسلم في الفضائل. مطابقته للترجمة: في إقراره - صلى الله عليه وسلم - نوم على في المسجد.
***
__________
(1) وحملوا حديث الباب على حال الضرورة.(2/21)
199 - " بَاب إذَا دَخلَ أحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قبلَ أنْ يَجْلِسَ "
239 - عن أبي قُتَادَةَ السَّلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إذَا دَخَلَ أحدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ ركْعَتَيْنِ قَبْلَ أنْ يَجْلِسَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
199 - " باب إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس "
239 - معنى الحديث: يحدثنا أبو قتادة رضي الله عنه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس " أى فليصل ركعتين وهما تحية المسجد قبل الجلوس أو أي شيء آخر من قراءة قرآن، أو طلب علم أو استفتاء، أو نحوه. الحديث: أخرجه الستة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية تحية المسجد وكونها سنة مؤكدة لأمره - صلى الله عليه وسلم - بها في هذا الحديث وغيره، وقد اتفقوا على أن الأمر بها للندب ما عدا ما نقل عن أهل الظاهر من حمله على الوجوب، مع أن ابن حزم صرح بخلافه. ثانياًً: أن الأمر بتحية المسجد في هذا الحديث عام شامل لجميع الأوقات، ولكن هناك أحاديث أخرى ورد فيها النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وبعد صلاة الصبح والعصر، وعند خطبة الجمعة نهياً عاماً شاملاً لجميع النوافل، قال الحافظ: وهما عمومان متعارضان: الأمر بالصلاة لكل داخل من غير تفصيل، والنهي عن الصلاة في أوقات معينة، فلا بد من تخصص أحد العمومين، فذهب قوم إلى تخصيص النهي وتعميم الأمر " أي إلى تخصص النهي بغير الصلاة التي لها سبب، أما الصلاة التي(2/22)
200 - " بَابُ بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ "
240 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَبْنِيَّاً باللَّبِنِ، وَسَقْفُهُ الْجَريدُ، وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أبو بَكْرٍ شَيْئاً، وزَادَ فيهِ عُمَرُ وَبَنَاهُ عَلى بُنْيَانِهِ في عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - باللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ وأعادَ عُمُدَهُ خَشَباً، ثُمَّ غَيَّرَهُ عُثْمَانُ فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرةً، وبَنَى جِدَارَهُ بالحِجَارَةِ المَنْقُوشَةِ والْقَصَّةِ، وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ، وَسَقَفَهُ بالساجِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لها سبب، كتحية المسجد فإنّها تصلى في أوقات النهي. قال الحافظ: وهو الأصح عند الشافعية، وذهب قوم إلى تخصيص الأمر بتحية المسجد بغير الأوقات المنهي عنها، وقالوا: لا تصلى النافلة في أوقات النهي مطلقاً سواء كانت تحية المسجد أو غيرها، وهو قول الحنفية والمالكية. وقال الشوكاني: الأولى للمتورع ترك دخول المسجد في أوقات الكراهة. اهـ. والمطابقة: في كون الترجمة من، لفظ الحديث نفسه.
200 - " باب بنيان المسجد "
240 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما " أن المسجد كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي في زمنه - صلى الله عليه وسلم - " مبنياً باللبن " أي كانت جُدْرانه مبنية من اللبن - بفتح اللام وكسر الباء، وهو ما يصنع من الطين اللَّيِّن، ويجفف بالشمس " وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل " أي من جذوع النخل المقطوعة من الحائط الذي بني فيه المسجد، حيث أمر - صلى الله عليه وسلم - كما في رواية أخرى بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطع، فصفوا النخل قبلة المسجد - أي جعلوا جذوع النخل سوارى(2/23)
201 - " بَابُ التَّعَاوُنِ في بِنَاءِ الْمَسْجِدِ "
241 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ كَانَ يُحَدثُ يَوْمَاً حَتَّى أتى عَلَى ذِكْرِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: كُنَّا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأعمدة للرواق القبلي من المسجد. هذا وقد كانت مساحة المسجد في العهد النبوي نحو خمسة وثلاثين متراً من الشمال إلى الجنوب وثلاثين متراً من الشرق إلى الغرب " وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه " أي وبناه على شكل بنيانه في العهد النبوي، ولم يُغَير في مواد بنائه شيئاً وإنما وسعه وقال: لولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ينبغي أن تزيدوا في مساجدنا ما زدت فيه " ثم غير عثمان " أي جدده وطور في بنائه " وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقَصَّةِ " وهى الجص بلغة الحجاز، " وسقفه " بفتح القاف والفاء " بالساج " أي جعل سقفه من الساج وهو خشب هندي أسود اللون. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود.
ويستفاد منه: كيفية بناء المسجد في العهد النبوي، وتجديد الخلفاء وتوسيعهم لمساحته، وفضل بناء المساجد وتعميرها. والمطابقة: في وصف الحديث لبناء المسجد شكلاً ومادة.
201 - " باب التعاون في بناء المسجد "
241 - معنى الحديث: أن أبا سعيد رضي الله عنه " كان يحدث يوماً حتى أتى على ذكر بناء المسجد " أي حتى ساقه الحديث إلى قصة بناء المسجد النبوي " فقال: كما نحمل لبنة لبنة " أي كان كل واحد منا يحمل لبنة واحدة في كل مرة " وعمار لبنتين لبنتين " أي وكان عمار يحمل لبنتين اجتهاداً منه، وحرصاً على طاعة الله ورسوله، " فجعل - صلى الله عليه وسلم - ينفض التراب عنه " تكريماً له وتنويهاً بشأنه، وتعبيراً عن عطفه - صلى الله عليه وسلم - عليه ومحبته له،(2/24)
نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّار لَبِنَتَيْنِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: فَجَعَل يَنْفُضُ الترابَ عَنْهُ، وَيَقُولُ: " وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ يَدْعُوهُمْ إلى الْجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إلَى النَّارِ "، قَالَ: يَقُولُ عَمَّار: أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ.
202 - " بَابُ مَنْ بَنَى للهِ مَسْجِداً "
242 - عَنْ عُثْمَانَ عِنْدَ قَوْلِ النَّاسِ فِيهِ حِينَ بَنَى مَسْجِدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" فيقول: ويح عمّار " أي والحال أنه يقول: " ويح عمار " الخ وهذا تعبير
آخر عن توجعه - صلى الله عليه وسلم - ورثائه لما يؤول إليه حاله حيث " تقتله الفئة الباغية "
أي تقتله الفئة الخارجة عن طاعة الخليفة الراشد علي رضي الله عنه، وهم أصحاب معاوية كما جاء في رواية أخرى وهم أصحاب الشام كما أفاده العيني، قال الحافظ: وأجمعوا على أنه قتل مع علي بصفين سنة (37) هـ " يدعوهم إلى الجنة " أي إلى سبيل الجنة بمبايعة عليّ، " ويدعونه إلى النار " قال في شرح " زاد المسلم " أي يدعونه إلى سببها وإن لم يتعمدوا بالتأويل. فهم معذورون.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب التعاون في بناء المساجد، وأنه من أفضل الأعمال. ثانياً: أن علياً رضي الله عنه بعد عثمان رضي الله عنه هو صاحب الحق في الخلافة لأنّه - صلى الله عليه وسلم - سمي الطرف الآخر بالفئة الباغية.
الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " نحمل لبنة لبنة ".
202 - " باب من بني مسجداً "
242 - معنى الحديث: أن عثمان رضي الله عنه لما جدد المسجد النبوي سنة تسع وعشرين من الهجرة أنكر عليه بعض الناس زخرفة المسجد(2/25)
إنَّكُمْ أكثرتُمْ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " من بَنَى مَسْجِداً يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ بَنَى اللهُ لَهُ مِثْلَهُ في الجَنَّةِ ".
203 - " بَابُ يَأخذُ بِنُصُولِ النبلِ إذا مَرَّ في الْمَسْجِدِ "
243 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
مَرَّ رَجُل في الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ سِهَامٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أمْسِكْ بِنِصَالِهَا " (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وتغيير شكل بنائه، وأحبوا أن يدعه على هيئته، فأجابهم على ذلك " وقال: إنكم أكثرتم، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من بني مسجداً " التنكير للتعميم أي من بني أيَّ مسجدٍ صغيراً كان أو كبيراً، واسعاً أو ضيقاً " ولو كمفحص قطاة " كما رواه الطبراني وابن حبان، وهو المكان الذي تضع فيه بيضها " بنى الله له مثله في الجنة " أي بني له مثل عدد ما بناه، فإنْ بنى واحداً بنى له واحداً وإن بني اثنين بني له اثنين، فالتشبيه في العدد لا في الشكل. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجة.
ويستفاد منه: فضل بناء المساجد، وعظم المثوبة عليها في الجنة، وفي رواية الطبراني " من بني مسجداً لا يريد به رياءً ولا سمعة، بني الله له بيتاً في الجنة ". والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
203 - " باب يأخذ بنصول النبل إذا مرَّ في المسجد "
243 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الرجل الذي مر بالمسجد ومعه السهام أن يمسك بنصولها، ويحافظ عليها لئلا تؤذي أحداً.
ويستفاد منه: جواز إدخال السلاح المسجد، شريطة أن يحافظ على سلامة الناس. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
__________
(1) النصال، جمع نصل، وهو حديدة السهم والرمح والسكين، والجمع أنصل، ونصول وأنصال. اهـ " اللسان ".(2/26)
204 - " بَابُ الْمرُورِ في الْمَسْجِدِ "
244 - عن أبي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ مَرَّ في شَيءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا أو أسْوَاقِنَا بِنَبْل فلْيَاخُذْ عَلَى نِصَالِهَا لا يَعْقِرْ بِكَفِّهِ مُسْلِمَاً".
205 - " بَابُ الشِّعْرِ في الْمَسْجِدِ "
245 - عن حَسَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والمطابقة: في قوله: " أمسك بنصالها ".
204 - " باب المرور في المسجد "
244 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -"من مرَّ في شيء من مساجدنا أو أسواقنا " أي من اجتاز أيَّ مكان من الأماكن الحافلة بالناس سواء كان مسجداً أو سوقاً " بنبل " أي بسهام " فليأخذ على نصالها، لا يعقر بكفه مسلماً " أي فليحافظ عليها وليكن حذراً أثناء مروره بها، لئلا يجرح بها أحداً.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز المرور في المسجد وإن كان قد وضع في الأصل للعبادة، لأن الحاجة تقتضيه. ثانياًً: وجوب الحذر واليقظة عند المرور بالسلاح في المسجد أو غيره من الأماكن العامة خشية أن يؤذي به أحداً. الحديث: أخرجه الشيخان وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: "من مَر في شيء من مساجدنا".
205 - " باب الشعر في المسجد "
245 - ترجمة راوي الحديث: هو شاعر الإِسلام وشاعر رسول الله(2/27)
أنه اسْتَشْهَدَ أبا هُرَيْرَةَ: أنشُدُكَ اللهَ هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " يَا حَسَّانُ أجِبْ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، اللَّهُمَّ أيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ " قَالَ أبُو هُرَيْرَةُ: نَعَمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- صلى الله عليه وسلم - حسان بن ثابت رضي الله عنه الخزرجي الأنصاري، قال أبو عبيدة: فضل حسان الشعراء بثلاث، كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي - صلى الله عليه وسلم - في النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإِسلام، عاش مائة وعشرين سنة، ستين في الجاهلية وستين في الإِسلام، وتوفي في خلافة على قبل الأربعين من الهجرة.
معنى الحديث: أن حسان رضي الله عنه كان ينشد الشعر في المسجد، بينما كان عمر هناك، فلحظ إليه عمر، أي نظر إليه نظرة استنكار، فلما رأى حسان منه ذلك، قال له: كنت أنشد الشعر في المسجد وفيه من هو خير منك، ثم " استشهد أبا هريرة " أي سأله أداء الشهادة التي يعلمها عن إنشاده الشعر في المسجد بحضور رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - له على ذلك وتشجيعه له على إنشاد الشعر فقال: " أنشدك الله " بفتح الهمزة وضم الشين، أي أسألك بالله وأستحلفك به " هل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يا حسان أجب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي أجب شعراء المشركين بشعرك واهجهم به دفاعاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ونصرة لدينه. وهل سمعته يقول: " اللهم أيده بروح القدس " أي قوِّه بجبريل، وسخره له فيلهمه الشعر الذي يقع على أعداء الإِسلام وقع السهام " قال أبو هريرة: نعم " سمعتك تنشد الشعر أمامه فِي المسجد، وسمعته يقول ذلك.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز إنشاد الشعر فِي المسجد، لأن حسان كان يفعل ذلك بحضوره - صلى الله عليه وسلم -، وأقره عليه، ولم ينكره، قال الترمذي:(2/28)
206 - " بَابُ أصْحابِ الْحِرَابِ في الْمَسْجِدِ "
246 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
لَقَدْ رَأيتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَاً علَى بَابِ حُجْرَتِي، والْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ في الْمَسْجِدِ، وَرَسُولُ اللهِ يَسْترُنِي بِرِدَائِهِ أنظرٌ إلى لَعِبِهِمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير حديث الرخصة في إنشاد الشعر في المسجد، وقد اختلف في ذلك العلماء فقال الشعبي وابن سيرين وابن المسيب والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد: لا بأس بإنشاد الشعر الذي ليس فيه هجاء، ولا ثلب عرض المسلمين، ولا فحش.
وقال مسروق والحسن البصري والنخعي: يكره رواية الشعر وإنشاده لحديث عمر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلىء شعراً " أخرجه الشيخان وابن ماجه. وأجاب الأولون أن هذه الأحاديث إنما هي في الشعر الذي فيه خنى وفحش. ثانياً: فضل حسان وسائر الشعراء الإِسلاميين السائرين على نهجه في الدفاع عن الإِسلام.
فإن عملهم هذا جهاد والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أجب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
206 - "باب أصحاب الحراب في المسجد"
246 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً على باب حجرتي " أي واقفاً في باب حجرتي " والحبشة يلعبون في المسجد " بحرابهم كما في رواية أخرى " ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم " بفتح اللام وكسر العين، أو بكسر اللام وسكون العين، أي وأنا واقفة إلى جانب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنظر إليهم، وأشاهد ألعابهم الحربية(2/29)
207 - " بَابُ التَّقَاضِي وَالْملَازَمَةِ في الْمَسْجِدِ "
247 - عن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنهُ تَقَاضَى ابْنَ أبِي حَدْرَدٍ دَيْناً كَانَ لَهُ عَلَيْهِ في الْمَسْجِدِ، فارْتَفَعَتْ أصْوَاتُهُمَا حتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي بَيْتهِ، فَخَرَجَ إليْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، فَنَادَى: يَا كَعْبُ! قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهَ! قَالَ: ضَعْ منْ دَيْنِكَ هَذا، وَأوْمَأ إلَيْهِ أي الشَّطْرَ، قَالَ قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: قُمْ فَاقْضِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسترني عن أعين الناس بردائه. والمطابقة: في قولها: " يلعبون في المسجد ".
ويستفاد منه: أن المسجد النبوي كان مركزاً عسكرياً، وقاعدة حربية، وميداناً يتدرب فيه الرجال على ألعاب الفروسية والقتال، قال الحافظ: واللعب بالحراب ليس لعباً مجرداً، بل فيه تدريب الشجعان على مواقع الحروب.
الحديث: أخرجه الشيخان.
207 - " باب التقاضي والملازمة في المسجد "
247 - ترجمة راوي الحديث: هو كعب بن مالك الأنصاري شاعر النبي - صلى الله عليه وسلم - شهد العقبة والمشاهد كلها عدا بدر وتبوك، روى ثمانين حديثاً، للبخاري منها أربعة وتوفي بالمدينة سنة (50) هـ.
معنى الحديث: أن كعباً رضي الله عنه " تقاضى ابن أبي حدرد " أي طالبه بدين له عليه " في المسجد فارتفعت أصواتهما " أي فتخاصما حتى ارتفعت أصواتهما " فخرج إليهما حتى كشف سِجْفَ حجرته " بكسر السين وفتحها وهو الستر أو الستارة أي أنه لما سمع أصواتهما وهما يتخاصمان في(2/30)
المسجد كشف ستر حجرته، ليستطلع خبرهما ويتعرف على قضيتهما، ثم خرج إليهما، ومر بهما كما في رواية الأعرج " فنادى، كعب قال: لبيك، رسول الله قال ضع من دينك " أي تنازل عن بعض دينك تخفيفاً عليه، ورفقاً بحاله " وأومأ إليه أي الشطر " أي وأشار إليه إشارة تفسيرها ومعناها تنازل عن نصف الدين، وخذ منه النصف. ولم يقصد بذلك - صلى الله عليه وسلم - أن يأمره أمر إلزام، وإنما هي مجرد وساطة وشفاعة وإصلاح بين المتخاصمين، له أن يقبلها، أو يعتذر عنها " قال: قد قبلت " أي قبلت وساطتك " قال: قم فاقضه " أي قم يا ابن أبي حدرد فسدد نصف الدين فوراً، والأمر هنا أمر وجوب وإلزام. الحديث: أخرجه الشيخان.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز مقاضاة الديون وسائر الحقوق المالية في المسجد، وقضاؤها فيه، قال مالك: لا بأس أن يقضي الرجل في المسجد ديناً أما التجارة والصرف فلا أحبّه. ثانياً: أن أمر القاضي بالتنازل عن بعض الحق إنما هو مجرد شفاعة وصلح، ولا يجب تنفيذه، وإنما له أن يقبله أو يعتذر عنه إن شاء. ثالثاً: أنه إذا قبل الدائن التنازل عن بعض حقه استجابة منه لوساطة الحاكم وجب على المدين أن يقوم بقضاء الدين فوراً، وللقاضي أن يلزمه بذلك، وذلك لئلا يجتمع على رب الدين وضيعة ومطل معاً، كما أفاده العيني. رابعاً: جواز رفع الصوت في المسجد ما لمٍ يتفاحش، وقد أفرده البخاري بباب مستقل، ونقل عن مالك منعه مطلقاً، كما نقل عنه جوازه في العلم والخير وما لا بد فيه، دون رفعه باللغط ونحوه، وأما حديث واثلة: " جنبوا مساجدكم صبيانكم وخصوماتكم " أخرجه ابن ماجة فإنه ضعيف (1) . الحديث: أخرجه الشيخان.
***
__________
(1) شرح العيني ج 4.(2/31)
208 - " بَابُ كَنْس والْمَسْجِدِ "
248 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَجُلاً أسْوَدَ اوْ امْرَأةً سَوْدَاءَ كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ، فمَاتَ، فَسَألَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْهُ، فَقَالُوا، مَاتَ، فَقَالَ: " أفَلَا آذَنْتُمونِي، دُلُّوني عَلَى قَبْرِهِ، أوْ قَالَ: عَلَى قَبْرِهَا " فَأتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
208 - "باب كنس المسجد"
248 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه في حديثه هذا " أن رجلاً أسود أو امرأة سوداء كانت تقم المسجد " أي كانت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - تكنس المسجد وتنظفه، وتجمع القمامة منه، لتلقيها خارج المسجد. " فماتت " فلم يعلم - صلى الله عليه وسلم - بها، " فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها فقالوا: ماتت " أي فأخبره أبو بكر الصديق بأنّها ماتت كما أفاده العيني " فقال: أفلا آذنتموني " أي فعاتبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على عدم إخباره بوفاتها " ثم قال: " دلوني على قبرها " لأصلي عليها فوق قبرها، وفي رواية مسلم قال - صلى الله عليه وسلم -: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله تعالى ينورها لهم بصلاتي عليهم " فصلى عليها " صلاة الجنازة عند قبرها، وفي الحديث عن خارجة ابن زيد بن ثابت عن عمه قال: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما ورد البقيع إذ مرَّ بقبر جديد (1) فسأل عنه، فقيل: فلانة أي فأخبروه بأنها تلك المرأة التي كانت تقم المسجد، واسمها أم محجن فعرفه قال: " ألا آذنتموني بها " أي ألا أعلمتموني بوفاتها، فإن صلاتي عليها رحمة لها، ثم أَتى القبر فصففنا خلفه فكبر عليه أربعاً. أخرجه ابن حبان.
__________
(1) شرح العيني على البخاري ج 4.(2/32)
فقه الحديث دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل تنظيف المسجد والقائمين به وعلو منزلتهم، حتى أن بعض أهل العلم جعل صلاته - صلى الله عليه وسلم - على قبر هذه المرأة خصوصية لها مقابل خدمتها للمسجد، وعنايتها بحرمه الشريف، وفي الحديث عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوىء أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن " رواه مسلم. فإذا كانت القذاة وهي ما يقع في العين والماء والشراب من تراب أو وسخ قليل جداً يؤجر العبد على إخراجه من المسجد، فكيف بمن يكنسه وينظفه، ولهذا قال ابن رسلان: فيه ترغيب في تنظيف المساجد مما يحصل فيها من القمامات القليلة، فإنّها كتب في أجورهم، وتعرض على نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، وإذا كتب هذا القليل وعُرِض، فإنه يكتب الكبير ويعرض بالأولى، ففيه تنبيه بالأدنى على الأعلى. وقال ابن بطال في شرح حديث الباب: وفي هذا الحديث الحض على كنس المساجد وتنظيفها، لأنه إنّما خصها بالصلاة عليها بعد دفنها من أجل ذلك. ثانياًً: مشروعية صلاة الجنازة على القبر لمن لم يكن صلى على تلك الجنازة اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وعملاً بسنته، وهو قول الجمهور: إلا أنهم اختلفوا في المدة التي يصلّى عليه فيها، فقال الشافعية: يصلى عليه إلى ثلاثة أيام وقالت الحنابلة: إلى شهر وقالت الحنفية: يصلى عليه ما لم يغلب على الظن أنّه تفسخ، وقالت المالكية: يصلى عليه ما لم يُظن فناؤة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " كانت تقم المسجد ".
***(2/33)
209 - " بَابُ الأسِيرِ والْغرِيمِ يربَطُ في الْمَسْجِدِ "
249 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ عِفْرِيتَاً من الْجِنِّ تفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَىَّ الصَّلَاةَ فأمكَنَنِي اللهُ مِنْهُ، فأرَدْتُ أنْ أرْبِطَهُ إِلَى سَارِية مِنْ سَوارِي الْمَسْجِدِ حتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظرٌوا إلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أخي سُلَيْمَانَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلكاً لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي. قَالَ رَوْح، فَرَدَّهُ خَاسِئَاً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
209 - " باب الأسير والغريم يربط في المسجد "
الغريم: هو المدين المحكوم عليه شرعاً بالسجن لمطله أو لسبب آخر.
249 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن عفريتاً من الجن " أي إن شخصاً متمرداً من الجن، والجن أجسام نارية قابلة للتشكل بأشكال مختلفة، وهم مخلوقات غير منظورة لنا، مكلفون مثلنا، منهم المؤمنون والكافرون والعصاة، ومنهم الطيب والخبيث، وهو الذي تحدث عنه في هذا الحديث " تفلت عليّ البارحة " أي أن هذا المارد من الجن تعرّض لي أثناء الصلاة " ليقطع علّي الصلاة " أي ليشغلني به، ويقطع علي الخشوع في الصلاة، بتشويش أفكاري، ويحول بيني وبين قبلتي، وبيني وبين مناجاة ربي، وليس معناه أنه يبطل عليه صلاته ويفسدها عليه، لأن مجرد وسوسة الشيطان لا تقطع الصلاة، " فأمكنني الله منه " أي فأقدرني الله على ذلك الشيطان فدفعته عن نفسي، وفي رواية مسلم " فذعتُّه " أي خنقته " فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تصبحوا وتنظروا إليه " مقيداً نهاراً وأولاد المدينة يلعبون به "فذكرت(2/34)
210 - " بَابُ الْخيْمَةِ فِي الْمَسْجِدِ للْمَرْضَى وَغَيرِهِمْ "
250 - عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: أصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ في الأكْحَلِ، فَضَربَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَيْمَةً في الْمَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيب، فَلَمْ يَرُعْهُمْ، وفي الْمَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بَنى غِفَارِ إلَّا الدَّمُ يَسِيلُ إلَيْهِمْ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قول أخي سليمان: رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي" حيث دعا الله أن يخصه وحده بامتلاك الجن فامتنعت عنه.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز ربط الأسير والغريم وكل من عليه حق شرعي في المسجد، سواء كان ديناً أو قصاصاً. ثانياً: وجود عوالم أخرى غير منظورة كالجن والملائكة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
والمطابقة: في قوله: " فأردت أن أربطه إلى سارية " إلخ.
210 - " باب الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم "
250 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " أصيب سعد يوم الخندق " أي أصيب سعد بن معاذ يوم غزوة الخندق " الأكحل " بفتح الهمزة، وهو عرق في الذراع إذا قطع لا يرقأ دمه، ولهذا قال الخليل: هو عرق الحياة، وهو متصل بجميع أعضاء الجسد، وله في كل عضو شعبة، ويختلف اسمه باختلاف الأعضاء فهو في اليد الأكحل، وفي الظهر الأبهر، وفي الفخذ النساء. وكان سعد رضي الله عنه قد رماه حبان " بكسر الحاء وتشديد الباء " ابن قيس بسهم فأصابه في أكحله وهو يقول: أنا ابن العرقة فقال - صلى الله عليه وسلم -: عرق الله وجهه بالنار فقال سعد اللهم لا تخرج روحي حتى تُقِرَّ عيني في بني قريظة " فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي فأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - " له خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلم يرعهم وفي المسجد خيمة من بني(2/35)
فَقَالُوا: يَا أهْلَ الْخَيْمَةِ مَا هَذَا الَّذِي يأتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ، فإذَا سَعْدٌ يَغْذُو جُرحُهُ دَمَاً فَمَاتَ فِيهَا.
211 - " بَابُ إدْخالِ الْبَعِيرِ في الْمَسْجِدِ لِلْعِلَّةِ "
251 - عَنْ أمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
شَكَوْتُ إلَى رَسُولِ اللهِ أنِّي أشْتَكِي، قَالَ: " طُوفي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأنْتِ رَاكِبةٌ " فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّى إلَى جَنْبِ البَيْتِ يَقْرأُ بالْطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غفار" بكسر الغين " إلاّ الدم يسيل إليهم " أي ينزف بغزارة من الخيمة التي فيها سعد " فإذا سعد يغذو جرحه " أي يسيل فلما تفقدوا تلك الخيمة وجدوا أن سعداً قد انتفض عليه أكحله وعاوده النزيف. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: "فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - له خيمة" إلخ.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز التمريض في المسجد للضرورة والحاجة لأن سعداً مرض في المسجد لعدم وجود أماكن أخرى من مستشفيات ونحوها.
ثانياًً: استدل به مالك (1) على أن إزالة النجاسة ليست فرضاً، ولو كانت فرضاً لما أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - للجريح بالسكنى في المسجد.
211 - " باب إدخال البعير في المسجد للعلة "
أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على جواز إدخال البعير إلى المسجد لعذر شرعي.
251 - معنى الحديث: تقول أم سلمة رضي الله عنها:
__________
(1) شرح العيني على البخاري ج 4.(2/36)
" شكوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني أشتكي " أي أخبرته أني مصابة بمرض يمنعنى من المشى في الطواف " قال طوفي من وراء الناس وأنت راكبة " أي فرخص لي أن أطوف خلف الناس راكبة على بعيري " فطفت " أي فطفت راكبة على البعير كما أذن لي النبي - صلى الله عليه وسلم - " ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى جنب البيت يقرأ: بـ وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ " والحال أن رسول الله كان يصلي في ذلك الوقت إلى جوار الكعبة، ويقرأ هذه السورة المذكورة.
ويستفاد منه ما يأتي:
أولاً: جواز إدخال البعير إلى المسجد إذا احتاج صاحبه إلى ذلك لعذر شرعي من مرض أو عجز أو نحوه، قال ابن بطال: فيه جواز دخول الدواب التي يؤكل لحمها ولا ينجس بولها إلى المسجد إذا احتيج إلى ذلك وأما دخول سائر الدواب فلا يجوز، وهو قول مالك وأحمد في المشهور عنه، خلافاً لغيرهما، وسبب ذلك أنهم اختلفوا في روث ما يؤكل لحمه وبوله، فقال مالك وأحمد في المشهور عنه: هو طاهر، وقال أبو حنيفة: كله نجس إلاّ ذرق الحمام والعصافير، وقال الشافعي كله نجس دون استثناء، واستدل مالك وأحمد على طهارته بهذا الحديث، لأنه لو لم يكن طاهر البول والروث لما رخص لها بإدخال البعير إلى المسجد، لأنه قد يبول فيه، وقال الشافعي: إنما رخص لها بذلك لأنه أمن من تلويث المسجد، وفيه نظر. ثانياًً: جواز الطواف راكباً على بعير وغيره لمن عجز عن المشي، وقد استغنى الناس في عصرنا هذا عن الطواف على البعير بالطواف على أشياء أخرى كالشبرية مثلاً. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي والترمذي. والمطابقة: في قوله: " طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ".(2/37)
212 - " بَاب "
252 - عَن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أن رَجُلَيْنِ مِنْ أصْحَابِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ في لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَمَعَهُمَا مِثْلُ الْمِصْبَاحَيْنِ يُضِيئَانِ بَيْنَ أيدِيهُمَا، فَلَمَّا افْتَرَقَا صَارَ مع كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاحِدٌ حَتَّى أتَى أهْلَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
212 - " باب "
252 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أن رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خرجا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وهما أسيد بن حضير وعباد بن بشر رضي الله عنهما فإنهما خرجا من مسجده - صلى الله عليه وسلم - " في ليلة مظلمة " من ليالي آخر الشهر حالكة الظلام لا أثر فيها لضوء القمر " ومعهما مثل المصباحين يضيئان بين أيديهما " أي فأمدهما الله بنور من عنده، فصار يسير معهما مثل المصباحين ينيران لهما الطريق " فلما افترقا صار مع كل واحد منهما مصباح حتى أَتى أهله " أي حتى وصل إلى منزله كَأنَّ الله قد عجّل لهما في الدنيا ما أخره لعباده الصالحين في الآخرة (1) ، ووعدهم به في كتابه، وبشرهم به على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال عز وجل: (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) وقال - صلى الله عليه وسلم -: " بَشِّر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة ".
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: فضل التردد على صلاة الجماعة في ظلمات الليل بالمساجد، فإنّ السائرين فيها في ظلمات الليل إن لم يجدوا نوراً حسياً ينير لهم الطريق وجدوا نوراً في وجوههم وبصائرهم في الدنيا، ونوراً بين أيديهم يوم القيامة. ثانياً: فضل هذين الصحابيين الجليلين، وما أكرمهما
__________
(1) كما أفاده القسطلاني ج 1.(2/38)
213 - " بَابُ الْخوْخةِ والْمَمَرِّ في الْمَسْجِدِ "
253 - عن أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
خَطَبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ خَيَّرَ عَبْداً بيْنَ الْدُنيا وبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللهِ "، فَبَكَى أبو بَكْر، فَقُلْتُ في نَفْسِي: مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيخَ إِنْ يَكُنْ اللهُ خَيَّر عَبْداً بَيْنَ الدُّنيا وبَيْنَ ما عِنْدَهُ، فاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللهِ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ الْعَبْدَ، وَكَانَ أبو بَكْرٍ أعْلَمَنَا، فَقَالَ: " يَا أبَا بَكْر لا تَبْكِ إنَّ أمَنَّ النَّاس عَلَيَّ في صُحْبَتِهِ ومَالِهِ أبو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذاً خَلِيلاً (1) مِنْ أمَّتِي لاتَخَذْتُ أبا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أخُوَّةُ الإسْلَامِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الله به من هذا النور الذي يضيء لهما الطريق إلى منزلهما أثناء عودتهما في ظلمات الليل من المسجد. ثالثاً: إثبات الكرامة لأولياء الرحمن في سائر العصور والأزمان حتى قيام الساعة. الحديث: أخرجه البخاري.
213 - " باب الخوخة والممر في المسجد "
أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على جواز اتخاذ الخوخة بفتح الخاء، وهي الباب الصغير في المسجد.
253 - معنى الحديث: يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: " خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي خطب - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي توفي فيه، حيث خرج عاصباً رأسه، فصعد المنبر " فقال: إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده " أي بين البقاء في هذه الدنيا والانتقال إلى الرفيق الأعلى " فاختار ما عند الله، فبكى أبو بكر، فقلت في نفسي: ما هذا الشيخ إنْ يكن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله " أي فقلت أي
__________
(1) وهو المحبوب الذي تتخلل محبته وسط القلب.(2/39)
وَمَوَدَّته، لا يَبْقَيَنَّ في الْمَسْجِدِ بَاب إلَّا سُدَّ إلَّا بَابَ أبِي بَكْرٍ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شيء في هذا يبعث على البكاء، لأنني لم أعرف الشخص المعنّي بذلك " وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو العبد " أي وإذا المقصود بهذا العبد الذي اختار ما عند الله هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - يَنْعَى (2) إليْنَا نَفْسَهُ ويخبرنا برحيله عنا " وكان أبو بكر أعلمنا " وأفهمنا لكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا " فقال: يا أبا بكر لا تبكِ إن أَمَنَّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر " أي أكثرهم إحساناً إليَّ هو أبو بكر " ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر " أي ولو كان هناك أحدٌ من البشر يبلغ من نفسي منزلة الخليل لكان أبا بكر " ولكن أخوة الإسلام " ولكن له مني أخوة الإِسلام أما خُلَّتي فإنها لله وحده فهو عز وجل الذي انفرد بكمال محبتي له دون سواه " لا يبقين في المسجد باب إلاّ سد، إلاّ باب أبي بكر " فإنه يبقى وحده دون سائر الأبواب الأخرى.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي. أولاً: الإِشادة بفضل الصديق رضي الله عنه وإحسانه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثانياً: جواز اتخاذ الخوخة في المسجد كما ترجم له البخاري. ثالثاً: أنه لا خليل لنبينا - صلى الله عليه وسلم - إلّا الله وحده، لأن الخلة كما قال ابن القيم: معناها توحيد الله بالمحبة، وهي رتبة لا تقبل المشاركة.
الحديث: أخرجه الشيخان.
والمطابقة: في قوله: " إلاّ باب أبي بكر ".
***
__________
(2) قال في المصباح نعيت نعياً من باب نعى أخبرت بموته.(2/40)
214 - " بَابُ الاسْتِلْقَاءِ في الْمَسْجِدِ ومدِّ الرِّجْلِ "
254 - عن عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ بنِ عَاصِم رَضِيَْ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ رَأى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَلْقِيَاً في الْمَسْجِدِ وَاضِعَاً إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأخْرَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
214 - " باب الاستلقاء في المسجد ومد الرجل "
254 - معنى الحديث: يحدثنا عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه في حديثه هذا " أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي رآه بعينه وشاهده ببصره " مستلقياً في المسجد " أي مضطجعاً على ظهره في المسجد " واضعاً، إحدى رجليه على الأخرى " أي واضعاً إحدى رجليه على الرجل الأخرى. قال العيني: قوله " مستلقياً حال وكذلك واضعاً وهما حالان مترادفان ".
فقه الحديث: دل هذا الحديث. على جواز الاستلقاء في المسجد ووضع إحدى الرجلين على الأخرى، لأنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك، وفِعْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - حجة على جوازه وأما حديث جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يضع الرجل إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلق، فإنه منسوخ بحديث الباب، أو أنه لا يجوز ذلك إذا كان الإِزار ضيقاً، وخشي انكشاف عورته لو وضع إحدى رجليه على الأخرى، فعِلَّةُ النهي -كما قال الخطابي- أن تبدو عورة الفاعل لذلك، فإن الإزار ربما ضاق فإذا وضع لابسه إحدى رجليه فوق الأخرى بقيت هناك فرجة تظهر منها عورته، وممن جزم بأنّه منسوخ ابن بطال (1) . الحديث: أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي أيضاً. والمطابقة: ظاهرة.
__________
(1) والقول بحمل النهي حيث يخشى أن تبدو عورته أولى من إدعاء النسخ. (ع) .(2/41)
215 - " بَابُ تشْبِيكِ الأصَابِعِ في الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ "
255 - عن أبي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إنَّ الْمُؤْمِنَ للمُؤْمِنِ كَالْبُنيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضَاً " وَشَبَّكَ بَيْنَ أصَابِعِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
215 - " باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره "
255 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنّ المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً " أي إن المؤمنين في تآزرهم، وتماسك كل فرد منهم بالآخر، وحاجتهم إلى هذا - صلى الله عليه وسلم - التماسك كالبنيان المرصوص الذي لا يقوى على البقاء إلاّ إذا تماسكت أجزاؤه لبنة لبنة، فإذا تفككت سقط وانهار، كذلك المجتمع الإسلامي يستمد قوته من ترابط أجزائِهِ بعضهم ببعض " وشبّك بين أصابعه " زيادة في الإيضاح والبيان وتشبيهاً للمعقول بالمحسوس، وللمعنويات بالمحسوسات، قال ابن حجر: وهو بيان وجه الشبه، أي يشد بعضه بعضاً مثل هذا الشد، فالغرض من تشبيك أصابعه التمثيل وتصوير المعنى في النفس بصورة الحس كما قال ابن المنير. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: أن قوة الأمة الإسلامية تتوقف على وحدتها وتضامنها وتعاونها، فهي كالبناء، لا يقوى على البقاء إلاّ بتماسك الأجزاء فإذا تفكَّكَتْ انهار البناء، لأنه كما " في ظلال القرآن " ليس الإسلام دين أفراد منعزلين فلا انطوائية في الإِسلام ولكنه نشاط فردي واجتماعي في كل اتجاه، والآية الكريمة وهي قوله تعالى: (إنّ الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص) وهذا الحديث النبوي الشريف ينصان(2/42)
216 - "بَابُ الْمَسَاجِدِ التي عَلَى طُرُق الْمَدِينَةِ والْمَواضِعِ التي صَلَّى فِيهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - "
256 - عَنْ سَالِم بْنِ عَبدِ الله أنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّى أمَاكِنَ مِنَ الطرَّيقَ فَيُصَلِّي فِيهَا وَيُحَدِّثُ أنَّ أبَاهُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
كَانَ يُصَلِّي فَيهَا، وَأنَّهُ رَأى النَّبِيَّ يُصَلِّي في تِلْكَ الأمكِنَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على أن من طبيعة هذا الدين أن يُنْشِىءَ مجتمعاً متماسكاً متناسقاً، أما صورة الفرد المنعزل فإنّها بعيدة عن طبيعته ومقتضاه. ثانياً: جواز تشبيك الأصابع في المسجد كما ترجم له البخاري حيث قالوا: يجوز التشبيك في المسجد، ويكره إذا كان في الصلاة، أو قاصداً لها، إذ منتظر الصلاة في حكم المصلي.
والمطابقة: في قوله: " وشبك بين أصابعه "
216 - " باب المساجد التي على طرق المدينة، والمواضع التي صلى فيها "
256 - معنى الحديث: يحدثنا سالم بن عبد الله رحمه الله - تعالى أنه رأى أباه عبد الله بن عمر يصلي في أماكن مخصوصة من طرق المدينة ومكة، فلما سأله عن ذلك أخبره بأنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلّى في تلك المواضع، وبهذا أصبحت تلك المواضع من المساجد المأثورة التي صلّى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك كان ابن عمر يحرص على الصلاة فيها.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: دلّ هذا الحديث إجمالاً على وجود بعض الأماكن التي صلّى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على طريق مكة - المدينة، وأن ابن عمر كان يحرص على الصلاة فيها، وقد جاء في رواية أخرى عن ابن عمر توضيح هذه الأماكن والمساجد المأثورة وقد ذكرها في " وفاء الوفا " (1) وبيّن مواقعها
__________
(1) وفاء الوفا لمؤرخ المدينة المنورة العلامة السمهودي.(2/43)
وهي تسعة. الأول: (مسجد ذي الحليفة) : المعروف بآبار علي على بعد ستة أميال من المدينة، ويقال له: مسجد الشجرة، ومسجد المحرم، وقد صلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع تحت شجرة كانت موجودة في مكان المسجد على عهده - صلى الله عليه وسلم - ولذلك سمّي مسجد الشجرة، وعن أنس رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة الظهر أربعاً والعصر بذي الحليفة ركعتين. الثاني: (مسجد المعرس) : وقد كان - صلى الله عليه وسلم - ينزل فيه إذا عاد إلى المدينة آخر الليل، ولذلك سمي " المعرَّس " من التعريس، وهو النزول في آخر الليل. ولم يبق منه سوى بعض آثار، عَثر عليها المؤرخ الاستاذ إبراهيم العياشي أثناء بحثه في تلك الناحية عام 1376 هـ حيث قال: "وجدت الأساسات بأحجار ضخمة في قسميه الداخلي والخارجي ويقع في جنوب مسجد المَحْرَم بنحو مائة وخمسين متراً. الثالث: (مسجد شرف الروحاء) : أي أَعلاها، ويقع كما أفاده العيني (1) على أرض مرتفعة عالية في آخر قرية السبالة على بعد ليلتين من المدينة. الرابع: (مسجد عرق الظبية) : وهو على بعد ميلين من الروحاء (2) عند جبل صغير يقع في آخرها (3) يدعى عرق الظبية. ولهذا المسجد أهمية تاريخية عظيمة، ففيه استشار النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أثناء ذهابه إلى غزوة بدر وأتى عليه في غزوة الأبواء، وذكر أنّه مصلى الأنبياء، كما روى ابن زبالة عن عمرو بن عوف قال: أول غزوة غزاها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا معه غزوة الأبواء حتى إذا كان بالروحاء عند عِرق الظُبية قال: " هذا جبل من جبال الجنة، اللهم بارك لنا فيه وبارك لأهله فيه، لقد صلى في هذا المسجد قبلي سبعون نبياً، ولقد مر بها يعني وادي الروحاء موسى ابن عمران في سبعين ألفاً من بني إسرائيل على ناقة له ورقاء، ولا تقوم الساعة
__________
(1) شرح العيني على البخاري ج 4.
(2) وفاء الوفاء للسمهودي.
(3) أي في آخر الروحاء.(2/44)
حتى يمر بها عيسى بن مريم حاجاً أو معتمراً، أو يجمع الله له ذلك" رواه الطبراني، وفيه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني المدني، وهو ضعيف وقد كانت آثار هذا المسجد موجودة إلى بداية القرن العاشر الهجري كما أفاد السمهودي. الخامس: (مسجد الرويثة) : ويقع في أول الرويثة على بعد ثلاثة عشر ميلاً من الروحاء كما قال الأسدي (1) والرويثة قرية كانت عامرة يشرف عليها جبل يسمى الروحاء، وفي شرقيها جبل آخر يدعى الحسناء.
السادس: (مسجد العرج) : ويقع على بعد ثلاثة أميال من قرية العرج.
السابع: (مسجد عقبة هرشى) : ويقع في المسيل الذي قيل جبل هرشى المتصل بطرفه عن يسار طريق مكة. الثامن: (مسجد مَرّ الظهران) : وهو في المسيل الذي في أوّل مر الظهران من جهة المدينة قال المطري: ويقع بوادي مر الظهران، حين تهبط من " الصفراوات " -أي من الأودية الموجودة هناك- عن يسار الطريق وأنت ذاهب إلى مكة، قال الزين المراغي: ويقال: إنه المسجد المعروف اليوم في مر الظهران بمسجد الفتح، وكذلك قال الفاسي وهو بالغرب من الجموم. التاسع: (مسجد ذي طوى) : بضم الطاء في رواية الأكثرين، وبالفتح كما صححه النووي، وفيه لغتان، الصرف وعدمه، قال ابن عمر كما في البخاري: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينزل بذي طوى ويبيت حتى يصبح، ثم يصلي الصبح حين يقدم مكة: أي حين يقدم مكة معتمراً أو حاجاً، قال ابن ظهيرة. ومسجد ذي طوى في علو مكة (2) بين الثنيتين اللتين يدخل منهما الحاج. ثانياً: حرص ابن عمر رضي الله عنهما على الصلاة في المساجد التي صلّى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على طريق مكة المدينة والمعروف عنه أنه كان حريصاً على تتبع آثار النبي عامة كما كان عمر رضي
__________
(1) وفاء الوفاء للسمهوري.
(2) أي في أعلى مكة وفي منطقة الزاهر. قال في المصباح: وذي طوى واد بقرب مكة على نحو فرسخ، ويعرف في وقتنا بالزاهر في طريق التنعيم.(2/45)
الله عنه على العكس منه لا يرى تتبع هذه الآثار، وذلك لأنّه كما قال عمر: " أخشى أن يلتزم الناس الصلاة في تلك المواضع حتى يشكل على من يأتي بعدهم، فيرى ذلك واجباً " (1) وروى أشهب عن مالك أنه سئل عن الصلاة في المواضع التي صلى فيها الشارعٍ فقال: ما يعجبني ذلك إلاّ في مسجد قباء، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأتيه راكباً وماشياً، ولم يفعل ذلك في تلك الأمكنة. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في دلالة الحديث إجمالاً على وجود هذه المساجد المأثورة على طريق المدينة - مكة، والله أعلم.
***
__________
(1) شرح العيني على البخاري.(2/46)
" بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "
" أبْوَابُ سُتْرَةِ الْمُصَلِّي "
217 - " بَاب: سُتْرَةُ الإمَامِ سُتْرَةُ مَنْ خلْفَهُ "
257 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا خَرَجَ يَوْمَ الْعِيْدِ أمَرَ بِالْحَرْبَةِ فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْه فَيُصَلِّي إلَيْهَا والنَّاسُ وَرَاءَهُ، وكانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ في السَّفَرِ، فَمِنْ ثَمَّ اتخَذَهَا الأمَرَاءُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
217 - " باب سترة الإمام سترة من خلفه "
257 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما: " أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج يوم العيد " أي كان إذا خرج في العيدين لأداء صلاة العيد في المصلى وهو في موضع المناخة ومسجد الغمامة (1) " أمر بالحربة فتوضع بين يديه " أي أمر أن توضع الحربة أمامه أثناء الصلاة لتكون سترة له، والمصلى كما قال ابن ماجة: كان فضاء وليس فيه شيء يستره " والناس وراءه " وليست أمامهم سترة وإنما كانوا يستترون بسترته - صلى الله عليه وسلم - " وكان يفعل ذلك في السفر " أي وكان يضع أمامه السترة في السفر كما يضعها في الحضر " فمن ثم اتخذهما الأمراء " ومعناه فمن تلك الجهة اتخذ الأمراء الحربة يخرج بها بين أيديهم في العيد ونحوه كما أفاده في " عون المعبود ". الحديث: أخرجه
__________
(1) أي يبدأ من مسجد الغمامة جنوباً ويمتد في البقعة المتصلة به من شارع المناخة.(2/47)
258 - عَنْ أبي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِهِمْ بالبَطْحَاء وَبَيْنَ يَدَيْه عَنَزَة الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، والْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْه الْمَرأَةُ وَالْحِمَارُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قوله: " فيصلي إليها والناس وراءه ".
ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: مشروعية السترة بين يدي المصلي في السفر والحضر وسيأتي تفصيله في الحديث القادم. ثانياً: أن سترة الإِمام سترة للمأمومين خلفه لقوله " فيصلّي إليها " أي فيصلي إلى تلك الحربة جاعلاً لها سترة في الصلاة " والناس وراءه " أي لا سترة لهم، وإنما يستترون بسترته - صلى الله عليه وسلم - فدل ذلك على أن سترة الامام. سترة لمن خلفه من المأمومين كما ترجم له البخاري، وهو قول أكثر أهل العلم، وذهب المالكية إلى أن الإمام نفسه سترة للمأمومين، ولهذا قالوا: يحرم المرور بين الإِمام والصفِّ الأول لأنه مرور بين المصلي وسترته. ثالثاً: أن السترة تجزىء بكل شيء ينصب أمام المصلي إذا كان بقدر الحربة، وقدرت بالذراع طولاً، أو ما يقرب من ذلك.
قال ابن قدامة: وقدر السترة في طولها ذراع أو نحوه، وروى عن أحمد أنها قدر عظم الذراع، وهذا هو قول مالك والشافعي والظاهر أنّ هذا على سبيل التقريب لا التحديد " قال النووي ": وأما عرضها فلا ضابط فيه، وقالت المالكية: أقلها غِلَظُ رمح.
258 - معنى الحديث: يحدثنا أبو جُحَيْفَة رضي الله عنه " أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم بالبطحاء "وهو موضع خارج مكة " سابقاً " يقال له الأبطح بينها وبين منى " وبين يديه عنزةْ " بفتح العين والنون والزاي أي عَصَاً أقصر من الرمح، لها سنان، وهي في طول الذراع تقريباً والجمع عَنَز مثل قصبة وقصب كما في المصباح " الظهر ركعتين والعصر ركعتين " أي صلى بهم الظهر(2/48)
والعصر قصراً ركعتين ركعتين، وهو يستتر بالعنزة، وهم لا سترة لهم، وإنما كانوا متسترين بسترته - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية السترة بين يدي المصلي مطلقاً سواء كان مقيماً أو مسافراً، وهو مذهب الجمهور، حيث قال الشافعي وأبو حنيفة وغيرهم: السترة سنة في السفر والحضر معاً ما لم يكن أمامه جدار.
قال ابن العربي المالكي (1) في العارضة: اختلف العلماء في وضع السترة على ثلاثة أقوال: الأول: أنه واجب، وإن لم يجد وضع خطاً، قاله أحمد وغيره.
الثاني: أنها مستحبة قالها الشافعي وأبو حنيفة ومالك في " العتبية "، وفي " المدونة " هذا إذا كان في موضع يؤمن المرور فيه، فإن كان في موضع لا يؤمن ذلك تأكد عند علمائنا وضع السترة. الثالث: جواز تركها، وروى ذلك عن مالك. وأما ما حكاه ابن العربي من وجوب السترة عن أحمد فإنه تأباه كتب فروعه، كما في أوجز المسالك. حيث قال في الشرح الكبير: يستحب أن يصلي إلى سترة ثم قال: ولا نعلم في استحباب ذلك خلافاً (2) . وظاهر مذهب المالكية أن السترة سنة مؤكدة في الحضر دون السفر. حيث قال مالك - كما في المدوّنة: من كان في سفر فلا بأس أن يصلي إلى غير سترة، أمّا في الحضر فلا يصلّي إلاّ إلى سترة، قال ابن القاسم إلاّ أن يكون في الحضر بموضع يأمن أن يمر بين يدي أحد. قال في أوجز المسالك: فعلم بذلك أن السترة في السفر غير مؤكدة عند الإمام مالك. اهـ. وقد استدل المالكية على عدم تأكدها في السفر بحديث الفضل بن العباس رضي الله عنهما " أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى في فضاء وليس بين يديه شيء " رواه أحمد وأبو داود والبيهقي.
__________
(1) أوجز المسالك شرح موطأ مالك ج 3.
(2) كما أفاده في أوجز المسالك ج 3.(2/49)
218 - " بَابُ قَدْرِ كَمْ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُصَلَّى وَالسُّتْرَةِ "
259 - عن سَهْلٍ ورَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبَيْنَ الْجِدَارِ مَمَرُّ الشَّاةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثانياً: أن سترة الإمام سترة للمأمومين من خلفه، لقوله: " صلى بهم بالبطحاء وبين يديه عنزة " فإن معنى ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم متستراً بالعنزة، وصلّوا خلفه متسترين بسترته (1) فدل ذلك على أن سترة الإمام سترة للمأمومين وهو مذهب الجمهور كما قررناه في الحديث السابق. والحاصل: أنّ هذين الحديثين يدلان على أنّ سترة الإِمام لسترة للمأمومين من وجوه: الأول: أنّه لم ينقل وجود سترة لأحد من المأمومين، ولو كان ذلك لنقل لتوفر الدواعي على نقل الأحكام الشرعية، فدل ذلك على أنّ سترته - صلى الله عليه وسلم - كانت سترة لمن خلفه.
الثاني: أن قوله: " فيصلى إليها والناس وراءه " يدل على دخول الناس في السترة (2) ، لأنهم تابعون للإمام في جميع ما يفعله. الثالث: إن قوله " وراءه " يدل على أنهم وراء السترة أيضاً، إذ لو كانت سترة لم يكونوا وراءه بل كانوا وراءها. والمطابقة: في قوله: " صلى بهم بالبطحاء وبين يديه عنزة " أي صلّى متستراً بالعنزة، وصلوا خلفه ليسوا متسترين بشيء، إلاّ بسترته اهـ.
218 - " باب قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلى والسترة "
259 - معنى الحديث: يقول سهل بن سعد الساعدي رضي الله
__________
(1) أي وصلّوا خلفه لا سترة لهم إلا سترته.
(2) وكذلك قوله في الحديث الثاني: " صلّى بهم بالبطحاء وبين يديه عنزة " فإنه يدل على دخولهم معه في التستر بالعنزة والله أعلم وقال في " الهداية " وسترة الإمام سترة للمأمومين لأنه - صلى الله عليه وسلم - صلّى ببطحاء مكة إلى عنزة ولم يكن للقوم سترة.(2/50)
219 - " بَابُ الصَّلَاةِ إلى الْعَنَزَةِ "
260 - عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ تَبِعْتُهُ أنا وغُلَام، وَمَعَنَا عُكَّازَة أو عَصَاً وعنَزَةٌ، وَمَعَنَا إِدَاوَة، فإِذَا فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ نَاوَلْنَاهُ الإِدَاوَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عنهما: " كان بين مصلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين الجدار " أي بينه وبين جدار القبلة " ممرَّ الشاة " بالنصْب على أنّه خبر كان، أي كان قدر المسافة التي بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين جدار القبلة ممر الشاة، بمعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدنو من الجدار حتى لا يكون بينه وبينه إلاّ فجوة صغيرة لا تتسع إلاّ لمرور الشاة فقط.
الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة.
ويستفاد منه: استحباب الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر ممر الشاة، ولم يحدد مالك لذلك حداً، وهو ظاهر مذهب الحنفية كما في " البداية وشرحها الهداية ". حيث قال: ويقرب من السترة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من صلّى إلى سترة فليدن منها " ولم يحدد حداً. أما الشافعي وأحمد وغيرهم فقد قالوا: يجعل بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع لأنّه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في الكعبة وبينه وبين الحائط ثلاثة أذرع.
219 - " باب الصلاة إلى العنزة "
ْ260 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج لحاجته تبعته أنا وغلام، ومعنا عكازة أو عصاً أو عنزة، ومعنا إداوة " بكسر الهمزة أي إناء صغير يوضع فيه الماء، والعنزة عصى أقصر من الرمح، وقد تقدم الكلام على معنى الحديث في باب حمل العنزة مع الماء.(2/51)
220 - "بَابُ الصَّلَاةِ إلى الأسطُوَانةِ"
261 - عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الأسْطُوَانَةِ التي عِنْدَ الْمُصْحَفِ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أبَا مُسْلِم أرَاكَ تَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ هَذِهِ الأسْطُوَانَةِ، قَالَ: فَإنِّي رَأيْتُ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " معنا عكازة أو عصا أو عنزة ".
ويستفاد منه: مشروعية السترة في الصلاة بأي سترة قدر ذراع من عنزة أو غيرها.
220 - " باب الصلاة إلى الأسطوانة "
261 - معني الحديث: أن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه " كان يصلي إلى الأسطوانة التي عند المصحف " أي كان يتحرى الصلاة عند هذه الاسطوانة متجهاً إليها في صلاته، وكانت هذه الأسطوانة عند المكان الذي كان يوضع فيه المصحف الشريف، حيث كان للمصحف على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - صندوق خاص هناك " فقيل له: يا أبا مسلم أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة؟ قال: فإني رأيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتحرّى الصلاة عندها " أي يتقصد الصلاة عند هذه الأسطوانة ويواظب عليها كما جاء في " صحيح مسلم " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وراء الصندوق أي وراء صندوق المصحف الذي هو عند هذه الأسطوانة. قال الحافظ: حقق لنا بعض مشايخنا أنها المتوسطة في الروضة، وأنها تعرف بأسطوانة المهاجرين، ورُوي عن عائشة أنها كانت تقول: لو عرفها الناس لاضطربوا عليها، وأنها أسرّت بها إلى(2/52)
221 - " بَابُ الصَّلَاةِ إلَى الرَّاحِلَةِ والْبَعيرِ والشَّجَرِ وَالرَّحْلِ "
262 - عن ابن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
عَنِ النّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ كَانَ يُعَرِّضُ رَاحِلتهُ فَيُصَلِّي إلَيْهَا، قِيلَ لِنَافِع أفَرَأيْتَ إذَا هَبَّتِ الرِّكَابُ، قَالَ: كَانَ يَأخُذُ الرَّحْلَ فَيُعَدِّلُهُ فَيُصَلِّي إلى آخِرَتِهِ أوْ قَالَ مُؤَخَّرهِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَفْعَلُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عبد الله بن الزبير، فكان يكثر الصلاة عندها، وروى ابن النجار (1) عن ابن الزبير بن حبيب أنها الأُسطوانة التي بعد أُسطوانة " التوبة " إلى الروضة، وهي الثالثة من المنبر (2) ومن القبر، وسميت أسطوانة عائشة، ويقال: الدعاء عندها مستجاب اهـ. وهي نفس الأسطوانة المكتوب عليها حالياً أسطوانة عائشة. الحديث: أخرجه الشيخان وابن ماجه.
ويستفاد منه: استحباب الصلاة إلى الأسطوانة، واتخاذها سترة إذا كانت هناك سوارى، قال العيني: وينبغي أن تكون الأُسطوانة أمامه. والمطابقة: في قوله: " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحرى الصلاة عندها ".
221 - " باب الصلاة إلى الراحلة والبعير والشجر والرحل "
262- معنى الحديث: يروى ابن عمر رضي الله عنهما " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعرض " بضم الياء وكسر الراء المشددة " راحلته فيصلي إليها " يعني أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجعل بعيره أمامه عرضاً ويتخذه سترة له يصلّي إليها " قيل لنافع: أفرأيت إذا هبت الركاب " أي قال عبيد الله بن عمر لنافع: أخبرني إذا هاجت الإبل وثارت الجمال، وذهبت هنا وهناك ولم يتمكن من الصلاة
__________
(1) أخبار مدينة الرسول لابن النجار.
(2) أي أنها متوسطة بين المنبر والقبر فبينها وبين المنبر أسطوانتان وبينها وبين القبر أسطوانتان أيضاً ومكتوب عليها حالياً أسطوانة عائشة.(2/53)
222 - " بَابٌ يَرُدُّ الْمُصَلِّي مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْه "
263 - عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ كَانَ يُصَلِّي في يَوْمِ جُمُعَةٍ إلى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ من النَّاسِ، فَأرادَ شَابٌّ مِنْ بَنِي أبي مُعَيْطٍ أنْ يَجْتَازَ بيْنَ يَدَيه، فَدَفَعَ أبو سَعِيدٍ في صَدْرِهِ، فَنَظَرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلى بعيره ماذا يصنع؟ " قال: كان يأخذ الرحل " وهو الشداد الذي يوضع على ظهر البعير ليكون فراشاً لراكبه، أي إذا هبَّ بعيره ولم يتمكن من الصلاة إليه اتخذ الرحل سترة له بدلاً عن الراحلة، وصلّى إلى مؤخرته. الحديث:
أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " كان يعرض راحلته (1) " الخ.
ويستفاد منه: جواز السترة بما يثبت من الحيوان وهو مذهب الحنفية والحنابلة في الحيوان غير الآدمي، وكره المالكية الاستتار في الصلاة بغير مأكول اللحم. ويؤخذ من الحديث أيضاً جواز الصلاة إلى الرحل كما ترجم له البخاري، ولا خلاف في ذلك عند أهل العلم.
222 - " باب يرد المصلي من مر بين يديه "
263 - معنى الحديث: إن أبا سعيد الخدري " كان يصلي في يوم جمعة إلى شيء يستره من الناس " أي كان يصلي إلى شيء يحول بينه وبين المارّة ويصلح أن يكون سترة له في الصلاة " فأراد شاب من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه " أي فحاول هذا الشاب أن يمر أمامه بينه وبين سترته في الصلاة، وهذا الشاب هو داود بن مروان بن الحكم أمير المدينة في ذلك الوقت، هكذا قالوا، واستشكل بأنّ داود ليس من بني أبي مُعَيْطٍ، وإنما
__________
(1) من قوله كان يُعرِّض راحلته فيصلّي إليها.(2/54)
الشَّابُّ فلَمْ يجِدْ مَسَاغَاً إلَّا بَيْنَ يَدَيْه، فَعَادَ لِيَجْتَازَ، فَدَفَعَهُ أبو سَعِيدٍ أشَدَّ مِنَ الأوْلى فَنَالَ مِنْ أبِي سَعِيدٍ، ثُمَّ دَخَلَ عَلى مَرْوَانَ فشكَا إِلَيْهِ مَا لَقِي مِنْ أبِي سَعِيدٍ، وَدَخَلَ أبو سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ خَلْفَهُ عَلَى مَرْوَانَ فَقَالَ: مَالكَ ولابنِ أخِيْكَ يَا أبَا سَعِيدٍ؟ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِذَا صَلَّى أحدُكم إلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاس فأرَادَ أحَدٌ أنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْه فَلْيَدْفَعْهُ، فإنْ أبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فإنَّمَا هُوَ شَيْطَان ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هم أبناء عمه، قال الحافظ: ويحتمل أنه نسب إليهم من جهة الرضاعة، أو أنه نسب إلى أقربائه وأبناء عمومته من باب التوسع في الكلام وقد جرت عادة العرب على نسبة المرء إلى أقاربه أو أصحابه توسعاً، ومنه قول ضمام ابن ثعلبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر " أي صاحبهم " فدفع أبو سعيد في صدره " أي فدفعه أبو سعيد، بيده في صدره ليرده، عن المرور بين يديه " فلم يجد مساغاً " أي فلم يجد له طريقاً آخر يمر منه " فعاد ليجتاز فدفعه " مرة أخرى " فنال من أبي سعيد " أي فغضب ذلك الشاب من أبي سعيد وسبه وشتمه انتقاماً منه " ثم دخل على مروان فشكا إليه " أي فشكا داود إلى أبيه مروان ما فعله معه أبو سعيد، وكيف أنه دفعه في صدره، وأوجعه بتلك الدفعة الأليمة " ودخل أبو سعيد خلفه على مروان فقال: مالك ولابن أخيك " أي ما الذي جرى بينك وبين ابن أخيك مروان، ولماذا عاملته بهذه المعاملة الشديدة القاسية فوكزته في صدره، وهو من دمك وجنسك. وكان من حقك أن تتلطف معه بدلاً من أن تعامله بهذا، الشدة والعنف، واستعمال الأخ هنا من باب المجاز، والعرب تتوسع أحياناً في هذه الكلمة، فيطلقون الأخ على مجرد القريب أو الصاحب والصديق لِإثارة عاطفة الحب في نفس المخاطب، ألا ترى إلى قول خديجة(2/55)
رضي الله عنها لورقة بن نوفل: " اسمع من ابن أخيك " مع أنه ليس بعمه، وإنما نسبته إليه إمّا لإثارة العطف والحب عليه قي نفس ورقة، أو لتوقير ورقة واحترامه لكبر سنه. وما كان من ورقة إلاّ أن قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " يا ابن أخي ماذا ترى؟ " تعبيراً عما يكنه له من عطف ومحبة، حتى أنه ينزله من نفسه منزلة ابن أخيه، وهذا ما أراد مروان من قوله " مالك ولابن أخيك "؟ أي ماذا فعلت مع ابن صديقك الذي هو بمنزلة أخيك " قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا صلّى أحدكم إلى شيء يستره " من جدار أو أسطوانة أو نحوها " فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه " أي فإنه مأمور شرعاً بدفعه ومنعه " فإن أبي فليقاتله " أي أنه يمنعه أولاً بالإشارة، ثم يرده رداً لطيفاً فإن لم يمتنع فإنه يدفعه دفعاً شديداً. إذ ليس معناه المقاتلة الحقيقية " فإنّما هو شيطان " من شياطين الإنس. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قوله: " فليدفعه ".
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية أن يرد المصلي من يمر بين يديه وأنه مأمور بذلك بمقتضى قوله - صلى الله عليه وسلم - " فليدفعه " حيث أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بدفعه، والأمر هنا للندب عند الجمهور، حيث قالوا: يستحب له دفعه، وحمل أهل الظاهر الأمر على أصله وهو الوجوب، فقالوا: يجب على المصلى مدافعة المار، قال القرطبي: وأجمعوا على أنه لا يلزمه أن يقاتله بالسلاح. اهـ. وذلك لما تقتضيه الصلاة من الخشوع والإقبال على الله. اهـ. كما أفاده في سبل السلام (1) . ثانياً: مشروعية اتخاذ السترة وهي سنة عند أحمد ومستحبة عند الجمهور لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: " إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره " ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر " لا تصل إلاّ إلى سترة، ولا تدع أحداً يمر بين يديه " صححه الحاكم. ثالثاً: تحريم المرور بين يدى المصلي إذا كان
__________
(1) سبل السلام شرح بلوغ المرام ج 1.(2/56)
223 - "بَابُ إثْم الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي "
264 - عَنْ أبِي جُهَيْم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ، لَكَانَ أنْ يَقِفَ أرْبَعِينَ خَيْراً لَهُ مِنْ أنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيه " قَالَ الرَّاوِى: لا أدْرِي أقَالَ أرْبَعَيْنَ يَوْمَاً أوْ شَهراً أوْ سَنَةً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
له سترة، وهو مذهب مالك حيث قال: يحرم المرور بين يديه إذا كان له سترة، وللمار مندوحة، وقال أحمد يحرم مطلقاً ولو لم يكن له سترة، ويؤيده الحديث الآتي:
223 - " باب إثم المار بين يدي المصلي "
264- معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه " أي لو يعلم من يجرؤ على المرور عمداً أمام المصلي ما يترتب على ذلك من العقوبة الشديدة " لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه " أي لفضّل أن يقف هذه المدة الطويلة التي أبهمها النبي - صلى الله عليه وسلم - على المرور بين يديه، لأنّ العاقل يختار أخف الضررين " قال الراوى: لا أدرى أقال: أربعين يوماً أو شهراً أو سنة " (1) وإنما أبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه العقوبة في قوله: "ماذا عليه " للدلالة على أن عقوبة المرور أمام المصلّي عقوبة عظيمة لا يمكن أن يتصورها العقل البشري ولا يعلم مداها إلاّ الله سبحانه، فهو كقوله تعالى: (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ) و (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ) .
ويستفاد منه: أولاً: تحريم المرور أمام المصلي "إذا كان إماماً أو منفرداً ما بين قدميه وموضع سجوده، ولو لم يكن للمصلي سترة، وهو مذهب
__________
(1) وقد جاء في رواية البزاز عن أبي الجهيم نفسه أنه قال أربعين خريفاً.(2/57)
224 - " بَابُ الصَّلَاةِ خلْفَ النَّائِمِ "
265 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وأرنا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ عَلَى فِرَاشِهِ فإِذَا أَرَادَ أنْ يُوتِرَ أيقَظَنِي فَأوتَرْتُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أحمد، وقال مالك: إنّما يأثم المار إذا كان له مندوحة، أو كان للمصلّي سترة. أما إذا لم يكن له مندوحة، ولا للمصلّي سترة فلا يأثم. ثانياًً: أن المرور بين يدي المصلي كبيرة كما أفاده الحافظ لهذا الوعيد الذي يترتب عليه.
الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " لو يعلم المار بين يدي المصلّي ماذا عليه من الاثم ".
224 - " باب الصلاة خلف النائم "
265 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه " أي كان في أغلب أحيانه يصلي صلاة الليل وأنا أمامه على الفراش متوسطة بينه وبين القبلة، ولا يرى في ذلك بأساً " فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت " أي فإذا انتهى من تهجده نَبَّهني من النوم فصليت معه صلاة الوتر، قال العيني: ومثل هذا التركيب يفيد التكرار، أي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكرر الصلاة خلفها وهي نائمة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي بألفاظ.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز الصلاة خلف الإنسان النائم وصحتها، ذكراً كان أو أنثى كما ترجم له البخاري مستدلاً بحديث الباب، وهو مذهب الجمهور وكره مالك ومجاهد وطاووس الصلاة إليه خشية أن يحدث منه ما يشغل عن الصلاة ويشوش على المصلي، وتنزيهاً للصلاة عما يخرج منه، وهو(2/58)
225 - " بَابُ مَنْ قَالَ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْء "
266 - عَن عَائِشَةَ رَضِيَْ اللهُ عَنْهَا:
أنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ والْمَرْأةُ، فَقَالَتْ: شَبَّهْتُمُونَا بالْحُمُرِ والْكِلَابِ، واللهِ لَقَدْ رَأيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وإنِّي عَلَى السَّرِيرِ بَيْنَهُ وَبيْنَ الْقِبْلَةِ مُضْطَجِعَةٌ فَتَبْدُو لِيَ الْحَاجَةُ فأكْرَهُ أنْ أجْلِسَ فأُوذِيَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأنْسَلُّ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في قبلة المصلّي، واستدلوا بما رواة ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تصلوا خلف النائم والمتحدث " أخرجه أبو داود وابن ماجه وغيرهما، وهو حديث حسن وتحرير مذهب المالكية أنه لا يجوز الاستتار بالنائم لما يحدث منه من الطوارىء ويجوز بالمستيقظ الساكت. ثانياً: أفضلية صلاة الوتر في أخر الليل، وسيأتي تفصيله في موضعه. والمطابقة: في قولها: " يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه ".
225 - " باب من قال لا يقطع الصلاة شيء "
266 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها " ذكر عندها ما يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة " أي دار الحديث في مجلسها عن الأشياء التى يقول بعض الناس إنها إذا مرّت أمام المصلي تقطع صلاته وتبطلها، وهي الكلب والحمار والمرأة، فأنكرت ذلك أشد الإنكار (فقالت: شبهتمونا بالحمر والكلاب " وفي رواية بئس ما عدلتمونا بالكلب والحمار، وفي رواية أخرى للبخاري " لقد جعلتمونا كلاباً " أي جعلتمونا كالكلاب في قطع الصلاة ثم قالت: " والله لقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلّي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة " أي رأيته يصلي صلاة التهجد في الليل وأنا مضطجعة أمامه(2/59)
على السرير متوسطة بينه وبين القبلة " فتبدو لي الحاجة فأكره أن أجلس فأؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي فتطرأ لي الحاجة إلى مغادرة السرير فأكره أن أجلس أمامه لئلا أؤذيه " فأنسل من عند رجليه " أي فأمضي بتأن وتدرج من عند رجليه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن مرور المرأة بين يدى المصلي لا يقطع الصلاة وكذلك مرور الكلب والحمار وبقية الأشياء الأخرى كما ترجم له البخاري، ولهذا قال الجمهور: لا يقطع الصلاة شيء، واستدلوا بحديث الباب، هذا لأنّه كما قال القسطلاني (1) " إذا كانت المرأة لا تقطع الصلاة مع أن النفوس جبلت على الاشتغال بها، فغيرها من الكلب والحمار وغيرهما كذلك، بل أولى، واحتجوا أيضاً بحديث علي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال " لا يقطع الصلاة شيء إلاّ الحدث " أخرجه الطبراني (2) وذهب بعض أهل العلم إلى أن مرور الكلب والحمار والمرأة بين يدي المصلي يقطع الصلاة، ويبطلها عليه، لحديث أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود " أخرجه مسلم (3) وذهب الشافعي إلى تأويل القطع بأن المراد به نقص الخشوع لا الخروج من الصلاة، ويؤيد ذلك أن الصحابي راوي الحديث سأل عن الحكمة في التقييد بالكلب الأسود، فأجيب بأنه شيطان، ومعلوم أن الشيطان لو مر بين يدي المصلي لم تفسد صلاته، فالمشبَّه لا تفسد الصلاة به من باب أولى وقال أحمد: يقطعها الكلب الأسود لنص الحديث وعدم المعارض وفي قطعها من المرأة والحمار شيء لوجود المعارض، وهو صلاته إلى أزواجه. ثانياً: قال العيني: فيه جواز صلاة الرجل إلى المرأة وكرهه البعض لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - لخوف الفتنة بها، واشتغال القلب بها بالنظر إليها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - منزه عن ذلك مع أنه كان
__________
(1) شرح القسطلاني ج 1.
(2) العيني على البخاري ج 4.
(3) شرح القسطلاني ج 1.(2/60)
226 - " بَاب إذَا حَمَلَ جارِيَةً صَغيرةً علَى عُنُقِهِ في الصَّلَاةِ "
267 - عنْ أبِي قَتَادَةَ الأنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُصَلِّي وهُوَ حَامِل أمَامَةَ بنتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ولأبِي الْعَاص بْنِ الرَّبيع بْنِ عَبْدِ شَمْس، فإذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وِإذَا قَامَ حَمَلَهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في الليل، والبيوت يومئذ ليست فيها مصابيح، وفيه استحباب صلاة الليل، وجواز الصلاة على الفراش. الحديث: أخرجه الشيخان بألفاظ متعددة. والمطابقة: في قولها: " يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة ".
226 - " باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة "
267 - معنى الحديث: يحدثنا أبو قتادة رضي الله عنه: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهو حامل حفيدته أمامة بنت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي العاص ابن الربيع " أي ابنتها من زوجها أبي العاص بن الربيع ابن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، ومعناه: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام حملها على عاتقه " فإذا سجد وضعها " أي إذا ركع وضعها على الأرض كما جاء في رواية مسلم والنسائي وأحمد وابن حبان عن عامر شيخ مالك أنه كان إذا ركع وضعها، فالمراد بالسجود في حديث الباب الركوع، وإطلاق السجود على الركوع كثير في الأحاديث الصحيحة، سيما وأن وضعها حال الركوع أمر حتميٌّ لا بد منه. الحديث: أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي أيضاً.
ويستفاد منه: أولاً: جواز حمل الجارية الصغيرة في الصلاة، وكذلك(2/61)
حمل الصبي، سواء كانت الصلاة فرضاً أو نفلاً إماماً أو مأموماً أو منفرداً وهو قول الشافعي: وأجازه أحمد، قال: الأثرم سئل أحمد أيأخذ الرجل ولده وهو يصلي؟ قال: نعم، واستدل بحديث أبي قتادة وذهبت المالكية إلى أن مثل هذا الفعل لا يجوز لغيره - صلى الله عليه وسلم -، وذكر عياض عن بعضهم أنه خصوصية له - صلى الله عليه وسلم - وقال ابن عبد البر: لعل الحديث منسوخ بتحريم العمل في الصلاة.
وقال الباجي إن وجد من يكفيه أمر الصبي جاز في النافلة دون الفريضة وإن لم يجد جاز فيهما. ثانياً: أن العمل الكثير لا يبطل الصلاة، وهو مذهب الشافعية، وذهبت المالكية والحنفية إلى أنه يبطلهَا، وقالت الحنابلة: إذا كَثُر العمل وتوالى بطلت وإلا فلا (1) . مطابقته للترجمة: في قوله: " كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو حامل أمامة ".
تكملة: قال القسطلاني رداً على قول المالكية بأن جواز حمل الصبي في الصلاة من خصوصياته - صلى الله عليه وسلم -: ودعوى خصوصيته عليه الصلاة والسلام بذلك لعصمته من بول. الصبي بخلاف غيره مردودة، بأن الأصل عدم الخصوصية، وكذا دعوى الضرورة بحيث لا يجد من يكفيه أمرها، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لو تركها لبكت وشغلته في صلاته أكثر من شغله بحملها. قال النووى: وكلها دعاوى باطلة لا دليل عليها، وليس في الحديث ما يخالف قواعد الشرع، والله أعلم.
***
__________
(1) كما أفاده في المنهل العذب شرح سنن أبي داود ج 6.(2/62)
بسم الله الرحن الرحيم
" كتاب مواقيت الصلاة "
المواقيت لغة: جمع ميقات وهو الزمان أو المكان المحدد للفعل. ومواقيت الصلاة: هي عبارة عن أوقات الصلوات الخمس المحددة لها أولاً وآخراً بداية ونهاية، وهي وقت الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء. ومن المقرر شرعاً أن دخول الوقت شرط لوجوب الصلاة وصحتها معاً، فلا تجب على المكلف ولا تصح منه إلاّ إذا دخل وقتها، هذا هو قول الجمهور لقوله تعالى (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) ولأنّ جبريل نزل صبيحة يوم الإِسراء فَبَبَّنَ لنبينا - صلى الله عليه وسلم - أوقات هذه الصلوات الخمس بداية ونهاية، ثم قال له: " الصلاة ما بين هذين " وهذا يدل على أنها لا تجب ولا تصح إلّا في أوقاتها، وذهب الأحناف إلى أن دخول الوقت شرط أداء، وهو خلاف لفظي. واختلفوا أيهما أفضل: أول الوقت أو آخره، فقال الجمهور: أول الوقت أفضل إلاّ الظهر في شدة الحر، وقال أبو حنيفة: آخره أفضل إلّا المغرب، واستحب المالكية تأخير العشاء. الأداء والقضاء: لما كان للصلوات الخمس أوقات محددة ومعينة لها أول وآخر، وبداية ونهاية، فإن المسلم إمّا أن يأتي بالصلاة في وقتها فيسمى فعله هذا " أداءً " أو يأتي بها بعد خروج وقتها بأن لا يصلي العصر مثلاً إلاّ بعد غروب الشمس، فيسمى فعله هذا " قضاءً " ومن هذا يتضح لنا أن الأداء هو فعل الصلاة في وقتها، والقضاء فعل الصلاة خارج وقتها، وأجمعوا على أنه لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها إلّا لعذر شرعي من نوم أو إغماء أو نسيان أو نحوه، فإن أخّرها لعذر فإنه(2/63)
227 - " بَابُ مَوَاقِيتِ الصلَاةِ "
268 - عن أبِي مَسْعُودٍ الأنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
أنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْمُغِيرَةَ بْن شُعْبَةَ وقَدْ أخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمَاً بالْعِرَاقِ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا مُغِيرةُ! ألَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ أنَّ جبْريْلَ نَزَلَ فَصَلَّى فَصَلّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ صَلَّى فصَلّى رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ صَلّى فَصَلَّى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قَالَ: بِهَذَا أمِرْتَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يجب عليه قضاؤها، ويصح منه ولا إثم عليه، وإن أخرها عن وقتها لغير عذر، وجب عليه القضاء وصح منه (1) مع الإثم والمعصية.
227 - " باب مواقيت الصلاة "
268 - معنى الحديث: أن المغيرة بن شعبة عندما كان والياً على الكوفة من قبل معاوية أخّر يوماً صلاة العصر عن وقتها المختار لانشغاله بمصالح المسلمين، فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري فلامه وعاتبه على ذلك " فقال: ما هذا يا مغيرة " خاطبه بهذا الاستفهام الإنكاري لتشديد اللوم عليه، أي كيف تفعل هذا الأمر الذي لا يليق بعامة الناس فضلاً عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكيف تؤخر الصلاة عن وقتها " أليس قد علمت " هكذا الرواية وهو استعمال صحيح إلاّ أن المشهور أن يقال: ألست قد علمت بأسلوب الخطاب، والاستفهام هنا استفهام تقريري لإقامة الحجة على المخاطب يعلمه، أي كيف تؤخر العصر عن وقتها المختار، وقد علمت " أن جبريل نزل " صبيحة يوم الإِسراء عند الزوال " فصلى " أي فلما زالت الشمس صلّى الظهر
__________
(1) وهو مذهب الجمهور خلافاً لما ذهب إليه بعضهم من أنه إذا أخرها لغير عذر لم يصح قضاؤها.(2/64)
" فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " معه مؤتماً به، " ثم صلّى " أي ثم نزل مرّة ثانية عندما صار ظل الشيء مثله، فصلّى العصر، " فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " معه، " ثم صلى " أي ثم نزل مرة ثالثة عند غروب الشمس فصلّى المغرب، " فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " معه، " ثم صلى " أي ثم نزل مرة رابعة عندما غاب الشفق فصلّى العشاء، " فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " معه، " ثم صلى " أي ثم نزل مرة خامسة عند طلوع الفجر، فصلى صلاة الصبح، " فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " معه " ثم قال بهذا أمرت " بفتح التاء، أي أمرك الله بأداء الصلوات الخمس في هذه الأوقات، أو بالضم ومعناه أمرني الله بتعليمك أوقات الصلاة، قال العيني: وأقوى الروايتين فتح التاء، والواقع أن حديث الباب قد جاء مجملاً، ولم يحدد هذه الأوقات، لكن جاء في رواية ابن عباس البيان الشافي للأوقات بداية ونهاية، حيث قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أمَّني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس، وكانت قدر الشراك، وصلى بي العصر حين كان ظل كل شيء مثله، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرُم الطعام والشراب، فلما كان من الغد صلى الظهر حين كان ظل كل شيء مثله، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر، ثم التفت إليَّ وقال: يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين " أخرجه أبو داود.
ويستفاد من الحديث: أولاً: أن للصلوات أوقاتاً محدودة أجملها الحديث وبينها حديث ابن عباس الذي ذكرناه آنفاً. ثانياًً: أن دخول الوقت شرط في وجوب الصلاة وصحتها، فلا تجب الظهر مثلاً ولا تصح إلاّ بعد الزوال ومن فعلها قبله وجبت عليه الإعادة. ثالثاً: جواز صلاة المفترض خلف(2/65)
228 - " بَابُ الصَّلَاة كَفَّارَةٌ "
269 - عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كُنَّا جُلُوسَاً عند عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: أيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المتنفل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى وهو مفترض خلف جبريل وهو متنفل، وإليه ذهب الأوزاعى والشافعي وأحمد في رواية اختارها (1) ابن تيمية، وذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد في الرواية المشهورة عنه إلى أنها لا تجوز صلاة المفترض خلف المتنفل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما جعل الإِمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ".
الحديث: أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة كما أخرجه البخاري هنا.
228 - " باب الصلاة كفارة "
269 - مضى الحديث: يروي حذيفة رضي الله عنه في هذا الحديث أنهم بينما كانوا جالسين في مجلس الفاروق رضي الله عنه في عهد خلافته إذا به يسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحاضرين في مجلسه آنذاك قائلاً " أيكم يحفظ قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة " يعنى أي واحد فيكم يحفظ حديثاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة فليحدثنا به، والفتنة في الأصل مشتقة من الفتن وهو إدخال الذهب في النار لاختباره حتى تظهر جودته ورداءته، وليتبين هل هو ذهب خالص أو مغشوش، ثم استعملت فيما يصيب الفرد أو المجتمع من بلاء دنيوي أو ديني، أمّا الدنيوي فهو ما يصيب الناس فرداً أو جماعة، في النفس والمال والولد من مرض وفقر وموت وغيره، وأما الديني فهو ما يصيب الفرد أو الجماعة من الأسباب المؤدية إلى مخالفة أمر الله بأي نوع من
__________
(1) تيسير العلام ج 1.(2/66)
اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الفِتْنَةِ؟ قُلْتُ: أنَا كَمَا قَالَهُ، قَالَ: إنَّكَ عَلَيْهِ أو عَلَيْهَا لَجَرِيءٌ، قُلْتُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ في أهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ والصَّدَقَةُ والأمْرُ والنَّهْيُ، قَالَ: لَيْسَ هَذَا أرِيدُ، ولكِنِ الْفِتْنَةَ التي تُمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ، قَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأس يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَاباً مغلَقَاً، قَالَ: أيكْسَرُ أَم يُفْتَحُ، قَالَ: يُكْسَرُ، قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أنواع المخالفات الشرعية، ولما كانت الفتنة الدينية نوعان: فتنة خاصة تصيب الفرد في حد ذاته، وفتنة عامة تصيب الأمّة الإِسلامية بأسرها، فإنّ حذيفة ظن أنّ الفاروق يسأل عن الفتنة الخاصة فقال: " أنا كما قاله " أي أنا أحفظ كلامه - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة حرفياً مثل ما قاله تماماً " قال: إنك عليه أو عليها لجريء " أي إنك بالفعل قادر على الإِجابة عن هذا السؤال، أو عن الفتنة التي سألتك عنها قال حذيفة رضي الله عنه: " قلت فتنة الرجل في أهله وماله وولده " يعني فظن حذيفة رضي الله عنه أن عمر يسأله عن الفتنة الخاصة، فأجابه بأن فتنة الإِنسان في خاصة نفسه على ثلاثة أنواع: الأول: " فتنة الرجل في أهله " وهي أن يغلب حبه لأهله على عقله ودينه، ويحمله هذا الحب الجامح على ارتكاب الذنوب والخطايا، ومقارفة ما لا يحل من الأقوال والأعمال التي لا تبلغ درجة الكبائر كما أفاده ابن بطال. الثاني: فتنة الرجل بماله وهو أن يتغلب حبه لماله على عقله ودينه فيأتي ببعض الذنوب التي لا تبلغ في درجة الكبائر واقعاً تحت تأثير غريزة الملكية. الثالث: فتنة الرجل بولده بأن يتغلب حبه لولده على عقله ودينه، فيأتي ببعض السيئات من صغائر الذنوب تحت تأثير غريزة الأبوة. ثم قال رضي الله عنه " تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " أي وجميع هذه الفتن الفردية الخاصة التي تصيب المسلم بسبب حبه لنفسه وولده وماله تكفرها الطاعات(2/67)
إِذَنْ لَا يُغْلَقُ أبَداً. فَقُلْنَا: أكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ الْبَابَ؟ قَالَ: نَعَمْ كَمَا أنَّ دُونَ الْغَدِ اللَّيْلَةَ، إِنِّي حَدَّثْتُهُ بِحَدِيثٍ لَيْسَ بالأغالِيطِ، فَهِبْنَا أنْ نَسْألَ حُذَيْفَةَ فَأمرْنَا مَسْرُوقاً فَسَألهُ فَقَالَ: الْبَابُ عُمَرُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والحسنات (1) كما قال تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: " وأتبع السيئة الحسنة تمحها " " قال: ليس هذا أريد، ولكن الفتنة التي تموج كما يموج البحر " أي ليس هذا الذي سألتك عنه فإنّي لم أسألك عن الفتنة الخاصة التي تصيب المرء بسبب أهله أو ماله أو ولده وإنما سألتك عن الفتنة العامة التي تصيب المجتمع الإِسلامي كله، والتي تضطرب اضطراب البحر فتغرق الأمة الإِسلامية في بحر من الدماء: " فقال: يا أمير المؤمنين إن بينك وبينها باباً مغلقاً " أي إذا كنت تسألني عن الفتنة العامة التي تصيب المسلمين جميعاً بالشرور والبلايا وتوقعهم في الحروب وسفك الدماء فيما بينهم، فاطمأن يا أمير المؤمنين: فإن المسلمين اليوم في مأمن منها، وإن بينك وبين هذه الفتنة باباً مغلقاً قوياً، أما ما هو هذا الباب فسيأتي الجواب عنه في آخر الحديث " قال: أيكسر أم يفتح، قال: يكسر " أي فسأل عمر حذيفة: هل يزول هذا الباب بشدة وعنف وسفك دماء، أم يزول من دون ذلك، فقال حذيفة: بل يزول بالعنف والشدة والدم " قال: إذن لا يغلق " أي ما دام (2) قد فتح بالدماء، فسيبقى هذا الباب مفتوحاً للدماء، فلا تنتهي الحروب بين المسلمين " قيل لحذيفة: كان عمر يعلم الباب؟ قال: كما أن دون الغد الليلة " أي قال بعضهم هل كان عمر يعلم معنى الباب المذكور في هذا الحديث فقال نعم يعلمه كما يعلم أن هذه الليلة قبل الغد "إني حدثته
__________
(1) أي إن الحسنات تكفرها ما دامت لم تتجاوز حدّ الصغائر إلى الكبائر أما إذا تجاوزت هذه الفتن إلى حد اقتراف الكبائر فلا يكفرها إلاّ التوبة أو عفو الله.
(2) أي ما دام باب الفتنة يفتح بالدماء فستبقى الحروب إلى قيام الساعة.(2/68)
، 27 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَجُلاً أصَابَ مِنَ امْرَأةٍ قُبْلَةً فَأتَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبَرَه فأنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ (أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) فَقَالَ الرَّجُلُ: أَلِيَ هَذَا؟ قَالَ: " لِجَمِيع أمَّتِي كُلِّهُمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بحديث ليس بالأغاليط" أي كيف لا يعلمه وقد حدثته حديثاً صادقاً صحيحاً محققاً " فهبنا أن نسأل حذيفة فأمرنا مسروقاً، فسأله فقال: الباب عمر " يعنى أن الحائل بين الإِسلام وبين الفتنة وجود عمر رضي الله عنه. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجة.
ويستفاد منه: أولاً: أنّ الصلاة كفارة للصغائر كما ترجم له البخاري وكذلك جميع الأعمال الصالحة كفارة. ثانياً: أن الفتنة نوعان، خاصة وعامة. ثالثاً: أن وجود عمر كان باباً مغلقاً في وجه الفتن. والمطابقة: في قوله: " تكفرها الصلاة ".
270 - معنى الحديث: يحدثنا ابن مسعود رضي الله عنه " أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة " أي أن رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمّى أبو اليسر قبل امرأة أجنبيَّةً، فندم على ما فرط منه " فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره " بما وقع فيه " فأنزل الله عز وجل " في شأنه " أقم الصلاة طرفي النهار " أي صل الصلوات التي في طرفي النهار، وهما الصبح والظهر والعصر " وزُلفاً من الليل " أي وصل أيضاً الصلاتين اللتين في أول الليل وهما المغرب والعشاء " إن الحسنات يذهبن السيئات " أي فإنّ هذه الصلوات الخمس كفارة لصغائر الذنوب، ومنها ما فعلت " فقال الرجل: أليَ هذا؟ " أي هل هي كفارة لي خاصة أو للناس عامة " قال لجميع أمتي " أي أن هذه الصلوات الخمس كفارة لمن فعل ذلك من جميع أمتي، وقد روى لنا أبو اليسر قصته هذه مفصلة، فقال:(2/69)
229 - " بَابُ فضلِ الصَّلاةِ لوقتها "
271 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سَألْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أيُّ الْعَمَلِ أحَبُّ إلى الله؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ عَلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أتتني امرأة تبتاع تمراً، فقلت: إن في البيت تمراً أطيب منه، فدخلت معي في البيت فأهويت إليها، فقبلتها فأتيت أبا بكر رضي الله عنه، فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب فأتيت عمر فقال: مثله، فلم أصبر فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فقال: " أخلفت غازياً في سبيل الله في أهله بمثل هذا "، حتى تمنى أنّه لم يكن أسلم إلى تلك الساعة، حتى ظن أنه من أهل النار فأطرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طويلاً حتى أوحى الله تعالى إليه (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) فقرأها عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أصحابه: ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ قال: للناس عامة. أخرجه الترمذي وقال حسن غريب.
الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الصلاة كفارة لصغائر الذنوب. ثانياً: أن النساء أعظم فتنة على الرجال، ما خلا رجل بامرأة إلَّا والشيطان ثالثهما. والمطابقة: في قوله: " لجميع أمتي ".
229 - " باب فضل الصلاة لوقتها "
271 - معنى الحديث: يقول ابن مسعود رضي الله عنه " سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أحب إلى الله؟ " قال ابن دقيق العيد (1) الغرض من هذا السؤال معرفة ما ينبغي تقديمه من الأعمال على غيره. اهـ. وذلك لأنه
__________
(1) شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد.(2/70)
وَقْتِهَا". قَالَ: ثُمَّ أي؟ قَالَ: " بِرُّ الوَالِدَيْن " قَالَ: ثُمَّ أيْ؟ قَالَ: " الْجِهَادُ في سَبيل اللهِ " قَال: حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ولو اسْتَزَدْتُة لَزَادَنِي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كلما كان العْمل أحبَّ إلى الله كان أكثر ثواباً، فإنّ المحبوب يحظى بما لا يحظى به غيره. " قال: الصلاة على وقتها " أي أحب الأعمال إلى الله تعالى المرضية لديه الصلاة في وقتها المختار، سواء صلاها في أول الوقت أو آخره كما أفاده ابن دقيق العيد " قال ثم أي؟ " بغير تنوين، ويوقف عليه وقفة لطيفة، كما أفاده الفاكهاني (1) لأنه مضاف تقديراً، وتقديره: ثم أي العمل أحبُّ إلى الله تعالى بعد الصلاة، " قال بر الوالدين " أي العمل الثاني بعد الصلاة الاجتهاد في الإِحسان إلى الوالدين، وطاعتهما وإرضاؤهما فيما لا يغضب الله " قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله " أي الجهاد لِإعلاء كلمة الله، فإنه يأتي في المرتبة الثالثة. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
ويستفاد منه: أن أفضل الأعمال بعد الإيمان أداء الصلاة في وقتها المختار ولو في آخره، وأما حديث الوقت الآخر عفو الله، فقد تفرد به يعقوب ابن الوليد، وكان يَضَعُ الحديث كما قال ابن حِبّان. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - سئل: " أي العمل أحب إلى الله " فقال الصلاة على وقتها.
***
__________
(1) شرح العيني ج 5.(2/71)
230 - " بَابُ الإِبرَادِ بالظُّهْرِ فِي شدَّةِ الحَرِّ "
272 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَن رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قَالَ: " إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فأبرِدُوا بالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ من فَيْحِ جَهَنَّمَ، واشتكَتِ النَّارُ إلى رَبِّهَا فَقَالَتْ: أكلَ بَعْضِي بَعْضَاً، فأذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسِ في الشتاءِ وَنَفَسِ في الصَّيْفِ، فَهُوَ أشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
230 - " باب الإِبراد بالظهر "
272 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا اشتد الحَرُّ فأبردوا بالظهر " أي إذا اشتدت حرارة الجو في فصل الصيف فأخّروا صلاة الظهر حتى تخفّ الحرارة ويبرد الجو. وهذا الأمر للندب اتفاقا، قال الزمحشري: وحقيقة الإبراد الدخول في البرد، والباء للتعدية: أي افعلوها في وقت البرد عندما ينكسر الحر لأن شدته تُذهب الخشوع الذي هو ثمرة الصلاة وروحها.
" فإن شدة الحر من فيح جهنم " (1) أي فإن شدة الحر من وهج جهنم، ونَفَس من أنفاسها، وفي الحديث عن عمرو بن عَبَسَةَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ثم أقصر عن الصلاة، أي عند استواء الشمس " فإن حينئذ تُسَجَّرُ جَهَنَّمُ " أخرجه مسلم " اشتكت النار إلى ربها " أي اشتكت إليه مما تلاقيه من الغليان بلسان المقال لا بلسان الحال. لأن حمله على الحقيقة كما قال النووي هو الصواب، والله قادر على أن يخلق فيها الكلام " فقالت: أكل بعضي بعضاً " أي بحثت عن شيء آكله فلم أجد، فأكلت نفسي وتلك طبيعة النار، كما قال فيها الشاعر:
__________
(1) فيح جهنم غليانها وثورانها، يقال: فاحت القِدر إذا غلت.(2/72)
اصبر على كيد الحسود ... فإن صبرك قاتلهْ
كالنار تأكل بعضها ... إن لَمْ تجدْ ما تأكلهْ
" فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء، ونفس في الصيف " وأصل النفس ما يخرج من الجوف ويدخل إليه من الهواء، والمراد أن الله أذن لها أن تخفف عن نفسها فتفرز طاقتين متضادتين إلى هذه الأرض: طاقة باردة في الشتاء وطاقة حارة في الصيف " قال - صلى الله عليه وسلم - " فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير ". أي فليست شدة الحرارة التي تعانونها صيفاً إلّا من ذلك النفس الذي تخفف به عن نفسها صيفاً، وليست شدة البرودة التي تقاسونها شتاءً إلا من ذلك النفس الذي تخفف به عن نفسها شتاءً. ولا مانع ولا غرابة أن يجمع الله فيها بين الضدين، لأنّ الذي خلق في عالمنا الصغير - الثلج والنار - قادر على أن يخلق في جهنم طبقة نارية وطبقة زمهريرية.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب الإِبراد بصلاة الظهر للمنفرد والجماعة عند اشتداد الحر صيفاً، وهو قول أبي حنفية وإسحاق، وظاهر كلام أحمد، قال ابن قدامة: وأما في شدة الحر فكلام الخرقي يقتضي استحباب الإِبراد بها على كل حال، وهو ظاهر كلام أحمد قال الأثرم: وعلى هذا مذهب أبي عبد الله، يستحب تعجيلها في الشتاء والإبراد بها في الحر (1) ، وهو قول اسحاق وأصحاب الرأي وأبن المنذر لظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم " رواه الجماعة عن أبي هريرة، وهذا عام. وقال القاضي: إنّما يستحب الإِبراد بثلاثة شروط شدة الحر، وأن يكون في البلدان الحارة، ومساجد الجماعات، فأمّا من صلاها في بيته أو في مسجد بيته فالأفضل تعجيلها، وهذا مذهب الشافعي " وقال المالكية " يستحب الإِبراد في الحر والبرد معاً أما في الحر فيستحب للمنفرد إلى ربع القامة،
__________
(1) أي يستحب الإِبرار بها مطلقاً في البيت أو في المسجد.(2/73)
231 - " بَابُ الإِبرَادِ بالظّهْرِ في السَّفَر "
273 - عن أبي ذرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ فأرَادَ الْمُؤَذِّنُ أنْ يُؤَذِّنَ للظُّهْرِ، فَقالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " أبْرِدْ، ثُمَّ أرادَ أنْ يُؤَذِّنَ، فَقَالَ لَهُ: أبْرِدْ، حَتَّى رأيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فإذا اشْتَدَّ الْحَرُّ فأبرِدُوا بالصَّلَاةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وللجماعة إلى نصفها وأما في البرد فيستحب للجماعة فقط إلى ربع القامة.
ثانياً: ظاهر الحديث استحباب التبكير بالظهر شتاءً وهو مذهب الجمهور خلافاً للمالكية. الحديث: أخرجه أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: "فأبردوا بالظهر".
231 - " باب الإبراد بالظهر في السفر "
273 - معنى الحديث: يقول أبو ذر رضي الله عنه: " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فأراد أن يؤذن أن يؤذن للظهر " أي فأراد بلال أن يقيم لصلاة الظهر عند الزوال مباشرة " فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أبرد " أي فأمره بتأخير الصلاة حتى يَبْرُدَ الجو " ثم أراد أن يؤذن " أي ثم أراد مرة أخرى أن يقيم " فقال له: أبرد " يعني أنه - صلى الله عليه وسلم - أمره بالإبراد بالظهر مرتين " حتى رأينا فيء التلول " أي فلم نصل الظهر حتى صار للتلول ظلالٌ، والتلول والتلال ما اجتمع على الأرض من تراب ورمل ونحوه والفيء ظل الشيء الممتدِ إلى جهة الشرق بعد الزوال " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن شدة الحر من فيح جهنم فإذا اشتد الحرّ فأبردوا وبالصلاة " أي فأخروا صلاة الظهر مطلقاً في الحضر أو السفر. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - أمر بلالاً بالإبراد بالظهر، وهم على(2/74)
232 - " بَابُ وَقْتُ الظُّهْرِ عِنْدَ الزَّوَالِ "
274 - قَالَ جَابِرُ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الظهْرَ بِالْهَاجِرَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سفر.
ويستفاد منه مما يأتي: أولاً: مشروعية الإِبراد بالظهر في شدة الحر مطلقاً حتى في حال السفر، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بلالاً بالابراد بالظهر وهم مسافرون.
ثانياًً: أنه يستحب الإبراد بصلاة الظهر في شدة الحر مطلقاً وفي جميع الأحوال، سواء كان في البيت أو في المسجد في جماعة أو منفرداً لأنّه لو كان يشترط فيه أن يكون في مسجد ينتابه الناس لما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر، ولهذا قال الترمذي: ومن ذهب إلى تأخير الظهر في شدة الحر هو أولى وأشبه بالاتباع، وأمّا ما ذهب إليه الشافعي أن الرخصة لمن ينتاب من البعد وللمشقة على الناس، فإن في حديث أبي ذر ما يدل على خلاف ما قال الشافعي.
قال أبو ذر: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فأذن بلال بصلاة الظهر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا بلال أبرد، ثم أبرد، فلو كان الأمر على ما ذهب إليه الشافعي لما كان للإِبراد في ذلك الوقت معنى لاجتماعهم في السفر، وكانوا لا يحتاجون أن ينتابوا المسجد من البعد. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي.
232 - " باب وقت الظهر "
274 - معنى الحديث: يروي البخاري هذا الحديث هنا معلّقاً فيقول: " قال جابر: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلّي الظهر بالهاجرة " يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلّي صلاة الظهر بعد الزوال في وقت اشتداد الحر نصف النهار وقد وصله البخاري في باب وقت المغرب بلفظ: " كان يصلي الظهر بالهاجرة ". الحديث: أخرجه البخاري.
ويستفاد منه: أن أول وقت الظهر بعد الزوال، ولا تصح قبله قال ابن المنذر:(2/75)
275 - عن أبي بَرْزَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الصُّبْحَ، وَأَحَدُنَا يَعْرِفُ جَلِيسَهُ، وَيَقْرأُ فِيهَا مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلى الْمِائَةِ، ويُصَلَى الظّهْرَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، والْعَصْرَ وأحدُنَا يَذْهَبُ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَيَرْجِعُ والشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَنَسِيْتُ مَا قَالَ فِي المَغْرِبِ ولا يُبَالِي بتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إلى ثُلُثِ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَال: إلَى شَطر اللَّيْلَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وعليه أجمع العلماء. والمطابقة: في قوله: " يصلي الظهر بالهاجرة ".
275 - راوي الحديث: هو أبو برزة نضلة بن عبيد الأسلمِي أسلم قديماً، وغزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات، روى ستة وأربعين حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم بأربعة، والبخاري بحديثين، توفي بخراسان سنة ستين من الهجرة.
معنى الحديث: يقول أبو برزة رضي الله عنه " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الصبح وأحدنا يعرف جليسه " أي يطيل فيها حتى لا ينتهي إلاّ وقد عرف كل واحد جليسه وفي رواية: " كان يصلي الصبح فينصرف الرجل فينظر إلى وجه جليسه الذي يعرف فيعرفه " أخرجه مسلم. أي لا يفرغ منها إلّا وقد ظهرت الأشياء، وانكشفت الوجوه، وعرف زيد من عمرو " ويقرأ فيها ما بين الستين إلى المائة " هذا بيان لسبب طول صلاة الصبح، هو أنّه كان يقرأ فيها من ستين إلى مائة آية " وكان يصلي الظهر إذا زالت الشمس " أي بعد الزول مباشرة " والعصر وأحدنا يذهب إلى أقصى المدينة ويرجع والشمس حيّة " أي ولا تزال الشمس قوية الشعاع، شديدة الحرارة، ساطعة الضياء، " ولا يبالي بتأخير العشاء إلى ثلث الليل، ثم قال: إلى شطر الليل " أي يصلي العشاء أحياناً في وقت ينتهي إلى الثلث أو النصف من الليل.(2/76)
233 - " بَابُ تأخِيرِ الظُّهْرِ إلَى الْعَصْرِ "
276 - عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعَاً وَثَمَانِياً الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ والْمَغْرِبَ والْعِشَاءَ قَالَ أيُّوبُ: لَعَلَّهُ في لَيْلةٍ مَطِيرةٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن أول وقت الظهر بعد الزوال. ثانياً: أن الأفضل أداء العصر في أول وقتها المختار، وهو مذهب الجمهور خلافاً لأبي حنيفة حيث يرى أن أداءها آخر الوقت أفضل لحديث علي بن شيبان " فكان يؤخر العصر ما دامت بيضاء نقية " أخرجه أبو داود. والمطابقة: في قوله: " كان يصلي الظهر إذا زالت الشمس ".
233 - " باب تأخير الظهر إلى العصر "
276 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالمدينة سبعاً وثمانياً الظهر والعصر والمغرب والعشاء " أي صلى وهو مقيم بالمدينة الظهر والعصر معاً، فجمع بينهما، وصلى أيضاً المغرب والعشاء، فجمع بينهما، وذلك لعذر المطر، حيث اعتبر المطر عذراً شرعياً يسوّغ الجمع بين الصلاتين، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في رواية " أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً، في غير خوف ولا سفر " وفي رواية: " من غير خوف ولا مطر " رواه مسلم وأبو داود والترمذي. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يجوز للمقيم الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء جمع تأخير لعذر المطر، وهو قول مالك والشافعي(2/77)
234 - " بَابُ وَقْتِ الْعَصْرِ "
277 - عنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّى الْعَصْرَ والشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إلى الْعَوَالِي فَيَأتِيهِمْ والشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ، وَبَعْضُ الْعَوَالِي مِنَ الْمَدِينَةِ على أربَعَةِ أمْيَالٍ أَوْ نَحْوِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأحمد، غير أن الشافعي اشترط أن يكون المطر موجوداً بالفعل عند افتتاح الصلاتين، وأجاز مالك أيضاً الجمع في حال الطين والظلمة. وقال الأوزاعي وأصحاب الرأي: يصلي عند المطر كل صلاة في وقتها، وقال أبو حنيفة: لا يجوز جمع التأخير في سفر ولا غيره إلاّ في مزدلفة، وحمل حديث الباب ونحوه على أنه جمع صوري، ومعناه أنه أخر الظهر حتى بقي من وقتها جزءٌ يسيرٌ فصلاها في آخر الوقت، ثم صلى العصر في أول وقتها، فجمع بينهما فعلاً لا وقتاً، لأنه صلى كل واحدة في وقتها. لكن هذا التأويل يتعارض مع قول ابن عمر: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أعجله السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق. ثانياًً: جاء في بعض الروايات " من غير خوف ولا مطر " واستدل به أحمد وبعض الشافعية على جواز الجمِع للمرض (1) والله أعلم. والمطابقة: في قوله: " صلى بالمدينة سبعاً وثمانياً الظهر والعصر ".
234 - " باب وقت العصر "
277 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه: " قال كان النبي يصلي العصر والشمس مرتفعة حية " أي يصلي العصر، ولا تزال الشمس عالية قوية الشعاع، شديدة الحرارة، "فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم،
__________
(1) ذهب جماعة من الأئمة إلي جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة، وهو قول ابن سيرين، وأشهب من أصحاب مالك، واختاره ابن المنذر، ويؤيد ذلك قول ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته، فلم يعلله بمرض ولا غيره. (ع) .(2/78)
والشمس مرتفعة" أي فيخرج الرجل بعد انتهاء صلاة العصر في المسجد النبوي إلى العوالي ثم يعود إلى المدينة وما زالت الشمس مرتفعة قوية الضوء لم تتغير بعد إلى الصفرة " وبعض العوالي من المدينة على بعد أربعة أميال " أي وأقرب العوالي إلى المدينة على بعد أربعة أميال على الأقل أما أقصاها فهو ثمانية أميال، كما أفاده ابن الأثير. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن أول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله، لأن الرجل (1) كان يذهب بعد صلاة العصر إلى العوالي، ويعود ولا تزال الشمس بيضاء لم تصفر بعد، والمسافة بين المدينة والعوالي ذهاباً وإياباً لا تقل عن ثمانية أميال على الأقل، وهي مسافة لا يمكن أن يقطعها المرءُ بعد صلاة العصر وقبل الإصفرار إلاّ إذا صلى العصر عندما صار ظل كل شيء مثله. ثانياًً: أن صلاة العصر في أول وقتها أفضل، وهو مذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة: العصر في آخر وقتها المختار أفضل. والحديث حجة الجمهور. لقول أنس: " كان - صلى الله عليه وسلم - يصلّي العصر والشمس مرتفعة حية " ... إلخ. والمطابقة: في قوله: " كان يصلي العصر والشمس مرتفعةُ " ... إلخ.
***
__________
(1) أي لأن الرجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العصر مع الجماعة في المسجد النبوي ثم يذهب إلى العوالي، ويعود قبل الاصفرار.(2/79)
235 - " بَابُ إِثْمِ مَنْ فَاتتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ، وإثم من ترك العصر "
278 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ كأنَّمَا وُتِرَ أهْلَهُ وَمَالَهُ ".
279 - عَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
235 - " باب إثم من فاتته صلاة العصر، وإثم من ترك العصر "
278 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الذي تفوته صلاة العصر " أي الذي تفوته صلاة العصر في وقتها ولم يُصلِّهَا إلاّ بعد خروج الوقت. لغير عذر شرعي " كأنما وتر أهلهُ وماله " يروى بالنصب (1) على أنه مفعول ثانٍ، والمفعول الأول ضمير مستتر في محل رفع نائب فاعل، أي من أخر صلاة العصر حتى خرج وقتها لغير عذر شرعي فكأنما أصيب في أهله وماله، ويجوز رفعه على أنه نائب فاعل، والمعنى فكأنما سلمت أهله وماله. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " كأنّما وتر أهلَه ومَالَهُ " فإنّ هذا الوعيد لا يترتب إلاّ على معصية يأثم عليها.
279 - ترجمة الراوي: هو بريده بن الحصيب بضم الحاء وفتح الصاد وإسكان الياء الأسلمي، أسلم يوم بدر، وشهد ما بعدها، وغزا خراسان على عهد عثمان، وسكن مرو، روى 164 حديثاً اتفقا على واحد، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بأحد عشر توفي سنة 62 من الهجرة.
معنى الحديث: أن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه: أمرهم في يوم
__________
(1) أي بنصب " أهل " على أنه مفعول ثانٍ و" مال " معطوف عليه.(2/80)
أَنَّهُ قَالَ في يَوْمٍ ذِي غَيْم بَكرُوا بِصَلَاةِ الْعَصْرِ فإِنَّ النَّبَِّي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ".
236 - " بَابُ فضلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ "
280 - عَنْ أبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "يَتَعَاقَبُونَ فيكُمْ مَلائِكَة باللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بالنَّهارِ، وَيَجْتَمِعُونَ في صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غائم أن يعجلوا بصلاة العصر في أول وقتها، وحذرهم من تأخيرها قائلاً: " فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من ترك صلاة العصر " أي أخرها عن وقتها لغير عذر " فقد حبط عمله " أي فقد بطل ثوابه، وضاع أجره عن تلك الصلاة التى أخرها، فلا ثواب له عليها. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في قوله: " فقد حبط عمله ".
ويستفاد من الحديثين: أن تأخير صلاة العصر عن وقتها -لغير عذر- كبيرة من الكبائر، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - توعد من فعل ذلك بإحباط عمله، وإسقاط ثوابه عن تلك الصلاة، وأنه كمن خسر أهله وماله، وهذا الوعيد الشديد لا يترتب إلاّ على كبيرة، وحكم بقية الصلوات كحكم صلاة العصر فمن أخرها لغير عذر فقد استحق هذا الوعيد نفسه.
236 - " باب فضل صلاة العصر "
280 - معنى الحديث: أن أبا هريرة يحدثنا " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار " أي تتناوب الملائكة على حراسة البشر فطائفة تحرسهم ليلاً وطائفة أخرى تحرسهم نهاراً "وهؤلاء(2/81)
فِيكُمْ، فَيَسْألهُمْ وَهُوَ أعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِيَ؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وأتيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هم الحفظة" الذين قال الله تعالى فيهم: (وإن عليكم لحافظين) فملائكة الليل تحرسنا من وقت صلاة العصر إلى آخر صلاة الفجر، وملائكة النهار من أول صلاة الفجر إلى آخر صلاة العصر " يجتمعون في صلاة الفجر " أي تجتمع ملائكة النهار بملائكة الليل في صلاة الفجر حيث ينزل ملائكة النهار عند أول الصلاة، ولا زال ملائكة الليل موجودين فيلتقون بهم " وصلاة العصر " أي ويجتمع ملائكة الليل بملائكة النهار في صلاة العصر " ثم يعرج الذين باتوا فيكم " أي ثم يصعد ملائكة الليل بعد صلاة الفجر " فيسألهم " الرب عز وجل " وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ " أي يسألهم كيف تركتم عبادي، وهو في غنى عن سؤالهم هذا، لأنه عليم بهم، وإنما يسألهم عن ذلك في الملأ الأعلى تنويهاً بشأن بني آدم وبياناً لفضلهم، وليباهي بهم الملائكة " فيقولون تركناهم وهم يصلون " صلاة الصبح " وأتيناهم وهم يصلون " صلاة العصر، فهم في صلاة دائمة. وكذلك يسأل عز وجل ملائكة النهار، فيجيبون بمثل ما أجاب به ملائكة الليل. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
ويستفاد منه: فضل صلاة الصبح وصلاة العصر في جماعة وكونهما تشهدهما الملائكة، وتشهد لمن صلّاهما، وهذه مزية عظيمة لمن صلاهما في جماعة، حيث نوِّة به في الملأ الأعلى. كما أفاده العيني حيث قال: فإن قلت شهودهم معهم الصلاة في الجماعة أم مطلقاً، قلت: اللفظ يحتمل للجماعة وغيرهم، ولكن الظاهر أن ذلك في الجماعة. والله أعلم. والمطابقة: في قوله: " فيجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر " كما أفاده العيني.(2/82)
237 - " بَابُ مَنْ أدْرَكَ رَكْعَةً من الْعَصْرِ قَبْلَ الْغروبِ "
281 - عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -: " إِذَا أدْرَك أحدُكُمْ سجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتمَّ صَلَاتَهُ، وِإذَا أدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أنْ تَطْلَعَ الشَّمْسُ فليُتمَّ صَلَاَتهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
237 - " باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب "
281 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته " أي إذا حصّل أحدكم من صلاة العصر ركعة كاملة بسجدتيها قبل الغروب، فقد أدرك صلاة العصر في وقتها فليتم بقية صلاته على أنه صلاها أداء في وقتها. عبر بالسجدة عن الركعة، لأن الركعة إنما يكون تمامها بسجودها كما أفاده العيني، وقد جاء التصريح بذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم - " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " وكذلك الحكم بالنسبة لصلاة الصبح كما قال - صلى الله عليه وسلم - " وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته " أي فقد أدرك الصبح في وقتها فليتمها.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنّ من أدرك ركعة كاملة بسجدتيها من العصر أو الصبح قبل خروج الوقت فقد أدرك تلك الصلاة في وقتها، ولا خلاف في ذلك، وإنما اختلفوا فيمن أدرك أقل من ركعة فذهب الحنفية والحنابلة في أرجح الروايتين عن أحمد (1) إلى أن الفريضة تدرك أداءً بتكبيرة الإحرام في وقتها المخصص لها، سواء أخرها لعذر كحائض تُطهر، أو مجنون يفيق، أو لغير عذر. وذهب المالكية والشافعية في الأصح إلى أنه إنما تُعَدُّ
__________
(1) الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي ج 1.(2/83)
الصلاة أداءً في وقتها إذا صلّى ركعة بسجدتيها قبل خروج الوقت، أمّا إذا أدرك أقل من ركعة فإنّها تكون قضاءً بدليل ما جاء في حديث الباب: حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه: " إذا أدرك أحدكم سجدة " ولا يمكن إدراك السجدة إلّا لمن أدرك الركعة كاملة بسجودها، بالإِضافة إلى ما جاء في خبر الصحيحين " من أدرك ركعة من العصر فقد أدرك الصلاة " أي أدركها مؤداة في وقتها ومفهومه أن من لم يدرك ركعة لا يدرك الصلاة مؤداه، وهذا الرأي فيما يظهر أصح (1) ، لأنه لا يمكن إدراك السجود إلاّ بعد الركوع، بالإِضافة إلى ما رواه الجماعة " من أدرك من الصبح ركعة " قال الحافظ في قوله - صلى الله عليه وسلم - (2) " من أدرك من الفجر ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك ": ظاهره أنه يكتفي بذلك أي بالركعة، وليس ذلك مراداً بالإِجماع فقيل يحمل على أنه أدرك الوقت، فإذا صلّى ركعة أخرى كملت صلاته. ثانياً: أنه تجوز صلاة الفرائض في جميع أوقات النهي، ولو غربت الشمس، وهو في صلاة العصر، أو طلعت وهو في الصبح أتمَّ بقية صلاته، وكانت صحيحة، وهو مذهب الجمهور في جميع أوقات النهي، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب، أو ركعة من الصبح قبل الشروق أن يُتمَّ صلاته كما في حديث الباب، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث قتادة: " فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها، فليصلها إذا ذكرها " أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الترمذي، فإن هذين الحديثين يدلان صراحةً على جواز الفريضة وصحتها في جميع أوقات النهي، ولو كانت محرمة لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعلها في قوله: " فليصلها إذا ذكرها "، ولو كانت باطلة لما أمر باتمامها في قوله: " فليتم صلاته " وقالت الحنفية: تكره صلاة الفريضة في جميع أوقات النهي كراهة تحريمية، تقتضي عدم صحة
__________
(1) " الفقه الإسلامي وأدلته " للدكتور وهبة الزحيلي.
(2) " فتح الباري شرح البخاري " ج 2.(2/84)
238 - " بَابُ وَقْتِ الْمَغرِبِ "
282 - عن رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَيَنْصَرِفُ أحَدُنَا وَإنَّهُ ليبْصِرُ مَوَاقِعَ نَبْلِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصلاة، وبطلانها، واستثنوا من ذلك فرض عصر اليوم (1) أداءً، فإنه يجوز ويصح عند الغروب. واستدلوا بأحاديث النهي كحديث أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس " متفق عليه، والجمهور على أنّ هذه الأحاديث خاصة بالنوافل، وأن حديث الباب وغيره مخصص لها. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة.
238 - " باب وقت المغرب "
282 - معنى الحديث: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجلون بصلاة المغرب، فيصلونها بعد غروب الشمس فوراً حتى أنهم ينتهون منها ولا زال النور منتشراً بحيث يرى أحدهم المواضع التي يصل إليها نبله، لأن الأشياء ما زالت ظاهرة لم يحجبها الظلام.
ويستفاد منه: أن وقت المغرب يبدأ من غروب الشمس حالاً، وأنه ضيق جداً لا يمتد إلاّ بمقدار أداء الصلاة لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يداوم على أدائها بعد الغروب مباشرة وهو مذهب مالك والشافعي الجديد (1) وعليه بعض أهل العلم يرون أن وقت المغرب ينقضي بمقدار الوضوء وستر العورة والأذان والإِقامة وخمس ركعات أي أن وقته مضيق غير ممتد لما جاء في حديث جابر أن جبريل
__________
(1) " الفقه الإسلامي وأدلته " للدكتور وهبة الزحيلي.(2/85)
239 - " بَابُ وقْتِ الْعِشَاءِ إلى نِصْفِ اللَّيْلِ "
283 - قَالَ أبو بَرْزَةَ:
كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَحِبُّ تَأخِيرَهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صلى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في اليومين في وقت واحد (1) ، ولما جاء في حديث الباب هذا. وذهب الجمهور من الحنيفة والحنابلة والأظهر عند الشافعية، وهو مذهب الشافعي القديم إلى أنه يمتد إلى مغيب الشفق لما جاء في حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " وقت المغرب ما لم يغيب الشفق " أخرجه مسلم. وفي حديث أبي موسى " فصلى المغرب -أي من الغد- قبل أن يغيب الشفق " أخرجه أبو داود، أما حديث جابر فقد حمله الجمهور على وقت الفضيلة والاختيار لا على الجواز. الحديث: أخرجه الشيخان وابن ماجة. والمطابقة: في دلالته على المبادرة إلى صلاة المغرب.
239 - " باب وقت العشاء إلى نصف الليل "
283 - معنى الحديث: يقول أبو برزة رضي الله عنه " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستحب تأخيرها " أي يفضل تأخيرها يعني يرغّب أصحابه في تأخير صلاة العشاء دون أن يبين مقدار ذلك.
ويستفاد منه: استحباب تأخير صلاة العشاء إلاّ أن أبا برزة لم يحدد مقدار هذا التأخير الذي سيأتي موضحاً في الأحاديث الآتية. والمطابقة: في قوله: " يستحب تأخيرها ". الحديث: أخرجه البخاري موصولاً في باب وقت العصر.
***
__________
(1) وهو غير الاظهر المعمول به عند الشافعية.(2/86)
284 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
أَخَّرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ العِشَاءِ إلى نِصْفِ اللَّيلَ، ثُمَّ صَلَّى، ثمَّ قالَ: " قَدْ صَلَّى النَّاسُ وَنَامُوا، أَمَا إنَّكُمْ فِي صَلَاةٍ ما انْتَظرتُمُوها ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
284 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل العشاء ليلة إلاّ في آخَّر النصف الأول من الليل، ثم قال لهم: لقد صلّى غيركم، أما أنتم فقد أخرتم هذه الصلاة إلى هذا الوقت المتأخر من الليل، فكنتم في صلاة مدة انتظاركم لها، يحتسب لكم ثوابها طوال هذه المدة، وفي رواية أخرى أنه قال: " ولولا ضعف الضعيف، وسقم السقيم لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل " أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة. الحديث: أخرجه الشيخان بألفاظ.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: ظاهر الحديث أن وقت العشاء يمتد إلى آخر نصف الليل، ويخرج بالنصف وهو وقت الاختيار عند الجمهور والرواية الثانية عن أحمد وقول ابن المبارك وأصحاب الرأي وأحد قولي الشافعي كما أفاده القسطلاني (1) وابن قدامة (2) لما روي عن أنس قال: " أخَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العشاء إلى نصف الليل " رواه البخاري، وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لولا ضعف الضعيف وسقم السقيم لأمرت بهذه أن تؤخر إلى شطر الليل " رواه أبو داود والنسائي، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " وقت العشاء إلى نصف الليل " رواه أبو داود، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أعتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ذهب عامة الليل، ثم خرج فصلّى، ثم قال: " إنه لوقتها " أي وقتها المختار " لولا أن أشق على أمتي لأخرتها إليه " أخرجه مسلم، وروي عن أحمد أنّ وقت العشاء المختار يمتد إلى ثلث الليل، وهو قول عمر وأبي هريرة وعمر
__________
(1) شرح القسطلاني ج 1.
(2) المغني ج 1.(2/87)
ابن عبد العزيز ومالك بن أنس لما جاء في حديث جبريل أنه صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المرة الثانية ثلث الليل، وقال: " الوقت ما بين هذين " وذهب الظاهرية إلى أنّ وقتها الاختياري يمتد إلي طلوع الفجر لما جاء في حديث أبي قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنما التفريط أن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى " فهو عام متأخر عن حديث إمامة جبريل، وناسخ له اهـ. كما حكاه ابن رشد.
ثانياً: أن تأخير صلاة العشاء إلى نصف الليل أفضل لحديث الباب، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد " لولا ضعف الضعيف، وسقم السقيم لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل " حيث دل على أن تأخيرها إلى نصف الليل أفضل وإنما قدمها - صلى الله عليه وسلم - مراعاة للضعفاء والذين لا يستطيعون التأخير إلى ذلك الوقت المتأخر من الليل فيؤدي ذلك إلى تفويت تكثير الجماعة، ولذلك ذهب بعض أهل العلم إلى أن تأخيرها أفضل، وذهب بعضهم إلى أن صلاتها في أول الوقت عند مغيب الشفق أفضل، وروى العراقيون من أصحابنا عن مالك أن تأخيرها أفضل، وبه قال أبو حنيفة لما جاء في حديث أم كلثوم بنت أبي بكر عن عائشة: " أعتم النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد، خرج فصلى، فقال: إنه لوقتها " وقال في المنهل العذب (1) : وقد اختلف العلماء أتقديمها أفضل أم تأخيرها؟ وهما مذهبان مشهوران للسلف، وقولان لمالك والشافعي، فذهب فريق إلى تفضيل التأخير محتجاً بهذه الأحاديث، كحديث الباب، وحديث أبي سعيد، وحديث ابن عمر المتقدمة، وذهب فريق إلى تفضيل التقديم محتجاً بأنه العادة الغالبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي التقديم، وإنما أخرها في أوقات يسيرة لبيان الجواز، أو لشغل أو لعذر، ولو كان تأخيرها أفضل لواظب عليه. " وَرُدَّ " بأن هذا يتم لو لم يكن منه - صلى الله عليه وسلم - إلاّ مجرد الفعل
__________
(1) " المنهل العذب " ج 3.(2/88)
240 - " بَاب مَا يُكْرَهُ مِنَ السَّمَرِْ بَعْدَ الْعِشَاءِ " (1)
285 - عن أبي بَرْزَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الْهَجِيرَ وهي التي تَدْعُونَهَا الأولى حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ، ويُصَلِّي الْعَصْرَ ثم يَرْجِعُ أحَدُنَا إلى أهْلِهِ في أقصى الْمَدِينَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لها في ذلك الوقت، وهو ممنوع، لورود الأقوال كما في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه " رواه ابن ماجة والترمذي وصححه، إلى غير ذلك من الأحاديث التي فيها تنبيه على أفضلية التأخير. والمطابقة: في قوله: " أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العشاء إلى نصف الليل ".
240 - " باب ما يكره من السمر بعد العشاء "
قال القاضي عياض: والسمر رويناه بفتح الميم، وقال ابن سراج: الصواب سكونها، لأنّه اسم الفعل، ومعنى السمر بالفتح التحدث مع الإِخوان بعد صلاة العشاء، ويختلف حكمه فمنه ما هو جائز مشروع، ومنه ما هو مكروه، والغالب فيه الكراهة كما يدل عليه الحديث.
285 - معنى الحديث: يقول أبو برزة رضي الله عنه: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الهجير حين تدحض الشمس " أي كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر إذا زالت الشمس عن كبد السماء، فالهجير هي صلاة الظهر، لأنها تصلّى في الهاجرة عند منتصف النهار " ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى
__________
(1) ذكر البخاري هذا الباب بعد باب قضاء الصلوات الأولى فالأولى ولكني قدمته هنا لمناسبته للباب السابق.(2/89)
والشَّمْسُ حَيَّةٌ، ونسيتُ مَا قَالَ في الْمَغْرِبِ، قَالَ: وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أنْ يُؤَخِّرَ الْعِشَاءَ، قَالَ وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا والْحَدَيْث بَعْدَهَا، وكانَ يَنْفَتِلُ من صَلَاةِ الغَدَاةِ حينَ يَعْرِفُ أحَدُنَا جَلِيسَهُ، وَيَقْرأ مِنْ السِتِّينَ إلى المِائَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أهله في أقصى المدينة والشمس حيّة" أي ويصلي العصر في أول وقتها، حتى أنّ الواحد منا يذهب إلى أبعد مكان في المدينة، ويعود منه، والشمس لا تزال قوية الشعاع، مرتفعة في السماء، لم يدخل وقت الاصفرار، ثم ذكر أنه نسى ما قاله أبو برزة عن صلاة المغرب، ثم " قال: وكان - صلى الله عليه وسلم - يستحب أن يؤخر العشاء " أي كان - صلى الله عليه وسلم - يفضل تأخير العشاء كما تقدم في الحديث السابق " وكان يكره النوم قبل العشاء " لمن يتعمد ذلك، أما من غلبه النوم فلا شيء عليه " والحديث بعدها " أي وكان يكره الحديث بعد العشاء، إلّا لفائدة مقصودة شرعاً " وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف أحدنا جليسه " أي يطيل القراءة في الصبح حتى لا ينتهي منها إلاّ وقد انتشر الضوء، وعرف كل واحد جليسه.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على كراهية السمر بعد العشاء لغير فائدة مقصودة شرعاً كمسامرة الأهل أو لضيف، وسماع موعظة أو علم فإنه لا يكره. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " وكان يكره النوم قبلها، والحديث بعدها ".
***(2/90)
241 - " بَابُ فَضْلُ صَلَاةِ الْفَجْرِ "
286 - عنْ أبِي موسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أن رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
241 - " باب فضل صلاة الفجر "
286 - معنى الحديث: يحدثنا أبو موسى رضي الله عنه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من صلى البردين " بفتح الباء الموحدة، وهما صلاتا الفجر والعصر، لأنهما تقعان في بردي النهار، أي طرفيه، وقيل لأنهما تفعلان في وقت البرد، وطيب الهواء، وانخفاض الحرارة، " دخل الجن " أي من واظب على أداء صلاتي الصبح والعصر في وقتهما المختار دخل الجنة ابتداءً مع السابقين الأولين.
ويستفاد منه: فضل صلاتي الفجر والعصر، وكون المواظبة عليهما سبباً في دخول الجنة، بشرط أن يكون المواظب عليهما صادق الإيمان، لأن الكافر لا عمل له، وقد جاء هذا الشرط مصرحاً به في قوله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عمار " لن يدخل النار من مات لا يشرك بالله شيئاً، وكان يبادر لصلاته قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " أخرجه البزار. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون أحد البردين هي صلاة الفجر.
***(2/91)
242 - " بَابُ وقتِ الفجرِ "
287 - عنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ حَدَّثَهُ أنَهُمْ تَسَحَّرُوا مَعَ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثم قدمُوا إلَى الصلاةِ قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ أوْ سِتِّينَ يَعْنِي آيَةً.
288 - عَنْ سَهْل، بْنِ سَعْد رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
كُنْتُ أتُسَحرُ في أهْلِي ثم يَكُونُ سرعَة بي أنْ أدْرِكَ صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
242 - " باب وقت الفجر "
287 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه: " أن زيد بن ثابت رضي الله عنه حدثه أنهم تسحروا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي تناولوا معه طعام السحور " ثم قاموا إلى الصلاة " أي إلى صلاة الصبح " قلت: كم بينهما " أي كم المدة التي بين السحور وصلاة الفجر، " قال: قدر خمسين أو ستين " يجوز في قدر الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير والزمن بينهما قدرُ خمسين آية، وهو موضع الترجمة، لأنه يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الصبح بعد السحور بزمن يتسع لقراءة خمسين آية (1) . الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " قلت: كم بينهما " قال: قدر خمسين أو ستين آية.
288 - معنى الحديث: يقول سهل بن سعد رضي الله عنهما: " كنت أتسحر في أهلي " أي مع أهلي من بني ساعدة، وكانت منازلهم شمال المسجد في محلة باب المجيدى التي تمتد من بيرحاء وفندق زهرة المدينة إلى
__________
(1) ويدل أيضاً على أن وقت صلاة الصبح بعد الفجر مباشرة.(2/92)
السحيمي (1) كما أفاده مؤرخ المدينة الأستاذ إبراهيم العياشي " ثم تكون سرعة (2) بي أن أن أدرك الفجر " أي ثم أمشي بسرعة بعد السحور مباشرة لكى أتمكن من إدراك صلاة الصبح جماعة " مع النبي - صلى الله عليه وسلم - " وفي مسجده الشريف فإذا لم أسرع فاتتني الصلاة أو الركعة الأولى منها. والحديث أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " ثم تكون سرعة بي أن أدرك صلاة الفجر " وذلك كما أفاده العيني بطريق الإِشارة إلى أن أول وقت صلاة الفجر طلوع الفجر.
ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: أن وقت صلاة الصبح يبدأ بعد طلوع الفجر مباشرة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الصبح بعد السحور بزمن قصير لا يتسع إلاّ لقراءة خمسين آية، ولأن سهل بن سعد رضي الله عنهما الذي يسكن بجوار المسجد، وبالقرب منه، كان لا يدرك صلاة الصبح في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلاّ إذا ذهب إليها بعد السحور بسرعة، فإذا تباطأ قليلاً فاتته، وهذا يدل دلالة أكيدة صريحة على مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على صلاة الصبح بعد الفجر مباشرة. ثانياًً: أن أداء صلاة الصبح في أوّل الوقت أفضل لأن الحديثين يدلان على مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وما واظب النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعله فهو سنة.
***
__________
(1) " المدينة بين الماضي والحاضر " لفضيلة الاستاذ إبراهيم العياشي.
(2) وسرعة مرفوع على أنه فاعل تكون التامة، أي ثم توجد منه سرعة لكي يدرك صلاة الصبح مع الجماعة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -.(2/93)
243 - " بَابُ الصَّلَوَاتِ الْخمس كَفَّارَةٌ "
289 - عَن أبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " أرَأَيْتُمْ لَوْ أن نَهَراً بِبَابِ أحدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْساً، ما تَقُوْلُ ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ؟ قَالُوا: لَا يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئَاً، قَالَ: فذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَواتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
243 - " باب الصلوات الخمس كفارة "
قدم البخاري هذا الباب فوضعه بعد باب فضل الصلاة لوقتها ولكني أخرته هنا ليكون بعد الأبواب المذكورة فيها أوقات الصلوات الخمس.
289 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم فيغتسل فيه كل يوم خمساً، ما تقول ذلك يبقي" بضم الياء في أوله وكسر القاف " من درنه " أي أخبروني لو وجد أحدكم نهراً أمام منزله يغتسل فيه خمس مرات يومياً أتظنون أن ذلك الاغتسال المتكرر يبقي شيئاً من أوساخه البدنية؟ " قالوا: لا يبقي من درنه شيئاً " لأن الاغتسال مرة واحدة في اليوم كاف لتنظيف البدن فكيف إذا كان خمس مرات " قال: فذلك مثل (1) الصلوات الخمس " أي فإن الصلوات الخمس تشبه الاغتسال خمس مرات في اليوم، فإذا كان الاغتسال، بمثل ذلك العدد ينظف الجسم من الأقذار، ويحميه من الميكروبات التي تسبب له الأمراض البدنية، فإن الصلوات الخمس تكفر السيئات، وتمحوها من كتاب الحفظة، كما تحمى النفس وتقيها من الخطايا التي لم تقترفها بعد، وتطهرها أيضاً من جميع الأمراض النفسية من القلق والحقد
__________
(1) بكسر الميم وسكون الثاء، ويجوز فتح الميم والثاء.(2/94)
244 - " بَاب الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حتَّى ترْتفِعَ الشَّمْس "
290 - عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهمَا قَالَ:
شَهِدَ عنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ، وَأرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَىْ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والحسد والعداوة والأنانية وغيرها، بالإِضافة إلى تكفير الخطايا التي اقترفتها كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " يمحو الله بِهِ (1) الخطايا " أي يكفرها.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: إن الصلوات الخمس كفارات لصغائر الذنوب. ثانياً: إنها علاج ناجع للأمراض النفسية، وقد عولج بالصلاة بعض المصابين بها، وهم كفار فشفوا وأسلموا. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " يمحو الله به الخطايا ".
244 - " باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس "
290 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " شهد عندي رجال مرضيون " أي أخبرني رجال ثقات من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد الصبح " أي نهى عن صلاة النافلة بعد صلاة الصبح " حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب " أي إلى غروب الشمس.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم النافلة بعد صلاة العصر إلى الغروب، بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، وأما قول عائشة رضي الله عنها: " ركعتان لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعهما سراً أو علانية " أي
__________
(1) هكذا في رواية البخاري بتذكير الضمير، وعند مسلم والترمذي والنسائي والدارمي " بهن " وعند أحمد في المسند " بها ". (ع) .(2/95)
245 - " بَابُ الْأذَانِ بَعْدَ ذَهَابِ الْوَقْتِ "
291 - عَنْ أبي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
سِرْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةً، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: لَوْ عَرَّسْتَ بِنَا يَا رَسُولَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا يتركهما سواء كان في بيته أو في المسجد " ركعتان قبل الصبح وركعتان بعد العصر (1) " الذي استدل به الظاهرية على مشروعية النافلة بعد العصر فقد أجاب عنه الجمهور بأنه من خصوصياته - صلى الله عليه وسلم - واختلفوا فيما يحرم من النوافل في أوقات النهي، فقال الجمهور: تحرم جميع النوافل ما عدا ركعتي الطواف عند أحمد، وقال الشافعي يحرم من النوافل ما ليس له سبب، ويجوز ماله سبب شرعي كصلاة الكسوف، وتحية المسجد، وسجدة التلاوة، وسجدة الشكر، وقضاء السنة الفائتة لصلاة رباعية واستدلوا بحديث أم سلمة رضي الله عنها " أنها رأت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين بعد العصر، فأرسلت جاريتها تسأله عنها فقال: إنه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين بعد الظهر، فهما هاتان " قال الشافعي: ويحرم ما ليس له سبب إلاّ سنة الفجر.
الحديث: أخرِجه الستة. والمطابقة: في قوله: " نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس ".
245 - " باب الأذان بعد ذهاب الوقت "
291 - معنى الحديث: يقول أبو قتادة رضي الله عنه: " سرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة فقال بعض القوم: لو عرست " أي سار النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه ليلة مسافة طويلة حتى كان الهزيع الأخير من الليل، وأحسوا بالتعب فقال بعضهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ليتك تنزل بنا ها هنا لكي نأخذ حظاً من الراحة والنوم،
__________
(1) أخرجه الشيخان والنسائي.(2/96)
اللهَ، قَالَ: " أخاف أنْ تَنَامُوا عَنَ الصَّلَاةِ " (1) قَالَ بِلَال: أنَا أوقظُكُمْ، فاضْطَجَعُوا (2) ، وأسْنَدَ بِلَال ظَهْرَهُ إلى رَاحِلَتِهِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ، فاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقَدْ طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْس فَقَالَ: يَا بِلالُ أْينَ مَا قُلْتَ؟ فَقَالَ: ما أُلقِيَتْ عَلَيَّ نَوْمَة مِثْلُهَا قَطُّ قَالَ: " إِنَّ اللهَ قَبَضَ أرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ، وَرَدَّهَا عَليْكُمْ حين شَاءَ، يَا بِلالُ قُمْ فَأذِّنْ بالنَّاس بالصَّلَاةِ " فَتَوَضَّأ فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ وابْيَاضَّتْ قَامَ فَصَلَّى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فنزل بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المكان قال بلال: أنا أوقظكم " فاضطجعوا وأسند بلال ظهره إلى راحلته " أي دابته " فغلبته عيناه فنام فاستيقظ النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد طلع حاجب الشمس " أي وقد طلع طرفها الأعلى " فقال: يا بلال أين ما قلت " يعني أين ما وعدتنا به من مراقبة طلوع الفجر، وتنبيهنا لصلاة الصبح، " فقال: ما ألقيت علي نومة مثلها قط، قال: إنّ الله قبض أرواحكم حين شاء، وردهما عليكم حين شاء " أي لا حرج عليكم في ذلك، لأن الله هو الذي أرخى عليكم النوم، وتوفّى أرواحكم حين شاء فنمتم، وردها إليكم حين شاء فاستيقظتم " قُمْ فأذن بالناس بالصلاة " أي فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلالاً أن يؤذن للصبح بعد خروج الوقت " فتوضأ فلما ارتفعت الشمس وابياضت قام فصلّى " أي فلم يصل النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح عند طلوع الشمس، وإنما انتظر حتى ارتفعت الشمس، فقام فصلّى.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الأذان للصلاة - الفائتة كما ترجم له البخاري، وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة خلافاً لمالك والشافعي. ثانياً: استدل به أبو حنيفة على أن الصلاة الفائتة لا تقضى
__________
(1) أي أخاف أن تناموا عن صلاة الصبح.
(2) بفتح الجيم.(2/97)
246 - " بَابُ مَنْ صَلَّى بِالنَّاس جَمَاعَةً بَعْدَ ذَهَابِ الْوَقْتِ "
292 - عن جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْش، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حتى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " وَاللهِ مَا صَلَّيْتُهَا! " فَقُمْنَا إلى بَطْحَانَ، فَتَوَضَّأ لِلصَّلَاةِ، وَتَوَضَّأنَا لَهَا، فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في وقت النهي، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في هذا الحديث لما فاتته الصبح لم يصلها حتى ارتفعت الشمس وابياضت، وقال الجمهور: تقضى الفوائت في كل وقت حتى في أوقات النهي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها". الحديث: أخرجه الخمسة. والمطابقة: في قوله: " قم فأذن بالناس بالصلاة ".
246 - "باب من صلى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت"
292 - معنى الحديث: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الخندق بعد غروب الشمس وهو يَسُب كفار قريش ويقول: لقد أخرتُ اليوم صلاة العصر بسبب قتال هؤلاء حتى أوشكت الشمس على الغروب " قال النبي - صلى الله عليه وسلم - والله ما صليتها " يعني إذا كنت قد صليت العصر في آخر الوقت قبل الغروب فإني لم أصلها حتى الآن وقد غربت الشمس، قال جابر: " فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة، وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس " أي فصلى العصر وصليتها معه جماعة(2/98)
247 - " بَابُ مَنْ نسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إذَا ذَكَرَهَا وَلَا يُعيدُ إلَّا تِلْك الصَّلاةِ "
293 - عن أنس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا، لا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بعد الغروب. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الجماعة للصلاة الفائتة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم العصر جماعة بعد الغروب، قال العيني: وهذا بالإِجماع، وشذ الليث، فمنع من ذلك. ثانياً: مشروعية الترتيب بين الصلاة الفائتة والحاضرة، فتقدم الفائتة لأنّه - صلى الله عليه وسلم - صلى العصر ثم المغرب، وهو مذهب الجمهور، وقال الشافعي لا يجب الترتيب بينهما، وبه قال ابن القاسم وسحنون والظاهرية، واختلفوا هل يسقط الترتيب بضيق الوقت فقال مالك: لا يسقط. وتقدم الفائتة ولو ضاق الوقت. وقال الحنفية وأهل الحديث: لا يجب الترتيب عند ضيق الوقت، وأما الترتيب بين الفوائت فالأكثرون على وجوبه مع الذكر. والمطابقة: في قوله: " فصلى العصر بعد ما غربت الشمس " أي صلى بنا العصر جماعة.
247- " باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها "
293 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها " أي من أخر صلاة من الصلوات الخمس عن وقتها لعذر شرعي كالنسيان أو النوم أو نحوهما فليصلها عند زوال العذر فوراً، فإن فعل ذلك عفا الله عنه، وإلّا فإنه يأثم، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا كفارة لها إلّا(2/99)
ذلك" أي ولا يسلم من الإِثم إلاّ إذا صلاها عند انقطاع العذر مباشرة، وقال الخطابي: معنى " ولا كفارة لها إلاّ ذلك " أنه لا يلزمه في نسيانه غرامة ولا صدقة ولا زيادة تضعيف لها (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) أي ودليل ذلك قوله سبحانه (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) (1) . الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يجب قضاء الصلاة الفائتة لعذر شرعي من نوم أو نسيان أو نحوهما عند زوال العذر مباشرة، ولو في وقت نهي، فمن استيقظ عند شروق الشمس وجب عليه قضاء صلاة الصبح في حينه ولا يؤخرها إلى ما بعد طلوعها، ولو كان الوقت وقت كراهة لأن الفريضة تصلى مطلقاً، ولو في وقت النهي، وهو مذهب الجمهور وقال أبو حنيفة: لا يقضيها حتى تطلع الشمس أو تغرب لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروها حتى تغيب " أخرجه البخاري، فقد حمله أبو حنيفة على عموم الصلاة فرضاً أو نفلاً، وخصّصه الجمهور بصلاة النافلة. ثانياًً: قال العيني حكي عن داود وجمع يسير من الصحابة عدم وجوب قضاء الصلاة على العامد لأن انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط، فيلزم منه أن من لم ينس لا يصلي، وأجيب بأن القيد بالنسيان خرج مخرج الغالب، وأنه يجب قضاء الفائتة مطلقاً عمداً أو سهواً، وهو مذهب الجمهور.
***
__________
(1) فإن معناه أقم الصلاة عند تذكرها وزوال العذر المانع منها.(2/100)
248 - " بَابُ السَّمَرِ في الفِقْهِ والخيْر بَعْدَ الْعِشَاءِ "
294 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
صَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الْعِشَاءِ في آخِرِ حَيَاتِهِ فلمَّا سَلَّمَ قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: " أرأيتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأسَ مِائَةِ لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ اليَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ أحَدٌ " فَوَهَل النَّاسُ في مَقَالَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى مَا يَتَحَدَّثُونَ من هذِهِْ الأحَادِيثِ عن مِائَةِ سَنَةٍ، وإنمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لا يبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمُ عَلى ظَهْرِ الأرْضِ " يُريدُ بِذَلِكَ أسَنها تَخْرِمُ ذَلِكَ الْقَرْنَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
248 - " باب السمر في الفقه والخيْر بعد العشاء "
أي هذا باب في بيان جواز السهر والحديث بعد العشاء في العلم والفقه.
294 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام يخطب الناس ويعظهم ويعلمهم بعد صلاة العشاء " فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن رأس مائة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحدٌ " وهذا استفهام جار على غير حقيقته، ومعناه: قد رأيتم هذه الليلة فاحفظوها واضبطوا تاريخها، فإنه لا تمضي مائة سنة إلا ويموت هذا الجيل من الناس، ولا يبقى ممن هو موجود الآن على ظهر الأرض من الناس أحد، ولكن السامعين لم يفهموا هذا المعنى، وشت كل واحد منهم في وادٍ بعيداً عن المعنى المراد، وهو معنى قوله: " فوهل الناس " بفتح الهاء وكسرها " في مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي فغلط الصحابة في تفسير كلامه هذا وأخطأوا في فهم معناه، وفهموا منه فناء العالم وقيام الساعة، وانقراض البشرية، وأصاب ابن عمر ووفق لفهم المعنى المراد، وعرف أنه " إنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض "(2/101)
يريد بذلك أنها تخرم ذلك القرن" (1) أي أن ذلك الجيل من الصحابة سينقرض وينتهي فلا يبقى أحدٌ منهم بعد مرور مائة سنة من تاريخه، وقد تحقق ذلك، فإن آخر الصحابة وهو أبو الطفيل عامر بن واثلة توفي سنة عشر ومائة هجرية (2) . الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي.
فقه الحديث: دل الحديث على مشروعية السمر في العلم. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - سامرهم بالعلم بعد العشاء.
***
__________
(1) أي ذلك القرن الذي أنا فيه، وهو جيل الصحابة رضي الله عنهم.
(2) وبوفاته انتهى جيل الصحابة رضوان الله عنهم.(2/102)
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الأذان
الأذان لغة: الإِعلام بالشيء مطلقاً بواسطة نداء يصل إلى مسامع الناس، وأصله النداء المسموع بالأذن، من قولهم: آذنته، أي أوصلته إلى أذنه، كما في " تفسير الألوسي ". وأما الأذان شرعاً: فهو الإعلام بدخول وقت الصلاة بالألفاظ المعروفة. وشرع الأذان في السنة الأولى من الهجرة. وأما كيفية بدء الأذان فستأتي في الحديث القادم. وحكمه: أنه سنة مؤكدة عند الشافعي ومالك وأبي حنيفة، وفرض كفاية عند أحمد، إلاّ أذان الجمعة فإنه فرض اتفاقاً.
ويشترط في المؤذن: الإِسلام والذكورة والعقل. قال ابن قدامة: ولا نعلم في ذلك خلافاً، وهل يشترط البلوغ للاعتداد به، روايتان عن أحمد، الثانية منهما أنه لا يشترط به، وهو قول عطاء والشعبي والشافعي لقول عبد الله بن أبي بكر بن أنس: كان عمومتي يأمرونني أن أؤذن لهم وأنا غلام لم أحتلم، وأنس بن مالك شاهد لم ينكر عليهم، واختلفَ في ذلك المالكية.
ويستحب فيه أن يكون صيّتاً بصيراً.(2/103)
249 - " بَابُ بَدءِ الْأذَانَ "
295 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُولُ:
كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُون، فَيَتَحَينونَ الصَّلَاةَ، لَيْسَ يُنَادَى لَهَا، فَتَكَلَّمُوا يَوْمَاً في ذَلِكَ فَقالَ بَعضُهُمْ: اتَّخِذُوا نَاقُوساً مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهم: بَلْ بُوقَاً مِثلَ قَرْنِ الْيَهُودِ، فَقَالَ عُمَرُ: أوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلاً يُنَادِي بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " يَا بِلالُ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلاةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
249 - " باب بدء الأذان "
295 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " كان المسلمون حين قدموا المدينة " أي في السنة الأولى من الهجرة " يجتمعون فيتحينون الصلاة " أي فيتحرون أوقات الصلاة باجتهادهم، أو يجتمعون قبل الوقت فينتظرون حتى إذا دخل صلّوا " ليس ينادى لها " أي ولم يكن لها نداء خاص لإشعار الناس بدخول وقتها " فتكلموا يوماً في ذلك " أي فتحدث الناس يوماً عن حاجتهم إلى وسيلة إعلامية يعرفون بها دخول الوقت، وتبادلوا الرأى " فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى " وهو آلة يضربون عليها لِإعلام الناس بأوقات صلاتهم ولا زال حتى الآن يستعمل في كنائسهم. " وقال بعضهم: بل بوقاً مثل قرن اليهود " بسكون الراء وهو آلة معروفة أو بوق ينفخ فيه فيحدث صوتاً عالياً يُسْمَعُ من بعيد، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - كره هذا وهذا، لأنهما من شعارات اليهود والنصارى " فقال عمر: أولا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة " أي فألهم الله عمر هذه الوسيلة الجديدة فقال: ترسلون رجلاً ينادي في الناس فيعلمهم بدخول الوقت بأي(2/104)
250 - " بابُ الأَذَانِ مَثْنَى مَثْنَى "
296 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
أمِرَ بِلَالٌ أنْ يُشْفَعَ الْأَذَانَ، وأنْ يُوتِرَ الإقَامَةَ إِلَّا الإِقَامَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لفظ كان، فاستحسن النبي ذلك، وأمر بلالاً به. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: بيان كيفية بدء الأذان. ثانياً: التحذير من تقليد الكفار في شعاراتهم الدينية. والمطابقة: في قوله: " قم فناد بالصلاة ".
250 - " باب الأذان مثنى مثنى "
296 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " أمر بلال أن يشفع الأذان " أي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤذنه بلالاً أن يأتي بألفاظ الأذان شفعاً، فيكرر كل جملة مرتين، " وأن يوتر الإِقامة " أي وأمره - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي بألفاظ الإقامة وتراً، فينطق بالجملة الواحدة مرة واحدة فقط " إلاّ الإقامة " أي ما عدا لفظ " قد قامت الصلاة " فإنه أمره - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي به مرتين، وكذلك التكبير في أول الإِقامة وآخرها، فإنه يؤتى به مرتين. الحديث: أخرجه الستة.
والمطابقة: في قوله: " أمر بلال أن يشفع الأذان ".
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب شفع الأذان والإِتيان بألفاظه مرتين مرتين، ما عدا كلمة التوحيد في آخره، فإنها وتر يؤتى بها مرةً واحدةً، وبهذا أخذ مالك رحمه الله تعالى إلاّ أنه قال بترجيع الشهادتين استناداً إلى الأحاديث الصحيحة الواردة في الترجيع. وذهب أحمد وأبو حنيفة إلى تربيع التكبير في أول الأذان، وشفع بقية ألفاظه، وذهب الشافعي إلى تربيع التكبير(2/105)
251 - " بَابُ فضلَ التَّأذِينَ "
297 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إذَا نُودَيَ للصَّلَاةِ أدْبَرَ الشيطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأذِينَ، فَإِذَا قُضِيَ النِّدَاءُ أقْبَلَ، حَتَّى إذَا ثُوِّبَ بالصلَاةِ أدْبَرَ، حَتَّى إذا قُضِيَ التَثْوِيبُ أقبَلَ، حتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ، يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لا يَدْرِى كَمْ صُلى ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في أول الأذان، وشفع بقية ألفاظه، وترجيع الشهادتين. ثانياً: دل هذا الحديث على إفراد الإقامة عدا التكبير، ولفظ " قد قامت الصلاة " فإنّه يشفع، وهو مذهب الجمهور، وذهب مالك إلى إفرادها كلها بما فيها لفظ الإقامة، لما في الرواية الأخرى عن أنس قال: " فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة " هكذا أخرجه البخاري دون استثناء وذهب أبو حنيفة إلى شفع الإقامة كلها، والله أعلم.
251- " باب فضل التأذين "
297 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا نودي للصلاة " أي إذا أذن المؤذن لإحدى الصلوات الخمس " أدبر الشيطان " أي هرب الشيطان وأعطى المؤذن ظهره، لأنّه لا يطيق سماع الأذان، " وله ضراط " الواو واو الحال، أي حال كونه له ضراط، وإنما يفعل ذلك من شدة ثقل الأذان (1) عليه، كما يقع للحمار الهزيل عندما يحمل حملاً ثقيلاً، وقيل: يفعل ذك متعمداً لئلا يسمع الأذان، كما يدل عليه قول الراوي: "حتى لا يسمع
__________
(1) تسترخي مفاصله وينفتح مخرجه.(2/106)
252 - " بَابُ رَفْعَ الصَّوْتِ بالنِّدَاءِ "
298 - عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبي صَعْصَعَة الأنصاري الْمَازِنِي:
أن أبا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ لَهُ: إِنِّى أراكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ والْبَادِيَةَ فإذا
__________
التأذين" أي ليريح نفسه من سماع الأذان، حتى أنه يبعد مثل الروحاء عن المدينة " فإذا قضى النداء أقبل " أي فإذا انتهى الأذان عاد مرة أخرى " حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر " أي حتى إذا أقام المؤذن الصلاة هرب ثانياً " حتى إذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه " أي حتى إذا فرغ من الإقامة رجع إلى المصلي ليشغلَ قلبه بالوسوسة ويحول بينه وبين الخشوع في الصلاة. الحديث: أخرجه أخرجه الخمسة بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان ".
ويستفاد منه: فضل الأذان وصيانته للإنسان، وقوة تأثيره في محاربة الشيطان، ودفع أذى التمردين من الجان، كما جاء في حديث سهيل بن أبي صالح قال: أرسلني أبي إلى بني حارثة ومعي غلام لنا، فناداه مناد من حائط باسمه فأشرف الذي معي على الحائط فلم ير شيئاً، فذكرت ذلك لأبي فقال: إذا سمعت صوتاً فناد بالصلاة، فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الشيطان إذ نودي بالصلاة ولّى وله حصاص " أخرجه مسلم.
252 - " باب رفع الصوت بالنداء "
298 - معنى الحديث: أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه أوصى عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أن يرفع صوته بالأذان إذا أذن في البادية، فقال له: " إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك أو(2/107)
كنت في غَنَمِكَ، أوْ بَاديَتكَ فأذَّنت بالصَّلَاةِ فارْفَعْ صَوتَكَ بالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ ولا أنسٌ ولا شَيءٌ إلَّا شهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ أبو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -.
253 - " بَابُ مَا يَقُولُ إذا سَمِعَ الْمُنَادِي "
299 - عَن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا سَمِعْتُمْ النِّدَاءَ فقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء" أي فأذن بصوت جهوري عال مرتفع، ثم علل له ذلك بقوله: " فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن " أي لا ينتهى صوت المؤذن لأي شيء من الموجودات، سواء كان من الكائنات الحيّة كالجن والأنس والبهائم والنبات أو الجمادات " إلا شهد له " بالأذان " يوم القيامة " وهو مصداق قوله سبحانه: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) .
فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب رفع الصوت بالأذان، وأن يكون المؤذن جهوري الصوت ليصل صوته إلى أقصى مكان، فيكثر من يشهد له يوم القيامة، ولو أذن في مكان عال كان أفضل، ومن ثم اتخذت المآذن في الإِسلام، وكان بلال يؤذن على بيت امرأة من بني النجار، أعلى بيوت المدينة المحيطة بالمسجد والله أعلم. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " فارفع صوتك بالنداء ". والحديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لقول أبي سعيد: " سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
253 - " باب ما يقول إذا سمع المنادي "
299 - معنى الحديث: يحدثنا أبو سعيد رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إذا سمعتم النداء " أي إذا سمعتم صوت المؤذن أثناء الأذان،(2/108)
الْمُؤَذِّنُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سواء سمعتم الكلمات أو لم تسمعوها. " فقولوا مثل ما يقول المؤذن " أي فأجيبوه بحكاية ألفاظ الأذان، فإن سمعتم الكلمات فعليكم محاكاته لفظاً لفظاً ومتابعته كلمة كلمة، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله قلتم بعده: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وهكذا في بقية الجمل، وإن لم تسمعوا كلماته أتيتم بالأذان كله جملة واحدة. الحديث: أخرجه الستة.
ويستفاد منه: أنه يسن لمن سمع الأذان إجابة المؤذن ومحاكاته لفظاً لفظاً وجملة جملة إلى آخر الأذان حتى في الحيعلتين، وهو قول بعض أهل العلم: لعموم هذا الحديث حيث قال: " فقولوا مثل ما يقول "، وقد اختلف في ذلك العلماء، كما قال العيني: فقال النخعي والشافعي وأحمد في رواية، ومالك في رواية: ينبغي لمن سمع الأذان أن يقول كما يقول المؤذن حتى يفرغ من أذانه، وهو مذهب أهل الظاهر (1) أيضاً، وقال الثورى وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وأحمد في الأصح، ومالك في رواية: يقول سامع الأذان مثل ما يقول المؤذن إلاّ في الحيعلتين، فإنه يقول فيهما لا حول ولا قوة إلاّ بالله، لما جاء في حديث عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال أشهد أن لا إله إلاّ الله، فقال: أشهد أن لا إله إلاّ الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله فقال: أشهد أن محمداً رسول الله ثم قال: حيَّ على الصلاة، فقال: لا حول ولا قوة إلاّ بالله، ثم قال: حي على الفلاح، فقال: لا حول ولا قوة إلاّ بالله ثم قال: الله أكبر الله أكبر فقال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلاّ الله، قال: لا إله إلاّ الله من قلبه دخل الجنة " أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي. وأما عند قوله: " الصلاة خير من النوم " فلم
__________
(1) " شرح العيني على البخاري " ج 5.(2/109)
254 - " بَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ النِّدَاءِ "
300 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ قَالَ حِينَ سَمِعَ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِةِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، والصَّلَاةِ القَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّداً لوَسِيلَةَ والْفَضِيلَةَ، وابْعَثْهُ مقاماً مَحْمُوداً الذي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يرد في الإِجابة عليه حديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلاّ عموم قوله " فقولوا مثل ما يقول المؤذن " ولهذا قال في " المنهل العذب ": والظاهر أنه يحاكيه فيها، وقال القاري يقول: صدقت وبررت وبالحق نطقت. والمطابقة: في قوله: " فقولوا مثل ما يقول المؤذن ".
254 - " باب الدعاء عند النداء "
300 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من قال حين يسمع النداء " أي من قال هذه الصيغة المأثورة من الدعاء عند فراغ المؤذن من الأذان وانتهائه منه وهي: " اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته وجبت له شفاعتي " أي ثبتت له شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستحقها بدعائه هذا، وأدركته يوم القيامة. و" الوسيلة " منزلة في أعلى الجنة، والمراد " بالدعوة التامة " الأذان، سمى دعوة لما فيه من دعوة الناس إلى الصلاة، ووصف بالتمام لاشتماله على عقائد الإِيمان من التوحيد والتصديق بالرسالة المحمدية و" الصلاة القائمة " هى الصلاة الحاضرة التي يؤذن لها و" الفضيلة ": هي منزلة عليا يمتاز بها نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن سائر الخلق و" المقام المحمود " مقام الشفاعة.
ويستفاد من الحديث: أنه يستحب لمن جمع الأذان أن يدعو بهذه الصيغة(2/110)
255 - " بَابُ الاسْتِهَامَ في الأذَانَ "
351 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ ما فِي النِّدَاءِ والصَّفِّ الأولِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أن يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ، ولو يَعْلَمُونَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المأثورة لكى يَسْعد بشفاعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فقد بشر النبي من قالها بشفاعته حيث قال: " حلَّت له شفاعتي ". الحديث: أخرجه أيضاً الأربعة.
تنبيهات: الأول: من الأذكار المأثورة عند نهاية الأذان ما رواه سعد ابن أبي وقاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً، غفر له ذنبه ". الثاني: عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ثم صلّوا علي، فإنه من صلّى علي مرة واحدة صلى الله عليه بها عشراً ". الثالث: أنه يستحب الدعاء عند الأذان، فإنه مستجاب، لما رواه أبو يعلى في " مسنده " مرفوعاً: " إذا نادى المنادي فتحت أبواب السماء، واستجيب الدعاء ". والمطابقة: ظاهرة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشرنا بأن من قال هذا الدعاء حلت له الشفاعة.
255 - " باب الاستهام في الآذان "
301 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول " أي لو اطلع الناس على ما أعده الله للمؤذنين وأهل الصف الأول من الأجر العظيم " ثم لم يجدوا " وسيلة للوصول " إلا أن يستهموا عليه " أي أن يقترعوا على الأذان والصف الأول " لاستهموا " أي لحاولوا الوصول إلى ذلك ولو بالقرعة، لما يرون فيهما من الثواب الكبير والأجر الجزيل. " ولو يعلمون ما في التهجير " أي ما في المبادرة إلى الصلاة في أول(2/111)
ما فِي التَهْجِير لاستَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصبُّحِ لأتَوْهُمَا، ولَوْ حَبْواً".
256 - " بَابُ أذَانِ الأَعْمَى إِذَا كَانَ لَهُ مَنْ يُخبِرُهُ "
302 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أَنَّ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِنَّ بِلَالاً يُؤَدِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا واشْرَبُوا حتَّى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقتها " لاستبقوا إليه " أي لحرصوا على ذلك أشد الحرص. " ولو يعلمون ما في العتمة والصبح " أي ما في صلاة العشاء والصبح مع الجماعة " لأتوهما ولو حبواً " أي ولو في أشد حالات الضعف الذي يضطرهم إلى الإِتيان إليها حبواً على اليدين والرجلين. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: بيان فضل الأذان وثوابه، لأن الناس لا يقترعون إلا على أنفس الأشياء وأعظمها قدراً، وهو ما ترجم له البخاري.
ثانياً: فضل الصف الأول، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا في هذا الحديث أن الناس لو علموا قدر الصلاة في الصف الأول لتنافسوا عليه، حتى لا يصل إليه أحدهم إلّا بالقرعة. ثالثاً: فضل المبادرة إلى الصلاة في وقتها وأنه من الأمور التي ينبغي الحرص عليها. رابعاً: أنه ينبغي الحرص على حضور العشاء والصبح مع الجماعة ولو في أسوأ الأحوال. والمطابقة: في قوله: " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلاّ أن يستهموا عليه - لاستهموا عليه ".
256 - " باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره "
302 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما "أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أمِّ(2/112)
يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ"، وَكَانَ رَجُلاً أعْمى، لا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ: أصْبَحْتَ أصْبَحْتَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مكتوم" أي إنّ بلالاً يؤذن في آخر الليل قبل طلوع الفجر، فلا تنقطعوا عن طعامكم وشرابكم، ولا تبدءوا صيامكم حتى يؤذن ابن أمّ مكتوم، لأنه هو الذي يؤذن بعد طلوع الفجر " وكان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال: أصبحت أصبحت " أي لا يؤذن لصلاة الصبح حتى يتحقق طلوع الفجر وينادي عليه الناس دخلت في الصباح، أو طلع الصباح. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: في قوله: " حتى ينادي ابن أم مكتوم " وقد كان رجلاً أعمى.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز أذان الأعمى إذا وجد من يخبره، بدخول الوقت، لأن ابن (1) أم مكتوم كان يؤذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أعمى.
ثانياًً: مشروعية الأذان الأول في آخر الليل لِإيقاظ النائمين لتناول سحورهم، وتنبيه القائمين إلى اقتراب طلوع الفجر ليأخذوا حظهم من الراحة استعداداً لصلاة الصبح، كما كان بلال يؤذن في آخر الليل فإنه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يؤذن بليل ليرجع قائمكم ولينبه نائمكم " أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
***
__________
(1) أي لأن ابن مكتوم مؤذن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أعمى.(2/113)
257 - " بَابُ الأذَانِ بَعْدَ الْفَجْرِ "
353 - عَنْ حَفْصَةَ (1) رضِيَ اللهُ عَنْهَا:
" أنَّ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إِذَا اعْتَكَفَ الْمُؤَذنُ للصُّبْحُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ أن تُقَامَ الصَّلَاةُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
257 - " باب الأذان بعد الفجر "
303 - معنى الحديث: تحدثنا حفصة رضي الله عنها " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اعتكف (2) المؤذن وبدا الصبح (3) صلى ركعتين خفيفتين " أي كان إذا طلع الفجر وظهر نور الصباح أذن المؤذن لصلاة الصبح أذاناً آخر غير الأذان الذي في آخر الليل فإذا سكت المؤذن وجلس وانتهى من أذانه بادر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأداء سنة الفجر فصلى ركعتين خفيفتين قبل القيام لصلاة الصبح.
ما يستفاد من الحديث: يستفاد منه مشروعية الأذان بعد طلوع الفجر للاعلام بدخول وقت صلاة الصبح، ولا يكفي الأذان الأول الذي في آخر الليل عن الأذان الثاني الذي بعد طلوع الفجر، لأن مؤذن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يؤذن -لصلاة الفجر- إذا بدا الصبح، وقد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤذنان يؤذن أحدهما وهو بلال الأذان الأول في آخر الليل، ويؤذن ثانيهما وهو ابن أم
__________
(1) حفصة: هي أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب العدوية القرشية، كانت تحت خنيس بن حذافة بن قيس، هاجرت معه ومات عنها بعد غزوة بدر، تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنة ثلاث، طلقها تطليقة واحدة ثم راجعها، نزل عليه الوحي يقول: ارجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة. ماتت في شعبان سنة خمس وأربعين وقيل: إنها ماتت في خلافة عثمان " تراجم جامع الأصول ".
(2) اعتكف المؤذن: أي سكت من أذانه وجلس منه.
(3) بدا الصبح: ظهر نوره، وذلك عند طلوع الفجر الصادق.(2/114)
258 - " بَابٌ كَمْ بَيْنَ الأذَانِ والإِقَامَةِ وَمَنْ يَنْتَظِر إِقَامَةِ الصَّلَاةِ "
304 - عن عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّل رَضِيَ المَزنِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " بَيْنَ كُلِّ أذَانَيْنِ صَلَاةٌ " ثلاثاً، لِمَنْ شَاءَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مكتوم الأذان الثاني عند طلوع الفجر. والمطابقة: في قولها: " كان إذا اعتكف المؤذن للصبح وبدا الصبح ". الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة.
258 - " باب كم بين الأذان والإِقامة "
304 - ترجمة راوي الحديث: هو عبد الله بن مغفل المزني من أصحاب بيعة الرضوان، وأحد البكائين في غزوة تبوك، روى ثلاثة وأربعين حديثاً، اتفقا على أربعة، وانفرد البخاري بواحد، ومسلم بآخر، سكن المدينة، ثم تحول منها إلى البصرة، ومات بها سنة تسع وخمسين من الهجرة.
معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " بين كل أذانين صلاة " والمراد بالأذانين الأذان والإقامة من باب التغليب، أي بين كل أذان وإقامة صلاة مسنونة " ثلاثاً " أَي أعاد هذه الجملة ثلاث مرات، وفي رواية مسلم قال في الرابعة " لمن شاء ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي.
ويستفاد منه: أنه يستحب الفصل بين الأذان والإِقامة بما يتسع من الوقت لصلاة ركعتين، ليتمكن الناس من حضور الجماعة، وهو مذهب الجمهور، إلّا أنهم اختلفوا في المغرب فقال أبو حنيفة: يفصل بين أذان المغرب والصلاة بمقدار ثلاث خطوات فقط، وقال أبو يوسف: بمقدار الجلسة بين الخطبتين.
وقال الشافعي: بمقدار جلسة أو سكتة، كما ذكره النووي. وقال أحمد: بمقدار ركعتين مثل غيرها كما أفاده العيني. والمطابقة: في قوله: " بين كل أذانين صلاة " لأن ذلك لا يتحقق إلاّ إذا تحقق الوقت الكافي له.(2/115)
259 - " بَاب بَيْنَ كُلِّ أذَانيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ "
305 - عن عبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " بَيْن كُلِّ أذَانَيْنِ صَلَاة، بَيْنَ كُلِّ أذَانَيْنِ صَلَاة، ثُمَّ قَالَ في الثَّالِثَةِ: لِمَنْ شَاءَ ".
260 - " بَابُ مَنْ قَالَ: لِيُؤَذِّنَ في السَّفَرِ مُؤَذِّن وَاحِدٌ "
306 - عن مَالِكٍ بنِ الْحُوَيْرِثْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
259 - " باب بين كل أذانين صلاة "
305 - معنى الحديث: تقدم بيانه وشرحه.
ويستفاد منه: أنه تسن النافلة بين كل أذان وإقامة بما في ذلك المغرب، فتسن النافلة قبل صلاة المغرب لحديث الباب، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: " صلوا قبل المغرب " وقال في الثالثة: " لمن شاء " أخرجه البخاري، وهو مذهب أحمد وأهل الحديث، وذهب آخرون إلى عدم مشروعيتها، وهو مشهور مذهب المالكية والحنفية وقول الشافعي ونقل عن الخلفاء الراشدين. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: لفظية.
260 - " باب من قال ليؤذن في السفر مؤذن واحد "
306 - ترجمة الراوي: هو مالك بن الحويرث الليثي، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقام عنده أياماً ثم أذِن له بالعودة إلى أهله. روى خمسة وعشرين حديثاً اتفق الشيخان على اثنين توفي سنة (74) هـ.
معنى الحديث: يقول مالك بن الحويرث رضي الله عنه: "أتيت النبي(2/116)
أتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - في نَفَرٍ مِنْ قَومِي فأقَمْتُ عِنْدَهُ عِشْرينَ لَيْلَةً، وكَانَ رَحيماً رفِيقاً، فلمَّا رأى شَوْقَنَا إلَى أهَالِينَا قَالَ: " ارْجِعُوا فكُونُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ وَصَلُّوا، فإِذَا حضَرَتِ الصلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أكْبَرُكُمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- صلى الله عليه وسلم - في نفر" أي جماعة بين الثلاثة والعشرة " من قومي " وهم بنو الليث ابن بكر، وكان قدومهم في السنة التاسعة " فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رحيماً رفيقاً " أي لين الجانب لطيف المعاملة " فلما رأى شوقنا إلى أهالينا قال: ارجعوا فكونوا فيهم، وعلموهم وصلوا فإذا حضرت الصلاة، فيؤذن لكم أحدكم " يعني أي واحد منكم صغيراً كان أو كبيراً ما دامت تتوفر فيه شروط الأذان " وليؤمكم أكبرم " سناً ولم يذكر الفقه والعلم، لما في رواية أبي داود " وكنا يومئذ متقاربين في العلم ". الحديث: أخرجه الستة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية الأذان في السفر، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالأذان مطلقاً في الحضر أو السفر، فدل ذلك على استحباب الأذان في السفر، وهو قول أكثر أهل العلم، سواء كانوا جماعة أو كان شخصاً واحداً، وعلى كل من كان في فلاة سواء كان في سفر أو غيره، وسواء كان فرداً أو جماعة. ثانياً: الاكتفاء بمؤذن واحد. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فليؤذن لكم أحدكم ".
***(2/117)
261 - "بَابُ الأذَانِ لِلْمُسَافُرِين إِذَا كَانوا جَمَاعَةً وَالإِقَامَةِ وكَذَلِك بعرفة وجمع، وقول المؤذن: الصَّلاةُ في الرَّحَالِ في اللَّيْلَةِ البَارِدَةِ أوِ المَطِيرَةِ "
307 - وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
أتَى رَجُلَانِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدَانِ السَّفَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أنتُما خَرَجْتُمَا فأذِّنَا، ثُمَّ أقِيمَا، ثُمَّ ليَؤُمُكما أكْبَرُكُمَا".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
261 - " باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والإِقامة وكذلك بعرفة وجمع، وقول المؤذن: الصَّلاة في الرحال في الليلة الباردة أو المطيرة "
307 - معنى الحديث: يقول مالك بن الحويرث رضي الله عنه:
" أَتى رجلان النبي - صلى الله عليه وسلم - " وهما مالك بن الحويرث نفسه وابن عمه " يريدان السفر " إلى ديارهما " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا أنتما خرجتما فأذنا، ثم أقيما " أي إذا غادرتما المدينة فحافظا على الأذان والإقامة لكل صلاة، سواء كنتما في أثناء السفر أو كنتما في دياركما " ثم ليؤمكما أكبركما " سناً كما تقدم.
الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " إذا أنتما خرجتما فأذنا ".
ويستفاد منه: مشروعية الأذان والإقامة في السفر للجماعة كمشروعيتهما في الحضر لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر مالكاً وابن عمه بالأذان والإِقامة عْند عزمهما على السفر، وهذا يدل على مشروعيتهما في السفر للجماعة، وهو قول الجمهور، وعليه ترجم البخاري.
***(2/118)
308 - عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَأمُرُ مُؤَذِّنَاً يؤذِّنُ، ثُمَّ يَقُولُ علَى إثْرِهِ: ألا صَلوا في الرِّحَالِ، في اللّيْلَةِ البَارِدَةِ أوِ الْمَطِيرَةِ في السَّفَرِ.
262 - " بَابٌ هَلْ يُتْبِعُ الْمُؤَذِّنُ فَاهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا وَهَلْ يَلْتَفِتُ فِي الأذَانِ "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
308 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر مؤذناً يؤذن للصلاة " ثم يقول على إثره " بكسر الهمزة وسكون الثاء، أى ثم يقول المؤذن بعد الفراغ من أذانه: " ألا صلوا في الرحال " أي في خيامكم ومنازلكم " في الليلة الباردة أو المطيرة " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر مؤذنه أن يقول بعد فراغه من الأذان في الليلة الباردة أو الممطرة: صلوا في الرحال. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " ثم يقول على إثره: ألا صلوا في الرحال ".
ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: أن من الأعذار المبيحة للتخلف عن الجمعة، والجماعة البرد الشديد والمطر الغزير، وقد نقل ابن بطال الإجماع على ذلك، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأذن للناس أن يصلوا في رحالهم في الليالي الباردة أو الممطرة، كما في هذا الحديث. ثانياً: مشروعية أن يقول المؤذن بعد الأذان في الليلة الباردة أو الممطرة: " ألا صلوا في الرحال "، وهو مذهب أحمد، وكرهه الجمهور.
262 - " باب هل يتبع المؤذن فاه ها هنا وها هنا "
أي هذا باب يذكر فيه هل يُشْرَع للمؤذن " أن يُتبع " بضم الياء وسكون التاء أي أن يوجه فمه ها هنا وها هنا. أي أن يوجه فمه يميناً عند قوله:(2/119)
309 - عَنْ أبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ رَأى بِلَالاً يُؤَذِّنُ فَجَعَلْتُ اتُتَبَّعُ فَاهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا بالْأذَانَ.
263 - " بَابُ قَوْلِ الرَّجُل فَاتتْنَا الصَّلَاةُ "
310 - عَنْ أبي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ سَمِعَ جَلَبَةَ الرِّجَالِ فَلمَّا صَلَّى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" حي على الصلاة " وشمالاً عند قوله: " حيَّ على الفلاح ".
309 - معنى الحديث: يحدثنا أبو جحيفة رضي الله عنه: " أنه رأى بلالاً يؤذن فجعلت أتتبع فاه ها هنا وها هنا بالأذان " أي أنه رأى بلالاً في أثناء أذانه، ولا حظ حركات وجهه، فوجده يوجه فمه يميناً عند قوله: " حيَّ على الصلاة " وشمالاً عند قوله: " حيَّ على الفلاح " كما جاء موضحاً في رواية سفيان حيث قال: " فجعلت أتتبع فاه ها هنا وها هنا يميناً وشمالاً، يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح " (1) أخرجه مسلم.
ويستفاد منه: استحباب الالتفات في الأذان عند الحيعلتين بأن يتوجه المؤذن بفمه يميناً عند قوله: " حي على الصلاة " وشمالاً عند قوله: " حي على الفلاح " من غير تحويل صدره أو قدميه عن القبلة، وفائدته تعميم الناس (2) بالإِسماع. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " أتتبع فاه ها هنا وها هنا بالأذان ".
263 - " باب قول الرجل فاتتنا الصلاة "
310 - معنى الحديث: يقول أبو قتادة رضي الله عنه "بينما نحن
__________
(1) " شرح العيني " ج 5.
(2) " شرح القسطلاني " ج 2.(2/120)
قَالَ: " مَا شَأنُكُمْ؟ " قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إلى الصَّلَاةَ، قَالَ: فلا تَفْعَلُوا إِذَا أتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَعَلَيْكُمْ بالسَّكِينَةِ، فمَا أدْرَكْتُمْ فَصَلوا، وَما فَاتَكُمْ فَأتِمُّوا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -" صلاة الجماعة " إذ سمع جلبة الرجال " أي سمع أصواتاً عالية، وهي أصوات أقدام الناس، وهم يسرعون إلى الصلاة " فلما صلّى قال: ما شأنكم؟ " يعني مما سبب هذه الضجة التي سمعتها في أثناء الصلاة " قالوا: استعجلنا " أي أسرعنا في مشينا إلى الصلاة " قال: فلا تفعلوا " أي لا تسرعوا في أثناء سيركم إلى الصلاة " إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة " أي إذا جئتم إلى الصلاة فحافظوا على الهدوء في أثناء مشيكم إليها، وسيروا سيراً عادياً " فما أدركتم فصلوا " الفاء واقعة في جواب الشرط كما قال الحافظ: أي إذا فعلتم ما أمرتكم به، فما حصلتم عليه من الركعات فصلوا مع الإِمام، وتابعوه متابعة كاملة. " وما فاتكم فأتموا " أي وما فاتكم من الصلاة مع الإِمام، فأتموه بعد السلام. الحديث: أخرجه الشيخان.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن المسبوق -وهو الذي فاتته مع الإمام بعض الصلاة- يجب عليه أن يتم ما فاته بعد سلام الإمام، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وما فاتكم فأتموا ". واختلفوا كيف يتم صلاته، هل يتمها بناءً فيجعل ما أدرَكه أول صلاته، أو يتمها قضاءً، فيجعل ما أدركه آخر صلاته فقال الشافعي وأحمد في رواية يتم ما فاته بناءً ويبني في الأقوال والأفعال معاً، فيجعل ما أْدركه أوّل صلاته، وما فاته آخر صلاته. لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث علي رضي الله عنه: " ما أدركت فهو أوّل صلاتك " أخرجه البيهقي، فإذا أدرك ركعة من الظهر مع الإمام، فإنه يقوم بعد السلام فيأتي بركعة واحدة بالفاتحة والسورة ويجلس للتشهد الأول، ثم يقوم فيأتي بالركعتين الباقيتين بالفاتحة فقط(2/121)
264 - " بَابُ مَتَى يَقُومُ النَّاسُ إذا رَأوُا الإِمَامَ عِنْدَ الإِقَامَةِ "
311 - عن أبي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِذا أقِيمَتِ الصَّلَاةُ فلا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويتشهد ويسلم. وقال أبو حنيفة وأحمد في رواية: يقضى في الأقوال والأفعال معاً فيجعل ما أدركه مع الإِمام آخر صلاته، وما فاته أول صلاته واستدلوا على ذلك بحديث أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " وما فاتكم فاقضوا " أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح، والبيهقي عن معاذ بن جبل. فمن أدرك ركعة من الظهر فإنّه - كما قال أبو حنيفة وأحمد: يأتي بركعتين بالفاتحة والسورة، يجلس بعدهما للتشهد الأوّل، ثم يقوم فيأتي بالركعة الأخيرة بالفاتحة فقط، ويتشهد ويسلم. أما مالك فإنه حاول الجمع بين الأحاديث المختلفة ليعمل بها جميعاً، فقال: المسبوق يبني في الأفعال من تشهد وجلوس وسط ونحوه، ويقضي في الأقوال من قراءة الفاتحة. والسورة ونحوها، فمن أدرك ركعة من الظهر فإنه يقوم بعد السلام فيأتي بركعة بالسورة والفاتحة، يجلس بعدها للتشهد، ثم يقوم فيأتي بركعة أخرى بالفاتحة والسورة أيضاً، ثم يأتي بالركعة الأخيرة بالفاتحة فقط ويتشهد ويسلم، واستدل على ذلك بحديث علي رضي الله عنه قال: " ما أدركت مع الإمام فهو أول صلاتك واقض ما سبقك من القرآن " أخرجه البيهقي. ثانياً: أنه يجوز للرجل أن يقول فاتتنا الصلاة: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وما فاتكم فأتموا ". والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وما فاتكم فأتموا ".
264 - " باب متى يقوم الناس إذا رأوا الإِمام عند الإقامة "
311 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني " مقبلاً إلى الصلاة، أي حتى يراني من تتيسر له رؤيتي(2/122)
265 - " بَابٌ الإِمَامُ تعْرِضُ لَهُ الْحَاجَةُ قَبلَ الإِقَامَةِ "
312 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" أًقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُنَاجِي رَجُلاً في جَانِبِ الْمَسْجِدِ فَمَا قَامَ إلى الصَّلَاةِ حتى نَامَ الْقَومُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
منكم، لأن رؤية الجميع له متعذرة سيما بعد اتساع المساجد. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في قوله: " فلا تقوموا حتى تروني ".
ويستفاد منه: استحباب القيام إلى الصلاة عند رؤية بعض المصلين إقبال الإمام إليها، وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فذهب الشافعي وأبو يوسف إلى أنه يستحب القيام لها عند الفراغ من الإقامة، وهو مذهب مالك، وقال أحمد: " إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة " وقال أبو حنيفة ومحمد: " إذا قال حي على الصلاة ".
265 - " باب الإِمام تعرض (1) له الحاجة بعد الإِقامة "
312 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " أقيمت الصلاة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يناجي رجلاً في المسجد "، أي أقيمت حال كون النبي - صلى الله عليه وسلم - مشغولاً بالحديث مع رجل في المسجد عرض له في طريقه " فما قام إلى الصلاة حتى نام القوم "، أي فلم يشرع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة حتى ناموا، وفي الحديث عن حميد الطويل قال: سألت ثابتاً البُناني -بضم الباء- عن الرجل يتكلم بعدما تقام الصلاة: فقال: " أقيمت الصلاة، فعرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل فحبسه بعدما أقيمت الصلاة " أخرجه أبو داود.
__________
(1) بكسر الراء، أي تظهر له الحاجة، كما أفاده القسطلاني.(2/123)
" أبواب صلاة الجماعة والإمامة "
266 - " بَابُ وُجوُبِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ "
313 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " والذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدَ هَمَمْتُ أنْ آمُرَ بِحَطَب فَيُحْطَبَ، ثم آمُرَ بالصَّلَاةِ فيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إلى رِجَال فَأحَرقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، والذي نَفْسِي بِيَدِهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنّه يجوز للإِمام أن ينشغل بحاجة تعرض له بعد إقامة الصلاة، فيؤخر الشروع فيها، كما يجوز له الكلام بعد الإِقامة، وكرهه الحنفية. وقال مالك: يستحسن إعادة الإقامة إذا. بعدت. ثانياً: أنّ النوم الخفيف لا يبطل الصلاة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود.
والمطابقة: في قوله: " أقيمت الصلاة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يناجي رجلاً "
266 - " باب وجوب صلاة الجماعة "
313 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها "، أي يقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالله عز وجل الذي روحه بيده يتصرف فيها كيف يشاء، أنه عزم على أن يأمر أصحابه بجمع الحطب وتكسيره، وإشعال النار فيه " ثم آمر رجلاً فيؤم الناس " أي ثم يأمر بلالاً بإقامة صلاة العشاء أو الصبح، قال - صلى الله عليه وسلم -: " ثم أخالف إلى رجال فأحرِّق عليهم بيوتهمْ "، أي ثم أعاقب رجالاً من المنافقين يشهدون الظهر والعصر مع الجماعة رياءً ويتخلفون عن العشاء والصبح مع الجماعة، حيث لا يراهم الناس بسبب ظلمة الليل، فأحرِّق عليهم بيوتهم عقوبةً لهم على نفاقهم، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل مَا هَمَّ بِه رحمةً(2/124)
لَوْ يَعْلَمُ أحَدُهُمْ أنه يَجِدُ عَرْقَاً سَمِيناً أو مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالنساء والأطفال الموجودين في البيوت، كما جاء في رواية أخرى أنه قال: " ولولا ما في البيوت من النساء والذريّة لأقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون " أخرجه أحمد، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عَرْقاً " بفتح العين وسكون الراء " سميناً "، أي لو يعلم أحد هؤلاء أنه يجد في المسجد عظماً عليه شيء من اللحم والشحم ولو يسيراً " أو مرماتين حسنتين "، يعني أو سهمين جيدين " لشهد العشاء " أي لحضر صلاة العشاء لأنّه لا يهمه إلاّ العرض الدنيوي ولو كان يسيراً.
ويستفاد منه: تأكيد الأمر بصلاة الجماعة، واستدل به البخاري وبعض أهل العلم على وجوبها. واختلف الفقهاء في حكمها على أربعة أقوال: الأول: أنها شرط في صحة الصلاة، وأن صلاة المنفرد باطلة، وهو مذهب داود الظاهري ويشترط فيها المسجد، لحديث: " لا صلاة لجار المسجد، إلاّ في المسجد ". الثاني: أنها فرض عين، فتصح صلاة المنفرد مع الإِثم، ولا يشترط فيها المسجد لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " جعلت لي الأرض طيبة طهوراً ومسجداً " فأيما رجل أدركته الصلاة صلَّى حيث كان " متفق عليه، وأما حديث: " لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد " فهو من قول على رضي الله عنه كما أفاده ابن قدامة، وبهذا قال إسحاق وعطاء والأوزاعي وأحمد. الثالث: أنها فرض كفاية لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من ثلاثة في قرية، أو بدوٍ لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان " أخرجه أبو داود، وهو ظاهر قول الشافعي وبعض المالكية، وصححه النووي في " المنهاج ". الرابع: أن الجماعة سنة مؤكدة، وهو قول الجمهور ومشهور مذهب مالك وأبي حنيفة وقول للشافعيّة. قال الشوكاني (1) : وهو أعدل الأقوال وأقربها إلى الصواب (2) ، واستدلوا على عدم
__________
(1) " نيل الأوطار " للشوكاني.
(2) لكن حديث الأعمى الذي لم يرخص له - صلى الله عليه وسلم - في التخلف عنها يدل على وجوبها. المؤلف.(2/125)
267 - " بَابُ احْتِسَابِ الآثَارِ "
314 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَنَّ بَنِي سَلِمَةَ أرَادُوا أنْ يَتَحَوَّلُوا عَنْ مَنَازِلِهِمْ فَيَنْزِلُوا قَرِيباً مِنَ النَّبِيِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وجوبها بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " صلاة الرجل في الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة " قالوا: لأن المفاضلة بين صلاة الجماعة وصلاة الفرد تقتضي المشاركة في الثواب وتدل على أن المنفرد له حظ من الأجر، ولو كانت الجماعة واجبة لكان المنفرد عاصياً، والعاصي لا أجر له. وأجابوا عن حديث الباب بجوابين: الأول: أن الهم بقتلهم لا يستلزم وجوب الجماعة، فإن السنة الظاهرة كالأذان مثلاً يقاتل عليها كما يقاتل على ترك الواجبات، كما أفاده القاضي عياض.
الثاني: أن هؤلاء الذين توعدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا منافقين يحضرون الجماعة ظهراً وعصراً ليراهم الناس، ويغيبون عنها عشاء وصبحاً حيث لا يرونهم، فهمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلهم لنفاقهم، وهو ما رجحه الحافظ حيث قال: والذي يظهر لي أنّ الحديث ورد في المنافقين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر " لكن المراد به نفاق المعصية (1) . الحديث: أخرجه الستة وأحمد في " مسنده " بألفاظ. والمطابقة: كما يراه البخاري في كونه - صلى الله عليه وسلم - همّ بتحريق بيوت المتخلِّفين عن الجماعة، فلو لم تكن واجبة لما هم بذلك.
267 - " باب احتساب الآثار "
314 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه: " أن بني سلِمة " بكسر اللام وهم بنو سلِمة بن سعد بن علي بن أسد الخزرجي الأنصاري، وكانت منازلهم بجزع السيح ما بين القبلتين ومسجد الفتح،
__________
(1) " فتح الباري ".(2/126)
- صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فكَرِهَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَعْرُوا الْمَدِينَةَ، فَقَالَ: " ألَا تَحْتَسِبُونَ آثارَكُمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وكانت هذه المنطقة تسمى في ذلك العصر بالمذاد، وهي بعيدة عن المسجد، فلما خلت بعض الديار القريبة " أرادوا أن يتحولوا " أي أن ينتقلوا " عن منازلهم فينزلوا قريباً من النبي - صلى الله عليه وسلم - "، ويقتربوا من المسجد النبوي الشريف ليتمكنوا من الصلاة معه، وحضور مجلسه، قال جابر: خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلِمةَ أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم: إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد، قالوا: نعم يا رسول الله، قد أردنا ذلك، فقال: " يا بني سلِمة ديارَكم تكتب آثاركم "، أخرجه مسلم. فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبقاء في منازلهم، وكان - صلى الله عليه وسلم - يهدف من وراء ذلك إلى حماية المدينة من العدو من الجهة الغربيّة كما قال أنس: " فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعروا المدينة " أي كره أن تخلو الجهة الغربية منهم، لانهم كانوا بمثابة سور للمدينة يحميها من الأعداء، ولهذا نهاهم عن الانتقال عن تلك المنطقة وبشرهم باحتساب خطواتهم، وتكاثر حسناتهم تبعاً لبعد منازلهم فقال: " ألا تحتسبون آثاركم " أي ألا تفرحون باحتساب خطواتكم وإن لكم بكل خطوة حسنة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: فضل كثرة المشي وبعد الدار عن المسجد، وما يؤدي إليه زيادة الخطوات من زيادة الحسنات وتكفير السيئات ورفع الدرجات. ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى " أخرجه البخاري. ثانياًً: أنه يستحب للمسلم أن يحتسب خطواته إلى المسجد عند الله تعالى، ويستحضر فضل ذلك في أثناء سيره. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا تحتسبون آثاركم".(2/127)
268 - " بَابُ فضل صَلَاةِ الْعِشَاءِ في الْجَمَاعَةِ "
ْ31 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لَيْسَ صَلَاةٌ أثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهمَا لأتَوْهُمَا وَلَو حَبْواً " (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
268 - " باب فضل صلاة العشاء في الجماعة "
315 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء "، لأنهما تصليان في الليل حيث ينتشر الظلام، ويحجب الأنظار فلا يرى الناس من حضر فيهما ومن غاب عنهما، وهم إنما يصلون مع الجماعة رياءً ونفاقاً، فيواظبون على الصلوات النهارية كي يراهم الناس ويتغيبون عن الصلوات الليلية حيث لا يرونهم، ويستثقلون الحضور إليها لسوء نيتهم ولأنّهم لا يقصدون بأعمالهم وجه الله، وإنما يريدون بها الرياء والسمعة كما قال تعالى: (يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) " ولو يعلمون ما فيهما " من مضاعفة الحسنات، ورفع الدرجات، والفوز بالجنة والنجاة من النار، والنور التام يوم القيامة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " بَشّر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة "، فلو يعلمون حق العلم هذه المزايا العظيمة الموجودة فيهما " لأتوهما ولو حبواً "، أي لأتوهما ولو كانوا لا يستطيعون المشي إلاّ حبواً على الذراعين والركبتين.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: فضل صلاة العشاء مع الجماعة كما ترجم له البخاري. ثانياًً: التحذير من الرياء في الأعمال الدينية، والحرص على بعضها لأنه يراه الناس فيها وترك البعض الآخر لأنّه لا يراه الناس، كما كان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذا الحديث اختصرناه من حديث طويل اقتصرنا فيه على ما يطابق الترجمة.(2/128)
269 - " بَابُ مَنْ جَلَسَ في الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ وَفَضلُ الْمَسَاجِدِ "
316 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " سَبْعَة يَظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وشَابٌ نَشَأ في عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُل قَلْبُهُ مَعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يفعل هؤلاء المنافقون. ثالثاً: أن الأعمال الصالحة تخف على بعض النفوس وتثقل على بعضها حسب اختلاف الناس في إيمانهم. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " لو يعلمون ما فيهما " حيث دل على زيادة فضيلة العشاء والفجر على غيرهما كما أفاده العيني.
269 - " باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد "
316 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " سبعة يظلهم الله في ظله " أي سبعة أصناف من هذه الأمة يظلهم الله في ظل عرشه، ويقيهم حرارة الشمس. " يوم لا ظل إلاّ ظله " أي يتنعمون بظل العرش في ذلك اليوم الذي تدنو فيه الشمس من رؤوس العباد، ويشتد عليهم حرها، فلا يجد أحدٌ ظلاًّ إلاّ مَنْ أظله الله في ظل عرشه، ثم بين من هم هؤلاء السبعة وميزهم بأعمالهم. فأولهم: " الإِمام العادل " أي حاكم عادل في رعيته يحافظ على حقوقهم، وَيرعى مصالحهم، ويحكم فيهم بشريعة الله، فهو جدير بظل العرش يوم القيامة، لأنه ظل الله في أرضه، ورحمته على عباده، والجزاء من جنس العمل. والثاني: من هؤلاء السبعة: " شاب نشأ " منذ نعومة أظفاره " في عبادة ربه " أي مجتهداً في عبادة ربه، ملتزماً بطاعته في أمره ونهيه، لا يتبع هواه، ولا ينساق مع شهواته النفسية، فكان جديراً بذلك الظل الإِلهي يوم(2/129)
ورَجُلَانِ تَحَابَّا في اللهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأة ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أخافُ اللهَ، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ أخفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالَهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القيامة، لأنه جاهد نفسه في سبيل مولاه، وتغلّب على شهواته، وهو في عنفوان شبابه، والشباب شعبة من الجنون. والثالث من هؤلاء: " رجل قلبه معلق في المساجد " أي شديد الحب والتعلق بالمساجد يتردد عليها ويلازم الجماعة فيها، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ". وقال عز وجل: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ) . والرابع من هؤلاء: " رجلان تحابّا في الله " أي أحب كل منهما الآخر في ذات الله تعالى وفي سبيل مرضاته، كما يحب طالب العلم شيخه لأنّه يوصله إلى العلم النافع المؤدي إلى رضوان الله تعالى. " اجتمعا على ذلك " أي اجتمعا على حب الله تعالى والمشاركة فيما يرضيه من طلب العلم، أو الاجتهاد في العبادة، أو القيام بمصالح المسلمين، " وتفرقا عليه "، أي واستمرا على محبتهما هذه لأجله تعالى حتى فرق بينهما الموت، ولم يقطع بينهما عارض دنيوي كما قال المناوي. وذلك لأنَّ ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انفصم وانقطع. والخامس: " ورجل طلبته امرأة ذات منصب " بكسر الصاد " وجمال " أي دعته لنفسها امرأةٌ حسناء ذات أصل كريم وحسب ونسب، ومال وجاهٍ، ومركز مرموق " فقال: إني أخاف الله " أي فإذا به يسمع صوت ضميره من أعماق نفسه يقول له: " إني أخاف الله " فيمنعه خوف الله عن اقتراف ما يغضب الله. والسادس من هؤلاء: " رجل تصدق " صدقة التطوع " أخفى " أي فأخفى صدقته " حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " أي فبالغ في إخفاء صدقته على الناس، وسترها عن كل شيء حتى ولو كان شماله رجلاً ما علمها، فهو من مجاز التشبيه، كما أفاده المناوي.(2/130)
270 - " بَابُ فضلِ مَنْ غَدَا إلى الْمَسْجِدِ وَمَنْ رَاحَ "
317 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ غَدَا إلى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ، أَعَدَّ اللهُ لَهُ نُزُلاً مِنَ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أوْ رَاحَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السابع من هؤلاء: " ورجل ذكر الله خالياً " أي تذكر عظمة الله تعالى ولقاءه، ووقوفه بين يديه، ومحاسبته على أعماله حال كونه منفرداً عن الناس " ففاضت عيناه " أي فسالت دموعه على خديه خوفاً من الله تعالى.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: بيان فضل هؤلاء السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه، ولا ينحصر المتظللون في ظل العرش في هؤلاء فقط، وإنما هناك آخرون غيرهم، وقد أضاف إليهم الحافظ: الغازي ومن يعينه، والمنظِر للمُعْسِر، والتاجر الصدوق، ومن يعين المكاتب. ثانياً: فضل المساجد والمحبين لها المتعلقة قلوبهم بها. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " ورجل قلبه معلّق في المساجد ".
270 - " باب فضل من غدا إلى المسجد ومن راح "
317 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من غدا إلى المسجد وراح أعدّ الله له نزلاً في الجنة، كلما غدا أو راح "، أي لا يذهب أحد إلى المسجد في أي وقت كان أول النهار أو آخره ليصلي فيه جماعة، أو يطلب علماً، أو يقرأ قرآناً، إلاّ أعطاه الله في كل مرة قصراً في الجنة ضيافة وتكريماً له، سواء ذهب إليه صباحاً أو مساءً، لأن المساجد بيوت الله، فمن قصدها كان جديراً بضيافة أكرم الأكرمين.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: فضل صلاة الجماعة وما يترتب على الذهاب(2/131)
271 - " بَاب إذَا أقِيمَتِ الصَّلَاةُ فلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ "
318 - عن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَالِكٍ بنِ بُحَيْنَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأى رَجُلاً وَقَدْ أقِيمَتِ الصَّلَاةُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ لَاثَ بِهِ النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " آلصُّبْحَ أرْبَعَاً؟! آلصبحَ أربَعَاً؟! ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إليها صباحاً أو مساءً حيث ينال الذاهب إليها في كل مرة قصراً في الجنة.
ثانياًً: فضل التردد على المساجد لأي غرض ديني ولو غير الصلاة كدراسة العلم، وقراءة القرآن. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.
271 - " باب إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة "
318 - معنى الحديث: يحدثنا عبد الله بن بحينة: " أن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً قد أقيمت الصلاة يصلّي ركعتين " أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الله عليه وسلم - رأى
هذا الرجل في المسجد يصلّي ركعتين بعد قيام الجماعة لصلاة الصبح " فلما انصرف لاث به الناس ". أي فلما فرغ الرجل من الصلاة اجتمع عليه الناس، والتفوا حوله، وأحاطوا به استنكاراً لفعله لأنّه استقر في أذهانهم أنه إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة، وعلموا ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقتصر الأمر على مجرد استنكار الصحابة فقط، بل إنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر ذلك عليه " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: آلصبح أربعاً آلصبح أربعاً؟ " بهمزة الإستفهام الإِنكاري أي كيف تصلي ركعتين بعد قيام الجماعة لصلاة الصبح، فتكون كأنما صليت الصبح أربع ركعات، وزدت فيها ركعتين من عندك. أمّا هذا الرجل الذي أنكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة النافلة بعد قيام صلاة الصبح فهو(2/132)
عبد الله بن بحينة نفسه؟ جاء مصرحاً به في رواية أحمد أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ به وهو يصلي ... إلخ ويحتمل أنه ابن عباس رضي الله عنهما لما روى عنه أنه قال: كنت أصلي وأخذ المؤذن في الإقامة فجذبني النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: " أتصلي الصبح أربعاً ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: ما ترجم له البخاري من أنه " إذا أقيمت ْالصلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة "، وقد جاء الحديث بهذا اللفظ نفسه في بقية الصحاح الخمسة، ولم يخرجه البخاري لاختلافهم في رفعه ووقفه، ولهذا اكتفى عنه بحديث عبد الله بن بحينة وهو مثله في معناه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر عليه صلاة النافلة بعد قيام الجماعة قائلاً: " آلصبح أربعاً "، وهذا يدل على أنّه لا يجوز البدء في النافلة مطلقاً، سواء كانت تحية المسجد أو غيرها أثناء الإقامة أو بعدها. لأن ذلك يؤدي إلى إعطاء الصلاة المفروضة صورة أخرى غير صورتها، ولا خلاف عند أهل العلم في أنّه لا يجوز ذلك إلاّ إذا عقد ركعة من النافلة قبل الإِقامة فإنه يتمها. ثانياًً: ذهب أهل الظاهر إلى أنّه إذا أقيمت الصلاة وهو في صلاة بطلت صلاته عملاً بظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة " حيث حملوا النفى على نفي صحة الصلاة، والجمهور على أنّه لا تبطل صلاته، وأن المراد به نفي كمال الصلاة، ويحتمل أن يكون النفي بمعنى النهي أي لا تشرعوا في صلاة غير المكتوبة عند إقامتها. والمطابقة: في قوله: " آلصبح أربعاً ".
تنبيهان: الأول: ذكرنا فيما يستفاد من الحديث أن قول البخاري: " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة " هو لفظ حديث صحيح أخرجه مسلم، وتلك عادة البخاري، إذا وقف على حديث ليس على شرطه، ترجم به، وأخرج غيره، ولم يخرجه، ليشير بذلك إلى وجوده (1) ، وذلك من لطائف البخاري. الثاني: قد يستدل بعضهم على مشروعية تحية المسجد عنْد الإِقامة
__________
(1) وكأنه يقول للقارىء يوجد حديث بهذا النص ولكنني لم أخرجه لأنه ليس على شرطي.(2/133)
272 - " بَابٌ إذَا حضَرَ الطَّعَامُ وَأقِيمَتِ الصَّلَاةُ "
319 - عَنْ أنَسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا قُدِّمَ الْعَشَاءُ فابْدَءُوا قَبْلَ أنْ تُصَلُّوا الْمَغْرِبَ ولا تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بحديث علي رضي الله عنه " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الركعتين عند الإِقامة "، ولا حجة فيه لأن في سنده الحارث الأعور وهو ضعيف كما أفاده الشوكاني.
272 - " باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة "
319 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قدم العشاء فابدؤوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب " أي إذا حضر الطعام وحضرت الصلاة فابدؤوا بتناول الطعام، قبل أن تصلوا، حتى ولو كانت الصلاة قصيرة الوقت، محدودة الزمن، كصلاة المغرب.
مما يؤكد ذلك، قوله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عائشة رضي الله عنها: " لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان " " ولا تعجلوا عن عشائكم " أي ولا يدعوكم حضور وقت الصلاة أو قيامها، إلى الإِسراع في طعامكم فتقوموا عنه ونفوسكم متعلقة به، تواقة إليه، راغبةٌ فيه، فتدخلوا في الصلاة بأجسامكم دون قلوبكم وأرواحكم، فتكون صلاتكمْ خالية من الخشوع.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يستحب تقديم الطعام على الصلاة ليليةً كانت أو نهارية؛ لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك في حديث الباب وأمره - صلى الله عليه وسلم - بذلك يقتضي الاستحباب عند الجمهور لهذا قالوا: يستحب تقديم الطعام على الصلاة عامة. قال ابن قدامة: إذا أحضر العشاء في وقت الصلاة، فالمستحب أن يبدأ بالعشاء قبل الصلاة؛ ليكون أفرغ لقلبه، وأحضر لباله، ولا فرق(2/134)
273 - " بَاب أهْلُ الْعِلْمِ والفَضْلِ أحَقُّ بالإِمَامَةِ "
320 - عنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
"أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَان يُصَلِّي بِهِمْ فِي وَجَعِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، حتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الاثْنَيْنِ، وَهُمْ صُفُوف في الصَّلَاةِ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سِتْرَ الْحُجْرَةِ يَنْظرٌ إِلَيْنَا وَهُوَ قائِم، كَأن وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ، ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ، فَهَمَمْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ مِنَ الْفَرَحِ بِرُؤية النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فنكصَ أبُو
__________
بين أن يخاف فواتها في الجماعة أو لا يخاف ذلك، فإن بعض ألفاظ حديث أنس " إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء ". وحمل الظاهرية الأمر على الوجوب، وجزموا ببطلان الصلاة إذا قدمت. وقال مالك: يبدأ بالصلاة إلا أن يكون طعاماً خفيفاً، وهو مذهب الشافعي. ثانياً: الترغيب في تجريد النفس عن الشواغل الدنيوية في أثناء الصلاة. الحديث: أخرجه أيضاً مسلم بألفاظ أخرى. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قدم العشاء فابدءوا به " ... إلخ.
273 - " باب أهل العلم والفضل أحق بالإِمامة "
320 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أن أبا بكر كان يصلي بهم في وجع النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الإِثنين " برفع " يومُ " على أنه فاعل لكان التامة. أي حتى إذا جاء يوم الاثنين " وهم صفوف في الصلاة " أي في صلاة الصبح " فكشف النبي - صلى الله عليه وسلم - ستر الحجرة ينظر إلينا " ليتفقد أحوالنا " كأن وجهه ورقة مصحف " أي يشبه وجهه ورقة الصحف في رقة بشرته، وصفاء لونه، وحسن صورته " ثم تبَسّم يضحك " فرحاً ومسروراً بما رأى من حرص أصحابه على الجماعة "فهممنا(2/135)
بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْه لِيَصِلَ الصَّفَّ، وظَنَّ أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَارِجٌ إلى الصَّلَاةَ فَأشَارَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -أنْ أتِمُّوا صَلَاَتكُمْ، وأرْخَى السِّترَ، فَتُوُفيَ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ يَوْمِهِ".
274 - " بَابٌ إِنمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتمَّ بِهِ "
321 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
ثَقُلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " أصلَّى النَّاسُ؟ " قُلْنَا: لا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أن نفتتن" أي فعزمنا على الخروج من الصلاة، فنقع في الخطأ من شدة فرحنا به " فنكص أبو بكر رضي الله عنه ليصل الصف " أي تراجع إلى الوراء ليقف في الصف ويدع الإمامة للنبي - صلى الله عليه وسلم - " فأشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أتموا صلاتكم " أي فأشار إليهم بإتمام الصلاة خلف الصديق رضي الله عنه.
ويستفاد منه: أن أحق الناس بالإمامة أعلمهم وأفقههم، وهو مذهب الجمهور لأنّه - صلى الله عليه وسلم - استخلف الصديق في الإمامة لتفوقه على غيره في الفقه، وإن كان يوجد من هو أقرأ منه، خلافاً لأحمد حيث قال: أحق الناس بالإمامة أقرؤهم لحديث أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله ... إلخ " أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه، وأجاب عنه الجمهور بأنه كان الأقرأ في عصر النبوة هو الأعلم غالباً (1) .
الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " إن أبا بكر كان يصلي بهم " حيث قدِّمَ للإمامة لأنه أعلم الصحابة.
274 - " باب إنما جعل الإِمام ليؤتم به "
321 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها "ثقل النبي
__________
(1) ولذلك عبر بالأقرأ لأنه يكون أقرأ وأعلم فيجتمع فيه مزيتان كثرة القراءة وغزارة العلم.(2/136)
قَالَ: " ضعُوا لِيَ مَاءً في الْمِخْضَبِ " قَالَتْ: فَفَعَلْنَا، فاغْتَسَل فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فأغْمِيَ عَلَيْهِ، ثم أفَاقَ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "أصَلَّى النَّاسُ؟ " قُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " ضَعُوا لِيَ مَاءً في الْمِخْضَبِ " قَالَتْ: فَقَعَدَ فاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَب لِيَنُوءَ فأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أفَاقَ فَقَالَ: " أصَلَّى النَّاسُ؟ " فَقُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: " ضَعُوا لِيَ مَاءً فِي الْمِخْضَبِ "، فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثمَّ أفَاقَ فَقَالَ: " أصَلَّى النَّاسُ؟ " فَقُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ الله،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- صلى الله عليه وسلم -" أي اشتد عليه المرض " فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا " أي قال عندما حضرت الصلاة هل صلى الناس أم لا؟ فقلت: لم يصلوا بعد " قال: ضعوا لي ماءً في المخضب " (1) أي في الطست " فاغتسل فذهب لينوء فأغمي عليه " أي فاغتسل وحاول النهوض بمشقة وعناء، فلم يقدر على القيام، وأصابه الإغماء من شدة ما يعانيه من الألم " ثم أفاق " من غشيته " فقال: أصلّى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله قال: ضعوا لي ماءً في المخضب قالت: ففعلنا فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، فقال: ضعوا لي ماءً في المخضب. فقعد فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله " وهكذا أغتسل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات، وكان يحاول في كل مرة بعد الاغتسال النهوض ليخرج إلى الصلاة فيغمى عليه، فإذا أفاق سأل: أصلى الناس؟ فتقول عائشة: هم ينتظرونك، فيعاود الاغتسال مرة أخرى حتى يئس من القدرة على
__________
(1) بكسر الميم وسكون الخاء، قال في " لسان العرب " وهو إناء تغسل فيه الثياب، وهو ما يسمى بالطست.(2/137)
وَالنَّاسُ عُكُوفُ في الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ، فَأرسَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى أبِي بَكْرٍ بأنْ يُصَلِّيَ بالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فقالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يأمُرُكَ أنْ تُصَلِّيَ بالنَّاسِ، فَقَالَ أبو بَكْرٍ، وكانَ رَجُلاً رَقِيقَاً: يَا عُمَرُ صَلِّ بالنَّاس، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أنتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، فَصَلَّى أبو بَكْر تِلْكَ الأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، وأبو بَكْرٍ يُصَلِّى بالنَّاس، فَلَمَّا رَآهُ أبو بَكْرٍ، ذهَبَ لِيتَأخرَ فأوْمأ إِلَيْه النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأنْ لا يَتَأخَّرَ، قَالَ: " أجْلِسَانِي إلى جَنْبِهِ "، فَأجْلَسَاهُ إلى جَنْبِ أبِي بَكْرٍ قَالَ: فَجَعَلَ أبو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ قَائِمٌ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَالنَّاسُ بصلاة أبي بكر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قَاعد".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الخروج، " والناس عكوف في المسجد " أي مقيمون فيه ينتظرونه " فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر " بلالاً يأمره " بأن يصلي بالناس فأتاه الرسول " أي فجاء بلال إلى أبي بكر رضي الله عنه مرسلاً إليه من النبي - صلى الله عليه وسلم - " فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تصلي بالناس " نيابة عنه " فقال أبو بكر: وكان رجلاً رقيقاً " أي رقيق القلب خشى أن يغلبه البكاء في الصلاة " يا عمر صل بالناس فقال له عمر: أنت أحق بذلك، فصلى أبو بكر تلك الأيام " التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها مريضاً " ثم إنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد من نفسه خفة " أي شعر بخفة في مرضه ونشاط في جسمه " فخرج بين رجلين " أي خرج يتكىء عليهما ويستعين بهما على مشيه " وأومأ إليه بأن لا يتأخر " أي فأشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر أن لا يتأخر عن مكانه " قال: أجلساني إلى جنبه فأجلساه إلى جنب أبي بكر قال: فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم "(2/138)
322 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أنَّهَا قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في بَيْتهِ وَهُوَ شَاكٍ، فَصَلَّى جَالِساً، وصلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قياماً، فأشَارَ إلَيْهِمْ أنِ اجْلِسُوا، فلمَّا انْصَرَفَ قَالَ: " إنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فإِذَا رَكَعَ فارْكَعُوا، وِإذَا رَفَعَ فارْفَعُوا، وِإذَا صَلَّى جَالِساً فَصَلُّوا جُلُوساً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي حال كونه قائماً " بصلاة النبي " أي يأتم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته كما جاء مصرحاً بذلك في رواية أخرى " والناس بصلاة أبي بكر " أي وكان أبو بكر رضي الله عنه يرفع صوته بالتكبير والتحميد عند السجود والركوع، والناس يسمعون تبليغه ويتبعونه " والنبي - صلى الله عليه وسلم - قاعد " أي والحال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاعد وأبو بكر والناس من خلفه قيام. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن المأموم يأتم بإمامه ويتبعه في خفضه للركوع والسجود ورفعه منهما، ولا يسبقه في شيء من ذلك كما في حديث الباب حيث قال: " فجعل أبو بكر يصلّى وهو يأتم بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي ويتبعه في ركوعه وسجوده وهذا هو حقيقة الائتمام كما ترجم له البخاري.
ثانياًً: أنه يجوز أن يصلي المأموم قائماً خلف إمام يصلّي قاعداً، قال: العيني: وهو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي ومالك في رواية والأوزاعي خلافاً لما روي عن مالك في المشهور عنه، ومحمد بن الحسن من عدم صحة إمامة القاعد للقائم، وقالا: إن الذي نقل عنه - صلى الله عليه وسلم - كان خاصاً به، واحتجوا بالحديث الآتي عن عائشة. والمطابقة: في قوله: " وهو يأْتمُّ بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
322 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها فتقول: "صلّى رسول الله في بيته وهو شاكٍ" أي مريض " فصلّى جالساً " أي فلم يستطع(2/139)
275 - " بَابٌ متى يَسْجُدُ مَنْ خلْفَ الإِمَامِ "
323 - وعنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَالَ: " سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " لَمْ يَحْن أحدٌ ظَهْرَهُ حتَّى يَقَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَاجِداً، ثُمَّ نَقَعُ سُجُوداً بَعْدَهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الوقوف بسبب مرضه، فصلى جالساً، كما في رواية جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - ركب فرساً بالمدينة فصرعه على جذع نخلة، فانفكّت قدمه، فأتيناه نعوده في مشربة لعائشة " فصلى جالساً وصلى وراءه قوم قياماً فأشار. إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف " أي فلما انتهى من صلاته " قال: إنما جعل الإِمام ليؤتم؟ " أي ليقتدى به في أفعاله " فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا " أي فاتَّبِعُوه في ركوعه ورفعه من الركوع " وإذا صلّى جالساً فصلوا جلوساً " مثله.
الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يجب على المأموم متابعة إمامه في جميع أفعاله حتى في جلوسه، فإذا صلّى جالساً وجب عليه أن يصلّي مثله جالساً، فإن صلّى قائماً بطلت صلاته، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وإذا صلّى جالساً فصلُّوا جلوساً " وهو مذهب أحمد وإسحاق ومالك في المشهور عنه. ثانياً: أن الإمام يقول: " سمع الله لمن حمده "، والمأموم يقول: " ربنا ولك الحمد " لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد " وهذا يقتضي أن التسميع للإمام، والتحميد للمأموم. والمطابقة: في قوله: " وإذا صلّى جالساً فصلوا جلوساً ".
275 - " باب متى يسجد مَنْ خلف الإِمام "
323 - معنى الحديث: يقول البراء رضي الله عنه "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: سمع الله لمن حمده، لم يحن أحد ظهره حتى يقع النبي - صلى الله عليه وسلم -(2/140)
276 - " بَابٌ إِثْمِ مَنْ رَفَعَ رَأسَهُ قَبلَ الإِمَامِ "
324 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " أمَا يَخْشَى أحَدُكُمْ إذَا رَفَعَ رَأسَهُ قبلَ الإمَامِ أنْ يَجْعَلَ اللهُ رَأسَهُ رَأسَ حِمَارٍ، أو يَجْعَلَ اللهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ساجداً" أي كنا نتابع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سجوده، ولا نسجد إلاّ بعده فإذا رفع من الركوع، نبقى قياماً ولا يخفض أحدٌ ظهره حتى يسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقع بجبهته على الأرض. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: وجوب متابعة المأموم لإمامه في السجود.
فلا يسجد حتى يسجد الإِمام ويقع بجبهته على الأرض. ثانياًً: مشروعية قول: " سمع الله لمن حمده " للإِمام، وقول: " ربنا ولك الحمد ". للمأموم، وهو قول الجمهور. والمطابقة: في قوله: " لم يحن أحد منا ظهره حتى يقع النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجداً "
276 - " باب إثم من رفع رأسه قبل الإِمام "
324 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - محذِّراً المأموم من سبق الإِمام، ورفع رأسه قبله في الركوع والسجود " أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإِمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار " "أي كيف تتجرؤون على رفع رؤوسكم من الركوع والسجود قبل رفع الإِمام، ألا يخاف أحدكم إذا رفع رأسه قبل إمامه أن يمسخ الله رأسه رأس حمار، إما مسخاً مجازياً، بأن يجعله الله كالحمار في غباوته وبلادته، أو مسخاً حقيقياً، بأن يجعل صورة رأسه على صورة رأس الحمار إما في الآخرة أو في الدنيا، ولا مانع من ذلك، فإن المسخ الجزئي الخاص موجود في هذ الأمّة لما في الحديث عن عائشة(2/141)
277 - " بَابُ إِمَامَةِ الْعَبْدِ والْمَوْلَى "
325 - عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " اسْمَعُوا وأطِيعُوا وِإنْ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ كَأن رَأسَهُ زَبِيبَةٌ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف " أخرجه الترمذي " أو يجعل الله صورته صورة حمار " والفرق بينهما أن المسخ الأول للرأس فقط، والثاني للجسد كله. الحديث: أخرجه الستة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يحرم على المأموم أن يسبق إمامه في الرفع من الركوع والسجود، لأن هذا الوعيد بالمسخ لا يترتب إلاّ على معصية، فإن فعل أثم وصحت صلاته عند الجمهور خلافاً لأحمد وأهل الظاهر.
ثانياًً: جواز وقوع المسخ الحقيقي فِي هذه الأمة كما في الحديث، وقد ذكر القاري فِي " المرقاة " (1) أن بعض المحدثين رحل إلى شيخ في دمشق يأخذ عنه فكان يجعل بينه وبينه حجاباً، فلما طالت ملازمته كشف له عن وجه حمار، وقال له: لما مر بي هذا الحديث استبعدت وقوعه فسبقت الإِمام، فأصابني ما ترى. والمطابقة: من حيث أن فيه وعيداً شديداً، ومرتكب الشيء الذي فيه الوعيد آثم.
277 - " باب إمامة العَبْدِ والمولى "
325 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اسمعوا " كلام ولي الأمر سماع في قبول " وأطيعوا " أمره ونهيه في حدود طاعة الله " وإن استعمل حبشي كان رأسه زبيبة " أي كأن شعر رأسه في قصره وتلففه زبيبة،
__________
(1) " مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " لعلي القاري.(2/142)
278 - " بَابٌ إِذَا لَمْ يُتمَّ الإِمَامُ وَأتمَّ مَنْ خلْفَهُ "
326 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يُصَلُّونَ لَكُمْ، فَإِنْ أصَابُوا فَلَكُمْ، وِإنْ أخْطَؤوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومعناه: أطيعوا ولي الأمر مطلقاً شريفاً كان أو وضيعاً، عظيماً كان أو حقيراً، حراً أو عبداً، سواء كان أميراً أو قاضياً، أو صاحب شرطة، ونحو ذلك فيما فيه طاعة الله. الحديث: أخرجه أيضاً ابن ماجة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: صحة إمامة العبد في الصلاة كما ترجم له البخاري لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن استعمل حبشي " فإنه يدخل في ذلك الإِمام (1) .
قال ابن قدامة: وهذا قول أكثر أهل العلم. وروي عن عائشة أن غلاماً لها كان يؤمها، وصلى ابن مسعود وحذيفة وأبو ذر وراء أبي سعيد مولى أبي أسيد وهو عبد، وقال مالك: لا يؤمهم إلا أن يكون قارئاً، وهم أميّون.
والمطابقة: في قوله: " وإن استعمل حبشي ".
278 - " باب إذا لم يتم الإِمام وأتم من خلفه "
326 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه " أن رسول -الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم " أي سيكون بعدي أئمة يصلون بكم ويؤمونكم في صلاة الجماعة، فإن أصابوا في صلاتهم بأدائها في وقتها صحيحة مستوفية لجميع أعمالها صحت صلاتهم وصلاتكم، وكان لكم أجركم، ولهم أجرهم، " وإن أخطأوا " أي ارتكبوا خطأً يؤدّي إلى
__________
(1) فإنه يدل على أن ولي الأمر لو استعمل على الرعية إماماً في الصلاة وكان ذلك الإِمام عبداً مملوكاً صحت إمامته وصحت صلاتهم خلفه.(2/143)
فساد الصلاة سهواً " فلكم وعليهم " أي فإنّها تصح صلاتكم وتفسد صلاتهم وحدهم.
ويستفاد منه: أن الإِمام إذا ارتكب خطأً يفسد الصلاة بطلت صلاته وحده، وصحت صلاة المأمومين، فإن ترك الإمام ركناً سهواً ولم يعلم المأموم (1) أثناء الصلاة بما تركه إمامه بطلت صلاة الإمام وحده، وصحت صلاة المأموم، وهو وجه عند الشافعية بشرط أن يكون الإمام هو الخليفة أو نائبه (2) ، خلافاً للحنفية، فإنهم قالوا: تبطل صلاة المأموم تبعاً لصلاة الإِمام إذا ترك ركناً أو واجباً سهواً أو عمداً، وحملوا الخطأ في الحديث على ترك السنن أو التأخير عن الوقت المستحب. وإن صلى الإِمام محدثاً، فإن دخل في الصلاة بالحدث ناسياً، أو غلبه الحدث أثناءها ثم علم الإِمام أو المأموم أثناء الصلاة وجب عليه قطع الصلاة عند المالكية والحنفية، فإن استمر في صلاته بعد ذلك بطلت صلاته، وقال الشافعيّة: إذا علم المأمومون بذلك أثناء الصلاة وجب عليهم قطع القدوة بالإِمام، وإتمام صلاتهم بنية المفارقة، وتصح صلاتهم، وإن لم يعلموا إلاّ بعد السلام بطلت صلاته وحده وصحت صلاتهم عند الجمهور (3) ، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وإن أخطؤوا فلكم وعليهم " وقال الحنفية: تبطل صلاته وصلاتهم، وإذا صلى الإمام بالنجاسة ناسياً فإن علموا بها أثناء الصلاة وجب عليهم قطع الصلاة فوراً عند الجمهور، لبطلان صلاة الإِمام والمأمومين معاً، وقالت الشافعية: يقطع المأمومون قدوتهم بالإمام، ويتمون بنية المفارقة، وإن علموا بالنجاسة بعد السلام فقالت المالكية: تصح صلاتهما معاً، وتجب على الإِمام الإعادة في الوقت (4) . وقالت الحنابلة:
__________
(1) " فقه السنة " ج 1.
(2) " فتح الباري " ج 2.
(3) " كتاب الفقه على المذاهب الأربعة " ج 1.
(4) " الرسالة " لابن أبي زيد.(2/144)
279 - " بَاب إِذَا طَوَّلَ الإِمَامُ وكانَ لِلرَّجُلِ حَاجَة فخرَجَ فَصَلَّى "
327 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
كَانَ مُعَاذَ بْنَ جَبَل يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ يَرْجِعُ، فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ، فَصَلَّى العِشَاءَ فقرأ بِالْبَقَرَةِ، فانْصَرَفَ الرَّجُلُ، فكأنَّ مُعَاذاً تَنَاوَلَ مِنْهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "فَتَّانٌ فَتَّانٌ فَتَّانٌ" ثَلاث مِرارٍ، أو قَالَ: " فَاتِنَاً فَاتِناً فَاتِناً " (1) وأمَرَهُ بسُورَتَيْنِ من أوْسَطِ الْمفَصَّلِ، قَالَ عَمْرو: لا أحْفَظُهُمَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تبطل صلاة الإِمام فقط، وقالت الشافعية: إن كانت النجاسة مغلظة بطلت صلاته وصحت صلاتهم، وإن كانت خفيفة في غير جمعة (2) ينقص العدد فيها بدونه صحت صلاتهما معاً. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والحاكم والدارقطني. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة.
279 - " باب إذا طوّل الإِمام وكان للرجل حاجة فخرج فصلّى "
327 - معنى الحديث: يحدثنا جابر رضي الله عنه " أن معاذ بن جبل كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يرجع فيؤم قومه " أي يصلي جماعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجده بالمدينة ثم يعود إلى قومه فيؤمهم في نفس الصلاة التي صلاها معه، " فصلى العشاء فقرأ بالبقرة فانصرف الرجل " وفي رواية مسلم " فانحرف رجل، فسلم ثم صلى وحده " بمعنى أنه قطع الصلاة واستأنفها من أولها منفرداً، ولكن هذه الرواية انفرد بها محمد بن عباد شيخ مسلم، أما سائر الروايات الأخرى فإنّها لم يذكر فيها السلام، وإنما ذكر فيها الانصراف
__________
(1) أي تكون بعملك هذا فاتناً.
(2) " كتاب الفقه على المذاهب الأربعة " ج 1 للجزيري.(2/145)
فقط، وهي تدل على أن الرجل لم يخرج من الصلاة، ولم يُعِدْهَا من أولها، وإنما فارق إمامه، وأتمها منفرداً، وهو ما رجحه الحافظ " فكأنَّ معاذاً تناول منه " أي سبّه وشتمه " فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - " ما فعله معاذ " فقال: فتان " أي أنت يا معاذ بفعلك هذا تنفر الناس عن صلاة الجماعة وتفتنهم في دينهم.
" وأمره بسورتين من أوسط المفصل " أي أن يقرأ في العشاء بأوساط المفصل وهو عند المالكية من (عبَس) إلى (الضحى) وعند الشافعيّة والحنابلة من (عَمّ) إلى (الضحى) وعند الحنفية من (البروج) إلى (لم يكن) . الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: فانصرف الرجل.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استدل به الشافعية على أن للمأموم أن يقطع القدوة بإمامه لسبب من الأسباب كالإِطالة في الصلاة ويتم صلاته وحده بنية المفارقة، وقالت المالكية والحنفية: لا يجوز ذلك، وإن الرجل المذكور في هذا الحديث لم يقطع القدوة بإمامه وإنما قطع الصلاة وأعادها من أولها لما في رواية مسلم " أنه سلّم ثم صلّى وحده ". ثانياًً: جواز اقتداء المفترض بالمتنفل، لأن قوم معاذ كانوا يأتمون به وهم مفترضون وهو متنفل، وهو مذهب الشافعي وأحمد في رواية، خلافاً لمالك وأبي حنيفة حيث قالوا الإِمام ضامن والفرض ليس مضموناً في النفل فلا يجوز اقتداء مفترض بمتنفل.
***(2/146)
280 - " بَابُ تخفِيفِ الإِمَامِ في القِيَامِ وإتمَامِ الرُّكُوعِ والسَّجُودِ "
328 - عن أبي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَنَّ رَجُلاً قَالَ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي لأتَأخَّرُ عن صَلَاةِ الغَدَاةِ مِنْ أجلِ فُلَان مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، فما رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في مَوْعِظَةٍ أشَدَّ غَضَبَاً مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثمَّ قَالَ: " إنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأيكُمْ مَا صَلَّى بالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ، فإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ والْكَبِيرَ وذَا الْحَاجَةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
280 - " باب تخفيف الإِمام في القيام وإتمام الركوع والسجود "
328 - معنى الحديث: يحدثنا أبو مسعود رضي الله عنه " أن رجلاً قال: والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة " أي شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من تطويل معاذ في القراءة في الصلاة، وأقسم على أنه يتغيب عن صلاة الصبح بسبب هذا التطويل، وهو معنى قوله: " من أجل فلان مما يطيل بنا " أي بسبب تطويله وإنما خص بالذكر صلاة الغداة، - وهي الصبح- لأن التطويل فيها أكثر، ولأن الانصراف منها وقت التوجه إلى الأعمال، كما أفاده العيني، " فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موعظة أشد غضباً منه يومئذٍ " أي لم أره في موعظة من مواعظه السابقة أشد غضباً من غضبه في تلك الموعظة التى وجهها إلى الناس في ذلك اليوم، " ثم قال: إن منكم منفرين " أي إن بعض أئمتكم ينفرون الناس عن صلاة الجماعة، بسبب كثرة تطويلهم فيها " فأيكم ما صلى بالناس فليتجَوّز " أي فليخفف في القراءة والقيام مع إتمام الركوع والسجود " فإنّ فيهم الضعيف " بسبب مرض أو عاهة أو غير ذلك " والكبير " في السن " وذا الحاجة " من أصحاب الأعمال.(2/147)
281 - "بَابُ الإيجَازِ في الصَّلَاةِ وَإكْمَالِهَا "
329 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُوجِزُ الصَّلَاةَ ويُكْمِلُهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويستفاد منه: أنه يسن للإِمام تخفيف القيام والقراءة في الصلاة، ومراعاة ظروف المصلين وأحوالهم، ويرى ابن عبد البر استحباب التخفيف للإِمام مطلقاً، وإن علم قوة من خلفه فإنه لا يدري ما يحدث لهم من حادث وعارض من حاجة أو حدث بول أو غيره. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " فليتجوّز ".
281 - " باب الإِيجاز في الصلاة وإكمالها "
329 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوجز الصلاة " أي يخفف على الناس في صلاة الجماعة رفقاً بهم، ومراعاة لظروفهم، وأحوالهم البدنية والنفسية والمعاشية والاجتماعية فيقتصر في العشاء على أوساط المفصل، وفي المغرب على قصاره " ويكملها " أي أنه وإن كان يخفف في القراءة إلاّ أنه يتمم أركان الصلاة الفعلية من ركوع وسجود وجلوس ويطمئن فيها، فيخفف في الأقوال، ويتمم في الأفعال. الحديث: أخرجه الشيخان وابن ماجة.
ويستفاد منه: استحباب التخفيف في الصلاة للإِمام في الأقوال فقط مع إتمام الأفعال من ركوع وسجود ونحوه. والمطابقة: في قوله: " يوجز في الصلاة ".(2/148)
282 - " بَابُ مَنْ أخفَّ الصَّلَاةَ عِنْدَ بُكَاء الصَّبِيِّ "
330 - عن أبي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنِّي لأقومُ في الصَّلَاةِ أرِيدُ أنْ أطَوِّلَ فيهَا فأسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فأتَجَوَّزُ في صَلاتِي كَرَاهِيَةَ أنْ أشُقَّ علَى أمِّهِ ".
283 - " بَابُ تسْوِيَه الصُّفُوفِ عِنْدَ الإِقَامَةِ وَبَعْدَهَا "
331 - عنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
282 - " باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي "
330 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطوّل فيها " أي أدخل في الصلاة ناوياً التطويل في أقوالها وأفعالها لما أعلمه من رغبة المأمومين في ذلك " فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي " أي أخفف فيها " كراهية أن أشقَّ على أمّه " أي حذراً أو خوفاً من أن يؤدي هذا التطويل إلى تعذيب الأم، وتحملها مشقة الألم لبكائه، وفي رواية " مخافة أن تفتتن " أي تشغل عن الصلاة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية التخفيف للإمام مطلقاً، لأنه
لا يخلو الحال من وجود مَنْ لا يقدر على التطويل كأم مرضع وطفلها، فإنّها إن بكى قطعت الصلاة، أو تركته فتأذّى. ثانياً: أن الإمام إذا شعر في أثناء الصلاة بحدوث مشقة للمأمومين ينبغي له التخفيف فيها. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " فأتجوّز كراهية أن أشق على أمّهِ ".
283 - " باب تسوية الصفوف عند الِإقامة وبعدها "
331 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لتسوُّن صفوفكم "(2/149)
قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: " لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكمْ، أو ليخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وَجوهِكمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الواو واو قسم محذوف تقديره: والله لتسوُّن صفوفكم، أي تجعلونها معتدلة متساوية في الصلاة مع ملء الفجوات في الصفوف، الأوّل فالأوّل، قال الزرقاني: والتسوية هي اعتدال القامة على سمت واحد، أي على خط مستقيم واحد، وسد الخلل، وفي الحديث عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - على الناس بوجهه فقال: " أقيموا صفوفكم ثلاثاً، والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله في قلوبكم " أخرجه أبو داود، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: " أو ليخالفن الله بين وجوهكم " (1) أي فإن لم تسووا صفوفكم في الصلاة أنزل الله الكراهية والبغضاء في قلوبكم، فتتنكر وجوهكم بعضها لبعض. قال القاري: وهو كناية عن المهاجرة والمعاداة.
وقيل: هو على حقيقته، والمراد به تشويه الوجه. والمطابقة: في قوله: " لتسوُّن صفوفكم ".
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية تسوية الصفوف، وعناية الإمام بذلك، والتسوية سنة عند مالك والشافعي، واجبة عند أبي حنيفة، فرض عند ابن حزم، واستدل على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - في روايةٍ: " فإنّ تسوية الصف من إقامة الصلاة " وإقامتها فريضة، وكل شيء من الفرض فهو فرض، إلّا أن الرواة لم يتفقوا على هذه العبارة، حيث رواها بعضهم بلفظ " فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة " ويؤخذ منها الاستحباب كما قال ابن دقيق العيد، لأن تمام الشيء عرفاً أمر خارج عن حقيقته. ثانياً: التحذير من الصلاة في الصف الأعوج، والوعيد الشديد على ذلك بالمسخ وتشويه الوجه، وهذا
__________
(1) لأن معناه: إما أن تسووا صفوفكم، أو يغير الله قلوب بعضكم على بعض بالعداوة والبغضاء، فتتنكر وجوهكم لبعضها، والله أعلم.(2/150)
284 - " بَابُ إِقبَالِ الإمَامِ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ تسْوِيَة الصُّفُوفِ "
332 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
أقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَأقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بوَجْهِهِ فَقَالَ: " أقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، وتَرَاصُّوا، فَإِنِّي أراكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يؤيد الظاهرية فيما ذهبوا إليه. الحديث: أخرجه الستة.
284 - " باب إقبال الإِمام على الناس عند تسوية الصفوف "
332 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه " أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهه فقال: أقيموا صفوفكم " أي عدّلوها تعديلاً كاملاً " وتراصّوا "، أي تلاصقوا، لأن التراص إنما يكون باتصال المصلين، وشدة محاذاتهم كما في رواية أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " سووا صفوفكم وحاذوا بين مناكبكم، ولينوا في أيدي إخوانكم، وسدوا الخلل، فإنّ الشيطان يدخل بينكم "، وفي رواية أنس أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، فوالذي نفسي بيده أني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنه الحذف " بفتح الحاء أي صغار الغنم " فأني أراكم من وراء ظهري " أي أشاهد أفعالكم.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية إقبال الإمام على المصلين قبل تكبيرة الإِحرام، وأمرهم بتسوية الصفوف، والإشراف عليهم. ثانياً: مشروعية تسوية الصفوف، وهي سنة عند الجمهور، واجبة عند الظاهرية لأمره - صلى الله عليه وسلم - بها، والأصل في الأمر الوجوب، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أو ليخالفن الله بين وجوهكم " وهذا الوعيد لا يترتب إلاّ على ترك واجب. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " فأقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".(2/151)
285 - " بَابٌ إِذَا كَانَ بَيْنَ الإمَامِ وَبَيْنَ الْقَوْمِ حَائِط أو سُتْرَة "
333 - عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَت:
كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ في حُجرَتِهِ وجِدَارُ الْحُجْرَةِ قَصِير فَرَأى النَّاسُ شَخْصَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَامَ أنَاس يُصَلّونَ بِصَلَاتِهِ فَأصْبَحُوا فَتَحَدَّثُوا بذلِكَ، فَقَامَ لَيْلَةَ الثَّانِيَةِ، فقامَ مَعَهُ أنَاس يُصَلّونَ بِصَلَاِتهِ صَنَعُوا ذَلِكَ لَيْلَتَيْنِ أو ثَلَاثَاً، حتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، جَلَسَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فلم يَخْرُجْ، فَلَمَّا أصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ فَقَالَ: " إِنِّي خَشِيتُ أنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
285 - " باب إذا كان بين الإِمام وبين القوم حائط أو سترة "
333 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل في حجرته " أي في حجرة عائشة كما أفاده الطحاوي، أو في حجرة من حصير بالمسجد " فرأى الناسُ شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام أناس يصلِّون بصلاته " أي يأتمون به في تلك الصلاة، وهم خارج الحجرة، بينه وبينهم حائل " فأصبحوا فتحدثوا بذلك " أي فأخبر الحاضرون في تلك الليلة الغائبين فيها فتسامع الناس فبدؤوا يتكاثرون " فقام ليلة الثانية، فقام معه أناس "، أي فصلى معه جماعة من الناس أكثر من الليلة الماضية " صنعوا ذلك ليلتين أو ثلاثاً " أي صلُّوا معه ليلتين أو ثلاث ليالٍ " حتى إذا كان بعد ذلك جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته، فلم يخرج " إليهم، ولم يصل بهم، " فلما أصبح ذكر ذلك الناس "، أي سألوه عن سبب انقطاعه عن الصلاة في تلك الحجرة " فقال: إني خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل " أي إني خفت أن تواظبوا عليها فتفرض عليكم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود.(2/152)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم
" أبْوَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ "
286 - "بَابُ رَفْعِ اليَدَيْنِ في التَّكْبِيرَةِ الأوْلَى مع الافْتِتَاحِ سَوَاءً "
334 - عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
"أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يْرفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصلَاةَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يجوز الاقتداء بإمام يحول دونه حاجز من جدار أو سترة، وتصح صلاة المأمومين المقتدين به، وبه قال أبو هريرة وابن سيرين وعروة، ومالك حيث قال: لا بأس أن يصلي المأموم وبينه وبين الإِمام نهر صغير، والذي عليه الفتوى عند الحنفية أنّه لا مانع من الاقتداء ما دام يعلم انتقالات الإِمام ولو بمجرد سماع صوت المبلغ. وقالت الشافعية: يجوز ذلك إذا كان في المسجد، وسمع التكبير أما في خارجه، فإنّ اتصلت الصفوف أو انقطعت دون حائل، جاز، وإلّا فلا يجوز. ثانياً: جواز الاقتداء بمن لم ينو الإِمامة، وهو مذهب الجمهور. والمطابقة: في كونهم صلّوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من وراء جدار.
" أبواب صفة الصلاة "
286 - "باب رفع اليدين عند التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء "
334 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه حذو منكبيه " تثنية منكب بكسر الكاف، وهو مجمع عظم الكتف والعضد " إذا افتتح الصلاة " أي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا(2/153)
وِإذَا كَبَّرَ للرُّكُوعِ، وِإذَا رَفَعَ رَأسَهُ من الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ أيضاً، وقَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَنّاَ ولَكَ الْحَمْدُ، وَكَانَ لا يَفْعَل ذلكَ في السُّجُودِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
افتتح الصلاة يرفع يديه عند تكبيرة الإِحرام حتى تصيرا مقابل منكبيه، محاذيين لهما تماماً " وإذا كبّر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع، وقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد " أي وكذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه عند الركوع وعند الرفع من الركوع قائلاً سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ويحتمل هذا اللفظ أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين التسميع والتحميد في جميع الأحوال، سواء كان إماماً أو منفرداً، أو مأموماً، ويحتمل أنه كان يأتي بالتسميع إذا كان إماماً، أو منفرداً، وبالتحميد إذا كان مأموماً. الحديث: أخرجه الستة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يسن رفع اليدين عند تكبيرة الإِحرام لقول ابن عمر رضي الله عنهما " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة "، ولا خلاف في مشروعية ذلك عند أهل العلم، وهو فرض عند ابن حزم لا تجزىء الصلاة إلاّ به، وروي ذلك عن الأوزاعي والحميدي، كما أفاده ابن عبد البر، والجمهور على أنه سنة، وادعى ابن المنذر والنووي في " شرح المهذب ": الإِجماع على سنيته ولكنه لم يتحقق. ثانياًً: أنه يسن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه لقول ابن عمر رضي الله عنهما: " وإذا كبّر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوعٍ رفعهما كذلك أيضاً " وهو مذهب الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم، خلافا لأبي حنيفة ومالك فيما رواه عنه ابن القاسم أنه قال بعدم الرفع فيهما، لحديث البراء رضي الله عنه " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة يرفع يديه إلى قريب. من أذنيه ثم لا يعود " أخرجه أبو داود. ولكن هذا الحديث ضعفه البخاري وأحمد، وقال ابن عبد الحكم:(2/154)
287 - " بَابُ وَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى في الصَّلَاةِ "
335 - عَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
" كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ بأن يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى على ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى في الصَّلَاةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لم يرو أحد عن مالك ترك الرفع فيهما (1) إلاّ ابن القاسم، والذى نأخذ به الرفع على حديث ابن عمر، والله أعلم. والمطابقة: في قوله: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة ".
287 - " باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة "
335 - معنى الحديث: يقول سهل بن سعد رضي الله عنهما: " كان الناس يؤمرون " أي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر أصحابه رضي الله عنهم " أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة " ومعناه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأمرهم بالقبض أثناء القيام في الصلاة، وذلك بأن يضع الرجل باطن يده اليمنى على ظهر ذراعه اليسرى، ويقبض رسغها وبعض ساعدها باليمنى.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية القبض أثناء القيام في الصلاة، وهو سنة عند الشافعي وأحمد وأبي حنيفة، وحكاه ابن المنذر عن مالك عملاً بحديث الباب وغيره من الأحاديث الصحيحة المشهورة المستفيضة، حتى قال ابن عبد البر: لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافه، وهو ما ذكره مالك في " الموطأ "، وروى سحنون في " المدونة " عن ابن وهب عن سفيان الثوري وعن غير واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضعاً يده اليمنى على يده اليسرى في الصلاة. ولكن رواية السدل كما قال ابن عبد
__________
(1) أي عند. الركوع والرفع منه.(2/155)
288 - " بَابُ مَا يَقُولُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ "
336 - عن أنسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
ْ " أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأبا بَكْرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا كَانُوا يفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
البر هي رواية ابن القاسم، والرواية المشهورة التي عليها العمل عند المالكية، لأنّها رواية " المدونة " وعليها العمل والفتوى عندهم، لأنها متأخرة عن رواية "الموطأ "، وقد قال مالك في " المدونة " عن القبض: لا أعرفه: واحتج القائلون بالسدل بحديث أو حميد الساعدي الذي وصف فيه صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يذكر القبض، وقد قال رضي الله عنه " أنا أحفظكم لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". ولكن ليس في ذلك نص صريح على السدل، والأرجح هو القبض - لحديث الباب. ثانياًً: أن المصلّي مخير في أن يضعٍ يده تحت السرة أو فوقها، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحدد في هذا الحديث موضعاً، وبهذا قال ابن حبيب وأحمد في رواية (1) ، وقال أحمد في الرواية المشهورة يضعهما تحت السرة (2) ، وقال الشافعي: فوق السرة (3) . الحديث: أخرجه أيضاً مالك.
والمطابقة: في كونهم كانوا يؤمرون بوضع اليد اليمنى على ذراع اليسرى في الصلاة.
288 - " باب ما يقول بعد التكبير "
336 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين " أي يبدؤون الفاتحة في صلاتهم بقولهم: الحمد لله رب العالين دون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) " شرح الباجي على " الموطأ " و" المغني " لابن قدامة.
(2) وهو مذهب أبي حنيفة.
(3) وجاء في سنن أبي داود وابن خزيمة: على الصدر، وربما كان أقواها، الأمر واسع. (ع) .(2/156)
أي لفظ آخر من بسملة أو غيرها.
ويستفاد منه: أنه لا يقرأ البسملة في الصلاة المكتوبة جهراً أو سراً وهو مشهور مذهب مالك لهذا الحديث، ولما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: " قمت وراء أبي بكر وعمر وعثمان فكلهم كان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إذا افتتح الصلاة " أخرجه مالك في " الموطأ " ولو قرؤوها سراً لأخبره أحد الصحابة بذلك، وهذا يدل كما قال الباجي على أنها ليست آية من القرآن، لأنهم تركوا قراءتها، فتركهم القراءة لها مع أنه لا تصح الصلاة إلاّ بقراءة أم القرآن دليل واضح على أن بسم الله الرحمن الرحيمٍ ليست منها، فتحصل من ذلك أنّها ليست آية من القرآن وأنها لا تقرأ سراً وجهراً (1) . وذهب جماعة من السلف منهم عمر وابنه وابن الزبير وابن عباس وعلي وعمار إلى وجوب قراءة البسملة سراً في السرية وجهراً في الجهرية، وهو مذهب الشافعي وسعيد بن المسيب وإسحاق والليث، واحتجوا بحديث أم سلمة أنها سئلت عن قراءة رسول - صلى الله عليه وسلم - فقالت: " كان يقطع قراءته آية آية (بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين) ... إلخ رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - " كان إذا قرأ وهو يؤم الناس افتتح ببسم الله الرحمن الرحيم " أخرجه الدارقطني، وذهب أحمد وأهل الحديث وأهل الرأي إلى استحباب (2) قراءتها سراً (3) لما في الحديث، " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسر ببسم الله الرحمن الرحيم ". رواه ابن شاهين. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة.
***
__________
(1) ومن أهل المدينة من يقول لا بد فيها من بسم الله الرحمن الرحيم، كما قال ابن عبد البر في " الكافي ". (ع) .
(2) وهو مذهب أبي حنيفة في رواية، وفي رواية أخرى يجب قراءتها سراً.
(3) قال ابن قدامة: ولا تختلف الرواية عن أحمد أنَّ الجهر بها غير مسنون.(2/157)
337 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ إسكَاتَةً فَقُلْتُ: بِأَبِي واُّمِّي يَا رَسُولَ اللهِ إسكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ والْقِرَاءَةِ ما تَقُولُ؟ قَالَ: أقُولُ: " اللَّهُمَّ باعِدْ بَيني وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَما يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
337 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتة " قال الخطابي: معناه يسكت بينهما سكوتاً يقتضى كلاماً " فقلت بأبي وأمي يا رسول الله " أي أفديك بأعزّ الأشياء عندي وهما أبواي " إسكاتك (1) بين التكبير والقراءة ما تقول؟ " أي ماذا تقول في سكتتك هذه من ذكر أو دعاء " قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب " أي أسألك اللهم أن تجعل بيني وبين الذنوب والآثام من البعد كما بين المشرق والمغرب " اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس " أي طهرني منها كما يطهر الثوب الأبيض من الأقذار حين يغسل بالماء فيصبح ناصعاً نقياً، قال الشوكاني: وهذا تعبير مجازي يراد منه محو الذنوب بالكلية. " اللهم أغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد " أي وأسألك أن تطهرني بجميع المطهرات من ثلج وبرد وماء، وهو مجاز معناه: اللهم وفقني لجميع الوسائل المؤدية إلى الغفران من ترك السيئات وفعل الحسنات، وكثرة الصدقات، والخشية وحسن الظن بالله، وأن يتغمدني الله برحمته.
ويستفاد منه: مشروعية دعاء الاستفتاح في الصلاة ما بين تكبيرة الإِحرام
__________
(1) بالرفع على أنه مبتدأ خبره ما بعد أو بالنصب على نزع الخافض أي في إسكاتك.(2/158)
289 - " بَابُ رَفْعِ الْبَصَرِ إلى السَّمَاءِ في الصَّلَاةِ "
338 - عَنْ أَنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا بَال أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أبصَارَهُمْ إلى السَّمَاءِ في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقراءة الفاتحة، وهو من سنن الصلاة عند أكثر أهل العلم، كما أفاده ابن قدامة خلافاً لمالك، ويكون الاستفتاح بالصيغة الذكورة، أو يقول: " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ". كما رواه أبو سعيد الخدري وعائشة رضي الله عنهما، وهو المختار عند أحمد وأبي حنيفة (1) . أو بالتوجه بأن يقول: " وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين " كما رواه مسلم، وهو المختار عند الشافعية (2) وقال أبو يوسف: يستحب أن يجمع بينهما (3) . وقال أحمد: ولو أن رجلاً استفتح ببعض ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الاستفتاح كان حسناً، أو قال جائزاً، وكذا أكثر أهل العلم. اهـ. كما أفاده ابن قدامة في " المغني ".
الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي، حيث إنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ دعاء الاستفتاح ما بين الإِحرام وقراءة الفاتحة، والله أعلم ".
289 - " باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة "
1338 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - محذّراً أمته من العبث في الصلاة ورفع البصر فيها إلى فوق "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء
__________
(1) " الإِفصاح عن معاني الصحاح " ج 1.
(2) " شرح كفاية الأخيار " للحصني الشافعي.
(3) " الإفصاح عن معاني الصحاح " ج 1.(2/159)
صَلَاِتهِمْ" فاشْتَدَّ قَوْلُهُ في ذَلِكَ حتَّى قَالَ: " لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أو لتخْطَفَنَّ أبْصَارُهُمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في صلاتهم" أي كيف يجرؤ بعض الرجال على العبث في الصلاة، فيرفعون فيها أبصارهم، وهو أمر ينافي السكينة والوقار والخشوع في الصلاة، فإن من خشع قلبه سكنت جوارحه، والعكس بالعكس، ولم يعين النبي - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء، لئلا يستفزهم فلا يستفيدوا من الموعظة، ولأن التلميح أبلغ من التصريح، " فاشتد قوله في ذلك " أي فبالغ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإِنذار والوعيد " حتى قال: ليَنتهُن " بفتح الياء وضم الهاء على البناء للفاعل، أو بضم الياء والهاء على البناء للمفعول وهو جواب قسم محذوف، واللام فيه للتأكيد، كما أفاده العيني " أو لتخطفن " بضم التاء، كما أفاده القسطلاني " أبصارهم " أي حتى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقسم بالله تعالى على أنه إما أن ينتهي هؤلاء العابثون عن رفع أبصارهم في الصلاة، أو يخطف الله منهم أبصارهم، ويأخذها بسرعة وفجأة فلا يشعرون إلاّ وقد فقدوا حاسة البصر جزاءً لهم على استهانتهم بالصلاة. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " ما بال أقوام يرفعون أبصارهم ".
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: تحريم رفع البصر عمداً في أثناء الصلاة لغير حاجة، لأن هذا الوعيد الذي يأخذ بالبصر لا يكون إلاّ على ارتكاب معصية، وذلك لأنه ينافي الخشوع في الصلاة، ولهذا قال ابن حزم: رفع البصر يفسد الصلاة، أما جمهور أهل العلم فإنّهم كرهوا ذلك، إلاّ أنه لا يفسد الصلاة عندهم. أما تغميض العين فقد كرهه الحنفيَّةُ، وقال مالك: لا بأس به، وقال النووي: المختار أنه لا يكره. ثانياًً: أن من آداب النصيحة في المجالس العامة عدم التعيين أو توجيه الخطاب المباشر لما فيه من الاستفزاز المؤدي إلى عدم قبول النصيحة وإنما يتكلم عن الموضوع بصفة عامة كما فعل النبي(2/160)
290 - " بَابُ الالْتِفَاتِ في الصَّلَاةِ "
339 - عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
سَألتُ، رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الالْتِفَاتِ في الصَّلَاةِ - فَقَالَ: " هُوَ اخْتِلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشيطَانُ مِنْ صَلاةِ العَبْدِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- صلى الله عليه وسلم - فهو أنجح وأجدى
290 - " باب الالتفات في الصلاة "
339 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في الصلاة "، أي سألته هل يضر الالتفات في الصلاة - وهل له أثر سيء على فاعله؟ " فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان "، أي هو اختطاف يختطفه الشيطان من صلاة الإنسان، فإذا التفت يميناً وشمالاً تمكن الشيطان من السيطرة عليه، ووجد منه ثغرة مفتوحة يدخل منها إلى نفسه، فيوسوس له حتى يشغله، فيسهو في صلاته، ويخطىء في قراءته، ويذهب بخضوعه، أو يضعفه فيقل أجره وثوابه. وإنما سمّي " اختلاساً " لأنه يؤدي إلى انتقاص الشيطان من ثواب المصلي وأجره.
الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي. والمطابقة: قي قوله: " هو اختلاس يختلسه الشيطان ... إلخ ".
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الالتفات في الصلاة لغير عذر شرعي يضر بالمصلي، وينقص من ثوابه، ولهذا أسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - " اختلاساً " أي انتقاصاً ينتقصه الشيطان من ثواب الصلاة تبعاً لنقصان الخشوع أو انعدامه فيها. ثانياً: استدل به الظاهرية، وبعض الشافعية على تحريم الالتفات في الصلاة (1) لأنه اختلاس شيطاني كما سمّاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما جاء في حديث
__________
(1) وذهب بعض الشافعية إلى أنه يقطع الصلاة، وقال القفال: الالتفات الكثير يبطلها، كما أفاده العيني.(2/161)
291 - " بَابُ وُجُوبِ القِرَاءَةِ للإِمَامِ وَالْمَأمُومِ في الصَّلَواتِ كُلِّهَا "
340 - عنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
شَكَا أهْلُ الْكُوفَةِ سَعْداً إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَعَزَلَهُ، واسْتَعْمَلَ عَلَيهِمْ عَمَّاراً، فشكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أنَّهُ لا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فأرْسَلَ إليْهِ فقَالَ: يا أبَا إِسْحَاقَ إِنَّ هَؤُلاءِ يَزْعُمُونَ أنَّكَ لَا تُحْسِنُ تُصَلِّي، قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له: " يا بني إيّاك والالتفات في الصلاة، فإن الالتفات في الصلاة هلكة، فإن كان ولا بد ففي التطوع " أخرجه الترمذي، والهلكة لا تكون إلاّ بارتكاب محرم، وقال الجمهور: هو مكروه كراهة تنزيهيةً، أي إنه خلاف الأولى، لأنّه إنما يؤثر في الخشوع، والخشوع ليس من أركان الصلاة، ولأنه سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - اختلاساً، والاختلاس ما يؤخذ من المرء دون إرادته، فكيف يكون حراماً. أما قوله: " فإن الالتفات هلكة " فمعناه أن الالتفات ينقص من ثواب الصلاة، كما أفاده الشوكاني، ولو كان حراماً لما قال له: فإن كان ولابد ففي النافلة، لأن ما يحرم في الفرض يحرم في النفل، والله أعلم.
291 - " باب وجوب القراءة للإِمام والمأموم في الصلوات كلها "
340 - ترجمة الراوي: هو جابر بن سمرة العامري ابن أخت سعد ابن أبي وقاص صحابي ابن صحابي، سكن الكوفة وتوفي بها سنة 72 هـ روى مائة وستِة وأربعين حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم بستة وعشرين حديثاً.
معنى الحديث: يقول جابر بن سمرة رضي الله عنهما: "شكا أهل الكوفة(2/162)
أمَّا أنا وَاللهِ فَإِنِّي كُنْتُ اُّصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَخْرِمُ عَنْهَا، أصَلِّي صَلَاةَ الْعِشَاءِ فَأَرْكُدُ في الاُّولَيَيْنِ، واُّخِفُّ في الأخْرَيَيْنِ قَال: ذَاكَ الظنُّ بِكَ يا أَبَا إِسْحَاقَ، فأرْسَلَ مَعَهُ رَجُلاً، أَوْ رِجَالاً إلى الْكُوفَةِ فَسَأَل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سعداً" أي شكوا سعد بن أبي وقاص عندما كان أميراً على الكوفة إلى عمر رضي الله عنه، ووجهوا إليه بعض التهم الباطلة، " فعزله " عمر لتهدئة النفوس وإطفاء نار الفتنة، مع ثقته فيه، حيث قال: لم أعزله عن عجز ولا خيانة، وروي أن سعداً هو الذي طلب إعفاءه فقال لعمر: أتأمرني أن أعود إلى قوم يزعمون أني لا أحسن الصلاة " حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي " وذلك لسوء فهمهم، وجهلهم بكيفية الصلاة، حيث ظنوا مشروعية التسوية بين الركعتين الأوْليين والأخريين في القيام والقراءة، وقاسوا هاتين على هاتين لجهلهم بالمائة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يطول في الأُوْليين، ويخفف في الأخريين، فلم يعرفوا ذلك لأنّهم أعراب جهلة لا يفقهون شيئاً " فقال: يا أبا إسحاق، إنّ هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي، فقال: أمّا أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي وأمّا هم فإنهم قالوا ما قالوا عن جهل وسوء فهم، وأما أنا فإني كنت أصلي بهم مثل صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - " ما أخرم (1) منها "، أي لا أنقص منها شيئاً " أصلي صلاة العشاء فأركد " بضم الكاف أي أطيل " في الأوْليين وَأخف " بضم الهمزة وكسر الخاء " في الأخريين "، أي وأخفف القراءة في الركعتين الأخريين، فأقتصر فيها على الفاتحة " قال " له عمر رضي الله عنه: " ذاك الظن بك يا أبا إسحاق " أي لقد أصبت السنة فيما فعلت، وصليت مثل صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحققت ما نظنه فيك من الفقه في الدين، والعمل بسنة سيد المرسلين، " فأرسل معه " إلى
__________
(1) بفتح الهمزة وسكون الخاء وكسر الراء، كما أفاده القسطلاني.(2/163)
عَنْهُ أهْلَ الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِداً إلاّ سَأل عَنْهُ، وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ مَعْرُوفاً حَتَّى دَخَلَ مَسْجِداً لِبَنِى عَبْسٍ، فَقَامَ رَبُي مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أسَامَةُ بْنُ قتَادَةَ، يُكَنَّى أبا سَعْدَةَ قَالَ: أمَا إِذْ نَشَدْتَنَا، فَإِنَّ سَعْداً كانَ لا يَسِيرُ بالسَّرِيَّة، وَلَا يَقْسِمُ بالسَّوِية، وَلَا يَعْدِلُ في القَضِيَّةِ مَال سَعْدٌ: أمَا وَاللهِ لأدْعُوَنَّ بِثَلَاثٍ: اللَّهُمَّ إنْ كَانَ عَبْدُكَ هذَا كَاذِباً، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً فأطِلْ عُمْرَهُ، وَأطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِير مَفْتُونٌ أصابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: فَأنَا رأيتُهُ بَعْدُ، قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيِهِ مِنَ الْكِبَرِ، وِإنَّهُ لَيتَعَرَّضُ للْجَواِري في الطرَّيقِ يُغْمِزُهُنَّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العراق " رجلاً أو رجالاً "، أي أرسل لجنة يرأسها محمد بن مسلمة للتحقيق في قضيته " فسأل عنه أهل الكوفة، ولم يدع مسجداً إلاّ سأل عنه " أي فسأل محمد بن مسلمة عن سيرة سعد في جميع مساجد الكوفة " ويثنون عليه معروفاً " أي وجميعهم يثنون عليه ويزكونه " حتى دخل مسجداً لبني عبس " وهي قبيلة من قيس " فقام رجل فقال: أما إذ نشدتنا "، أي أما غيرنا فإنه عندما سألته عن سعد أثنى عليه، وأما نحن إذ سألتنا عنه فإنا نقول " إن سعداً لا يسير بالسرية "، أي لا يخرج للغزو في سبيل الله " ولا يقسم بالسوية " أي ولا يعدل في قسمته، " ولا يعدل في القضية " أي ولا يعدل في الحكم بين الناس، " فقال سعد اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً قام رياءً وسمعة فأطل عمره " في سقم وضعف وقبح صورة " وأطل فقره "، أي سلط عليه الفقر، وكثرة العيال، لأنه جهد البلاء " وعرضه بالفتن " بالنساء فلا يراهن إلّا ويغازلهن أمام الناس. " قال الراوي ": وهو عبد الملك بن عمير" فأنا رأيته " في شيخوخته " وإنه ليتعرض للجواري في الطريق يغمزهن " أي(2/164)
يلمس أجسامهن، ويعصر أعضاءهن بأصابعه، ويغازلهن أمام الناس، كما في رواية أخرى عن عبد الملك بن عمير قال: رأيته يتعرض للإِماء في السكك أمام المارة، ويغازلهن، فإذا سألوه أي إذا لاموا عليه قال: كبير فقير مفتون..، وهكذا أصابته دعوة سعد. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
والمطابقة في قوله: " كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، قال العيني: ولا نزاع في قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته دائماً.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه تجب القراءة في كل ركعة من الصلاة، وهو ما ترجم له البخاري في قوله: " باب وجوب القراءة في الصلوات كلها " لأنّ سعداً كان يقرأ في صلاته كلها، ويقول: كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أي كنت أقرأ في الصلاة كما كان يقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثانياً: أنه يسن التطويل في الركعتين الأوليين بقراءة الفاتحة والسورة، والتخفيف في الركعتين الأخريين بالاقتصار على قراءة الفاتحة فقط، لأن سعداً رضي الله عنه كان يطيل في الأُوْليين، ويخفف في الأُخْريين، ويقول: كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن قدامة: ولا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أنه يسن قراءة سورة مع الفاتحة في الركعتين الأوليين من كل صلاة. اهـ.
وهذا يقتضي أن تكون الركعتان الأوليان أطول من الأخريين لزيادة القراءة فيهما. أما بالنسبة إلى الأولى والثانية، فعند أبي حنيفة وأبي يوسف يسوى بينهما إلا في الفجر، فيطيل الأولى عن الثانية وعند الشافعية قولان أشهرهما التسوية بينهما، كما نقله العيني عن " شرح المهذب "، وكره الجمهور إطالة الثانية على الأولى خلافاً لمالك حيث قال: لا بأس بذلك، وذهب الحنابلة إلى استحباب تطويل الأولى عن الثانية وهو مشهور مذهب المالكية وقول لبعض الشافعية، كما أفاده العيني.
***(2/165)
341 - " عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
341 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " يحتمل أن يكون هذا النفي موجهاً إلى صحة الصلاة، أو إلى كمال الصلاة، وعلى الأوّل فمعناه: أن من لم يقرأ بالفاتحة لا تصح صلاته، بل تكون باطلة، وعلى الثاني معناه: أن من لم يقرأها تصح صلاته، ولكنها تكون ناقصة غير كاملة، والأول أظهر، لأنّه إذا لم يمكن نفي الصلاة لوجود صورتها، تعين نفي أقرب الأشياء إلى ذاتها وهو الصحة، لأن الوجود الشرعي يتوقف عليها. فيكون المعنى أن الصلاة بغير فاتحة ليس لها وجود شرعي، ولذلك فإنها لا تصح، وإنما تكون باطلة غير مقبولة عند الله تعالى.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الفاتحة ركن من أركان الصلاة لا تصح إلا بها، وهو قول الجمهور خلافاً للحنفية حيث قالوا: الفاتحة واجبة والواجب عندهم ليس فرضاً، وإنما هو بين الفرض والنفل، وليست ركناً، لأن الركن لا يثبت إلاّ بدليل قطعي من آية محكمة، أو سنة متواترة، ولا شيء من ذلك.
فالركن مطلق القراءة لقوله تعالى: (فاقرءوا ما تيسر منه) وقوله - صلى الله عليه وسلم - للمسيء صلاته: " إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر من القرآن " ولم يعين الفاتحة. واستدل الجمهور بحديث الباب، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى كل صلاة لا يقرأ فيها بالفاتحة، وهو يقتضي نفي وجودها وصحتها شرعاً، كما يؤكد ذلك حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب " أخرجه ابن خزيمة وأما الآية المذكورة فهي في قيام الليل، وأما حديث المسيء فهو مجمل بينته الأحاديث الصريحة، وقد جاء في إحدى رواياته أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للمسيء: " ثم اقرأ بأم القرآن ... " أخرجه(2/166)
أحمد، والمجمل يحمل (1) على المبين. ثانياًً: استدل به بعض أهل العلم على مشروعية قراءة الفاتحة للمأمومَ في السرية والجهرية لدخوله في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " وهو مذهب البخاري والشافعي في الجديد أن القراءة تجب على المأموم حتى فيما جهر فيه الإِمام. وكره بعض الحنفية قراءتها للمأموم سواء كانت الصلاة سرية أو جهرية لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من كان له إمام فقراءة الإِمام له قراءة " أخرجه الدارقطني. وقالت المالكية: لا تلزم الفاتحة مأموماً، فالإِمام يحملها عنه، كما نص عليه ابن عرفة والخطاب (2) ، وكره مالك قراءة الفاتحة فيما يجهر فيه الإِمام -كما في " الإِفصاح " (3) - ويقرأها في السرية كما قال ابن القاسم. وقالت الحنابلة: قراءة الإِمام قراءة له إلاّ أنه يستحب له أن يقرأ في السرية في سكتات الإِمام، كما أفاده ابن قدامة في " عمدة الفقه " (4) .
ثالثاً: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة فرضاً كانت أو نفلاً، وهو مذهب مالك والأوزاعي والشافعي -وأحمد في رواية- وعنه في رواية أخرى أنها لا تجب الفاتحة إلاّ في ركعتين من الصلاة، كما أفاده ابن قدامة (5) في " المغني "، ونحوه عن النخعي والثوري وأبي حنيفة. والأرجح قراءتها في كل ركعة لحديث جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من صلى ركعة فلم يقرأ فيها لم يصل إلاّ خلف إمام ". وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة ". فإن نسيها في ركعة فسدت صلاته عند الشافعية والحنابلة. وقال مالك فيما رواه عنه ابن القاسم: إنه إن كانت الصلاة ثنائية فسدت، وإن كانت رباعية فروي
__________
(1) كما هو معروف في أصول الفقه وقواعد التشريع الإِسلامي.
(2) " فتح الجليل شرح مختصر خليل ".
(3) " الإِفصاح عن معاني الصحاح " لابن هبيرة ج 1.
(4) " عمدة الفقه " لابن قدامة.
(5) " المغني " لابن قدامة.(2/167)
342 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجلٌ فَصَلَّى فَسَلَّمَ على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَرَدَّ وقَالَ: " ارْجِعْ فَصَل فَإنكَ لمْ تُصلِّ "فَرَجَعَ يُصَلِّي كَمَا صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " ارْجِعْ فَصَل فإِنَّكَ لم تُصَلِّ "، ثَلاثاً فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي، فَقَالَ: " إِذَا قُمْتَ إلى الصَّلَاةِ فَكَبِّر ثُمَّ اقْرَأ ما تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعَاً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمَاً، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِساً، وافْعَلْ ذَلِكَ في صلاِتكَ كُلِّهَا".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عنه ثلاث روايات الأولى: أنها لا تجزئه ويعيد الصلاة، والثانية: أنه يسجد للسهو فقط، والثالثة: أنه يعيد تلك الركعة ويسجد للسهو. الحديث: أخرجه الخمسة. والمطابقة: في كونه يدل على أنه لا بد من قراءة الفاتحة في الصلوات (1) كلها.
342 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد فدخل رجلاً وهو خلاد بن رافع " فصلى " متعجلاً صلاته ولم يطمئن في قيامه وركوعه وسجوده " فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد " أي فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه السلام " وقال: ارجع فصل فإنك لم تصل " أي فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعادة تلك الصلاة، لأنّها بطلت بسبب ترك الطمأنينة فيها " فرجع يصلي كما صلى " أي فعاد فصلى من دون طمأنينة كما فعل في صلاته
__________
(1) كما قال الكرماني وقال العيني: المطابقة غير ظاهرة لأن الترجمة أعم من أن تكون القراءة بالفاتحة أو بغيرها، والحديث يعين الفاتحة. اهـ.(2/168)
الأولى. " ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثاً " أي فأمره - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة ثلاث مرات " فقال والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني " أي لا أعرف صلاة أحسن مما رأيت " فعلمني "، أي فإن كانت هذه الصلاة باطلة فعلمني كيف تكون الصلاة الصحيحة " فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " وهي الفاتحة، أي ثم اقرأ بفاتحة الكتاب لما في رواية أحمد أنه قال له: " ثم اقرأ بأم القرآن " " ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً " أي ثم حافظ على الاعتدال في القيام والطمأنينة في الركوع والسجود. الحديث: أخرجه الستة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: وجوب القراءة للإمام والمأموم كما ترجم له البخاري لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ". ثانياً: أن الطمأنينة ركن تبطل الصلاة بتركها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بإعادة الصلاة التي لم يطمئن فيها، وهو مذهب الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال بوجوبها، ولا تبطل الصلاة بتركها. ثالثاً: مشروعية الاعتدال في الصلاة، وهو فرض عند الشافعي وأحمد (1) وسنة عند أبي حنيفة، وأما مالك فلم ينقل عنه نص في ذلك -كما قال ابن رشد (2) - واختلف أصحابه: هل ظاهر مذهبه يقتضي أنه سنة أو واجب. والمطابقة: في قوله: " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ".
***
__________
(1) " الافصاح " ج 1.
(2) " بداية المجتهد " ج 1.(2/169)
292 - " بَابُ الْقِرَاءَةِ في الظُّهْرِ "
343 - عَن أبي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرأ في الرَّكْعَتَيْنِ الأولَيَيْنِ مِنْ صَلاةِ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، يُطَوِّلُ في الأوْلَى، وَيُقَصِّرُ في الثَّانِيَةِ، وَيُسْمِعُ الآيَةَ أَحْيَاناً، وَكَان يَقْرَأ في الْعَصْرِ بفِاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَكَانَ يُطوِّلُ في الرَّكْعَةِ الأوْلَى مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحَ، وَيُقَصِّر في الثَّانِيَةِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
292 - " باب القراءة في الظهر "
343 - معنى الحديث: يقول أبو قتادة رضي الله عنه: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين " أي يقرأ في كل ركعة من الركعتين الأوليين بالفاتحة والسورة " يطول في الأولى " أي يطول في الركعة الأولى بزيادة القراءة فيها عن الثانية، فيجعل الثانية أقصر من الأولى، " ويسمع الآية أحياناً " أي وإنما كنا نعرف أنه يقرأ في الظهر مع أنها سرية، لأنه كان يسمعنا الآية أحياناً، حيث يرفع صوته في أثناء القراءة فيها، فنعرف أنه قرأ " وكان يقرأ في العصر " أي في الركعتين الأوليين من العصر " بفاتحة الكتاب وسورتين وكان يطول في الأولى " أي وكان يقرأ في العصر كما يقرأ في الظهر، ويطول في الركعة الأوْلى كما يطول في الظهر. " وكان يطول في الركعة الأولى من صلاة الصبح " كما يفعل في الظهر والعصر.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية القراءة في الظهر والعصر كمشروعيتها في الصلوات الليلية، ولا خلافِ في ذلك عند أهل العلم إلاّ ما(2/170)
292 م - " بَابُ القِرَاءَةَ فِي العَصْرِ. "
344 - عن أَبِي مَعْمَرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِخَبَّابِ بْنِ الأرْتِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أكانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرأ في الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: بأيّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قِرَاءَتِهِ، قَالَ: باضْطِرَابِ لِحْيَتهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حكي عن ابن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم بن علية أنه لا قراءة فيهما.
ثانياًً: أنه يسن الإِسرار بالقراءة في الصلوات النهارية فإن جهر لم تبطلَ صلاته عند أكثر أهل العلم، وقال الحنفية: الإِسرار واجب تبطل الصلاة بتركه عمداً، وهو قول بعض أصحاب مالك، فإن تركه سهواً سجد بعد السلام، وإن تركه عمداً بطلت. ثالثاً: أنه يستحب تطويل القراءة في الركعة الأولى عن الثانية، وهو مشهور مذهب المالكية (1) والحنابلة (2) . والمطابقة: في قوله: " كان يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر ". الحديث: أخرجه الخمسة أي عدا الترمذي.
292 م - " باب القراءة في العصر "
344 - معنى الحديث: يحدثنا راوي الحديث " وهو أبو معمر عبد الله بن سخبرة -بفتح السين وسكون الخاء وفتح الباء الأزدي- أنه سأل خباب بن الأرت " أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر؟ " أي هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاتي الظهر والعصر كما يقرأ في المغرب والعشاء والصبح، أم أنه لا يقرأ فيها؟ وسبب سؤالهم هذا كما قال العيني " أنهم كانوا يظنون أن لا قراءة فيهما لعدم الجهر بالقراءة فيهما، ألا ترى إلى ما رواه أبو داود عن عبد الله بن عبيد الله "قال: دخلت على ابن عباس في شباب من
__________
(1) " شرح أبي الحسن على الرسالة ".
(2) " المغني " لابن قدامة.(2/171)
بني هاشم فقلنا لشاب: سل ابن عباس رضي الله عنهما أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر فقال لا ... إلخ" أما خباب فأجاب بالإِيجاب حيث " قال نعم " أي نعم كان يقرأ في الظهر والعصر. " قال: قلت: بأي شيء كنتم تعلمون قراءته؟ " أنه كان يقرأ مع أن القراءة سرية " قال باضطراب لحيته " أي عرفنا أنّه كان يقرأ بتحرك لحيته في أثناء قيامة في الصلاة، وفي رواية " لحييه " بفتح اللام وسكون الحاء وفتح الياء الأولى وسكون الياء الثانية تثنية " لحي " بفتح اللام وسكون الحاء وهو منبت اللحية من الإنسان.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استدل به البخاري وغيره من أهل العلم وهم الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء والمحدثين على مشروعية القراءة في الظهر، ويؤكد ذلك ما جاء في حديث أبي قتادة السابق أنه - صلى الله عليه وسلم - " كان يقرأ فيهما ويسمعهم الآية أحياناً ". ولهذا قالوا بمشروعية القراءة في الظهر والعصر، خلافاً لابن عباس رضي الله عنهما حيث يرى أنها غير مشروعة فيهما. ثانياً: جواز رفع البصر إلى الإمام والنظر إليه في أثناء الصلاة، ومشروعيتها لأنهم لو لم يرفعوا أبصارهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في أثناء صلاته - صلى الله عليه وسلم - لما رأوا اضطراب لحيته، وهو مذهب مالك حيث قال: " ينظر المأموم إلى إمامه، وليس عليه أن ينظر إلى موضع سجوده " خلافاً للحنفية والشافعية.
الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كون خباب رضي الله عنه سئل هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم.
***(2/172)
293 - " بَابُ الْقِرَاءَةِ في الْمَغرَبِ "
345 - عَن ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
"أنَّ أمَّ الفَضْلِ سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرا (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) فقَالَتْ: يَا بُنَيَّ وَاللهِ لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بِقَرَاءَتِكَ هَذِهِ السَّورَةَ إنَّهَا لَآخِرُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرأ بِهَا في المَغْرِبِ".
346 - عَن مَرْوَان بْنِ الحَكَمِ قَالَ: قَالَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
مَا لَكَ تَقْرأ فِي المَغْرِبِ بِقِصَار وَقَد سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقْرأُ في الْمَغْرِبِ بِطُولَى الطُّوْلَيَيْنِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
293- " باب القراءة في المغرب "
345 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله، عنهما " أن أم الفضل بنت الحارث " والدة ابن عباس رضي الله عنهما " سمعته وهو يقرأ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} " أي سمعت ولدها يقرأ هذه السورة المذكورة، فتذكرت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - لها في صلاة المغرب، " فقالت: يا بني والله لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة " أي لقد ذكرتني عندما سمعتك تقرأ هذه السورة قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - لها، " أنها لآخر ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في المغرب " أي إن هذه السورة هي آخر ما سمعت من قراءته - صلى الله عليه وسلم - حيث سمعته يقرأ بها في المغرب. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قولها: " إنها لآخر ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في المغرب ".
346 - معنى الحديث: يقول زيد بن ثابت رضي الله عنه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بطولى الطوليين " أي سمعته - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في(2/173)
294 - " بَابُ الجَّهْرِ في الْمَغرِبِ "
347 - عن جُبَيْرِ بنِ مُطْعِم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأ في الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صلاة المغرب بأطول السورتين اللتين هما أطول سور القرآن، وهي سورة البقرة، لأن أطول سور القرآن البقرة والنساء، وأطولهما البقرة. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " يقرأ بطولى الطوليين ".
ويستفاد من الحديثين. ما يأتي: أولاً: مشروعية القراءة في صلاة المغرب، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ فيها. كما دل عليه الحديث الأول والثاني. ثانياًً: جواز تطويل القراءة في المغرب أحياناً، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ فيها مرة بالمرسلات ومرة بالبقرة ليبين لأمته جواز ذلك، وإن كان المستحب فيها تخفيف القراءة، والاقتصار على قصار المفصل، وهو عند الجمهور من (الضحى) إلى (الناس) وعند الحنفية من (لم يكن) إلى (الناس) . قال الترمذي: وكره مالك أن يقرأ في صلاة المغرب بالسور الطوال نحو (الطور) و (المرسلات) ، ونفى الزرقاني كراهية التطويل في المغرب عن مالك، وقال: إنه قول غريب، والمعروف عند المالكيّة أنه لا كراهة فيه كما قال ابن عبد البر. ثالثاً: استدل به الحنفية على امتداد وقت المغرب إلى مغيب الشفق، لأن قراءة البقرة في صلاة المغرب تقتضي ذلك.
294 - " باب الجهر في المغرب "
347 - معنى الحديث: يقول جبير بن مطعم رضي الله عنه:
" سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ المغرب (بالطور) " الباء زائدة والمعنى(2/174)
سمعته يقرأ سورة الطور في صلاة المغرب. قال في " المنهل العذب " (1) : وظاهره أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ بعض السورة في الركعة الأولى، والبعض في الثانية، وأمّا رواية الزهري أنه قرأ ذلك في العتمة " أي في العشاء " فإنه من رواية ابن لهيعة، وهي ضعيفة، كما قال ابن عبد البر، ولا يحتج به إذا انفرد، ومحاولة صرف الحديث عن ظاهره تكلف لا داعي له ما دام أن التطويل جائز، والأمر واسع كما قال ابن قدامة. الحديث: أخرجه الخمسة غير النسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يسن الجهر بالقراءة في المغرب. وسائر الصلوات الليلية، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لو لم يجهر لما سمعه جبير رضي الله عنه، فإن تعمد الإِسرار فيها كان تاركاً للسنة، ولا تبطل صلاته عند أكثر أهل العلم، وعن بعض المالكية تبطل في العمد، ولا تبطل في الإِسرار سهواً اتفاقاً، وعليه سجود السهو. ثانياً: جواز التطويل بالقراءة في المغرب، أما الأحاديث الدالة على التخفيف فيها فإنها لبيان الاستحباب، وهذا لبيان الجواز، قال ابن المنير: تحمل الإطالة على الندرة، والتخفيف على العادة، تنبيهاً على الأولى، فالتخفيف فيها مستحب والتطويل جائز، وأما ما نسبه الترمذي إلى مالك من كراهية التطويل فهو قول غريب، والمعروف عند المالكيُة: أنه لا كراهة فيه كما نقله الزرقاني (2) عن ابن عبد البر. والمطابقة: في قوله: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور ".
***
__________
(1) " المنهل العذب على سنن أبي داود " للشيخ محمود خطاب السبكي.
(2) " شرح الزرقاني على الموطأ " ج 1.(2/175)
295 - " بَابُ الجَهْرِ في الْعِشَاءِ "
348 - عَنْ أبِي رَافِع قَالَ:
" صَلَّيْتُ مَعَ أبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرأ (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) فَسَجَدَ، فَقُلْتُ لَهُ. قَالَ: سَجَدْتُ خَلْفَ أبِي الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - فَلا أزَالُ أسْجُدُ بِهَا حَتَّى ألْقَاهُ ".
349 - عنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عنهُ:
"أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ في سَفَرٍ فقرَأ في الْعِشَاءِ في إحْدَى الرَّكْعَتيْنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
295 - " باب الجهر في العشاء "
348 - معنى الحديث: يقول أبو رافع (1) : " صليت مع أبي هريرة العتمة " أي صلاة العشاء، لأنّها تصلّى في وقت العتمة. أي في ظلمة الليل، قال ابن الأعرابي: وعتمة الليل ظلام أوّله عند سقوط نور الشفق " فقرأ (إذا السماء انشقت) فسجد " عند قوله تعالى: (وإذا قرأ عليهم القرآن لا يسجدون) ، " فقلت له: " أي سألته عن حكمها، وفي رواية " فقلت: ما هذه؟ " " فقال: سجدت خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - " وفي رواية " سجدت فيها خلف أبي القاسم " أي في هذه السورة، وفي رواية " صليت خلف أبي القاسم فسجد بها " أخرجه ابن خزيمة " فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه " أي مدة حياتي. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " سجدت خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - ". أي سجدت خلفه في صلاة العشاء، وهو يقرأ هذه السورة، فلو لم يجهر النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما عرف أبو هريرة أنّه سجد في هذه السورة أو غيرها.
349 - معنى الحديث: يحدثنا البراء رضي الله عنه: "أن رسول الله
__________
(1) الصائغ، وهو من كبار التابعين. (ع) .(2/176)
بـ (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- صلى الله عليه وسلم - كان في سفر فقرأ في العشاء في إحدى الركعتين بـ (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) "، أي قرأ سورة التين في الركعة الأولى. قال الحافظ: إنما قرأ في العشاء بالتين، وهي من قصار السور، لأنه كان مسافراً. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " فقرأ في العشاء في إحدى الركعتين بالتين ".
لأنه لو لم يجهر لما عرف أي سورة قرأ.
ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: أنه يسن الجهر بالقراءة في صلاة العشاء، وكذلك سائر الصلوات الليلية، فإن القراءة فيها جهرية، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جهر في العشاء، ولو لم يجهر لما عرف أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في سورة الانشقاق، أو في غيرها لأنه لا يسمع قراءته إذا أسر، فكيف يعرف أنه - صلى الله عليه وسلم - سجد في هذه السورة أو تلك، ولأن البراء رضي الله عنه حدثنا في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر فقرأ في العشاء في إحدى الركعتين بالتين، فلو لم يجهر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة لما عرف البراء أيَّ سورة قرأ. فدل ذلك على أن الجهر بالقراءة في صلاة العشاء " سنة وكذلك سائر الصلوات الليلية يسن الجهر فيها، وقال الحنفية كما أفاده في " فيض الباري " (1) الجهر فيها واجب، والواجب عندهم بين الفرض والنفل ". أما المسبوق فقد قال الإِمام أحمد: إن شاء جهر وإن شاء خافت - أي أسَرَّ كما أفاده ابن قدامة (2) .
ثانياًً: استحباب تخفيف القراءة في السفر، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ في العشاء في أثناء سفره بقصار المفصل " فيستحب القراءة به في السفر " وهو عند الشافعية والحنابلة والمالكية من (من الضحى) إلى (الناس) وعند الحنفية من (لم يكن) إلى (الناس) . وأما في غير السفر فيسن القراءة فيها بأوساط المفصل.
__________
(1) " فيض الباري على صحيح البخاري " للشيخ محمد أنور الكشميري ج 1.
(2) " المغني " لابن قدامة.(2/177)
296 - " بَابُ الْقِرَاءَةِ في العِشَاءِ "
350 - عنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم -:
" سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأ (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) في الْعِشَاءِ، ومَا سَمِعْتُ أحَداً أحْسَنَ صَوْتَاً مِنْهُ أوْ قِرَاءَةً ".
297 - " بَابُ الْقِرَاءَةِ الْفَجْرِ "
350 - عَن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهو عند المالكية من (عبس) إلى (الضحى) . وعند الشافعية والحنابلة من (عم) إلى (الضحى) ، وعند الحنفية من (البروج) إلى (لم يكن) . ثالثاً: مشروعية سجود التلاوة في الانشقاق، وهو مذهب الشافعي.
296 - " باب القراءة في العشاء "
350 - معنى الحديث: يقول البراء رضي الله عنه: " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ (والتين والزيتون) في العشاء " أي سمعته - صلى الله عليه وسلم - يقرأ سورة التين في صلاة العشاء بصوت عذب وترتيل جميل، " وما سمعت أحداً أحسن منه صوتاً أو قراءة "، أبي وما سمعت أجمل منه صوتاً، ولا أجود قراءة. الحديث: أخرجه الستة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية القراءة في العشاء كما ترجم له البخاري، لأن البراء سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ فيها بهذه السورة. ثانياًً: استحباب ترتيل القرآن وتحسين الصوت به. والمطابقة: في قوله: " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) في العشاء ".
297 - " باب القراءة في الفجر "
351 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "في كل(2/178)
" في كُلِّ صَلَاةٍ يُقْرأُ، فَمَا أسْمَعَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أسْمَعْنَاكُمْ، وَمَا أخْفَى عَنَّا أخْفَيْنَا عَنْكُمْ، إنْ لَمْ تَزِدْ على أُمِّ الْقُرآنِ أجْزاتْ وَإن زِدْتَ فَهُو خَيْر ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صلاة يقرأ" بالبناء للمجهول أي تشرع القراءة في كل الصلوات، نهارية كانت أو ليليةً، فرضاًْ أو نفلاً، ويروى في كل صلاة يقرأ بالبناء للمعلوم، والضمير راجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في كل صلاة وتقتضي هذه الرواية أن الحديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الأنسب " فما أسمعنا رسول الله أسمعناكم " أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في بعض الصلوات جهراً وفي بعضها سراً، فما قرأ فيه جهراً وأسمعنا صوْتَهُ قرأنا فيه جهراً وأسمعناكم صوتنا " وما أخفى عنا أخفينا عنكم " قال العيني: أي وما أسرَّ به أسررنا به. ثم قال: " وإن تزد على أُمِّ القرآن أجزأت " وهو متعلق بقوله: " في كل صلاة يقرأ "، أي إن القراءة في الصلاة وإن كانت كلها مشروعة، إلّا أن بعضها ركن لا بد منه وهو الفاتحة، وبعضها سنة لا تبطل الصلاة بتركه، وهو ما زاد عليها من سورة أو آيات، فإن لم تزد على قراءة الفاتحة واكتفيت بها كفتك، وصحت صلاتك. " وإن زدت على أمِّ القرآن " سورة أو آيات " فهو خير "، أي فهو سنة تثاب عليها، وفي رواية عن أبي هريرة: " ومن زاد فهو أفضل " رواه مسلم. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية القراءة في صلاة الصبح لدخولها في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " في كل صلاة يُقْرأ "، ولا خلاف في ذلك. ثانياً: أن قراءة الفاتحة ركن تبطل الصلاة بتركه، وإن اكتفى بهما المصلّي ولم يقرأ سواها صحت صلاته وأجزأته. أما قراءة السورة أو الآيات بعد الفاتحة فهو سنة يثاب عليها، ولا تبطل الصلاة بتركها لقوله: (وإن زدت فهو خير)(2/179)
298 - " بَابُ الْجَهْرِ بِقِرَاءَةِ صَلَاةِ الفَجْرِ "
352 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
انْطَلَق النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إلى سُوقِ عُكَاظٍ، وقد حِيلَ بَيْنَ الشَيّاَطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاء، وأرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتْ الشَيّاَطِينُ إلى قَوْمِهِمْ، فقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ فَقَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وأرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ، قَالُوا: مَا حَال بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إلَّا شَيءٌ حَدَثَ، فاضْرِبُوا مشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهِا، فانْظرٌوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي شيء سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفعله ومواظبته عليه، وترغيب الناس فيه.
ثالثاً: أن الإِسرار بالقراءة في الصلاة السرية، والجهر بها في الصلاة الجهرية سنة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقول أبو هريرة: " فما أسمعنا رسول الله أسمعناكم، وما أخفى عنا أخفينا عنكم ". والمطابقة: في قوله: " في كل صلاة يقرأ " حيث يدخل في ذلك صلاة الفجر ويشملها عمومه.
298 - " باب الجهر بقراءة صلاة الفجر "
352 - معنى الحديث: يقول ابن عباس - رضي الله عنهما " انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ " أي ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - مع جماعة من أصحابه إلى سوق عكاظ، لينتهز فرصة وجود القبائل فيه أثناء انعقاده، فيعرض عليهم الإِسلام " وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء " أي وكان خروجه - صلى الله عليه وسلم - إلى سوق عكاظ بعد أن حُجِبَ الشياطين ومنعوا من استراق السمع، وسلط الله عليهم الشهب (1) تحرقهم، وتحول
__________
(1) والشهب جمع شهاب، وهو شعلة نازية تخرج من الكوكب متجهة نحو الشيطان فتحرقه وتحول بينه وبين ما يريد.(2/180)
مَا هَذَا الذي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فانْصَرَفَ أولئِكَ الذين تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَهُوَ بِنَخْلَة عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَهُوَ يُصَلِّي بأصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا القُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ فَقَالُوا: هَذَا وَاللهِ الذي حالَ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَهُنَالِكَ حِينَ رَجِعُوا إلى قَوْمهِمْ فَقَالُوا: يَا قَوْمَنَا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) فأنزلَ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ) وإنَّمَا أوْحِيَ إليْهِ قَوْلُ الجِنِّ.
بينهم وبين الصعود إلى السماء، فلما رأوا ذلك " قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء " أي ما منعكم من الاستماع إلى حديث الملائكة، واختطاف الأخبار منهم إلا أمر جديد وحادث عظيم وقع في هذا العالم " فأضربوا مشارق الأرض ومغاربها " أي فسيروا في الأرض شرقاً وغرباً لاكتشاف سبب ذلك.
وروي أن النجوم لما بدأت ترميهم بالشهب، ولم تكن تفعل ذلك من قبل ذكروا ذلك لِإبليس فقال لهم: ما هذا إلاّ من أمر قد حدث، فبعث جنوده في كل مكان من الأرض " فانصرف أولئك " الجن " الذين توجهوا نحو تهامة " وهي ما انخفض من أرض الحجاز " إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " فوجدوه مصادفة " بنخلة " بين مكة والطائف على بعد ليلة من الطائف، أي على بعد عشرة أميال منها " وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر " أي وكان يصلي صلاة الفجر ويقرأ القرآن جهراً فسمعه هؤلاء الجن " فلما سعوا القرآن فهنالك حين رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا، إنّا سمعنا قرآناً عجباً " أي فعند ذلك آمنوا، وذهبوا إلى قومهمٍ مبشرين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وهم يقولون: يا قومنا إنّا سمعنا قرآناً عجباً، أي عجيباً في ألفاظه غريباً في معانيه، خارجاً عن مقدور البشر " يهدي إلى الرشد " أي إلى الدين الحق الخ " وإنما الذي أوحى إليه " في أول سورة(2/181)
353 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهمَا قَالَ:
" قَرَأ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا أمِرَ، وَسَكَتَ فيِمَا أمِرَ (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجن هو " قول الجن " أي هو إخباره عما قاله الجن عند استماعهم إلى قراءته - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فلما سمعوا القرآن ".
353 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أمر وسكت فيما أمر " أي جهر النبي (1) - صلى الله عليه وسلم - في الصلوات التي أمره الله بالجهر فيها، وهي الصلوات الليلية، وأسَرَّ في الصلوات التي أمره الله تعالى بالإسرار فيها، وهي الصلوات النهارية " وما كان ربك نسياً " ولم يذكر الله ذلك في القرآن نسياناً منه، فهو المنزه عن ذلك، ولكنه ترك بيان هذه الأحكام لنبيه - صلى الله عليه وسلم - " ولقد كان لكم في رسول الله أسوة " فيجب عليكم اتباع سنته.
ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: استحباب الجهر في صلاة الصبح لجهر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها ولو لم يجهر لما سمعه الجن. ثانياً: أن الجهر في الصلوات الليلية، والإِسرار في النهارية سنة، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جهر في هذه وأسر في هذه. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " قرأ فيما أمر، وسكَت فيما أمر ".
***
__________
(1) لأن معنى قوله: " قرأ النبي " أًي جهر بالقراءة، ومعنى " وسكت " أي أمر بالقراءة.(2/182)
299 - " بَابُ الْجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتيْنِ في الرَّكْعَةِ "
354 - عنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أنَّهُ جَاءَهُ رَجُل فَقَالَ: قَرأتُ الْمفَصَّلَ اللَّيْلَةَ في رَكْعَةٍ، فَقَالَ: هَذَّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظائِرَ التي كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ، فَذَكَر عِشْرِينَ سُورَةً مِنَ الُمفَصَّلِ سُورَتَيْنِ في كُلِّ رَكْعَةٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
299 - " باب الجمع بين السورتين في الركعة "
354 - معنى الحديث: يحدثنا ابن مسعود رضي الله عنه " أنه جاءه رجل " وهو نَهِيك بن سنان (1) البجلي " فقال قرأت المفصل الليلة في ركعة " أي قرأت سور المفصّل كلها: وهو من (ق) إلى (الناس) هذه الليلة في ركعة واحدة. فكأنه فهم منه أنه كان يسرع في التلاوة، ولا يرتل القرآن في صلاته، فلم يستحسن منه ذلك " فقال له: هذاً كهِذِّ الشعر " أي أتسرد القرآن، وتسرع في تلاوته كأنك تقرأ شعراً مع أنه كان ينبغي لك أن ترتل القرآن، أمر الله عز وجل، ثم قال ابن مسعود: " لقد عرفت النظائر " أى السور المتماثلة في معانيها وعدد آياتها " التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرن بينهن " أي التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين كل سورتين منها في ركعة واحدة، فإن شئت أن تعمل بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فاجمع بين كل سورتين فقط، ولا تزد، لتتمكن من الترتيل، وحسن التلاوة " فذكر عشرين سورة من المفصل " أي فعدَّ عشرين سورة " سورتين في كل ركعة " وهي (الرحمن) و (النجم) و (اقتربت) و (الحاقة) و (الذاريات) و (الطور) و (الواقعة) و (ق) و (سأل) و (النازعات)
__________
(1) بفتح النون وكسر السين من " سنان ".(2/183)
300 - " بَابٌ يَقْرأُ في الأخرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ "
355 - عن أبي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
"أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرأ في الظُّهْرِ في الأولَيَيْنِ بأمِّ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وفي الرَّكْعَتَيْنِ الأخْرَيَيْنِ بأمِّ الْكِتَابِ، وَيُسْمِعُنَا الآيَةَ، وَيُطَوِّلُ في الرَّكْعَةِ الأولَى ما لا يُطَوِّلُ في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وهكَذا في الْعَصْرِ، وَهَكَذَا في الصبحَ " (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
و (ويل للمطففين) و (عبس) و (المدثر) و (المزمل) و (هل أتى) و (لا أقسم) و (عمّ) و (المرسلات) و (التكوير) و (الدخان) وذلك على ترتيب مصحف ابن مسعود. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز الجمع بين سورتين، وهو جائز في النافلة اتفاقاً، ويكره في الفريضة عند المالكية (2) وبعض الحنفية (3) ، وفي رواية عن أحمد (4) . ثانياً: النهي عن الإِسراع في القراءة. ثالثاً: استحبابِ القراءة من المفصل. والمطابقة: في قوله: " يقرن بينهن ".
300 - " باب يقرأ في الأُخريين بفاتحة الكتاب "
355 - معنى الحديث: يحدثنا أبو قتادة رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين " أي يقرأ في كل ركعة من الركعتين الأوليين بالفاتحة والسورة " وفي الركعتين الأخريين "
__________
(1) أي وكذلك كان يطوّل الركعة الأولى عن الثانية في العصر والصبح، والله أعلم.
(2) " حاشية الصنعاني على شرح العشماوية ".
(3) " فيض الباري " ج 1.
(4) " المغني " ج 1.(2/184)
301 - " بَابُ جَهْرُ الإمَامَ بالتَّأمِينَ "
356 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا أمنَ الإِمَامُ فَأمِّنُوا، فإِنَّ مَنْ وَافَقَ تأمِينُهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي ويقتصر في الركعتين الأخريين على أم الكتاب فقط " ويسمعنا الآية " أي وكان يُسرُّ بالقراءة، إلاّ أنه يرفع صوته فيسمعنا الآية أحياناً، لنتعلم منه، ولذلك عرفوا ما كان يقرأ في الظهر، " ويطول في الركعة الأولى مما لا يطول في الركعة الثانية "، أي يجعل الركعة الأولى أطول من الثانية.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية قراءة الفاتحة والاقتصار عليها في الركعتين الأخريين من الرباعية، وفي الأخيرة من الثلاثية، أما قراءة الفاتحة فيهما فهو ركن عند الجمهور (1) خلافاً لأبي حنيفة وأحمد في رواية، وأما الاقتصار عليها فهو سنة عند الجمهور. ثانياً: يستحب تطويل الركعة الأولى عن الثانية، وهو مذهب المالكية ومحمد بن الحسن والكثير من الشافعية، وذهب الحنفية إلى استحباب التسوية بينها لقول سعد " أما أنا فأركد في الأوليين " أي أطيل فيهما. ثالثاً: الإِسرار في الصلاة النهارية للإِمام، والمنفرد معاً، وهو مذهب مالك والشافعي، وقال أحمد في المشهور عنه: لا يستحب للمنفرد، وإنما هو بالخيار، وهو مذهب أبي حنيفة، واتفقوا على أنه إن جهر في السرية، أو أسر في الجهرية لا شيء عليه لأنه مستحب فقط، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يسمعهم الآية أحياناً، وهو في صلاة الظهر. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب ".
301 - " باب جهر الإِمام بالتأمين "
356 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا أمّن الإِمام فأمِّنوا "
__________
(1) فإن نسيها في ركعة بطلت صلاته عند الشافعي، وهو مذهب أحمد في الرواية المشهورة عنه ورواية عن مالك.(2/185)
تَأمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي إذا قال الإِمام: آمين فقولوا مثله آمين " فإنّ من وافق تأمينه تأمين الملائكة " أي وافقهم في الوقت، كما قال النووي " غفر له ما تقدم من ذنبه " أي فإن أمّن مع الملائكة في وقت واحد غفرت ذنوبه. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب التأمين للإِمام والمأموم معاً في الصلاة الجهرية، أما استحبابه للإِمام فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أمَّن الإِمام " وأما استحبابه للمأموم فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فأمنوا " وهو مذهب أحمد والشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك في رواية: لا تأمين على الإمام في الصلاة الجهرية، وأمّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أمن الإمام " فمعناه إذا بلغ موضع التأمين لما في رواية " الموطأ " إذا قال الإمام: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) فقولوا: آمين " قال الزرقاني: وهو حجة ظاهرة على أن الإِمام لا يؤمِّن. ثانياًً: أنه يستحب للإِمام الجهر بالتأمين في الصلاة الجهرية لقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أمّن الإِمام فأمِّنوا " حيث أمر المأمومين بالتأمين عند تأمين الامام، وهم لا يعرفون ذلك إلّا إذا جهر بالتأمين، فيستحب له الجهر به ليسمعوه، ويؤمِّنوا مثله. ويؤيد ذلك حديث سفيان " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " آمين " ورفع بها صوته " وهو ما ترجم له البخاري، وأما حديث شعبة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "آمين" وخفض بها صوته " فلا خلاف بين أهل العلم أن شعبة وسفيان إذا اختلفا فالقول قول شعبة كما أفاده ابن القيم، وقال الترمذي: سمعت محمداً - يعني البخاري يقول: حديث سفيان أصح، والحاصل أن الأحاديث صريحة في أنه يستحب للإِمام الجهر بالتأمين في الجهرية كما ترجم له البخاري، وذهب إليه الشافعي ومن وافقه من أهل العلم، قال العيني: وفيه أنّه مما تمسك به(2/186)
302 - " بَابُ فضلِ التَّأمِينِ "
357 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا قَالَ أحَدُكُمْ: آمِينَ، وَقَالَتْ الْمَلاِئكَةُ في السَّمَاءِ: آمِينَ، فَوَافَقَتْ إحْدَاهُمَا الأخْرَى غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ".
303 - " بَاب إذَا رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ "
358 - عن أبي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ انتهَى إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ رَاكِع، فَرَكَعَ قَبْلَ أنْ يَصِلَ إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشافعي الجهر بالتأمين، وذكر المزني في " مختصره " أنّ الشافعي قال: يجهر بها الإمام في الصلاة التي يجهر فيها بالقراءة والمأموم يخافت، وفي " التلويح " ويجهر فيها المأموم عند أحمد وإسحاق وداود. والمطابقة: في قوله: " إذا أمّن الِإمام ".
302 - " باب فضل التأمين "
357 - معنى الحديث: أن المسلم إذا أمن على دعائه أمنت الملائكة عند انتهائه منه، فإذا اتفقا في الوقت، غفرت ذنوبه. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ.
ويستفاد منه: استحباب التأمين على الدعاء في الصلاة أو غيرها رجاء موافقة الملائكة في تأمينهم والفوز بالمغفرة. والمطابقة: في كون التأمين سبباً في المغفرة.
303 - " باب إذا ركع دون الصف "
358 - معنى الحديث: أن أبا بكرة جاء والنبي - صلى الله عليه وسلم - راكع فخشي(2/187)
الصَّفِّ فَذَكَر ذَلِكَ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " زَادَكَ اللهُ حِرْصَاً، ولا تَعُدْ ".
304 - " بَابُ إتْمَام التَّكْبِيرِ في الرُّكُوعِ "
359 - عن عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ صَلَّى مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بالْبَصْرَةِ فَقالَ: " ذَكَّرَنَا هَذَاَ الرَّجُلُ صَلاةً كُنَّا نُصَلِّيهَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَ أنَّهُ كَانَ يُكَبر كُلَّمَا رَفَعَ، وَكُلَّمَا وَضَعَ " (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أن تفوته الركعة فركع قبل أن يصل إلى الصف، فأخبِرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بما فعل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " زادك الله حرصاً " أي رغبة في صلاة الجماعة واجتهاداً في الحصول عليها ولا تعد إلى الركوع قبل الصف.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: النهي عن الركوع دون الصف وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة. وقال مالك والليث: لا بأس إن كان قريباً. ثانياً: النهي عن صلاة الرجل منفرداً خلف الصف، لأنه أولى بالنهي من الركعة الواحدة، واختلفوا في هذا النهي، فحمله أحمد واسحاق على التحريم وأنه يقتضي فساد الصلاة، فمن صلّى وحده ركعة كاملة أثم وفسدت صلاته، وحمله الجمهور على الكراهة لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بالإعادة، وأما حديث " لا صلاة للذي خلف الصف " فمعناه لا صلاة كاملة لأَنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - انتظره حتى فرغ من صلاته.
الحديث: أخرجه أيضاً مسلم وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: "ولا تعد".
304 - " باب إتمام التكبير في الركوع "
359 - معنى الحديث: أن عمران بن حصين صلّى خلف الإِمام علي رضي الله عنه بالبصرة بعد وقعة الجمل، فقال: لقد ذكرنا هذا الخليفة الراشد
__________
(1) اعتمدت في سند هذا الحديث على ما جاء في " مختصر البخاري " للزبيدي، والله أعلم.(2/188)
305 - "بَابُ وَضْعِ الأَكُفِّ على الرُّكَبِْ في الرُّكُوعِ "
360 - عن سَعْد بْنِ أبي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
"أنَّهُ صَلَّى إلى جَنْبِهِ ابنُهُ مُصْعَب قَالَ: فَطَبَّقْتُ بَيْنَ كَفَّيَّ، ثُمَّ وَضَعْتُهُمَا بَيْنَ فَخِذَيَّ، فَنَهانِي أبِي، وقَالَ: كُنَّا نَفْعَلُهُ فَنُهِينَا عَنْهُ، وأمِرْنَا.
أنْ نَضَعَ أيدِينَا علَى الرُّكَبِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بصلاته الكاملة المستوفية لسنتها وواجباتها صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان رضي الله عنه - يأتي بكل التكبيرات، ويحافظ عليها، فيكبر كلما خفض رأسه للركوع والسجود، أو رفع رأسه من السجود. الحديث: أخرجه البخاري.
والمطابقة: في قوله: " يكبِّر كلما رفع، وكلما وضع ".
ويستفاد منه: مشروعية التكبير عند الخفض للركوع والسجود، وعند الرفع من السجود، وهو سنة عند الجمهور، واجب عند بعض الظاهرية.
305 - " باب وضع الأكف على الركب في الركوع "
360 - معنى الحديث: أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه " صلى إلى جنبه ابنه مصعب قال: فطبقت بين كفي " أي ألصقت باطن الكف اليمنى بباطن الكف اليسرى " ثم وضعتهما بين فخذي. " أي طبقتهما ووضعتهما بين الفخذين في الركوع " فنهاني أبي وقال: كنا نفعله فنهنا عن ذلك " لأنه فعل اليهود.. فلا تتشبه بهم " وأمرنا أن نضع أيدينا على الركب " مخالفة لليهود في فعلهم هذا قال عمر رضي الله عنه: إن الركب سنَّت لكم فخذوا بالركب. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " أمرنا أن نضع أيدينا على الركب ".
ويستفاد منه: كراهية التطبيق في الركوع، ومشروعية وضع اليدين على(2/189)
306 - " بَابُ حَدِّ إتمَامِ الرُّكُوعِ والاعْتِدَالِ فِيهِ والإِطْمَأنِينَةُ "
361 - عَنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
"كَانَ رُكُوعُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَسُجُودُهُ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وإذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ مَا خَلَا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ قَرِيباً مِنَ السَّوَاءِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الركب، وهو سنة عند الجمهور (1) .
306 - " باب حد إتمام الركوع والاعتدال فيه والإِطمأنينة "
أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على حد الإتمام والاعتدال والإطمأنينة -بكسر الهمزة- في الركوع (2) .
361 - معنى الحديث: يقول البراء بن عازب رضي الله عنهما " كان ركوع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسجوده وبين السجدتين، وإذا رفع من الركوع مما خلا القيام والقعود قريياً من السواء " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يمكث في الركوع والسجود، وبين السجدتين وعند الرفع من الركوع مدة متساوية تقريباً، أما عند القيام الذي قبل الركوع، وعند جلوسه للتشهد الأول والثاني، فإنه كان يمكث مدة أطول. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية الإِطمأنينة في الركوع والسجود والجلوس بين السجدتين، وهي ركن عند الجمهور، واجبة عند أبي حنيفة.
ثانياًً: مشروعية الاعتدال بعد الرفع من الركوع، وهو سنة عند مالك وأبي حنيفة، فرض عند الشافعي وأحمد، وقد تقدم الكلام على الإِطمأنينة والاعتدال
__________
(1) والتطبيق منسوخ، ومن فعله بعد ذلك من الصحابة فيحمل على أنه يبلغه النسخ، كابن مسعود. (ع) .
(2) أي بكسر الهمزة وسكون الطاء وكسر النون في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني " والطمأنينة " يضم الطاء وهو المستعمل الذي ذكره أهل اللغة. اهـ. كما أفاده العيني ج 6.(2/190)
307 - " بَابُ الدُّعَاءِ في الرُّكُوعَ "
362 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ في رُكُوعِهِ وسُجُودِهِ: " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَنّاَ وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في باب وجوب القراءة للإمام. ثالثاً: أن مدة الإِطمئنان في الركوع والسجود والجلوس بين السجدتين متساوية تقريباً، وكذلك الاعتدال بعد الركوع وهو ما ترجم له البخاري. والمطابقة: في كون الحديث يشعر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمكث في الركوع والسجود وبين السجدتين وبعد الرفع من الركوع مدة تزيد على حقيقة الركوع والسجود والرفع من الركوع، وهذا المكث الزائد هو معنى الاعتدال والطمأنينة.
307 - " باب الدعاء في الركوع "
362 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك " أي كان يذكر الله تعالى في ركوعه وسجوده بهذه الصيغة الجامعة للتسبيح والتحميد، ويختم بطلب الغفران. وهو أن يعفو الله عن عبده، ولا يؤاخذه بذنبه ويصونه من عذابه. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية الذكر في الركوع والسجود بالتسبيح والتحميد، واختلفوا في حكمه، فقالت الظاهرية: الذكر في الركوع والسجود واجب، وقال الجمهور: سنة، واختلفوا في صيغته فقال مالك وأهل الظاهر: ليس فيه صيغة معينة، بل يذكر الله بكل ما ورد من الأذكار المأثورة، وقال الشافعي وأبو حنيفة: يستحب أن يقول في الركوع: سبحان(2/191)
308 - " بَابُ فضل: اللهم ربنا لَكَ الْحَمْدُ "
363 - عَن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا قَالَ الإِمَامُ سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: " اللَّهُمَّ رَبنا وَلَكَ الْحَمْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ربي العظيم، وفي السجود، سبحان ربي الأعلى لما في حديث عقبة بن عامر قال: " لما نزلت (فسبح باسم ربك العظيم) قال - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت (سبحَ اسم ربك الأعلى) قال: اجعلوها في سجودكم " أخرجه أبو داود. ثانياً: مشروعية الدعاء في الركوع والسجود، أما مشروعيته في السجود فلا خلاف فيه، وأما مشروعيته في الركوع - كما ترجم له البخاري فقد ذهب إليه بعض أهل العلم عملاً بهذا الحديث، وكرهه مالك والشافعي وأبو حنيفة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أما الركوع فعظموا فيه الرب ".
والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه: " اللهم أغفر لي " والاستغفار دعاء.
308 - " باب فضل اللهم ربنا لك الحمد "
363- معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا قال الإِمام سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم. ربنا لك الحمد " أي فإن المشروع للمأمومين هو التحميد، فقولوا: بعد قول الإمام سمع الله لمن حمده: اللهم ربنا لك الحمد، " فإنه من وافق قوله قول الملائكة " أي فإن الملائكة تقول عند قول الإِمام سمِعَ الله لمن حمده: اللهم ربنا لك الحمد، فمن وافق، تحميده تحميد الملائكة في الوقت "غفر له ما تقدم من(2/192)
309 - " بَابٌ "
364 - عن أبي هرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْه قَالَ:
"لَأقَربَنَّ لَكمْ صَلَاةَ الَّنبِي - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَ أبو هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه يَقْنُتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذنبه" أي غفرت ذنوبه السابقة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنّ الصيغة المشروعة للإِمام عند الرفع من الركوع هي التسميع، فيسن له، وللمنفرد أيضاً أن يقول " سمع الله لمن حمده " وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وذهب الشافعي إلى أنه يسن للإِمام والمنفرد أن يجمعا بين التسميع والتحميد لحديث ابن عمر رضي الله عنهما " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا، وقال: " سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد " أخرجه البخاري والنسائي، وقال: أحمد يجب (1) ذلك.
ثانياًً: انه يسن للمأموم التحميد فقط، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده " فقولوا: ربنا لك الحمد " وهو مذهب الجمهور خلافاً للشافعية حيث قالوا: يسن للمأموم أن يقول: سمع الله لمن حمده، وهو مذهب الإمام محمد وأبي يوسف وابن سيرين. قال في " فيض البارى " وقد وردت صيغة التحميد على أربعة أنحاء، بذكر اللهم وحذفه، وذكر الواو وحذفها. ثالثاً: فضل التحميد، وكونه سبباً في الغفران، وهو ما ترجم له البخاري.
الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: ظاهرة من حيث أنّه دل على أنّ التحميد سبب في الغفران.
309 - "باب "
364 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "لأقربنّ
__________
(1) أي يجب الجمع بين التسميع والتحميد للإمام والمتفرد كما في " شرح العمدة " وكتاب " الاسئلة والأجوبة الفقهية " للشيخ عبد العزيز المحمد السلمان.(2/193)
في الركْعَةِ الأُخْرَى مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَصَلَاةِ الْعِشَاءِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ بَعْدَ مَا يَقُولُ سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ ويَلْعَنُ الكُفَارَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لكم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -" أي لأبينن لكم كيفية صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بياناً شافياً يقربها من أذهانكم حتى كأنكم تشاهدونها. قال الراوي: " فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح " أي كان يأتي بالدعاء المعروف بالقنوت في الركعة الأخيرة من الظهر والعشاء والصبح " فيدعو للمؤمنين " أي فتارة يدعو للمؤمنين بالنصر على أعدائهم والنجاة منهم " ويلعن الكفار "، أي وتارة يدعو على الكفار باللعنة، كما دعا على الخمسة الذين وضعوا سلا الجزور على ظهره، فأهلكهم الله.
ويستفاد منه: كما قال بعض أهل العلم استحباب القنوت بعد الرفع منِ الركعة الأخيرة من الظهر والعشاء والصبح، وهو مذهب الظاهرية خلافاً لغيرهم من أهل العلم، حيث خصصوا القنوت بالوتر أو بالصبح، قال الترمذي: واختلف أهل العلم في القنوت، فرأى عبد الله بن مسعود القنوت في الوتر في السنة كلها قبل الركوع، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك واسحاق وأهل الكوفة، وهو قول أبي حنيفة. وذهب الشافعي إلى أن القنوت سنة في الصبح بعد الركوع " قال النووي " القنوت في الصبح مذهبنا، وبه قال أكثر السلف ومن بعدهم. وقال مالك ومن وافقه من أهل العلم: القنوت مستحب في صلاة الصبح قبل الركوع، وهو معنى قول خليل: " وقنوت سراً بصبح فقط قبل الركوع " قال الحطاب: يعني أن القنوت مستحب في صلاة الصبح. " وقال أحمد " في الرواية المشهورة عنه: " القنوت سنة في الوتر بعد الركوع " أما تفصيل وبيان أدلة كل فريق من هؤلاء فيأتي في موضعه.
واعلم أنّ العلماء لم يشددوا في هذه المسألة (1) ففي الأمر سعة. قال الشافعي
__________
(1) " المغني " لابن قدامة.(2/194)
310 - " بَابُ الإِطْمَأنِينَةُ حِينَ يَرْفَعُ رَأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ "
365 - عَنْ أنسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أنَّهُ كَانَ يَنْعتُ صَلاةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فكَانَ يُصَلِّي، فَإِذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَامَ حَتَّى نَقُولَ قَدْ نَسِىَ ".
366 - عن أبي قِلَابَةَ رَحِمَهُ اللهُ قَالَ:
"كَانَ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُرِينَا كَيْفَ كَانَ صَلَاةُ النَّبِيُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رحمه الله: أنا أذهب إلى أن القنوت بعد الركوع، فإن قنت قبله فلا بأس وروى مثله عن أحمد رحمه الله، والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
310 - " باب الإِطمأنينة (1) حين يرفع رأسه من الركوع "
أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على مشروعية الإطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع، والمراد بها هنا الاعتدال بعد الرفع من الركوع.
365 - معنى الحديث: يقول ثابت البناني: راوي الحديث: " كان أنس ينعت لنا صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، أي يصلّي أمامنا مثل صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليرينا عملياً كيفية صلاته - صلى الله عليه وسلم - " فإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى نقول قد نسي " أي وقف وقوفاً طويلاً حتى نظنه نسي أنه بعد الركوع.
الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " قام حتى نقول قد نسي ".
366 - معنى الحديث: يقول أبو قلابة "كان مالك بن الحويرث
__________
(1) بكسر الهمزة وسكون الطاء وعن بعضهم بضم الهمزة، والكشميهني الطمأنينة بضم الطاء وبغير همزة. اهـ. كما أفاده القسطلاني.(2/195)
- صلى الله عليه وسلم - وذَاكَ في غَيْرِ وَقْتِ صَلاةٍ، فَقَامَ فأمْكَنَ القِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ فأمْكَنَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ فانْصَبَّ (1) هُنَيَّةً".
311 - " بَابُ فضلِ السُّجُودِ "
367 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ النَّاسَ قَالُوا: يا رَسُولَ اللهِ هَلْ نَرَى رَبنا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: " هَلْ تُمَارُونَ في الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَاب؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَهَلْ تُمَارُونَ في الشَّمْس، لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يرينا كيف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وذاك في غير وقت صلاة" أي في غير وقت صلاة مكتوبة فصلّى أمَامَنَا إحدى الصلوات الخمس في غير وقتها ليعلمنا إياها عن طريق المشاهدة " فقام أمكن القيام " أي أطال القيام " ثم ركع فأمكن الركوع " أي أطاله واطمأن فيه " ثم رفع رأسه فانصب " بتشديد الباء " هُنَيَّة " (2) أي فاعتدل ونصب قامته، ومكث قائماً مدة من الزمن.
والمطابقة: في قوله: " فانصبّ هنَّية ". الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي.
ويستفاد من الحديثين: مشروعية الاعتدال بعد الركوع، وهو فرض عند الشافعي وأحمد، سنة عند أبي حنيفة، ولم ينقل عن مالك فيه نص، لكن ظاهر مذهبه أنّه سنة، كما أفاده ابن رشد.
311 - " باب فضل السجود "
367 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه " أنّ الناس قالوا: يا رسول الله: هل نرى ربنا يوم القيامة " أي إن أصحاب رسول
__________
(1) في رواية الكشميهني: فأنصت، ووقع عند الاسماعيلي: فانتصب قائماً، وهي أوضح. (ع) .
(2) بضم الهاء وفتح النون وتشديد الياء.(2/196)
اللهِ، قَالَ: فَإنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كذَلِكَ، يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئَاً فَلْيَتَّبعْ، فَمِنْهُمْ مَن يَتَّبعُ الشَّمْسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبعُ الْقَمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبعُ الطَّوَاغيتَ، وَتَبْقَى هَذه الأمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فيَأتِيهِمُ اللهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الله - صلى الله عليه وسلم - سألوه عن رؤية المؤمنين لربهم، وهل المؤمنون يرون ربهم بأعينهم يوم القيامة؟ " قال: هل تمارون في القمر لينة البدر؟ " قال القسطلاني: " تمارون " بضم التاء من المماراة وهي المجادلة، وللأصيلي تَمارَوْن بفتح التاء والراء، وأصله تتمارَون حذفت إحدى التاءين أي هل تشكون. وعلى الأوّل معناه، هل تتجادلون في رؤية القمر ليلة الرابع عشر، فينكرها فريق من الناس، ويثبتها الآخر، أو أن ذلك حقيقة من الحقائق المحسوسة المسلَّم بها عند جميع البشر، وعلى الثاني معناه: هل تشكُّون في مشاهدة القمر هذه الليلة، " قالوا: لا يا رسول الله " فإن القمر لا يخفى على أحد هذه الليلة ولا يشك في وجوده أحدٌ " قال فإنكم ترونه كذلك " أي فإنكم سترون ربكم ظاهراً جلياً دون شك ولا ريب، كما أنه لا شك في رؤية القمر ليلة البدر، ورؤية الشمس في رابعة النهار، ليس دونهما سحاب والتشبيه في قوله: " ترونه كذلك " إنما هو في الرؤية ووضوحها لا في المرئي وهيئته وشكلِهِ، لأنه عز وجل ليس كمثله شيء " يحشر الناس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتَّبع " أى فليلحق بمعبوده، ويطلب عنده النجاة. " فمنهم من يتبع الشمس " وهم عبَّادها في الدنيا " ومنهم من يتبع الطواغيت " جمع طاغوت. قال ابن القيم: والطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع (1) والطواغيت كثيرة ورؤسها خمسة: إبليس لعنه الله، ومن عُبد وهو راض،
__________
(1) " الأصول الثلاثة " للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومعنى " أو متنوع " يعني في معصية الله " أو مطاع " أي في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحلّ الله.(2/197)
فَيَقول أنَّا رَبُّكمْ، فَيَقولونَ: هَذَا مَكَاننَا حتَّى يأتِينَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأتِيهِمْ الله وعَزَّ وَجَلَّ، فَيَقول: أنَا رَبّكمْ، فَيَقولونَ: أنتَ رَبُّنَا، فَيَدْعوهمْ، وَيضْرِبُ الصِّراط بَيْنَ ظَهْرَانَْي جَهَنَّمَ، فَأكون أوَّلَ مَنْ يَجوز مِنَ الرُّسُلِ بأمَّتِهِ، ولا يَتَكَلَّم يَوْمَئِذٍ أحَدٌ إلا الرُّسل، وَكَلَام الرّسلِ يَومَئِذٍ اللَّهمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وفي جَهَنَّمَ كَلَالِيب مِثْل شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأيْتمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومن دعا الناس إلى عبادته، ومن ادّعى شيئاً من علم الغيب، ومن حكم بغير ما أنزل الله. اهـ. " فيأتيهم الله " على غير الصفة المعروفة لديهم من كتاب الله " فيقول أنا ربكم، فيقولون هذا مكاننا " أي فيثبتهم الله بالقول الثابت: فيقولون: لست ربنا، وسنبقى في مكاننا حتى يأتينا الرب الحق " فيأتيهم الله " على الصفة التي يعرفونها من كتاب الله " فيقولون: أنت ربنا " الحق، وقد رجَّح القاضي عياض أنّ الذي يأتيهم في الأول ملَكٌ، والذي يأتيهم في المرة الثانية رب العزة. قال النووي: يعرفونه بتوفيق الله تعالى، وهو الظاهر المتبادر إلى الذهن لرهبة الموقف الذي تذهل له العقول، ولكن الله يثبت بالقول الثابت من شاء من عباده المؤمنين الصادقين، ويلهمهم كلمة الحق، وقول الصواب " ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم " أي على وسطها " وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلّم سلّم " أي لا كلام لهم إلاّ التضرع إلى الله سائلين منه السلامة والنجاة لأممهم " وفي جهنم كلاليب " جمع كَلُّوب بفتح الكاف وضم اللام المشددة وهو حديدة معطوفة الرأس يعلق بها اللحم " مثل شوك السعدان " وهو نبت ذو فروع شوكية، أي أن كلاليب جهنم في حدتها وصورتها وكثرة عددها تشبه شوك السعدان " تخطف الناس " بفتح الطاء ويجوز كسرها أي أن هذه الكلاليب التي على جانبي الصراط تأخذ الناس بسرعة لتلقيهم في جهنم " بأعمالهم " أي بسبب أعمالهم وعلى قدرها(2/198)
شَوْكَ السَّعْدَانِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غير أنَّهُ لا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إلَّا اللهُ تَخْطَفُ النَّاسَ بأعْمَالِهِم، فَمِنْهُمْ مَنْ يَوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ، ثُمَّ يَنْجُو حَتَّى إِذَا أرادَ اللهُ رَحْمَةَ مَنْ أرَادَ من أهْلِ النَّارِ، أمَرَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ أنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ، فَيُخْرِجُونَهُمْ، وَيَعْرِفُونَهُمْ بآثارِ السجُّودِ، وَحَرَّمَ اللهُ عَلَى النَّارِ أن تأكلَ أثرَ السُّجُودِ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ، فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأكلُهُ النَّارُ إلَّا أثرَ السُّجُودِ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتَحَشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ كما تَنْبُتُ الحِبَّةُ في حَمِيلِ السَّيلِ، ثُمَّ يَفْرَغُ اللهُ منَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، ويَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الجنَّةِ والنَّارِ، وَهُوَ آخِرُ أهْلِ النَّارِ دُخُولاً الجَنَّةَ، مُقْبِلاً بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ قَد قَشَبَنِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" فمنهم من يوثق " أي يهلك بسبب معاصيه " ومنهم من يخردل " أي يقِطع أشلاءً - فتقطعه كلاليب الصراط وتلقى به في جهنم. وللأصيلي بالجيم من الجردلة، وهي الإشراف على الهلاك، كما أفاده القسطلاني " ثم ينجو" كلام مستأنف أي ينجو من أراد الله له النجاة من النار بعدم دخوله إليها، أو بإخراجه منها " حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار " من عصاة المؤمنين " أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله " وحده " فكل ابن آدم تأكله النار إلاّ أثر السجود " في الجبهة، كما قال عياض أو في الأعضاء السبعة، كما أفاده الحافظ والعيني " فيخرجون من النار قد امتحشوا " بفتح التاء أي احترقوا " فيُصب عليهم ماء الحياة " قال عياض: وهو ماء من شربه أو صُبَّ عليه لم يمت أبداً " فينبُتون كما تنبت الحِبة " بكسر الحاء وهي بذرة البقل كما في " القاموس " " في حميل السيل "، أي في طين السيل، "ويبقى رجل(2/199)
رِيحُهَا، وأحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا، فَيَقُولُ، هَلْ عَسيْت إنْ فُعِلَ ذَلِكَ بِكَ أنْ تَسْأل غَير ذَلِكَ، فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ، فَيُعْطِي الله مَا يَشَاءُ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاق، فَيَصْرِفُ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، فإذَا أقْبَلَ بِهِ عَلَى الْجَنَّةِ رَأى بَهْجَتَهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللهُ أن يَسْكُتَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ قدمْنِي عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ الله لَهُ: أليْسَ قَدْ أعطَيْتَ الْعُهودَ والمِيثَاقَ أنْ لَا تَسْأل غَير الذِّي كُنْتَ سألت، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا أكُون أشْقَى خَلْقِكَ، فيقُولُ: فَمَا عَسَيْتَ إنْ أعْطِيتَ ذَلِكَ أنْ لا تَسْأل غَيرهُ، فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ لَا أسأل غير ذَلِكَ، فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، فَيُقَدِّمُهُ إلى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإذَا بَلَغ بَابَهَا، فَرَأى زَهْرَتَهَا، ومَا فِيهَا من النُّضرَةِ والسرورِ، فَيَسْكُتُ ما شَاءَ اللهُ أنْ يَسْكُتَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلَّ: وَيْحَكَ يا ابْنَ آدَمَ، مَا أغدَرَكَ! أليْسَ قَدْ أعْطَيْتَ العَهْدَ والميثَاقَ أنْ لا تَسْأل غَير الذي أعْطِيتَ؟! فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لا تَجْعَلْنِي أشْقَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بين الجنة والنار" من العصاة " فيقول يا رب اصرف وجهي عن النار قد قشبني ريحها " أي آذاني ريحها العفن، النتن، " وأحرقني ذَكاؤها " أي لهيبها المشتعل، " فيقول الله له: هل عسَيْتَ إن فعل الله ذلك بك أن تسأل غير ذلك، فيقول: لا وعزتك وجلالك " فيقسم ويعاهد الله على أن لا يسأله شيئاً آخر، " فيصرف الله وجهه عن النار، فإذا أقبل على الجنة ورأى بهجتها سكت ما شاء الله أن يسكت " أي سكت مدة من الزمن " ثم قال: يا رب قدمني عند باب الجنة " وقربني إليها، ثم قال: " فيقدمه إلى باب الجنة " فلا يملك نفسه عند ذلك، وهؤ يرَى الجنة بين يديه، " فيقول: يا رب أدخلني الجنة فيقول الله عز وجل: ويحك يا ابن آدم ما أغدرك "(2/200)
خَلْقِكَ، فَيَضْحَكُ اللهُ مِنْهُ، ثم يَأذَنُ لَهُ في دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى، حتى إذَا انْقَطَعَتْ أمْنِيَتُهُ، قَالَ اللهُ: زِدْ مِنْ كَذَا وَكَذَا، أقبَلَ يُذَكِّرُهُ رَُّبهُ حتى إذَا انتهَتْ بِهِ الأمَانِي، قَالَ اللهُ تَعَالى: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ " وَقَالَ أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ لأبِي هُرَيْرةَ: إن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَكَ ذَلِكَ وَعشْرَةُ أمْثَالِهِ، قَالَ أبو هُرَيْرَةَ: لَمْ أحْفَظْ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا قَوْلَهُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، قَالَ أبو سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ذَلِكَ لَكَ وَعَشرَةُ أمْثَالِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفي هذه العبارة ترحُّمٌ وإشفاق على هذا الإنسان الضعيف الذي يكمن ضعفه في تسرعه إلى إعطاء العهود والمواثيق التي لا يطيق الالتزام بها، ويعجز عنها، فيضطره ذلك إلى الغدْر، ونقض العهود، " فيقول: يا رب لا تجعلني أشقى خلقك " أي لا تحرمني من جنتك مثل الكفار الذين هم أشقى عبادك، ولسان حاله يقول: كما قال الشاعر:
إنْ لم أكن أخْلَصْتُ فِي طَاعَتِكْ ... فَإنَّنِي أطْمَعُ فِي رَحْمَتِكْ
وَإنَّما يَشْفَعُ لِي أنَّني ... قَدْ كُنْتُ لَا أشْرِكُ فِي وَحْدَتِكْ
" فيقول له: تمّن حتى إذا انقطعت أمنيته " أي حتى إذا انتهت حاجاته، وسأل كل طلباته " قال الله في لك ذلك ومثله " أي لك ضعف ما طلبت " وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه لأبي هريرة رضي الله عنهما: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله عز وجل لك ذلك وعشرة أمثاله " ومعناه أنهما اختلفا هل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لك ذلك ومثله " وهو ما حفظه أبو هريرة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قال: " لك ذلك وعشرة أمثاله " وهو ما سمعه أبو سعيد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا شك في صحة الروايتين قال(2/201)
312 - " بَابُ السُّجُودِ عَلَى الأنفِ "
368 - عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " أُمِرْتُ أن أسْجُدَ علَى سَبْعَةِ أعْظُم على الْجَبْهَةِ، وأشَارَ بِيَده على أنفِهِ والْيَدَيْنِ والرُّكْبَتَيْنِ وأطْرَافِ القَدَمَيْنِ ولا نَكفِتَ الثيابَ والشَّعَرَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العيني: ووجه الجمع بين خبر أبي سعيد وخبر أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر أولاً بالمثل. ثم اطلع على الزيادة (1) . الحديث: أخرجه الشيخان.
ويستفاد منه: أولاً: بيان فضل السجود كما ترجم له البخاري لكونه سبباً في نجاة الأعضاء السبعة من النار، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فكل ابن آدم تأكله النار إلاّ أثر السجود ". ثانياًً: رؤية المؤمنين لله عز وجل يوم القيامة، وقد تقدم في باب فضل العصر. ثالثاً: فيه دليل لأهل السنة والجماعة على أن مرتكب الكبيرة لا يخلد في النار خلافاً للخوارج. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار -وهم عصاة المؤمنين- أمر الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله ". والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فكل ابن آدم تأكله النار إلاّ أثر السجود ".
312 - " باب السجود على الأنف "
368 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم " أي أمرني الله تعالى أن أسجد على سبعة أعضاء، فإن المراد بالأعظم الأعضاء كما جاء مفسَّراً في الرواية الأخرى حيث قال: " أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسجد على سبعة أعضاء " أخرجه البخاري، ثم بين الأعضاء السبعة
__________
(1) فأخبر بالعشرة الأمثال فسمع الأول أبو هريرة وتحدث به وسمع الثاني أبو سعيد وتحدث به فكلاهما سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -.(2/202)
بقوله: " على الجبهة " أي أمرت بالسجود على الجبهة، والمراد بها الأنف كما يدل عليه قوله: " وأشار بيده على أنفه "، أي أشار إلى أنفه ليبين أن المقصود بالجبهة الأنف " واليدين " أي وعلى باطن الكفين " والركبتين وأطراف القدمين " أي وأطراف أصابع القدمين " ولا نكفت الثياب والشعر " أي لا تكف ولا نجمع الثياب والشعر.
ويستفاد منه: أنّ الواجب هو السجود على الأنف فقط، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، على الجبهة ثم أشار إلى أنفه " فدل ذلك على أن الواجب هو السجود على الأنف، أما السجود على الجبهة وسائر الأعضاء فهو سنة، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة، ورواية أشهب عن مالك، وذهب مالك في المشهور عنه إلى أن الواجب هو السجود على الجبهة، وهو ركن من أركان الصلاة، كما نص عليه خليل، أمّا السجود على الأنف وسائر الأعضاء فهو سنة عند المالكية كما أفاده الحطاب (1) ، وهو قول للشافعي كما أفاده الحصني (2) ، وذهب الشافعي في أحد قوليه إلى أنّ الواجب السجود على الجبهة وسائر الأعضاء ما عدا الأنف فإنه مستحبٌ، واستظهره النووي وقال: أحمد في الرواية (3) المشهورة عنه: الواجب السجود على الجبهة والأنف (4) وسائر الأعضاء السبعة. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " وأشار بيده على أنفه ".
***
__________
(1) " مواهب الجليل " ج 1.
(2) " شرح كفاية الأخبار " للحصني.
(3) " المغنى " لابن قدامة.
(4) وهو الذي تؤيده الأدلة. (ع) .(2/203)
313 - " بَابُ الْمُكْثِ بَيْنَ السَّجْدَتيْنِ "
369 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" إنِّي لا آلو أنْ أُصَلِّىَ بِكُمْ كَمَا رَأيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بِنَا، قَالَ ثَابِتُ: كَانَ أنَسٌ يَصْنَعُ شَيْئَاً لَمْ أرَكُمْ تَصْنَعُونَهُ، كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَامَ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ قَدْ نَسِيَ، وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى يَقولَ القَائِلُ قَدْ نَسِيَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
313 - " باب المكث بين السجدتين "
369 - معنى الحديث: يروي لنا ثابت البناتي عن أنس رضي الله عنه " قال إني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلى " أي إني أحرص كل الحرص على أن أصلي بكم مثل ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلّي تماماً، ولا أقصر في شيء من الأقوال والأفعال التي رأيته وسمعته يأتي بها في صلاته، " قال ثابت: كان أنس يصنع شيئاً " أي يفعل شيئاً من صلاته " لم أركم تصنعونه " أي لا أراكم تفعلونه " كان إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل: قد نسي " أي كان يقوم قياماً طويلاً بعد الركوع حتى يظن منْ رآه أنه قد نسي أنه بعد الركوع " وبين السجدتين " أي وكان أيضاً يجلس بين السجدتين كذلك. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " وبين السجدتين ".
ويستفاد منه: مشروعية الجلوس بين السجدة الأولى والثانية، واستحبابه، وهو واجب عند أهل الظاهر.(2/204)
314 - " بَابُ لا يَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهِ في السُّجُودِ "
370 - وَعَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " اعْتَدِلُوا في السُّجُودِ، وَلا يَبْسُطْ أحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ ".
315 - " بَابُ مَنْ اسْتَوَى قَاعِداً في وِتْرٍ مِنْ صَلَاِتهِ ثُمَّ نهَضَ "
371 - عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ رَأى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي، فَإِذَا كَانَ في في وتْرٍ مِنْ صَلَاِتهِ، لَمْ يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوِي قَاعِداً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
314 - " باب لا يفترش ذراعيه في السجود "
370 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " اعتدلوا " أي توسطوا " في السجود " فلا يضم أحدكم ذراعيه إلى جنبه " ولا يبسط " (1) أي لا يمد " أحدكم ذراعيه انبساط الكلب " أي كما يمد الكلب ذراعيه. الحديث: أخرجه الخمسة. والمطابقة: في قوله: " ولا يبسط أحدكم ذراعيه ".
ويستفاد منه: استحباب الاعتدال في السجود بحيث لا يفترش ولا يقبض لأنه أبلغ في تمكين الجبهة من الأرض، وكراهية الافتراش لأنه من هيئات الكسالى.
315 - " باب من استوى قاعداً في وتر من صلاته ثم نهض "
371 - معنى الحديث: يحدثنا مالك بن الحويرث رضي الله عنه:
__________
(1) أي فلا يمد أحدكم مرفقيه على الأرض، ولا يضمهما إلى جنبيه لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد جافى يديه، فلو أن بهيمة أرادت أن تمر مَرتْ.(2/205)
316 - " بَاب يُكَبِّرُ وَهُوَ يَنْهَضُ مِنَ السَّجْدَتينِ "
372 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أنَّهُ صَلَّى فَجَهَرَ بِالتَّكْبِير حِينَ رَفَعَ رَأسَهُ مِن السُّجُودِ، وحينَ سَجَدَ، وَحِينَ رَفَعَ وَحِينَ قَامَ مِنَ الْرَّكْعَتَيْنِ، وَقَال: هَكَذَا رَأيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته، لم ينهض حتى يستوي قاعداً " أي أن مالك بن الحويرث رضي الله عنه لاحظ النبي - صلى الله عليه وسلم - في أثناء صلاته فرآه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الأولى والثالثة لا ينتصب قائماً حتى يجلس ويعتدل جالساً. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " لم ينهض حتى يستوي قاعداً ".
ويستفاد منه: استحباب جلسة الاستراحة بعد السجدة الثانية من الركعة الأولى والثالثة وهو مذهب الشافعي وأحمد في رواية، والجمهور على عدم مشروعيتها.
216 - " باب يكبّر وهو ينهض من السجدتين " (1)
372 - معنى الحديث: أن أبا سعيد رضي الله عنه " صلّى فجهر بالتكبير " أي رفع صوته به " حين رفع رأسه من السجود، وحين سجد، وحين رفع، وحين قام من الركعتين "، أي كبر جهراً عند السجود والرفع منه وعند القيام من التشهد الأول، " وقال: هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي مثل هذه الصلاة التي صليتها أمامكم. الحديث: أخرجه البخاري.
__________
(1) قال القسطلاني: أي عند القيام من التشهيد الأول إلى الركعة الثالثة، فالمراد بالسجدتين الركعتان الأوليان، لأن السجدة تطلق على الركعة من باب إطلاق الكل على الجزء.(2/206)
317 - " بَابُ سُنَّةِ الْجُلُوس في التَّشَهُّدِ "
373 - عن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ (1) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" أنَا أحْفَظُكُمْ لصَلَاة رَسُولِ اللهِ رَأيْتُهَ إذا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ، وِإذَا رَكَعَ أمْكَنَ يَدَيْه مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ، فإِذَا رَفَعَ رَأسَهُ اسْتَوى حَتَّى يَعُودَ كُل فَقَارٍ مَكَانَهُ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْه غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلا قَابِضِهُمَا، وَاسْتَقْبَلَ بَأطْرَافِ أصَابع رِجْلَيهِ الْقِبْلَةَ، فإذَا جَلَسَ في الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ اليُسْرَى ونَصَبَ الْيُمْنَى وإذَا جَلَسَ في الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ، قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسرَى ونَصَبَ الأخْرَى، وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويستفاد منه: أنه يسن التكبير عند القيام من التشهد الأول ولا خلاف في ذلك إلا أن مالكاً قال يكبر بعد استوائه والجمهور على أنّه يكبر حال قيامه. والمطابقة: في قوله: " حين قام من الركعتين ".
317 - " باب سنة الجلوس في التشهد "
373 - معنى الحديث: يقول أبو حميد رضي الله عنه: " أنا أحفظكم لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رأيته إذا كبر جعل يديه حذاء منكبيه " أى رفع يديه عند تكبيرة الإِحرام حتى يجعلهما مقابل منكبيه، " وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه " أي ثبتهما عليهما " ثم هصر ظهره " أي أماله في استواء دون تقويس، كما أفاده القسطلاني " فإذا رفع رأسه " من الركوع " استوى " أي اعتدل قائماً " حتى يعود كل فقار إلى مكانه " أي حتى يرجع كل عظم إلى موضعه، "فإذا سجد وضع يديه في مفترش ولا
__________
(1) أبو حميد الساعدي: الصحابي المشهور اسمه عبد الرحمن بن عمرو بن سعد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة أحاديث شهد أحداً وما بعدها قال الوافدي وتوفى في خلافة معاوية أول خلافة يزيد.(2/207)
قابضهما"، أي وضع كفيه عند سجوده على الأرض، وسجد معتدلاً، فلا يمد ذراعيه على الأرض كما يصنع الكلب ولا يضمهما إلى جنبيه، وإنما يجافي بينهما، أي يبعدهما عنهما " واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة " أي جعل أصابع قدميه متوجهة إلى القبلة، " وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى " أي وإذا جلس في التشهد الأول جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى أي رفعها عن الأرض واضعاً أصابعه عليها، وهذه الجلسة هي التي تعرف عند الفقهاء بالافتراش. " وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى، ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته " أي وإذا جلس للتشهد الأخير، جلس على مقعدته، ونصب رجله اليمنى، وقدم اليسرى، وهو ما يعرف بالتورك.
ويستفاد منه: أنه يسن الافتراش في التشهد الأوَّل، وهو أن يجلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى " والتورك " في التشهد الأخير، وهو أن يجلس على مقعدته، ويقدم اليسرى، وينصب اليمنى، وهو مذهب الشافعي حيث قال: يسن الافتراش في التشهد الأول، والتورك في الثاني، واختار أبو حنيفة الافترش في التشهدين لحديث عائشة رضي الله عنها " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفترش رجله اليسرى وينصب اليمنى " أخرجه مسلم، واختار مالك التورك فيهما لما رواه في " الموطأ " عن القاسم بن محمد أنه جلس على وركه اليسرى ثم قال: أراني هذا عبد الله بن عمر وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك. الحديث: أخرجه الأربعة أيضاً. والمطابقة: في قوله: " وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى " إلى آخر الحديث، حيث دل على افتراشه - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأول، وتوركه في الثاني، والله أعلم.
***(2/208)
318 - " بَابُ مَنْ لَمْ يرَ التَّشَهُّدَ الأوَّلَ وَاجِبَاً "
374 - عن عَبْدِ اللهِ بْنِ بُحَيْنَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
" أنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ فَقَامَ في الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، وَلَم يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ حَتَّى إِذا قَضَى الصَّلَاةَ، وانتظر النَّاسُ تَسلِيمَهُ كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْن. قَبْلَ أنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ سَلَّمَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
318 - " باب من لم ير التشهد الأول واجباً "
374 - معنى الحديث: يحدثنا عبد الله بن بحينة رضي الله عنه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم الظهر، فقام في الركعتين الأوْليين ولم يجلس " للتشهد الوسط، أي أنه ترك التشهد الأول سهواً، ولما استوى قائماً لم يجلس بعد قيامه، ليأتي بالتشهد الذي تركه " فقام الناس معه " أي فتبعه الناس في قيامه إمّا لعلمهم بأن الإمام إذا استوى قائماً لا يرجع للجلوس الوسط، أو لأنهم سبحوا له فأشار إليهم بالقيام فقاموا معه، كما أفاده الباجي " حتى إذا قضى صلاته، وانتظر الناس تسليمه " أي حتى إذا حان وقت السلام " كبر وهو جالس، فسجد سجدتين قبل أن يسلم " أي كبّر وسجد سجدتي السهو قبل السلام.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن التشهد الأول سنة، وليس بواجب، لكونه - صلى الله عليه وسلم - قام من الركعتين ولم يرجع (1) وهو مذهب أكثر أهل العلم خلافاً لأبي حنيفة، حيث ذهب إلى وجوبه، قال في " الهداية ": التشهد الأول واجب، وقيل سنة، وهو الأقيس، لكنه خلاف ظاهر الرواية عن أبي حنيفة.
وفي " المغني " روايتان عن أحمد. ثانياًً: مشروعية سجود السهو قبل السلام
__________
(1) ولو كان التشهد الأول واجباً لجلس بعد قيامه، ليأتي به، لأن الواجب لا يترك.(2/209)
319 - " بَابُ التَّشَهُّدِ في الآخِرَةِ "
375 - عن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنا إذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قلنا: السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ ومِيكَائِيلَ، السلامُ علَى فُلانٍ وفُلان، فالْتَفَتَ إلَيْنَا النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقالَ: "إنَّ اللهَ هُوَ السَّلَامُ، فَإذَا صَلَّى أحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لله والصَّلَوَاتُ والطيباتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبِيُّ ورحمةُ اللهِ وبركَاتَهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وعلى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، فَإنَّكُمْ إذا قُلْتُموهَا أصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالح في السَّمَاءِ والأرْض، أشْهَدُ أنْ لا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهو مذهب الشافعيّة، وسيأقي تفصيله في موضعه. الحديث: أخرجه الستة.
والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - ترك التشهد الأول ولم يجلس بعد قيامه ليأتي به.
319 - " باب التشهد في الآخرة "
375 - معني الحديث يقول ابن مسعود رضي الله عنه: " كنا إذا صلينا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - قلنا " في أول التشهد " السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وفلان " أي أنهم كانوا يسلمون على الملائكة بأسمائهم، واحداً واحداً، كما في رواية أخرى فتعُدُّ من الملائكة ما شاء الله أخرجه ابن ماجة " فالتفت إلينا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنّ الله هو السلام " أي لا تقولوا في التشهد السلام على الله، لأن السلام اسم من أسمائه، وصفة من صفاته.
وكيف تسألون له السلامة وهو الذي يعطيها لعباده، فلا تقولوا هذه التحية التى تليق بالبشر، ولا تليق بخالق البشر، ولكن قولوا صيغة التشهد المشروعة "فإذا صلّى أحدكم فليقل: التحيات لله (1) والصلوات (2) والطيبات (3)
__________
(1) أي البقاء لله وحده.
(2) أي أن الصلوات كلها لا تكون إلا لله فرضاً أو نفلاً.
(3) أي أنه المنفرد بجميع المحامد لأن الكمال المطلق له وحده.(2/210)
إلَهَ إلَّا اللهُ، واشْهَدُ أنَّ مُحَمداً عَبْدُهُ وَرَسُولُه".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد صالح" أي فإنكم إذا قلتم السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين انتفع بهذا السلام كل عبد صالح في الأرض أو السماء فتشمل الملائكة والجن والإنس، ثم أتم - صلى الله عليه وسلم - التشهد بقوله: " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله " فختمه بالشهادتين، ولذلك سمّي بالتشهد لاشتماله على النطق بشهادة الحق، تغليباً لها لشرفها، كما أفاده الزرقاني.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية التشهد في الصلاة، وقد اختلف العلماء في حكم التشهد الأول والأخير. فأمّا الأول: فهو سنة عند أكثر أهل العلم، خلافاً لأحمد في رواية، وأبي حنيفة في الصحيح من مذهبه.
وأما الثاني: فهو ركن عند الشافعي وأحمد في المشهور عنه، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا تجزىء صلاة إلاّ بتشهد " أخرجه سعيد بن منصور في " سننه " ولما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد كفي بين كفيه، كما يعلمني السورة من القرآن: " التحيات لله " رواه الجماعة وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنّه سنة (1) واستدل المالكية على سنيته بحديث المسيء في صلاته لأنه - صلى الله عليه وسلم - علمه أركان الصلاة فلم يذكر التشهد. ثانياًً: دل الحديث على الصيغة المشروعة في التشهد كما يرويها ابن مسعود وهي المختارة عند أحمد وأبي حنيفة وأكثر أهل العلم، واختار مالك تشهد عمر الذي علّمه الناس على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لهم قولوا: التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات الصلوات لله " حيث لم ينكر عليه الصحابة، فجرى مجرى الحديث المتواتر (2) ، واختار الشافعي
__________
(1) " الإفصاح عن معاني الصحاح " ج 1.
(2) " شرح الباجي على الموطأ " ج 1.(2/211)
320 - " بَابُ الدُّعَاءِ قَبلَ السَّلَامِ "
376 - عنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ورَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَدْعُو في الصَّلَاةِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وأعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأثَمِ والْمَغْرَمِ "، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ المَغْرَمِ؟ فَقَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَ إذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأخْلَفَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تشهد ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: " التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله " قال الزرقاني: وهذا الاختلاف كله إنما هو في الأفضل، ولذا قال ابن عبد البر: كلٌ حسن متقارب المعنى اهـ. أما الصلاة في التشهد الأخير فهي ركن عند الشافعي وأحمد خلافاً لغيرهما. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة في قوله: " إذا صلّى أحدكم فليقل التحيات لله ".
320 - " باب الدعاء قبل السلام "
376 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها: " أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو في الصلاة " أي كان - صلى الله عليه وسلم - يدعو بعد التشهد الأخير من كل صلاة ببعض الأدعية المأثورة " فيقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر "، أي أستجير بك وألجأ إليك أن تنجيني منه، " وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال "، أي وأستجير بك أيضاً وأسألك أن تحميني من فتنة الدجال، حتى لا أقع تحت تأثيره، فيغويني ويضلني، " وأعوذ بك من فتنة المحيا "، أي وأسألك أن تحميني مدة حياتي من جميع الفتن الدنيوية والأخروية " وفتنة الممات " أي وأن تحميني من فتنة الشيطان عند الموت،(2/212)
377 - عن أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: عَلِّمْنِي دُعَاءً، أدْعُو به في صَلَاتِي؟ قَالَ: " قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّيِ ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمَاً كَثِيراً، ولَا يَغْفِرُ الذُّنوبَ إلَّا أنْتَ، فاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةَ مِنْ عِنْدِكَ، وارْحَمْنِي إنكَ أنتَ الْغَفُورُ الرَّحيمُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حال الاحتضار، فقد ورد أن الشيطان يأتي للعبد. في صورة بعض أقاربه، وفي يده قدح من ماء فيزين له الكفر ويؤكد له أنه طريق النجاة " اللهم إني أعوذ بك من المأثم " أي من كل معصية وخطيئة " والمغرم " أي ومن كل دين أعجز عن تسديده، " فقال له قائل: ما أكثر مما تستعيذ من المغرم؟
فقال: إن الرجل إذا غرم " أي إذا تحمل ديناً لا يقدر على أدائه كان فتنة له في دينه وخلقه، لأنه إذا طارده الدائن حدّث فكذب، ووعد فأخلف " اضطراراً.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب الدعاء بعد التشهد الأخير.
ثانياًً: إثبات خروج الدجال، وكونه حقيقة ثابتة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - استعاذ منه.
ثالثاً: إثبات عذاب القبر. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
والمطابقة: في قولها: " كان يدعو في الصلاة ".
377 - معنى الحديث: يحدثنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمه دعاءً يدعو به بعد التشهد الأخير، وقبل السلام، ويواظب عليه في آخر صلاته، فعلمه هذا الدعاء " قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً " باقتراف الخطايا، لأن اقترافها ظلم للنفس، وجناية عليها، لما فيه من تعريضها للعقوبة في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) ، وفي الأثر " ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة " ولا يغفر الذنوب إلاّ أنت " أي ولا يستر الذنوب ولا يعفو(2/213)
321- " بَابُ مَا يَتَخيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ بَعْدَ التشَهُّدِ ولَيْسَ بِوَاجِب "
378 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أعْجَبَهُ إلَيْهِ فَيَدْعُو".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عنها ويسقط العقوبة عن فاعلها، ويصونه عن النار إلا أنت وحدك، " فاغفر لي مغفرة من عندك " أي فاغفر لي مغفرة تليق بكرمك وجودك على قدر رحمتك الواسعة، وعفوك الذي لا يحد، " وارحمني انك أنت الغفور الرحيم " أي فإذا طمعْتُ في عفوك وغفرانك فأنت واسع المغفرة والرحمة، فكيف لا أطمعُ فيك وقد وسعت رحمتك كل شيء. الحديث: أخرجه الخمسة، ولم يخرجه أبو داود.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب الدعاء في الصلاة بعد التشهد الأخير قبل السلام، واختيار الدعوات المأثورة، لأنها أفضل وأعظم نفعاً من سواها، فلم يأمرنا بها - صلى الله عليه وسلم - إلاّ لما فيها من الخير الكثير، وإن كان الدعاء مشروعاً بأي صيغة إلا أنها أفضل. ثانياًً: أن الاعتراف بالخطايا والشعور بالنقص، هو عين الكمال ولذلك علم النبي - صلى الله عليه وسلم - الصديق أن يقول في دعائه " اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ". والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر رضي الله عنه أن يدعو بهذا الدعاء قبل السلام.
321- " باب ما يتخيّر من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب "
378 - معنى الحديث: يحدثنا ابن مسعود رضي الله عنه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " بعد أن ذكر صيغة التشهد المشروعة إلى قوله: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً عبده ورسوله " ثم يتخيّر من الدعاء أعجبه " أي ثم يجوز للمصلي بعد الانتهاء من التشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبل(2/214)
322 - " بَابُ التَّسْلِيم "
379 - عَنْ أمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:
" كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ، وَمَكَثَ يَسِيراً قَبْلَ أنْ يَقُومَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السلام أن يختار لنفسه ما شاء من الدعاء فيدعو به، وليس عليه التقيد بدعاء مخصوص إلا أن الأدعية المأثورة أفضل. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ متعددة.
ويستفاد منه: أنه يجوز للمصلّي اختيار ما شاء من الدعاء، وأن يسأل ما يريد من أمور الدنيا والآخرة، وهو مذهب مالك والشافعي، وأكثر أهل العلم لحديث الباب، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: " ثم يدعو بما بدا له " أخرجه مالك في " الموطأ " موقوفاً عليه، قال. الباجي: معنى قوله: " ثم يدعو بما بدا له " أي من أمر دينه ودنياه، مما لا يمنع الدعاء به، ويدعو على الظالم، ويدعو للمظلوم، والأصل في ذلك ما رواه البخاري.
وقال أبو حنيفة: لا يدعو في الصلاة إلاّ بالأدعية المأثورة أو ما شابه ألفاظ القرآن، وحديث الباب يدل على التخيير، ولا يستثنى من ذلك سوى الأدعية المحرمة. والمطابقة: في قوله: " ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو".
322 - " باب التسليم "
379 - معنى الحديث: تقول أم سلمة رضي الله عنها: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم " من صلاته " قام النساء حين يقضي تسليمه " أي انصرف النساء من المسجد بعد تسليمه - صلى الله عليه وسلم - مباشرة لئلا يختلطن بالرجال، " ومكث يسيراً " أي وبقي النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد قليلاً، ليتأخر الرجال(2/215)
عن الخروج بعض الوقت، ويفسحوا الطريق للنساء. الحديث: أخرجه أبو داود والنسائي أيضاً.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية التسليم عند الخروج من الصلاة كما ترجم له البخاري. واختلفوا في حكمه كما قال ابن رشد (1) : فقال الجمهور بوجوبه، وقال أبو حنيفة وأصحابه ليس بواجب، فذهب الجمهور إلى ظاهر حديث علي رضي الله عنه حيث قال: فيه " وتحليلها التسليم " وأما أبو حنيفة فذهب إلى ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا جلس الرجل في آخر صلاته فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته " لكن قال ابن عبد البر: حديث علىٍّ المتقدم أثبت عند أهل النقل، لأن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص تفرد به الإِفريقي وهو ضعيف، قال ابن القيم في " تهذيب السنن " حديث على صريح الدلالة على أنه لا ينصرف من الصلاة إلاّ بالتسليم، واختلفوا في عدد التسليمات، فقال أحمد: التسليمتان واجبتان (2) ، وهو الرواية المشهورة عنه. وقال الشافعي: الأولى فرض، والثانية سنة، وفرّق مالك بين المأموم وغيره، فقال: على المأموم تسليمتان، الأولى فرض، والثانية مستحبة، وليس على غيره سوى تسليمة واحدة، وهي واجبة، وقال أبو حنيفة: التسليمتان سنتان. ثانياً: مشروعية خروج النساء من المسجد قبل الرجال لئلا يختلطن بالرجال.
والمطابقة: في قوله: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم ".
***
__________
(1) " بداية المجتهد " ج 1.
(2) " الإفصاح عن معاني الصحاح " ج 1.(2/216)
323 - " بَابٌ يُسَلِّمُ حِينَ يُسَلِّمُ الِإمَامُ "
380 - عَن عِتْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
"صَلَّيْنَا مَعَ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
323 - " باب يسلم حين يسلم الإِمام "
380 - معنى الحديث: يقول عتبان بن مالك رضي الله عنه:
" صلينا النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي صلينا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الجماعة " فسلمنا حين سلّم " أي فسلمنا عندما سلم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يحتمل أنّهم سلموا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أنهم سلموا بعده. الحديث: " أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة.
ويستفاد منه: أنّ المأموم يسلم حين يسلم إمامه، ولا يجوز أن يتقدمه بالسلام، وهو مذهب أهل العلم اتفاقاً، غير أنهم اختلفوا هل يسلم معه أو بعده، فقال أبو حنيفة في رواية يسلم معه، وذهب المالكية إلى أنه يسلم بعده كما جاء في " الرسالة " حيث قال: " ويسلم بعد سلامه " قال النفراوي: فإن شرع في السلام قبله عمداً أو جهلاً بطلت صلاته، ومثل السبق المصاحبة في ابتدائه، أما لو سبقه سهواً، لأمر بالسلام بعد الإِمام، ولم تبطل صلاته.
وقال الشافعي يسلّم المقتدى بعد فراغ الإِمام من التسليمة الأولى فلو سلّم مقارناً لسلامه بطلت على القول بأن نية الخروج شرط ولم تبطل على القول بأنها غير واجبة. اهـ. كما أفاده العيني. والمطابقة: في قوله: " فسلمنا حين سلم ".
***(2/217)
324 - "بَابُ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ"
381 - عن ابْنِ عَباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" أنَ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالْذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ، كانَ عَلَى عَهْدِ النَبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أعْلَمُ إذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إذَا سَمِعْتُهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
324 - " باب الذكر بعد الصلاة "
381 - مضى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما: " أن رفع الصوت بالذكر " على اختلاف أنواعه من تهليل وتسبيح وتكبير " حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - "، أي: كان موجوداً في زمنه - صلى الله عليه وسلم - بعد كل صلاة من الصلوات الخمس، فإن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا إذا فرغوا من الصلاة المكتوبة، وانتهوا من صلاة الجماعة معه - صلى الله عليه وسلم - في مسجده؛ رفعوا أصواتهم بذكر الله مهللين مكبرين وكان - صلى الله عليه وسلم - يقرهم على ذلك (1) . قال العيني: ومثل هذا يحكم له بالرفع عند الجمهور، خلافاً لمن شذ في ذلك، " وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته " أي: كنت أعرف انتهاءهم من صلاة الجماعة بارتفاع أصواتهم بهذا الذكر حيث كانوا يذكرون الله بأصوات عالية تسمع من بعيد.
الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود أيضاً.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استدل به بعض السلف على استحباب رفع الصوت بالذكر عقب الصلاة المكتوبة، وهو مذهب ابن حزم. قال ابن بطال: وأصحاب المذاهب المتبعة وغيرهم متفقون على عدم استحباب رفع الصوت بالذكر، وحمل الشافعي هذا الحديث على أنه - صلى الله عليه وسلم - جهر لتعليمهم،
__________
(1) ولكن لم يكن جماعياً، بل كل يذكر الله تعالى وحده. (ع)(2/218)
382 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " جَاءَ الْفُقَرَاءُ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالُوا: ذَهَبَ أهل الدثُورِ مِنَ الأمْوَالِ بالدَّرَجَاتِ العُلَى والنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلُ أمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ، وَيُجَاهِدُونَ، وَيَتَصَدِّقُونَ، فَقَالَ: "ألا أحَدِّثُكُمْ بِأمْرٍ إنْ أخَذْتُمْ بِهِ أدْرَكتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أحَدٌ بَعْدَكُمْ، وَكُنْتُمْ خَير مَنْ أنتمْ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ، الَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ تُسَبِّحُونَ، وَتُحْمَدُونَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولم يجهر دائماً. وروى ابن القاسم عن مالك: أنّ رفع الصوت بالذكر عقب الجماعة محدث، كما أفاده العيني. ثانياًً: مشروعية الذكر بعد الصلاة كما ترجم له البخاري. والمطابقة: في قوله: " إنّ رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ".
382 - معنى الحديث: أن أبا هريرة رضي الله عنه: " قال: جاء الفقراء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم "، أي فاز أصحاب الأموال علينا بالمنازل العالية في الجنة، وحصلوا على ما لم نحصل عليه من نعيمها. وسبب ذلك أنهم " يصلون كما نصلّي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموال يحجون، ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدقون "، أي إنما سبقونا، وفازوا علينا؛ وأدركوا من الدرجات ما لم ندركه، لأنّهم شاركونا في العبادات البدنية، ولم نشاركهم في العبادات المالية، لأننا لا قدرة لنا عليها، حيث إننا لا نملك من المال ما يمكننا منها. فزادوا علينا في الأجر والثواب، بسبب زيادة أعمالهم " فقال - صلى الله عليه وسلم -: ألا أحدثكم بأمر إن أخذتم به أدركتم من سبقكم " أي: ألا أخبركم بشيء إن واظبتم عليه لحقتم بهؤلاء الأغنياء، وحصلتم على ثواب الحج والعمرة وغيرها من العبادات المالية، " ولم يدرككم أحد بعدكم "، أي لا يساويكم(2/219)
وَتُكَبرونَ خَلْفَ كُلِّ صلاةٍ ثَلاثاً وَثَلاِثينَ، فاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا، فَقَالَ، بَعْضُنَا: نُسَبِّح ثَلَاثاً وَثَلاثِينَ، وَنُحْمِّدُ ثَلَاثاً وَثَلَاثينَ، وَنُكَبَر أرْبَعاً وَثلَأثِينَ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: " تَقُولُ سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ وَاللهُ أكبَرُ، حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهُنَّ ثَلَاثاً وَثَلاثِينَ ".
383 - عَنِ الْمُغِيرَةِ بْن شُعْبَةَ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَقُولُ في دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: "لا إِلَهَ إلَّا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أحد في الثواب والأجر، " وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيهم " أي: وصرتم أفضل أهل زمانكم، " إلاّ من عمل مثله " أي: إلاّ من عمل مثل عملكم، ثم بين هذا العمل الذي يرفع من درجاتهم في قوله: " تسبحون، وتحمدون، وتكبرون خلف كل صلاة ". أي: بعد كل صلاة مكتوبة " ثلاثاً وثلاثين "، مرةً " قال الراوي: فاختلفنا بيننا " أي في كيفية هذا الذكر، هل يأتي بالتسبيح ثلاثاً وثلاثين، ثم بالتحميد مثل ذلك ... إلخ، أو يأتي بالمجموع ثلاثاً وثلاثين مرة. قال: " فرجعت إليه " أي: فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، " فقال: تقول سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون منهن كُلِّهِنَّ ثلاثاً وثلاثين مرة " ثم تختم بالتهليل. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
383 - معنى الحديث: يحدثنا المغيرة بن شعبة رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دبر كل صلاة " أي: بعد كل صلاة مكتوبة " لا إله إلاّ الله وحده، - لا شريك له، له الملك (1) ، وله الحمد (2) ، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت " لأن خزائن
__________
(1) أي له الملك الدائم، وكل ملك لغيره إلى زوال.
(2) أي وله الثناء الحقيقي ملكاً واستحقاقاً، لأنه المنفرد بالكمال المطلق.(2/220)
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، ولَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِير، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، ولا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ".
325 - " بَابٌ يَسْتَقْبِلُ الإِمَامُ النَّاسَ إِذَا سَلَّمَ "
384 - عَنْ سَمُرَةَْ بْنِ جُنْدُبَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
" كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا صَلَّى صَلَاةً أقبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأرزاق بين يديك تعطي وتمنع كما تشاء، " ولا ينفع ذا الجد (1) منك الجد " أي ولا يمنع الغني ماله من عذابك يوم القيامة، ولا يدفع عنه عقابك إن كان عاصياً. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
ويستفاد من الحديثين مما يأتي: أولاً: استحباب الذكر بعد الصلوات المكتوبة بالتسبيح والتحميد والتكبير ثلاثاً وثلاثين مرة، لأنّ ثوابه يعدل ثواب الصدقة والحج والعمرة. ثانياًً: أن من الأذكار المسنونة بعد الصلاة أن تقول لا إله إلاّ الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد. ثالثاً: فضل الغني الشاكر على الفقير الصابر إذا تساويا في العبادات البدنية. مطابقة الحديثين للترجمة: في قوله: " تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة " وقوله: " كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في دبر كل صلاة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... إلخ ".
325 - " باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم "
384 - معنى الحديث: يقول سمرة بن جندب رضي الله عنه:
__________
(1) وهو الغنى والمال الكثير.(2/221)
385 - عَنْ زَيْد بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِي (1) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّه قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الصبحِ بالْحُدَيْبِيَةِ علَى أثْر سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أقْبَلَ عَلَى النَّاس، فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ! قَالَ: "أصْبَحَ مِنْ عِبَادِيَ مُؤْمِن بِي وَكَافِر، فَأمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلّى صلاة أقبل علينا بوجهه " أي كان إذا صلّى صلاة مكتوبة، وفرغ منها، توجه إلينا، واستقبلنا بوجهه بعد سلامه.
الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.
385 - معنى الحديث: يقول زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه:
" صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية " بضم الحاء، وفتح الدال، وسكون الياء الأولى، وكسر الباء، وفتح الياء الثانية المخففة عند البعض والمشددة عند أكثر المحدثين. وهي قرية قريبة من مكة سمّيت " الحديبية " باسم بئرٍ فيها. " على إثر سماء كانت من الليل " أي صلَّى صلاة الصبح في الحديبية بعد مطر نزلت في تلك الليلة. " فما انصرف "، أي: فلما سلّم من صلاته، "أقبل على الناس" بوجهه الشريف، " فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم عز وجل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال " أي قال الله تعالى: " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر " أي أصبح الناس بالنسبة إلي نزول الأمطار على قسمين: قسم مؤمن بالله تعالى لا يشرك به شيئاً، وقسم كافر بوحدانية الله تعالى. " فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته " فأسند إنزال الأمطار حقيقة إلى الله تعالى " فذلك مؤمن بي " أي مؤمن بوحدانيتي "وكافر
__________
(1) زيد بن خالد: قال ابن الأثير: هو أبو طلحة، وقيل: أبو عبد الرحمن بن خالد الجهني، من جهينة بن زيد نزل الكوفة، روى عنه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعطاء بن يسار. مات بالكوفة سنة ثمانٍ وسبعين، ويقال: مات في آخر أيام معاوية، وهو ابن خمس وثمانين سنة، وقيل في وفاته غير ذلك.(2/222)
مُؤْمِن بِي وَكَافِر بالكَوْكَبِ، وَأمَّا مَنُ قَالَ: بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بالْكَوْكَبِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالكوكب وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب " أي: وأما من نسب الأمطار وغيرها من الحوادث الأرضية إلى تحركات الكواكب في طلوعها وسقوطها معتقداً أنّها الفاعل الحقيقي فهو كافرٌ مشرك في توحيد الربوبية. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
ومطابقة الحديثين للترجمة: في قوله: " أقبل علينا بوجهه " في الحديث الأول وقوله: " أقبل على الناس " في الثاني.
ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: أنه يسن للإمام بعد سلامه أن يتحول عن القبلة، ويستقبل المأمومين بوجهه، أما كيف يتحول يميناً أو يساراً فقد اختلف في ذلك أهل العلم، فذهبت المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه يتحول إلى جهة اليمين لما جاء في حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: " كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحببنا أن نكون عن يمينه، فيقبل علينا بوجهه ". أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي. وذهبت الحنفيّة إلى أنه يستحب له أن يتحول إلى جهة اليسار لما رواه مسلم عن ابن مسعود قال: " أكثر ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن شماله ". اهـ. كما أفاده في " المنهل العذب " (1) . ثانياً: أنّ إسناد الحوادث من مطر، وخصب، وجدب، وولادة، وموت إلى تقلبات الأنواء، مع اعتقاد فاعليتها حقيقةً كفر وشرك في ربوبية الله تعالى، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافرٌ بي مؤمن بالكوكب " وكذلك من اعتقد أنها مصدر السعد والنحس. قال ابن تيمية: "واعتقاد المعتقد أن نجماً من النجوم هو المتولّي
__________
(1) " المنهل العذب شرح سنن أبي داود " ج 4.(2/223)
326 - " بَابُ مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَذَكَرَ حَاجَةً فتخطَّاهُمْ "
386 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ، فَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ مُسْرِعَاً، فَتَخَطى رِقَابَ النَّاس إلى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، ففزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ، فخَرَجَ عَلَيْهِمْ فرأى أنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ، فَقَالَ: " ذَكَرْتُ شَيْئَاً مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أنْ يَحْبِسَنِي فأمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بسعده ونحسه اعتقاد فاسد وإن اعتقد أنه هو المدبر له فهو كافر (1) ..". اهـ.
326 - " باب من صلى بالناس فذكر حاجة فتخطاهم "
386 - معنى الحديث: يقول عقبة بن الحارث النوفلي رضي الله عنه: " صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة العصر، فسلم، ثم قام مسرعاً فتخطى رقاب الناس " أي تجاوزهم، " فرأى أنهم عجبوا من سرعته " أي فلاحظ أنهم قد تشوشوا من فعله هذا، فشرح لهم سبب ذلك، " فقال: ذكرت شيئاً من تبر عندنا " أي تذكرت وجود بعض الذهب في بيتي " فكرهت أن يحبسني "، أي أن يشغل بالي، " فأمرت بقسمته " أي فأحضرته لآمر بقسمته. الحديث: أخرجه النسائي أيضاً. والمطابقة: في قوله: " يتخطى رقاب الناس ".
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز تخطي الرقاب في المسجد لعذر شرعي كالرعاف وحرقة البول، والغائط، أو تذكر أمر هام. ثانياً: أن التفكير في الأمور الدنيوية لا يفسد الصلاة.
__________
(1) " الفتاوى الكبرى " لابن تيمية ج 1.(2/224)
327 - " بَابُ الانفِتَالِ والإِنصِرَافِ عَنِ اليمِينِ والشَّمَالِ "
387 - عن ابن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " لا يَجْعَلَنَّ أحَدُكُمْ لِلشيطَانِ شَيئَاً مِنْ صَلَاِتهِ يَرَى أن حَقَّاً عَلَيْهِ أن لا يَنْصَرِفَ إِلَّا عَنْ يَمِينهِ لَقَدْ رَأيت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَثِيراً يَنْصَرِفُ عَنْ يِسَارِهِ ".
328 - " بَابُ مَا جَاءَ في الثُّومِ النيءِ والْبَصَلِ وَالْكرَّاثِ "
388 - عنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ أكلَ ثُوماً أوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا، أوْ فلْيعْتَزِلْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
327 - " باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال "
387 - معنى الحديث: يقول ابن مسعود رضي الله عنه: " لا يجعل أحدم للشيطان شيئاً من صلاته " أي لا يمكِّن الشيطان من الوسوسة له بأشياء ليست مطلوبة شرعاً، ومن ذلك " أن يرى حقاً عيه أن لا ينصرف " من صلاته " إلاّ عن يمينه " أي يرى أنه يجب عليه إذا سلّم أن ينصرف إلى جهة يمينه " لقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما ينصرف عن يساره " أي رأيته كثيراً ينصرف من صلاته إلى الجهة اليسرى. الحديث: أخرجه الخمسة، ولم يخرجه الترمذي.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الانصراف من الصلاة يكون يميناً ويساراً. ثانياً: استدل به الحنفية على أنه يستحب للأمام أن ينصرف بعد السلام إلى يساره. والمطابقة: في قوله: " كثيراً ما ينصرف عن يساره ".
328 - " باب ما جاء في الثوم النِّيء (1) والبصل والكراث "
388 - معنى الحديث: يحدثنا جابر رضي الله عنه في هذا الحديث:
__________
(1) بالنون المشددة والياء المكسورة والهمزة وهو غير الناضج.(2/225)
مَسَاجِدَنَا، وَلَيَقْعُدْ في بَيْيهِ، وأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُول، فَوَجَدَ لَهَا رِيحاً فَسَألَ فَأخبر خْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ، فَقَالَ: قَرِّبُوهَا"
إلى بَعْضِ أصْحَابِهِ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أكْلَهَا قَالَ: كُلْ، فَإِنِّى أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
"أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا أو فليعتزل مساجدنا "، أي فليبتعد عن مجالسنا، أو لا يدخل مساجدنا، شك من الراوي، ويحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - نهي عن هذا وذاك، " وأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بقدر فيه خضرات "، أي قدم إليه قدر من طعام في داخله " خضرات " (بفتح الخاء وكسر الضاد) " من بقول " (1) ، أي بعض خضروات متنوعة مطبوخة، كالثوم، والكراث، والبصل، ونحوه " فوجد لها ريحاً " كريهةً، " فقال: قربوها إلى بعض أصحابه " أي فأمر بتقديمها إلى بعض أصحابه ليأكل منها، فكره أن يأكل مخافة أن تكون حراماً. " فلما رآه كره أكلها قال: كل " أي كل من هذه البقول فإنّها مباحةُ الأكل " فإني أناجي من لا تناجي " فإنما امتنعت عنها، وتركت أكلها لا لحرمتها، ولكن لأني أكلِّم الملائكة الذين لا تكلّمهم أنت، فلا تقس نفسك عليَّ. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
ويستفاد منه: أنه يكره دخول المسجد لكل من أكل من البقول الكريهة الرائحة كالثوم، والبصل، والكراث، ما دامت رائحتها موجودة في فمه.
أمّا مجرد أكلها فإنها طعام حلال مباح الأكل شرعاً، وإنما يكره أكلها لمن أراد دخول المسجد، أو مقابلة من يتأذّى برائحتها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإني أناجي من لا تناجي ". مطابقة الحديث للترجمة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا، أو فليعتزل مساجدنا، والله أعلم ".
__________
(1) البقول في الأصل النباتات التي لا ساق لها كالثوم والكراث والبصل.(2/226)
329 - " بَابُ خرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ باللَّيْلِ وَالْغلْسِ "
389 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا اسْتَأذَنَكُمْ نِسَاؤكُمْ باللَّيْل وإلى المَسْجِدِ فَأذَنُوا لَهُنَّ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
329 - " باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس "
389 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد " أي: في الذهاب إلى المسجد في الليل، " فأذنوا لهن "، وفي رواية أخرى عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " أخرجه مالك في " الموطأ ". وقوله " بالليل " هذا القيد في البخاري ومسلم فقط، ولم يذكره - صلى الله عليه وسلم - أكثر الرواة عن حنظلة كما أفاده القسطلاني وزيادة الثقة مقبولة. الحديث: أخرجه الشيخان.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يستحب لولي المرأة من زوج أو غير إذا استأذنته في الخروج إلى المسجد أن يأذن لها، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب " فأذنوا لهن ". والأمر للندب كما قال البيهقي، ولكن ذلك مندوب إذا أمِنَ الفتنة. أما إذا خشي فتنةً أو وقوع مفسدة، فلا يأذن لها، لأن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح. ثانياً: أن قوله: " بليل " يدل على اختيار الأوقات المناسبة لخروجها إلى المسجد، كوقت العشاء، أو الصبح، حيث ينتشر الظلام فيسترها، فيأمن الناس من فتنتها، وذلك لزيادة الاحتياط والاطمئنان. وقد أجمع فقهاء الإِسلام على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " صلاتكن في داركن أفضل "، واختلفوا في جواز حضورها لصلاة الجماعة. فقالت المالكية: إن كانت شابة وخيف منها الفتنة حرم عليها الحضور. وقالت(2/227)
الشافعية: إن كانت مشتهاة حَرُم عليها الحضور ولو في ثياب رثة، ومثلها غير المشتهاة إذا تزينت وتطبت، وإن كانت عجوزاً غير مشتهاة ولا متزينة ولا متعطرة جاز لها (1) . والمطابقة: في قوله: " فأذنوا لهن ".
***
__________
(1) وقال ابن قدامة: " يباح لهن حضور الجماعة، لأن النساء كن يصلين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقيد ذلك بغير الحسناء.(2/228)
بسم الله الرحمن الرحيم
" كتاب الجُمُعَةِ "
والجمعة: بضم الميم على المشهور، وحكى الواحدي إسكان الميم وفتحها، ويذكر بعض المؤرخين أنْ هذه التسمية قديمة منذ العصر الجاهلي، وأن أول من سماه " الجمعة " قُصَيُّ بن كلاب، فقد جمع قريشاً وقال: هذا يوم الجمعة. والراجح: أنه كان يسمى يوم العروبة، وأوّل من سماه بذلك كعب بن لؤي، كما أفاده الحافظ، ولما جمع أسعد بن زرارة الناس فيه لصلاة أول جمعة بالمدينة سُمِيّ يوم الجمعة، فهي تسمية إسلامية، كما جزم به ابن حزم. وأما صلاة الجمعة: فإنها شرعت بمكة، ولم تصل إلاّ بالمدينة، قال الشبرخيتي (1) : فرضت صلاة الجمعة بمكة، ولم يصلها النبي لعدم تمكنه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك. وأوّل جمعة أقيمت هي التي أقامها أسعد بن زرارة بالمدينة بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل قدومه - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أنه رضي الله عنه جمع في هذا اليوم أربعين رجلاً، وصلاها بهم، وقال: هذا يوم الجمعة، فكانت أوّل جمعة جمعت بالمدينة في بني بياضة حيث بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير أميراً على المدينة، وأمره بإقامة صلاة الجمعة، فنزل على أسعد بن زرارة، فأخبره بصلاة الجمعة وأمره أن يصليها بالناس. أما أول جمعة صلّاها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كانت بعد هجرته، حيث أدركته عند نزوله من قباء إلى المدينة، فصلاها في موضع المسجد المعروف بمسجد الجمعة، عند بستان الشربتلية. وخطب
__________
(1) " شرح الشبرخيتي على متن خليل ".(2/229)
330 - " بَابُ فَرْضِ الْجُمُعَةِ "
390 - عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُِ:
أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " نَحْنُ الآخِرُونَ، السَّابِقُونَ يَوْمَ لْقِيَامَةِ، بَيْدَ أنَّهُمْ أوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمْ الذي فرَضَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيها خطبة بليغة، استهلها بقوله: " الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه، وأؤمن به ولا أكفره " وأوصى فيها المسلمين بالتمسك بالتقوى. وختمها بقوله: " فأكثروا ذكر الله، وأعملوا لما بعد الموت، فإنه من أصلح ما بينه وبين الله يكفيه ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس، ولا يقضون عليه، ويملك من الناس، ولا يملكون منه، الله أكبر ولا قوة إلّا بالله العِّلي العظيم " (1) .
330 - " باب فرض الجمعة "
390 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " نحن الآخرون، السابقون يوم القيامة " أي: نحن معشر الأمة المحمدية وإن تأخرنا عن غيرنا من اليهود والنصارى في الزمن، فقد تقدمنا عليهم في الشرف والقدر والمنزلة، وكان لنا عليهم السبق يوم القيامة، لأنّ هذه الأمة أول من يحشر، وأول من يحاسب، وأول من يدخل الجنة. " بيد أنّهم أوتوا الكتاب قبلنا "، أي فلم يسبقونا بشيء إلاّ بكونهم أعطوا التوراة والإِنجيل قبل أن نعطى القرآن، وليس هذا بفضيلة لهم، لأن كتابنا مهيمن على كتبهم، وشريعتنا ناسخة لشرائعهم " ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم " أي ثم إنّ هذا اليوم الذي هو يوم الجمعة كان هو اليوم الذي شرعه الله عيداً لهم وفرضه عليهم، كما
__________
(1) " تاريخ الطبري ".(2/230)
اللهُ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللهُ لَهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، الْيَهُودُ غَداً، والنَّصَارى بَعْدَ غَدٍ".
331 - " بَابُ الطِّيبِ لِلْجُمُعَةِ "
391 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فرضه علينا، " فاختلفوا فيه " ولم يقوموا به، ولم يجعلوه عيداً لهم كما فرض عليهم. قال النووي: ويمكن أنهم أمروا به صريحاً، فاختلفوا هل يلزم تعينه أم يسوغ لهم إبداله بيوم آخر، فاجتهدوا في ذلك فأخطئوا " فهدانا الله له " أي: فوفقنا الله إلى تعظيمه وإقامة الجمعة فيه كما أُمرنا " فالناس لنا فيه تبع اليهود غداً والنصارى بعد غد " أي فأعيادهم بعد عيدنا، فاليهود عيدهم السبت، والنصارى الأحد.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن صلاة الجمعة فرض عين على كل ذكر مسلم بالغ مستوف للشروط المقررة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فرض الله عليهم " أي فرضه الله عليهم وعلينا. ثانياًً: أن الجمعة عيد المسلمين، والسبت عيد اليهود، والأحد عيد النصارى. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فرض الله عليهم " أي عليهم وعلينا.
331 - " باب الطيب للجمعة "
391 - معنى الحديث: يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: " أشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي أخبركم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبراً أكيداً صادراً عن يقين وعلم قاطع، أنه - صلى الله عليه وسلم - "قال: الغسل يوم الجمعة واجب على كل(2/231)
محْتَلِم، وَأنْ يَسْتَنَّ، وأنْ يَمسَّ طِيبَاً إِنْ وَجَدَ، قَالَ عَمْروٌ: أما الْغسْل فَأشْهَدُ أنَّه وَاجِب، وَأمَّا الإِسْتِنَاْن وَالطِّيْب، فالله أعْلَم أوَاجِب هوَ أمْ لا! ولكِنْ هكَذا في الْحَدِيثِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
محتلم" أي الغسل يوم الجمعة حتم على كل ذكر بالغ من المسلمين مطلقاً، جامع أو لم يجامع، أجنب أو لم يجنب، ولكن يخرجه من الوجوب حديث سمرة ابن جندب رضي الله عنه: " من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فهو أفضل " أي من اكتفى يوم الجمعة بالوضوء فقد أخذ بالرخصة؛ وأجزأه الوضوء؛ ونعمت الرخصة، ومن اغتسل، فالغسل أفضل لأنه سنة مستحبة " وأن يستن " أي: وأن يستاك، من الاستنان وهو الاستياك، " وأن يمس طيباً إن وجد " أي: وأن يتطّيب بأي رائحة عطرية، والجملتان معطوفتان على الجملة الأولى. " قال عمرو" وهو عمرو بن سليم وهو راوى الحديث عن أبي سعيد " أما الغسل فأشهد أنه واجب " واستدل البعض بقوله: واجب على فرضيته وقد حكاه ابن المنذر، وهو قول أهل الظاهر " أما الاستنان والطيب فالله أعلم أواجب هو أم لا! ولكن هكذا في الحديث " وإنما توقف في ذلك لأنه تردد في العطف، هل معناه التشريك في كل شيء حتى الوجوب أم لا.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استدل به ابن حزم على فرضية الغسل والطيب والسواك يوم الجمعة على الرجال والنساء، أفاده العيني. والجمهور على أن الغسل والطيب والسواك يوم الجمعة سُنَّة لا واجب. وروى مالك في " الموطأ " عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: " غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم كغسل الخبابة " أي كغسل الجنابة في الوجوب عند أبي هريرة لأنّ مذهبه وجوب الغسل حقيقة يوم الجمعة. قال في "أوجز(2/232)
المسالك": نقل ابن المنذر الوجوب عنه. وعن عمار بن ياسر، وهو قول الظاهرية، ورواية عن الإمام أحمد، قاله الزرقاني، ونسب صاحب " الهداية " ذلك إلى مالك، وكذا ذكر النووي في " شرح مسلم ": أن ابن المنذر حكى الوجوب عن مالك (1) ، لكن كتب المالكية صريحة في ذكر الاستحباب. قال في " الاستذكار ": لا أعلم أحداً أوجب الغسل للجمعة إلاّ أهل الظاهر، وروى ابن وهب عن مالك أنه سئل عن غسل الجمعة: أواجب هو؟ قال: سنة، قيل له: في الحديث إنه واجب، قال: ليس كل ما جاء في الحديث يكون كذلك، وروى أشهب عن مالك أنّه سئل عن غسل الجمعة أواجب هو؟ قال: حسن، وليس بواجب. وقال في " مختصر خليل ": " وَسُنَّ غُسْل مُتَّصِلٌ بِالروَاحِ " فعلم من ذلك أن الغسل عند المالكية ليس بواجب، وهو نص الإمام مالك كما تقدم، وقال الحافظ: " وحكاه أي الوجوب ابن المنذر والخطابي عن مالك "، وقال القاضي عياض وغيره: ليس ذلك بمعروف في مذهبه وقال ابن دقيقَ العيد: " قد نص مالك على وجوبه فحمله من لم يمارس مذهبه على ظاهره، وأبي ذلك أصحابه، والرواية عن مالك بذلك في " التمهيد " وكذلك ما في كتب الحنابلة هو غير الوجوب قال في " نيل المآرب ": الأغسال المستحَبَّة ستة عشر غسلاً، آكدها الغسل لصلاة جمعةِ في يومها. وفي " الروض المربع ": ويسن أن يغتسل في يومها لخبر عائشة رضي الله عنها " لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا " إلَّا أن ابن القيم قال في " زاد المعاد ": الناس في وجوبه ثلاثة أقوال النفي والإثبات والتفصيل بين من به رائحة يحتاج إلى إزالتها فيجب عليه، ومن هو مستغن عنه فيستحب له، والثلاثة لأصحاب أحمد، فعلم أنّ المسألة فيما بينهم خلافية، لكن المشهور في متونهم عدم الوجوب كما تقدم، واختلفوا فيما بينهم في أنّه مستحب أو سنة مؤكدة، وما ورد من الأوامر
__________
(1) " أوجز المسالك شرح موطأ مالك " للشيخ محمد زكريا الكاندهلوي ج 2.(2/233)
332 - " بَابُ فضلِ الْجُمُعَةِ "
392 - عَن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ، ثُمَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وألفاظ الوجوب إمّا محمول على التأكيد، أو على النسخ (1) . اهـ. ثانياً: مشروعية " الطيب للجمعة " كما ترجم له البخاري وهو واجب عند بعض الظاهرية (2) ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستن، وأن يمس طيباً " حيث عطف مسَّ الطيب على الغسل، والمعطوف على الواجب واجب، وذهب الجمهور إلى أنه سنة مؤكدة، وحملوا لفظ الوجوب على التأكيد أو على النسخ كما في الغسل. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " وأن يمس طيباً ".
332 - " باب فضل الجمعة " (3)
392 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة " أي غسلاً شرعياً كغسل الجنابة لا غسل تبرد واستحمام، أو غسلاً مترتِّباً عن الجنابة بأن جامع واغتسل، لحديث أوس رضي الله عنه أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " من اغتسل يوم الجمعة وغسل، وبكر وابتكر، ودنا واستمع وأنصت، كان له بكل خطوة يخطوها عمل سنة، أجر صيامها وقيامها " أخرجه أصحاب السنن. قال وكيع: معنى قوله " اغتسل وغسل " أي: اغتسل هو وغسل امرأته، يعني أحوجها إلى الاغتسال بسبب مجامعته لها "ثم
__________
(1) " أوجز المسالك شرح موطأ مالك " ج 1.
(2) قال في " الفتح الرحماني ": وقد كان أبو هريرة يوجب الطيب، ولعله وجوب سنة أو أدب. اهـ. كما في " أوجز المسالك " ج 2.
(3) قال العيني: هذه تشمل صلاة الجمعة ويوم الجمعة.(2/234)
رَاحَ فكأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأنمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأنمَا قَرَّبَ كَبْشَاً أقْرَنَ، ومنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فكأنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، ومَنْ رَاحَ في السَّاقَي الْخَامِسَةِ فَكَأنمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَ خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرتِ الْمَلائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
راح" أي في الساعة الأولى "فكأنما قرّب بدنة" أي: فكأنما تصدق ببدنة، وهي الذكر أو الأنثى من الإِبل " ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن " أي له قرنان، وهو أفضل وأكمل " ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإِذا خرج الإِمام حضرت الملائكة " أي دخلت الملائكة المسجد، وحضرت فيه "يستمعون الذكر" أي: الخطبة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: فضل يوم الجمعة، وصلاة الجمعة وتمييزها بملائكة مخصوصين، يقفون على أبواب المساجد، يسجلون ثواب الحاضرين إلى الجمعة على حسب أوقات حضورهم. ثانياًً: استحباب الاغتسال لصلاة الجمعة لأنه - صلى الله عليه وسلم - رتب ثواب الصدقة المذكورة عليه فقال: " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة ". ثالثاً: استحباب التبكير لصلاة الجمعة لأن الثواب متفاضل بحسب التبكير إليها، فمن حضر إلى المسجد في الساعة الأولى كان ثوابه أكثر ممن حضر إليه في الثانية، وهكذا. والمراد بالساعات الخمسة عند الجمهور الساعات الزمنية المعروفة. وقال مالك: هي لحظات تبدأ بالزوال وتنتهي بجلوس الإِمام على المنبر. الحديث: أخرجه الستة.
والمطابقة: في كون الحديث يدل على أنّ من حضر الجمعة يجمع بين العبادة البدنية والمالية كما أفاده العيني.(2/235)
333 - " بَابُ الدُّهْنِ لِلْجُمُعَةِ "
393 - عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِي (1) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لا يَغْتَسِلُ رَجُل يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيتَطَهَّرُ ما اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، أوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فلا يُفَرِّقُ بَيْن اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ إِلَّا غُفِرَ لَهُ ما بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأخْرىَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
333 - " باب الدهن للجمعة "
393 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر " أي لا يغتسل المسلم غسلاً شرعياً كاملاً ويبالغ في تنظيف جسمه، فيقلم أظفاره، وينتف إبطه، ويحلق عانته " ويدّهن " بتشديد الدال " من دهنه " بضم الدال أي: يدهن شعر رأسه " أو يمس من طيب بيته " يعني أو يتطيب بما تيسر له، " ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين " في المسجد إلَّا بإذنهما " ثم يصلّي ما كتب له " من النوافل أو سنة الجمعة كما أفاده العيني، " ثم ينصت إذا تكلم الإِمام إلَّا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى " أي إِلَّا غفر له ما بين الجمعتين الماضية والحاضرة.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب دهن الشعر بالزيت يوم الجمعة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ويدهن من دهن بيته " وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًً: أنه يسن غسل الجمعة لمن لم يكن جنباً، لأنه سبب للمغفرة. ثالثاً: مشروعية الإِنصات إلى الخطبة، وهو واجب كما سيأتي. والمطابقة: في قوله: " ويدهن من دهنه "
__________
(1) سلمان الفارسي: هو أبو عبد الله سلمان الفارسي، ويقال: سلمان الخير، مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أصله من فارس. أسلم لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إِلى المدينة، وهو أحد الذين اشتاقت إليه الجنة، ولاه عمر المدائن، مات بالمدائن سنة خمس وثلاثين، وقيل مات في زمن عمر.(2/236)
334 - " بَابُ يَلْبَسُ أحْسَنَ مَا يَجِدُ "
394 - عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أنَّهُ رَأى حُلَّةً سِيرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لوِ اشْتَرَيت هَذهِ فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ، فَقاَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لا خَلَاقَ لَهُ في الآخِرَةِ"، ثُمَّ جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهَا حُلَل، فَأعْطى عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ مِنْهَا حُلَّةً، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ كَسَوْتَنِيهَا، وَقَدْ قُلْتَ في حُلَّةِ عُطَارَدٍ ما قُلْتَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي لَم أكْسُكَهَا لِتَلْبِسَهَا "، فَكَسَاهَا عُمَرُ أخاً لَهُ بِمَكَّة مُشْرِكَاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: يدهن شعر رأسه بالزيت. الحديث: أخرجه البخاري والنسائي.
334 - " باب يلبس أحسن ما يجد "
394- معنى الحديث: يحدثنا عمر رضي الله عنه " أنه وجد حُلَّة سِيراء (1) عند باب المسجد فقال: يا رسول الله لو اشتريت هذه "، أي أنه رأى كساءً من حرير معروضاً للبيع عند باب المسجد، فعرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشتريه ليتجمل به يوم الجمعة، ولكن رسول الله رفض أن يشتريه لأنه من حرير، وأنكر لبسه للرجال، " فقال: إنما يلبس هذه " من الرجال " من لا خلاق في " أي من لا نصيب له من الخير ولا حظ له في نعيم الجنة، وهم الكفار فلا تشبهوا بهم، " ثم جاءت رسول الله منها حلل " أي ثم وصلت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الحلل المنسوجة من الحرير، "فأعطى عمر بن الخطاب
__________
(1) بكسر السين قالوا: ولا تكون الحلة إلا من ثوبين وقوله: حلة سيراء بالاضافة كقولهم: ثوب خز.(2/237)
335 - " بَابُ السِّوَاكِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ "
395 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَوْلا أَنْ أشُقَّ عَلَى أمَّتِي -أَوْ عَلَى النَّاس- لأَمَرْتُهُمْ بالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
منها حلّة، فَقال عمر: يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد ما قلت" أي كيف تهديها في لألبسها، وقد استنكرت حلة عطارد التي عرضتها عليك لأنّها من حرير، " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنّي لم أكسكها لتلبسها " أي إني لم أعطها لك لتلبسها، وإنما لتستفيد منها. " فكساها عمر أخا له " من أمه " بمكة " أي مقيماً بمكة " مشركاً " وهو عثمان بن حكيم.
ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يسن التجمل يوم الجمعة بأحسن الثياب كما ترجم له البخاري لقول عمر: لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة، ولحديث أبي سعيد رضي الله عنه " من الحق على المسلم إذا كان يوم الجمعة السواكُ وأن يلبس من صالح ثيَابه وأن يطّيب بطيبٍ ". ثانياً: تحريم الحرير على الرجال. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " لو اشتريت هذه فلبستها ".
335 - " باب السواك يوم الجمعة "
395 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرضهم بالسواك مَعَ كل صلاة " قال العلامة الدهلوي: أي لولا خوف الحرج لجعلت السواك شرطاً للصلاة كالوضوء، وقال العيني: المعنى: لولا مخافة أن أشق عليهم لأمرتهم -به- أمر إيجاب. ومعنى قوله " مع كل صلاة " أي قبل الشروع(2/238)
396 - عنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أكثَرْتُ عَلَيْكُمْ في السِّوَاكِ ".
336 - " بَابُ مَا يُقْرأُ في صَلَاةِ الْفَجرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ "
397 - عن أبي هُرَيْرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:
"كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرأ في الْجُمُعَةِ في صَلَاةِ الْفَجْرِ (الم (1) تَنْزِيلُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في أي صلاة فرضاً كانت أو نفلاً، ويندرج في عموم ذلك صلاة الجمعة.
الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " مع كل صلاة " فيدخل في ذلك الجمعة كما أفاده العيني.
396 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " أكثرت عليكم في السواك " أي: أمرتكم بالسواك في أحاديث كثيرة. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: من حيث إن المبالغة في الأمر بالسواك يقتضي دخول يوم الجمعة.
ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: مشروعية المواظبة على السواك عند كل صلاة، وأنه سنة مؤكدة عند القيام، وقبل تكبيرة الإِحرام، كما يستحب عند الوضوء، وقراءة القرآن، والانتباه من النوم، وتغير الفم. وروي عن إسحاق وداود الظاهري أن السواك واجب لورود الأمر به في حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " عليكم بالسِّواك " أخرجه أحمد. ولكنِ حديث الباب نص صريح في عدم وجوبه، لأنه كما قال الشافعي لو كان واجباً لأمرهم به، شق عليهم أو لم يشق. ثانياً: أنه يسن السواك يوم الجمعة كما ترجم له البخاري حيث إنه داخل في عموم هذه الأحاديث، والله أعلم.
336 - " باب ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة "
397 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "كان(2/239)
وَ (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ) ".
337 - " بَابُ الْجُمُعَةِ في الْقُرَى وَالمُدُن "
398 - عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
" إِنَّ أولَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمعةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ في مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْس بِجُواثَى مِنَ البَحْرينِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الجمعة في صلاة الفجر (الم (1) تَنْزِيلُ) و (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ) إلخ " أي يواظب على قراءة هاتين السورتين في فجر الجمعة.
الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.
ويستفاد منه: استحباب قراءة (ألم) السجدة (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ) في فجر الجمعة، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق، وروى ابن وهب عن مالك أنه لا بأس بذلك. وفي رواية أشهب أنه كرهه إلاّ أن يكون من خلفه قليلاً لا يخاف أن يخلط عليهم فيركعوا عند سجوده. وكره الحنفية قراءة شيء من القرآن مؤقتاً السجدة أو غيرها كما أفاده العيني، وقال الطحاوي: إنما يكره إذا رأى القراءة بغيرها مكروهة أما إذا قرأها تأسياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فلا كراهة. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في فجر الجمعة بسورة (ألم) السجدة و (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ) .
337 - " باب الجمعة في القرى والمدن "
398 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " إنَّ أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله في مسجد عبد القيس " أي أن أول جمعة اجتمع عليها المسلمون وشهدها الناس بعد الجمعة التي صلاها الصحابة لأول مرة في المسجد الشريف بالمدينة هي الجمعة التي أقيمت في(2/240)
338 - "بَابُ هَلْ عَلَى مَنْ يَشْهَدِ الْجُمُعَةَ غُسْل مِنَ النِّسَاءِ والصبيَانِ وَغَيْرِهِمْ "
399 - عنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
سمِعْتُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ جَاءَ مِنْكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مسجد عبد القيس القبيلة العربية " بجواثي " بضم الجيم وتخفيف الواو والثاء المثلثة والقصر " بالبحرين " أي في قرية جواثى الواقعة في البحرين. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود.
ما يستفاد من الحديث: ويستفاد منه مشروعية إقامة الجمعة في القرى إذا كان فيها أربعون رجلاً مقيمين، وهو مذهب الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا تصح الجمعة إلاّ في مصرٍ جامعٍ، وفي مصلى المصر، ولا تجوز في القرى، وتجوز في منى إذا كان الأمير أمير الحج، أو كان الخليفة، وقال مالك: كل قرية فيها جماعة وسوق فالجمعة واجبة كما أفاده العيني. والمطابقة: في كون الجمعة أقيمت بجواثى وهي قرية.
338 - " باب هل على من يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم "
399 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من جاء منكم الجمعة " أي كل من أراد منكم أن يشهد صلاة الجمعة " فليغتسل " أي فإنّ عليه أن يغتسل، وهو مأمور بذلك شرعاً على وجه الندب والاستحباب، لا على سبيل الفرض والإِيحاب، سواء كان ممن تجب عليه الجمعة، أو ممن لا تجب عليه كالنساء والصبيان مثلاً.
ويستفاد منه: أنه يسن لمن أراد أن يشهد الجمعة من النساء والصبيان(2/241)