قال في ((المصباح)) : ((الملأ - مهموز -: أشراف القوم، سموا بذلك لملاءتهم بما يلتمس عندهم من المعروف، وجودة الرأي؛ لأنهم يملؤون العيون أبهة، والصدور هيبة)) (1) .
وقال الراغب: ((الملأ: جماعة يجتمعون على رأي، يملؤون العيون، رواءً ومنظراً، والنفوس بهاء وجلالاً)) (2) .
وجاء هذا اللفظ في كتاب الله - تعالى - كثيراً.
((إذ جاءه رجل، فقال: هل تعلم أحداً أعلم منك)) كأن هذا الرجل أعجبه ما سمعه من موسى - عليه السلام - من العلم، فدعاه ذلك إلى هذا السؤال، ويدل لذلك ما ذكره في ((التفسير: ((أن موسى ذكر الناس يوماً، حتى إذا فاضت العيون، ورقت القلوب ولَّى، فأدركه رجل فقال: أي رسول الله، هل في الأرض أحد أعلم منك؟)) (3) .
وفي ((صحيح مسلم)) : ((بينما موسى - عليه السلام _ في قومه، يذكرهم بأيام الله - وأيام الله: نعماؤه - إذ قال: ما أعلم في الأرض رجلاً خيراً، أو أعلم، مني)) (4) .
((فأوحى إلى موسى: بلى، عبدنا خضر)) قال الحافظ: ((ظاهر هذا أن الخضر نبي، بل نبي مرسل، إذ لو لم يكن كذلك للزم تفضيل العالي على الأعلى، وهو باطل)) .
_________
(1) (2/797-798) .
(2) ((المفردات)) (ص473) .
(3) انظر ((الفتح)) (8/441) .
(4) ((مسلم)) (4/1850) .(2/294)
ثم قال: ((والحق أن المراد بهذا الإطلاق تقييد الأعلمية بأمر مخصوص؛ لقوله بعد ذلك: ((إني على علم من علم الله علمنية، لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه الله، لا أعلمه)) ، والمراد بكون النبي أعلم أهل زمانه: أي: ممن أرسل إليهم، ولم يكن موسى مرسلاً إلى الخضر، فلا نقص على موسى إذا كان الخضر أعلم منه.
ومن أوضح ما يستدل به على نبوة الخضر: قوله تعالى: {وَمَا فَعَلتُهُ عَن أَمرِي} وينبغي اعتقاد كونه نبياً؛ لئلا يتذرع بذلك أهل الباطل في دعواهم أن الولي أفضل من النبي)) (1)
وهذا لا يكفي لاعتقاد كونه نبياً، بل يجب الاعتماد على الأدلة الشرعية، وقوله: {وَمَا فَعَلتُهُ عَن أَمرِي} دليل على أنه فعله عن أمر الله بالوحي إليه، ومن يوحى إليه فهو نبي.
((فسأل موسى السبيل إلى لقيه)) أي: سأل ربه أن يدله على الطريق إليه، ويهيئ له أسباب ذلك.
((فجعل له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه)) .
جاء بيان ذلك في الرواية الأخرى، أنه حمل حوتاً بمكتل، ووكل موسى - عليه السلام - ذلك إلى غلامه، وقال له: إذا فقدته فأخبرني، فنزلا مكاناً فيه صخرة على سيف البحر، فاضطرب الحوت ودخل البحر، ونسي الغلام أن يخبر موسى، حتى تعبا، وقبل ذلك لم ينلهما تعب، عند ذلك ((قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا، لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً، قال: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباً)) يعني: الحوت كان طريقه يقف الماء عنه فيبقى لا ماء فيه.
_________
(1) ((الفتح)) (1/219-220) .(2/295)
((قال موسى: ذلك ما كنا نبغي)) أي: هو الذي نريد، حيث جعل فقد الحوت علامة لنا على وجود الخضر.
((فارتدا على آثارهما قصصاً)) أي: رجعا يتبعان آثارهما ويقصانها، فلما وصلا الموضع الذي فقدا فيه الحوت وجدا خضراً، وكان من شأنهما ما قص الله)) .
يعني: من خرق السفينة، وإقامة الجدار بدون أجر، وقتل الغلام.
وقد اختصر البخاري الحديث، ولم يذكر محل الشاهد منه، وهو قوله: ((ستجدني إن شاء الله صابراً)) فوعد بأنه يصبر على ما يراه منه، وأن يطيع أمره، وعلق ذلك بمشيئة الله - تعالى - وهو عازم على ذلك، ولكن الله - تعالى - لم يشأ لموسى الصبر على ما يراه من الخضر، فلم يصبر.
فمهما كان عند المخلوق من القوة والعزم، فإنه لا يستطيع فعل شيء إلا أن يشاء الله - تعالى -.
*****
105 - قال: ((حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري.
وقال أحمد بن صالح: حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ننزل غداً إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر - يريد المحصب -)) .
ذكر هذا الحديث في كتاب الحج بلفظ يوضح ما هنا، حيث قال: ((قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغد يوم النحر - وهو بمنى -: نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر - يعني بذلك المحصب - وذلك أن قريشاً وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب، أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فهذا هو تقاسمهم على الكفر، وفي هذا أن هذا القول وهو بمنى في اليوم(2/296)
الثاني عشر، وذلك في حجة الوداع. ويخالفه ما في الفضائل: ((قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين أراد حنيناً: ((منزلنا غداً – إن شاء الله – بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر)) (1) .
وفي أخرى: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((منزلنا إن شاء الله إذا فتح الله، الخيف، حيث تقاسموا على الكفر)) فهذه والتي قبلها صريحتان في أن ذلك في فتح مكة، ولهذا قال بعض العلماء بتعدد هذا القول منه – صلى الله عليه وسلم – في غزوة الفتح، وفي حجة الوداع، فإنه - صلى الله عليه وسلم - نزل هناك بعد ما خرج من منى)) (2) .
((وكان تقاسمهم على الكفر في أول يوم من محرم السَّنة السابعة من البعثة كما ذكر ذلك أصحاب المغازي والسيرة، وذلك لما رأت قريش أن الصحابة الذين هاجروا قد وجدوا أرضاً أمنوا فيها الافتتان والأذية، وأن أمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – يقوي ويزداد ظهوراً، فقد دخل في الإسلام عمر بن الخطاب، وفشا الإسلام في القبائل، لذلك اجتمع رأيهم على أن يقتلوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
فبلغ ذلك أبا طالب، فجمع بني هاشم، وبني عبد المطلب، فأدخلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شعبهم، ومنعوه ممن أراد قتله. لذلك كتبت قريش عهداً بينهم بمقاطعة بني هاشم، وبني عبد المطلب، بأن لا يبايعوهم، ولا يناكحوهم، ولا يتعاملوا معهم، وكتبوا ذلك في صحيفة، وعلقوها بالكعبة.
قال ابن إسحاق: فأقاموا على ذلك ثلاث سنين، حتى اشتد الأمر عليهم، فسعى في نقض هذا العهد بعض رجالات قريش، فهذا هو تقاسمهم على
_________
(1) انظر ((الفتح)) (7/192) .
(2) انظر ((الفتح)) (8/14) .(2/297)
الكفر)) (1) .
قال الحافظ: ((ويختلج في خاطري أن ما بعد قوله: ((يعني: المحصب)) مدرج من كلام الزهري)) .
والخيف بسكون الياء: ما ارتفع من الوادي قليلاً من مسيل الماء، ولا يكون إلا بين جبلين، ومنه مسجد الخيف بمنى؛ لأنه في خيف الجبل، والأصل: مسجد خيف منى، فخفف (2) .
وكنانة: هو ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وهو الجد الرابع عشر للنبي – صلى الله عليه وسلم -، وأولاد كنانة أربعة: النضر، ومالك، وعبد مناف، وملكان.
والنضر: هو قريش، فما كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي، ولذلك قال في الحديث: ((إن قريشاً وكنانة تحالفت على بني هاشم وبن عبد المطلب)) .
وقيل: قريش هو: فهر بن مالك بن الضر بن كنانة، فمن كان من ولد فهر فهو قرشي، وإلا فليس بقرشي، والله أعلم (3)
والمقصود من الحديث قوله: ((ننزل غداً إن شاء الله)) حيث علق ما هو عازم على فعله، وقد توافرت أسباب ذلك لديه على مشيئة الله – تعالى – فإنه لو شاء لجعل الممكن الميسور عسيراً ممتنعاً، وليس قول ذلك لمجرد التبرك، بل لأن حصول ذلك مشروط بمشيئة الله – تعالى -.
*****
_________
(1) المصدر السابق (7/192) .
(2) انظر ((المصباح)) (1/254) .
(3) انظر ((مختصر السيرة)) لابن هاشم (1/96) .(2/298)
106 – ((حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن أبي العباس، عن عبد الله بن عمر قال: حاصر النبي – صلى الله عليه وسلم – أهل الطائف فلم يفتحها، فقال: ((إنا قافلون غداً إن شاء الله)) ، فقال المسلمون: نقفل ولم نفتح؟ قال: ((فاغدوا على القتال)) ، فغدوا، فأصابتهم جراحات، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إنا قافلون غدا إن شاء الله)) فكأن ذلك أعجبهم، فتبسم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -)) .
الحصار: هو المنع أن يخرج أحد منهم، أو يدخل إليهم شيء، والتضييق عليهم. وكان ذلك بعد فراغه - صلى الله عليه وسلم - من غزوة حنين، وتحصن الكفار بالطائف، فرأى - صلى الله عليه وسلم - أنهم يحتاجون إلى مطاولة، وهم أهل رماية، فقد ينالون من المسلمين ما لا يناله المسلمون منهم، ورجاء أن تفتح عليه بأقل من ذلك العناء، وأشفق على أصحابه، فقال: ((إنا قافلون غداً إن شاء الله)) وهذا عرض عليهم من باب المشاورة وإشراكهم في الرأي، كما هي عادته - صلى الله عليه وسلم -. ولهذا لم يلزمهم، ولما قالوا: نقفل ولم نفتح؟ قال: ((اغدوا على القتال)) ثم أعاد هذا القول من الغد بعد ما أمضوا يومهم ذلك في القتال، ولم يتحصلوا على طائل، وقد أصابتهم جراحات، ففرحوا بما قال رسولهم – صلى الله عليه وسلم – وعلموا أن الخير والبركة في رأيه، عند ذلك تبسم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما رأى فرحهم، وقد كانوا بالأمس قد كرهوا ذلك، تعجباً من سرعة تغير رأيهم، ولإجماعهم على تصويب ما رآه - صلى الله عليه وسلم - أولاً.
والمقصود منه قوله: ((إن شاء الله)) فقد أخبر أولاً بأنهم قافلون، معلقاً ذلك بمشيئة الله، فلم يحصل؛ لأن الله لم يشأ ذلك.
وفي المرة الثانية شاءه، فحصل بإيجاد الله له الأسباب التي جعلتهم يفرحون بذلك، وهكذا كل ما لا يريد الله – تعالى – حصوله، لا بد أن يوجد له من الأسباب ما يمنع وجوده، وبالعكس.
*****(2/299)
قال: ((باب قول الله - تعالى -: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (1) ولم يقل: ماذا خلق ربكم)) .
أخبر تعالى أنه المالك لكل شيء، وأنه لا يقع لأي فرد من خلقه ضر أو نفع إلا بإرادته وتدبيره، فهو المالك للشفاعة وغيرها، فلا تقع الشفاعة لديه إلا بإذنه، ولا تنفع إلا لمن رضي عمله وقوله، فهو - تعالى - لا يأذن في الشفاعة إلا فيمن رضي عمله، وهو لا يرضى إلا بعبادته الخالصة.
قال النووي: ((أهل السُّنَّة متفقون على وقوع الشفاعة، ودل عليه العقل والسمع، فقد ثبت ذلك في كتاب الله وسنة رسوله، كما في هذه وغيرها، والأحاديث فيها بلغت حد التواتر، وأجمعوا على وقوعها للمذنبين من أهل التوحيد، وإنما خالف
فيها أهل البدع، الذين سلكوا غير سبيل المؤمنين)) (2) .
قال في ((اللسان)) : ((فزع عنه)) أي: كشف عنه الخوف (3) .
وقال الأزهري: ((اتفق أهل التفسير، وأهل اللغة، أن معنى قوله: {فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} : كشف الفزع عن قلوبهم، وتأويل الآية: أن ملائكة سماء الدنيا كان عهدهم قد طال بنزول الوحي من السماوات، فلما نزل جبريل بالوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - أول ما بعث نبياً، ظنت الملائكة الذين في السماء الدنيا أن جبريل نزل لقيام الساعة، ففزعوا له، فلما تقرر عندهم أنه نزل لغير ذلك، كشف الفزع عن قلوبهم، فأقبلوا على جبريل ومن معه من
_________
(1) الآية 23 من سورة سبأ.
(2) انظر ((شرح مسلم)) للنووي (3/35) .
(3) (8/253) .(2/300)
الملائكة، وقالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} والذين فزع عن قلوبهم ها هنا ملائكة السماء الدنيا.
وقيل: إن ملائكة كل سماء، فزعوا لنزول جبريل، ومن معه من الملائكة، فقال كل فريق منهم لهم: ((ماذا أنزل ربكم؟)) (1) .
وهذه الآية لها تعلق بما قبلها، وهي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ {22} وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ} (2) .
قال ابن كثير: ((بين تعالى أنه الإله الواحد الأحد الذي لا نظير له، ولا شريك له، بل هو المستقل بالأمر وحده من غير مشارك، ولا منازع، ولا معارض، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ} أي: من الآلهة التي عبدت من دونه، {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} كما في الآية الأخرى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} (3) .
وقوله: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} أي: لا يملكون شيئاً استقلالاً، ولا على سبيل الشركة: {وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} أي: ليس لله من هذه الأنداد من ظهير يستظهر به في الأمور، بل الخلق كلهم فقراء إليه)) (4) .
والمقصود: أن الملائكة الذين سمعوا كلام الله يفزعون له خوفاً، ولم يفهموا كلامه من شدة فزعهم، فإذا ذهب فزعهم، أقبل بعضهم على بعض يتساءلون: ماذا قال ربكم؟ فيجيب المسؤولون، بأنه تعالى: قال الحق، فيقولون كلهم: قال الحق، وهو العلي الكبير. كما وضح ذلك في الأحاديث التي ذكر هنا بعضها.
_________
(1) تهذيب اللغة (2/145-146) .
(2) الآيتان 22، 23 من سورة سبأ.
(3) الآية 13 من سورة فاطر.
(4) ((تفسير ابن كثير)) (6/501) طبعة الشعب.(2/301)
ومراد البخاري – رحمه الله – من الآية: أنها تدل على أن لله كلاماً يتكلم به ويقوله بصوته، وأنه يسمع منه كما هو ظاهر الآية: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} ، وأن قوله صفة له تعالى، لا يكون مخلوقاً، كما زعم الضالون، ولهذا ذكر الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله ينادي بصوت، كما يأتي، وفي ذلك أبلغ دليل على بطلان قول المعتزلة، ومن تابعهم، على أن الله لا يتكلم بكلام يسمع منه، وإنما كلامه ما يخلقه في غيره، أو هو المعنى القائم في نفسه – تعالى الله عن قولهم – وأنه لا يكون بحرف وصوت يسمع، ((وكل ذي لب صحيح يعرف بالحس، والمشاهدة قبل الاستدلال أن القرآن العربي، حروف، ولا فرق بين منكر ذلك ومنكر الحواس، وأنها من مبادئ العلم وأسبابه المدارك)) (1) .
وما نقله الحافظ عن ابن بطال: من أن مراد البخاري: أن قول الله قديم لذاته قائم بصفاته، لم يزل موجودا ً به (2) ، ولا يزال كلامه لا يشبه [كلام] المخلوقين)) (3) إلى آخره.
فهو بعيد كل البعد عن مراد البخاري، بل هذا القول يدخل في قول من قصد البخاري الرد عليهم، ولكن ابن بطال يريد من البخاري أن يكون متفقاً معه في العقيدة، وبينهما مثل ما بين المشرق والمغرب.
قوله: ((ولم يقل ماذا خلق ربكم)) يشير بذلك إلى الرد على القائلين بخلق القرآن وغيره من كلام الله – تعالى – فالآية صريحة في إبطال قولهم.
قال الحافظ: ((هذا أول باب تكلم فيه البخاري على مسألة الكلام، وهي
_________
(1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/92) ، نقله عن أبي نصر السجزي.
(2) هكذا في النسخة التي عندي، وأظن الصواب: ((موصوفاً به)) .
(3) ((الفتح)) (13/453) .(2/302)
طويلة الذيول)) (1) .
قال: ((وقال جل ذكره: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (2) .
وهذا استفهام إنكار، ينكر تعالى على من يزعم أن أحداً يشفع عنده بدون إذنه، كما هو المعهود في الدنيا لدى العظماء، فإن الشفاعة عندهم تحصل بدون إذنهم.
أما رب العالمين فلعظمته وتمام ملكه، لا يستطيع أحد أن يقدم على الشفاعة عنده، مهما كان مقامه، حتى يأذن له، كما تقدم في حديث الشفاعة قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فأستأذن على ربي، فإذا رأيته خررت له ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ويفتح علي من المحامد والثناء، ثم يقول: ارفع رأسك وقل يسمع، واشفع تشفع)) وفيه: ((فيحد لي حداً، فيقول: هؤلاء اشفع فيهم)) فعاد الأمر كله لله وحده، كما قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ {43} قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا (3) } .
والشاهد من الآية للباب قوله: {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} فإن الإذن يكون بالقول المسموع، الذي يسمعه المأذون له على الأقل.
وأما قول الحافظ فيما ظنه: ((أن البخاري أشار بهذه الآية إلى ترجيح أن الضمير في قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} للملائكة)) (4) إلى آخره، وأن فاعل الشفاعة في قوله: ((ولا تنفع الشفاعة عنده)) هم الملائكة، فهو بعيد عن مراد البخاري، وإن كان هذا الذي ذكره هو الصواب في كون الضمير للملائكة، وفاعل الشفاعة هم.
_________
(1) ((الفتح)) (13/454) .
(2) الآية 255 من سورة البقرة.
(3) الآيتان 43، 44 من سورة الزمر.
(4) انظر ((الفتح)) (13/456) .(2/303)
((وقال مسروق: عن ابن مسعود: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئاً، فإذا فزع عن قلوبهم، وسكن الصوت، عرفوا أنه الحق، ونادوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق)) .
قال الحافظ: رواه أحمد موصولاً، ولفظه: ((أن الله – عز وجل – إذا تكلم بالوحي، سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسة على الصفاء، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاءهم جبريل، فزع عن قلوبهم، قال: ويقولون: يا جبريل، ماذا قال ربكم؟ قال: فيقول: الحق، قال: فينادون: الحق، الحق)) (1) .
ورواه البخاري موصولاً في ((خلق أفعال العباد)) (2) .
وقال أبو داود: ((حدثنا أحمد بن أبي سريج الرازي، وعلي بن الحسين بن إبراهيم، وعلي بن مسلم، قالوا: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا تكلم الله بالوحي، سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفاء، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، حتى إذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم، قال: فيقولون: يا جبريل، ماذا قال ربك؟ فيقول: الحق، فيقولون: الحق، الحق)) (3) .
وقال ابن جرير: ((حدثني زكريا بن أبان المصري، قال: حدثنا نعيم، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي زكريا، عن جابر بن حيوة، عن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله
_________
(1) ((الفتح)) (13/456) .
(2) انظر (193) ((مجموع عقائد السلف)) .
(3) ((سنن أبي داود)) (5/106) كتاب السّنَّة.(2/304)
– صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أراد الله أن يوحي بالأمر، تكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة، أو قال: رعدة شديدة، خوف أمر الله، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا، وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير، قال: فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره الله)) (1) .
وبهذه الأحاديث يتبين معنى قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} أن هذا الفزع الذي يصيبهم من شدة خوفهم من الله – تعالى -، عندما يسمعون صوت السماء، ويعملون أن ذلك الصوت الذي هو كجر السلسلة على الصفاء هو رعدة السماوات، وخوفها من الله لما سمعت كلامه بالوحي، فعند ذلك تصعق الملائكة خوفاً أن يكون الله – تعالى- أمر بقيام الساعة التي يجازي عز وجل فيها كل عامل بعمله، هذا مع قيامهم بأمر الله وطاعته، وعظيم عبادتهم له، يخافون هذا الخوف الشديد، فكيف بمن يبارز الله – تعالى – بالمعاصي؟
وفي هذه الأحاديث ونحوها الدلالة الواضحة بأن الله يتكلم بكلام تسمعه السماوات ومن فيهن، من الملائكة، وأن كلامه لا يشبه كلام خلقه، وأن من أنكر كلام الله، فليس معه إلا مجرد الوهم وشُبَه الشيطان الباطلة.
وفيها إثبات الصوت لله – تعالى – وأن صوته لا يشبه صوت العباد كما سيأتي.
*****
107 – قال: ((ويذكر عن جابر، عن عبد الله بن أنيس، قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((يحشر الله العباد، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: ((أنا الملك، أنا الديان)) .
_________
(1) ((تفسير الطبري)) (12/91) . وقال ابن كثير: رواه ابن أبي حاتم وابن خزيمة، انظر ((تفسير ابن كثير)) (6/504) .(2/305)
هذا الحديث ذكره في مواضع من ((صحيحه)) ، مرة بصيغة الجزم، ومرة بصيغة التمريض، وقد رواه في ((الأدب المفرد)) مسنداً مرفوعاً، حيث قال: ((حدثنا موسى، قال: حدثنا همام، عن القاسم بن عبد الواحد، عن ابن عقيل، أن جابر بن عبد الله حدثه، أنه بلغه حديث عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فابتعت بعيراً، فشددت إليه رحلي شهراً، حتى قدمت الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فبعثت إليه، أن جابراً بالباب، فرجع الرسول فقال: جابر بن عبد الله؟ فقلت: نعم، فخرج فاعتنقني. قلت: حديث بلغني لم أسمعه، خشيت أن أموت أو تموت.
قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يحشر الله العباد - أو الناس - عراة، غرلاً، بهما. قلنا: ما بهما؟ قال: ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد - أحسبه قال: كما يسمعه من قرب -: أنا الملك، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة، قلت: وكيف، وإنما نأتي الله عراة بهما؟ قال: بالحسنات والسيئات)) (1) .
قوله: ((يحشر الله العباد)) الحشر: الإخراج والجمع. قال الراغب: ((الحشر: إخراج الجماعة عن مقرهم، وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها، وروي ((النساء لا يحشرن)) أي: لا يخرجن إلى الغزو، ويقال ذلك في الإنسان وغيره، ولا يقال: الحشر، إلا في الجماعة، قال تعالى: {فَأرسَلَ فِرعَوَنُ فيِ المَدَائِنِ حَاشِرِينَ} .
_________
(1) انظر ((الأدب المفرد) (ص337) ، ورواه الحاكم في ((المستدرك)) (3/438) و (4/574-575) ، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الذهبي، ورواه أحمد في ((المسند)) (3/495) ، والخطيب في ((الرحلة)) (109-117) ، قال الحافظ: وأخرجه الطبراني وأبو يعلى. انظر ((الفتح)) (13/457) ، وأخرجه غيرهم، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه.(2/306)
وقال تعالى: {وَالطَّيرَ مَحشُوَرَةً كُلُ لَّهُ أَوَّابُُ} ، {وَإِذَا الوُحُوشُ حُشِرَتْ} ، {وَإِذَا حُشِرَ النَاسُ} ، {فَسَيَحَشُرُهُم إِلَيهِ جَمِيعًا} وسمي يوم القيامة: يوم الحشر، كما سمي يوم البعث، ويوم النشر)) (1) .
لأن الله – تعالى – يحيي كل من مات من خلقه، فيجمعهم في مكان واحد ليحاسبهم، فيجزيهم بعملهم.
قوله: ((فيناديهم بصوت)) النداء لا يكون إلا بصوت، ولا يعرف الناس نداء بدون صوت، فذكر الصوت هنا لتأكيد النداء، وهذا في غاية الصراحة والوضوح في أن الله يتكلم بكلام يسمع منه تعالى، وأن له صوتاً، ولكن صوته لا يشبه أصوات خلقه، ولهذا قال:
((يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب)) فهذه الصفة تختص بصوته تعالى، وأما أصوات خلقه فيسمعها القريب منها فقط، حسب قوة الصوت وضعفه، وقد كثرت النصوص المثبتة لذلك، منها ما ذكره البخاري – رحمه الله – في هذا الباب، ومنها ما ذكره الله – تعالى – في كتابه في أكثر من عشرة مواضع، بلفظ النداء الذي لا يكون إلا بصوت.
منها قوله تعالى: {ِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا} (2) .
وقوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} (3) .
وقوله: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (4) .
وقوله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ
_________
(1) ((المفردات)) (119-120) .
(2) الآية 22 من سورة الأعراف.
(3) الآية 52 من سورة مريم.
(4) الآية 10 من سورة الشعراء.(2/307)
حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {8} يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) } يعني: أن المنادي هو الله العزيز الحكيم.
وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (2) أي: ناداه تعالى بهذا القول: ((يا موسى إني أنا الله رب العالمين)) .
ومنها: قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} (3) .
وقوله في السورة أيضاً {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (4) }
وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} (5) .
وقوله: {َ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} (6) .
وقوله: {َ هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى {15} إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (7) }
فهذه عشرة مواضع كلها صريحة في أن الله ينادي، منها ما وقع في الدنيا، ومنها ما سيقع يوم القيامة.
وليس مع من ينكر نداء الله، وأنه تعالى يسمع من يشاء من خلقه نداءه،
_________
(1) الآيتان 8، 9 من سورة النمل.
(2) الآية 30 من سورة القصص.
(3) الآية 62 من سورة القصص.
(4) الآية 74 من سورة القصص.
(5) الآية 65 من سورة القصص.
(6) الآية 47 من سورة فصلت.
(7) الآيتان 15، 16 من سورة النازعات.(2/308)
إلا مجرد الوهم والقياس الفاسد، الناتج عن الأفكار المضللة.
قال البخاري – رحمه الله -: ((ويذكر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يحب أن يكون الرجل خفيض الصوت، ويكره أن يكون رفيع الصوت، وأن الله – عز وجل – ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب.
فليس هذا لغير الله – جل ذكره – وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق؛ لأن صوت الله – جل ذكره – يسمع من بعد كما يسمع من قرب، وأن الملائكة يصعقون من صوته، فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا. وقال – عز وجل -:
{فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً} (1) فليس لصفة الله ند، ولا مثل، ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين)) (2) .
((قال الخلال: وأخبرنا المروذي: سمعت أبا عبد الله، وقيل له: إن عبد الوهاب قد تكلم، وقال: من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله، وعدو للإسلام: فتبسم أبو عبد الله، وقال: ما أحسن هذا، عافاه الله)) (3) .
و ((قال الخلال في ((السُّنَّة)) : أخبرنا علي بن عيسى أن حنبلاً حدثهم، قال: إن أبا عبد الله يقول: من زعم أن الله لم يكلم موسى، فقد كفر بالله، وكذب القرآن ورد على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أمره، يستتاب من هذه المقالة، فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
قال: وسمعت أبا عبد الله قال: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكلِيماً} فأثبت الكلام لموسى كرامة منه لموسى، ثم قال يؤكد كلامه: {تَكلِيماً} .
_________
(1) الآية 22 من سورة البقرة.
(2) ((خلق أفعال العباد)) (ص1992) ، ((مجموع عقائد السلف)) .
(3) ((شرح الأصفهانية)) ، رسالة دكتوراه (ص193) .(2/309)
قلت لأبي عبد الله: الله – عز وجل – يكلم عبده يوم القيامة؟ قال: نعم، فمن يقضي بين الخلائق إلا الله – عز وجل -؟ يكلم عبده، ويسأله.
الله متكلم لم يزل يأمر بما يشاء، ويحكم، وليس له عدل ولا مثيل، كيف شاء، وأنى شاء. أخبرنا محمد بن علي بن بحر، أن يعقوب بن بختان حدثهم، أن أبا عبد الله سئل عمن زعم أن الله لم يتكلم بصوت، فقال: بلى، تكلم بصوت، وهذه الأحاديث كما جاءت نرويها، لكل حديث وجه، يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله لم يكلم موسى فهو كافر.
قال شيخ الإسلام: ((قلت: وهذا الصوت الذي تكلم الله به ليس هو الصوت المسموع من العبد، بل ذلك صوت العبد كما هو معلوم لعامة الناس.
وقد نص على ذلك الأئمة، أحمد وغيره، فالكلام المسموع من العبد حال تلاوته القرآن هو كلام الله، لا كلام غيره، كما قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ} (1) .
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلا م ربي، فإن قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي)) رواه أبو داود وغيره (2) .
وقال: ((زينوا القرآن بأصواتكم)) (3) ، وقال: ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) (4) .
_________
(1) الآية 6 من سورة التوبة.
(2) انظر ((السنن)) (4/324) .
(3) انظر ((سنن أبي داود)) (2/99) ، والنسائي (2/139) ، وابن ماجه (2/246) ، والدرامي (2/474) ، وأحمد في ((المسند)) (4/283، 285) .
(4) ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/38-40) .(2/310)
((وقال أبو نصر السجزي: ((فأما الله – تعالى – فإنه متكلم فيما لم يزل، ولا يزال، إذا شاء ذلك، ويكلم من يشاء تكليمه بما يعرفه [المخاطب] ولا يجهله، وكلامه أحسن الكلام، وفيه سور، وآي، وكلمات، وكل ذلك حروف، وهو المسموع منه على الحقيقة سماعاً يعقله الخلق، وجائز وجود أعداد من المكلمين يكلمهم في حال واحدة، يما يريده من كل واحد منهم، من غير أن يشغله تكليم هذا عن تكليم هذا)) (1) .
وقال أيضا: ((لما وجدنا أحكام الشريعة المتعلقة بالكلام منوطة بالنطق الذي هو حرف وصوت، دون ما في النفس، علمنا أن حقيقة الكلام هو الحرف والصوت.
فلو حلف امرؤ أنه لا يتكلم ساعة من النهار، فأقام في تلك الساعة يحدث نفسه بأشياء، ولا ينطق بها، كان باراً، غير حانث.
ولو كان الكلام هو ما في النفس، حنث في أول ما يحدث به نفسه)) (2) .
وقال أيضا: (فالله – تعالى – قد بين في كتابه ما كلامه، وبين ذلك الرسول – صلى الله عليه وسلم – واعترف به الصدر الأول والسلف الصالح، فقال الله - تعالى-: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ} (3) ، وقال: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآن} ِ (4) ، والمستجير لا يسمع إلا كلاماً ذا حروف، والقارئ لا يقرأ إلا كلاماً ذا حروف.
ولما سمى تعالى هذا القرآن كلامه، علم أن كلامه حروف، وقد أكد ذلك بذكر الحروف المقطعة في أوائل السور ... {كَهيعص} ونحوها.
_________
(1) المصدر السابق (ص88) ملخصاً.
(2) ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) لأبي نصر، رسالة ماجستير (ص176) .
(3) الآية 6 من سورة التوبة.
(4) الآية 20 من سورة المزمل.(2/311)
فمن زعم أن هذه الحروف ليست من القرآن فهو كافر، ومن قال: إنها من القرآن، والقرآن ليس كلام الله، فهو كافر، ومن زعم أنها عبارة عن الكلام الذي لا حروف فيه، فهو جهل وغباء؛ لأن ذلك لا يعرف، والنبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من قرأ القرآن، فله بكل حرف عشر حسنات، لا أقول: ((الم)) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف، وبهذا يتبين أن القرآن سور، وآيات، وحروف، وهكذا كلام الله)) (1) .
وقال أيضاً: ((الأصل الذي يجب أن يعلم: أن اتفاق التسميات لا يوجب اتفاق المسمَّيْن بها، فنحن إذا قلنا: إن الله موجود، رؤوف، واحد، حي، عليم، سميع، بصير، متكلم، وقلنا: إن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان موجوداً، حيا، عالماً، سميعاً، بصيراً، متكلماً، لم يكن ذلك تشبيهاً، ولا خالفنا به أحداً من السلف، والأئمة.
بل الله موجود لم يزل، واحد، حي، قديم، قيوم، عالم، سميع، بصير، متكلم فيما لم يزل، ولا يجوز أن يوصف بأضداد هذه الصفات.
والموجود منا إنما وجد من عدم، وحين ينقضي أجله ثم يصير ميتاً يزول ذلك المعنى، وعلم بعد أن لم يعلم، وقد ينسى ما علم وسمع وأبصر وتكلم بحوارح تلحقها الآفات.
فلم يكن فيما أطلق للخلق تشبيه بما أطلق للخالق – سبحانه وتعالى – وإن اتفقت مسميات هذه الصفات)) (2) .
((وقد بين الله في كتابه أن الكلام لا يكون إلا بصوت وحروف، قال تعالى: {وَإِذ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} والعرب لا تعرف نداء إلا صوتاً.
_________
(1) ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص186) ، رسالة ماجستير.
(2) ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/89-90) .(2/312)
وقد جاء عن موسى تحقيق ذلك، فإن أنكروا الظاهر كفروا، وإن قالوا إن النداء غير صوت خالفوا لغات العرب.
وإن قالوا: نادى الأمير إذا أمر بالنداء، دفعوا فضيلة موسى – صلى الله عليه وسلم – المختصة به من تكليم الله إياه بذاته، من غير واسطة، ولا ترجمان.
وليس في وجود الصوت من الله – تعالى – تشبيه بمن يوجد الصوت منه من الخلق، كما لم يكن في إثبات الكلام له تشبيه بمن له كلام من خلقه، وكلام الله حروف، وأصوات بحكم النص)) (1) .
((والله – تعالى – لم يزل متكلماً إذا شاء، وإذا شاء تكلم بصوت يسمع، وبحروف، وكل ما قام بذات الله – تعالى – فليس بمخلوق، سواء كان قديما أو حادثاً، وكلامه – تعالى – وفعله متعلق بمشيئته وإرادته، هذا قول أهل السُّنَّة والجماعة.
قال عبد الله ابن الإمام أحمد: ((سألت أبي عن قوم يقولون: لما كلم الله موسى، لم يتكلم بصوت؟ فقال أبي: بلى تكلم بصوت، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت.
وقال أبي: حديث ابن مسعود: ((إذا تكلم الله سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان)) .
قال أبي: وهذا الجهمية تنكره، قال أبي: وهؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله لم يتكلم فهو كافر)) (2) .
وقال أيضا: ((حدثني أبي: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن
_________
(1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/93) .
(2) ((كتاب السُّنَّة)) (ص70) .(2/313)
الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله: ((إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء فيخرون سجداً، حتى إذا فزع عن قلوبهم، قال: سكن عن قلوبهم، نادى أهل السماء، ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، قال: كذا وكذا)) (1) .
وقال أبو يعلى بعد أن ذكر هذا الحديث وغيره: ((اعلم أن هذه الأخبار تدل على أن كلام الله – تعالى – بحرف وصوت، لا كحروف الآدميين وأصواتهم، كما أن له علماً وقدرة لا تشبه صفات الآدميين، وقد نص أحمد في رواية الجماعة على إثبات الصوت)) (2) ، وكلام أهل العلم من السلف وأتباعهم في هذا كثير.
قوله: ((أنا الملك أنا الديان)) يعني: أن النداء الذي يسمعه أهل الموقف كلهم يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، هو بهاتين الكلمتين: ((أنا الملك أنا الديان)) ، فهو تعالى الملك الذي بيده ملك السماوات والأرض، ومن فيهن، وهو الديان الذي يجازي عباده بعملهم، من عمل خيراً جازاه بأفضل مما عمل، ومن عمل شراً جازاه بما يستحق.
وفي هذا الحديث دليل على أن بعض أهل الموقف أقرب إلى الله من بعض.
ودل على هذا المفهوم آيات من كتاب الله، وأحاديث ثابتة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذيِنَ عِندَ رَبّكَ لاَ يَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِهِ} ، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْملُونَ العَرشَ وَمَن حَولَهُ} ، ونحو ذلك، وعند الذين ضلوا في هذا الباب، الخلق بالنسبة إلى الله سواء بالقرب والبعد، وكفى بذلك ضلالاً أنه مخالف لكتاب الله وسنة رسوله، وللفطر والعقول.
*****
_________
(1) المصدر المذكور (71) ، رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) (ص194) ، مجموع عقائد السلف.
(2) ((إبطال التأويل)) ، مخطوط (ص304) .(2/314)
108 – قال: ((حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، عن أبي هريرة يبلغ به النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على الصفوان)) .
قال علي: وقال غيره: ((صفوان ينفذهم ذلك، فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، وهو العلي الكبير)) .
قوله: ((إذا قضى)) المراد بالقضاء هنا: الأمر بالشيء، والحكم، بأن يتكلم آمراً ملائكته، كما في حديث ابن مسعود المتقدم، وحديث النواس بن سمعان: إذا تكلم الله بالوحي.
قوله: ((ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله)) صريح بأن الملائكة تسمع قوله: ولا يعقل شيء يدركه السمع إلا ما كان بصوت وحروف.
هذا هو مراد البخاري – رحمه الله – أن كلام الله يسمع منه؛ لأنه يتكلم حقيقة، والكلام الحقيقي الذي يسمع لا بد أن يكون بصوت وحروف، وهذا الذي فهمه صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – منه، وهو الذي أراد منهم فهمه، وكذا فهمه أتباعه إلى اليوم.
((خضعاناً)) مصدر لخضع، كغفران مصدر لغفر، والمعنى: أن الملائكة تخضع لله عند سماع كلامه، وتستكين، فتضرب بأجنحتها من الخضوع.
والصفوان هي الحجارة الكبيرة الصلبة.
قوله: ((ينفذهم ذلك)) يعني: أن الصوت المذكور يبلغهم كلهم ويسمعونه.
قوله: ((قال سفيان: قال عمرو: سمعت عكرمة، حدثنا أبو هريرة بهذا، قلت لسفيان: قال: سمعت عكرمة ... )) إلى آخره. يقصد بيان أن عكرمة قد صرح بالتحديث، فينتفي احتمال التدليس.(2/315)
قوله: ((فزع)) قال سفيان: هكذا قرأ عمرو، فلا أدري سمعه هكذا أم لا. قال سفيان: ((وهي قراءتنا)) .
هذه القراءة بضم الفاء وبالراء المهملة المشددة، وبالغين المعجمة، قال في إتحاف فضلاء البشر: ((قي قراءة الحسن)) (1) .
وعمرو المذكور هو ابن دينار.
قوله: ((فلا أدري سمعه هكذا أم لا)) أي: سمعه من عكرمة، أو قرأها كذلك من قبل نفسه بناء على أنها قراءته.
وقول سفيان: هي قراءتنا، يريد نفسه، ومن تابعه (2) .
قال الحافظ بعد أن ذكر عدة روايات تتعلق بهذا الحديث، سجود الملائكة عند سماعهم صوت الوحي من الله، قال: ((فهذه الأحاديث ظاهرة جداً في أن ذلك وقع في الدنيا، بخلاف قول بعض المفسرين الذين أقدموا على الجزم بأن الضمير في قوله: ((عن قلوبهم)) للكفار، وأن ذلك يقع يوم القيامة، مخالفين لما صح من الحديث النبوي، من أجل خفاء معنى الغاية في قوله: ((حتى إذا فزع عن قلوبهم)) .
وما قاله هو الذي يجب أن يعتمد، ولا يلتفت إلى غيره؛ لأن الأحاديث أوضحته غاية الإيضاح.
****
109 - قال: ((حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أنه كان يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أذن الله لشيء ما أذن للنبي يتغنى بالقرآن)) وقال صاحب له: يريد: يجهر به)) .
_________
(1) انظر (ص360) ، والحسن هو البصري.
(2) انظر ((الفتح)) (3/459) .(2/316)
قال ابن كثير: ((معناه: أن الله – تعالى – ما استمع لشيء كاستماعه لقراءة نبي يجهر بقراءته ويحسنها، وذلك أنه يجمع في قراءة الأنبياء طيب الصوت؛ لكمال خلقهم، وتمام الخشية، وذلك هو الغاية في ذلك.
وهو سبحانه وتعالى يسمع أصوات العباد كلهم، برهم فاجرهم، كما قالت عائشة – رضي الله عنها -: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات)) .
ولكن استماعه لقراءة عباده المؤمنين أعظم، كما قال: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} (1) ثم استماعه لقراءة أنبيائه أبلغ، كما دل عليه هذا الحديث العظيم.
ومنهم من فسر الإذن ها هنا بالأمر، والأول أولى؛ لقوله: ((ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن)) أي: يجهر به، فالأذن: الاستماع؛ لدلالة السياق عليه، وكما قال تعالى: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ {1} وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} فالإذن هنا الاستماع، ولهذا جاء في حديث رواه ابن ماجه بسند جيد، عن فضالة بن عبيد، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لله أشد أذناً إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن، من صاحب القينة إلى قينته)) .
وقول سفيان بن عيينة: إن المراد بالتغني: يستغني به، فإن أراد أنه يستغني به عن الدنيا – وهو الظاهر من كلامه – فخلاف الظاهر من مراد الحديث؛ لأنه فسره بعض رواته بالجهر، وهو تحسين القراءة، والتحزين بها)) (2) .
ثم قال: ((والمراد من تحسين الصوت بالقرآن: تطريبه، وتحزينه، والتخشع به، كما رواه بقي بن مخلد، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله
_________
(1) الآية 61 من سورة يونس.
(2) ((فضائل القرآن)) لابن كثير (ص116) .(2/317)
– صلى الله عليه وسلم – ذات يوم: ((يا أبا موسى، لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك البارحة)) قلت: أما – والله – لو علمت أنك تسمع قراءتي لحبرتها لك تحبيراً)) (1) .
ومن تأمل الأحاديث الواردة في ذلك تبين له أن معنى قوله: ((يتغنى بالقرآن)) : تحسين الصوت وتزيينه بما يستطيع القارئ، والتغني لا يكون إلا بالكلام ذي الحروف، كما أن الاستماع لا يكون إلا للكلام المصوت به، وهذا هو وجه استدلال البخاري بهذا الحديث.
فالقرآن الذي يحب الله من عبده أن يتغنى به، ويحب استماعه إليه في ذلك، ينطق به بالحروف ويصوت به.
والله – تعالى – قد تكلم به بصوت نفسه، وبهذه الحروف المكتوب بها.
((وذكر الطبري)) عن الشافعي، أنه سئل عن تأويل ابن عيينة: ((التغني بالاستغناء)) فلم يرتضه، وقال: ((لو أراد الاستغناء، لقال: يستغني وإنما أراد تحسين الصوت)) ويؤيده ما في رواية الطبري: ((ما أذن لنبي في الترنم في القرآن)) .
وفي رواية عبد الرزاق: ((ما أذن لنبي حسن الصوت)) ، وهو عند مسلم.
وفي رواية للطحاوي: ((حسن الترنم بالقرآن)) .
قال الطبري: الترنم لا يكون إلا بالصوت، إذا أحسنه القارئ، وطرب به، ولو كان معناه: الاستغناء، لما كان لذكر الصوت والجهر معنى)) .
ولا نعلم في كلام العرب ((تغنى بمعنى استغنى، ولا في أشعارهم)) .
_________
(1) المصدر السابق (ص122) .(2/318)
ومثل ذلك قال الإسماعيلي، وقال: الاستغناء لا يحتاج إلى استماع؛ لأن الاستماع أمر خاص، زائد على الاكتفاء به، والاكتفاء به عن غيره أمر واجب على الجميع، ومن لم يفعل ذلك خرج عن الطاعة.
وقال عمر بن شبة: ذكرت لأبي عاصم النبيل: تفسير ابن عيينة – يعني: يستغني به – فقال: لم يصنع شيئاً، حدثني ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، قال: كان داود – عليه السلام – يتغنى – يعني: حين يقرأ – ويَبكي ويُبكي.
وظواهر الأخبار ترجح أن المراد: تحسين الصوت بالقراءة، ويؤيده قوله: ((يجهر به)) فإن كان ذلك مرفوعاً قامت الحجة، وإن كان غير مرفوع، فالراوي أعرف بمعنى الخبر من غيره، ولا سيما إذا كان فقيهاً.
وقد جزم الحليمي بأن ذلك من قول أبي هريرة، والعرب تقول: سمعت فلاناً يتغنى بكذا، أي: يجهر به، قال ذو الرمة:
أحب المكان القفر من أجل أنني به أتغنى باسمها غير معجم
يعني: أجهر بذكر اسم حبيبتي من غير تورية.
والحاصل: أنه يمكن الجمع بين أكثر التأويلات المذكورة.
وهو أنه يحسن به صوته، جاهراً به، مترنماً، على طريق التحزن، مستغنياً به عن غيره من الأخبار، طالباً به غنى النفس، راجياً به غنى اليد)) (1) .
قلت: في هذا الجمع نظر، فإن الرسول – صلى الله عليه وسلم – أراد بذلك معنى معيناً، وظواهر أقواله في ذلك أنه أراد تحسين الصوت، وكذا التحزن الذي يستجلب به الخشوع ومحبة القرآن والإقبال إلى استماعه.
_________
(1) ((فتح الباري)) (9/72) .(2/319)
ولا يلزم الجمع بين التأويلات، بل كل تأويل خالف النص يجب رده على من قاله.
قال الحافظ: ((ولا شك أن النفوس تميل إلى سماع القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم؛ لأن للتطريب تأثيراً في رقة القلب، وإجراء الدمع. ولا خلاف بين السلف في استحباب تحسين الصوت بالقراءة، وتقديم حسن الصوت على غيره.
وإنما اختلفوا في التلحين، بين مانع ومجيز.
والذي يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقراءة مطلوب، فإن لم يكن حسناً فليحسنه ما استطاع، كما قال ابن أبي مليكة، أحد رواة الحديث، أخرج ذلك عنه أبو داود بإسناد صحيح.
ومن جملة تحسينه: أن يراعي فيه قوانين النغم، فإن الحسن الصوت يزداد بذلك حسناً، وإن خرج عنها أثر ذلك في حسنه.
وغير الحسن ربما انجبر بمراعاتها، ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات، فإن خرج عنها لم يفِ تحسين الصوت بقبح الأداء.
ولعل هذا مستند من كره القراءة بالأنغام؛ لأن الغالب على من راعى الأنغام أن لا يراعي الأداء، فإن وجد من يراعيهما معاً، فلا شك أنه أرجح من غيره، لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين الصوت، ويتجنب الممنوع من حرمة الأداء. والله أعلم)) (1) .
******
110 – قال: ((حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا أبو صالح، عن أبي سعيد الخدري، قال:
_________
(1) ((الفتح)) (9/72) .(2/320)
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله - تعالى -: يا آدم، فيقول: لبيك، وسعديك، فينادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار)) .
قال محب الدين الطبري: ((لبيك: مصدر مثنى، للتكثير والمبالغة، ومعناه: إجابة بعد إجابة، ولزوماً لطاعتك.
وتثنيته للتوكيد، لا تثنية حقيقة، قال ابن الأنباري: ثنوا لبيك، كما ثنوا حنانيك، أي: تحنناً بعد تحنن)) (1) .
وقال ابن الأنباري: ((سمعت أبا العباس يقول: معنى قولهم: لبيك: أنا مقيم على طاعتك، وإجابتك، من قولهم: قد لبَّ الرجل في المكان وألبَّ، إذا أقام فيه، قال الشاعر:
محل الجهر أنت به مقيم ملب ما يزول ولا يريم
وقال الفراء: معنى لبيك: إجابتي لك يا رب، ونصب على المصدر، وثني؛ لأنه أراد إجابة بعد إجابة.
وقال آخرون: معناه: اتجاهي إليك، مأخوذ من قولهم: داري تلبُّ دارك، أي: تواجهها.
وقال آخرون: معناه: محبتي لك، من قولهم: امرأة لبَّة، إذا كانت محبة لولدها عاطفة عليه)) (2) ، ويذكر مثل ذلك الجوهري (3) .
_________
(1) ((القري)) (ص145) .
(2) ((الزاهر)) (1/197-198) ملخصاً.
(3) انظر ((الصحاح)) (15/336) .(2/321)
وقال الزمخشري: ((معنى لبيك: دواماً على طاعتك، وإقامة عليها مرة بعد أخرى، من ألب بالمكان: إذا أقام به، وألب على كذا: إذا لم يفارقه، ولم يستعمل إلا على لفظ التثنية في معنى التكرير، ولا يكون عامله إلا مضمراً، كأنه قال: ألب إلباباً بعد إلباب.
والتلبية من لبيك، بمنزلة التهليل من لا إله إلا الله)) (1) .
((وقال الخليل: هي من قولهم: دار فلان تلب داري، أي: تواجهها.
فيكون معناه: اتجاهي وقصدي إليك يا رب، مرة بعد أخرى.
وقيل: هي من قولهم: حب لباب، إذا كان خالصاً محضاً، ومنه: لب الطعام ولبابه، فعل هذا معناه: إخلاصي لك يا رب، مرة بعد أخرى.
وقيل: هو من الإلباب، أي: القرب: أي: قربي منك، وقيل: من قولهم: أنا ملب بين يديك، أي: خاضع)) (2) .
قوله: ((فينادي بصوت)) قال الحافظ: ((أكثر الرواة، رووه بكسر الدال - يعني رواة صحيح البخاري - قال: وفي رواية أبي ذر بفتحها على البناء للمجهول، ولا محذور في رواية الجمهور، فإن قرينة قوله: ((إن الله يأمرك)) تدل ظاهراً على أن المنادي ملك يأمره الله بأن ينادي بذلك)) (3) .
قلت: هذا مجانب للإنصاف، وبعيد عن ظاهر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل الظاهر أن المنادي هو الله - تعالى -.
والنداء صفة كمال، لا محذور فيه كما توهمه أهل التأويل الباطل.
_________
(1) ((الفائق)) (3/295) .
(2) ((القرى)) (ص145) .
(3) ((الفتح)) (13/460) .(2/322)
وقد ثبت بالنصوص الكثيرة اتصاف الله - تعالى - بالكلام، والنداء منه.
وأي محذور يخشاه هؤلاء الذين ينصبون أنفسهم لتحريف كلام الله وكلام رسوله، وصرفه عن الظاهر المراد منه، حتى عطلوه - تعالى-، حتى جعلوا المخلوق أكمل منه، ولذلك قالوا: المنادي ملك يأمره الله أن ينادي آدم، هذا مع وضوح الكلام وكونه يأبى هذا التحريف، فإنه قال: ((يقول الله: يا آدم، فينادي بصوت)) فقوله: ((فينادي بصوت)) تفسير لقوله: ((يقول الله: يا آدم)) ، وبيان له، ولكن الذين تأثروا بأصول الجهمية ظنوا أن اتصاف الله - تعالى - بالكلام حقيقة والنداء من التشبيه، فنفوا ذلك عن الله - تعالى - ظانين أن هذا قول أهل السُّنَّة فصار الأخذ بظاهر هذا النص ونحوه لا يجوز؛ لأنه عندهم على خلاف أصولهم، التي منها: نفي حقيقة الكلام عن الله - تعالى -، فوجب تأويله - كما زعموا -، والحق خلاف ظنهم.
ثم نقول: إذا كان الله - تعالى - ليس هو المنادي، وإنما يأمر ملكاً ينادي، نقول: بأي شيء يأمر الملك، وأنتم تقولون: لا يتكلم بكلام يسمع منه؟ أيكون أمره بالإشارة؟ وبذلك يكون الملك أكمل من رب العالمين.
أم يكون الأمر بأن يخلقه بقلبه؟ فإن قالوا ذلك فيلزم أن يكون الأمر صفة للملك؛ لأن ما كان مخلوقاً فيه فهو صفة له.
فالحق أن الله يتكلم بصوت مسموع يسمعه من شاء من عباده، وليس الصوت الذي يتكلم الله به قديماً كما يقوله بعض أهل البدع، بل لم يزل يتكلم متى شاء، وسيكلم عباده يوم القيامة ويحاسبهم، كما في حديث عدي بن حاتم: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان)) .
ولما علم أئمة الأشعرية القدماء أن الحروف والأصوات لا تكون قديمة العين، لم يمكنهم أن يقولوا: القديم هو الحروف، والأصوات؛ لأنها لا تكون إلا متعاقبة.(2/323)
والصوت عرض، لا يبقى زمانين إلا بواسطة ما يمسكه كشريط التسجيل ونحوه، فلذلك قالوا: القديم معنى واحد، لامتناع معانٍ لا نهاية لها عندهم، وهذا هو أصلهم الذي بنوا عليه مذهبهم الباطل.
((والاختلاف في القرآن والكلام، هل هو حرف وصوت أو غير ذلك؟ محدث حدث في حدود المائة الثالثة، وانتشر في المائة الرابعة.
فإن ابن كلاب والأشعري ونحوهما لما ناظروا المعتزلة في إثبات الصفات، وأن القرآن ليس مخلوقاً، وأنه لا يمكن أن يكون قديماً إلا أن يكون معنى قائماً بنفس الله، كعلمه.
وزادوا: إن الله لا يتكلم بصوت، ولا لغة، ولا قديم ولا غير قديم، لما رأوا امتناع قيام أمر حادث به، وخالفوا في ذلك جمهور المسلمين.
والآثار شاهدة بأن الله يتكلم بصوت، ولهذا جعل الإمام أحمد من أنكر ذلك: جهمياً.
قال عبد الله: قلت لأبي: إن قوماً يقولون: إن الله لا يتكلم بصوت؟ فقال: هؤلاء جهمية، إنما يدورون على التعطيل)) (1)
قال شيخ الإسلام: ((السلف والأئمة يقولون: إن الله يتكلم بمشيئته وقدرته، وكلامه تعالى قديم النوع، بمعنى أنه لم يزل متكلماً إذا شاء، فإن الكلام صفة الكمال، ومن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ومن يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن لا يتكلم بمشيئته، ومن لا يزال متكلماً بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام ممكناً له بعد أن يكون ممتنعاً)) (2) .
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (12/579) .
(2) المصدر السابق (12/372) .(2/324)
وقال أيضاً: ((والصواب أن الله - تعالى - لم يزل متكلماً إذا شاء، وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وأن كلماته لا نهاية لها، وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى، وإنما ناداه حتى أتى، لم يناده قبل ذلك، وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد، كما
أن علمه لا يماثل علمهم)) (1) .
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: ((حدثنا أبي، حدثنا جرير، عن منصور، عن المعتمر، عن هلال بن يساف، عن فروة بن نوفل الأشجعي، قال: كنت جاراً لخباب، فخرجنا يوماً من المسجد، وهو آخذ بيدي فقال: يا هناه، تقرب إلى الله ما استطعت، فإنك لن تقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه)) يعني: القرآن.
وروي بسند حسن، عن جبير بن نفير، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه)) يعني: القرآن.
وقال: ((حدثني أبو معمر، حدثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي، قال: ((كأن الناس إذا سمعوا القرآن من في الرحمن يوم القيامة فكأنهم لم يسمعوه قبل ذلك.
وحدثني أبي، سمعت عبد الرحمن بن مهدي، يقول: من زعم أن الله لم يكلم موسى يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
سألت أبي عن قوم يقولون: لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت؟ فقال أبي: بلى، تكلم بصوت، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت)) (2) .
يعني: أنها لا تؤول، بل يجب الإيمان بها على ما يدل عليه ظاهرها، من أن الله يتكلم، وأن كلامه بصوت.
_________
(1) المصدر السابق (12/598) .
(2) ((كتاب السُّنَّة)) (ص26-71) .(2/325)
ولو كان ما يفهم من ظاهرها باطل، لبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله - تعالى - كلفه ببيان ما نزل إليه.
ثم قال: ((سمعت أبا معمر الهذلي يقول: من زعم أن الله لا يتكلم، ولا يسمع ولا يبصر، ولا يغضب، ولا يرضى - وذكر أشياء من هذه الصفات - فهو كافر بالله)) .
حدثني أبي، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله: إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء، فيخرون سجداً، حتى إذا فرغ عن قلوبهم، قال: سكن عن قلوبهم، نادى أهل السماء: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، قال كذا وكذا، ورواه مرفوعاً)) (1) .
وفي الترمذي، عن عمران بن حصين، قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فتفاوت بين أصحابه في السير، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صوته بهاتين الآيتين: {يَأيُّها النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُم إِنَ زَلزَلَةَ السَاعِة شَيءُ عَظِيمُ} إلى قوله: {عَذَابَ اللهِ شَدِيدُ} ، فلما سمع ذلك أصحابه حثوا المطى، وعرفوا أنه عنده قول يقوله، فقال: ((هل تدرون أي يوم ذلك؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((ذاك يوم ينادي الله فيه آدم، فيناديه ربه، فيقول: يا آدم، ابعث بعث النار)) إلى آخر الحديث، وقال الترمذي: ((هذا حديث حسن صحيح)) (2) .
فهذا ظاهر جداً في أن المنادي هو الله - تعالى -، والنداء لا يكون إلا بصوت يسمع من بعدٍ عن المنادي، فللَّه - تعالى - صوت يليق به، فصوته لا يشبه أصوات خلقه، كصفاته.
_________
(1) ((كتاب السُّنَّة)) (ص70-71) .
(2) ((جامع الترمذي)) (5/324) .(2/326)
ولثبوت ذلك بالأدلة التي ذكر شيء منها في هذا يتعين على المؤمن الإيمان بأن الله - تعالى - يتكلم بكلام يُسْمِعُه من يشاء من خلقه، وأنه بصوت، إذا شاء صوت به.
فتبين أن قول الحافظ: ((إن المنادي ملك يأمره الله بأن ينادي بذلك)) باطل، إذ هو خلاف الحق، وأن المنادي هو الله.
وإذا كان الله - تعالى - لا يتكلم بكلام مسموع منه، فكيف يأمر الملك؟ وكيف يرسل الرسل؟ أو ليس الكلام صفة كمال، ومن يتكلم وينادي أكمل ممن لا يقدر على ذلك؟ فما هو المسوغ لتحريف كلام الله وكلام رسوله؟ مع أن السلف وأهل السُّنَّة مجمعون على وصف الله بالكلام، وأن من نفى ذلك ضال سالك غير سبيل المؤمنين.
قال الألوسي: ((الذي انتهى إليه كلام أئمة الدين كالماتريدي، والأشعري، وغيرهما من المحققين، أن موسى عليه السلام سمع كلام الله - تعالى - بحرف وصوت، كما تدل عليه النصوص التي بلغت في الكثرة مبلغاً لا ينبغي معه تأويل، ولا يناسب في مقابلته قال وقيل، بل قد ورد في إثبات الصوت لله - تعالى - أحاديث لا تحصى)) (1) .
*****
111- قال: ((حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة)) .
تقدم هذا الحديث في الفضائل، والنكاح، والأدب، وفي ألفاظ متنه وفي
_________
(1) روح المعاني (ج 1) .(2/327)
إسناده اختلاف عما هنا، وقد بينت عائشة - رضي الله عنها - سبب غيرتها: أنه كثرة ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - لها، وثناؤه عليها، وجاء في رواية ((لما كنت أسمعه يذكرها، وأمره ربه أن يبشرها ببيت من قصب، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن)) (1) .
والغيرة عند النساء جبلة لا يستطعن التخلي عنها، ولهذا لم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على عائشة، وفي هذا الحديث فضل خديجة - رضي الله عنها -.
والمقصود من الحديث هنا قوله: ((ولقد أمره ربه أن يبشرها)) ؛ لأن الأمر عند الإطلاق لا يكون إلا بالكلام، فلذلك قال العلماء: إن من نفي الكلام عن الله - تعالى - فقد نفى الرسالة، والشرائع كلها؛ لأنها أمر ونهي.
((قال الخلال في ((السُّنَّة)) : أخبرني علي بن عيسى، أن حنبلاً حدثهم، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: من زعم أن الله لم يكلم موسى، فقد كفر بالله، وكذب بالقرآن، ورد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره، يستتاب من هذه المقالة، فإن تاب وإلا ضربت عنقه)) .
قال: وسمعت أبا عبد الله: قال الله - تعالى-: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكلِيماً} فأثبت الكلام لموسى كرامة منه لموسى، ثم قال -تعالى - يؤكد كلامه: {تَكلِيماً} .
قلت لأبي عبد الله: الله - تعالى - يكلم عبده يوم القيامة؟ قال: نعم، فمن يقضي بين الخلائق إلا الله عز وجل؟ يكلم الله عبده ويسأله، لم يزل الله يأمر بما يشاء ويحكم، وليس له عدل ومثل، كيف شاء، وأنى شاء)) (2) .
********
_________
(1) انظر ((الفتح)) (9/336) و (7/113) و (10/435) .
(2) ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/37-38) .(2/328)
قال: ((باب كلام الرب مع جبريل، ونداء الله الملائكة)) .
يريد بهذا تنويع الأدلة، وأن الله يتكلم متى شاء، ويكلم من يشاء من ملائكته في أي وقت أراد، وسبق الكلام في النداء.
((وقال معمر:: {وَإِنّكَ لَتُلَقَّى القُرآنَ} أي: يلقى عليك، وتلقاه أنت - أي: وتأخذه عنهم - ومثله: {فَتَلَقَّىَ آدَمُ مِن رَّبّهِ كَلِمَاتٍ}
قال الحافظ: ((معمر هذا يتبادر أنه ابن راشد، شيخ عبد الرازق، وليس كذلك، بل هو أبو عبيدة، معمر بن المثنى اللغوي.
قال أبو ذر الهروي: وجدت ذلك في كتاب المجاز له، فقال في تفسير سورة النمل في قوله عز وجل: {وَإِنّكَ لَتُلَقَّى القُرآنَ} أي: تأخذه عنه، ويلقى عليك.
وقال في سورة البقرة: {فَتَلَقَّىَ آدَمُ مِن رَّبّهِ كَلِمَاتٍ} أي: قبلها، وأخذها عنه، قال أبو عبيدة: وتلا علينا أبو مهدي آية، فقال: تلقيتها من عمي، تلقاها عن أبي هريرة، تلقاها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقال في قوله تعالى: {وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلا الصَابِروُنَ} أي: لا يوافق لها، ولا يرزقها ولا يلقنها.
وحاصله: أنها تأتي بالمعاني الثلاثة، وأنها هنا صالحة لكل منها.
وأصله: اللقاء، وهو: استقبال الشيء ومصادفته)) (1) .
_________
(1) ((الفتح)) (13/461) ، وانظر ((مجاز القرآن)) (1/38) و (2/92، 111) .(2/329)
ومقصوده بالمعاني الثلاثة: تأخذها، وتقبلها، وتوفق لها وترزقها. وبعضها قريب من بعض.
وقال ابن جرير: ((وإنك يا محمد لتحفظ القرآن، وتعلمه)) (1) .
وقال: {فَتَلَقَّىَ آدَمُ مِن رَّبّهِ كَلِمَاتٍ} قيل: إنه أخذ وقبل، وأصله: التفعل من اللقاء، كما يتلقى الرجل مستقبله عند قدومه من غيبته، أو سفره. فكأنه استقبله، فتلقاه بالقبول حين أوحى إليه، أو أخبره، ومعناه: فلقَّى الله آدم كلمات توبة، فتلقاها آدم من ربه، وأخذها عنه تائباً)) (2) .
****
112 - قال: ((حدثني إسحاق، حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد الرحمن - هو ابن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل: إن الله قد أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء: إن الله قد أحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في أهل الأرض)) .
قال الحافظ: ((وقع في بعض طرقه بيان سبب هذه المحبة والمراد بها، ففي حديث ثوبان: أن العبد يلتمس مرضاة الله - تعالى - فلا يزال كذلك حتى يقول: يا جبريل، إن عبدي فلانا يلتمس أن يرضينى، ألا وإن رحمتي غلبت عليه)) (3) .
يعني: أن المراد بالمحبة هي الرحمة، كما يقوله الأشاعرة، وليس كذلك،
_________
(1) ((تفسير الطبري)) (19/132) .
(2) ((تفسير الطبري)) (1/541) تحقيق محمود شاكر.
(3) ((الفتح)) (10/462) ، وقال: أخرجه أحمد والطبراني في ((الأوسط)) .(2/330)
بل المحبة صفة الله - تعالى - غير صفة الرحمة، ورحمة الله - تعالى - لعبده من لوازم محبته له، وقد تقدم تقرير ذلك، والرد على المحرفين من الأشاعرة وغيرهم (1) .
وأسباب محبة الله - تعالى - لعبده متعددة، حسب ما دلت عليه النصوص في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، منها: التوبة، فالله - تعالى - يحب التوابين، ومنها: التطهير من الأنجاس الحسية والمعنوية: {إِنَّ اللهَ يُحِبُ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُ المُتَطَهِرِينَ} ومنها: الثبات أمام العدو صفوفاً كالبنيان المرصوص: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} .
وفي الحديث الصحيح: ((لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به)) الحديث.
قوله: ((إن الله تبارك وتعالى)) قال ابن عباس: تبارك: تفاعل من البركة، وهو كقول القائل: تقدس ربنا)) (2) .
وقال الأزهري: ((أخبرني المنذري عن أبي العباس، أنه سئل عن تفسير ((تبارك الله)) فقال: ارتفع، والمتبارك: المرتفع، ومعنى البركة: الكثرة في كل خير، وتبارك: تعالى وتعاظم، وقال ابن الأنباري: تبارك الله: أي: يتبرك باسمه في كل أمر، وقال الليث: تبارك الله: تمجيد وتعظيم، وقال أبو بكر: تبارك: تقدس، أي: تطهر، والمقدس: المطهر)) (3) .
وقال: ((عن الليث: ((تعالى)) هو: العلي المتعالي، العالي الأعلى، ذو العلاء والعُلا والمعالي، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وهو الأعلى - سبحانه -
_________
(1) انظر (ص59) من الجزء الأول من هذا الشرح.
(2) انظر ((تفسير الطبري)) (18/179) .
(3) ((تهذيب اللغة)) (10/230) ملخصاً.(2/331)
بمعنى العالي، وتفسيره ((تعالى)) : جل عن كل ثناء، فهو أعظم وأجل وأعلى مما يثنى عليه، لا إله إلا الله وحده لا شريك له)) (1) .
يعني: أن ثناء الخلق عليه - تعالى - لا يبلغ ما يستحقه من الثناء، ولا قريباً من ذلك، بل هو كما أثنى على نفسه، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا أحصي ثناء عليك، بل أنت كما أثنيت على نفسك)) (2) .
قال الأزهري: ((وتفسير هذه الصفات لله - تعالى - يقرب بعضها من بعض، فالعلي: الشريف، فعيل من علا يعلو، وهو بمعنى العالي، وهو الذي ليس فوقه شيء، ويقال: هو الذي علا الخلق فقهرهم بقدرته.
وأما المتعالي: فهو الذي جل عن إفك المفترين، وتنزه عن وساوس المتحيرين، وقد يكون المتعالي بمعنى العالي.
والأعلى هو الله الذي أعلى من كل عال، واسمه الأعلى، أي: صفته أعلى الصفات)) (3) .
وقال ابن القيم: ((الرب تعالى يقال في حقه: تبارك، ولا يقال: مبارك.
ثم قالت طائفة - منهم الجوهري -: إن تبارك بمعنى: بارك، مثل قاتل وتقاتل، إلا أن فاعل يتعدى، وتفاعل لا يتعدى. وهذا غلط عند المحققين، وإنما تبارك: تفاعل من البركة، وهذا الثناء في حقه - تعالى - إنما هو لوصف رجع إليه، كتعالى، فإنه تفاعل من العلو، ولهذا يقرن بين هذين اللفظين فيقال: تبارك وتعالى، وهو سبحانه أحق بذلك وأولى من كل أحد، فإن الخير كله بيده،
_________
(1) المرجع المذكور (3/186) .
(2) رواه أبو داود في ((السنن)) (2/134) ، والترمذي رقم (3561) ، والنسائي (1748) ، وابن ماجه رقم (1179) .
(3) ((تهذيب اللغة)) (3/186) .(2/332)
وصفاته كلها صفات كمال، وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة، وخيرات لا شرور فيها.
وهذا ثناء يشعر بالعظمة والرفعة والسعة، كما يقال: تعاظم، وتعالى ونحوه، فهو دليل على عظمته، وكثرة خيره، ودوامه، واجتماع صفات الكمال فيه، وأن كل نفع في العالم كان ويكون، فمن نفعه - سبحانه - وإحسانه.
ويدل هذا الفعل أيضاً في حقه على العظمة، والجلال وعلو الشأن)) (1) .
قوله: ((إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل)) .
صريح في أن الله - تعالى - يحب من يشاء من عباده من أهل الطاعة له والتقوى، كما هو صريح أيضاً في أنه - تعالى - يتكلم وينادي متى يشاء لمن يشاء، وفي هذا الحديث النداء لجبريل خاصة، وتقدم أن النداء لا يكون إلا بصوت مرتفع، وأن مثل هذه النصوص من أبلغ الأدلة على إثبات صفة الكلام لله - تعالى -، وهذا القدر من الحديث هو المقصود، إذ هو محل الشاهد، وفيه: أن جبريل عليه السلام بمجرد إخبار الله له بأنه تعالى يحب العبد يحبه، وأنه هو سفير الله - تعالى - إلى الملائكة، كما أنه سفيره إلى الرسل من البشر، ولهذا قال: ((ثم ينادي جبريل في السماء)) ، مما يعجب له العاقل أن جميع شراح الحديث الذين اطلعت على أقوالهم يقولون: إن هذا النداء من جبريل نداء حقيقي يسمع منه بصوته، تسمعه ملائكة السماء، وأكثرهم يقول: إن النداء المسند إلى الله - تعالى ليس حقيقياً، وإنما معناه: أمره لمن ينادي، أو إعلام جبريل بما يفهم منه أن الله يحب ذلك العبد.
_________
(1) ((جلاء الأفهام)) (ص206-207) . وانظر بقية الكلام فيه.(2/333)
وهكذا يتلاعبون بكلام الله كلام رسوله، مما سبَّب ضلال كثير من الخلق.
والله - جل وعلا - سوف يسألهم عن ذلك، وسوف يعلمون حين يقفون بين يديه أي جناية جنوها عليه وعلى أنبيائه، وعلى شرعه، وعلى عباده.
والمراد بالسماء هنا: الجنس، أي: السماوات، ونداؤه فيهم يقول: ((إن الله قد أحب فلاناً، فأحبوه)) .
((فيحبه أهل السماء)) أي: أن ملائكة السماوات بمجرد إخبار جبريل وأمره يحبونه؛ لأنهم يحبون الله ويحبون ما يحبه، ومن ثمرات ذلك: استغفارهم لهذا العبد، وموالاتهم له، وهذا في الحقيقة هو الشرف والرفعة، وبه تحصل السعادة بمشيئة الله - تعالى -.
((فيوضع له القبول في أهل الأرض)) أي: تقبله قلوبهم وتحبه؛ لأن الله - تعالى - يحبه، ومن أحبه الله - تعالى - حببه إلى عباده في السماوات والأرض.
فشهدوا له بالخير ورجوا له الفلاح؛ لما وقع في قلوبهم له.
*******
113 - قال: ((حدثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر، وصلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم، وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟
فيقولون: تركناهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون)) .
تقدم هذا الحديث وشرح في باب قوله تعالى: {تَعرُجُ المَلاَئِكَةُ وَالُّروحُ إِليهِ} ، والمقصود منه في هذا الباب قوله: ((فيسألهم - وهو أعلم(2/334)
بهم - كيف تركتم عبادي؟)) ؛ لأن الظاهر من السؤال أنه بالكلام وسماع صوت السائل.
وملائكة الله لكل منهم مقام معلوم لا يتجاوزه، وأعلاهم مقاماً جبريل عليه السلام، وقد سبق أنه تعالى يناديه، فهؤلاء أولى بالمناداة؛ لأنهم أنزل مقاماً منه.
وفي الأنبياء: ((الملائكة يتعاقبون، ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار)) فعلى هذه لا يكون فيه شاهد لما يسمى بلغة (أكلوني البراغيث)) .
وفي سؤال الله - تعالى - عن عباده، مباهاة بهم، وإظهار لفضلهم عند الملائكة، وبيان لشيء من عظيم كرم الله - تعالى - وإحسانه.
******
114 - قال: ((حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن واصل، عن المعرور، قال: سمعت أبا ذر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة)) قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: ((وإن سرق، وإن زنى)) .
قوله: ((أتاني جبريل)) يعني: بالوحي من الله، فهو لا يأتي إلا بأمر الله - تعالى - له.
((فبشرني)) ، البشرى: هي الإخبار بما يسر؛ لأن ذلك يغير بشرة الوجه؛ لأن النفس إذا سرت انتشر الدم في الجسم كانتشار الماء في عروق الشجرة، فيظهر ذلك على وجه المبشر.
وقد تستعمل البشارة فيما يسوء، من باب النكاية والتهكم والإياس من الخير (1) .
_________
(1) انظر ((المفردات)) للراغب (ص48) .(2/335)
((من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة)) يعني: وإن حصل منه تقصير بالواجبات، وفعل لبعض المحرمات غير الشرك، فإن من مات على ذلك دخل الجنة، ولا ينافي هذا حصول العذاب له، بل قد يعذب في قبره، وبعد ما يبعث، وقد يدخل النار، ثم يخرج منها بعدما يطهر من الخطايا التي تلطخ بها في الدنيا، وقد يعفو الله عنه فيدخله الجنة بلا عذاب، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة جداً.
فكل عاص لله - تعالى - من الموحدين لا بد من دخوله الجنة، وإن أصابه ما أصابه، وإنما الشأن في اجتناب الشرك، فهو أمر صعب إلا على من هدى الله قلبه، وهو أنواع، منها الجلي والخفي.
فقوله: ((لا يشرك بالله شيئاً)) يعم أنواع الشرك كلها؛ لأنه نكرة بعد النفي، فيدخل فيه الأصغر، والقليل، والله المستعان.
((قلت: وإن سرق، وإن زنى)) كأنه فهم من هذا الإطلاق أن ما عدا الشرك من الذنوب يحصل دخوله مع وجوده، فأراد أن يتثبت عن هذا المفهوم، فأخبره أن ذلك صحيح، وأن من اجتنب الشرك دخل الجنة، وإن تفاوت دخول العصاة غير المشركين الجنة في الوقت والمكان، أعني تقدم الدخول والمنزلة.
والشاهد منه: قوله: ((فبشرني أنه من مات)) إلى آخره؛ لأن هذه البشارة لا بد أن تكون من الله، أرسل جبريل بها إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، والرسالة لا تكون إلا بالكلام، والنداء داخل فيه، فالله - تعالى - قد نادى جبريل أن يذهب بهذا الأمر إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم.
*****(2/336)
قال: باب قول الله - تعالى -: {أَنَزَلَهُ بِعِلمِهِ وَالمَلاَئِكَةُ يَشهَدُونَ} .
الضمير في (أنزله)) يعود إلى القرآن، كما هو واضح من الآية، وهي قوله تعالى: {لَكِن اللهُ يَشهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِليكَ أَنَزَلَهُ بِعِلمِهِ وَالمَلاَئِكَةُ يَشهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا} . {لَكِن} للاستدراك مما سأله اليهود فيما ذكره الله عنهم بقوله: {يَسأَلُكَ أَهلُ الكِتابِ أَن تُنَزِلَ عَلَيهِم كِتَاباً مِنَ السَمَاءِ} ، فهم يرون أن مجيء الوحي إليه بواسطة جبريل غير كافٍ في الدلالة على نُبُوَّته، وأنه إذا كان صادقاً فليأت بكتاب من السماء، كما جاء موسى - عليه السلام - بالتوراة مكتوبة.
ثم ذكر تعالى أنهم سألوا موسى ما هو أكبر من ذلك، سألوه أن يُرِيَهم الله جهرة، وعدَّد تعالى ما فعلوه من الظلم، والتعنت، والبهتان العظيم، والكفر، ورميهم مريم بالزنا، ومحاولتهم قتل رسول الله عيسى، وأكلهم الربا، وذكر ما أصابهم بسبب ذلك، ثم ذكر تعالى أن منهم راسخين في العلم، ومؤمنين بما أنزل الله من كتاب، ثم أخبر تعالى أنه أوحى إلى محمد كما أوحى إلى النبيين من قبله، وعدد بعضهم، وبعضاً منهم لم يذكره، وأنه تعالى خص موسى بتكليمه، ثم ذكر الحكمة من إرسال الرسل؛ لئلا يكون للناس على الله حجة، ثم قال تعالى: {لَكِن اللهُ يَشهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِليكَ} الآية.
قال ابن جرير: ((يعني بذلك - جل ثناؤه - إن يكفر بالذي أوحينا إليك يا محمد اليهود الذين سألوك أن تُنزِّل عليهم كتاباً من السماء، وقالوا لك: ما أنزل الله على بشر من شيء، فكذبوك، وليس الأمر كما قالوا، ((لكن الله يشهد)) بتنزيله إليك من الكتاب، والوحي، أنزل ذلك إليك، بعلم منه بأنك خِيرَته من خلقه، وصَفيَّه من عباده، ويشهد لك بذلك الملائكة، فلا يَحزُنك تكذيب من كذبك، وخلاف من خالفك، وحسبك بالله شاهداً على(2/337)
صدقك، فإنه لا يضرك مع ذلك تكذيب من كذبك)) (1) .
ومراد البخاري بهذه الترجمة أن يبين أن القرآن من علم الله - تعالى - وصفة له، فليس مخلوقاً، فكأنه يقول: أنزله فيه علمه، أي: هو من علمه، وقد احتج الإمام أحمد على كفر من قال: القرآن مخلوق، بأن القرآن من عِلْم الله، فمن زعم أن عِلْم الله مخلوق فهو كافر، واستدل على ذلك بنحو قوله تعالى: {فَمَن حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعدِ مَا جَاءَكَ مِن العِلمِ} وقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ} (2) .
وتقدم الكلام على هذه الآية وذكر أقوال المفسرين فيها (3)
قوله: ((قال مجاهد: {يَتَنَزَّلُ الأَمرُ بَيَنهُنَّ} بين السماء السابعة، والأرض السابعة)) .
مقصوده أن الله - تعالى - أخبر بأنه خلق السماوات السبع ومن الأرض مثلهن، ثم ذكر أن الأمر يتنزل بينهن، أي: بين السماوات وبين الأرضين، فالأمر غير الخلق، ثم قال تعالى: {لِتَعلمُواْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِ شَيءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَد أَحَاطَ بِكُلِ شَيءٍ عِلمَا} فأمره تعالى الذي يتنزل بين السماوات والأرض بعلمه، وأمره، وعلمه من صفاته.
فأمر الله - تعالى -، وعلمه، وحكمه، وتصرفه، ينفذ في السماوات السبع والأرضين السبع، لا يمتنع عليه شيء، ولا يخفى عليه فيهن شيء فالكل في قبضته وتحت تصرفه، وفي علمه واطلاعه جل وعز.
وما يذكره كثير من المفسرين عند هذه الآية من أن الأرضين سبع طبقات
_________
(1) ((تفسير الطبري)) (9/409) تحقيق محمود شاكر.
(2) انظر ((السُّنَّة)) لعبد الله بن الإمام أحمد (ص9-10) .
(3) انظر الجزء الأول من هذا الشرح من (93) .(2/338)
منفصل بعضها عن بعض، وبين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمِئَة عام، وبعضهم يذكر أن في كل أرض أنبياء مثل الذين ذُكِروا في القرآن وعلى أسمائهم، إلى آخر ما ذكروه مما يشبه هذيان المجانين، كل ذلك خرافات مصدره زنادقة اليهود وإخوانهم من كل شيطان رجيم.
قال القرطبي: {وَمِنَ الأَرضِ مِثلَهُنَّ} أي: سبعاً، واختلفوا فيهن على قولين: أحدهما: قول الجمهور، أنها سبع أرضين طباقاً بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والسماء، وفي كل أرض سكان من خلق الله.
وقال الضحاك: ((ومن الأرض مثلهن)) أي: سبعاً من الأرضين، ولكنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق، بخلاف السماوات.
والأول أصح؛ لأن الأخبار دالة عليه)) (1) .
قلت: بل قول الضحاك هو الصواب، والأول باطل قطعاً بدون شك، وما زعمه من أنه قول الجمهور، وأن الأخبار دالة عليه، ليس كما زعم.
نعم، قد روي عن ابن عباس، فإن صح فهو مما تلقاه من أهل الكتاب ممن هو متهم بالكذب منهم، وأما دلالة الأخبار عليه فليس فيه أخبار صحيحة صريحة في الدلالة عليه، بل نقطع أن الأخبار عن الله ورسوله لم تدل عليه؛ لأن كلام الله وكلام رسوله حق، لا يؤيد الباطل ولا يدل عليه، بل الأخبار دلت على أن الأرضين سبع فقط، بدون فتوق، كما في ((الصحيحين)) ((من ظلم قيد شبر طوقه من سبع أرضين)) ونحوه من الأحاديث.
فيتعين حملها على أنها طبقات غير مفتوقة كما قاله الضحاك.
_________
(1) ((تفسير القرطبي)) (18/174-175) .(2/339)
وفي هذا الوقت أمكن الدوران على الأرض في وقت وجيز جداً مما يبين بالحس والمشاهدة بطلان ما رجحه القرطبي.
*****
115 – قال: ((حدثنا مسدد، حدثنا أبو الأحوص، حدثنا أبو إسحاق الهمداني، عن البراء بن عازب، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((يا فلان، إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإنك إن مت في ليلتك مت على الفطرة، وإن أصبحت أصبت خيراً)) .
البراء بن عازب بن الحارث بن عدي الأنصاري، الأوسي، استصغره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم بدر هو وابن عمر، فردَّهما، وشهد أُحداً وما بعدها من الغزوات، وروي عنه أنه غزا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – أربع عشرة غزوة، وفي رواية: خمس عشرة، قال الحافظ: إسناده صحيح.
وقال: سافرت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثمانية عشر سفراً. أخرجه أبو ذر الهروي (1) .
وكان يقول: أنا الذي أرسل معه النبي – صلى الله عليه وسلم – السهم إلى قليب الحديبية فجاش بالري.
قال الذهبي فيه: ((الفقيه الكبير، من أعيان الصحابة، نزل الكوفة، توفي سنة اثنتين وسبعين، أو إحدى وسبعين، عن بضع وثمانين سنة)) (2) .
_________
(1) ((الإصابة)) (1/278) ، وانظر ((أسد الغابة)) (1/205) .
(2) ((سير أعلام النبلاء)) (3/194) .(2/340)
قوله: ((يا فلان)) جاء في الروايات الأخرى أن المُخاطَب هو البراء بن عازب، ففي الدعوات عند المؤلف: ((عن عبيدة قال: حدثني البراء بن عازب، قال: قال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -....)) وذكر الحديث (1) ، وفيه: ((إذا أتيت إلى مضجعك فتوضأ وضوءَك للصلاة)) . قال الحافظ: ظاهره استحباب تجديد الوضوء لكل من أراد النوم، ولو كان على طهارة.
ويحتمل أن يكون مخصوصاً بمن كان محدثاً)) (2) .
((إذا أويت إلى فراشك)) أوى إلى مكان: إذا أقام فيه، ورجع إليه، والمعنى: إذا جئت إلى فراشك تريد النوم.
((فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك)) قال الحافظ: ((على رواية ((فتوضأ)) الأمر فيه للندب، وله فوائد، منها: أن يبيت على طهارة؛ لئلا يبغته الموت، فيكون على هيئة كاملة، ويؤخذ منه الندب إلى الاستعداد للموت بطهارة القلب؛ لأنه أولى من طهارة البدن.
وقد أخرج عبد الرازق، عن مجاهد قال: قال لي ابن عباس: ((لا تنامن إلا على وضوء، فإن الأرواح تُبعث على ما قبضت عليه)) .
وروي عن أبي مرثد العجلي، قال: ((من أوى إلى فراشه طاهراً، ونام ذاكراً، كان فراشه مسجداً، وكان في صلاة وذِكْر حتى يستيقظ، ومن أوى إلى فراشه غير طاهر، ونام غير ذاكر، كان فراشه قبراً، وكان جيفة حتى يستيقظ)) (3) .
ويتأكد ذلك في حق الجنب، وإن اغتسل قبل نومه فهو أفضل.
_________
(1) انظر ((الفتح)) (11/109) .
(2) ((الفتح)) (1/358) .
(3) ((المصنف)) (11/37، 79) .(2/341)
ومنها: أن يكون ذلك أبعد عن تلاعب الشيطان، وأصدق للرؤيا)) (1) .
وقوله: ((اللهم أسلمت نفسي إليك)) أي: استسلمت لك، نفسي منقادة مذعنة لك، راضية بك رباً، وبدينك شرعاً، وبنبيك رسولاً، ومنقادة لحكمك وقضائك، لا إله إلا أنت.
((ووجهت وجهي إليك)) أي: جعلت قصدي ومرادي إليك، راجياً ثوابك، خائفاً من عقابك.
((وفوضت أمري إليك)) أي: توكلت عليك مستكفياً بك، فأمري كلَّه إليك تتصرف فيَّ كيف تشاء، ورغبتي في جودك وفضلك.
((وألجأت ظهري إليك)) أي: أنت عمادي، وعليك استنادي، فأعتمد عليك بأن تكفيني كل ما أهمني، وتحميني من كل ما يؤذيني.
((رغبة ورهبة إليك)) أي: أفعل ذلك راغباً في فضلك وإحسانك، وراهباً من عقابك وعذابك بسبب ذنوبي.
((لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك)) أي: لا مهرب ينجي من هرب منك، ولا نجاة لمن أردته بعذابك، إلا بالرجوع إليك، والاستسلام لك، والإنابة إليك.
((آمنت بكتابك الذي أنزلت)) أي: أتوسل إليك بأني أصدِّق وأوقن بأن الكتب التي أنزلتها على رسلك هي قولك حقاً، وفيها الهدى والنور، الذي هو شرعك، ولمن اتبعها السعادة، ومن أعظمها القرآن الذي أنزلته على عبدك ورسولك محمد خاتم الرسل – صلى الله عليه وسلم - فأنا أؤمن بذلك، وأرغب إليك بأن تستجيب دعائي لذلك.
_________
(1) ((الفتح)) (11/110) .(2/342)
وهذا القدر من الحديث هو محل الشاهد، فإن كتاب الله هو كلامه وفيه عِلْمه، كما قال الزَّجَّاج: {أَنزَلهُ بِعِلمِهِ} أي: أنزل القرآن الذي فيه علمه)) (1) .
فمن زعم أن القرآن مخلوق، لزمه أن يكون عِلْم الله مخلوقاً، وهذا كفر، كما قال الأئمة أحمد وغيره.
((ونبيك الذي أرسلت)) أي: أتوسل إليك بإيماني واتباعي لنبيك محمد – صلى الله عليه وسلم – الذي أرسلته إلينا ليبلغنا كلامك، وأمرك ونهيك، كما أؤمن بكل نبي لك أوحيت إليه وأرسلته إلى عبادك.
((فإنك إن مت في ليلتك مت على الفطرة)) يعني: إن كانت نومتك تلك فيها قبض روحك، وفراقها لبدنك، فإنك تموت على السُّنَّة التي جاء بها نبيك، ومن مات عليها فهو السعيد.
((وإن أصبحت أصبت خيراً)) أي: إن رُدَّت روحك بعد النوم إلى جسمك وأصبحت حياً، نلت بهذا الدعاء أجراً عند الله.
*****
116 – قال: ((حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم الأحزاب: ((اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، وزلزلهم.
زاد الحميدي: حدثنا سفيان حدثنا ابن أبي خالد، سمعت عبد الله، سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم -.
_________
(1) انظر ((معاني القرآن وإعرابه)) (2/147) .(2/343)
عبد الله بن أبي أوفى – واسم أبي أوفى: علقمة بن خالد الأسلمي – هو وأبوه صحابيان، شهد الحديبية، وبايع بيعة الرضوان، وقال: غزوت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ست غزوات نأكل الجراد (1) .
لما قبض النبي – صلى الله عليه وسلم – ذهب عبد الله إلى الكوفة، وهو آخر من توفي فيها من الصحابة، ثبت أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((اللهم صل على آل أبي أوفى)) توفي رضي الله عنه سنة ست وثمانين، أو ثمان وثمانين (2) .
قوله: ((يوم الأحزاب)) يدل على أن هذا الدعاء كان في غزوة الأحزاب، وجاء في روايات: ((أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في بعض أيامه التي لقي العدو، انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس فقال: ((لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)) ثم قال: ((اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم)) .
وهو يدل على أنه يدعو بذلك عند لقاء العدو.
((اللهم منزل الكتاب)) هذا توسل إلى الله – تعالى – بفضله على عباده من إنزاله الكتاب الذي فيه حياة القلوب، والاعتصام من الضلال، وفيه وعده الكريم لعباده بالنصر والتأييد، كقوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} (3) .
((سريع الحساب)) قال ابن جرير: ((إنما وصف – جل ثناؤه – نفسه بسرعة الحساب؛ لأنه – جل ذكره – يحصي ما يحصي من أعمال عباده بغير عقد أصابع،
_________
(1) انظر ((تحفة الأحوذي)) (5/547، 548) .
(2) انظر ((الإصابة)) (4/18) ، و ((أسد الغابة)) (3/182) ، ((سير أعلام النبلاء)) (3/428) .
(3) الآية 14 من سورة التوبة.(2/344)
ولا فكر، ولا روية – فعل العجزة الضعفة من الخلق – ولكنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة فيهما.
ثم هو تعالى مجاز عباده على كل ذلك، فلذلك امتدح نفسه – جل ذكره – بسرعة الحساب، وأخبر خلقه أنه ليس لهم بمثيل، فيحتاج في حسابه إلى عقد كف أو وعي صدر)) (1) .
وقال على قوله: {وَهُوَ أَسرَعُ الحَسِبِينَ} أي: أسرع من حسب عددكم، وأعمالكم وآجالكم، وغير ذلك من أموركم – أيها الناس -، وأحصاها، وعرف مقاديرها ومبالغها؛ لأنه لا يحسب بعقد يد، ولكنه يعلم ذلك ولا يخفى عليه منه خافية، {لاَ يَعزُبُ عَنهُ مِثقَالُ ذَرَّةٍ فيِ السَّمَاوَاتِ وَلا فيِ الأَرضِ وَلاَ أصغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكبَرُ إِلا فيِ كِتَابِ مُّبِينٍ} )) (2) .
وهو – جل ذكره – سريع محاسبة عباده يوم القيامة، حيث لا يشغله محاسبة واحد عن الآخر.
((اهزم الأحزاب وزلزلهم)) الهزيمة هي: القهر والإذلال، والزلزلة: الاضطراب، وعدم الثبات، فهو يدعو عليهم بأن يقهرهم، ويذلهم بأيدي المسلمين، وأن ينزل عليهم الرعب والخوف الذي يزلزل قلوبهم وأجسامهم.
قوله: ((زاد الحميدي)) إلى آخره: مراده به: التصريح بالسماع، بخلاف قتيبة بن سعيد فإنه عنعن السند.
والمقصود من الحديث قوله: ((اللهم منزل الكتاب)) فإنه تعالى أنزله منه، فهو قوله ووصفه، ولو كان مخلوقاً كما يقوله الضالون، ما احتاج إلى إنزال بل يخلقه في أي مكان، فهو تعالى أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله
_________
(1) ((تفسير الطبري)) (4/207-208) بتحقيق محمود شاكر.
(2) المصدر السابق (11/413) .(2/345)
شهيداً، ونحن نشهد بذلك، ونرجو من منزل الكتاب، وسريع الحساب وهازم الأحزاب ومزلزهم، أن يثبتنا على هذه الشهادة ويثيبنا عليها خير ثواب.
117 – قال: ((حدثنا مسدد، عن هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَلاَ تَجهَر بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخِافِت بِهَا} قال: أنزلت ورسول الله – صلى الله عليه وسلم- متوار بمكة، فكان إذا رفع صوته سمع المشركون فسبوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به، وقال الله – تعالى -: {وَلاَ تَجهَر بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخِافِت بِهَا} لا تجهر بصلاتك حتى يسمع المشركون، ولا تخافت بها عن أصحابك فلا تسمعهم {وَابتَغِ بَينَ ذَلِكَ سَبِيلاً} أسمعهم ولا تجهر حتى يأخذوا عنك القرآن)) .
المراد بالصلاة في الآية: القراءة، وقد قال ابن جرير – رحمه الله - ((لولا أننا لا نستجيز مخالفة أهل التفسير فيما جاء عنهم، لاحتمل أن يكون المراد: {وَلاَ تَجهَر بِصَلاتِكَ} أي: بقراءتك نهاراً، {وَلاَ تُخِافِت بِهَا} أي: ليلاً، وكان ذلك وجهاً لا يبعد في الصحة)) (1) .
وقد جاء ذلك مفسراً كما في هذا الحديث أن المراد: القراءة وهو يصلي، فكان صلوات الله وسلامه عليه يرفع صوته في القراءة، رجاء أن يؤثر فيمن يسمعه من كفار قومه فيسلموا، ويسمعه من معه من المسلمين فيحفظوا، وكان للقرآن وقع عظيم في قلوبهم وأثر بالغ في نفوسهم، ولذلك منعه الملأ من الكفار؛ خوفاً أن يتأثر به بعضهم فيسلموا، كما جربوا ذلك وقالوا: إن رفعت صوتك به هجوناك، وهجونا من قاله، ومن جاء به، فأمره الله – تعالى – أن لا يرفع
_________
(1) انظر ((تفسير الطبري)) (15/188) .(2/346)
صوته، وألا يخافت به بحيث لا يسمعه من عنده من المسلمين، بل يبتغي بين الجهر والإخفات سبيلاً، فيكون وسطاً بين الجهر والإخفات.
والمقصود قوله: ((أُنْزِلَت ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – متوار بمكة)) والإنزال غير الخلق، بل هو كلامه، نزل بعلمه – تعالى – فهو صفته.
فلا يجوز أن يعطى حكم المخلوق المفعول، كما أن المخلوق لا يجهر به ولا يخافت، وكون الرسول – صلى الله عليه وسلم – وغيره ممن يقرؤه، يرفع صوته به أو يخفضه، لا يخرجه من كونه كلام، بل هو دليل على أنه كلام الله – تعالى – قرأه عبده، فرفع به صوته أو خفضه؛ لأن الكلام لمن قاله مبتدئاً، لا لمن قاله مبلغاً مؤدياً، كما سيأتي بيان ذلك.
قال: ((باب قول الله – تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} ، {إِنَّهُ لَقَولُ فَصلُ} حق. {وَمَا هُوَ بِالهزلِ} باللعب.
قال الله – تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} (1) .
قال ابن جرير: ((يقول – تعالى ذكره – لنبيه محمد – صلى الله عليه وسلم -: سيقول لك المخلفون في أهليهم عن صحبتك – إذا سرت معتمراً، تريد بيت الله الحرام، إذا انطلقت أنت ومن صحبك في سفرك ذلك إلى ما أفاء الله عليك وعليهم من الغنيمة {لِتَأخُذُوهَا} ، وذلك ما كان الله وعد أهل الحديبية من مغانم خيبر -: {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} إلى خيبر، فنشهد معكم قتال أهلها: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} ، يقول: أن يغيروا وعد الله لأهل الحديبية،
_________
(1) الآية 15 من سورة الفتح.(2/347)
وذلك أن الله – تعالى – جعل مغانم خيبر لهم، ووعدهم ذلك، عوضاً من غنائم أهل مكة، إذ انصرفوا عنهم على صلح ولم يصيبوا منهم شيئاً)) (1) . ثم روى ذلك عن مجاهد، وقتادة، ومقسم.
قال الحافظ: ((قال ابن بطال: أراد بهذه الترجمة، وأحاديثها، ما أراد في الأبواب قبلها – أن كلام الله تعالى – صفة قائمة به، وأنه لم يزل متكلماً ولا يزال.
والذي يظهر أن غرضه أن كلام الله، لا يختص بالقرآن، فإنه ليس نوعاً واحداً، وأنه وإن كان غير مخلوق، وهو صفة قائمة به، فإنه يلقيه على من يشاء من عباده بحسب حاجتهم في الأحكام الشرعية وغيرها من مصالحهم، وأحاديث الباب كالمصرحة بهذا المراد)) (2) .
قال في: ((خلق أفعال العباد)) : ((باب: ما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يذكر ويروي عن ربه – عز وجل -)) ثم ذكر نحو ما ذكره هنا من الأحاديث.
ويمكن أنه أراد بيان أن كلام الله يكون بأمره وشرعه، ووعده وجزائه، بخلاف خلقه، فإنه الصادر عن قوله: ((كن)) ، وخلق الله لا يبدل، كما قال – تعالى -: {لا تَبدِيلَ لِخَلقِ اللهِ} أما قوله: فيمكن أن يبدل، أو يحرف. وهذه الآية من الأدلة على أن هذا القرآن كلام الله – تعالى -، وأن ما يقوله الأشاعرة أن كلام الله: ما قام في نفسه، باطل، إذ لا يمكن أن يبدل ما في نفسه تعالى.
وقد تبين بما ذكره ابن جرير – رحمه الله – أن معنى قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} هو خروج المتخلفين عن الحديبية إلى خيبر؛ لأن الله – تعالى – وعدهم مغانم خيبر خاصة بهم.
والقول الثاني في الآية: أن المراد تبديله هو قوله تعالى: {فَقُل لَّن تَخرُجُواْ مَعِيَ أَبَدَاً} . غير أن ابن جرير رد هذا القول.
_________
(1) ((تفسير الطبري)) (26/79-80) .
(2) ((الفتح)) (13/467) .(2/348)
وسياق الآية يؤيد هذا القول، فإنه تعالى قال: {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُم قَالَ اللهُ مِن قَبلُ} . والله أعلم.
قال البغوي: {إِنَّهُ} يعني: القرآن {لَقَولٌ فَصلٌ} حق وجد، يفصل بين الحق والباطل.
{وَمَا هُوَ بِالهزلِ} باللعب، والباطل)) (1) .
*****
118 - قال: ((حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله - تعالى - يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل، والنهار)) .
قال ابن كثير: ((معناه أنهم يقولون: يا خيبة الدهر، فعل كذا وكذا. فيسندون أفعال الله - تعالى - إلى الدهر، ويسبونه، وإنما الفاعل هو الله - عز وجل -، فنهى عن ذلك، هكذا قرره الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من العلماء)) (2) .
وقال شيخ الإسلام: ((للناس في هذا الحديث قولان:
أحدهما: قول أبي عبيد وأكثر العلماء: إنه خرج الكلام فيه لرد ما يقوله أهل الجاهلية، ومن أشبههم: فإنهم إذا أصابتهم مصيبة، أو منعوا أغراضهم، أخذوا يسبون الدهر، والزمان، يقول أحدهم: قبح الله الدهر الذي شتت شملنا، ولعن الله الزمان الذي جرى فيه كذا وكذا، وما يقع كثيرا من الشعراء، وأمثالهم، كقولهم: يا دهر، فعلت كذا، وهم يقصدون سب من فعل تلك الأمور ويضيفونها إلى الدهر، فيقع السب على الله لانه هو الذي
_________
(1) تفسير البغوي على هامش الخازن (7/234) .
(2) ((تفسير ابن كثير)) (3/517) .(2/349)
فعل تلك الأمور، وأحدثها، والدهر مخلوق له، هو الذي يصرفه، ويقلبه.
والتقدير: أن ابن آدم يسب من فعل هذه الأمور، وأنا فعلتها، فإذا سب الدهر فمقصوده سب الفاعل، وإن أضاف الفعل إلى الدهر، فالدهر لا فعل له، وإنما الفاعل هو الله وحده.
وهذا كرجل قضى عليه قاض بحق، أو أفتاه مفت بحق، فجعل يقول: لعن الله من قضى بهذا، أو أفتى بهذا، ويكون ذلك من قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وفتياه، فيقع السب عليه، وإن كان الساب لجهله أضاف الأمر إلى المبلغ، وهو ليس له إلا فعل التبليغ.
وأما الزمان، فلا فعل له، وإنما الله هو الذي يقلبه ويصرفه.
والقول الثاني: قول نعيم بن حماد، وطائفة معه: أن الدهر من أسماء الله، ومعناه: القديم الأزلي.
وهذا المعنى صحيح؛ لأن الله - تعالى - هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، ولكن لا يسمى بالدهر، الذي هو الزمان، أو ما يجري مجرى الزمان)) (1) .
وقال ابن قتيبة: ((معناه: أن العرب في الجاهلية يقولون: أصابني الدهر في مالي، ونالتني قوارع الدهر، وبوائقه، ويقول الهرم: حناني الدهر. فينسبون كل شيء تجري به أقدار الله - عز وجل - عليهم من موت، أو سقم، أو ثكل، أو هرم إلى الدهر، ويلعنونه، ويسمونه: المنون، كما ذكر الله عنهم: {أَم يَقُولُونَ شَاعِرُ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيبَ المَنُونِ} والمنون: المنية، قال أبو ذؤيب:
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (2/493-494) .(2/350)
أمن المنون وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبوا الدهر، إذا أصابتكم المصائب ولا تنسبوها إليه، فإن الله - عز وجل - هو الذي أصابكم بذلك، لا الدهر)) (1) .
وهذا هو ما ذكره شيخ الإسلام عن جمهور العلماء.
وكثير من الناس واقعون في هذا المنكر. وتقدم الكلام فيه.
والمقصود هنا: قوله: ((قال الله: يؤذيني ابن آدم)) . وهذا خبر يتضمن النهي، والله - تعالى - يتأذى من فعل بني آدم، ولكن لا يضره شيء تعالى وتقدس، ووجه الشاهد منه أن هذا القول صدر من الله فيه إخباره - تعالى - عما يقع له من بني آدم، وهو بمعنى النهي والزجر، ومعلوم أنه لا يقع شيء إلا بإذنه وإرادته، ومن يسب الدهر كأنه يريد تبديل حكم الله وأمره الذي وجدت به الكائنات.
وقوله: ((وأنا الدهر)) لا يدل على أنه تعالى اسمه الدهر؛ لأنه فسره بقوله: ((بيدي الأمر أقلب الليل والنهار)) فكونه تعالى بيده الأمر يقلب الليل والنهار، هو معنى قوله: ((أنا الدهر)) .
****
119 - قال: ((حدثنا أبو نعيم، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يقول الله - عز وجل - الصوم لي، وأنا أجزي به، يدع شهوته، وأكله وشربه من أجلي، الصوم جنة، وللصائم فرحتان، فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)) .
_________
(1) ((تأويل مختلف الحديث)) (ص151) .(2/351)
((الصوم لي)) يعني: أن الصوم غالباً يكون خالصاً لله - تعالى - سالماً من شوائب الشرك، من إرادة غير الله - تعالى -؛ لأنه أمانة بين العبد وربه لا يطَّلع عليه إلا الله - تعالى - فإنه يجوز أن يظهر للناس أنه صائم، وهو في حقيقة الأمر غير صائم.
فإذا امتنع من شهوته وأكله وشربه، دل ذلك على أنه أراد ما عند الله - تعالى - وقد فسره بقوله: ((يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي)) .
قوله: ((وأنا أجزي به)) يعني: أن جزاء الأعمال قد أخبر الله - تعالى - عباده بها، أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمِائَة ضعف، أما الصوم فالله يجزي به بدون تقدير؛ لعظيم جزائه، وهذا يدل على فضل الصوم إذا كان خالصاً لله - تعالى -.
((يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي)) هذا هو السبب في كونه لله، وأنه يتولى جزاءه بغير تقدير، وفسرت الشهوة بالجماع، والأولى أن تكون عامة في كل ما يشتهي، ويكون عطف الأكل والشرب من عطف الخاص على العام.
((الصوم جنة)) في رواية سعيد بن منصور: ((جنة من النار)) ، ومثله عند النسائي.
وفي رواية له من حديث عثمان بن أبي العاص: ((الصيام جنة كجنة أحدكم من القتال)) .
والجنة: بضم الجيم: الوقاية، والستر، وهذا أولى ما فسر به متعلق الجنة. واختار النووي: أنه جنة من جميع الشرور.
وفي رواية لأحمد: ((الصيام جنة ما لم يخرقها)) ، زاد الدارمي: ((بالغيبة)) (1) .
_________
(1) انظر ((الفتح)) (4/104) .(2/352)
((وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه)) يعني: أنه يفرح إذا كمل يومه صائماً، فيؤمل ثواب ذلك عند الله، ويتناول طعامه وشرابه الذي أحله الله له بعد ما منعه منه لأجل صومه.
ويفرح إذا لقي ربه عندما يجزيه أعظم جزاء، وهذه أعظم فرحة وأحلى.
((ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)) الخلوف هو: تغير الفم من أثر خلو المعدة من الطعام، فيتصاعد منها أبخرة تغير رائحة الفم.
ولما كان ذلك بسبب الطاعة كان عند الله طيباً، كدم الشهيد، فإنه يأتي يوم القيامة لونه لون الدم، ورائحته رائحة المسك)) .
والمقصود من الحديث قوله: ((يقول الله - تعالى - الصوم لي)) إلى آخره، كالذي قبله. ووجه الشاهد منه: أن الله يقول هذا القول الذي فيه حث العباد وترغيبهم في الصوم، فهو مما شرعه الله - تعالى - لعباده، ورضيه لهم بقوله وأمره، وهو قول أنزله على رسوله ليبلغه.
*****
120 - قال: ((حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بينما أيوب يغتسل عرياناً، خر عليه رجل جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، فنادى ربه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك)) .
((بينما أيوب يغتسل عرياناً)) يعني: وهو خال: استدل به البخاري على جواز الغسل عرياناً في الخلوة، فقال: باب من اغتسل عرياناً وحده في الخلوة، ومن تستر فالستر أفضل)) (1) .
_________
(1) انظر ((الصحيح)) (1/53) الباب رقم (20) .(2/353)
((خر عليه رجل جراد من ذهب)) رجل الجراد: القطعة من الجراد، كما قال الأزهري: ((الرجل: القطعة من الجراد)) (1) .
وهذا جراد على خلاف المعهود، وإنما هو ذهب أنزله الله على نبيه أيوب، على صور الجراد، وذلك من جزاء صبره على البلاء، ورضاه بما قدره الله.
((فجعل يحثي في ثوبه)) أي: يجمع من ذلك الذهب بيديه جميعاً، ويضعه في ثوبه.
((فنادى ربه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك؟)) هذا النداء يجوز أن يكون بواسطة، ويجوز أن يكون بدون واسطة على ظاهره؛ لأنه تجرد عن قرينة تعين ذلك. وقوله: ((ألم أكن أغنيتك؟)) يدل على أن الله - تعالى - قد أعطاه من المال قبل هذا ما فيه غناه، ولهذا قال: ((بلى يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك)) سمي هذا الذهب بركة؛ لأنه أرسل عليه بدون صنع آدمي أو كده، بل هو من عند الله - تعالى -، ففي ذلك طلب الزيادة من الخير. وفيه ما جبل عليه الإنسان من حب المال.
والمقصود منه قوله: ((فنادى ربه: ألم أكن أغنيتك عما ترى؟)) إذ هو من كلام الله - تعالى - لنبيه أيوب، المتضمن إفضاله عليه، وتكريمه له بما أعطاه بدون حساب.
****
121- قال: ((حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن ابن شهاب، عن أبي عبد الله الأغر، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يتنزل ربنا - تبارك وتعالى - كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني، فأستجيب له، من يسألني،
_________
(1) ((تهذيب اللغة)) (11/30) .(2/354)
فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)) .
هذا الحديث له طرق متعددة ومستفيضة، قال ابن عبد البر: ((هذا الحديث منقول من طرق متواترة، ووجوه كثيرة، من أخبار العدول، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (1) .
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها، في كل زمان، على الإيمان بهذا الحديث وتلقيه بالقبول، كما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه قاله علانية.
وبلغه الأمة تبليغاً عاما، لم يخص به واحداً دون الآخرين.
وكان الصحابة وأتباعهم يذكرونه، ويروونه، ويبلغونه تبليغاً عاماً.
ولهذا ثبت في عامة كتب الإسلام، فمن أنكره، أو زعم أنه لا يجوز ذكره عند عامة الناس، أو تأوله على غير ظاهره، فهو ضال، سالك غير سبيل المؤمنين في ذلك.
ومن زعم أنه يدل على ما يجب أن ينزه الله عنه، من النقص المنافي لكماله، فقد أُتي من فهمه الخاطئ، وسوء ظنه بالله العظيم.
فإن وصف الله - تعالى - بالنزول كوصفه بغيره من الصفات، مثل الاستواء والفوقية والمجيء، والرضا والغضب، وغير ذلك مما وصف تعالى به نفسه ووصفته به رسله، يجب أن يؤمن به كله على وتيرة واحدة، إيماناً بلا تمثيل، ولا تعطيل، ولا تحريف ولا تأويل.
ولا يجوز للإنسان مهما كان من العلم أن ينصب نفسه مستدركاً على الله ورسوله: {قُل أأنتٌم أَعلَمُ أَمِ اللهُ} {وَمَن أَصدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثَا} .
_________
(1) انظر ((التمهيد)) (7/128) .(2/355)
قال ابن عبد البر: ((إن من نظر إلى إسلام أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، وسعد، وعبد الرحمن، وسائر المهاجرين والأنصار، وجميع الوفود الذين دخلوا في دين الله أفواجا، علم أن الله – عز وجل – لم يعرفه واحد منهم إلا بتصديق النبيين بأعلام النبوة، ودلائل الرسالة، لا من قبل حركة، ولا من باب الكل والبعض، ولا من باب كان ويكون.
ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجباً، [أو النظر] في الجسم ونفيه، والتشبيه ونفيه، لازماً ما أضاعوه، ولو أضاعوا الواجب ما نطق القرآن بتزكيتهم وتقديمهم، ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم.
ولو كان ذلك من عملهم مشهوراً، أو من أخلاقهم معروفاً، لاستفاض عنهم، ولشهروا به، كما شهروا بالقرآن.
وقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا)) عندهم مثل قول الله – عز وجل -: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلجَبَلِ} ، ومثل قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّا صَفَّا} كلهم يقول: ينزل، ويتجلى، ويجيء، بلا كيف، ولا يقولون: كيف يجيء؟ وكيف يتجلى؟ وكيف ينزل؟ ولا من أين جاء، ولا من أين يتجلى؟ ولا من أين ينزل؟؛ لأنه ليس كشيء من خلقه، تعالى عن الأشياء، لا شريك له.
وفي قول الله – عز وجل -: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلجَبَلِ} دلالة واضحة أنه لم يكن قبل ذلك متجلياً للجبل، وفي ذلك ما يفسر معنى حديث النزول، ومن أراد أن يقف على أقاويل العلماء في قوله – عز وجل - {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلجَبَلِ} فلينظر في تفسير بقي بن مخلد، ومحمد بن جرير، وليقف على ما ذكرا، ففيما ذكرا منه كفاية، وبالله العصمة والتوفيق)) (1) .
_________
(1) ((التمهيد)) (7/152-153) .(2/356)
وما ذكره الحافظ في شرح هذا الحديث من كلام أهل التأويل فإن كل من آمن بأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بلغ ما أرسل به البلاغ المبين وآمن بأنه - صلى الله عليه وسلم - أفصح الناس، وأقدرهم على البيان، وأنصحهم للخلق، من آمن بهذا علم أن ما ذكره كله باطل، وتغبير في وجه الحق، وزبد يذهب جفاء أمام نور النبوة.
فقوله: إن الذين حملوه على ظاهره وحقيقته هم المشبهة.
يقال له: بل الذين حملوه على ظاهره وحقيقته هم الصحابة عموماً وأتباعهم إلى يوم الدين، ولا تستطيع أن تأتي بكلمة واحدة عن الرسول، أو عن أصحابه، تؤيد قول أهل التحريف الذين يسمون أنفسهم أهل السُّنَّة.
قال شيخ الإسلام: ((والصواب أن جميع هذه التأويلات مبتدعة، لم يقل أحد من الصحابة شيئاً منها، ولا أحد من التابعين لهم بإحسان، وهي خلاف المعروف المتواتر عن أئمة السُّنَّة والحديث أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السُّنَّة، ولكن بعض الخائضين بالتأويلات الفاسدة، يتشبث بألفاظ تنقل عن بعض الأئمة، وتكون إما غلطاً، أو محرفة، كقول الأوزاعي في النزول: ((يفعل الله ما يشاء)) فسره بعضهم بأن النزول مفعول مخلوق، وليس الأمر كذلك)) (1) .
وقال أبو عثمان الأنصاري: ((ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب – سبحانه وتعالى – كل ليلة إلى السماء الدنيا، من غير تشبيه له بنزول المخلوقين، ولا تمثيل ولا تكييف، بل يثبتون ما أثبته رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وينتهون فيه إليه، ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله، وكذلك يثبتون ما أنزله الله – عز اسمه – في كتابه من ذكر المجيء والإتيان المذكورين
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (5/409) .(2/357)
في قوله – عز وجل -: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ (1) } .
وقوله – تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّا صَفَّا} نؤمن بذلك كله على ما جاء بلا كيف، فلو شاء أن يبين لنا كيفية ذلك لفعل، فانتهينا إلى ما أحكمه، وكففنا عن الذي يتشابه.
ثم روى بسنده عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: قال لي الأمير عبد الله ابن طاهر: يا أبا يعقوب، هذا الحديث الذي تروونه عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ((ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا)) كيف ينزل؟ قال: قلت أعز الله الأمير: لا يقال لأمر الرب: كيف، إنما ينزل بلا كيف.
ثم روى عن أحمد بن سعيد الرياطي، قال: حضرت مجلس الأمير عبد الله بن طاهر، ذات يوم، وحضر إسحاق بن راهويه، فسئل عن حديث النزول، أصحيح هو؟ قال: نعم. فقال له بعض قواد عبد الله: يا أبا يعقوب، أتزعم أن الله ينزل كل ليلة؟ قال: نعم. قال: كيف ينزل؟ فقال له إسحاق: أثبته فوق، حتى أصف لك النزول، فقال الرجل: أثبته فوق؟!
فقال إسحاق: قال الله – عز وجل -: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّا صَفَّا} ، فقال الأمير عبد الله: يا أبا يعقوب، هذا يوم القيامة، فقال إسحاق: أعز الله الأمير، ومن يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم؟ (2) .
وقوله: ((ويكلون علمه إلى الله)) يعني: علم الكيفية، لا يبحث فيها؛ لأن الكيفية تتوقف على المشاهدة، والله تعالى لا يُرى في الدنيا، وكذا قول إسحاق بن راهويه: ((إنما ينزل بلا كيف)) ، يعني: بلا كيف يعلمه العباد، وإلا ففي
_________
(1) الآية 210 من سورة البقرة.
(2) ((عقيدة أصحاب الحديث)) ، ((مجموعة الرسائل المنيرية)) (1/112) ملخصاً.(2/358)
حقيقة الأمر له كيف يعلمه الله – تعالى -.
قال أبو سعيد الدارمي – رحمه الله -: ((فمن ما يعتبر به من كتاب الله – عز وجل – في النزول، ويحتج به على من أنكره: قوله – تعالى -: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ (1) } ، وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّا صَفَّا} ، وهذا يوم القيامة، فالذي يقدر على النزول يوم القيامة من السماوات كلها، للفصل بين عباده، قادر أن ينزل كل ليلة من سماء إلى سماء.
فإن ردوا قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في النزول، فماذا يصنعون بقول الله – عز وجل -؟)) (2) .
ثم ذكر بعض أحاديث النزول، ثم قال: ((فهذه الأحاديث قد جاءت كلها – وأكثر منها – في نزول الرب – تبارك وتعالى – وعلى تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه والبصر من مشايخنا، لا ينكرها منهم أحد، ولا يمتنع من روايتها، حتى ظهرت هذه العصابة، فعارضت آثار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بردها، وتشمروا لدفعها بجد، فقالوا: كيف نزوله؟ قلنا: لم نكلف كيفية نزوله في ديننا، ولا تعقله قلوبنا، وليس كمثله شيء من خلقه فنشبه منه فعلاً أو صفة بفعالهم وصفتهم، ولكن ينزل بقدرته، ولطف ربوبيته، كيف يشاء.
فالكيف منه غير معقول، والإيمان بقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في نزوله واجب، ولا يُسأل الرب عما يفعل، وكيف يفعل، وهم يُسألون؛ لأنه القادر على ما يشاء، وإنما يقال لفعل المخلوق الضعيف، الذي لا قدرة له إلا ما أقدره الله – تعالى – عليه: كيف يصنع، وكيف قدر.
_________
(1) الآية 210 من سورة البقرة.
(2) ((رد عثمان بن سعيد على الجهمية)) (ص63) .(2/359)
ولو قد آمنتم باستواء الرب على عرشه، وارتفاعه فوق السماء السابعة بدءاً إذ خلقها، كإيمان المؤمنين به، لقلنا لكم: ليس نزوله من سماء إلى سماء بأشد عليه ولا أعجب من استوائه عليها إذ خلقها بدءاً، فكما قدر على الأولى كيف يشاء يقدر على الأخرى كيف يشاء.
وليس قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في نزوله بأعجب من قول الله – تبارك وتعالى -: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ (1) } .
وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّا صَفَّا} (2) فلما قدر على هذا يقدر على ذاك، فهذا الناطق من قول الله – عز وجل -، وذاك المحفوظ من قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأخبار ليس عليها غبار.
فإن كنتم من عباد الله المؤمنين لزمكم الإيمان بها كما آمن بها المؤمنون، وإلا فصرحوا بما تضمرون، ودعوا هذه الأغلوطات، التي تلوون بها ألسنتكم، فلئن كان أهل الجهل في شك من أمركم، فإن أهل العلم من أمركم لعلى يقين)) (3) .
وقال أبو عمرو الطلمنكي: ((أجمعوا – يعني: أهل السُّنَّة والجماعة – على أن الله يأتي يوم القيامة، والملائكة صفاً صفاً؛ لحساب الأمم وعرضها، كما يشاء وكيف يشاء، قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ (4) } ، وقال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّا صَفَّا} (5) وأجمعوا على أن الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، على ما أتت
_________
(1) الآية 210 من سورة البقرة.
(2) الآية 22 من سورة الفجر.
(3) ((الرد على الجهمية)) لعثمان بن سعيد الدارمي (ص79-80) .
(4) الآية 210 من سورة البقرة.
(5) الآية 22 من سورة الفجر.(2/360)
به الآثار، كيف يشاء لا يجدون في ذا شيئاً)) (1) .
ولا يعرف عن السلف وأهل العلم المقتدى بهم من أنكر النزول، أو تأوله، فإنه مثل صفات الله الأخرى، كالاستواء والمجيء، والرضا، والغضب، بل والخلق، والرزق، والإحياء والإماتة، فمن آمن بشيء من ذلك لزمه الإيمان بالباقي؛ لأن الباب واحد، ولا يجوز فيه قياس أو تمثيل، تعالى الله عن قول أهل الباطل من المحرفين بالتأويلات الفاسدة، والمعطلين.
وما ذكره الحافظ في شرحه لهذا الحديث عن البيضاوي من قوله:
((لما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية، والتحيز، امتنع عليه النزول، على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه.
فالمراد: نور رحمته، أي: ينتقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب والانتقام، إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة)) (2) .
فهذا من كلام أهل البدع الذين اعتاضوا عن كلام الله ورسوله بنحاتة أفكار أهل الاعتزال، والتجهم، الذين لم يعرفوا من أوصاف الله – تعالى – إلا ما يعرفونه من أنفسهم، فقاسوا نزول الله، واستواءه على عرشه، ومجيئه يوم القيامة، على نزولهم من أعلى إلى أسفل، واستوائهم على ما هو مرتفع، ومجيئهم من مكان إلى آخر.
ولهذا قال: منزه عن الجسمية، والتحيز؛ لأنه اعتقد أن هذه الصفات لا تثبت إلا للجسم، والمتحيز، مع أن الجسمية والتحيز من الألفاظ المجملة
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (5/578) .
(2) ((الفتح)) (3/31) .(2/361)
التي تحتمل حقاً وباطلاً.
فإن كان يريد بالجسمية: القائم بنفسه البائن عن غيره، فالله – تعالى – قائم بنفسه، وبائن من خلقه، وإن كان يريد بالجسمية: الذي تصح الإشارة إليه، ويكون في مكان، فالله – تعالى – يشار إليه وتتوجه قلوب عباده إليه من فوقهم، وهو فوق عرشه مستوٍ عليه، كما علم المؤمنون.
وإن كان يريد بالجسمية البدن، والجسد المركب من الأعضاء واللحم والدم ونحو ذلك، فالله – تعالى – ليس كمثله شيء، وهو منزه عن ذلك، ولم تدل النصوص على هذا.
وإن كان يريد بالمتحيز: الذي تحوزه الأشياء وتحيط به، فالله – تعالى – أجلُّ وأعظم من أن يحيط به شيء مخلوق.
وإن كان يريد أنه تعالى منحاز عن خلقه فلا يحيطون به، وليس حالاً فيهم، ولا شيء من مخلوقاته فيه – تعالى وتقدس، فالله – تعالى – كذلك، وقد علم أن مراد هؤلاء تعطيل الله – تعالى – عما وصف به نفسه وعما وصفه به رسوله، ولكنهم لم يجرؤوا على رد ذلك صراحة، فجاؤوا بمثل هذه الألفاظ المجملة، التي يظنها من لا يعرف مرادهم مراداً بها التنزيه، وهم يريدون تعطيل الله من أوصافه.
ولا يجوز أن يرد كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمثل هذه الأغلوطات، التي يزعم البيضاوي وفريقه أنها أدلة قطعية، والحقيقة أنها شبهات تقطع المفتون بها عن سبيل الهدى.
ثم نقول لهؤلاء: أأنتم أعلم بالله من الله؟ أم أنتم أعلم بالله من رسوله؟ أم أنتم أعظم تنزيهاً لله من رسوله؟ أم أنتم أقدر على البيان من رسوله؟ أم أنتم أحرص على هداية الأمة، وسلامة عقيدتها من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؟ أم أنتم أشد غيرة على الله من رسول الله؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.(2/362)
قال شيخ الإسلام: ((إذا قال [أهل التأويل] : النزول، والاستواء، ونحو ذلك من صفات الأجسام، فإنه لا يعقل النزول، والاستواء، إلا لجسم مركب، والله منزه عن هذه اللوازم، فيلزم تنزيهه من ذلك.
أو قالوا: هذه حادثة، والحوادث لا تقوم إلا بجسم مركب.
وكذلك إذا قالوا: الرضا والغضب، والفرح، والمحبة، ونحو ذلك هو من صفات الأجسام.
فيقال لهم: وكذلك الإرادة، والسمع والبصر، والعلم، والقدرة، من صفات الأجسام، فكما لا يعقل ما يسمع، ويبصر، ويريد، ويعلم، ويقدر، إلا جسم.
وإن قالوا: سمعه ليس كسمعنا، وبصره ليس كبصرنا، وإرادته وعلمه وقدرته.
قيل: وكذلك نزوله، واستواؤه، ورضاه، وغضبه، وفرحه، ليس كنزولنا واستوائنا، ورضانا وغضبنا وفرحنا.
فإن قالوا: لا يعقل في الشاهد نزول إلا انتقال، فيقتضى تفريغ مكان، وشغل آخر.
قيل: كذلك لا يعقل في الشاهد إرادة إلا ميل القلب إلى جلب ما يحتاج إليه المريد وينفعه، وفي ذلك فقره إلى ما سواه، ودفع ما يضره.
والله أخبرنا كما في الحديث الإلهي بقوله: ((إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني)) . فهو منزه عن الإرادة التي لا يعقل في الشاهد إلا هي، وكذا السمع لا يعقل إلا بدخول صوت في الصماخ، وذلك لا يكون إلا في جوف، والله منزه عن ذلك، فهو أحد صمد، كما قال ابن مسعود، وابن عباس، وغيرهما من السلف: ((الصمد: الذي لا جوف(2/363)
له)) (1) .
والمقصود أن هؤلاء المؤولة، أهل التحريف، يلزمهم على أصلهم أن لا يثبتوا لله صفة، وكفى بذلك ضلالاً وكفراً.
أو أن يؤمنوا بصفات الله – تعالى – كلها، على ما جاءت بها النصوص، بلا تحريف، ولا تمثيل، على ما يليق بعظمة الله وجلاله، كما أخبر تعالى بأنه لا سمي له، ولا ند له، ولا مثيل له، فإن الباب واحد.
ويجب أن يؤمن بصفات الله – تعالى – على وتيرة واحدة، وأن يطرح القياس وتوهم التمثيل، ويسلم للنص.
وما ذكره الحافظ، عن ابن العربي، أنه اختار التأويل، وأن النزول راجع إلى أفعاله، لا إلى ذاته، بل ذلك عبارة عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه ... إلى آخر كلامه المتهافت.
فيقال أولا: بئسما اخترت، فإنك اخترت الباطل.
ثم يقال له أيضاً: أخبرنا من أين ينزل أمره ونهيه، وأنت وقبيلك تنكرون أن يكون الله فوق مخلوقاته؟ أينزل أمره ونهيه من العدم؟ ويلزمكم أن يكون الملك الذي ينزل بأمره ونهيه – كما يزعمون – أكمل من رب العالمين؛ لأنه كان عالياً، ومن يكون أعلى فهو أكمل ممن هو أسفل منه.
ثم يقال له أيضاً: الملائكة لا تزال تنزل إلى الأرض، وإلى السماء الدنيا وغيرها بأمر الله، بالليل والنهار، فما بال هذا النزول يتحدد له ثلث الليل الآخر؟
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (5/352) ملخصاً.(2/364)
ويقال له أيضاً: إن في الحديث قوله – تعالى -: ((من يسألني فأعطيه؟ من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له)) وهذا لا يجوز أن يقوله إلا رب العالمين، وهل يجوز أن الملك يقول: من يستغفرني؟ وهذا كافٍ في إبطال قول المتأولين، كما يبطل قول الحافظ: ((مما يقوي التأويل ما رواه النسائي في بعض طرق الحديث: ((ينادي مناد: هل من داع فيستجاب له)) الحديث، وزعم القرطبي أن هذا يزيل الإشكال.
ونحن نقول لهؤلاء: إن الإشكال لازم لمذهبكم ولن ينفك عنه، ولن تجدوا ما يؤيده وإن أجهدتم أنفسكم، فهذه الرواية لا تخالف اللفظ الصريح الواضح الذي ضيق خناقكم، وقد جاء في بعض طرقه عند النسائي وابن ماجه قوله: ((لا أسأل عن عبادي غيري)) .
مع أنه يجوز أن الله – تعالى – مع قوله ذلك – يأمر من ينادي، ولكن المنادي لا يقول: ((من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)) .
ومن زعم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: إن الله يأمر منادياً يقول ذلك، فهو كاذب؛ لأنه خلاف المستفيض المتواتر عنه أن المنادي هو رب العالمين.
وأما قول البيضاوي: ((إن ذلك عبارة عن نور رحمته)) إلى آخر ما قال.
فيقال: رحمة الله – تعالى – تنزل كل وقت وآن، لا يختص نزولها بوقت معين، ونور الرحمة لا يقول: من يسألني فأعطيه ... إلى آخره.
((والأمر والرحمة إما أن يراد بهما أعيان قائمة بنفسها كالملائكة، أو يراد بها صفات، وأعراض.
فإن أريد الأول، فالملائكة تنزل كل وقت، والنزول المذكور في الحديث خص بجوف الليل، وجعل منتهاه السماء الدنيا، ومعلوم أن الملائكة نزولهم لا يختص لا بهذا الزمن، ولا بذاك المكان.(2/365)
وإن أريد صفات، وأعراض، مثل ما يحصل في قلوب العابدين في وقت السحر من الرقة، والتضرع، وحلاوة العبادة، ونحو ذلك، فهذا حاصل في الأرض ليس منتهاه السماء الدنيا.
ونزول أمره ورحمته لا يكون إلا منه، وحينئذ فهذا يقتضي أنه فوق العالم، فنفس تأويلهم يبطل مذهبهم.
وكذلك يبطله ما جاء من ألفاظ الحديث، مثل قوله: ((ثم يعرج)) وفي لفظ: ((ثم يصعد)) .
يضاف إليه قوله: ((ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، حتى يطلع الفجر)) .
ومعلوم أنه لا يجيب الدعاء، ويغفر الذنوب، ويعطي كل سائل سؤاله، إلا الله، وأمره ورحمته لا تفعل شيئاً من ذلك)) (1)
قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي لما أوَّل بشر الحديث بمثل ما ذكره الحافظ: ((فيقال: هذا من حجج النساء والصبيان، ومن ليس عنده بيان، ولا لمذهبه برهان؛ لأن أمر الله ورحمته ينزل في كل ساعة، ووقت، وأوان، فما بال النبي – صلى الله عليه وسلم – يحد لنزوله الليل دون النهار، ويوقت من الليل شطره، أو الأسحار، أفأمره ورحمته يدعوان العباد إلى الاستغفار؟ أو يقدر الأمر والرحمة أن يتكلما دونه، فيقولان: هل من داع فأجيبه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟
فإن قررت مذهبك لزمك أن تدعي أن الرحمة والأمر هما اللذان يدعوان
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (5/415-416) .(2/366)
إلى الإجابة والاستغفار، بكلامهما، وهذا محال عند السفهاء، فكيف عند الفقهاء؟
وقد علمتم ذلك ولكن تكابرون، وما بال رحمته وأمره ينزلان عند شطر الليل ثم لا يمكثان إلا إلى طلوع الفجر ثم يرفعان؟)) (1) .
وليس نزوله تعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلثه الآخر كنزول المخلوق الذي يتخيله الجهال، حتى يلزم منه أنه دائم النزول، وأنه تحت السماوات، وفوق السماء الدنيا مقدار ثلث الليل على كل بلد، ولو كان كما يتخيله الجهال لكان النزول ممتنعاً؛ وذلك لوجوه:
أحدها: أنه لا يكون فوق العرش أبداً، بل لا يزال نازلاً.
الثاني: أنه على هذا التقدير يلزم أن يكون الزمان بقدر ما هو عليه مرات كثيرة، ليقع النزول في ثلث ليل كل بلد، مع أن الليل يختلف طوله وقصره باختلاف عرض البلاد، واختلاف الأوقات.
الثالث: أنه لو كان كما تخيله الجاهل، فكيف يبقى عند هؤلاء إلى طلوع فجرهم، ويكون نازلاً عند من هم غربهم ولم يطلع فجرهم؟ وهلم جراً.
والحق أن نزول الله – تعالى – الذي أخبر به الصادق المصدوق ليس كنزول المخلوق كما يتخيله الجهال بالله – تعالى – وأوصافه، بل يمكن أن يكون نزوله في وقت واحد لخلق كثير، ويمكن أن يكون قدره لبعض الناس أكثر، ولا يمتنع على الله – تعالى – أن يقرب إلى بعض عباده دون بعض، فيقرب إلى داعيه دون من لم يدعه.
وهذا كما أنه تعالى يحاسب عباده يوم القيامة كلهم في ساعة واحدة، وكل واحد منهم يخلو به، فيقرره بذنوبه، وذلك المحاسب لا يرى أنه يحاسب غيره.
_________
(1) رد عثمان بن سعيد على بشر المريسي (ص378) ، مجموع عقائد السلف.(2/367)
وكما أنه سبحانه: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} ، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
والمقصود من الحديث قوله: ((فيقول: من يدعوني فأستجيب له)) إلى آخره؛ لأن هذا من كلام الله الذي يحض به عباده المؤمنين بنزوله إلى التعرض إلى فضله وكرمه، فيستجيب للداعي، ويعطي السائل سؤله، ويغفر للمستغفر ذنبه، فما أكرم هذا الرب، وأقربه ممن يؤمن بقربه، وما أوسع عطاءه، ولكن أهل التعطيل والتحريف من أبعد الناس عنه، تعالى وتقدس عما تتصوره أفكارهم المنحرفة.
وقوله وكلامه – تعالى – غير خلقه، فأهل التأويل والتعطيل يريدون أن يبدلوا كلامه ذلك وقوله، وأما خلقه فإنه لا يبدل، {لاَ تَبدِيلَ لِخلقِ اللهِ} .
*****
122 – قال: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، أن الأعرج حدثه، أنه سمع أبا هريرة، أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة)) وبهذا الإسناد: ((قال الله: أنفق أنفق عليك)) .
قوله: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة)) يعني: أن هذه الأمة آخر الأمم في الدنيا وعليها تقوم الساعة، وهم أول الأمم دخولاً الجنة، ويحاسبون قبل الناس كلهم.
والمقصود قوله: ((قال الله: أنفق أنفق عليك)) إذ هو قول الله، رواه رسوله عن ربه – تبارك وتعالى – وفي هذا القول أمره لنبيه بالإنفاق في سبيل الله، والدعوة إلى دينه، ووعده – تعالى – أن ينفق عليه – أي: يعطيه ما يحتاجه لذلك وغيره.(2/368)
وهذا القول يضاف إلى الله - تعالى - قولاً له حقيقة، وليس هو من القرآن، وقول الله - تعالى - غير خلقه، وتقدم هذا الحديث.
****
123 - قال: ((حدثنا زهير بن حرب، حدثنا ابن فضيل، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة - فقال: ((هذه خديجة أتتك بإناء فيه طعام، أو إناء فيه شراب، فأقرئها من ربها السلام، وبشرها ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب)) .
قوله: ((فقال: هذه خديجة)) القائل هو جبرائيل، كما صرح به في باب تزويج خديجة.
قوله: ((أتتك)) في رواية: ((تأتيك)) .
قوله: ((بإناء فيه طعام، أو إناء فيه شراب)) شك من أحد الرواة، وفي بعض نسخ البخاري حذفت ((فيه)) الثانية.
قوله: ((فأقرئها من ربها السلام)) أي: أخبرها. قال الحافظ: ((زاد الطبراني في الرواية المذكورة: فقالت: هو السلام، ومنه السلام، وعلى جبرائيل السلام.
قال العلماء: في هذه القصة دليل على وفور فقهها، لأنها لم تقل: وعليه السلام، عرفت أن الله لا يرد عليه السلام، كما يرد على المخلوقين؛ لأن السلام اسم من أسمائه - تعالى -، وهو دعاء بالسلامة، وذلك لا يصلح أن يرد به على الله. ويستفاد منه رد السلام على من أرسل السلام، وعلى من بلغه.
واستدل بهذه القصة على أن خديجة أفضل من عائشة؛ لأن الله أرسل إليها السلام، وأما عائشة فأرسل إليها السلام جبرائيل)) (1) .
_________
(1) ((الفتح)) ملخصاً (7/139) .(2/369)
قوله: ((وبشرها ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب)) تقدم معنى البشارة، والقصب هو قصب اللؤلؤ كما جاء مفسراً في الحديث)) .
قال الحافظ: ((عند الطبراني في ((الأوسط)) ، عن ابن أبي أوفي: ((يعني: قصب اللؤلؤ)) ، وفي ((الكبير)) من حديث أبي هريرة: ((ببيت من لؤلؤة مجوفة)) وأصله في مسلم.
وفي ((الأوسط)) من حديث فاطمة: قلت: يا رسول الله، أين أمي خديجة؟ قال: في بيت من قصب، قلت: أمن هذا القصب؟ قال: لا، من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت)) (1) .
والصخب: الصياح والمنازعة برفع الصوت. والنصب: التعب.
قال السهيلي: مناسبة نفي هاتين الصفتين: أنها أجابت النبي – صلى الله عليه وسلم – طوعاً، ولم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة، ولا تعب في ذلك، بل أزالت عنه كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عسير، فناسب أن يكون بيتها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها)) (2) .
والمقصد من الحديث قوله: ((فأقرئها من ربها السلام)) إلى آخره؛ لأن الله – تعالى – خاطب جبريل بذلك حينما أرسل معه السلام إليها، والبشارة، فهذا من كلام الله المتضمن الإكرام والإفضال على زوج سيد المرسلين – صلى الله عليه وسلم – ورضي الله عنها وعن سائر أزواجه وأصحابه أجمعين، وهذا من كلام الله المتعلق بمشيئته الذي أكرم به من شاء من خلقه، وهو غير القرآن وغير خلقه، فإن الخلق لا يرسل به.
******
124 – قال: ((حدثنا معاذ بن أسد، أخبرنا عبد الله، أخبرنا
_________
(1) المصدر السابق من (138) ملخصاً.
(2) ((الفتح)) (7/138) .(2/370)
معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: قال الله: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) .
قال: قال الله تعالى: ((فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ)) (1) .
فلا يعلم بما أعد الله لهم من الكرامة والنعيم إلا الله – تعالى – الذي خلقه، ولذلك قال: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) فلا أحد يستطيع وصفه؛ لأنه لم يره، ولم يسمع بمثله، ولا يتصوره أحد، وإنما يعلمه الله وحده.
روى مسلم في ((صحيحه)) ، من حديث المغيرة بن شعبة، يرفعه، قال: ((سأل موسى ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب، كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: هذا لك ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك، فيقول: رضيت يا رب.
قال: رب، فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر. قال: ومصداقه في كتاب الله – تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (2)
قال القرطبي: ((وهذه الكرامة إنما هي لأعلى أهل الجنة منزلاً، كما بينه
_________
(1) الآية 17 من سورة السجدة.
(2) الآية 17 من سورة السجدة.(2/371)
هذا الحديث)) (1) .
والمقصود قوله: ((أعددت لعبادي الصالحين)) إلى آخره، فهو من قول الله – تعالى – الذي خاطب به عباده، مخبراً إياهم بما أعده – تعالى – لعباده الصالحين.
والصالح: هو الذي يفعل ما أمره الله به، ويجتنب ما نهاه عنه، وإن فرط منه معصية، بادر بالتوبة والإنابة إلى ربه.
وقول الله وكلامه لا يختص بالكتب المنزلة على رسله كهذه الأحاديث، فهي من كلام الله، وكلامه غير خلقه.
**********
125- قال: ((حدثنا محمود، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني سليمان الأحول، أن طاوساً أخبره، أنه سمع ابن عباس يقول: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا تهجد من الليل قال: ((اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت)) .
تقدم شرح هذا الحديث في باب قول الله – تعالى -: {خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرضَ بِالحَقِ} ، وبعض ألفاظه تختلف عما سبق، كما هي عادته إذا أعاد الحديث،
_________
(1) ((تفسير القرطبي)) (14/104) .(2/372)
وسبق التنبيه عليه.
وفي هذا الحديث ما كان عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – من المداومة على قيام الليل؛ لأن لفظه ((كان)) تدل على ذلك غالباً.
وفيه إخباته - صلى الله عليه وسلم - في قيامه، واجتهاده في الدعاء والتضرع، والإخلاص، والثناء على الله – تعالى – والتوسل إليه تعالى بالإيمان بوعده ووعيده، وقوله، والتسليم له.
والإنابة: الرجوع إلى الخير خاصة. أما الرجوع إلى الشر فلا يكون إنابة، قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} (1) أي: عودوا إلى ما يرضى به عنكم من التوبة والانقياد لأوامره، والانتهاء عن زواجره.
والمراد من الحديث قوله: ((وقولك الحق)) أي: الثابت الذي فيه الهدى والعدل، فمحاولة المنافقين والكافرين والمفسدين تبديله، عدول منهم عن الحق، ولا يضرون بذلك إلا أنفسهم، كما أن من زعم أن الله لا يقول ولا يتكلم قد جانب الحق واستبدل به الباطل، وكلام الله – تعالى – لا نفاد له، وهو غير خلقه.
******
126- قال: ((حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا عبد الله بن عمر النميري، حدثنا يونس بن يزيد الأيلي، قال: سمعت الزهري، قال: سمعت عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله، عن حديث عائشة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا. وكل حدثني طائفة من الحديث الذي حدثني، عن عائشة، قالت: ولكن والله
_________
(1) الآية 54 من سورة الزمر.(2/373)
ما كنت أظن أن الله ينزل في براءتي وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فأنزل الله - تعالى - {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو بِالإِفكِ} العشر الآيات)) .
((الإفك)) : أبلغ ما يكون من الكذب، والافتراء، وقيل: هو البهتان، لا تشعر به حتى يفجأك، وأصله: الإفك، وهو القلب؛ لأنه قول مأفوك عن وجهه.
فبرَّأها الله مما قالوا، أي: بيَّن براءتها من ذلك الإفك، الذي قاله المنافقون وروجوه في مجتمع المدينة، فآذوا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته وأصحابه.
ولا يزال إلى اليوم فريق ممن يتستر بالإسلام - وهو يحاربه - ينمّي ذلك الإفك، ويشيعه، ويلفق الكذب والزور، ويحاول أن يلبِّس على السذج والمغفلين.
ولا شك أن من يفعل ذلك أنه معاند لله ورسوله، وسالك غير سبيل المؤمنين، ومؤذن لله ورسوله والمؤمنين بالحرب، وليس هو من الإسلام في شيء، بل هذا من أعظم الكفر والتكذيب لله ولرسوله.
قال الزمخشري: ((نزلت فيه ثماني عشرة آية، كل واحد منها مستقلة بما هو تعظيم لشأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتسلية له، وتنزيه لأم المؤمنين رضوان الله عليها، وتطهير لأهل البيت، وتهويل لمن تكلم في ذلك أو سمع به فلم تمجه أذناه، وعدة ألطاف للسامعين والتالين إلى يوم القيامة، وفوائد دينية، وأحكام وآداب لا تخفى على متأمليها)) (1) .
_________
(1) ((الكشاف)) (3/53) .(2/374)
وقال أيضاً: ((ولو قلبت القرآن كله، وفتشت عما أوعد به العصاة، لم تر الله - تعالى - قد أغلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة - رضوان الله عليها - ولا أنزل من الآيات القوارع، المشحونة بالوعيد الشديد، والعتاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه، ما أنزل فيه، على طرق مختلفة، وأساليب مفننة، كل واحد منها كاف في بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفى، حيث جعل القَذفَةَ ملعونين في الدارين جميعاً، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم، وأيديهم، وأرجلهم، تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب (1) الذي هم أهله)) (2) .
وقال ابن القيم: ((فإن قيل: فما بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توقف في أمرها، وسأل وهو أعلم بالله، وبمنزلته عنده؟ هلاّ قال: سبحانك هذا بهتان عظيم)) .
فالجواب: أن هذا من تمام الحِكَم التي جعل الله هذه القصة سبباً لها، وابتلاءً لرسوله، ولجميع الأمة إلى يوم القيامة، ليرفع بها أقواماً، ويضع آخرين.
ومن تمام الابتلاء أن تأخر الوحي، ليزداد المؤمنون إيماناً، والمنافقون إفكاً، ونفاقاً، وليظهر لرسوله والمؤمنين من سرائرهم، وتتم العبودية والمنة على الصدّيقة وأبويها.
_________
(1) قوله: ((الواجب)) إشارة إلى أن نفاذ الوعيد واجب، كما هو مذهب المعتزلة، وهو غير مسلم، فإن الله - تعالى - أخبر أنه يغفر الذنوب ما عدا الشرك لمن يشاء، فلا يجوز الحكم على الله - تعالى - بأنه يجب أن يعذب العصاة.
(2) ((الكشاف)) (3/56-57) .(2/375)
والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان هو المقصود بالأذي، فلذلك تولى الله - تعالى - الدفاع عنه، والرد على أعدائه، وذمهم، وتوعدهم بالعذاب العظيم)) (1) .
قولها: ((ولكن والله - الله - ما كنت أظن أن الله ينزل في براءتي وحياً يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم فيّ بأمر يتلى)) كانت رضي الله عنها في نفسها صغيرة، ولكنها عند الله، وعند المؤمنين، عظيمة كبيرة؛ لأنها زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحبيبته، وقد قال صلوات الله وسلامه عليه، حينما سئل: أي الناس أحب إليك؟ قال عائشة، فقال السائل: ومن الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: عمر)) (2) .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)) أخرجاه في ((الصحيحين)) (3) .
وهكذا أهل الفضل يحتقرون أنفسهم، ويزدرونها في حق الله - تعالى -، وذاك مما يعلي منازلهم عند الله - تعالى -.
وفيه التصريح بأن الله يتكلم بما يوحيه إلى نبيه، وكلامه - تعالى - منه ما يتعبد بتلاوته كالقرآن، وغيره كهذه الأحاديث التي ذكر البخاري شيئاً منها، وفيه أن كلامه ينزل من الله، فالله فوق خلقه، وكلامه غير مخلوق، وغير محصور في الكتب المنزلة، وهذا هو وجه الدليل منه.
وقولها: ((ولكني كنت أرجو أن يرى رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئني الله بها)) وذلك ليقينها ببراءتها، وثقتها بأن ذلك سوف يظهر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكانت تطمع
_________
(1) ((زاد المعاد)) (3/261-263) ملخصاً.
(2) رواه مسلم (7/109) .
(3) البخاري (5/36) ومسلم (7/138) .(2/376)
وترجو الله - تعالى - أن يرى نبيه في المنام ما يكون فيه براءتها، ولكن الله بر كريم، وعدل حكم، له فيما يشرعه من الحكم والمنن على خلقه ما لا يحاط به، ومن ذلك ما أنزله على نبيه ببراءة زوجه أم المؤمنين، مما رماها به أهل النفاق والبهت، فحصل بذلك سروره، وسرور زوجه ووالديها والمؤمنين إلى يوم القيامة.
كما حصل بذلك فضيحة المنافقين وخزيهم وبيان كذبهم، وظهور نياتهم الخبيثة، وانكشاف شيء من مؤامراتهم ضد نبي الله، وما جاء به من هذا الدين العظيم، وغير ذلك من الحكم.
قوله: ((فأنزل الله - تعالى - {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو بِالإِفكِ} العشر الآيات، الذي نزل في هذه الواقعة ثماني عشرة أية، كما سبق في كلام الزمخشري - رحمه الله -.
والمقصود من الحديث - كما سبق قريباً - قولها: ((ما كنت أظن أن الله ينزل براءتي وحياً يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى)) ؛ لأن فيه التصريح بأن الله يتكلم بأمره، وما يشرعه لعباده، وما يحكم به بينهم، وما يعدهم، أو يتوعدهم به، على أعمالهم، وينزل ذلك منه على نبيه، الذي يبلغ عنه.
ولا يمكن أن يأمر وينهى ويحكم، ويعد ويتوعد، ويجزي، إلا بقوله الذي يتكلم به، وليس قوله محصوراً في كتبه التي تَعَبَّدَ عباده بتلاوتها، في الصلاة وغيرها، ولكن كل ما يحكم به بين خلقه، وما يشرعه لعباده، وعده ووعيده كله بكلامه.
والمنافقون والكفار يريدون أن يبدلوا كلام الله الذي هو شرعه ودينه فيخالفونه، أو لا يمتثلونه، والله يجزيهم بما يستحقون ولا يظلمهم.
ولا أحد يستطيع تغيير خلق الله - تعالى -.(2/377)
وبهذا وأمثاله يتضح أن قول أهل الاعتزال ومقلديهم من الروافض وغيرهم ممن يزعم أن قول الله - تعالى - مخلوق قول خطل، بعيد عن الصواب كل البعد.
******
127 - قال: ((حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعلمها، فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها بعشر أمثالها، إلى سبعمائة)) .
الإرادة: هي العزم على الشيء، وقد جاء في رواية ابن عباس بلفظ ((الهم)) وهو: ترجيح قصد الفعل على الترك، تقول: هممت بكذا، أي: قصدته بهمتي، وهو فوق خطور الشيء في القلب.
وقد يطلق الهم على الإرادة.
وهذا الخطاب من الله - تعالى - للملائكة الموكلين بحفظ عمل الإنسان وكتابته، وهو يدل على فضل الله على الإنسان، وتجاوزه عنه.
قوله: ((إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة، فلا تكتبوها عليه حتى يعلمها)) .
قد تكون الإضافة في قوله: ((عبدي)) بمعنى العابد المطيع، أي: عابدي، وقد تكون بمعنى المعبد المذلل، والظاهر أنه مقيد بالمؤمن.
والعمل قد يراد به عمل القلب والجوارح، وهو الظاهر؛ لأنه قد جاء ما يدل على أن عمل القلب يؤاخذ به، ويجزي عليه، قال الله - تعالى -: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1)
_________
(1) الآية 25 من سورة الحج.(2/378)
وفي الحديث الصحيح: ((إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في المنار)) ، قالوا: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: ((إنه كان حريصاً على قتل أخيه)) (1) .
وقد جاء قيد الهم بالعزم الجازم، ففي المسند من حديث خريم بن فاتك: ((من هم بحسنة يعلم الله أنه قد أشعر بها قلبه، وحرص عليها، كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة، لم تكتب عليه، ومن عملها كتبت واحدة، ولم تضاعف عليه)) (2) .
فهذه النصوص تصلح لتخصيص عموم قوله: ((إذا أراد أن يعمل سيئة فلا تكتبوها حتى يعملها)) وهذا لا يخالف قوله في السيئة: ((لم تكتب عليه)) ؛ لأن عزم القلب وتصميمه عمل. قوله: ((فإن علمها فاكتبوها بمثلها)) ، يعني: سيئة واحدة، قال الله – تعالى -: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (3) .
وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} (4) .
قوله: ((فإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة)) قيد تركها بأنه من أجل الله – تعالى – أي: خوفاً منه، وحياءً، أما إذا تركها عاجزاً، أو خوفاً من الخلق، أو لعارض آخر، فإنها لا تكتب له حسنة، بل ربما كتبت عليه سيئة.
_________
(1) رواه البخاري في الإيمان وغيره، انظر ((الفتح)) (1/84) ، ومسلم رقم (2888) (4/2213) .
(2) ((المسند)) (4/345، 346، 322) .
(3) الآية 160 من سورة الأنعام.
(4) الآية 40 من سورة غافر.(2/379)
وفي حديث ابن عباس: ((ومن هم بسيئة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة)) (1) ، فأكدها بقوله: ... ((عنده)) ، وبقوله: ((كاملة)) ، وهو مقيد بما في هذا الحديث، يعني: أن يكون عدم عملها من أجل الله - تعالى -.
قوله: ((وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة)) إلى آخره.
وجاء وصفها في حديث ابن عباس المشار إليه، بأنها كاملة، وهذا تفضل من الله - تعالى - الكريم المنان على عباده، فله الحمد والمنة، فأي كرم أعظم من هذا، الهم بالحسنة يكتب الله به حسنة كاملة، وعمل الحسنة يكتب به عشر حسنات إلى سبعمائة حسنة، وفي حديث ابن عباس المشار إليه: ((إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة)) يعني: أكثر من سبعمائة، فالحمد لله ذي الطول والكرم، فلن يهلك على الله إلا من لا يصلح للتفضل، وليس هو أهل لذلك.
والمقصود من الحديث كما تقدم في نظائره السابقة، قوله: ((يقول الله: إذا أراد عبدي)) فأسند القول إلى الله، واصفاً له بذلك، وهذا القول من شرعه الذي فيه وعده لعباده، وتفضله عليهم، وهو غير القرآن، وليس مخلوقاً، فقوله تعالى غير خلقه.
*****
128 - قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني سليمان بن بلال، عن معاوية ابن أبي مزرد، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خلق الله الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم، فقال: مه؟ قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة.
_________
(1) رواه البخاري في ((الرقاق)) ، الباب 31، وانظر ((الفتح)) (11/323) ، ومسلم رقم (131) (1/118) .(2/380)
قيام الرحم واستجارتها بالله من القطيعة ومعنى إضافة الحقو إلى الله تعالى
فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك، قالت: بلى يا رب قال: فذلك لك)) .
ثم قال أبو هريرة: {فَهَل عَسَيتُم إِن تَوَلَّيتُم أَن تُفسِدُواْ فيِ الأرضِ وَتُقَطِعُواْ أَرحَامَكُم} .
((أل)) في الخلق تدل على الشمول، فهي عامة لجميع الخلق، ويدل عليه قوله: ((فلما فرغ)) أي: انتهى من خلق المخلوقات، وهو يدل على أن ذلك وقع في وقت محدد، وإن كان الله - تعالى - لا حد لقدرته، ولا يشغله شأن عن شأن، ولكن اقتضت حكمته أن يجعل لفعله ذلك وقتاً معيناً، وهذا من الأدلة على أن أفعاله تتعلق بمشيئته، فمتى أراد أن يفعل شيئاً فعله.
وليس معنى قوله: ((لما فرغ)) أنه تعالى انتهى من خلق كل شيء، بل مخلوقاته - تعالى - لا تزال توجد شيئا بعد شيء، ولكن سبق علمه بها، وتقديره لها وكتابته إياها، ثم هي تقع بمشيئته، فلا يكون إلا ما سبق به علمه، وتقديره وكتابته، وشاءه فوجد.
قال ابن أبي جمرة: (( (ظاهر الحديث: الإخبار بعظم ما جعل الله - تعالى - للرحم من الحق، وأن وصلها من أكبر أفعال البر، وأن قطعها من أكبر المعاصي)) (1) .
قوله: ((قامت الرحم، فقال: مه؟ قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة)) .
هذه الأفعال المسندة إلى الرحم، من القيام، والقول، ظاهر الحديث أنها على ظاهرها حقيقة، وإن كانت الرحم معنى يقوم بالناس، ولكن قدرة الله -
_________
(1) ((بهجة النفوس)) (4/146) .(2/381)
تعالى - لا تقاس بما يعرفه عقل الإنسان، ولا داعي أن يقال: إن الله - تعالى - جعلها في جوهر، وجعل لها حياة، وأنطقها بعد ذلك، فقد جاء أن أعمال العبد تأتيه، وتخاطبه، وتجادل عنه، وهذا من جنسه، والله أعلم.
وقيام الرحم قيام مخصوص، غير القيام المتبادر من لفظه، وقد جاء إيضاحه في الرواية التي ذكرها في ((التفسير)) : وفيه: ((قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن)) (1) .
قال الحافظ: قال القابسي: ((أبى أبو زيد المروزي أن يقرأ لنا هذا الحرف؛ لإشكاله، ومشى بعض الشراح على الحذف، فقال: ((أخذت بقائمة من قوائم العرش)) .
وقال عياض: الحقو معقد الإزار، وهو الموضع الذي يستجار به، على عادة العرب؛ لأنه من أحق ما يحامى عنه ويدفع، كما قالوا: نمنعه مما نمنع منه أزرنا، فاستعير ذلك مجازاً للرحم في استعاذتها بالله من القطيعة. انتهى. وقد يطلق الحقو على الإزار نفسه، كما في حديث أم عطية: ((فأعطاها حقوه، فقال: أشعرنها إياه)) يعني: إزاره، وهو المراد هنا، وهو الذي جرت العادة بالتمسك به عند الإلحاح في الاستجارة، والطلب، وهذا المعنى صحيح مع اعتقاد تنزيه الله عن الجارحة)) (2) .
قلت: هذا على مذهب أهل التأويل المذموم، والصواب عدم حمل كلام الله ورسوله على الاصطلاحات الحادثة بعد مضي عصر الصحابة وأتباعهم؛ لأن الله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - خاطب الناس بلغة العرب، والمخاطبون فهموا مراده، وما كانوا يفرقون بين الحقيقة والمجاز، وتقدمت الإشارة إلى ذلك.
_________
(1) البخاري مع ((الفتح)) (8/579) .
(2) ((الفتح)) (8/580) .(2/382)
قال شيخ الإسلام – رحمه الله – في رده على الرازي في زعمه أن هذا الحديث يجب تأويله.
قال: ((فيقال له: بل هذا من الأخبار التي يقرها من يقر نظيره، والنزاع فيه كالنزاع في نظيره.
فدعواك أنه لا بد فيه من التأويل بلا حجة تخصه، لا تصح)) (1) .
وقال: ((وهذا الحديث في الجملة من أحاديث الصفات، التي نص الأئمة على أنه يمر كما جاء، وردوا على من نفى موجبه، وما ذكره الخطابي وغيره أن هذا الحديث مما يتأول بالاتفاق، فهذا بحسب علمه، حيث لم يبلغه فيه عن أحد من العلماء أنه جعله من أحاديث الصفات التي تمر كما جاءت.
قال ابن حامد: ومما يجب التصديق به: أن لله حقواً.
قال المروزي: قرأت على أبي عبد الله كتاباً، فمر فيه ذكر حديث أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله خلق الرحم حتى إذا فرغ منها أخذت بحقو الرحمن)) فرفع المحدث رأسه، وقال: أخاف أن تكون كفرت. قال أبو عبد الله: هذا جهمي.
وقال أبو طالب: سمعت أبا عبد الله يسئل عن حديث هشام بن عمار، أنه قرئ عليه حديث الرحم، تجيء يوم القيامة فتعلق بالرحمن – تعالى – فقال: أخاف أن تكون قد كفرت؟ فقال: هذا شامي ما له ولهذا؟ قلت: فما تقول: قال: يمضي كل حديث على ما جاء)) (2) .
وقال القاضي أبو يعلى: ((اعلم أنه غير ممتنع حمل هذا الخبر على ظاهره،
_________
(1) ((نقض التأسيس)) (3/127) .
(2) المصدر المذكور (128/141) ملخصاً.(2/383)
وأن ((الحقو)) و ((الحجزة)) صفة ذات، لا على وجه الجارحة، والبعض، وأن الرحم آخذة بها، لا على وجه الاتصال، والمماسة، بل نطلق ذلك تسمية كما أطلقها الشرع. وقد ذكر شيخنا أبو عبد الله – رحمه الله – هذا الحديث في كتابه، وأخذ بظاهره، وهو ظاهر كلام أحمد)) (1) .
قلت: قوله: ((لا على وجه الجارحة، والبعض)) وقوله: ((لا على وجه الاتصال والمماسة)) قول غير سديد، وهو من أقوال أهل البدع، التي أفسدت عقول كثير من الناس.
فمثل هذا الكلام المجمل لا يجوز نفيه مطلقاً، ولا إثباته مطلقاً؛ لأنه يحتمل حقاً وباطلاً، فلا بد من التفصيل في ذلك، والإعراض عنه أولى؛ لأن كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم - خال منه، وليس هو بحاجة إليه فهو واضح. وليس ظاهر هذا الحديث أن لله إزاراً ورداءً من جنس الأزر والأردية التي يلبسها الناس، مما يصنع من الجلود والكتان والقطن وغيره، بل هذا الحديث نص في نفي هذا المعنى الفاسد. فإنه لو قيل عن بعض العباد: أن العظمة إزاره، والكبرياء رداؤه؛ لكان إخباره بذلك عن العظمة والكبرياء، اللذين ليسا من جنس ما يلبس من الثياب.
فإذا كان هذا المعنى الفاسد لا يظهر من وصف المخلوق؛ لأن تركيب اللفظ يمنع ذلك، وبين المعنى المراد، فكيف يدعى أن هذا المعنى ظاهر اللفظ في حق الله – تعالى -؟ فإن كل من يفهم الخطاب، ويعرف اللغة، يعلم أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يخبر عن ربه بلبس الأكسية والثياب، ولا أحد ممن يفهم الخطاب يدعي في قوله – صلى الله عليه وسلم – في خالد بن الوليد ((إنه سيف الله)) أن خالداً حديد، ولا في قوله – صلى الله عليه وسلم – في الفرس: ((إنا وجدناه بحراً)) أن ظاهره أن الفرس ماء
_________
(1) إبطال التأويل (ص232) مخطوط.(2/384)
كثير، ونحو ذلك)) (1) .
قوله: ((مه)) هي كلمة ردع وزجر، أو استفهام.
قوله: ((هذا مقام العائذ بك من القطيعة)) الإشارة إلى ما ذكر في الرواية التي أشرت إليها، وهي قوله: ((قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن)) ، وهذا أعظم مقام، والعائذ به استعاذ بأعظم معاذ، وهو دليل على تعظيم صلة الرحم، وعظم قطيعتها.
والقطيعة: عدم الوصل، والوصل: هو الإحسان إلى ذوي الرحم، والتودد له والقرب منه، ومساعدته بإسعافه بما يرضيه، ودفع ما يؤذيه، والحرص على جلب ما ينفعه في الدنيا والآخرة.
قوله: ((ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فذلك لك)) من وصله الله، وصل إلى كل خير وسعادة في الدنيا والآخرة، ولا بد أن تكون نهايته مجاورة ربه في الفردوس؛ لأن الوصل لا ينتهي إلا إلى هناك فينظر إلى وجه ربه الكريم. ومن قطعه الله فهو المبتوت المقطوع مع عدو الله الشيطان الطريد الرجيم، ولو أراد الخلق كلهم صلته ونفعه، لم يفده ذلك.
فأي تحذير وتهديد أعظم من هذا؟ وأي وعد وثواب أكبر من ثواب صلة الرحم؟ ولهذا قرأ أبو هريرة الآية مستشهداً بها، وفيها أن قطيعة الرحم مجلبة للعنة الله وغضبه وشديد عقابه.
والمقصود من الحديث: ما فيه من مخاطبة الله – تعالى – للرحم، بقوله: ((مه)) وقوله: ((ألا ترضين)) إلى آخره، وهو خطاب كريم يجب أن يؤمن
_________
(1) ((نقض التأسيس)) (3/157) ببعض التصرف.(2/385)
به على ظاهره، وما فيه من وعده، ووعيده، وحكمه وشرعه، وخطابات الله - تعالى - وكلامه غير محصور في كتبه المنزلة على رسله، وكلامه تعالى غير مخلوقاته، كما سبق التنبيه عليه مراراً، والله أعلم.
******
129- قال: ((حدثنا مسدد، حدثنا سفيان، عن صالح، عن عبيد الله، عن زيد ابن خالد، قال: مطر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (قال الله: أصبح من عبادي كافر بي، ومؤمن بي)) .
زيد بن خالد الجهني، صاحب لواء جهينة يوم فتح مكة، من أهل بيعة الرضوان، قال ابن عبد البر: اختلف في سنة وفاته، وفي وقتها ومكانها، اختلافاً كثيراً، فقيل: توفي في المدينة سنة ثمان وستين، وقيل: بمصر سنة خمسين، وقيل: بالكوفة في آخر خلافة معاوية، - رضي الله عنه - وعن سائر الصحابة أجمعين)) (1) .
قوله: ((مطر)) أي: نزل عليه المطر ليلاً، وذلك في الحديبية، كما جاء مبيناً في هذا الحديث، ولكن المؤلف - رحمه الله - اختصره هنا، واقتصر على محل الشاهد منه.
قوله: ((كافر بي، ومؤمن بي)) جاء بيان ذلك في نفس الحديث، حيث قال: (أما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي، مؤمن بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب)) .
_________
(1) ((الاستيعاب)) (2/549) ، ((أسد الغابة)) (2/284) ، ((الإصابة)) (2/603) .(2/386)
ومعنى الإيمان هنا: الاعتراف بفضل الله، ونسبة النعم وإنزال المطر والتصرف في الكون إلى الله – تعالى -؛ لأنه هو مالك كل شيء، وخالقه والمدبر شؤون خلقه.
ومعنى الكفر في هذا الحديث: نسبة النعم، وإنزال المطر، والتأثير في الكون، إلى غير الله – تعالى – كقولهم: مطرنا بالنوء الفلاني.
والنوء هو: النجم الذي ينزله القمر، وغيره.
قال ابن عبد البر: ((النوء في كلام العرب: واحد أنواء النجوم، يقال: ناء النجم ينوء: إذا نهض للطلوع، وقد يكون يميل للمغيب)) (1) .
فلا يجوز نسبة نزول المطر، وغيره إلى النجم، وإن لم يكن ذلك عن اعتقاده، فإن النجوم لا تفعل شيئاً، وليس لها تأثير، وتصريف لأحوال الجو وغيره.
أما من اعتقد أنها تفعل شيئاً من ذلك حقيقة، فهو مشرك الشرك الأكبر.
قال ابن عبد البر: ((معنى نسبة المطر إلى النوء هو عندي على وجهين:
أحدهما: اعتقاد أن النوء هو الموجب لنزول الماء، وهو المنشئ للسحاب دون الله – تعالى -، فذلك كافر كفراً صريحاً، يجب استتابته عليه وقتله؛ لنبذه الإسلام، ورده القرآن.
الثاني: أن يعتقد أن النوء ينزل الله به الماء، وأنه سبب الماء، على ما قدره الله، وسبق في علمه، فهذا وإن كان وجهاً مباحاً، فإن فيه أيضاً كفراً بنعمة الله – عز وجل -، وجهلاً بلطيف حكمته؛ لأنه ينزل الماء متى شاء.
قال الشافعي: لا أحب لأحد أن يقول: مطرنا بنوء كذا، وإن كان النوء
_________
(1) ((التمهيد)) (16/287) .(2/387)
عندنا: الوقت، والوقت مخلوق، لا يضر ولا ينفع، ولا يمطر، ولا يحبس شيئاً من المطر، وإنما يقول: مطرنا وقت كذا، كما يقول: بشهر كذا، ومن قال: مطرنا بنوء كذا، وهو يريد أن النوء أنزل الماء، فهو كافر حلال دمه إن لم يتب.
وسمع الحسن رجلاً يقول: طلع سهيل، وبرد الليل، فكره ذلك، وقال: إن سهيلاً لم يأت قط بحر ولا برد.
وكره مالك أن يقول الرجل للغيم، أو السحابة: ما أخلقها للمطر.
وهذا يدل على أنهم احتاطوا، فمنعوا الناس من الكلام بما فيه أدنى متعلق من أمر الجاهلية)) (1) .
والمقصود من الحديث هنا: إسناد القول إلى الله – تعالى -، وهو قول حقيقة يخاطب به رسله من الملائكة والبشر، ويبين فيه حكمه وشرعه، وما يثيب عليه وما يعاقب عليه، وأنه يقول، ويأمر، وينهى متى شاء – جل وعلا -، وأن قوله غير مخلوق، وغير محصور في القرآن ونحوه، وقوله غير مفعولاته.
*****
130- قال: ((حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((قال الله: إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه، وإذا كره لقائي، كرهت لقاءه)) .
((إذا)) هنا ظرف للزمن المستقبل، وفيها معنى الشرط.
وتقدم الكلام في صفة محبة الله – تعالى – وأنه تعالى يحب أهل طاعته من عباده، وأن ذلك ثابت بكتاب الله، وسنة رسوله، وأدلته لا تكاد تنحصر، ومنكره
_________
(1) ((التمهيد)) (16/285-287) ملخصاً.(2/388)
ضال عن طريق المنعم عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، سالك طريق أهل الضلال والتحريف والتبديل.
وتقدم كذلك الكلام على حب العباد لله – تعالى – وأن ذلك أصل الدين، ومعنى لا إله إلا الله، وأن من لم يحب الله – تعالى – حب ذل وخضوع وتعظيم أنه ليس بمسلم ولا يعرف الإسلام.
قال ابن عبد البر: ((هذا خبر عن حال الطائفتين عند لقاء ربهم، فمن أحب لقاء الله، فهو الذي يحب الله لقاءه، ومن كره لقاء ربه عند الموت، فذاك الذي يكره الله لقاءه)) (1) .
وفي هذا الحديث وصف الله – تعالى – بأنه يكره بعض عباده، وبعض الأعمال، كما قال تعالى: {وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ} (2) ، وقال جل وعلا: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} (3) .
وفي ((صحيح مسلم)) ، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله عز وجل حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات، وكره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)) (4) .
وفيه عن أبي هريرة مرفوعاً: ((إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً ... )) الخ (5) .
_________
(1) من ((الفتح)) (11/358) بالمعنى.
(2) الآية 46 من سورة التوبة.
(3) الآية 38 من سورة الإسراء.
(4) ((مسلم)) (3/1341) .
(5) ((صحيح مسلم)) (3/1340) .(2/389)
وجاء في الرواية التي ذكرها في الرقاق بعد قوله: ((كره الله لقاءه)) قالت عائشة، أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت؟ ((قال: ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وأن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه)) .
قال الزرقاني: ((عند حضور أجله إن عاين ما يحب أحب لقاء الله، وإن عاين ما يكره لم يحب الخروج من الدنيا، هذا معناه كما تشهد به الآثار المرفوعة، وذلك حين لا تقبل التوبة، وليس المراد الموت؛ لأنه لا يخلو من كراهته أحد، ولكن المكروه من ذلك إيثار الدنيا، وكراهة أن يصير إلى الله – تعالى –، قاله ابن عبد البر)) (1) .
والمقصود من الحديث الجملة المذكورة هنا، إذ فيها قول الله – تعالى – إنه يحب لقاء بعض عباده، ويكره لقاء بعضهم.
فالمتقي يحب لقاء ربه عند انقطاع عمله، وانقضاء أجله، فيحب ربه لقاءه ليكرمه، ويجزيه فوق ما يتصوره، فضلاً من ربه تعالى.
وأما الفاجر فإنه عند معاينة رسل الله إليه، وإخبارهم إياه بعذاب الله، يكره عند ذلك ملاقاة الله، فيكره الله لقاءه، فأخبر تعالى عباده بهذا قولاً منه على لسان رسوله، وقوله غير خلقه، وأقواله تعالى غير محصورة في كتبه.
وتقدم أن لقاء الله يتضمن معاينته ورؤيته، وكل أحد من عباد الله سوف يلاقي ربه، فيسأله عن عمله، كما في حديث عدي المتقدم، والله أعلم.
*****
_________
(1) ((شرح الموطأ للزرقاني)) (2/85) .(2/390)
131- قال: ((حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله - تعالى -: أنا عند ظن عبدي بي)) .
هذا الحديث تقدم في باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِرُكُمُ اللهُ نَفسَهُ} .
والمقصود منه هنا واضح كما تقدم في الأحاديث قبله، وهو أن الله - تعالى - تكلم بهذا القول مخاطباً عباده بما يريد منهم أن يفعلوه فيثيبهم عليه، وبما يريد منهم أن يجتنبوه، حتى لا يعاقبهم، وتقدم أن الكلام صفة كمال، وأن الله - تعالى - متصف بها، وأن كلامه يتعلق بمشيئته، فمتى شاء أن يتكلم تكلم، وكما أنه تعالى في الأزل يتكلم بما يشاء، فكذلك في المستقبل، وفي كل وقت، إذا أراد أن يتكلم وكلام الله غير محصور ولا نفاد له، وهو غير خلقه.
******
132- قال: ((حدثنا إسماعيل، حدثنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قال رجل لم يعمل خيراً قط: إذا مات فحرقوه، واذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فو الله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت؟ قال: من خشيتك، وأنت أعلم، فغفر له)) .
الظاهر أن هذا الرجل من بني إسرائيل، ولهذا أورده المصنف رحمه الله في أحاديث بني إسرائيل.
وقوله: ((لم يعمل خيراً قط)) الظاهر أن المقصود عمل الجوارح، وأن عنده أصل الإيمان في قلبه، فهو مؤمن بالله، وبالجزاء والحساب، وهذا واضح(2/391)
من قوله: ((فعلت ذلك من خشيتك وأنت أعلم)) ، ومن قوله: ((فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني)) ... الخ.
وفي الرواية التي في أحاديث الأنبياء: ((وكان رجل يسرف على نفسه)) (1) .
قوله: ((إذا مات فحرقوه)) عدل عن خطاب المتكلم إلى الغائب، كراهية إسناد هذه الأفعال المخبر عنها، وهذا أسلوب معروف في كلام العرب، إذا كرهوا العمل المخبر عنه، ذكروه بلفظ خطاب الغيبة كراهة إضافته إلى المتكلم لفظاً.
وقد جاء على الأصل في الرواية المذكورة في أحاديث بني إسرائيل، من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، وحذيفة، كلهم بلفظ المتكلم: ((إذا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني)) .
قوله: ((واذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر)) أي: فرقوا أجزاءه المسحوقة في الريح، التي تبعثر ذراته بعد التحريق والطحن، إمعاناً في تفرقة أجزائه، حتى لا تجتمع، ظاناً أن الله لا يقدر على جمعه وبعثه، ولهذا قال: ((فو الله لئن قدر الله عليه)) أي: قدر على جمعي، وبعثني حياً بعد الموت، وفي الرواية المشار إليها: ((فو الله لئن قدر الله عليَّ)) .
وهذا هو ظاهر الروايات جميعها، بل هو صريحها، وما ذكر من التمحلات والتكلفات من كثير من الشراح، لا داعي لها، وهي خلاف صريح اللفظ كقولهم: ((قدر)) من التقدير، وهو التضييق، أو قدر على العذاب، ونحو ذلك مما يجزم المتتبع لروايات الحديث والناظر في السياق أنه خطأ محض.
فهو شاك في قدرة الله على جمعه، وإحيائه بعد ذلك، ومع هذا عذره
_________
(1) انظر ((الفتح)) (6/514) .(2/392)
الله – تعالى – بجهله، وحسن قصده، وهذا يدل على أن الجاهل قد يغفر الله له وإن عمل ما يدل على كفره لو كان عالماً.
قال شيخ الإسلام: ((فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهو كفر باتفاق المسلمين)) (1) .
وقال: ((وهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل بقدرة الله – تعالى – على إعادة ابن آدم بعد ما أحرق وذري، وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل به ذلك)) (2) .
وقال أيضاً: ((فهذا شك في قدرة الله، وفي المعاد، بل ظن أنه لا يعود، وأنه لا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، وقد غفر الله له)) (3) .
وهذا هو المتبادر من الحديث، فلا يعدل عنه لا بدليل يوجب ذلك، وليس هناك ما يوجب صرفه عن ظاهره.
وقال أيضاً: ((فهذا الرجل اعتقد أن الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك أو شك أنه لا يبعثه، وكل من هذين الاعقادين كفر، يكفر من قامت عليه الحجة، لكنه كان يجهل ذلك، ولم يبلغه العلم بما يرده عن جهله، وكان عنده إيمان بالله، وبأمره ونهيه ووعده ووعيده، فخاف من عقابه، فغفر الله له بخشيته)) (4) .
قوله: ((فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه)) الروايات التي اطلعت عليها كلها بلفظ الماضي الذي وقع وانتهى.
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (3/231) .
(2) ((مجموع الفتاوى)) (12/490-491) .
(3) ((مجموع الفتاوى)) (23/347) .
(4) ((الاستقامة)) (1/164) .(2/393)
قال الحافظ: ((هذا جميعه كما قال ابن عقيل: إخبار عما سيقع له يوم القيامة، وليس كما قال بعضهم: إنه خاطب روحه، فإن ذلك لا يناسب قوله: ((فجمعه الله)) ؛ لأن التحريق والتفريق إنما وقع على الجسد، وهو الذي يجمع، ويعاد عند البعث)) (1) .
وأقول: ليس هناك ما يمنع أن يكون ذلك وقع، بل هذا هو الظاهر من الحديث برواياته المتعددة، وهو الظاهر من صنيع البخاري – رحمه الله -، حيث أورده في أحاديث بني إسرائيل التي وقعت لهم، وأورده في هذا الباب مستشهداً به على أن الله – تعالى – خاطب هذا الرجل، كما في سائر أحاديث الباب، فيكون الله – تعالى – قد أحياه، وخاطبه، ثم مات أخرى، كما حصل لقتيل بني إسرائيل، الذي أمر الله – تعالى – أن يضرب بجزء من البقرة فحيى.
أو تكون حياته بعد جمعه حياة برزخية، يخاطب فيها ويجيب، ويدرك ويعرف، كما خاطب الله – تعالى – والد جابر بعد ما قتل، قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لجابر: ((ألا أبشرك عما لقي أبوك؟ إن الله كلم أباك من غير حجاب، فقال له: عبدي، سلني ... )) الحديث (2) ، وعلى كُلِّ فقدرة الله – تعالى – صالحة لما ذكر وغيره، والله أعلم.
قوله: ((فقال: لم فعلت؟ قال: من خشيتك وأنت أعلم، فغفر له)) .
أي: لماذا أمرت أولادك بأن يحرقوك، ويذروك في يوم عاصف، نصفك في البر والنصف الآخر في البحر؟
وهذا يدل على أن من أمر بشيء، ففعل حسب أمره، أنه هو المسؤول
_________
(1) ((الفتح)) (6/523) .
(2) رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) (ص42) .(2/394)
عن ذلك وعليه تبعته، ولا يرفع ذلك المسؤولية عن المباشر للفعل،، ولا سيما إذا كان فيه معصية لله – تعالى -، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق – تعالى -.
والله – تعالى – يسأله، وهو أعلم بقصده، وما أراده، وإنما ذلك لتقريره بذنبه، حتى يتم الجزاء، فلما كان الدافع له على ما أقدم عليه هو خوف الله بقصد حسن، غفر الله له، وإن كان فعله خطأ، وجهلاً بقدرة الله – تعالى – ومع ذلك عذره الله، وغفر له.
والشاهد منه قوله: ((ثم قال: لم فعلت؟)) ؛ لأنه خطاب من الله – تعالى – لهذا يسأله عن فعله، الذي خالف فيه مقتضى الإيمان بكمال قدرة الله – تعالى -، وقول الله – تعالى – وخطابه غير ما يخلقه، ويفعله مفعولاً له، وكلام الله – تعالى – داخل
في أفعاله الاختيارية، ولهذا أخبر تعالى أنه لا نفاد له، ولا يجوز قصر كلام الله على كتبه.
******
133- قال: ((حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا همام حدثنا إسحاق بن عبد الله، سمعت عبد الرحمن بن أبي عمرة، قال: سمعت أبا هريرة، قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن عبداً أصاب ذنباً – وربما قال: أذنب ذنباً – فقال: رب أذنبت ذنبا – وربما قال: أصبت ذنبا – فاغفر لي: فقال ربه: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ به؟ غفرت لعبدي. ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبا – أو أذنب ذنبا – فقال: رب أذنبت – أو أصبت – آخر، فاغفره، فقال: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي.
ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبا – وربما قال: أصاب ذنبا – فقال: رب أصبت – أو أذنبت – آخر فاغفر لي، فقال: أعلم(2/395)
عبدي أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ به؟ غفرت لعبدي - ثلاثا - فليعمل ما شاء)) .
قوله: ((إن عبداً أصاب ذنباً)) هذا جنس يعم كل من كان بهذه الصفة، أي: من أذنب، ثم رجع إلى ربه هارباً من عذابه، طالباً المغفرة تائباً.
قوله: ((أعلم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به)) أي: أنه حقق هذا العلم باعترافه بالذنب، وإنابته إلى ربه، راغباً في مغفرته، خائفاً من عقوبته، فلذلك غفر له، ثم قال في الثالثة: ((فليعمل ما شاء)) يعني: ما دام يذنب ثم يستغفر ويتوب، فإن ربه - تعالى - يغفر ذنبه.
ولا يدل ذلك على أنه مصر على الذنب، فإن الإصرار على الذنب أعظم منه، ولكنه يتوب ويستغفر، ثم يغلبه الطبع، وهوى النفس، وتزيين الشياطين، فيواقع الذنب، ثم يفر بعد ذلك إلى ربه تائباً نادماً، راجياً خائفاً، فشروط التوبة متحققة فيه، وهي الإقلاع عن الذنب، والندم على الوقوع فيه، والعزم على أن لا يعاوده.
قال القرطبي في المفهم: ((يدل هذا الحديث على عظيم فائدة الاستغفار، وعلى عظيم فضل الله، وسعة رحمته، وحلمه، وكرمه.
لكن هذا الاستغفار، هو الذي ثبت معناه في القلب مقارناً للسان، لينحل به عقد الإصرار، ويحصل معه الندم، فهو ترجمة للتوبة، ويشهد له حديث: ((خياركم كل مفتن تواب)) ، ومعناه: الذي يتكرر منه الذنب والتوبة، فكلما وقع في الذنب، عاد إلى التوبة.
لا من قال: أستغفر الله بلسانه، وقلبه مصر على تلك المعصية، فهذا الذي استغفاره يحتاج إلى استغفار.(2/396)
قلت (1) : ويشهد له ما أخرجه ابن أبي الدنيا، من حديث ابن عباس، مرفوعاً: ((التائب من الذنب، كمن لا ذنب له، والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه)) . والراجح أن قوله: (والمستغفر)) إلى آخره، موقوف. وأوله عند ابن ماجه، والطبراني، من حديث ابن مسعود، وسنده حسن. وحديث: ((خياركم كل مفتن تواب)) ذكره في مسند الفردوس، عن علي.
قال القرطبي: ((وفائدة هذا الحديث: أن العود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه؛ لأنه انضاف إلى ملابسة الذنب نقض التوبة، لكن العود إلى التوبة أحسن من ابتدائها؛ لأنه انضاف إليها ملازمة الطلب من الكريم، والإلحاح في سؤاله، والاعتراف بأنه لا غافر للذنب سواه)) (2) .
والمقصود من الحديث، وقوع كلام الله – تعالى – مخاطباً هذا العبد المذنب، وإن كان العبد لا يسمع ذلك الخطاب، ولم يعلم به، فهو مما أوحاه الله – تعالى – إلى رسوله – صلى الله عليه وسلم -، وهو واقع من الله - تعالى -، فهو دال على مراد الإمام البخاري - رحمه الله -، من أن الله يتكلم متى شاء، بما يشاء من أمره، وشرعه، وتدبيره لخلقه، وتصريفه ملكه – جل وعلا – وكلامه لا حصر له ولا نفاد، وهو غير مخلوق؛ لأن الكلام صفة المتكلم متعلق به وقائم به، وأما خلقه فهو مفعول له، ليس من صفاته، وإنما هو من مفعولاته. والله أعلم.
******
134- قال: ((حدثنا عبد الله بن أبي الأسود، حدثنا معتمر، سمعت أبي، حدثنا قتادة، عن عقبة بن عبد الغافر، عن أبي سعيد، عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((أنه ذكر رجلاً فيمن سلف – أو فيمن كان
_________
(1) القائل هو الحافظ ابن حجر، رحمه الله.
(2) ((الفتح)) (13/471-472) .(2/397)
قبلكم – قال كلمة يعني أعطاه الله مالاً وولداً – فلما حضر الوفاة، قال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإنه لم يبتئر – أو لم يبتئز – عند الله خيراً، وإن يقدر الله عليه يعذبه، فانظروا إذا مت، فأحرقوني، حتى إذا صرت فحما فاسحقوني – أو قال: فاسحكوني – فإذا كان يوم ريح عاصف فأذروني فيها)) .
فقال نبي الله – صلى الله عليه وسلم -: ((فأخذ مواثيقهم على ذلك – وربي – ففعلوا، ثم أذروه في يوم عاصف.
فقال الله – عز وجل -: كن، فإذا هو رجل قائم، قال الله: أي عبدي، ما حملك على أن فعلت ما فعلت؟ قال: مخافتك – أو قال: فرق منك – قال: فما تلافاه أن رحمه عندها)) .
وقال مرة أخرى: ((فما تلافاه غيرها)) فحدثت به أبا عثمان، فقال: سمعت هذا من سلمان، غير أنه زاد فيه: ((أذروني في البحر)) أو كما حدث)) .
((حدثنا موسى، حدثنا معتمر، وقال: لم يبتئر)) .
((وقال لي خليفة: حدثنا معتمر، وقال: لم يبتئز: فسره قتادة: لم يدخر)) .
هذا هو الحديث المتقدم قريباً، أعاده من طرق أخرى من حديث أبي سعيد الخدري.
وفيه من الزيادة قوله: ((فيمن سلف – أو فيمن كان قبلكم -)) وتقدم أن الإمام البخاري – رحمه الله – أورده في أحاديث بني إسرائيل من كتاب الأنبياء، مما يدل على أنه منهم، والله أعلم.(2/398)
وفيه أن وصيته وأمره لأولاده كانت عند وفاته، بقوله: ((أي أب كنت لكم؟)) ليكون ذلك أدعى إلى تنفيذ أمره، فكأنه يقول: ما دمتم تعرفون أني كنت لكم خير أب، فمن جزائي عليكم أن تفعلوا ما آمركم به.
وفيه أن سبب أمره لأبنائه بذلك أنه مسرف على نفسه، ولم يقدم خيراً، فقوله ((لم يبتئز خيراً عند الله)) معناه: لم يقدم عملا صالحاً، وفسره قتادة بأنه لم يدخر عند الله خيراً.
والمقصود أنه لم يعمل خيراً يرجو به النجاة.
وفيه قوله: ((حتى إذا صرت فحماً فاسحقوني – أو قال: فاسحكوني – فإذا كان يوم عاصف فأذروني فيها)) وقد فهم هذا كله من الحديث السابق، والسحق، والسحك، كلاهما بمعنى واحد، وهو أن يطحن حتى يصير ذرات صغيرة جداً، ولهذا أمرهم أن يذروه في اليوم الذي تكون الريح فيه عاصفاً، أي: شديدة؛ إمعاناً في تفريق أجزائه، ظناً منه أن الله لا يقدر على إعادته بعد ذلك، وهذا هو مقصده.
وفيه قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((فأخذ مواثيقهم على ذلك – وربي)) ففيه مشروعية القسم على الأمر المؤكد تقوية وتأكيداً للسامع؛ حتى لا يرتاب في ذلك، والرسول – صلى الله عليه وسلم – هو الصادق المصدوق فيجب تصديق خبره بدون أي تردد، أو شك، ولو لم يقسم، ولكنه يشرع لأمته صلوات الله وسلامه عليه.
والمواثيق جمع ميثاق وهي: العهود، والأيمان المؤكدة على أن يفعلوا ما أمرهم به.
وفيه أن الله – تعالى – قال له: ((كن، فإذا هو رجل قائم)) وهو ظاهر فيما قلنا إنه واقع في الدنيا، وسبق أن حديث جابر يدل على ذلك، ولفظه: ((قال جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما -: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أبشرك عما لقي أبوك؟ إن الله كلم أباك من غير حجاب، فقال له: عبدي، سلني،(2/399)
فقال: يا رب، ردني إلى الدنيا حتى أقتل فيك، قال: فإني قد قضيت عليهم ألا يرجعوا، قال: يا رب فأبلغهم عنا، فأنزل - عز وجل - {وَلاَ تَحَسَبَنَ الَّذِينَ قُتِلُوا فيِ سَبِيلِ اللهِ أموَاتاً بَل أَحيَاءُ عِندَ رَبّهِم يُرزَقُونَ} (1) .
وفيه: أن الله - تعالى - قال له: ((أي عبدي، ما حملك على أن فعلت ما فعلت)) وهو بمعنى ما تقدم.
وقوله: ((مخافتك - أو فرق منك)) الفرق: هو الخوف، وهو بمعنى ما تقدم من قولك: ((خشيتك)) .
وفيه قوله: ((فما تلافاه أن رحمه عندها)) وقال مرة أخرى: ((فما تلافاه غيرها)) يعني: أنه تعالى عندما قال هذه الكلمة، رحمه دون إمهال، بل أسرع إليه برحمته، فغفر له، فما أعظم هذا الكرم، وأوسع هذا الحلم والرحمة، هذا مع شك هذا الرجل في قدرة الله، وعدم إيمانه بما يجب عليه بأنه تعالى على كل شيء قدير، ولكن رحمة الله تغلب غضبه.
وتقدم بيان الشاهد منه، وهو قول الله - تعالى- وخطابه لهذا الرجل، مما يدل على أنه تعالى يقول ويتكلم متى شاء، ويكلم من يشاء، وكلامه تعالى لا حصر له ولا نفاد، وهو غير خلقه؛ لأن الكفار والمنافقين يريدون أن يبدلوا كلام الله، وذلك قد يقع، وأما خلق الله - تعالى - فلا تبديل له.
كما في هذه النصوص إثبات الصفات الاختيارية لله - تعالى - وهي من تمام حمده، فمن لم يقر بها لم يمكنه الإقرار بأن الله محمود، ولا أنه رب العالمين.
_________
(1) رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) (ص42) ، ورواه الإمام أحمد ولفظه: ((أعلمت أن الله أحيا أباك، فقال له: تمن، فقال له: أرد إلى الدنيا فأقتل فيك مرة أخرى، قال: إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون)) انظر ((المسند)) (3/361) .(2/400)
فإن الحمد ضد الذم، وهو: الإخبار بمحاسن المحمود مع المحبة له، كما أن الذم هو: الإخبار بمساوئ المذموم مع بغضه، وجماع المساوئ فعل الشر، كما أن جماع المحاسن فعل الخير.
فمن كان يفعل الخير بمشيئته وقدرته استحق الحمد، ومن لم يكن له فعل اختياري يقوم به ويفعله بمشيئته وقدرته لا يكون خالقاً ولا رباً للعالمين.
وقد علم بالاضطرار أن الله – تعالى – هو الخالق وحده، وهو الرزاق وحده، وهو المحيي المميت وحده، وهذا هو الفعل الاختياري، فوجب إثباته لله – تعالى -.
وكذلك اتصافه بالصفات مثل الرحمن الرحيم، فإن الرحمن الرحيم: الذي يرحم العباد بمشيئته وقدرته، وكذلك يعذب من عصاه بمشيئته وقدرته، فتصرفه في ملكه دلت عليه أسماؤه وصفاته تعالى، فمن أنكر صفاته لزمه تعطيله عن تصرفه في ملكه.
قال تعالى: - {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} (1) فعلق الرحمة والعذاب بمشيئته.
وهو – تعالى – لم يزل بصفاته يفعل ما يشاء، له الكمال المطلق في كل وقت في الأزل وفي الأبد، وهذا مما أراده البخاري- رحمه الله – بذكر هذه النصوص، خلافاً لما يقوله أهل البدع.
*****
_________
(1) الآية 54 من سورة الإسراء.(2/401)
قال: ((باب كلام الرب - عز وجل - يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم)) .
هذا هو الباب الثامن مما يستدل به الإمام البخاري - رحمه الله - على إثبات الكلام لله - تعالى -.
فذكر أولاً قوله - تعالى -: {وَلَقَد سَبَقَت كَلِمَتُنَا لِعبَادِنَا المُرسِلينَ} ثم بوب على قوله تعالى: - {إِنَّمَا قَولُنَا إِذَا لَشَيْءٌ أَرَدناهُ} ، ثم على قوله تعالى: - {قُل لَّو كَانَ البَحرُ مِدَادَاً لِكَلمَاتِ رَبّي} الآيات، ثم ذكر المشيئة والإرادة إشارة منه إلى أن كلامه - تعالى - بمشيئته وإرادته، وأنه إذا شاء أن يتكلم تكلم، ثم ذكر ما بيَّن الله من حال الملائكة عند سماعهم صوت الله - تعالى - بالكلام، وأنهم يصعقون، فإذا أفاقوا قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم، وفيه إثبات الصوت لله - تعالى-، وأن كلامه بصوت، وهذا من أبلغ الأدلة على إثبات الكلام لله حقيقة، ثم ذكر قول الله - تعالى -: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} يريد بذلك إبطال قول من يزعم أن كلام الله مخلوق؛ لأن الخلق لا يبدل بخلاف الكلام، فإنه يمكن تبديله، أو يريد أن الأحاديث القدسية من كلام الله حقيقة، وأن كلامه تعالى لا ينحصر في كتبه المنزلة، ثم ذكر هذا الباب الذي نحن في صدد شرحه، وهو كلام الرب تعالى يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، يقصد بذلك أن كلامه تعالى لا انقطاع له ولا نهاية بل متعلق بمشيئته متى شاء تكلم، فكما أنه تعالى تكلم في الأزل، وبعده كلما أراد، فهو يتكلم في المستقبل وفي الحال حسب إرادته.
ثم ذكر قوله تعالى: - {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسىَ تَكليِماً} ليبين أن كلامه حقيقة، وأنه يكون خاصاً وعاماً، ولهذا أعقبه بقوله: باب كلام الرب مع أهل الجنة، ثم ذكر مسألة خلق أفعال العباد، والفرق بين فعل الله تعالى وفعل العبد، ووجوب عدم مشابهة الرب في ذلك وغيره، ولهذا أعقب ذلك بأن ترجم بقول الله - تعالى -: - {فَلاَ تَجعَلُواْ للهِ أَندَاداً(2/402)
وَأَنتُم تَعلَمُونَ} ثم بين الفرق بين فعل العبد وما هو صفة لله مثل القراءة والمقروء، وغير ذلك كما سيأتي إن شاء الله – تعالى -، وكل ما ذكره أدلة واضحة صريحة، ومخالفتها ضلال بيّن.
*****
135- قال: ((حدثنا يوسف بن راشد، حدثنا أحمد بن عبد الله قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، حدثنا حميد قال: سمعت أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: إذا كان يوم القيامة شفعت، فقلت: يا رب أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة، فيدخلون، ثم أقول: أدخل الجنة من كان فيه قلبه أدنى شيء، فقال أنس: كأني أنظر إلى أصابع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -)) .
هذا مختصر من حديث الشفاعة، وتقدم شرحه.
قوله: (( (شفعت)) مبني للمجهول، ومعلوم أنه لا يشفع في ذلك الموقف إلا الله – جل وعلا -، ولا تقع الشفاعة إلا بكلام الله وأمره، وبهذا يرد قول ابن التين، الذي نقله الحافظ: ((أنه قال: هذا فيه كلام الأنبياء مع الرب، ليس كلام الرب مع الأنبياء)) (1) ، وكذلك قوله: ((ثم أقول: أدخل الجنة من كان في قلبه أدنى شيء)) يدل على أن الله يكلمه.
والمراد بالشيء: الإيمان، وتصدق على ما يسمى شيئاً، وهو أقل جزء من الإيمان، وهذا دليل واضح على تفاوت الإيمان بين الناس، كما دلت عليه النصوص الكثيرة.
قوله: ((كأني أنظر إلى أصابع رسول الله –صلى الله عليه وسلم -)) ، يعني: أنه كان يشير بأصابعه يصف قلة ما عند هذا المخرج من النار من الإيمان.
*****
_________
(1) ((الفتح)) (13/475) .(2/403)
136 – قال: ((حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا معبد بن هلال العنزي، قال: اجتمعنا ناس من أهل البصرة، فذهبنا إلى أنس، وذهبنا معنا بثابت البناني إليه، يسأله لنا عن حديث الشفاعة، فإذا هو في قصره، فوافقناه يصلي الضحى، فاستأذنا، فأذن لنا، وهو قاعد على فراشه.
فقلنا لثابت: لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة، فقال: يا أبا حمزة، هؤلاء إخوانك من أهل البصرة، جاءوك يسألونك عن حديث الشفاعة.
فقال: حدثنا محمد – صلى الله عليه وسلم – فقال: ((إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض، فيأتون آدم، فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن، فيأتون إبراهيم، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى، فإنه كليم الله، فيأتون موسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى، فإنه روح الله وكلمته، فيأتون عيسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد – صلى الله عليه وسلم -، فيأتوني، فأقول: أنا لها، فأستأذن على ربي، فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر لهرساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان(2/404)
في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجه من النار، من النار، من النار، فأنطلق فأفعل)) .
فلما خرجنا من عند أنس، قلت لبعض أصحابنا: لو مررنا بالحسن، وهو متوار في منزل أبي خليفة، فحدثنا بما حدثنا أنس بن مالك، فأتيناه فسلمنا عليه فأذن لنا، فقلنا له: يا أبا سعيد، جئناك من عند أخيك أنس بن مالك، فلم نر مثل ما حدثنا في الشفاعة.
فقال: هيه، فحدثنا بالحديث، فانتهى إلى هذا الموضع، فقال: هيه، فقلنا: لم يزد لنا عن هذا، فقال: لقد حدثني وهو جميع منذ عشرين سنة، فلا أدري أنسي، أم كره أن تتكلوا.
فقلنا: يا أبا سعيد، فحدثنا، فضحك، وقال: خلق الإنسان عجولاً، ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم.
حدثني كما حدثكم به، قال: ((ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي، لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله)) .
تقدم شرحه، والمقصود منه هنا إثبات كلام الله – تعالى – لرسولنا محمد – صلى الله عليه وسلم –(2/405)
في الموقف، فإن فيه محاوره بين رب العالمين – جل وعلا -، وبين عبده ورسوله محمد – صلى الله عليه وسلم -.
وهو واضح الدلالة على المراد، من أنه تعالى يتكلم ويخاطب من يشاء من عباده يوم القيامة، فإذا ثبت ذلك دل على أن كلامه بمشيئته، وأنه متى شاء تكلم، يوم القيامة، وقبلها.
وهذا أمر من ضروريات دين الإسلام، لا ينكره إلا من هو دخيل فيه، أو زنديق قد تلبس بثوب الإسلام لأجل النيل منه، والإجهاز عليه إذا واتته الفرصة، أو ضال لعبت به الأهواء، واجتالته شياطين الإنس والجن بعيداً عن الحق والهدى.
ولا يضر ما في هذه الخطابات الكريمة من الأفعال المبنية للمجهول كقوله: ((فأستأذن فيؤذن لي)) ، وقوله: ((فأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك)) لأنه قد علم أنه لا يقول ذلك إلا رب العالمين، وليس لمخلوق في ذلك الموقف العظيم أن يأمر، وينهي، ويتصرف في الخلق، بإدخال بعض العباد النار، وإخراج البعض منها، وإنما الفاعل لذلك كله والآمر به هو رب العباد – عز وجل -.
وهو الذي يقول لرسوله: ((يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع)) ، وهو – تعالى – القائل له: ((انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان)) .
ودل صراحة على تفاوت هؤلاء المخرجين من النار في الإيمان، وقد تكاثرت النصوص على ذلك.
كما دل على أن من معه أصل الإيمان، ولم يخرج منه بمكفر، أنه لا يخلد في النار، وإن عظمت ذنوبه، وإن ضعف إيمانه.
قال القرطبي: ((المراد بالإيمان هنا: أعمال الإيمان التي هي أعمال الجوارح،(2/406)
فيكون دليلاً على أن الأعمال الصالحة من الإيمان.
وقد قيل: إن المراد: أعمال القلوب، ويجوز أن يراد به: رحمة لمسلم، رقة على يتيم، خوفاً من الله، رجاء له، توكلاً عليه، ثقة به، مما هو أفعال القلوب دون الجوارح، وسماها إيماناً؛ لكونها في محل الإيمان)) (1) .
والظاهر أن المراد أصل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، إذ هو الباعث على عمل ما ذكر، ولكن قد يكون الإيمان ضعيفاً فلا يقوى على دفع صاحبه إلى العمل.
ودل على تكرار الشفاعة مرات متعددة، وذلك من رحمة الله بعباده، ولهذا يفتح الله – تعالى – على نبيه من المحامد والثناء ما يرضى به عنه، ويأذن له بالشفاعة، وما لم يكن – صلى الله عليه وسلم – يعرفه من قبل.
واستدل بهذا على أن أسماء الله – تعالى- لا حصر لها؛ لأن الثناء على الله – عز وجل – يكون بأسمائه الحسنى وصفاته.
وفي الحقيقة الشفاعة لله – تعالى – فهو الذي يأمر بها فيقول لنبيه ((اشفع)) ويشفعه، وتقدم أن حقيقة الشفاعة: رحمة الله – تعالى – للمشفوع فيه، وإظهار كرامة الشافع.
ودل الحديث على شفقة النبي – صلى الله عليه وسلم – على أمته.
وقد جاء أن الأنبياء والملائكة والمؤمنين يشفعون، وتقدم بيان ذلك في باب قول الله – تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .
ودل الحديث على عظم ذلك اليوم، إذ أن أفضل الرسل تحجم عن الشفاعة، ويعتذرون بأنهم قد أصابوا ذنوباً، تابوا منها وقبلت توبتهم،
_________
(1) ((التذكرة)) (2/418) .(2/407)
ولكنهم يستحيون من الله.
وفيه دليل على جواز وقوع الذنوب في الجملة من الرسل، ولكنهم يوفقون إلى التوبة، والرجوع إلى الله – تعالى -، وسبقت الإشارة إلى ذلك.
قوله: ((من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان)) التكرار للتأكيد، أو التوزيع على الحبة والخردلة، أي: أقل حبة من أقل خردلة من الإيمان)) قاله الحافظ (1) .
وقوله: ((من النار، من النار، من النار)) هو للتأكيد والمبالغة.
وتقدم ما في الحديث من الإشكال؛ لأن أوله غير متصل بآخره، والجواب عنه.
ويستفاد منه أن الشفاعة لا تطلب إلا ممن يملكها.
كما يستفاد أنه لا يطلب من الشافع أن يشفع إلا إذا كان يقدر على الشفاعة بأن يكون حياً حاضراً، قادراً على ذلك، ففيه بيان ضلال الذين يتعلقون بالموتى، ويطلبون منهم التوسط لهم عند الله، وهذا عين شرك المشركين الذين أرسلت إليهم الرسل، ينهونهم عن ذلك، وينذرونهم عذاب الله إن لم يتوبوا منه.
ودل صراحة على أن الشفاعة لا تنال إلا من أمر الشافع أن يشفع فيه، ولهذا ذكر أنه في كل مرة يحد الله له حداً، فيقول له: اشفع فيهم، فهو – تعالى – يعين له نوعاً متميزاً فيأمره أن يشفع فيهم بحيث لا يمكن دخول من ليس منهم معهم، ولذلك قال في الأولى: ((من في قلبه شعيرة من إيمان)) ، وفي الثانية: ((من في قلبه أدنى مثقال حبة خردل)) ، وفي الرابعة:
_________
(1) انظر ((الفتح)) (13/475) .(2/408)
((من قال: ((لا إله إلا الله)) ، وهذا يعطي بظاهره أنه ولو لم يكن في قلبه شيء من الإيمان، وقد تؤول بأن المقصود: الإيمان الزائد على أصل الإيمان الذي يحصل به الخروج من الكفر، وادعى بعض العلماء الإجماع على ذلك.
والذي يظهر من هذا الحديث، وغيره مما جاء في معناه: أنه لا يشترط ذلك، فالله أعلم.
*****
137- قال: ((حدثنا محمد بن خالد، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وآخر أهل النار خروجا من النار، رجل يخرج حبواً، فيقول له ربه: ادخل الجنة، فيقول: رب، الجنة ملأى، فيقول له ذلك ثلاث مرات، فكل ذلك يعيد عليه، الجنة ملأى، فيقول: إن لك مثل الدنيا عشر مرار)) .
قوله: ((إن آخر أهل الجنة دخولا)) هذا على إطلاقه، يعني: أنه لا يدخلها بعده أحد حيث لم يبق في النار من يخرج منها، وهذا أقل المؤمنين إيمانا وأكثرهم معاصي، ويجوز أن يكون واحداً بعينه، وهو الظاهر، ويجوز أن يكون نوعاً، أو جنساً من هذا النوع، وقد تقدم في باب قوله - تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أنه بعد إخراج من يخرج من النار يبقى رجل مقبل بوجهه إلى النار، فيدعوا ربه: رب اصرف وجهي عن النار، ويقسم لله أنه لا يسأله غير ذلك، ثم إذا صرف وجهه عن النار يسأل ربه: يا رب، قربني إلى الجنة، ويقسم لربه ألا يسأله غير ذلك، فإذا رأى ما في الجنة سأل ربه أن يدخله الجنة، فإذا أدخله الجنة قال له: تمنّ، فإذا انقطعت أمنيته قال الله له: لك ذلك وعشرة أمثاله معه.
فقد يقال: إن ذاك هو المراد هنا، وقد يكونان اثنين أو نوعين، فالله أعلم.(2/409)
قال عياض: ((جاء نحو هذا في آخر من يجوز على الصراط، فيحتمل أنهما اثنان، إما شخصان وإما جنسان، وعبر فيه بالواحد عن الجماعة؛ لاشتراكهم في الحكم الذي كان سبب ذلك، ويحتمل أن يكون الخروج هنا بمعنى الورود، وهو الجواز على الصراط، فيتحد المعنى، إما في شخص واحد أو أكثر.
قال الحافظ: ((قلت: وقع عند مسلم ما يقوي الاحتمال الثاني، وهو أن المراد بالخروج، معنى الورود، ولفظه: ((وآخر من يدخل الجنة رجل، فهو يمشي مرة، ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجاني منك)) (1) .
قلت: الظاهر أنه رجل واحد، لا جنس ولا نوع، فالأحاديث تدل على ذلك، مثل الخطاب الذي يجري بينه وبين رب العالمين، وكل سياق الحديث بألفاظه تدل على ذلك.
وقد ذكر القرطبي في ((التذكرة)) ما يؤيد هذا، حيث قال: ((قال ابن عمر، عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة، يقال له: جهينة، تقول أهل الجنة: عند جهينة الخبر اليقين)) ، ذكره الميانشي أبو حفص عمر بن عبد المجيد، في كتاب ((الاختيار في الملح من الأخبار والآثار)) .
ورواه الخطيب، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة، فيقول أهل الجنة: عند جهينة الخبر اليقين، سلوه: هل بقي من الخلائق أحد)) ورواه الدارقطني. انتهى (2) .
وعند تأمل النصوص يتبين عدم الاتحاد، فيجوز أن يكون هذا المذكور في رواية مسلم آخر من يدخل الجنة ممن لا يلقى في النار، وإنما يبطئ به
_________
(1) ((الفتح)) (11/443) .
(2) ((التذكرة)) (2/515) .(2/410)
عمله على الصراط فيحبو مرة، ويزحف أخرى، حتى يجاوز النار.
والمذكور في هذا الحديث المشروح هنا آخر من يدخل الجنة ممن يلقى في النار من أهل الإيمان، وبذلك تتفق النصوص، والله أعلم.
قوله: ((آخر أهل النار خروجاً من النار)) يعني: بأهل النار من الموحدين الذين يدخلون النار بذنوبهم، أما أهل النار الذين ماتوا على الكفر فهم لا يخرجون منها أبد الآباد، كما قال تعالى:: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (1) ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (2) } والآيات في ذلك كثيرة.
قوله: ((يخرج حبواً)) يعني: على ركبتيه ويديه، لا يستطيع الاعتماد على رجليه، والمشي عليهما يسمى حبواً، قال في ((اللسان)) : ((حبا حُبُوّاً: مشى على يديه وبطنه، وحبا الصبي حَبْواً: مشى على استه، وأشرف بصدره)) (3) .
وقال النووي: ((قال أهل اللغة: الحبو: المشي على اليدين والرجلين، وربما قالوا: على اليدين والركبتين، وربما قالوا: على يديه ومقعدته.
وأما الزحف، فقال ابن دريد، وغيره: هو المشي على الاست مع إفراشه بصدره، فحصل من هذا: أن الحبو والزحف متماثلان، أو متقاربان، ولو ثبت اختلافهما حمل أنه في حال يزحف، وفي حال يحبو: والله أعلم)) (4) .
_________
(1) الآية 107 من سورة هود.
(2) الآية 6 من سورة البينة.
(3) انظر ((اللسان)) (1/560) المرتب.
(4) ((شرح مسلم)) (3/39) .(2/411)
قوله: ((فيقول له ربه: ادخل الجنة، فيقول: رب، الجنة ملأى، فيقول له ذلك ثلاث مرات، وفي كل ذلك يعيد عليه: الجنة ملأى، فيقول: إن لك مثل الدنيا عشر مرار)) هذا هو محل الشاهد من الحديث؛ لما فيه من كلام الله – تعالى – ومخاطبته لهذا الرجل، الذي هو آخر من يدخل الجنة، وهو دليل أيضاً على جواز تكليم الله – تعالى – لمن هو أعلى منزلة منه، كما جاءت النصوص في ذلك، وتقدم بعضها.
وهذا الحديث اختصره هنا، ولفظه كما في كتاب الرقاق، قال: ((قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً، رجل يخرج من النار حبواً، فيقول الله: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها – أو إن ذلك مثل عشرة أمثال الدنيا – فيقول: تسخر مني – أو تضحك مني – وأنت الملك؟ فلقد رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ضحك حتى بدت نواجذه، وكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة)) (1) .
وواضح من هذا أن الله يكلمه بدون واسطة، وأن ذلك يتكرر، ثم يقول له في النهاية: إن لك مثل الدنيا عشر مرات، ولهذا بهت الرجل من ذلك، ورأى أنه لا يستحق ولا قريباً من ذلك، فقال: أتسخر مني – أو قال: أتضحك مني – وأنت الملك؟
ففيه إثبات الضحك لله – تعالى -، وأنه يسخر من بعض خلقه، ومثل هذه الأفعال الصادرة من الله – تعالى يجب أن تثبت له – تعالى – على ما يليق بعظمته
_________
(1) انظر البخاري (8/99) .(2/412)
وفق ما جاء النص بها، فلا يجوز تأويلها بما يغير معناها، ولا تعطيلها، بل يؤمن بها على ما جاءت، وكما أخبر بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهو أعلم بالله من غيره، وأحرص على هداية الأمة، وإبعادها عن الضلال، وهو أقدر الخلق على البيان، وإيضاح الحق.
138 – قال: ((حدثنا علي بن حجر، أخبرنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن خيثمة عن عدي بن حاتم، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه، فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولا بشق تمرة)) .
قال الأعمش، وحدثني عمرو بن مرة عن خيثمة مثله، وزاد فيه: ((ولو بكلمة طيبة)) .
تقدم هذا الحديث في باب قول الله – تعالى -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وفيه: ((ليس بينه وبينه ترجمان، ولا حاجب يحجبه)) وهو واضح الدلالة على عموم كلام الله – تعالى – للمؤمنين؛ لأن قوله: ((ما منكم من أحد)) نكره سبقت بالنفي، فهي من صيغ العموم، غير أن قوله: ((منكم)) يجوز أن يكون قيداً في المؤمنين، ويخرج من ذلك العموم الكفار؛ لأنهم ليسوا منا.
وقوله: ((سيكلمه ربه)) السين للاستقبال من الزمان؛ لأن هذا التكليم لا يكون إلا يوم القيامة، والترجمان: هو الواسطة التي تنقل الكلام من المتكلم إلى المكلم، سواء اختلفت اللغة، أو لم تختلف.
قال في ((اللسان)) : ((التُّرجُمان، والتَّرجُمان: المفسر للسان، وهو الذي يترجم الكلام، أي: ينقله من لغة إلى لغة)) (1) وليس هذا من تمام التعريف، بل
_________
(1) ((اللسان)) (1/316) .(2/413)
لا يلزم أن يكون نقله من لغة إلى أخرى.
ومعنى ذلك أن العبد سيقف بين يدي الله – تعالى – يوم القيامة، فيحاسبه على ما كلفه به من دينه هل قام به، أو أهمله، ويحاسبه على أعماله، وكل تصرفاته، وذلك بدون واسطة من خلقه، بل هو - جل جلاله - يتولى ذلك بنفسه، فيكلم عبده ويسائله.
وقوله: ((فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم)) أي: أن أعماله تكون حاضرة عن يمينه، وعن شماله، فالحسنات عن يمينه، والسيئات على شماله، لا يغادره في ذلك الموقف شيء منها، ولهذا قال: ((فلا يرى إلا ما قدم)) ، وقد يكون كما قال ابن هبيرة: إنه ينظر عن يمينه وعن شماله، كحالة الذي دهمه أمر عظيم، فهو يتلفت يطلب النجاة، أو الغوث.
قوله: ((وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه)) وذلك أن النار في ذلك الموقف حائلة بين الناس وبين الجنة، فلا بد من ورودها لكل أحد، ثم ينجي الله الذين اتقوا، ويذر الظالمين فيها جثياً.
ولهذا قال: ((فاتقوا النار ولو بشق تمرة)) يعني: نصفها، والمقصود تقديم العمل الصالح الذي يكون واقياً لصاحبه من النار، وساتراً له منها، وهذا يدل على وجوب تقديم العمل الصالح، المنبعث عن تقوى الله – تعالى – والإيمان به، وبملاقاته ومحاسبته، ويدل على نفع العمل الصالح ولو قل.
قوله: ((قال الأعمش)) إلى آخره، يقصد بذلك بيان صحة السند؛ لأن الأعمش قد صرح بالتحديث فأمن التدليس بذلك.
****
139- قال: ((حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله – رضي الله عنه – قال: جاء حبر من اليهود، فقال، إنه إذا كان يوم القيامة، جعل(2/414)
الله السماوات على إصبع، والأرضين على أصبع، والماء والثرى على أصبع، والخلائق على أصبع، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك. فلقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحك، حتى بدت نواجذه، تعجباً، وتصديقا لقوله، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} إلى قوله: {يُشرِكُونَ} .
تقدم هذا الحديث في باب قوله - تعالى -: {لِمَا خَلَقتُ بِيَدَىَّ} وتقدم الكلام عليه هناك.
والمقصود منه هنا قوله: ((ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك)) فإنه خطاب لخلقه، ولا سيما الذين كانوا ينازعونه في ملكه في الدنيا من الجبارين، والمتكبرين، ولهذا جاء فيه بعد قوله: ((أنا الملك)) قوله: ((أين ملوك الدنيا؟)) كما تقدمت الإشارة إليه.
****
140- قال: ((حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن صفوان بن محرز، أن رجلا سأل ابن عمر: كيف سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى؟ قال: ((يدنو أحدكم من ربه، حتى يضع كنفه عليه، فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول: عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقرره، ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)) .
النجوى هي المحادثة بين اثنين أو أكثر سراً، بحيث لا يسمع حديثهم من قرب منهم، والمقصود هنا: كلام الرب - تعالى - مع عبده سراً.
قال في ((اللسان)) : ((نجاه نجواً: ونجوى: ساره، النجوى، والنَّجِيُّ: السر، النجوى: السر بين اثنين، يقال: نجوته نجواً، أي: ساررته، وكذلك(2/415)
ناجيته، والاسم: النجوى)) (1) .
قال الحافظ: ((المراد من النجوى في الحديث: المناجاة التي تقع من الرب – سبحانه وتعالى – يوم القيامة مع المؤمنين)) (2) .
قوله: ((يدنو أحدكم من ربه)) في الرواية الأخرى. ((يدنو المؤمن من ربه)) .
والله - تعالى - وصف نفسه بأنه يدنو، ويقرب من بعض عباده، دون بعض، وقد تكاثرت النصوص في ذلك، حتى بلغت ما يقرب من خمسمائة آية في كتاب الله – تعالى -، كلها تدل على أنه – تعالى - يقرب من بعض خلقه، ويدنو إليهم، كقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (3) .
وقوله – تعالى -: {وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ} (4) .
وقوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ} (5) ، وقوله – تعالى -: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} (6) ، وقوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ (7) } والآيات في هذا كثيرة جداً.
وكذلك ما تقدم من الأدلة على علو الله - تعالى - واستوائه على العرش، تدل على ذلك، فإنه إذا كان الله – تعالى – على العرش أمكن القرب منه
_________
(1) ((اللسان)) (3/592) المرتب.
(2) ((الفتح)) (10/488) .
(3) الآية 281 من سورة البقرة.
(4) الآية 223 من سورة البقرة.
(5) الآية 7 من سورة الزمر.
(6) الآية 156 من سورة البقرة.
(7) الآية 39 من سورة النور.(2/416)
بالصعود إليه والعروج، كما عرج النبي – صلى الله عليه وسلم – إليه، وكذا الملائكة وبعض الأرواح وغير ذلك، وببعض هذه النصوص الكثيرة يحصل العلم الضروري، لمن آمن بها، وبما دلت عليه، من أن الله – تعالى – يقرب إلى عباده، ويقربون إليه، كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (1)
ودلالة النصوص الشرعية على هذا من أعظم المتواترات، والعلم بها مستقر في فطر المسلمين، عامتهم، وخاصتهم، كما أنه مستقر في فطرهم أن الله فوقهم.
وليس من الخلق أحد إلا ويعلم أن عباد الله منهم المقرب إلى الله – تعالى -، ومنهم المبعد الملعون المطرود، وكلهم يسمون الطاعات: قربات، يتقرب بها العبد إلى الله – تعالى -، وكلهم يرفعون أيديهم إلى الله، وكونه تعالى فوقهم يستلزم أنه يقرب إليه بالعلو والصعود، كما رفع عيسى ابن مريم إليه، والملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم إذا صعدوا إليه سألهم: كيف تركتم عبادي؟
والأدلة على هذا الأصل العظيم لا حصر لها، واتفق السلف الصالح، ومن تبع كتاب الله، وسنة نبيه، وآمن بهما، على القول بذلك، والإيمان به.
((قال الخلال في ((السُّنَّة)) : أخبرنا جعفر بن محمد الفريابي، حدثنا أحمد بن محمد المصرمي، حدثنا سليمان بن حرب، قال: سأل بشر بن السري حماد بن زيد، فقال: يا أبا إسماعيل، الحديث الذي جاء: ((ينزل الله إلى السماء الدنيا)) يتحول من مكان إلى مكان؟
فسكت حماد، ثم قال: ((هو في مكانه، يقرب من خلقه كيف شاء)) (2) .
_________
(1) الآية 186 من سورة البقرة.
(2) ((بيان تلبيس الجهمية)) (3/184) المخطوط.(2/417)
وقال شيخ الإسلام: ((أهل السُّنَّة يثبتون أن الله على عرشه، وأن حملة العرش أقرب إليه ممن دونهم، وأن ملائكة السماء العليا أقرب إلى الله من ملائكة السماء الثانية، وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما عرج به إلى السماء صار يزداد قرباً إلى ربه بعروجه، وصعوده. وعروجه إلى الله – تعالى – لا إلى مجرد خلق من خلقه، وأن روح المصلي تقرب إلى الله في السجود، وإن كان بدنه متواضعاً، وهذا هو الذي دلت عليه النصوص من الكتاب والسُّنَّة)) (1) .
فالله – تعالى – يقرب بنفسه إلى من يشاء من خلقه، وهو فوق عرشه، عال على خلقه، ولا يجوز تأويل النصوص في ذلك مثل قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه)) .
ولا يلزم أن يكون كل نص في القرب يراد به قرب الله – تعالى – بنفسه، بل ينظر في النص الوارد في ذلك، فإن دل على قربه بنفسه حمل عليه كما في هذا الحديث، وإن دل على قرب ملائكته ورسله حمل عليه، كقوله – تعالى - {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد} ِ (2) ، وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ} (3) .
وهذا الحديث ظاهر في أن العبد يدنو من ربه، بل هو نص صريح في ذلك، فصرفه عن ظاهره تحريف لكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتلاعب به، يعد من عظائم الذنوب، يجب على المؤمن التحرز منه.
وما نقله الحافظ عن ابن التين أنه قال: ((يعني يقرب من رحمته، وهو
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (6/7) .
(2) الآية 16 من سورة ق.
(3) الآية 85 من سورة الواقعة.(2/418)
سائغ في اللغة، يقال: فلان قريب من فلان، ويراد الرتبة)) (1) . فهو تأويل الجهمية المعروف الذي ذكره السلف عنهم، وردوه، وبينوا أنه مخالف لقول الله – تعالى – ولقول رسوله –صلى الله عليه وسلم – ولعقيدة أهل العلم والإيمان، وهو سلوك غير سبيل المؤمنين.
قال شيخ الإسلام: ((وبيان بطلان هذا التأويل من وجوه:
أحدها: أن ما يدنو إليه العبد من الرحمة، والإيمان، وغير ذلك، إما أن تكون أعياناً قائمة بأنفسها، أو صفات قائمة بغيرها، فإن كانت صفات، فمعلوم أن القرب إلى الصفة لا يكون إلا بالقرب إلى الموصوف نفسه.
فأما قربه من صفته القائمة به دون قربه من نفسه، فظاهر البطلان والفساد، ولهذا لم يقله أحد من العباد، بل الذي يحيل القرب إلى نفسه هو للقرب إلى صفاته أشد إحالة، إن كان يثبت له صفة.
ومن المعلوم أن قوله: ((يدنو العبد من ربه، حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه – أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: أعرف رب)) وقوله: إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه)) وقوله: ((فيدنيه الله منه فيضع عليه كنفه)) ، [وقوله: ((يدنو أحدكم من ربه فيضع عليه كنفه] (2) ، كل هذه الألفاظ صريحة واضحة، كل من سمعها علم بالاضطرار أن الذي يدني العبد، ويضع عليه كنفه، ويقرره بذنوبه، ويغفرها له، هو الله، لا أحد من خلقه، فكيف يجوز أن يقال: لا يدنو العبد من ربه، وإنما يدنو من بعض مخلوقاته؟ (3) . وهل ذلك إلا بمثابة من يقول: إن من يقرره بذنوبه هو بعض مخلوقاته؟ كما يقوله الجهمية، القائلون بأن الله – تعالى – لا يقوم به كلام،
_________
(1) ((الفتح)) (13/477) .
(2) هذا لفظ الحديث المشروح هنا، ولم يذكره الشيخ.
(3) لأن الرحمة التي فسروا بها دنو العبد هو الثواب واللطف والإحسان، فهي إذاً مخلوقة.(2/419)
وإنما الكلام يقوم ببعض مخلوقاته، وهو أيضاً بمنزلة أن يقال: إن الله لا يغفر له، وإنما يغفر له بعض مخلوقاته.
وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه خلاف ما أخبرت به الرسل، وأنه شرك صريح في إلاهية الله وربوبيته، ولهذا قال بعض السلف: إن من زعم أن قوله لموسى: {إِنِيّ أَنَاْ رَبُّكَ} مخلوق، فهو كافر؛ لأنه جعل هذا الكلام قائماً بمخلوق يلزم أن يكون هو الرب، وسائر تأويلات الجهمية وأهل الباطل من هذا الجنس.
الثاني: أن هذا الدنو، ووضع الكنف، والمخاطبة، تكون وقت السؤال، والعبد خائف غير آمن، ولا يظهر له أنه يغفر له ويرحم، كما هو صريح الحديث الصحيح بقوله: ((يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره، ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)) .
فإذا كان العبد حين هذا الدنو من الله، والمخاطبة، والتقرير بذنوبه، يرى أنه قد هلك قبل أن يذكر له الرب – تعالى – أنه غفر له، امتنع أن يكون ما ذكره من دنوه من الله، هو دنوه من رحمته، وأمانه وتعطفه.
الثالث: أن الرحمة والعطف، والأمان، إن كانت صفات الله – تعالى -، كان القرب إليها قرباً إلى الموصوف، كما تقدم، وإن كانت أعياناً قائمة بنفسها مخلوقة لله – تعالى -، فمن المعلوم أن حين الحساب في عرصات القيامة لا يكون هناك أجسام مخلوقة من الرحمة التي أعدها الله – تعالى – لعباده، ولكن هو يحكم بالعفو والمغفرة، ثم ينقلون إلى دار الرحمة، فامتنع أن يكون أحد حال المحاسبة مقرباً إلى أجسام هي رحمة قبل أن يؤذن لهم في دخول الجنة.
الرابع: أن يقال: من المعلوم أن الله – تعالى – أخبر في كتابه بأصناف ما ينعم(2/420)
به على عباده من المآكل والمشارب والملابس والمناكح والمساكن، وقد أجمل ما لم يفصله في قوله تعالى: {فَلاَ تَعلَمُ نَفسٌ مَّا أُخفِىَ لَهُم مِن قُرَّةِ أَعيُنٍ} .
وهذه الأمور يباشرها المؤمن مباشرة، لا يكون جزاؤه مجرد قربه منها دون مباشرتها، بل ذلك يكون حسرة وعذاباً، فدعوى الإكرام بمجرد التقريب من هذه الأمور دون مباشرتها، كلام باطل، لا حقيقة له.
الخامس: أن المؤمن لم يزل في رحمة الله في الدنيا والآخرة، فلا يجوز تخصيص حال السؤال بقربه من رحمته، دون ما قبل ذلك وما بعده، بل هو مازال مباشراً لما يرحمه الله به قبل وبعد، فأي فائدة في أن يوصف بالقرب من شيء ما زال مباشراً له، لا ينفصل عنه؟
السادس: أنه في العرض على الله يظهر له من الأهوال والشدة ما يكون أعظم عليه وأشد لرهبه وألمه من كل ما كان قبل ذلك وبعده، فكيف يجوز تخصيص أشد الأحوال عليه بأنه يقرب فيه مما يرحم به؟ مع أن ما قبلها وما بعدها كان ما يرحمه به إليه أقرب، وهو له أعظم مباشرة ونيلاً.
السابع: أن قولهم: ((يقرب من رحمة الله، وأمانه ولطفه، ونحو ذلك)) من تأويلهم، لا ريب أنه من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.
ومن المعلوم في اللغة العربية أن هذا لا يجوز إلا إذا اقترن بالكلام ما يبين المحذوف، فلا يقال: جاء زيد، والمقصود غلامه، أو رسوله (1) .
والحديث نص في أن الله – تعالى – هو الذي يدني عبده من نفسه، ولهذا لا يسمع أحد هذا الكلام، فيفهم أن الله يدنيه من شيء آخر ولا يخطر هذا ببال المستمع، فكيف يجوز أن يكون الرسول – صلى الله عليه وسلم – أراد الباطل الذي قالوه؟
_________
(1) وهذا يرد ما نقله الحافظ عن ابن التين أن ذلك سائغ في اللغة، كما تقدم ذكره.(2/421)
الثامن: أن قوله: ((فيدنيه منه، فيضع عليه كنفه، ثم يقرره بذنوبه)) الجمع بين الإدناء ووضع الكنف، وتقريره بذنوبه، قرينة تعين أن الله – تعالى – هو الذي يدني إليه عبده، ويضع عليه كنفه، فيستره من الناس، كما صرح به في الحديث.
التاسع: أن هذا الحديث دل على ما دل عليه القرآن من وقوف العباد على الله، وخطابه لهم، ومن المعلوم بالاضطرار من رسالات الرسل، ومن دين الإسلام، أن هذا إنما هو يوم القيامة، وأن أحوال العباد مع الله يوم القيامة غير أحوالهم في الدنيا، وعلى قول هؤلاء المؤولة لا فرق بين الدنيا والآخرة، فإن الله لا يقرب إليه شيء لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يقفون على ربهم، لا في الدنيا، ولا في الآخرة، ويصيرون إليه، وإنما ذلك كله إلى بعض مخلوقاته، ومقدوراته، كما أن خطابه لهم عند الجهمية وأتباعهم)) (1) ، ومعناه أنه يخلق كلاماً في بعض مخلوقاته يكلمهم منها، وعند الأشاعرة - الذين هم فرع عن الجهمية – يخلق إدراكاً في العباد يفهمون به المعنى الواحد القائم بذاته – تعالى – وهذا تكذيب لكتاب الله ولرسوله، ومناقضة لدين الإسلام الذي فطر على قبوله العباد.
قوله: ((حتى يضع كنفه عليه)) جاء الكنف مفسراً في الحديث بأنه ((الستر)) ، والمعنى: أنه – تعالى – يستر عبده عن رؤية الخلق له؛ لئلا يفتضح أمامهم، فيخزى، لأنه حين السؤال والتقرير بذنوبه تتغير حاله، ويظهر على وجهه الخوف الشديد، ويتبين فيه الكرب والشدة.
قال الأزهري: ((قال الليث: الكنفان: الجناحان، وأنشد:
سِقْطا من كنفي نعام جافل
_________
(1) انتهى من ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/177) المخطوطة.(2/422)
وكنفا الإنسان: جانباه، وناحيتا كل شيء: كنفاه.
وقولهم: في حفظ الله وكنفه، أي: في حرزه وظله، يكنفه بالكلاءة وحسن الولاية، وقال ابن المبارك: ((يضع عليه كنفه)) يعني: ستره)) (1) .
((قال الخلال في كتاب السُّنَّة: باب يضع كنفه على عبده، تبارك وتعالى: أخبرني محمد بن أبي هارون، ومحمد بن جعفر،
أن أبا الحارث حدثهم قال: قلت لأبي عبد الله: ما معنى قوله: ((إن الله يدني العبد يوم القيامة، فيضع عليه كنفه؟)) قال: هكذا نقول: يدنيه ويضع كنفه عليه، كما قال، يقول له: أتعرف ذنب كذا؟
قال الخلال: أنبأنا إبراهيم الحربي قال: قوله: فيضع عليه كنفه، يقول: ناحيته.
قال إبراهيم: أخبرني أبو نصر، عن الأصمعي، يقال: نزل في كنف بني فلان، أي: في ناحيتهم)) (2) .
قوله: ((فيقول: عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول: عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقرره)) هذا هو المقصود من إيراد الحديث هنا؛ لأن فيه مخاطبة الله لعبده وتقريره بذنوبه، ثم يقول له: ((أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)) وهو واضح جداً في أن الله يكلم عباده يوم القيامة، ويخاطبهم مخاطبة فيها محاسبتهم وتقريرهم بنعم الله عليهم، وبذنوبهم، ويخاطبهم في غير ذلك كما تقدم.
فمنكر هذا ضال وسالك غير سبيل المؤمنين، وحريٌّ أنْ يوليه الله – تعالى – ما تولى ويسلك به غير سبيل المؤمنين فى الآخرة، وذلك هو الخسران المبين.
_________
(1) ((تهذيب اللغة)) (10/274) ، وقول ابن المبارك رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) .
(2) ((نقض التأسيس)) (2/185) .(2/423)
قوله: ((ثم يقول: إني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)) هذا أيضاً صريح في أنه تعالى يكلم عباده بذلك ممتناً عليهم بأنه قد ستر عليهم في الدنيا حيث كانوا يبارزون الله بالذنوب، فيستر عليهم مع عصيانهم له، ثم غفرها لهم في الآخرة.
فهذا الكرم العظيم، والحلم الواسع، والفضل الجزيل.
والمغفرة: هي محو الذنب ووقاية تبعته.
وعلى كل فالدلالة من هذا الحديث ظاهرة جداً، وصريحة فيما ذكره من أجله، وهو كونه تعالى يتكلم إذا شاء بما شاء، ويكلم من يشاء من عباده، إما إكراماً له، أو امتناناً عليه، أو تهديداً له وتوبيخاً، أو غير ذلك.
فمن نفى ذلك عن الله – تعالى – فقد قال خلاف قول الله ورسله وأتباعهم ممن فهم مراد الله ورسوله، وسوف يجزيه الله – تعالى – بما يستحق.
وقد جاء ما يدل على أن الله – تعالى – يكلم بعض أهل النار، كما في ((الصحيحين)) ، عن أنس، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((يقول الله – تعالى – لأهون أهل النار عذاباً: لو كانت لك الدنيا، وما فيها، ومثلها معها، أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم، أن لا تشرك بي، فأبيت إلا الشرك)) (1) .
******
_________
(1) البخاري، انظر ((الفتح)) (6/363) و (11/416) ، ومسلم (4/2160) .(2/424)
قال: ((باب ما جاء في قوله عز وجل: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسىَ تَكليِماً} .
((قال الأئمة هذه الآية أقوى ما ورد في الرد على المعتزلة.
قال النحاس: أجمع النحويون على أن الفعل إذا أكد بالمصدر لم يكن مجازاً، فإذا قال: ((تكليما)) وجب أن يكون كلاماً على الحقيقة التي تعقل)) (1) .
((وقد استقر مذهب أهل السنة والجماعة، وأعلام الملة، وجماهير الأمة في شرق الأرض وغربها، على أن الله يتكلم حقيقة، متى شاء، وأن القرآن والتوراة والإنجيل كلام الله - تعالى -، وأن كلامه صفة له، لا يكون منفصلاً عنه، كما لا يكون كلام المتكلم منفصلاً عنه قائماً بغيره، ومعلوم بالحس أن الكلام لا يقوم بنفسه، ومن قال إن كلام الله منفصل عنه، أو أنه يقوم بغيره، فإنه بذلك ينكر كلامه الذي هو رسالته، ويدفع حقيقة ما أنبأت به الرسل، وأعلمته أممهم، ويلحد في أسماء الله وآياته، ويجعله مثلاً للميت، والمعدوم.
وهذا كله كفر وضلال، ومن أجل ذلك كفَّر أئمة الإسلام من يقول: إن كلام الله مخلوق.
والكلام صفة المتكلم، والقول صفة القائل، وكلام الله ليس بائناً منه، بل أسمعه لجبريل ونزل به على محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما قال- تعالى -: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} (2) .
ولا يجوز أن يقال: إن كلام الله فارق ذاته، وانتقل إلى غيره، بل يقال
_________
(1) الفتح (13/479) .
(2) الآية 114 من سورة الأنعام.(2/425)
كما قال السلف: إنه كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فقولهم: منه بدأ، رد على من قال: إنه مخلوق في بعض الأجسام، ومن ذلك المخلوق بدأ.
فبينوا أن الله هو المتكلم به، فمنه بدأ، لا من غيره، وإليه يعود، أي: لا يبقى في الصدور منه شيء، ولا في المصاحف حرف، في آخر الزمان، إذا ترك العمل به وعطل، رفع إلى قائله رب العالمين، أو أنه إليه يعود صفة له)) (1) .
قال: عبد الله ابن الإمام أحمد: ((سمعت أبي يقول: من قال: القرآن مخلوق، فهو عندنا كافر؛ لأن القرآن من علم الله – عز وجل -.
قال الله – عز وجل -: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ} (2) ، وقال تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (3) ، وقال تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} (4) ، وقال عز وجل: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} (5) والخلق غير الأمر)) (6) .
((والوصف بالتكلم كمال، وضده نقص، قال الله – تعالى -: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (12/561) .
(2) الآية 61 من سورة آل عمران.
(3) الآية 120 من سورة البقرة.
(4) الآية 145 من سورة البقرة.
(5) جزء من الآية 54 من سورة الأعراف.
(6) ((كتاب السنة)) (1/103) .(2/426)
وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} (1) فكان عبَّاد العجل _ مع كفرهم _ أعرف بالله من المعتزلة، فإنهم لم يقولوا لموسى: وربك لا يتكلم، وقال تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا (2) } . فعلم أن عدم رجوع القول، ونفي التكلم، نقص يستدل به على عدم ألوهية العجل.
وغاية شبهة النفاة أنهم يقولون: يلزم من إثبات الكلام، التشبيه والتجسيم؛ لأنهم توهموا أن كلام الله يلزم له من اللوازم ما لكلام المخلوق.
ونحن نقول: إنه تعالى يتكلم كما يليق بجلالة، وبذلك تنتفي شبهتهم.
وقد قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (3) ، فهذا كما هو
ظاهر، كلام حقيقي، يسمع من هذه الأعضاء. فالمؤمنون يؤمنون بذلك مع عدم علمهم بكيفيته.
فإذا كان هذا في مخلوق، فكيف الخالق جل وعلا؟ ومثل ذلك تسبيح الأشياء التي تسبح بحمد الله تعالى، ومنه تسبيح الطعام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة، وتسبيح الحصا، وسلام الحجر عليه، كل ذلك حق على ظاهره، وقد سمعه المؤمنون، وآمنوا بما لم يسمعوه، ولم يعلموا كيفيته، وهو كلام بصوت يسمع، وهذه ليس لها أفواه يخرج منها الكلام والصوت الصاعد المعتمد على مقاطع الحروف)) (4) .
وقد سمع موسى عليه السلام كلام الله منه – تعالى – بدون واسطة،
_________
(1) الآية 148 من سورة الأعراف.
(2) الآية 89 من سورة طه.
(3) الآية 65 من سورة يس.
(4) ((شرح الطحاوية)) (ص194) .(2/427)
وكذلك جبريل – عليه السلام – يسمع كلام الله بدون واسطة، فيبلغه الرسل بأمر الله له، هذا ما يعتقده المسلمون من دينهم، وهو أمر ظاهر.
((وحقيقة كلام الله – تعالى – الخارجية: هي ما يسمع منه، ومن المبلغ عنه.
فإذا سمعه السامع، علمه وحفظه، فكلام الله مسموع، معلوم، محفوظ.
فإذا قرأه السامع، فهو مقروء له، متلو، فإن كتبه، فهو مكتوب له مرسوم، وهو حقيقة في هذه الوجوه كلها، لا يجوز نفيه، فلا يكون مجازاً فيها، إذ المجاز يجوز نفيه، وأن يقال: ليس في المصحف كلام الله، ولا قرأ القارئ كلام الله.
قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ (1) } ، وهو لا يسمع كلام الله من الله، وإنما يسمعه من مبلغه عن الله – تعالى -، وهذه الآية تدل على بطلان قول من يقول: إن المسموع عبارة عن كلام الله.
[والحق] أن المسموع هو كلام، وليس عبارة عنه، كما تزعمه الأشعرية، ومن جعل ما في المصحف عبارة عن كلام الله، فقد خالف ما أنزل الله على رسوله، وسلك غير سبيل المؤمنين، وكفى بذلك ضلالاً)) (2) .
والكلام اسم للفظ والمعنى جميعاً؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وتلاوة القرآن)) (3) .
_________
(1) الآية 6 من سورة التوبة.
(2) ((شرح الطحاوية)) (ص194) .
(3) رواه النسائي (3/13) ، والإمام أحمد ((المسند)) (5/447) .(2/428)
وقال: ((إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة)) (1) .
واتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها بطلت صلاته، كما اتفقوا على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب لها، وما أشبه ذلك لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها الكلام الملفوظ به، فعلم بذلك بطلان قول من يجعل كلام الله معنى قائماً بالنفس.
وفي الحديث المتفق عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم، أو تعمل)) (2) ففرق بين حديث النفس، فجعله معفواً عنه، وبين الكلام، فدل على أن حديث النفس لا يسمى كلاماً حتى ينطق به ويتلفظ به، وهذا باتفاق من يعتد بقوله من العلماء.
وعلى كل فإنكار كلام الله ضلال وكفر، وإنكار للرسالة، والشرع؛ لأن الشرع أمر، ونهي، فإذا لم يكن الله يأمر وينهى، فليس له شرع ولا رسالات، وقد أوجد هذا القول لهدم الإسلام، والعلماء عرفوا ذلك، ولهذا يقول الإمام البخاري في مبدأ كتابه ((خلق أفعال العباد)) : باب: ما ذكر أهل العلم للمعطلة الذين يريدون أن يبدلوا كلام الله – عز وجل -، ثم روى، عن عبد الله بن إدريس، أن رجلاً جاء إليه، فقال: يا أبا محمد، ما تقول في قوم يقولون: القرآن مخلوق؟ فقال: أمن اليهود؟ قال: لا، قال: فمن النصارى؟ قال: لا، قال: فمن المجوس؟ قال: لا، قال: ممن ... ؟ قال: من أهل التوحيد.
_________
(1) رواه أبو داود (1/567) ، والنسائي (3/19) ، والإمام أحمد (1/409، 415، 435) .
(2) انظر ((الفتح)) (5/160) ، ومواضع أخر، ولكن بلفظ: ((ما وسوست به صدورها)) ، ومسلم (1/116) .(2/429)
قال: ليس هؤلاء من أهل التوحيد، هؤلاء زنادقة، من زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أن الله مخلوق، يقول الله – تعالى-: بسم الله الرحمن الرحيم، فالله لا يكون مخلوقاً، والرحمن لا يكون مخلوقاً، والرحيم لا يكون مخلوقاً، وهذا أصل الزندقة، من قال هذا فعليه لعنة الله)) (1) .
قال شيخ الإسلام: ((القول بأن القرآن مخلوق معناه أن الله لم يصف نفسه بالكلام أصلاً، بل حقيقته أن الله لم يتكلم، كما أفصح به رأسهم الأول، الجعد بن درهم، حيث زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، لأن الخلة إنما تكون من المحبة، وعنده أن الله لا يحب شيئاً في الحقيقة، ولا يحبه شيء في الحقيقة، فلا يتخذ شيئاً خليلاً.
وكذلك الكلام يمتنع عنده على الرب – تعالى – وكذلك نفت الجهمية والمعتزلة وغيرهم أن يكون لله كلام قائم به، أو إرادة قائمة به، وادعوا ما باهتوا به صريح العقل المعلوم بالضرورة، أن المتكلم يكون متكلماً بكلام يكون في غيره.
وقالوا أيضاً: يكون مريداً بإرادة ليست فيه، ولا في غيره، أو الإرادة وصف عدمي، أو ليست غير المرادات المخلوقة، وغير الأمر، وهو الصوت المخلوق في غيره.
فكان حقيقة قولهم التكذيب بحقيقة ما أخبرت به الرسل، من كلام الله ومحبته ومشيئته، وإن كانوا قد يقرون بإطلاق الألفاظ التي أطلقها الرسل [تستراً] وهذا حال الزنادقة، والمنافقين)) (2) .
والبخاري – رحمه الله – أراد بهذا الباب الرد على هؤلاء ونحوهم، الذين
_________
(1) ((خلق أفعال العباد)) (29-30) .
(2) التسعينية (ص42) .(2/430)
ينكرون كلام الله حقيقة، وإذا وصفوا الله بالكلام فمرادهم أن الله خلق كلاماً في غيره، إما في الهوى، أو بين ورق الشجرة التي كلم منها موسى، أو في غير ذلك.
ولا يشك من عرف ما جاءت به الرسل أن هذا تبديل للحق بالباطل، وللحقيقة التي فطر الله عليها عباده، واللغة التي اتفق عليها بنو آدم، إلا من اجتالته الشياطين فغَّيرت فطرته.
فالمتكلم هو الذي يقوم به الكلام، ويتصف به ويصدر منه، كما أن المحب من يقوم به الحب، والقادر من تقوم به القدرة، والعالم من يقوم به العلم.
وعلى قول أولئك الضلاّل الذين يرد عليهم الإمام البخاري في هذا الباب وغيره، أن الذي قال لموسى عليه السلام: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} (1) أنه الشجرة، وهذا الكفر ما وراءه كفر.
ويلزم على قولهم إن كل كلام خلقه الله هو كلامه، والله خالق كل شيء، فيدخل في ذلك أفعال العباد، وحركاتهم، وكلامهم، فيلزم أن يكون كلامهم كلاماً له بما فيه من الكذب والكفر وقول الزور، وغير ذلك، حتى نباح الكلاب، فأي قول أفسد من قول هذا لازمه؟ وأي ضلال أبعد منه؟
وكلام أئمة الإسلام في بيان بطلان هذا القول كثير جداً.
قال الإمام ابن جرير - رحمه الله -: ((وأما قوله: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسىَ تَكليِماً} فإنه يعني بذلك - جل ثناؤه -: وخاطب الله بكلامه موسى خطاباً.
وقد حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا نوح
_________
(1) الآية 14 من سورة طه.(2/431)
بن أبي مريم، وسئل: كيف كلم الله موسى تكليماً؟ فقال: مشافهة)) (1) .
وذكر البخاري عن ابن عباس قال: كلم الله موسى كان النداء في السماء، وكان الله في السماء)) (2) .
ولهذا الخصوصية التي خص الله موسى بها، صار له بذلك شرف وفضل على غيره من الأنبياء، ولهذا يذكر الناس له هذه الفضيلة في الموقف، إذ طلبوا منه الشفاعة.
******
141- قال: ((حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، حدثنا عقيل، عن ابن شهاب، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((احتج آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم الذي أخرجت ذريتك من الجنة؟ قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وكلامه، ثم تلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق! فحج آدم موسى)) .
اختصر الإمام البخاري – رحمه الله – هذا الحديث، وفي بعض ألفاظه الثابتة في ((الصحيحين)) قوله: ((احتج آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟
فقال له آدم: أنت موسى الذي كلمك الله تكليماً، وكتب لك التوراة، فكم تجد فيها مكتوباً: {وَعَصَىَ آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىَ} قبل أن أخلق؟
قال: بأربعين سنة، قال: فحج آدم موسى)) يعني: غلبه بالحجة.
_________
(1) ((تفسير الطبري)) (9/403) تحقيق محمود شاكر.
(2) ((خلق أفعال العباد)) (ص41) .(2/432)
قال شيخ الإسلام: ((قد ظن كثير من الناس أن آدم احتج بالقدر على نفي الملام على الذنب، ثم صاروا لأجل هذا الظن ثلاث أحزاب:
فريق كذبوا بهذا الحديث، كأبي علي الجبائي، وغيره؛ لأنه من المعلوم بالاضطرار أن هذا خلاف ما جاءت به الرسل، ولا ريب أنه يمتنع أن يكون هذا مراد الحديث، ويجب تنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بل جميع الأنبياء، وأتباعهم، أن يجعلوا القدر حجة لمن عصى الله ورسوله.
وفريق تأولوه بتأويلات معلومة الفساد، كقول بعضهم: حجه؛ لأنه أبوه، والابن لا يلوم أباه.
وقول بعضهم: حجه؛ لأن الذنب كان في شريعة، والملام في أخرى.
وقول بعضهم: لأن الملام كان بعد التوبة، وقول بعضهم: لأن هذا تختلف فيه دار الدنيا ودار الآخرة.
وفريق ثالث: جعلوه عمدة في سقوط الملام عن المخالفين لأمر الله ورسوله.
والصواب: أن موسى لم يلم آدم إلا من جهة المصيبة التي أصابته وذريته بما فعل، لا لأجل أن تارك الأمر مذنب عاص، ولهذا قال: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ ولم يقل: لماذا خالفت الأمر ولماذا عصيت؟
والناس مأمورون عند المصائب التي تصيبهم بأفعال الناس، أو بغير أفعالهم بالتسليم للقدر، وشهود الربوبية، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (1) ، قال ابن مسعود: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم (2) .
_________
(1) الآية 11 من سورة التغابن.
(2) في ((الدر المنثور)) ، أخرجه سعيد بن منصور، انظر (8/184) .(2/433)
وفي الصحيح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت، لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) (1) فأمره بالحرص على ما ينفعه، وهو طاعة الله ورسوله، فليس للعباد أنفع من طاعة الله ورسوله، وأمره إذا أصابته مصيبة أن لا ينظر إلى تقدير ما لم يقع، وهو قوله: لو أني فعلت كذا وكذا، لكان كذا وكذا، فإن هذا ليس فيه إلا التحسر، والمضرة، ولكن لينظر إلى الواقع، ويوقن بأنه بقدر الله تعالى وقضائه، ولا بد من وقوعه، فلا مخلص منه، فيرضى به ويسلم لقدر الله – تعالى – وقضائه، كما قال بعضهم: الأمر أمران:
أمر فيه حيلة، فلا تعجز عنه، وأمر لا حيلة فيه، فلا تجزع منه.
وما زال أئمة الهدى يوصون الإنسان بأن يفعل المأمور، ويترك المحظور، ويصبر على المقدور، وإن كانت المصيبة بفعل آدمي، فلو أن رجلاً أنفق ماله في المعاصي، ومات ولم يخلف لأولاده مالاً، أو ظلم الناس بظلم صاروا يبغضون أولاده من أجل ظلمه، فلا يعطونهم ما يعطون أمثالهم، فهذه مصيبة في حق الأولاد حصلت بسبب أبيهم.
فإذا قالوا لأبيهم: أنت فعلت بنا هذا، قيل لهم: هذا كان مقدراً عليكم، وأنتم مأمورون بالصبر على ما يصيبكم، والأب عاص لله فيما فعل من الظلم، أو الإنفاق في المعصية، ملوم على ذلك، لا يرتفع عنه الذم والعقاب بالقدر السابق.
فإن تاب توبة نصوحاً، وقبل الله توبته، وغفر له، لم يجز ذمه حينئذ ولومه بحال، لا من جهة حق الله، ولا من جهة المصيبة التي حصلت لغيره بفعله،
_________
(1) رواه مسلم (4/2052) رقم (2664) .(2/434)
إذ لم يكن هو ظالماً لأولئك، فإن تلك المصيبة مقدرة عليهم، وهذا مثل قصة آدم، فإنه لم يظلم أولاده، وإنما ولدوا بعد هبوطه من الجنة، وهبط هو وحواء، ولم يكن معهما أولاد، فلم يظلم أولاده ظلماً يستوجب ملامه منهم، وكونهم صاروا في الدنيا دون الجنة أمر مقدر عليهم.
وهو قد تاب من ذنبه، كما قال تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى {121} ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (1) .
وموسى أعلم من أن يلومه على ذنب قد علم أنه تاب منه، وآدم أعلم من أن يحتج بالقدر على أن الذنب لا ملام عليه، وقد علم أن لعن إبليس بسبب ذنبه، وهو مقدر عليه.
ولو كان الاحتجاج بالقدر نافعاً من الذنب لفعله آدم، ولكنه تاب من الذنب واستغفر ربه)) (2) .
فتبين أن آدم حج موسى لما قصد موسى لوم آدم على ما كان سبباً في مصيبة أبنائه، وأن آدم احتج بأن هذه المصيبة سبق بها القدر، ولا بد من وقوعها، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (3) . وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (4) .
وسواء في ذلك المصائب التي تحصل بأفعال العباد، أو غيرها، فإن على
_________
(1) الآيتان 121، 122 من سورة طه.
(2) ((مجموع الفتاوى)) (8/303-322) ملخصاً.
(3) الآية 11 من سورة التغابن.
(4) الآية 22 من سورة الحديد.(2/435)
العبد الصبر والتسليم، ولا يسقط بذلك لوم الجاني وعقابه.
قال الله - تعالى -: {وَاصبِر لِحُكمِ رَبِكَ} (1) ، وحكم الله نوعان: خلق، وأمر، فالأول: ما يقدره من المصائب.
والثاني: ما يأمر به وينهى عنه، وهو شرعه ودينه.
والعبد مأمور بالصبر على النوعين، فعليه أن يصبر على فعل المأمور، وترك المحظور، وعلى ما قدره الله وقضاه)) (2) .
((فالمصائب الحاصلة بقدر الله التي لم يبق فيه حق يؤخذ، أو ذنب يعاقب عليه، ليس فيها إلا التسليم للقدر، وقصة آدم من هذا القبيل، فإن موسى لامه من أجل ما أصابه وذريته.
وآدم قد تاب من الذنب الذي هو سبب المصيبة، وغفر له، والمصيبة كانت مقدرة، فلا حيلة أمامها إلا التسليم والرضا.
ولهذا قال: ((أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وكلامه، ثم تلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق)) .
وقوله: ((احتج آدم وموسى)) أي: كل واحد منهما ذكر حجته أمام الآخر، وهذا يجوز أن يكون بعد وفاة موسى، أو أنه في الرؤيا، فإن رؤيا الأنبياء وحي.
((وقال ابن عبد البر: ((مثل هذا يجب فيه التسليم، ولا يوقف فيه على تحقيق؛ لأنا لم نؤت من جنس هذا العلم إلا قليلاً)) (3) .
_________
(1) الآية 48 من سورة الطور.
(2) ((الفتح)) (11/324-325) ملخصاً.
(3) ((الفتح)) (11/507) .(2/436)
والمقصود هنا قوله: ((أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وكلامه)) والاصطفاء هو: الاختيار والتفضيل، وفرق بين الرسالة والتكليم، فهو قدر زائد على الرسالة؛ أنها تحصل بإرسال ملك إليه أو بالوحي.
وأما التكليم فهو بإسماعه كلامه، وهذا الذي اختص به موسى من بين الرسل، فدل هذا على أن الله – تعالى – كلمه بدون واسطة، بل أسمعه كلامه منه إليه، وهو أمر واضح.
وجاء في رواية ذكرها الحافظ: ((قال: أنت كلمك الله من وراء حجاب ولم يجعل بينك وبينه رسولاً من خلقه)) (1) .
((قال ابن عبد البر: هذا الحديث أصل في إثبات القدر، وأن الله قضى أعمال العباد، فكل أحد يصبر لما قدر له بما سبق في علم الله – تعالى -، وليس فيه حجة للجبرية)) (2) .
وقال الخطابي – رحمه الله تعالى -: ((قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر من الله والقضاء منه، معنى الإجبار، والقهر للعبد على ما قضاه وقدره، ويتوهم أن فلج آدم في الحجة على موسى إنما كان من هذا الوجه، وليس الأمر في ذلك على ما يتوهمونه.
وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله – سبحانه – بما يكون من أفعال العباد وأكسابهم، وصدورها عن تقدير منه، وخلق لها، خيرها وشرها، والقدر: اسم لما صدر مقدراً عن فعل القادر، كما أن الهدم، والقبض، والنشر، أسماء لما صدر عن فعل الهادم، والقابض، والناشر.
يقال: قدّرْت الشيء، وقدرته، خفيفة وثقيلة، بمعنى واحد.
_________
(1) ((الفتح)) (11/508) .
(2) المرجع المذكور (ص509) .(2/437)
والقضاء في هذا معناه الخلق، كقوله – تعالى -: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (1) أي: خلقهن.
وإذا كان الأمر كذلك: فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم، أفعالهم وأكسابهم ومباشرتهم تلك الأمور، وملابستهم إياها عن قصد وتعمد، وتقديم إرادة واختيار، فالحجة إنما تلزمهم بها، واللائمة تلحقهم عليها.
وجماع القول في هذا الباب: أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس، والآخر بمنزلة البناء، فمن رام الفصل بينهما رام هدم البناء ونقضه (2) .
وإنما كان موضع الحجة لآدم على موسى – صلوات الله وسلامه عليهما – أن الله – سبحانه – إذا كان قد علم من آدم أنه يتناول الشجرة ويأكل منها، فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه.
وبيان هذا في قوله – سبحانه -: {وَإِذ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلائِكَةِ إِني جَاعِلٌ فيِ الأَرضِ خَلِيفَةَ} فأخبر قبل كون آدم أنه إنما خلقه للأرض، وأنه لا يتركه في الجنة، حتى ينقله عنها إلى الأرض، وإنما كان تناوله من الشجرة سبباً لوقوعه إلى الأرض التي خلق لها وليكون فيها خليفة، ووالياً على من فيها، وإنما أدلى آدم عليه السلام بالحجة على هذا المعنى، ودفع لائمة موسى عن نفسه على هذا الوجه، ولذلك قال: ((أتلومني على أمر قدّره الله عليّ قبل أن أخلق)) .
فإن قيل: على هذا يجب أن يسقط اللوم أصلاً.
_________
(1) الآية 12 من سورة فصلت.
(2) يعني: تقدير الله للأشياء، وسبق علمه بها، وأفعال العباد وأكسابهم وإرادتهم واختيارهم، فالقدر بمنزلة الأساس، وأفعال العباد مبنية عليه.(2/438)
قيل: اللوم ساقط من قبل موسى، إذ ليس لأحد أن يعيِّر أحداً بذنب كان منه؛ لأن الخلق كلهم تحت العبودية أكفاء سواء.
وقد روي: ((لا تنظروا إلى ذنوب العباد كأنكم أرباب، وانظروا إليها كأنكم عبيد)) .
ولكن اللوم لازم لآدم من قبل الله – سبحانه – إذ كان قد أمره ونهاه فخرج إلى معصيته، وباشر المنهي عنه، ولله الحجة البالغة – سبحانه – لا شريك له.
وقول موسى، وإن كان في النفوس منه شبهة، وفي ظاهره متعلق لاحتجاجه بالسبب الذي جعل أمارة لخروجه من الجنة، فقول آدم في تعلقه بالسبب – الذي هو بمنزلة الأصل – أرجح وأقوم، والفلج فيه قد يقع مع المعارضة بالترجيح، كما يقع بالبرهان الذي لا معارض له. والله أعلم)) (1) .
فحجة آدم عليه السلام ظهرت؛ لأن ما قدر عليه أمر لا يمكن تغييره ولا رده، بل هو قدر قدره العليم القدير، فلا يمكن دفعه، ولا رفعه بعد وقوعه، فليس أمامه إلا التسليم، ومع ذلك لا يكون القدر حجة فيما لم يقع؛ لأن الإنسان مأمور بفعل الطاعة، واجتناب المعصية، وهو لا يعلم ما هو المقدر عليه حتى يقع، فإذا وقع الأمر وتعذر دفعه هناك يسلم للقدر، ويقول: قدر الله وما شاء فعل، ويستغفر من ذنبه ويتوب إلى ربه.
****
142- قال: ((حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام، حدثنا قتادة، عن أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((يجمع المؤمنون يوم القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيريحنا
_________
(1) ((معالم السنن)) (7/69-72) .(2/439)
من مكاننا هذا، فيأتون آدم، فيقولون له، أنت آدم أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك الملائكة، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا إلى ربنا حتى يريحنا.
فيقول لهم: لست هناكم، فيذكر لهم خطيئته التي أصاب)) .
تقدم الكلام على هذا الحديث، والمراد منه هنا قوله فيه: ((ولكن ائتوا موسى، عبداً آتاه الله التوراة، وكلمه وقربه نجياً)) ، فهذا واضح كل الوضوح في الدلالة على ما أراده من إثبات كلام الله حقاً، والرد على من ينكر ذلك، إما صراحة كفعل الجهمية والمعتزلة، أو مراوغة كالأشعرية أو بعضهم، وكلهم ضالون في هذا الباب.
*****
143- قال: ((حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثني سليمان، عن شريك بن عبد الله، أنه قال: سمعت ابن مالك يقول ليلة أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مسجد الكعبة: إنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال أحدهم، خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه، وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.
فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم فتولاه منهم جبريل، فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه، ثم أتي بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشوا إيمانا وحكمه، فحشا به صدره ولغاديده - يعني: عروق حلقه - ثم أطبقه، ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها، فناداه أهل السماء: من هذا؟ فقال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: معي محمد، قال: وقد بعث؟ قال: نعم.(2/440)
قالوا: فمرحبا به وأهلا، فيستبشر به أهل السماء، ولا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم.
فوجد في السماء الدنيا آدم، فقال له جبريل: هذا أبوك، فسلم عليه، فسلم عليه، ورد عليه آدم، وقال: مرحبا وأهلا بابني نعم الابن أنت.
فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان، فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟
قال: هذان النيل والفرات، عنصرهما.
ثم مضى به في السماء، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب يده فإذا هو مسك أذفر، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك.
ثم عرج إلى السماء الثانية، فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الأولى: من هذا؟ قال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد – صلى الله عليه وسلم -، قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبا به وأهلا.
ثم عرج به إلى السماء الثالثة، وقالوا له مثل ما قالت الأولى، والثانية.
ثم عرج به إلى الرابعة فقالوا له مثل ذلك، ثم عرج به إلى السماء الخامسة فقالوا مثل ذلك، ثم عرج به إلى السادسة، فقالوا له مثل ذلك.
ثم عرج به إلى السماء السابعة، فقالوا له مثل ذلك، كل سماء(2/441)
فيها أنبياء قد سماهم، فوعيت منهم إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة بتفضيل كلامه لله، فقال موسى: رب لم أظن أن ترفع عليّ أحدا، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله فيما أوحى إليه خمسين صلاة على أمتك، كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى، فقال: يا محمد، ماذا عهد إليك ربك؟ قال: عهد إلى خمسين صلاة كل يوم وليلة، قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم.
فالتفت النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى جبريل - صلى الله عليه وسلم - كأنه يستشيره في ذلك فأشار إليه جبريل أن نعم، إن شئت، فعلا به إلى الجبار، فقال وهو مكانه: يا رب خفف عنا، فإن أمتي لا تستطيع هذا، فوضع عنه عشر صلوات.
ثم رجع إلى موسى فاحتبسه، فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات، ثم احتبسه موسى عند الخمس، فقال: يا محمد، والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا، فضعفوا فتركوه، فأمتك أضعف أجسادا وقلوبا، وأبدانا وأبصارا وأسماعا، فارجع فليخفف عنك ربك.
كل ذلك يلتفت النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى جبريل ليشير عليه، ولا يكره ذلك جبريل، فرفعه عند الخامسة، فقال: يا رب إن أمتي ضعفاء، أجسادهم وقلوبهم، وأسماعهم وأبدانهم فخفف عنا.(2/442)
فقال الجبار: يا محمد، قال: لبيك وسعديك، فقال: إنه لا يبدل القول لدي، كما فرضت عليك في أم الكتاب، قال: فكل حسنة بعشر أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب، وهي خمس عليك، فرجع إلى موسى، فقال: كيف فعلت؟
فقال: خفف عنا، أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها.
قال موسى: قد – والله – راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه، ارجع إلى ربك، فليخفف عنك أيضا.
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: يا موسى، قد – والله – استحييت من ربي مما اختلفت إليه.
قال: فاهبط باسم الله.
قال: واستيقظ وهو في المسجد الحرام)) .
((الإسراء)) ، من سرى، وأسرى: إذا سار ليلاً.
والصواب أن الإسراء وقع له صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، وكذا المعراج، وهو في مكة قبل الهجرة، وأنه يقظة لا مناماً، وأنه بروحه وجسده.
قوله: ((ليلة أسري برسول الله – صلى الله عليه وسلم – من مسجد الكعبة، أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه)) ، ذكر البيهقي بسنده من طريق موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال: ((أسري برسول الله - إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة)) .
ثم قال: ((وكذلك ذكره ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، وروى السدي،، قال: ((فرض على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الخمس في بيت(2/443)
المقدس ليلة أسري به، قبل مهاجره بستة عشرة شهراً)) (1) .
قوله: ((في بيت المقدس)) يعني: أن أول صلاة صلاها بعد فرض الصلوات في بيت المقدس، وهي صلاة الفجر، فعلى قول الزهري وعروة يكون الإسراء في ربيع الأول، وعلى قول السدي يكون في ذي القعدة، ومن زعم أنه في رجب فليس له مستند، قال ابن كثير: لا أصل لذلك)) (2) .
قوله: ((أنه جاءه ثلاثة نفر)) قال في ((اللسان)) : ((النفر بالتحريك: ما دون العشرة من الرجال، وقالوا: النفر، والقوم، والرهط: جموع لا واحد لها من لفظها)) (3) .
وجاء أن منهم جبريل، وهذا ظاهر من الحديث لا خفاء فيه، وميكائيل.
قوله: ((قبل أن يوحى إليه)) هذه الجملة مما أنكره العلماء على شريك، وخَطَّؤُوه فيها، منهم الخطابي، وابن حزم، والقاضي عياض، والنووي.
وخرجها ابن كثير على أن المجيء مرتين، الأولى: قبل أن يوحى إليه، فكانت تلك الليلة ولم يكن فيها شيء، والثانية وهي التي حصل فيها شق الصدر، ثم الإسراء، والعروج إلى السماء وعبارته:
((وفي سياق حديث شريك غرابة من وجوه، منها قوله: ((قبل أن يوحى إليه)) والجواب: أن مجيئهم أول مرة كان قبل أن يوحى إليه، فكانت تلك الليلة، ولم يكن فيها شيء، ثم جاءه الملائكة ليلة أخرى، ولم يقل في ذلك ((قبل أن يوحى إليه)) ، بل جاءوا بعد ما أوحى إليه، فكان الإسراء قطعاً بعد الإيحاء، إما بقليل كما زعمه طائفة، أو بكثير نحو عشر سنين، كما زعمه
_________
(1) ((دلائل النبوة)) (2/107) .
(2) انظر السيرة له (2/94) .
(3) ((اللسان)) (3/687) المرتب.(2/444)
آخرون، وهو الأظهر)) (1) .
قال الحافظ: ((وصرح الخطابي، وابن حزم والقاضي عياض، والنووي، بأن شريكاً انفرد بهذه اللفظة، وفي دعوى التفرد نظر، فقد وافقه كثير بن خنيس، عن أنس، أخرجه سعيد بن يحيى الأموي، في كتاب المغازي من طريقه)) (2) .
ثم قال: ((قوله: ((فلم يرهم)) أي: بعد ذلك، ((حتى أتوه ليلة أخرى)) ، ولم يعين المدة التي بين المجيئين، فيحمل على أن المجيء الثاني كان بعد أن أوحي إليه، وحينئذ وقع الإسراء والمعراج)) (3) ، أي: بعد النبوة والوحي.
ويجوز أنه يقصد بقوله: ((قبل أن يوحى إليه)) أي: في شأن الإسراء والمعراج، أي: أنهم فاجَؤُوه بدون سابق إعلام له بذلك.
قوله: ((وهو نائم في المسجد)) وفي آخره: ((واستيقظ وهو في المسجد)) وبهذا ونحوه تعلق من يقول: إن الإسراء والمعراج وقعا مناماً.
والحق أنهما وقعا يقظة لا مناماً، وأن ذلك ببدنه وروحه،، وهو قول جمهور أهل السنة، والدليل قول سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} والتسبيح إنما يكون عند الأمور العظيمة والآيات الباهرة، ولو كان مناماً لم يكن فيه كبير أمر؛ لأنه لا يستنكر.
ومما يدل على ذلك إنكار كفار قريش له، وتعظيمهم إياه، واستبعادهم وقوعه، حتى ارتد بسبب ذلك بعض من أسلم، ولو كان مناماً لم ينكره
_________
(1) ((السيرة)) لابن كثير (2/98) .
(2) ((الفتح)) (13/480) .
(3) المرجع السابق.(2/445)
أحد، وأيضاً فالعبد اسم لمجموع الروح والبدن.
ودلالة الأحاديث على ذلك ظاهرة، فعلى هذا يكون قوله: ((وهو نائم في المسجد)) يعني ذلك المجيء الأول الذي لم يحصل فيه الإسراء، ثم المجيء الثاني كان يقظان.
ويحمل ما في آخر الحديث على الإفاقة مما كان فيه من شغل البال بمشاهدة الآيات العظيمة والملكوت، وقد ينشغل الإنسان بما يقع له من أمر مهم، فإذا انجلى عنه ذلك الأمر كأنه أفاق من نوم، كما جاء في قصة ذهابه إلى الطائف، وفيها: ((فلم أفق إلا وأنا بقرن الثعالب)) .
ويجوز أنه نام بعد رجوعه، وكان إذا أوحي إليه يستغرق قلبه في الوحي، فإذا انقطع الوحي سري عنه، فيجوز أن يكون هذا مثله.
قوله: ((فقال أولهم: أيهم هو؟)) يدل على أنه كان نائماً مع جماعة.
قال الحافظ: ((قد جاء أنه كان معه عمه حمزة, وجعفر بن أبي طالب)) (1) .
((فقال أحدهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة)) كانت هنا تامة، والتقدير: وجدت تلك الليلة، ولم يحصل فيها شيء من الإسراء، وذهبوا ولم يرهم.
((حتى أتوه ليلة أخرى)) بعد زمن طويل، كما تقدم، وبهذا يرتفع الإشكال في قوله: ((قبل أن يوحى إليه)) وقوله: ((وهو نائم)) .
قال الحافظ: ((وبه يسقط تشنيع الخطابي، وابن حزم، وغيرهما، بأن شريكاً خالف الإجماع في دعواه أن المعراج كان قبل البعثة)) (2) .
_________
(1) ((الفتح)) (13/480) .
(2) المصدر السابق.(2/446)
ومما يدل على ذلك قوله لما استفتح جبريل باب السماء: ((أبعث إليه؟ قال: نعم)) يعني: أنه أرسل إلى الناس.
قوله: ((فيما يرى قلبه، وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء)) .
هذا من الخصائص التي خص بها الأنبياء، ومعنى يقظة القلب: أنه يدرك الحسيات المتعلقة به: كالألم والحدث ونحو ذلك، لا ما يتعلق بالعين من رؤية الأشياء، قاله النووي (1) .
قوله: ((فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم)) هذا يختلف مع رواية الزهري، عن أنس، عن أبي ذر، أنه قال: ((فرج سقف بيتي وأنا بمكة)) وفي رواية الواقدي بأسانيده، أنه أسري به من شعب أبي طالب، وفي حديث أم هانئ عند الطبراني: ((أنه بات في بيتها، ففقدته من الليل، فقال: إن جبريل أتاني)) .
قال الحافظ: ((والجمع بين هذه الأقوال: أنه نام في بيت أم هانئ، وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج سقف بيتها، وأضافه إليه؛ لكونه يسكنه، فنزل منه الملك، فأخرجه إلى المسجد، فكان به مضطجعاً، وبه أثر النعاس، ثم أخرجه إلى باب المسجد، فأركبه البراق)) (2) .
قوله: ((فتولاه منهم جبريل، فشق ما بين نحره إلى لبّته)) يعني: أن جبريل شق صدره، وبطنه، فاستخرج قلبه وأحشاءه فغسلها بماء زمزم بيده حتى أنقاه من كل ما فيه من دخل، ثم أتي بطست من ذهب، وفيه تور من ذهب، وهو إناء صغير، قد يكون من صفر، أو من حجر، والطست مملوء إيماناً وحكمة، فحشا به صدره، ولغاديده – يعني: عروق حلقه، ثم أطبقه فخاطه،
_________
(1) نقله الحافظ في ((الفتح)) (1/450) .
(2) ((الفتح)) (7/204) .(2/447)
ولم يتألم من ذلك أو يتأثر، وقد جاء أن أثر الشق بقي فيه واضحاً.
و ((اللبة)) هي موضع القلائد في أعلى الصدر، وهي التي ينحر البعير منها.
وتكرر شق صدره صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ: ((ثبت ذلك في غير رواية شريك في ((الصحيحين)) ، من حديث أبي ذر، ووقع أيضاً له ذلك عند البعثة، كما أخرجه أبو داود الطاليسي في ((مسنده)) ، وأبو نعيم في ((الدلائل)) ، ووقع أيضا في حديث أبي هريرة، وهو ابن عشر سنين، كما في ((المسند)) من زيادات عبد الله)) (1) .
قوله: ((ثم عرج به إلى السماء الدنيا)) حذف قبل هذا جملة من الحديث مما هو ثابت في الروايات الأخرى؛ لأن القصة واحدة، وتقدير المحذوف: ثم أتي بالبراق، فركبه، فأسري به إلى المسجد الأقصى، فربط البراق وصلى ركعتين تحية المسجد، ثم عرج به.
والعروج هو الصعود، والارتقاء، وعروجه - صلى الله عليه وسلم - هذا آية باهرة من آيات الله العظيمة، التي لا يدرك حقيقتها العقل البشري؛ لأن ارتفاع السماء عن الأرض ارتفاع هائل، لا يعلم قدره إلا الله – تعالى -، وقد تبين للناس اليوم أن الإنسان إذا ارتفع عن الأرض إلى حد قريب ينعدم الأكسجين الذي به الحياة، فيختنق ويموت في لحظات، وما فوق السماء الدنيا إلى تليها مسافة بعيدة جداً، لو قدرت بسير الإنسان، وما يستخدمه من آلات حديثة، لكانت بمئات السنين، وربما بآلاف السنين، وهكذا كل ما بين سماء وأخرى، ومع هذا كله يذهب الرسول – صلى الله عليه وسلم – ببدنه وروحه ويجاوز السماوات السبع بارتفاع
_________
(1) ((الفتح)) (13/481) .(2/448)
لا يعلم قدره إلا الله – تعالى – في ما يقرب من اثنتى عشرة ساعة، ثم يعود، ولهذا قال جل وعلا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} .
والتسبيح يكون عند الأمور العظيمة الدالة على قدرة الله، كما سبق.
فإن قيل: لماذا لم يذكر المعراج في القرآن مع أنه آية عظيمة دالة على عظيم قدرة الله – تعالى -؟
قيل: لأن الإسراء قد ذكر، وهو من جنسه، من حيث قطع المسافة الشاسعة في الوقت القصير، ولأنه يدل عليه.
ولأن إخبار الرسول – صلى الله عليه وسلم – به وبما وقع فيه كاف عن ذكره في القرآن.
قوله: ((فضرب باباً من أبوابها)) يدل على أن السماء مبنية بناء محكماً ولها سمك وكثافة، وأنها لا تدخل إلا من أبوابها.
قوله: ((فناداه أهل السماء من هذا؟)) يدل على سماكة السماء وكثافتها، وأن من فيها لا يرى من يأتي من أسفلها، فدل على بطلان قول أهل الهيئة قديماً بأن السماء شفافة، لا تستر من فوقها، ولا من تحتها، وهذا من خرصهم الذي لا يستند إلى برهان.
ودل أيضاً على بطلان قول ملاحدة هذا العصر، الذين ينكرون وجود السماء المبنية المحكمة، ويقولون: إنما هو فضاء تسبح فيه الكواكب، وهذا خلاف نصوص الشرع، وخلاف الواقع، وهم لا يؤمنون إلا بالمحسوس.
قوله: ((فقال: جبريل)) يدل على أن المسؤول عند الاستئذان يسمي نفسه العلم حتى يعرف، ولا يأتي بكلام مبهم مثل قوله: ((أنا)) ونحوه مما لا يعين المستأذن.
((قالوا: ومن معك؟ قال: معي محمد، قال: وقد بعث إليه؟ مقتضى السياق أن تكون ((قال)) الأخيرة للجمع.(2/449)
وهذا يدل على حراسة السماء، وأنه لا يدخلها أحد إلا من أمر الله بإدخاله.
وقولهم: ((وقد بعث إليه)) يعني: بعث نبياً، فهو يدل على أنهم لم يعلموا ذلك، والظاهر كما قال القسطلاني أن المعنى: أبعث إليه في المجيء إلى السماء؟ لأن البعثة لا تخفى عليهم. وعلى كل فهو يدل على أن معراجه – صلى الله عليه وسلم – بعد النبوة، وهو أمر ظاهر.
((فقالوا: فمرحباً، وأهلاً)) أي: أتيت مكاناً رحباً واسعاً، وفيه لك أهل يفرحون بقدومك، وهذا كلام مشهور، تقوله العرب لمن يستضيفها ولمن تكرمه، ومعناه: إنك حللت في مكان رحب، سهل واسع، لا ضيق عليك فيه، وأنت عند من هو مثل أهلك، يفرح بك ويكرمك.
قوله: ((فيستبشر به أهل السماء)) يدل على أن عندهم علماً بأنه سيبعث نبياً ويعرج به، ويدل على حبهم له وفرحهم برؤيته – صلى الله عليه وسلم -.
((لا يعلم أهل السماء بما يريد به في الأرض حتى يعلمهم)) ؛ لأنهم لا يعلمون الغيب، وهو يرد قول بعضهم أنه مرسل حتى إلى الملائكة؛ لأنهم ليسوا بحاجة إلى رسالته، ولو أرسل إليهم رسولاً لكان من جنسهم، كما جرت سنة الله في خلقه، وكيف يرسل لمن في السماوات؟!.
((فوجد في السماء الدنيا آدم، فقال له جبريل: هذا أبوك، فسلم عليه)) وهكذا في كل سماء يجد فيها أنبياء، فيعلمه جبريل من هم، ويأمره بالسلام عليهم، وهم في السماوات حسب منازلهم عند الله، فمن هو أفضل فمنزلته أرفع، والرسول – صلى الله عليه وسلم – لا يعرفهم حتى يعلمه جبريل بهم، مما يدل على أنه لم يرهم قبل هذا اللقاء.
((فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان، فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟ قال: هذا النيل والفرات، عنصرهما)) أي: أصلهما، أو ما يمدان منه،(2/450)
وهذا يدل على أن ذينك النهرين ليسا النيل والفرات؛ لأن النيل والفرات في الأرض، وذانك النهران في السماء.
وفي حديث مالك بن صعصعة أنه رأي في أصل سدرة المنتهى أربعة أنهار، وذكر منها النيل والفرات، فيجوز أن يكون ذلك مثل، والله أعلم بذلك.
((ثم مضى به في السماء، فإذا بنهر عليه قصر من لؤلؤ، وزبرجد، فضرب يده فإذا هو مسك أذفر، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك)) وهذا مما استشكل في هذا الحديث، لأنه ثبت أن الكوثر في الجنة، والجنة في السماء السابعة، كما جاء في المسند من حديث أنس ((دخلت الجنة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ، فضربت بيدي في مجرى مائه فإذا مسك أذفر، فقال جبريل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله – تعالى -)) (1) .
قال الإمام أحمد: ((حدثنا محمد بن فضيل، عن المختار بن فلفل، عن أنس بن مالك قال: ((أغفى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إغفاءة، فرفع رأسه مبتسماً، إما قال لهم، وإما قالوا له: لم ضحكت؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: إنه أنزلت عليَّ آنفاً سورة، فقرأ: {بِسمِ اللهِ الرَحَمَنِ الرّحَيمِ إِنَّا أَعطَيناكَ الكَوثَرَ} حتى ختمها، فقال: هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: هو نهر أعطانيه ربي – عز وجل – في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يختلج العبد منهم، فأقول: يا رب: إنه من أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)) (2) .
يجوز أن يكون رآه في السماء الدنيا وأصله في الجنة، أو أنه مثِّل له، والله على كل شيء قدير.
_________
(1) انظر ((المسند)) (3/103، 115، 263) .
(2) ((المسند)) (3/102) .(2/451)
وقال القرطبي: ((والصحيح أن للنبي – صلى الله عليه وسلم – حوضين: أحدهما في الموقف قبل الصراط، والثاني في الجنة، وكلاهما يسمى كوثراً، والكوثر في كلام العرب: الخير الكثير)) (1) .
قال الحافظ: ((فيه نظر؛ لأن الكوثر نهر داخل الجنة، وماؤه يصب في الحوض، ويطلق على الحوض كوثر؛ لكونه يمد منه)) (2) .
وظاهر الأحاديث مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا فرطكم على الحوض)) ، وقوله لأنس لما طلب منه أن يشفع له يوم القيامة وقال: ((أنا فاعل)) ، قال: أين أجدك، قال: ((اطلبني أول ما تطلبني على الصراط، قلت: فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الميزان، قلت: فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الحوض)) (3) وغير ذلك، ظاهرها أن الحوض في الموقف، وفي حديث لقيط ما يدل على أنه بعد الصراط فإن فيه: ((فينصرف نبيكم وينصرف على أثره الصالحون، فيسلكون جسراً من النار، يطأ أحدكم الجمرة فيقول: حس، فيقول ربك: أو إنه؟ ألا فيطلعون على حوض الرسول على أظمأ – والله – ناهلة رأيتها أبداً)) (4) .
((قال القرطبي في المفهم، تبعاً للقاضي عياض: مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به أن الله – سبحانه وتعالى – قد خص نبيه محمداً – صلى الله عليه وسلم – بالحوض المصرح باسمه وصفته، وشرابه في الأحاديث الصحيحة الشهيرة، التي يحصل بمجموعها العلم القطعي)) (5) .
قوله: ((ثم عرج إلى السماء الثانية، فقالت الملائكة له مثل ما قالت في الأولى)) .
_________
(1) ((التذكرة)) (1/362) .
(2) ((الفتح)) (11/466) .
(3) رواه أحمد والترمذي، انظر ((المسند)) (3/178) والترمذي في كتاب صفة القيامة، باب ما جاء في شأن الصراط (2438) .
(4) رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في ((زوائد المسند)) (4/13) ، وفي ((السنة)) (2/485) .
(5) ((الفتح)) (11/467) .(2/452)
يعني: أن جبريل استفتح، فقالوا: من؟ فأخبرهم كما مضى.
قوله: ((كل سماء فيها أنبياء، قد سماهم فأوعيت منهم إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة)) قال الحافظ: ((كذا في رواية شريك، وفي حديث الزهري عن أنس، عن أبي ذر، فذكر أنه وجد في السماوات آدم، وإدريس، وعيسى، وإبراهيم، ولم يثبت منازلهم، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة، وهو موافق لرواية شريك، والأكثرون خالفوا ذلك، فذكروا أن موسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة، كما في رواية قتادة، وسياق روايته يدل على رجحانها، فإنه ضبط اسم كل نبي، والسماء التي هو فيها)) (1) .
وقد حاول الحافظ أن يجمع بين الروايات بأن موسى كان وقت العروج في السادسة، وإبراهيم في السابعة، ثم انعكس الأمر عند هبوطه.
وهذا جائز، ولكن يحتاج إلى دليل، قال: ويحتمل أنه لقي موسى في السادسة، ثم صعد معه إلى السابعة؛ لأنه هو الذي صارت المحاورة بينه وبينه من أجل تخفيف الصلوات، فالله أعلم)) (2) .
والراجح ما صرح به في هذه الرواية، وقد نص على أن سبب رفعه إلى السابعة ما خصه الله به من التكريم بكلامه، كما قال:
((وموسى في السابعة بتفضيل كلامه لله)) وفي بعض النسخ: ((بتفضيل كلام الله)) وهي أظهر على المراد؛ لأن المقصود إثبات تكليم الله – تعالى – لموسى، وليس تكليم موسى لله – تعالى -.
_________
(1) ((الفتح)) (13/482) .
(2) المرجع السابق.(2/453)
وهذا هو محل الشاهد من الحديث، وإن كان بقية الحديث فيه دلالة واضحة على تكليم الله – تعالى – لمحمد – صلى الله عليه وسلم -، ويجوز أن البخاري أراد ذلك أيضاً، فكأنه يقول: كما أن الله – تعالى – قد كلم موسى تكليماً، وموسى في الأرض، فقد كلم عز وجل محمداً وهو فوق سبع سماوات.
قوله: ((فقال موسى: رب لم أظن أن ترفع عليَّ أحداً)) ، وفي رواية: ((أن يرفع)) بالياء، قال ابن بطال: ((فهم موسى من اختصاصه بكلام الله – تعالى – في الدنيا دون غيره من البشر، كما قال تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} (1) أن المراد بالناس: البشر كلهم، وأنه استحق بذلك أن لا يرفع عليه أحداً، فلما رفع محمداً – صلى الله عليه وسلم – علم أنه فضل عليه، ومن ذلك قال هذا القول)) (2) .
قوله: ((ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، حتى جاء سدرة المنتهى)) .
قال الحافظ: ((هذا مما خالف فيه شريك غيره، فإن الجمهور على أن سدرة المنتهى في السابعة، وعند بعضهم في السادسة، ولعل في السياق تقديماً وتأخيراً، وأن ذكر سدرة المنتهى قبل قوله: ((ثم علا به فوق ذلك)) ، وفي رواية أبي ذر: ((ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام)) (3) أي: صوت كتابة الأقلام، التي تكتب ما أمر الله به من تقدير، وأمر ونهي.
ثم قال الحافظ: ((وفي رواية ميمون بن سياه عن أنس عند الطبري بعد ذكر إبراهيم في السابعة: فإذا هو بنهر)) فذكر أمر الكوثر.
_________
(1) الآية 144 من سورة الأعراف.
(2) ((الفتح)) (13/483) بتصرف.
(3) المصدر نفسه.(2/454)
قال: ثم خرج إلى سدرة المنتهى، وهذا موافق للجمهور، ويحتمل أن يكون المراد بما تضمنته هذه الرواية من العلو البالغ لأعلى
سدرة المنتهى وما تقدم لأصلها)) (1) .
قوله: ((ودنا الجبار، رب العزة فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى)) .
وفي رواية ميمون بن سياه، عن أنس: (فدنا ربك – عز وجل – فكان قاب قوسين أو أدنى)) .
وفي رواية البيهقي من طريق ثابت البناتي، عن أنس قال: ((فدنا فتدلى فأوحى إلى عبده ما أوحى)) (2) .
وفي رواية أبي سعيد التي رواها البيهقي وغيره: ((وكان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى)) (3) .
وذكر السيوطي أن ابن مردويه أخرج حديث أنس من طريق كثير بن خنيس، وفيه: ((فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى)) (4) .
قال الخطابي: ((ليس في هذا الكتاب – يعني: صحيح البخاري – حديث أشنع ظاهراً، ولا أشنع مذاقاً، من هذا الفصل، فإنه يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الآخر، وتمييز مكان كل واحد منهما، هذا إلى ما في التدلي من التشبيه والتمثيل له بالشيء الذي تعلق من فوق إلى أسفل.
_________
(1) المصدر نفسه.
(2) ((دلائل النبوة)) (2/384) .
(3) المصدر المذكور (2/395) .
(4) ((الدر المنثور)) (5/190) .(2/455)
ثم اختار أن هذا الحديث رؤيا منام، أو أن أنساً حكاه من تلقاء نفسه لم يعزه إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -)) (1) .
أقول: أما كون هذا الفصل شنيعاً ظاهراً ومذاقاً، فذلك في نظر الجهمية الذين يزنون كلام الله وكلام الرسول بما يظنونه براهين عندهم، وهي مجرد شبهات وأوهام، أو يزنون كلام الله ورسوله بأذواقهم.
وهذه الشناعة التي يظنها الخطابي – عفا الله عنا وعنه – قد ترد لو كان ما يختص الله به من الأفعال والصفات على وفق مذاق أهل التعطيل ومذهبهم، وقياساتهم الفاسدة.
أما إذا كان العبد منقاداً لما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم -، وموقناً بأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أعلم بالله، وأخشى له من كل الناس قاطبة، وأنه أقدرهم على البيان والإفصاح عما يريد، وهو أيضاً أنصحهم للأمة، وأحرصهم على هدايتها، إذا كان العبد موقناً بذلك كله، فلن يكون هذا الفصل وأمثاله مما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – شنيعاً لا ظاهراً ولا مذاقاً كما زعم الخطابي.
وأما محاولته الطعن في راوي الحديث – أنس بن مالك – رضي الله عنه، وأنه إنما حكى هذا القول من عند نفسه، وقد سبق أن قال في عبد الله بن مسعود مثل هذا، وهذا زلة منه عظيمة، وخروج عن نهج أهل الحق، وهذا ما يتمناه كل زنديق، ورافضي خبيث، حتى يتسنى لهم إبطال الشرع كله؛ لأن كل أحد يمكنه أن يقول ما شاء إذا انفتح هذا الباب، وهو الطعن في الصحابة بأنهم لم يفهموا ما يقولون، وينقلون الباطل والضلال، كما هو مقتضى قول الخطابي.
مع أن قوله هذا خلاف ما اتفق عليه أئمة الإسلام من المحدثين والفقهاء،
_________
(1) ((الفتح)) (13/483) .(2/456)
وأن مرسل الصحابي له حكم الاتصال؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون رواه عن صحابي، أو سمعه من الرسول – صلى الله عليه وسلم -.
وكذلك طعنه في شريك بن عبد الله غير مقبول، بل هو خلاف الحق.
((قال أبو الفضل ابن طاهر: ((تعليل الحديث بتفرد شريك، ودعوى ابن حزم أن الآفات منه شيء لم يسبق إليه، فإن شريكاً قبله أئمة الجرح والتعديل ووثقوه، ورووا عنه، وأدخلوا حديثه في تصانيفهم، واحتجوا به، وروى عبد الله بن أحمد الدورقي، وعثمان بن سعيد الدارمي، وعباس الدوري، عن يحيى بن معين: لا بأس به)) (1) .
وقال ابن عدي: ((مشهور من أهل المدينة، حدث عن مالك وغيره من الثقات، وحديثه إذا روى عنه ثقة لا بأس به، إلا أن يروي عنه ضعيف)) .
قال ابن طاهر: ((وحديثه هذا رواه عنه ثقة، وهو سليمان بن بلال)) (2) .
ثم إن شريكاً لم ينفرد بهذا اللفظ كما تقدم.
وأما قول الخطابي: ((إن ذلك يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الآخر، وتمييز مكان كل واحد منهما)) .
فجوابه أن كثيراً من النصوص في كتاب الله وسنة رسوله تقتضي ذلك، بل تدل عليه نصاً، وقد سبق في باب قوله تعالى: {وَكَانَ عَرشُهُ عَلَى المَاءِ} من ذكر بعض النصوص في ذلك، وبعض أقوال أئمة السلف ما فيه مقنع لمن يريد الحق.
وأما المكابر والضلال فلا حيلة فيه إلا طلب الهداية له من الله – تعالى -.
_________
(1) إذا قال يحيى بن معين: لا بأس به، فمعناه عنده: ثقة.
(2) ((الفتح)) (13/485) .(2/457)
ثم مفهوم هذا القول من الخطابي أنه لا تمييز بين مكان الخالق والمخلوق ولا مسافة، ولا تحديد، وهذا لا يعدو أمرين لا ثالث لهما:
إما: أن يكون الرب – تعالى – حالاَّ في الخلق، ومداخلاً لهم، فهو في كل مكان، لا يختص به مكان دون آخر، حتى أجواف الحيوانات والناس والأمكنة الخبيثة، وهذا مذهب الحلولية الذين هم من أضل خلق الله، وأبعدهم عن معرفة الله والتمييز بينه وبين خلقه، وهذا غاية الكفر ومنتهاه.
الثاني: أنه لا مكان لله أصلاً، ومن ليس له مكان – بمعنى أنه ليس في جهة – فهو عدم لا وجود له، والعدم هو إله المعطلة والملاحدة.
ومعلوم ثبوت وصف الله – تعالى – بالقرب، والدنو، من بعض خلقه، كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (1) .
وفي ((الصحيحين)) من حديث أبي موسى لما رفعوا أصواتهم بالتكبير قال لهم النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعون سميع بصير قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)) وقد تقدم، والنصوص في هذا كثيرة.
قال شيخ الإسلام: ((قرب الله – سبحانه – ودنوه من بعض مخلوقاته، لا يستلزم أن تخلو ذاته من فوق العرش بل هو فوق العرش ويقرب من خلقه كيف شاء، كما قال ذلك من قاله من السلف.
وهذا كقربه إلى موسى لما كلمه من الشجرة، وقال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (2) } .
_________
(1) الآية 186 من سورة البقرة.
(2) الآية 52 من سورة مريم.(2/458)
والنداء هو: رفع الصوت، والنجي هو القريب لمن يكلمه ويناجيه، وأكد ذلك بقوله: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} ، والمنادي لموسى هو ربه – تعالى – وهو المناجي له أيضاً، ونداؤه ومناجاته قائمة به – تعالى – ليست مخلوقة منفصلة عنه، ووقعت مناداته ومناجاته لرسوله موسى في وقت واحد معين.
وفي ((الصحيحين)) من حديث أبي موسى، أنهم كانوا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – في سفر، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير فقال: ((أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً قريباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)) .
وفيهما: ((يقول الله – تعالى -: من تقرب إلىَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرَّب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)) (1) .
((والذين يثبتون تقريبه العباد إلى ذاته، وهو القول المعروف للسلف والأئمة، وهو قول الأشعري، وغيره من الكلابية، فإنهم يثبتون قرب العباد إلى ذاته، وكذلك يثبتون استواءه على العرش، فصار مستوياً عليه.
وأما دنوه وتقربه من بعض عباده، فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، ومجيئه يوم القيامة، ونزوله، واستواءه على العرش، وهذا مذهب أئمة السلف، وأئمة الإسلام المشهورين، وأهل الحديث، والنقل عنهم بذلك متواتر.
وأول من أنكر هذا في الإسلام الجهمية، ومن وافقهم)) (2) .
وقد ثبت في ((الصحيحين)) من حديث ابن عمر قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم –
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (5/463-464) ملخصاً.
(2) المصدر (ص466) .(2/459)
يقول: ((يدنو أحدكم من ربه حتى يضع عليه كنفه، فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)) .
وسبق الكلام عليه قريباً.
وفي لفظ: ((يؤتى المؤمن يوم القيامة فيدنيه الله منه، فيضع عليه كنفه)) .
قال أبو يعلى: ((غير ممتنع حمله على ظاهره، وأنه دنو من ذاته، وقد أخذ أحمد بظاهره، في رواية أبي الحارث، وقد سأله: ما معنى قول النبي – صلى الله عليه وسلم – إن الله يدني العبد يوم القيامة، فيضع عليه كنفه؟ قال: هو كما قال، ونقول به، فقد نص أحمد على الأخذ بظاهره)) (1) .
قوله: ((فأوحى الله فيما أوحى إليه خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة، ثم هبط بهم حتى بلغ موسى، فاحتبسه موسى، فقال: يا محمد، ماذا عهد إليك ربك؟
قال: ((عهد إليَّ خمسين صلاة كل يوم وليلة)) .
استدل بذلك على عظيم قدر الصلاة عند الله، والاهتمام بها، وأنها من أفضل ما تفضل الله به على هذه الأمة؛ لأنها صلة بين العبد وربه وقرب منه، فينبغي للمسلم أن يهتم بها ويجتهد في أدائها في خشوع وحضور قلب.
وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وقال الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} (2) .
وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (3) } .
_________
(1) ((إبطال التأويل)) (ص155) مخطوط.
(2) الآية 153 من سورة البقرة.
(3) الآية 45 من سورة البقرة.(2/460)
ومما يزيد في أهميتها أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يذكر أنه فرض عليه في ذلك الموقف القريب إلى الله تعالى إلا الصلاة.
وقد علم موسى – صلى الله عليه وسلم – أن الله سوف يفرض عليه فروضاً، ولهذا استوقفه.
وفي ذلك بيان نصحه وشفقته على هذه الأمة، فصلاة الله وسلامه عليه وجزاه الله خير الجزاء، حيث جعله الله سبباً لتخفيف الواجب على هذه الأمة.
قوله: ((إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم، فالتفت النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت)) وهذا كله بإرادة الله، فهو – جل وعلا – الذي ألهم موسى – صلى الله عليه وسلم – أن يسأل نبينا – صلى الله عليه وسلم – وأن يأمره بالرجوع إلى الله ليطلب التخفيف، فالحمد لله الذي أتم نعمته على عباده، وأظهر فضل أوليائه من رسله.
قوله: ((فعلا به إلى الجبار)) فيه دلالة صريحة واضحة على علو الله – تعالى – وأن الذي يصعد في العلو، يقرب من الله، وأن الذي في السماء أقرب إليه ممن في الأرض، وأن من في السماء السابعة أقرب إليه ممن هو تحتها، وهذا أمر فطر الله عليه عباده، لا ينكره إلا الجهمية والمعتزلة، ومن سلك نهجهم ممن اجتالتهم الشياطين فغيرت فطرهم، وزينت لهم تعطيل الله – تعالى – مما وصف به نفسه، وقد سبق الكلام في ذلك.
قوله: ((فقال وهو مكانه)) الضمير عائد إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – أي: وهو في مكانه الذي أوحى الله إليه فيه قبل نزوله إلى موسى.
((يا رب، خفف عنا، فإن أمتي لا تستطيع هذا)) إلى آخره، استدل بهذا أهل الأصول على جواز النسخ قبل التمكن من العمل، وعلى كل ففي هذا عظيم فضل الله ومنته على عباده، حيث أمر وأوجب، ثم لطف فخفف ورحم.
قوله: ((ثم احتبسه موسى عند الخمس، فقال: يا محمد، والله، لقد راودت(2/461)
بني إسرائيل قومي)) إلى آخره، هذا يدل على كمال نصح نبي الله وكليمه موسى – صلى الله عليه وسلم – لهذه الأمة، ويدل على أن نبي إسرائيل قد فرض عليهم صلوات هي أقل مما فرض على هذه الأمة، كما يدل على أن الخلق يضعفون، كلما تأخروا في الزمن ضعفوا في جميع خلقهم وقواهم.
((فقال الجبار: يا محمد، قال: لبيك وسعديك، قال: إنه لا يبدل القول لدي، كما فرضت عليك في أم الكتاب، قال: فكل حسنة بعشرة أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب، وهي خمس عليك)) هذا المقطع من الحديث صريح في أن الله – تعالى – كلم نبينا – صلى الله عليه وسلم – بلا واسطة، وأنه سمع كلامه، وخطابه بقوله: ((يا محمد)) وأجابه النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: لبيك وسعديك.
وهذا ما قصده البخاري – رحمه الله – إثباته وإيضاحه، ولا يخفى وضوحه.
وأم الكتاب هو: اللوح المحفوظ الذي كتب فيه كل ما هو كائن.
وجعل الله إعطاء هذه الأمة بالحسنة عشر حسنات تخفيفاً.
ثم أمسكه موسى وأمره بالرجوع، وطلب التخفيف شفقة منه على هذه الأمة أن تعجز عن أمر الله فتهلك، فجزاه الله أعظم ما يجزي به أولياءه، ما أعظم نصحه وشفقته – صلى الله عليه وسلم -.
((قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: يا موسى، قد – والله – استحييت من ربي مما اختلفت إليه)) أي: من كثرة التردد إليه، وفيه دليل على أن هناك مكاناً معيناً كان يتردد إليه هو أقرب إلى الله – تعالى – من المكان الذي فيه موسى – صلى الله عليه وسلم -.
لما قال لموسى ذلك قال له: فاهبط باسم الله متبركاً به ومستعيناً.
قوله: ((واستيقظ وهو في المسجد الحرام)) تقدم الكلام على هذه الفقرة.
((قال القرطبي: يحتمل أن يكون استيقاظاً من نومه نامها بعد الإسراء؛ لأن إسراءه لم يكن طول ليلته، وإنما كان في بعضها.(2/462)
ويحتمل أن يكون المعنى: أفقت مما كنت فيه، مما خامره من مشاهدة الملأ الأعلى؛ لقوله تعالى: {لَقَد رَأىَ مِن أيَاتِ رَبّه الكُبرَىَ. (1) }
قال ابن كثير بعد ما ذكر روايات الإسراء والمعراج: ((إذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها، وحسنها، وضعيفها، يحصل مضمون ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من مكة إلى بيت المقدس، وأنه مرة واحدة، وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه، أو زاد بعضهم فيه، أو نقص منه، فإن الخطأ جائز على من عدا الأنبياء عليهم السلام.
ومن جعل من الناس كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة، فأثبت إسراءات متعددة، فقد أبعد وأغرب، وهرب إلى غير مهرب، ولم يتحصل على مطلب، وقد صرح بعض المتأخرين بأنه – صلى الله عليه وسلم – أسري به مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط، ومرة من مكة إلى السماء فقط، ومرة إلى بيت المقدس، ومنه إلى السماء، وفرح بهذا المسلك، ورأى أنه ظفر بشيء يخلص به من الإشكالات.
وهذا بعيد جداً، ولم ينقل عن أحد من السلف.
ولو حصل هذا التعدد لأخبر به الرسول –صلى الله عليه وسلم – أمته، ولنقله الناس.
والحق أنه أسري به مرة واحدة، يقظة لا مناماً، من مكة إلى بيت المقدس راكباً البراق، فلما انتهى إلى باب المسجد، ربط الدابة عند الباب، ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين.
ثم أُتي بالمعراج، وهو كالسلم ذو درج يرقى فيها، فصعد فيه إلى السماء الدنيا ثم إلى بقية السماوات السبع، فتلقاه من كل سماء مقربوها، وسلم على
_________
(1) ((الفتح)) (13/487) .(2/463)
الأنبياء الذين في السماوات بحسب مراتبهم، حتى مر بموسى الكليم في السادسة، وإبراهيم الخليل في السابعة، ثم جاوز منزلتهما صلى الله وسلم عليهم أجمعين.
حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف أقلام القدر بما هو كائن، وغشي سدرة المنتهى من أمر الله فراش من ذهب، وألوان متعددة، وغشيتها الملائكة، ورأى جبريل على هيئته التي خلق عليها، له ستماِئَة جناح، ورأى البيت المعمور، وإبراهيم مسنداً ظهره إليه، ورأى ما يدخله من الملائكة كل يوم سبعين ألف، لا يعودون إلى مثلها أبداً.
ورأى الجنة والنار، وفرضت عليه الصلوات، ثم هبط إلى بيت المقدس، وهبط معه الأنبياء، فصلى بهم فيه، يحتمل أنها صلاة الصبح.
ثم خرج راكباً البراق، وعاد إلى مكة بغلس)) . (1)
والمقصود أن الله موصوف بالتكلم في الماضي والحاضر والمستقبل، وأنه يكلم من يشاء من عباده بما يشاء، وأي وقت شاء، وقد كلم الله – تعالى – موسى كلاما حقيقياً سمعه موسى من الله، وموسى في الأرض، والله في السماء، وكذلك كلم محمداً وهو في السماء كما في هذه القصة، قال – تعالى- مخاطباً موسى عليه السلام: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} (2) ، وهذا بيان أوضح من النهار في أن الله – تعالى – خص موسى في الدنيا من بين الناس بكلامه، وفيه الدليل على أنه تعالى إذا شاء أن يكلم أحداً من خلقه لم يمنعه مانع، وأنه متصف بالكلام المتعلق بمشيئته دائماً.
*****
_________
(1) ((تفسير)) ابن كثير (3/22-23) .
(2) الآية 144 من سورة الأعراف.(2/464)
قال: ((باب كلام الرب مع أهل الجنة)) .
مراده بيان أن الله - تعالى - متصف بالكلام في كل وقت إذا شاء؛ لأن الكلام متعلق بمشيئته - تعالى - فأي وقت شاء أن يتكلم تكلم، وقد سبق أن الكلام صفة كمال، وفقده نقص يتقدس الله عنه، وسبق ذكر أنواع من كلام الله - تعالى-.
*****
144- قال: ((حدثنا يحيى بن سليمان، حدثني ابن وهب، قال: حدثني مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله - تعالى - يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا)) .
الظاهر أن هذا الخطاب الكريم من الله - تعالى - لعموم أهل الجنة، وأنه بعد استقرارهم فيها.
وأما قول الحافظ في استظهاره، أن هذا يقال للذين يخرجون من النار، بناء على أن هذا الحديث مختصر من الحديث الطويل السابق، الذي فيه المرور على الصراط، وفيه رؤية المؤمنين لربهم في الموقف، كما تقدم في باب قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، فليس فيه ما ذكر هنا، فيحتاج إلى دليل، وقد دل هذا الحديث بظاهره على أن هذا القول من الله - تعالى - لعموم أهل الجنة.(2/465)
قال الحافظ: ((هذا الخطاب غير الخطاب الذي لأهل الجنة كلهم، وهو فيما أخرجه مسلم، وأحمد، من حديث صهيب، رفعه: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة، إن لكم موعداً عند الله، يريد أن ينجزكموه)) الحديث.
وفيه: ((فيكشف الحجاب، فينظرون إليه)) ، وفيه: ((فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه)) (1) .
وسبق معنى: لبيك، وسعديك.
قوله: ((والخير في يديك)) أي: أن الخلق لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً حتى تمن به عليهم، فكل خير مصدره منك، وكل شر فهو من المخلوق.
قوله: ((فيقول: هل رضيتم؟)) هو جل وعلا يعلم أنهم قد رضوا، ولا يخفى عليه شيء في صدورهم، ولكن يريد تقريرهم بالمنة والفضل الذي يسديه إليهم، وكل فضل نالهم، فهو - تعالى - ابتدأهم به من غير استحقاق له، ولا حق لهم عليه بل بمحض فضله، ومنَّته، وأول ذلك أن جعلهم مسلمين، ثم يسر لهم العمل الصالح الذي كان سبباً لدخولهم الجنة، ثم ثبتهم على الهدى حتى وافوه مؤمنين، فما أعظم منَّته عليهم.
قوله: ((فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك)) .
ولا يحسن أن يقولون غير هذا، وقد أعطاهم فوق ما يتصورون، فلا بد من الرضا، ولهذا لما قال: ((ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟)) يقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فهم يستبعدون أن يكون شيء أفضل مما هم فيه.
_________
(1) ((الفتح)) (11/422) .(2/466)
قوله: ((فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبداً)) .
قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (1) } .
فرضوان الله - تعالى - عليهم أكبر من الجنة وما فيها، وبذلك تمت سعادتهم، وكملت حياتهم، وطابت لذاتهم، لما رضي سيدهم عنهم.
والحديث واضح الدلالة على مقصود الترجمة، ففيه التصريح بأن الله - تعالى - يقول لأهل الجنة، فيسمعون قوله، ويجيبونه، ويخاطبهم ويخاطبونه، وقد علم أن ذلك يتكرر، وسبق أن كلام الله - تعالى - بمشيئته، فكلما شاء أن يتكلم تكلم، ويكلم من يشاء من خلقه.
*****
145- قال: ((حدثنا محمد بن سنان، حدثنا فليح، حدثنا هلال، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوما يحدث، وعنده رجل من أهل البادية، أن رجلا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال: أولست فيما شئت؟ قال: بلى ولكن أحب أن أزرع، فأسرع وبذر، فتبادر الطرف نباته، واستواؤه، واستحصاده، وتكويره، أمثال الجبال، فيقول الله - تعالى - ((دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شيء، فقال الأعرابي: يا رسول الله، لا تجد هذا إلا قرشيا أو أنصاريا، فإنهم أصحاب زرع، فأما نحن فلسنا بأصحاب زرع.
فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) .
_________
(1) الآية 72 من سورة التوبة.(2/467)
أهل البادية، خلاف الحاضرة؛ لعدم الساتر فيها من المباني ونحوها، وغالباً يكون عندهم جرأة في الكلام، وعدم مجاملة، ولذلك كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يحبون أن يكون معهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل العاقل من أهل البادية، حتى يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيستفيدوا من جوابه.
قوله: ((إن رجلاً من أهل الجنة)) الخ، قد فهم الأعرابي أن هذا الرجل كان في الدنيا زراعاً، ففيه دليل على إلف النفوس لما تزاوله من الأعمال، حتى تحبه، ويصير من مشتهياتها، ويكون لها فيه متعة وراحة، وهذا الرجل بقيت معه هذه المحبة إلى الجنة.
وفيه أن ما يشتهيه أهل الجنة من أمور الدنيا يمكن حصوله لهم، وأنهم يطلبون ما أرادوا من ربهم تعالى.
قوله: ((أولست فيما شئت؟)) يعني: لست بحاجة إلى الزرع، فكل ما تريده من مأكول، أو مشروب، أو غير ذلك بين يديك.
وقوله: ((بلى، ولكن أحب أن أزرع)) يعني: أن ذلك ليس عن حاجة، وإنما هو مجرد محبة للزرع الذي كان يزاوله في الدنيا.
قوله: ((فأسرع، وبذر، فتبادر الطرف نباته، واستواؤه واستحصاده وتكويره أمثال الجبال)) يعني: أن الله أذن له فبذر، وخرج الزرع فاستوى وانحصد، واجتمع حباً متراكماً أمثال الجبال في لحظة واحدة؛ لأن الجنة ليس فيها نصب وكد وتعب، وإنما فيها تنعم وراحة، وما يشتهون.
وهذا من عجائب قدرة الله القادر على كل شيء.
((فيقول: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شيء)) دونك منصوب على الإغراء، أي: خذ ثمار الزرع الذي طلبت.
ولا يفهم من قوله: ((فإنه لا يشبعك شيء)) أن الجنة يحصل فيها حاجة(2/468)
وجوع، ولكن يدل على أن نفس الإنسان فيها من الشره فوق ما تحتاجه، وقول الأعرابي: لا نجد هذا، إلى آخره، من باب المزاح، والاعتزاز بأن هذا الرجل ليس من الأعراب، وإنما هو من أهل الزرع في الدنيا، وهم الحاضرة، وفيه تعريض بذلك الرجل، حيث طلب من الله ما لا يحسن طلبه؛ لأنه لا حاجة له فيه.
والشاهد من الحديث واضح جداً، فإن هذا الرجل خاطب ربه فكلمه، وتكرر كلامه معه، وهو من الأدلة الدالة على اتصاف الله - تعالى - بالكلام، وتعلقه بمشيئته، فمتى شاء الكلام تكلم.
قال: ((باب ذكر الله بالأمر، وذكر العباد بالدعاء والتضرع، والرسالة، والبلاغ؛ لقوله: {فَاذكُرُونِي أَذكُركُم} .
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ {71} فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} غمة: هم وضيق.
قال مجاهد: اقضوا إلى ما في أنفسكم، افرق: اقض.
وقال مجاهد: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ} إنسان يأتيه، فيستمع ما يقول، وما أنزل عليه، فهو آمن حتى يأتيه فيسمع كلام الله، وحتى يبلغ مأمنه حيث جاءه.
والنبأ العظيم: القرآن، صواباً: حقا في الدنيا، وعمل به)) .
مقصوده بهذا: بيان الفرق بين فعل الله وما هو صفة له، وبين فعل العبد(2/469)
وما هو صفة له، والرد على الذين لم يفرقوا بين ذلك، كما أوضح ذلك في كتابه ((خلق أفعال العباد)) ، قال - رحمه الله - بعد ما ذكر حديث أبي هريرة: ((يقول العبد: الحمد لله رب العالمين، فيقول الله: حمدني عبدي)) الحديث قال: ((فبين أن سؤال العبد غير ما يعطيه الله للعبد، وأن قول العبد غير كلام الله، هذا من العبد الدعاء والتضرع، ومن الله الأمر والإجابة)) (1) .
وقال: ((وأما قوله: فهل يرجع إلى الله إلا باللفظ الذي تلفظ به.
فإن كان الذي تلفظ به قرآناً فهو كلام (2) .
قيل له: ما قولك: تلفظ به؟ فإن اللفظ غير الذي تلفظ به؛ لأنك تلفظت بالله، وليس الله هو لفظك، وكذلك تلفظ بصفة الله بقول الله، وليس قولك: الله، هو الصفة، وإنما تصف الموصوف، فأنت الواصف، والله الموصوف بصفته، وكلامه، فهو الله)) (3) .
يعني: أن اللفظ غير المتلفظ به، فإذا قرأ القرآن، فاللفظ هو فعل العبد وصوته بحركة لسانه وما يلزم للتلفظ، وأما الملفوظ به فهو كلام الله - تعالى -، وكذلك إذا وصفت الله بقوله - تعالى - الذي وصف به نفسه، كقوله تعالى: {اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيوُّمُ} فلفظك بهذه الآية ليست هي الصفة، ولكن لفظك بها فعلك، تصف الله بما قاله - تعالى - واصفاً به نفسه، هذا معنى قوله: ((وليس قولك: الله هو الصفة، إنما تصف الموصوف، فأنت الواصف، والله الموصوف بكلامه)) ثم قال:
_________
(1) ((خلق أفعال العباد)) (ص105) تحقيق عبد الرحمن عميرة.
(2) هذا قول من يقول: اللفظ هو الملفوظ، وهو قول باطل، بيّن بطلانه البخاري بهذا الكلام.
(3) ((خلق أفعال العباد)) (ص108) .(2/470)
((كالواصف الذي يصف الله بكلام غير الله)) يعني: أن العبد إذا وصف الله بكلام الله الذي وصف به نفسه، فالوصف فعل العبد، والكلام الذي وصف به الله هو كلامه - تعالى - وصفته، وهو - تعالى - الموصوف، وهذا معنى قوله: ((وأما الموصوف بصفته وكلامه فهو الله)) . ثم قال:
((ففي قولك: تلفظ به، وتقرأ القرآن، دليل بيَّن أنه غير القراءة، كما تقول: قرأت بقراءة عاصم، وقراءتك على قراءة عاصم، لا أن لفظك وكلامك، كلام عاصم بعينه، ألا ترى أن عاصما لو حلف أن لا يقرأ اليوم ثم قرأت أنت على قراءته لم يحنث عاصم؟)) (1) .
يعني: أن قولك: تلفظت به، كقولك: قرأت القرآن، فالتلفظ مثل القراءة، وهما غير المتلفظ به، والمقروء، كما تقول: قرأت بقراءة عاصم، يعني: قرأت على قراءة عاصم، أما قراءة عاصم فهي فعله)) ثم قال:
((وقال أحمد رحمه الله: لا يعجبني قراءة حمزة، ولا يقال: لا يعجبني القرآن)) (2) ، وهذا واضح، فإن المراد فعل حمزة، وما فيه من المد الطويل، فأحمد كره فعل حمزة، لا ما يقرأ حمزة، ثم قال:
((واعتل بعضهم (3) فقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ} . قيل له: إنما يقال: حتى يسمع كلام الله، لا كلامك، ونغمتك ولحنك؛ لأن الله - عز وجل - فضل موسى بكلامه، ولو كنت تسمع الخلق كلام الله، كما أسمع الله موسى - صلى الله عليه وسلم - لم يكن لموسى عليك فضل، إذا سمعت كلام الله وسمع موسى كلام الله، قال الله عز وجل: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} (4) .
_________
(1) ((خلق أفعال العباد)) (ص172) تحقيق بدر.
(2) المصدر نفسه.
(3) يعني: بعض الذين يرون أنه لا فرق بين اللفظ والملفوظ.
(4) الآية 144 من سورة الأعراف.(2/471)
حدثنا عبيد الله بن عمر، حدثنا سليمان بن بلال،، عن شريك بن عبد الله، عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به قال: ((رأيت موسى في السماء السابعة بتفضيل كلام الله)) (1) .
يعني: أن استدلال من يزعم أن لا فرق بين اللفظ والملفوظ، بقوله تعالى: {اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ} - استدلال باطل؛ لأن السامع لذلك يسمع كلام الله بصوت المبلغ ولفظه، لا بصوت الله - تعالى - ولفظه، ولو كان الأمر كما زعم هذا المستدل، لم يكن هناك فرق بين موسى حين كلمه الله، وبين من يسمع كلام الله ممن يتلوه، ويقرؤه، ثم استدل بالحديث حيث رأى موسى في السماء السابعة بتفضيله بكلام الله له، ولهذا قال:
((وإن ادعيت أنك تسمع الناس كلام الله، كما أسمع الله كلامه لموسى [لما] قال له: {إنيِ أنَا رَبُّكَ} فهذه دعوى الربوبية، إذ لم تميز بين قراءتك، وبين كلام الله، فإن الله تعالى قال: {فَاذكُرُونِي أَذكُركُم} ، {فَاذكُرُوا اللهَ كَذكُِركُم} [وهذا] يشرح أن ذكر العبد ربه غير ذكر الله عبده، لأن ذكر العبد: الدعاء والتضرع، وذكر الله: الإجابة، كما قال الله عز وجل، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لا أقول إلا ما في القرآن)) .
حدثنا ضرار، حدثنا صفوان بن أبي الصهباء، عن بكير بين عتيق، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يقول الله عز وجل: من شغله ذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)) .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بينا أنا في الجنة، سمعت صوت رجل بالقرآن)) . فبين أن الصوت غير القرآن.
حدثنا إسماعيل، حدثنا أخي، عن سليمان، عن موسى بن عقبة وابن
_________
(1) ((خلق أفعال العباد)) (ص108) .(2/472)
أبي عتيق، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بينا أنا أمشي في الجنة، سمعت صوت رجل بالقرآن، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا حارثة بن النعمان، فذلكم البر، فذلكم البر)) ، وكان حارثة من أبر الناس.
ويقال له: أصفة الله - جل ذكره - وعلمه، وكلامه، وأسماؤه، وعزته، وقدرته، بائن من الله - تعالى - أم لا؟
أو قولك وكلامك بائن من الله أم لا؟)) (1) .
يعني: أن كلام الله مثل صفاته الأخرى، من العزة والقدرة، لا يكون شيء منها مفارقاً لله - تعالى - وبائناً منه، بخلاف كلام الخلق وأقوالهم فإنها بائنة من الله، وليست من صفاته، بل صفات لمن قالها، وتكلم بها. ثم قال:
((وقال الله - تعالى -: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى {39} وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} (2) .
وقال عز وجل: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ} (3) ، فالإبلاغ، والإنذار من نوح، وهو نذير مبين، يأمرهم بطاعة الله، وأما الغفران، فإنه من الله؛ لقوله - عز وجل: {يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} ، ثم قال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا} .
فذكر الدعاء سراً وعلانية من نوح، وذكر فعل نوح بقومه. ثم قال: {مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا {12} وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} فذكر خلق القوم طوراً بعد طور.
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا
_________
(1) المصدر نفسه.
(2) الآيتان 39، 40 من سورة النجم.
(3) الآية 1 من سورة نوح.(2/473)
لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} (1) .
حدثنا موسى، حدثنا سليمان، عن ثابت، عن أنس - رضي الله عنه - قال: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} وكان ثابت بن قيس بن شماس رفيع الصوت، فجلس في بيته، وقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجهر له بالقول، وقد حبط عملي، وأنا من أهل النار. ففقده النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتاه رجل فقال: إنه يقول: كذا وكذا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو من أهل الجنة. وكنا نراه يمشي بين أظهرنا، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة.
فلما كان يوم اليمامة كان من بعضنا بعض الانكشاف، فأقبل وقد تكفن وتحنط، وقال: بئس ما تعودون أقرانكم، فقاتل حتى قتل)) (2) .
وقد سمى ابن عمر الصوت بالقرآن: عبادة.
حدثني أبو يعلى محمد بن الصلت، حدثنا أبو صفوان، عن يونس، عن الزهري، عن سالم، عن، أبيه قال: ((أول ما ينقص من العبادة: التهجد بالليل، ورفع الصوت فيها بالقراءة)) .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة)) .
وقال ابن مسعود: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوم كانوا يقرؤون القرآن فيجهرون به: ((خلطتم عليَّ)) ، يقول: علت أصواتكم فشغلتموني برفعها فوق صوتي، فخلطتم عليَّ، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرفع بعضهم على بعض صوته، ولا يخلطون على الناس في جهرهم، وأصواتهم، ولم ينه عن القرآن، ولا عن كلام الله الذي كلم به موسى قبل أن يخلق هذه الأمة.
_________
(1) الآية 2 من سورة الحجرات.
(2) رواه الطبراني في ((الكبير)) بأسانيد عدة، انظر (2/56-60) .(2/474)
حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني معاوية، عن ربيعة بن زيد، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن أم الدرداء، أنها قالت: {وَلِذِكرُ اللهِ أَكبَرُ} ، وإن صليت فهو من ذكر الله، وكل خير تعمله، فهو من ذكر الله، وكل شر تجنبه فهو من ذكر الله، وأفضل ذلك تسبيح الله)) .
وقال موسى: صلى الله عليه وسلم: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي {27} يَفْقَهُوا قَوْلِي} (1) .
وقال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} (2) .
وقال بعضهم في قوله عز وجل: {يَزِيدُ فيِ الخَلقِ مَا يَشَاءُ} قال: الصوت الحسن.
وقال عز وجل: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمرِ رَبِكَ} فبين أن التنزيل غير الأمر.
وقال بعضهم: إن أكثر مغاليط الناس من هذه الأوجه، الذين لم يعرفوا المجاز من التحقيق، ولا الفعل من المفعول، ولا الوصف من الصفة.
ولم يعرفوا الكذب لم صار كذباً؟ ولا الصدق لما صار صدقاً؟
فأما بيان المجاز من التحقيق، فمثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للفرس: ((وجدته بحراً)) - وهو الذي يجوز بين الناس - وتحقيقه أن مشيه حسن.
ومثل قول القائل: علم الله معنا، وفينا، وأنا في علم الله، إنما المراد من ذلك أن الله يعلمنا، وهو التحقيق، وأشباهه في اللغات كثيرة.
وأما الفعل من المفعول: فالفعل إنما هو إحداث الشيء، والمفعول هو الحدث؛ لقوله: {خَلَقَ السَمَاواتِ وَالأرضَ} (3) .
_________
(1) الآيتان 27، 28 من سورة طه.
(2) الآية 23 من سورة الذاريات.
(3) الآية 32من سورة إبراهيم.(2/475)
فالسماوات، والأرض مفعوله، وكل شيء سوى الله بقضائه فهو مفعول، فتخليق السماوات فعله؛ لأنه لا يمكن أن تقوم سماء بنفسها من غير فعل الفاعل، وإنما تنسب السماء إليه لحال فعله.
ففعله من ربوبيته حيث يقول: {كُن فَيَكُونُ} و ((كن)) من صفته، وهو الموصوف به، كذلك قال رب السماوات، ورب الأشياء.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((رب كل شيء ومليكه)) .
وكذلك مؤدى جميع لغات الخلق، من غير اختلاف بينهم، وإنما هو الفاعل والفعل والمفعول.
فالفعل صفة، والمفعول غيره، وبيان ذلك في قوله - تعالى - {مَا أَشهَدتُّهُم خَلق َ السَمَاواتِ وَالأرضَ وَلاَ خَلقَ أَنفُسهِم} (1) .
ولم يرد بخلق السماوات نفسها، قد ميز فعل السماوات من السماوات وكذلك فعل جملة الخلق.
وقوله: {وَلاَ خَلقَ أَنفُسهِم} فقد ميز الفعل والنفس، ولم يصر فعله خلقاً.
وأما الوصف من الصفة: فالوصف إنما هو قول القائل، حيث يقول: هذا رجل طويل، وثقيل، وجميل، وحديد، فالطول، والجمال، والحدة، والثقل إنما هو صفة الرجل، وقول القائل وصف.
كذلك إذا قال: الله رحيم، والله عليم، والله قدير، فقول القائل وصف، وهو عبادة، والرحمة، والعلم، والقدرة، والكبرياء، والقوة، كل هذا صفاته)) (2) .
_________
(1) ((خلق أفعال العباد)) (ص114) .
(2) ((خلق أفعال العباد)) (ص114) .(2/476)
يعني: أن فعل الواصف الذي هو قوله يصف الموصوف إذا تكلم بذلك ونطق به، يسمى وصفاً، وهو عبادة إذا كان يصف الله - تعالى -؛ لأنه يثني عليه بذكر صفته.
وأما الصفة: فهي قائمة بالموصوف، لا تفارقه، مثل رحمة الله، وعلمه وقدرته، وقوته، وعزته، وكبريائه، وغير ذلك من أوصافه.
ثم قال: ((وأما الكذب من الصدق: فقول القائل: فلان ها هنا وهو غائب، فهو كذب.
فلو كان حاضراً لكان صدقاً، والكلمة واحدة، وإنما صار كذباً وصدقاً لحال المعنى.
وكذلك لو أن رجلاً قال: إن الله رحيم، ويرحم، والله عليم ويعلم، والله قدير ويقدر، والله سميع ويسمع، ولم يكن لقوله
معنى كما وصفنا في شأن الكذب والصدق، لكان قوله كذباً، وإنما صار هذا القول صدقاً وعبادة وطاعة لحال المعنى.
واختلف الناس في الفاعل والمفعول، فقالت القدرية: الأفاعيل كلها من البشر، ليست من الله.
وقالت الجبرية: الأفاعيل كلها من الله.
وقالت الجهمية: الفعل والمفعول واحد، لذلك قالوا: ((كن)) مخلوق.
وقال أهل العلم: التخليق فعل الله، وأفاعيلنا مخلوقة؛ لقوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (1) . يعني: السر والجهر من القول.
_________
(1) الآية 13 من سورة الملك.(2/477)
ففعل الله صفة الله، والمفعول غيره من الخلق.
ويقال لمن زعم أني لا أقول: القرآن مكتوب في المصحف، ولكن القرآن بعينه في المصحف، يلزمك أن تقول: إن ما ذكر الله في القرآن من الجن، والإنس، والملائكة، والمدائن، ومكة، والمدينة، وغيرهما، وإبليس، وفرعون، وهامان، وجنودهما، والجنة، والنار: عاينتهم بأعيانهم في المصحف؛ لأن فرعون مكتوب فيه، كما أن القرآن مكتوب فيه.
ويلزمك أكثر من هذا، حين تقول في المصحف: [الله، لأنه مكتوب فيه {اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيوُّمُ} . وهذا أمر بيِّن؛ لأنك تضع يدك على هذه الآية، وتراها بعينك] (1) .
فلا يشك عاقل بأن الله هو المعبود، وقوله: {اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيوُّمُ} (2) هو قرآن.
وكذلك جميع القرآن هو قوله - تعالى - والقول صفة القائل، موصوف به.
فالقرآن قول الله عز وجل.
والقراءة، والكتابة، والحفظ للقرآن، هو فعل الخلق، وهو طاعة الله {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} (3) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّه} (4)
_________
(1) ما بين الحاصرتين تصرفت فيه بالتقديم والتأخير؛ لأن فيه ارتباكاً وتعقيداً، والمقصود منه واضح، وأظن أنه حصل فيه الاضطراب من النساخ.
(2) الآية 255 من سورة البقرة و 2 من سورة آل عمران.
(3) الآية 106 من سورة الإسراء.
(4) الآية 29 من سورة فاطر.(2/478)
وقال تعالى: {وَلَقَد يَسَّرنَا القُرآنَ لِلذِكرِ فَهَلَ مِن مُدَّكِرِ} (1) وقال عز وجل: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} (2) فذلك كله مما أمر الله به.
ولذلك قال: {وَأَقِيمُواْ الصَلاةَ} فالصلاة بجملتها طاعة الله، وقراءة القرآن من جملة الصلاة.
فالصلاة طاعة لله، والأمر بالصلاة قرآن، وهو مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، مقروء على الألسن.
والقراءة، والحفظ، والكتابة، مخلوق، وما قرئ، وحفظ، وكتب ليس بمخلوق.
ومن الدليل عليه: أن الناس يكتبون الله، ويحفظونه، ويدعونه، فالدعاء والحفظ والكتابة من الناس مخلوق، ولا شك فيه.
والخالق الله بصفته.
ويقال له: أترى القرآن في المصحف؟ فإن قال: نعم، فقد زعم أن من صفات الله ما يرى في الدنيا، وهذا رد لقول الله عز وجل: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} (3) في الدنيا، وإن قال: يرى كتابة القرآن فقد رجع إلى الحق.
ويقال له: هل تدرك إلا اللون؟ فإن قال: لا، قيل له: وهل يكون اللون إلا في الجسم؟ فإن قال: نعم، فقد زعم أن القرآن جسم يرى)) (4) .
يعني: أن الذي في المصحف هو كتابة القرآن، والكتابة فعل العباد، أما القول فلا يرى، وإنما يسمع، وهو صفة القائل قائم به.
_________
(1) الآية عدد من آيات سورة: اقتربت الساعة.
(2) جزء من الآية 67من سورة المائدة.
(3) جزء من الآية 103 من سورة الأنعام.
(4) ((خلق أفعال العباد)) (114-116) .(2/479)
والمقصود: أن وجود القرآن في المصحف ليس كوجود الأعيان المشاهدة، وإن كان له وجود حقيقي، فقد اتفق المسلمون على أن القرآن في المصحف قال ابن القيم: ((من المعلوم بالفطرة المستقرة عند العقلاء قاطبة أن الكلام يكتب في المحالِّ من الرق والخشب وغيرهما، ويسمى محله كتاباً، ويسمى نفس المكتوب كتاباً.
فمن الأول: قوله تعالى: {إنَّهُ لَقُرآنٌ كَريمٌ {77} فيِ كِتَابِ مَكنُونِ} . ومن الثاني: قوله تعالى: {وَلَو نَزَّلنَا عَلَيكَ كِتاباً فيِ قرِطَاسٍ} . وقوله تعالى: {يَتلُواْ صُحُفَاً مُطَهَّرةً {2} فِيهَا كُتُبٌ قَيِمَةٌ} .
والقول بأن الكلام في الصحيفة من العلم العام الذي لم ينازع فيه أحد من العقلاء إذا سلمت الفطرة من الانحراف، وقد قال الله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} (1) وفي حديث ابن عمر: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (2) ، ومعلوم بالضرورة أنه لا محذور في السفر إلى أرض العدو بالمداد والورق، وإنما المحذور أن يسافر بالكلام الذي تضمنه الورق)) (3) . وسيأتي مزيد لهذا في موضعه.
وقد أطلت النقل عن البخاري - رحمه الله -؛ لأن ذلك مراد فيما ترجم به، فهو كالشرح له، وبذلك وضح مقصده وضوحاً جلياً.
فقوله: ((ذكر الله بالأمر)) أي: أمره الذي يأمر به عباده، وهو صفته، فإذا أمرهم فقد ذكرهم، وكذلك إذا رحمهم وأنعم عليهم، فقد ذكرهم.
((وذكر العباد بالدعاء والتضرع، والرسالة والبلاغ)) أي: ذكرهم الله بأن
_________
(1) الآيتان 21، 22 من سورة البروج.
(2) رواه مسلم رقم (1869) (3/1490-1491) ، والإمام أحمد في ((المسند)) (2/7، 63، 128) وغيرهما، ورواه البخاري (4/45) باب السفر بالمصاحف إلى أرض العدو.
(3) ((مختصر الصواعق)) (443/444) ملخصاً.(2/480)
يدعوه، ويتضرعوا إليه، ويفعلوا ما أمرهم به، ودعاؤهم بذكر أسمائه وصفاته، وثناؤهم عليه بها.
وكذلك القيام بإبلاغ رسالته، التي أرسل بها رسله.
قوله: ((لقوله تعالى: {فَاذكُرُونِي أَذكُركُم} قال الحسن: اذكروني فيما افترضت عليكم، أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي)) . وقال سعيد بن جبير: ((اذكروني بطاعتي، أذكركم بمغفرتي)) وفي رواية ((برحمتي)) (1) .
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ} أي: اذكر لقومك، وقص عليهم خبر نبي الله نوح - صلى الله عليه وسلم -، حين قال لقومه يبلغهم رسالة ربه إليهم، وذلك من ذكره لربه: إن كان عظم عليكم، وشق بكم قيامي فيكم أذكركم بنعم الله، وأخوفكم نقمه، وأدعوكم إلى طاعته وتوحيده بالعبادة والطاعة، إن كان ذلك عَظُمَ عليكم فتهيؤوا واستعدوا لما تريدون أن تصنعوه بي، فإني توكلت على الله لا على غيره، فسوف يكفيني ويحميني، أما أنتم فأجمعوا قوتكم، واستعينوا بمعبوداتكم من دون الله، واحذروا أن يكون أمركم عليكم وبالاً وعذاباً ونكالاً، وهمَّاً وضيقاً؛ لأنكم تحاربون الله ورسوله ومن كان حربا لله ورسوله، فهو مخذول، ومرذول ومقهور.
{ثُمَّ اقضُواْ إِلىَّ وَلاَ تُنظِروُنِ} أي: عجلوا إليَّ بما تريدون أن تصنعونه بي، ولا تؤخروني ساعة، فهو صلى الله عليه وسلم يتحداهم بذلك؛ لأنه واثق بالله تمام الثقة، فلم يستطيعوا أن ينالوه، وهذا من علامات نبوته، كيف رجل واحد، لا جنود معه ولا سلطة، يقف أمام هذه الأمة العظيمة يتحداهم بأن ينزلوا به كل ما يستطيعون من عذاب، ويستحثهم على ذلك، فلا يستطيعون أن يصلوا إليه بأذى مع عداوتهم الشديدة له؟
_________
(1) ((تفسير ابن كثير)) (1/196) .(2/481)
{فَإِن تَوَلَّيتُم فَمَا سَأَلتُكُم مِن أَجرٍ} أي: إن أعرضتم عما أدعوكم إليه، فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، ولم أطلب منكم على ذلك شيئاً من أموالكم، ولكن أجري على ربي، فهو الذي سيجزيني على إبلاغ رسالته إليكم، وهذا كله من ذكر نوح عليه السلام لربه.
{وَأُمِرتُ أَن أَكُونَ مِنَ المُسلِمينَ} يعني: أمرني ربي أن أسلم له وأنقاد لأمره، مذعناً، خائفاً من عذابه، راجياً ثوابه، وهذا من ذكر الله - تعالى - لعبده ورسوله نوح عليه السلام.
((افرق)) اقض. كلمة افرق في آية أخرى، ولكن عادة البخاري - رحمه الله - أنه يذكر النظير مع نظيره، لاجتماعهما في المعنى، ولهذا ذكر قوله تعالى: {النَّبأِ العَظيمِ} ؛ لمناسبته مع قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} .
وما ذكره عن مجاهد في الآية واضح، ومراده أن المستجير يسمع كلام الله من المبلغ بصوت المبلغ، ونطقه، وصوته ونطقه من فعله، وهو مخلوق، أما المبلغ المنطوق به، فهو كلام الله - تعالى - وصفته، كما تقدم بيان ذلك من كلام البخاري، رحمه الله.
وقوله: ((صواباً: حقاً في الدنيا وعمل به)) . قال ابن بطال: ((يريد قوله تعالى: {أَذِنَ لَهُ الرَّحمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} أي: حقاً في الدنيا، وعمل به، فهو الذي يؤذن له في الكلام، بين يدي الله بالشفاعة لمن أذن له.
قلت (1) : وهذا وصله الفريابي، عن مجاهد، بالسند المذكور.
قال الكرماني: عادة البخاري أنه إذا ذكر آية لمناسبة الترجمة، يذكر معها ما يتعلق بتلك السورة، التي فيها تلك الآية مما ثبت عنده من تفسير ونحوه، على سبيل التبعية، وكأنه لم يظهر له وجه مناسبة هذه الآية الأخيرة بالترجمة.
_________
(1) القائل هو الحافظ ابن حجر - رحمه الله.(2/482)
والذي يظهر في مناسبتها: أن تفسير قوله: {صَوَاباً} بقول الحق والعمل به في الدنيا يشمل ذكر الله باللسان، والقلب مجتمعين، ومنفردين، فناسب قوله: ((ذكر العباد بالدعاء والتضرع)) انتهى (1) .
****
قال: باب قول الله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} وقوله جل ذكره: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِين} ، {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ {65} بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِين} وقوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} .
قال في ((اللسان)) : ((الند بالكسر: المثل والنظير، وهو مثل الشيء الذي يضاده في أموره، ويناده، أي: يخالفه.
قال الأخفش: الند: الضد، والشبه، وقوله: ((يجعلون لله أنداداً)) أي: أضداداً، واشباهاً، قال حسان:
أتهجوه ولست له بند فشركما لخيركما الفداء
أي: لست له بمثل في شيء من معاينة)) (2) .
وقال ابن جرير في قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداًً} الأنداد جمع ند، والند: العدل، والمثل، كما قال حسان، ثم ذكر البيت، ثم قال: يعني: بقوله: ((ولست له بند)) : لست له بمثل، ولا عدل. وكل شيء كان نظيراً لشيء وشبيهاً فهو له ند. ثم ذكر بسنده إلى قتادة، قال: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداًً} أي: عدلاء، وعن مجاهد: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداًً} أي: عدلاء.
_________
(1) ((الفتح)) (13/490) .
(2) ((اللسان)) (3/607) المرتب.(2/483)
وعن ابن عباس وابن مسعود: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداًً} أي: أكفاء من الرجال، تطيعونهم في معصية الله.
وعن ابن أبي زيد: الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له، وعن ابن عباس: أشباهاً.
وعن عكرمة: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداًً} أي تقولوا: لولا كلبنا لدخل علينا اللص الدار، ولولا كلبنا صاح في الدار، ونحو ذلك، فنهاهم الله - تعالى - أن يشركوا به شيئاً، وأن يعبدوا غيره، أو يتخذوا له نداً، وعدلاً، في الطاعة، فقال: كما لا شريك لي في خلقكم، وفي رزقكم الذي أرزقكم، وملكي إياكم، ونعمتي التي أنعمتها عليكم، فكذلك فأفردوا لي الطاعة، وأخلصوا لي العبادة، ولا تجعلوا لي شريكاً ونداً من خلقي، فإنكم تعلمون أن كل نعمة عليكم مني)) (1) .
وفي ((الدر المنثور)) : ((أخرج الطستي، عن ابن عباس، أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قول الله - عز وجل - {أَندَاداًً} ؟ قال: الأشباه والأمثال، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول لبيد:
أحمد الله فلا نِدَّ له بيديه الخير ماشا فعل
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري في ((الأدب المفرد)) والنسائي وابن ماجه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس قال: قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله نداً؟ ما شاء الله وحده)) .
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة،
_________
(1) ((تفسير الطبري)) (1/368-369) تحقيق محمود شاكر.(2/484)
والبيهقي عن حذيفة بن اليمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تقولوا: ما شاء الله وفلان، قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان)) وذكر أحاديث في ذلك (1) .
وهذا يدل على أن جعل الند لله عام في الأفعال، والأقوال، والنيات، ويكون في الشرك الأكبر، والأصغر، كما في الرواية عن عكرمة: هو قول الرجل: لولا كلبنا لدخل علينا اللصوص.
وكذلك في كل ما هو لله فشرك المخلوق فيه، مثل أن يجعل كلامه تعالى ككلام عباده، أو صفة من صفاته كصفة عباده، فيكون بذلك جعل لله نداً، وهذا مراد البخاري - رحمه الله - من الاستدلال بهذه الآيات التي ذكرها هنا.
قال ابن كثير: ((وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن محمد، عن عكرمة، أو سعيد ابن جبير، عن ابن عباس: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأنتُم تَعلَمُونَ} أي: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه، وهكذا قال قتادة.
ثم ذكر عن ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن عباس: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداًً} .
قال: الأنداد: هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان، وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص.
وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: ((لولا الله
_________
(1) ((الدار المنثور)) (1/87-88) .(2/485)
وفلان، لا تجعل فيها فلاناً، هذا كله به شرك)) (1)
وهذا تنبيه بالأدنى من الشرك على الأعظم، وذلك أن الشرك أن يجعل المخلوق مشاركاً لله في شيء من خصائص الله مطلقاً، كما سبق قريباً، فالحلف بغير الله شرك، سواء كان المحلوف به معظماً كالنبي والكعبة، أو غير معظم، ويدخل في ذلك مراد البخاري كما أشرت إليه.
((قال ابن بطال: غرض البخاري في هذا الباب، إثبات نسبة الأفعال كلها لله - تعالى - سواء كانت من المخلوقين خيراً أو شراً، فهي لله - تعالى - خلق وللعباد كسب، ولا ينسب شيء من الخلق لغير الله - تعالى - فيكون شريكاً ونداً، ومساوياً له.
وقال الكرماني: الترجمة مشعرة بأن المقصود إثبات نفي الشريك عن الله سبحانه - تعالى -، فكان المناسب ذكره في أوائل كتاب التوحيد.
لكن ليس المقصود هنا ذلك، بل المراد بيان كون أفعال العباد بخلق الله - تعالى - إذ لو كانت أفعالهم بخلقهم لكانوا أنداداً لله، وشركاء له في الخلق، ولهذا عطف ما ذكر.
وتضمن الرد على الجهمية في قولهم: لا قدرة للعبد أصلاً، وعلى المعتزلة، حيث قالوا: لا دخل لقدرة الله - تعالى- فيها.
والمذهب الحق: ((أن لا جبر ولا قدر، بل أمر بين أمرين)) (2) .
يعني: لا جبر، كما تقول الجهمية الذين جعلوا العبد كالآلة، لا قدرة له ولا اختيار.
_________
(1) ((تفسير ابن كثير)) (1/57-58) .
(2) ((الفتح)) (13/491) .(2/486)
ولا ينفى تقدير الله – تعالى – لأفعال العباد في الأزل، وخلقها، كما تقوله المعتزلة، بل الحق إثبات قدرة العبد، وأنه يفعل باختياره، وإرادته، لا أحد يجبره على الفعل، والله – جل وعلا – خلقه وخلق أفعاله، وقدر عليه كل ما يجري عليه قبل إيجاده، وكتب ذلك، وعلمه تعالى محيط بكل شيء، ونفس فعل العبد، وإن كان الله خالقه، فالعبد هو الفاعل لفعله حقيقة، فهو المتحرك بالأفعال، باختياره، وبه قامت أفعاله، ومنه صدرت، والله خالقه، وخالق أفعاله.
قال الحافظ: ((غرضه هنا الرد على من لم يفرق بين التلاوة والمتلو، ولذلك أتبع هذا الباب بالتراجم المتعلقة بذلك، مثل باب: {لاَ تُحَرِّك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ} ، وباب {وَأَسِرُّواْ قَولَكُم أَوِ اجهَرُواْ بَهِ} وغيرهما.
وهذه المسألة هي المشهورة بمسألة اللفظ، ويقال لأصحابها: اللفظية.
وقد ظن بعضهم أن البخاري خالف أحمد فيها، وليس كذلك، بل من تأمل كلامه لم يجد فيه خلافاً معنوياً.
لكن العالم من شأنه إذ ابتلي في رد بدعة يكون أكثر كلامه في ردها، دون ما يقابلها.
فلما ابتلي أحمد بمن يقول: القرآن مخلوق، كان أكثر كلامه في الرد عليهم حتى بالغ، فأنكر على من يقف، ولا يقول: مخلوق، ولا غير مخلوق، وعلى من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ لئلا يتذرع بذلك من يقول: القرآن بلفظي مخلوق، مع أن الفرق بينهما واضح لا يخفى عليه، لكنه قد يخفى على البعض (1) .
_________
(1) قوله: ((حتى بالغ فأنكر على من يقف)) إلى آخر كلامه عن أحمد، كلام غير سديد، بل إنكار أحمد رحمه الله ذلك؛ لأن الواقف لم يفرق بين الحق والباطل، والواجب أن يعرف الحق ويقول به، ولا يقف متردداً، لأن وقوفه يوهم باطلاً. وكذلك قوله: لفظي بالقرآن مخلوق، أو غير مخلوق، يوهم باطلاً؛ لأنه قد يراد باللفظ: الملفوظ، وهو القرآن، وإذا قال غير مخلوق: يدخل فيه فعل القارئ، من حركات لسانه، وصوته، وفعل القارئ مخلوق، فهذا هو مراد أحمد رحمه الله، ولدقته قال البخاري رحمه الله: إنهم لم يفهموا كلام أحمد، ولذلك أنكره ابن قتيبة.(2/487)
وأما البخاري، فابتلي بمن يقول: أصوات العباد غير مخلوقة، حتى بالغ بعضهم، فقال: والمداد، والورق بعد الكتابة.
فكان أكثر كلامه في الرد عليهم، وبالغ في الاستدلال بأن أفعال العباد مخلوقة بالآيات والأحاديث، وأطنب في ذلك حتى نسب أنه من اللفظية)) (1) .
وقال أبو بكر الضبعي: ((لم يزل الله متكلماً، ولا مثل لكلامه؛ لأنه نفى المثل عن صفاته، كما نفى المثل عن ذاته، ونفى
النفاد عن كلامه، كما نفى الهلاك عن نفسه، فقال: {لَنَفِذَ البَحَرُ قَبلَ أَن تَنفَذَ كَلِمَاتُ رَبيِ} وقال: {كُلُ شَيءٍ هَالِك إِلا وَجهَهُ} (2) .
فيجب التفرقة بين ما هو لله صفة وفعلاً، وبين ما هو للمخلوق صفة وفعلاً، وأن يوحد الله في خصائصه وحقوقه، وأن لا يجعل لأحد من الخلق شركة في صفات الله وأفعاله، ومن ذلك الفرق بين أفعال التالي لكتاب الله، وما هو صفة لله وهو كلامه المتلو.
ومذهب أهل السنة أن الله خالق كل شيء وهو ربه ومالكه، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير، وأنه خلق العبد هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً.
وإن العبد فاعل لأفعاله حقيقة، وله مشيئة وقدرة حقيقة، كما قال تعالى:
_________
(1) ((الفتح)) (13/492) .
(2) ((الفتح)) (13/492) .(2/488)
{لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ {28} وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (1) .
وقال تعالى: {فَمَن شَاءَ اتَخَذَ إِلىَ رَبِهِ سَبِيلاً} (2) .
فبيَّن تعالى أن العباد لهم مشيئة يفعلون بها إذا شاؤوا، وأنها تابعة لمشيئة الله؛ لأنه المالك لكل شيء، المتصرف فيه.
وزعمت المعتزلة أن أفعال العباد القبيحة، من الكفر والمعاصي، غير داخلة في مشيئة الله وتقديره؛ لأن الله منزه عن فعل القبيح باتفاق المسلمين.
وقالت الجبرية: ليس للعبد فعل في الحقيقة، والأفعال كلها لله، والعبد كاسب لا فاعل، وقدرة العبد لا تأثير لها في حدوث مقدورها، غير أن الله – تعالى – أجرى العادة بخلق مقدورها مقارناً لها، فيكون الفعل خلقاً من الله، وإبداعاً وإحداثاً منه تعالى، وكسباً من العبد لوقوعه مقارناً لقدرته، والعبد ليس محدثاً لأفعاله، ولا موجداً لها. وهذا قول الأشعرية، ومع ذلك ينكرون أن يكونوا جبرية؛ لأنهم يقولون: نحن نثبت للعبد قدرة حادثة، والجبرية لا تثبت ذلك.
وفرقوا بين الكسب الذي أثبتوه للعبد، وبين الخلق الثابت لله، بأن الكسب: عبارة عن اقتران قدرة العبد الحادثة بالمقدور، والخلق هو المقدور بالقدرة القديمة.
وبأن الكسب هو الفعل القائم بمحل القدرة عليه، والخلق هو الفعل الخارج عن محل القدرة عليه.
وهذا فرق لا حقيقة له، فإن كون المقدور في محل القدرة، أو خارجاً
_________
(1) الآيتان 28، 29 من سورة التكوير.
(2) الآيتان 29، 30 من سورة الإنسان.(2/489)
عن محلها، لا يعود إلى نفس تأثير القدرة فيه.
والصواب أنه لا فرق بين كون العبد فاعلاً الفعل، أو كاسباً له، فإن الكسب مرادف للفعل والعمل، فيقال: فعل وعمل، وكسب وأوجد، وأحدث وصنع، كلها بمعنى واحد.
وعمل العبد، وصنعه، وإحداثه، وكسبه، مقدور له بقدرته الحادثة، وهو قائم في محل القدرة.
والاقتران الذي ذكروه، لا يكون كسباً، ولا فعلاً، وإنما هو تخيل لا حقيقة له.
وأصل خطئهم من عدم التفريق بين الخلق والمخلوق، والفعل والمفعول، وزعمهم أن الله – تعالى – ليس له أفعال تقوم به، وأن فعله للشيء هو عين المفعول.
ومن المستقر في الفطر والعقول: أن فاعل الإيمان هو العبد المؤمن، وفاعل الكفر هو العبد الكافر، وفاعل الصدق هو الصادق، وفاعل الكذب هو الكاذب، وفاعل الظلم هو الظالم، كما أن فاعل الأكل هو الآكل، وفاعل الشرب هو الشارب.
وهكذا كل فعل لا بد أن يقوم بالفاعل، كما أن العالم: مَنْ قام به العلم، والحي: مَنْ قامت به الحياة، وكل صفة تقوم بالمتصف بها.
والقرآن مملوء بما يدل على هذا كقوله – تعالى -: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) وقوله: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} (2) ، وقوله: {إِنَّ
_________
(1) الآية 17 من سورة السجدة.
(2) الآية 105 من سورة التوبة.(2/490)
الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} (1) ، وأمثالها كثير جداً.
واتفق العقل مع الشرع على أن العبد يحمد ويذم على فعله.
قال شيخ الإسلام: ((قول القائل: هذا فعل هذا، وعمل هذا، لفظ فيه إجمال، فإنه تارة يراد بالعمل نفس الفعل، وتارة يراد مسمى المصدر، فيقول: فعلت هذا، أفعله فعلاً، وعملت هذا أعمله عملاً، فإذا أريد بالعمل نفس الفعل الذي هو مسمى المصدر، كصلاة الإنسان، وصيامه، ونحو ذلك، فالعمل هنا هو المعمول، وقد اتحد هنا مسمى المصدر والفعل.
وإذا أريد بذلك ما يحصل بعمله كنساجة الثوب، وبناء الدار، ونحو ذلك، فالعمل هنا غير المعمول، قال الله – تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} (2) ، فجعل هذه المصنوعات معمولة للجن.
ومن هذا الباب: قوله تعالى: {وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعملُونَ} ، فإنه في أصح القولين ((ما)) بمعنى الذي، والمراد به ما تنحتونه من الأصنام، كما قال تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ {95} وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (3) أي: والله خلقكم، وخلق الأصنام التي تنحتونها. ومنه حديث حذيفة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله خالق كل صانع وصنعته)) (4) .
لكن قد يستدل بالآية على أن الله خالق أفعال العباد من وجه آخر، فيقال: إذا كان خالقاً لما يعملون من المنحوتات، لزم أن يكون هو الخالق؛ لتأليف
_________
(1) الآية 277 من سورة البقرة.
(2) الآية 13 من سورة سبأ.
(3) الآيتان 95، 96 من سورة الصافات.
(4) رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) .(2/491)
الذي أحدثوه فيها، فإنها إنما صارت أوثاناً بذلك التأليف، وإلا فهي بدون ذلك ليست معمولة لهم.
وإذا كان خالقاً للتأليف كان خالقاً لأفعالهم.
والمقصود أن لفظ الفعل، والعمل، والصنع، وأنواع ذلك كلفظ البناء والخياطة والنجارة، تقع على نفس مسمى المصدر، وعلى المفعول.
وكذلك لفظ التلاوة والقراءة، والكلام، والقول، يقع على نفس مسمى المصدر، وعلى ما يحصل بذلك من نفس القول، والكلام.
فيراد بالتلاوة والقراءة: نفس القرآن، المقروء المتلو، كما يراد به مسمى المصدر، فإذا قال القائل: هذه التصرفات فعل الله، أو فعل العبد، فإن أراد بذلك أنها فعل الله بمعنى المصدر، فهذا باطل باتفاق المسلمين، وبصريح العقل، وإن أراد أنها مفعولة مخلوقة لله كسائر المخلوقات، فهذا حق)) (1) .
فالذين أنكروا أن يكون لله – تعالى – فعل يقوم به، لم يفرقوا بين فعله ومفعوله، وخلقه، ومخلوقه.
والفرق واضح، فأعمال العباد مخلوقة لله – تعالى – مفعولة له، ليست هي نفس فعله، وإنما هي فعل العباد، قائمة بهم، وهي أيضا مفعولة لهم إذا أريد بالفعل المفعول.
وخلق الله – تعالى – لمخلوقاته ليس هو نفس مخلوقاته، كما تقدم التنبيه على ذلك.
فأفعال العباد مخلوقة لله كسائر مخلوقاته، ومفعولة له، وهي فعل العباد حقيقة، وقائمة بهم حقيقة.
فالكفر، والكذب، والظلم، ونحو ذلك من القبائح، يتصف بها من قامت
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (8/121-122) .(2/492)
به وفعلها، ولا يتصف بها من خلقها، وجعلها صفة لغيره.
فكما أن الله – تعالى – لا يكون متصفاً بما خلقه في خلقه من الألوان والروائح، والطعوم، فكذلك لا يكون متصفاً بالفعل الذي خلقه في عباده، وجعله وصفاً لهم.
وبهذا تزول شبهة المعتزلة ومن وافقهم، في نفيهم الأفعال القبيحة أن تدخل تحت مشيئة الله وخلقه محتجين بأنه تعالى منزه عن القبيح. والله أعلم.
قوله: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أول الآية: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (1) .
ينكر تعالى على المشركين الكافرين به، الذين يعبدون معه غيره، من الأوثان التي لا تملك لهم، ولا لنفسها نفعاً، ولا ضراً، ومع ذلك يجعلونها نظراء وشبهاء لله رب العالمين، في التوجه إليها بالعبادة، يطلبون منها أن تتوسط لهم عند الله وتشفع لهم، وهي ملك لله يتصرف فيها كيف يشاء.
والمقصود من الآية: أن من سوى المخلوق بالله في صفة من الصفات، أو فعل من الأفعال، أو في ما يجب له من الحق، فقد جعل لله نداً، وأشرك بالله غيره.
فقول الله، وكلامه، لا يشبه قول عباده وكلامهم، فمن زعم أن قول العباد يشبه قول الله، فقد جعل لله نداً، وكذلك سائر أوصافه.
قوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} .
_________
(1) الآية 9 من سورة فصلت.(2/493)
قال ابن جرير: ((يقول تعالى لنبيه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ َ} يقول: لئن أشركت بالله شيئاً يا محمد ليبطلن عملك، ولا تنال به ثواباً، ولا تدرك به جزاء إلا جزاء من أشرك بالله.
وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم، أي: أوحي إلى الذين من قبلك من الرسل مثل الذي أوحي إليك، فاحذر أن تشرك بالله شيئاً فتهلك)) (1) .
وفي هذه الآية تعظيم أمر الشرك؛ لأن الله تعالى وجه الخطاب إلى رسوله – صلى الله عليه وسلم – بأنه لو أشرك لحبط عمله، وأصبح من الخاسرين، فكيف بغيره من سائر الناس؟ ومثلها قوله – تعالى – بعد ما ذكر فضل الأنبياء ونعمته عليهم: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (2) .
ووجه الاستدلال بالآية: التحذير من الوقوع في أي نوع من أنواع الشرك، مثل أن يعتقد أن صفة الله كصفات الخلق، أو كلامه ككلامهم، فمن وقع في ذلك، فقد وقع في الشرك المحبط للأعمال، وصاحبه من الخاسرين.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا أخَرَ} هذه الآية في سياق ثناء الله – تعالى – على عباده المؤمنين، الذين يخشونه، ولا يخشون أحداً غيره، ويتجهون إليه بالدعاء والعبادة وحده، ويبيتون ليلهم سجداً لله وقياماً، رجاء ثوابه، وخوفاً من عقابه.
وهذه الآية بمعنى الحديث الآتي، وقد جاء في رواية: أن ابن مسعود لما ذكر الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: فنزل تصديق ذلك {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية.
_________
(1) ((تفسير الطبري)) (11/16) طبعة بولاق.
(2) الآية 88 من سورة الأنعام.(2/494)
والمقصود: الثناء على المؤمنين الذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر غيره، ومثل ذلك الابتعاد عن القول بأن شيئاً من أوصاف الله وأفعاله يكون مثل أوصاف المخلوقين وأفعالهم، تعالى الله وتقدس.
فمن ابتعد عن الشرك كله بأنواعه، فهو المستحق لثناء الله، وهو عبد الله المستوجب لوعده بقوله: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا {75} خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} (1) .
ولكون الشرك يقع من الناس كثيراً، وأكثرهم يجهل أنواعه، ذكر قول عكرمة: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} .
{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقهُمَ} ، و {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ} ، فذلك إيمانكم، وهم يعبدون غيره)) . يعني: أن إيمانهم هو إقرارهم بتوحيد الربوبية، وعلمهم بأن الله هو المتفرد بالخلق.
روى ابن جرير، عن عكرمة، في قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} قال: هو قول الله – تعالى - {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، فإذا سئلوا عن الله، وعن صفته، وصفوه بغير صفته، وجعلوا له ولداً، وأشركوا به)) (2) .
قوله: ((وما ذكر في خلق أفعال العباد وأكسابهم)) يعني: أن أفعالهم، وأكسابهم مخلوقة لله – تعالى -، وإن كانت فعلاً لهم حقيقة، ولا فرق بين الفعل، والكسب، كما قال – تعالى -: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَت} فالكسب هو العمل.
والذين يجعلون أفعال العباد وأكسابهم فعلاً لله – تعالى – مشركون؛
_________
(1) الآيتان 75، 76 من سورة الفرقان.
(2) انظر ((تفسير الطبري)) (16/287) . تحقيق محمود شاكر.(2/495)
لأنهم جعلوا له ما للمخلوق.
كما أن الفريق الضال الآخر الذين يجعلون العباد خالقين لأفعالهم، وموجدين لها، مشركون بذلك، وهذا وجه إيراد البخاري – رحمه الله – للآيات التي سبق ذكرها، وتقدم الكلام على أفعال العباد.
ثم استدل على دخول أفعال العباد في مخلوقات الله – تعالى – بقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ فَقَدَرَهُ تَقدِيراً} فدخلت أفعالهم في عموم {كُلَّ شَيءٍ} ، ودل قوله: {فَقَدَرَهُ تَقدِيراً} على أنه – تعالى – أتقن ذلك، غاية الإتقان، حيث خلقها وجعلها مفعولة للعباد، واقعة منهم، بإرادتهم، واختيارهم، لم يرغموا عليها، بل فعلوها راغبين في فعلها، مختارين لها، ولذلك استحقوا عليها الثواب، والعقاب.
قوله: ((وقال مجاهد: {مَا نُنَزِلُ المَلائِكَةَ إِلا بِالحَقّ} يعني: بالرسالة، والعذاب.
يعني: أن تنزل الملائكة هو فعلهم بأمر الله – تعالى – لهم طائعين ممتثلين أمر ربهم، فالنزول منهم فعل لهم يستوجبون به الثناء من الله؛ لأنهم أطاعوه بذلك، فأفعالهم قائمة بهم يفعلونها باختيارهم، كبني آدم.
وأما قوله: {إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِكرَ وإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فهو فعل الله، والضمير في {لَهُ} عائد إلى الذكر في قوله: {إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِكرَ} .
وقوله: {عِندِنَا} أراد به، بيان أن هذا فعل الله الخاص به.
وبيَّن ذلك بقوله: {لِيسأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدقِهِم} ((المبلغين المؤدين من الرسل)) أي: المؤدين الرسالة، كما أمرهم الله.
فالصدق: فعل الصادقين، والصادق هو: المتصف بالصدق، الذي قام به الصدق فعلاً له، فالصدق فعلهم وعملهم، والله تعالى – يسألهم عن عملهم.(2/496)
والسؤال من الله فعله – تعالى – وقوله، يسأل به الرسل، عن تبليغهم ما أمرهم بإبلاغه لعباده، وزاد ذلك إيضاحاً بقوله:
{وَالَّذي جَاءَ بِالصِدقِ} القرآن: {وَصَدَّق بِهِ} المؤمن، يقول يوم القيامة: ((هذا الذي أعطيتني عملت بما فيه)) .
فبين أن القرآن – الذي فسر به الصدق – غير التصديق، بل التصديق فعل المصدق – وهو المؤمن، أو الرسول – وهو عمله الذي يثاب عليه.
ولهذا يجيب ربه إذا سأله يوم القيامة: ((ماذا عملت بما علمت؟)) قائلاً: هذا الذي أعطيتني – يعني القرآن – عملت بما فيه. فتبين أن القرآن غير عمل القارئ، فتحريك اللسان، والشفتين، والصوت، ورفعه، وخفضه، هو عمل الرجل الذي يقرأ، وأما المقروء المتلفظ به، فهو القرآن كلام الله، وكلام الله غير عمل القارئ، ولهذا قال: هذا الذي أعطيتني عملت بما فيه، مجيباً ربه.
********
146 – قال: ((حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله، قال: سألت النبي – صلى الله عليه وسلم – أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: ((أن تجعل لله نداً، وهو خلقك)) ، قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((ثم أن تزاني بحليلة جارك)) .
الذنوب تتفاوت في العظم، فبعضها أعظم من بعض، فيكون ما يترتب عليها من العقوبات كذلك.
وأعظم الذنوب الشرك بالله – تعالى -، قال تعالى عن لقمان: {يَا بُنَيَّ(2/497)
لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (1) ، فالشرك أعظم الذنوب عند الله، فلذلك حرم على صاحبه الجنة، وأخبر أن مأواه النار، وأنه لا يخرج منها كما قال تعالى: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (2) .
وقال تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (3) وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (4) .
فلذلك يتعين على المرء أن يجتهد غاية وسعه في التعرف على أنواع الشرك، حتى يجتنبها؛ لأنه إذا لم يعرفها يوشك أن يقع فيها وهو لا يشعر، فيكون في ذلك هلاكه الأبدي. وتقدم القول في النِّد.
قوله: ((أن تجعل لله نداً وهو خلقك)) أسند الجعل إلى العبد؛ لأنه فعله، ولهذا استحق عليه عقاب الله وعذابه.
وقوله: ((وهو خلقك)) يعني: أن الدلائل على وجوب عبادة الله وحده، وإخلاص العبادة له، واضحة جلية، مثل كونه تعالى هو المنفرد بالخلق، والإيجاد من العدم، وبالرزق، فهو المستحق للعبادة وحده.
وقول عبد الله: ((إن ذلك لعظيم)) يعني: أن عظمه وقبحه مستقر في نفوس العقلاء، والناظرين في شرع الله، ودلائل وجوب عبادته.
قوله: ((قلت: ثم أي؟)) يعني: ما هو الذنب الذي يلي الشرك في العظم عند الله؟
_________
(1) الآية 13 من سورة لقمان.
(2) جزء من الآية 167 من سورة البقرة.
(3) الآية 72 من سورة المائدة.
(4) الآية 116 من سورة النساء.(2/498)
((قال: ((أن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك)) . قتل النفس بغير حق عمداً عظيم جداً، كما قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (1) .
وفي الحديث الذي رواه أبو داود، عن عبادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بَلَّحَ)) (2) ، أي: لا يزال مسرعاً في سيره إلى الله، وإنما يحبسه ويمنعه من السير إصابته الدم الحرام، معنى ((بلح)) انقطع من العجز والإعياء، فلم يستطع المشي. وهذا جزء من حديث طويل، ولفظه:
((عن أم الدرداء، قالت: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا من مات مشركاً، أو مؤمن قتل مؤمناً متعمداً)) .
فقال هاني بن كلثوم: سمعت محمود بن الربيع يحدث، عن عبادة بن الصامت، أنه سمعه يحدث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((من قتل مؤمناً فاعتبط بقتله، لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)) ، قال لنا خالد: ثم حدثني ابن أبي زكريا عن أم الدرادء، عن أبي الدرداء، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بلَّح)) (3) .
وعن البراء بن عازب، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لزوال الدنيا أهون
_________
(1) الآية 93 من سورة النساء.
(2) ((سنن أبي داود)) (4/464) .
(3) انظر ((السنن)) (4/463-464) رقم (4270) .(2/499)
على الله من قتل مؤمن بغير حق)) (1) ، والأحاديث في هذا فيها كثرة.
والقتل مع عظمه يتفاوت، فبعضه أعظم من بعض، وأعظمه أن يقتل الرجل ولده؛ لأن الله جعل له من الشفقة، والحنو، والحب، ما لا ينكر، وأمر الله – تعالى – بمراعاة حقه، فإذا بدل مكان الإحسان الواجب له أعظم إساءة – وهي القتل – استحق على ذلك أعظم العقوبة، فكيف إذا كان الباعث على القتل خوف الفقر، وأن يشاركه في مأكله؟ فإنه ينضاف إليه بذلك جرائم أخرى.
قوله: ((قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تزاني بحليلة جارك)) ، الزنا جريمة نكراء، ويتفاوت جرمه حسب قرب المزني بها وبعهدها عنه، وحسب الحقوق التي تجب مراعاتها أكثر في الشرع.
فإذا كانت ذات قرابة من جهة النسب فالزنا بها أعظم، وكذلك إذا كانت زوجة قريب منه، أو زوجة من له حق الجوار، فإن جريمة ذلك أعظم مما لو زنا بمن هي بعيدة عنه قرابة وجواراً.
قوله: ((أن تزاني)) يدل على المفاعلة، ومعنى ذلك أن تطاوعه المرأة على الفاحشة، وفي ذلك دليل على أنها إذا لم تطاوعه فالذنب أعظم.
والحليلة: هي التي يحل وطؤها، وتحل معه في فراش واحد.
والشاهد من الحديث قوله: ((أن تجعل لله نداًً وهو خلقك)) .
فالإنسان هو الذي يجعل الند، ويفعل ذا حقيقة، فهو فعله الذي يباشره ويقوم به، ويتصف به، فإذا فعل ذلك فهو المشرك، ولذلك استحق العذاب العظيم، وأضيف إليه الذنب؛ لأنه صدر منه.
_________
(1) رواه ابن ماجه في ((السنن)) (2/874) رقم (2619) ، قال المنذري: إسناده حسن، ورواه النسائي رقم (3987) .(2/500)
فتبين الفرق بين قول الله - تعالى - وفعله، وبين قول العبد وفعله، وهو ما أراده المؤلف.
فإذا قرأنا القرآن فإنما نقرؤه بأصواتنا المخلوقة التي لا تماثل صوت الرب تعالى، وما نقرؤه من القرآن فهو كلام الله - تعالى- مبلغاً عنه، لا مسموعاً منه، وإنما سمعه منه جبريل، ونحن نقرؤه بحركاتنا، وأصواتنا.
فالكلام كلام الباري، والصوت صوت القارئ. وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: {وَإِن أحَدٌ مِنَ المُشرِكينَ استَجَارَكَ فَأَجِرهُ حَتَّىَ يَسمَعَ كَلاَمَ اللهِ} فهو يسمع كلامه ممن يقرؤه عليه يبلغه إياه، لا من الله - تعالى -.
*****
قال: ((باب قول الله - تعالى -: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ} .
روى مسلم، عن أنس، قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك، فقال: ((أتدرون مم أضحك؟)) قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب، ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداًً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، قال فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلي بينه وبين الكلام قال: فيقول: بعداً لكُنَّ، وسحقاً، فعنكن كنت أناضل)) (1) .
((قال ابن بطال: غرض البخاري في هذا الباب إثبات السمع لله، وأطال في تقرير ذلك، وتقدم في أوائل التوحيد في قوله: {كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} .
والذي أقول: إن غرضه في هذا الباب: إثبات ما ذهب إليه أن الله يتكلم
_________
(1) ((مسلم)) (8/217) .(2/501)
متى شاء)) (1) .
والظاهر أن غرضه في هذا الباب قريب من الذي قبله، وهو بيان أن أعمال العباد واقعة بفعلهم، وأن الكلام يكون صفة لمن تكلم به، فالأعضاء حين تشهد على صاحبها تنطق بكلام لها حقيقة، مضاف إليها على الحقيقة، فهو صفة لها؛ لأنه قام بها، فكذلك كل متكلم، فكلامه فعله ووصفه.
وهذا يدل على أن المتكلم بكلام لغيره لا يكون ذلك الكلام مضافاً إليه وصفاًً له، بل هو ناقل أو مبلغ، وأما حركة لسانه وشفتيه، وتصويته به، فهي أفعاله، والمصوت به الذي تحرك اللسان والشفتان به هو كلام ذلك الغير، كما تقدم.
وأعمال العباد كلها مخلوقة محدثة.
قال البخاري – رحمه الله -: ((وكل من لم يعرف الله بكلامه، أنه غير مخلوق، فإنه يعلم، ويرد جهله إلى الكتاب والسنة، فمن أبى بعد العلم به كان معانداً؛ لقوله: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (2) .
فأما ما احتج به الفريقان لمذهب أحمد (3) ، ويدعيه كل لنفسه، فليس بثابت كثير من أخبارهم، وربما لم يفهموا دقة مذهبه، بل المعروف عن أحمد وأهل العلم أن كلام الله غير مخلوق، وما سواه مخلوق، وأنهم كرهوا البحث والتنقيب عن الأشياء الغامضة، وتجنبوا أهل الكلام، والخوض،
_________
(1) ((الفتح)) (13/496) .
(2) الآية 115 من سورة النساء.
(3) يعني: الذين يقولون: ألفاظنا وتلاوتنا للقرآن مخلوقة، فإن حقيقة قول هؤلاء أن القرآن مخلوق، والفريق الثاني: الذين يقولون: تلاوتنا للقرآن غير مخلوقة، وألفاظنا به غير مخلوقة.(2/502)
والتنازع، إلا فيما جاء فيه العلم، وبينه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
حدثنا إسحاق، أنبأنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – قوماً يتدارءون فقال: ((إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه بعضاً، ما علمتم منه فقولوا، وما لا فكلوه إلى عالمه)) .
وكل من اشتبه عليه شيء فأولى أن يكله إلى عالمه، كما قال عبد الله بن عمرو، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا يدخل في المتشابهات إلا ما بين له.
حدثنا أحمد بن إشكاب، حدثنا محمد بن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة – رضي الله عنه -: ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) ثم ذكر حديث ابن مسعود الآتي.
ثم قال: حدثنا موسى، عن وهيب، عن داود، عن الشعبي، في بيع المصاحف: ((أنه لا يبيع كتاب الله، وإنما يبيع عمل يديه)) .
ثم ذكر آثاراً في ذلك، وذكر قول النبي – صلى الله عليه وسلم – في أبي موسى: ((أوتي مزماراً من مزامير آل داود)) ، وقوله: ((زينوا القرآن بأصواتكم)) ثم قال:
((وعامة هذه الأخبار مستفيضة عند أهل العلم، ولا ريب في تخليق مزامير آل داود، وندائهم؛ لقوله عز وجل: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ} )) .
ثم ذكر قوله تعالى: {وَاتلُ مَا أُوحِىَ إِليكَ مِن كِتَابِ رَبِكَ} ، ثم قال: ((فبين أن التلاوة من النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، وأن الوحي من الرب)) .
ثم ذكر أحاديث وآيات وآثاراً كثيرة، ثم قال: ((ومما يقوي قول الشعبي في بيع المصاحف أنه إنما يبيع عمل يديه، قول زياد بن لبيد – رضي الله عنه – للنبي – صلى الله عليه وسلم -:(2/503)
((كيف يرفع العلم وقد ثبت ووعته القلوب؟)) (1) .
فهذا الذي ذكره يبين ما أراده هنا، وهو ظاهر من الآية التي ترجم بها، عند التأمل؛ لأنها في سياق ما ذكره الله عن أهل النار، من كلام أعضائهم، قال الله – تعالى -: {وَيَومَ يُحشَرُ أَعدَاءُ اللهِ إلىَ النَّارِ فَهُم يُوزَعُونَ {19} حَتىَ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيِهِم سَمعُهُم وأَبصَارُهُم وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعمَلُونَ {20} وَقَالُواْ لِجُلُودِهِم لِمَ شَهِدتُم عَلينَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الذِي أنطَقَ كُلَّ شيءٍ وَهُوَ خَلَقَكُم أَوَلَ مَرةٍ وَإليهِ تُرجَعُونَ {21} وَمَا كُنتُم تَستَرُونَ} الآية.
قال ابن كثير: ((أي: تقول لهم الأعضاء والجلود، حين يلومونها على الشهادة عليهم: ما كنتم تكتمون منا الذي كنتم تفعلون، بل كنتم تجاهرون الله بالكفر، والمعاصي، ولا تبالون منه في زعمكم لأنكم كنتم لا تعتقدون أنه يعلم جميع أفعالكم)) (2) .
وبهذا يتبين أن هذا قول الأعضاء ذكره الله عنها على ما سيقع يوم القيامة.
ولهذا لا يقال: إن هذا ليس كلام الله، بل هو كلام الأعضاء حكاه الله عنها؛ لأن الأعضاء لم تتكلم إلى الآن، وإنما ستتكلم يوم القيامة، والله – عز وجل – علم ما سيكون وما تتكلم به، فذكره لعباده ليحذروا الوقوع فيما يوجب شهادة الأعضاء عليهم، فهو كلام الله تكلم به، وأخبر به عما سيقع، وحتى الكلام الذي وقع وذكره تعالى عمن قاله، فإن ذلك يكون كلامه، كما حكى عن الأنبياء وقومهم وغيره.
والمقصود أن الاستدلال بالآية المذكورة على أن أعمال الإنسان وأقواله – ومن ذلك قول الأعضاء – تقع منهم على الحقيقة، وتقوم بهم، وعليها
_________
(1) انظر كتاب ((خلق أفعال العباد)) (70-105) تحقيق بدر.
(2) ((تفسير ابن كثير)) (4/96) طبعة الحلبي.(2/504)
يستحقون الجزاء، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وأن أعمال العبد مخلوقة لله - تعالى -؛ لأن الله هو الخالق وحده، وجعلهم عاملين لها حقيقة، وتقدم بيان ذلك.
******
147- قال: ((حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا منصور، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي - كثيرة شحم بطونهم، قليلة فقه قلوبهم، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول؟ فقال الآخر: يسمع إذا جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا، فإنه يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله - تعالى -: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} الآية.
قوله: ((كثيرة شحم بطونهم)) كثيرة: صفة لشحم وأنثه؛ لأن شحم مضاف إلى البطون، وكذا صفة القلوب، والمعنى: أن هؤلاء كبار الجسوم، لكن فقههم قليل، ولهذا صدرت منهم تلك المقالة الدالة على قلة فهمهم.
والشاهد من الآية لمقالتهم هذه: قوله تعالى: {وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ} ، كما في قول أحدهم: إن جهرنا سمع، وإن أخفينا لم يسمع، والآخر الذي هو أفقه من هذا علق علم الله بذلك بقوله: إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا، فهو شاك في ذلك، ولهذا وصفهم عبد الله - رضي الله عنه - بقلة الفقه، وتقدم وجه استدلال المؤلف بذلك.
******
قال: باب قول الله - تعالى -: {كُلَّ يَومٍ هُوَ فيِ شَأنٍ} ، {مَا يَأتِيهِم مِن ذِكرِ مِن رَّبِهِم مُّحدَثٍ} ، وقوله تعالى: {لَعَلَّ اللهَ يُحدِثُ بَعدَ ذَلِكَ أَمراً} ، وأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين؛ لقوله(2/505)
تعالى: {لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَمِيعُ البَصِيرُ} .
وقال ابن مسعود عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله عز وجل يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة)) .
يريد بهذا بيان أن الله – تعالى – يحدث ما يريد إحداثه، في أي وقت أراد، وأن إحداثه ذلك من أفعاله التي هي أوصاف له، فيحدث الأمر من أمره – تعالى – والكلام، ويطلق عليه أنه حدث، ومحدث؛ لأنه وجد بعد ما قبله، ويسمى كلامه حديثاً، ويطلق عليه أنه حادث، ومحدث بمعنى الجديد الذي تكلم به بعد كتبه السابقة له، ولهذا قال: وأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين.
فمن ذلك كلامه، ومخاطبته لمن يريد أن يخاطبه من خلقه، وأمره لمن يأمره، ونهيه، وإجابته لمن يدعوه، وإحياؤه لمن يريد حياته، وإماتته لمن يريد أن يميته، وإذلال من يريد ذله، وإعزاز من يشاء، وهدايته من يشاء، وإضلال من يشاء، وتصرفه في خلقه وملكه كيف يشاء.
((قال عبيد بن عمير: {كُلَّ يَومٍ هُوَ فيِ شَأنٍ} قال: من شأنه أن يجيب داعياً، ويعطي سائلاً، أو يفك عانياً، أو يشفي سقيماً)) .
وقال مجاهد: ((كل يوم يجيب داعياً، ويكشف كرباً، ويجيب مضطراً، ويغفر ذنباً)) .
وقال قتادة: ((لا يستغني عنه أهل السماوات، والأرض، يحيي حياً، ويميت ميتاً، ويربي صغيراً، ويفك أسيراً، وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم، ومنتهى شكواهم)) .
وقال سويد بن جبلة: ((إن ربكم كل يوم في شأن، فيعتق رقاباً، ويعطي(2/506)
رغاباً، ويقحم عقاباً)) (1) .
وروى ابن جرير، عن عبد الله بن مثيب الأزدي، قال: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم – هذه الآية: {كُلَّ يَومٍ هُوَ فيِ شَأنٍ} ، فقلنا: يا رسول الله، وما ذاك الشأن؟ قال: ((أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً ويضع آخرين)) (2) وعلقه البخاري جازماً به، عن أبي الدراداء، موقوفاً)) (3) ، ورواه ابن ماجة مرفوعاً (4) .
ونقل الحافظ في كلامه على هذه الترجمة قول ابن بطال، وقول الكرماني وغيرهما، وأطال فيما هو بعيد عن مراد البخاري؛ لأنهم يحاولون شرح ما ذكره على ما يتفق مع عقيدة الأشاعرة، مع أنه مباين لها.
قوله: {مَا يَأتِيهِم مِن ذِكرِ مِن رَّبِهِم مُّحدَثٍ} قيل هذه الآية، كقوله تعالى: {اقتَرَبَ لِلنَّاس حِسَابُهُم وَهُم فيِ غَفلَةِ مُّعرِضُونَ} أي: دنت القيامة وقربت، والناس عنها غافلون لاهون في دنياهم.
وإذا جاءهم ذكر من الله جديد، قريب العهد بالله، فيه تذكيرهم وأمرهم بالأخذ لما فيه سعادتهم، وفيه عظتهم عن التشاغل بالدنيا ونسيان الآخرة، استمعوه سماع غافل لاه لاعب.
قال ابن كثير: ((أخبر تعالى أنهم لا يصغون إلى الوحي الذي أنزل الله على رسوله. فقال: {مَا يَأتِيهِم مِن ذِكرِ مِن رَّبِهِم مُّحدَثٍ} أي: جديد إنزاله)) (5) .
_________
(1) ((تفسير ابن كثير)) (7/470) طبعة الشعب.
(2) انظر ((تفسير الطبري)) (27/79) .
(3) انظر ((البخاري)) (6/181) .
(4) انظر ((السنن)) (1/73) رقم (202) ، ورواه ابن حبان في ((صحيحه)) ، عن أبي الدرداء، مرفوعاً، قال: ((من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً ويضع آخرين)) ((الإحسان) (238) .
(5) ((تفسير ابن كثير)) (5/225) .(2/507)
وقال أبو جعفر ابن جرير – رحمه الله -: (يقول – تعالى ذكره -: ما يحدث الله من تنزيل شيء من هذا القرآن للناس، ويذكرهم به، ويعظهم، إلا استمعوه، وهم يلعبون)) (1) .
وقوله: ((لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً)) لما ذكر الله – جل وعلا – حكمه في المطلقة، وأمره بأن تطلق لعدتها، وأمر بإحصائها، ونهى عن إخراجها من بيت زوجها، ما دامت في العدة، وأنها لا تخرج منه إلا أن تأتي بفاحشة مبينة، وأخبر – تعالى – أن هذا من حدوده التي حدها،، ونهى عن تعديها، وأن من تعداها فقد ظلم نفسه، بعد ذلك قال تعالى: {لاَ تَدري لَعَلَ اللهَ يُحدِث بَعدَ ذَلِكَ أَمراً} .
يعني: يحدث للزوجين حالاً غير ما كانا عليه وقت الطلاق، بأن تتبدل الكراهية رغبة، والبغض حباً، وأن يراجع الرجل نفسه فيندم على ما حصل منه، والزوجة كذلك.
قال ابن جرير: {لاَ تَدري لَعَلَ اللهَ يُحدِث بَعدَ ذَلِكَ أَمراً} : يقول – جل ثناؤه -: لا تدري ما الذي يحدث، لعل الله يحدث بعد طلاقكم إياهن رجعة)) (2) .
والمقصود الذي أراده المؤلف – رحمه الله – من هاتين الآيتين: أن الله – تعالى – يتكلم بعد أن لم يكن تكلم بذلك الكلام بعينه، ويأمر، وينهى بعد أن لم يكن أمر بذلك المأمور وذلك المنهي عنه بعينه، لمن وجه إليه الأمر والنهي، وهذا هو معنى الحدث الذي أراد بيانه، وهو: الفعل المتجدد الذي يتعلق بمشيئته تعالى، سواء كان كلاماً، أو أمراً، أو نهياً، أو إحياء لميت، أو إماتة لحي، أو هداية ضال، أو ضلال غاو، أو تغيراً لحكم شرعه قبل
_________
(1) (17/2) .
(2) ((تفسير الطبري)) (12/87) .(2/508)
ذلك، أو أذن به، أو تغيير ما في نفوس بعض خلقه، أو غير ذلك مما يشاؤه ويريده – جل وعلا -، كما تقدم في معنى قوله تعالى: {كُلَّ يَومٍ هُوَ فيِ شَأنٍ} .
وقوله تعالى: {مَا يَأتِيهِم مِن ذِكرِ مِن رَّبِهِم مُّحدَثٍ} وقوله: {مَا يَأتِيهِم مِن ذِكرِ مِن رَّبِهِم مُّحدَثٍ إلاَ كَانُوا عَنهُ مَعرِضينَ} ، قال شيخ الإسلام: ((هذا يدل على أن الذكر منه محدث، ومنه ما ليس بمحدث؛ لأن النكرة إذا وصفت ميز بها بين الموصوف وغيره، كما لو قال: ما يأتيني من رجل مسلم إلا أكرمته، وما آكل إلا طعاما حلالا، ونحو ذلك.
ويعلم أن المحدث في الآيتين ليس هو المخلوق، الذي يقوله الجهمية.
ولكنه الذي أنزل جديداً، فإن الله كان ينزل من القرآن شيئاً بعد شيء، فالمنزل أولاً قديم بالنسبة إلى المنزل آخراً، وكل ما تقدم على غيره فهو قديم في لغة العرب، كمال قال: {كَالعُرجُونِ القَديمِ} ، وقال: {تَاللهَ إِنَكَ لَفي ضَلاَلِكَ القَديِمِ} (1) .
ومراد الإمام البخاري – رحمه الله – من هاتين الآيتين الرد على من ينكر أفعال الله – تعالى – من القول والفعل ونحوهما مما يتعلق بمشيئته وإرادته وقدرته، فإن هذا الأصل أنكرته الجهمية، والمعتزلة، ومن تشعب عنهما، ظانين أنه لا يمكن إثبات حدوث العالم وإثبات وجود الخالق له – تعالى – إلا بإثبات حدوث الأجسام، ولا يمكن حدوث الأجسام إلا بإثبات حدوث ما يقوم بها من الصفات والأفعال المتعاقبة، التي يسمونها: الحوادث، فلذلك قالوا: كل من قامت به الحوادث أو كان محلاً لها فهو حادث.
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (12/522) .(2/509)
وهذا الذي حدا بهم إلى إنكار صفات الله، وأفعاله القائمة به المتعلقة بمشيئته وقدرته.
وعليهم توجه رد الإمام البخاري – رحمه الله – في هذا الكتاب، كما قال: ((باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرهما من الخلائق، وهو فعل الرب، وأمره، فالرب – تعالى – بصفاته وفعله وأمره وكلامه هو الخالق المكون، غير المخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه، فهو مفعول مكون مخلوق)) .
ثم بعد ذلك قال: ((باب قول الله – تعالى -: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ولم يقولوا: ماذا خلق ربكم)) .
ثم ذكر قول عبد الله بن مسعود: ((إذا تكلم الله بالوحي)) إلى آخره، وذكر حديث عبد الله بن أنيس وفيه: ((فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قَرُب)) .
وذكر حديث أبي هريرة: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها)) إلى آخره، وحديث أبي سعيد الخدري: ((يقول الله: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار ... )) ، إلى آخر ما ذكره من الأبواب التي من تدبرها، وتأمل ما تحتها من النصوص، تبين له دقه فهمه رحمه الله، وتبين له بطلان مذهب أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية وغيرهم.
والمقصود أن الإمام البخاري – رحمه الله – يرى أن الله – تعالى – يوصف بأنه يحدث(2/510)
ما يشاء من القول، والأمر، والفعل، وهذا ما دل عليه العقل والفطرة وكتب الله، ولهذا قال: ((وأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين؛ لقوله تعالى: {لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَمِيعُ البَصِيرُ} .
فكما أنه تعالى لا مثل له في ذاته، كذلك في أفعاله، وأوصافه وأحداثه التي يحدثها مما يتعلق بمشيئته، وهي أفعاله، وهذا هو الحق الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة.
قوله: ((وقال ابن مسعود، عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: (إن الله عز وجل يحدث من أمره ما شاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة)) .
هذا طرف من حديث رواه أبو داود، وأحمد، والنسائي، وابن حبان في ((صحيحه)) وصححه، من طريق عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: ((كنا نسلم في الصلاة، ونأمر بحاجتنا، فقدمت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يصلي، فسلمت عليه، فلم يرد عليَّ السلام، فأخذني ما قدم وما حدث، فلما قضى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الصلاة قال: ((إن الله – عز وجل – يحدث من أمره ما يشاء، وإن الله – تعالى – قد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة، فرد عليَّ السلام)) (1) .
وفي رواية النسائي: ((وإن مما أحدث)) ، وأصل القصة في ((الصحيحين)) .
فقول - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يحدث ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة)) موافق لقوله تعالى: {مَا يَأتِيهِم مِن ذِكرِ مِن رَّبِهِم مُّحدَثٍ} ولا يصف الله أعلم منه – تعالى – ولا أعلم من رسول بعده، ومن لم يرض بما قاله الله ورسوله فبعداً له.
*****
148- قال: ((حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا حاتم بن
_________
(1) انظر ((سنن أبي داود)) (1/212) ، باب: رد السلام في الصلاة، وانظر ((المسند)) (1/409، 415، 435) ، وانظر ((الإحسان)) (3/19) رقم (1221) .(2/511)
وردان، حدثنا أيوب، عن عكرمة عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: ((كيف تسألون أهل الكتاب عن كتبهم وعندكم كتاب الله، أقرب الكتب عهداً بالله، تقرؤونه محضا لم يشب)) .
يعني: أن الله قد أغناكم بما جاءكم به نبيكم – صلى الله عليه وسلم – فقد أنزل الله عليه آخر الكتب التي قضى الله – تعالى – أن تنزل إلى الأرض من عنده، فهو أحدثها بالله، وأقربها عهداً به، وقد وصل إلينا خالصاً، ليس فيه ما يداخله من غيره، فكيف بعد ذلك يسوغ للمسلم أن يذهب يسأل اليهود والنصارى عما في أيديهم من كتبهم؟
وقد أعلمنا الله – تعالى – أنهم حرفوها، وزادوا فيها ونقصوا منها، ثم كذبوا على الناس بأن قالوا: هذا من عند الله، كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} (1) .
وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (2) .
وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) إلى غير ذلك مما ذكره الله – تعالى – عنهم من الكذب،
_________
(1) الآية 79 من سورة البقرة.
(2) الآية 78 من سورة آل عمران.
(3) الآية 71 من سورة آل عمران.(2/512)
والتزوير، وتحريف كلام الله عن مواضعه، وتغييره وتبديله.
والشاهد فيه قوله: ((وعندكم كتاب الله أقرب الكتب عهدا بالله)) . وهذا معنى كونه محدثاً، يعني: أنه قريب عهده بالله – تعالى -، بأن تكلم به وأنزله بعد الكتب السابقة، بل تكلم به تعالى في مناسبات تعرفون كثيراً منها.
ومعنى قوله: ((محضاً لم يشب)) : يعني: أنه لم يخالطه شيء من غيره.
149 – قال: ((حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عبيد الله ابن عبد الله، أن عبد الله بن عباس
قال: يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل الله على نبيكم، أحدث الأخبار بالله، محضا لم يشب، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتب الله، وغيروا فكتبوا بأيديهم، قالوا: هو من عند الله؛ ليشتروا بذلك ثمنا قليلا، أو لا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، فلا والله ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم)) .
هذا يدل على أنه كان من المسلمين في عهد ابن عباس من يسأل أهل الكتاب ويكتب أخبارهم، وذلك في آخر عهد الصحابة، وكان الصحابة ينهون عن ذلك، ويحذرون منه؛ لأنهم يعرفون كذبهم، وتحريفهم لكتاب الله، ولاستغنائهم بما جاء به نبيهم – صلى الله عليه وسلم -.
وقد روى البخاري أن أمير المؤمنين معاوية – رضي الله عنه – أنه كان يحدث رهطاً من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار، فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين، الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب)) (1) أي: نجرب عليه الكذب في أخباره.
_________
(1) انظر ((الفتح)) (13/333) .(2/513)
((روى الإمام أحمد، وابن أبي شيبة من حديث جابر، أن عمر أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – بكتاب أصابه من أهل الكتاب، فقرأه عليه، فغضب، وقال: ((لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل، فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)) ورجاله ثقات إلا أن مجالداً فيه ضعف)) (1) .
ولهذا نهى ابن عباس عن سؤالهم، وبين أنه ليس هناك ما يدعو إلى سؤالهم، وقد أغنى الله المسلمين بكتابه الذي تولى حفظه بنفسه، فلا يقدر أحد على تغييره وتبديله، وهو أيضا آخر الكتب نزولا من عند الله، فهو أحدثها به، نزل عليكم بعد كل الكتب التي يحدثونكم عنها.
مع أن الذي عندهم قد اختلط الحق فيه بالباطل، فلا يتميز، وما كان فيه من حق فهو منسوخ بالقرآن الذي جاء به خاتم النبيين – صلى الله عليه وسلم -.
ومما يدل على أن أهل الكتاب لا يريدون الحق: كونهم لا يسألون المسلمين عما جاء به نبيهم، وهذا مما يمنع من سؤالهم. وقد سبق ذكر بعض الآيات التي تنص على تحريفهم وتبديلهم الكتاب بما يكذبونه؛ ليشتروا به من حطام الدنيا ما استطاعوا، فمثل هؤلاء حرام سؤالهم؛ لأنهم يضلون من سألهم والشاهد قوله: ((وكتابكم الذي أنزل الله على نبيكم – صلى الله عليه وسلم – أحدث الأخبار بالله)) ، والحديث هو الجديد، ضد القديم، وهذا معنى قوله في الآية: {مَا يَأتِيهِم مِن ذِكرٍ مِن رَّبِهِم مُّحدَثٍ} أي: جديد. وقوله: ((محضاً لم يشب)) أي: خالصاً، لم يخالطه شيء من غيره.
*******
قال: ((باب قول الله – تعالى -: {لاَ تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ} وفعل النبي – صلى الله عليه وسلم – حين ينزل عليه الوحي)) .
_________
(1) ((الفتح)) (13/334) .(2/514)
يقصد بهذا التمييز بين فعل العبد، وفعل الرب - تعالى - وصفاته.
فتحريك النبي - صلى الله عليه وسلم - لسانه بالوحي هو فعله، ولكن المحرك به اللسان هو كلام الله وصفته، ولهذا قال: ((وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حين ينزل عليه الوحي، يعني: أنه كما قال ابن عباس: يعالج من الوحي شدة، وكان يحرك شفتيه بالقرآن، وذلك عندما يتلوه عليه جبريل، فيحرك لسانه وشفتيه بما يقرؤه جبريل، خوفا من أن يفوته شيء منه، فنهاه الله - تعالى- عن ذلك حيث يقول: {لاَ تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ} أي: تستعجل بحفظه، مخافة أن يفوتك فلا تحفظه.
وتكفل الله له بأن يحفظه إياه، فقال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ {17} فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ {18} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} يقول تعالى لنبيه: لا تستعجل إذا سمعت جبريل يقرأ عليك القرآن، فتحرك به لسانك وشفتيك مخافة أن لا تحفظه، بل أنصت، واستمع لما يقرأه جبريل، فنحن نجمعه، فلا يذهب منه شيء.
و ((قرآنه)) يعني: قراءته التي يقرؤها عليك جبريل، فإذا قرأه فاتبع قرآنه)) فكان - صلى الله عليه وسلم - يستمع لما يقرؤه عليه جبريل، فإذا انتهى قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله من تحريك شفتيه ولسانه وما يعالج من الشدة كل ذلك فعله وعمله، وهو مخلوق.
أما ما يحرك به لسانه وشفتيه، فهو كلام ربه - جل وعلا -، ومثل ذلك جبريل.
قال المؤلف في بدء الوحي، بسنده عن ابن عباس، في قوله تعالى: {لاَ تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ} قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنزيل(2/515)
شدة، وكان مما يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يحركهما، وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه، فأنزل الله – تعالى - {لاَ تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ {16} إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} ، قال: جمعه لك في صدرك، وتقرأه،: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قال: فاستمع له وأنصت،: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ثم إن علينا أن تقرأه، فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي – صلى الله عليه وسلم – كما قرأه)) (1) وسيأتي قريباً.
وقال في ((خلق أفعال العباد)) : ((سمعت عبد الله بن سعيد يقول: سمعت يحيى ابن سعيد يقول: ما زلت أسمع من أصحابنا يقولون: إن أفعال العباد مخلوقة، - يعني: حركاتهم، وأصواتهم، واكتسابهم، وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المتلو المبين المثبت في المصاحف، المسطور، المكتوب، الموعى في القلوب، فهو كلام الله، ليس بمخلوق، قال الله – تعالى -: {بَل هُوَ قُرآنٌ مَّجِيدٌ {21} فيِ لَوحٍ مَّحفُوظِ} ، فذكر أنه يحفظ ويسطر)) (2) .
وقال أيضاً: ((فأما المداد، والرق
، ونحوه، فإنه مخلوق، كما أنك تكتب ((الله)) ، فالله في ذاته هو الخالق، وخطك واكتسابك من فعلك خلق؛ لأن كل شيء دون الله بصنعه، وهو خلق، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (3) .
وقال تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (4) ، وقال تعالى: {بَل هُوَ قُرآنٌ مَّجِيدٌ {21} فيِ لَوحٍ مَّحفُوظِ} (5) .
وقال أيضا: ((وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – لجبريل حين سأله عن الإيمان، قال: أن
_________
(1) البخاري (1/4) .
(2) ((خلق أفعال العباد)) (47) .
(3) . الآية 2 من سورة الفرقان.
(4) الآية 4 من سورة الزخرف.
(5) ((خلق أفعال العباد)) (49) .(2/516)
تؤمن بالله وملائكته، وكتبه ورسله، قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟
قال: نعم، ثم قال: ما الإسلام؟ قال: تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله.
فذكره، قال: إذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم.
فسمى الإيمان، والإسلام، والشهادة، والإحسان، والصلاة بقراءتها وما فيها من حركات الركوع والسجود، فعلاً للعبد)) (1) .
وقال: ((قال الله - عز وجل -: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} ، ولكنه كلام الله تلفظ به العباد، والملائكة، وبين ذلك ما حدثني به عبد العزيز بن عبد الله – وذكر سنده – إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا أحب الله عبداً، نادى جبريل: يا جبريل أحب فلاناً، فينوه بها جبريل في حملة العرش، فيحبه أهل العرش، فيسمع أهل السماء السابعة لغط أهل العرش – وذكره -)) (2) .
فحب جبريل، ونداؤه لأهل العرش وأهل السماوات هو فعل جبريل، وهو مخلوق.
وأما حب الله للعبد ونداؤه لجبريل فهو فعله تعالى.
وقال أيضا: ((قال معاوية: لو شئت أن أحكي لكم قراءة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: لفعلت. وسئل النبي – صلى الله عليه وسلم - أي الناس أحسن قراءة؟ قال: ((الذي إذا سمعته رأيت عليه أنه يخشى الله عز وجل)) .
_________
(1) المصدر السابق (57) .
(2) المصدر نفسه (72-73) .(2/517)
ويذكر عن سعد – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: خير الذكر الخفي.
وقال تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (1) .
وقال تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} (2) .
وسمع معاذ قارئا يرفع صوته بالقرآن، فقال: {إِنَّ أَنكَرَ الأَصَوَاتِ لَصَوتُ الحَمِيرِ} .
حدثنا مسدد، حدثنا معتمر، سمعت أبي، سمعت أبا عثمان يقول: ما سمعت صنجاً قط، ولا بربطاً، ولا مزماراً أحسن صوتاً من أبي موسى، إلا فلاناً، إن كان ليصلي بنا فنود أنه قرأ البقرة من حسن صوته.
ويذكر عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ أنه قال: يا رسول الله، أنؤاخذ بما نقول، ويكتب علينا؟ قال: وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم؟)) .
فبين النبي - صلى الله عليه وسلم- أن أصوات الخلق، وقراءتهم، ودراستهم، وتعليمهم، وألسنتهم، مختلفة بعضها أحسن، وأزين، وأحلى، وأصوت، وأرتل، وألحن، وأعلى، وأخف, وأغض، وأخشع.
وقال تعالى: {وَخَشَعَت الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا} (3) ، وأجهر، وأخفى، وأمد، وأمهر، وألين، وأخفض من بعض)) (4) .
_________
(1) الآية 55 من سورة الأعراف.
(2) الآية 205 من سورة الأعراف.
(3) الآية 108 من سورة طه.
(4) ((خلق أفعال العباد)) (72-73) .(2/518)
قوله: ((وقال أبو هريرة: عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله – تعالى – أنا مع عبدي إذا ذكرني، وتحركت بي شفتاه)) .
هذا التعليق وصله المؤلف في ((خلق أفعال العباد)) (1) .
ومراده من الحديث أن قوله: ((وتحركت بي شفتاه)) وكذا قوله: ((إذا ذكرني)) أنه فعل العبد وعمله الذي يجازيه الله عليه، والشفتان واللسان تتحرك بذكر الله واسمه وصفته، لا بذاته تعالى.
فمثل ذلك قراءة القرآن، فإن اللفظ والصوت والحركة فعل العبد، وهو مخلوق، وأما ما يلفظ به ويقرؤه فهو كلام الله – تعالى -، وقد تكرر هذا لأن المؤلف يكرره؛ لأنه قد بلي بمن يقول: قراءة العباد غير مخلوقة.
قال رحمه الله: ((القراءة هي التلاوة، والتلاوة غير المتلو، وقد بينه أبو هريرة – رضي الله عنه – عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: اقرءوا إن شئتم: يقول العبد: ((الحمد لله رب العالمين)) ، فيقول الله: حمدني عبدي، يقول العبد: ((مالك يوم الدين)) فيقول الله: مجدني عبدي، يقول العبد: ((إياك نعبد, وإياك نستعين)) ، فيقول الله: هذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل)) .
فبين أن سؤال العبد غير ما يعطيه الله للعبد، وأن قول العبد غير كلام الله، هذا من العبد الدعاء، والتضرع، ومن الله الأمر والإجابة.
ثم روى عن أبي الدرداء: ((سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أفي كل صلاة قراءة؟ قال: ((نعم)) ، فقال رجل من الأنصار: وجبت هذه، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((اقرءوا إن شئتم)) .
_________
(1) (ص141) تحقيق بدر.(2/519)
فالقراءة لا تكون إلا من الناس، وقد تكلم الله بالقرآن من قبل، وكلامه قبل خلقه.
وسئل النبي – صلى الله عليه وسلم -: أي الصلاة أفضل؟ قال: ((طول القنوت)) فذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن بعض الصلاة أطول من بعض، وأخف، وأن بعضهم يزيد على بعض في القراءة، وبعضهم ينقص، وليس في القرآن: زيادة ولا نقصان، فأما التلاوة فإنهم يتفاضلون في الكثرة والقلة والزيادة والنقصان.
وقد يقال: فلان حسن القراءة، ورديء القراءة، ولا يقال: حسن القرآن، ورديء القرآن.
وإنما نسب إلى العباد القراءة، لا القرآن؛ لأن القرآن كلام الرب جل ذكره.
والقراءة فعل العبد، لا يخفى معرفة هذا القدر إلا على من أعمى الله قلبه، ولم يوفقه، ولم يهده سبيل الرشاد.
وليس لأحد أن يشرع في أمر الله – عز وجل – بغير علم، كما زعم بعضهم: أن القرآن بألفاظنا، وألفاظنا به شيء واحد، التلاوة هي المتلو، والقراءة هي المقروء.
فقيل له: إن التلاوة فعل التالي، وعمل القارئ فرجع، وقال: ظنتهما مصدرين.
فقيل له: هلا أمسكت، كما أمسك كثير من أصحابك؟ ولو بعثت إلى من كتب عنك، فاسترددت ما أثبت، وضربت عليه؟
فزعم أن كيف يمكن هذا وقد قلتُ، ومضى؟
فقيل له: كيف جاز لك أن تقول في الله – عز وجل – شيئاً لا يقوم به شرح وبيان، إذ لم تميز بين التلاوة والمتلو؟(2/520)
فسكت إذ لم يكن عنده جواب)) (1) .
******
150- قال: ((حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى: {لاَ تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ} قال: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يعالج من التنزيل شدة، وكان يحرك شفتيه، فقال لي ابن عباس: أحركهما لك كما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يحركهما، فقال سعيد: أنا أحركهما كما كان ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه. فأنزل الله عز وجل: {لاَ تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ {16} إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} ، قال: جمعه في صدرك، ثم تقرؤه، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} ، قال: فاستمع له وأنصت، ثم إن علينا أن تقرأه، قال: فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا أتاه جبريل عليه السلام استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي – صلى الله عليه وسلم –
كما أقرأه)) .
قوله: {لاَ تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ} أي: لا تحرك بالقرآن لسانك، فدل على أن المحرك به غير الحركة والتحرك، فذلك فعل العبد، بخلاف المحرك به فإنه القرآن.
قوله: (يعالج من التنزيل شدة)) أي: أنه كان يتحمل هماً، ويعاني كرباً وخوفاً من أن يذهب عنه ما يلقيه جبريل إليه، فلذلك كان يحرك لسانه وشفتيه بترديد ما يقوله جبريل، لعله يثبت معه، وقد وصف ابن عباس لسعيد بالتمثيل، مما يدل على أن ابن عباس قد شاهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في تلك الحالة.
_________
(1) ((خلق أفعال العباد)) (104-105) ، والظاهر أن هذه المحاور بين البخاري وبعض من خالفه في ذلك.(2/521)
فلما نهاه ربه تعالى عن ذلك الفعل، وأخبره أنه سوف يثبته في صدره، وإنما عليه أن يستمع إلى جبريل، وأن الله يتولى جمعه في صدر النبي – صلى الله عليه وسلم – وحفظه، ترك ما كان يفعله، وهذا من الحفظ للقرآن الذي أخبر تعالى أنه يحفظه، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِكرَ وإِنَّا لَهُ لحَافِظُونَ} .
فكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يستمع إلى جبريل، فإذا انتهى قرأه النبي – صلى الله عليه وسلم – كما قرأه جبريل.
قوله: ((لتعجل به)) أي: إن تحريكه لسانه به ليتعجل بحفظه خوفاً من فواته عليه أو نسيانه، فقال الله – تعالى -: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قال ابن عباس: في صدرك، ثم تقرؤه كما كان جبريل يقرؤه.
قوله: {وَقُرْآنَهُ} يعني: قراءته، والمقصود قراءة جبريل له، وبهذا سميت القراءة قرآناً.
قوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي: إذا قرأه عليك جبريل الذي أمره الله بذلك، فاتبع قراءته، فإسناد الفعل إلى ضمير المتكلم المعظم، الذي هو الله – تعالى -؛ لأنه - جل وعلا - هو الآمر، وهو المتكلم به، وجبريل رسوله إلى محمد – صلى الله عليه وسلم -، والرسول يبلغ رسالة من أرسله.
قال في ((خلق أفعال العباد)) ((حدثنا عبيد الله بن موسى، وذكر سنده إلى سعيد ابن جبير أنه سئل عن قوله تعالى: {لاَ تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ} ؟ فقال: قال ابن عباس: كان يحرك لسانه إذا نزل عليه، فقيل: {لاَ تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ} يخشى أن يتفلت، ثم {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} أي: جمعه في صدرك {وَقُرْآنَه ُ} أن تقرأه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} يقول: أنزل عليه، {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ {} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه} أن نثبته على لسانك)) (1) وفي رواية: ((قال:
_________
(1) (ص84) ورواه في ((الصحيح)) (6/203) .(2/522)
علينا أن نجمعه في صدرك {وَقُرآنَهُ {17} فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ ُ} فإذا أنزلناه فاستمع {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه} علينا أن نبينه بلسانك، قال: فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله)) (1) .
******
قال: ((باب قول الله - تعالى -: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {13} أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} يتخافتون: يتسارون.
قال أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -: ((يقول جل ثناؤه: أخفوا قولكم، وكلامكم أيها الناس، أو أعلنوه وأظهروه، {إِنَهُ عَلِيمُ بِذاتِ الصُدُورِ} يقول: إنه ذو علم بضمائر الصدور التي لم يتكلم بها، فكيف بما نطق به وتكلم به، أخفى ذلك أو أعلن؛ لأن من لم تخف عليه ضمائر الصدور، فغيرها أحرى أن لا يخفى عليه.
{أَلاَ يَعلَمُ} الرب جل ثناؤه {مَن خَلَقَ} من خلقه، يقول: كيف يخفى عليه خلقه الذي خلق، {وَهُوَ اللَّطِيفُ} بعباده {الخَبِيرُ} بهم وبأعمالهم)) (2) ؟
قال الحافظ: ((أشار بهذه الآية إلى أن القول أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره.
فإن كان بالقرآن، فالقرآن كلام الله، وهو من صفات ذاته فليس بمخلوق؛ لقيام الدليل القاطع بذلك، وإن كان بغيره فهو مخلوق، بدليل قوله تعالى {أَلاَ يَعلَمُ مَن خَلَقَ} بعد قوله: { {إِنَهُ عَلِيمُ بِذاتِ الصُدُورِ.}
قال ابن بطال: ((مراده إثبات العلم لله صفة ذاتية؛ لاستواء علمه بالجهر
_________
(1) انظر ((الصحيح)) (6/203) .
(2) ((تفسير الطبري)) (29/5) طبع بولاق.(2/523)
من القول والسر)) (1) .
قلت: كلا القولين لم يردهما البخاري، أما قول ابن بطال، فلا يتفق مع أحاديث الباب، وظاهر أنه لم يرد ما زعمه ابن بطال.
وأما قول الحافظ، فينطبق على مذهب الأشاعرة الذين يجعلون كلام الله صفة ذاتية، يعني: أنه معنى قائم بذات الله – تعالى -، والبخاري – رحمه الله – من أبعد الناس عن مثل هذا القول الباطل، المتناقض.
والصواب: أنه أراد بيان أن أفعال الله وأوصافه لا تشتبه بأفعال العباد وأوصافهم، فإن أقوال العباد الموصوفة بأنهم يجهرون بها أو يسرونها هي أقوالهم وأعمالهم التي يجازيهم ربهم عليها بالثواب أو العقاب.
أما كلام الله – تعالى – وفعله فلا يكون وصفاً للعباد، بأنه قول لهم أو فعل لهم.
وقد بين مراده هذا في كتابه ((خلق أفعال العباد)) ، فقال: ((فأما المتلو فقول الله الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (2) ، وقال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ} (3) .
وقال عبد الله بن عمرو، عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((يمثل القرآن يوم القيامة رجلاً، فيشفع لصاحبه)) ، وهو اكتسابه وفعله.
قال الله – تعالى -: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ {7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (4) ، قال صعصعة، عم الفرزدق، لما سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ هذه الآية: حسبي، قد علمت فيم الخير، وفيم الشر.
_________
(1) ((الفتح)) (13/501) .
(2) الآية 11 من سورة الشورى.
(3) الآية 29 من سورة الجاثية.
(4) الآية 7، 8 من سورة الزلزلة.(2/524)
وقد دخل في ذلك قراءة القرآن، وغيرها.
وقد بين الله ذلك قولاً للمخلوقين حين قال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (1) .
فأخبر أن العمل من الحياة، ثم بين خلقه فقال: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {13} أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (2) .
مع أن الجهمية، والمعطلة، إنما ينازعون أهل العلم على قول الله، أن الله يتكلم، وإن تكلم فكلامه مخلوق، فقالوا، إن القرآن بعلم الله مخلوق، فلم يميزوا بين تلاوة العباد، وبين المقروء.
وقد رفع أبو بكر صوته بقوله: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} (3) (4) .
يعني: أن الصوت الذي صوت به أبو بكر ورفعه هو من عمله وصفته، أما المصوت به فهي آية من كتاب الله، وهو كلام الله، فيجب التفريق بين ما هو فعل العبد وصفته، وبين ما هو من فعل الرب وصفته.
وبهذا يتضح مراد البخاري، وأنه ليس كما ذكر الحافظ، وابن بطال، والغريب أنه ذكر عن ابن المنير ما هو الصواب، ولم يقتنع به فيما يظهر.
قال ابن المنير: ((قصد البخاري الإشارة إلى النكتة التي كانت سبب محنته، حيث قيل عنه: إنه قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فأشار بالترجمة إلى أن تلاوة الخلق تتصف بالسر والجهر، وذلك يستدعي كونها مخلوقة)) .
_________
(1) الآية 2 من سورة الملك.
(2) الآية 13، 14 من سورة الملك.
(3) جزء من الآية 28 من سورة غافر.
(4) ((خلق أفعال العباد)) (74-75) .(2/525)
وفي قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} ، ثم قوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} تنبيه على أن قولهم مخلوق، وقوله: {وَلاَ تَجهَر بِصَلاَتِكَ} يعني: بقراءتك، دل على أنها فعله، وقوله:: ((من لم يتغن بالقرآن)) فأضاف التغني إليه، دل على أن القراءة فعل القارئ)) (1) .
قوله: ((يتخافتون)) : يتسارون، بيان لقوله تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا} (2) بأن المخافتة من الإسرار، وذلك من أعمالهم.
******
151- قال: ((حدثني عمرو بن زرارة، عن هشيم، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس – رضي الله عنهما – في قوله تعالى: {وَلاَ تَجهَر بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِت بِهاَ} قال: نزلت، ورسول الله مختف بمكة، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به، فقال الله لنبيه – صلى الله عليه وسلم -: {وَلاَ تَجهَر بِصَلاَتِكَ} أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن {وَلاَ تُخَافِت بِهاَ} عن أصحابك فلا تسمعهم، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً} .
- حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: نزلت هذه الآية: {وَلاَ تَجهَر بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِت بِهاَ} في الدعاء.
فقوله: {وَلاَ تَجهَر بِصَلاَتِكَ} واضح في أن المقصود القراءة، وأن الجهر فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – وكذا الإخفات الذي نهي عنه، ومثلهما التوسط بينهما، كل ذلك فعله، فلذلك صح أن ينهى عنه، ولا يقول أحد بأن النهي عن القرآن، أو عن الصلاة.
وبينه بقوله: ((فكان إذا صلىبأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن، ومن جاء به)) فنهاه الله – تعالى – عن رفع الصوت به؛ لئلا يسبه المشركون، كما نهاه عن الإسرار به؛ لئلا يخفى على أصحابه، وأمره بأن يقرأه قراءة يسمع بها أصحابه الذين معه، ولا يسمعه المشركون الذين
_________
(1) ((المتوارى)) (ص428) .
(2) الآية 103 من سورة طه.(2/526)
خارج البيت الذي هو فيه، وهذا معنى قوله: {وَابْتَغِ بَينَ ذَلِكَ سَبِيلاً} .
فبين بهذا أن القراءة غير المقروء، وأن الصوت غير المصوت به، وأن الجهر والإسرار، والتوسط بينهما، كل ذلك فعل القارئ، التالي، وهو من عمله الذي يؤمر به، أو ينهى عنه، ويجازى عليه.
أما المقروء، والمصوت به، فهو قول من كان ذلك القول له، وصفته.
فإن كان من القرآن، فهو قول الله – تعالى -، وإن كان من غيره فهو قول ذلك الغير الذي قاله مبتدءاً.
وقول عائشة في الآية المذكورة: أنها نزلت في الدعاء، لا يخالف ما ذكره ابن عباس؛ لأن الآية تنزل في سبب معين، ويدخل في معناها غير ذلك المعين الذي نزلت من أجله.
وقد أمر الله – تعالى – بإخفاء الدعاء بقوله تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (1) } ، وقال تعالى:
{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ (2) } مع أن القراءة والصلاة من دعاء العبادة.
ووجه الدليل من الآية واضح وبيَّن فيما سبق.
*****
152- قال: ((حدثنا إسحاق، حدثنا أبو عاصم، أخبرنا ابن جريج، أخبرنا ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) وزاد غيره ((يجهر به)) .
((ليس منا)) يعني: من المسلمين، وهو وعيد لمن لم يفعل ذلك.
والأولى أن لا يتعرض لمثله بالتأويلات التي تخرج الكلام عن مراد المتكلم.
وسبق القول بأن الصواب في التغني أنه: تحسين الصوت وتزيينه بالقرآن.
_________
(1) الآية 55 من سورة الأعراف.
(2) الآية 205 من سورة الأعراف.(2/527)
وجاء الأمر به كما رواه المؤلف – رحمه الله – في ((خلق أفعال العباد)) ورواه غيره، قال: ((حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي عن الأعمش، سمع طلحة، عن عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((زينوا القرآن بأصواتكم)) (1)
وتفسير التغني بالجهر لا ينافي ما ذكرته؛ لأن السلف يفسرون الكلام ببعض ما دل عليه، ومقصودهم بهذا التفسير أن لا يدخل فيه ما يشبه الغناء، فإنه مكروه كراهة شديدة، أو محرم.
قال الكرماني: ((لم يتغن به)) أي: يجهر بقراءة القرآن، وقيل: يستغني به.
وأشار بالترجمة إلى أن تلاوة الناس تتصف بالجهر، والإسرار، وذلك يدل على أنها مخلوقة لله – تعالى -، وكذا قوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} دليل على أن قولهم مخلوق، وكذا قوله: {وَلاَ تَجهَر بِصَلاَتِكَ} أي: بقراءتك، يدل على أنها فعله، وكذا قوله: ((من لم يتغن بالقرآن)) أضاف الفعل إليه)) (2) .
وقال أيضا: ((يجهر به)) يتغنى، ومعناه: يجهر به بتحسين الصوت، وتخزينه وترقيقه، ويستحب ذلك ما لم تخرجه الألحان عن حد القراءة، فإن أفرط حتى زاد حرفا، أو أخفى حرفا، فهو حرام)) (3) .
وقال الخطابي: ((إن العرب كانت تولع بالغناء والنشيد في أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب أن يكون هجيراهم مكان الغناء، فقال: ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) (4) .
والشاهد من الحديث: أن التغني والجهر فعل العبد، وهو مخلوق.
وأما المتغنى به المجهور به، فهو كلام الله – تعالى -.
فتبين بذلك الفرق بين أفعال العباد، وأوصافهم، وأوصاف أعمالهم، وبين فعل الله، ووصفه، ومرادنا بفعله الذي هو وصفه، لا مفعوله كما هو اصطلاح الأشاعرة.
_________
(1) (ص78، 82، 83) من طرق عدة، وأحمد (4/283) ، وابن أبي شيبة (2/251، 252) .
(2) ((شرح الكرماني)) (25/219) .
(3) المصدر السابق (19/30) .
(4) المصدر السابق (19/31) .(2/528)
قال: ((باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا فعلت كما يفعل.
فبين أن قيامه بالكتاب هو فعله)) .
هذه الترجمة كالتي قبلها، وكذا الأبواب الآتية كلها في بيان أن أعمال العباد منوطة بهم يفعلونها باختيارهم، وأنها مخلوقة مثلهم.
وذلك مثل أصواتهم وتحريك ألسنتهم وشفاههم، وحفظهم ودعائهم، وتبليغهم، وصلاتهم، وكون الإنسان خلق هلوعا جزوعا منوعا، فهذه أوصاف الإنسان، والله خلقه كذلك.
وكذا روايتهم، وبيانهم عن معاني كلام الله، وأصواتهم حسنها وقبيحها، ومهارتهم بالقرآن وغيره، وكتابتهم، وأدواتهم التي يكتبون بها، وغير ذلك كلها عمل لهم، وهم وأعمالهم مخلوقون.
فقوله: ((آتاه الله القرآن)) يعني: يسر له حفظه، وأقدره عليه، فحفظه وعمل به.
((فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار)) أي: يتلوه ويتهجد به في الصلاة وخارجها أوقات الليل والنهار، وهذا من أفضل الأعمال التي يؤجر عليها العبد.
فدل ذلك على أن تلاوته القرآن من عمله وعمله مخلوق، فلزم أن تكون غير المتلو.
فالتلاوة عمل العبد، وفعله، والمتلو قول الرب تعالى وصفته، كما تقدم.
((ورجل يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا فعلت كما يفعل)) . هذا يبين أن التلاوة، والقيام بالقرآن فعل التالي، وعمله، كما هو واضح.(2/529)
ولهذا قال: ((لو أوتيت مثل ما أوتي هذا فعلت كما يفعل)) . قال البخاري – رحمه الله -: ((فبين أن قيامه بالكتاب هو فعله)) .
وذكر ما ذكره هنا في كتابه ((خلق أفعال العباد)) بنصه (1) ، ثم ذكره بسنده، قال ابن المنير: ((ثبت عن البخاري أنه قال: من نقل عني أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق، فقد كذب، وإنما قلت: إن أفعال العباد مخلوقة، قال: وقد قارب الإفصاح في هذه الترجمة بما رمز إليه في التي قبلها)) (2) .
قوله: ((وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} .
أي: من الدلالات الواضحة على وحدانية الله، ووجوب عبادته، ورجوعكم إليه للحساب والجزاء، وأن الأمر والملك كله له، خلق السماوات والأرض، وما فيهما من العجائب، والآيات الدالة على الله، ومن ذلك اختلاف ألسنتكم، أي: أصواتكم بحيث لا يلتبس صوت واحد بآخر على كثرتهم، وكذا اختلاف اللغات، واختلاف الألوان، فهذا بشرته بيضاء، وهذا سوداء، وبين ذلك.
والمقصود أن إضافة الألسنة إلى الناس يدل على أنها أعمالهم وأوصافهم، فإذا قرأ القارئ كلام الله – تعالى – فالصوت صوت القارئ، والكلام كلام الباري.
فكما أن الألوان صفتهم، فكذلك النطق، والتكلم، والتصويت.
قال في ((خلق أفعال العباد)) ، بعد أن ذكر هذه الآية: ((فمنها العربي، ومنها العجمي، فذكر اختلاف الألسنة والألوان، وهو كلام العباد)) .
_________
(1) (ص118) تحقيق عميرة و (ص196) بدر.
(2) ((الفتح)) (13/503) .(2/530)
وقال تعال: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِي عَمِلي وَلَكُم عَمَلُكُم أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا أَعمَلُ وَأَنَا بَرِئٌ مِمَّا تَعمَلُونَ} (1) .
قوله: ((وقال – جل ذكره -: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} )) .
قال الحافظ: ((الآية الأولى: المراد منها اختلاف ألسنتكم؛ لأنها تشمل الكلام كله، فتدخل القراءة، وأما الثانية فعموم فعل الخير يتناول قراءة القرآن والذكر، والدعاء، وغير ذلك، فدل على أن القراءة فعل القارئ)) (2) .
وقال المصنف في ((خلق أفعال العباد)) {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} ، فأثبت الخير منهم فعلاً)) (3) .
يعني: أن الله – تعالى – أمر عباده أن يفعلوا الخير، فدل على أن ذلك فعلهم، ومن فعل الخير: قراءتهم القرآن، وذكرهم لله – تعالى – ودعائهم إياه، فالقراءة والذكر والدعاء فعل لهم يثابون عليه، كما تقدم.
***
153 – قال: ((حدثنا قتيبة حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تحاسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل، وآناء النهار، فهو يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا، لفعلت كما يفعل، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه في حقه فيقول: لو أوتيت مثل ما أوتي عملت فيه مثل ما يعمل)) .
قد ذكر هذا الحديث في فضائل القرآن بأتم من هذا اللفظ، ونصه:
_________
(1) (ص195-196) .
(2) ((الفتح)) (13/502) .
(3) (ص197) .(2/531)
((أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل، وآناء النهار، فسمعه جار له، فقال: ليتني أوتيت مثلما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً، فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل)) .
وترجم له هناك بقوله: ((باب اغتباط صاحب القرآن)) فجعل هذا من الغبطة، وليس من الحسد، وتسميته حسداً من باب التجوز.
قال الحافظ: ((معنى قوله: ((لا تحاسد إلا في اثنتين)) أي: لا رخصة في الحسد إلا في خصلتين، أو لا يحسن الحسد – إن حسن -، وأطلق الحسد مبالغة في الحث على تحصيل الخصلتين)) (1) .
وقال النووي: قال العلماء: الحسد قسمان: حقيقي، ومجازي، فالحقيقي: تمني زوال النعمة عن صاحبها، وهذا حرام بإجماع الأمة، مع النصوص الصحيحة.
وأما المجازي: فهو الغبطة، وهو أن يتمنى مثل النعمة التي على غيره، من غير زوالها عن صاحبها، فإن كانت من أمور الدنيا كانت مباحة، وإن كانت طاعة فهي مستحبة، والمراد من الحديث لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين، وما في معناهما)) (2) .
قوله: ((آتاه الله القرآن)) أي: منَّ عليه بحفظه، وهي من أعظم المنن، فإذا انضم إلى ذلك العمل به تمت نعمة الله، وذلك الذي قصد بقوله: ((فهو يتلوه آناء الليل، وآناء النهار)) ومعنى: يتلوه: يقرؤه، ويعمل به.
_________
(1) ((الفتح)) (9/73) .
(2) ((شرح مسلم)) (6/97) .(2/532)
وآناء الليل والنهار: ساعاتهما، يعني: أنه يلازم ذلك في غالب أوقاتهما.
قوله: ((فهو يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل)) هذا هو الذي أطلق عليه بأنه حسد، وهو حسد جائز؛ لأنه يتمنى الخير من غير ضرر بالغير.
فهو لم يتمن زوال ما أوتي صاحب النعمة، كما يفعل إخوان الشياطين، ولكنه تمنى أن يكون مثله، قد أوتي القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار.
وكذلك الآخر الذي تمنى أن يكون له من المال مثل ما للمنفق ماله في وجوه الخير.
ولم يرد زوال النعمة عن ذلك المنفق.
والشاهد من الحديث قوله: ((آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار)) فحفظ القرآن، وتلاوته، والقيام به، وكل ذلك عمل الإنسان، وهو مخلوق، وأما القرآن المحفوظ في الصدور، والمتلو المقوم به فهو كلام الله – جل وعلا -.
154- قال: ((حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، قال الزهري عن سالم، عن أبيه، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل، وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)) .
هذا الحديث كالذي قبله، فنكتفي بما تقدم.
***********
قال: ((باب قول الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} .
قال الكرماني: ((لا بد في الرسالة من ثلاثة أمور: المرسل، والمرسل إليه،(2/533)
والرسول، ولكل منهم أمر، للمرسل الإرسال، وللرسول التبليغ، وللمرسل إليه القبول والتسليم)) (1) .
قلت: بقي أمر رابع، وهو الرسالة التي يرسل بها الرسول، وهي أوامر الله ونواهيه وحكمه لمن أرسل إليهم، أما الإرسال فهو تكليف الرسول بالرسالة، واكتفى عن ذلك بقوله: ((وللمرسل إليه القبول والتسليم)) ؛ لأن القبول والتسليم يكون للرسالة.
قال ابن جرير: ((أمر الله نبيه بإبلاغ أهل الكتاب والمشركين ما أنزل الله عليه فيهم، من معايبهم، وما أمرهم به، ونهاهم عنه، وأن لا يشعر نفسه حذراً منهم أن يصيبوه بمكروه إذا قام فيهم بأمر الله، وأن لا يتقي إلا الله، فإنه كافيه كل أحد، ودافع عنه كل مكروه.
وأعلمه أنه إن قصر عن إبلاغ شيء مما أنزله إليه فيهم فهو من عظيم ما ارتكب من الذنب، بمنزلة ما لو لم يبلغ من الرسالة شيئا)) ثم روى عن ابن عباس: ((إن كتمت آية مما أنزل عليك من ربك لم تبلغ رسالاتي)) (2) .
ومقصوده بهذا الباب: أن إبلاغ الرسالة من الرسول فعل له يثيبه الله عليه، وأن الكلام الذي جاء به يبلغه صفة لربه، وأنه ليس فيما بلغه ما يدل على قول الذين يقولون بخلقه، أو خلق شيء منه.
قال في ((خلق أفعال العباد)) ، بعد ما ذكر قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي)) .
فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الإبلاغ منه، وأن كلام الله من ربه، ولم يذكر عن أحد من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان خلاف ما وصفنا، وهم
_________
(1) ((شرح الكرماني)) للبخاري (25/221) .
(2) ((تفسير الطبري)) (10/467) ملخصا.(2/534)
الذين أدوا الكتاب والسنة بعد النبي – صلى الله عليه وسلم – قرنا بعد قرن)) (1) . يعني: أنه ليس فيما بلغه النبي – صلى الله عليه وسلم – شيء مما يقوله الجهمية وأشباههم.
وقال: ((ما جاء في قول الله – عز وجل -: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} ، وقول النبي – صلى الله عليه وسلم – ((بلغوا عني ولو آية)) ، ((وليبلغ الشاهد الغائب)) ، وأن الوحي قد انقطع، ثم ذكر حديث عائشة ((من زعم أن محمداً كتم شيئا من الوحي، فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} .
وقال صالح: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} (2) ، وقال شعيب: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} (3) ، وقال تعال: {لِيَعلَمَ أَن قَد أَبلَغُواْ رِسَالاتِ رَبّهِم} (4) .
فبين أن الرسالة من الله، والإبلاغ من الرسل، ثم روى خطبته - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر، وفيها: ((اللهم هل بلغت؟ فليبغ الشاهد الغائب، ولا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) .
وقال ابن عباس: ((والذي نفسي بيده إنها الوصية إلى أمته)) .
وروي عنه أيضا قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولكن بعثني الله إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت
_________
(1) ((خلق أفعال العباد)) (ص60) .
(2) الآية 79 من سورة الأعراف.
(3) الآية 93 من سورة الأعراف.
(4) الآية 28 من سورة الجن.(2/535)
لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه إليَّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم)) (1) .
وذكر أحاديث في هذا المعنى.
وقال أيضاً: ((وقال الله – عز وجل -: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} فذلك كله مما أمر به، ولذلك قال: ((وأقيموا الصلاة)) فالصلاة بجملتها طاعة الله، وقراءة القرآن من جملة الصلاة، فالصلاة طاعة الله، والأمر بالصلاة قرآن، وهو مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، مقروء على اللسان، والقراءة والحفظ والكتابة مخلوق، وما قرئ وحفظ وكتب ليس بمخلوق.
ومن الدليل عليه أن الناس يكتبون ((الله)) ويحفظونه، ويدعونه، فالدعاء والحفظ والكتابة من الناس مخلوق، ولا شك فيه.
والخالق الله بصفته.
ويقال له: أترى القرآن في المصحف؟ فإن قال: نعم، فقد زعم أن من صفات الله ما يرى، وهذا رد لقول الله – تعالى - {لا تُدرِكُهُ الأَبصَارُ} في الدنيا {وَهُوَ يَدرِكُ الأَبصَارَ} .
وإن قال: يرى كتابة القرآن، فقد رجع إلى الحق.
ويقال له: هل تدرك الأبصار إلا اللون؟ فإن قال: لا (2) . قيل له: وهل يكون اللون إلا في الجسم؟ فإن قال: نعم، فقد زعم أن القرآن جسم يرى)) (3) .
وقال أيضاً: ((قال الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن
_________
(1) ((خلق أفعال العباد)) (ص125-138) .
(2) أي: اعتراف بأن الأبصار لا تدرك إلا اللون.
(3) ((خلق أفعال العباد)) (ص115-116) .(2/536)
رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللهُ يَعصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ، فذكر إبلاغ ما أنزل إليه، ثم ذكر فعل تبليغ الرسالة، فقال: ((إن لم تفعل فما بلغت رسالته)) فسمى تبليغه الرسالة وتركه فعلاً.
فلا يمكن لأحد أن يقول على الرسول: ((إنه لم يفعل ما أمر به من الرسالة)) .
ثم روى عن ابن عباس، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – خطب الناس يوم النحر ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: ((اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟)) .
قال ابن عباس: والذي نفسي بيده إنها الوصية إلى أمته، فليبلغ الشاهد الغائب. وذكر حديث أبي الأحوص، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((وأتتني رسالة من ربي، فضقت بها ذرعاً، ورأيت أن الناس سيكذبونني، فقيل لي: لتفعلن، أو لنفعلن بك)) (1) يعني: أنه إذا بلغ فقد فعل ما أمر به، وتلاوته ما أنزل عليه من تبليغه، وذلك فعله.
ومقصوده من الآية: أن تبليغ الرسالة، وعدمه، كلاهما فعل للعبد وهو مخلوق، والرسالة هي أمر المرسل، ونهيه وقوله، وهو الله – تعالى -، وذلك ليس بمخلوق.
وقوله: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ} أي: تفعل التبليغ لعموم ما أنزله الله إليك، ولا تذر منه شيئاً، وهذا يدل على بطلان ما لم يبلغه من الأعمال، والاعتقادات وغيرها؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - بلغ كل ما أنزله الله عليه.
وقال الحافظ: ((احتج أحمد بهذه الآية على أن القرآن غير مخلوق؛ لأنه
_________
(1) المرجع نفسه (75-76) .(2/537)
لم يرد في شيء من القرآن، ولا من الأحاديث أنه مخلوق، ولا ما يدل على ذلك.
وذكر عن الحسن البصري أنه قال: ((لو كان ما يقول الجعد (1) حقا لبلغه النبي – صلى الله عليه وسلم -)) (2) .
قوله: ((وقال الزهري: من الله – عز وجل – الرسالة، وعلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – البلاغ، وعلينا التسليم)) .
يعني: أن الرسالة من الله أمراً وقولاً له، وذلك مما يضاف إليه فعلاً ووصفاً، وعلى الرسول البلاغ، وهو: إيصال أمر الله وقوله إلى الناس، وإفهامهم إياه، وأمرهم بقبوله، وترغيبهم على ذلك، وتخويفهم من عذاب الله إن لم يقبلوا رسالاته ويمتثلوا أمره ويجتنبوا نهيه، وهذا عمل الرسول، وفعله الذي يثيبه الله عليه، أو يعاقبه على تركه.
((وعلينا التسليم)) أي: التسليم للرسالة بقبولها والانقياد لها، وعدم المعارضة، والعمل بفعل المأمور، واجتناب المحظور، وهذا فعل العباد الذي عليه يترتب الثواب، أو العقاب عند المخالفة.
قال الحافظ: ((أخرجه الحميدي في النوادر، ومن طريقه الخطيب (3) قال الحميدي: ((حدثنا سفيان، قال: قال رجل للزهري: يا أبا بكر، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس منا من شق الجيوب)) ما معناه؟ فقال الزهري: من الله
العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم)) . وأخرجه ابن أبي عاصم في كتاب الأدب)) (4) ، ورواه ابن أبي عاصم في الزهد، ولفظه: ((أخبرنا دحيم، أخبرنا
_________
(1) هو: الجعد بن درهم، أول من أنكر صفات الله – تعالى – ومحبته لعباده، فقتله خالد بن عبد الله القسري، أحد قواد بني أمية سنة (32) .
(2) في ((الجامع)) .
(3) في ((الجامع)) .
(4) ((الفتح)) (13/504) .(2/538)
الوليد بن مسلم عن الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي سلمه، عن أبي هريرة، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)) قال الأوزاعي: قلت للزهري: يا أبا بكر، ما هذا الحديث؟ قال: فقال: من الله العلم، ومن الرسول البلاغ، وعلينا
التسليم)) (1) .
قوله: ((وقال: {لِيَعلَمَ أَن قَد أَبلَغُواْ رِسَالاتِ رَبّهِم} .
قال ابن الجوزي: فيه خمسة أقوال:
أحداها: ليعلم محمد – صلى الله عليه وسلم – أن جبريل قد بلغ إليه، قاله ابن جبير.
الثاني: ليعلم محمد - صلى الله عليه وسلم – أن الرسل قبله قد بلغوا رسالات ربهم، وأن الله قد حفظهم، ودفع عنهم، قاله قتادة (2) .
الثالث: ليعلم مكذبو الرسل أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم، قاله مجاهد.
الرابع: ليعلم الله – عز وجل – ذلك موجودا ظاهرا يجب به الثواب، فهو كقوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ} (3) .
الخامس: ليعلم النبي – صلى الله عليه وسلم – أن الرسل قد أتته، ولم تصل إلى غيره، ذكره الزجاج (4) .
قلت: هذا بمعنى الأول، ومعناه: ليعلم محمد – صلى الله عليه وسلم – أن الملائكة التي تنزل بالوحي، أو يحرسون من ينزل به من استراق الشياطين، أنهم جاءوا بما أرسلوا به كاملاً.
_________
(1) ((كتاب الزهد)) لابن أبي عاصم (ص33-34) .
(2) اختار هذا القول ابن جرير.
(3) الآية 142 من سورة آل عمران.
(4) ((زاد المسير)) (8/386) .(2/539)
والقول الثاني هو الأولى، والأقرب، ويليه الرابع، ولكن وجوب الثواب وجوب تفضل وكرم من الله – تعالى -، والقول الثالث داخل في معنى الآية، فإن الله – تعالى – يؤيد رسله بالآيات الدالة على صدقهم، حتى يتيقن قومهم صدقهم.
والمراد من الآية هو ما دلت عليه الآية الأولى، فإن الرسل لهم أفعالهم وأعمال يعملونها، وتطلب منهم، وتضاف إليهم على أنها أعمالهم حقيقة، ولا تشتبه أعمالهم وأفعالهم بأفعال الله وأوصافه تعالى.
قوله: ((وقال تعالى: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} .
المراد منها ظاهر مما سبق قبلها، كما أوضحناه.
قوله: ((وقال كعب بن مالك حين تخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} .
قال الحافظ: تقدم هذا مسنداً في تفسير براءة في حديثه الطويل، وفي آخره. قال الله – تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} ومراد البخاري: تسمية ذلك عملاً (1) .
قال الكرماني: ((ومناسبته للترجمة: التفويض، والانقياد، والتسليم، ولا ينبغي لأحد أن يزكي عمله، بل يفوض إلى الله سبحانه وتعالى)) (2) .
قال بعض المتأخرين: موضع احتجاج البخاري: ((وقال كعب حين تخلف)) ؛ لأن القول والتخلف فعل كعب)) وهذا غير صحيح؛ لأنه لا خصوص لقول
_________
(1) ((الفتح)) (13/504) .
(2) ((شرح الكرماني)) (25 /) .(2/540)
كعب، بل مثل كل قول، وإنما احتج بقوله: {فَسَيَرَىَ اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمُؤمِنُونُ} فهو نص في أن لهم عملاً يجازون عليه بالثواب أو العقاب.
قوله: ((وقالت عائشة: إذا أعجبك حسن عمل امرئ فقل: {فَسَيَرَىَ اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمُؤمِنُونُ} ، ولا يستخفنك أحد)) .
مقصوده: أن العمل يضاف إلى العامل فعلاً له، مثل الصلاة، والقراءة، والصوم، والحفظ، وهو مخلوق؛ لأنه عمل مخلوق.
أما الأمر بالصلاة والصوم فهو من الله، وليس بمخلوق.
وكذا القراءة هي فعل القارئ وفعله مخلوق، وما يقرؤه ليس مخلوقاً، بل هو كلام الله تعالى.
ومعنى قولها: ((ولا يستخفنك أحد)) أي: لا تغتر بعمل أحد يظهر لك منه الخير والصلاح، فتثني وتمدح، فإنه عرضة للانتكاس، ما لم تره واقفاً عند حدود الشرع، متأسياً بالأبرار، متبعاً لسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
وقد روى المؤلف هذا الأثر مبسوطاً في كتابه: ((خلق أفعال العباد)) ، حيث قال: ((حدثني يحيى بن بكير، حدثني الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة – رضي الله عنهما -، وذكرت الذي كان من شأن عثمان بن عفان: ((وددت أني كنت نسياً منسياً، فوالله ما أحببت أن ينتهك من عثمان أمر قط إلا وقد انتهك مني مثله، حتى والله لو أحببت قتله، لقتلت، يا عبيد الله بن عدي، لا يغرنك أحد بعد الذي تعلم، فوالله ما احتقرت أعمال أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى تهجم النفر الذين طعنوا في عثمان، فقالوا قولاً لا يحسن مثله، وقرءوا قراءة لا يحسن مثلها، وصلوا صلاة لا يصلى مثلها، فلما تدبرت الصنيع إذ هم والله ما يقاربون أعمال أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -.(2/541)
فإذا أعجبك حسن قول امرئ فقل: {اعمَلُواْ فَسَيَرَىَ اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} فلا يستخفنك أحد)) (1) .
يعني أن أولئك الخوارج كانوا يجتهدون اجتهاداً في العبادة ما اجتهده أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولكنهم يرتكبون العظائم والجرائم، وهذا بمعنى قول الرسول – صلى الله عليه وسلم – في وصفهم: ((يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصومه مع صومهم)) .
قال الحافظ: ((وأخرجه ابن أبي حاتم، من رواية يونس بن أبي يزيد، عن الزهري، أخبرني عروة، أن عائشة كانت تقول: ((احتقرت أعمال أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – حين نجم القراء الذين طعنوا على عثمان ... فذكر نحوه، وفيه: ((فوالله ما يقاربون عمل أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإذا أعجبك حسن عمل امرئ منهم فقل: اعملوا)) الخ (2) .
والمراد بالقراء: الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين عثمان، وأنكروا عليه أشياء الحق فيها معه، وبعضها هو معذور فيها، فاقتحموا عليه بيته فقتلوه، وفتحوا بذلك على الأمة فتنة لا تزال الأمة تصلى نارها.
قوله: ((وقال معمر: {ذَلِكَ الكِتابُ} هذا القرآن، {هُدَى للِمُتَّقِينَ} بيان ودلالة، كقوله تعالى: {َ ذَلِكُم حُكمُ اللهِ} هذا حكم الله {لاَ رَيبَ فِيهِ} لا شك.
{تِلكَ أَياتُ اللهِ} يعني: هذه أعلام القرآن، ومثله: {حَتَى إِذا كُنتُم فيِ الفُلكِ وَجَرَينَ بِهمِ} يعني: بكم)) .
معمر هو: ابن المثنى، أبو عبيدة، قال الحافظ: ((ومناسبة الآية لما تقدم،
_________
(1) ((خلق أفعال العباد)) (ص56) .
(2) ((الفتح)) (13/505) .(2/542)
من جهة أن الهداية نوع من التبليغ)) (1) يعني:
الهداية المضافة إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – في مثل قوله تعالى: {وَإِنَكَ لَتَهدِي إِلَى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ} .
وأقول: يجوز أنه أراد: أن الهدى في القرآن، وما خالفه فهو ضلال.
وأن المتقين إذا حصل بينهم خلاف يرجعون إلى القرآن، فيحصلون على الهدى، وقد أوضح الله – تعالى – في القرآن أن أعمال العباد مخلوقة، فمن خالف ذلك ضل في هذه المسألة، كما أن هذا القرآن مما جاءنا به الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبلغنا إياه.
ولهذا قال في ((تفسيره)) : ((بيان ودلالة)) أي: مبين للحق، ودال عليه، كما أنه مبين للباطل، ومحذر منه.
قوله: {ذَلِكَ الكِتابُ} ، يعني: هذا الكتاب الذي بين أيديكم تقرءونه، فيه الهدى لمن اتبعه واتقى، وبين أن الإشارة المستعملة للبعيد، قصد بها القريب، على خلاف المعتاد فيها.
وبين أن هذا يستعمل أحياناً، فمثل له بقوله: {ذَلِكُم حُكمُ الله ِ} أي: هذا حكم الله الذي حكم به بينكم.
ثم فسر قوله: {لاَ رَيبَ فِيهِ} بأنه: لا شك فيه، أي: في هدايته ودلالته على الحق، فمن اهتدى به فهو المهتدي، ومن جانبه وترك ما دل عليه فهو الضال.
ثم ذكر ما هو نظير ذلك في الإشارة إلى البعيد، والمراد القريب، وهو قوله تعالى: {تِلكَ أَياتُ اللهِ} قال: يعني: هذه أعلام القرآن، أي: دلائله وبيناته الدالة على الصراط المستقيم، وهي الفارقة بين الحق والباطل، ثم قال:
_________
(1) ((الفتح)) (13/506) .(2/543)
((ومثله)) أي: ومثل هذا الاستعمال بالإشارة إلى القريب بما هو للبعيد.
قوله تعالى: {حَتَى إِذا كُنتُم فيِ الفُلكِ وَجَرَينَ بِهمِ} يعني: بكم، أي: أن الضمير الذي جعل للغائب، قصد به في هذه الآية الحاضر، فيكون مثل الإشارة للقريب بما هو موضوع للبعيد، وهذا سائغ في اللغة.
وعلماء البلاغة يقولون: إذا خرج اللفظ عما وضع له، فمقصود به نكتة بيانية، فالإشارة التي للبعيد إذا استعملت للقريب، دل على علو مكانة المشار إليه ورفعته.
قوله: ((وقال أنس: بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – خاله حراما إلى قوم. وقال أتؤمنوني أبلغ رسالة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؟ فجعل يحدثهم)) .
هذا طرف من حديث أخرجه في عدة أماكن من كتابه الصحيح، منها في الجهاد في أبواب متعددة، وفي أحدها قال: ((بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – أقواما من بني سليم إلى بني عامر، في سبعين، فلما قدموا قال لهم خالي: أتقدمكم، فإن أمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإلا كنتم مني قريبا، فتقدم فأمنوه، فبينما يحدثهم عن النبي – صلى الله عليه وسلم – إذ أومئوا إلى رجل منهم فطعنه فأنفذه، فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة، ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم إلا رجلاً أعرج صعد الجبل، فأخبر جبريل – عليه السلام – النبي – صلى الله عليه وسلم – أنهم قد لقوا ربهم، فرضي عنهم، وأرضاهم، فكنا نقرأ: بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا، وأرضانا، ثم نسخ بعد، فدعا عليهم أربعين صباحاً، على رعل، وذكوان، وبني لحيان، وبني عصية، الذين عصوا الله ورسوله)) (1) .
_________
(1) انظر ((البخاري)) (4/22) .(2/544)
والمقصود أن تبليغ الرسالة عمل الرسول، ونقل قول المرسل إلى المرسل إليه، فلذلك قال: ((أتؤمنوني أبلغ رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فجعل يحدثهم)) .
فحديثه إياهم عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هو إبلاغهم الرسالة، وهو ما فيه أمره ونهيه مما هو شرع لله الذي كلف العباد به.
والله – تعالى – كلف رسله إبلاغ قومهم، وعلى ذلك يجزيهم ما يستحقون من الأجر، والجزاء يكون على عمل العامل.
155 – قال: ((حدثنا الفضل بن يعقوب، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي، حدثنا المعتمر بن سليمان، حدثنا سعيد بن عبيد الله الثقفي، حدثنا بكر بن عبد الله المزني، وزياد بن جبير بن حية، عن جبير بن حية، قال المغيرة: أخبرنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – عن رسالة ربنا، أنه من قتل منا صار إلى الجنة)) .
هذا قطعة من حديث طويل يخاطب به المغيرة بن شعبه – رضي الله عنه – ترجمان عامل كسرى، لما سأله: ما أنتم؟ قال: ((نحن أناس من العرب كنا في شقاء شديد، وبلاء شديد، نمص الجلد والنوى من الجوع، ونلبس الوبر والشعر، ونعبد الشجر والحجر، فبينا نحن كذلك، إذ بعث رب السماوات ورب الأرضين – تعالى ذكره وجلت عظمته – إلينا نبياً من أنفسنا، نعرف أباه وأمه، فأمرنا نبينا، رسول ربنا أن نقاتلكم، حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية، وأخبرنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنة، في نعيم لم ير مثلها، ومن بقي منا ملك رقابكم)) (1) .
والمقصود قوله: ((أخبرنا نبينا عن رسالة ربنا)) فهذا من الإبلاغ الذي
_________
(1) انظر ((الصحيح)) (4/118) باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب.(2/545)
أبلغهم، وكل ما أخبرهم به من أمر، أو نهي، أو وعد، أو وعيد، أو قصص، عن الأنبياء وأممهم، أو غيرهم، وغير ذلك، فإنه من إبلاغ الرسالة التي أرسل بها.
ودل قوله: ((عن رسالة ربنا)) أن الرسالة تكون بالكلام الذي يخاطب به المرسل الرسول، وإبلاغ المرسل إليهم ذلك الكلام هو إبلاغ الرسالة، وإبلاغ الرسالة فعل الرسول وقوله وعمله، وهو غير الرسالة، وهو مخلوق.
فالرسالة قول المرسل، وأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وإخباره عن جزائه وغير ذلك، وهذا ليس فعلاً للرسول، بل كلام الله بأمره ونهيه.
*****
156- قال: ((حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: من حدثك أن محمداً – صلى الله عليه وسلم – كتم شيئاً.
- وقال محمد: حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: من حدثك أن النبي - صلى الله عليه وسلم – كتم شيئاً من الوحي، فلا تصدقه، إن الله تعالى يقول:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} .
هذا الحديث تقدم بعضه في باب قوله تعالى: {عَالِمُ الغَيبِ} .
وقولها: ((فلا تصدقه)) يعني: أن من زعم ذلك فهو كاذب، ولا يكفي أنه لا يصدق، بل لا يصح إسلامه، ويجب تعريفه أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – بلغ رسالة ربه فإن اعترف بذلك وآمن به وإلا قتل مرتداً.
ومقصودها – رضي الله عنها -: أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – بلغ جميع ما يلزم الأمة في دينها، وما يصلحها وينفعها، ولم يترك شيئاً مما ينبغي العمل به أو علمه(2/546)
واعتقاده إلا وأخبر به وبلغه كما أمر.
فكل ما لم يخبر به أو يأمر به أمته فليس من رسالته، وهو بدعة منكرة.
فيجب الوقوف مع ما جاء به من الكتاب والسنة، ولا بد أنه - صلى الله عليه وسلم - امتثل ما أمره الله به من إبلاغ الرسالة قولاً وعملاً، فبلغها على الوجه الأتم الأكمل.
وسبق أن إبلاغ الرسالة من فعله وقوله وعمله، وفعله وعمله مخلوق، فلا يلتبس ذلك بقول الله وكلامه الذي هو الرسالة، فهذا صفة الله، والإبلاغ فعل الرسول، وهذا التفريق هو ما قصده الإمام البخاري – رحمه الله -.
*****
157- قال: ((حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل، قال: قال عبد الله: قال رجل: يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله تعالى؟ قال: أن تدعو لله ندا وهو خلقك، قال: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزني حليلة جارك.
فأنزل الله تصديقها: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} الآية.
تقدم الكلام على هذا الحديث، ومقصوده هنا أن ما بلغه الرسول – صلى الله عليه وسلم – أمته، سواء كان من قوله الذي هو سنته، أو مما أنزله الله عليه قولاً لله – تعالى -، فإن ذلك كله من تبليغ الرسالة، فحين أخبر السائل بما هو أعظم الذنوب، أنزل الله عليه تصديق ما قاله من كلام الله الذي تعبد عباده بتلاوته، مع أنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وإنما عن الوحي الذي يوحيه الله إليه.(2/547)
قال الحافظ (1) : ((مناسبة هذا الحديث للترجمة أن التبليغ على نوعين:
أحدهما – وهو الأصل -: أن يبلغه بعينه، وهو خاص بما يتعبد بتلاوته، وهو القرآن.
وثانيهما: أن يبلغ ما يستنبط من أصول ما تقدم إنزاله، فينزل عليه موافقته فيما استنبطه، إما بنصه، وإما بما يدل على موافقته بطريق الأولى، كهذه الآية، فإنها اشتملت على الوعيد الشديد في حق من أشرك، وهي مطابقة للنص، وفي حق من قتل النفس بغير حق وهي مطابقة للحديث بطريق الأولى، لأن القتل بغير حق وإن كان عظيماً، لكن قتل الولد أشد قبحاً من قتل من ليس بولد القاتل، وكذا القول في الزناة، فإن الزنا بحليلة الجار أعظم قبحاً من مطلق الزنا.
ويحتمل أن يكون نزول هذه الآية سابقا على إخباره - صلى الله عليه وسلم - بما أخبر به، لكن لم يسمعها الصحابي إلا بعد ذلك.
ويحتمل أن يكون كل من الأمور الثلاثة (2) نزل تعظيم الإثم فيه سابقاً، ولكن اختصت هذه الآية بمجموع الثلاثة في سياق واحد مع الاقتصار عليها، فيكون المراد بالتصديق: الموافقة في الاقتصار عليها.
فعلى هذا فمطابقة الحديث للترجمة ظاهرة جداً، والله أعلم (3)
((واستدل أبو المظفر ابن السمعاني بآيات الباب وأحاديثه على فساد طريقة المتكلمين في تقسيم الأشياء إلى جسم وجوهر وعرض، وقالوا: الجسم: ما اجتمع من الافتراق، والجوهر: ما حمل العرض، والعرض: ما لا يقوم
_________
(1) أصل الكلام للكرماني: انظر شرحه (25/224) ، ولكن الحافظ تصرف فيه.
(2) يعني المذكور في الحديث، وهي الشرك، وقتل الولد خشية الفقر، والزنا بحليلة الجار.
(3) ((الفتح)) (13/507) .(2/548)
بنفسه، وجعلوا الروح من الأعراض، وردوا الأخبار في خلق الروح قبل الجسد، والعقل قبل الخلق (1) ، واعتمدوا على حدسهم، وما يؤدي إليه نظرهم، ثم يعرضون عليه النصوص، فما وافقه قبلوه، وما خالفه ردوه، ثم ساق الآيات ونظائرها مما فيه الأمر بالتبليغ.
قال: وكان مما أمر بتبليغه التوحيد، بل هو أصل ما أمر به، فلم يترك شيئاً من أمور الدين أصوله، وقواعده، وشرائعه إلا بلغه، ثم لم يدع إلى الاستدلال بما تمسكوا به من الجوهر والعرض، ولا يوجد عنه ولا عن أحد من أصحابه من ذلك حرف واحد فما فوقه.
فعرف بذلك أنهم ذهبوا خلاف مذهبهم، وسلكوا غير سبيلهم، بطريق محدث مخترع، لم يكن عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ولا أصحابه – رضي الله عنهم -.
ويلزم من سلوكه العود على السلف بالطعن، والقدح، ونسبتهم إلى قلة المعرفة، واشتباه الطرق.
فالحذر من الاشتغال بكلامهم، والاكتراث بمقالاتهم، فإنها سريعة التهافت، كثيرة التناقض، وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا وتجد لخصومهم عليه كلاماً يوازيه، أو يقاربه، فكل بكل مقابل، وبعض ببعض معارض، وحسبك من قبيح ما يلزم من طريقهم أنا إذا جربنا على ماقالوه، وألزمنا الناس بما ذكروه، لزم من ذلك تكفير العوام جميعاً؛ لأنهم لا يعرفون إلا الاتباع المجرد.
ولو عرض عليهم هذا الطريق ما فهمه أكثرهم، فضلاً عن أن يصير منهم صاحب نظر.
_________
(1) لم يصح بذلك خبر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، بل الأخبار تدل على نقيضه.(2/549)
وإنما غاية توحيدهم: التزام ما وجدوا عليه أئمتهم في عقائد الدين والعض عليها بالنواجذ، والمواظبة على وظائف العبادات، وملازمة الأذكار، بقلوب سليمة طاهرة عن الشبه والشكوك.
فتراهم لا يحيدون عما اعتقدوه، ولو قطعوا إرباً إرباً، فهنيئاً لهم هذا اليقين، وطوبى لهم هذه السلامة.
فإذا كفر هؤلاء، وهم السواد الأعظم، وجمهور الأمة، فما هذا إلا طي بساط الإسلام، وهدم منار الدين، والله المستعان)) (1) .
وتقدم بعض ما يتعلق بذلك في أول الكتاب.
*****
قال: ((باب قول الله تعالى: {قُل فَأتُواْ بِالتَورَاةِ فَاتَلُوهَا} .
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أعطي أهل التوراة، التوراة، فعملوا بها، وأعطي أهل الإنجيل، الإنجيل، فعملوا به، وأعطيتم القرآن، فعملتم به)) .
قال الحافظ: ((مراده بهذه الترجمة: أن يبين أن المراد بالتلاوة: القراءة، وقد فسرت التلاوة بالعمل، والعمل من فعل العامل)) (2) .
أقول: مراده: بيان أن التلاوة والقراءة فعل العباد، وأن المتلو غير التلاوة، والمقروء غير القراءة، كما سبق بيانه.
وهو ينوع الأدلة على ذلك ويكررها؛ ليتضح الأمر، ويتبين الحق؛ لأنه - رحمه الله - قد ابتلي بمن يقول: التلاوة هي المتلو، والقراءة هي المقروء،
_________
(1) ((الفتح)) (13/507) .
(2) ((الفتح)) (13/508) .(2/550)
وذلك غير مخلوق، ورمي بأنه يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، وقد صرح بأن ذلك كذب عليه.
قال شيخ الإسلام: (إذا قرأ الناس كلام الله، فالكلام في نفسه غير مخلوق إذا كان الله قد تكلم به، وإذا قرأه المبلغ لم يخرج بذلك عن كونه كلام الله، فإن الكلام كلام من قاله مبتدئاً، أمراً يأمر به، أو خبراً يخبره، وليس هو كلام المبلغ له عن غيره، إذ ليس على الرسول إلا البلاغ المبين.
وإذا قرأه المبلغ فقد يشار إليه من حيث هو كلام الله، فيقال: هذا كلام الله، مع قطع النظر عما بلغه به العباد من صفاتهم، وقد يشار إلى نفس صفة العبد، كحركته، وصوته، وقد يشار إليهما.
فالمشار إليه الأول غير مخلوق؛ لأنه كلام الله، والمشار إليه الثاني مخلوق، لأنه صفة العبد، والمشار إليه الثالث ومنه ما هو مخلوق، ومنه ما ليس بمخلوق.
وما يوجد في كلام الآدميين من نظير هذا، هو نظير صفة العبد، لا نظير صفة الرب.
وإذا قال قائل: القاف في قوله تعالى: {وَأقِم الصَّلاةَ لِذِكرِي} كالقاف في قول الشاعر ((قفا نبك من ذكرى حبيب؟)) .
قيل: ما تكلم الله به، وسمع منه، لا يماثل صفة المخلوقين.
ولكن إذا بلغنا كلام الله، فإنما نبلغه بصفاتنا، وصفاتنا مخلوقة، والمخلوق يماثل المخلوق.
وكلام المتكلم في نفسه واحد، فإذا بلغه المبلغون تختلف أصواتهم به، فإذا أنشد منشد قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
كان هذا الكلام كلام لبيد لفظه ومعناه، مع أن أصوات المنشدين له تختلف، وتلك الأصوات ليست صوت لبيد.(2/551)
وكذلك من روى حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – بلفظه، كقوله: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) كان هذا كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لفظه ومعناه، ويقال لمن رواه: أدى الحديث بلفظه، وإن كان صوت المبلغ ليس هو صوت الرسول.
فالقرآن أولى أن يكون كلام الله لفظه ومعناه، وإذا قرأه القراء فإنما يقرؤونه بأصواتهم.
ولهذا قال الإمام أحمد، وغيره من أئمة السنة: من قال: اللفظ بالقرآن – أو لفظي بالقرآن – مخلوق، فهو جهمي، ومن قال: إنه غير مخلوق، فهو مبتدع؛ لأن اللفظ يراد به مصدر لفظ يلفظ لفظاً، وذلك فعل العبد، ويراد به القول الذي يلفظ به اللافظ، وذلك كلام الله، لا كلام القارئ، فمن قال: إنه مخلوق فقد قال: إن الله لم يتكلم بهذا القرآن، وإن هذا الذي يقرأه المسلمون ليس هو كلام الله.
ومعلوم أن هذا مخالف لما علم بالاضطرار من دين الرسول.
وأما صوت العبد فهو مخلوق، وقد صرح أحمد وغيره أن الصوت المسموع صوت العبد، ولم يقل قط: إن من قال: صوتي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، وإنما قال: من قال: لفظي بالقرآن، والفرق بينهما واضح.
والفرق بين لفظ الكلام وصوت مبلغه فرق واضح.
فكل من بلغ كلام غيره بلفظ ذلك الغير، فإنما بلغ لفظ ذلك الغير لا لفظ نفسه، وهو إنما بلغه بصوت نفسه، لا بصوت ذلك الغير.
واللفظ، والقراءة، والتلاوة، والكتابة، ونحو ذلك، لما كان يراد به المصدر الذي هو حركات العباد، وما يحدث عنها من أصواتهم، وشكل المداد، ويراد به نفس الكلام الذي يقرأه التالي، ويتلوه، ويلفظ به، ويكتبه، منع أحمد وغيره من إطلاق النفي والإثبات الذي يقتضي جعل صفات الله مخلوقة، أو جعل(2/552)
صفات العباد ومدادهم غير مخلوق)) (1) .
ومما يدل على أن التلاوة فعل التالي، وأنها غير المتلو: قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ {91} وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ} (2) ، أي: وأمرت أن أتلو القرآن.
وقوله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ} (3) وغير ذلك من الآيات، فقد أمر الله عبده ورسوله بالتلاوة، كما أمره بالعبادة، فدل ذلك على أن التلاوة من العبادة التي يفعلها العبد، وتضاف إليه فعلاً له، ويثاب عليها، والأدلة على أن التلاوة غير المتلو كثيرة، قد ذكر المؤلف – رحمه الله – جملة كبيرة منها في كتابه: ((خلق أفعال العباد)) بالإضافة إلى ما ذكره في هذا الكتاب.
فمن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((زينوا القرآن بأصواتكم (4) وتقدم.
وحديث البراء عن عازب: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ في العشاء بالتين والزيتون، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً، أو قراءة منه)) .
فالقارئ يكون حسن الصوت وقبيح الصوت؛ لأنه فعله، وقد جعل الله اختلاف ألسنة الناس وألوانهم من الآيات الدالة عليه – تعالى – وعلى وجوب عبادته وحده، ولهذا اتفق العلماء على أنه لا يجوز الحلف بكلام أحد من الخلق؛ لأنه لا يجوز الحلف بالمخلوق، وكلامهم مخلوق.
قال البخاري – رحمه الله تعالى -: ((وليس لأحد أن يحلف بالمخلوقين، ولا بأعمالهم ولا بكلامهم، ولا كلام الكفار والمنافقين، ولا بقول إبليس.
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (12/71-75) ملخصاً.
(2) الآيتان 91، 92 من سورة النمل.
(3) الآية 27 من سورة الكهف.
(4) رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) (ص159-160) .(2/553)
فمن حلف بقول المجوس أو نحوهم لم يلزمه حنث.
وإنما يذكر عن ابن مسعود، وإبراهيم، وعن النبي – صلى الله عليه وسلم – مرسلاً: ((من حلف بسورة من القرآن فعليه بكل آية منها كفارة)) فأما أصوات المخلوقين فليس فيها كفارة)) (1) .
وقال: حدثنا محمد بن بشر، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر – رضي الله عنهما -: كان في خاتم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((محمد رسول الله)) .
وقد كتب النبي – صلى الله عليه وسلم – كتاباً فيه: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) وقرأه ترجمان قيصر، على قيصر وأصحابه.
ولا نشك في قراءة الكفار، وأهل الكتاب، أنها أعمالهم، وأما المقروء فهو كلام الله العزيز المنان، ليس بمخلوق، فمن حلف بأصوات قيصر، وبنداء المشركين الذين يقرون بالله، لم يكن عليه يمين دون الحلف بالله؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تحلفوا بغير الله)) .
وليس لأحد أن يحلف بالخواتيم، والدراهم البيض (2) ، وألواح الصبيان التي يكتبونها، ثم يمحونها مرة بعد مرة، وإن حلف، فلا يمين عليه؛ لقوله عز وجل: {فَلاَ تَجْعلُواْ للهِ أَندَاداً} (3) .
وقال: ((فإن احتج محتج فقال: قد روي ((إن فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه)) . قيل له: لو صح هذا الخبر لم يكن لك فيه حجة؛ لأنه قال: ((كلام الله)) ، ولم يقل: قول العباد المؤمنين والمنافقين، وأهل الكتاب، الذين يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم، وهذا واضح بيَّن عند من كان عنده أدنى معرفة، أن القرآن غير المقروء.
_________
(1) ((خلق أفعال العباد)) (ص196) عقائد السلف.
(2) يعني: التي كتب عليها اسم الله أو شيء من القرآن.
(3) ((خلق أفعال العباد)) (ص197) عقائد السلف.(2/554)
وليس لكلام الفجرة وغيرهم فضل على كلام غيرهم، كفضل الخالق على المخلوق، وتبارك ربنا وتعالى وعز وجل عن صفة المخلوقين.
وإن قال قائل: فقد روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه)) .
قيل له: أليس القرآن خرج منه، فخروجه منه ليس كخروجه منك، إن كنت تفهم، مع أن هذا الخبر لا يصح؛ لإرساله وانقطاعه.
فإن قال: فإن لم يكن الذي يتكلم به العبد قرآناً، لِمَ تُجْزِهِ صلاته؟
قيل له: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لا صلاة إلا بقراءة)) .
وقال أبو الدرداء: سئل النبي – صلى الله عليه وسلم -: أفي كل صلاة قراءة؟
فقال: ((نعم)) .
والقراءة هي التلاوة، والتلاوة غير المتلو، وقد بينه أبو هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((اقرءوا إن شئتم، يقول العبد: ((الحمد لله رب العالمين)) فيقول الله: حمدني عبدي، يقول العبد: ((الرحمن الرحيم)) يقول الله – عز وجل -: ((أثنى عليّ عبدي)) ، يقول العبد: ((مالك يوم الدين)) يقول الله: مجدني عبدي، يقول العبد: ((إياك نعبد وإياك نستعين)) ، يقول الله: هذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل)) .
فبيَّن أن سؤال العبد غير ما يعطيه الله للعبد، وأن قول العبد غير كلام الله، هذا من العبد الدعاء والتضرع، ومن الله الأمر والإجابة.
وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الصلاة أفضل؟ قال: ((طول القنوت)) .
فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن بعض الصلاة أطول من بعض، وأخف، وأن بعضهم يزيد على بعض في القراءة، وبعضهم ينقص، وليس في القرآن زيادة ولا نقصان، وأما التلاوة فإنهم يتفاضلون في الكثرة والقلة، والزيادة(2/555)
والنقصان، وقد يقال: فلان حسن القراءة، أو رديء القراءة، ولا يقال حسن القرآن، أو رديء القرآن، وإنما نسب إلى العباد القراءة، لا القرآن؛ لأن القرآن كلام الله – عز وجل -، والقراءة فعل العبد، ولا يخفي هذا القدر إلا على من أعمى الله قلبه (1) .
قال: ((وأما قوله: ((فهل يرجع إلى الله إلا باللفظ الذي تلفظ به)) (2) فإن كان الذي تلفظ به قرآناً فهو كلام الله؟ قيل له: ما قولك: تلفظ به؟ فإن اللفظ غير الذي تلفظ به؛ لأنك تلفظت بالله، وليس الله هو لفظك، وكذلك تلفظ بصفة الله، تقول: الله، وليس قولك: الله، هو الصفة، وإنما تصف الموصوف، فأنت الواصف، والله الموصوف بكلامه، كالواصف الذي يصف بكلام غير الله، وأما الموصوف بصفته وكلامه فهو الله)) (3) .
يعني: أن الذي يقرأ كلام الله، فما يلفظ به هو كلام الله، وليس هو كلام القارئ، وإنما للقارئ حركة لسانه وشفتيه وصوته، وذلك فعله.
وإذا قرأ صفة الله في القرآن التي وصف الله بها نفسه، فليس القارئ هو الواصف لله – تعالى – وإنما يتلفظ بصفة الله التي قالها الله – تعالى – واصفاً بها نفسه.
((قال الضحاك: لم يحرم الله على بني إسرائيل طعاماً، وإنما حرموه على أنفسهم اتباعاً لأبيهم، ثم أضافوا تحريمه لله – عز وجل – فكذبهم الله – تعالى – فقال: {قُل فَأتُواْ بِالتَورَاةِ} أي: قل يا محمد لهم: ائتوا بالتوراة، التي فيها التحريم والتحليل {فَاتَلُوهَا} أي: فاقرءوها؛ حتى يتبين
_________
(1) ((خلق أفعال العباد)) (ص199-200) .
(2) يعني المحتج بقول صلى الله عليه وسلم: ((إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه)) ، والعبد لا يرجع إلى الله إلا بعلمه، فيكون لفظه بالقرآن عمله.
(3) ((خلق أفعال العباد)) (ص204) .(2/556)
ما قلتم، {إِن كُنتُم صَادِقينَ} ، فيما ادعيتم، فلم يأتوا بها؛ خوفاً من الفضيحة)) (1)
فالتلاوة في هذه الآية هي القراءة، وهي فعل العبد وعمله، والمتلو كتاب الله وكلامه.
قوله: ((وقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((أعطي أهل التوراة التوراة)) إلى آخره، معنى ((أعطي)) هنا: أنزل عليهم، أي: أنزل الله التوراة على موسى، فعمل بها قومه، باتباعها وتلاوتها للتفهم والتعبد.
وأنزل الله الإنجيل على عيسى، فعمل به من شاء الله أن يعمل من النصارى بأن آمنوا به واتبعوه، وقرؤوه للفهم والعبادة ومثل ذلك أهل القرآن، ففي ذلك دليل على أن التلاوة من عمل العباد، وكسبهم، وأنها غير المتلو، كما تقدم إيضاح ذلك.
قوله: ((وقال أبو رزين: يتلونه حق تلاوته: يعملون به حق عمله)) .
أبو رزين هو: مسعود بن مالك الأسدي الكوفي، من كبار التابعين.
ومعنى ذلك أن التلاوة، يراد بها القراءة كما سبق، ويراد بها الاتباع والعمل.
قال الراغب: ((التلاوة تختص باتباع كتب الله المنزلة، تارة بالقراءة، وتارة بالارتسام لما فيها من أمر ونهي، وترغيب وترهيب وهو أخص من القراءة، فكل تلاوة قراءة، وليس كل قراءة تلاوة)) (2) .
_________
(1) ((تفسير الخازن)) (1/382) .
(2) ((المفردات)) (ص75) .(2/557)
وقال الأزهري: ((قال الليث: يقال: تلا يتلو، يعني: قرأ، قراءة، وتلا: إذا تبع، فهو تال، أي: تابع)) (1) .
((وقال أبو زيد في قوله – عز وجل -: {يَتلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتهِ} قال: يتبعونه حق اتباعه.
وقال مجاهد: يعملون به حق عمله.
وقال ابن عباس: يتبعونه حق اتباعه، فيعملون به حق عمله.
وقال أبو عبيدة في قوله: {وَاتَّبعُواْ مَا تَتلُواْ الشَّياطِينُ} قال: ما تتكلم به، كقولك: يتلو فلان كتاب الله، أي: يقرؤه، ويتكلم به.
وقال عطاء: {مَا تَتلُواْ الشَّياطِينُ} : ما تحدث، وما تقص)) (2) .
فتبين بهذا أن التلاوة تطلق على القراءة، وعلى الاتباع، وإذا قيل: تلاه حق تلاوته، يكون المعنى: عمل به حق عمله، يعني: العمل الكامل والاتباع في كل ما جاء به.
قوله: ((يقال: يتُلىَ: يُقرأ)) هذا تفسير لقوله تعالى: {أَنَّا أَنزَلنَا عَلَيكَ الكِتَابَ يُتلَىَ عَلَيهِم} أي: يقرأ عليهم.
قال ابن جرير: {يُتلَىَ عَلَيهِم} يقرأ عليهم، وذكر بسنده إلى يحيى بن جعدة أن ناساً من المسلمين، أتوا نبي الله – صلى الله عليه وسلم – بكتب قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود، فلما نظر فيها ألقاها، ثم قال: ((كفى بها حماقة قوم – أو ضلالة قوم – أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم، إلى قوم غيرهم)) فنزلت: {أَوَلَم يَكفِهم أَنَّا أَنزَلنَا عَلَيكَ الكِتَابَ يُتلَىَ عَلَيهِم
_________
(1) ((تهذيب اللغة)) (14/316) .
(2) المصدر المذكور (14/319) .(2/558)
إِنَ فيِ ذَلِكَ لَرَحمَةً وَذِكرَى لِقَومٍ يُؤمِنُونَ} (1) .
ومثل ذلك قوله تعالى: {وَيَستَفتُونَكَ فِي النِسَاءِ قُلِ اللهُ يُفتِيكُم فِيهِنَّ وَمَا يُتلَىَ عَلَيكُم فِي الكِتَابِ فِي يَتَامَى النّسَاءِ} ، والذي يتلى عليهم هو آيات الفرائض من المواريث وغيرها.
قال الحافظ: ((هذا الذي ذكر البخاري هو كلام أبي عبيدة في كتاب مجاز القرآن: {يُتلَىَ عَلَيهِم} يقرأ عليهم. وقوله: {وَمَا كُنتَ تَتلُواْ مِن قَبلِهِ مِن كِتَابٍ} ما كنت تقرأ كتاباً قبل القرآن)) (2) .
أقول: الآية التي ذكرها البخاري لم يتكلم عليها أبو عبيدة في كتابه مجاز القرآن، وهذه التي ذكرها غير تلك، فكيف يقال: إن ما ذكره البخاري هو كلام أبي عبيدة؟ وإن كان نظيراً له فليس هو (3) .
قوله: ((حسن التلاوة: حسن القراءة للقرآن)) .
يعني: أن التلاوة فعل العباد، وليس هي المتلو، ولهذا يوصف التالي بأنه حسن التلاوة، أو سيئها، ولا يجوز أن يوصف القرآن بذلك.
قال البخاري – رحمه الله -: ((القراءة لا تكون إلا من الناس، وقد تكلم الله بالقرآن من قبل، وكلامه قبل خلقه)) .
وسئل النبي – صلى الله عليه وسلم -: أي الصلاة أفضل؟ قال: ((طول القنوت)) ثم ذكر ماتقدم قريباً (4) .
_________
(1) ((تفسير الطبري)) (21/7) ، وقال السيوطي: أخرجه الدارمي، وأبو داود في المراسيل، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والإسماعيلي: انظر ((الدر المنثور)) (6/471) .
(2) ((الفتح)) (13/509) .
(3) انظر مجاز القرآن (2/116) .
(4) انظر ((خلق أفعال العباد)) (ص166) تحقيق بدر.(2/559)
قوله: ((لا يمسه)) لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن بالقرآن، ولا يحمله بحقه إلا الموقن؛ لقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1)
يعني: أن الطهارة المذكورة في قوله - تعالى - {لاَّ يَمَسُهُ إِلا المُطَهَّرُونَ} هي الطهارة من الشرك، والكفر، والغفلة والإعراض، ويتبع ذلك الذنوب.
قال الفراء: ((ويقال: لا يمسه: لا يجد طعمه ونفعه إلا المطهرون، من آمن به)) (2) .
((وهذا من باب الاعتبار والقياس؛ لأنه إذا كان ورق المصحف لا يمسسه إلا المطهرون، فمعانيه لا يهتدي بها إلا القلوب الطاهرة.
ومثل هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب)) فإذا كان الملك لا يدخل البيت الذي فيه كلب، فكذلك المعاني التي تحبها الملائكة لا تدخل القلب الذي فيه أخلاق الكلاب)) (3) .
قال الحافظ: ((حاصل هذا التفسير، أن معنى: لا يمس القرآن: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به، وأيقن بأنه من عند الله، فهو المطهر من الكفر، ولا يحمله بحقه إلا المطهر من الجهل والشك، لا الغافل عنه الذي لا يعمل [به] فيكون كالحمار الذي يحمل ما لا يدريه)) (4) .
((وعلى القول بأن المراد بقوله تعالى: {لاَّ يَمَسُهُ إِلا المُطَهَّرُونَ}
_________
(1) الآية 5 من سورة الجمعة.
(2) ((معاني القرآن)) (3/130) .
(3) ((مجموع الفتاوى)) (5/551-552) بتصرف.
(4) ((الفتح)) (13/509) .(2/560)
هو اللوح المحفوظ، أو المصحف، فكما أن اللوح المحفوظ الذي كتب فيه حروف القرآن لا يمسه إلا بدن طاهر، فكذلك معاني القرآن لا يذوقها إلا القلب الطاهر، وهو قلب المتقي. وهذا قول طائفة من السلف)) (1) .
((والصحيح أنه يجب الوضوء لمس المصحف، وهو مذهب الأئمة الأربعة؛ لما في الكتاب الذي كتبه النبي – صلى الله عليه وسلم – لعمرو بن حزم، وفيه ((وأن لا يمس القرآن إلا طاهر)) . وقال الإمام أحمد: لا شك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كتبه له. وهذا هو المعروف عن الصحابة، سعد، وسلمان، وابن عمر)) (2) .
واختلف أقوال السلف في المراد بالكتاب، وبالمطهرين: فقيل: الكتاب هو: ما بأيدي الملائكة، كما في قوله تعالى: {فَمَن شَاء ذَكَرَهُ {12} فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ {13} مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ {14} بِأَيْدِي سَفَرَةٍ {15} كِرَامٍ بَرَرَةٍ} ، وهذا اختيار الإمام مالك، فعلى هذا يكون المراد بالمطهرين: الملائكة.
وقيل: المراد بالكتاب: المصحف الذي كتب فيه القرآن. وقال القرطبي: وهو الأظهر، واستدل بما في كتابه – صلى الله عليه وسلم – لعمرو بن حزم، وبحديث ابن عمر: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (لا تمس القرآن إلى وأنت طاهر)) وبقول أخت عمر له، لما دعا بالصحيفة قبل أن يسلم: ((لا يمسه إلا المطهرون)) (3) .
وقال ابن كثير: ((وقال آخرون: {لاَّ يَمَسُهُ إِلا المُطَهَّرُونَ} من الجنابة والحدث، فلفظ الآية خبر، ومعناها الطلب)) .
والمراد بالقرآن ها هنا: المصحف، كما روى مسلم، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، مخافة أن يناله العدو)) . واحتجوا
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (13/242) .
(2) المرجع قبله (21/288، 266) ببعض التصرف.
(3) انظر تفسير القرطبي (17/225- 226) .(2/561)
بما في كتاب عمرو بن حزم، وبما روى أبو داود في المراسيل من حديث الزهري، قال: قرأت في صحيفة عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((ولا يمسن القرآن إلا طاهر)) . وهذه وجادة جيدة، ومثل هذا ينبغي الأخذ به.
وقد أسنده الدارقطني، عن عمرو بن حزم، وعبد الله بن عمر، وعثمان بن أبي العاص، وفي إسناد كل منها نظر)) (1) .
((قال ابن عبد البر: كتاب ابن حزم روي مسنداً من وجه صالح، وهو كتاب مشهور عند أهل السير، معروف عند أهل العلم، معرفة يستغنى بها في شهرتها عن الإسناد)) (2) .
قوله: ((وسمى النبي – صلى الله عليه وسلم -: الإسلام والإيمان والصلاة: عملاً)) .
قال الحافظ: ((أما تسمية الإسلام عملاً، فاستنبطه من حديث سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه ورسله، وقال عن الإسلام: أن تسلم وجهك لله وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)) الحديث.
فسمى الإيمان، والإسلام، والصلاة بقراءتها، وما فيها من حركات الركوع والسجود فعلاً)) (3) .
قلت: الظاهر أن مراده: ما ذكره في ((خلق أفعال العباد)) ، حيث قال: حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سئل النبي – صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟
_________
(1) ((تفسير ابن كثير)) (8/22) ملخصاً.
(2) انظر ((الموطأ)) (1/199) .
(3) ((الفتح)) (13/509) .(2/562)
قال: ((إيمان بالله، وجهاد في سبيله)) ، ورواه في ((الصحيح)) من حديث أبي ذر، في العتق، في باب أي الرقاب أفضل، ورواه في كتاب الإيمان، باب من قال: إن الإيمان هو العمل؛ لقوله تعالى: {وَتِلكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثتُمُوهَا بِمَا كُنتُم تَعمَلُونَ} وفي أماكن أخر، وسيأتي في آخر الكتاب.
وقال بعد ما ذكره في ((خلق أفعال العباد)) : ((فجعل النبي – صلى الله عليه وسلم – الإيمان والتصديق، والجهاد، والخير، عملاً)) (1) .
وهذا واضح جداً، ولم يختلف فيه أهل السنة، وهو دليل على أن القراءة ليست هي المقروء؛ لأنها من عمل القارئ الذين يؤجر عليه.
وإذا ثبت أن الإيمان من عمل المؤمن، فمثله الإسلام؛ لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – جعل الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت.
وأما كون الصلاة عملاً فهو ظاهر جداً.
قوله: ((وقال أبو هريرة: قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لبلال: ((أخبرني بأرجى عمل عملته في الإسلام؟ قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر إلا صليت) .
ذكر هذا الحديث بسنده موصولاً في مناقب بلال، ووجه الدلالة منه: أنه سمى الصلاة عملاً، مع ما فيها من القراءة والتكبير، والتسبيح والتحميد، وغير ذلك.
قوله: ((وسئل: أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله، ثم جهاد، ثم حج مبرور)) .
تقدم قريباً، والاستدلال به واضح، فإنه جعل الإيمان والجهاد والحج عملاً.
*****
_________
(1) انظر ((خلق أفعال العباد)) (ص48-53) .(2/563)
158- قال: ((حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله، أخبرنا يونس، عن الزهري، أخبرني سالم، عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إنما بقاؤكم فيمن سلف من الأمم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة، التوراة، فعملوا بها حتى انتصف النهار، ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتي أهل الإنجيل، الإنجيل، فعملوا به حتى صليت العصر، ثم عجزوا، فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس، فأعطيتم قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: هؤلاء أقل منا عملا، وأكثر أجرا؟ قال الله: هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا: لا. فقال: فهو فضلي أوتيه من أشاء)) .
تقدم هذا الحديث في باب المشيئة والإرادة، ومعنى قوله: ((إنما بقاؤكم فيمن سلف من الأمم)) أن بقاء هذه الأمة في الدنيا كنسبة ما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس بالنسبة لليوم.
فالمعنى: أن مدة هذه الأمة بالنسبة إلى من سبقها من الأمم قليلة.
وإذا كان مدة مجموع الأمة قليلة، لزم أن يكون عمر كل فرد منها قصيراً، وكأن الحديث قصد به الإخبار بقلة بقاء هذه الأمة في الدنيا، وبكثرة أجرها، وفضلها، ولذلك ضرب المثل لها ولأهل الكتاب؛ لأن اليهود والنصارى، وهذه الأمة كلهم أعطوا كتبا جاءتهم من الله ليعملوا بها، ورواية الترمذي توضح ذلك، ونصها:
((إنما أجلكم فيما خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغارب الشمس، وإنما مثلكم، ومثل اليهود والنصارى، كرجل استعمل عمالاً، فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط، فعملت اليهود على قيراط قيراط.(2/564)
ثم أنتم تعملون من صلاة العصر إلى مغارب الشمس على قيراطين قيراطين، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: نحن أكثر أعمالاً، وأقل عطاء؟
قال: هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا: لا. قال: فإنه فضلي أوتيه من أشاء)) هذا حديث حسن صحيح)) (1) .
ففي هذا أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن شيئين: أحدهما: مدة بقاء هذه الأمة في الدنيا بالنسبة لمن سبقها من الأمم، وأنه مثل نسبة ما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس بالنسبة لليوم الكامل.
والثاني: مثل هذه الأمة، ومثل اليهود والنصارى، فعلى هذا لا يكون قوله: ((أوتي أهل التوراة)) إلى آخره شرح وتفصيل لما تقدم، كما قاله الحافظ، وإنما هو كلام مستأنف، أريد به بيان فضل هذه الأمة على اليهود والنصارى، وكثرة أجورها.
قوله: ((أوتي أهل التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار، ثم عجزوا)) كأنه أريد منهم أن يعلموا جميع النهار، ولهذا قال: ((ثم عجزوا)) أي: عن العمل بقية النهار.
قوله: ((فأعطوا قيراطاً قيراطاً)) أي: كل فرد منهم أعطي قيراطاً.
قوله: ((ثم أوتي أهل الإنجيل)) إلى آخره، مثل سابقه.
((ثم أوتيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس)) أي: أن هذه الأمة أكملت العمل الذي طلب من اليهود والنصارى فعجزوا عن أدائه، فلذلك أعطوا ضعفي ما أعطي من قبلهم من الأجر.
ويفهم منه أن هذه الأمة يستمر عملها بالقرآن إلى قيام الساعة؛ لأنه
_________
(1) ((جامع الترمذي)) (5/153) .(2/565)
قال: ((فعملتم به حتى غربت الشمس)) ، كما يدل على حسد اليهود والنصارى للمسلمين على ما هم عليه من الحق، ويدل على عظم فضل الله على هذه الأمة.
والمقصود منه في هذا الباب قوله: ((أوتي أهل التوراة) إلى آخره.
فإنه يدل على أن العمل فعل العباد، ومن ذلك قراءة الكتاب الذي أوتوه، وتلاوته، وأن ما يعطيه الله العبد غير عمله، بل هو جزاء عمله.
وكذلك الكتاب الذي آتاه الله اليهود والنصارى، والمسلمين ليس هو عملهم وتلاوتهم، فالذي أوتوه وحي أنزله الله على رسله إليهم، وعملهم به هو فعلهم من تلاوته، وامتثال أوامره، والانتهاء عن مناهيه.
قال في ((خلق أفعال العباد)) : ((باب قول الله عز وجل: {فَأتُواْ بِالتَّوراةِ فَاتلُوهَاَ إِن كُنتُم صَادِقِينَ} ، وقال تعالى: {وَمِن آيَاتِهِِ خَلقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاختِلافُ أَلسِنتِكُم وَأَلوانِكُم} فمنها العربي، ومنها العجمي، فذكر اختلاف الألسنة والألوان، وهو كلام العباد، وقال تعالى: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لّيِ عَمَليِ وَلَكُم عَمَلُكُم أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا أَعمَلُ وَأَنَا بَرِئٌ مِمَّا تَعمَلُونَ} .
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل)) .
فبين أن قيامه بالكتاب هو فعله.
وقال الله تعالى: {وَافعَلوُاْ الخَيرَ} . فأثبت الخير منهم فعلاً)) (1) .
معنى: قيام العبد بالكتاب هو: فعل العبد الذي يجازى عليه، وليس هو الكتاب، وبهذا يتضح مراده بهذه النصوص.
*****
_________
(1) ((خلق أفعال العباد)) (ص195-197) ملخصاً.(2/566)
قال: ((باب: وسمى النبي – صلى الله عليه وسلم – الصلاة عملاً. وقال: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) .
يعني: أن الصلاة فعل من أفعال العباد، وفيها قراءة القرآن، وأقل ذلك قراءة الفاتحة؛ لأن الصلاة لا تصح بدون قراءة الفاتحة، فتبين بذلك أن القراءة ليست هي المقروء، وإنما هي عمل العبد وفعله وكسبه، فالقراءة من جملة الصلاة، وقد سمى النبي – صلى الله عليه وسلم – الصلاة كلها عملاً.
*****
159- قال: ((حدثني سليمان، حدثنا شعبة، عن الوليد، وحدثني عباد بن يعقوب الأسدي، أخبرنا عباد بن العوام، عن الشيباني، عن الوليد بن العيزار، عن أبي عمرو الشيباني، عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أن رجلا سأل النبي – صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله)) .
الرجل السائل هو ابن مسعود كما صرح به في الرواية الأخرى.
وهو يدل على حرص الصحابة على فعل الأفضل، وتحريهم الأعمال الفاضلة في التقديم؛ لأن عمر الإنسان قصير، وربما شغل عن كثير من العمل، وفي كثير من الأوقات.
قال ابن دقيق العيد: ((سؤاله عن أفضل الأعمال طلبا لمعرفة ما ينبغي تقديمه، وحرصا على معرفة الأصل؛ ليتأكد القصد إليه، وتشتد المحافظة عليه، ولعله أراد بالأعمال هنا: الأعمال البدنية، كما قال الفقهاء: ((أفضل عبادات البدن: الصلاة)) ، فلا تكون أعمال القلوب داخله فيه، فعلى هذا لا تعارض بينه وبين حديث أبي هريرة: ((أفضل الأعمال إيمان بالله)) (1) .
_________
(1) ((شرح العمدة)) (1/131-132) ملخصاً.(2/567)
وقال الحافظ: ((محصل ما أجاب به العلماء عن الأحاديث التي اختلفت فيها الأجوبة، بأن كل واحد منها أفضل الأعمال، أن الجواب اختلف؛ لاختلاف أحوال السائلين، بأن أعلم كل قوم بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبة، أو بما هو لائق بهم. أو كان الاختلاف، باختلاف الأوقات، بأن يكون العمل في وقت أفضل منه في غيره، فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضل الأعمال، أو أن ((أفضل)) ليست على بابها، بل المراد بها الفضل المطلق)) (1) .
((الصلاة لوقتها)) يعني: في الوقت الذي عينه الشارع، وهو وقت الاختيار.
وبر الوالدين: التوسع في الإحسان إليهما، وضده العقوق.
ويراد بالبر أيضا التوسع في فعل الطاعة، كما في قوله تعالى: {ٍ لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} إلى آخر الآية (2) .
والجهاد: استفراغ الوسع وبذل الجهد في قتال العدو ومدافعته، وهو ثلاثة أنواع: جهاد العدو الظاهر من الكفار وغيرهم.
وجهاد العدو الخفي، وهو الشيطان، وجهاد النفس، وكلها يشملها الحديث، وتدخل في قوله تعالى: {وَجَهِدُواْ بِأَموَالِكُم وَأَنفُسِكُم فِي سَبِيِل اللهِ} وغير ذلك من النصوص الآمرة بالجهاد.
والمقصود من الحديث هنا: تسمية الصلاة عملاً، حيث أجاب النبي – صلى الله عليه وسلم –
_________
(1) ((الفتح)) (2/9) ملخصاً.
(2) الآية 177 من سورة البقرة.(2/568)
السائل الذي قال: أي الأعمال أفضل؟ فقال: ((الصلاة لوقتها)) فجعلها عملاً، ومعلوم أن الصلاة فيها قراءة القرآن، فدل على أن القراءة من عمل العبد؛ لأنها فعل القارئ، كما سبق، وتقدم نقل كلام البخاري في هذا، وقوله: ((قد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن سؤال العبد غير ما يعطيه الله للعبد، وأن قول العبد غير كلام الله، هذا من العبد الدعاء والتضرع، ومن الله الأمر والإجابة.
والقراءة لا تكون إلا من الناس، وقد تكلم الله بالقرآن من قبل، وكلامه قبل خلقه)) (1) . يعني: أنه جعل القراءة إلى إرادة المخاطبين في قوله: ((إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي، وقول العبد: الحمد لله)) الخ، هي قراءته، فهو يقرأ الفاتحة، وهي من كلام الله - تعالى -.
وقوله: ((وقد تكلم الله بالقرآن من قبل، وكلامه قبل خلقه)) يعني: جنس الكلام؛ لأن الكلام هو الذي يوجد به الخلق عندما يقول الله له: كن، يكون موجوداً، ولا يدل ذلك على أن القرآن قديم، كما يقول أهل البدع، فالله تكلم بالقرآن ثم أنزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
قال: باب قول الله - تعالى -: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا {19} إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا {20} وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} هلوعاً: ضجوراً.
قال ابن جرير: ((الهلع: شدة الجزع، مع شدة الحرص والضجر)) وروى بسنده عن بن عباس: ((الهلع هو: الجزوع الحريص، وعن سعيد بن جبير: هلوعاً: شحيحاً جزوعاً.
_________
(1) انظر ((خلق أفعال العباد)) (ص164) .(2/569)
وعن عكرمة: ضجوراً، وقال الضحاك: بخيل منوع للخير، جزوع إذا نزل به البلاء)) (1) .
وقال الفراء: ((الهلوع: الضجور، وصفته كما قال الله – تعالى: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا {20} وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} فهذه صفة الهلوع. ويقال منه: هلع، يهلع هلعاً، مثل جزع، يجزع جزعاً)) (2) .
وقال المبرد: ((الهلع: من الجبن عند ملاقاة الأقران، يقال: نعوذ بالله من الهلع. ويقال: رجل هلوع، إذا كان لا يصبر على خير، ولا شر، حتى يفعل في كل واحد منهما غير الحق، قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا {19} إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا {20} وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (3) .
وكل هذه الأقوال متفقة في المعنى، والمعنى: أن هذه الأوصاف المذكورة خلقت في الإنسان، ولكنها فعله الذي يصدر منه عن إرادته، فيلام عليها أو يثنى عليه بها، فهو ضجور غير ثابت، قليل الصبر، ومنوع هلوع، فإذا أصابه الخير منع، وإذا وقع في شدة جزع، وذلك كله فعله المضاف إليه فعلاً له على الحقيقة، والله خلقه على ذلك، فدل هذا على أن الله – تعالى – خالق أفعال الإنسان كما أنه خالقه.
قال الحافظ: ((مقصود البخاري: أن الصفات المذكورة بخلق الله – تعالى – في الإنسان، لا أن الإنسان يخلقها بفعله)) (4)
_________
(1) ((تفسير الطبري)) (29/78) .
(2) ((معاني القرآن)) (3/185) .
(3) ((الكامل)) (3/1092) .
(4) ((الفتح)) (13/511) .(2/570)
160- قال: ((حدثنا أبو النعمان، حدثنا جرير بن حازم، عن الحسن، حدثنا عمرو بن تغلب، قال: أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – مال فأعطى قوما، ومنع آخرين، فبلغه أنهم عتبوا، فقال: ((إني أعطي الرجل، وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، أعطي أقواما لما في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب، فقال عمرو: ما أحب أن لي بكلمة النبي - صلى الله عليه وسلم – حمر النعم)) .
عمرو بن تغلب، النمري، من النمر بن قاسط، ويقال: العبدي، من عبد القيس من أهل جواثا، قرية من قرى البحرين، صحابي جليل القدر.
روى عنه الحسن البصري، ولم يرو عنه غيره، فيما قاله غير واحد.
وقال ابن عبد البر: روى عنه أيضا الحكم بن الأعرج، وعداده في أهل البصرة، وهو كغيره من كثير من الصحابة الذين لم تعرف أخبارهم، ولم تدون مآثرهم، فعليهم رضوان الله ورحمته أجمعهم)) (1) .
قوله: ((أتي النبي - صلى الله عليه وسلم- مال)) الخ، هذا المال إما من الخمس الذي أفاءه الله على رسوله، أو من الغنائم، أو من الزكاة.
وفي الرواية التي ذكرها البخاري في الجمعة: ((أتى بمال، أو سبي)) (2) .
وكانت سنته - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا جاءه شيء من المال وزعه في مصالح الإسلام ولا يدخر شيئا، ومن المصالح: إعطاؤه من لم يتمكن الإسلام من قلوبهم، فيؤثروا
_________
(1) انظر ((تهذيب الكمال)) (2/1027) مخطوط، ورجال البخاري للكلاباذي (2/537) .
(2) انظر ((الفتح)) (2/403) .(2/571)
الآخرة على الدنيا، يعطيهم خوفاً عليهم من الجزع، وعدم الصبر، فيتزعزع إيمانهم، فهذا الذي جعله يعطي قوماً، ويمنع آخرين، يمنع كُمَّلَ الإيمان الذين ذاقوا طعمه وحلاوته، التي لا تعادلها الدنيا بأسرها، بل ولا شيئاً منه، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((وأَكِلُ أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير)) .
((فبلغه أنهم عتبوا)) قال الأزهري: ((قال ابن شميل، وابن المظفر: العتب: الموجدة، تقول: عتب فلان على فلان، إذا وجد عليه)) (1) .
والمعنى: أنه صار في نفوسهم عليه شيء بسبب منعهم من هذا المال؛ لأنهم يرون أنهم أحق من غيرهم، وذلك لخفاء الأمر عليهم، وإلا فالمتعين الرضا بما يفعله الرسول – صلى الله عليه وسلم – والتسليم لأمره وفعله، وهذا شأن الصحابة رضوان الله عليهم غالباً.
((فقال: إني أعطي الرجل، وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي)) الخ.
يعني: أن تخصيصه بعض الناس بالعطاء ليس دليلاً على أنه - صلى الله عليه وسلم - يحب المعطي أكثر من غيره، بل يعطيه خوفاً عليه من الجزع، وعدم الصبر على بلوى الإعواز، وقلة ذات اليد، فإذا لم يحصل لهؤلاء ما يتطلعون إليه من العطاء كان ذلك عونا للشيطان عليهم، في إرجاعهم عن الإسلام، أو اعتراضهم على النبي – صلى الله عليه وسلم -، فيكون في ذلك هلاكهم.
أما الذين أودع الله في قلوبهم الخير والغنى بالإسلام ومحبته والرغبة فيه، والرجاء لما أعد الله لهم في الآخرة، فإنهم أحب إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ممن أعطاهم من ذلك المال وغيره، ولم يثنه عن عطائهم إلا ما علمه من الغنى في قلوبهم، وثقتهم بوعد الله لهم، وإيمانهم الذي لا يتزعزع، وحبهم لله ورسوله، بحيث يحبون ما أحبه الله ورسوله، فلا يرون أن غير ما فعله أحسن مما فعله.
_________
(1) ((تهذيب اللغة)) (2/277) .(2/572)
قال الحافظ: ((وفيه أن الرزق في الدنيا ليس على قدر درجة المرزوق في الآخرة، ففي الدنيا تقع العطية والمنع بحسب السياسة الدنيوية، فكان – صلى الله عليه وسلم – يعطي من يخشى عليه الجزع والهلع لو مُنع، ويمنع من يثق بصبره واحتماله، وقناعته عنه بثواب الآخرة.
وفيه أن البشر جبلوا على حب العطاء وبغض المنع، والإسراع إلى إنكار ذلك قبل الفكرة في عاقبته، إلا من شاء الله.
وفيه أن المنع قد يكون خيراً للممنوع، كما قال تعالى: {وَعَسَىَ أَن تَكرَهُواْ شَيئاً وَهُوَ خَيرٌ لَّكُم} ومن ثم قال الصحابي: ((ما أحب أن لي بتلك الكلمة حمر النعم)) ، والباء في قوله: ((بتلك)) للبدلية، أي: ما أحب أن لي بدل كلمته [النوق الحمر] ؛ لأن الصفة المذكورة تدل على قوة إيمانه المفضي به إلى دخول الجنة، وثواب الآخرة خير وأبقى.
وفيه استئلاف من يخشى جزعه، أو يرجى بسبب إعطائه طاعة من يتبعه، والاعتذار إلى من ظن ظناً، والأمر بخلافه)) (1) .
والمقصود من الحديث، قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لما في قلوبهم من الجزع، والهلع)) ، وقوله: ((وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير)) ، فإن الهلع والجزع، وكذلك غنى القلب والإيمان، كل ذلك وصف للإنسان، وهو فعله وعمله، والله خالقه.
فإن الله خلق الإنسان وخلق أفعاله، فجعله فاعلاً لهذه الأشياء.
قال الكرماني: ((الغرض من هذا الباب: إثبات أن أخلاق الإنسان، من الهلع، وضده، الضجر، وعدمه، والانقياد، والامتناع، وغيرهما، بخلق الله تعالى)) (2) .
********
_________
(1) ((الفتح)) (13/511) .
(2) انظر ((شرح الكرماني)) (24/227-228) .(2/573)
قال: ((باب ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم -، وروايته عن ربه)) .
قال العيني: ((أي: هذا باب في ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه – أي بدون واسطة جبريل – صلى الله عليه وسلم – ويسمى بالحديث القدسي)) (1) .
وكذا قال أكثر الشراح.
وقال الحافظ: ((يحتمل أن تكون الجملة لأولى محذوفة المفعول، والتقدير: ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – ربه عز وجل.
ويحتمل أن يكون ضمن الذكر معنى التحديث، فعداه بعن، فيكون قوله: ((عن ربه)) متعلق بالذكر والرواية معا، وقد ترجم هذا في كتاب: ((خلق أفعال العباد)) ، بلفظ: ما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يذكر ويروي عن ربه)) وهو أوضح)) (2) .
وأقول: إن مراده أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – يروي عن ربه ما قاله – تعالى – وأنزل عليه، فالرسول – صلى الله عليه وسلم – يذكر بلفظه الذي هو فعله كلام ربه تعالى – وكلام الله – تعالى -، غير فعل الرسول ولفظه، فاللفظ للرسول والملفوظ به هو كلام الله، فهذا الباب كسابقه مما فيه التفريق بين فعل العبد المخلوق، وبين ما هو وصف لله غير مخلوق، وهذا هو الذي تتفق معه الأحاديث التي ذكرها، والله أعلم.
*****
161- قال: ((حدثني محمد بن عبد الرحيم، حدثنا أبو زيد سعيد بن الربيع الهروي، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – يرويه عن ربه عز وجل: ((قال: إذا تقرب العبد إلي شبرا، تقربت إليه ذراعا، وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، وإذ أتاني مشيا أتيته هرولة)) .
_________
(1) ((عمدة القاري)) (25/188) .
(2) ((الفتح)) (13/512) .(2/574)
قال شيخ الإسلام: ((ظاهر الخطاب أن أحد التقديرين من جنس الآخر، وكلاهما مذكور بلفظ المساحة.
فلا يخلو إما أن يكون ظاهر اللفظ في تقرب العبد إلى ربه هو تقرب بالمساحة المذكورة، أو لا يكون.
فإن كان ذلك هو ظاهر ذلك اللفظ، فإما أن يكون ممكنا، أو لا يكون.
فإن كان ممكنا، فالآخر أيضا ممكن، ولا يكون في ذلك مخالفة للظاهر.
فإن لم يكن ممكنا فمن أظهر الأشياء للإنسان علمه بنفسه وسعيه، فيكون قد ظهر للمخاطب معنى قربه بنفسه.
وقد علم أن قرب ربه إليه من جنس ذلك، فيكون الآخر أيضا ظاهرا في الخطاب، فلا يكون ظاهر الخطاب هو المعنى الممتنع، بل ظاهره هو المعنى الحق.
ومن المعلوم أنه ليس ظاهر الخطاب أن العبد يتقرب إلى الله بحركة بدنه شبرا، وذراعا, ومشيا، وهرولة)) (1) .
وبهذا يظهر معنى الحديث، وأنه ليس المراد منه: التقرب إلى الله – تعالى – بحركة البدن بهذه المقادير، والهيئة، وإنما المقصود التقرب إلى الله – تعالى – بالإنابة والرجوع وإقبال القلب، وفعل الطاعات التي تقرب العبد إلى ربه، وقد قال الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)) (2) .
وتقدم أن قرب الله – تعالى – ودنوه من بعض مخلوقاته لا يستلزم خلوه من فوق عرشه، بل يقرب إلى من يشاء من عباده وهو فوق عرشه، لا يكون
_________
(1) ((نقض التأسيس)) (3/21-92) مخطوط.
(2) سبق تخريجه في الجزء الأول.(2/575)
شيء من خلقه فوقه أبداً، ولما قرب كليمه موسى إليه نجيا كان – جل وعلا – فوق عرشه، وكذلك غير موسى إذا قربه إليه، فإنه يقرب إليه وهو فوق عرشه – تعالى وتقدس -، وسبق الكلام على هذا الحديث (1) .
والشاهد من الحديث قوله: ((يرويه عن ربه – عز وجل – قال: إذا تقرب)) إلى آخره، فالرسول – صلى الله عليه وسلم – يروي عن ربه هذا الكلام، الذي تكلم الله به فرواه عنه، سواء كان ذلك بواسطة جبريل – وهو الظاهر – أو بغير واسطة، والصحابة سمعوا هذا الكلام بلفظ الرسول – صلى الله عليه وسلم، وصدقوه بأنه كلام الله ورواه رسوله عنه.
*****
162- قال: ((حدثنا مسدد، عن يحيى، عن التيمي، عن أنس بن مالك، عن أبي هريرة، قال ربما ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا تقرب العبد مني شبرا تقربت منه ذراعا، وإذا تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا – أو بوعا)) .
الباع معروف، وهو قدر مد اليدين، من أطراف أصابع اليد إلى أطراف الأصابع الأخرى، والبوع بفتح الباء مصدر باع، وبالضم جمع باع.
قوله: ((وقال معتمر: سمعت أبي، سمعت أنسا، عن أبي هريرة، عن ربه – عز وجل -.
قصده التصريح بأنه مرفوع، وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – رواه عن ربه – عز وجل -.
******
163- قال: ((حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربكم، قال: ((لكل عمل كفارة، والصوم لي، وأنا أجزي به، ولخلوف فم
_________
(1) يراجع الجزء الأول (ص339) .(2/576)
الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)) .
قوله: ((لكل عمل كفارة)) يعني: جزاء وثوابا معينا، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ولكن الصوم يضاعف بدون حساب.
والسبب أنه يكون خالصا؛ لأنه سر بين العبد وربه فإنه يمكنه أن يظهر للناس أنه صائم وهو يأكل في الخفاء، فإذا التزم العبد الصوم دل على خوفه من الله، ورجائه لثوابه، وتقدم شرح الحديث المقصود منه ظاهر، وهو كالذي قبله.
*****
164- قال: ((حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة، عن قتادة. ح.
وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه، قال: ((لا ينبغي لعبد أن يقول: إنه خير من يونس بن متى)) ، ونسبه إلى أبيه)) .
يونس بن متى، هو نبي كريم من أنبياء الله - تعالى - الذين جاءوا بالهدى والنور؛ لإخراج الناس من الظلمات.
((قال العلماء: إنما قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك تواضعا، إن كان قاله بعد أن علم أنه أفضل الخلق، وإن كان قاله قبل علمه بذلك فلا إشكال.
وقيل: خص يونس - عليه السلام - بهذا القول؛ لما يخشى عليه من سمع قصته أن يقع في نفسه تنقص له، فبالغ - صلى الله عليه وسلم - في ذكر فضله؛ لسد هذه الذريعة.
وقد روى قصته السدي بأسانيده، عن ابن مسعود وغيره: أن الله بعث يونس إلى أهل نينوى - وهي من أرض الموصل - فكذبوه، فوعدهم بنزول(2/577)
العذاب في وقت معين، وخرج عنهم مغاضبا لهم، فلما رأوا آثار ذلك خضعوا لله، وتضرعوا، وآمنوا فرحمهم الله، وكشف عنهم العذاب، وذهب يونس، وركب سفينة فلجّت به، فاقترعوا فيمن يطرحونه فوقعت القرعة عليه ثلاثا، فطرحوه، فالتقمه الحوت)) (1) {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَ إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبحَانَك إِنِي كُنتُ مِنَ الظَّالِمينَ} فاستجاب الله له، وأمر الحوت بطرحه على ساحل البحر، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين تظله)) والظلمات هي ظلمات البحر، وظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل.
وما ذكره من أنه خص بالذكر إلى آخره، هو المناسب لما جاء من النهي عن المفاضلة بين الأنبياء؛ لئلا يفضي ذلك إلى تنقص أحد منهم.
ولهذا جاء في رواية لهذا الحديث ذكرها البخاري في الأنبياء بلفظ ((ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس)) .
وفي أخرى: ((لا يقولن أحدكم: إني خير من يونس)) (2) .
قال الحافظ: ((وعند الطبراني: ((لا ينبغي لأحد أن يقول)) إلى آخره.
وفي أخرى عنده: ((ما ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس)) .
وهذا يؤيد أن المراد تفضيله على النبي – صلى الله عليه وسلم -)) (3) .
وهذا يدل على أن المقصود: النهي عن المفاضلة بين أنبياء الله؛ لئلا يكون ذلك طريقا إلى تنقص أحد منهم.
والمراد من الحديث قوله: ((فيما يرويه عن ربه)) بهذا لفظ الرسول – صلى الله عليه وسلم – يروي هذا الكلام عن ربه، يعني: أن الله تكلم به، فرواه لنا عنه رسوله – صلى الله عليه وسلم – بلفظه الذي هو فعله، وهو مخلوق، وما رواه فهو كلام الله غير مخلوق.
_________
(1) ((الفتح)) (6/452) .
(2) ((الفتح)) (6/451) .
(3) ((الفتح)) (6/451) .(2/578)
((ونسبه إلى أبيه)) يعني: أن ((متى)) هو أبوه، وليس ذلك اسم أمه، وأراد به الرد على من زعم أن ((متى)) اسم أمه، كما روي عن كعب الأخبار.
******
165- قال: ((حدثنا أحمد بن أبي سريج، أخبرنا شبابة، حدثنا شعبة، عن معاوية بن قرة المزني، عن عبد الله بن المغفل المزني، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يوم الفتح على ناقة له يقرأ سورة الفتح – أو من سورة الفتح – قال: فرجع فيها.
قال: ثم قرأ معاوية يحكي قراءة ابن مغفل، وقال: لولا أن يجتمع الناس عليكم لرجعت كما رجع ابن مغفل يحكي النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقلت لمعاوية: كيف كان ترجيعه؟ قال: آآ آثلاث مرت)) .
عبد الله بن مغفل بن عبد غنم المزني أبو سعيد، ذكر البخاري عن يحيى بن معين أنه كان يكنى أبا زياد، وهو من مشاهير الصحابة رضوان الله عليهم، وهو أحد البكائين في غزوة تبوك، أسفا على فوت تلك الغزوة عليهم، وشهد بيعة الرضوان، وهو أحد العشرة الذين بعثهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ليفقهوا الناس بالبصرة، وهو أول من دخل من باب مدينة تستر. توفي في البصرة سنة تسع وخمسين أو سنة ستين، أو إحدى وستين، رضي الله عنه، وعن جميع إخوانه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) .
((يوم الفتح)) هو فتح مكة، وكان في رمضان، من سنة ثمان من الهجرة.
وسورة الفتح نزلت في غزوة الحديبية، وكانت في ذي القعدة سنة ست في قول الجمهور، نزلت في مرجعه منها، والفتح المذكور في السورة هو صلح الحديبية على قول أكثر المفسرين من الصحابة وغيرهم، ولا ينافي ذلك دخول
_________
(1) انظر ((الإصابة)) (4/242) ، و ((الاستيعاب)) (3/966) .(2/579)
فتح مكة فيه، وقراءته صلى الله عليه وسلم سورة الفتح في ذلك اليوم يدل على أن فتح مكة داخل في قوله: {إِنَّا فَتَحنَا لَكَ فَتحَاً مُبِيناً} .
((فرجع فيها)) بتشديد الجيم، أي: ردد الصوت في حلقه، وجهر به مكررا بعد إخفائه.
قال المؤلف في فضائل القرآن: ((باب الترجيع، ثم ذكر هذا الحديث – وفيه – قال: رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ، وهو على ناقته – أو جمله – وهي تسير به، وهو يقرأ سورة الفتح – أو من سورة الفتح، قراءة لينة، يقرأ وهو يرجع)) (1) .
قال الحافظ ابن كثير: الترجيع هو: الترديد في الصوت، كما جاء أنه يقول: آآ آ، وكأن ذلك صدر من حركة الدابة تحته، فدل على جواز التلاوة عليها، وإن أفضى إلى ذلك، ولا يكون ذلك من باب الزيادة في الحرف، بل هو مغتفر للحاجة، كما يصلي على الدابة حيث توجهت به مع إمكان تأخير ذلك والصلاة إلى القبلة)) (2) .
والصواب أنه قصد الترجيع، وليس ذلك من حركة الدابة كما زعم ابن كثير، وكثيرا ما كان - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في أسفاره، ولم يذكر ذلك عنه إلا في هذه الواقعة، فدل على قصده ذلك.
قال الحافظ: ((الترجيع: هو تقارب ضروب الحركات في القراءة، وأصله الترديد، وترجيع الصوت، ترديده في الحلق، وقد فسره بقوله: آء آء آء، ثلاث مرات، بهمزة مفتوحة بعدها ألف ساكنة، ثم همزة أخرى.
قالوا: يحتمل أمرين: أحدهما: أن ذلك حدث من هز الناقة.
والآخر: أنه أشبع المد في موضعه فحدث ذلك، وهذا أقرب، لأنه قال:
_________
(1) انظر ((الفتح)) (9/92) و (13/515) .
(2) ((فضائل القرآن)) في آخره ((تفسير ابن كثير)) .(2/580)
((لولا أن يجتمع الناس عليكم لرجعت)) .
وقد ثبت الترجيع في غير هذا الموضع، كما في الشمائل للترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن أبي داود، واللفظ له من حديث أم هانئ: ((كنت أسمع صوت النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو يقرأ، وأنا نائمة على فراشي، يرجع القرآن)) .
والذي يظهر: أن في الترجيع قدرا زائدا على الترتيل، فعند ابن أبي داود عن علقمة، قال: بت مع عبد الله بن مسعود في داره، فنام، ثم قام، فكان يقرأ قراءة الرجل في مسجد حيه، لا يرفع صوته، ويسمع من حوله، ويرتل ولا يرجع.
قال ابن أبي حمزة: معنى الترجيع: تحسين التلاوة، لا ترجيع الغناء؛ لأن القراءة بترجيع الغناء تنافي الخشوع الذي هو مقصود التلاوة.
قال: ((وفي الحديث: ملازمته – صلى الله عليه وسلم – للعبادة؛ لأنه حالة ركوبه وهو يسير لم يترك العبادة بالتلاوة، وفي جهره في ذلك إرشاد إلى أن الجهر بالعبادة قد يكون في بعض المواضع أفضل من الإسرار، مثل إرادة التعليم، وإيقاظ الغافل، ونحو ذلك)) (1) .
والمقصود أن الترجيع فعل الرسول –صلى الله عليه وسلم – بحركة لسانه وشفتيه يرجع كلام ربه الذي أبلغه الأمة عن الله – تعالى -.
فالمسموع بصوته هو كلام الله، والصوت هو صوت المبلغ، ولهذا يرفعه إن شاء، ويخفضه، ويرجعه إن شاء ولا يرجعه؛ لأنه فعله يتعلق بإرادته، وهو يبلغ كلام الله بأي وجه كان من أوجه التبليغ، بصوته الذي يؤدي به
_________
(1) ((الفتح)) (9/92) ببعض التصرف.(2/581)
عن الله، سواء رجع الكلام، أو لم يرجع، فلا يخرجه ذلك عن كونه كلام الله، أبلغه إلى أمته عن ربه بصوته وروايته، ولكن هو يتصرف بصوته فيرفعه تارة، ويخفضه أخرى، ويرجع الكلام مرة، ويترك الترجيع أخرى، إذ ذلك فعله الذي يفعله إذا شاء.
*****
قال: ((باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها، لقول الله – تعالى: {قُل فَأتُواْ بِالتَّوراةِ فَاتلُوهَا إِن كُنتُم صَادِقِينَ} .
تقدم الكلام على هذه الآية، ومراده: أن التفسير والإيضاح والتفهيم لكلام الله من فعل المفسر، والمبين الموضح لمن لا يفهم ذلك الكلام، وهذا كله فعل العباد وهو مخلوق، كما أن القراءة، والكتابة، والحفظ، فعل العبد وهو مخلوق.
وأما المكتوب المقروء والمحفوظ إذا كان من كتب الله، فهو كلام الله.
وكذلك التفسير، والتبليغ، والتبيين، فعل العبد المفسر المبين، وهو مخلوق، وأما المفسر المبين المبلغ فهو كلام الله.
ومثل ذلك الترجمة من لغة إلى أخرى، فإن الترجمة فعل المترجم، ولهذا استدل في كتابه: ((خلق أفعال العباد)) ، على أن كلام العباد مخلوق، وهو من أفعالهم بقوله تعالى: {وَمِن أيَاتِهِ خَلقُ السّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاختِلاَفُ أَلسِنَتِكُم وَألَوَانِكُم} ، ثم قال: ((فمنها العربي، ومنها العجمي، فذكر اختلاف الألسنة والألوان، وهو كلام العباد)) (1) .
وروى عن حماد بن زيد أنه قال: ((من قال: كلام العباد ليس بمخلوق فهو كافر)) (2) .
_________
(1) انظر (196) .
(2) المصدر (193) .(2/582)
وقال أيضا: ((وقد كتب النبي – صلى الله عليه وسلم – كتابا فيه ((بسم الله الرحمن الرحيم)) وقرأه ترجمان قيصر، على قيصر وأصحابه، ولا نشك في قراءة الكفار وأهل الكتاب أنها أعمالهم، وأما المقروء فهو كلام الله العزيز المنان، ليس بمخلوق، فمن حلف بأصوات قيصر، وبنداء المشركين الذين يقرون بالله لم يكن عليه يمين دون الحلف بالله؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تحلفوا بغير الله)) (1) .
يعني: أن الصوت الذي تكون به القراءة ونحوها فعل ذلك المصوت، وفعل العبد مخلوق.
قال الحافظ: ((وجه الدلالة من الآية: أن التوراة بالعبرانية، وقد أمر الله تعالى أن تتلى على العرب، وهم لا يعرفون العبرانية، فقضية ذلك الإذن بالتعبير عنها بالعربية)) (2) . وتقدم وجه مراده بالباب.
قوله: ((وقال ابن عباس: أخبرني أبو سفيان بن حرب أن هرقل دعا ترجمانه ثم دعا بكتاب النبي – صلى الله عليه وسلم – فقرأه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل، و {يَا أَهلَ الكِتابِ تَعَالَواْ إِلىَ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَينَنَا وَبَيَنكُم} الآية.
أبو سفيان كنية، ويكنى أيضا بأبي حنظلة، واسمه: صخر بن حرب بن أمية مشهور باسمه وكنيته، أسلم عام الفتح، وكان رئيسا لقومه قبل ذلك، وشهد مع النبي – صلى الله عليه وسلم – حنينا والطائف، وروي أن عينه أصيبت يوم الطائف، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن شئت دعوت فردت عليك، وإن شئت فالجنة)) قال: الجنة، مات في خلافة عثمان سنة أربع وثلاثين، وقيل غير ذلك، رضي الله عنه وعن أصحاب رسول الله جميعاً (3) .
هرقل هو: ملك الروم، هذا اسمه، وهو بكسر الهاء وفتح الراء، وسكون
_________
(1) المصدر السابق (158) .
(2) ((الفتح)) (13/516) .
(3) انظر ((الإصابة)) (3/412) ، و ((الاستيعاب)) (2/714) .(2/583)
القاف، ولقبه قيصر، وهو لكل من ملك الروم، كما أن كسرى لقب لمن ملك الفرس.
وهذا جزء من الحديث الطويل المذكور في بدء الوحي وغيره.
قال الحافظ: ((ووجه الدلالة منه: أن النبي – صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل باللسان العربي، ولسان هرقل رومي، ففيه إشعار بأنه اعتمد في إبلاغه ما في الكتاب على من يترجم عنه بلسان المبعوث إليه ليفهمه، والمترجم المذكور هو الترجمان)) .
واستدل في ((خلق أفعال العباد)) بقصة هرقل على أن القراءة فعل القارئ.
فقال: قد كتب النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى قيصر: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) وقرأه ترجمان قيصر على قيصر وأصحابه، ولا يشك في قراءة الكفار أنها أعمالهم، وأما المقروء فهو كلام الله – تعالى – ليس بمخلوق، ومن حلف بأصوات الكفار ونداء المشركين لم يكن عليه يمين، بخلاف ما لو حلف بالقرآن)) (1) .
وتقدم نقل هذا، والحافظ تصرف فيه.
وفيه دليل على جواز إرسال الكتب التي فيها شيء من القرآن إلى الكفار، وفيه كتابة ((بسم الله الرحمن الرحيم)) في أول الكتب، وبداءة صاحب الكتابة بنفسه، وفيه قرن العبودية بالرسالة.
*****
166- قال: ((حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عثمان بن عمر، أخبرنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية،
_________
(1) ((الفتح)) (13/516) .(2/584)
ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تصدقوا أهل الكتاب, ولا تكذبوهم، و {قُولُواْ أَمنَّا بِاللهِ وَمَاَ أُنزِلَ} الآية.
المقصود بأهل الكتاب هنا اليهود، والعبرانية: لغتهم التي أنزلت التوراة بها وقد أخبر الله – تعالى – أنهم تعمدوا تحريفها، والزيادة فيها والنقصان منها؛ لتتفق مع أهوائهم، وما يريدون، فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يوثق بترجمتهم وتفسيرهم لها، مع أن الله – تعالى – قد أغنانا عما في أيديهم بما أنزل علينا من كتابه المهيمن على جميع الكتب قبله، وبما جاء به نبينا – صلى الله عليه وسلم – من الحكمة التي تفسر القرآن وتبينه.
روى الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، من حديث جابر، أن عمر أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه، فغضب، وقال: ((لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)) قال الحافظ: ((رجاله موثقون إلا أن مجالداً فيه ضعف)) (1) .
وقد أمرنا الله – تعالى – أن نقول: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {136} فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (2) .
وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كثيرا ما يقرأ هذه الآية: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ} ، والآية التي في سورة آل عمران {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء}
_________
(1) ((الفتح)) (13/334) .
(2) الآيتان 136 و 137 من سورة البقرة.(2/585)
الآية (1) في ركعتي الفجر.
وفي ((الدر المنثور)) : ((أخرج ابن أبي حاتم، عن معقل بن يسار، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل وليسعكم القرآن)) (2) .
قوله: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم)) . قال الحافظ: أي: إذا كان ما يخبرونكم به محتملاً؛ لئلا يكو في نفس الأمر صدقا، فتكذبوه، أو كذبا فتصدقوه، فتقعوا في الحرج، ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه، نبه على ذلك الشافعي - رحمه الله -.
ويؤخذ من هذا الحديث التوقف عن الخوض في المشكلات، والجزم فيها بما يقع في الظن، وعلى هذا يحمل ما جاء عن السلف من ذلك)) (3) .
والمقصود أن الترجمة والتفسير ليست هي ذلك الكتاب المترجم أو المفسر، ولا تسمى الترجمة أو التفسير قرآنا، أو إنجيلا، أو توراة.
((بل اتفق المسلمون على جواز مس المحدث لكتب التفسير، واتفقوا على أنه لا تجوز الصلاة بتفسيره، وكذلك ترجمته بغير العربية عند عامة أهل العلم، وتجويز إقامة الترجمة مقامه في بعض الأحكام لا يقتضي تناول اسمه لها، كما أن القيمة في الزكاة إذا أخرجت عن الإبل أو البقر أو الغنم لم تسم إبلا ولا بقرا، ولا غنما، بل تسمى باسمها كائنة ما كانت)) (4) .
_________
(1) الآية 64 من سورة آل عمران.
(2) (1/338) .
(3) ((الفتح)) (8/170) .
(4) ((مجموع الفتاوى)) (6/542) .(2/586)
((مع أن أكثر المنتسبين إلى العلم من المسلمين لا يستطيعون القيام بترجمة معاني القرآن، وتفسيره، وبيانه؛ فلأن يعجز اليهود عن ترجمة ما عندهم، وبيانه أولى.
لأن عقل المسلمين أكمل، وكتابهم أقوم قيلاً، وأحسن حديثاً، ولغتهم أوسع لا سيما إذا كانت تلك المعاني غير محققة، بل فيها باطل كثير، فإن ترجمة المعاني الباطلة وتصويرها صعب؛ لأنه ليس لها نظير من الحق من كل وجه)) (1)
والمقصود أنه إذا ترجم كتاب الله من لغة إلى أخرى فإن الترجمة ليست هي كلام الله، وإنما هي ترجمة لكلامه تعالى، وهي غير المترجم، بل هي عمل المُتَرجِم، ومعلوم أن عمل الإنسان مخلوق مثله.
وليس الأمر كما تقوله الأشعرية إن كلام الله لا يختلف باختلاف اللغات، فبأي لسان قرئ فهو كلام الله.
بل إذا ترجم من لغة إلى أخرى، لم يكن هو كلام الله – تعالى -، وهذا هو ما أراد البخاري بيانه فيما يظهر، والله أعلم.
167- قال: ((حدثنا مسدد، حدثنا إسماعيل، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: أتي النبي – صلى الله عليه وسلم – برجل، وامرأة من اليهود، قد زنيا، فقال: ما تصنعون بهما؟ قالوا: نسخم وجوههما، ونخزيهما، قال: {قُل فَأتُواْ بِالتَّوراةِ فَاتلُوهَا إِن كُنتُم صَادِقِينَ} فجاءوا فقالوا لرجل ممن يرضون: يا أعور، اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها، فوضع يده عليه، قال: ارفع يدك، فإذا
_________
(1) المرجع (4/117) .(2/587)
فيه آية الرجم تلوح، فقال: يا محمد: إن عليهما الرجم، ولكننا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما فرجما، فرأيته يجانئ عليها الحجارة)) .
قد أمر الله نبيه أن يحكم بين أهل الكتاب بما أنزل الله عليه، أو أن يعرض عنهم، فإنهم لا يضرونه شيئاً.
وأخبر تعالى أنهم إذا جاءوه ليحكم بينهم ليس قصدهم حكم الله، فإنهم يعلمونه في كتابهم، وإنما يحكمونه رجاء أن يحكم بينهم بما يهوونه، قال الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ... {41} سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {42} وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (1) } .
فنهى الله – تعالى – رسوله أن يحزن على المسارعين في الكفر من أهل الكتاب وأهل النفاق، الخارجين عن طاعة الله، وطاعة رسله، المقدمين لآرائهم وأهوائهم على شرائع الله – تعالى -، ومن الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم، وقلوبهم خاوية منه، منطوية على الكفر بالله ورسله وعبادة الشهوات، وهم ما بين يهودي قد نصب العداء لله ولدينه ومن اتبعه، فهو يجهد نفسه في محاربته، أو زنديق كره الحق ومن جاء به ومن اتبعه، وكل منهم قد أكل قلبه الحقد على هذا الدين، وعلى من اتبعه، وكل منهم سَمّاع للكذب يقوله،
_________
(1) الآيات 41- 43 من سورة المائدة.(2/588)
وينميه، ويسمعه ويقبله، وأكَّال للسحت غير مبال بعاقبته، وهم مع ذلك أهل تحريف وتزييف؛ اتباعاً لأهوائهم، وبعداً عن الحق، ومحاربة له، يوصي بعضهم بعضاً بعدم قبول ما يخالف أهواءهم، وأنظمتهم التي وضعوها وفق ما يشتهون، وما توحيه إليهم شياطينهم أولئك الذين أراد الله – تعالى – فتنتهم، فلا أحد يملك هدايتهم؛ لأن قلوبهم نجسة فلا تقبل طهارة الإيمان، وإنما هي محل للكفر وكل خلق خبيث.
وقد خير الله رسوله بين الحكم بينهم وبين الإعراض عنهم، وأمره إن حكم أن يحكم بينهم بالعدل، وإن كانوا أعداء لله ورسوله، فإن الله حكم عدل يحب العدل وأهله.
وأخبر تعالى أن أمر هؤلاء عجيب، كيف يحكمونك وعندهم كتاب الله التوراة فيها حكمه واضح لهم، ولكنهم يعرضون عنه طلباً لما يهوونه، وليس هذا شأن المؤمنين، ولكنه نهج الكافرين.
روى أبو داود من حديث أبي هريرة قال: ((زنى رجل من اليهود، وامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه نبي بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتياً دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله، قلنا: فتيا نبي من أنبيائك.
قال: فأتوا النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم، ما ترى في رجل وامرأة زنيا؟ فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدراسهم، فقام على الباب، فقال: ((أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: يحمم ويجبه - والتجبية: أن يحمل الزانيان على حمار، وتقابل أقفيتهما، ويطاف بهما -.
قال: وسكت شاب منهم، فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - سكت، ألظ به النشدة، فقال: اللهم إذ نشدنا، فإنا نجد في التوراة الرجم.(2/589)
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟
قال: زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا، فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في امرة من الناس، فأراد رجمه، فحال قومه دونه، وقالوا: لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه، فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم.
فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((فإني أحكم بما في التوراة)) فأمر بهما فرجما.
قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: {إِنَا أَنَزَلنَا التَّورَاةَ فِيهَا هُدَىَ وَنُورُ يَحكُم ُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أسلمُواْ} كان النبي – منهم)) (1) .
فهذه القصة تبين سبب مجيئهم إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وأن الذي جاء بالزانيين هم اليهود، رجاء أن يحكم عليهما بغير ما أتى في التوراة من الرجم، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - أحيا حكم الله فيها بعد ما أماتوه.
قوله: ((ما تصنعون بهما؟)) يعني: ما هو حكم الله فيهما الذي في كتابكم؟ فكتموه، وقالوا: ((نسخم وجوههما، ونخزيهما)) أي: نسود وجوههما بالفحم، ويركبان على حمار يطاف بهما في الطرق، قفا كل واحد إلى قفا الثاني، وهذا هو الخزي الذي يفعلونه بهما.
فقال لهم النبي – صلى الله عليه وسلم -: {فَأتُواْ بِالتَّوراةِ فَاتلُوهَا إِن كُنتُم صَادِقِينَ} أن ما ذكرتم هو حكم الله فيهما الذي في التوراة.
ومعلوم أنهم ينقلون ما فيها بالعربية كما هو ظاهر؛ لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لا يعرف العبرانية.
((فقالوا لرجل ممن يرضون: يا أعور، اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه)) يرضون، يعني: يثقون به، وأنه موافق لهم على كتمان
_________
(1) ((السنن)) (4/598) رقم (4450) وفيه رجل مجهول.(2/590)
آية الرجم، ويحتمل أن الكتاب الذي يقرأ بغير العربية، وأنه يقرأه ويترجمه، ويحتمل أنه قد ترجم إلى العربية، فعلى الأول وضعه يده على الموضع الذي فيه آية الرجم؛ لإخفائها عمن يعرف لغتهم ممن أسلم، أو لا يوافقهم، وعلى الثاني ظاهر.
قوله: ((ارفع يدك، قيل: إن القائل عبد الله بن سلام، كما في بعض الروايات، وهذا يؤيد الاحتمال الأول.
((تلوح)) يعني: أنها واضحة لمن يقرأ ذلك الكتاب.
((نتكاتمه فيما بيننا)) يعني: يتواطئون على كتمانه، وعدم إظهاره لأحد.
((يجانئ عليها الحجارة)) يعني: أنه يقيها بنفسه عن الحجارة.
والمقصود: أن الأمر بتلاوة التوراة على من لا يعرف اللغة التي كتبت بها لا بد أن يكون ذلك عن ترجمة لها، ثم اعتماد تلك الترجمة مما يقتضي الاكتفاء بترجمة المترجم وإن كان واحداًً.
والترجمة ليست هي المُتَرْجَم، وإنما هي فعل المُتَرْجِم وعمله.
وفعله وعمله مخلوق، وهذا هو المراد بالاستدلال بهذه القصة.
وفيه دلالة ظاهرة في أن اليهود كانوا ينسبون إلى التوراة ما ليس فيها، وأنهم يعرفون الحق، ولا يتبعونه، بل يتعمدون تركه.
قال: ((باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((الماهر بالقرآن مع السفرة البررة، وزينوا القرآن بأصواتكم)) .
قصد البخاري – رحمه الله – بهذا الباب: زيادة إيضاح ما سبق في الأبواب قبل هذا، من أن التلاوة فعل التالي، فهي داخلة في أفعال العباد، ولهذا(2/591)
توصف بالمهارة، وهي جودة الحفظ، وعدم التردد في التلاوة، وتوصف بالحسن والمد، والترتيل، والتطريب، وتحسين الصوت، وبأضداد ذلك، كما سبق وصفها بالترجيع، والخفض، والرفع، ومد الصوت.
وهذا كله يحقق أن التلاوة فعل القارئ الذي يقرأ القرآن.
قوله: ((الماهر)) قال الأزهري: ((الماهر: الحاذق بكل شيء، وأكثر ما يوصف به السابح، يقال: مهرت بهذا الأمر، أمهر به، مهارة: إذا صرت به حاذقاً)) (1) .
قال الحافظ: ((الماهر هو: الحاذق، والمراد به هنا: جودة التلاوة مع حسن الحفظ.
والمراد بالسفرة: الكتبة، جمع سافر، مثل كاتب، وزنه ومعناه، وهم هنا: الذين ينقلون من اللوح المحفوظ (2) ، وصفوا بالكرام؛ لكثرة طاعتهم، وبعدهم عما يشين.
والبررة: المكثرون في الطاعة، المبالغون فيها)) .
وقال الحافظ: ((المطيعون، المطهرون من الذنوب، والكرام: المكرمين عند الله)) (3) .
ومعلوم أن إكرام الله لهم لطاعتهم، وبرهم.
ورواية مسلم: ((الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق، له أجران)) (4) .
_________
(1) ((تهذيب اللغة)) (6/298-299) .
(2) ((الفتح)) (13/518) .
(3) المصدر المذكور.
(4) انظر مسلم (1/549-550) رقم (798) .(2/592)
فالمهارة بالقرآن: جودة الحفظ، وجودة التلاوة، من غير تردد فيه؛ لأن الله – تعالى يسره عليه كما يسره على الملائكة الكرام البررة، فكان مثلهم في قراءة القرآن ومعهم في الدرجة عند الله – تعالى -.
وتقدم الكلام على معنى قوله: ((زينوا القرآن بأصواتكم)) ، وأن المراد به: تحسين الصوت حتى يجذب المستمع إلى الإصغاء إليه، ويجد به لذة، وينفتح له قلبه، وتحسين الصوت فعل العبد، ووصفه، ولهذا قال في ((خلق أفعال العباد)) :
((فبين النبي – صلى الله عليه وسلم – أن أصوات الخلق،، وقراءتهم، ودراستهم وتعليمهم، وألسنتهم مختلفة، بعضها أحسن، وأزين، وأحلى، وأصوت، وأرتل، وأعلى، وألحن، وأخف، وأغض، وأخشع، قال تعالى: {وَخَشَعَتِ الأَصوَاتُ لِلرَّحمَنِ فَلاَ تَسمَعُ إِلا هَمساً} ، وأجهر، وأخفى، وأمهر، وأمد، وألين، وأخفض من بعض، ثم ذكر بسنده عن عائشة – رضي الله عنها -، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يشتد عليه له أجران)) (1) .
*****
168- قال: ((حدثني إبراهيم بن حمزة، حدثني ابن أبي حازم، عن يزيد، عن محمد ابن إبراهيم عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أنه سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((ما أذن الله لشيء، ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن، يجهر به)) .
رواية مسلم: ((ما أذن الله لشيء، ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به)) (2)
وكأن قوله ((يجهر به)) مدرج في الحديث، ومعنى ((ما أذن)) : ما استمع
_________
(1) ((خلق أفعال العباد)) (93-94) .
(2) انظر ((صحيح مسلم)) (1/545) .(2/593)
لشيء كاستماعه لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن، فالله – تعالى – يحب حسن الصوت فيمن يتلو كتابه، ويستمع لذلك الصوت أكثر من غيره، وإلا فهو تعالى لا يفوت سمعه صوت.
والقرآن هنا اسم جنس لكل كتاب أنزله الله – تعالى – على نبي من أنبيائه.
وقوله: ((يجهر به)) تفسير لقوله: ((يتغنى به)) ، وهو كلام لأحد رواة الحديث، وتقدم شرح هذا الحديث في باب قول الله – تعالى -: {وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعةُ عِندَهُ إِلا لِمَن أَذِنَ لَهُ} .
والمقصود منه هنا قوله: ((ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن)) فأضاف حسن الصوت إلى النبي، لأنه فعله وعمله، وبين أنه مطلوب منه، ومحبوب لله – تعالى -، فتبين بهذا أن التلاوة وتحسين الصوت بها، والجهر بها، وخفض الصوت، كله فعل العبد، والعبد وأفعاله مخلوق.
وأما القرآن الذي يحسن صوته به، ويرفعه أو يخفضه، فهو كلام الله غير مخلوق.
169- قال: ((حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله، عن حديث عائشة – حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، وكل حدثني طائفة من الحديث – قالت: فاضطجعت على فراشي، وأنا حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله يبرئني، ولكن والله ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، وأنزل الله – عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفكِ} عشر الآيات كلها)) .(2/594)
((الإفك)) هو: الكذب الظاهر البين، وهو من عظائم الذنوب.
((طائفة من الحديث) أي: قطعة منه، وهو جمع حديثهم، ولم يكونوا متفقين على جميعه، والقائل هو ابن شهاب الزهري.
((وأنا حينئذ أعلم أني بريئة)) يعني: أن ما قاله أهل الإفك، بعيد عنها، وليست من أهله، فهي أعلم بنفسها، وعلى يقين من أن الله سيظهر براءتها لنبيه وعباده ويجزي الأفاكين، الذين آذوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهله والمؤمنين.
قال أبو بكر ابن العربي: ((كل من سب عائشة - رضي الله عنها - بما برأها الله منه فهو مكذب لله، ومن كذب الله، فهو كافر، وهذا قول مالك، وهو أمر واضح لأهل البصائر)) (1) .
وقال القاضي أبو يعلى: ((من قذف عائشة بما برأها الله منه كفر، بلا خلاف)) .
وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد، وصرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم.
فروي عن مالك: من سب أبا بكر جلد، ومن سب عائشة قتل، قيل له: لم؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن؛ لأن الله - تعالى - قال: {يَعِظِكُم اللهُ أَن تَعُودُواْ لِمثلِهِ أَبَدَاً إِن كُنتُم مُؤمِنينَ} .
وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري: سمعت القاسم بن محمد يقول لإسماعيل ابن إسحاق: أتي أمير المؤمنين بالرقة برجلين شتم أحدهما فاطمة، والآخر عائشة، فأمر بقتل الذي شتم عائشة، وترك الآخر، فقال إسماعيل، ما حكمهما إلا أن يقتلا؛ لأن الذي شتم عائشة رد القرآن، وعلى هذا مضت سيرة أهل الفقه والعلم، من أهل البيت وغيرهم.
_________
(1) ((أحكام القرآن)) (3/135) .(2/595)
وقال أبو السائب القاضي: كنت يوما بحضرة الحسن بن زيد الداعي، وكان بحضرته رجل، فذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة، فقال: يا غلام، اضرب عنقه، فقال له العلويون: هذا رجل من شيعتنا، فقال: معاذ الله، هذا رجل طعن على النبي – صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ، فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي – صلى الله عليه وسلم – خبيث، فهو كافر فاضربوا عنقه، فضربوا عنقه وأنا حاضر. رواه اللالكائي.
وروى عن محمد بن زيد، أخي الحسن بن زيد، أنه قدم عليه رجل من العراق، فذكر عائشة بسوء، فقام إليه بعمود فضرب به دماغه فقتله، فقيل له: هذا من شيعتنا، ومن بني الآباء، فقال: هذا سَمّى جدي – يعني: رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قرنان (1) . ومن سمى جدي: قرنان، استحق القتل، فقتله.
وأما سب غير عائشة من أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – ففيه قولان: أحدهما: أنه كَسَابّ غيرهن من الصحابة.
والثاني: وهو الأصح أنه من قذف واحدة من أمهات المؤمنين، فهو كقذف عائشة – رضي الله عنها -.
وذلك لأن هذا فيه غضاضة على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأذي له أعظم من أذاه بنكاحهن بعده، وهذا ظاهر (2) .
((وأن الله يبرئني)) أي: أنها على علم ويقين بأن الله – تعالى – سيظهر براءتها لنبيه، بأمر يطلعه عليه، إما رؤيا يريها إياه، أو غير ذلك، غير أنها ما كانت تنتظر أن ينزل في شأنها وحيا من كلامه تعالى يتلى إلى يوم القيامة، كما وقع؛
_________
(1) قال الليث: القرنان: نعت سوء في الرجل، الذي لا غيرة له، قال الأزهري: ((هذا من كلام حاضرة العراق، ولم أر البوادي لفظوا به، ولا عرفوه)) ((تهذيب اللغة)) (9/93) .
(2) من ((الصارم المسلول)) (565-567) .(2/596)
لأنها في نفسها أقل قدرا من أن تتطلع إلى هذا الأمر العظيم.
فأنزل الله – عز وجل – في براءتها بضعة عشر آية.
والمقصود قولها: ((والله ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى)) ، فبينت أن التلاوة غير المتلو المنزل، فالتلاوة فعل العباد، والإنزال والإيحاء والتكلم فعل الله وصفته، كما قال المؤلف في ((خلق أفعال العباد)) : ((فبينت بقولها: ((ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيا يتلى)) إن الإنزال من الله، وإن الناس يتلونه)) (1) .
قال العيني: ((مطابقته للترجمة في قوله: ((بأمر يتلى)) أي: بالأصوات في المحاريب والمحافل)) (2) ، وتقدم شرح الحديث في باب قوله تعالى:: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِلُواْ كَلاَمَ اللهِ} .
*****
170- قال: ((حدثنا أبو نعيم، حدثنا مسعر، عن عدي بن ثابت، أراه عن البراء، سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ في العشاء:: {وَالتِينِ وَالزَّيتُونِ} فما سمعت أحدا أحسن صوتا – أو قراءة – منه)) .
ذكر هذا الحديث في كتاب الصلاة، وفيه أنه كان في سفر، وذكر الحافظ في شرحه أن في رواية النسائي: أنها في الركعة الأولى، وذكر في تفسير سورة {وَالتِينِ} أن في كتاب الصحابة لأبي علي ابن السكن في ترجمة زرعة بن خليفة، رجل من أهل اليمامة، أنه قال: سمعنا بالنبي – صلى الله عليه وسلم – فأتيناه، فعرض علينا الإسلام فأسلمنا، وأسهم لنا، وقرأ في الصلاة
بـ {وَالتِينِ وَالزَّيتُونِ} و {إِنَّاَ أَنزَلنَاهُ فِي لَيلةِ القَدرِ} .
_________
(1) ((خلق أفعال العباد)) (ص86) .
(2) ((عمدة القاري)) (25/193) ، وأخذه من الكرماني، انظر شرحه (25/234) .(2/597)
ثم قال: ((فيمكن أن تكو هي الصلاة التي عين البراء بن عازب أنها العشاء، ويقوي ذلك أنا لا نعرف في خبر أنه قرأ بالتين، إلا في حديث البراء بن عازب، ثم حديث زرعة المذكور)) (1) .
وفيه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقرأ في الصلاة أحيانا بقصار المفصل.
وفيه استحباب تحسين الصوت بالقرآن في الصلاة وغيرها.
والمقصود قوله: ((فما سمعت أحدا أحسن صوتا – أو قراءة – منه)) فجعل الصوت والقراءة له، فدل على أن الصوت والقراءة ليست هي المصوت به، المقروء، وهو واضح، والإمام البخاري – رحمه الله – يكرر ذلك، وينوع عليه الأدلة؛ لأنه قد خفي على بعض العلماء، ولأنه قد ابتلي بمن يقول: إن القراءة هي المقروء، والتلاوة هي المتلو، ونسب إليه زورا أنه يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، وهو برئ من ذلك.
171- قال: ((حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – متواريا بمكة، وكان يرفع صوته، فإذا سمع المشركون سبوا القرآن، ومن جاء به، فقال الله – عز وجل – لنبيه: {وَلاَ تَجهَر بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِت بِهَا} .
تقدم شرح هذا الحديث، والشاهد منه هنا: قوله: ((يرفع صوته، فإذا سمع المشركون سبوا القرآن)) وقوله: {وَلاَ تَجهَر بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِت بِهَا وَابتغِ بَينَ ذَلِكَ سَبِيلاً} ويعني بالصلاة: القراءة، فالصوت له – أي للقارئ – ورفعه وخفضه وصف للصوت، وهو الذي إن شاء رفعه، وإن
_________
(1) ((الفتح)) (2/250) و (8/713-714) .(2/598)
شاء خفضه، فلذلك فعله، وهو فعله مخلوق، أما القرآن الذي يُسِرُّ به صوته، أو يخافت به، أو يبتغي به بين ذلك سبيلا، فهو كلام ربه غير مخلوق، بل هو وصف له.
*****
172- قال: ((حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أبيه، أنه أخبره، أن أبا سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال له: إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك، أو باديتك فأذنت للصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة، قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -)) .
((تحب الغنم والبادية)) محبته للبادية تابعة لمحبة الغنم؛ لطلب المراعي لها، وذلك لا يكون إلا في البادية غالباً، والبادية خلاف الحاضرة التي فيها البناء والمدن.
وهي مأخوذة من البدو والظهور؛ لأنها ليس فيها ما يسترها من المباني والحيطان، فهي صحراء، لا عمارة فيها.
((فأذنت للصلاة)) الأذان هو: الإعلام بدخول وقت الصلاة، وطلب حضور المصلين لأدائها جماعة، ولا يسمى أذانا إلا إذا كان برفع الصوت.
قال تعالى: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} (1) ، وقال تعالى: {وَأَذِن فِي النَّاسِ بِالحَجِ} (2) ، ولما نزل قول الله – تعالى - {وَأَذَانٌ
_________
(1) الآية 70 من سورة يوسف.
(2) الآية 27 من سورة الحج.(2/599)
مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (1) أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برفع الصوت بهذه البراءة في ذلك اليوم، قال أبو هريرة: كنت مع علي بن أبي طالب حيث بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إلى أهل مكة ببراءة، فكنا ننادي: أن لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد فإن أجله - أو مده - إلى أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة الأشهر، فإن الله برئ من المشركين ورسوله، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك، قال: فكنت أنادي حتى صحل صوتي)) (2) ، أي: بحّ صوته؛ لشدة رفعه.
((فارفع صوتك بالنداء)) أي: اجتهد في رفع صوتك، ولا تألو، وإلا فأصل الأذان لا يكون إلا برفع الصوت.
قال الحافظ: ((فيه إشعار بأن أذان من أراد الصلاة كان متقررا عندهم؛ لاقتصاره على الأمر بالرفع دون أصل التأذين.
واستدل به الرافعي على استحباب الأذان للمنفرد، وهو الراجح عند الشافعية)) (3) .
((فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن، ولا إنس، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة)) .
مدى الصوت: نهايته، وأقصى ما يبلغه، والمعنى: أن كل من سمع صوته من عاقل وغيره، من البهائم والجمادات - فإن لها سماعا يعلمه الله - تعالى - فإنها تشهد للمؤذن بالتوحيد عند الله يوم القيامة، وهذه فضيلة عظيمة
_________
(1) الآية 3 من سورة براءة.
(2) ((مسند الإمام أحمد)) (2/299) .
(3) ((الفتح)) (2/88) .(2/600)
للأذان، فينبغي أن يحافظ على ذلك ويحرص عليه.
وفي ((سنن)) أبي داود والنسائي عن أبي هريرة: ((المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس)) ، قال الخطابي: ((المعنى أنه يستكمل مغفرة الله إذا استوفى وسعه في رفع الصوت، فيبلغ الغاية من المغفرة، إذا بلغ الغاية من الصوت، وقيل: المعنى: لو قدر أن المكان الذي يصل إليه صوته لو كان له ذنوب تملؤه لغفرت)) (1) .
((وقال النوربشتي: المراد من هذه الشهادة: اشتهار المشهود له يوم القيامة بالفضل وعلو الدرجة، كما يفضح بالشهادة قوما، فكذلك يكرم بالشهادة آخرين)) (2) .
وقال الكرماني: ((رفع الصوت بالقرآن، أحق بالشهادة، وأولى)) (3) .
يعني: أن ذلك مراد البخاري من الحديث.
والظاهر أن مراده: أن أصوات العباد من أفعالهم التي يثابون عليها، أو يعاقبون، ومن ذلك القراءة، والتلاوة، فهي فعل التالي الذي يثاب عليه.
*****
173- قال: ((حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن منصور، عن أمه، عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ القرآن، ورأسه في حجري، وأنا حائض)) .
ترجم لهذا الحديث في الحيض: باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض. وكان أبو وائل يرسل خادمه، وهي حائض، إلى أبي رزين فتأتيه بالمصحف، فتمسكه بعلاقته، ثم ذكر الحديث بلفظ: ((كان يتكئ في حجري، وأنا
_________
(1) ((معالم السنن)) (1/354) ، و ((النسائي)) (2/13) .
(2) ((الفتح)) (2/89) .
(3) انظر شرحه للبخاري (25/235) .(2/601)
حائض، ثم يقرأ القرآن)) وفعل أبي وائل يدل على جواز حمل الحائض المصحف، ولكن من وراء حائل، وكذا أبو رزين لو كان ذلك غير جائز عنده لم يمكنها من حمله، إلا أن يقال: إنه لم يعلم بحالها، والحجر بفتح الحاء وسكون الجيم وكسرها، هو: حضن الإنسان ما بين يديه من ثوبه.
قال ابن دقيق العيد: ((فيه إشارة إلى أن الحائض لا تقرأ القرآن؛ لأن قولها: ((فيقرأ القرآن)) إنما يحسن التنصيص عليه إذا كان ثمة ما يوهم منعه، ولو كانت قراءة القرآن للحائض جائزة، لكان هذا الوهم منتفياً، أعني: توهم قراءة القرآن في حجر الحائض، ومذهب الشافعي الصحيح: امتناع قراءة الحائض القرآن)) (1) .
والمقصود من الحديث هنا أن القراءة غير القرآن، إذ لو كانت القراءة هي القرآن، لما جاز أن يقرأ ورأسه في حجر عائشة وهي حائض.
((قال ابن المنير: ظن الشارح (2) أن غرض البخاري: إثبات جواز قراءة القرآن بتحسين الصوت، وليس كذلك.
وإنما غرضه الإشارة إلى ما تقدم من وصف التلاوة بالحسن، والتحسين، والترجيع، والرفع، والخفض، ومقارنة الحالات البشرية، كقولها: ((يقرأ القرآن في حجري وأنا حائض)) . فكل ذلك يحقق: أن القراءة فعل القارئ، وأنها متصفة بما تتصف الأفعال به، ومتعلقة بالظروف المكانية، والزمانية)) (3) .
_________
(1) ((شرح العمدة)) (1/127) .
(2) هو ابن بطال.
(3) ((الفتح)) (13/519) ، وانظر المنواري لابن المنير (ص431) .(2/602)
قال: ((باب قول الله – تعالى -: {فَاقرَأُوا مَا تَيَسَرَ مِنهُ} .
أمر الله – تعالى – عباده أن يقرءوا ما تيسر من القرآن، وهذا من اليسر عليهم، إذ قيد ذلك بما تيسر، ولم يكلفهم قراءته كله.
والقراءة التي أمر الله عباده بها هي فعلهم، ومعلوم أنهم يتفاوتون في القراءة، وفي الحفظ والتحصيل، وفي جودتها والمهارة في القرآن، وفي الفهم ومعرفة المراد من الخطاب، وغير ذلك. وهذا كله فعلهم وعملهم، الذي يجازون عليه ويثنى عليهم به، ويمدحون، وهذا مراد البخاري – رحمه الله تعالى – من ترجمته بالآية، وسواء أريد بالقراءة الصلاة، أو نفس القراءة فإن القراءة ركن في الصلاة، وقد يعبر عن الشيء بركنه.
قال الخازن: ((فيه قولان: أحدهما: أن المراد بهذه القراءة: القراءة في الصلاة؛ لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة، فأطلق اسم الجزء على الكل.
الثاني: أن المراد بما تيسر منه دراسته، وتحصيل حفظه، فيقرأ ما سهل عليه حفظه)) (1) .
وقال الحافظ: ((المراد بالقراءة: الصلاة؛ لأن القراءة بعض أركانها)) (2) .
قال ابن جرير: ((يقول: فاقرأوا من الليل ما تيسر لكم من القرآن في صلاتكم، وهذا تخفيف من الله – عز وجل – عن عباده فرضه الذي كان فرض عليهم، بقوله: {قُمِ الَّليلَ إِلا قَلِيلاً {2} نِصفَهُ أَوِ انقُص مِنهُ قَلِيلاً} )) (3) .
وقال القرطبي: ((فيه قولان: أحدهما: أن المراد نفس القراءة، أي: فاقرأوا فيما تصلونه بالليل ما خف عليكم.
_________
(1) ((تفسير الخازن)) (7/170) .
(2) ((الفتح)) (13/520) .
(3) ((تفسير الطبري)) (29/141) .(2/603)
والثاني: ((فاقرأوا ما تيسر منه)) أي: فصلوا ما تيسر عليكم، والصلاة تسمى قرآنا، كقوله: {وَقُرآنَ الفَجرِ} أي: صلاة الفجر)) (1) .
174- قال: ((حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، حدثني عروة أن المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن عبد القاري حدثاه، أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان، في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى سلم، فلببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، أقرأنيها على غير ما قرأت.
فانطلقت به أقوده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال: ((أرسله، اقرأ يا هشام)) فقرأ القراءة التي سمعته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((كذلك أنزلت)) ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اقرأ يا عمر)) ، فقرأت، فقال: ((كذلك أنزلت. إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ما تيسر منه)) .
هشام بن حكيم بن حزام الأسدي، هو وأبوه صحابيان، ممن أسلم يوم الفتح، له فضائل جمة، وكان يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فلذلك كان
_________
(1) ((الجامع لأحكام القرآن)) (19/53-54) .(2/604)
عمر – رضي الله عنهما – إذا بلغه الشيء المكروه يقول: أما ما عشت أنا وهشام فلا يكون ذلك.
قال الحافظ: ((تأخر موته إلى خلافة علي بن أبي طالب، ووهم من زعم أنه استشهد في خلافة أبي بكر، وتوفي قبل والده رضي الله عنهما، وعن جميع صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - (1) ، قال ابن سعد: توفي أول خلافة معاوية)) (2) .
قوله: ((فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة)) الخ، يعني: أن قراءة هشام تختلف عما قرأه عمر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في ألفاظ كثيرة، فلذلك ظن عمر رضي الله عنه أن ذلك غلط من هشام.
((فكدت أساوره)) بالسين المهملة، أي: أواثبه وأجرره، قال النابغة:
فبت كأني ساورتني ضئيلة من الرقش في أنيابها السم ناقع
أي: واثبتني، وفي رواية مالك: ((أن أعجل عليه)) .
ومعنى كدت: قربت من أن أفعل فيه ذلك.
((فتصبرت)) أي: حملت نفسي على الصبر، حتى ينتهي من صلاته، وفي رواية مالك: ((ثم أمهلت حتى انصرف)) يعني: من صلاته، كما قال هنا: ((حتى سلم)) .
((فلببته بردائه)) أي: أدرت رداءه على رقبته، وجمعت طرفيه عند لبته، وأمسكته خشية أن ينفلت، ولهذا قال: ((فانطلقت به أقوده)) يعني: بردائه، ((فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟)) ظن عمر – رضي الله
_________
(1) انظر ((الفتح)) (9/25) .
(2) ((سير أعلام النبلاء)) (3/52) وانظر ((الاستيعاب)) (ص1538) ، و ((الإصابة)) : الترجمة رقم (8965) ، و ((أسد الغابة)) ... (5/398) .(2/605)
عنه – أن هشاما أخذ هذه السورة عن غير رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فأخطأ الذي أقرأه، أو أنه لم يتقنها فوقع في مخالفة ما تلقاه عمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهذا لما قال هشام: أقرأنيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، قال له عمر: كذبت، أقرأنيها على غير ما قرأت)) وكان عمر رضي الله عنه شديدا في أمر الله – تعالى -، ولهذا ذهب به يقوده بردائه حتى دخل به على رسول الله –صلى الله عليه وسلم – فقال له: ((إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان)) إلى آخره، وقد علم أن من قرأ القرآن على غير ما أنزله الله – تعالى – فقد ارتكب جرما يستحق العقاب عليه، وهذا هو الذي حمل عمر على ما فعله رضي الله عنه.
((فقال: أرسله، اقرأ يا هشام، فقرأ القراءة التي سمعته)) يؤخذ من هذا مشروعية التثبيت في الأمور، ووقوف الحاكم
بنفسه على الحقائق, وإن كان المخبر موثوقا به.
((فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((كذلك أنزلت)) يعني: أنزلت من عند الله على ما قرأه هشام، ولم يكن مخطئا كما ظنه عمر – رضي الله عنه -.
((ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: اقرأ يا عمر، فقرأت، فقال: كذلك أنزلت)) .
يعني: أن الله أنزل هذه السورة على ما قرأه عمر، فعمر وهشام كلاهما مصيب في قراءته؛ لأن القرآن نزل على أكثر من حرف، بل على سبعة أحرف.
وأما قول الحافظ: ((وكان سبب اختلاف قراءتهما أن عمر حفظ هذه السورة من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قديما، ثم لم يسمع ما أنزل فيها، بخلاف ما حفظه وشاهده.
ولأن هشام من مسلمة الفتح، فكان النبي – صلى الله عليه وسلم – أقرأه ما نزل أخيرا فنشأ اختلافهما من ذلك)) (1) . ففيه نظر، إذ لو كان الأمر على ما ذكره لقال
_________
(1) ((الفتح)) (9/26) .(2/606)
الرسول - صلى الله عليه وسلم – لعمر: إن هذه الأحرف التي سمعتها من هشام نزلت بعد ما قرأت هذه السورة، ولكنه قال بعد ما سمع قراءة كل واحد منهما: ((كذلك أنزلت)) ، فتبين أن كلا من الحروف التي قرأها هشام، والحروف التي قرأها عمر، نزلت من عند الله.
وليس في قراءة هشام زيادة عما عند عمر في الآيات، وإنما هناك اختلاف في الحروف فقط، ومن أجل ذلك قال لكل واحد منهما بعد ما سمع قراءته: ((كذلك أنزلت)) ويوضح ذلك قوله: ((إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ما تيسر منه)) أي: لا تتكلفوا التزام حرف واحد، فإن الله – تعالى – قد أوسع عليكم، ويسر لكم قراءة القرآن على سبعة أحرف، رحمة منه وفضلاً، فله الحمد والمنة.
قال الجزري: ((نزل القرآن على سبعة أحرف؛ للتخفيف على هذه الأمة واليسر بها، والتهوين عليها؛ شرفا لها وتوسعة ورحمة؛ لأن العرب الذين نزل القرآن بلغاتهم، لغاتهم مختلفة، ويعسر على أحدهم انتقاله من لغته إلى غيرها، بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك، ولا بالتعليم والعلاج، ولا سيما الشيخ والمرأة الكبيران، ومن لا يقرأ كتاباً، كما أشار إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: ((بعثت إلى أمة أميين، فيهم الشيخ الفاني، والعجوز الكبيرة)) (1) .
ومعنى الحرف كما قال أهل اللغة: حرف كل شيء طرفه وحافته، وأحد حروف التهجي، كأنه قطعة من الكلمة (2) .
وقد اختلف العلماء في تعيين الحروف السبعة اختلافاً كثيراً، وأشكل ذلك على كثير من العلماء.
_________
(1) النشر (1/71-72) ملخصاً.
(2) سيأتي معنى الحرف أيضا في كلام ابن قتيبة.(2/607)
فقيل: الحروف السبعة سبع لغات من لغات العرب مفرقة في القرآن، ورد هذا القول ابن جرير، وابن عبد البر، وغيرهما، ودل على عدم صحته هذا الحديث؛ لأن هشاماً وعمر كلاهما قرشي، فلغتهما واحدة، ولا يعقل أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – يعلم الرجل القرآن بغير لغته.
وقيل: المراد بها: تأدية المعنى الواحد باللفظ المرادف، ولو كان من لغة واحدة؛ لأن هشاماً وعمر لغتهما واحدة، وقد اختلف قراءتهما.
اختار هذا القول ابن جرير الطبري، وابن عبد البر، وقال: إنه قول أكثر العلماء، وهذا هو الصواب، كما يأتي بيانه.
((وقال الداني: معنى نزول القرآن على سبعة أحرف يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه نزل على سبعة أوجه من اللغات متغايرة في القرآن.
الثاني: أنها قراءات سميت أحرفاً؛ لعادة العرب في تسمية الشيء باسم ما هو منه.
وقد أجمع العلماء على أنه لم يقصد أن كل حرف يقرأ على سبعة أوجه، إذ لا يوجد ذلك إلا في كلمات معدودة، نحو ((أف)) و ((جبريل)) و ((أرجه)) و ((هيهات)) و ((هيت)) .
كما أجمعوا أنه ليس المراد بالأحرف السبعة: قراءات القراء السبعة الذين اشتهروا بذلك؛ لأن أول من جمع قراءاتهم ابن مجاهد في أثناء المائة الرابعة.
وأكثر العلماء على أنها لغات، كما قال أبو عبيد: إنها سبع لغات متفرقة في القرآن (1) .
وهذا خلاف ما قاله ابن عبد البر: إن أكثر أهل العلم على أن المراد تأدية
_________
(1) النشر (1/74-75) ملخصاً.(2/608)
المعنى الواحد بألفاظ مترادفة، وإن كان ذلك في لغة واحدة كما سبق قريباً، وتقدم أن هذا الحديث يؤيد صحة هذا القول، ويرد ما قاله الداني: إنه قول أكثر العلماء.
قال الجزرى: - رحمه الله – ((ما زلت أستشكل هذا الحديث، وأفكر فيه، وأمعن النظر من نيف وثلاثين سنة، حتى فتح الله عليَّ بما يمكن أن يكون صواباً إن شاء الله – تعالى -، وذلك أني تتبعت القراءات صحيحها وشاذها، وضعيفها، ومنكرها، فإذا هو يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه من الاختلاف، لا يخرج عنها.
(1) إما في الحركات بلا تغير فى المعنى والصورة، نحو ((البخل)) بأربعة، و ((يحسب)) بوجهين.
(2) أو بتغير في المعنى فقط، نحو: (فَتَلَقَّى آدَمَ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٌ) (1) ، {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} و ((أمه)) (2) .
(3) وإما في الحروف بتغير المعنى، لا الصورة، نحو ((تبلوا)) و ((تتلوا)) (نُنَحِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ) ، {نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} (3) .
(4) أو عكس ذلك [أي بتغير الحروف مع اتفاق المعنى] نحو ((بصطة)) و ((بسطة)) و ((الصراط)) و ((السراط))
(5) أو بتغيرهما نحو ((أشد منكم)) و ((أشد منهم)) ، و ((يأتل)) و ((يتأل)) و (فامضوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ) و {فَاسعَواْ إِلَى ذِكرِ اللهِ} .
_________
(1) يعني: بنصب آدم، ورفع كلمات، عكس القراءة المشهورة.
(2) بالتاء المربوطة، وبالهاء.
(3) الأولى بالحاء المهملة، والثانية بالجيم المشددة.(2/609)
(6) أو بالتقديم والتأخير نحو {فَيَقتُلُونَ وَيُقتَلُونَ} و (وَيُقْتَلُونَ فَيَقْتُلُونَ) ، و {وَجَاءَت سَكرَةُ المَوتِ بِالحَقِ} و (جَاءَتْ سَكْرَةُ الحَقِّ بالْمَوْتِ) .
(7) أو في الزيادة والنقصان، نحو ((وأوصى)) و ((وصى)) و {وَمَا خَلَقَ الذَكَرَ وَالأُنثَى} و ((والذكر والأنثى)) .
وأما اختلاف الإظهار والإدغام، والروم والإشمام، والتفخيم والترقيق، والمد والقصر، والإمالة والفتح، والتخفيف والتسهيل، والإبدال والنقل، ونحو ذلك مما يعبر عنه بالأصول، فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ والمعنى)) (1) .
وقال ابن قتيبة – رحمه الله – ((وقد غلط في تأويل هذا الحديث قوم، فقالوا: السبعة الأحرف: وعد، ووعيد، وحلال، وحرام، ومواعظ، وأمثال، واحتجاج.
وقال آخرون: هي سبع لغات في الكلمة، وليس شيء من ذلك لهذا الحديث بتأويل.
ومن قال: فلان يقرأ بحرف ((أبي عمرو)) (2) .
أو بحرف ((عاصم)) (3) ، فإنه لا يريد شيئاً مما ذكر، وليس يوجد في كتاب الله – تعالى – حرف قرئ على سبعة أوجه يصح، فيما أعلم.
وإنما تأويل قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((نزل القرآن على سبعة أحرف)) : على سبعة أوجه من اللغات، متفرقة في القرآن، يدلك على ذلك قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
_________
(1) النشر (1/77-78) .
(2) هو: أبو عمرو بن العلاء بن عمار المازني، المقرئ، أحد الأئمة السبعة، توفي سنة (154هـ) .
(3) هو عاصم بن أبي النجود، المقرئ المشهور، توفي سنة (127هـ) .(2/610)
((فاقرءوا كيف شئتم)) ، وقصة عمر مع هشام، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه)) .
فمن قرأه، قراءة عبد الله بن مسعود، فقد قرأ بحرفه، ومن قرأ قراءة أُبيّ بن كعب، فقد قرأ بحرفه، ومن قرأ قراءة زيد بن ثابت، فقد قرأ بحرفه.
والحرف يطلق على أحد حروف المعجم، وعلى الكلمة الواحدة، وعلى الكلام المؤلف في معنى، أو معان كثيرة، كما يقال: قال الشاعر في كلمته – يعني: قصيدته -.
وقال الله -تعالى -: {وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ} (1) ، وقال تعالى: {وَأَلزَمَهُم كَلِمَةَ التَّقوَىَ} (2) ، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} (3) ، أراد سبحانه وتعالى: من يعبد الله على الخير يصبه، من تثمير المال، وعافية البدن، وإعطائه السؤال، فهو مطمئن ما دام ذلك له.
وإن امتحنه الله تعالى باللأواء في عيشه، والضراء في بدنه وماله، كفر به.
فهذا عَبَدَ الله على وجه واحد، وهو معنى الحرف، ولو عَبَد الله على الشكر للنعمة، والصبر للمصيبة، والرضا بالقضاء، لم يكن عبد الله على حرف.
وقد تدبرت وجوه الخلاف في القراءات، فوجدتها سبعة أوجه:
أولها: الاختلاف في إعراب الكلمة، أو في حركة بنائها بما لا يزيلها عن صورتها في الكتابة، ولا يغير معناها، نحو قوله تعالى: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ
_________
(1) الآية 74 من سورة التوبة.
(2) الآية 26 من سورة الفتح.
(3) الآية 11من سورة الحج.(2/611)
أَطهَرُ لَكُم} و (أَطْهَرَ لَكُمْ) (1) ، {وَهَل نُجازِي إِلاَّ الكَفُورَ} (وَهَل يجازي إِلاَّ الْكَفُورَ) ، و {وَيأمُرُونَ النَّاسَ بِالبُخِلِ} والبَخَلِ (2) {فَنَظِرةُ إِلَى مَيسَرَةٍ} ((وميسرة)) (3) .
الوجه الثاني: أن يكون الاختلاف في إعراب الكلمة، وحركات بنائها بما يغير معناها، ولا يزيلها عن صورتها في الكتابة، نحو قوله تعالى: {رَبَّنَا بَاعِد بَينَ أَسفَارِنَا} و ((رَبُّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)) (4) ، وقوله تعالى: {إِذ تَلَقَّونَهُ بِأَلسِنَتكُم} و (تَلِقُونَه) (5) و {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} و ((أمه)) (6) 0) .
الوجه الثالث: أن يكون الاختلاف في حروف الكلمة دون إعرابها، بما يغير معناها، ولا يزيل صورتها، نحو قوله تعالى:
{وَانظُر إِلَى العِظَامِ كَيفَ نَنشِرُهَا} ، وننشرها، وقوله: {حَتَّىَ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِم} وفرغ.
الوجه الرابع: أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يغير صورتها في الكتابة، ولا يغير معناها، نحو قوله تعالى: {إِن كَانَت إِلاَّ صَيحَةً وَاحِدَةً} وقوله: ((إلا زقية واحدة)) وقوله: {كَالعِهنِ المَنفُوشِ} و ((كالصوف المنقوش)) .
الوجه الخامس: أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يزيل صورتها، ومعناها، ونحو قوله: ((وطلع منضود)) في موضع، و {وَطَلِحٍ مَّنضُودٍ} في موضع آخر.
_________
(1) الثانية بنصب الراء.
(2) بفتح الخاء.
(3) بضم السين.
(4) الأولى بفتح الباء على صورة الدعاء، والثانية بضم الباء وفتح العين والدال، خبر.
(5) بفتح التاء، وكسر اللام، وضم القاف، من الولق، وهو الكذب.
(6) أي: بعد النسيان له.(2/612)
الوجه السادس: أن يكون الاختلاف في التقديم، والتأخير، نحو {وَجَاءَت سَكرَةُ المَوتِ بِالحَقِ} وفي موضع آخر ((وجاءت سكرة الحق بالموت)) .
الوجه السابع: أن يكون الاختلاف بالزيادة، والنقصان، نحو قوله تعالى: {وَمَا عَمِلَتهُ أَيدِيهِم} وقوله: {إِنَّ اللهَ هُوَ الغَنِيُ الحَمِيدُ} و ((إن [الله] الغني الحميد)) .
وكل هذه الحروف كلام الله – تعالى – أنزل به الروح الأمين، على رسوله – صلى الله عليه وسلم – وكان يعارضه في كل سنة، في شهر رمضان، وفي السنة التي توفي فيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عارضه مرتين، فيحدث الله إليه من ذلك ما يشاء، وينسخ ما يشاء، وييسر على عباده ما يشاء، فكان من تيسيره أن أمره أن يقرئ كل قوم من العرب بلغتهم، وما جرت عليه عادتهم.
فالهذلي يقرأ ((عتى حين)) يريد {حَتَّىَ حِينٍ} ؛ لأنه هكذا ينطق بها.
والأسدي يقرأ ((تِعْملون)) و ((تِعلم)) و ((يَسْوَدُّ وجوه)) و ((ألم إعْهَدْ إليكم)) .
والتميمي يهمز، والقرشي لا يهمز، فلو أمر كل واحد أن يلتزم لغة غيره لصعب عليه مفارقة ما جرت عليه عادته، وما نشأ عليه، ولم يمكنه ذلك إلا بمشقة، وبعد رياضة طويلة.
فأراد الله رحمة منه، ولطفاً بعباده، أن يجعل لهم متسعاً في لغاتهم يناسب تيسيره عليهم في الدين.
فإن قيل: أليس هذا اختلافاً، وقد قال الله – تعالى -: {وَلَو كَانَ مِن عِندِ غَيرِ اللهِ لَوجَدُواْ فِيهِ اختِلافاً كَثِيراً} .
قيل: الاختلاف نوعان: اختلاف تضاد، وهو الذي نفاه الله – تعالى – عن(2/613)
كتابه، مثل أن ينهى عن شيء، ويأمر به في مكان آخر، أو ينفي الشيء، ويثبته في مكان آخر، ونحو ذلك، وهذا لا وجود له في كتاب الله – تعالى -.
الثاني: اختلاف تنوع وتغاير، وهو جائز في الكلام، وكثير؛ لأن كل واحد لا ينافي الآخر، وذلك نحو قوله تعالى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} بفتح التاء من ((علمت)) وضمها؛ لأن موسى – عليه السلام – خاطب فرعون بهذا، وهذا، فأنزل الله المعنيين جميعاً.
ومثلها قوله تعالى: ((ننشرها)) و ((ننشزها)) فالانتشار، الإحياء، والإنشاز: هو التحريك، والحياة حركة، فلا فرق بينهما.
وكذلك ((فزع عن قلوبهم)) و ((فرغ)) ؛ لأن فزع: خفف عنها الفزع، وفرغ: أزيل، وأخليت منه، وكل ما في القرآن من تقديم وتأخير، أو زيادة أو نقصان، فعلى مثل هذه السبيل.
فإن قيل: هل يجوز أن نقرأ بجميع هذه الأوجه؟
قيل: كل ما كان منها موافقا لرسم المصحف [وقرأ به الأئمة، ونقل نقلاً متواتراً] جاز لنا أن نقرأ به؛ لأن الصحابة قد أجمعوا على ما فعله أمير المؤمنين، وحرقوا ما خالف المصحف الإمام، فلا يجوز لأحد أن يخالف المصحف الذي أجمع عليه الصحابة، رضوان الله عليهم، كما لا يجوز أن نكتب مصحفاً مخالفاً له (1) .
وقال الحافظ: ((اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على أقوال كثيرة، أبلغها أبو حاتم ابن حبان إلى خمسة وثلاثين قولاً.
وقوله: {فَاقرَءُواْ مَا تَيَسَرَ مِنهُ} ، يدل على التوسعة في القراءة،
_________
(1) ((تأويل مشكل القرآن)) (ص34-42) ببعض التصرف والتلخيص.(2/614)
والتيسير، وهذا يقوي قول من يقول: المراد بالأحرف: تأدية المعنى باللفظ المرادف، ولو كان من لغة واحدة؛ لأن هشاماً وعمر لغتهما واحدة، ونقل ابن عبد البر عن أكثر أهل العلم أن هذا هو المراد بالأحرف السبعة.
وذهب أبو عبيد وآخرون إلى أن المراد: اختلاف اللغات، واتفقوا على أنه ليس المقصود أن كل كلمة تقرأ بسبع لغات.
ولا يقصد أن التوسعة في القراءة تقع بالتشهي حسب مراد المتكلم، إذا أراد أن يغير الكلمة بمرادفها، بل لا بد في ذلك من السماع من الرسول – صلى الله عليه وسلم -. ولهذا جاء أن كل واحد من المختلفين الذين على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: أقرأني النبي – صلى الله عليه وسلم -، وإن كان وجد من كان يقرأ بذلك، وإن لم يكن مسموعاً من النبي – صلى الله عليه وسلم -، مثل قراءة ابن مسعود (عَتَّى حِين) بلغة هذيل، وقد أنكر عليه عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وكتب إليه: ((إن القرآن لم ينزل بلغة هذيل، فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل)) وهذا قبل أن يجمع أمير المؤمنين عثمان- رضي الله عنه – الناس على مصحف واحد، بقراءة واحدة.
وحاصل ذلك أن معنى قوله: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف)) أنه أنزل موسعاً على القارئ أن يقرأه على سبعة أوجه، بأن يقرأ بأي حرف أراد منها على البدل من الآخر، وذلك لتسهيل قراءته، إذ لو أخذوا بأن يقرأوه على حرف واحد لشق عليهم)) (1) .
وقال ابن عبد البر: ((وفي حديث عمر مع هشام رد لقول من قال: إنها سبع لغات؛ لأن عمر قرشي عدوي، وهشام بن حكيم بن حزام قرشي أسدي، ومحال أن ينكر عليه عمر لغته، كما أنه محال أن يقرئ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واحداً
_________
(1) ((الفتح)) (9/30) .(2/615)
منهما بغير ما يعرفه من لغته.
والأحاديث الصحاح المرفوعة كلها تدل على نحو ما يدل عليه حديث عمر هذا.
وقالوا: إنما معنى السبعة الأحرف: سبعة أوجه من المعاني، المتفقة المتقاربة بألفاظ مختلفة، نحو أقبل، وتعال، وهلم، وعليَّ. وعلى هذا الكثير من أهل العلم)) (1) .
وهذا هو الصحيح، والأخبار الصحيحة والآثار عن علماء الأمصار تدل على صحة هذا القول، وأنه الصواب، مثل ما رواه الإمام أحمد، وابن جرير، وابن عبد البر، عن أبي بكرة، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((قال جبريل: اقرأوا القرآن على حرف، فقال مكائيل: استزده، فقال: على حرفين، حتى بلغ ستة أو سبعة أحرف، فقال: كلها شاف كاف، ما لم يختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب، كقولك: هلم، وتعال)) ، وفي رواية ابن عبد البر: ((فقال مكائيل: استزده، حتى بلغ إلى سبعة أحرف، فقال: اقرأه فكل شاف كاف، إلا أن تخلط آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة، وعلى نحو: هلم، وتعال، وأقبل، واذهب، وأسرع، وعجل)) (2) .
وروى الإمام أحمد، والطبري، من حديث أبي هريرة، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف، غفورا رحيما، عزيزا حكيما، عليما حكيما)) وربما قال: ((سميعا بصيرا)) (3) ، قال ابن عبد البر:
_________
(1) ((التمهيد)) (8/281) .
(2) ((المسند)) (5/51) ، والطبري (1/23) ، والتمهيد (8/290) .
(3) ((المسند)) (2/332) ، و ((تفسير الطبري)) (1/22) .(2/616)
((وقوله: سميعا عليما، وغفورا رحيما، وعليما حكيما، أراد به ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها، وأنها معان متفق مفهومها، مختلف مسموعها، لا يكون في شيء منها معنى، وضده، وما أشبه ذلك، وهذا كله يعضد قول من قال: إن معنى السبعة الأحرف: سبعة أوجه من الكلام المتفق معناه، المختلف لفظه، نحو: هلم، وتعال، وعجل، وأسرع، وانظر، وأخر)) (1) .
وذكر عن الزهري أنه قال: ((إنما هذه الأحرف في الأمر الواحد، ليس تختلف في حلال، ولا حرام)) (2) .
وذكر عن أُبيّ بن كعب أنه كان يقرأ: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَواْ فِيهِ} ((مروا فيه، سعوا فيه)) ، كل هذه الأحرف كان يقرؤها أُبيّ بن كعب، فهذا معنى الحروف المراد بهذا الحديث)) (3) .
وروى ابن جرير أن أنس بن مالك قرأ هذه الآية: (إِنَّ نِاشِئَةَ اللَّيلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَصْوَبُ قِيلاً) فقال بعض القوم: يا أبا حمزة، إنما هي ((وَأَقْوَمُ)) فقال: أقوم، وأصوب وأهيأ، واحد)) (4) .
وروي عن سعيد بن المسيب: أن الذي ذكر الله – تعالى ذكره – أنه قال: {إِنَّمَا يُعَلمُهُ بَشَرُ} إنما افتتن أنه كان يكتب الوحي، فكا يملي عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: سميع عليم، أو عزيز حكيم، أو غير ذلك من خواتم الآي، ثم يشتغل عنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وهو على الوحي، فيستفهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فيقول: أعزيز حكيم؟ أو سميع عليم؟ أو عزيز عليم؟ فيقول له رسول الله
_________
(1) ((التمهيد)) (8/284) .
(2) ((التمهيد)) (8/291) .
(3) المصدر نفسه.
(4) ((تفسير ابن جرير)) (1/52) .(2/617)
– صلى الله عليه وسلم -: أي ذلك كتبت، فهو كذلك، ففتنة ذلك، فقال: إن محمداً وَكَلَ ذلك إليَّ، فاكتب ما شئت. وهو الذي ذكر لي سعيد بن المسيب من الحروف السبعة (1) .
ومما يسأله عنه، هل هذه الحروف السبعة موجودة في المصحف الذي بين أيدي المسلمين؟ أو أنها كانت زمن الرسول – صلى الله عليه وسلم، والخليفتين بعده، وصدرا من خلافة عثمان – رضي الله عنهم – ثم لما جمع عثمان الناس على مصحف واحد، تركت الحروف الستة، أو بعضها؟
قال الحافظ: ((قال أبو شامة: وقد اختلف السلف في الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، هل هي مجموعة في المصحف الذي بأيدي الناس اليوم، أو ليس فيه إلا حرف واحد منها؟
مال ابن الباقلاني إلى الأول، وصرح الطبري وجماعة بالثاني، وهو المعتمد.
وقد أخرج ابن أبي داود في المصاحف، عن أبي الطاهر بن أبي السرح، قال: سألت ابن عيينة عن اختلاف قراءة المدنيين، والعراقيين: هل هي الأحرف السبعة؟ قال: لا، وإنما الأحرف السبعة مثل: هلم، وتعال، وأقبل، أي ذلك قلت أجزاك)) قال: وقال لي ابن وهب مثله.
والحق أن الذي جمع في المصحف هو المتفق على إنزاله، المقطوع به، المكتوب بأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – وفيه بعض الأحرف التي اختلف فيها من الأحرف السبعة، لا جميعها، كما وقع في المصحف المكي {تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ} في آخر براءة، وفي غيره بحذف ((من)) .
_________
(1) ((تفسير ابن جرير)) (1/54) تحقيق محمود شاكر.(2/618)
وكذا ما وقع من اختلاف مصاحف الأمصار في عدة واوات، ونحو ذلك، وهو محمول على أنه نزل بالأمرين معاً، وأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بكتابته لواحد، أو اثنين، [وعلمه بعض الصحابة] ، وما عدا ذلك من القراءات مما لا يوافق الرسم،
فهو مما كانت القراءة جائزة به توسعة على الناس، وتسهيلاً، فلما آل الأمر إلى ما وقع من الاختلاف في زمن عثمان – رضي الله عنه – وكفَّر بعضهم بعضاً، اختار الصحابة – رضي الله عنهم – الاقتصار على اللفظ المأذون في كتابته، وتركوا الباقي.
قال الطبري: وصار ما اتفق عليه الصحابة من الاقتصار على حرف واحد، كمن اقتصر مما خير فيه على خصلة واحدة؛ لأن أمرهم بالقراءة على الأوجه المذكورة، لم يكن على سبيل الإيجاب، بل على سبيل الرخصة.
قلت: ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: {فَاقرَءُواْ مَا تَيَسَرَ مِنهُ} وقال أبو العباس ابن عمار: أصح ما عليه الحذاق: أن الذي يقرأ الآن بعض الحروف السبعة المأذون في قراءتها، لا كلها، [فما وافق رسم المصحف من تلك الحروف جازت القراءة به مع التواتر] ، وما خالفه مثل: ((أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج)) ، ومثل: ((إذا جاء فتح الله والنصر)) فهو من تلك القراءات التي تركت، إن صح سندها، ولا يكفي صحة سندها في إثبات كونها قرآناً، ولا سيما والكثير منها مما يحتمل أن يكون من التفسير الذي قرن إلى التنزيل، فصار يظن أنه منه)) (1) .
وقال البغوي في ((شرح السنة)) : ((المصحف الذي استقر عليه الأمر هو آخر العرض على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فأمر عثمان – رضي الله عنه – بنسخه في المصاحف، وجمع الناس عليه، وأذهب ما سوى ذلك؛ قطعاً لمادة الخلاف،
_________
(1) ((الفتح)) (9/30) .(2/619)
فصار ما يخالف خط المصحف في حكم المنسوخ، والمرفوع، كسائر ما نسخ، ورفع، فليس لأحد أن يعدو في اللفظ إلى ما هو خارج عن الرسم)) (1) .
قال ابن عبد البر: المصحف الذي بأيدي الناس اليوم هو منها حرف واحد، وعليه أهل العلم.
ثم ذكر عن مالك أنه سئل عمن يقرأ بمثل ما قرأ عمر بن الخطاب: ((فامضوا إلى ذكر الله؟ فقال: ذلك جائز، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف، فاقرءوا منه ما تيسر)) ، مثل ((تعلمون، ويعلمون، لا أرى في اختلافهم في مثل هذا بأساً.
ثم قال: قال ابن وهب: أخبرني مالك بن أنس، قال: أقرأ عبد الله بن مسعود رجلاً: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُومِ {43} طَعَامُ الأَثِيمِ} فجعل الرجل يقول: طعام اليتيم، فقال ابن مسعود: طعام الفاجر، فقلت لمالك: أترى أن يقرأ كذلك؟
قال: نعم، أرى ذلك واسعاً.
قال: معناه عندي: أن يقرأ به في غير الصلاة (2) ، وإنما ذكرنا عن مالك تفسيراً لمعنى الحديث، وإنما لم نجز القراءة به في الصلاة؛ لأن ما عدا مصحف عثمان فلا يقطع عليه، وإنما يجري مجرى السنن، التي نقلها الآحاد، لكن لا يقدم أحد على القطع في رده.
وذكر عن ابن القاسم أنه قال: أرى أن على الإمام أن يمنع من يبيع مصحف ابن مسعود، وأن يضرب من قرأ به، ويمنعه.
_________
(1) ((الفتح)) (9/30) ، وانظر ((شرح السنة)) (4/511) ، وقد تصرف الحافظ فيه.
(2) الظاهر أن ابن مسعود أراد أن يفسر الأثيم، ويبين معناه له.(2/620)
وقد قال مالك: من قرأ في صلاته بقراءة ابن مسعود، أو غيره من الصحابة مما يخالف المصحف، لم يصل وراءه.
وعلماء المسلمين مجمعون على ذلك، إلا قوماً شذوا، لا يعرج عليهم.
وهذا كله يدلك على أن السبعة الأحرف التي أشير إليها في الحديث ليس بأيدي الناس منها إلا حرف زيد بن ثابت الذي جمع عليه عثمان – رضي الله عنه – المصحف.
وذكر بسنده إلى أبي الطاهر، قال: سألت سفيان بن عيينة عن اختلاف قراءة المدنيين، والعراقيين، هل تدخل في السبعة الأحرف؟ فقال: لا. وإنما السبعة الأحرف كقولهم: هلم، أقبل، تعال، أي ذلك قلت أجزأك.
قال أبو طاهر: وقاله ابن وهب.
قال أبو بكر محمد بن عبد الله الأصبهاني المقرئ: معنى قول سفيان هذا أن اختلاف العراقيين، والمدنيين، حرف واحد، من الأحرف السبعة، وبه قال محمد بن جرير الطبري.
وقال أبو جعفر الطحاوي: كانت هذه السبعة للناس في الحروف؛ لعجزهم عن أخذ القرآن على غيرها؛ لأنهم أميين، لا يكتبون إلا القليل منهم، فكان يشق على كل ذي لغة منهم أن يتحول إلى غيرها من اللغات، ولو رام ذلك لم يتهيأ له، إلا بمشقة عظيمة، فوسع لهم في اختلاف الألفاظ، إذا كان المعنى متفقاً، فكانوا كذلك حتى كثر من يكتب منهم، وحتى عادت لغاتهم إلى لسان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقرأوا بذلك على تحفظ ألفاظه، فلم يسعهم حينئذ أن يقرأوا بخلافها.
وبان بما ذكرناه أن تلك السبعة الأحرف إنما كانت في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك، ثم ارتفعت تلك الضرورة، فارتفع حكم هذه السبعة(2/621)
الأحرف، وعاد ما يقرأ به القرآن إلى حرف واحد)) (1) .
فإن قيل: هذه الأحرف أنزلها الله، وعلمها الرسول – صلى الله عليه وسلم – الصحابة، فثبتت لديهم من كلام الله، وتركها وعدم الاعتناء بها وحفظها ونقلها يكون تفريطاً من الأمة بما كلفت بحفظه.
قيل: الأمر كذلك أن الله أنزلها قرآناً، والرسول – صلى الله عليه وسلم – علمها الصحابة، وحفظهم إياها، ولكن الأمة لم تفرط بحفظها، ولم تضيع ما كلفت به، وإنما جعل الأمر إليها، فخيرت في قراءة القرآن بأي حرف من الأحرف السبعة شاءت، مثل تخييرها في كفارة اليمين بين ثلاثة الأشياء، المذكورة في الآية، إما عتق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فلو أجمعوا على التكفير بواحدة من الثلاث دون حصر التكفير بأي واحدة من الثلاث شاء المكفر لكان ذلك صواباً، مؤدياً للواجب من حق الله – تعالى -. فكذلك مسألة الأحرف السبعة، فإن الله خيرهم فيها توسعة لهم وتسهيلاً عليهم، فإذا رأت الأمة الاقتصار على حرف واحد، من الأحرف السبعة؛ لأمر أوجب ذلك، من خوف الاختلاف، والكفر الذي قد يكون من بعضهم لبعض بسبب القراءة بالأحرف السبعة، كان الصواب – بل الواجب – هو الاقتصار على حرف واحد منها، مع أمن الاختلاف، والتفرق. وهذا ما أدركه الخليفة الثالث، ووافقه عليه أصحاب الرسول – صلى الله عليه وسلم – فكان فيه الخير، والرشد، والهدى، وقد أوضح ذلك الإمام ابن جرير في مقدمة التفسير (2) .
ومقصد البخاري: قوله: {فَاقرَءُواْ مَا تَيَسَرَ مِنهُ} فأسند القراءة إليهم، مما يدل على أنها فعلهم، ولما فيها من وصف التيسير، فإنهم يختلفون في ذلك،
_________
(1) ((التمهيد)) (8/291-24) .
(2) انظر (1/58) بتحقيق محمود شاكر.(2/622)
فمنهم من ييسر له أكثر مما ييسر لغيره، ولما فيه من اختلاف قراءتهم، فكل واحد منهم قرأ بغير قراءة الآخر، فالاختلاف وصف لقراءتهم، لا للقرآن، وهذا كله يدل على أن ذلك فعلهم، وهو المقصود.
*****
قال: باب قول الله تعالى -: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كل مُيَسر لِمَا خُلِقَ لَهُ)) يقال: ميسر: مهيأ.
وقال مجاهد: يسرنا القرآن بلسانك، هونا قراءته عليك.
وقال مطر الوراق: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} قال: ((هل من طالب علم فيعان عليه) .
قال العيني: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي: سهلناه للادكار والاتعاظ.
{فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} متعظ، وأصل ((مدكر)) مفتعل من الذكر، قلبت التاء دالاً، ثم أدغمت في الأخرى (1) .
قال ابن جرير: ((يقول تعالى ذكره: ولقد سهلنا القرآن، بيناه، وفصلناه للذكر، لمن أراد أن يتذكر، ويعتبر، ويتعظ، وهوناه.
ثم روى عن مجاهد أنه قال: هوناه، وعن ابن زيد، قال: بيناه.
ثم قال: وقال بعضهم: هل من طالب علم، أو خير، فيعان، وهو قريب المعنى مما قلناه)) (2) .
وقال ابن كثير: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} أي: سهلنا لفظه، ويسرنا معناه، لمن أراده ليتذكر الناس، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ
_________
(1) ((عمدة القاري)) (25/195) .
(2) ((تفسير الطبري)) (27/96) .(2/623)
لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب} ِ (1) وقال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} ِ (2) ، وقال مجاهد، يعني: هونا قراءته.
وقال السدي: يسرنا تلاوته على الألسن.
وقال الضحاك: عن ابن عباس: ((لولا أن الله يسره على لسان الآدميين، ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عز وجل)) (3) .
{فَهَل مِن مُّدَّكِرٍ} استفهام أريد به الحض على التذكر، ولا بد قبل التذكر من التعلم، فالله - تعالى - قد سهل طرق حفظ القرآن، وفهمه، وثمرة ذلك: العمل به، والاتعاظ بمواعظه.
قال ابن كثير: {فَهَل مِن مُّدَّكِرٍ} أي: فهل من متذكر بهذا القرآن الذي يسر الله حفظه ومعناه؟ وقال محمد بن كعب القرظي: فهل من منزجر عن المعاصي؟ (4) .
وقال القسطلاني: ((ولقد سهلناه للحفظ، وأعنا عليه من أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه ليعان عليه، ويروى أن كتب أهل الأديان كالتوراة والإنجيل، لا يتلوها أهلها إلا نظراً، ولا يحفظونها ظاهراً كالقرآن)) (5) .
وقول مجاهد، تقدم أن ابن جرير رواه بسنده عنه، وقال الحافظ: رواه الفريابي في تفسيره بسنده.
_________
(1) الآية 29 من سورة ص.
(2) الآية 97 من سورة مريم.
(3) ((تفسير ابن كثير)) (7/453) .
(4) المصدر نفسه.
(5) ((إرشاد الساري)) (10/469) .(2/624)
وقوله: ((هونا قراءته عليك)) لا يريد اختصاص النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فإن ظاهر الآية يدل على العموم، ولهذا قال: {فَهَل مِن مُّدَّكِرٍ} وإنما يريد تهوين قراءته على كل من أقبل عليه صادقاً، ويدخل في ذلك فهم معانيه، فإن الله - تعالى - قد يسرها لمن تدبره.
وقول مطر الوراق، سبق أن ابن جرير رواه بسنده، وقال: إنه قريب المعنى مما قلناه، يعني: فصلناه، وبيناه، لمن أراد الفهم والتذكر، والاتعاظ، وذلك لما في لفظ التيسير مما يدل على التسهيل، والإعانة، وما يدل عليه الاستفهام من إرادة ذلك، والله أعلم. ومقصود البخاري: أن حفظ كتاب الله وفهمه، والتذكر به والاتعاظ، وكذلك تلاوته وقراءته، كل ذلك عمل العبد الذي يطلب من ربه أن يعينه عليه، ويسهله له، وقد وعد بذلك جل وعلا.
أما المفهوم المحفوظ المتلو فهو غير فعل العبد المخلوق، بل هو كلام الله وصفته.
175- قال: ((حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا يزيد، حدثني مطرف بن عبد الله، عن عمران، قال: قلت: يا رسول الله، فيما يعمل العاملون؟ قال: كل ميسر لما خلق له)) .
هذا السؤال تكرر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عدد من أصحابه، فبين لهم أن الله - تعالى - قد علم أهل الجنة وأهل النار قبل وجودهم، وأنه تعالى قد كتب ذلك في الأزل، ونهاهم - صلى الله عليه وسلم - أن يتكلوا على ذلك الكتاب، ويدعوا العمل.
وكأنه عرض لهم أنه إذا كان أهل الجنة قد عملوا، وكتبوا، وكذلك أهل(2/625)
النار، فلا فائدة في العمل، والاجتهاد، فإنه لا بد من حصول المكتوب، فأجابهم عن ذلك بقوله: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) ، يعني: أن الذي كتب من أهل الجنة سوف يهيئ الله له أسباب عمل أهل الجنة، وييسرها له فيعملها، فتكون سبباً لدخوله الجنة. وكذلك الذي كتب من أهل النار، لابد أن يعمل عملاً يستحق به دخول النار، وقد أوضح ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – إيضاحا تاما.
ففي سنن أبي داود، والترمذي، أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – سئل عن هذه الآية: {وَإِذ أَخَذَ رَبُكَ مِن بَنِي آَدَمَ مِن ظُهُورِهِم ذُرِيَّتَهُم} ؟ فقال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سئل عنها فقال: ((إن الله – عز وجل – خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون)) .
فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله – عز وجل – إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله به النار)) (1) .
وفي ((صحيح مسلم)) عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين
_________
(1) انظر ((السنن)) لأبي داود (5/79-80) ، والترمذي (5/266) رقم (3075) وقال: حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر. ورواه الإمام أحمد في ((المسند)) (1/44، 45) ، وابن وهب في ((كتاب القدر)) (ص73) .(2/626)
ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء)) (1) .
وفيه أيضاً عن أبي الأسود الدِّئِليّ، قال: قال لي عمران بن الحصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه، أشي قضي عليهم ومضى عليهم من قدر ما سبق؟ أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟
فقلت: بل شيء قضي عليهم، ومضى عليهم.
قال: فقال: أفلا يكون ظلماً؟
قال: ففزعت من ذلك فزعا شديدا، وقلت: كل شيء خلق الله، وملك يده، فلا يسأل عما يفعل، وهم يسألون.
فقال لي: يرحمك الله، إني لم أرد بما سألتك إلا حرز عقلك، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه، أشي قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟
فقال: ((لا، بل شيء قضى عليهم، ومضى عليهم، وتصديق ذلك كتاب الله – عز وجل -: {وَنَفسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَألهَمَها فُجُورَهَا وَتَقوَاهَا} (2) .
وروى ابن وهب عن عبد الله بن عمرو، قال: خرج علينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفي يده كتابان، فقال: ((هل تدرون ما هذان الكتابان؟)) فقلنا: لا، إلا أن تخبرنا يا رسول الله، فقال للذي بيده اليمنى: ((هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم، وقبائلهم، وأجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم أبداً)) .
_________
(1) انظر (4/2044) رقم (2653) .
(2) ((صحيح مسلم)) (4/2041) رقم (2650) .(2/627)
ثم قال للذي في شماله: ((هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل النار، وأسماء آبائهم، وقبائلهم، وأجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً)) .
فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله؟ إن كان الأمر قد فرغ منه؟
فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((سددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار، وإن عمل أي عمل)) .
ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بيديه، فنبذهما، ثم قال: ((فرغ ربكم من العباد، فريق في الجنة، وفريق في السعير)) (1) .
والأحاديث في هذا كثيرة، ففي ذلك أن الله – تعالى – علم أهل الجنة وكتبهم، وأرادهم كوناً من أهلها، وكذلك أهل النار، قبل وجودهم بزمن طويل جداً، وقبل أن يعملوا ما يستحقون عليه دخول الجنة أو النار، وهذا من كمال علم الله – تعالى -، وهو مما يجب الإيمان به، وقد نص الأئمة على كفر من جحده.
قال اللالكائي: ((روي عن مالك بن أنس، والأوزاعي، وعبيد الله بن الحسن العنبري: يستتابون، فإن تابوا وإلا قتلوا.
وعن سعيد بن جبير: القدرية يهود، وعن الشعبي: القدرية نصارى.
وعن نافع مولى ابن عمر: القدرية يقتلون، وحكى المزني عن الشافعي: أنه كفرهم، وعن إبراهيم بن طهمان: القدرية كفار.
_________
(1) رواه الترمذي (4/249) ، وابن وهب في كتاب القدر (83-87) والآجري في الشريعة (ص173) ، وابن جرير في ((التفسير)) من طريق ابن وهب (25/9) ، وهذان الكتابان اللذان أخذهما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليسا هما الكتابان اللذان كتب الله فيهما أسماء أهل الجنة وأهل النار، وإنما ذلك تمثيل من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتقريب إلى أفهام الناس بأن الله – تعالى – علم كل شيء مما سيكون وما يصير إليه العباد، وكتبه تأكيداً لعلمه تعالى، فلا يتغير ولا يتبدل.(2/628)
وعن أحمد بن حنبل مثل قول مالك)) (1) .
وفي هذه الأحاديث بيان أن كل أحد لا بد له من عمل يكون سبباً لدخوله الجنة أو النار.
فالنبي – صلى الله عليه وسلم – بين أن الله – تعالى – علم أهل الجنة، وأهل النار، وأنه كتب ذلك ونهى الناس أن يتكلوا على ما سبق في الكتاب عليهم، ويدعوا العمل، كما يفعله الملحدون، وقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، فأهل السعادة سوف تتهيأ لهم من الأسباب ما تمكنهم من عمل أهل السعادة.
وكذلك أهل الشقاء، لا بد أن يعملوا الأعمال التي يشقون بها، ويستحقون النار عليها.
فالله – تعالى- يعلم كل شيء على ما هو عليه، وقد جعل لكل شيء سبباً، وجعل العبد قادراً على العمل الذي كتب عليه، فيفعله مختاراً، راغباً غير مجبر عليه، ولا ملزم به.
ولهذا يجب على العبد، مع الإيمان بالقدر: الاجتهاد في العمل، والأخذ بأسباب النجاة، والالتجاء إلى الله – تعالى – بأن ييسر له أسباب السعادة، وأن يعينه عليها.
والله – تعالى – مع غناه عن الخلق كلهم، خلقهم، وأرسل إليهم الرسل تبين لهم ما يسعدهم، وما فيه شقاؤهم، وهدى عباده المؤمنين لما خلقوا له، وهداهم لما اختُلِف فيه من الحق، فمنَّ عليهم أن حبب إليهم الإيمان، والعمل الصالح، ويسر ذلك لهم، وأعانهم عليه، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم ضده من الكفر والمعاصي، والفسوق، وجعلهم راشدين، وكل ذلك فضل منه
_________
(1) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (2/706-707) .(2/629)
وكرم من غير استحقاق لهم عليه، فإيجادهم من العدم فضل منه، وإرسال الرسل إليهم تدلهم على الحق فضل منه، وهدايته
لهم فضل منه، وجميع ما ينالون به الخير من قواهم وغيرها بفضله، وكذلك إثابته لهم على أعمالهم الصالحة فضل منه وكرم، وإن كان أوجب ذلك على نفسه، كما حرم على نفسه الظلم، قال تعالى: {كَتبَ رَبُّكُم عَلَى نَفسِهِ الرَّحمَةَ} وقال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلينَا نَصرُ المُؤمِنينَ} ، فهو واجب بإيجابه ووعده، وهو لا يخلف وعده، وكل ذلك بفضله ومنته، والخلق لا يوجبون على الله شيئاً، ولا يحرمون عليه شيئاً، بل هم أعجز من ذلك، وأقل.
فكل ما يصيب الخلق من النعم فهي من فضل الله، وكرمه، وكل ما يصيبهم من النقم فهي بعدل، وهم يستحقونها جزاء لأعمالهم، ويعفو الله عن كثير.
ولا بد للعبد أن يجمع بين أمر الله وقدره، ووعده، ووعيده؛ لأن من أعرض عن الأمر والنهي والوعد والوعيد، معتمداً على القدر، فهو ضال، ومن حاول القيام بالأمر والنهي، وأعرض عن القدر، فهو أيضا ضال، ولهذا أمر الله عباده أن يعبدوه مستعينين به على ذلك، كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعبُدُ وَإِيَّاكَ نَستَعِينُ} .
فيعبدون اتباعا لأمره، ويستعينونه إيماناً بالقدر، وذلك أنه لا يقع شيء إلا بعد مشيئته، وهو الخالق لكل شيء، ومن ذلك أفعال العباد، وإن كانت تقع باختيارهم وقدرتهم، فهو الخالق لها، ولا تقع إلا إذا شاء، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالِمينَ} (1) ، وإذا لم يعن الله العبد على الفعل لم يستطعه.
_________
(1) الآية آخر سورة التكوير.(2/630)
فمن ظن أنه يطيع الله بلا معونته، كما تزعم القدرية المجوسية فهو جاحد لقدرة الله التامة، ومشيئته الشاملة لكل شيء، وخلقه لكل شيء.
ومن ظن أنه إذا أعين على ما يريد، ويسر له ذلك كان محموداً، محبوباً، سواء وافق ذلك الأمر الشرعي أو خالفه، فقد جحد دين الله وكذب كتبه ورسله، ووعده، ووعيده، واستوجب غضب الله وعقابه، وصار من الذين قال الله عنهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ} (1) .
قوله: ((فيم يعمل العاملون؟)) أي: أعمال العباد، هل قدرها الله عليهم وسبق علم الله بها، وكتابته لها، فهم يعملون في أشياء قضاها الله وفرغ منها، فلا يمكن أن يقع منهم إلا ما قدره، وقضاه؟ وهذا هو الواقع.
أو أنهم يعملون في شيء لم يقدر، ولم يكتب عليهم، بل هو موكول إليهم؟
وذكر هذا الحديث في القدر بلفظ: ((قال رجل: يا رسول الله، أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ قال: نعم، قال: فلم يعمل العاملون؟ قال: كل يعمل لما خلق له، أو لما ييسر له)) (2) .
فقوله: ((فيم يعمل العاملون؟)) مرتب على قول النبي – صلى الله عليه وسلم – إنه قد علم أهل الجنة، من أهل النار، فكأنه وقع في نفسه أنه ما دام قد فرغ من ما يصير إليه العباد، وعلم الله أهل السعادة، وأهل الشقاء، قبل وجودهم، فلماذا العمل، والإنسان لا بد أن يصير إلى ما كتب عليه، فهي أمور منتهية، ولابد من حصولها؟
_________
(1) الآية 148 من سورة الأنعام.
(2) ((البخاري)) (8/104) .(2/631)
فأجابه النبي – صلى الله عليه وسلم – بما أزال هذا الإشكال بقوله: (كل يعمل لما خلق له)) ، يعني أن أهل الجنة لا بد أن يعملوا أعمالاً يستحقون بها دخول الجنة، وأهل النار لا بد أن يعملوا أعمالاً يستحقون بها دخول النار.
وقد علم الله أن من يكون من أهل الجنة يعمل عملهم، وييسر ذلك له، ويتفضل عليه، فيحبب إليه الإيمان، ويزينه في قلبه، ويكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، ويجعله راشداً مطيعاً مهتدياً، وهذا كله فضل الله ومنته، وهو معنى تيسيره لليسرى، وأما أهل النار فقد علم الله – تعالى – أنهم يكفرون، ويبغضون الإيمان، ويأبونه، ويفعلون ذلك اختياراً منهم، وحباً له، بعكس أهل الإيمان، وهو معنى تيسيرهم للعسرى، كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى {5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى {6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى {7} وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى {8} وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى {9} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل ميسر لما خلق له)) .
ووجه الاستدلال من الحديث: أن قوله: ((كل ميسر لما خلق له)) يدل على أن العبد له عمل ييسر له فيعمله، فيستحق عليه الجزاء، وذلك الجزاء هو الذي خلق العبد له، إما الجنة وإما النار، فالعبد فاعل على الحقيقة، فهو المؤمن، والمصلي، والعامل، حقيقة، وهو الكافر، والمنافق، والعاصي، والسارق، والزاني، حقيقة، ولذلك استحق العذاب، أو الثواب.
وكذلك هو القارئ إذا قرأ كتاب الله – تعالى -، فالقراءة فعله، وكسبه، وعمله، والمقروء: كتاب الله وصفته الذي تكلم به، وقاله، وأنزله على رسول – صلى الله عليه وسلم -، وقد يسر الله القرآن للذكر، فإذا تذكره العبد، وقرأه، وعمل به، فذلك عمله، يضاف إليه، ويجزى عليه.
قال الإمام البخاري - رحمه الله -: ((ويقال لمن زعم أني لا أقول: القرآن مكتوب في المصحف، ولكن القرآن بعينه في المصحف، يلزمك أن تقول:(2/632)
إن ما ذكره الله في القرآن من الجن، والإنس، والملائكة، والمدائن، ومكة، والمدينة، وغيرها، وإبليس، وفرعون، وجنودهما، والجنة، والنار، عاينتهم بأعيانهم في المصحف؛ لأن فرعون مكتوب فيه، كما أن القرآن مكتوب فيه.
ويلزمك أكثر من ذلك، حين تقول: الله في المصحف، وهذا أمر بيَّن؛ لأنك تضع يديك على هذه الآية، وتراها بعينك: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} فلا يشك عاقل بأن الله هو المعبود، وقوله: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} هو قرآن، فالقرآن قول الله – عز وجل – والقراءة، والكتابة، والحفظ للقرآن، هو فعل المخلوق؛ لقوله: {فَاقرَءُواْ مَا تَيَسَرَ مِنهُ} وقوله: {فَاقرَءُواْ مَا تَيَسَرَ مِنَ القُرآَنِ} .
والقراءة فعل الخلق، وهي طاعة الله، والقرآن ليس هو بطاعة، إنما هو الأمر بالطاعة، ودليله قوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} (1) ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} (2) ، وقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (3) ، وقال عز وجل: {يَأَيُهَا الرَّسُولُ بَلِغ مَا أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَّبِكَ} ، فلذلك كله مما أمر به، ولذلك قال: {أَقِيمُواْ الصَّلاةَ} ، والصلاة بجملتها طاعة لله، والأمر بالصلاة قرآن، وهو مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، مقروء على اللسان.
والقراءة والحفظ والكتابة مخلوق، وما قرئ، وحفظ، وكتب، ليس
_________
(1) الآية 106 من سورة الإسراء.
(2) الآية 29 من سورة فاطر.
(3) الآية 17 من سورة القمر.(2/633)
بمخلوق، ومن الدليل عليه: أن الناس يكتبون ((الله)) ويحفظونه، ويدعونه، فالدعاء والحفظ والكتابة من الناس مخلوق، ولا شك فيه، والخالق الله بصفته)) (1)
176- قال: ((حدثني محمد بن بشار، حدثنا غندور، حدثنا شعبة، عن منصور والأعمش، سمعا سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن علي – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان في جنازة، فأخذ عوداً فجعل ينكت في الأرض، فقال: ((ما منكم من أحد إلا كتب مقعده من الجنة، أو من النار)) قالوا: ألا نتكل؟ قال: ((اعملوا، فكل
ميسر، {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى {5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى {6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} الآية)) .
((أنه كان في جنازة)) قال الأزهري: ((قال أبو العباس: الجنازة بالكسر: السرير، وبالفتح: الميت، وقال الليث: الإنسان الميت، والشيء الذي قد ثقل على قوم، واغتموا به، هو جنازة، عن الأصمعي: الجنازة – بالكسر – هو الميت نفسه)) (2) .
وفي ((المصباح)) : ((جنزت الشيء، أجنزه – من باب ضرب -: سترته، ومنه اشتقاق الجنازة، وهي بالفتح والكسر، والكسر أفصح، وقال الأصمعي وابن
_________
(1) ((خلق أفعال العباد)) (188-190) .
(2) ((تهذيب اللغة)) (10/622) .(2/634)
الأعرابي: بالكسر: الميت نفسه، وبالفتح: السرير، وروى أبو عمر الزاهد، عن ثعلب عكس هذا، فقال: بالكسر: السرير، وبالفتح: الميت نفسه)) (1) .
((فأخذ عوداً فجعل ينكت في الأرض)) أي: يضرب فيها بذلك العود، ويكون ذلك عادة من فعل المفكر المهموم.
((فقال: ما منكم من أحد إلا كتب مقعده من الجنة أو من النار)) الخطاب وإن كان موجهاً إلى الحاضرين، فالمقصود به عموم الخلق من الإنس والجن.
ومعنى كتابة مقعده: أن الله علم مصيره، ومستقره في الجنة أو في النار، وكتبه، وذلك قبل وجوده، كما سبقت الإشارة إليه.
((قالوا: ألا نتكل؟)) أي: ندع العمل اعتماداً على ما كتب لنا، وقدر، فإننا لا بد صائرين إليه، فلا يكون في العمل تغيير لما كتب، وهذا الإشكال يعرض لكثير من الناس، وقد أزاله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بقوله: ((اعملوا فكل ميسر)) أي: ميسر لما خلق له من الجنة أو النار، فإن كان العبد خلق للجنة والسعادة، فسوف يهيئ الله له من أسباب السعادة، وييسرها له ويسهلها عليه، حتى يتمكن من العمل الذي يكون سبباً لذلك، وإن كان من أهل الشقاء، فلا بد أن يقيّض له من الأسباب ما يتمكن به من العمل للشقاء.
فالله – تعالى – لا يظلم أحداً، وقد حرم الظلم على نفسه – تعالى – وجعله بين عباده محرماً، ولكن لكمال قدرته خلق العبد فاعلاً مختاراً، فإما
_________
(1) ((المصباح المنير)) (1/153) .(2/635)
أن يختار طريق الهدى، أو طريق الردى، وكل واحد من الفريقين يجد نفسه غير مدفوع إلى ذلك، بل يفعله عن رغبة منه، واختيار، ولو حيل بينه وبين ما يريده لربما قاتل من يحاول أن يصده عن مراده، والله – تعالى – ييسر للعبد من العمل ما يستحق به ما كتب عليه وقدر، قبل أن يخلق، ولهذا قرأ النبي – صلى الله عليه وسلم – قوله تعالى: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى {5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى {6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى {7} وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى {8} وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى {9} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} .
وتقدم وجه الدلالة من الحديث لمراد البخاري في الحديث الذي قبله، وهو أن التيسير يدل على أن العبد الذي يسر له العمل عامل حقيقة، ويدخل في ذلك قراءة القرآن، فهي عمل القارئ، وأما المقروء فهو كتاب الله – تعالى – كما سبق.
قال ابن المنير: ((ما ذكره البخاري في هذا الباب راجع إلى ما تقدم من وصف القراءة بالتيسير، وهذا يدل على أنها فعل [العبد] ، ويشهد [له] قوله: كل ميسر لما خلق له، ومما خلق له التلاوة، والله أعلم)) (1) .
قوله: ((ومما خلق له التلاوة)) يعني: أنها عمل الإنسان الذي يترتب عليه مصيره الذي كتب له، كما مر في الحديث.
ذكر شيخ الإسلام أن الجهمية افترقت على ثلاث فرق، فرقة تقول: القرآن مخلوق، وفرقة تقول: كلام الله، وتسكت، وفرقة تقول: ألفاظنا
_________
(1) ((المتواري)) (ص432) .(2/636)
وتلاوتنا للقرآن مخلوقة.
وحقيقة قول هؤلاء: أن القرآن الذي نزل به جبريل على محمد مخلوق لم يتكلم الله به، وشبهتهم: أن أفعالنا وأصواتنا مخلوقة، ونحن إنما نقرؤه بحركاتنا وأصواتنا.
ثم قابل هؤلاء قوم أرادوا رد باطلهم، فوقعوا في باطل آخر، حيث قالوا: تلاوتنا للقرآن غير مخلوقة، وألفاظنا به غير مخلوقة (1) ؛ لأن هذا هو القرآن، وهو غير مخلوق.
ولم يفرقوا بين الاسم المطلق، والاسم المقيد بالدلالة، فأنكر الإمام أحمد على هؤلاء وبَدّعهم، وأحمد وسائر الأئمة ينكرون أن يكون شيء من كلام الله مخلوقاً، حروفه أو معانيه، وينكرون أن يكون القرآن المنزل ليس هو كلام الله، كما ينكرون على من يجعل شيئاً من أفعال العباد أو أصواتهم غير مخلوق.
وكلام أحمد في مسألة التلاوة، والقراءة، والإيمان، من نمط واحد، منع إطلاق القول بأن ذلك مخلوق؛ لأنه يتضمن القول بأن من صفات الله ما هو مخلوق، ولما فيه من الذريعة، ومنع أيضاً إطلاق القول بأنه غير مخلوق؛ لما فيه من البدعة والضلال.
وذلك أن التلاوة، والقراءة، واللفظ، قد يراد به مصدر: تلا يتلو تلاوة، وقرأ يقرأ، قراءة، ولفظ، يلفظ، لفظاً، ومسمى المصدر هو فعل العبد، وحركاته، وذلك مخلوق، ليس هو القول المسموع المتلو.
وقد يراد بالتلاوة، والقراءة، واللفظ: المتلو، المقروء، المتلفظ به، وهو المسموع، وهذا هو كلام الله – تعالى – ليس بمخلوق.
_________
(1) ممن يقول بذلك محمد بن داود المصيصي، وأبو حاتم الرازي، وأبو عبد الله بن حامد، وأبو نصر السجزي، وأبو عبد الله بن منده، وأبو إسماعيل الهروي، وأبو العلاء الهمداني، وأبو الفرج المقدسي: انظر ((مجموع الفتاوى)) (12/361) .(2/637)
وقد يراد مجموع الأمرين، فلا يجوز إطلاق القول بأنه مخلوق، ولا نفي الخلق عن الجميع (1) .
*****
قال: ((باب قول الله -تعالى -: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} .
أي: ليس الأمر، كما قال المكذبون لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن ما يقوله شعر، أو كهانة، أو أساطير الأولين اكتتبها، ليس الأمر كذلك، بل هو قرآن مجيد)) قال البغوي: كريم، شريف، كثير الخير، ليس كما زعم المشركون، أنه شعر، أو كهانة.
{فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} قرأ نافع بالرفع، على أنه نعت للقرآن، فإن القرآن محفوظ من التبديل والتغيير، والتحريف؛ قال الله – تعالى -: {إِنَّا نَحنُ نَزَّلْنَا الذِكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقرأ الباقون بالجر، على أنه نعت للوح، وهو الذي يعرف باللوح المحفوظ، وهو أم الكتاب، ومنه تنسخ الكتب، محفوظ من الشياطين، ومن الزيادة فيه، والنقصان)) (2) .
و ((المجيد)) الكريم، واسع الخير، كثير الصفات الحميدة.
قال ابن القيم: ((المجد مستلزم للعظمة، والسعة والجلال، كما يدل عليه موضوعه في اللغة، فهو دال على صفات العظمة والجلال)) (3) .
والقرآن عظيم، واسع المعاني، كثير الخير، وفيه الهدى والنور، وهو جليل القدر؛ إذ هو كلام رب العالمين.
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (12/359-374) ملخصاً.
(2) ((تفسير البغوي على هامس الخازن)) (7/232) .
(3) ((جلاء الأفهام)) (ص216) .(2/638)
قوله: {وَالطُّورِ {1} وَكِتَابٍ مَّسطُورٍ} ، قال قتادة: مكتوب)) .
قال ابن كثير – رحمه الله -: ((يقسم تعالى بمخلوقاته، الدالة على قدرته العظيمة، أن عذابه واقع بأعدائه، وأنه لا دافع
له عنهم، فالطور هو: الجبل، الذي يكون فيه أشجار، مثل الذي كلَّم الله عليه موسى، وأرسل منه عيسى، وما لم يكن فيه شجر، لا يسمى طوراً، وإنما يقال له: جبل.
{وَكِتَابٍ مَّسطُورٍ} قال قتادة: مكتوب، قيل: هو اللوح المحفوظ، وقيل: الكتب المنزلة المكتوبة، التي تقرأ على الناس، جهاراً، ولهذا قال: {فِي رَقٍ مَّنشُورٍ} (1) .
قال البخاري – رحمه الله -: ((وقال إسحاق بن إبراهيم: فأما الأوعية، فمن يشك في خلقها؟ قال الله – تعالى -: {وَكِتَابٍ مَّسطُورٍ {2} فِي رَقٍ مَّنشُورٍ} ، وقال: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} ذكر أنه يحفظ، ويسطر. قال: {وَمَا يَسطُرُونَ} .
ثم روى عن قتادة قال: {وَالطُّورِ {1} وَكِتَابٍ مَّسطُورٍ} قال: المسطور: المكتوب، {فِي رَقٍ مَّنشُورٍ} : وهو الكتاب، وروى عن مجاهد: (كتاب مسطور) : وصحف مكتوبة، (في فِي رَقٍ مَّنشُورٍ) : في صحف)) (2) .
((قال أبو عبد الله: فأما المداد، والرق، ونحوه، فإنه خلق، كما أنك تكتب ((الله)) ، فالله في ذاته هو الخالق، وخطك واكتسابك من فعلك خلق؛ لأن كل شيء، دون الله، صفة، وهو خلق، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ
_________
(1) ((تفسير ابن كثير)) (7/403) .
(2) ((خلق أفعال العباد)) (ص43) .(2/639)
شَيءٍ فَقَدَّرَهُ تَقدِيراً} وقال: {وَإِنَّهُ فِي أُمِ الكِتَابِ لَدَينَا لَعَلِيٌ حَكِيم} ، {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} (1) .
قوله: {يَسطُرُونَ} : يخطون)) .
تفسير لقوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} .
قال ابن كثير: {وَالقَلَمِ} الظاهر أنه جنس القلم، الذي يكتب به، كقوله: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} ، فهو قسم منه تعالى، وتنبيه لخلقه، على ما أنعم به عليهم، من تعليم الكتابة، التي بها تنال العلوم.
ولهذا قال: {وَمَا يَسطُرُونَ} قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: يعني: وما يكتبون، وقال أبو الضحى: عن ابن عباس {وَمَا يَسطُرُونَ} أي: وما يعملون، وقال السدي: {وَمَا يَسطُرُونَ} يعني: الملائكة، وما تكتب من عمل العباد)) (2) .
قوله: {فِي أُمِّ الْكِتِابِ} : جملة الكتاب وأصله)) .
قال ابن كثير: ((قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتِابِ لَدَينَا لَعَلِيٌ حَكِيمُ} يبين شرفه، في الملأ الأعلى، ليشرفه ويعظمه، ويتبعه أهل الأرض، فقال تعالى: {وَإِنَّهُ} أي: القرآن: {فِي أُمِّ الْكِتِابِ} أي: اللوح المحفوظ، قاله ابن عباس، ومجاهد {لَدَينَا} أي: عندنا، قاله قتادة وغيره، {لَعَلِيٌ} أي: ذو مكانة عظيمة، وشرف، وفضل، قاله قتادة.
{حَكِيمٌ} أي: محكم، بريء من اللبس والزيغ، وهذا كله تنبيه على شرفه وفضله)) (3) .
_________
(1) المصدر نفسه (ص44) .
(2) ((تفسير ابن كثير)) (8/212-213) .
(3) المصدر المذكور (7/205) .(2/640)
(( {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ} : ما يتكلم من شيء إلا كتب عليه. وقال ابن عباس: يكتب الخير والشر)) .
قال الله – تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ {17} مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (1) . قال ابن كثير:: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} يعني: الملائكة، أقرب إلى الإنسان، من حبل وريده، ومن تأوله على العلم؛ فإنما فر لئلا يلزم حلول، أو اتحاد، وهما منفيان بالإجماع، تعالى الله وتقدس، ولكن اللفظ لا يقتضيه، فإنه لم يقل: وأنا أقرب إليه من حبل الوريد، وإنما قال: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، كما قال في المحتضر: {وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِنكُم وَلَكِن لاَّ تُبصِرُونَ} ، يعني: ملائكته، وكما قال: {إِنَّا نَحنُ نَزَّلْنَا الذِكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فالملائكة نزلت بالذكر، وهو القرآن، بإذن الله – عز وجل – وكذلك الملائكة، أقرب إلى الإنسان من حبل وريده، بإقدار الله لهم على ذلك.
{إِذ يَتَلَقَّى المُتَلَقّيَانِ} يعني: الملكين، اللذين يكتبان عمل الإنسان.
{عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِمَالِ قَعِيدُ} أي: واحد عن يمينه، والآخر عن شماله، مترصد لما يقوله أو يفعله.
{مَّا يَلفِظُ} أي: ابن آدم {مِن قَولٍ} أي: ما يتكلم بكلمة، {إِلاَّ لَدَيهِ رَقِيبُ عَتِيدُ} إلا ولها من يراقبها، معتد لذلك فيكتبها، ولا يترك له كلمة، ولا حركة إلا كتبها)) (2) .
وقول ابن عباس، يفيد أنهما لا يكتبان إلا لحسنات والسيئات، وظاهر
_________
(1) الآيات من 16-18 من سورة ق.
(2) ((تفسير ابن كثير)) (7/376) .(2/641)
الآية أنهما يكتبان، كل ما نطق به الإنسان أو عمله؛ لأنه قال: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ} .
قال مجاهد: الذي يكتب الحسنات عن يمينه، والذي يكتب السيئات عن شماله.
وقال أيضاً: مع كل إنسان ملكان، ملك عن يمينه، وملك عن يساره.
قال: ((فأما الذي عن يمينه، فيكتب الخير، وأما الذي عن يساره، فيكتب الشر)) .
وقال قتادة: تلا الحسن: {عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِمَالِ قَعِيدُ} فقال: يا ابن آدم، بسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك، فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك، فيحفظ سيئاتك، فاعمل بما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا مت، طويت صحيفتك، فجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة، فيقال لك: {اقرَأ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفسِكَ اليَومَ عَلَيكَ حَسِيباً} ، عدل والله فيك من جعلك، حسيب نفسك)) (1) .
(( {يحرِّفُونَ} : يُزيلون: وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله - عز وجل - ولكنهم يحرفونه: يتأولونه على غير تأويله)) .
قال الحافظ: ((لم أر هذا موصولاً من كلام ابن عباس، من وجه ثابت، مع أن الذي قبله، من كلامه، وكذا الذي بعده، وهو قوله: ((دراستهم: تلاوتهم)) ، وما بعده، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم، وتقدم في باب قوله
_________
(1) روى هذه الآثار ابن جرير في ((تفسيره)) (26/159) .(2/642)
{كُلَّ يَومٍ هُوَ فِي شَأنٍ} عن ابن عباس، ما يخالف ما ذكر هنا، وهو تفسير {يحرِّفُونَ} بقوله: يزيلون.
وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن، في قوله: {يحرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} قال: يقلبون ويغيرون.
وقال الراغب: ((التحريف: الإمالة، وتحريف الكلام: أن يجعله على حرف من الاحتمال، بحيث يمكن حمله على وجهين، فأكثر)) (1) .
وقال: ((صرح كثير من أصحابنا، بأن اليهود، والنصارى بدلوا التوراة، والإنجيل.
وذكر بعض الشراح، أن في هذه المسألة، أربعة أقوال:
أحدها: أنها بدلت كلها، وينبغي حمل هذا الإطلاق على أكثرها؛ لأن الآيات والأخبار الكثيرة، تدل على بقاء شيء منها
لم يبدل، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} (2) ، ومنه قصة رجم اليهوديين، وفيها وجود آية الرجم، في التوراة، ويؤيد ذلك، قوله تعالى:
{قُل فَأَتُوْ بِالتَّورَاةِ فَاتلُوهَا إِن كُنتُم صَادِقِينَ} .
الثاني: أن التبديل وقع في معظمها، وأدلة ذلك كثيرة، وينبغي حمل القول الأول عليه.
الثالث: وقع التبديل في اليسير منهما، ومعظمهما باق على حاله، قال: ونصره الشيخ تقي الدين ابن تيمية في الجواب الصحيح.
_________
(1) ((الفتح)) (13/523) .
(2) الآية 157 من سورة الأعراف.(2/643)
الرابع: ((إنما وقع التبديل والتغيير، في المعاني، لا في الألفاظ، وهو ما ذكره البخاري هنا)) (1) .
والصحيح: أن التبديل والتحريف، وقع في كثير من ألفاظهما، ومعانيهما، كما قال الله – تعالى - {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (2) ، وقال تعالى: {يحرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} (3) .
قال شيخ الإسلام: ((علماء المسلمين، وعلماء أهل الكتاب، متفقون على وقوع التحريف في معاني وتفسير الكتب السابقة، وإن كانت كل طائفة تزعم أن الأخرى هي التي حرفت المعاني.
وأما ألفاظ الكتب، فقد ذهبت طائفة من علماء المسلمين إلى أن ألفاظهما لم تبدل، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكتاب.
وذهب كثير من علماء المسلمين، وأهل الكتاب إلى إنه بدل بعض ألفاظها.
وهذا هو المشهور عن كثير من علماء المسلمين وقاله أيضاً كثير من علماء أهل الكتاب، حتى في صلب المسيح، ذهبت طائفة من النصارى إلى أنه لم يصلب، وإنما صلب الذي شبه بالمسيح، كما أخبر به القرآن، فإنه لما ألقي شبهه على المصلوب، ظنوا أنه هو المسيح، أو تعمدوا الكذب.
ثم هؤلاء، منهم: الذين يقولون: إن في ألفاظ الكتب ما هو مبدل.
_________
(1) ((الفتح)) بتصرف (13/523-524) .
(2) الآية 78 من سورة آل عمران.
(3) الآية 46 من سورة النساء، والآية 13 من سورة المائدة.(2/644)
ومنهم: من يجعل المبدل من التوراة والإنجيل كثيراً منهما، وربما جعل بعضهم المبدل أكثرهما، لا سيما الإنجيل، فإن الطعن فيه أكثر، وأظهر منه في التوراة.
ومن هؤلاء، من يسرف، حتى يقول: إنه لا حرمة لشيء منهما، بل يجوز الاستنجاء بهما.
ومنهم من يقول: الذي بدلت ألفاظه، قليل منهما، وهذا أظهر، والتبديل في الإنجيل أظهر، بل كثير من الناس يقول: هذه الأناجيل ليس فيها من كلام الله، إلا القليل، والإنجيل الذي هو كلام الله ليس هو هذه الأناجيل.
والصحيح: أن هذه التوراة، والإنجيل، الذي بأيدي أهل الكتاب، فيه ما هو حكم الله، وإن كان قد بدل وغيِّر بعض ألفاظهما؛ لقول الله – تعالى -:: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} ، إلى قوله: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ} (1) فعلم: أن التوراة التي
كانت موجودة، بعد خراب بيت المقدس، بعد مجيء بختنصر، وبعد مبعث المسيح، وبعد مبعث محمد – صلى الله عليه وسلم – فيها حكم الله.
والتوراة التي كانت عند يهود المدينة، على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وإن قيل: إنه غيِّر بعض ألفاظها بعد مبعثه، فلا نشهد على كل نسخة في العالم بمثل ذلك، فإن هذا غير معلوم لنا، وهو متعذر، بل يمكن تغيير كثير من النسخ، وإشاعة ذلك عند الاتباع، حتى لا يوجد عند كثير من الناس إلا ما غُيِّر، ومع هذا فكثير من نسخ التوراة والإنجيل متفقة في الغالب، وإنما تختلف في اليسير من ألفاظها.
_________
(1) الآيات 41- 43 من سورة المائدة.(2/645)
فتبديل ألفاظ اليسير من النسخ، بعد مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم – ممكن، لا يمكن أحدٌ أن يجزم بنفيه، ولا يقدر أحد من اليهود، والنصارى، أن يشهد بأن كل نسخة في العالم من الكتابين، متفقة الألفاظ؛ إذ لا سبيل إلى علم ذلك.
وذلك أن اليهود قبل مبعث النبي – صلى الله عليه وسلم – وعلى عهده، وبعده، منتشرون في مشارق الأرض ومغاربها، وعندهم نسخ كثيرة من التوراة.
وكذلك النصارى، ولم يتمكن أحد من جمع هذه النسخ وتبديلها، ولو كان هذا ممكناً، وواقعاً، لكان من الوقائع العظيمة، التي تتوافر الدواعي على نقلها.
ومثل التوراة، الإنجيل، قال الله – تعالى -: {وَليَحكُم أَهلُ الإِنجِيلِ بِما أَنَزَلَ اللهُ فِيهِ} (1) فعلم، أن في الإنجيل حكماً، أنزله الله – تعالى – لكن الحكم من باب الأمر والنهي، ولا يمتنع أن يكون التغيير والتبديل في باب الإخبار، وهو الذي وقع فيه التبديل لفظاً.
وأما الأحكام التي في التوراة، فما يكاد أحد يدعي التبديل في ألفاظها (2) .
وبهذا يتبين: أن ما ذكره البخاري- رحمه الله – أحد أقوال العلماء، وهو أن ألفاظ كتب الله السابقة للقرآن، لم تغير ولم تبدل، وإنما حرفت معانيها، وأولت على غير تأويلها، فيكون معنى التحريف، الذي ذكره الله – تعالى – عنهم: هو تحريف المعاني، وصرفها عن مراد الله بها، إلى ما تهوى نفوسهم، وما يريدون حسب رغباتهم.
_________
(1) الآية 47 من سورة المائدة.
(2) ((الجواب الصحيح)) (1/379-381) .(2/646)
ولكن يبقى أن يقال: هل التوراة والإنجيل التي بأيدي اليهود، والنصارى، هي التي أنزل الله على موسى وعيسى، لم يذهب منهما شيء ولم يزد عليهما شيء؟ هذا الذي لا يستطيع أحد أن يجزم به، فالصحيح: أنه حصل في ألفاظهما التبديل والتغيير، وأن بعض ألفاظها أزيل، ووضع بدله غيره، لا كما يقول البخاري – رحمه الله -.
فإن كانت التوراة هذه، الموجودة اليوم بأيدي الناس، فلا شك في تغيير وتبديل بعض ألفاظها حسب الترجمة العربية.
فقد جاء في الإصحاح التاسع عشر، من سفر التكوين، من التوراة، قوله: ((صعد لوط من زغر، وسكن في الجبل، وابنتاه معه، إذ خاف من المقام في زغر، وسكن في مغارة هو وابنتاه معه، فقالت الكبيرة للصغيرة، أبونا شيخ، وإنسان، ليس في الأرض للدخول علينا كسبيل كل الأرض، تعالي نسقي أبانا خمراً وننضجع معه، ونبقي من أبينا نسلاً، فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة)) (1) إلى آخر الكلام، وهو باطل قطعاً، وقد نزه الله نبيه لوطاً – عليه السلام _ أن يقع على ابنتيه، فتحبلان منه، وإنما هذا من وضع اليهود أعداء الله – تعالى -.
فقوله: ((وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله – عز وجل -)) غير مسلم، بل بدل بعض ألفاظها، كما سبق في كلام شيخ الإسلام أنه الصحيح.
((قال الزركشي: اغتر بعض المتأخرين، بما قاله البخاري، فقال: إن في تحريف التوراة خلافاً، هل هو في اللفظ والمعنى، أو في المعنى فقط؟ ومال إلى الثاني، ورأى جواز مطالعتها، وهو قول باطل، ولا خلاف أنهم حرفوا، وبدلوا،
_________
(1) انظر التوراة السامرية (ص59) .(2/647)
والاشتغال بنظرها، وكتابتها، لا يجوز بالإجماع، وقد غضب النبي – صلى الله عليه وسلم – حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة، وقال: ((لو كان موسى حياً، ما وسعه إلا اتباعي)) ولولا أنه معصية ما غضب.
ونظَّر الحافظ بهذا الكلام، وقال: ((الظاهر: أنه مكروه كراهة تنزيه، وقال: الأولى، التفرقة بين من لم يتمكن، ويصر من غير الراسخين في الإيمان، فلا يجوز له النظر في شيء من ذلك، بخلاف الراسخين، فيجوز لهم، ولا سيما عند الاحتجاج، ويدل على ذلك نقل الأئمة قديماً وحديثاً من التوراة)) (1) .
وتحريف معانيها وتفسيرها بغير المراد، فهذا ظاهر جداً، ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف، وكثير من آيات القرآن صريحة في هذا، وهو مراد البخاري بقوله: ((ولكنهم يحرفونه: ويتأولونه عن غير تأويله)) أي: يحرفون معانيه، ويفسرونه بما لم يرده المتكلم، اتباعاً لأهوائهم.
قال ابن القيم: ((التأويل: تفعيل من آل يؤول إلى كذا: إذا صار إليه، فالتأويل التصيير، وأولته تأويلاً: إذا صيرته إليه)) (2) .
وتسمى عاقبة الشيء تأويلاً؛ لأن الأمر يصير إليها، وكذلك حقيقة الشيء المخبر به، كما قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} (3) .
وعند المتأخرين، التأويل هو: صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه، إلى ما هو أخفى منه؛ لدليل يقترن بذلك، والدليل قد يكون عقلياً، وقد
_________
(1) ((الفتح)) (13/525) .
(2) انظر ((الصواعق)) (1/77) .
(3) الآية 53 من سورة الأعراف.(2/648)
يكون شرعياً، ويسمى التفسير تأويلاً.
قوله: (( {دراستهم} : تلاوتهم)) .
قال الحافظ: وصله ابن أبي حاتم، من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس (1) .
وهذا جزء من قوله تعالى: {أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} (2) .
وفي ((اللسان)) : ((درست الكتاب، أدرسه، درساً، أي ذللته بكثرة القراءة حتى خف حفظه عليَّ)) (3) ، والمقصود أن الدراسة هي التلاوة، وهي فعل التالي.
قوله: (( {واعية} : حافظة)) .
قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا المَاءُ حَمَلَنَاكُم فِي الجَارِيَةِ {11} لِنَجعَلَهَا لَكُم تَذكِرةً وَتَعَيِهَا أًذُنُ وَاعِيَةُ} والجارية هي: السفينة، التي صنعها نبي الله نوح – صلى الله عليه وسلم – وهو أبو البشر الثاني، لأن الله – تعالى – يقول: {وَجَعَلنَا ذُرِيَّتَهُ هُمُ البَاقِينَ} فتكون السفينة، تذكرة لما وقع لقوم نوح، لما عصوا رسولهم، فيبتعد المتذكر عن معصية الله؛ لئلا يصيبه ما أصابهم، وهذه العظة والتذكرة تعيها الأذن الواعية، المتيقظة، المتنبهة.
ومراده: أن الحفظ والفهم فعل العبد الذي يقرأ، ويحفظ، ويفهم.
قوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ} : يعني: أهل مكة ومن بلغ هذا القرآن، فهو له نذير)) .
_________
(1) ((الفتح)) (13/525) .
(2) الآية 156 من سورة الأنعام.
(3) ((لسان العرب)) (1/968) .(2/649)
الوحي من الله – تعالى – وهو: الإعلام بخفية، والإنذار فعل الرسول – صلى الله عليه وسلم - وإنذاره بالقرآن: أن يقرأه على الناس، وقراءته هي فعله، وهو وفعله مخلوق، وهذا وجه الاستدلال من الآية.
((ومن بلغ)) أي: من بلغه هذا القرآن، فهو له نذير، والذي يبلغه، يسمعه من المبلغ له بصوت ذلك المبلغ، والصوت من فعل المبلغ، وهو مخلوق، والقرآن المبلغ بالصوت كلام الله – تعالى – غير مخلوق.
وقد أكثر البخاري – رحمه الله – من الاستدلال لهذه المسألة، لأنه قد بلي بمن يقول: القراءة هي المقروء، ونسب إليه، أنه يقول: لفظي بالقرآن مخلوق.
وهو برئ من ذلك.
قال الحافظ: ((هذا الذي ذكره البخاري، هو قول ابن عباس، رواه ابن أبي حاتم عنه، وقال: أخرج ابن أبي حاتم في كتاب ((الرد على الجهمية)) ، عن عبد الله بن داود الخرسي قال: ما في القرآن آية أشد على أصحاب جهم من هذه الآية
{لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} ، فمن بلغه القرآن، فكأنما سمعه من الله – تعالى -)) (1) .
******
177- قال: ((وقال لي خليفة بن خياط: حدثنا معتمر، سمعت أبي، عن قتادة، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لما قضى الله الخلق كتب كتابا عنده: غلبت – أو قال: سبقت – رحمتي غضبي. فهو عنده فوق العرش)) .
178- ((حدثني محمد بن أبي غالب، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا
_________
(1) ((الفتح)) (13/526) .(2/650)
معتمر، سمعت أبي يقول: حدثنا قتادة، أن أبا رافع حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوب عنده فوق العرش)) .
الكتابة هي: إثبات الكلام المكتوب، في محل الكتابة، والله سبحانه، كتب ذلك الكتاب في شيء تثبت فيه الكتابة، ويثبت الكلام في ذلك الشيء بالكتابة، سواء كان اللوح المحفوظ أو غيره، فالمقصود إثبات الكتابة للكلام، وأن كون الكلام في الكتاب، ليس ككون الماء في الإناء، والعرض بالجوهر، والرجل في البيت، بل هو قسم غير هذا، وهو معقول يدركه الناس، ويفهمون معنى كون الكلام في الكتاب، وهذا الحديث تقدم شرحه، وغرضه من الطريق الأخرى، تصريح أبي رافع وقتادة بالتحديث، فيزول احتمال التدليس.
وقوله: ((قبل أن يخلق الخلق)) لا يعارض قوله في الرواية قبلها: ((لما قضى)) ؛ لأنه يجوز أن يراد بالخلق: التقدير والفراغ منه، وهو غير الإيجاد، ومعلوم أن خلق الله - تعالى - لا نهاية له.
وتبين أن مقصود البخاري - رحمه الله - بهذا الباب، أن يبين معنى كون القرآن في المصحف؛ أنه مكتوب مسطور فيه، مثل ما أن اسم الله في المصحف، فإن القرآن كلام الله، والكلام يقوم بالمتكلم صفة له، قال شيخ الإسلام: ليس معنى قول السلف: القرآن كلام الله، منه بدأ، ومنه خرج، أنه فارق ذاته، وحل في غيره، فإن كلام المخلوق إذا تكلم به، لا يفارق ذاته، ويحل بغيره، فكيف يكون كلام الله؟ قال تعالى: {كَبُرَت كَلِمَةً تَخرُجُ مِن أَفوَاهِم إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} .(2/651)
فقد أخبر، أن الكلمة تخرج من أفواهم، ومع هذا فلم تفارق ذاتهم (1) .
فالقرآن كلام الله، ويحفظ في القلوب، كما يحفظ الكلام، ومذكور بالألسنة كما يذكر الكلام بالألسنة، وهو مكتوب في المصاحف، والأوراق، كما أن الكلام يكتب في الكتاب والورق.
والكلام هو مجموع اللفظ والمعنى، فاللفظ يطابق المعنى ويدل عليه.
ولا يجوز أن يقال: إن القرآن محفوظ، كما أن الله معلوم، وهو متلو، كما أن الله مذكور، ومكتوب، كما أن الرسول مكتوب، فهذا خطأ، وضلال.
فليس وجود الأعين القائمة بأنفسها، كوجود العبارة الدالة على المعنى المطابق لها، والفرق ظاهر بين قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} ، وقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ {77} فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} ، وبين قوله تعالى:
{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} فإن القرآن، لم ينزل على نبي قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - وإنما الذي في زبر الأولين ذكره، والخبر عنه، كما أن محمداًً - صلى الله عليه وسلم - مكتوب عندهم في التوراة، والإنجيل فالله ورسوله معلوم بالقلوب، مذكور بالألسنة مكتوب في المصحف، كما أن القرآن معلوم لأهل الكتاب قبلنا، مكتوب عندهم، وذلك ذكره والخبر عنه.
ولكن الذي في المصحف عندنا، هو نفس القرآن.
ولهذا يجب أن يفرق بين قوله تعالى: {وَكُلُّ شَيءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبرِ} وبين قوله تعالى: {وَكِتَابٍ مَّسطُورٍ {2} فِي رَقٍ مَّنشُورٍ} فإن كون الأعمال
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (12/517-518) .(2/652)
في الزبر، مثل كون القرآن، والرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - في زبر الأولين.
وأما الكتاب المسطور في الرق المنشور، فهو كما يكتب الكلام نفسه في الكتاب.
فأين هذا من هذا؟
وذلك أن كل شيء له في الوجود أربع مراتب: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في الكتاب.
والكلام وجوده في اللسان، وليس بينه وبين المحل المكتوب فيه، مرتبة أخرى، بل نفس الكلام يثبت في الكتاب، كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ {77} فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} ، وقال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} ، وقال تعالى: {يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً {2} فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} ، وقال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ {11} فَمَن شَاء ذَكَرَهُ {12} فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ {13} مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ} ، وقال تعالى: {وَلَو نَزَلنَا عَلَيَكَ كِتَابَاً فِي قِرطَاسٍ} .
وليس في المصحف من الأعيان إلا ذكرها، ووصفها، والخبر عنها.
والكلام في الكتاب، ليس هو فيه، كما تكون الصفة بالموصوف، والعرض بالجوهر، والجسم بالمكان، وما هو بمنزله الدليل على المدلول، كالمخلوق الدال على الخالق. بل هو قسم آخر، معقول بنفسه، والناس بفطرهم يفهمون معنى كون كلام الله في المصحف، وأن كلامه الذي قام به لم يفارق ذاته ويحل في غيره، ويعلمون أن الذي في المصحف ليس مجرد دليل على معنى قائم في نفس الله، بل الذي في المصحف كلام الله، مطابق للفظه، ولفظه مطابق لمعناه، ومعناه مطابق لما في الخارج، وهو كلام الله حقيقة لا مجازاً.
وهذه مسألة عظيمة، ضل فيها طوائف من الناس، والبخاري - رحمه الله - ممن ابتلي فيها بمن لم يفهم الحق فيها؛ فارتكب شططاً، ونسب البخاري فيها(2/653)
إلى الباطل، ولهذا أكثر من البيان لها كما سبق، ومنشأ الاختلاف فيها، يعود إلى أصلين (1) .
أحدهما: مسألة تكلم الله - تعالى - بالقرآن، وغيره.
والثاني: تكلم العباد بكلام الله، وقد حاولت بيان الحق، في كلا المسألتين فيما سبق، قدر ما أوتيت من بيان، والله المستعان.
*****
قال: باب قول الله - تعالى -: {وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ} .
يريد - رحمه الله - بهذا الباب بيان أن الله - تعالى - هو الخالق لكل شيء، وحده لا شريك له في ذلك، فيدخل فيه: أعمال العباد وأفعالهم، والآية نص فيه: {وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ} سواء كانت ((ما)) موصولة أو مصدرية، فعلى التقديرين، فالآية دالة على أن أفعال العباد مخلوقة؛ لأن آلهتهم التي يعبدونها صارت على شكل معين، وهيئة خاصة بعملهم وصنعهم.
وقد أطالوا الكلام في إعراب ((ما)) في هذه الآية، وادعى بعضهم إجماع أهل السنة على أنها مصدرية، وشنعوا على المعتزلة، في دعواهم: أنها موصولة، ظانين أنها إذا كانت موصولة، صارت دليلاً على أن العباد يخلقون أفعالهم.
والصواب، أنها موصولة، وأنها لا تدل على أن العباد يخلقون أفعالهم، كما زعم القدرية من المعتزلة.
قال الإمام ابن جرير: ((وفي قوله: ((وما تعملون)) وجهان: أحدهما: أن يكون ((ما)) بمعنى المصدر، فيكون معنى الكلام حينئذ: والله خلقكم وعملكم.
_________
(1) لخصت هذا الفصل من المجلد الثاني عشر من مجموع الفتاوى.(2/654)
والآخر: أن يكون بمعنى ((الذي)) فيكون معنى الكلام حينئذ: والله خلقكم والذي تعملونه، وذكر عن قتادة أنه قال: والله خلقكم وما تعملون بأيديكم (1) ، فهذا يدل على أنها موصولة عنده.
وقال شيخ الإسلام: قال الله – تعالى -: {قَالَ أَتَعبُدُونَ مَا تَنحِتُونُ {95} وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ} ((فما)) بمعنى ((الذي)) ، ومن جعلها مصدرية، فقد غلط، ولكن إذا خلق [الله] المنحوت، كما خلق المصنوع، والملبوس، والمبني، دل على أنه خالق كل صانع وصنعته (2) .
والمعنى: أن الآية فيها التصريح، بأن أصنامهم من مخلوقات الله، وإن كان شكلها، ووضعها، على صفة معينة من صنعهم، فإن الله هو الذي أقدرهم على ذلك، ويسر لهم أسبابه، ولهذا أخبر تعالى بأنه هو الذي خلق الفُلْك، وهي مصنوعة لبني آدم، قال تعالى: {وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} (3) ، وقال تعالى: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (4) وهذه كلها مصنوعة لبني آدم، وهذا يبين وجه دلالة الآية، المترجم بها، على أن الله هو خالق أفعال بني آدم، فهم وأفعالهم من خلق الله – تعالى -. وإن كانت ((ما)) في الآية موصولة، فلا داعي للتعسف والتكلف لجعلها مصدرية، حتى لا يكون فيها متعلق للقدرية المعتزلة، القائلين بأن العبد يخلق فعله بنفسه، فهذا قول ظاهر البطلان، وكل باطل لا يؤيده كتاب الله – تعالى -، بل يدل على بطلانه.
_________
(1) ((تفسير الطبري)) (23/75) .
(2) ((مجموع الفتاوى)) (8/98) .
(3) الآية 42 من سورة يس.
(4) الآية 80 من سورة النحل.(2/655)
فقد ضل من أخرج أفعال العباد عن مخلوقات الله – تعالى -، كما ضل من قابلهم، وقال: إن العباد مجبورون على أعمالهم، فلا اختيار لهم ولا قدرة.
والحق وسط بين هاتين الضلالتين، وهو أن الله – تعالى – خلق العباد، وخلق لهم قدرة واختياراً بهما يفعلون ما يريدون فعله، ويتركون ما يريدون تركه.
وسبب الضلال في هذه المسألة: عدم التفريق بين خلق الله ومخلوقه.
((فخلق الله: صفته التي يخلق بها الخلق، وأما مخلوقه فهو أثر الصفة، وهو مفعوله، وخلق الله – تعالى – لمخلوقاته، ليس هو نفس مخلوقاته، بل خلقه فعله المتصف به، ومخلوقاته مفعولاته التي يفعلها ويوجدها إذا شاء، وأفعال العباد مخلوقه له تعالى كسائر المخلوقات، ومن جملة مفعولاته، وليست هي نفس فعل الرب، بل هي نفس فعل العبد، فالكذب والظلم، ونحوهما من القبائح، يتصف بها من كانت فعلاً له، قائمة به، ولا يتصف بها من كانت مخلوقة له؛ لأنه – تعالى – جعلها صفة لغيره، كما أنه – تعالى – لا يتصف بما خلقه في غيره، من الطعوم، والألوان، والروائح، والأشكال، وغير ذلك.
فإذا خلق الإنسان أبيض، أو أسود، لم يكن ذلك اللون وصفاً له، وكذلك إذا خلق هذا الشيء مُرّاً، أو حلواً، أو على صورة قبيحة مذمومة، لم يكن تعالى متصفاً بذلك، بل المتصف بها من قامت به وفعلها (1) .
وقال أيضاً: ((القرآن دل على أن مفعولات العباد، الخارجه عن أنفسهم، مصنوعة لهم، وما كان مصنوعاً لهم، فهو من فعلهم، ومقدورهم بالضرورة، والاتفاق.
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (8/123) بتصرف.(2/656)
قال الله – تعالى – لنوح – عليه السلام -: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} (1) ، وقال تعالى: {وَيَصنَعُ الْفُلْكَ} (2) ، وقد أخبر – تعالى – أن الفلك مخلوقة من مخلوقاته، مع كونها مصنوعة لبني آدم، وجعلها، من آياته، فقال تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} (3) ، وقال تعالى: {أ َلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} (4) ، وقال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} (5) ، وقال تعالى: {قَالَ أَتَعبُدُونَ مَا تَنحِتُونُ {95} وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ} . فجعل الأصنام معمولة لهم، وأخبر أنه خالقهم، وخالق معمولهم، فإن ((ما)) ها هنا بمعنى الذي، والمراد: خلق ما يعملونه من الأصنام، وإذا كان خالقاً للمعمول، وفيه أثر فعلهم، دل على أنه خالق لأفعال العباد.
وأما قول من قال: إن ((ما)) مصدرية فضعيف جداً (6) .
وفي قوله تعالى: {قَالَ أَتَعبُدُونَ مَا تَنحِتُونُ {95} وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ} تنبيه لعبَّاد الأصنام، على فساد ما صاروا إليه من عبادتها، مع نحتهم إياها بأيديهم، فكيف تعبدون أصناماً تعملونها بأيديكم؟ والله خالقكم وما تعملونه، فأوجدكم، بعد أن لم تكونوا شيئاً، وخلق لكم ما تصلح به حياتكم، وخلق ما تنحتونه، فهو الخالق لكل شيء، فالواجب عليكم أن تعبدوه، وحده لا شريك له، فهو المتفرد بالخلق، والمالك لكل شيء، فمن
_________
(1) الآية 37 من سورة هود عليه السلام.
(2) الآية 38 من سورة هود عليه السلام.
(3) الآية 41 من سورة يس.
(4) الآية 65 من سورة الحج.
(5) الآية 12 من سورة الزخرف.
(6) ((مجموع الفتاوى)) (8/16-17) .(2/657)
السفاهة: أن تعبدوا تلك الصور، التي نحتموها بأيديكم، ثم سميتموها كذباً وبهتاناً: آلهة، وقد علمتم: أنها ما صارت صوراً، إلا بنحتكم إياها وعملكم، والله هو الذي أقدركم على عملها، ومكنكم من ذلك، فهو الخالق لكم ولما تعملونه بأيديكم.
قال ابن القيم: ما المصدرية وما الموصولة، يتعاقبان غالباً، ويصلح أحدهما في الموضع الذي يصلح فيه الآخر، وربما احتملهما كلام واحد، ولا يميز بينهما إلا بنظر وتأمل، فإذا قلت: يعجبني ما صنعت، فهي صالحة لأن تكون مصدرية، أو موصولة، وكذلك: {وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} {وَاللهُ بَصِيرُ بِمَا يَعمَلُونَ} فتأمله تجده كذلك.
ولدخول إحداهما على الأخرى؛ ظن كثير من الناس؛ أن قوله تعالى: {وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ} أنها مصدرية، واحتجوا بها على خلق الأعمال، وليست مصدرية، وإنما هي موصولة.
والمعنى: والله خلقكم، وخلق الذي تعملونه وتنحتونه من الأصنام، فكيف تعبدونها، وهي مخلوقة من مخلوقات الله – تعالى-؟
ولو كانت مصدرية، لكان الكلام إلى أن يكون حجة لهم (1) أقرب من أن يكون حجة عليهم؛ إذ يكون المعنى: أتعبدون ما تنحتون، والله خلقكم وخلق عبادتكم لها، فأي معنى في هذا؟ وأي حجة عليهم؟ (2) .
وقوله تعالى: {إنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقنَاهُ بِقَدَرٍ} .
يخبر تعالى عباده، أن كل شيء خلقه، وحده لا شريك له، فلا خالق
_________
(1) أي: القدرية الذين ينكرون خلق الله لأفعال العباد.
(2) ((بدائع الفوائد)) (1/162) .(2/658)
غيره، وأنه خلقه، بقدر قدره وقضاه، فلا يتعداه ولا يقتصر دونه، فيدخل في هذا العموم أفعال العباد، فهي داخلة في خلقه وتقديره.
قال ابن جرير: ((يقول – تعالى ذكره -: إنا خلقنا كل شيء بمقدار قدرناه وقضيناه، وفي هذا بيان، أن الله – جل ثناؤه – توعد هؤلاء المجرمين، على تكذيبهم بالقدر، مع كفرهم به. ثم روى عن ابن عباس أنه كان يقول: إني أجد في كتاب الله قوماً يسحبون في النار على وجوههم، يقال لهم: {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} ؛ لأنهم كانوا يكذبون بالقدر، وإني لا أراهم، فلا أدري: أشيء كان قبلنا، أم شيء فيما بقي؟ (1) .
وذكر آثاراً بهذا المعنى.
وقال ابن كثير: ((وقوله: {إنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقنَاهُ بِقَدَرٍ} ، كقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ فَقَدَّرَهُ تَقدِيراً} ، وكقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى {1} الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى {2} وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} أي: قدر قدراً، وهدى الخلائق إليه، ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة على إثبات قدر الله، السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته لها قبل برئها، وردوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات، وما ورد في معناها، من الأحاديث الثابتة، على الفرقة القدرية، الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة)) (2) ثم ذكر جملة من الأحاديث المثبتة للقدر، والتي فيها وعيد من أنكره.
قوله: (( (ويقال للمصورين: أحيوا ما خلقتم)) .
يقال لهم ذلك يوم القيامة، تبكيتاً وتعذيباً لهم، بتكليفهم ما لا يقدرون عليه، حيث كانوا في الدنيا، يضاهئون الله فيما يختص به، وهو الخلق
_________
(1) ((تفسير الطبري)) (27/11) .
(2) ((تفسير ابن كثير)) (3/422) .(2/659)
والتصوير. وسيأتي ذلك – إن شاء الله تعالى -.
قوله تعالى: {} إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
المقصود من الآية هنا: التفرقة بين الخلق والأمر، فإن الخلق هو أثر الأمر، الكائن به الخلق، فإن الله – تعالى – إذا أراد
شيئاً قال له: كن، فيكون، فالقول وصفه – تعالى – والخلق الذي هو المخلوق مفعوله المكون المخلوق الموجد بالقول، ولهذا قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الخَلقُ وَالأَمرُ} فعطف الأمر على الخلق؛ لأنه غيره، وهو – تعالى – مختص بذلك وحده، فلا أحد يشاركه فيهما، وكلاهما عام شامل، فلا يخرج عن خلقه تعالى مخلوق، ومن ذلك أفعال العباد.
وأمره – تعالى – يتناول الأمر القدري، والأمر الديني الشرعي.
قال ابن كثير – رحمه الله تعالى – ((يخبر – تعالى – بأنه خلق هذا العالم: سماواته، وأرضه، وما بين ذلك، في ستة أيام، كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن.
والستة أيام هي: الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، وفيه اجتمع الخلق كله، وفيه خلق آدم.
قوله: {يُغشِى الَّليلَ النَهَارَ يَطلبُهُ حَثِيثاً} أي: يذهب ظلام هذا بضياء هذا، وضياء هذا بظلام هذا، وكل منهما يطلب الآخر طلباً حثيثاً، أي: سريعاً، لا يتأخر عنه، بل إذا ذهب هذا جاء هذا (1) .
_________
(1) ((تفسير ابن كثير)) (3/422) .(2/660)
فالليل بأثر النهار، والنهار يطرد الليل دائماً، حتى يأذن الله بانقضاء هذا العالم، وهناك يبدأ اختلال توازنه، بطلوع الشمس من مغربها.
{وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٍ بِأَمرِهِ} أي: أنها مخلوقة لله، مقهورة مسخرة، لا تخالف أمر خالقها، الذي سخرها لكم، فاعبدوه، فإنه هو المستحق للعبادة دون سواه، وهو الذي له الخلق والأمر وحده.
{تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} قال ابن الأنباري: ((تبارك)) فيه قولان:
أحدهما: أن معناه: تقدس، أي: تطهر، والقدس عند العرب: الطهر، والماء المقدس: هو ماء المطر، والقدوس: الذي طهر من الأولاد، والشركاء، والصاحبة.
والثاني: تفاعل من البركة، أي: البركة تكتسب، وتنال بذكر اسمه تعالى (1) .
وقال الأزهري: ((أخبرني المنذري، عن أبي العباس، أنه سئل عن تفسير {تَبَارَكَ اللهُ} فقال: ارتفع، والمتبارك المرتفع.
وقال الزجاج: تبارك: تفاعل من البركة، كذلك يقول أهل اللغة.
وقال: تبارك: تعالى وتعاظم. وقال ابن الأنباري: تبارك الله، أي: يتبرك باسمه في كل أمر. ومعنى تبارك: تقدس، أي: تطهر، والمقدس: المطهر.
وقال الليث: تبارك: تمجيد وتعظيم)) (2) .
وهذه الأقوال متقاربة، وكلها حق، يدل عليه هذا اللفظ، فهو – تعالى – عال على خلقه، في ذاته، وصفاته، وأفعاله، وهو القدوس المتنزه عن كل عيب أو نقص يلحق خلقه، أو لا يليق بعظمته، وكبريائه،
_________
(1) ((الزاهر)) (1/147) .
(2) ((تهذيب اللغة)) (10/230) .(2/661)
وهو الذي يبارك على ما يشاء من خلقه، فيجعله مباركاً، وبذكر اسمه يكثر الخير، وتحل البركة، وهو أهل المجد والتعظيم.
قوله: ((قال ابن عيينة: بين الله الخلق من الأمر، لقوله: {أَلاَ لَهُ الخَلَقُ وَالأَمرُ} .
قال الحافظ: ((روى هذا الاثر ابن أبي حاتم، موصولاً، في الرد على الجهمية.
ولفظه: قال: كنا عند سفيان بن عيينة، فقال: {أَلاَ لَهُ الخَلَقُ وَالأَمرُ} فالخلق: هو المخلوقات، والأمر: هو الكلام.
وفي رواية من طريق حماد بن نعيم: ((سمعت سفيان بن عيينة، وسئل عن القرآن: أمخلوق هو؟ فقال: يقول الله – تعالى -
{أَلاَ لَهُ الخَلَقُ وَالأَمرُ} ألا ترى كيف فرق بين الخلق، والأمر فالأمر: كلامه، فلو كان كلامه مخلوقاً لم يفرق)) (1) .
وقال البخاري -: ((والقرآن كلام الله غير مخلوق؛ لقول الله – تعالى -: {إَِنَ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ استَوَى عَلَى العَرشِ يُغشِى الَّليلَ النَهَارَ يَطلبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتُ بِأَمرِهِ} ، فبين أن الخلائق، والطلب الحثيث، والمسخرات بأمره، ثم شرح فقال: {أَلاَ لَهُ الخَلَقُ وَالأَمرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} ، قال ابن عيينة: قد بيَّن الله الخلق من الأمر، بقوله: {أَلاَ لَهُ الخَلَقُ وَالأَمرُ} ، فالخلق بأمره، كقوله: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} (2) ، كقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (3) .
_________
(1) ((الفتح)) (13/532-533) .
(2) الآية 4 من سورة الروم.
(3) الآية 82من سورة يس.(2/662)
وكقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} (1) ، ولم يقل بخلقه)) (2) .
والأدلة كثيرة، في التفرقة بين الخلق والأمر، والمخلوقات وجدت بالأمر، كما أشار إلى ذلك الإمام البخاري، بما استدل به من قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} ، فبين أن تكوين الأشياء وإيجادها، بقوله: {كُن} ، وأنه يوجد عقب قوله: {كُن} .
وكذلك قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} ، فالسماء والأرض، مخلوقات بأمره، الذي هو قوله لها: ((كوني)) ، كما قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين} (3) ،
وكل شيء غير الله، مخلوق، بقوله – تعالى – ومن ذلك أفعال العباد، فمن أخرج أفعال العباد من خلق الله، فقد ضل وأشرك في ربوبية الله – تعالى -.
قال عبد العزيز الكناني: ((قال الله – تعالى -: {إِنَّمَا قَولُنَا لِشَىءٍ إِذَا أَرَدناه َ أَن نَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (4) ، وقال سبحانه: {قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (5) ، فدل – عز وجل – بهذه الأخبار، وأشباهٍ لها في القرآن كثيرة، على أن كلامه، ليس كالأشياء، وأنه غير الأشياء، وأنه خارج عن الأشياء، وأنه يكوَّن الأشياء، ثم أنزل – عز وجل – خبراً مفرداً، ذكر فيه خلق الأشياء كلها، فلم يدع منها شيئاً، إلا ذكره، وأدخله في خلقه،
_________
(1) الآية 25 من سورة الروم.
(2) ((خلق أفعال العباد)) (ص37-38) .
(3) الآية 11 من سورة فصلت.
(4) الآية 40 من سورة النحل.
(5) الآية 47 من سورة آل عمران.(2/663)
وأخرج كلامه وأمره من جملة الخلق، وفصله منها؛ ليدل على أن كلامه غير الأشياء المخلوقة، وخارج عنها، فقال: {ُ إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَات وَالأَرضَ فِي سِتَّةِ أَيَامٍ} الآية.
فجمع في قوله: {أَلاَ لَهُ الخَلَقُ وَالأَمرُ} جميع ما خلق، فلم يدع شيئاً، ثم قال: {وَالأَمرُ} ، يعني: والأمر، الذي كان به الخلق خلقاً، فرقاً بين خلقه، وأمره، فجعل الخلق خلقاً، والأمر أمراً، وجعل هذا غير هذا)) (1) .
قوله: ((وسمى النبي – صلى الله عليه وسلم – الإيمان عملاً)) .
يعني: في جوابه – صلى الله عليه وسلم – السائل: ((أي الأعمال أفضل؟ فقال: ((إيمان بالله)) كما سيأتي، فالإيمان، هو عمل القلب وتصديقه، وقول اللسان، والعمل بالبدن التابع لذلك من الصلاة، والحج، والصوم، والجهاد في سبيل الله، وامتثال أوامر الله – تعالى -، والانتهاء عما نهى عنه، فهذا كله هو الإيمان بالله، وهو عمل الجوارح الباطنة والظاهرة.
قال في ((خلق أفعال العباد)) : ((وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – لجبريل حين سأله عن الإيمان قال: ((تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله)) . قال: ((فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟)) قال: ((نعم)) . ثم قال: ((ما الإسلام؟)) قال: ((تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله)) ... فذكره قال: ((إذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟)) قال: ((نعم)) .
فسمى الإيمان والإسلام، والشهادة، والإحسان، والصلاة بقراءتها، وما فيها، من حركات الركوع والسجود: فعلاً للعبد)) (2) .
_________
(1) ((الحيدة)) (ص26-27) .
(2) (ص60) .(2/664)
وقال في ((الصحيح)) : ((باب من قال: إن الإيمان هو العمل؛ لقول الله -تعالى -: {وَتِلكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثتُمُوهَا بِمَا كُنتُم تَعمَلُونَ} ، وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى: {فَوَرَبِكَ لَنَسئلَنَّهُم أَجمَعِينَ {92} عَمَا كَانُواْ يَعمَلُونَ} : عن قول: لا إله إلا الله. ثم ذكر حديث أبي هريرة الآتي.
وإطلاق العمل على الإيمان، وكون الإيمان يشمل التصديق، والقول، والعمل، الأدلة عليه كثيرة، وكلام السلف فيه كثير واضح، والخلاف فيه واقع من أهل البدع، كالمرجئة من الجهمية وغيرهم.
قال: ((قال أبو ذر، وأبو هريرة: ((سئل النبي – صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟)) قال: ((إيمان بالله، وجهاد في سبيله)) .
ذكر حديث أبي هريرة، موصولاً في كتاب الإيمان (1) ، وفي كتاب الحج بأتم مما هنا، وذكر حديث أبي ذر في العتق، ولفظه: ((سألت النبي – صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أفضل؟)) قال: ((إيمان بالله، وجهاد في سبيله)) ، قلت: ((فأي الرقاب أفضل؟)) قال: ((أغلاها ثمنا)) . وهو صريح في أن الإيمان يسمى عملاً؛ لأنه صادر من العبد، وعمل العبد مخلوق، وهذا هو مراد البخاري، وقد تقدم مراراً، الفرق بين عمل العبد، وكلام الله – تعالى – إذا قرأه العباد.
ولا يدل عطف الجهاد على الإيمان، أن الجهاد ليس منه، بل الأعمال الصالحة، المعطوفة على الإيمان، داخلة فيه، وعطفها عليه، إما من عطف الخاص على العام أو لأن الأعمال لازمة للإيمان، فإذا لم يأت بها العبد، دل ذلك على أنه ليس عنده إيمان؛ لأن انتفاء اللازم، يقتضي انتفاء الملزوم.
ولذلك صارت الأعمال، في عرف الشرع، داخلة في اسم الإيمان.
_________
(1) انظر كتاب الإيمان من ((الصحيح)) (1/18) .(2/665)
وأيضاً فعطف الأعمال على الإيمان، لرفع توهم أن مجرد الإيمان، بدون الأعمال اللازمة له، يوجب الثواب الموعود به في الآخرة، وهو الجنة بلا عذاب، فعطفت عليه تخصيصاً، وتنصيصاً؛ ليعلم ذلك. هذا هو قول أهل السنة، وهو الذي دلت عليه نصوص كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
بقي أن يقال: إذا كان الإيمان من عمل العباد، وأعمال العباد مخلوقة، كما تبين لنا، فهل الإيمان مخلوق؟
فالجواب: أنه لا بد من التفصيل، والبيان في ذلك؛ لأن هذا السؤال فيه إجمال وإيهام، فإن أريد بالإيمان، أعمال العباد، وتصديقاتهم، فأعمال العباد كلها مخلوقة.
وإن أريد بالإيمان، شيء من صفات الله وكلامه، وشرعه الذي هو أمره، ونهيه، ووعده، ووعيده، وقدره الذي هو علمه ومشيئته وكلامه، فهو غير مخلوق.
وأما الأفعال المأمور بها والمنهي عنها، والمقدرات من الآجال، والأرزاق، والأعمال، فهي مخلوقة محدثة.
قال شيخ الإسلام: ((إذا قال: الإيمان مخلوق، أو غير مخلوق؟ قيل له: ما تريد بالإيمان؟ أتريد به شيئاً من صفات الله وكلامه، كقوله: لا إله إلا الله، وإيمانه الذي دل عليه اسمه ((المؤمن)) ؟ فهو غير مخلوق. أو تريد شيئاً من أفعال العباد، وصفاتهم؟ فالعباد كلهم مخلوقون، وجميع أفعالهم، وصفاتهم مخلوقة، ولا يكون للعبد المحدث المخلوق، صفة قديمة غير مخلوقة،(2/666)
ولا يقول هذا من يتصور ما يقول، فإذا حصل التفصيل ظهر الهدى، وبان السبيل)) (1) .
وقال أيضاً: ((الشرع الذي هو أمر الله ونهيه غير مخلوق، وأما الأفعال المأمور بها، والمنهي عنها، فلا ريب أنها مخلوقة، وكذلك القدر، الذي هو علمه ومشيئته وكلامه غير مخلوق، وأما المقدرات من الآجال، والأرزاق، والأعمال، فكلها مخلوقة)) (2) .
واتفق أئمة المسلمين، على أن جميع أفعال العباد مخلوقة، كما ذكر البخاري – رحمه الله – عن يحيى بن سعيد القطان، قال: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: إن أفعال العباد مخلوقة (3) .
قوله: ((وقال: {جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعمَلُونَ} )) .
العمل الذي جوزوا عليه الجنة، يشمل الطاعات كلها، واجتناب المناهي كلها، فدخل فيه الإيمان، وشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والصلاة، وأداء الزكاة، والصوم، والحج، والجهاد، وغير ذلك من الأعمال الصالحة.
و ((ما)) في قوله: ((بما)) يجوز أن تكون موصولة، أي: بالذي كنتم تعملونه، ويجوز أن تكون مصدرية، أي: بعملكم.
والباء سببية، أي: دخول الجنة بسبب الأعمال الصالحة، وأما الحديث
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (7/664) .
(2) ((مجموع الفتاوى)) (7/661) .
(3) ((خلق أفعال العباد)) (ص42) .(2/667)
((لن يدخل أحدكم الجنة بعمله)) فالباء فيه للعوض والمقابلة، فالجنة ليست عوضاً للعمل، وإنما هي فضل من الله، والأعمال الصالحة سبب لدخولها، كما هو قول أهل السنة، خلافاً للمعتزلة، أهل القياس الفاسد، فإنهم يرون الجنة عوضاً للعمل.
والمقصود: أن الآية تدل على أن العمل، الذي أدخل المؤمنون بسببه الجنة، فعل لهم يتعلق باختيارهم، ولهذا جوزوا عليه، والعباد وأعمالهم خلق الله – تعالى -.
قوله: ((وقال وفد عبد القيس للنبي – صلى الله عليه وسلم -: مرنا بجمل من الأمر، إن عملنا بها دخلنا الجنة، فأمرهم بالإيمان، والشهادة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فجعل ذلك كله عملاً)) .
سيأتي الحديث بطوله، والدلالة منه ظاهرة؛ لأنهم قالوا: ((نعمل بها)) فأمرهم بالإيمان، والشهادة، إلى آخر ما ذكر، فدل، على أن المذكور كله، عمل لهم، ومعلوم أنهم مخلوقون، فكذلك عملهم مخلوق، وهو المراد.
*****
179- قال: ((حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، والقاسم التميمي، عن زهدم، قال: كان بين هذا الحي من جرم وبين الأشعريين ود وإخاء، فكنا عند أبي موسى الأشعري، فقرب إليه الطعام، فيه لحم دجاج، وعنده رجل من بني تيم الله، كأنه من الموالي، فدعاه إليه، فقال الرجل: إني رأيته يأكل شيئاً فقذرته، فحلفت لا آكله، فقال: هلم فلأحدثك عن ذلك، إني أتيت النبي – صلى الله عليه وسلم – في نفر من الأشعريين نستحمله، قال: والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم، فأتي النبي – صلى الله عليه وسلم – بنهب إبل، فسأل عنا، فقال: أين النفر الأشعريون؟ فأمر لنا بخمس ذود غر الذرى.(2/668)
ثم انطلقنا، قلنا: ما صنعنا؟ ! حلف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يحملنا، وما عنده ما يحملنا، تغفلنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يمينه، والله لا نفلح أبداً.
فرجعنا إليه، فقلنا له، فقال: لست أنا أحملكم، ولكن الله حملكم، إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير منه، وتحللتها)) .
((زهدم)) هو ابن مضرب – تشديد الراء – الجرمي، نسبه إلى جرم بن زياد بطن من قضاعة، ((والأشعري)) نسبة إلى الأشعر بن سبأ، أبي قبيلة من اليمن.
((ود وإخاء)) الود: صافي الحب، وأما الإخاء: فمن الأخوة، والمصاحبة، المقتضية للعطف، والود، والنصرة. وهذا تعليل لقوله: ((فكنا عند أبي موسى الأشعري)) ؛ لأن زهدم من جرم.
((فقرب إليه الطعام)) : يؤخذ منه ما كان عليه الصحابة، ومن سلك طريقهم، من عدم التكلف لمن يحضر مجالسهم، وأنهم إذا حضر وقت طعامهم، قدم على ما هو عليه، سواء كثر الحضور أو قلوا، وفيه تهيئة الطعام وإعداده لصاحب البيت، وفيه دخول الرجل على صديقه، وعرض الطعام على من حضره، ولو كان قليلاً.
((فيه لحم دجاج)) قال الحافظ: ((الدجاج: اسم جنس مثلث الدال، والواحدة دجاجة، دخلتها الهاء للوحدة، قاله الجوهري. سمي بذلك؛ لإسراعه في الإقبال والإدبار)) (1) .
وفيه جواز أكل الدجاج، وأن الحيوان إذا كان في جنسه ما يأكل الجلة،
_________
(1) من ((الفتح)) ملخصاً (9/645) .(2/669)
لم يلتفت إلى ذلك.
((وعنده رجل من بني تيم الله، كأنه من الموالي)) بيَّن الحافظ أن هذا الرجل هو زهدم، وذكر رواية الترمذي، وفيها: ((عن زهدم، قال: دخلت على أبي موسى، وهو يأكل دجاجاً، فقال: ادن فكل، فإني رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يأكله)) .
وفي رواية البيهقي، عن زهدم، قال: رأيت أبا موسى يأكل دجاجاً، فدعاني، فقلت: إني رأيته يأكل نتناً، قال: ادن فكل)) (1) .
ومن أجل ذلك، جزم الحافظ بأنه زهدم الراوي، لكن كيف يقول عن نفسه: ((كأنه من الموالي)) . ويعني بذلك: العجم، أطلق عليهم ((موالي)) ؛ لأن من أسلم على يديه أحد، دعوه مولىً له، وهم أسلموا على أيدي الصحابة – رضي الله عنهم -.
((فدعاه إليه)) أي: إلى الأكل. ((فقال الرجل: إني رأيته يأكل شيئاً فقذرته)) أبهم المأكول؛ لكراهة ذكره، كما هي عادتهم في ما هو مستقذر، يكنون عنه.
ومعنى ((قذرته)) : استقذرته، فصار عندي قذراً.
((فحلف لا آكله)) أي: من أجل ما رأى؛ لأنه كرهه.
((هلم فلأحدثك عن ذلك)) هلم: أقبل، وتعال، أخبرك عن حلفك، وأنه لا يمنع من أكله؛ لأن الله – تعالى – جعل له كفارة، تخرج بها من حرج اليمين.
((إني أتيت النبي – صلى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريين)) النفر: هم الجماعة من
_________
(1) ((الفتح)) (9/ 646، 647) .(2/670)
الناس القليلة، من الثلاثة إلى العشرة، لا واحد له من لفظه.
((نستحمله)) أي: نطلب منه أن يحملنا، أي: يعطينا من الإبل ما يحملنا، ويحمل متاعنا، وذلك في غزوة العسرة ((غزوة تبوك)) .
قال: ((والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم)) جاء في رواية في ((الصحيح)) : قال: ((فوافقته وهو غضبان)) ولهذا أخبره بأنه لا يحملهم، وأكد ذلك بالقسم؛ لأنه بنى على الحال التي هو فيها، ولم يكن عنده شيء يحملهم عليه، ولهذا قال: ((وما عندي ما أحملكم)) .
((فأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – بنهب إبل)) النهب: الغنيمة، وهو مصدر، بمعنى المنهوب، كالخلق بمعنى المخلوق.
((فسأل عنا، فقال: ((أين النفر الأشعريون)) ؟: فأمر لنا بخمس ذود)) . الذود من الإبل: ما بين الثنتين إلى التسع، وقيل: ما بين الثلاث إلى العشر، وهو لفظ مؤنث، لا واحد له من لفظه.
((غر الذرى)) أي: بيض الأسنمة، فذروة البعير: سنامه؛ لأنه أعلى ما فيه، إما أنه أراد أنها سمان، في أسنمتها الشحم الأبيض، أو أن شعور أسنمتها بيض.
((ثم انطلقنا، فقلنا: ما صنعنا؟ حلف رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لا يحملنا، وما عنده ما يحملنا، ثم حملنا)) يعني: أن صنعنا هذا ليس من البر، بل هو مما يخاف عقباه، حيث حملنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على مخالفة ما حلف عليه، فأوقعناه في الحنث، ولهذا قال: ((والله لا نفلح أبداً)) أي: لا يحصل لنا الفلاح، وهو الفوز بالخير والسعادة الدنيوية والأخروية.
((تغفلنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يمينه)) ، أي: أخذنا ما أعطانا في حالة غفلته عن يمينه ونسيانه لها.(2/671)
((فرجعنا إليه فقلنا له، فقال: لست أنا أحملكم، ولكن الله حملكم)) هذه الجملة من الحديث هي محل الشاهد، فإن الله – تعالى – هو المتصرف في عباده، وعملهم يقع بخلقه – تعالى – ومشيئته، فكما أنه – تعالى – خالق العبد، فهو خالق أفعاله.
ولهذا أسند النبي – صلى الله عليه وسلم – حملهم إلى الله، مع أنه الذي أعطاهم الإبل؛ لأن إعطاءهم إياها، بعد إرادة الله وخلقه.
((وقال الماوردي: معناه: أن الله – تعالى – آتاني ما أحملكم عليه، ولولا ذلك لم يكن عندي ما أحملكم عليه (1) .
قال الحافظ: ((المراد منه نسبة الحمل إلى الله – تعالى – وإن كان الذي باشر ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – فهو كقوله: {وَمَا رَمَيتَ إِذ رَمَيتَ وَلَكِنَ اللهَ رَمَى} (2) .
((إني والله، لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيراً منها، إلا أتيت الذي هو خير منه وتحللتها)) ، في هذا دلالة، على أن من حلف على فعل شيء أو تركه، فرأى أن مخالفة يمينه، خير له في دينه أو دنياه، فإن المشروع في حقه أن حقه أن لا يمضي في يمينه، بل يفعل الذي هو خير، ويكفر عن يمينه.
*****
180- قال: ((حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو عاصم، حدثنا قرة بن خالد، حدثنا أبو جمرة الضبعي، قلت لابن عباس: فقال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: إن بيننا وبينك المشركين من مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في أشهر حرم، فمرنا بجمل من الأمر، إن عملنا به دخلنا الجنة، وندعو إليها من وراءنا،
_________
(1) ((شرح مسلم)) للنووي (11/110) .
(2) ((الفتح)) (13/534) .(2/672)
قال: ((آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله، وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وتعطوا من المغنم الخمس، وأنهاكم عن أربع: لا تشربوا في الدباء، والنقير، والظروف المزفتة، والحنتمة)) .
قوله: ((قلت لابن عباس)) لم يذكر مقول القول، وقد بينه في آخر ((المغازي)) في باب: وفد عبد القيس (1) وفيه: ((عن أبي جمرة، قلت لابن عباس – رضي الله عنهما -: إن لي جرة ينتبذ لي نبيذ فأشربه حلواً في جرة، إن أكثرت منه فجالست القوم، فأطلت الجلوس خشيت أن أفتضح، فقال: قدم)) إلى آخره.
قال الحافظ: في قوله: ((خشيت أن أفتضح)) أي: لأني أصير في مثل حال السكارى (2) .
ويجوز أن يحدث له تسهيلاً، أو رياحاً في بطنه، ويخشى أن يغلبه شيء من ذلك فيفتضح. والله أعلم.
والوفد: الجماعة المختارة للقاء العظماء، وعبد القيس قبيلة كبيرة، كانت مساكنهم في شرق الجزيرة العربية، قرب الأحساء، والقطيف، وكانت تسمى البحرين (3) ، قال الحافظ: ((الذي تبين لنا، أنه كان لعبد القيس وافدتان:
أحدهما: قبل الفتح، ولهذا قالوا: بيننا وبينك كفار مضر، وكان ذلك إما في سنة خمس أو قبلها، وكان عددهم ثلاثة عشر رجلاً.
_________
(1) انظر ((صحيح البخاري)) (5/138) .
(2) ((الفتح)) (8/86) .
(3) قال ياقوت: ((البحرين: اسم جامع لبلاد على ساحل بحر النهر بين البصرة وعمان)) . ((معجم البلدان)) (1/347) .(2/673)
وثانيهما: كانت سنة الوفود، وكان عددهم أربعين رجلاً (1) وذكر أدلة ذلك.
ومضر أبو القبيلة المشهورة، وهو مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
((فقالوا: إن بيننا وبينك المشركين من مضر)) يعني: أن بلادهم بعيدة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وفي طريقهم إليه المشركون الذين هم أعداء لهم، فإذا تمكنوا منهم قتلوهم، وهم بحاجة إلى التعلم من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ولهذا قالوا: ((فمرنا بجمل من الأمر)) وفي الرواية الأخرى: ((بأمر فصل)) أي: بين جامع، لا نحتاج معه إلى غيره، وفاصل بين الحق والباطل، ولهذا قالوا: إن عملنا به دخلنا الجنة.
((وندعو إليها من وراءنا)) أي: الأوامر التي تأمرنا بها، نعمل بها، وندعو قومنا إلى العمل بها.
((وإنا لا نصل إليك إلا في أشهر حرم)) دليل على تعظيم الأشهر الحرم، حتى عند المشركين، حيث لا يتعرضون لأعدائهم في الأشهر الحرم.
وقد نوه الله – تعالى – عن حرمتها في كتابه، حين قال: {مِنهَا أَربَعَةُ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِينُ القَيِّمُ فَلاَ تَظلِمُواْ فِيهنَّ أَنفُسَكُم} .
((قال: آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع)) أي: أربع جمل، كما في سؤالهم، أو أربع خصال ((آمركم بالإيمان بالله)) ثم فسر ذلك بقوله: ((وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله)) أي: أن تشهدوا أن الله هو الإله الحق، المستحق أن يؤله، ويعبد وحده، وأن تفعلوا ذلك مخلصين له التألة، وأن تشهدوا أن كل مألوه غيره باطل وضلال، من توجه إليه بالعبادة، فهو
_________
(1) ((الفتح)) (8/85) .(2/674)
من أصحاب النار، الذين لا يخرجون منها أبداً، إذا ماتوا على ذلك. هذه الكلمة أصل وأساس ما بعدها، بل هي أصل الإسلام، فلا يدخل الإسلام أحد إلا بها، وبمعرفتها والعمل بها، تتفاوت درجات الناس عند الله تعالى، وهي تشمل معرفة القلب وعمله، وعمل الجوارح، ولهذا جعلها النبي – صلى الله عليه وسلم – الإيمان، وأما الإشكالات التي ذكرها الحافظ عن شراح هذا الحديث، والتقديرات المبنية عليها (1) ، فهي غير واردة على الحديث أصلاً.
ومن تلك الإيرادات: أن ذكر الشهادة للتبرك، وليست مرادة لنفسها، وعليه فأول الخصال: الأمر بالصلاة، وذلك أن القوم كانوا مؤمنين، مقرين بالشهادتين، فلا وجه لذكرها. وهذا من الكلام الباطل لمخالفته لنص الحديث، والذي حملهم عليه: مذهبهم بأن الإيمان مجرد التصديق والمعرفة، وهو مخالف لنصوص الكتاب والسنة، فإذا لم يقترن بالتصديق عمل صالح، فلا اعتبار له في الشرع، كما أن الإيمان يتجدد، ويزداد، والأعمال من الإيمان، بها يزيد، وبتركها أو نقصها ينقص.
((وإقام الصلاة)) أي: تصلون الصلوات الخمس مقيمين لها، بأن تأتوا بها قائمة غير ناقصة، بشرائطها، وواجباتها، وما يلزم لها.
((وإيتاء الزكاة)) أي: أن تؤتوها من فرضها الله لهم، ممتثلين أمر الله، خائفين من عقابه لو منعتموها، راجين ثوابه في أدائها، طيبة بها نفوسكم، محبين لذلك مغتبطين به.
((وتعطوا من المغنم الخمس)) أي: خمس ما غنمتم فإنه لله ورسوله، وهو بمنزلة الزكاة في الوجوب، فتعطوه من هو له، ممتثلين أمر الله في ذلك، كما في الزكاة.
_________
(1) انظر ((الفتح)) (1/132) وما بعدها.(2/675)
وهذه الأوامر الأربع: وهي الإيمان، وفسره بشهادة أن لا إله إلا الله.
وأما النواهي: فهي أن لا يشربوا في الدباء، وهي: ثمر اليقطين إذا يبس، فإنه يكون كالجرار، وإذا وضع فيه نبيذ التمر، أو غيره أسرع إليه الغليان، فيكون خمراً، وكذلك بقية الأوعية المذكورة.
والنقير: وعاء يتخذ من جزوع النخل، ينقر وسطه حتى يصير شبه الجرة.
والمزفت: هو المطلي بالزفت، وهو المقير.
وأما الحنتم فقال في ((النهاية)) : هي جرار مدهونة خضر، كانت تحمل الخمر فيها إلى المدينة، ثم توضع فيها، فقيل للخزف كله: حنتم، واحدتها حنتمة.
وإنما نهى عن الانتباذ فيها؛ لأنها تسرع الشدة فيها لأجل دهنها.
وقيل: لأنها كانت تعمل من طين يعجن بالدم والشعر، فنهى عنها ليمتنع من عملها، والأول أوجه)) (1) بل هو المتعين.
والمراد من الحديث قوله: ((فمرنا بجمل من الأمر إن عملنا به دخلنا الجنة، وندعو إليها من وراءنا، قال: آمركم بأربع)) فعملهم الذي بسببه يدخلون الجنة، هو فعل لهم، يضاف إليهم حقيقة، وهم يباشرونه، ويعملونه حقيقة باختيارهم وإرادتهم، ومع ذلك هو من خلق الله – تعالى -، فهو داخل في عموم خلقه، وعموم إرادته ومشيئته، لأنه تعالى هو خالقهم وخالق أعمالهم، كما في الحديث الذي رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) حيث قال: ((فأما أفعال
_________
(1) ((النهاية)) (1/448) .(2/676)
العباد: فحدثنا علي بن عبد الله، حدثنا مروان بن معاوية، حدثننا أبو مالك، عن ربعي بن خراش، عن حذيفة - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يصنع كل صانع وصنعته)) فأخبر أن الصناعات، وأهلها مخلوقة.
حدثنا محمد، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة - رضي الله عنه -: ((إن الله خلق كل صانع وصنعته، إن الله خالق صانع الخزم، وصنعته)) (1) .
حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: ((العجز والكيس من القدر)) ، وذكر أحاديث بهذا المعنى ثم قال: سمعت عبيد الله بن سعيد يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما زلت أسمع من أصحابنا يقولون: إن أفعال العباد مخلوقة.
قال أبو عبد الله: حركاتهم، وأصواتهم، واكتسابهم، وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المتلو المبين، المثبت في المصحف، فهو كلام الله ليس بخلق)) (2) .
181- قال: ((حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن نافع، عن القاسم بن محمد، عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم)) .
182- ((حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال النبي
_________
(1) قال الأزهري: قال ابن الأعرابي: الخزم: الخرازون. ثم ذكر هذا الحديث (7/217) ((تهذيب اللغة)) .
(2) ((خلق أفعال العباد)) (ص41-42) .(2/677)
– صلى الله عليه وسلم -: ((إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم)) .
قال في ((اللسان)) : ((في أسماء الله الحسنى: ((المصور)) ، وهو الذي صور جميع الموجودات ورتبها، فأعطى كل شيء منها صورة خاصة، وهيئة مفردة بها، على اختلافها وكثرتها – قال: ((والصورة في الشكل)) (1) .
وفي ((متن اللغة)) : ((الصورة: الشكل، والهيئة، والحقيقة)) (2) .
وتقدم أن ((المصور)) من أسماء الله الحسنى، وأن التصوير، بمعنى إعطاء كل شيء شكله، الذي هو عليه، من خصائص الله – تعالى -، ولهذا من تشبه به تعالى في ذلك، وصور صور الأحياء، فإن الله يعذبه أشد العذاب.
وقد تكاثرت النصوص الدالة على شدة عذاب المصورين، كما في هذين الحديثين.
قال عكرمة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنهُمُ اللهُ فِي الدُّنيَا وَالأَخِرَة وَأَعَدَّ لَهُم عَذَاباً مُهِيناً} نزلت في المصورين (3) .
وفي ((الصحيحين)) من حديث عبد الله بن مسعود، قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: (إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورين)) (4) ، وفي رواية لمسلم: ((إن من أشد أهل النار يوم القيامة عذاباً المصورين)) .
وروى مسلم إلى ابن عباس، قال: جاءه رجل، فقال: إني رجل أصور هذه الصور، فأفتني فيها، فقال له: ادن مني، فدنا منه، ثم قال: ادن مني،
_________
(1) ((لسان العرب)) (4/473) .
(2) ((متن اللغة)) (4/514) .
(3) رواه ابن جرير في ((تفسيره)) (22/44) .
(4) انظر: ((الفتح)) (10/382) ، و ((مسلم)) (3/1670) رقم (2109) .(2/678)
فدنا حتى وضع يده على رأسه.
قال: أنبئك بما سمعت من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((المصور في النار يجعل له بكل صورة صوّرها نفساً فتعذبه في جهنم)) (1) .
وفي رواية له: (من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ)) والأحاديث في ذلك كثيرة شهيرة.
قوله: ((ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم)) يقال لهم ذلك تعجيزاً لهم وتعذيباً، يعني: أوجدوا فيه الروح، التي بها الحياة، وليس ذلك بطاقة أحد غير الله – جل وعلا – وهذا لأنهم ذهبوا يتشبهون بالله – تعالى – في التصوير والخلق، فطعنوا بذلك وجاوزوا حدَّهم؛ لأن الله – تعالى – وحده، هو المصور الذي يصور كل حي، ويوجد فيه الروح، فصار جزاء هؤلاء: أن يعذبوا بما لا يطاق، ولا يستطاع، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.
والمقصود من الحديث، نسبة الخلق إليهم في قوله: ((أحيوا ما خلقتم)) فالتصوير فعلهم وعملهم، الذي استحقوا عليه العقاب؛ لأنهم فعلوه بطوعهم، واختيارهم، فهو فعلهم حقيقة، والله خالقهم، وخالق أفعالهم، كما تقدم، ومن أجل أن ذلك فعلهم حقيقة جوزوا عليه.
******
183- قال: ((حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا ابن فضيل، عن عمارة، عن أبي زرعة، سمع أبا هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((قال الله – عز وجل – ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، ليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو شعيرة)) .
_________
(1) انظر: ((صحيح مسلم)) (3/1671) الحديث رقم (2110) .(2/679)
هذه من الأحاديث القدسية التي يرويها النبي – صلى الله عليه وسلم – عن ربه – جل وعلا – عن طريق الإلهام، أو المنام، أو بواسطة الملك، وهي مضافة إلى الله – تعالى – قولاً له، ويختلف عنها القرآن، بأنه كلام الله المنزل على محمد – صلى الله عليه وسلم – نزل به الروح الأمين، المتحدى به، أو بسورة منه، المتعبد بتلاوته.
قوله: ((ومن أظلم)) يعني: أن فاعل ذلك، ظالم ظلماً لم يبلغه أحد، فهو استفهام يفيد كثرة الظلم، وعظمه، وإنكاره.
ومعنى ((ذهب)) : قصد وفعل ذلك.
وقوله: ((كخلقي)) يعني: في الصورة فقط، وإلا فلا أحد من الخلق، يقدر أن يوجد حياة فيما يصوره، مهما أوتي من الفكر، والإمكانيات المادية، وغيرها، فلن يستطيع ذلك، ولهذا قال: ((فليخلقوا ذرة)) أي: ليوجدوا فيها الحياة أو ليوجدوها من العدم، وليجعلوا فيها روحاً تحيا بها، وليس هذا بمقدور الخلق ولو اجتمعوا له.
ثم انتقل بهم إلى ما هو أسهل من ذلك، وهو الحبة التي تكون بها حياة النبات، فإذا وضعت في الأرض، وسقيت بالماء نبتت بإذن الله، ولن يستطيع المصورون أن يخلقوا تلك الحبة، بل ذلك ليس في مقدور الخلق كلهم.
ثم قال: ((وليخلقوا شعيرة)) ، والشعيرة أقل قيمة من الحبة، ولكن فيها من الحياة ما في الحبة، فإذا كان المصورون، وغيرهم الذين يضاهئون الله في خلقه، عاجزين عن خلق الحبة والشعيرة، فضلاً عما فيه روح، فكيف يذهبون يصورون الصور التي فيها مضاهاة لخلق الله – تعالى؟ ولعظيم جرمهم، استحقوا من العذاب، ما لا يكون لسائر أهل الكبائر.
والمقصود بالأمر في قوله: ((فليخلقوا ذرة)) إلى آخره، التعجيز وإذلالهم لذلك، وتعذيبهم.(2/680)
ومراد البخاري – رحمه الله – نسبة الخلق إليهم فعلاً لهم حقيقة، مع أنهم مخلوقون لله – تعالى – فالله خالقهم، وخالق أفعالهم، ولكنه جعلهم فاعلين قادرين على فعلهم، باختيارهم وقدرتهم التي خلقها الله فيهم، ولهذا عذبهم على ذلك، ولو لم يكن فعلاً لهم حقيقة ما عذبوا عليه.
قال الحافظ: ((الذي يظهر: أن مناسبة ذكر حديث المصورين، لترجمة هذا الباب، من جهة أن من زعم أنه يخلق فعل نفسه، لو صحت دعواه لما وقع الإنكار على هؤلاء، فلما كان أمرهم بنفخ الروح فيما صوروه، أمر تعجيز، ونسبة الخلق إليهم، إنما هي على سبيل التهكم والاستهزاء، دل على فساد قول من نسب خلق فعله إليه استقلالاً)) (1) .
والصواب ما تقدمت الإشارة إليه من مراد البخاري – رحمه الله – أن الأفعال المسندة إليهم، أفعال لهم حقيقة، وهي مخلوقة لله – تعالى – فإن الله خالق كل فاعل وفعله، وهو خالق كل شيء، فلا يكون العباد خالقين لأفعالهم استقلالاً وإيجاداً، وإنما هم فاعلون لها، بجعل الله لهم فاعلين، وإقداره لهم على ذلك، فجعل القدرة لهم على فعلها، وأوجد فيهم الإرادة لها والاختيار، فصاروا فاعلين لها بذلك، حيث باشروا الفعل بأنفسهم، فهو فعلهم حقيقة، ولذلك استحقوا عليها الثواب أو العقاب.
وقال الكرماني: ((لعل غرض البخاري، في تكثير هذا النوع، في هذا الباب وغيره، بيان جواز ما نقل عنه أنه قال: لفظي بالقرآن مخلوق – إن صح عنه -)) (2) .
قال الحافظ: ((قلت: قد صح عنه أنه تبرأ من هذا الإطلاق، فقال:
_________
(1) ((الفتح)) (13/535) .
(2) ((شرح الكرماني)) (25/244) .(2/681)
((كل من نقل عني أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق، فقد كذب عليّ، وإنما قلت: أفعال العباد مخلوقة. أخرج ذلك غنجار، في ترجمة البخاري، من تاريخ بخارى، بسند صحيح إلى محمد بن نصر المروزي، الإمام المشهور، أنه سمع البخاري يقول ذلك)) (1) ومن طرق أخرى.
قال ابن القيم – بعدما ذكر ما ذكره البخاري -: (وقال جابر بن عبد الله: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعلمنا الاستخارة في الأمور، كما يعلمنا السورة من القرآن.
يقول: ((إذا هم أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر، ولا أقدر، وتعلم، ولا أعلم، وأنت علام الغيوب.
اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري، فيسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه، وأقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به، قال: ويسمي حاجته)) قال الترمذي، هذا حديث حسن صحيح (2) .
فقوله: ((إذا هم أحدكم بالأمر)) صريح في أنه في الفعل الاختياري، المتعلق بإرادة العبد، وإذا علم بذلك، فقوله: ((أستقدرك بقدرتك)) أي: أسألك أن تقدرني على فعله، بقدرتك، ومعلوم أنه لم يسأله القدرة المصححة [للفعل] ، التي هي سلامة الأعضاء، وصحة البنية. وإنما سأل القدرة التي توجب الفعل، فعلم أنها مقدرة لله، ومخلوقة له.
_________
(1) ((الفتح)) (13/535) .
(2) هو مخرج في ((الصحيحين)) ، وتقدم في هذا الكتاب.(2/682)
وأكد ذلك بقوله: ((فإنك تقدر ولا أقدر)) أي: تقدر أن تجعلني قادراً، فاعلاً، ولا أقدر أن أجعل نفسي كذلك، وكذلك قوله: ((تعلم ولا أعلم)) أي: حقيقة العلم بعواقب الأمور، ومآلها، والنافع منها والضار عندك، وليس عندي.
وقوله: ((يسره لي)) أو ((اصرفه عني)) ، فإنه طلب من الله تيسيره إن كان له فيه مصلحة، وصرفه عنه إن كان فيه مفسدة، وهذا التيسير والصرف متضمن إلغاء داعية الفعل في القلب، أو إلقاء داعية الترك فيه، ومتى حصلت داعية الفعل، حصل الفعل، [وإذا حصل] داعية الترك امتنع الفعل.
وعند القدرية: ترجيح فاعلية العبد على الترك، ليس للرب فيه صنع، ولا تأثير، فطلب هذا التيسير منه لا معنى له عندهم، فإن تيسير الأسباب التي لا قدرة للعبد عليها موجودة، ولو لم يسألها العبد.
وقوله: ((ثم رضني به)) يدل على أن حصول الرضا، وهو فعل اختياري من أفعال القلوب،، - أمر مقدور للرب تعالى – وهو الذي يجعل نفسه راضية.
وقوله: ((فاصرفه عني، واصرفني عنه)) صريح في أنه سبحانه هو الذي يصرف عبده عن فعله الاختياري، إذا شاء صرفه عنه، كما قال تعالى في حق يوسف: {لِنَصرِفَ عَنهُ السُّوءَ وَالفَحشَاءَ} وصرف السوء والفحشاء: هو صرف دواعي القلب، وميله، فينصرفان عنه بصرف دواعيهما.
وقوله: ((واقدر لي الخير حيث كان)) يعم الخير المقدور للعبد من طاعته، وغير المقدور له.
فعلم أن فعل العبد للطاعة والخير، أمر مقدور لله – تعالى -، إن لم يقدره الله لعبده، لم يقع من العبد.(2/683)
ففي هذا الحديث الشفاء في مسألة القدر، وأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – الداعي به أن يقدم بين يدي هذا الدعاء ركعتين، عبودية منه بين يدي نجواه، وأن يكونا من غير الفريضة؛ ليتجرد فعلهما لهذا الغرض المطلوب.
ولما كان الفعل الاختياري متوقفاً على العلم، والقدرة، والإرادة، لا يحصل إلا بها، توسل الداعي إلى الله – تعالى – بعلمه، وقدرته، وإرادته التي يفعل بها من فضله.
وأكد هذا المعنى بتجرده، وبراءته من ذلك، فقال: ((إنك تعلم، ولا أعلم، وتقدر، ولا أقدر)) ، وأمر الداعي أن يعلق التيسير بالخير، والصرف بالشر، وهو علم الله – سبحانه – تحقيقاً للتفويض إليه، واعترافاً بجهل العبد بعواقب الأمور كما اعترف بعجزه.
((ففي هذا الدعاء إعطاء العبودية حقها، وإعطاء الربوبية حقها، والله المستعان)) (1) .
**********
_________
(1) ((شفاء العليل)) (ص110-111) .(2/684)
قال: ((باب قراءة الفاجر، والمنافق، وأصواتهم وتلاوتهم لا تجاوز حناجرهم)) .
الفاجر هو: الخارج عن الطاعة، فيشمل الكافر والفاسق.
وأما المنافق، فهو: الذي يظهر خلاف ما يبطن، وأعظم ذلك الكفر والتكذيب، فمن أبطن الكفر والتكذيب، فهو المنافق النفاق الأكبر، وإن تنوع ذلك.
وقوله: ((وتلاوتهم)) مبتدأ، وخبره جملة: ((لا تجاوز حناجرهم)) والجملة من المبتدأ والخبر حال.
وهذا الباب كسابقه مما مر ذكره، يريد به التفرقة بين التلاوة والمتلو، وأن التلاوة من عمل التالي، وعمل العباد متفاوت، فمنه المقبول المرفوع إلى الله - تعالى -، ومنه المردود الذي لا يجاوز فم قائله، وعمل البر المتقي ليس كعمل الفاجر، والمنافق، وعمل الشيطان الذي يسترق السمع من الملائكة، وأخيه الكاهن ليس كعمل الملك.
فهذا التفاوت يدل على أنه عملهم، وعملهم كله مخلوق، ولهذا قال - رحمه الله - في ((خلق أفعال العباد)) : وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قراءة المنافقين والفجار، فبين ما يتآكلون بقراءتهم، فلا يرتابن أحد في خلق المنافقين وأصحاب الجحيم وأعمالهم.
حدثنا عبيد الله - هو أبو قدامة - ابن سعيد، حدثنا حماد بن زيد، قال: من قال: كلام العباد ليس بمخلوق فهو كافر.
حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا حيوة، حدثني بشير بن أبي عمرو الخولاني أن الوليد بن قيس التجيبي حدثه، أنه سمع أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يخلف قوم من بعد ستين سنة، أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غياً.(2/685)
ثم يكون خلف يقرءون القرآن، لا يعدو تراقيهم. ويقرأ ثلاثة: مؤمن، ومنافق، وفاجر)) . فقال بشير: فقلت للوليد: ما هؤلاء الثلاثة؟ قال: المنافق كافر به، والفاجر يتأكل به، والمؤمن يؤمن به)) .
ثم قال: ((ومما يدل على أصوات العباد)) (1) : قول النبي – صلى الله عليه وسلم – وأكثر منافقي أمتي قرآؤها)) . فعد قراءة المعطلة، والجهمية، وأهل الأهواء، وغيرهم.
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((يقرأ القرآن رجال، يمرقون من الدين، لا يجاوز حلوقهم، هم شر الخلق والخليقة)) .
وقال: ((يتعجلونه، ولا يتأجلونه)) (2) . وهذا يبين مراده من هذا الباب هنا.
قال الحافظ: ((التلاوة متفاوتة بتفاوت التالي، فيدل على أنها من عمله)) (3) .
*****
184- قال: حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا همام، حدثنا قتادة، حدثنا أنس، عن أبي موسى – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كالأترجة، طعمها طيب وريحها طيب، والذي لا يقرأ كالتمرة، طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ كمثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن، كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها)) .
_________
(1) يعني: أنها مخلوقة لله – تعالى – مثل سائر المخلوقات.
(2) ((خلق أفعال العباد)) (ص193-194) .
(3) ((الفتح)) (13/536) .(2/686)
ضرب الأمثال يراد به تقريب المعنى إلي الفهم.
والمقصود بالمثل هنا: الوصف والحال, فالمؤمن طيب في نفسه, وما من عمل يكون طيبا, فلهذا جعل - صلى الله عليه وسلم – مذاقه طيبا، ورائحته التي تتعدى إلى من حوله طيبة, وإن كان المقصود بهذا الحديث من يحمل القرآن ويقرؤه, فغير القراءة من الأعمال يلتحق بها.
فإذا كان حامل القرآن مؤمنا, عاملا به, صادف محلا قابلا, فأثمر.
والأترجة, تجمع طيب المذاق, وطيب الرائحة ,وحسن المنظر ,وطيب نكهتها ,وجودة الهضم ,وفيها منافع أخرى, فناسب تمثيل المؤمن القارئ للقرآن بها.
قال الحافظ: ((وقع في رواية شعبة، عن قتادة: ((المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به)) وهي زيادة مفسرة للمراد، وأن التمثيل وقع بالذي يقرأ القرآن، ولا يخالف ما اشتمل عليه من أمر، ونهي، لا مطلق التلاوة)) (1) .
قوله: ((والذي لا يقرأ القرآن كالتمرة، طعمها طيب ولا ريح لها)) يعني بالمؤمن الذي لا يقرأ القرآن: هو الذي لا يحفظه، ولا يتلوه، فالإيمان بالله ورسله وما جاءت به طيب، ومذاقه حلو، ولكن إذا آمن بالقرآن، وعمل به، وهو لا يقرؤه، فاتته الرائحة الطيبة، والله – تعالى – يجمع الطيبين فيسكنهم دار الطيبات، كما يجمع الخبيث بعضه إلى بعض فيركمه فيجعله في جهنم.
قال الحافظ: ((قيل: خص صفة الإيمان بالطعم، وصفة التلاوة بالريح؛ لأن الإيمان ألزم للمؤمن من القرآن، إذ يمكن حصول الإيمان بدون القراءة)) (2) .
_________
(1) ((الفتح)) (9/67) .
(2) ((الفتح)) (9/66) .(2/687)
قوله: ((ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب، وطعمها مر)) .
الفاجر أصله ومذاقه مر خبيث، وإذا قرأ القرآن كان ما يصدر منه من القراءة طيب، ولكن مصدر القراءة خبيث، ومثل القراءة بالرائحة التي يدركها من حوله، فلما كان هذا العمل طيباً، صار مثل الرائحة الطيبة، الصادرة من محل خبيث، مؤذ، ضار، وإن كان ينتفع برائحته.
قوله: ((ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، طعمها مر، ولا ريح لها)) يعني: اجتمع فيه خبث الأصل، وخبث العمل، فلا نفع فيه لنفسه ولا لغيره، بل هو ردىء مؤذ في نفسه، ولا علم له ينتفع به.
قال النووي: ((فيه فضيلة حافظ القرآن، واستحباب ضرب الأمثال لإيضاح المقاصد)) (1) .
والمقصود بقارئ القرآن، من حفظه، وتعاهده بكثرة التلاوة؛ للوقوف على أسرار معانيه، والعمل بأوامره، والانتهاء عن مناهيه، والاتعاظ بمواعظه، والتأدب بآدابه، لا مجرد الحفظ والتلاوة.
وكلام الله – تعالى – له تأثير في باطن العبد، وظاهره، إذا كان مؤمناً به، والعباد متفاوتون في ذلك، فمنهم من له النصيب الأوفر من ذلك، وهو المؤمن المتقي التالي له، ومنهم من لا نصيب له البتة، وهو المنافق، ومن تأثر ظاهره دون باطنه فذلك المرائي)) (2) .
والمراد منه للباب: أن هذا التفاوت، في وصف المؤمن القارئ، وغير القارئ، والفاجر والمنافق، يدل على أن ذلك عملهم، تفاوت بالإيمان مع
_________
(1) ((شرح مسلم)) (6/83) .
(2) ((مكمل إكمال الإكمال)) ملخصاً (2/415) .(2/688)
القراءة وعدمها، وبالفجور والنفاق مع القراءة وعدمها، فإذا كان ذلك بعملهم، فأعمالهم كلها مخلوقة، كما تقدم إيضاح ذلك.
********
185- قال: ((حدثنا علي، حدثنا هشام، أخبرنا معمر، عن الزهري. ح.
وحدثني أحمد بن صالح، حدثنا عنبسة، حدثنا يونس، عن ابن شهاب أخبرني يحيى بن عروة بن الزبير، أنه سمع عروة بن الزبير يقول: قالت عائشة رضي الله عنه: سأل أناس النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الكهان؟ فقال: ((إنهم ليسوا بشيء)) فقالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون بالشيء يكون حقاً، قال: فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني، فيقرقرها في أذن وليه، كقرقرة الدجاجة، فيخلطون فيه أكثر من مائة كذبة)) .
قوله: ((سأل أناس النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الكهان)) جاء في ((صحيح مسلم)) ، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله، إن الكهان كانوا يحدثوننا بالشيء فنجده حقا، قال: ((تلك الكلمة الحق، يخطفها الجني،
فيقذفها في أذن وليه، ويزيد فيها مائة كذبة)) (1) .
فالسؤال وقع عما يخبرون به، فلهذا قال: ((ليسوا بشيء)) أي: أخبارهم باطلة وكذب، ليست شيئا واقعا، فلما قالوا: إنهم يصدقون أحيانا، أخبر أن ذلك الصدق، هو القليل الذي يخطفه الشيطان، المسترق للسمع، من الملك الذي يتكلم بالوحي، فيلقيه في أذن وليه من الإنس، الذي هو الكاهن، ويكذب معها مائة كذبة.
_________
(1) انظر ((صحيح مسلم)) (4/1750) رقم (2228) .(2/689)
ويجوز أنهم سألوا عن حكمهم، وعن إتيانهم، كما في ((صحيح مسلم)) أن معاوية بن الحكم قال: يا رسول الله، كنا نأتي الكهان، قال: ((فلا تأتوا الكهان)) (1) .
والكهان هم: الذين يخبرون عن المستقبل غالباً، استناداً إلى أسباب خفية، من اتصالهم بالجن، الذين يسترقون السمع من الملائكة، وهو الأصل عندهم، وقد تكون أخبارهم وهمية.
ويطلق اسم الكاهن على كل من يتعاطى علم الغيب، أو يحكم بغير ما أنزل الله (2) .
وفي كليات أبي البقاء: ((الكاهن هو: من يخبر بالأحوال الماضية، والعراف: من يخبر بالأحوال المستقبلة)) (3) .
وقال الخطابي: ((الكهنة: قوم لهم أذهان حادة، ونفوس شريرة، وطباع نارية؛ فألفتهم الشياطين؛ لما بينهم من التناسب في هذه الأمور، وساعدتهم بكل ما تصل إليه قدرتهم. وكانت الكهانة في الجاهلية فاشية، خصوصاً في العرب؛ لانقطاع النبوة فيهم، وهي على أصناف.
منها: ما يتلقونه من الجن، فإن الجن يركب بعضهم بعضاً، إلى أن يسمع أعلاهم شيئا من كلام الملائكة، كما وصف ذلك في الحديث، وكانت إصابة الكهان قبل الإسلام كثيرة جداً، كما في أخبار شق، وسطيح، وغيرهما من كبار الكهان، وأما في الإسلام، فقد ندر ذلك جداً حتى يكاد يضمحل.
ومنها: ما يخبر الجني به من يواليه، مما غاب عن غيره، مما لا يطلع عليه الإنسان غالباً، أو يطلع عليه من قرب منه.
_________
(1) المصدر المذكور (4/1749) رقم (2227) .
(2) انظر ((الفتح)) (10/216) .
(3) ((كليات أبي البقاء)) (4/129) .(2/690)
ومنها: ما يستند إلى التجربة، والعادة، فيستدل على الحادث، بما وقع قبل ذلك، وقد يكون ذلك بنوع من السحر، أو بنوع يضاهي السحر، مثل: الزجر، والطرق، والنظر في النجوم.
ومنها: ما يستند إلى ظن وتخمين وحدس، وقد يبتلي الله – تعالى – بهذا النوع بعض الناس، فيقع له ما ظنه، فيكون ذلك فتنة له، ولغيره مع كثرة الكذب فيه (1) .
قوله: فقالوا: يا رسول الله. فإنهم يحدثون بالشيء يكون حقاً)) أي: إن الكهان يخبرون بالأمر، فيقع مثل ما أخبروا به. فالحق: هو الخبر المطابق للواقع، يعني: الصدق.
فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – جواباً على هذا الإيراد: ((تلك الكلمة من الحق، يخطفها الجني)) أي: أن الحق الذي يقع في خبر الكاهن، يكون مما خطفه الجني، الذي هو الشيطان مسترق السمع، من الملائكة الذين يكونون في السحاب، فيتحدثون بينهم فيما أوحاه الله إليهم، فيخطف الجني الكلمة منهم.
((فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاجة)) أي: يرددها مثل ترديد الدجاجة صوتها، بترجيع، وزمزمة، ولهذا صارت أخبار الكهان كذلك.
وهو يرددها لتستقر في ذهنه ويحفظها، هذا إذا لم يصبه الشهاب، الذي يرسله الله عليه، فأحياناً يقتله الشهاب، وقد يذهب بعقله، وقد يسلم.
وسمى الكاهن ولياً للشيطان؛ لأنه يطيعه ويتولاه، أو أراد العموم في الكاهن والمنجم، والعراف، ونحوهم ممن يتولى الشياطين.
قال الخطابي: ((يبين – صلى الله عليه وسلم – أن إصابة الكاهن أحياناً، إنما هي لأن الجني
_________
(1) ((الفتح)) مع بعض التصرف (10/217) .(2/691)
يلقى إليه الكلمة، التي يسمعها استراقا من الملائكة، فيزيد عليها أكاذيب، يقيسها على ما سمع، فربما أصاب نادراً، وخطؤه الغالب)) (1) .
((فيخلطون فيه أكثر من مائة كذبة)) أي: الشياطين يخلطون مع الكلمة الواحدة من الحق، التي سمعوها من الملائكة، أكثر من مائة كذبة، ومع ذلك يصدقهم الناس، من أجل أنهم يصيبون في واحد من أخبارهم، البالغة أكثر من مائة، والباقي كله كذب، وهذا من العجائب، ومما يدل على حب النفوس للباطل، وإلا كيف يصدق، وهو إذا صدق مرة واحدة، كذب أكثر من مائة مرة؟!
قال الحافظ: ((والذي يظهر لي من مراد البخاري: أن تلفظ المنافق بالقرآن كما يتلفظ به المؤمن، فتختلف تلاوتهما، والمتلو واحد، فلو كان المتلو عين التلاوة، لم يقع فيه تخالف، وكذلك الكاهن، في تلفظه بالكلمة من الوحي، التي يخبره بها الجني، مما يختطفه من الملك تلفظه بها، وتلفظ الجني مغاير لتلفظ الملك؛ فتفاوتا)) (2) .
قلت: هذا بعض ما أراده البخاري – رحمه الله -، وتمامه: أن هذا التفاوت المذكور بينهم، يدل على أن التلفظ عمل لهم، وهم وأعمالهم مخلوقون، كما تقدم إيضاح ذلك، والله أعلم.
186- قال: ((حدثنا أبو النعمان، حدثنا مهدي بن ميمون، سمعت محمد بن سيرين يحدث، عن معبد بن سيرين، عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((يخرج ناس من قبل المشرق، ويقرءون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون
_________
(1) ((الفتح)) (10/220) .
(2) ((الفتح)) (13/536) .(2/692)
من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه)) .
قيل: ما سيماهم؟ قال: ((سيماهم التحليق – أو قال: التسبيد -)) .
هذا الحديث تقدم في باب قوله تعالى: {تَعرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِليهِ} ، وتقدم شرحه هنا، إلا أن هذه الرواية فيها ما ليس في تلك، فنبين ما لم يتقدم، فمن ذلك قوله: ((يخرج ناس من قبل المشرق)) . المراد: مشرق المدينة، وهو العراق أو قربه، وقد خرجوا فيه كما هو معلوم، وقاتلهم علي ابن أبي طالب – رضي الله عنه – وقتل معظمهم، ولكنهم لم يزل يخرج منهم طوائف، حتى صار لهم أسوأ الأثر على الأمة الإسلامية.
ومن ذلك قوله: ((ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه)) أي: المكان الذي خرج منها لما رمي به، ومعنى ذلك: أنهم لا يعودون إلى الإسلام أبداً، وهذا شأن أهل الأهواء، والبدع؛ لأنهم يرون أن ما هم عليه هو الحق، ومن عداهم فهو على الباطل؛ فهم الذين زين لهم سوء أعمالهم فرأوها حسنة.
وقوله: ((سيماهم التحليق)) أي: علامتهم أنهم يحلقون رؤوسهم. ((والتسبيد)) : هو التحليق، أو المبالغة فيه، وقيل: هو ترك غسل الشعر ودهنه، وقال الكرماني: هو: استئصال الشعر)) (1) .
وقد ذكروا، أن السلف لم يكونوا يحلقون رؤوسهم إلا في النسك، أو الحاجة.
ولا يلزم أن يكون الحلق علامة على الخوارج في جميع الأزمنة، فإن عادات
_________
(1) انظر شرحه (25/248) .(2/693)
الناس تتغير، وتختلف.
والمراد من الحديث: أن قراءة هؤلاء لا تجاوز تراقيهم، والترقوة: هي العظم الناتئ في أعلى الصدر، وأسفل الرقبة، ولكل واحد ترقوتان.
والمعنى: أن القرآن لا يصل إلى قلوبهم، فلا يفقهونه، ولا يؤثر فيهم، مع أنهم يحفظونه، ويتلونه فتلاوتهم لا تنفعهم، بخلاف المؤمنين المتقين، فإنهم إذ تلوا آيات الله زادتهم إيماناً، فهم يزدادون إيمانا بعملهم، ثم يجزيهم الله على ذلك أفضل الجزاء؛ لأن ذلك عملهم، أما المذكورون في هذا الحديث، فلم ينتفعوا بفهم كتاب الله، فيدخل الإيمان في قلوبهم، وإنما يتلونه بألسنتهم ولا يصل إلى القلوب، فلم يتأثروا بآيات الله تقى، ولا علماً، ولا إيماناً، فعملهم مردود؛ لأنه لا أثر له في نفوسهم، فلم يمتثلوا أمر الله وما أريد منهم، ولم ينتفعوا بعملهم، وهذا يدل على أن التلاوة التي انتفع بها المتقون، ولم تنفع هؤلاء، أنها عملهم الذي يجزون عليه، وأعمالهم مخلوقة لله من سائر المخلوقات، وهذا المطلوب.
******(2/694)
قال: ((باب قول الله تعالى: {وَنضَعُ المَوازِينَ القِسطَ لِيَومِ القِيامَةِ} وأن أعمال بني آدم وقولهم يوزن)) .
معنى وضع الموازين: إحضارها، والقسط: العدل.
قال الكرماني: ((القسط: مصدر يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع، أي: الموازين العادلات. وجمع باعتبار العباد، وأنواع الموزونات.
{لِيَومِ القِيامَةِ} أي: في يومها. وقال الزجاج: أي: نضع الموازين ذوات القسط، وفائدة ذلك إظهار العدل، والمبالغة في الإنصاف، والإلزام، قطعاً لأعذار العباد)) (1) .
وقال الخازن: {وَنضَعُ المَوازِينَ القِسطَ} أي: ((ذوات العدل، وصفها بذلك؛ لأن الميزان قد يكون مستقيماً، وقد يكون بخلافه، فبين أن تلك الموازين تجري على حد العدل)) (2) .
((وقال الزجاج: المعني: ونضع الموازين ذوات القسط، والقسط العدل، وهو مصدر يوصف به، يقال: ميزان قسط، وميزانان قسط، وموازين قسط)) (3) .
قال ابن كثير: ((الأكثر على أنه ميزان واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة)) (4) .
قال الحافظ: ((اختلف في ذكر الميزان بلفظ الجمع، هل المراد: أن لكل شخص ميزاناً، أو لكل عمل ميزان؟ فيكون الجمع على ظاهره، أو ليس هناك
_________
(1) ((شرح الكرماني)) (25/248) .
(2) ((تفسير الخازن)) (4/296) .
(3) ((الفتح)) (13/538) .
(4) ((تفسير ابن كثير)) (5/339) .(2/695)
إلا ميزان واحد، والجمع باعتبار تعدد الأعمال، والأشخاص؟
والذي يترجح، أنه ميزان واحد، ولا يشكل بكثرة من يوزن عمله؛ لأن أحوال يوم القيامة لا تكيف بأحوال الدنيا)) (1) .
((قال أبو إسحاق الزجاج، أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان، وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان، وكفتان، ويميل بالأعمال.
وأنكرت المعتزلة الميزان. وقالوا: هو عبارة عن العدل.
فخالفوا الكتاب، والسنة؛ لأن الله - تعالى - أخبر أنه يضع الموازين، لوزن الأعمال؛ ليرى العباد أعمالهم ممثلة، ليكونوا على أنفسهم شاهدين)) (2) .
قلت: وإنكار المعتزلة ونحوهم للميزان، وأن الأعمال توزن يوم القيامة، هو سبب النص، على وجوب الإيمان به، في عقائد أهل السنة، وإلا فهو من جملة ما اشتمل عليه اليوم الآخر، والإيمان به ركن من أركان الإيمان، لا يتم لأحد إيمان إلا به.
قوله: ((وأن أعمال بني آدم وقولهم يوزن)) يعني: أن كل ما يصدر من بني آدم، ويترتب عليه الجزاء، فهو يوزن؟ لأنهم متعبدون لله مكلفون بما أراده منهم، فراقبهم الله على ذلك، فإذا حضروا لديه يوم القيامة، جازاهم أتم الجزاء، وأظهر عدله في حكمه عليهم، حتى يعذروا من أنفسهم.
ومراد البخاري - رحمه الله - أن أعمال بني آدم وأقوالهم، مخلوقة لله
_________
(1) ((الفتح)) (13/537-538) .
(2) ((الفتح)) (13/538) .(2/696)
- تعالى -؛ فلهذا توزن، فيجازون عليها، ومن ذلك قراءتهم القرآن، وذكرهم لله - تعالى - بالتسبيح والتحميد والتهليل، كما يأتي في الحديث.
قال ابن المنير: ((جمع البخاري في هذه الترجمة بين فوائد:
منها: وصف الأعمال بالوزن.
ومنها: إدراج الكلام في الأعمال، لأنه لما وصف الكلمتين بالخفة على اللسان والثقل في الميزان، دل على أن الكلام عمل يوزن.
ومنها: أنه ختم كتابه بهذا التسبيح، وقد ورد في الحديث ما يدل على استحباب ختم المجالس بالتسبيح، وأنه كفارة لما لعله يتفق في أثناء الكلام، مما ينبغي هجره، وهذا نظير كونه بدأ كتابه بحديث ((الأعمال بالنيات)) فكأنه تأدب في فاتحته وخاتمته، بآداب السنة والحق.
فالأدب في الابتداء: إخلاص القصد والنية، وفي الانتهاء: مراقبة الخواطر ومناقشة النفس على الماضي، والاعتماد في تكفير ما لعله يحتاج إلى تكفير، بما جعله الشرع مكفراً للهفوات (1) .
قال الحافظ: ((الظاهر أن أعمال بني آدم وأقوالهم كلها توزن، لكن خص من ذلك طائفتان:
الأولى: الكفار الذين ليس لهم حسنات، فهم يقعون في النار من غير حساب ولا ميزان، كما قال تعالى: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُم يَومَ القِيامَةِ وَزناً} (2) .
الثانية: المؤمنون الذين لا سيئات لهم، ولهم حسنات كثيرة، فهم يدخلون الجنة بغير حساب، كما في حديث السبعين ألفا، وهم الذي يمرون على الصراط كالبرق الخاطف، أو كلمح البصر، أو كالريح (3)
_________
(1) ((المتواري)) (ص432-433) .
(2) الآية 105 من سورة الكهف.
(3) ((الفتح)) (13/538) .(2/697)
قوله: ((وقال مجاهد: القسطاس: العدل، بالرومية)) .
يعني: أن هذه عربت فصارت عربية، وأنكر بعض العلماء أن يكون في القرآن شيء من غير العربية، وهذا حق؛ لأن ما عرب، وأدخل في اللغة، يكون منها.
قال الإمام الطبري: ((كل ما ذكر عن أهل التفسير من الكلمات، أنها بلسان الحبشة، أو الروم، أو الفرس، أو غيرهم، معناه: اتفاق اللسانين فيها)) (1) .
((ويقال: القسط: مصدر المقسط، وهو العادل)) .
قال الأزهري: ((قال الليث، القسط بكسر القاف: العدل، والفعل منه: أقسط، بالألف.
والقسط: بفتح القاف: الجور. يقال: قسط يقسط قسطاً، وقسوطاً.
والقسط بكسر القاف: النصيب، وقال الله – تعالى -: {وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} ، قال الفراء: هم الجائرون، الكفار.
وأما المقسطون: [فهم] العادلون، المسلمون)) (2) .
قال الحافظ: ((وقد اعترض على البخاري في قوله: ((القسط مصدر المقسط)) ؛ لأن مصدر المقسط: الإقساط، قال ابن بطال، والكرماني: إنه أراد بالمصدر ما حذفت زوائده كقول الشاعر: وإن أهلك فذلك قدري.
يقصد: تقديري، فرد إلى أصله)) (3) .
_________
(1) انظر مقدمة تفسيره.
(2) ((تهذيب اللغة)) (8/388) ، وانظر ((معاني القرآن)) للفراء (3/193) .
(3) ((الفتح)) (13/540) .(2/698)
وقيل: إن القسط من الأضداد، أي: يأتي للعدل، وللجور.
((وأما القاسط فهو الجائر)) .
تقدم كلام الفراء فيه.
*****
187- قال: ((حدثنا أحمد بن إشكاب، حدثنا محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال النبي –صلى الله عليه وسلم -: ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) .
والمراد بالكلمتين: الجملتان، ((فسبحان الله وبحمده)) جملة تامة، و ((سبحان الله العظيم)) كذلك، ففيه إطلاق الكلمة على الكلام، وهو كثير.
وقوله: ((حبيبتان إلى الرحمن)) فيه: أن الله تعالى يحب بعض الكلام، وبعض العمل أكثر من غيره، ومحبة الله من صفاته، التي يجب أن تثبت له، على ما يليق بعظمته، ولا يجوز تأويل محبته، وتحريف الكلم فيها عن مواضعه، كفعل أهل البدع.
وقد مضى القول في ذلك.
((خفيفتان على اللسان)) أي: عند النطق بهما لا تثقلان اللسان، ولا تكلفه؛ لسهولة حروفهما، وخفتهما على اللسان، مع ما فيهما من الثواب العظيم، ومحبة الرحمن – عز وجل – لهما، فخليق بالعبد أن يكثر منهما، وهذا يوضح مراد المؤلف – رحمه الله – وهو: أن تكلم العبد، وتلفظه، ونطقه بالكلام، من عمله الذي يجزى عليه، وعمله كله مخلوق، مع أنه لا يجوز أن يقال: إن هاتين الكلمتين:(2/699)
((سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) أنهما مخلوقتان، وإنما المخلوق فعل العبد وعمله، وكذا تلاوة التالي، هي فعله وعمله، يجازى عليها، وتوضع في الميزان، أما المتلو، فهو كتاب الله وكلامه، وهو غير مخلوق.
فهاتان الكلمتان توزنان، ويثقل بهما الميزان، وهذا دليل واضح، على أن تكلم العبد بالذكر وبالقرآن، عمل له يثاب عليه، ويوضع في ميزانه، ليعطيه الله أجره عليه وافراً غير منقوص، ونحن نردد هذا المعنى ونكرره؛ لأن المؤلف – رحمه الله – صنع ذلك، كما سبق أن ذكرناه.
وقد أجمع السلف على أن أعمال العباد مخلوقة، كما سبق، وهذا هو المقصود من الحديث الذي أراده المؤلف؛ لأن ما يوضع في الميزان فهو مخلوق؛ لأنه من عمل العبد، وما يتلمس من مقاصد غير هذا، هي تابعة لهذا، وليست مقصودة لذاتها.
قوله: ((ثقيلتان في الميزان)) قال الحافظ: ((هو موضع الترجمة؛ لأنه مطابق لقوله: ((وأن أعمال بني آدم توزن)) (1) ، وما يوزن، فهو عمل للعبد وهو مخلوق.
((سبحان الله وبحمده)) قال الأزهري: ((قال الليث: سبحان الله، تنزيه لله، عن كل ما لا ينبغي له أن يوصف به [ونصب على المصدر] ، تقول: سبحت الله تسبيحاً، أي: نزهته تنزيها، وكذلك روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم -.
قال الزجاج: ((سبحان)) في اللغة: تنزيه لله – عز وجل – عن السوء.
قلت: وهذا قول سيبويه. يقال: سبحت الله تسبيحا وسبحانا، بمعنى واحد، فالمصدر ((تسبيح)) ، والاسم ((سبحان)) يقوم مقام المصدر.
_________
(1) ((الفتح)) (13/540) .(2/700)
قلت: ومعنى تنزيه الله من السوء: تبعيده منه، وكذلك تسبيحه: تبعيده، من قولك: سبحت في الأرض: إذا أبعدت فيها. ومنه قوله – جل وعز -: {كُلُُُُُ ُ فِي فَلَكٍ يَسبَحُونَ} ، وكذلك قوله: {وَالسَابِحَاتِ سَبحاً} هي: النجوم تسبح في الفلك، أي تذهب فيه بسطاً، كما يسبح السابح في الماء.
وكذلك السابح من الخيل، يمد يديه في الجري سبحاً، كما يسبح السابح في الماء. وجماع معناه: بعده تبارك وتعالى عن أن يكون له مثل أو شريك أو ضد، أو ند)) (1) .
وقال الحافظ: ((معنى التسبيح: تنزيه الله عما لا يليق به من كل نقص.
فيلزم نفي الشريك، والصاحبة، والولد، وجميع الرذائل، ويطلق التسبيح، ويراد به جميع ألفاظ الذكر.
ويطلق، ويراد به صلاة النافلة. و ((سبحان)) : اسم مصدر منصوب على أنه واقع موقع المصدر، لفعل محذوف، تقديره: سبحت الله سبحاناً، كسبحت الله تسبيحاً، ولا يستعمل غالبا إلا مضافاً)) (2) .
قوله: ((وبحمده)) . قيل: الواو للحال، والتقدير: أسبح الله متلبساً بحمدي له، من أجل توفيقه. وقيل: عاطفة، والتقدير: أسبح الله، وأتلبس بحمده، ويحتمل أن تكون الباء متعلقة بمحذوف متقدم، والتقدير: وأثني عليه بحمده، فتكون ((سبحان الله)) جملة مستقلة، ((وبحمده)) جملة أخرى.
قال الخطابي في حديث: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك)) أي: بقوتك
_________
(1) ((تهذيب اللغة)) (4/338-339) .
(2) ((الفتح)) (11/206) .(2/701)
التي هي نعمة، توجب عليّ حمدك، سبحتك، لا بحولي، وقوتي)) (1) .
قوله: ((سبحان الله العظيم)) أعاد التسبيح للتكرير والمبالغة في تنزيهه تعالى، والإكثار من ذكره تعالى، وهو من أفضل الأعمال.
ووصفه بالعظمة؛ ليستحضر أنه أهل التسبيح ومستحقه دائماً، وأن العبد لن يؤدي حقه، مهما أكثر من تسبيحه، وعبادته.
((قال ابن بطال: هذه الفضائل الواردة في فضل الذكر، إنما هي لأهل الشرف في الدين، والكمال، كالطهارة من الحرام والمعاصي العظام، فلا تظن أن من أدمن الذكر، وأصر على ما شاءه من شهواته، وانتهك دين الله – تعالى – وحرماته، أنه يلتحق بالمطهرين المقدسين، ويبلغ منازلهم، بكلام أجراه على لسانه، ليس معه تقوى، ولا عمل صالح)) (2) .
قال الكرماني: ((هذا الكلام من جوامع الكلم، وفيه امتثال لقوله تعالى: {فَسَبِح بِحَمدِ رَبِكَ} ، وتفسير له، ولما كان ذلك مندوبا إليه، عند أواخر المجالس، جعل البخاري – رحمه الله تعالى كتابه كمجلس علم؛ فختم به.
وذكر هذا الباب هنا ليس مقصوداً بالذات، بل هو لإرادة أن يكون آخر كلامه تسبيحاً وتحميداً)) (3) .
قلت: بل الظاهر: أنه مقصود بالذات، مع ما أشار إليه الكرماني، وتقدم بيان ذلك.
_________
(1) ((الفتح)) (13/541) .
(2) ((الفتح)) (13/541) .
(3) ((شرح الكرماني)) (25/251) .(2/702)
قال الحافظ نقلا عن شيخه البلقيني: ((لما كان أصل العصمة أولاً وآخراً، هو توحيد الله - تعالى - ختم بكتاب التوحيد، وكان آخر الأمور التي يظهر بها المفلح من الخاسر: ثقل الموازين وخفتها، جعله آخر تراجم الكتاب، فبدأ بحديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) وذلك في الدنيا، وختم بأن الأعمال توزن يوم القيامة، وأشار إلى أنه إنما يثقل منها، ما كان بالنية الخالصة لله - تعالى -.
وفي الحديث الذي ذكره، ترغيب وتخفيف، وحث على الذكر المذكور، لمحبة الرحمن له.
والخفة بالنسبة لما يتعلق بالفعل، والثقل بالنسبة لإظهار الثواب.
وجاء ترتيب هذا الحديث على أسلوب عظيم، وهو أن حب الرب سابق، وذكر العبد وخفة الذكر على لسانه تال، ثم بين ما فيها من الثواب العظيم، النافع يوم القيامة)) انتهى (1) .
قال الحافظ: ((والذي يظهر: أنه قصد ختم كتابه بما دل على وزن الأعمال؛ لأنه آخر آثار التكليف، فإنه ليس بعد الوزن، إلا الاستقرار في إحدى الدارين، إلى أن يريد الله - تعالى - إخراج من قضى بتعذيبه من الموحدين، فيخرجون من النار بالشفاعة، كما تقدم.
قال الكرماني: وأشار أيضاً، إلى أنه وضع كتابه قسطاساً، وميزاناً يرجع إليه، وأنه سهل على من يسره الله - تعالى - عليه.
وفيه إشعار بما كان عليه المؤلف في حالتيه، أولاً وآخراً، تقبل الله - تعالى - منه، وجزاه أفضل الجزاء)) (2) .
_________
(1) ((الفتح)) (13/542) .
(2) ((الفتح)) (13/542) .(2/703)
قلت: كل هذه الأمور، إن كانت مقصودة للبخاري - رحمه الله تعالى - فإنها جاءت تبعاً لما ذكر، من أن مراده: بيان خلق أفعال العباد، وأصواتهم وكلامهم، فإنها توزن، فيجازون عليها، وأن تلفظهم بالقرآن، والذكر والتسبيح، من أعمالهم، والعباد وأعمالهم من مخلوقات الله - تعالى - فإنه خالق كل شيء. والله أعلم.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأزواجه وأصحابه أجمعين.
****(2/704)