شرح
كتاب التوحيد
من صحيح البخاري
تأليف
الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان
رئيس قسم الدراسات العليا
بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
الجزء الأول(/)
المقدمة
الحمد الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربوبيته، ولا ند له في أسمائه وصفاته.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى، ودين الحق، فدعا إلى توحيد الله الخالص من كل شائبة شرك، في حقه، أو فعله، أو أسمائه وصفاته، وجاهد في هذا السبيل حتى وضح الحق، واستبان وكمل به الدين، وتمت النعمة، فترك الأمة على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
وسار على نهجه صحابته، فلم يغيروا، أو يبدلوا، بل بذلوا جهدهم في دعوة الخلق إلى عبادة الله وحده، حتى مضوا لسبيلهم.
فصلاة الله وسلامه على عبده ورسوله محمد بن عبد الله، إمام الحنفاء وسيد الأصفياء، ورضي الله عن صحابته أجمعين، وعمن سلك نهجهم إلى يوم الدين.
كمال الهداية وتمام النعمة على هذه الأمة
أما بعد، فقد علم أن الله - تعالى - بعث رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - على حين فترة من الرسل " وفي جاهلية لا تعرف من الحق رسماً، ولا تقيم به في مقاطع الحقوق حكماً " (1) ، وإنما ينتحلون ما تهواه نفوسهم، وما تزينه لهم شياطينهم، وما
_________
(1) انتزاعاً من خطبة " الاعتصام" للشاطبي (ص2) .(1/3)
وجدوا عليه آباءهم، فجاهدهم وجادلهم باللين والحكمة، وقارعهم بالسنان والحجة، لمن كابر وعاند، وكان نصر الله حليفه، فاستقام أمره، وانتصر على عدو الله، وظهر دينه، فجاء نصر الله ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وبعد تمام نعمة الله - تعالى - عليه وعلى أمته، وظهور ما جاء به من الحق، ووضوح الطريق، توفاه الله إليه، فقام بعده صحابته بأمره خير قيام، فجاهدوا في الله القريب والبعيد، حتى تحقق ما أخبر به رسولهم - صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم في "صحيحه" عن ثوبان، قال: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-: " إن الله زوى (1) لي الأرض فرأيت مشارقها، ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين، الأحمر، والأبيض (2) ، وأني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم (3) ، وإن ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة (4) ، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً" (5) .
ففتحت بلاد الروم وفارس في عهد الخليفة الثاني، وأنفقت كنوزها في سبيل الله - تعالى- وواصلت جحافل التوحيد إلى مشارق الأرض ومغاربها، تفتح القلوب إلى معرفة الله وتوحيده قبل البلاد، حتى تمت نعمة الله على أكثر أهل
_________
(1) معناه: جمعها لي فرأيت أقصاها من الشرق ومن الغرب.
(2) المقصود بالكنزين: كنز الفرس، والروم، الأحمر: الذهب، والأبيض: الفضة.
(3) أي: يهلكهم جميعاً، ويستولي على بلادهم، وذراريهم، وأموالهم.
(4) أي: لا أرسل عليهم عذاباً يعمهم، ويستأصلهم.
(5) "صحيح مسلم" (4/2215) رقم (2889) .(1/4)
الأرض، فاتجهوا إلى عبادة الله وحده، بعدما كانوا يعبدون كل شيء، وكانت تستعبدهم شياطين الجن والإنس.
ولكن كثيراً من الناس لا يعجبهم ذلك، بل يسوؤهم ويحزنهم.
ومن حكمة الله -تعالى - أن جعل للباطل جنوداً يناصرونه، ويدافعون الحق ويردونه، كما جعل للحق أنصاراً يتفانون في الذياد عنه، والدعوة إليه.
وقد كان ذلك منذ باء إبليس اللعين بالطرد عن رحمة الله، والبعد عن كل خير، فأقسم بعزة الله ليغوين بنى آدم أجمعين، إلا عباد الله المخلصين، كما قال الله تعالى عنه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {82} إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (1) .
ومن المعلوم أن الله - تعالى - لم يقبض نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم- حتى أكمل له دينه، وأظهره على من عاداه بالحجج والبراهين، وبقوة القتال لمن وقف في وجهه وعاند الحق، كما قال - تعالى - في آخر ما أنزله الله عليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (2) ، فإذا كان الله قد أكمل لهم دينهم، فلا بد من أنه وضحه لهم بحيث لا يبقى فيه أي التباس أو اشتباه، ولا بد من أنهم فهموه واعتقدوه على ما أريد منهم وعملوا به، ولا بد من الاستغناء به عن كل ما سواه، فلا يحتاجون معه إلى غيره، وأعظم ما يحتاجونه وأشرفه هو معرفتهم ربهم بأسمائه وصفاته، وما يجب له ويستحقه، ويحمد ويمجد به، ويثنى به عليه؛ لأن هذا من أفضل العبادة التي أوجبها الله عليهم، كما قال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (3) .
_________
(1) الآيتان 82، 83 من سورة ص.
(2) الآية 3 من سورة المائدة.
(3) الآية 180 من سورة الأعراف.(1/5)
قد أوضح الله ورسوله العقيدة وضوحاً جلياً
فلا بد من إيضاح الواجب لله - تعالى - والممتنع عليه، والجائز عليه، حتى يكونوا على بينة من دينهم، ومعبودهم، لأنه لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا من الوحي، إذ هو من الغيب، الذي لا يعلم بالقياس، ولا بالعقل.
وقد بين الله لنا طريقة الأنبياء التي كانوا يدعون بها أممهم، كما قص الله تعالى عنهم في القرآن، فقد اتفقت طريقتهم في الدعوة إلى توحيد الله وعبادته وحده، وخاتمهم جاء مقتفياً أثرهم في ذلك، فدعا أمته إلى ما دعت إليه الرسل قبله، من توحيد الله ومعرفته، فلم يفارقهم حتى وضح لهم الطريق، واستبان الحق من الباطل.
روى ابن ماجه عن أبي الدرداء، قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ونحن نذكر الفقر ونتخوفه، فقال: " آلفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده لتصبن عليكم الدنيا حتى لا يزيغ قلب أحدكم إلا هيه، وايم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء".
قال أبو الدرداء: صدق والله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " تركنا على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء" (1) .
وقال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (2) ، وقال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (3) ، وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (4) .
_________
(1) "سنن ابن ماجه" (1/4) رقم (5) .
(2) الآية 89 من سورة النحل.
(3) الآية 64 من سورة النحل.
(4) الآية 44 من سورة النحل.(1/6)
فالإيمان بالله وأسمائه وصفاته أعظم الأشياء، وكذلك عبادته، فلا بد أن يبين الكتاب - الذي هو تبيان لكل شيء - ذلك أوضح البيان.
ولا بد أن يدل على أعظم الهدى الذي هو معرفة الله - تعالى - بأسمائه وصفاته، كما أن من أعظم ما وقع فيه الخلاف في الأمة هو في هذا الباب، فلا بد أن يكون قد بينه، لأنه تعالى أخبرنا أنه نزله ليبين لنا ما اختلفنا فيه، ولا بد أن نجد فيه ما يزيل كل شك ولبس؛ لأنه هدى ورحمة، لكن ليس لكل أحد بل للمؤمنين فقط.
وأعظم ما أنزل إلينا هو الإيمان بالله، ومعرفته، وقد أخبرنا تعالى أنه أنزل الكتاب ليبين للناس ما نزل إليهم، فكيف يترك أعظم الأشياء المنزلة إلينا بدون بيان؟
فعلم بهذا ونحوه أن الله - تعالى - بين على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم- للأمة كل ما تحتاج إليه في دينها، ومعرفة ربها، ولم يكل ذلك إلى عقولهم، أو قياساتهم.
قال ابن عباس في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (1) : " أخبر الله نبيه والمؤمنين، أنه أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبداً، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبداً" (2) .
فإذا كان الله - تعالى - قد أكمل لهم الإيمان، فكل ما لم يقله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في باب الإيمان ولم يأمر به ويبينه للأمة فهو باطل، وليس من الدين الكامل الذي جاء به.
وأصل الدين وأساسه: معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، ومعرفة ما يجب له على عباده.
_________
(1) الآية 3 من سورة المائدة.
(2) رواه ابن جرير بسنده، انظر " تفسيره" (9/518) ط المعارف.(1/7)
ولا يجوز لمسلم يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر أن يظن برسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يبين ما يعتقده العبد في ربه؛ لأن هذا هو الذي أمر بتبليغه.
قال شيخ الإسلام: " من المحال في العقل والدين أن يكون الرسول الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل عليه الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبساً مشتبهاً، ولم يميز بين ما يجب لله، من الأسماء الحسنى والصفات العليا، وما يجوز عليه، وما يمتنع عليه، فإن معرفة هذا أصل الدين، وأفضل الأعمال، فكيف يكون القرآن والرسول والصحابة - وهم أفضل الخلق بعد النبيين - لم يحكموا هذا الباب اعتقاداً وقولاً؟ ".
ومحال أن يعلم النبي -صلى الله عليه وسلم - أمته أدب الأكل والشرب، وقضاء الحاجة، ونحو ذلك، ويترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، وما يعتقدونه في قلوبهم، في ربهم ومعبودهم، مع كون ذلك غاية المعارف، وأشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، مع قوله -صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم" (1) .
ومحال أن يكون الذين كان فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- والذين يلونهم غير عالمين للحق في باب معرفة الله، وغير قائلين به.
ومعلوم أن من في قلبه حياة ومحبة للعبادة، أنه يحرص أشد الحرص على معرفة ذلك.
وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (2) " خير الناس قرني، ثم الذين
_________
(1) انظر "صحيح مسلم" (12/233) شرح النووي، في الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، وابن ماجه في الفتن، انظر (2/1306) رقم (3956) ، والنسائي في البيعة (7/153) .
(2) البخاري، انظر "الفتح" (7/2) و (11/244، 543) .(1/8)
يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته" (1) .
بدء الانحراف
لما سيطر حكم الإسلام على أكثر البلاد، في آسيا، وأفريقيا، وغيرهما، دخل تحت حكمه أمم كثيرة، رغبة ورهبة، وكان لها أديان مختلفة، من يهودية، ومجوسية، ونصرانية، ووثنية، وغير ذلك، وقد كان لكثير من هذه الأمم سلطان كبير، مثل المجوس، والرومان، فسلبهم المسلمون ذلك، وكان عند هؤلاء من الكبر والاستعلاء ما يجعلهم يأنفون من كونهم تحت سلطان المسلمين، ولا سيما وقد كانوا يرون العرب من أحقر الأمم، وأقلها شأناً، كما أن اليهود واجهوا الإسلام ورسوله من أول أمره بالعداء، وحاولوا القضاء عليه بأنواع من المكائد، والمؤامرات، ولما يئس هؤلاء جميعاً من قدرتهم في مجابهة الإسلام بالقوة وجهاً لوجه انصرف جهدهم وكيدهم إلى الدسائس، والمؤامرات، والاغتيالات لرجاله العظام.
ودخل في الإسلام ظاهراً من هؤلاء من قصده إفساده، وتمزيق وحدة أهله، ولا بد أن يكون ذلك عن دراسة، وإعمال فكر وتخطيط. وربما يكون هناك جمعيات متعاونة، من المجوس واليهود، والنصارى والهنود، وغيرهم، وقد تكون لكل طائفة مؤسسات تعمل لإفساد عقائد المسلمين؛ لتيقنهم أنه لا يمكن هزيمة المسلمين، إلا بإفساد عقيدتهم، فبدأت آثار تلك المؤامرات تظهر، شيئاً فشيئاً، فقتل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب بأيد مجوسية، وربما بمؤامرة مجوسية يهودية.
ثم قتل الخليفة بعده، بأيد مشبوهة، من غوغاء، يدفعهم بعض دهاة اليهود والمجوس.
_________
(1) الفتوى الحموية، ملخصاً، انظر "مجموع الفتاوى" (5/706) .(1/9)
ثم ظهر القول بنفي القدر، وأول من عرف بذلك رجل مجوسي يقال له: سيسويه، من الأساورة، وإن كان قد اشتهر أن أول من قال به
معبد الجهني (1) .
ثم أوقدت نار الفتنة بين المسلمين، وقتال بعضهم بعضاً.
ثم خرجت الخوارج بجهلهم، وعتوهم، وتكفيرهم المسلمين، وقتلهم إياهم.
ثم نجم التشيع الشنيع، من قبل يهود ومجوس يوقدون ناره، وأظهروا القول بأن للرسول –صلى الله عليه وسلم- وصياً، هو علي بن أبي طالب، ولكن الصحابة تمالؤوا على ظلمه، وكتمان الوصية على حد زعمهم الكاذب.
ولم يزل التشيع يتطور بتطرفه، وتشعبه، حتى صار ملجأ لكل من يريد أن يحارب الإسلام والمسلمين، وظهر فيه القول بأن القرآن مبدل ومحرف، ومزيد فيه، ومنقوص منه، وأن أعظم الصحابة ارتدوا بعد إسلامهم إن لم يكونوا كلهم، ما عدا علي بن أبي طالب ونفراً قليلاً معه.
وقد يصل الضلال ببعضهم والجرأة على الله – تعالى – إلى أن يقول بخيانة جبريل للرسالة، وأنه أرسل إلى علي فعدل بها إلى محمد.
ولم يزل الرفض يبتعد أهله عن الدين والعقل والفطرة إلى يومنا هذا.
ثم ظهر القول بإنكار الصفات لله – تعالى -، وأنه لا يحب أحداً من عباده ولا يحبه أحد، ولا يتكلم، وليس له يد، ولا وجه، ولا شيء مما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله.
_________
(1) معبد الجهني البصري: تابعي، كان داعية في ضلال، قال الدارقطني: حديثه صالح ومذهبه رديء. تكلم فيه كثير من السلف من أجل قوله بنفي القدر، قتله عبد الملك سنة ثمانين. انظر " تهذيب التهذيب" (10/225) .(1/10)
وكان أول من عرف بذلك، رجل يقال له: الجعد بن درهم (1) .
قال شيخ الإسلام: " أصل مقالة تعطيل الصفات، مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين، وضلال الصابئين، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في
الإسلام – أعني أن الله ليس على العرش حقيقة، وأن الاستواء بمعنى الاستيلاء، ونحو ذلك – هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه.
وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر، الذي سحر النبي –صلى الله عليه وسلم –" (2) .
وهذه سلسلة يهودية لها سوابق في محاربة الإسلام.
وقال البخاري: " حدثنا قتيبة، حدثني القاسم بن محمد، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حبيبة، عن أبيه، عن جده، قال: شهدت خالد بن عبد الله القسري بواسط في يوم أضحى ... وقال: ارجعوا فضحوا تقبل الله منكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله علواً كبيراً عما يقول ابن درهم، ثم نزل فذبحه".
قال أبو عبد الله: قال قتيبة: " بلغني أن جهماً كان يأخذ الكلام من الجعد بن درهم" (3) .
فتبين أن هذا الإلحاد جاء من قبل اليهود الذين أرادوا إفساد دين الإسلام،
_________
(1) عداده في التابعين، قتله خالد بن عبد الله القسري على الزندقة، يذكر أنه جعل في قارورة ماء وتراباً، فاستحال دوداً، فقال: أنا خلقته. وهو فارسي، قتل سنة 124، انظر " البداية والنهاية" (9/394) .
(2) " مجموع الفتاوى" (5/20) .
(3) "خلق أفعال العباد" (ص29-30) ورواه عثمان بن سعيد في "الرد على الجهمية" (ص25) .(1/11)
كما أن الرفض أول من عرف من دعاته يهودي ماكر حاقد، وهو ابن سبأ، يقال له: ابن السوداء، واسمه: عبد الله بن وهب بن سبأ، من يهود صنعاء، ولا بد أن هؤلاء الأفراد الذين شهروا بدعواتهم المنحرفة، وراءهم من يدعمهم، ويخطط لهم، وهذا الموضوع بحاجة إلى دراسة فاحصة، تبين الأمر بوضوح، وهذا الذي أشرت إليه تدل عليه كثير من الوقائع، والآثار عن السلف، وغيرهم.
فكان هذا هو سبب التفرق الحقيقي، إذ هو تفرق في الاعتقاد، وهو منشأ الخلافات، والحروب الكلامية الممزقة، التي لم تزل تنخر في كيان المسلمين إلى يومنا هذا.
وقد ينضم إلى ذلك عوامل جديدة في كل فترة زمنية، من أنواع الإلحاد ومحاربة الإسلام بأساليب شتى وأسلحة مختلفة، مقروءة ومرئية ومسموعة، ولولا أن الله - تعالى - تكفل ببقاء هذا الدين إلى آخر وقت من الدنيا، لقضي عليه منذ زمن بعيد، وهذا بالإضافة إلى ما هو كامن في طباع البشر مما يبعدهم عن الحق، مثل التقليد، واتباع المألوفات، وما يكون عليه رؤساء القوم وعظماؤهم، كما ذكر الله تعالى عن الأمم السابقة مع أنبيائهم، قال تعالى:
{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ {21} بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ {22} وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ {23} قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} (1) .
فهذا يدل على أن الإنسان يصعب عليه ترك المألوف له، كما أن شيخه ومن يعظمه قد يسيطر على توجيهه إلى ما يعتقده، كما هي طريقة المتكلمين حيث يأخذون بآراء شيوخهم ومعظميهم، مع مخالفتها لكتاب الله وسنة رسوله.
ومن ذلك الجهل، واتباع الهوى، كما هو حال أكثر الخوارج، فإنهم
_________
(1) الآيات 20-24 من سورة الزخرف.(1/12)
جهلوا معاني الكتاب، وأرادوا من عموم الأمة أن لا يكون لهم ذنوب، وإلا أصبح عندهم كافراً مخلداً في النار.
وأما الهوى فبابه واسع، وقد قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (1) .
وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} (2)
إلى غير ذلك من الدوافع نحو الانحراف، وسأذكر شيئا مما ذكره أهل العلم يؤيد ما ذكر هنا:
قال شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى -: " وقد روي أن أول من ابتدع {القول بنفي القدر} بالعراق رجل من أهل البصرة يقال له: سيسويه، من أبناء المجوس، وتلقاه عنه معبد الجهني" (3) .
وقال الإمام ابن حزم: " الأصل في أكثر خروج هذه الطوائف عن ديانة الإسلام: أن الفرس كانوا من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم، وجلالة الخطر في أنفسهم، حتى إنهم يسمون أنفسهم: الأحرار، والأبناء، وكانوا يعدون سائر الناس عبيداً لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم، على أيدي العرب، وكانت العرب أقل الأمم عند الفرس خطراً، تعاظمهم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة، في أوقات شتى، ففي كل ذلك يظهر الله – سبحانه وتعالى – الحق، وكان من قائمتهم "منقاذ" و"المقنع" و"استابين"،
_________
(1) الآية 23 من سورة الجاثية.
(2) الآية 50 من سورة القصص.
(3) "مجموع الفتاوى" (7/384) ، وذكره المقريزي في "الخطط" (3/360) ، وسيأتي، وأما ما ذكره أبو لبابه حسين في كتابه "موقف المعتزلة من السنة" أن معبداً أخذ مقالته عن نصراني من أهل العراق أسلم ثم تنصر، نقلاً عن أدب المعتزلة، ففيه نظر، إذ هو خلاف المشهور.(1/13)
و"دبابك" (1) وغيرهم، وقبل هؤلاء رام ذلك عمار الملقب "خداشا"، و"أبو مسلم السراج".
فرأوا أن كيده على الحيلة أنجع، فأظهر قوم منهم الإسلام، واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل بيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- واستشناع ظلم (2) علي- رضي الله عنه- ثم سلكوا بهم مسالك شتى، حتى أخرجوهم عن الإسلام، فقوم منهم أدخلوهم إلى القول بأن رجلاً ينتظر يدعى المهدي، عنده حقيقة الدين، إذ لا يجوز أن يؤخذ من هؤلاء الكفار.
وقوم خرجوا إلى نبوة من ادعوا له النبوة.
وقوم سلكوا بهم المسلك الذي ذكرنا، من القول بالحلول، وسقوط الشرائع. وآخرون تلاعبوا بهم، فأوجبوا عليهم خمسين صلاة في كل يوم وليلة.
وآخرون قالوا: بل هي سبع عشرة صلاة، في كل صلاة خمس عشرة ركعة.
وهذا قول عبد الله بن عمرو بن الحارث الكندي: قبل أن يصير خارجياً صفرياً (3) .
_________
(1) هذه الأسماء فيها اختلاف بين النسختين من "الفصل" المحققة والمطبوعة سابقاً، ففي القديمة "ستقادة" و "استاسيس" والملقب بـ " خداش" و "أبو مسلم السراج" ولم يشر المحققان إلى هذا الاختلاف.
(2) لم يقع على علي بن أبي طالب ظلم من الصحابة كما زعمته الرافضة، وإنما هو شيء اختلق للتشنيع والوصول إلى المقصد الخبيث.
(3) يجوز أن يكون عبد الله هذا يهودياً، لم يشف حقده ما فعله من إفساده دين من أفسد دينه، فدخل في الخوارج ليروي ظمأ حقده بدماء المسلمين، فالله أعلم.(1/14)
وقد سلك هذا المسلك أيضاً عبد الله بن سبأ الحميري اليهودي (1) ، فإنه لعنه الله، أظهر الإسلام ليكيد أهله، فهو كان أصل إثارة الناس على عثمان – رضي الله عنه- وحرق علي بن أبي طالب طوائف أعلنوا بإلهيته.
ومن هذه الأصول الملعونة، حدثت الإسماعيلية، والقرامطة، وهما طائفتان مجاهرتان بترك الإسلام جملة، قائلتان بالمجوسية المحضة، ثم مذهب مزدك الموبذ، الذي كان على عهد أنو شروان بن قباذ، ملك الفرس، وكان يقول بوجوب تساوي الناس في النساء، والأموال.
قال أبو محمد: " فإذا بلغ الناس إلى هذين الشعبين أخرجوهم عن الإسلام كيف شاؤوا إذ هذا هو غرضهم فقط" (2) .
وهذا الذي ذكره أبو محمد ابن حزم – رحمه الله – ظاهر في أنه كان هناك جمعيات تنظيمية تخطط لهدم عقيدة المسلمين، بشتى الوسائل.
قال البخاري – رحمه الله تعالى -: " حدثنا محمد بن عبد الله – أبو جعفر البغدادي- قال: سمعت أبا زكريا، يحيى بن يوسف الزمي، قال: كنا عند عبد الله ابن إدريس، فجاءه رجل، فقال: يا أبا محمد، ما تقول في قوم يقولون: القرآن مخلوق؟ فقال: أمن اليهود؟ قال: لا، قال: فمن النصارى؟ قال: لا، قال: فمن المجوس؟ قال: لا، من أهل التوحيد، قال: ليس هؤلاء من أهل التوحيد، هؤلاء
الزنادقة من زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أن الله مخلوق، يقول الله – تعالى-: بسم الله الرحمن الرحيم، فالله لا يكون مخلوقاً، والرحمن لا يكون مخلوقاً، والرحيم لا يكون مخلوقاً.
_________
(1) إن فعل هذين الرجلين يدلنا على أن هناك منظمات تتعاون على حرب الإسلام من اليهود والمجوس وغيرهم، كما أشرت إليه قبل ذلك.
(2) "الفصل" (2/115-116) وانظر "المحققة" (2/273-274) .(1/15)
وهذا أصل الزندقة، من قال هذا فعليه لعنة الله، لا تجالسوهم، ولا تناكحوهم" (1) .
وقال أبو سعيد الدارمي – رحمه الله تعالى -: " لم يزل {أهل الباطل} مقموعين أذلة، مدحورين، حتى كان الآن بآخرة، حيث قلت الفقهاء، وقبض العلماء، ودعا إلى البدع دعاة الضلال، فشد ذلك طمع كل متعوذ في الإسلام من أبناء اليهود، والنصارى، وأنباط العراق، ووجدوا فرصة للكلام، فجدوا في هدم الإسلام، وتعطيل ذي الجلال والإكرام، وإنكار صفاته وتكذيب رسله، وإبطال وحيه، إذ وجدوا فرصتهم، وأحسوا من الرعاع جهلاً، ومن العلماء قلة، فنصبوا عندها الكفر للناس إماماً، بدعوتهم إليه، وأظهروا لهم أغلوطات من المسائل، وعمايات من الكلام، يغالطون بها أهل الإسلام، ليوقعوا في قلوبهم الشك، ويلبسوا عليهم أمرهم ويشككوهم في خالقهم، مقتدين بأئمتهم الأقدمين" (2) .
وقال البخاري: " حدثني أبو جعفر، حدثن يحيى بن أيوب، قال: سمعت أبا نعيم البلخي، قال: كان رجل من أهل "مرو" صديقاً للجهم، ثم قطعه وجفاه، فقيل له: لم جفوته؟ فقال: جاء منه ما لا يحتمل، قرأت يوماً آية كذا وكذا – نسيها يحيى- فقال: ما كان أظرف محمداً، فاحتملتها، ثم قرأ سورة طه، فلما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) ، قال: أما والله لو وجدت سبيلاً إلى حكها لحككتها من المصحف، فاحتملتها، ثم قرأ سورة القصص فلما انتهى إلى ذكر موسى، قال: ما هذا؟ ذكر قصته في موضع فلم يتمها، ثم ذكرها هاهنا فلم يتمها، ثم رمى المصحف من حجره برجليه، فوثبت عليه" (4) .
_________
(1) "خلق أفعال العباد" (ص30) .
(2) "الرد على الجهمية" (ص259) "عقائد السلف".
(3) الآية 5 من سورة طه.
(4) "خلق أفعال العباد" (ص46) ، وانظر: "عقائد السلف" (128-129) .(1/16)
فهذه الوقائع - ومثلها كثير جداً - تدل على حقد دفين على هذا الدين، وأنه دخل في المسلمين الدخيل ذو القلب الموتور، والصدر الموغور، والنفس التي تأكلها نار عداوة الإسلام، ونبي الإسلام، وأن هؤلاء يحاولون اجتثاث الإسلام من قلوب الناس، بالتشكيك في أصوله، وأن كثيراً من علماء السلف علموهم، وعرفوا أن مرادهم صد الناس عن الإسلام، وإفساد عقائدهم: وأن تعاوناً يهودياً، ومجوسياً، ونصرانياً، وإلحادياً لم يزل ينتهز الفرص، جاهداً في إطفاء نور الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
ولا شك أن الصراع بين الحق والباطل قديم، وأنه لا يخلو زمان ولا مجتمع من ذلك، وأن الله - تعالى - جعل للباطل هواة ومحبين، ينفقون أموالهم ويبذلون نفوسهم في الدفاع عنه، كما جعل للحق أنصاراً، وهذا أمر ظاهر، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (1) .
وإذا كان الإنسان متظاهراً بمساندة الباطل ونصرته، فأمره أسهل ممن يخفي ذلك، ويتظاهر بالخير والإيمان، وهو من أبعد الناس عنه، وأشدهم عداوة له، وإنما مقصده معرفة مواطن الضعف من الإسلام وأهله، والمداخل التي تنفذ سمومه منها فيهم، ثم يرميهم بكل ما يستطيع.
وربما يكون هناك تنظيمات تلبس لباس العلم والمعرفة، والإصلاح، والتجديد، والمقصود منها القضاء على الدين، وهم ينوعون أساليبهم في كل وقت بما يناسبه، وإن مصائب الإسلام بهؤلاء وأمثالهم، من فجره إلى يومنا هذا تتوالى، وقد وصف ذلك المقريزي- رحمه الله - وصفاً مفيداً ألخصه فيما يلي:
قال:
_________
(1) الآية 76 من سورة النساء.(1/17)
" لما بعث الله محمداً –صلى الله عليه وسلم- إلى الناس، وصف لهم ربهم بما وصف به نفسه، فلم يسأله أحد من العرب بأسرهم، قرويهم وبدويهم، عن معنى شيء من ذلك، كما كانوا يسألونه عن أمر الصلاة، وشرائع الإسلام، إذ لو سأله أحد منهم عن شيء من الصفات لنقل، كما نقلت أحاديث الأحكام وغيرها.
ومن أمعن النظر في دواوين الحديث والآثار عن السلف، علم أنه لم يرد قط لا من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة على اختلاف طبقاتهم، وكثرة عددهم، أنه سأل النبي-صلى الله عليه وسلم- عن معنى شيء (1) ، مما وصف الرب- سبحانه- به نفسه في القرآن وعلى لسان نبيه، بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتوا سكوت فاهم مقتنع، ولم يفرقوا بين صفة وأخرى، ولم يتعرض أحد منهم إلى تأويل شيء منها، بل أجروا الصفات كما ودرت بأجمعهم، ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به سوى كتاب الله وسنة رسوله.
ومضى عصرهم – رضي الله عنهم- على هذا، وحدث القول بنفي القدر في عهد آخرهم.
وكان أول من فاه بذلك معبد الجهني، أخذه عن رجل من الأساورة، يقال له: أبو يونس سيسويه، ويعرف بالأسواري، وتبرأ من هذه المقالة الصحابة. ثم خرجت الخوارج، وكفروا بالذنوب، فقاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
وحدث التشيع لعلي، وغلا فيه طائفة بدعوة ابن سبأ اليهودي، فحرقهم في النار، كما أحدث ابن سبأ القول بالوصية لعلي بالإمامة من بعد الرسول –صلى الله عليه وسلم- والقول بالرجعية، أي رجعة علي بعد موته، وأن فيه جزءاً من الإلهية.
ومن دعوة هذا اليهودي تشعبت الغلاة من الرافضة، كالإمامية الاثنى عشرية، والإسماعيلية، والقرامطة، والنصيرية، وغيرهم، وهو الذي أثار الفتنة على أمير المؤمنين عثمان حتى قتل، ولم يزل مذهب الرفض يستفحل حتى ملأ الدنيا فساداً.
_________
(1) مقصوده: أنهم لم يسألوا عن مثل اليدين والوجه والنزول والاستواء ونحو ذلك، مما يدل على أنهم فهموا أن هذه الصفات على ظاهرها المفهوم من لغتهم، مع علمهم انتفاء المماثلة فيها لصفات الخلق.(1/18)
ثم حدث مذهب الجهمية، وتعطيل الرب- تعالى – عن صفاته، والقول بخلق القرآن، وغير ذلك من العظائم، وعربت كتب الفلاسفة في عهد المأمون، فعظمت الفتنة والضلال.
ثم ظهر الأشعري، وكان أخذ عن الجبائي الاعتزال، ولازمه دهراً طويلاً، ثم سلك طريق ابن كلاب في الصفات، والقدر، وغير ذلك.
وسلك طريقه جماعة من العلماء، مثل الباقلاني، وابن فورك، والاسفراييني، والشيرازي، والغزالي، والشهرستاني، والرازي وغيرهم، ملأوا الدنيا بتصانيفهم، يحتجون، ويدعون أن طريقتهم هي طريقة أهل السنة والجماعة، فانتشر هذا المذهب في البلاد الإسلامية، وجاءت دولة بني أيوب، وكانوا على هذا المذهب، ثم مواليهم الأتراك، وأخذه ابن تومرت إلى المغرب، ونشره هناك، فصار هذا المذهب هو المعروف في الأمصار، بحيث نسى ما عداه من المذاهب، أو جهل، حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه، إلا أن يكون مذهب الحنابلة.
حتى جاء تقي الدين –أبو العباس ابن تيمية-، فتصدى للانتصار لمذهب السلف، ورد على الأشاعرة، والرافضة، والصوفية، فافترق الناس فيه فريقان: فريق يقتدي به، ويعول على أقواله، ويرى أنه شيخ الإسلام حقاً، ومن أجل حفاظ أهل الملة الإسلامية.
وآخر يبدعه، ويضلله، ويزري عليه إثبات الصفات وغيرها".
ثم قال المقريزي:
"فهذا- أعزك الله- بيان ما كانت عليه عقائد الأمة من ابتداء الأمر إلى وقتنا، قد فصلت فيه ما أجمله أهل الأخبار، وأجملت ما فصلوا، فدونك طالب العلم تناول ما قد بذلت فيه جهدي، وأطلت بسببه سهري وكدي، في تصفح دواوين الإسلام، وكتب الأخبار فقد وصل إليك صفواً". (1)
_________
(1) "الخطط" للمقريزي ملخصاً (3/309-314) .(1/19)
وقال أحمد أمين في كلامه على ابن سبأ: "والذي يؤخذ من تاريخه، أنه وضع تعاليم لهدم الإسلام، وألف جمعية سرية لبث تعاليمه، واتخذ الإسلام ستاراً يستر به نياته". (1)
وذكر الطبري: "أن ابن السوداء لما وصل إلى الشام لقي أبا ذر - رضي الله عنه - فقال له: يا أبا ذر، ألا تعجب لمعاوية، يقول: المال مال الله، ألا إن كل شئ لله، يريد أن يحتجبه دون المسلمين، فذهب أبو ذر إلى معاوية وقال له: ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟ ". ثم أتى ابن السوداء أبا الدرداء، فقال له أبو
الدرداء: من أنت؟ أظنك - والله - يهودياً. وأتى عبادة بن الصامت فأخذه عبادة، وذهب به إلى معاوية، وقال له: هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر". (2)
فإذا كان هذا اليهودي قد طمع بالصحابة، فكيف بغيرهم؟
ومن استقرأ التاريخ يرى أن أعداء الإسلام لم يدخروا وسعاً في محاولة القضاء عليه، إلى يومنا هذا.
كبريات الفرق الإسلامية
كان من نتائج التآمر على عقيدة المسلمين من جهات متعددة، كما سبقت الإشارة إليه، أن انشطر من الأمة الإسلامية عدة فرق، انحرفت عن الطريق الصحيح، الذي رسمه لها نبيها-صلى الله عليه وسلم - وأخذت بنيات الطريق، كما سبق في حكم الله القدري الكوني، قال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} . (3)
_________
(1) "فجر الإسلام" (ص269) .
(2) "تاريخ الطبري" (4/283) .
(3) الآيتان 118، 119 من سورة هود.(1/20)
روى ابن جرير عن الحسن"قال: الناس مختلفون على أديان شتى، إلا من رحم ربك، فمن رحم غير مختلفين".
وروي عن مجاهد: قال: "ولا يزالون مختلفين" أهل الباطل، "إلا من رحم ربك"أهل الحق". (1)
وقال: "معنى ذلك: ولا يزال الناس مختلفين في أديانهم، وأهوائهم، على أديان وملل، وأهواء شتى، إلا من رحم ربك، فآمن وصدق رسله، فإنهم لا يختلفون في توحيد الله، وتصديق رسله، وما جاءهم من عند الله". (2)
وقال ابن كثير: "يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة، من إيمان أو كفران، كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} . (3)
وقوله: " ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك" أي: ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم، واعتقاداتهم في مللهم ونحلهم، ومذاهبهم، وآرائهم، إلا المرحومين من أتباع الرسل، الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين الذي جاءت به رسل الله إليهم، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة، لأنهم الفرقة الناجية". (4)
وقد أخبر النبي-صلى الله عليه وسلم - بوقوع هذا الاختلاف، محذراً منه، فروى أبو داود، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم -: "افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة". (5)
_________
(1) "تفسير الطبري" (15/534) ط المعارف.
(2) المصدر السابق، (ص534) .
(3) الآية 99 من سور يونس.
(4) "تفسير ابن كثير" (4/290-291) ملخصاً، ط الشعب.
(5) "السنن" (5/4) رقم (4596) ، ورواه الترمذي، "التحفة" (7/397) ، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (2/1321) رقم (3991) .(1/21)
ورواه أيضاً من حديث معاوية بن أبي سفيان- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب، افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي الجماعة". (1)
قال ابن كثير: "روي هذا الحديث في "السنن" و"المسانيد" من طرق يشد بعضها بعضاً". (2)
وأصل الفرق الذي ترجع إليه أربع كما قال طائفة من السلف، وهم الروافض، والخوارج، والقدرية {المعتزلة} ، والمرجئة، وبعض العلماء يجعلها خمساً ويدخل أهل السنة، كما قال أبو محمد بن حزم: "فرق المقرين بملة الإسلام
خمس، وهم: أهل السنة، والمعتزلة، والشيعة، والخوارج، والمرجئة، ثم افترقت كل فرقة من هذه على فرق". (3)
ومراده: غير أهل السنة، فإنهم فرقة واحدة، وهم الذين تمسكوا بكتاب الله واتبعوا سنة رسوله-صلى الله عليه وسلم -.
وقال الطرطوشي: "اعلم أن علماءنا قالوا: أصول البدع أربعة، وسائر الأصناف الاثنتين والسبعين فرقة عن هؤلاء تفرقوا، وتشعبوا. وهم: الخوارج: وهي أول فرقة خرجت على علي بن أبي طالب، والروافض، والقدرية، والمرجئة". (4)
_________
(1) "السنن" (5/5) ، والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو مع بعض الاختلاف في اللفظ، وقال: حديث حسن مفسر، انظر "تحفة الأحوذي" (7/399) .
(2) "تفسير ابن كثير" (4/291) .
(3) "الفصل" (2/265) .
(4) "الحوادث والبدع" (ص31) .(1/22)
ومن هذه الفرق تشعبت سائر الفرق، وقد ألف فيها وفي بيان نحلها مؤلفات قديماً وحديثاً.
وكان من أول هذه الفرق الشيعة، فإنها حدثت في آخر عصر الصحابة، ثم تطور التشنيع إلى الرفض، ومبدأه من ابن سبأ اليهودي، وغيره من المجوس ممن دخل في الإسلام ظاهراً وفي الباطن هم إما يهود ماكرون، أو مجوس موتورون، قصدهم إفساد الدين الإسلامي، كما تقدم.
فكان الرفض في أوله يسمى التشيع، فاشتهروا بالشيعة-أي شيعة علي بن أبي طالب- وكانوا في زمنه ثلاث فرق:
فرقة تقول: إنه إله، وقد صرحوا له بذلك، فحرق الذين تمكن منهم بالنار.
والثانية: الذين يسبون أبا بكر وعمر- رضي الله عنهما- وقد توعد علي - رضي الله عنه- من فعل ذلك بأن يقيم عليه الحد- قيل: إنه القتل.
والثالثة: المفضلة، الذين يفضلون علياً على أبي بكر وعمر، وبقية الصحابة، وقد روي عنه أنه قال: "لا أوتي برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته الحد". (1)
ولما خرج زيد بن علي بن الحسين في أوائل المائة الثانية، سأله الشيعة عن أبي بكر وعمر، فترضى عنهما، وبين أنه يتولاهما، تبرأ منه عند ذلك أكثرهم، فقال: رفضتموني. فسموا: الرافضة، والذين اتبعوه سموا زيدية.
وأما القدرية: فأصلهم-فيما يبدو، والله أعلم- من المجوسية المتعاونة مع اليهودية والنصرانية على حرب الإسلام.
_________
(1) انظر: "فضائل الصحابة" للإمام أحمد (1/83) .(1/23)
وحدثت هذه الضلالة أيضاً في آخر عهد الصحابة- رضي الله عنهم- ثم تطورت إلى الاعتزال.
وقد أغتر بهذا المبدأ كثير من الناس، الذين عجزت عقولهم عن استيعاب الإيمان بقدر الله، وأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وظنوا امتناع الجمع بين ذلك، فنفوا علم الله بالمستقبل، لظنهم أنه لا يحسن أن يأمر من يعلم أنه يعصي أمره ثم يعذبه على ذلك، حيث جعلوا هذا ظلماً لا يجوز، فقابلتهم الجبرية، الذين هم صنو منهم، ثم تطورت إلى التجهم، والتعطيل، بتغذية اليهودية المفسدة في الأرض.
وأما الخوارج: فهم الذين خرجوا عن الحق من جيش أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهم كذلك كان ظهورهم في آخر عهد الصحابة رضي الله عنهم. وهم إنما أتوا من سوء فهمهم للنصوص، ولم يقصدوا مخالفة القرآن، ولكن فهمهم أداهم إلى ما لم يدل عليه القرآن، وهو تكفير أهل الذنوب، والقول بخلودهم في النار، ولابد أنه اندس في صفوفهم من يضللهم من منظمات الموتورين، والحاقدين على دين الله وعباده المؤمنين.
وأما الإرجاء: فإنه وإن كان أخف هذه البدع، ومعتنقوه من أقربهم إلى أهل السنة، ففيه من الضلال والمخالفة لشرع الله تعالى ما هو معروف في مواطنه.
الأشعرية
من نتائج الافتراق والتشتت، برزت الأشعرية، وهي عبارة عن خليط من مذاهب عدة فرق، كالمعتزلة، والكلابية، والجهمية، وقد كان إمام هذه النحلة-أبو الحسن الأشعري- تلميذاً لأبي علي الجبائي، قرأ عليه أصول المعتزلة، ولازمه ما يقرب من أربعين عاماً، ولهذا كان خبيراً بمذاهب المعتزلة، ثم انتقل إلى طريقة
عبد الله بن سعيد بن كلاب، وهي أقرب إلى مذهب أهل السنة من طريقة(1/24)
المعتزلة، وجعل يبين فساد مذهب الاعتزال ويرد عليهم، ويوضح فساد أصولهم، وتناقضهم، وبعدهم عن الحق، ومثلهم الرافضة والفلاسفة، ولهذا صار له ذكر حسن وقدر عند المسلمين.
والذين ينتسبون إليه من المتأخرين ليسوا على طريقته، مع أنه لم يكن من أهل السنة المحضة، إذ لم يستطيع أن يتخلص من بعض مسائل أهل الكلام.
قال شيخ الإسلام: "لا ريب أن الأشعرية إنما تعلموا الكتاب والسنة من أتباع الإمام أحمد، ونحوه، ولهذا يوجد أكثر ألفاظه التي يذكرها عن أهل السنة والحديث، إما ألفاظ زكريا بن يحيي الساجي، التي وصف بها مذهب أهل السنة، أو ألفاظ أصحاب الإمام أحمد، وما ينقل عن أحمد في رسائله الجامعة في السنة، وإلا فالأشعري لم يكن له خبرة بمذهب أهل السنة، وأصحاب الحديث، وإنما يعرف أقوالهم من حيث الجملة، لا يعرف تفاصيل أقوالهم، وأقوال أئمتهم، وقد تصرف فيما نقله عنهم باجتهاده في مواضع يعرفها البصير.
وأما خبرته بمقالات أهل الكلام فكانت تامة على سبيل التفصيل.
ولهذا لم يذكر عن أهل السنة في كتاب "مقالات الإسلاميين" إلا جملة مقالاتهم، مع أن لهم في تفاصيل تلك ما ليس لأهل الكلام.
ولا ريب أن للآشعري في الرد على أهل البدع كلاماً حسناً، هو من الكلام المقبول، الذي يحمد قائله إذا أخلص فيه النية.
وله أيضاً كلام خالف به بعض السنة هو من الكلام المردود، الذي يذم قائله إذا أصر عليه بعد قيام الحجة" (1) والله يغفر لنا وله.
وقد انتسب إلى الأشعري أكثر العالم الإسلامي اليوم من أتباع المذاهب الأربعة، وهم يعتمدون على تأويل نصوص الصفات تأويلاً يصل أحياناً إلى
_________
(1) "التسعينية" (5/286-287) من الفتاوى المصرية، ملخصاً.(1/25)
التحريف، وأحياناً يكون تأويلاً بعيداً جداً، وقد أمتلأت الدنيا بكتب هذا المذهب، وادعى أصحابها أنهم أهل السنة، ونسبوا من آمن بالنصوص على ظاهرها إلى التشبيه والتجسيم.
هذا ولابد لعلماء الإسلام-ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم - من مقاومة هذه التيارات الجارفة، على حسب ما تقتضيه الحال، من مناظرات، أو بالتأليف، وبيان الحق بالبراهين العقلية والنقلية، وقد يصل الأمر أحياناً إلى شهر السلاح.
وقد أكثر علماء السنة من التأليف في الرد على أهل الأهواء والانحراف، كما ظهر بعض الطوائف المقابلة لتلك البدع كالسالمية والكلابية، الذين تولوا أيضاً الرد على أهل تلك الانحرافات، غير أنهم كثيراً ما يردون البدع ببدع مماثلة لما يرد أو قريباً منها، يزداد من أجل ذلك التباس الحق على كثير من الناس، بخلاف ما إذا كان الرد بما دل عليه كتاب الله- تعالى- وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم - كما هو نهج أهل السنة، بالإضافة إلى المعقول الصريح.
ومن كبار علماء السنة الذين ردوا على أهل البدع، الإمام البخاري-رحمه الله تعالى - في كتاب أفرد لذلك سماه "خلق أفعال العباد"، ولم يقتصر فيه على ما يفهم من الاسم، بل رد فيه على الجهمية والقدرية وغيرهم، كما رد على المرجئة في كتاب الإيمان من "الجامع الصحيح"، ورد على الجهمية والمعتزلة ومن سلك طريقهم في كتاب "التوحيد"، الذي ختم به كتابه "الجامع الصحيح"، وسلك فيه طريقاً واضحاً في الرد، إذ اقتصر على ذكر النصوص، من الكتاب والسنة، التي فيها بيان بطلان مذاهب هؤلاء المشار إليهم، فكأنه يقول: هذا كتاب ربنا الذي أنزله علينا وأمرنا باتباعه، وحضنا على تدبره وفهمه، وجعله هدى ونوراً وشفاءً للمؤمنين به، وهذه سنة نبينا الذي كلفنا بطاعته، ومتابعته، وفيهما العصمة عن الخطأ، وهما صريحان في بيان الحق، الذي ضل عنه هؤلاء المبتدعة، ففيهما تكفلا برد ما جاؤوا به، فلا يسع المسلم إلا الأخذ بهما، ورد ما خالفهما، ففيهما الهدى والنور، وفي تركهما الضلال والهلاك، والله-تعالى- لم يكلنا إلى(1/26)
عقولنا، بل أرسل إلينا رسولاً بين لنا كل ما نحتاج إليه من أمور ديننا، وأنزل عليه كتابه، فيه تبيان لكل شيء فرق فيه بين الحق والباطل، فلسنا نحتاج معه إلى غيره، فإن تمسكنا به أوصلنا إلى الله من أقرب طريق وأهداه، وإن أعرضنا عنه تخطفتنا الشياطين من كل
جانب، كما قال الله -تعالى-: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ {36} وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ {37} حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} . (1)
الإمام البخاري
هو أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه. (2)
قال النووي: "اتفق العلماء على أنه ولد بعد صلاة الجمعة، لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال، سنة أربع وتسعين ومائة، وتوفي ليلة السبت، عند صلاة العشاء ليلة الفطر، سنة ست وخمسين ومائتين، ودفن يوم الفطر بعد الظهر". (3)
طلب العلم من صغره، وتبينت نجابته، وذكاؤه، وفطنته، وحفظه، ونبله من صغره، وقد طوف البلاد مراراً لطلب الحديث، وأخباره مشهورة، واتفق العلماء على جلالته، وإمامته في الحديث، وفقهه، وتميز بذلك عن غيره، وقد كتب في ترجمته كثيراً، في كتب الرجال، والشروح، وأفرد لذكر فضائله وشمائله كتب خاصة، فلا نطيل في ذلك.
وأما كتابه "الجامع الصحيح"فقال النووي-رحمه الله-: "اتفق
_________
(1) الآيات 36-38من سورة الزخرف.
(2) "هدي الساري" (2/250) ، و" تاريخ بغداد" (2/4) .
(3) " شرح النووي"للبخاري (ص4) .(1/27)
العلماء على أن أصح الكتب المصنفة: صحيحا البخاري ومسلم، واتفق الجمهور على أن "صحيح البخاري" أصحهما صحيحاً، وأكثرهم فوائد". (1)
قلت: هو كتاب عظيم ونافع جداً لمن قرأه، وتدبره، وقد أودعه من التراجم التي تعين على الفهم الشيء الكثير، وهي تدل على عظيم فقهه في الحديث، ودقة استنباطه، وقد بلغت ثلاثة آلاف وثمانمائة واثنتين وثمانين ترجمة، وتزيد على ذلك في بعض النسخ.
هذا، وقد اعتنى به العلماء عناية فائقة، قراءة، وحفظاً، وتدريساً، وشرحاً.
فحظي بشروح كثيرة جداً، فذكر في "كشف الظنون" ما يقرب من ثمانين شرحاً للبخاري (2) ، وله أكثر من ذلك بكثير.
ومع هذا، فإن كتاب التوحيد منه بحاجة إلى شرح يبين مقاصد البخاري-رحمه الله تعالى - ووجه الرد منه على أهل البدع، لأن غالب من قام بشرحه، على المذهب الأشعري، ولا سيما الشروح المتداولة اليوم، ولهذا تجد أحدهم يوجه الكلام من النصوص، ليتفق مع ما يعتقده، ولو بالتعسف.
وكثير من الصفات التي يثبتها البخاري، مستدلاً عليها بنص من كتاب الله، أو عن رسوله، يحاولون ردها، إما بالتحريف الذي يسمونه تأويلاً، أو بدعوى الإجماع على خلافها، كما ذكر الحافظ-رحمه الله تعالى- عن ابن بطال، في قوله-صلى الله عليه وسلم -: "لا شخص أغير من الله".
قال: "أجمعت الأمة على أن الله-تعالى- لا يجوز أن يوصف بأنه شخص". (3)
_________
(1) "شرح النووي"للبخاري (ص7) .
(2) انظر: "كشف الظنون" (1/545) .
(3) انظر: "الفتح" (13/400) وسيأتي-إن شاء الله- الكلام عليه وذكر من رواه.(1/28)
وذكر عن الخطابي: أنه رد وصف الرب -تبارك وتعالى- بالأصابع، كما في حديث عبد الله بن مسعود في ذكر الحبر الذي سأل رسول الله-صلى الله عليه وسلم - ونسب ذلك إلى تخليط اليهود، وتشبيههم، وقال في قوله في الحديث: "فضحك رسول الله-صلى الله عليه وسلم - تصديقاً لقوله" إنه ظن من ابن مسعود، وحسبان، وحاول عكس الأمر، وأن الضحك من جرأة اليهود على التشبيه (1) ، وأمثال ذلك كثير، مما هو خلاف ما أراد إثباته مؤلف الكتاب.
ولذلك أرى من الواجب أن يتولى شرح هذا الكتاب العظيم، الذي ألفه ذلك الرجل السلفي الفاهم للحق تمام الفهم، من هو على نهج المؤلف في العقيدة، ويفهم مقصده، وماذا يريد من إيراده للنصوص.
ولما أعوزني وجود شرح على هذا الوصف، ولم يسعفني من طلبت منه القيام بذلك من مشائخنا، تطفلت على كتب العلماء، وقمت بجمع ما أراه مناسباً لشرح
ما أورده البخاري-رحمه الله تعالى- وأرجو من الله الإمداد بالعون والسداد، فإنه لا يخيب سائله، ولا يحرم آمله، ولست أزعم أنني أفهم من كتاب البخاري-رحمه الله- ما لا يفهمه شارحوه، أمثال ابن حجر والعيني والخطابي وابن بطال والقسطلاني وغيرهم، ولكن لكل منهم نهجه الخاص، وعقيدته التي تملي عليه مسلكاً معيناً.
وطريقتي فيه أني:
1- أذكر نص الحديث بسنده، ثم أتبعه بترجمه لراويه من الصحابة موجزة جداً.
2- أحاول بيان مراد البخاري-رحمه الله- من إيراده النص، وبيان وجه استدلاله بذلك، حسب المستطاع.
_________
(1) انظر: "الفتح" (13/398) . وسيأتي-إن شاء الله - ذكر ذلك في موضعه، وإبطاله بالبراهين المعتمدة على الحق اليقيني، لا ظنون المتكلمين وشكوكهم، والله المستعان.(1/29)
3- أعزو الكلام إلى قائله، مبيناً مكانه من المصدر، بالجزء والصفحة، واذكر رقم الآية واسم السورة، ومكان الحديث في المصدر، وأما"صحيح البخاري" فغالباً أعزو ما فيه إلى "الفتح".
4- لا أتطرق إلى الكلام على رجال السند، إذ هو أمر مفروغ منه، فكل ما في البخاري ثابت، عن المصطفى-صلى الله عليه وسلم -، وقد تلقته الأمة بالقبول، فلا يطعن فيه إلا من كان له غرض، أو في قلبه مرض، خلا بعض المعلقات، وقد تولى الحافظ -رحمه الله- وصل أسانيده، والإجابة عما قيل فيها في كتابه: "تغليق التعليق".
5- أحاول جهدي بيان مذهب السلف، في أسامي الله -تعالى-، وأوصافه، ومدى تمسكهم بالكتاب والسنة، مستعيناً على ذلك بنقل ما تيسر لي من كلامهم على سبيل الإيجاز.
6- أحاول رد القول الباطل، أو الضعيف، الذي لا تؤيده النصوص، إذ إن مبنى أوصاف الله -تعالى- على ثبوت النص في ذلك، ولا دخل لقياس وعقل في ذلك، وكل ذلك حسب المستطاع.(1/30)
قال البخاري - رحمه الله تعالى-:
"باب ما جاء في دعاء النبي-صلى الله عليه وسلم -أمته إلى توحيد الله-تبارك وتعالى-"
مقصده بهذا أن يبين أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قد أوضح ما يجب على المسلم أن يعتقده في حق الله-تعالى- نفياً وإثباتاً، وأوضح ما يجب لله على عباده، من توحيد القصد والنية، لأن قوله: "توحيد الله" يعم أنواع التوحيد، فلم يترك الأمر مشتبهاً، بل بينه، فيجب أن يتبع بيانه في ذلك، فلا يصار إلى رأي متكلم، أو عقل متفلسف، أو قول مؤول.
وقوله: "دعاء النبي-صلى الله عليه وسلم - أمته" أي الدعوة التي كلفه الله بها وأمره بإبلاغها.
يعني: أن هذا مقصود الرسالة، فلابد أن يبينه، ويبلغه أمته، البلاغ المبين، بحيث لا يبقى فيه التباس، أو اشتباه.
وقد قام-صلوات الله وسلامه عليه- بهذا الواجب خير قيام، فأوضحه غاية الإيضاح، فلا عذر لمن انحرف عنه، وتلقى توحيده من الفلاسفة والمتكلمين الذين كثر في هذا الباب اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله-تعالى- حجابهم. (1)
وبهذا يبين أن معرفة التوحيد، الذي جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) اقتباس من كلام شيخ الإسلام في أول الحموية، انظر (ص5) بتعليقات محمد عبد الرزاق حمزة.(1/31)
ودعا أمته إليه، لا يمكن الوصول إليها إلا بما جاء به -صلى الله عليه وسلم - من كتاب الله- تعالى-، وسنته التي هي شارحة ومبينة لكتاب الله- تعالى-.
والأمة هنا يقصد بها: الأمة المطلقة، أي أمة الدعوة.
1- "حدثنا أبو عاصم، حدثنا زكريا بن إسحاق، عن يحيى بن عبد الله بن صيفي، عن أبي معبد، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن النبي-صلى الله عليه وسلم - بعث معاذاً إلى اليمن".
2- وحدثني عبد الله بن أبي الأسود، حدثنا الفضل بن العلاء، حدثنا إسماعيل ابن أمية، عن يحيى بن عبد الله بن صيفي، أنه سمع أبا معبد مولى ابن عباس يقول: سمعت ابن عباس يقول: " لما بعث النبي-صلى الله عليه وسلم - معاذاً إلى نحو أهل اليمن، قال له: إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم، إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فاخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة أموالهم، تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك، فخذ منهم، وتوق كرائم أموال الناس".
عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، الهاشمي، ابن عم رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، وحبر هذه الأمة، من المكثرين عن النبي-صلى الله عليه وسلم -، وجل ما يرويه بواسطة أحد الصحابة، دعا له النبي-صلى الله عليه وسلم - بأن يفقهه الله في الدين، ويعلمه التأويل، فظهرت عليه آثار دعوته-صلى الله عليه وسلم - حتى عرف بأنه ترجمان القرآن.(1/32)
توفي النبي-صلى الله عليه وسلم - وهو ابن خمس عشر سنة، على الراجح.
وقد توفي سنة ثمان وستين في الطائف. (1)
ومعاذ بن جبل بن عمرو بن أوس، الأنصاري، الخزرجي، من علماء الصحابة وساداتهم، قال له رسول الله-صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح: "والله يا معاذ إني أحبك" (2) .
وقال ابن مسعود: "إن معاذاً كان أمة قانتاً لله حنيفاً، ولم يكن من المشركين، إنا كنا لنشبه معاذاً بإبراهيم، عليه السلام". (3)
شهد العقبة، والمشاهد كلها مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - توفي في الشام بطاعون عمواس، سنة ثماني عشرة، وكان عمره ثمان وثلاثون سنة. (4)
قوله: "بعث معاذاً إلى اليمن" أي أرسله مبلغاً عنه، وداعياً إلى عبادة الله وتوحيده.
"وأصل البعث: إثارة الشيء، وتوجيهه. ويختلف باختلاف ما علق به.
فبعثت البعير: أثرته من مبركه، وسيرته، وقوله تعالى: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ
_________
(1) انظر: "الإصابة" (4/141) ، "تذكرة الحفاظ" (1/37) ، "أسد الغابة" (3/290) ، "أسير أعلام النبلاء" (3/331) ، وغيرها كثير.
(2) "السنن" (2/180) ، الحديث رقم (1522) ، وانظر: "المجتبى" (3/53) .
(3) انظر: "الإصابة" (6/137) .
(4) "سير أعلام النبلاء" (1/443) ، "أسد الغابة" (5/194) ، "الإصابة" (6/136) .(1/33)
اللهُ} (1) أي يخرجهم من الأرض أحياء، ويسيرهم إلى المحشر.
وقوله تعالى: {وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ} (2) أي: توجههم، ومضيهم معك. وقوله تعالى: {فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} (3) أي: قيضه لذلك.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً} (4) أي: أرسلناهم لدعوة قومهم إلى الله تعالى، فالبعث ضربان: أحدهما: يتعلق بفعل المخلوق، كبعث البعير، وبعث الإنسان في حاجة.
والثاني: إلهي، وهو قسمان:
الأول: إيجاد الأعيان، والأجناس، والأنواع، من العدم، على غير مثال سابق، وهذا خاص بالله تعالى.
والثاني: إحياء الموتى، وهذا قد أعطى، جل وعلا- بعض من يشاء من عباده شيئاً منه، كعيسى-عليه السلام- ليكون آية على صدقه" (5) ولا يقع ذلك إلا بإذن الله تعالى وإرادته.
و"اليمن" اسم البلاد المعروفة الواقعة في الجنوب الغربي من جزيرة العرب.
قال في "القاموس": "اليمن ما كان عن يمين القبلة من بلاد الغور" (6) ، وفي "المراصد": "سميت اليمن لتيامنهم إليها، لما تفرقت العرب من مكة، كما سميت
_________
(1) الآية 36 من سورة الأنعام.
(2) الآية 46 من سورة التوبة.
(3) الآية 31 من سورة المائدة.
(4) الآية 36 من سورة النحل.
(5) "المفردات"للراغب، بتصرف (ص52) .
(6) " القاموس" (4/279) .(1/34)
الشام لأخذهم الشمال". (1)
قلت: وفيه نظر، وذلك أن اليمن قديم، قبل وجود مكة على يدي إبراهيم وابنه إسماعيل-عليهما السلام-إلا أن تكون التسمية حادثة. وقال قطرب: "سمى اليمن ليمنه". (2)
قال الحافظ: "كان بعث معاذ إلى اليمن سنة عشر، قبل حجة الوداع" (3) ، وعند أهل المغازي، أن ذلك في ربيع الآخر، من سنة تسع، والصحيح ما قاله الحافظ، وقد أشار البخاري-رحمه الله- إلى ذلك بقوله: باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع". (4)
وقيل: كان ذلك في أواخر سنة تسع، عند منصرفه-صلى الله عليه وسلم - من تبوك، رواه الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك، وحكى ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر" (5) فالله أعلم.
قوله: "إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب". تقدم-بفتح الدال-لأن ماضيه ثلاثي مكسور العين، ومصدره قدوماً، لأنه يدل على معالجة.
"القوم" الجماعة من الرجال والنساء، أو من الرجال خاصة، وتدخل النساء على التبعية. قاله في "القاموس". (6)
"وأهل الكتاب" هم اليهود والنصارى، "والمقصود هنا اليهود، وكان
_________
(1) "المراصد" 03/1483) .
(2) "تاج العروس" (9/371) .
(3) "الفتح" (3/358) .
(4) انظر: "البخاري" (5/204) .
(5) انظر: "الفتح" (3/358) .
(6) انظر: "القاموس" (4/168) .(1/35)
ابتداء دخولهم اليمن في زمن "أسعد ذي كرب" تبع الأصغر، كما ذكر ذلك ابن إسحاق في السيرة" (1) .
والمقصود بالكتاب: الجنس، والمراد: التوراة، والإنجيل.
وسمى اليهود، والنصارى: أهل الكتاب، لأن الله تعالى أنزل عليهم التوراة والإنجيل، فيهما أوامر الله، ونواهيه، ليعملوا بهما، وهدى من الله ونور يخرجهم من ظلمات الغي والشهوات، قال الله تعالى: {وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ {3} مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ} (2) . فتوارثوه جيل عن جيل، ثم إنهم حرفوه، وغيروا فيه وزادوا ونقصوا، فاختلط حقه في باطلهم، ثم نسخه الله تعالى بالقرآن الذي أنزله على خاتم الرسل-صلى الله عليه وسلم -.
قال الحافظ: "قوله: "إنك تقدم" الخ، كالتوطئة للوصية، لتستجمع همته عليها، لكون أهل الكتاب علم في الجملة، فلا تكون مخاطبتهم كمخاطبة أهل الجهل من عبدة الأوثان" (3) . ولا يدل على أن كل من يقدم عليهم من أهل الكتاب، بل أغلبهم من عبدة الأوثان، كما هو معلوم.
قوله: "فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى" اللام للأمر، وإذا اقترنت بالفاء أو الواو فهي ساكنة في الغالب الأكثر.
وقوله: "إلى أن يوحدوا الله تعالى" ذكره في الزكاة بلفظ: " ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله" (4) .
وفي رواية" "فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله
_________
(1) "فتح الباري" (13/348) .
(2) الآيات 3-4 من سورة آل عمران.
(3) "الفتح" (3/358) .
(4) انظر: "الفتح" (3/261) .(1/36)
فأخبرهم ... " الخ (1) .
وفي أخرى: " فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله" (2) .
وفي رواية لمسلم: "فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله-عز وجل- فإذا عرفوا الله فأخبرهم ... "الخ (3) .
وهذه الروايات متفقة في المعنى.
فمعنى شهادة أن لا إله إلا الله: توحيد الله بالعبادة، والبعد عن عبادة ما سواه، وهذا هو الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله، الذي قال الله تعالى فيه" {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا} (4) .
والطاغوت: كل ما عبد من دون الله- كما قال مالك رحمه الله- (5) سواء كان من البشر، أو من الحجر، أو الشجر، أو الحيوان، أو الأضرحة والعتبات.
والكفر به: الابتعاد عن عبادته، التي هي طلب البركات منه، أو
_________
(1) المصدر نفسه (ص322) .
(2) المصدر السابق، (ص357) ، (8/64) "الفتح".
(3) انظر: "مسلم بشرح النووي" (1/199) .
(4) الآية 256من سورة البقرة.
(5) قال ابن جرير: " الطاغوت: كل ذي طغيان على الله لمن عبده من دونه، إما بقهره لمن عبده أو بطاعة من العباد له، إنساناً كان ذلك المعبود، أو شيطاناً، أو وثناً، أو صنماً، أو كائناً ما كان من أي شيء" انظر "تفسير الطبري" (5/419) تحقيق: أحمد ومحمود شاكر.(1/37)
الشفاعات، أو دفع البليات، أو إنالة الحاجات، أو التوجه إليه بالدعاء، ولابد من بغضه وعداوته، وعداوة عابديه ومقاطعتهم، والتبري منهم؛ لقول الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (1) .
والإيمان بالله-تعالى- هو: إفراده بالعبادة، التي تتضمن غاية الحب ومنتهاه مع غاية الذل وأقصاه، والانقياد لأمره والتسليم له.
وهذا هو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، كما قال - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد القيس: "آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ " قالوا: الله ورسوله اعلم، قال: "شهادة أن لا إله إلا الله ... " الخ (2) .
وقال-تعالى-: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (3) ، أخذ البخاري- رحمه الله- من هذه الآية وجوب العلم قبل العمل، فقال: باب العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} (4) .
فالعلم بمعنى هذه الشهادة التي لابد لكل داخل في دين الإسلام أن يشهد بها هو الإيمان المطلوب من العباد، وهو معرفة حق الله على عباده، الذي لا يجوز الإخلال بشيء منه، وإلا استحقوا عذابه.
وأما معنى شهادة أن محمداً رسول الله، فهو: العلم اليقيني بأنه رسول من الله كلفه إبلاغ العباد أوامر الله ونواهيه، وطاعته في كل ما أمر به، واجتناب ما نهاهم عنه، وأن لا يعبد الله إلا بما جاء به، وأن كل من سلك طريقاً غير سنته
_________
(1) الآية 22 من سورة المجادلة.
(2) انظر: "الفتح" (1/129) ، و"مسلم بشرح النووي" (1/188) .
(3) الآية 19من سورة محمد.
(4) انظر: "الفتح" (1/159) .(1/38)
فمصيره إلى النار، وأنه بلغ العباد ما أرسل به، وبين لهم دينهم أتم بيان، وأنه عبد الله أكرمه بالرسالة، وليس له من العبادة شيء، بل العبادة كلها لله تعالى.
وهاتان الشهادتان متلازمتان، لا تقبل إحداهما دون الأخرى، فمن شهد أن لا إله إلا الله، ولم يشرك به شيئاً، ولم يشهد أن محمداً رسول الله، فهو كافر بالله وخالد في النار، وإن جاء بعبادة أهل الأرض.
ومن شهد أن محمداً رسول الله، وأشرك بالله شيئاً شركاً كبيراً، فهو كافر خالد في النار، فلا بد من اجتماع هاتين الشهادتين في العبد حتى يكون موحداً.
وأما مجرد النطق بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، مع عبادة غير الله، وتعلق القلب بمن يعتقدهم أولياء، وطلب الحاجات منهم التي لا يقدر عليها إلا الله، ومع مخالفة أوامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وارتكاب ما نهى عنه، فإن ذلك لا يفيد شيئاً، ولا يكون الإنسان به مسلماً.
قال النووي- رحمه الله-: "واتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء، والمتكلمين على أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة، ولا يخلد في النار، لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام، اعتقاداً جازماً خالياً من الشكوك، ونطق مع ذلك بالشهادتين، فإن اقتصر على أحدهما لم يكن من أهل القبلة أصلاً، بل يخلد في النار، إلا أن يعجز عن النطق لخلل في لسانه" (1) .
وهذه الشهادة أيضاً تتضمن الإيمان بأسماء الله وصفاته؛ لأن ذلك من عبادة الله التي تعبد الخلق بها.
وهذا الحديث دليل ظاهر على أن التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله وحده، والبعد عن عبادة ما سواه، والإيمان بأسمائه وصفاته، كما جاء في وحيه إلى رسله، هو أول واجب على العباد.
_________
(1) "شرح النووي للبخاري" (ص113) ، ولا بد مع اعتقاد القلب، ونطق اللسان، من العمل مع التمكن، فلابد من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع، وغير ذلك من الواجبات.(1/39)
لا كما يقول أهل الكلام، من المعتزلة، والأشعرية، وغيرهم: إن أول ما يجب على العبد: النظر في الأدلة العقلية على وجود الله تعالى، أو القصد إلى النظر أو الشك، فهذا الحديث وأمثاله من نصوص الكتاب والسنة يبطل هذا الزعم الخاطيء.
"وذلك أن أصل العلم الإلهي ومبدأه، هو الإيمان بالله ورسوله، والاهتداء بوحيه، كما قال - تعالى -: {يُعِيدُ {49} قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} (1) . وقال تعالى -: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} (2)
وقال- صلى الله عليه وسلم-: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، إلا بحقها". (3)
ولهذا ابتدأ البخاري - رحمه الله تعالى - "صحيحه" ببدء الوحي ونزوله، الذي يحصل به الهدى، والنور، ثم أتبعه بكتاب الإيمان، الذي هو الإقرار بالوحي والانقياد له، ثم اتبعه كتاب العلم الذي هو معرفة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم-، وفقهه، فهذا هو الترتيب الحقيقي.
والمطلع على أقوال أهل الكلام يعجب مما جعلوه أصل الدين الإسلامي، وبنوا عليه أن من لم يعرفه فليس بمسلم.
_________
(1) الآية 50 من سورة سبأ.
(2) الآية 52 من سورة الشورى.
(3) رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر، "الفتح" (1/75) ، وانظر: "مسلم بشرح النووي" (1/212) ، وروى من حديث جماعة من الصحابة في "الصحيحين" وغيرهما.(1/40)
قال القرطبي: " لو لم يكن في الكلام إلا مسألتان، هما من مبادئه، لكان حقيقاً بالذم.
إحداهما: قول بعضهم: إن أول واجب: الشك إذ هو اللازم لوجوب النظر، أو القصد إلى النظر.
والثانية: قول جماعة منهم: من لم يعرف الله بالطرق التي رتبها أهل الكلام، لم يصح إيمانه.
والقائل بهاتين المسألتين كافر؛ لجعله الشك في الله - تعالى - واجباً، ومعظم المسلمين كفاراً، حتى يدخل في عموم كلامه السلف الصالح، من الصحابة والتابعين، وهذا معلوم الفساد من الدين بالضرورة، وإلا فلا يوجد في الشرعيات ضروري" (1) .
وقال الغزالي: " أسرفت طائفة فكفروا عوام المسلمين، وزعموا أن من لم يعرف العقائد الشرعية بالأدلة التي حرروها فهو كافر، فضيقوا رحمة الله الواسعة، وجعلوا الجنة مختصة بشرذمة يسيرة من المتكلمين" (2) .
وقوله: " فإذا عرفوا ذلك، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم".
أي إذا عرفوا توحيد الله، وعملوا به، بأن أخلصوا عبادتهم لله وحده، واجتنبوا عبادة كل معبود سواه، عند ذلك يخبرون بفرائض الإسلام، ويؤمرون بها، وأعظمها - بعد التوحيد - الصلوات الخمس.
وفي هذا دليل على أنه لا يجب على العبد من الصلاة غير الخمس المذكورة.
ومعلوم أن بعث معاذ إلى اليمن في آخر حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم- كما سبق.
_________
(1) من " الفتح" (13/350) بتصرف.
(2) نفس المصدر، (13/349) بتصرف أيضاً.(1/41)
كما فيه: أنه يجب على إمام المسلمين بعث الدعاة إلى توحيد الله تعالى، وتعليم الناس شرائع الإسلام، وأمرهم بالتزامها، وجباية الزكاة، ودفعها إلى مستحقيها، الذين ذكرهم الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} الآية (1) .
وفيه: أن الإنسان لا يصير مسلما إلا إذا وحد الله -تعالى – بالعبادة، بأن لا يقصد بعبادته غير الله، بل تكون عبادته كلها لله وحده، وهذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأما معنى شهادة أن محمداً رسول الله هو: أن يعبد الله بما جاء به الرسول-صلى الله عليه وسلم-، والإيمان بأن الله أوحى إليه أوامره، ونواهيه، وكلفه إبلاغ الثقلين ذلك.
وفيه: أن أي تعبد يتعبد به العبد غير معتبر، ولا معتد به بدون التوحيد.
وفيه: أن أخذ خيار المال في الزكاة ظلم يجب اجتنابه.
وقصد البخاري – رحمه الله – بيان أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قد بين للناس التوحيد بأنواعه، وأنه أول واجب، وأول ما يدعى إليه، فلا حاجة بعد بيانه إلى بيان أحد من الناس، كما تقدم.
قال شيخ الإسلام: " وقد علم بالاضطرار من دين الرسول –صلى الله عليه وسلم- واتفقت عليه الأمة، أن أصل الإسلام، وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلماً، والعدو ولياً، والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال، ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان.
وإن قال بلسانه دون قلبه، فهو في ظاهر الإسلام، دون باطن الإيمان " (2) والبخاري – رحمه الله – في بدئه كتاب التوحيد بهذا الحديث، يشير إلى الرد على
_________
(1) الآية 60 من سورة التوبة.
(2) نقلاً من "تيسير العزيز الحميد" (ص101) .(1/42)
المتكلمين الذين جعلوا عمدتهم، في إثبات ما يثبتون، ونفي ما ينفون: العقل.
فهذا الحديث دل على أن أول ما يجب على العبد: عبادة ربه تعالى بامتثال أوامره، واجتناب ما نهى عنه، وأن المقصود من الدعوة: وصول العباد إلى ما خلقوا به، من عبادة الله تعالى وحده لا شريك له.
ولا سبيل إلى ذلك إلا باتباع الوحي الذي جاء به محمد –صلى الله عليه وسلم- فيجب أن يتبع، وأن يكون هو الأصل المعول عليه في معرفة عبادة الله، والإيمان به، وبرسله، وملائكته، وكتبه، واليوم الآخر، والإيمان بأسمائه وصفاته وعبادته بها، خلافاً لطريقة المتكلمين، الذين جعلوا عمدتهم عقولهم في إثبات وجود الله تعالى، بناء على حدوث الكون، ثم إثبات صفاته نفياً وإثباتاً بالقياس العقلي، ثم إثبات النبوات، ثم بعد ذلك يتكلمون في السمعيات.
وهذه طريقة المعتزلة، والكرامية، والكلابية، والأشعرية، غير أن الأشعرية سلكوا هذه الطريقة في الأصول الاعتقادية العلمية، دون العملية.
وأما المعتزلة فلم يفرقوا بين العقيدة والعمل في القياس العقلي، حتى إنهم ينظرون إلى القدر المشترك في الأفعال بين الرب والعباد، فما كان حسناً من العباد في نظرهم، فهو عندهم حسن من الله تعالى، وما كان قبيحاً منهم، فهو من الله تعالى قبيح، ولهذا سماهم أهل السنة: مشبهة الأفعال، نفاة الصفات.(1/43)
3-"حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبي حصين، والأشعث بن سليم، سمعا الأسود بن هلال، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال: " أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً أتدري ما حقهم عليه؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال: " أن لا يعذبهم ".
جاء بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس، وأبلغ في التعليم؛ لأن الإنسان إذا سئل عن شيء لا يعلمه، ثم أخبر به بعد الامتحان بالسؤال صار ذلك أدعى لفهمه وحفظه.
وهذا من حسن تعليمه، وإرشاده -صلى الله عليه وسلم-، وهذا الأسلوب ورد عنه -صلى الله عليه وسلم- كثيراً.
يقال: درى يدري دراية: إذا عرف، فالدراية هي المعرفة.
و"الحق": كل موجود متحقق، أو ما سيوجد لا محالة، ويقال للكلام الصدق: حق؛ لأن وقوعه متحقق، لا تردد فيه، ولأنه مطابق للواقع، وكذا المستحق على الغير، إذا كان لا تردد فيه، فهو حق.
والمراد هنا " ما يستحقه الله تعالى على عباده، مما جعله متحتماً عليهم، وألزمهم إياه بخطابه" (1) .
فحقه تعالى على عباده: أن يعبدوه، مخلصين له العبادة، ممتثلين ما أمرهم به وأوجبه عليهم، وأعظمه التوحيد، ومجتنبين ما نهاهم عنه، وحرمه عليهم،
_________
(1) "فتح الباري" (11/339) .(1/44)
وأعظمه الشرك، فإذا فعلوا ذلك، فحقهم عليه أن يغفر لهم، ولا يعذبهم، وأن يدخلهم الجنة، وقد وعدهم ذلك، ووعده حق لا يخلف.
قوله: " الله ورسوله أعلم" يؤخذ منه حسن الأدب في التعلم، وأنه لا ينبغي لمن سئل عما لا يعلمه أن يتكلف الجواب بدون يقين، ولكن يكل العلم إلى عالمه.
" ذكر يعقوب بن سفيان بإسناده، عن ربيعة قال: قال ابن خلدة: إذا جاءك الرجل يسألك، فلا يكن همك أن تخرجه مما وقع فيه، وليكن همك أن تتخلص مما
سألك عنه" (1) .
قوله: " أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً " المراد بالعبادة: فعل الطاعات، واجتناب المعاصي.
والعبادة في اللغة هي: الذل، والخضوع.
قال الأزهري: " معنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع، يقال: طريق معبد، إذا كان مذللاً بكثرة الوطء وبعير معبد إذا كان مطلياً بالقطران" (2) .
وقال الجوهري: " أصل العبودية: الخضوع والذلة، والتعبيد: التذليل، والعبادة: الطاعة، والتعبد: النسك" (3) .
وأما العبادة الشرعية فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة" (4) .
_________
(1) "تهذيب التهذيب" (7/443) .
(2) " تهذيب اللغة" (2/234) .
(3) "الصحاح" (2/503) ، هذا متفق عليه كتب اللغة.
(4) انظر أول فقرة من رسالة العبودية.(1/45)
وقيل: هي كمال الحب مع كمال الخضوع؛ لأن الحب الكامل مع الذل التام يتضمن طاعة المحبوب، والانقياد له، فالعبد هو الذي ذلله الحب والخضوع لمحبوبه، فطاعة العبد لربه تكون بحسب محبته وذله له.
وعطف على العبادة عدم الشرك؛ لأن العبادة لا تنفع عند الله ولا تعتبر إلا إذا كانت خالصة من الشرك.
والمشركون كانوا يعبدون الله، ويعبدون معه غيره، ولهذا اشترط نفي الشرك. والجملة حالية، والتقدير: يعبدونه في حال عدم الإشراك به.
قال ابن حبان: عبادة الله: إقرار باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالجوارح.
ولهذا قال في الجواب: " فما حق العباد إذا فعلوا ذلك؟ فعبر بالفعل، ولم يعبر بالقول" (1) .
قوله: " أتدري ما حقهم عليه؟ " فسره بقوله: " أن لا يعذبهم".
وفي الرواية الأخرى: " أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً" (2) ، والتقدير: أن لا يعذب من يعبده، ولا يشرك به شيئاً؛ لأن عدم الشرك مع عدم العبادة لا ينفع، وهذا معلوم من نصوص الشرع.
قال الحافظ: " اقتصر على نفي الشرك؛ لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء، ويستدعي إثبات الرسالة باللزوم، إذ من كذب رسول الله فقد كذب الله، ومن كذب الله فهو مشرك، أو هو مثل قول القائل: من توضأ صحت صلاته، أي مع سائر الشروط، فالمراد: من مات حال كونه مؤمناً
_________
(1) "فتح الباري" (11/339) .
(2) انظر: " الفتح" (6/58) .(1/46)
بجميع ما يجب الإيمان به" (1) .
وحق العباد على الله تعالى هو من فضله وكرمه، وليس استحقاق عوض وجزاء، كما تقول المعتزلة.
والناس في هذه المسألة ثلاث فرق:
منهم " من يقول: للمخلوق على الله حق يعلم بالعقل.
فهم يقيسون الخالق تعالى على المخلوق - كما تقدمت الإشارة إليه -.
ومنهم من يقول: لا حق للمخلوق على الله تعالى بحال، ولكن يعلم ما يفعله بعبده بحكم وعده وخبره. وهذا قول أتباع جهم، وبعض من ينتسب إلى السنة.
ومنهم من يقول: بل أوجب الله تعالى على نفسه حقاً لعباده المؤمنين، كما حرم الظلم على نفسه، ولم يوجب ذلك عليه مخلوق.
ولا يقاس بمخلوقاته تعالى، بل هو برحمته، وحكمته، وعدله، كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه الظلم، كما في الحديث الذي في "صحيح مسلم" وغيره (2) "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا".
وقال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (3) ، وقال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (4) .
فمن قال: ليس للمخلوق على ربه حق، فهو صحيح، إذا أراد أنه ليس
_________
(1) "فتح الباري" (1/228) .
(2) انظر: " صحيح مسلم" (4/1994) الحديث رقم (2577) .
(3) الآية 54 من سورة الأنعام.
(4) الآية 47 من سورة الروم.(1/47)
عليه حق بالاعتبار والقياس على خلقه، كما يجب للمخلوق على مثله، وكما يظن جهال العباد أن لهم على الله حقاً بعبادتهم؛ لأن النفوس الجاهلة تتخيل أن الإنسان بعبادته وعلمه يصير له على الله حق، من جنس ما يصير للمخلوق على المخلوق (1) ، كمن يطيع سيده ورئيسه فيجلبه له منفعة، أو يدفع عنه مضرة، ويبقى يتقاضى العوض، والمجازاة على ذلك، ويقول عند الجفاء والإعراض: ألم أفعل كذا؟ يمن عليه بما فعل معه، وإن لم يقله بلسانه، كان ذلك في قلبه، وتخيل مثل هذا في حق الله من جهل الإنسان وظلمه.
ولهذا بين الله تعالى أن عمل الإنسان يعود نفعه عليه، وأن الله غني عن الخلق.
قال - تعالى -: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (2)
وقال -تعالى-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (3) .
ومن قال: للمخلوق على الله حق، فهو صحيح، إذا أراد به الحق الذي أخبر الله بوقوعه، فإن الله لا يخلف الميعاد، وهو الذي أوجبه على نفسه بحكمته وفضله ورحمته" (4) .
_________
(1) ولهذا نجد الجهال وأنصاف المتعلمين يلهجون إلى الله تعالى بسؤاله بحق فلان وفلان، ويعتقدون أن هذا أقرب إلى حصول مطلوبهم، وهو من جهل الإنسان بربه، وعدم تقديره حق قدره، وأكثر ما يقع الشرك في المسلمين من هذا الباب.
(2) الآية 40 من سورة النمل.
(3) الآية 46 من سورة فصلت.
(4) "مجموع الفتاوى" (1/213) بتصرف.(1/48)
وهذا القول: هو الحق الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وأما القول الأول فهو ضلال بين، حيث لم يفرق قائله بين ما يجب على الخالق - تعالى - وما يجب على المخلوق.
"والفروق بين الخالق والمخلوق لا تخفى إلا على من عميت بصيرته"
منها: أن الرب- تعالى - غنى بنفسه عن كل ما سواه، ويمتنع أن يكون محتاجاً إلى غيره، بوجه من الوجوه، وأما الخلق فسادتهم وملوكهم ومن دونهم محتاجون إلى غيرهم، حاجة ضرورية.
ومنها: أن الرب - تعالى - وإن كان يحب الأعمال الصالحة، ويفرح بتوبة التائبين، فهو الذي يخلق ذلك، وييسره، فلا يحصل ما يحبه ويرضاه إلا بقدرته ومشيئته، والمخلوق كثيراً ما يحصل له ما يحبه بغير فعله بل بفعل غيره.
ومنها: أن الرب- تعالى - أمر العباد بما يصلحهم، ونهاهم عما يفسدهم.
قال قتادة: " إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلاً عليهم، بل أمر بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم" بخلاف المخلوق الذي يأمر غيره بما يحتاج إليه هو، وينهاه بخلاً عليه.
ومنها: أنه - سبحانه - هو المنعم بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وهو المنعم بإيجاد القدرة والحواس، وغير ذلك مما يحصل به العلم والعمل الصالح، وهو الهادي لعباده، والمخلوق لا يقدر على شيء من ذلك.
ومنها: أن نعمه - تعالى - على عباده أعظم من أن تحصى، فلو قدر أن العبادة جزاء لنعمه لم نقم بشكر قليل منها، فكيف والعبادة من نعمه؟
ومنها: أن العباد لا يزالون مقصرين في حقه، محتاجين إلى عفوه، ومغفرته،(1/49)
فلن يدخل أحد الجنة بعمله (1) ، وما من أحد إلا وله ذنوب يحتاج فيها إلى مغفرة ربه، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} (2) .
فمن ظن أنه قائم بما يجب عليه، وأنه غير محتاج إلى مغفرة ربه وعفوه وهدايته وتوفيقه، فهو ضال" (3) .
والمقصود من الحديث هنا: بيان أن حق الله على عباده هو عبادته – تعالى – الخالصة من الشرك، وهي: طاعته بفعل ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، فلا يخالف ما جاء عن الله، أو جاء عن رسوله، لغرض أو منفعة عاجلة أو آجلة، وغير ذلك.
ومن ذلك – يعني حق الله على عباده-: اتباع ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله من غير تحريف، ولا إلحاد فيه، ولهذا ترجم على هذا الحديث في كتاب الرقاق بقوله: باب من جاهد نفسه في طاعة الله.
ومراده: أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قد بين ما يجب لله على عباده من عبادته باتباع أمره، واجتناب نهيه، وعبادته بأسمائه وصفاته، وتنزيهه عن مشابهة المخلوق، وما يستحقه من فعل ذلك.
_________
(1) في" صحيح مسلم" عن جابر، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يدخل أحداً منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار، ولا أنا، إلا برحمة من الله" (4/2171) رقم الحديث (2817) . وأخرجه البخاري في عدة مواضع من "صحيحه" من حديث أبي هريرة وعائشة. انظر: "الفتح" (11/294) .
(2) الآية 45 من سورة فاطر.
(3) "مجموع الفتاوى" (1/216) .(1/50)
4-"حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري: " أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فذكر له ذلك، وكأن الرجل يتقالها، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: " والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن ".
زاد إسماعيل بن جعفر، عن مالك، عن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي سعيد: أخبرني أخي قتادة بن النعمان، عن النبي –صلى الله عليه وسلم-.
أبو سعيد الخدري هو: سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة بن الأبجر –وهو خدرة- الذي ينسب إليه، أنصاري خزرجي، بايع تحت الشجرة، وغزا مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- غزوات عدة، وكان أبوه من شهداء أحد. وأبو سعيد من علماء الصحابة وفقهائهم، والمكثرين الحديث عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
توفي رضي الله عنه سنة أربع وسبعين (1) .
قوله: " أن رجلاً سمع رجلاً" السامع هو أبو سعيد راوي الحديث، والقاريء هو قتادة، كما بينه البخاري بقوله: "زاد إسماعيل" الخ. وقد جاء مصرحاً به في مسند أحمد، ولفظه:
"بات قتادة بن النعمان يقرأ من الليل كله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فذكر ذلك للنبي-صلى الله عليه وسلم-، فقال- صلى الله عليه وسلم-: " والذي نفسي بيده: لتعدل نصف القرآن أو ثلثه" (2) .
_________
(1) "الإصابة" (3/78) ، "أسد الغابة" (2/365) .
(2) "المسند" (3/15) ، وانظر: "الفتح الرباني" (18/346) .(1/51)
"وقتادة هو أخو أبي سعيد لأمه، وكانا متجاورين في السكن" (1)
قوله: " وكأن الرجل يتقالها" بتشديد اللام، أي: يعدها قليلة بالنسبة إلى غيرها من سور القرآن "يقال": تقلل الشيء واستقله وقاله: إذا رآه قليلاً. والمراد أنه رآها قليلة في العمل، لا أنه عدها ناقصة" (2) .
قوله: " والذي نفسي بيده" كان-صلى الله عليه وسلم- كثيراً ما يحلف بهذه الصيغة، وقد ذكر البخاري- رحمه الله – في الأيمان والنذور في باب: كيف كانت يمين النبي-صلى الله عليه وسلم- عدة أحاديث بهذا اللفظ.
وقد روى الطبراني، وابن ماجة، عن رفاعة بن عرابة: " كان النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا حلف قال: والذي نفسي بيده".
وروى ابن أبي شيبة، عن أبي سعيد: كان النبي-صلى الله عليه وسلم- إذا اجتهد في اليمين قال: " لا والذي نفس أبي القاسم بيده". ورواه ابن ماجه من وجه آخر، بلفظ: "كانت يمين رسول الله التي يحلف بها – أشهد عند الله- والذي نفسي بيده" (3) .
قلت: وحديث أبي سعيد رواه أبو داود في "السنن" (4) .
فقوله: " والذي نفسي بيده" أي روحي، وحياتي وموتي، يتصرف في كيف يشاء. وسيأتي، إن شاء الله تعالى – الكلام على صفة اليد، وأنها من صفات الله الثابتة قطعاً، وأنها يد حقيقية تليق بعظمة الرب وقدره، تعالى وتقدس عن مشابهة الخلق، وعن الظنون السيئة التي أوجبت لأصحابها تعطيل الله- تعالى- عن
_________
(1) "فتح الباري" (9/61) .
(2) "المنهل العذب المورود" (8/113) .
(3) "فتح الباري" (11/526) .
(4) انظر: الحديث رقم (3264) .(1/52)
صفاته، ودعتهم إلى الإلحاد في أسمائه وصفاته.
قوله: " إنها لتعدل ثلث القرآن " عدل الشيء بفتح العين: ما عادله من غير جنسه، والعدل بكسر العين: المثل، تقول: عندي عدل شاتك، أو عدل مالك، إذا كان عندك شاة مثل شاة من تخاطبه، ومال مثل ماله، فإن أردت ما يعادل ذلك من غير جنسه فتحت العين، ذكر ذلك بعض أهل اللغة. (1)
ومعنى كونها تعدل ثلث القرآن: أن القرآن أنزل على ثلاثة أقسام: ثلث منه الأحكام وبيان الحلال من الحرام.
وثلث منه الوعد والوعيد، والجزاء، وما وقع بمن كذب الله ورسله، وما سيقع بهم في الآخرة، وكذا من أطاعه.
وثلث منه في أسماء الله تعالى وصفاته. وهذه السورة خالصة في الأسماء والصفات، قاله أبو العباس ابن سريج، وغيره من السلف.
واعتراض ابن عبد البر على هذا: بأن في القرآن آيات كثيرة اشتملت على أكثر مما في هذه السورة من التوحيد، كآية الكرسي، وآخر سورة الحشر، وأول سورة الحديد، قد أجاب عنه القرطبي في شرحه لمسلم: بأن سورة الإخلاص قد اشتملت على اسمين من أسماء الله متضمنين جميع أوصاف الكمال، ولم يوجدا في غيرها من السور، وهما "الأحد" و"الصمد".
" والقرآن باعتبار معانيه ثلاثة أقسام: توحيد، وقصص، وأمر ونهي، وكله كلام الله تعالى، والكلام إما إنشاء، وإما إخبار.
فالإنشاء: هو الأمر والنهي، وما يتبع ذلك كالإباحة.
والإخبار: أما عن الخالق - تعالى -، أو عن المخلوق، فالإخبار عن الخالق
_________
(1) انظر: " ترتيب اللسان" (3/707) .(1/53)
هو التوحيد وما يتضمنه من أسماء الله وصفاته.
والإخبار عن المخلوق، هو القصص، وهو الخبر عما كان، وما يكون.
و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} هي صفة الرحمن خالصة لذلك، وبهذا الاعتبار عدلت ثلث القرآن؛ لما فيها من التوحيد، الذي هو ثلث معاني القرآن، وليس معنى ذلك أنه يكتفي بها عن سائر القرآن، بمعنى أن من قرأها ثلاثاً كفاه عن قراءة القرآن؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: " إنها تعدل ثلث القرآن ".
وقد تقدم أن عدل الشيء- بالفتح- يطلق على ما ليس من جنسه، كما قال تعالى: {أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} فجعل الصيام عدل الكفارة، وهما جنسان.
فثواب قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وإن كان يعدل ثواب قراءة ثلث القرآن في القدر، فلايلزم أن يكون مثله في النوع والصفة؛ لأنها لا تغني عما اشتمل عليه القرآن من الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وسائر ما يحتاج إليه العباد. فالناس محتاجون إلى جميع القرآن، ومنتفعون به لا تغني عنها سورة الإخلاص، وإن كانت تعدل ثلث القرآن " (1) .
وفي هذا الحديث دلالة ظاهرة على تفاضل كلام الله – تعالى -، وصافته، وهو المأثور عن السلف، وعليه أئمة الفقهاء وغيرهم، ونصوص الكتاب والسنة تؤيد ذلك.
قال الله – تعالى –: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (2) فأخبر- تعالى – أنه يأتي بخير منها أو مثلها، فدل على أن الآيات تتماثل مرة، وتتفاضل أخرى، والتوراة، والإنجيل والقران كلها كلام الله – تعالى – وقد أجمع
_________
(1) "مجموع الفتاوى" (17/207-208) بتصرف.
(2) الآية 106 من سورة البقرة.(1/54)
المسلمون على أن القرآن أفضلها، كما قال - تعالى - {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (1) أي هو المؤتمن، والشاهد، والحاكم، على ما سبقه من الكتب.
وأما الأحاديث فكثيرة، من جملتها هذا الحديث، ومن تأمل كلام السلف، ومن سار على نهجهم، علم أن هذا من الأمور المستقرة في نفوسهم، ولم يعرف من السلف من قال: لا يكون كلام الله بعضه أشرف من بعض؛ لأنه كله من صفات الله، وإنما حدث ذلك لما ظهرت البدع من المعتزلة، والجهمية، ومن سلك طريقهم، الذين اختلفوا في القرآن، وجعلوه عضين.
وتفاضل الكلام من جهة المتكلم فيه - سواء كان خبراً أو إنشاء - أمر معلوم بالفطرة، والشرع، فليس الخبر المتضمن حمد الله والثناء عليه بأسمائه الحسنى، كالخبر المتضمن لذكر إبليس، وفرعون وأبى لهب، ونحوهم، وإن كان الكل كلاماً عظيماً تكلم الله به.
وكذلك ليس الأمر بالتوحيد، والإيمان بالله ورسله، والنهي عن الشرك وقتل النفس بغير حق، والزنا، وغير ذلك مما أمرت به الشرائع كلها، أو حرمته، كالأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد، أو الأمر بالإنفاق على الحامل، والنهي عن قول: "راعنا" وإن كان لكل واجباً.
وليس تفاضل الكلام باعتبار نسبته إلى المتكلم به، فإنه سبحانه واحد، ولكن باعتبار معانيه التي يتكلم بها، وباعتبار ألفاظه المبينة لمعانيه.
قال شيخ الإسلام: " الكلام له نسبتان: نسبة إلى المتكلم به، ونسبة إلى المتكلم فيه، فهو يتفاضل باعتبار النسبتين، وباعتبار نفسه أيضاً، فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} كلاهما كلام الله - تعالى -، وهما مشتركان من هذه
_________
(1) الآية 48 من سورة المائدة.(1/55)
الجهة، ولكنهما متفاضلان من جهة المتكلم فيه، المخبر عنه، فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} كلام الله وخبره الذي يخبر عن نفسه، وصفته التي يصف بها نفسه، وكلامه الذي يتكلم به عن نفسه.
و {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} كلام الله الذي يتكلم به عن بعض خلقه، ويصف به حاله، فهما من هذه الجهة متفاضلان" (1) .
ولا يلزم من كثرة الحروف أفضلية ذلك، كما توهمه بعض العلماء؛ لأن الفضل يتبع تفاضل المعاني.
فحروف الفاتحة لقارئها بكل حرف حسنة أعظم من حسنات {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}
فلا يلزم من مماثلة الشيء مساواته في الفضل، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنه لو أنفق من جاء بعد السابقين مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحد السابقين إلى الإسلام، ولا نصيفه" (2) .
قال شيخ الإسلام: " فإذا قرأ الإنسان {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حصل له من الثواب بقدر ثلث القرآن، لكن لا يلزم أن يكون الثواب من جنس الثواب الحاصل بقراءة ثلث القرآن؛ لأن الإنسان يحتاج إلى ما يحصل له من ثواب الأمر والنهي والقصص، وغير ذلك، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لا تسد مسد ذلك، ولا تقوم مقامه، مع أن فضل القراءة والذكر والدعاء وغير ذلك، يختلف باختلاف حال الإنسان، فالقراءة بتدبر أفضل من القراءة بلا تدبر، والصلاة بخشوع وحضور
قلب، أفضل من الصلاة بدون ذلك، فإذا كانت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يعدل
_________
(1) " مجموع الفتاوى" (17/57) .
(2) رواه البخاري في "فضائل الصحابة" ولفظه: " لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" انظر: " الفتح" (7/21) ، ورواه مسلم في "الفضائل" (4/1967) .(1/56)
ثوابها ثواب ثلث القرآن، فلا بد من اعتبار التماثل في سائر الصفات، وإلا فقراءة غيرها مع التدبر والخشوع أفضل من قراءتها مع الغفلة والجهل.
والناس متفاضلون في فهم هذه السورة، وما اشتملت عليه، كما هم متفاضلون في فهم سائر القرآن" (1) .
وهذا الحديث يدل أيضاً على تعدد صفات الرب تعالى، وتفاضلها؛ لأن القرآن كله، وكلامه من صفاته.
والتفاضل إنما يقع بين شيئين فصاعداً، إذ الواحد لا يعقل فيه شيء أفضل من شيء، وقد دلت النصوص الكثيرة على تعدد أسمائه تعالى وصفاته، وأن لها معاني متعددة، وهذا المعنى هو الذي قصده البخاري بهذا الحديث، فيما ظهر لي، ولا شك أن فضل هذه السورة لما اشتملت عليه من أوصاف الله تعالى، ولهذا أعقب ذلك بأن ترجم بقوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (2) .
وقال الحافظ: " مراده ما فيه من التصريح بلفظ الأحدية في وصفه تعالى، كما في الذي بعده" (3) .
وقول ابن بطال: " ومذهب الأشعري، وأبي بكر بن الطيب الباقلاني، وابن أبي زيد، والداودي، وأبى الحسن القابسي، وجماعة علماء السنة: أن القرآن لا يفضل بعضه بعضاً، إذ كله كلام الله وصفته، وهو غير مخلوق، ولا يجوز التفاضل إلا في المخلوقات ".
ومثله قول ابن الدراج: "أجمع أهل السنة على أن ما ورد مما ظاهره المفاضلة بين آي القرآن وسوره، ليس المراد به تفضيل ذوات بعضها على بعض، إذ هو
_________
(1) " مجموع الفتاوى" (17/138-140) بتلخيص وتصرف.
(2) الآية 110 من سورة الإسراء.
(3) "الفتح" (13/355) بالمعنى.(1/57)
كله كلام الله، وصفة من صفاته" (1) .
فهذا النقل عمن ذكرهم، والزعم بأن هذا مجمع عليه من أهل السنة هو بحسب ظن هؤلاء- يعني ابن بطال ومن يقول ذلك - لأنهم ظنوا: أن هذا القول الذي هو عدم المفاضلة لازم لمن يقول: إن القرآن كلام الله، فهو من صفاته، والتفاضل لا يكون إلا في المخلوقات، والقرآن عندهم غير مخلوق.
وهو ظن خطأ، فلم ينقل عن أحد من السلف أنه نفى المفاضلة بين آيات القرآن وسوره، ونحن نطالب مدعي الإجماع على نفي ذلك بالدليل، ولن يجد ذلك، والنصوص من الكتاب والسنة تبطل هذه الدعوى كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، وابن بطال -عفا الله عنا وعنه- كثيراً ما يدعي الإجماع على مسائل، الحق خلافها، كما ستأتي الإشارة إلى بعضها، إن شاء الله تعالى.
_________
(1) انظر"مجموع الفتاوى" (17/73) .(1/58)
5- "حدثنا محمد، حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، حدثنا عمرو، عن ابن أبي هلال، أن أبا الرجال محمد بن عبد الرحمن حدثه، عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن- وكانت في حجر عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم - عن عائشة: " أن النبي -صلى الله عليه وسلم - بعث رجلاً على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاته، فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي-صلى الله عليه وسلم - فقال: "سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ " فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم - "أخبروه أن الله يحبه".
عائشة بنت أبي بكر الصديق، وزوجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وحبيبته، كانت فقيهة ربانية، وعالمة بأشعار العرب وأنسابهم، وأيامهم.
أكثرت عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم - الرواية، فلذلك صارت مرجعاً للصحابة في كثير من أمور الدين، فهي من حفاظ الصحابة وعلمائهم.
روى عنها خلق كثير من الصحابة والتابعين.
ولدت-رضي الله عنها- سنة أربع من البعثة النبوية، وتزجها رسول الله-صلى الله عليه وسلم - بعد موت خديجة-رضي الله عنها- بثلاث سنوات، ودخل بها في المدينة، وهي أبنة تسع سنوات، وتوفي عنها ولها من العمر ثماني عشرة سنة، ومات-صلى الله عليه وسلم - وهي حاضنته على صدرها.
مناقبها كثيرة، توفيت في المدينة سنة سبع-أو ست- وخمسين، وقيل: ثمان(1/59)
وخمسين، وصلى عليها أبو هريرة، ودفنت في البقيع، -رضي الله عنها- (1) .
قوله: "بعث رجلاً على سرية" هذا غير الرجل المتقدم ذكره في باب الجمع بين السورتين في ركعة واحدة؛ للفروق الواضحة بين القصتين.
والسرية قطعة من الجيش، يقال: خير السرايا أربعمائة رجل، وفي "اللسان" "ما بين خمسة أنفس إلى ثلاثمائة، سميت سرية؛ لأنها تسري ليلاً في خفية؛ لئلا ينذر بهم فيحذر الأعداء ويمتنعوا" (2) .
قوله: "فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} قال ابن دقيق العيد: يدل على أنه كان يقرأ بغيرها، والظاهر أنه كان يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مع غيرها في ركعة واحدة، ويختم بها في تلك الركعة، وإن كان اللفظ يحتمل أن يكون يختم بها في آخر ركعة يقرأ فيها السورة" (3) .
وقوله: " لأنها صفة الرحمن" قال ابن دقيق العيد: "يحتمل أن يراد: أن فيها ذكر صفة الرحمن، كما إذا ذكر وصف، فعبر عن ذلك الذكر بأنه الوصف، وإن لم يكن ذلك الذكر نفس الوصف، ويحتمل أن يراد به غير ذلك، إلا أنه لا يختص ذلك بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ولعلها خصت بذلك لاختصاصها بصفات الرب-تعالى- دون غيرها" (4) .
قلت: يريد بيان قول الصحابي لها بما ذكر، أنها خالصة لذكر وصف الرحمن تعال وتقدس.
_________
(1) انظر: "الحلة" (2/43) ، "أسد الغابة" (7/188) ، "الاستيعاب" (4/1881) ، "الإصابة" (4/359) ، "سير أعلام النبلاء" (2/135) .
(2) "ترتيب اللسان" (2/141) .
(3) "شرح العمدة" (1/246) .
(4) المصدر نفسه (1/247) .(1/60)
وقوله: إلا أنه لا يختص ذلك بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . يعني أن أوصاف الرحمن-تعالى- موجودة في آيات كثيرة من القرآن.
وهذه السورة وسائر سور القرآن هي صفة الرحمن؛ لأنها كلامه، وكلامه من صفاته، ولكن تميزت هذه السورة بأنها خالصة لذكر أوصاف الرحمن-تعالى- وهذ هو المتبادر إلى الفهم من مراد الصحابي-رضي الله عنه- أي أنها خالصة لوصف الرحمن-تعالى- دون غيره.
"قال ابن التين: إنما قال: لأنها صفة الرحمن؛ لأن فيها أسماؤه مشتقة من صفاته. وقال غيره: يحتمل أن الصحابي قال ذلك مستنداً إلى شيء سمعه من النبي-صلى الله عليه وسلم - إما بالنص، أو بالاستنباط. وروى البيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس-رضي الله عنهما- أن اليهود أتوا النبي-صلى الله عليه وسلم - فقالوا: صف لنا ربك؟
فأنزل الله-عز وجل- {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إلى آخرها، فقال: "هذه صفة ربي-عز وجل-" (1)
وفي الحديث حجة لمن أثبت أن لله صفات، وهو قول الجمهور، وشذ ابن حزم فقال: " هذه لفظة اصطلح عليها أهل الكلام، من المعتزلة، ومن تبعهم، ولم يثبت عن النبي-صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه، فإن اعترضوا بحديث الباب، فهو من أفراد سعيد بن أبي هلال، وفيه ضعف، وعلى تقدير صحته فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} صفة الرحمن، كما في هذا الحديث، ولا يزاد عليه، بخلاف الصفة التي يطلقونها، فإنها في لغة العرب لا تطلق إلا على جوهر، أو عرض" (2) .
وسعيد متفق على الاحتجاج به، فلا يلتفت إلى تضعيفه،
_________
(1) انظر" الأسماء والصفات" للبيهقي (ص279) ، وفيه تسمية بعضهم، وقد ذكر عدة أحاديث بمعناه.
(2) انظر: "الفصل" (2/284) ، وقد أطال الكلام على هذا المعنى، واحتج بأشياء لا تدل على مراده.(1/61)
وكلامه الأخير مردود، باتفاق الجميع على إثبات الأسماء الحسنى، قال الله تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) ، وقال تعالى: {لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (2) ، والأسماء المذكورة فيها صفات، ففي إثبات أسمائه إثبات صفاته" (3) .
قلت: كلام ابن حزم - رحمه الله - باطل، ولا حجة له فيما ذكر، لأن الصفة: مصدر وصفت الشيء أصفه وصفاً، وصفة، مثل: وعد، وعداً، وعدة.
فإذا قيل: إن الله بكل شيء عليم، وهو رحمن رحيم، وعلى كل شيء قدير، فالمعاني القائمة بالرب - تعالى - التي دل عليها هذا الكلام، من العلم، والرحمة والقدرة، هي الصفات المقصودة، وإنكار ذلك مكابرة، أو عناد وضلال، وإلحاد.
وقد دلت نصوص كتاب الله -تعالى - وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- والفطرة والعقل على ذلك، قال الله تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} (4) .
وقال - تعالى -: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (5) ، وقال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (6) . وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (7) .
وقال - تعالى-: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} (8) .
_________
(1) الآية 180 من سورة الأعراف.
(2) الآية 8 من سورة طه.
(3) "فتح الباري" (13/356-357) .
(4) الآية 255 من سورة البقرة.
(5) الآية 166 من سورة النساء.
(6) الآية 58 من سورة الذاريات.
(7) الآية 8 من سورة المنافقون.
(8) الآية 7 من سورة غافر.(1/62)
وفي الحديث الصحيح: " اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك" (1) .
وفي حديث عمار بن ياسر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: " اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق" (2) .
وفي "صحيح البخاري" في قصة أيوب: " قال: بلى وعزتك، ولكن لا غنى بي عن بركتك" (3) .
وقال البخاري: " باب الحلف بعزة الله وصفاته، وكلماته"، وقال ابن عباس: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: أعوذ بعزتك، وقال أبو هريرة: عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: " يبقى رجل بين الجنة والنار، فيقول: يارب، اصرف وجهي عن النار، لا وعزتك
لا أسألك غيرها. ثم ذكر حديث أنس: " لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فتقول: قط قط، وعزتك". (4)
وفي هذا الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه: " لأنها صفة الرحمن".
وقال الله - تعالى -: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (5) وهذا من إضافة الموصوف إلى صفته.
فثبت بهذه النصوص، وغيرها كثير، أن لله صفات، وأن كل اسم تسمى الله به يدل على الصفة؛ لأن الأسماء مشتقة من الصفات.
وبهذا يتبين بطلان قول المعتزلة، الذين ينفون أن يكون لله علم وقدرة ومشيئة، ويجعلون هذه الصفة هي الأخرى، أو الصفة هي الموصوف، كما يتبين
_________
(1) هو حديث جابر، انظر "البخاري" (2/50) وسنن " أبي داود" رقم (1538) ، والترمذي رقم (480) ، وسيأتي.
(2) انظر: " سنن النسائي" (3/54، 55) في السهو في باب نوع آخر من الدعاء.
(3) "صحيح البخاري" كتاب التهجد، باب (20) ، (1/54) وفي مواضع أخرى، وسيأتي.
(4) "الصحيح"، كتاب الأيمان والنذور، باب (12) ، (8/114) ، وسيأتي ذلك.
(5) الآية 180 من سورة الصافات.(1/63)
بهذا أيضاً الفرق بين الأسماء والصفات.
1- فالأسماء تدل على الذات، والصفات تدل على معان قائمة بالذات، وهذه المعاني القائمة بالذات هي الصفات.
2- وتقدم أن الأسماء مشتقة من الصفات.
وقوله: " أخبروه أن الله يحبه" قد يكون سبب محبة الله له: محبته لهذه السورة، أو لمحبته ذكر صفات الرب - عز وجل -، وحسن فهمه وعقيدته. في ذلك، أو لمجموع الأمرين، وهو الأولى.
وفيه ثبوت محبة الله - تعالى - لأهل طاعته من عباده، والأدلة عليه كثيرة جداً، فلذلك صار إنكاره ضلالاً بيناً.
قال المازري، ومن تبعه: محبة الله لعباده: إرادته ثوابهم، وتنعيمهم.
وقيل: هي نفس الإثابة، والتنعيم.
ومحبتهم له، لا يبعد فيها الميل منهم إليه، وهو مقدس عن الميل.
وقيل: محبتهم له: استقامتهم على طاعته.
والتحقيق: أن الاستقامة ثمرة المحبة.
وحقيقة المحبة له: ميلهم إليه؛ لاستحقاقه سبحانه المحبة من جميع الوجوه.
قال الحافظ: " وفيه نظر، لما فيه من الإطلاق في موضع التقييد" (1) .
ومقصده من الإطلاق، قوله: " لاستحقاقه- سبحانه - المحبة من جميع الوجوه" لأنه قد يدخل فيه الحب المتضمن للشهوة، ونحو ذلك.
_________
(1) "الفتح" (13/357) .(1/64)
وقول المازري: إن محبة الله لعباده: إرادته ثوابهم، وتنعيمهم، أو هي نفس الثواب والنعيم، ظاهر البطلان، والنصوص فيه لا تقبل هذا التأويل؛ لكثرتها، وتواطئها على أن الحب فيها هو ما يفهمه المخاطب الذي لم تفسد فطرته بالعقائد المنحرفة عن الحق.
وهذه طريقة أهل التأويل في صفات الله - تعالى - المستلزمة للثواب أو العقاب؛ إما أن يجعلوها إرادة الثواب أو العقاب، أو هي نفس الثواب والعقاب.
ومعلوم أن الثواب والعقاب ونحوهما مخلوق.
والإرادة التي يرجعون المحبة والرحمة ونحوهما من صفات الله -تعالى- إليها، يلزمهم فيها نظير ما فروا منه في المحبة والرحمة، حيث قالوا: إن المحبة هي: الميل إلى المحبوب، فيقال: والإرادة هي: ميل المريد إلى ما يوافقه في إرادته.
وأما تفسيرها بالثواب والعقاب، فيلزم منه أن تكون صفته -تعالى- مخلوقة، ثم نقول: لسنا بحاجة إلى مثل هذا التأويل السخيف البارد؛ لأن الله - تعالى- ليس كمثله شيء في صفاته، كما أنه لا مثل له في ذاته.
ومحبته - تبارك وتعالى - لعبده المؤمن شيء فوق إنعامه، وإحسانه، وعطائه، وإثابته، فإن هذا أثر المحبة وموجبها، أما هي فأعظم من ذلك، وهي التي يتسابق إليها أنبياؤه وملائكته وأولياؤه، وعباده الصالحون، وكم في كتاب الله وسنة رسوله - من نص صريح بأنه يحب عباده المؤمنين ويحبونه، كقوله - تعالى - {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (1) ، وقوله -تعالى- {اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (2) ، {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى
_________
(1) الآية 31 من سورة آل عمران.
(2) الآية 222 من سورة البقرة.(1/65)
فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُتَّقِينَ} (1) ، {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (2) ، {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (3) ، والآيات في هذا كثيرة.
وأما الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي تنص على أن الله يحب عباده المؤمنين فإحصاؤها عسير، كقوله - صلى الله عليه وسلم-: " لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله" (4) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي" (5) .
وأما محبة العباد لربهم فعجيب إنكارها، إذ هي من الضروريات الثابتة بالشرع، والعقل، والفطرة، وإنكارها إنكار للواقع المحسوس.
كما أن تأويل المحرفين بأنها الاستقامة على الطاعة، كما ذكره المازري، أو أنها إرادتهم أن ينفعهم، كما نقله الحافظ عن ابن التين (6) ، مخالف للشرع، والعقل، والواقع المحسوس، بل قد يؤول ذلك إلى إنكار أصل دين الإسلام؛ لأن مبنى دين الإسلام على شهادة لا إله إلا الله.
ومعنى الإله: المحبوب الذي تألهه القلوب، وتحبه، وتعظمه، وتجله، وتقصده بالإنابة والخضوع والذل، والافتقار إليه، والخوف منه، ورجائه.
فمن أنكر ميل القلوب إليه تعالى بالحب والتأله، فقد أنكر حقيقة الإسلام، وهل الشرك- الذي حرمت الجنة على صاحبه - إلا أن يجعل للمخلوق
_________
(1) الآية 76 من سورة آل عمران.
(2) الآية 134، 148، من سورة آل عمران، والآية 93 من سورة المائدة.
(3) الآية 159 من سورة آل عمران.
(4) رواه صاحبا "الصحيحين"، انظر: "الفتح" (6/111) وأماكن أخرى، و "مسلم" (4/1871، 1872) .
(5) رواه مسلم في "الزهد" (4/2277) رقم (2965) .
(6) انظر: " الفتح" (13/357) .(1/66)
نصيباً مع الله -تعالى- في هذا الحب؟ كما قال -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} (1) .
فبين - تعالى- أن الذي يحب المخلوق كحب الله أنه مشرك قد اتخذ لله نداً، وأخبر - تعالى- عن هؤلاء أنهم سيقولون لأندادهم وهم في النار: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) ، ولا يجوز أن تكون تسويتهم لهم برب العالمين إلا في الحب؛ لأنه لا يمكن أن يقول عاقل إن أحداً من الخلق يساوي الله -تعالى- في الفعل والتصرف.
وقول ابن التين الذي نقله الحافظ: " إن معنى محبة المخلوقين لله: إرادتهم أن ينفعهم" (3) من أبطل الكلام المخالف للواقع وللشرع والعقل ولولا أن هذا مسجل في الكتب المتداولة بين المسلمين، لم يجز ذكره، وهل يوجد أحد من الخلق لا يريد أن ينفعه الله، حتى إبليس، ومن دونه من دعائم الكفر والإلحاد، من الأولين والآخرين؟ بل كلهم يريد أن ينفعهم الله، فهل يقال: إنهم يحبون الله المحبة المأمور بها شرعاً؟ ولا شك أن مثل هذا القول نتيجة نقص العلم بكلام الله وكلام رسوله، ونقص الإيمان بذلك.
"وإلا فإن من تيقن أن الله أصدق القائلين، وأن قوله الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وأن قوله الفصل، ليس بالهزل، وأنه الهدى، والنور، والشفاء لما في الصدور من الجهل والشكوك، وأنه -تعالى- أعلم بنفسه وبغيره من خلقه.
وعلم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أعلم الخلق بالحق، وأفصح الخلق في النطق
_________
(1) الآية 165 من سورة البقرة.
(2) الآية 97-98 من سورة الشعراء.
(3) "الفتح" (13/357) .(1/67)
والبيان، وأنه أنصح الخلق للخلق- من علم ذلك تيقن أنه قد اجتمع له كمال العلم بالحق، وكمال القدرة على بيانه، وكمال الإرادة له، ومع كمال العلم والقدرة والإرادة، يجب وجود المطلوب على أكمل وجه.
فيجب أن يعلم أن كلام الله ورسوله، أبلغ ما يمكن، وأتم ما يكون وأعظمه بياناً لأمور الدين، من حقوق الله وأسمائه، وصفاته، وغير ذلك.
فمن وقر هذا في قلبه لم يجرؤ على تحريف النصوص بمثل هذه التأويلات التي إذا تدبرها العاقل المنصف، وجدها أبعد شيء عن كتاب الله، وعن صفات الرسول
-صلى الله عليه وسلم- وعلم أن من سلك هذا المسلك فإنما هو لنقص في علمه، وإيمانه بكلام الله، وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- (1) .
وقد علم المؤمنون أن محبة العباد لربهم هي حياة القلوب، ونعيم الروح، بل هي أعلى نعيم في الدنيا والآخرة، وهي فوق كل محبة تفترض، ولا نسبة لسائر المحاب إليها، وهي حقيقة لا إله إلا الله، وبتمامها وكمالها تتفاوت منازل العباد عند الله في الدنيا والآخرة، وقد جاء في الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " أحبوا الله من كل قلوبكم" (2) . يعني: لا يبقى في القلب موضع لغير محبة الله تعالى.
وفي "الصحيحين": مرفوعاً: "ثلاث من كن فيه، وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار" (3) .
وأصل التأله: التعبد، والتعبد هو آخر مراتب الحب، يقال: عبده
_________
(1) "مجموع الفتاوى" (17/129) بتصرف وزيادة.
(2) رواه ابن إسحاق في "السيرة" مختصرها لابن هشام (2/147) .
(3) انظر: " الفتح" (1/72) ، (10/463) و "مسلم" (1/66) .(1/68)
الحب وتيمه: إذا ملكه، وذلله لمحبوبه.
فالمحبة هي حقيقة العبودية، ولا يمكن وجود العبادة التي يريدها الله ويأمر بها عباده بدونها أبداً، بل لا يوجد أي نوع من أنواع العبادة المطلوبة شرعاً بدونها، مثل الإنابة، والخشية، والخوف، والرجاء، والحمد، والشكر، والصبر، والدعاء، والاستغاثة، والاستعانة، وغير ذلك من أنواع العبادة، فمنكر المحبة في الحقيقة منكر لجميع مقامات الإيمان والإحسان، وهؤلاء المحرفون مثل هذا النص في المحبة، يغالطون أنفسهم. وهذا الحديث يدل على حسن فهم الصحابة لمعاني القرآن، حيث قالوا عن سورة الصمد: أنها صفة الرحمن، ووجه ذلك: أن هذه السورة تضمنت أنواع التزيه لله - تعالى- والتحميد، ونفي النقائص كلها، وإثبات الكمال جميعه، ولهذا عدلت ثلث القرآن - كما تقدمت الاشارة إليه.
(الكلام على معنى أحد وصمد)
فالصمدية تثبت الكمال المنافي لكل نقص وعيب، والأحدية تثبت الانفراد بذلك الكمال، فهي تدل على أنه - تعالى- أحد، ليس من جنس شيء من المخلوقات، " وأنه صمد ليس من مادة، بل هو صمد لم يلد ولم يولد، وإذا نفى عنه أن يكون مولوداً من مادة الوالد؛ فلأن ينفي عنه أن يكون من سائر المواد أولى وأحرى، فإن المولود من نظير مادته أكمل من المولود من مادة أخرى " (1) .
وقال شيخ الإسلام: " وقد فسر السلف الصمد بأنه: الذي لا جوف له، كما فسروه: بأنه السيد الذي يصمه إليه في الحوائج؛ والأول قول أكثر السلف، من الصحابة والتابعين وطوائف من أهل اللغة، والثاني: قول جمهور أهل اللغة، وطوائف من السلف والخلف.
_________
(1) "مجموع الفتاوى" (17/452) .(1/69)
قال الجوهري: صمده يصمده صمداً إذا قصده، والصمد بالتحريك: السيد؛ لأنه يصمد إليه في الحوائج (1) .
وقوله – تعالى -: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) أدخل اللام في "الصَّمَد" ولم يدخلها في "أحد" لأنه ليس في الموجودات ما يسمى أحداً في الإثبات مفرداً غير مضاف إلا الله –تعالى-، بخلاف النفي وما في معناه، كالشرط، والاستفهام.
قال أهل اللغة: تقول: لا أحد في الدار، ولا تقول: فيها أحد.
وأما "الصَّمَد" فأدخل عليه الألف واللام، ليبين أنه المستحق لأن يكون هو الصمد دون ما سواه، فإنه المستوجب لغايته على الكمال.
فالمخلوق وإن كان قد يطلق عليه بأنه صمد، فإن حقيقة الصمدية منتفية عنه، فإنه يقبل التجزئة، وهو محتاج إلى غيره، فإن كل ما سوى الله فقير محتاج إلى الله، وليس أحد يصمد كل شيء إليه (3) وهو لا يصمد إلى شيء إلا الله –تعالى-. وليس في المخلوقات شيء إلا ويقبل التجزئة، ويتفرق، وينفصل بعضه من بعض؛ والله سبحانه هو الصمد، الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك، بل حقيقة الصمدية وكمالها له وحده واجبة ولازمة، لا يمكن عدمها بوجه من الوجوه، كما لا يمكن تثنية أحديته بوجه من الوجوه؛ فهو أحد لا يماثله شيء من الأشياء بوجه من الوجوه" (4) .
فقوله –تعالى-: " أحد" مع قوله: " لم يكن له كفوا أحد" ينفي المماثلة، والمشاركة.
_________
(1) انظر: " الصحاح" (2/499) وتمامه: " قال:
علوته بحسام ثم قلت له: ... خذها حذيف فأنت السيد الصمد
وبيت مصمد –بالتشديد – أي: مقصود ".
(2) الآيتان 1-2 من سورة الإخلاص.
(3) الصمود هنا هو: الطلب والقصد والتوجه إلى المصمود إليه بالحاجة.
(4) "مجموع الفتاوى" (17/237) ملخصاً.(1/70)
وقوله –تعالى-: "الصمد" يتضمن إثبات جميع صفات الكمال، فالنقائص منتفية عن الله- تعالى-، وكل ما يختص له المخلوق فهو من النقائص التي تنزه ربنا عنها – جلا وعلا-.
وأما ما يوصف به العبد من بعض الكمالات، مثل العلم، والقدرة، والرحمة، ونحو ذلك، فالذي يثبت لله –تعالى- من هذه المعاني يكون على وجه لا يقاربه فيه أحد من الخلق، فضلاً عن أن يماثله فيه.
وقد ثبت أن ما خلقه الله في الجنة من المآكل وغيرها، لا يماثل ما خلقه في الدنيا، وإن اتفقا في الاسم، مع أن كليهما مخلوق، فالخالق- تعالى وتقدس-، أبعد عن مماثلة المخلوقات.
والمعنى الصحيح الذي هو نفي المثل، والشريك، والند، قد دل عليه قوله- سبحانه-: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (1) ، وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) .
وقوله-تعالى-: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (3) ، وأمثال ذلك، فالمعاني الصحيحة لصفات الله نفياً وإثباتاً، ثابتة بالكتاب والسنة، والعقل يدل على ذلك. وقول بعض أهل الكلام: الأحد، والصمد، هو الذي لا ينقسم، ولا يتفرق، أو ليس بمركب، ونحو ذلك من العبارات، إن عني بها أنه لا يقبل التفرق والانقسام فهو حق، وإن عني بها أنه لا يشار إليه بحال، فهذا يمتنع وجوده، وإنما يقدر وجوده في الذهن تقديراً.
وقد علمنا أن العرب حين أطلقوا لفظ الواحد والأحد، نفياً وإثباتاً، لم يريدوا هذا المعنى.
ولهذا لما قالوا الذين جادلوا الإمام أحمد، في نفي الصفات-مستدلين باسم الواحد-: لا تكونون موحدين أبداً حتى تقولوا: كان الله ولا شيء.
_________
(1) الآية 4 من سورة الإخلاص.
(2) الآية 1 من سورة الإخلاص.
(3) الآية 65 من سورة مريم.(1/71)
قال أحمد: "قلنا: نحن نقول: كان الله ولا شيء، ولكن إذا قلنا: إن الله لم يزل بصفاته كلها، أليس إنما نصف إلهاً واحداً؟
وضربنا لهم في ذلك مثلاً، فقلنا: أخبرونا عن هذه النخلة، أليس لها جذع، وكرب، وليف، وسعف، وخوص، وجمار؟ واسمها شيء واحد؟ سميت نخلة بجميع صفاتها؟ فكذلك الله-وله المثل الأعلى- بجميع صفاته إله واحد.
ولا نقول: إنه كان في وقت من الأوقات ولا قدرة له، حتى خلق لنفسه قدرة، أو كان ولا علم له، حتى خلق له علماً، ولكن نقول: لم يزل عالماً، قادراً، مالكاً، لا متى، ولا كيف" انتهى (1) .
وقال أيضاً: "ودل قوله-تعالى-: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) على أنه لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، ولهذا فسر الصمد بأنه الذي لم يلد، ولم يولد.
فإن الصمد: هو الذي لا جوف له، ولا أحشاء، فلا يدخل فيه شيء؛ فلا يأكل ولا يشرب، كما قال –تعالى-: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} (3) ، وفي قراءة بفتح الياء الأخيرة".
وفسر بعض السلف "الصمد" بأنه الذي لا يخرج منه شيء، وليس مرادهم أنه لا يتكلم، فإنه يقال في الكلام: خرج منه، كما في الحديث: "ما تقرب
_________
(1) "مجموع الفتاوى" (17/449) ، وانظر: رد الإمام أحمد، في "مجموع عقائد السلف" (ص91) .
(2) الآيتان1-2من سورة الإخلاص.
(3) الآية 14من سورة الأنعام.(1/72)
العباد إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه" انتهى (1) .
ودل الحديث على استحباب قراءة الآيات التي تشتمل على صفات الله تعالى، خلافاً للمبتدعة الذين يكرهون آيات الصفات عند العامة، وفيه التصريح بأن الله يحب ذلك ويحب من يحبه.
_________
(1) المصدر السابق، والحديث خرجه الترمذي (4/249) ، وعبد الله ابن الإمام أحمد في "السنة" (ص20) .(1/73)
"باب قوله -تعالى-: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (1) ".
قال الطبري-رحمه الله تعالى-: "يقول -تعالى ذكره- لنبيه: قل يا محمد لمشركي قومك المنكرين دعاء الرحمن: {ادْعُواْ اللهَ} أيها القوم، {أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} بأي أسمائه-جل جلاله- تدعون ربكم فإنما تدعون واحداً، وله الأسماء الحسنى، وإنما قيل ذلك له-صلى الله عليه وسلم - لأن المشركين، فيما ذكر- سمعوا النبي-صلى الله عليه وسلم - يدعو ربه: يا ربنا الله، ويا ربنا الرحمن، فظنوا أنه يدعو إلهين، فأنزل الله الآية، ثم روي ذلك عن ابن عباس، وعن مكحول" (2) .
قال ابن حجر: "كأنه لمح في هذه الترجمة بهذه الآية إلى ما ورد في سبب نزولها، وهو ما أخرجه ابن مردويه بسند ضعيف، عن ابن عباس: أن المشركين سمعوا رسول الله-صلى الله عليه وسلم - يدعو: يا الله، يا رحمن، فقالوا: كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد، وهو يدعو إلهين. فنزلت، وأخرج عن عائشة بسند آخر نحوه" (3) .
قلت: يظهر لي أن مقصود البخاري-رحمه الله- بالترجمة بهذه الآية، بيان اختصاص الله-تبارك وتعالى- بالأسماء الحسنى، وأن أسماءه كاملة المعاني، لا يلحقها نقص، أو عيب، وأن اتصاف المخلوق ببعض ما يتصف الرب تعالى به من المعاني، لا يلزم منه نقص أو عيب في أسمائه وصفاته-تعالى- لأنها حسنى
_________
(1) الآية110من سورة الإسراء.
(2) "تفسير الطبري" (15/182) .
(3) "الفتح" (13/360) .(1/75)
كاملة تناسب عظمته، فلا يتوهم أن في ذلك تشبيهاً كما يتزعمه أهل البدع الذين ظنوا أن مجرد المشاركة في الاسم أو المعاني يفيد التشبيه، فنفوا صفات الله-تعالى- من أجل ذلك.
وأما المخلوق فأسماؤه وصفاته ليست حسنى، ولا كاملة، فهي تناسب ضعفه وعجزه، والذي يوضح مراد البخاري بذلك الحديثان اللذان ذكرهما"لا يرحم من لا يرحم الناس"، وفي الآخر "إنما يرحم الله من عباده الرحماء"، فإذا كان المخلوق يرحم، ويسمى رحيماً، والله-تعالى- يرحم ويسمى رحيماً، فليس ما
يخص الله- تعالى- من هذا الاسم أو الفعل مماثلاً أو مقارباً لما يخص المخلوق، فلا يجوز تأويل أو نفي رحمة الله-تعالى- وغيرها من صفاته، من أجل توهم أن مجرد المشاركة في المعنى يلزم منها التشبيه، والله أعلم.
قال ابن القيم: "أسماؤه-تعالى- كلها مدح وثناء وتمجيد، ولذلك كانت حسنى وصفاته كلها صفات كمال" (1) .
وما ذكره بعض الشراح: مم أن البخاري ذكر هذا الباب ليكون كالأصل لما بعده من الأبواب، وما بعده كالفرع عليه، وقال: إنه قصد الاسمين المذكورين في الآية، وهما "الله"، "والرحمن"؛ لأنهما خاصان بالله-تعالى-، فليس بظاهر، وهذان الاسمان جاء ذكرهما كثيراً فيما بعد، والظاهر لي - والله أعلم- ما أشرت إليه فيما سبق قبل قليل، يوضح ذلك ما جاء في سبب النزول كما قال الحافظ، "والرحمن" يأتي تابعاً "لله" كغيره من الأسماء الحسنى.
فهو أراد بهذا الباب ما دلت عليه الآيات الأخرى كقوله-تعالى-: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (2) ، وقوله: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (3) ، وقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (4) .
_________
(1) "مدارج السالكين" (1/125) .
(2) الآية 24 من سورة الحشر.
(3) الآية 180 من سورة الأعراف.
(4) الآية 8 من سورة طه.(1/76)
6- قال: "حدثنا محمد، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، وأبي ظبيان، عن جرير بن عبد الله، قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم -: "لا يرحم الله من لا يرحم الناس".
جرير هو: أبو عمرو، جرير بن عبد الله بن جابر البجلي، الأحمسي، وأحمس بطن من بجيلة، وبجيلة وخثعم أخوان، وهما من قحطان، وقيل: من ربيعة بن نزار.
قدم جرير على النبي-صلى الله عليه وسلم - في آخر حياته، فبشر به أصحابه، وبسط له رداءه.
وكان -رضي الله عنه- صادق الإيمان، صادعاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان يقول كما في "الصحيحين"، وغيرهما: "بايعت النبي-صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم" (1) .
وبعثه النبي-صلى الله عليه وسلم - لهدم ذي الخلصة، وهو صنم كبير كان لدوس، فهدمه.
ودعا له النبي-صلى الله عليه وسلم - ولخيل أحمس ورجالها.
وكان حسن الوجه، حيث كان يقال له: يوسف هذه الأمة، وكان طويلاً إذا ركب الفرس تكاد تخط رجلاه في الأرض.
نزل الكوفة، فأرسله علي رسولاً إلى معاوية، ثم اعتزل الحروب بينهما وتحول إلى جزيرة ابن عمر، توفى بقرقيسيا سنة إحدى وخمسين، وقيل: بعدها، -رضي
_________
(1) انظر" الفتح" (1/137) وغيره، و"مسلم" (1/75) في "الإيمان" رقم (56) .(1/77)
الله عنه- (1) .
"قوله: "لا يرحم الله من لا يرحم الناس" في رواية لمسلم: "من لا يرحم الناس، لا يرحمه الله".
وعند الطبراني: "من لا يرحم من في الأرض، لا يرحمه من في السماء" ورواته ثقات.
ولأبي داود، والترمذي، والحاكم: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
وفي الطبري: "من لا يرحم المسلمين لم يرحمه الله" (2) .
قلت: ومعنى هذه الروايات واحد، ففي هذه الأحاديث وأمثالها كثير، دليل على أن الرحمة صفة تقوم بمن يشاء الله من عباده، الذين يريد-جل وعلا- رحمتهم، وتتخلف عن الأشقياء، الذين لا يرحمهم الله -تعالى-.
وقد روى البخاري في " الأدب المفرد"، من حديث أبي هريرة، أن النبي-صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تنزع الرحمة إلا من شقي" (3) .
وقد علم من دين الرسل، وكتب الله تعالى، أن الله متصف بالرحمة، وليست رحمته ثوابه وجزاءه، كما يقوله أهل التحريف والمؤولة، من الأشعرية وغيرهم.
_________
(1) انظر: "أسد الغابة" (/333) ، و"الاستيعاب" (1/236) ، و"الإصابة" (1/475) ، و"سير أعلام النبلاء" (2/530) .
(2) "الفتح" (10/440) .
(3) انظر: "الأدب المفرد" (ص136) ، قال محققه: أخرجه الترمذي (25) ، كتاب البر والصلة (16) بابك ما جاء في رحمة المسلمين، وأبو داود، كتاب الأدب (58) ، باب في الرحمة، وأحمد في " المسند" رقم (7988، 9700، 9941، 9946، 1064) وغيرهم، وسنده صحيح.(1/78)
وقد قال الله-تعالى-: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (1) .
فعطف الرحمة على الفضل يدل على المغايرة، وفضل الله-تعالى- الذي هو الثواب والجزاء-مخلوق، ليس من صفات الله - تعالى- القائمة به، وإن كان الفضل في الآية غير متعين إرادة الثواب به، بل يجوز أن يراد به التفضل الذي هو فعل الله -تعالى-.
وإذا كان الإجماع حاصلاً بين الأمة، بأن الله - تبارك وتعالى- ليس كمثله شيء في ذاته المقدسة، فيجب أن تكون صفاته كصفات خلقه؛ لأن الصفة تتبع الموصوف، فصفات الله-تعالى- من الرحمة، والرضا، والغضب، وغير ذلك، تليق بعظمته، وتناسبه، وصفة المخلوق من ذلك وغيره تليق بضعفه، وعجزه وفقره.
وإن من الضلال، والبعد عن كتاب الله، وهدي رسوله، وسبيل المؤمنين حقاً، نفي صفات الله -تعالى- وتعطيله منها اعتلالاً بأنها تفيد التشبيه؛ لأن المخلوق
يوصف بتلك الصفات، وهل هذا إلا مثل من يقول: أنا لا أقر بوجود الله- تعالى- لأن المخلوق موجود؟
وقد تقدمت الإشارة إلى أن مجرد الاشتراك في الاسم أو في المعاني العامة لا يقتضي تشبيهاً، وسيأتي لذلك مزيد إن شاء الله- تعالى-.
_________
(1) الآية 58من سورة يونس.(1/79)
7- قال: حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن أسامة بن زيد، قال: كنا عند النبي –صلى الله عليه وسلم – إذ جاءه رسول إحدى بناته تدعوه إلى ابنها في الموت، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم -: "ارجع فأخبرها، أن لله أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر، ولتحتسب".
فأعادت إليه الرسول، أنها أقسمت لتأتينها، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم – وقام معه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، فدفع الصبي إليه، ونفسه تقعقع كأنها في شن، ففاضت عيناه، فقال له سعد: يا رسول الله، ما هذا؟ قال: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء".
أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل، الكلبي، حب رسول الله-صلى الله عليه وسلم – وابن حبه ومولاه، وابن مولاته أم أيمن.
أمره رسول الله-صلى الله عليه وسلم – على جيش فيه كبار المهاجرين، والأنصار، منهم أبو بكر وعمر، وقال فيه –صلى الله عليه وسلم -: "وايم الله إن كان لخليقاً للإمارة" (1) .
وفي البخاري، وغيره أنه –صلى الله عليه وسلم – قال له، وللحسن: "اللهم إني أحبهما، فأحبهما" (2) .
وزوجه فاطمة بنت قيس- وهو ابن خمس عشرة سنة، وتوفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو ابن تسع عشرة سنة، وفضله عمر- رضي الله عنهما- في العطاء على
_________
(1) أخرجه البخاري في مواضع من "الصحيح"، انظر: "الفتح" (7/498، 86) و (11/521) .
(2) انظر: "الفتح" 7/88، 94) و (10/434) .(1/80)
ابنه عبد الله، وحين راجعه قال له: إنه أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – منك.
واعتزل الحروب بين أهل الشام وأهل العراق، ومات بوادي القرى سنة أربع وخمسين، وقيل غير ذلك (1) .
قوله: "إحدى بناته" قال الحافظ: "هي زينب، كما جاء في "مصنف ابن أبي شيبة" (2) .
قلت: يشير إلى ما رواه ابن أبي شيبة بالسند المذكور هنا، قال: "دمعت عين رسول الله-صلى الله عليه وسلم – حين أتي بابنة زينب، ونفسها تقعقع كأنها في شن، قال: فبكى، قال: فقال له رجل: تبكي وقد نهيت عن البكاء ... " فذكر بقية الحديث كما ذكره البخاري (3) .
ثم قال الحافظ: "ووجدت في الأنساب للبلاذري، أن عبد الله بن عثمان بن عفان من رقية بنت النبي-صلى الله عليه وسلم – لما مات، وضعه النبي –صلى الله عليه وسلم – في حجره وقال: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء".
وفي "مسند البزار"، عن أبي هريرة، قال: ثقل ابن فاطمة، فبعث إلى النبي-صلى الله عليه وسلم - ... فذكر نحو الحديث المذكور هنا، فعلى هذا، فالابن هو محسن بن على بن أبي طالب، وقد اتفق أهل العلم بالأخبار أنه مات صغيراً، في حياة النبي-صلى الله عليه وسلم -، فهذا أولى أن يفسر به الابن، لكن الصواب أن المرسلة؛ زينب، وأن الولد صبية، كما ثبت في "مسند أحمد" بالسند المذكور، ولفظه: "أتي النبي- صلى الله عليه وسلم- بأمامة بنت زينب، ونفسها تقعقع
_________
(1) انظر: "الإصابة" (1/49) تحقيق البجاوي، و"سير أعلام النبلاء" (2/496) وغيرها.
(2) انظر: "الفتح" (3/156) .
(3) انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" (3/392) .(1/81)
كأنها في شن ... " وذكر بقية الحديث (1) . ومثله في "معجم الطبراني"، وقد شفاها الله- تعالى- فعاشت زمناً بعد وفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتزوجها على ابن أبي طالب، بعد وفاة فاطمة، وقتل وهي عنده، -رضي الله عنهم- جميعاً" (2) .
قوله: "إن لله ما أخذ، وله ما أعطى"، قال النووي-رحمه الله-: "هذا أحسن ما يعزى به" ثم قال: " وهذا الحديث من أعظم قواعد الإسلام؛ لاشتماله على مهمات كثيرة من أصول الدين، وفروعه، والآداب، والصبر على النوازل كلها، والهموم، والأسقام وغير ذلك، ومعنى قوله: "إن لله ما أخذ" أن العالم كله ملك لله –تعالى-، فلم يأخذ ما هو لكم، بل أخذ ما هو له عندكم، في معنى العارية.
ومعنى: "وله ما أعطى" أن ما وهبه لكم ليس خارجاً عن ملكه، بل هو له يفعل فيه ما يشاء، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلا تجزعوا فإن من قبض فقد
انقضى أجله المسمى، فمحال تأخره أو تقدمه عنه، فاعلموا ذلك، واصبروا، واحتسبوا ما نزل بكم" (3) .
وقوله: "وكل شيء عنده بأجل مسمى" من فقد محبوب، أو حصول مرغوب، وتصرف في هذا الكون الذي هو بأسه ملك لله يفعل فيه ما يريد، وأجل المسمى: هو المقدر بوقت معين لا يتأخر عنه، ولا يتقدم.
وفي هذه الجملة من الحديث دليل واضح على أن الله تعالى قدر كل شيء وكتبه، وعلم وقته وحاله، وأن الحوادث كلها تقع على تقدير دقيق، لا تتأخر عن ذلك لحظة ولا تتقدم، وهذا أصل عظيم من أصول الدين الإسلامي، يجب
_________
(1) انظر: "المسند " (5/204) .
(2) "الفتح" (3/156) .
(3) انظر: "الأذكار" (ص212-213) .(1/82)
أن يعلم. والإيمان به من أركان الدين لابد منه، والأدلة عليه من الكتاب والسنة كثيرة.
قوله: "فلتصبر، ولتحتسب" الصبر: حبس النفس عن الجزع، والتسخط، وحبس الجوارح عما نهى عنه الشرع من شق الثياب، وخمش الوجوه ولطمها، والكلام الذي ينافي التسليم لرب العالمين، وما أشبه ذلك مما يدل على تسخط الأقدار، والاعتراض على القضاء الذي قضاه الله قبل وجود الخلق.
والاحتساب: هو نية طلب الثواب من الله على الإيمان بالقدر، والتسليم لأمر الله –تعالى-، والإيمان بوعد الله –تعالى-، فإنه وعد على الصبر الجزاء.
قال ابن القيم: "حقيقة الصبر: أنه خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لا يحسن، ولا يجمل" (1) .
قوله: "فأعادت إليه الرسول، أنها أقسمت لتأتينها" جاء في بعض الروايات أنها راجعته ثلاث مرات، وإنما ذهب إليها بعد الثالثة.
والحامل لها ما علمت من أن حضور النبي –صلى الله عليه وسلم – فيه الخير والبركة، وأنه يتوقع أن يرفع الله ببركة دعائه وحضوره ما هي فيه وابنتها من ألم وتوجع، وقد حقق الله – تعالى – أملها ورغبتها، فشفا مريضها كما سبق.
ولا يعترض على هذا أن القدر لابد من وقوعه، فكيف يتخلف من أجل الدعاء أو غيره، فإن الله تعالى جعل لكل شيء سبباً، ورتب المسببات على أسبابها، فقدر أن هذا الشيء يقع في وقت معين مع سببه، فالدعاء المأمور به لا يلزم أن يكون قدراً مكتوباً، بل إذا أمر الله عباده بالدعاء، فمنهم من يطيعه فيستجيب له دعاءه إن شاء الله أو يمن عليه بما طلبه، فيدل ذلك على أن المعلوم لله –تعالى- المقدر له هو الدعاء والإجابة.
ومنهم من يعصي أمر الله تعالى فلا يدعو، فلا يحصل ما علق على الدعاء، فيدل على أن المعلوم لله- تعالى – المقدر: عدم الدعاء وما رتب عليه من الإجابة.
فما يحصل بالدعاء قدر الله حصوله بالدعاء لا بدونه، وهو-جل
_________
(1) "عدة الصابرين" (ص12) .(1/83)
وعلا- يبتلي خلقه بالمصائب، تأديباً لهم، وتكفيراً لذنوبهم، رحمة منه بهم.
قوله: "ونفسه تقعقع كأنها في شن" القعقعة: صوت الشيء اليابس الجاف الخفيف إذا حرك، يعني بذلك: صوت نفسه عند صعوده ونزوله في صدره من شدة الألم.
والشن: بفتح الشين وتشديد النون: القربة الخلقة اليابسة.
قوله: "ففاضت عيناه"أي ذرفت عينا رسول الله –صلى الله عليه وسلم – بالدموع رحمة لهذا الضعيف، وتوجعاً لما نزل به من ألم شديد.
"فقال سعد: يا رسول الله، ما هذا؟ " كان –صلى الله عليه وسلم – ينهى عن البكاء على الميت، فظن سعد-رضي الله عنه- وغيره أن النهي يدخل فيه دمع العين، وحزن القلب، فبين لهم النبي –صلى الله عليه وسلم – أن المنهي عنه هو التسخط من المقدور، ودعوى الجاهلية من العويل والنوح، وتعداد محاسن الميت، وما أشبه ذلك من لطم الوجه وشق الثياب ونحوه، مما يدل على السخط من الواقع، وعدم الصبر.
وأما دمع العين وحزن القلب، فهو من الرحمة للضعفاء التي هي سبب رحمة أرحم الراحمين-جل وعلا-.
قوله: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده" أي " الدمع الذي رأيته من أثر الرحمة التي جعلها الله – تعالى – في قلوب عباده، الذين أراد -تعالى –رحمتهم؛ لأن الجزاء من جنس العمل، والإضافة هنا خاصة، أي الذين عبدوه باتباع أمره، واجتناب نهيه، وقد تكون عامة، فإن الكافر قد يرحم الصغير، فيبكي عليه رحمة.
قوله: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء" أي: رحمة الله-تعالى- للمحسنين إلى عباده برحمتهم، والرحماء من صيغ المبالغة، ولهذا قال بعض الشراح: "المعنى: أن الله –تعالى- لا يرحم من عباده إلا كثير الرحمة، فالرحماء جمع رحيم، وهو من صيغ المبالغة" (1) .
_________
(1) "المنهل العذب المورود" (8/277) .(1/84)
قلت: هذا الحصر لا ينبغي، وإن كان التركيب في الحديث يفيده، ولكن فيما يظهر لي-والله أعلم- أنه غير مقصود؛ للأدلة على أن رحمة الله وسعت كل شيء، وإنما المقصود هنا رحمة خاصة بمن هذه صفتهم.
وهذا القدر من الحديث هو محل الشاهد الذي سيق الحديث من أجله، مع قوله "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده" وذلك أن القدر المشترك بين أسماء الله –تعالى- وصفاته، وبين أسماء المخلوقين وصفاتهم في اللفظ والمعنى لا يقتضي المشابهة؛ لأن أسماء الله –تعالى- حسنى، لا يلحقها نقص، ولا عيب، بخلاف أسماء المخلوقين-وإن كان منها الحسن- فليست بحسنى، ولأن الصفات تابعة للموصوف، وكذلك الأسماء، فالرحمة اسمه-تعالى-، والرحمة صفته، والمخلوق يتصف بالرحمة التي يرحم بها، وهي تابعة له في الخلق والمعنى، فهي مخلوقة فيه؛ لأنه مخلوق فصفاته مخلوقة، وهو ضعيف فقير محتاج، وصفاته تناسبه في ذلك مع أنه يسمى "رحيماً" و"راحماً" والله-تعالى موصوف بالرحمة ويسمى "رحيماً"، ولا يكون في ذلك تشبيه؛ لأن المخلوق اسمه وصفته يختص به، والله-تعالى- اسمه وصفته يختصان به، فرحمة الله صفه له عليا، صفة الكمال، وسالمة من كل نقص أو عيب يمكن أن يلحق المخلوق، فليست رحمته-تعالى- عن ضعف أو عجز، بل عن كمال فضله وإحسانه، ولا يجوز أن تؤول بالثواب أو العطاء، أو إرادة ذلك، وما أشبهه مما يقوله أهل التأويل، كما ذكر الحافظ ابن حجر عن شراح البخاري وغيرهم، كقول ابن بطال: "إن المراد برحمته: إرادته تقع لمن سبق في علمه أنه ينفعه، وأما الرحمة التي جعلها في قلوب عباده، فهي من صفات الفعل (1) =
وصفها بأنه خلقها في قلوب عباده، وهي رقة على المرحوم، وهو سبحانه منزه عن
_________
(1) صفات الفعل عند الأشعرية: ما فعله-تعالى- منفصلاً عنه- يعني مخلوقاته التي وجدت بصفة الخلق-وليس هناك اشتباه بين ما يسميه ابن بطال صفات فعل، وبين صفات الله، حتى يلزم ما ذكره.(1/85)
الوصف بذلك، فتتأول بما يليق به" (1) .
وذكر من هذا النوع أشياء تخالف نصوص كتاب الله، ونصوص سنة رسوله، صلى الله عليه وسلم – كما هي عادته؛ لأنه- عفا الله عنا وعنه- على المذهب الأشعري الذي يعتمد على تأويل صفات رب العالمين، وإن كان أحياناً يذكر مذهب السلف فيما ينقله، ولكنه لا يتبناه، بل يخلط بينه وبين ما يخالفه.
وهذا المذهب- أعني مذهب الأشعرية الذي عليه أكثر المتأخرين- مخالف لما عليه رسل الله صلى الله عليهم وسلم، ومخالف لكتبه، ولما عليه أتباع الرسل، كما أعترف بذلك بعض كبار علماء هذا المذهب، كالفخر الرازي، والجويني، والغزالي، والشهرستاني، وغيرهم، كما يأتي ذكر ذلك، إن شاء الله-تعالى-.
وهكذا تبرر الأشعرية تأويل صفات رب العالمين بما تعرفه من صفات المخلوقين، فكأنهم لم يعرفوا من الرحمة إلا أنها العطف والرقة على المرحوم، ولا من الغضب إلا أنه غليان دم القلب ثم طلب الانتقام، وما أشبه ذلك، ولهذا لجأوا إلى التحريف الذي يسمونه تأويلاً، وجعلوه واجباً ضرورياً، حتى لا يلزم التشبيه، فيسلم المسلم من التشبيه والتجسيم على ما زعموا.
هذا مع أنهم ينكرون على الفلاسفة تأويلهم نصوص المعاد، وعلى الباطنية تأويلهم الشرائع أشد الإنكار، فما الذي سوغ لهم تأويل نصوص الصفات مع كثرتها ووضوحها؟ وما ادعوه أن العقل يوجب ذلك، بإمكان كل مبطل أن يدعيه.
فليس هناك عاصم من الضلال، إلا الوقوف مع نصوص كتاب الله وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في المقدمة.
_________
(1) "الفتح" (13/358) .(1/86)
قال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن على بن المرتضى اليماني-رحمه الله تعالى-: "الأمر الثاني: وهو النقص في الدين، برد النصوص والظواهر، ورد حقائقها إلى المجاز، من غير حجة قاطعة، تدل على ثبوت الموجب للتأويل، إلا مجرد التقليد لبعض أهل الكلام في قواعد لم يتفقوا عليها، وأفحش ذلك مذهب القرامطة الباطنية في تأويل الأسماء الحسنى كلها، وفيها عن الله-تعالى-، على سبيل التنزيه
له عنها، وتحقيق التوحيد بذلك، ودعوى أن إطلاقها يقتضي التشبيه، حتى قالوا: لا يقال" إنه موجود، ولا معدوم.
فكما أن كل مسلم يعلم أن هذا كفر صريح، فكذلك المحدث الذي طالت مطالعته للآثار، وقد يعلم أن تأويل بعض المتكلمين مثل ذلك.
ومن الضروري ورود أسماء الله الحسنى في كتابه على سبيل التمدح بها والثناء العظيم عليه بها، ألا ترى-مثلاً- أن الرحمن الرحيم متلوان في جميع الصلوات، مذكوران في أكثر محافل المسلمين، مجمعين على أنهما أحسن الثناء على الله- تعالى- متقربين إلى الله-تعالى- بمدحه بهما؟
وكرر-تعالى- التمدح بالرحمة في كتابه أكثر من خمسمائة مرة، باسم الرحمن أكثر من مائة وستين مرة، وباسمه الرحيم أكثر من مائتي مرة، وجمعهما مائة وستين مرة. وجاء الرحيم مقترناً مع التواب مراراً، ومراراً مع الرؤوف، والرأفة أشد الرحمة، مراراً مع الغفور، وهي كثيرة، عرفت منها سبعة وستين موضعاً.
وقد فطر الله العقول على معرفة رحمة الله، وسعة علمه، وكمال قدرته.
فما هو المانع من إثبات صفة الرحمة ونحوها مما أثبته الله ورسوله، مع نفي النقائص المتعلقة بصفات المخلوقين في حياتهم، وكذلك كل صفة يتصف بها الرب-تعالى- ويوصف بها العبد. فإنه –جل وعلا- يوصف بها على أكمل وجه، خالية عن جميع النقائص، والعبد يوصف بها على ما يناسبه، من نقص وضعف، وبهذا فسر أهل السنة نفي التشبيه، ولم يفسروه بنفي الصفات كما فعل المعطلة.(1/87)
ومما يدل على بطلان التأويل: كون المعتزلة يسخرون من تأويل الأشعرية للحكيم، والأشعرية تسخر من تأويل بعض المعتزلة للسميع البصير، وأهل السنة يسخرون من تأويل الفريقين للرحمن الرحيم، وما أشبههما، والكل يسخر من تأويل القرامطة. فيجب إثبات ما وصف الله به ذاته الكريمة، من غير تأويل، ولا تعطيل.
ولا يجوز القول بأن ظاهر هذه الأسماء كفر، وضلال، وأن الصحابة والسلف الصالح لم يفهموا ذلك، أو أنهم فهموه ولم يقوموا بالواجب من نصح المسلمين وبيان التأويل الحق؛ لأمرين:
الأول: قاطع ضروري، وهو أن العادة توجب أن ما كان كذلك أن يظهر التحذير منه، من رسول الله-صلى الله عليه وسلم – ومن أصحابه، ويتواتر أعظم من تحذيرهم من الدجال الكذاب، ولا يجوز-مع كمال عقولهم وأديانهم- أن يتركوا صبيانهم ونساءهم وعامتهم يسمعون ما ظاهره كفر، منسوباً إلى الله- تعالى- ورسوله ويسكتون عليه، مع بلادة الأكثرين.
ولو تركوا بيان ذلك، ثقة بنظر العقول الدقيق، لتركوا التحذير من فتنة الدجال، فإن بطلان ربوبيته أظهر في العقول من ذلك، ألا ترى أن المتكلمين لما اعتقدوا قبح هذه الظواهر، تواتر عنهم التحذير عنها، وتأويلها، فصنفوا في ذلك، وأيقظوا الغافلين، وعلموا الجاهلين، وكفروا المخالفين، وأشاعوا ذلك بين المسلمين، بل بين العالمين، فكان أحق منهم بذلك سيد المرسلين وقدماء السابقين، وأنصار الدين، لو كان ذلك حقاً.
الثاني: أنه ثبت تحريم الزيادة في الدين، فلا يصح سكوت الشرع عن النص على ما يحتاج إليه، من مهمات الدين، فالإسلام متبع، لا مخترع، ولذلك كفر من أنكر شيئاً من أركان الدين؛ لأنها معلومة ضرورة، فأولى وأحرى أن لا يجيء الشرع بالباطل منطوقاً متكرراً من غير تنبيه على ذلك، لاسيما إذا كان ما سموه باطلاً، هو المعروف في جميع كتب الله، ولم يأت ما يعارضه من طريق شرعي، ولا عقلي، حتى يجب التأويل.(1/88)
وكثير منهم يزعم أنه ما جاء التصريح بالحق في آية واحدة تكون هي المحكمة التي رد إليها جميع المتشابه، والله-تعالى- ذكر أنه أنزل في كتابه آيات محكمات، ترد إليها المتشابهات، ولم يذكر أن جميع كتابه متشابه، فبطل ما يقولون.
وقد اعترف الرازي- في كتابه "الأربعين" (1) - وهو من أكبر خصوم أهل السنة- أن جميع الكتب السماوية جاءت بصفات الله –تعالى- ولم ينص الله-تعالى- في آية واحدة على أنه منزه عن الوصف بالرحمة والحلم والحكمة، وما أشبه ذلك. والأمر ظاهر وإن لم يعترف به، وهذه الكتب السماوية موجودة.
وهبك تقول: هذا الصبح ليل ... أيعمى العالمون عن الضياء" (2)
قلت: دعوى المجاز في اسمه –تعالى- "الرحمن" وغيره من الأسماء الحسنى، من أبطل الدعاوى؛ لأن ذلك يتضمن إنكار حقيقة صفة الرحمة، وهو أعظم من إنكار الكفار لاسمه تعالى "الرحمن"، كما ذكر الله –تعالى- عنهم ذلك، قال –تعالى-: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (3) .
وقال –تعالى-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} (4) .
فهؤلاء الذين كفروا بالرحمن، وأنكروه، لم يكفروا بذاته-تعالى- وربوبيته، ولم ينكروا ما يدعيه المؤولة أن معنى اسمه الرحمن هو الإحسان والإنعام إلى خلقه،
_________
(1) كتاب "الأربعين في أصول الدين في علم الكلام".
(2) " إيثار الحق على الخلق"، بتلخيص وتصرف (ص129-139) .
(3) الآية 30 من سورة الرعد.
(4) الآية 60 من سورة الفرقان.(1/89)
وإنما أنكروا اسمه-تعالى- "الرحمن" أن يسمى به.
وإنكار صفة الرحمة أعظم من إنكار الاسم، وهو من أعظم الإلحاد في أسمائه –تعالى-؛ لأن وضع الاسم مقصود به الدلالة على المعنى المراد منه، وهو الرحمة، كما هو معلوم في جميع أسمائه تعالى.
وتعليلهم لنفي الرحمة عن الله-تعالى- بأنها رقة القلب التي تحمل الميل إلى المرحوم.
جوابه: أن هذه رحمة المخلوق، ووصفه، وأما رب العالمين، فليس كمثله شيء في ذاته وصفاته، فليست رحمته-تعالى- من جنس رحمة خلقه-جل وعلا-.
ومما يعجب منه أن أهل التأويل (1) يجعلون الرحمة بالنسبة للمخلوق حقيقة، وبالنسبة لله-تعالى- مجازاً، فكيف تكون رحمة أرحم الراحمين التي وسعت كل شيء مجازاً، ورحمة المخلوق الضعيف حقيقة؟
وكل العقلاء يدركون آثار رحمة الله –تعالى- في الخلق، كما يدركون آثار ربوبيته أو أعظم، وهذا من أظهر الأشياء وأوضحها.
ومعلوم أن الأسماء التي تسمى الرب –تعالى- بها –وهي كلها حسنى- لها معان يستدل بها عليها؛ لأنها مشتقة من تلك المعاني، وهذه المعاني هي الصفات، وليست أسماؤه تعالى مجرد أعلام، فالرحمن يدل على الرحمة، والعليم يدل على العلم، والحكيم يدل على الحكمة، وهكذا جميع أسمائه تعالى.
_________
(1) أقصد الذين يؤولون الصفات كما هي طريقة أكثر الأشعرية.(1/90)
قال: باب قول الله-تعالى-: (أنا الرزاق ذو القوة المتين) .
8- "حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال النبي-صلى الله عليه وسلم -: "ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد، ثم يعافيهم، ويرزقهم".
أبو موسى الأشعري: هو عبد الله بن قيس بن سليم الأشعري.
وأمه ظبية بنت وهب بن عك، هاجر إلى الحبشة قديماً، ثم قدم على النبي-صلى الله عليه وسلم - في خيبر، مع جعفر وأصحابه، وهو من سادات الصحابة وعلمائهم، عرف بالشجاعة والاجتهاد في طلب الخير، وكان قارئاً حسن الصوت، حتى قال فيه النبي-صلى الله عليه وسلم -: "لقد أعطي مزماراً من مزامير آل داود" (1)
توفي -رضي الله عنه- بمكة، وقيل: بالكوفة، سنة اثنتين، أو أربع وأربعين، عن ثلاث وستين سنة (2) .
أما الآية فهكذا قرأها ابن مسعود، وقال: إنه أقرأه إياها رسول الله -صلى الله عليه وسلم - كما رواه الإمام أحمد بسند صحيح (3) ، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وقال: حسن صحيح (4) .
_________
(1) انظر: "البخاري" (6/161) "فضائل القرآن".
(2) انظر: "الاستيعاب" (3/979) ، "أسد الغابة" (3/367) ، "الإصابة" (6/194) .
(3) انظر: "السند" (1/394) .
(4) "تفسير ابن كثير" (7/402) ، وانظر: "سنن أبي داود" (4/291) وفيه: "إني أنا الرزاق" الخ، ومثله في الترمذي (4/262) .(1/91)
وهذه الآية مرتبطة بالآية قبلها في المعنى، وهي قوله-تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ {56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ {57} إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (1) ، والمعنى: أنه -تعالى- خلق العباد ليعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، فمن أطاعه في ذلك جازاه أتم الجزاء وأحسنه، ومن أبى وعصاه عذبه أشد العذاب.
وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ورازقهم" (2) .
فهو-جل وعلا- لم يخلقهم ليستعين بهم أو ليقوى بهم، كما يقصد السادة من عبيدهم.
قوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} هذه القراءة المجمع عليها، المتواترة، وقراءة ابن مسعود تتفق معها في المعنى.
والمعنى: أن الله -تعالى- هو المتكفل بأرزاق الخلق وحاجاتهم؛ وأكد الجملة بـ "إن" والضمير؛ لقطع توهم من يعتمد على قوته، أو علمه وصنعته، أو غير ذلك، في أمور الرزق،؛ ليصرف اعتمادهم إلى الله وحده.
{ذُو الْقُوَّةِ} أي القوة العظيمة التي لا تضاهي، ولا تقاس بقوة خلقة مهما بلغت قوتهم، فهو-تعالى- على كل شيء قدير، لا يمتنع عليه شيء.
و {الْمَتِينُ} الشديد القوة، الذي لا يطرأ عليه عجز أو ضعف، تعالى وتقدس، وهذا المروي عن ابن عباس كما ذكره الطبري (3) .
قال ابن الجوزي: "والمتين: الشديد القوة الذي لا تنقطع قوته،
_________
(1) الآيات 56-58 من سورة الذاريات.
(2) "تفسير ابن كثير" (1/402) .
(3) انظر: "تفسير الطبري" (27/13) .(1/92)
ولا يلحقه في أفعاله مشقة" (1) .
ورفع "المتين" على أنه وصف "الرزاق" أو لذو، أو خبر مبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر، وهذه قراءة الجمهور، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش بجر "المتين" على أنه صفة للقوة.
وهذه الآية ونظائرها تدل بوضوح على أن الله -تعالى- موصوف بالصفات العليا، كما أنه مسمى بالأسماء الحسنى، فالقوة صفته، والرزاق اسمه، وتقدم أن كل اسم لابد أن يتضمن الصفة، وبذلك وغيره يرد على المنكرين للصفات، كما سبقت الإشارة إليه، والله أعلم.
وأما معنى الحديث: فقال النووي: "قال العلماء: معناه: أن الله -تعالى- واسع الحلم حتى على الكافر الذي ينسب إليه الولد والند، قال المازري: حقيقة الصبر: منع النفس من الانتقام أو غيره، فالصبر نتيجة الامتناع، فأطلق اسم الصبر على الامتناع في حق الله -تعالى-.
قلت: هذا الكلام فيه نظر فقد جاء في أسمائه تعالى: الصبور، وفي هذا الحديث: " ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله - تعالى - ".
قال القاضي: والصبور من أسماء الله - تعالى -، وهو: الذي لا يعاجل العصاة بالانتقام، وهو بمعنى الحليم في أسمائه - سبحانه وتعالى -، والحليم: هو الصفوح مع القدرة على الانتقام" (2) .
قلت: قول المازري: " فأطلق اسم الصبر على الامتناع في حق الله -تعالى-".
فيه نظر، وذلك أن رسوله -صلى الله عليه وسلم- أطلق على ربه الصبر، وأنه ما أحد أصبر منه، وهو -صلى الله عليه وسلم- أعلم الخلق بالله - تعالى - وأخشاهم له، وأقدرهم على البيان عن
_________
(1) "تفسير ابن الجوزي" (8/44) .
(2) "شرح النووي على مسلم" (17/146) .(1/93)
الحق، وأنصحهم للخلق، فلا استدراك عليه، فيجب أن يبقى ما أطلقه -صلى الله عليه وسلم- على الله - تعالى - بدون تأويل، إلا إذا كان يريد بذلك تفسير معنى الصبر، ولكن الأولى أن يبقى كما قال؛ لأنه واضح ليس بحاجة إلى تفسير.
قوله في الحديث: " اصبر" أفعل تفضيل من الصبر، ومن أسمائه الحسنى "الصبور"، ومعناه: الذي لا يعاجل العصاة بالعقوبة، وهو قريب من معنى الحليم، والحليم أبلغ في السلامة من العقوبة (1) .
وقال الزجاج: " أصل الصبر في الكلام: الحبس، يقال: صبرته على كذا صبراً: إذا حبسته، ومعنى الصبر والصبور في اسم الله - تعالى - قريب من معنى الحلم" (2) .
وقال ابن الأثير: " الصبور: هو الذي لا يعاجل العصاة بالانتقام منهم، بل يؤخر ذلك إلى أجل مسمى، فمعنى الصبور في صفة الله - تعالى - قريب من معنى
الحليم، إلا أن الفرق بين الأمرين أنهم لا يأمنون العقوبة في صفة الصبور، كما يأمنون منها في صفة الحليم" (3) .
يقصد أن صفة الحلم أكثر رجاء ورحمة وأوسع لعباده، من صفة الصبور، والله أعلم.
قوله: "على أذى سمعه من الله" لفظ الأذى في اللغة هو لما خف أمره، وضعف أثره من الشر والمكروه، وذكره الخطابي، قال شيخ الإسلام: "وهو كما قال، بخلاف الضرر، فقد أخبر - سبحانه- أن العباد لا يضرونه، كما قال تعالى: {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللهَ شَيْئاً} (4) ، فبين أن
_________
(1) "فتح الباري" (13/361) .
(2) " تفسير أسماء الله الحسنى" (ص65) .
(3) "جامع الأصول" (4/183) .
(4) الآية 176 من سورة آل عمران.(1/94)
الخلق لا يضرونه، لكن يؤذونه" (1) .
فابن آدم يؤذي الله - تعالى- ويسبه، بإضافة ما يتعالى ويتقدس عنه، مثل نسبة الولد إليه -تعالى- والند، والشريك في العبادة، التي يجب أن تكون خالصة له وحده، ومثل إسناده نعمه وأفعاله إلى غيره، من الدهر، والطبيعة، والكون والمخلوقات، وغير ذلك، ثم يسبون ما أسندوا تلك الحوادث إليه، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادتهم حوادثه، وأهلكتهم كوارث الطبيعة، ويا خيبة الدهر، وهذا زمان سوء، وما أشبه ذلك.
وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله-تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب ليله ونهاره" (2) .
وأذية الله-تعالى- بنسبة الحوادث، والكوارث إلى الدهر، أو الطبيعة، وتوجيه اللوم والقدح والسب إلى ذلك كثيرة في كلام أهل الأدب وغيرهم، مع أن ذلك
صنع الله وفعله، ولذلك يرجع السبب إليه، تعالى عن قولهم علواً كبيراً، كقول ابن المعتز:
يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحداً ... وأنت والد سوء تأكل الولدا
وقال أبي الطيب المتنبي:
قبحاً لوجهك يا زمان فإنه ... وجه له من كل قبح برقع (3)
وقول الطرفي:
إن تبتلى بلئام الناس يرفعهم ... عليك دهر لأهل الفضل قد خانا
_________
(1) "تيسير العزيز الحميد" (ص542) .
(2) انظر: "البخاري" (6/166) وتفسير سورة الجاثية (8/574) ، و (10/564) الأدب، و (9/179) التوحيد، و"مسلم"، الأدب (7/45) .
(3) "ديوان المتنبي" (ص393) .(1/95)
وقول التهامي:
ليس الزمان وإن حرصت مسالماً ... خلق الزمان عداوة الأحرار
وقول الآخر:
وغاض رزقي وعاداني الزمان ولم ... ينظر لما بي من العليا ولا حسبي
وقول الحريري:
ولا تأمن الدهر الخؤون ومكره ... فكم عالم أخنى عليه ونابه
وقوله أيضاً:
ولما تعامى الدهر وهو أبو الردى ... عن الرشد، في إيجابه ومقاصده
تعاميت حتى قيل: إني أخو عمى ... ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده
وقوله أيضاً:
ولو أنصف الدهر في حكمه ... لما ملك الحكم أهل النقيصة
وقول موفق الدين، عبد الله بن عمر الأنصاري، في تخميسه مقصورة ابن دريد:
يا زمني ماذا العمى ... فوقت لي من الرزايا أسهما
يا دهر كم هذي الحقود ... والإحن ... (1)
وقال تميم بن المعتز:
يا دهر ما أقساك من متلون ... في حالتيك وما أقلك منصفاً
أتروح للنكس الجهول ممهداً ... وعلى الحر اللبيب سيفاً مرهفاً
وإذا صفوت كدرت شيمة باخل ... وإذا وفيت نقضت أسباب الوفا
لا أرتضيك وإن كرمت لأنني ... أدري بأنك لا تدوم على الصفا
_________
(1) انظر: " تخميس مقصورة ابن دريد" (ص42) .(1/96)
زمن إذا أعطى استرد عطاءه ... وإذا استقام بدا له فتحرفا
ما قام خيرك يا زمان بشره ... أولى بنا ما قل منك وما كفى
وقال عبد الرحيم الاسطنبولي:
أرى الدهر يسعف جهاله ... وأوفر حظ به الجاهل
ومثل هذا كثير جداً في أشعار أهل الأدب قديماً وحديثاً، وهو لا يجوز؛ لما دل عليه هذا الحديث الذي نحن بصدد شرحه، وللأحاديث الأخرى الصحيحة الصريحة في النهي عن ذلك، كحديث أبي هريرة الآتي: يقول الله تعالى: "يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، اقلب ليله ونهاره" (1) .
يعني: أن الدهر-الذي هو الليل والنهار- مخلوق لله مسخر، وهو مؤتمر بأمر الله –تعالى- مطيع له، فإذا سبه الساب، فإن السب يعود إلى فاعل الدهر وخالقه.
ومعلوم أن توجيه الخطاب والملام إلى الأيام والليالي لأنها ظرف لوقوع الحوادث، وما يؤلم، فوجه اللوم إلى الدهر لذلك، وإلا فغالب هؤلاء، إن لم يكن كلهم، لا يعتقدون أن الليل والنهار هو المصرف المدبر، والموجد لما يقع فيه، فرجع اللوم في الحقيقة إلى تلك الحوادث الواقعة في الليل والنهار، فبذلك يعلم أن اللوم والسب يعود إلى مقدرها وموجدها، وهو الله-تعالى- خالق كل شيء، فليحذر المسلم من مجاراة هؤلاء الذين سلكوا طريق أهل الجهل من الكفار، وغيرهم، في القدح في أفعال الله –تعالى-، وسخط أقداره وتدبيراته.
قال ابن الجوزي –رحمه الله تعالى-: "ما رأت عيني مصيبة نزلت بالخلق أعظم من سبهم للزمان، وعيبهم للدهر، وقد كان هذا في الجاهلية، ثم نهى رسول الله –صلى الله عليه وسلم – عنه، فقال: "لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر" (2) .
_________
(1) سيأتي هذا الباب في قول الله "يريدون أن يبدلوا كلام الله".
(2) رواه مسلم في الألفاظ من الأدب وغيره (4/1762) رقم الحديث (2246) وله عدة طرق عنده.(1/97)
ومعناه: أنتم تسبون من فرق شملكم، وأمات أهليكم، وتنسبونه إلى الدهر، والله –تعالى- هو الفاعل لذلك.
وهؤلاء إن أرادوا بالدهر، مرور الزمان، فذلك لا اختيار له، ولا مراد، ولا يعرف رشداً من ضلال، ولا ينبغي أن يلام، فإنه زمان مدبر، ولا يعقل أن يكون ذم هؤلاء يقصد به الزمان الذي لا تصرف له، فلم يبق إلا أن القوم خرجوا عن ربقة الإسلام، ونسبوا القبائح إلى الله –تعالى- فاعتقدوا قصور حكمته، وأنه يفعل ما لا يصلح كما اعتقده إبليس في تفضيل آدم، وهؤلاء لا ينفعهم مع هذا الزيغ اعتقاد إسلام، ولا فعل صلاة، بل هم شر من الكفار" (1) .
قلت: أكثر هؤلاء من الشعراء والأدباء لا يقصدون نسبة القبائح إلى الله –تعالى- من الجور والظلم، وإنما ساروا في ذلك على سبيل المتابعة لأهل الجاهلية والتقليد، بدون تبصر لذلك، والله أعلم.
وكذلك يؤذي ابن آدم ربه بمخالفته أوامره –تعالى- وارتكابه نهيه، والإصرار على ذلك، وأذية رسله، وعباده الصالحين، بعيبهم، وتنقصهم، كما في "مسند الإمام أحمد"، من حديث عبد الله بن مغفل المزني –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم -: "الله، الله، في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم، فمن أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه" (2) .
وقد قال الله –تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} (3) .
_________
(1) "صيد الخاطر" (ص490) باختصار وتصرف يسير.
(2) "المسند" (4/87) .
(3) الآية 57 من سورة الأحزاب.(1/98)
قال ابن جرير –رحمه الله تعالى-: "أي الذين يؤذون ربهم بمعصيتهم إياه، وركوبهم ما حرم عليهم" (1) .
وفي قوله: "ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله" دليل واضح على تسميته –تعالى- بذلك، أعني "الصبور"، كما جاء في حديث الأسماء الحسنى.
قال ابن القيم –رحمه الله تعالى-: "فقد أطلق عليه –تعالى- أعرف الخلق به، وأعظمهم تنزيهاً له، هذه الصفة: "وما أحد أصبر على أذى سمعه من الله "، كما أن ما ورد في الأسماء الحسنى "الصبور" من أمثلة المبالغة، فهو أبلغ من "الصابر" والصبار. ومعنى الصبر معلوم في اللغة، والشرع، والعرف، فلسنا بحاجة إلى تأويلات المتكلمين، التي تبعد عن المعنى المقصود من الخطاب.
وصبر الله –تعالى- لا يماثل صبر المخلوق، بل يختلف عنه من وجوه:
منها: أنه عن قدرة تامة. ومنها: أنه لا يخاف الفوت، والعبد إنما يستعجل لخوف الفوت. ومنها: أنه –تعالى- لا يلحقه بصبره ألم، ولا حزن، ولا نقص بوجه من الوجوه. وظهور أثر هذا الاسم الكريم مشهود في العالم بالعيان، كظهور اسمه –تعالى- الحليم. والفرق بين الصبر والحلم: أن الصبر ثمرة الحلم، وموجبه، والحلم في صفاته –تعالى- أوسع من الصبر، ولهذا جاء في القرآن في مواضع كثيرة، وجاء مقروناً مع اسمه العليم، كقوله –تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (2) ، وقوله –تعالى-: {وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} (3) (4) ، وحلمه –تعالى- من لوازم ذاته.
_________
(1) "تفسير الطبري" (21/44) .
(2) الآية 51 من سورة الأحزاب.
(3) الآية 12 من سورة النساء.
(4) وقد جاء اقترانه باسمه الغفور في مواضع عدة من القرآن كقوله تعالى: {ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم] {سورة آل عمران: آية 155] .(1/99)
وأما صبره -تعالى- فمتعلق بكفر عباده، وشركهم، ومسبتهم له -تعالى وتقدس- وسائر معاصيهم، وفجورهم، فلا يدعوه ذلك إلى تعجيل عذابهم، بل يصبر عليهم ويمهلهم، ويرفق بهم، ويستصلحهم بحلمه وصبره ونعمه، حتى إذا لم يبق فيهم موضع للصنيعة ولا يصلحون على الإمهال، ولم ينيبوا إليه، لا من باب الإحسان والنعم، ولا من باب البلاء والنقم، أخذهم أخذ عزيز مقتدر، بعد غاية الإعذار إليهم، وبذل النصيحة لهم، ودعائهم من كل باب.
وهذا كله من موجبات صفة حلمه، وهي صفة ذاتية له لا تزول.
وأما الصبر فإذا زال متعلقه كان كسائر الأفعال التي توجد لوجود الحكمة وتزول بزوالها، فتأمله، فإنه فرق لطيف قل من تنبه له.
وقد أشكل على كثير من العلماء مجيء هذا الاسم في أسماء الله الحسنى، وقالوا: لم يأت في القرآن، فأعرضوا عن الاشتغال به.
ولو أنهم أعطوه حقه لعلموا أن الرب -تعالى- أحق به من جميع خلقه، كما هو أحق باسم العليم، والرحيم، والقدير، والسميع، وسائر أسمائه الحسنى من المخلوقين، وأن التفاوت الذي بين صبره -تعالى- وبين صبرهم، كالتفاوت الذي بين حياته وحياتهم، وعلمه وعلمهم، وهذا في سائر صفاته -تعالى-، ولهذا قال أعرف خلقه به: " لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله" -تعالى- فعلم أرباب البصائر بصبره -سبحانه- كعلمهم برحمته وعفوه وستره، مع أنه صبر مع كمال علم وقدرة، وعظمة وعزة، وهو صبر على أعظم مصبور عليه، فإن مقابلة أعظم العظماء، وملك الملوك، وأكرم الأكرمين، ومن إحسانه فوق كل إحسان بغاية القبح، وأعظم الفجور، وافحش الفواحش، ونسبته -تعالى- إلى كل ما لا يليق به، والقدح في كماله، وفي أسمائه وصفاته، والإلحاد في آياته، وتكذيب رسله -عليهم السلام- ومقابلتهم بالسب والشتم والأذى، وتحريق أوليائه، وقتلهم وإهانتهم- أمر لا يصبر عليه إلا الصبور الذي لا أحد أصبر منه، ولا نسبة لصبر جميع الخلق من أولهم إلى آخرهم إلى صبره -سبحانه وتعالى-.(1/100)
ومما يعين على معرفة صبره -تعالى- وحلمه، والفرق بينهما: تأمل قوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (1) ،
وقوله -تعالى-: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا {88} لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا {89} تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا {90} أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} (2) وقوله -تعالى-: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} (3) ، على قراءة فتح اللام.
فأخبر -تعالى- أن حلمه ومغفرته يمنعان زوال السماوات والأرض، فالحلم وإمساكهما أن تزولا هو الصبر، فبحلمه صبر عن معاجلة أعدائه.
وفي الآية إشعار بأن السماوات والأرض تهم وتستأذن بالزوال؛ لعظم ما يأتي به العباد، فيمسكهما بحلمه، ومغفرته، وذلك حبس عقوبته عنهم، وهو حقيقة صبره -تعالى-.
فالذي صدر عنه الإمساك، هو صفة الحلم، والإمساك هو الصبر، وهو حبس العقوبة، ففرق بين حبس العقوبة، وبين ما صدر عنه حبسها، فتأمله" (4) .
قال ابن المنير: "وجه مطابقة الحديث للآية (5) : اشتماله على صفتي الرزق، والقوة الدالة على القدرة، أما الرزق، فواضح من قوله: "ويرزقهم"، وأما القوة فمن قوله: "أصبر" فإن فيه إشارة إلى القدرة على الإحسان إليهم، مع إساءتهم، بخلاف طبع البشر، فإنه لا يقدر على الإحسان إلى المسيء إلا من جهة تكلفه
_________
(1) الآية 41 من سورة فاطر.
(2) الآيات 88-91من سورة مريم.
(3) الآية 46 من سورة إبراهيم.
(4) "عدة الصابرين" (ص236-237) .
(5) في "الفتح": (مطابقة الآية للحديث) والمناسب ما أثبته.(1/101)
ذلك شرعاً، وسبب ذلك أن خوف الفوت يحمله على المسارعة إلى المكافأة بالعقوبة، والله -سبحانه- قادر على ذلك حالاً، ومآلاً، لا يعجزه شيء ولا يفوته" (1) .
قلت: ليس عجز الإنسان عن الصبر من أجل خوف الفوت فقط، بل ولأنه لا يستطيعه ولا يتحمله، لأن ذلك يضره في نفسه، أو غير ذلك.
والذي يظهر أن ما أراده البخاري -رحمه الله- من الحديث، هو البيان بأن الله -تعالى- مسمى بالأسماء الحسنى، ومتصف بالصفات العليا، حقيقة على ما يليق به-تعالى-، وعلى ما يفهم من اللفظ الموضوع للمعنى المتعارف عليه من ظاهر اللغة، الذي أطلقه -تعالى- على نفسه أو أطلقه عليه رسوله، دون تكلف تأويل، أو رجوع إلى اصطلاح متكلم، أو متفلسف، كما بين ذلك قوله: "ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد، ثم يعافيهم ويرزقهم" فهذا هو حقيقة الصبر المعروف في اللغة، ونصوص الشرع، فلا يجوز العدول عن ذلك بالتأويلات التي تبعد المعنى عن مقصود المتكلم من اللفظ، ودل قوله: "ثم يعافيهم، ويرزقهم" على فضله على عباده بالعافية والرزق، وأن كل ما يقع بأيديهم من رزقه، فهو الذي هيأ أسبابه ويسر طرقه.
وقوله: "ثم يعافيهم ويرزقهم" أي أنه -تعالى- يقابل إساءتهم بالإحسان، فهم يسيئون إليه -تعالى- بالعيب والسب، ودعوى ما يتعالى عنه ويتقدس، وتكذيب رسله ومخالفة أمره، وفعل ما نهاهم عنه فعله، وهو يحسن إليهم بصحة أبدانهم، وشفائهم من أسقامهم، وكلاءتهم بالليل والنهار مما يعرض لهم، ويرزقهم بتسخير ما في السماوات والأرض لهم، وهذا غاية الصبر والحلم والإحسان، والله أعلم.
_________
(1) "فتح الباري" (13/361) .(1/102)
قال: "باب قول الله -تعالى-: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (1) ، {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (2) ، و {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (3) ، و {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} (4) ، و {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} (5) .
قال يحيي: الظاهر على كل شيء علماً، والباطن على كل شيء علماً".
أراد البخاري -رحمه الله- بيان ثبوت علم الله -تعالى- وعلمه -تعالى- من لوازم نفسه المقدسة، وبراهين علمه -تعالى- ظاهرة مشاهدة في خلقه، وشرعه، ومعلوم عند كل عاقل أن الخلق يستلزم الإرادة، ولابد للإرادة من العلم بالمراد، كما قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (6) .
والخالق هو: المبدع بتقدير سابق الوجود في الخارج، وهذا يتضمن تقدير المخلوقات في العلم قبل إيجادها في الخارج، وهو أيضاً يستلزم الإرادة والمشيئة، والإرادة مستلزمة تصور المراد والعلم به.
ووصف نفسه - تعالى- في هذه الآية بأنه (لطيف) يدرك الدقيق، (خبير) يدرك الخفي.
والأدلة على وصف الله بالعلم كثيرة، ولا ينكرها إلا ضال أو معاند مكابر.
وفي هذه الآيات التي ذكرها البخاري مدح الله- سبحانه وتعالى- فيها نفسه
_________
(1) الآية 26 من سورة الجن.
(2) الآية 34 من سورة لقمان.
(3) الآية 166 من سورة النساء.
(4) الآية 11 من سورة فاطر، والآية 47 من سورة فصلت.
(5) الآية 47 من سورة فصلت.
(6) الآية 14 من سورة الملك.(1/103)
بأنه عالم الغيب، وأنه استأثر به دون خلقه، فكان ذلك دليلاً على أنه لا يعلم الغيب سواه، فعلمه -تعالى- وسع كل شيء في الماضي، والمستقبل، والحال. وفي الآية الأولى استثنى -تعالى- من ارتضاه من رسله، فأطلعهم على ما يشاء من غيبه، عن طريق الوحي إليهم، وإعلامهم به، وجعل ذلك معجزة لهم، ودليلاً على نبوتهم وصدقهم.
وليس المنجم والكاهن، ومن ضاهاهما، كالضارب بالحصى، والناظر في الكتب والأكف، وما أشبه ذلك، ممن أرتضاه الله من الرسل، حتى يطلعهم على ما يشاء من الغيوب، بل هم مفترون على الله، يصطادون أموال الجهلة من الناس بالتلبيس والحدس والتخمين الكاذب والادعاء الفارغ.
"والغيب" مصدر غاب، إذا استتر عن العين، قال -تعالى-: {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} (1) ، واستعمل في كل غائب عن الحاسة، وعما يغيب عن علم الإنسان، قال -تعالى-: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (2) ، ويقال للشيء: غيب، وغائب، باعتبار تعلقه بالناس.
أما الله -تعالى- فإنه لا يغيب عنه شيء. وقوله -تعالى-: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (3) ، أي: ما يغيب عنكم، وما تشهدونه. والغيب في قوله -تعالى-: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (4) : ما لا يقع تحت الحواس، ولا يقتضيه بدائه العقول، وإنما يعلم بخبر الأنبياء عليهم السلام" (5) .
_________
(1) الآية 20 من سورة النمل.
(2) الآية 75من سورة النمل.
(3) الآية 22 من سورة الحشر.
(4) الآية 3 من سورة البقرة.
(5) "المفردات" للراغب (ص366) .(1/104)
وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ} قال الحليمي: "معناه أنه يدرك الأشياء على ما هي عليه، وإنما وجب أن يوصف -عز اسمه- بالعالم؛ لأنه قد ثبت أن ما عداه من الموجودات فعل له، وأنه لا يمكن فعل إلا باختيار وإرادة، والفعل على هذا الوجه لا يظهر إلا من عالم، كما لا يظهر إلا من حي" (1) .
فقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ} أي المختص بعلم الغيب، فلا يشاركه فيه أحد.
قال ابن جرير: عالم ما غاب عن أبصار خلقه، فلم يروه {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} فيعلمه أو يريه إياه {إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} فإنه يظهره على ما يشاء من ذلك (2) .
وقال القسطلاني: "عالم الغيب فلا يطلع على غيبه أحداً من خلقه إلا من ارتضى من رسول لإطلاعه على بعض الغيب؛ ليكون إخباره عن الغيب معجزة له" (3) .
وقوله: و {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الواو ليست من الآية، إنما جاء بها للعطف.
والمعنى: أن علم وقت مجيء الساعة - الذي هو النفخ في الصور- لا يعلمه إلا الله -تعالى- وحده، فهو خاص به -تعالى- لا يشاركه فيه أحد.
قال الخازن: "ومعنى الآية: أن الله عنده علم الساعة، فلا يدري أحد من الناس متى تقوم، في أي سنة، أو أي شهر أو أي يوم، ليلاً أو نهاراً" (4) .
وقوله: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي: أنزل القرآن، عالماً بما يترتب على إنزاله من الخير
_________
(1) "المناهج" (1/191) .
(2) "تفسير الطبري" (29/121) .
(3) "إرشاد الساري" (10/363) .
(4) "تفسير الخازن" (5/220) .(1/105)
والفلاح وغير ذلك، وعالماً بمن يؤمن به ويقبله، ويسعد بذلك، ومن يكفر به ويرده ويشقى بذلك.
أو المعنى: أنزله فيه علمه الذي أراد أن يطلع عليه من يشاء من عباه، من الإيمان به، ومعرفته –تعالى- بأسمائه وصفاته، وما رتب على ذلك من الجزاء في الدنيا والآخرة، ومعرفة حقه، وأمره ونهيه، والآية تدل على كلا المعنيين.
وقال ابن الجوزي: "فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنزله وفيه علمه، قال الزجاج.
الثاني: أنزله من علمه، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
الثالث: أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه، قال ابن جرير" (1) .
وقال الخازن: "يعني أنه –تعالى- لما قال: لكن الله يشهد بما أنزل إليك، بين صفة ذلك الإنزال، وهو أنه –تعالى- أنزله بعلم تام، وحكمة بالغة.
وقيل: معناه: أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله عليك، وأنك مبلغه إلى عباده" (2) .
وقال ابن كثير: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه، من البينات والهدى والفرقان، وما يحبه ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وما فيه من العلم بالغيوب، من الماضي والمستقبل، وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة التي لا يعلمها نبي مرسل، ولا ملك مقرب، إلا أن يعلمه الله به، كما قال –تعالى-: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء} (3) ، وقال –تعالى-: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (4) (5) .
_________
(1) "زاد المسير" (2/257) ، وانظر "تفسير الطبري" (6/31) .
(2) "تفسير الخازن" (1/625) .
(3) الآية 255 من سورة البقرة.
(4) الآية 110 من سورة طه.
(5) "تفسير ابن كثير" (2/428) .(1/106)
قوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} (1) اقتصر البخاري-رحمه الله تعالى- على محل الشاهد من الآية والآية بتمامها:
{وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (2) .
يخبر –تعالى- العباد بأنه ابتدأ خلقهم بخلق أبيهم آدم من تراب، ثم جعل خلق ذريته من نطفة –من ماء مهين- وجعلهم أزواجاً، أي ذكراً وأنثى، رحمة منه تعالى ولطفاً، ثم أخبر –تعالى- أنه عالم بأطوار خلقهم، لا يخفى عليه شيء من مبتدئه، ووضعه، ونوعه، وعمره، وعمله، وزيادة عمره، ونقصانه، وأن ذلك عنده في كتاب، وهو سهل عليه يسير {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (3) ، ففي هذه الآية بيان شمول علمه –تعالى- لكل شيء، فلا تكون حياة، ولا موت، ولا حركة، ولا سكون إلا بعلمه وتصريفه ومشيئته.
قوله: {*إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} أي هو تعالى المختص بعلم الساعة أي وقت مجيئها.
قال ابن جرير –رحمه الله تعالى-: "إلى الله يرد العالمون به علم الساعة، فإنه لا يعلم قيامها غيره" (4) .
ففي هذه الآيات ونحوها دلالة ظاهرة على ثبوت صفة العلم لله، بحيث لا ينكر ذلك إلا معاند مكابر يجادل بالباطل، ليدحض به الحق، أو جاهل قد تناهى جهله، ومن أوجه البيان في ذلك أنه تعالى أضاف العلم إلى نفسه الكريمة، إضافة حقيقية، والمضاف إلى الله –تعالى- إما أن يكون أعياناً قائمة بنفسها، كبيت
_________
(1) الآية 11 من سورة فاطر.
(2) وقال –تعالى-: {*إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من انثى ولا تضع إلا بعلمه] {سورة فصلت: آية 47] .
(3) الآية 14 من سورة الملك.
(4) "تفسير الطبري" (25/2) .(1/107)
الله، وناقة الله، ورسول الله، وعرش الرحمن، وما أشبه ذلك وهذا النوع من إضافة المخلوق إلى خالقه؛ لتفضيلها على غيرها من المخلوقات.
وإما إضافة معان، كعلم الله وقدرة الله، وحياة الله، وسمع الله وبصره، وما أشبه ذلك، وهذا النوع لا يكون إلا إضافة صفة إلى من تقوم به؛ لأنها لا تقوم بنفسها كما هو معلوم.
ومراد البخاري-رحمه الله- في إيراده هذه الآيات إثبات هذه الصفة لله –تعالى -، والرد على من ينكرها من المعتزلة، ونحوهم ممن عميت بصائرهم، فابتعدوا عن الحق، مغترين بعقولهم.
قوله: "قال يحيي: الظاهر على كل شيء علماً، والباطن على كل شيء علماً".
قال الحافظ: "يحيي هو ابن زياد الفراء النحوي المشهور، ذكر ذلك في كتاب "معاني القرآن له" (1) .
قلت: هو يحيي بن زياد بن عبد الله، بن مروان الديلمي، أبو زكريا، المعروف بالفراء، إمام العربية، وصفه مترجموه بأنه كان متديناً ورعاً، وكان ثقة، له مصنفات كثيرة، ضاع أكثرها، توفي سنة 207 سبع ومائتين.
وقول الفراء هذا، جزء من معنى هذين الاسمين الكريمين، وقد كان من عادة السلف أنهم يفسرون الشيء بجزء من معناه، وإلا فهو –تعالى- الظاهر على كل شيء ذاتاً، وقوة وقهراً، وعلماً وحكماً، والباطن على كل شيء إحاطة وقرباً
وعلماً، وقد صح عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم – كما في "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه –عن النبي –صلى الله عليه وسلم – أنه كان يقول: "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك
_________
(1) "فتح الباري" (13/362) ، وانظر: "معاني القرآن" للفراء (3/132) .(1/108)
شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء" (1) .
فهذا أحسن ما يفسر به هذه الأسماء، وأوضحه، وأقربه إلى معنى الكلام، مع كونه من المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، فلا ينبغي العدول عنه إلى كلام الناس، الذي هو عرضة للخطأ.
_________
(1) انظر: "مسلم" (4/2084) رقم (61) .(1/109)
9- قوله: "حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال، حدثني عبد الله بن دينار، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله -تعالى-".
ابن عمر: هو أبو عبد الرحمن، عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل، القرشي، العدوي،. وأمه: زينب بنت مظعون الجمحية، ولد سنة ثلاث من البعثة النبوية، وهاجر إلى المدينة وهو ابن عشر سنين، وأول مشاهده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخندق، وكان من سادات الصحابة، وعبادهم المجدين، وهو من المكثرين في الحديث عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، عرف بالعزوف عن الدنيا، والاستعداد للآخرة، كما عرف بشدة تمسكه بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وتتبع آثاره، له في "الصحيحين" مائتان وثمانون حديثاً، توفي سنة ثلاث وسبعين في مكة، وقد بلغ من العمر سبعاً وثمانين سنة، -رضي الله عنه- (1) .
"قوله: مفاتيح الغيب" ذكر البخاري ذلك الحديث في الاستسقاء بلفظ "مفتاح" وفي بعض النسخ "مفاتح" وفي تفسير سورة الأنعام وسورة الرعد بلفظ "مفاتح" وفي بعض النسخ "مفاتيح".
والمفاتح جمع مفتح، بكسر الميم، اسم الآلة التي يفتح بها، مثل منجل، ومناجل، وهي لغة قليلة، والمشهور: مفتاح، وجمعه "مفاتيح"، وقد قرأ بها
_________
(1) "الإصابة" (4/181) والرياض النضرة (ص194) .(1/110)
ابن السميفع، ويطلق المفتاح على ما كان محسوساً مما يحل غلقاً، كالقفل، وعلى ما كان معنوياً، كما جاء في الحديث الذي صححه ابن حبان: "إن من الناس مفاتيح للخير" الخ (1) .
قوله: "مفاتيح الغيب خمس، لا يعلمها إلا الله"، قد بين هذه الخمس، بأنها: ما يغيض من الأرحام - أي ما ينقص-، وما يكون في الغد من الحوادث والأعمال وغيرها، ومجيء المطر، والمكان الذي يموت به الإنسان، ووقت مجيء الساعة.
وعبر عن هذه الأمور الخمسة بالمفاتيح، لتقريب الأمر من السامع=؛ لأن كل شيء جعل بينك وبينه حجاب، فقد غيب عنك، والتوصل إلى معرفته في العادة من باب الحجاب، فإذا كان المفتاح الذي لا يمكن الوصول إلى ما في داخل الحجاب إلا بمعرفته لا يعلم، فكيف بما في داخل الحجاب؟
ودل الحديث على أن هذه الأمور ليست هي الغيب، وإنما هي منه؛ وأن علم الغيب من خصائص الله تعالى.
وأما ما جاء عن الأنبياء من الأخبار ببعض المغيبات، كإخبار الرسول -صلى الله عليه وسلم - بما يقع بعده من الفتن؛ والفتوح على أمته؛ وبعض أشراط الساعة، وكإخبار عيسى -عليه السلام- بما يأكله بنو إسرائيل، وما يدخرونه في بيوتهم، ونحو ذلك، فإن هذا مما استثناه الله تعالى بقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا {26} إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا {27} لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} (2) ، وهو من معجزاتهم التي تدل على صدقهم.
_________
(1) "فتح الباري" (8/291) .
(2) الآيات 26-28 من سورة الجن.(1/111)
وبهذا وغيره يتبين ضلال الذين يزعمون أن فريقاً من الناس- ممن يدعون لهم الولاية- أنهم يعلمون الغيب، وكذا الذين يدعون ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يعلم الغيب إلا الله -تعالى-، وقد أمره الله أن يعلم الناس أنه لا يعلم الغيب، فقال تعالى: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (1) ، فنفى -تعالى- علم الغيب عن الخلق عموماً، من في السماوات كالملائكة، ومن في الأرض كالأنبياء، فكيف يدعى علم ذلك لغيرهم؟
وأما أصحاب الدجل والتمويه، الذين يحتالون على أكل أموال الناس بالباطل، كالذين يزعمون معرفة ما في المستقبل، بواسطة النجوم، أو بقراءة الكف، أو فنجان القهوة، ونحو ذلك، فهؤلاء لا يخفى ضلالهم وكذبهم إلا على أجهل الناس، والمغفلين منهم.
وأما الإخبار عما يسمى "بالطقس" أحوال الجو من أمطار، أو رياح أو غيوم أو صحو أو غير ذلك، فهي توقعات مبنية على مقدمات مستفادة من مراصد
الأحوال الجوية التي تتأثر بالرطوبة واليبوسة ونحو ذلك، ولهذا كثيراً ما يكون الأمر على خلاف ما قالوا.
"وأراد بالغيب في الحديث المذكور: الغيب الحقيقي؛ إذ لبعض الغيوب علامات ومقدمات يستدل بها على شيء من ذلك، وهذا ليس غيباً حقيقياً؛ فالغيب الحقيقي لا يعلمه إلا الله -تعالى-.
ثم الغيب نوعان: أحدهما: ما يتعلق بذات الله -تعالى- وحقائق صفاته.
والثاني: يتعلق بمخلوقاته، وهي كلها لديه معلومة، وقد قال -تعالى-: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (2) .
_________
(1) الآية 65 من سورة النمل.
(2) الآية 59 من سورة الأنعام.(1/112)
فلما كان كل شيء محصى في كتاب كتبه الله -تعالى- عنده، وعلمه محيط وسابق كل شيء، شبه الرسول- صلى الله عليه وسلم - ذلك بالمخازن التي لها أبواب، والباب له مفتاح، فإذا كان المفتاح لا يعلمه أحد ولا يصل إليه، فكيف بما وراءه؟
وقد قال -تعالى-: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} (1) ، وحصر -صلى الله عليه وسلم - مفاتيح الغيب بالخمس لأنها تشمل العوامل كلها.
فقوله: "ما تغيض الأرحام" إشارة إلى ما يزيد في النفوس، وما ينقص منها؛ وذكر الأرحام؛ لأن للناس عليها عوائد يعرفونها؛ وتجارب أدركوها، وقد قرر عليها أحكام شرعية، ومع ذلك لا يعلم حقيقتها، ومتى تزيد ومتى تنقص إلا الله -تعالى-، فغيرها مما هو أخفى أولى بأن لا يعلمه الخلق.
وأشار بقوله: "ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله تعالى" إلى أمور العالم العلوي، فذكر منه المطر؛ لأن له مقدمات، وعلامات يستدل بها عليه عادة، أجراها الله -تعالى-، ومع ذلك لا يعلم حقيقة الحال إلا الله -تعالى-، فكيف بما وراء ذلك مما في السماوات وما بينهما، وما يجد هناك من المخلوقات، والحوادث، والأوامر التي يريدها الله -تعالى-، ويأمر بها؟
وأشار بقوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ (2) ، إلى الحوادث الأرضية، وذكر موضع الموت من الأرض، مع أن العادة قد جرت في الغالب أن الإنسان يموت في الأرض التي يستقر فيها؛ ومع ذلك لا أحد يتيقن أنه يموت في مكانه الذي يعيش فيه، ولا يدري أين موضعه الذي يوارى فيه.
فإذا كان الأمر في مثل هذا غير معلوم، فكيف بالأمور الأخرى التي لا علامات لها، ولا مقدمات يستدل بها عليها؟
_________
(1) الآية 21 من سورة الحجر.
(2) الآية 34 من سورة لقمان.(1/113)
وأشار بقوله: "ولا يعلم ما في غد إلا الله" إلى أنواع الزمان، وما فيه من الحوادث والتقلبات الطارئة، وخص منه غداً؛ لأنه أقرب الأزمنة من المخاطب، فإذا خفي ما فيه فما بعده أخفى، وأبعد عن معرفته.
وأشار بقوله: " ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله" إلى أمور الدار الآخرة، وذكر منها يوم القيامة؛ لأنه أولها إلى الدنيا، ولا يعلم وقت مجيئه إلا الله، فما بعده أولى بأن لا يعلم، فهذا من أبدع الكلام، وأبلغه، فقد حصر فيه جميع أنواع الغيوب، وأبطل جميع الدعاوى الفاسدة" (1) .
ويقصد بالدعاوى الفاسدة: كل من يدعي شيئاً في علم الغيب، وهذا الحديث إيضاح لقوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (2) .
_________
(1) انتهى ملخصاً من "بهجة النفوس" (4/272) .
(2) الآية 34 من سورة لقمان.(1/114)
10- "حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: من حدثك أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه فقد كذب، وهو يقول: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} ومن حدثك أنه يعلم الغيب فقد كذب، وهو يقول: (لاَّ يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ) .
"كأن سبب هذا القول من عائشة -رضي الله عنها- ما أخرجه عبد الرزاق في هذا الحديث من طريق مجالد عن الشعبي، قال: لقي ابن عباس كعباً، فقال ابن عباس: إنا بنو هاشم نقول: إن محمداً رأى ربه مرتين، فكبَّر كعب، وقال: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد، فكلم موسى مرتين، ورآه محمد مرتين، قال مسروق: فدخلت على عائشة، فقلت: هل رأى محمد ربه؟ " فذكر الحديث.
قال النووي-تبعاً لغيره-: لم تنف عائشة وقوع الرؤية بحديث مرفوع، ولو كان معها لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط على ما ذكرته من ظاهر الآية، وقد خالفها غيرها من الصحابة، والصحابي إذا قال قولاً، وخالفه غيره منهم، لم يكن ذلك حجة اتفاقاً.
والمراد بالإدراك: الإحاطة، وهو لا ينافي الرؤية.
وهذا عجيب من النووي -رحمه الله- فإن في "صحيح مسلم" الذي شرحه هو: "قال مسروق: وكنت متكئاً فجلست، فقلت: ألم يقل الله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} (1) .
_________
(1) الآية 13 من سورة النجم.(1/115)
فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: إنما هو جبريل".
وأخرجه ابن مردويه بسند مسلم، فقال: "أنا أول من سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عن هذا، فقلت: يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ فقال: "لا، إنما رأيت جبريل منهبطاً" (1) .
قلت: أعجب من كلام النووي ما قاله ابن خزيمة -رحمه الله- فإنه ذكر هذا الحديث بعينه - أعني قول عائشة-: "أنا سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عن هذا، قال: "رأيت جبريل نزل في الأفق، على خلقه، وهيئته، ساداً ما بين الأفق" ثم بعد أسطر قال: "إن عائشة لم تحك أن النبي -صلى الله عليه وسلم - أخبرها أنه لم ير ربه" (2) .
فهذا ونحوه هو ما غر النووي -رحمه الله- ودعاه إلى رد قول عائشة من غير تأمل للأدلة؛ والله المستعان.
وكثير من العلماء يذكر الخلاف في أن النبي -صلى الله عليه وسلم - رأى ربه ليلة المعراج، "وليس في الأدلة ما يقضي بأنه رآه بعينه، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة صريحاً، ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدل، كما في "صحيح مسلم"، عن أبي ذر، قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - هل رأيت ربك؟ فقال: "نور أنى أراه" (3) .
وقد قال -تعالى-: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} (4) ، ولو كان قد رأى ربه بعينه لكان ذكر ذلك أولى، وكذلك قوله -تعالى-: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (5) ، ولو كان رآه لكن ذكر ذلك أولى.
_________
(1) "الفتح" (8/607) .
(2) انظر: كتاب"التوحيد"، لابن خزيمة (ص226) .
(3) انظر: "صحيح مسلم" (3/12) بشرح النووي.
(4) الآية 1 من سورة الإسراء.
(5) الآية 18 من سورة النجم.(1/116)
وفي "الصحيحين" عن ابن عباس، في قوله -تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ} (1) ، قال: هي رؤيا عين، أريها رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ليلة أسرى به، وهذه رؤيا الآيات؛ لأنه أخبر الناس بما رآه بعينه ليلة المعراج، فكان ذلك فتنة لهم، حيث صدقه قوم، وكذبه قوم، ولم يخبرهم بأنه رأى ربه بعينه، وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة ذكر ذلك، ولو كان قد وقع ذلك لذكره كما ذكر ما دونه" ا. هـ (2) .
وبهذا تبين أن قول عائشة -رضي الله عنها- هو الراجح، الذي تؤيده الأدلة -والله أعلم-، وظاهره أن مرادها أنه -تعالى- لا يرى في الدنيا.
قوله: "وهو يقول: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} استدلت عائشة - رضي الله عنها - بظاهر الآية على نفي الرؤية، وقد قال بذلك بعض المفسرين، كما رواه ابن جرير بسنده، عن السدي، قال: "لا يراه شيء وهو يرى الخلائق" (3) .
وذكر ابن كثير ما رواه ابن أبي حاتم بسنده إلى إسماعيل ابن علية أنه قال: "هذا في الدنيا، وعن هشام بن عبيد الله نحوه" (4) .
وذكر السيوطي: أن الحسن قال مثل ذلك، قال: أخرجه أبو الشيخ، والبيهقي في كتاب: الرؤية (5) .
وبهذه الآية تعلق المعتزلة في نفي رؤية الله -تعالى- في الآخرة، ووجه ذلك أنه جعل متعلق الإدراك البصر، فلما نفاه عنه كان ظاهر ذلك نفي الرؤية. والحق ثبوت رؤية المؤمنين لله -تعالى- في الآخرة، كما تواترت النصوص في ذلك.
_________
(1) الآية 60 من سورة الإسراء.
(2) "مجموع الفتاوى" (6/580) .
(3) انظر: "تفسير الطبري" (7/301) قال السيوطي: أخرجه ابن أبي حاتم، "الدر المنثور" (3/335) .
(4) انظر: "تفسير ابن كثير" (3/303) .
(5) "الدر المنثور" (3/335) .(1/117)
والجواب عما استدلوا به: أن الرؤية ثبتت في آيات أخر، كقوله-تعالى-: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (1) ، وقوله: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (2) ، والأخبار بذلك ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل متواترة، كما سيأتي، إن شاء الله -تعالى-.
فيتعين أن المراد بالإدراك المنفي في الآية هو الإحاطة، وبذلك فسره ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره من السلف.
قوله: "ومن حدثك أنه يعلم الغيب فقد كذب، وهو يقول: "ولا يعلم الغيب إلا الله" الضمير في قوله: "إنه يعلم" يعود على محمد -صلى الله عليه وسلم - أي: من زعم أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- يعلم الغيب، فقد كذب، لأن علم الغيب يختص بالله -تعالى-، كما قال -تعالى- مخاطباً نبيه -صلى الله عليه وسلم - وأمراً له أن يقول: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} (3) ، والآيات في هذا كثيرة.
وعلم الغيب من خصائص الرب -تعالى- التي بعث رسله وأنزله كتبه لبيانها، ونفي ذلك عمن سواه -تعالى-.
وأما قول -تعالى-: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا {26} إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ) (4) ، فهي كقوله -تعالى-: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} (5) ، فهي تبين أن الله -تعالى يطلع من يشاء من رسله على ما يشاء من المغيبات، وذلك بوحيه إليهم، مثل إخباره عما جرى من الأمم الماضية، وما أصيبوا به من
_________
(1) الآية 22-23من سورة القيامة.
(2) الآية 15 من سورة المطففين.
(3) الآية 50 من سورة الأنعام.
(4) الآيتان 26-27 من سورة الجن.
(5) الآية 255 من سورة البقرة.(1/118)
العذاب وغيره، كما قال -تعالى-: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا} (1) ، وكذلك الإخبار عن المستقبل من المعاد، والجنة والنار، التي أطلع الله عليها رسوله فآمن بها المؤمنون، وعرفوها من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم - إجمالاً.
وأما الإحاطة بالمعلومات كلياتها وجزئياتها ما كان منها، وما يكون، فهذا إلى الله وحده لا يضاف إلى غيره من الخلق، فمن ادعى شيئاً من ذلك لغير الله -تعالى-، فقد أعظم الفرية على الله -تعالى-، وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم -.
"فعلم الغيب لله وحده، ولا يقال لغيره: عالم الغيب، ومن أطلع على شيء منه بواسطة الوحي أو غيره، يقال" أطلعه الله عليه، كالإخبار عن حال البرزخ، والحساب، والجنة والنار، وما أشبه ذلك، وما يدعيه المتصوفة في مشايخهم هو من تلاعب الشيطان بهم، وكذا ما يسمونه الكشوف لا أصل له"ا. هـ (2) .
"وقول الداودي: (ما أظن قوله: "من حدثك أن محمداً يعلم الغيب" محفوظاً، وما أحد يدعي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يعلم من الغيب إلا ما علمه الله تعالى) متعقب بأن بعض من لم يرسخ إيمانه يظن ذلك، حتى ظن بعضهم أن صحة النبوة تستلزم إطلاع النبي -صلى الله عليه وسلم - على جميع المغيبات، كما في مغازي ابن إسحاق، أن ناقة النبي -صلى الله عليه وسلم - ضلت، فقال ابن الصليب: يزعم محمد أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: "إن رجلاً يقول: كذا وكذا، إني والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في شعب كذا، قد حبستها شجرة، فذهبوا فجاؤوا بها " فأخبر -صلى الله عليه وسلم - أنه
_________
(1) الآية 49 من سورة هود.
(2) "غاية الأماني" بتصرف، (1/34) .(1/119)
لا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله" (1) .
قلت: قد ادعى كثير من المتصوفة والغلاة أن مشايخهم ومعبوديهم من دون الله -تعالى-، يعلمون الغيوب، وكتبهم مشحونة بذلك، مثل الطبقات الكبرى للشعراني، وجامع الأولياء للنبهاني، وغيرهما من الكتب الخرافية.
_________
(1) القسطلاني، ببعض التصرف (10/365) .(1/120)
قال: باب قول الله -تعالى-: {السَّلامُ الْمُؤْمِنُ} (1) .
أي أن ذلك من أسماء الله -تعالى- التي سمي بها نفسه، ومعناه: السالم من كل نقص وعيب. وسيأتي بيان ذلك.
"قال ابن بطال: غرضه بهذا الباب: إثبات اسمان من أسماء الله -تعالى-، قال الحافظ: وفيما ذكره نظر، ولو سلم له ذلك، فإن وظيفة الشارح بيان وجه تخصيص هذه الأسماء بالذكر (2) دون غيرها، وإفرادها بالترجمة، ويمكن أنه أراد بهذا القدر جميع الآيات الثلاث، في آخر سورة الحشر، فإنها ختمت بقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} وقد قال في سورة الأعراف: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (3) ، وكأنه رحمه الله -تعالى- بعد إثبات القدرة، والقوة، والعلم، أشار إلى أن الصفات السمعية ليست محصورة في عدد معين، بدليل الآية المذكورة. (4) .
أو أراد الإشارة إلى ذكر الأسماء التي تسمى الله -تعالى- بها، وأطلق بعد ذلك على المخلوقين، والسلام ثبت في القرآن (5) ، وفي الحديث "أنه من أسماء الله -تعالى".
_________
(1) الآية 23 من سورة الحشر.
(2) يعني أنه قصر في بيان وجه إيراد البخاري هذين الاسمين من بين الأسماء الأخرى.
(3) الآية 180 من سورة الأعراف.
(4) هي قوله تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ] {سورة الأعراف: آية 180] .
(5) كما في الآية المترجم بها.(1/121)
وقد أطلق على التحية الواقعة بين المؤمنين.
والمؤمن يطلق على من اتصف بالإيمان، وقد وقعا معاً من غير تخلل بينهما في الآية المشار إليها، فناسب أن يذكرهما في ترجمة واحدة " (1) ا. هـ.
قلت: ما ذكره من أن السلام أطلق على المخلوقين، كالتحية الواقعة بين المؤمنين، غير ظاهر؛ لأن السلام الذي جعل تحية للمؤمنين اسم من أسماء الله –تعالى-، كما رواه البخاري –رحمه الله تعالى- في "الأدب المفرد"، من حديث أنس، قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم -: "إن السلام اسم من أسماء الله –تعالى-، وضعه الله
في الأرض، فأفشوا السلام بينكم" (2) ، وإسناده صحيح، وترجم به البخاري في الصحيح فقال: {باب: السلام اسم من أسماء الله –تعالى-} (3)
وفي حديث عبد الله بن مسعود المتفق عليه: "إن الله هو السلام، فإذا جلس أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات لله ... " وسيذكره في الباب. وقال ابن عباس: "السلام اسم الله، وهو تحية أهل الجنة" أخرجه البيهقي في "الشعب" (4) .
ويدل على ذلك حديث المهاجر بن قنفذ، لما سلم على النبي –صلى الله عليه وسلم – لم يرد حتى توضأ، وقال: " إني أن أذكر الله إلا على طهر" رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه (5) .
قال الحافظ: صححه ابن خزيمة وغيره (6) .
_________
(1) "فتح الباري" (13/366) .
(2) "الأدب المفرد" (ص343) .
(3) انظر: "الفتح" (11/13) .
(4) انظر: "الفتح" (11/12) .
(5) انظر: "سنن أبي داود" (1/23) الحديث السابع عشر، النسائي (1/37) ، ابن ماجه رقم (350) .
(6) انظر: "الفتح" (11/13) .(1/122)
قال الخطابي: "وفيه دليل على أن السلام الذي يحيي به الناس بعضهم بعضاً اسم من أسماء الله –تعالى-" (1) .
وقد اختلف في معناه، فنقل عياض أن معناه: اسم الله، أي: كلاءته عليك وحفظه، كما يقال: الله معك ومصاحبك.
وقيل: معناه: أن اسم الله يذكر على الأعمال، توقعاً لاجتماع معاني الخيرات فيها، وانتفاء عوارض الفساد.
وقيل: معناه: السلامة، كما قال تعالى: {فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} (2) أن المسلم أعلم من سلم عليه أنه سالم منه، وألا خوف عليه منه (3) .
قلت: هذه المعاني متلازمة؛ لأنه إذا حصل حفظ الله لعبده وكلاءته، وكان معه، فقد حصل له الخير والبركة والسلامة.
قال ابن دقيق العيد: " السلام يطلق على معان، منها السلامة، ومنها التحية، ومنها أنه اسم من أسماء الله –تعالى-، قال: وقد يأتي بمعنى التحية محضاً، وقد يأتي بمعنى السلامة محضاً وقد يأتي متردداً بين المعنيين، كقوله –تعالى-.. (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم) (4) ، فإنه يحتمل التحية والسلامة، وقوله –تعالى-: {وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ {57} سَلامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} (5) (6) ا. هـ.
_________
(1) "معالم السنن على هامش السنن" (1/23) .
(2) الآية 91 من سورة الواقعة.
(3) "الفتح" (11/13) .
(4) في الآية قراءتان، في إحداهما: السلم، بمعنى الاستسلام والانقياد، أي استسلم وانقاد لطاعة الله وتوحيده، والأخرى: السلام، وفسرت بالتحية بأن يقول: السلام عليكم.
(5) الآيتان 57-58 من سورة يس.
(6) "الفتح" (11/13) .(1/123)
قلت: يمكن إرجاع هذه الإطلاقات إلى معنى واحد، إذ كلها في الحقيقة تدور على طلب السلامة، والخلاص من الشر والأذى، وهذا ما تضمنته التحية المشروعة بين المسلمين.
فالصواب: أن السلام أسم من أسماء الله –تعالى- كما تقدم، وقد أمر المسلمون أن يفشوه فيما بينهم، فعندما يلقي المسلم على أخيه ذلك، فإنه يذكر الله –تعالى-، طالباً منه السلامة، متوسلاً إليه بذكر اسمه- تعالى- المناسب لطلبه، فكأنه يقول: أنا مسالم لك أيها الأخ محب، وداع لك، وطالب حصول البركة والخير، والسلامة من كل مؤذ، ممن يملك ذلك، متوسلاً إليه في حصول ذلك باسمه السلام.
فتضمن ذلك ثلاثة أشياء:
أحدها: ذكر اسم الله –تعالى-.
الثاني: إعلام المسلم عليه: أنه مسالم له لا يناله منه أذى.
الثالث: طلب السلامة والخير له، وبهذا يظهر أن قول من قال: إنه يطلق على التحية بين المخلوقين، أنه لا يخالف كونه اسماً من أسماء الله، أي أنه ليس قسيماً له، بل التحية الواقعة بين المؤمنين هي ذكر اسم الله –تعالى-، المطلوب به حصول السلامة، وذلك أن السائل يسأل في كل مطلوب من الله بالاسم المناسب لمطلوبه،
كما يعلم ذلك عند تأمل الأدعية الواردة في كتاب الله –تعالى-، وفي أحاديث رسوله –صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم.
والصواب: أن مراد البخاري- رحمه الله تعالى- بهذه الترجمة: تنزيه الله –تعالى- عن مشابهة المخلوق، وأن اشتراكه – تعالى- مع المخلوق في الاسم، أو في معنى من المعاني، لا يكون فيه تشبيه، نحو اليد، والرجل، والاستواء، والمجيء، والضحك، والسخط، والعلم، والسمع، والبصر، وغير ذلك مما أثبته –تعالى- لنفسه، وأثبته له رسوله: لأنه –تعالى – السلام، أي: السالم من كل عيب ونقص يلحق المخلوق.(1/124)
"قال ابن قتيبة: سمى نفسه سلاماَ؛ لسلامته مما يلحق المخلوق من العيب والنقص والفناء، وقال الخطابي: معناه ذو السلام، والسلام في صفة الله تعالى هو: الذي سلم من كل عيب، وبرأ من كل آفة ونقص يلحق المخلوقين، وقد قيل: هو الذي سلم الخلق من ظلمه"ا. هـ (1) .
قلت: هذا القول الأخير لا يخالف الذي قبله، بل كلاهما يدخل في اسمه تعالى: السلام. قال ابن كثير: "السلام من جميع العيوب والنقائص، بكماله في ذاته وصفاته وفي أفعاله" (2) .
فالسلام من الكلمات الجامعة، وحقيقته: البراءة الخلاص والنجاة من الشر والعيوب، وعلى هذا المعنى تدور تصاريف هذا اللفظ، فمن ذلك: سلمك الله، وسلم فلان من الشر، ومنه دعاء الرسل على الصراط: "اللهم سلم سلم" وسلم الشيء لفلان، أي: خلص له وحده من ضرر الشركة فيه، قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ} (3) أي: خالصاً له وحده لا يملكه معه غيره. والسلم ضد الحرب، قال تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (4) ؛ لأن كل واحد من المتحاربين يسلم من أذى الآخر ويخلص منه، والقلب السليم هو:
النقي من الغل والدغل، الذي قد سلم لله وحده، فخلص من دغل الشرك وغله، ودغل الذنوب والمخالفات، فاستقام على حب الله وحسن معاملته، ولذلك ضمن له النجاة من عذابه، والفوز بكرامته.
_________
(1) "زاد المسير" (8/225) .
(2) "تفسير ابن كثير" (8/105) .
(3) الآية 29 من سورة الزمر.
(4) الآية 61 من سورة الأنفال.(1/125)
والإسلام أخذ من هذا المعنى، فإنه: الاستسلام لله والانقياد له، والتخلص من شوائب الشرك، والبدع المضلة.
والجنة دار السلام، أي: دار السلامة من كل آفة ونقص وشر، فإطلاق السلام على الله تعالى اسماً من أسمائه، أولى من هذا كله، وهو أحق بهذا الاسم من كل مسمى به؛ لسلامته تعالى من كل عيب ونقص من كل وجه، فهو –تعالى- السلام الحق بكل اعتبار، سلام في ذاته عن كل عيب ونقص يتخيله وهم.
وسلام في صفاته من كل عيب ونقص، وسلام في أفعاله من كل عيب ونقص وشر وظلم وفعل واقع على غير وجه الحكمة، فهو السلام الحق من كل وجه وبكل اعتبار، وهذا هو حقيقة التنزيه الذي نزه به نفسه، ونزهه به رسوله، فهو السلام من الصاحبة والولد، والسلام من النظير والكفء والسمي والمماثل، والسلام من الشريك.
ولهذا إذا نظرت إلى أفراد صفات كماله وجدت كل صفة سلاماً مما يضاد كمالها.
فحياته –تعالى- سلام من الموت والسنة والنوم، وقيوميته وقدرته سلام من الحاجة والتعب واللغوب، وعلمه سلام من عزوب شيء عنه أو عروض نسيان أو حاجة إلى تذكر أو تفكر، وإرادته –تعالى- سلام من خروجها عن الحكمة والمصلحة، وكلماته –تعالى- سلام من الكذب والخلف والظلم، بل تمت كلماته صدقاً وعدلاً، وغناه – تعالى – سلام من الحاجة إلى غيره في وجه من الوجوه، بل كل ما سواه فقير إليه محتاج، وملكه – تعالى – سلام من منازع فيه أو مشارك، أو معاون مظاهر، أو شافع عنده بدون إذنه، وإلهيته – تعالى – سلام من مشارك له فيها، بل هو الله الذي لا إله إلا هو، وحلمه، وعفوه، وصفحه، ومغفرته، وتجاوزه، سلام من أن تكون عن حاجة، أو ذل، أو مصانعة، كما يكون من غيره، بل هو محض جوده وإحسانه وكرمه.(1/126)
وكذلك عذابه، وانتقامه، وشده بطشه، وسرعة عقابه، سلام من أن يكون ظلماً، أو تشفياً، أو غلظة أو قسوة، بل هو محض حكمته وعدله، ووضعه الأشياء مواضعها، فهو يستحق عليه الحمد والثناء، كما يستحق على إحسانه ونعمه.
وقدره وقضاؤه سلام من العبث والجور والظلم.
وشرعه ودينه سلام من التناقض والاختلاف والاضطراب وعدم مصلحة العباد ورحمتهم" (1) .
وهكذا جميع صفاته وأفعاله سلام من كل ما يتوهمه معطل أو يتخيله مشبه، تعالى ربنا السلام عما يضاد كماله.
وأما ذكره "المؤمن" مع السلام فلبيان أن ما تسمى الله به، وأطلق على غيره من خلقه، فإنه لا يكون بينه وبين من أطلق عليه مشابهة، فالله – تعالى – سمى نفسه: المؤمن، ومن اتصف بالإيمان من عباده يسمى: مؤمناً، ولكن الله – تعالى – سالم من النقائص والعيوب التي تلزم الخلق؛ لأنه – تعالى – هو السلام.
وهكذا كل ما يطلق على غيره –تعالى- مما سمى به نفسه أو اتصف به، نحو العزيز، والكريم، والرؤوف، والرحيم، والسميع، والبصير، والعليم. وهو كثير.
فلله- تعالى- ما يليق به من المعاني الكاملة السالمة من النقائص والعيوب، وللمخلوق ما يناسبه ويليق بضعفه، فهو محل كل عيب ونقص. والله أعلم.
المؤمن من أسمائه – تعالى- وهو على أحد التفسيرين: المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم، فهو الذي صدق رسله وأنبياءه فيما بلغوا عنه، وشهد لهم بأنهم صادقون للدلائل التي دل بها على صدقهم – قضاء وخلقاً – فإنه – سبحانه- أخبر- وخبره الصدق وقوله الحق، أنه لابد أن يري
_________
(1) "بدائع الفوائد" ملخصاً (2/132-136)(1/127)
عباده من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغته رسله حق، كما قال –تعالى-: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (1) فشهد لرسوله أن ما جاء به حق، ووعده أن يري العباد من آياته الفعلية والخلقية: ما يشهد بذلك أيضاً، ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك وأجل، وهو شهادته- تعالى- على كل شيء، فإن من
أسمائه "الشهيد": الذي لا يغيب عنه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، بل هو مطلع على كل شيء وشاهد له، عليم بتفاصيله، وهذا استدلال بأسمائه وصفاته، والأول استدلال بقوله وكلماته، والاستدلال بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته " (2) .
وقال ابن الجوزي: "فأما المؤمن ففيه ستة أقوال:
أحدها: أنه الذي أمن الناس ظلمه، وأمن من آمن به عذابه.
الثاني: أنه المجيب.
الثالث: أنه الذي يصدق المؤمنين إذا وحدوه.
الرابع: أنه الذي وحد نفسه؛ لقوله –تعالى-: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} (3) .
الخامس: أنه الذي يصدق عباده وعده.
السادس: أنه الذي يصدق ظنون عباده المؤمنين؛ ولا يخيب آمالهم"أ. هـ (4) .
_________
(1) الآية 53 من سورة فصلت
(2) "مدارج السالكين" (3/466) .
(3) الآية 18 من سورة آل عمران.
(4) "زاد المسير" (8/225) .(1/128)
قلت: هذه الأقوال كلها حق، ويدل عليها اسمه –تعالى- "المؤمن" فهو المصدق الذي يصدق رسله بما يقيمه من الدلائل التي تدل على صدقهم فيما جاؤوا به وبلغوه عنه –تعالى-، ويصدقهم وعده بنصره إياهم على عدوهم، وبصدق عباده ما أخبرهم به من توفيتهم ما يستحقونه جزاء أعمالهم، ولا يضيع أجر أحد منهم ويؤمنهم من الظلم، فلا يخافون ظلماً ولا هضماً، فهو الذي يجير عباده وينجيهم من المهالك والمخاوف، وهو الذي شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم.(1/129)
11- قال: " حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا مغيرة، حدثنا شفيق بن سلمة قال: قال عبد الله: كنا نصلي خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- فنقول: السلام على الله، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: " إن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته، السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
عبد الله، هو عبد الله بن مسعود بن غافل، الهذلي، من أهل السوابق، هاجر قديماً إلى الحبشة، وقد شهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جميع غزواته، ولازمه، وخدمه، فكان يقال له: صاحب السواك، والنعل؛ لأنه كان يحمل سواك رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ونعله.
وفي "الصحيحين" أن أبا موسى قال: " قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حيناً وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لما نرى من كثرة دخولهم على رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ولزومهم له".
وقال حذيفة: " ما نعلم أحداً أقرب سمتاً ودلاً وهدياً برسول الله-صلى الله عليه وسلم- من عبد الله بن مسعود، ولقد علم المحظوظون من أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله وسيلة".
وهو من علماء الصحابة، وفقائهم، توفي في الكوفة، وقيل: في المدينة، سنة اثنتين- أو ثلاث - وثلاثين، وله بضع وستون وسنة ا. هـ. (1)
_________
(1) "الرياض المستطابة" ملخصاً، وانظر: " الإصابة" (4/233) ، و "تهذيب التهذيب" (6/27) ، و "سير أعلام النبلاء" (1/461) .(1/130)
قوله: "فنقول: السلام على الله"، كأنهم رأوا السلام من قبيل الحمد، والشكر، فجوزوا ثبوته لله - تعالى -، وهو تعالى السلام، والسلام منه بدأ وإليه يعود، إذ هو -تعالى- واهب السلام لعباده، الذي به يسلمون من شرور أنفسهم، وشرور أعدائهم من الجن والإنس، وهو -تعالى- السالم من كل ما فيه نقص أو شين، فلا يطلب له السلام، ولهذا قال معلم الهدى- صلى الله عليه وسلم-: " إن الله هو السلام" أي السالم من أن يلحقه حاجة، أو يناله تغير أو آفة، بل هو الكامل في أوصافه العليا، وأسمائه الحسنى، وهو الغني بذاته عن كل ما سواه.
وهذا الجزء من الحديث هو محل الشاهد الذي سيق من أجله؛ لأنه يدل على أن الله -تعالى- سالم من جميع العيوب والنواقص التي تلحق الخلق، فإذا سمى نفسه باسم قد يتسمى به بعض خلقه، أو وصف نفسه بصفة قد يتصف بها بعض خلقه، فالمعاني التي يدل عليها اسمه أو صفته تخصه- تعالى- لا يشاركه فيها المخلوق.
وكل نقص في المخلوق فهو -تعالى- سالم منه، ومتنزه عنه، كما تقدم، فهو السلام المؤمن.
قوله: " التحيات لله، قال في "اللسان": " التحيات لله" معناه" البقاء لله، والسلامة من الآفات كلها التي تلحق العباد من العناء، وأسباب الفناء" (1) .
وكذا قال غيره من أهل اللغة.
وجيء بلفظ الجمع ليدل على أن الله -تعالى- يستحق جميع الكمالات، من العظمة، والبقاء، والملك، والسلامة من الآفات والنقص، وغير ذلك.
قال الخطابي: " لم يكن في تحياتهم شيء يصلح به الثناء على الله -تعالى-،
_________
(1) "لسان العرب" (1/775) المرتب.(1/131)
فلهذا أبهمت ألفاظها، واستعمل منها معنى التعظيم، فقال: " قولوا: التحيات لله" أي: أنواع التعظيم له" ا. هـ. (1)
وقوله: " لله" يفيد وجوب الإخلاص في العبادة، أي أن ذلك لا يجوز أن يكون لغير الله منه شيء.
"والصلوات" أي جميع العبادات له استحقاقاً بمقتضى العقل، وبالشرع، وذلك مثل الركوع، والسجود، والقيام، والدعاء، وأنواع العبادة له وحده لا شريك له في ذلك.
"والطيبات" أي الأعمال الطيبات له - تعالى- يتوسل بها إليه، وهو -تعالى- لا يقبل إلا طيباً، "وما طاب من الكلام وحسن أن يثنى به على الله، دون ما لا يليق بصفاته" (2) ، والوصف بالطيب يفيد خلوصها من الشرك، وشوائبه، وسلامتها من البدع.
"السلام" اسم الله -تعالى- الدال على سلامته من كل نقص وعيب، فيدعى الله -تعالى- به؛ ليسلم من ذكر عليه هذا الاسم الشريف، من المكاره والمخاوف.
"عليك أيها النبي" أمرهم أن يفردوه بالسلام، ويقدموه على أنفسهم، لوجوب حقه عليهم، ووجوب محبته التي يجب أن تكون مقدمة على النفس، وما دونها.
والأحاديث متقفة على لفظ الخطاب، وذكر حرف النداء "عليك أيها النبي" وقد عدل بعض الصحابة بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- إلى لفظ خطاب الغائب فقالوا: "السلام على النبي" كما ذكره البخاري في الاستئذان (3) ، وابو عوانة في
_________
(1) "فتح الباري" (2/313) ولفظ الخطابي لما ذكر ألفاظ تحياتهم لمعظميهم قال: " وهذه الألفاظ ونحوها مما يتحيا به الناس فيما بينهم لا يصلح شيء منها للثناء على الله- عز وجل-، فتركت أعيان تلك الألفاظ، واستعمل منها معنى التعظيم، فقيل: قولوا: التحيات لله، أي الثناء على الله والتحميد وأنواع التعظيم له كما يستحقه ويجب له". "أعلام الحديث" (2/545) .
(2) المصدر نفسه.
(3) انظر: "الفتح" (11/56) .(1/132)
مسنده (1) ، وغيرهما.
وقال عبد الرزاق: " عن ابن جريج، عن عطاء: أن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كانوا يسلمون والنبي-صلى الله عليه وسلم- حي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فلما مات قالوا: السلام على النبي ورحمة الله وبركاته" (2) .
وبهذا السند أيضاً: " سمعت ابن عباس، وابن الزبير، يقولان في التشهد في الصلاة: التحيات المباركات لله، الصلوات الطيبات لله، السلام على النبي ورحمة الله وبركاته" (3) .
والأولى: اتباع لفظ الحديث كما عليه الجمهور من الصحابة، ومن بعدهم من أهل العلم، وكما أنه لا فرق بين الحاضر معه في وقت حياته، وبين من كان غائباً، فكذلك بعد وفاته.
والنداء لطلب استحضار المنادي في القلب، فيخاطبه كأنه شاهد في قلبه، ومثل هذا معروف في كلام العرب، وأشعارهم، يخاطب أحدهم من يتصوره في نفسه، وإن لم يكن في الخارج من يسمع خطابه، قال حسان بن ثابت- رضي الله عنه- في رثائه لرسول الله-صلى الله عليه وسلم-:
ما بال عينك لا تنام كأنها ... كحلت مآقيها بكحل الأرمد
جزعاً على المهدي أصبح ثاوياً ... يا خير من وطيء الحصى لا تبعد
وجهي يقيك لهفي ليتني ... غيبت قبلك في بقيع الغرقد
أأقيم بعدك بالمدينة بينهم ... يا ليتني صبحت سم الأسود (4)
_________
(1) انظر: " مسند أبي عوانة" (ص229) .
(2) انظر: " المصنف" (2/204) .
(3) المصدر نفسه، (ص203) .
(4) انظر: " ديوان حسان" (ص97) .(1/133)
وقال امرؤ القيس:
يا أيها الساعي ليدرك مجدنا ... ثكلتك أمك هل ترد قتيلاً (1)
وقالت الخنساء في أخيها صخر:
ألا يا صخر إن أبكيت عين ... لقد أضحكتني دهراً طويلاً
ي
بكيتك في نساء معولات ... وكنت أحق من أبدى العويلا
دفعت بك الجليل وأنت حي ... فمن ذا يدفع الخطب الجليلا
إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا (2)
وهذا كثير جدا، ولا يحتاج إلى ذكر الشواهد عليه؛ لشهرته، وبهذا وأمثاله يتبين ضلال المغرورين الذين يستغيثون بالأنبياء، والأولياء، ويتعلقون بشبه واهية، مثل استدلالهم بلفظ النداء، والخطاب المذكور في هذا الحديث، على حضور النبي -صلى الله عليه وسلم- عند كل من يناديه، ويخاطبه؛ ولذلك جوزوا التوجه إليه، ومناداته، في كل ملمة، فضلوا بذلك وأضلوا كثيراً.
مع أن هذه الصيغة هي التي كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يقولها في تشهده والأمة تبع له، تقول مثل ما كان يقول، كما في شرح الآثر للطحاوي بسنده إلى عبد الله بن الزبير، قال: " إن تشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يتشهد به: بسم الله، وبالله، خير الأسماء، التحيات، الطيبات، الصلوات لله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً، ونذيراً، وأن
الساعة آتية لا ريب فيها، السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، اللهم اغفر لي
_________
(1) انظر: " ديوان امرؤ القيس" (ص178) .
(2) انظر: " ديوان الخنساء" (ص120)(1/134)
واهدني" ا. هـ. (1)
وهو أيضاً عند البزار (2) .
قال الحافظ: " فإن قيل: لم عدل عن الوصف بالرسالة إلى الوصف بالنبوة، مع أن الوصف بالرسالة أعم في حق البشر؟
أجاب بعضهم: بأن الحكمة فيه أن يجمع له الوصفين؛ لأنه وصفه بالرسالة في آخر التشهد، وإن كانت الرسالة تستلزم النبوة، لكن الجمع بينهما أبلغ" (3) ، ولأنها وجدت في الخارج مقدمة على الرسالة في الوحي كما في قوله -تعالى-: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (4) .
_________
(1) "شرح معاني الآثار" (1/265) .
(2) انظر: " كشف الأستار" (1/272) .
(3) انظر: " الفتح" (2/314) .
(4) الآية 1 من سورة العلق.(1/135)
قال: "باب قول الله -تعالى-: {مَلِكِ النَّاسِ} فيه ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ".
الملك هو: المتصرف بالأشياء حسب إرادته، ومشيئته، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه.
وخص الناس؛ لأنهم الذين يملكون بعض الأشياء، وفيهم ملوك فهو- تعالى- ملك من يملك، وملك الملوك، فدخل غيرهم في المعنى، وملكه - تعالى - دائم لا يزول.
قال الطبري: أخبر أنه ملك الناس "وهو ملك جميع الخلق، إنسهم وجنهم وغير ذلك، إعلاماً منه بذلك من كان يعظم الناس تعظيم المؤمنين ربهم، أنه ملك من يعظمه، وأن ذلك في ملكه وسلطانه، تجري عليه قدرته، وأنه أولى بالتعظيم، وأحق بالتعبد له ممن يعظمه، وتعبد له من الناس" ا. هـ. (1)
قال الراغب: " الملك هو: المتصرف بالأمر والنهي" (2) .
وقال الزجاج: " قال أصحاب المعاني: الملك: النافذ الأمر في ملكه، إذ ليس كل مالك ينفذ أمره وتصرفه فيما يملكه، فالملك أعم من المالك، والله -تعالى- مالك المالكين كلهم، إنما استفادوا التصرف في أملاكهم من جهته -تعالى-" (3) .
_________
(1) "تفسير الطبري" (30/354) .
(2) "المفردات" (ص472) .
(3) "تفسير الأسماء الحسنى" (ص30) .(1/137)
وقال الطبري: " ولا خلاف بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب أن الملك من الملك مشتق؛ وأن المالك من الملك (1) مأخوذ، فتأويل قراءة من قرأ "مالك يوم الدين" أن لله الملك يوم الدين خالصاً؛ دون جميع خلقه الذين كانوا قبل ذلك في الدنيا ملوكاً جبابرة، ينازعونه الملك، ويدافعونه الانفراد بالكبرياء والعظمة والسلطان والجبرية، فأيقنوا بلقاء الله يوم الدين أنهم الصغرة الأذلة، وأن له - دونهم ودون غيرهم - الملك والكبرياء، والعزة والبهاء، كما قال- جل ذكره
وتقدست أسماؤه -: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (2) ، فأخبر - تعالى ذكره- أنه المنفرد يومئذ بالملك، دون ملوك الدنيا، الذين صاروا يوم الدين من ملكهم إلى ذلة وصغار، ومن دنياهم في معادهم إلى خسار" (3) .
قوله: " فيه ابن عمر" أي يدخل في هذا الباب حديث ابن عمر، وهو كحديث أبي هريرة المذكور في هذا الباب سواء، وسيأتي إن شاء الله - تعالى-.
_________
(1) الأول بضم اليم والثاني بكسرها.
(2) الآية 16 من سورة غافر.
(3) "تفسير الطبري" (1/148-149) .(1/138)
12-قال: " حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد- هو ابن المسيب- عن أبي هريرة - رضي الله عنه- عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: " يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ ".
أبو هريرة عرف بكنيته، واختلف في اسمه واسم أبيه اختلافاً كثيراً، وصحح البخاري والنووي وغيرهما من الحفاظ أن اسمه عبد الرحمن بن صخر.
قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- مسلماً وهو يقسم غنائم خيبر، ثم لازم رسول الله-صلى الله عليه وسلم- حضراً وسفراً، فلم يشغله عن ملازمته أهل ولا مال.
وهو أحفظ الصحابة، بل أحفظ الأمة، ولهذا صار هدفاً لأهل الإلحاد بسبب كثرة ما يغضبهم من مروياته.
قال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث دهراً. (1)
جاء في "صحيح مسلم" في قصة إسلام أمه، أنه قال: " قلت: يا رسول الله، ادع الله أن يحببني الله أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويحببهم إلينا؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: اللهم حبب عبدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهما المؤمنين".
قال أبو هريرة: " فما خلق الله مؤمناً يسمع بي، ولا يراني، إلا أحبني" (2) .
ولهذا صار حبه علامة الإيمان، وبغضه علامة النفاق والكفر.
_________
(1) انظر: " تهذيب الأسماء واللغات" (1/270) .
(2) "صحيح مسلم" (4/1939) .(1/139)
توفي- رضي الله عنه- في المدينة، وقيل: بالعقيق، سنة سبع- أو تسع - وخمسين عن ثمان وسبعين سنة. (1)
قوله: " يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه"، القبض هو: أخذ الشيء باليد وجمعه، والطي هو ملاقاة الشيء بعضه على بعض، وجمعه - ولفه- وهو قريب من القبض، وهذا من صفات الله -تعالى- الفعلية - التي تتعلق
بمشيئته وإرادته، وهي ثابتة بآيات كثيرة وأحاديث صحيحة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي مما يجب الإيمان به؛ لأن ذلك داخل في الإيمان بالله - تعالى-، ويحرم تأويلها المخرج لمعانيها عن ظاهرها، وقد دل على ثبوتها لله -تعالى - العقل أيضاً، فإنه لا يمكن لمن نفاها إثبات أن الله هو الخالق لهذا الكون المشاهد، لأن الفعل لا بد له من فاعل، والفاعل لا بد له من فعل، وليس هناك فعل معقول إلا ما قام بالفاعل، سواءً كان لازماً كالنزول والمجيء، أو متعدياً كالقبض والطي، فحدوث ما يحدثه - تعالى - من المخلوقات تابع لما يفعله من أفعاله الاختيارية القائمة به - تعالى -.
وهو -تعالى- حي قيوم، فعال لما يريد، فمن أنكر قيام الأفعال الاختيارية به - تعالى- (2) فإن معنى ذلك أنه ينكر خلقه لهذا العالم المشاهد، وغير المشاهد، وينكر قوله: إنه على كل شيء قدير، فالعقل دل على ما جاء به الشرع. (3)
وما صرح به في هذا الحديث من القبض والطي، قد جاء صريحاً أيضاً في كتاب الله -تعالى-، كما قال -تعالى-: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (4)
_________
(1) انظر: " الإصابة" (7/425) ، "سير أعلام النبلاء" (2/578) ، "الاستيعاب" (4/1768) ، "أسد الغابة" (6/318) وغيرها.
(2) قلنا: الاختيارية؛ لأنها تقع باختياره -تعالى- وإرادته ومشيئته.
(3) أنصح القارئ بالرجوع في هذه المسألة العظيمة: إلى كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، كدرء تعارض العقل والنقل والرسالة الكمالية، وغيرهما من كتبه.
(4) الآية 67 من سورة الزمر.(1/140)
والأحاديث والآثار عن السلف في صريح الآية، والحديث المذكور في الباب، كثيرة وظاهرة جلية، لا تحتمل تأويلاً ولا تحتاج إلى تفسير، ولهذا صار تأويلها تحريفاً وإلحاداً فيها، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - ذكر ما تيسر من ذلك في باب قوله - تعالى-: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} .
وقوله: " ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ " أي: أنه -تعالى- ينفرد بالملك، فهو الملك حقاً الذي لا منازع له، ولا معاون، ولا ظهير، ولا شريك، وفي ذلك اليوم، عندما يقبض الأرض بيده، ويطوي السماوات بيمينه، ويصبح كل شيء في قبضته، ينادي الذين كانوا ينازعونه في الدنيا ملكه، ويتعدون على سلطانه، من المتكبرين، والمتجبرين، من ملوك الدنيا، وقد انفرد مالك الملك الواحد القهار، ذي
السلطان - وهو منفرد به في كل آن، غير أنه في ذلك اليوم ينكشف جلياً - فيناديهم بما يتضمن توبيخهم وتهديدهم: أين ملوك الدنيا؟ فهل يستطيعون منعاً أو رداً؟ وهل لديهم قوة أو حيلة أو فدى؟ لقد ذهب منهم كل شيء، وبقيت التبعات والذل والحسرات.
قال بعض شراح البخاري: " قوله: {مَلِكِ النَّاسِ} داخل في معنى التحيات لله، أي: الملك لله، وكأنه -صلى الله عليه وسلم- أمرهم بأن يقولوا التحيات، امتثالاً لأمر {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس {1} مَلِكِ النَّاسِ} ".
ثم قال: " وفي الحديث إثبات اليمين صفة لله - تعالى -، من صفات الذات، وليست جارحة خلافاً للمجسمة" (1) .
قلت: قوله: " وليست جارحة" من كلام أهل البدع، الذين عدلوا عما جاء في الكتاب والسنة من الألفاظ إلى ما ابتدعوه من الألفاظ الموهمة للنقص -تعالى الله-، توهماً منهم أن تلك الألفاظ الواردة في كتاب الله، وسنة رسوله،
_________
(1) "فتح الباري" (13/368) .(1/141)
يتضمن ظاهرها التشبيه لصفات الخلق، وهذا من ظن السوء بالله وبكتابه وبرسوله، الذي أرداهم فضلوا سواء السبيل، وأضلوا كثيراً من عباد الله.
وقوله: "خلافاً للمجسمة" يقال له: من هم المجسمة الذين تقصدهم؟ وهل تستطيع أن تعين طائفة تؤمن بكتاب الله وسنة رسوله تقول: إن يمين الله جارحة؟ أو أن الله جسم؟ (1) فهؤلاء لا وجود لهم، ولكن مراده: الذين آمنوا بمثل هذا النص على ظاهره، وقالوا: إن لله يدين حقيقتين بدون تأويل، كما هو الواجب على المسلم؛ لأنه صريح النصوص، وأيقنوا أن تأويل اليد واليمين، ونحوها من صفات الله، بالقوة، أو القدرة، أو النعمة، أو ما أشبه ذلك، تحريف كتحريف اليهود الذين حرفوا الكلم عن مواضعه.
فهذا الشارح ومن على نهجه إلى اليوم يسمون هؤلاء مجسمة، ظناً منهم أن من أثبت هذه الصفات على ظاهرها، لزمه أن يكون مجسماً لربه، ومشبهاً له بأجسام الخلق، تعالى الله أن يكون له مثل أو شبيه.
قال شيخ الإسلام: "وليس هناك من أطلق لفظ الجسم، لكن نفاة الصفات يسمون كل من أثبتها مجسماً، بطريق اللزوم، إذ كانوا يقولون: إن الصفات لا تقوم إلا بالجسم، وذلك أنهم اصطلحوا في معنى الجسم على غير المعنى المعروف في اللغة، فإن الجسم في اللغة هو البدن، وهم يسمون كل ما يشار إليه جسماً، فيلزم على قولهم أن كل ما جاء به الكتاب والسنة وما فطر الله عليه عباده، وما {عليه} سلف الأمة، وأئمتها، تجسيماً، فهم يطلقون لفظ المجسمة والمشبهة، على أتباع السلف" (2) .
_________
(1) الذين نسبوا إلى التجسيم وذكرهم أصحاب المقالات بأسمائهم: هشام بن الحكم، وهشام ابن سالم الجواليقي، ومقاتل بن سليمان، وداود الجواربي، وكلهم رافضة، ما عدا مقاتل بن سليمان فإنه لم يثبت أنه قال بالتجسيم، وليس هو من الرافضة.
(2) "بيان تلبيس الجهمية" (1/626) .(1/142)
وقال: " لفظ الجسم لم يتكلم به أحد من الأئمة والسلف، في حق الله - تعالى - لا نفياً ولا إثباتاً، ولا ذموا أحداً ولا مدحوه بهذا الاسم، ولا ذموا مذهباً ولا مدحوه بهذا الاسم، وإنما تواتر عنهم ذم الجهمية، الذين ينفون الصفات، وذموا طوائف منهم، مثل المشبهة، وبينوا مرادهم بالمشبهة" (1) .
قال الحافظ: " الذي يظهر لي أنه أشار {بهذه الترجمة} إلى ما قاله شيخه نعيم بن حماد: " يقال للجهمية: أخبرونا عن قول الله -تعالى- بعد فناء خلقه، {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} فلا يجيبه أحد، فيرد على نفسه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} وذلك بعد انقطاع ألفاظ خلقه بموتهم، أفهذا مخلوق؟ " (2)
قلت: يظهر لي أن مراده بهذا الباب كالباب الذي قبله، أن هذا الاسم الكريم (الملك) من أسماء الله الحسنى، وقد أطلق على بعض خلقه، ولم يكن في ذلك
تشبيه، إذ المعنى الذي يختص به الله -تعالى- لا يشاركه فيه أحد من خلقه، فهو مالك الملك، وله الملك التام المطلق، وهو الذي يهب للمخلوق الملك، مع أن ملك المخلوق ناقص يناسب نقصه، قال -تعالى-: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3) .
وأما التوفيق بين الحديث، والترجمة فظاهر، وهو أن الناس الذين يوجد
_________
(1) نفس المصدر (1/47) ، ومراد السلف بالمشبهة: الذين يمثلون صفاته تعالى بصفات خلقه، نحو اليد والوجه، فيجعلون يده تعالى كيد المخلوق، ووجهه كوجه المخلوق، تعالى الله عن ذلك.
(2) "الفتح" (13/368) .
(3) الآية 26 من سورة آل عمران.(1/143)
منهم الملوك والجبابرة، والذين يذل لهم ويخضع بعض العباد، وقد يصرفون لهم ما هو خالص حق الله من العبادة، هؤلاء ملك له، تحت قهره، آخذ بنواصيهم، يتصرف فيهم كيف يشاء، ويظهر ذلك جلياً لكل أحد، يوم يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه، ويقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ فيعرف قدرهم وقدر ملكهم الذي أورثهم الذل والصغار، والله أعلم.(1/144)
قال: " باب قول الله -تعالى-: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) ، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (2) ، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} (3) ، ومن حلف بعزة الله، وصفاته".
{العزيز} هو الذي له العزة التامة، والقوة الكاملة، فلا يعجزه شيء، القاهر لكل شيء فلا يمتنع من قوته شيء، المنيع الذي لا ينال ولا يغالب.
"فالعزة تتضمن القوة، ولله القوة جميعاً، يقال: عز يعز - بفتح العين- إذا اشتد وقوى، ومنه الأرض العزاز - الصلبة الشديدة - ويعز يعز - بكسر العين- إذا امتنع ممن يرومه، ويعز يعز - بضم العين - إذا غلب وقهر.
فأعطوا أقوى الحركات - وهي الضمة- لأقوى المعاني، وهو الغلبة والقهر للغير، وأضعفها - وهي الفتحة - لأضعف هذه المعاني، وهو كون الشيء في نفسه صلباً، والحركة المتوسطة - وهي الكسرة - للمعنى المتوسط، وهو القوي الممتنع عن غيره، ولا يلزم منه أن يقهر غيره، ويغلبه.
_________
(1) الآية 4 من سورة إبراهيم، والآية 60 من سورة النحل، والآية 26، 42 من سورة العنكبوت أيضاً، والآية 27 من سورة الروم، والآية 9 من سورة لقمان، والآية الثانية من سورة فاطر، والآية الأولى من سورة الحديد، والآية الأولى من سورة الحشر، والأخيرة منها، والآية الأولى من سورة الصف، والآية الثالثة من سورة الجمعة.
(2) الآية 180 من سورة الصافات.
(3) الآية 8 من سورة المنافقون.(1/145)
والعز ضد الذل، والذل أصله الضعف والعجز، فالعز يقتضي كمال القدرة، ولهذا يوصف به المؤمن، ولا يكون ذماً له، بخلاف الكبر.
قال رجل للحسن البصري: إنك متكبر، فقال: " لست بمتكبر، ولكني عزيز".
وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (1) .
وقال ابن مسعود: " ما زلنا أعزة، منذ أسلم عمر" (2) .
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- " اللهم أعز الإسلام بأحد هذين الرجلين، عمر بن الخطاب، أو أبي جهل بن هشام" (3) .
وفي بعض الآثار: " إن الناس يطلبون العزة في أبواب الملوك، ولا يجدونها إلا في طاعة الله - عز وجل - ".
وفي الحديث: " اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك".
وقال بعضهم: " من أراد عزاً بلا سلطان، وكثرة بلا عشيرة، وغنى بلا مال، فلينتقل من ذل المعصية إلى عز الطاعة".
فالعزة من جنس القوة" اهـ (4) .
قال الحافظ: " العزيز الذي يقهر ولا يقهر، فإن العزة التي لله -تعالى- هي الدائمة الباقية وهي العزة الحقيقية الممدوحة، وقد تستعار العزة للحمية والأنفة، فيوصف بها الكافر والفاسق، وهي صفة مذمومة، ومنه قوله -تعالى-: {أخذته العزة بالإثم} (5) ، وأما قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ
_________
(1) الآية 8 من سورة المنافقون.
(2) رواه البخاري وغيره، انظر: " الفتح" (7/41) .
(3) قال الهيثمي: رواه الطبراني في "الكبير" و "الأوسط"، انظر: "مجمع الزوائد" (9/61) .
(4) "طريق الهجرتين" (ص109)
(5) الآية 206 من سورة البقرة.(1/146)
الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (1) ، فمعناه: من كان يريد أن يعز، فليكتسب العزة من الله، فإنها لا تنال إلا بطاعته، ومن ثم أثبتها لرسوله وللمؤمنين، فقال -تعالى-: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} (2) ، وقد ترد العزة بمعنى الصعوبة، كقوله -تعالى-: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} (3) ، وبمعنى الغلبة ومنه {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} (4) ، وبمعنى القلة: كقولهم: شاة عزوز، إذا قل لبنها، وبمعنى الامتناع، ومنه قولهم: أرض عزاز، بفتح أوله مخففا" ا. هـ (5) .
{الحكيم} هو الذي يضع الأشياء مواضعها التي يحسن أن توضع فيها، ولا يدخل تدبيره خلل ولا زلل، وهذا من أسمائه -تعالى- الحسنى التي كثر ذكرها، في القرآن، وما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو -تعالى- موصوف بالحكمة، وقد دل على ذلك شرعه -تعالى- وخلقه، فمن الضلال إنكار ذلك، وكفى بالمرء ضلالاً أن ينفي عن الله -تعالى- ما وصف به نفسه، ووصفه به رسله.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ} " أصل التسبيح عند العرب: التنزيه لله عن إضافة ما ليس من صفاته إليه، والتبري من ذلك، كما قال أعشى بني ثعلبة:
أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر
أي: سبحان الله من فخر علقمة، أي تنزيها لله مما أتي علقمة من الافتخار على وجه التكبر منه لذلك" (6) .
_________
(1) الآية 10 من سورة فاطر.
(2) الآية 8 من سورة المنافقين.
(3) الآية 128 من سورة التوبة.
(4) الآية 23 من سورة ص.
(5) "الفتح" (13/369) وذكر أن هذا كلام الراغب، ولكن الحافظ تصرف فيه وغير وزاد ونقص، ولهذا أضفته إليه.
(6) ابن جرير الطبري في "تفسيره" (1/211) .(1/147)
وقال أيضاً: " وسبحان: اسم مصدر، لا تصرف له، ومعناه: نسبحك" (1) .
وفي "تاج العروس": " وسبحانه: تنزيها لله عن كل ما لا ينبغي أن يوصف به، قال الزجاج: سبحان في اللغة: تنزيها لله - عز وجل - عن السوء" (2) .
فالتسبيح: تنزيه الله - تعالى- عما لا يليق بعظمته، مأخوذ من السبح، وهو الإبعاد والسرعة في السير، يقال: فرس سبوح، إذا كانت تسرع في السبح الذي هو السير والجري، ومنه قوله -تعالى-: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} فسرت بالخيل، وبالسفن، وبالنجوم، وكلها تسبح وتبعد في سبحها.
وقوله {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} أي ذي العزة وصاحبها، فرب هنا بمعنى ذي وصاحب، والعزة صفته، فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، وأخذ اسمه تعالى "العزيز" منها.
وقوله: {عَمَّا يَصِفُونَ} أي: تنزيها وتقديساً لذي العزة التي لا ترام، عن الذي يصفه به المشركون، من أن له صاحبة أو ولداً، أو شريكاً، أو ولياً من الذل، أو أن أحداً يشفع عنده بدون إذنه، أو أن أحداً يتصرف في ملكه بدون إرادته ومشيئته.
وتنزيهاً لذي العزة التي غلب بها كل شيء عما يقوله المعطلون لصفاته، حيث أنكروها أو أولوها تأويلاً يؤول إلى إنكارها، وتنزيهاً له -تعالى- عما يقوله المحرفون الملحدون في صفاته الظانون بالله ظن السوء، حيث توهموا أن اتصافه -تعالى- بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم - يقتضي التشبيه، فحرفوا صفاته عما أراده بناء على أوهامهم الباطلة.
_________
(1) المصدر نفسه (1/221) .
(2) "تاج العروس" (2/156) .(1/148)
وقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} أي: لله القوة والغلبة والقهر.
والعزة من صفات ذاته -تعالى- التي لا تنفك عنه، بعزته وقهر بها كل شيء، وكل عزة حصلت لخلقه فهي منه، وكل من كان إليه أقرب وله أطوع كانت عزته أتم وأكمل من غيره، ولهذا قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وسبب نزول هذه الآية الكريمة قول رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول الذي ذكره الله عنه: {لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} (1) ، كما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما (2) ، يقصد بالأعز: نفسه وذويه، وبالأذل: رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
وقوله: "ومن حلف بعزة الله وصفاته". وصفاته: من عطف العام على الخاص، ومراده: أنه قد ثبتت النصوص بالحلف بعزة الله وبصفاته، نحو كلماته، وقد تقرر في دين الإسلام، أنه لا يحلف بغير الله -تعالى- وأن الحلف بغيره شرك كما صح عن الرسول -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من حلف بغير الله، فقد كفر أو أشرك" (3) وعند أبي داود، "من حلف بغير الله فقد أشرك" (4) .
وعنده أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون" (5) .
_________
(1) الآية 8 من سورة المنافقون.
(2) انظر: البخاري مع"الفتح" (8/644) ، و"مسلم" (4/1998) .
(3) رواه الترمذي وقال: حسن، انظر: الترمذي مع "تحفة الأحوذي" (2/371) .
(4) "السنن" (3/570) ، ورواه أحمد في "مسنده" (2/34) .
(5) "السنن" (3/569) .(1/149)
وفي"الصحيحين" عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب، يحلف بأبيه، فقال: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً بالله أو ليصمت" (1) .
وبهذا يتبين أن الحلف بقدرة الله وعزته وسائر صفاته، أنه كالحلف به-تعالى-، وأن صفاته ليست مخلوقة؛ لأنه لا يجوز الحلف بالمخلوق، ولا منفصلة عنه-تعالى-.
وبهذا يظهر مراد البخاري -رحمه الله- بهذا الباب وهو إثبات الصفات لله -تعالى-، والرد على من أنكرها كالمعتزلة، ومن تابعهم، وقد تقدم الكلام في ذلك.
قال الحافظ: "والذي يظهر أن مراد البخاري بالترجمة: إثبات العزة لله، راداً على من قال: إنه عزيز بلا عزة، كما قالوا: العليم بلا علم" (2) .
قلت: لا يقصد إثبات العزة بخصوصها، بل مع سائر الصفات كما هو ظاهر.
قوله: "وقال أنس: عن النبي -صلى الله عليه وسلم -: "تقول جهنم: قط قط وعزتك".
وقال أبو هريرة: عن النبي -صلى الله عليه وسلم -: يبقى رجل بين الجنة والنار، وهو آخر أهل النار دخولاً الجنة، فيقول: رب أصرف وجهي عن النار، لا أسألك غيرها".
قال أبو سعيد: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: "قال الله -عز وجل-: "لك ذلك وعشرة أمثاله".
وقال أيوب: "وعزتك، لا غنى بي عن بركتك".
هذه المعلقات قد رواها موصولة، فحديث أنس سيذكره في هذا الباب
_________
(1) انظر: "البخاري مع الفتح" (11/530) ، و"مسلم" (4/1239) .
(2) "الفتح" (13/370) .(1/150)
موصولاً، وحديث أبي هريرة يأتي كذلك، وقد تقدم أيضاً في الرقاق، وقول أيوب عليه السلام قد رواه في الوضوء، وفي أحاديث الأنبياء.
والمراد من هذه الأحاديث هنا ظاهر، إذ فيها الحلف بعزة الله-تعالى- ولا يحلف إلا بالله أو بصفاته، ولكن حديث أبي هريرة لم يذكر محل الشاهد منه، وإنما أشار إليه، وهو قول الرجل يخاطب رب العالمين: "وعزتك، لا أسألك غيرها".(1/151)
13- قال: "حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا حسين المعلم، حدثني عبد الله بن بريدة، عن يحيي بن يعمر، عن ابن عباس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم - كان يقول: " أعوذ بعزتك، الذي لا إله إلا أنت، الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون".
قوله: "كان يقول" يدل على أنه سمع ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم - مراراً، لما يفهم من لفظة "كان".
وقوله: "أعوذ بعزتك" أعوذ: هو الالتجاء والاعتصام، وحقيقته: الهرب من المخوف إلى المجير العاصم، فالعائذ بالله -تعالى- قد هرب مما يخافه ويؤذيه، أو يهلكه، إلى ربه ومالكه العزيز الذي لا يغالب، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويجير من احتمى به.
فالاستعاذة هي: الالتجاء إلى الله، والاحتماء من شر كل ذي شر، والعوذ يكون لدفع الشر، واللوذ يكون لطلب الخير، كما قال بعض الشعراء:
يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به فيما أحاذره
وعزة الله -تعالى- صفته، كما تقدم، فالنبي -صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق بالله وأتقاهم له -يتعوذ بصفاته تعالى؛ لأن ذلك من عبادة الله، بل هو من أفضلها، امتثالاً لقوله -تعالى-: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} . ومثل الاستعاذة بصفات الله -تعالى- الحلف بها، كما مر قريباً.
وقوله: "الذي لا إله إلا أنت" أي أنت الإله الحق، الذي تجب عبادته على عباده، وكل تأله لغيره فهو ضلال، يوجب الشقاء الأبدي، والخلود في النار، فلذلك لا أتوجه بتألهي إلا إليك يا رب، فلا إله لي غيرك، فبك أعوذ، وإليك ألوذ.(1/152)
"الذي لا يموت" أي فأنت -يا إلهي- الحي القيوم، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، لا مبدأ لوجودك ولا منتهى لبقائك، وأنت الغني بذاتك عن كل ما سواك، والخلق كلهم فقراء إليك، وكانوا عدما قبل إيجادك إياهم، وهم عرضة للأمراض، والآفات والتغيرات والفناء، وأنت يا رب الباقي وحدك، والخلق كلهم يموتون، فلا رب سواك يتصرف بالخلق كيف يشاء، ويغير ولا يتغير، -جل وعلا-.
قوله: "والجن والإنس يموتون" المقصود بذكر الجن والإنس: جنس الخلق، والمعنى: أن الخلق كلهم يموتون، ولا يبقى إلا الحي القيوم، كما قال-تعالى-:
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ {26} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (1) ، وسمى الجن جناً لاستتارهم عن أعين الناس، من الاجتنان، كما قال-تعالى-: {يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} (2) ، وأما الإنس فسموا بذلك لأن بعضهم يأنس ببعض غالباً، أو أنهم يرون ويأنسون، أي يحس بهم ويشاهدون، وذكر الجن والإنس لا ينفي عن الملائكة الموت؛ لأن هذا خاص قصد به الجن والإنس، أو على ما تقدم ذكر الجنس، والمقصود عموم الخلق. وقد جاء ما يدل على هلاك عموم الخلق كقوله-تعالى-: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} (3) .
وقد قيل: إن الملائكة يدخلون في الجن؛ لاجتنانهم واستتارهم عن أعين الناس، والله أعلم.
_________
(1) الآيتان 26، 27من سورة الرحمن.
(2) الآية 27 من سورة الأعراف.
(3) الآية الأخيرة من سورة القصص.(1/153)
14- قال: "حدثنا ابن أبي الأسود، حدثنا حرمي، حدثنا شعبة، عن قتادة عن أنس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: "يلقى في النار ... " ح
وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس، ح.
وعن معتمر، سمعت أبي، عن قتادة، عن أنس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: لا يزال يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها رب العالمين قدمه فينزوي بعضها إلى بعض، ثم تقول: قد قد، بعزتك وكرمك، ولا تزال الجنة تفضل حتى ينشئ الله لها خلقاً، فيسكنهم فضل الجنة".
أنس هو ابن مالك بن النضير بن ضمضم، الأنصاري، الخزرجي، خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وأحد المكثرين من الرواية عنه؛ قدم النبي -صلى الله عليه وسلم - المدينة وهو ابن عشر سنين، فأتت به أمه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وعرضت عليه أن يخدمه، فقبل ذلك النبي-صلى الله عليه وسلم - فلازم النبي في السفر والحضر عشر سنين، ودعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بأن يكثر ماله وولده، وأن يدخل الجنة، قال أنس: "قد رأيت أثنين، وأنا أرجو الثالثة".
توفي في البصرة سنة ثلاث وتسعين، وله مائة وثلاث سنوات، وهو آخر من مات في البصرة من الصحابة. (1) .
_________
(1) "الإصابة" (1/127) .(1/154)
قوله: "لا يزال يلقى فيها" الضمير "فيها" يعود إلى جهنم، والمعنى أنه يستمر إلقاء من يستحق النار فيها، وهي تطلب الزيادة منهم، قال الله-تعالى-: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} (1) .
قال ابن كثير: "يخبر -تعالى- أنه يقول لجهنم: هل امتلأت؟ وذلك أنه وعدها أن سيملؤها من الجنة والناس أجمعين، فهو -سبحانه- يأمر بمن يأمر به إليها، ويلقى {فيها} وهي تقول: هل من مزيد؟ أي: هل بقي شيء تزيدني؟ هذا هو الظاهر من سياق الآية، وعليه تدل الأحاديث" (2) .
يقصد بالأحاديث مثل هذا الحديث، فإن ظاهره أن الاستفهام لطلب الزيادة، وهو الصحيح الذي يدل على ظاهر القرآن، والأحاديث الصحيحة.
قوله: "حتى يضع فيها رب العالمين قدمه"، في رواية: "حتى يضع رب العزة فيها قدمه" وهذه الرواية هي المناسبة لهذا الباب، ولكن البخاري اكتفى بالإشارة إليها على عادته، وفي رواية أبي هريرة: "يقال لجهنم: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد؟ فيضع الرب -تبارك وتعالى- قدمه عليها"، وفي رواية: "حتى يضع فيها قدمه فتمتلئ"، وفي أخرى: "حتى يضع رجله، فتقول: قط قط" وهذه الروايات كلها في البخاري، واتفق معه مسلم عليها (3) .
وعند الدارقطني في "الصفات": "فأما النار فيلقى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ -ثلاث مرات- حتى يأتيها -تبارك وتعالى- فيضع قدمه عليها، فتنزوي، وتقول: قدني قدني" (4) .
_________
(1) الآية 30 من سورة ق.
(2) "تفسير ابن كثير" (7/381) .
(3) انظر"مسلم" (4/2187، 2188) .
(4) "الصفات" (ص14، 17) .(1/155)
وفي رواية: "لا تزال جهنم يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع الجبار -تبارك وتعالى- فيها قدمه، فهناك تنزوي" (1) .
وأخرج حديث أنس هذا أبو نعيم في "المستخرج" بلفظ: "حتى يضع الله فيها قدمه" (2) .
ففي مجموع هذه الروايات البيان الواضح بأن القدم والرجل-وكلاهما عبارة عن شيء واحد -صفة لله- تعالى- حقيقة على ما يليق بعظمته.
كما فيها إبطال تأويل المؤولة، نحو قولهم: "إن القدم: عبارة عن إذلال جهنم إذا بلغت في الطغيان، وقولهم: إن المراد بالقدم: الفرط السابق من المعذبين، أي يضع الله فيها ما قدمه لها من أهل العذاب، وقولهم: المراد بالقدم: قدم بعض المخلوقين، وقولهم: يجوز أن يكون مخلوقاً اسمه القدم، وقولهم: المراد بالقدم: الأخير من أهل النار، وقولهم: إنه اسم مكان عصي الله فيه، فيلقى في النار.
وقول الداودي: إن المراد بالقدم: قدم صدق، وهو محمد -صلى الله عليه وسلم - والإشارة بذلك إلى شفاعته، وقال بعضهم: إن المراد بالقدم: قدم إبليس، إلى غير ذلك من السخافات المضحكة، الدالة على ضلال قائليها.
وزعم ابن الجوزي، وابن فورك: أن لفظ الرجل محرف من بعض الرواة عن القدم، وذهب مرة إلى تحريف المسمى بالتأويل، فقال: يحتمل أن يراد بالرجل: الجماعة" (3) ، فهذه التأويلات الباردة يكفي العاقل المنصف مجرد ذكرها عن تكلف ردها بالدليل لظهور بطلانها، فهي في الحقيقة تحريف للكلام الواضح البين، كتحريف اليهود حينما قيل لهم: "ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة" فدخلوا يزحفون على أعجازهم وقالوا: حبة حنطة.
_________
(1) "الصفات" للدارقطني (ص15)
(2) "الفتح" (13/370) .
(3) انظر: "الفتح"، فقد ذكر جميع هذه التأويلات، وسكت عليها (8/596) .(1/156)
فبطلان قول هؤلاء المعطلة -الذين جعلوا صفات الله-تعالى- نوعاً من المخلوقات، وحاولوا إبطالها بالتأويلات البعيدة السخيفة-واضح وظاهر، وذلك من وجوه:
"الأول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: حتى يضع، ولم يقل: حتى يلقى {فيها} كما في قوله: "لا يزال يلقى في النار".
الثاني: أن قوله: "قدمه" لا يفهم منه هذا {الذي قالوه} لا حقيقة، ولا مجازاً، كما تدل عليه الإضافة.
الثالث: أن أولئك المؤخرين، إن كانوا من الأصاغر المعذبين، فلا وجه لانزوائها واكتفائها بهم، فإن ذلك إنما يكون بأمر عظيم، وإن كانوا من الأكابر المجرمين، فهم في الدرك الأسفل من النار، وفي أول المعذبين، لا في أواخرهم.
الرابع: أن قوله: "فينزوي بعضها إلى بعض" دليل على أنها تنضم على من فيها فتضيق بهم، من دون أن يلقى فيها شيء.
الخامس: أن قوله: "لا يزال يلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها قدمه" جعل وضع القدم الغاية التي إليها ينتهي الإلقاء، ويكون عند ذلك الانزواء، فيقتضي أن تكون الغاية أعظم مما قبلها، وليس في قول {هؤلاء} المعطلة معنى للفظ {قدمه} إلا وقد اشترك فيه الأول والآخر، والأول أحق به من الآخر" (1) .
يضاف إلى ذلك: أن هذا الكلام الواضح البين الذي إذا سمعه السامع لم يتبادر إلى ذهنه إلا ظاهره اللائق بجلال الله-تعالى-؛ فلو كان ظاهره غير مراد للمتكلم، وأن المراد منه ما ذكره هؤلاء المحرفون، لصار إلى الألغاز والتعمية أقرب، ولا يكون المتكلم بذلك قد أدى ما وجب عليه من البلاغ والبيان؛ وهذا
_________
(1) "مختصر الفتاوى المصرية" (ص647) .(1/157)
من أبطل الباطل.
وقد علم أن المتكلم بهذا الكلام أفصح الناس وأقدرهم على الإيضاح والبيان لما يريد، وهو أيضاً أنصحهم لأمته، وأعلمهم بالله وبما يجب له، وما يمتنع عليه، وهو أيضا أحرصهم على إيصال الخير والنفع إلى الخلق، ودفع الشر عنهم، فيستحيل مع هذه الأمور أن يكون ظاهر كلامه باطلاً يدل على الكفر والتشبيه -كما زعم المعطلة المؤولة {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} (1) ، فظهر بذلك بطلان قول المعطلة، والحمد لله رب العالمين.
قال أبو سعيد الدارمي: "وما دعوى المعطل بأن القدم: أهل الشقوة الذين تقدم في علم الله أنهم يلقون في جهنم، واستدلاله بما روي عن ابن عباس، في قوله-تعالى-: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} (2) قال: ما قدموا من أعمالهم.
فيقال: من المشهور عن ابن عباس، أنه قال: "الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله"، وهذا صحيح مشهور عن ابن عباس (3) ، ودعوى المعطل أنها لا تمتلئ حتى يلقى الله فيها الأشقياء، الذين هم قدم الجبار-عند أهل التأويل- دعوى باطلة، وهل استزادت إلا بعد مصير الأشقياء إليها؟ أفيلقيهم فيها ثانية؟ أو أنه -تعالى- حبس عنها الأشقياء، وألقى فيها السعداء، فلما استزادت ألقى فيها أهل الشقوة؟
وأما ردهم الحديث بقوله - تعالى: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ
_________
(1) الآية 5 من سورة الكهف.
(2) الآية الثانية من سورة يونس.
(3) رواه أبو سعيد الدارمي في "الرد على المريسي" (ص425) ، "مجموع عقائد السلف"، والحاكم في "المستدرك"، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي (2/282) ، وابن جرير في "التفسير" (5/398) .(1/158)
أَجْمَعِينَ} (1) ، قالوا: إن جهنم لا تمتلئ بغير الجن والإنس، ومن زعم غير ذلك فقد كفر.
فيقال: إن هذه الآية لا تخالف قوله: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} (2) ، ويصح في الكلام أن يقال للممتلئ: استزاد، كما يمتلئ الرجل من الطعام، والشراب، وهو يقدر أن يستزيد، ويقال: امتلأ المسجد من الناس، وفيه فضل وسعة، وامتلأ الوادي ماء، وهو يحتمل أكثر مما فيه، وكما في الحديث: "يخرج المهدي، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً" وفي الأرض سعة لأكثر من ذلك، فكذلك جهنم تمتلئ بما يلقى فيها من الجن والإنس، وتقول هل من مزيد؟ لفضل فيها، غضباً لله-تعالى- على الكفار، حتى يفعل الجبار بها ما أخبر به رسوله، من وضعه قدمه فيها كما يشاء، وكما عنى رسول الله، فحينئذ تقول: حسبي حسبي، ولها خزنة يدخلونها غير معذبين بها، وفيها حيات، وعقارب.
وقال-تعالى-: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ {30} وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} (3) .
فقوله-تعالى-: {لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (4) ، لا يخالف هذه الآية، كما أنه لا يخالف قول الرسول -صلى الله عليه وسلم -: "يضع الجبار فيها قدمه"، وإذا كانت جهنم لا تضر الخزنة الذين يدخلونها، ويقومون عليها، فكيف يستنكر وضع رب العالمين عليها قدمه؟ " (5) .
وقد جاءت الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - تدل على أن كلامها حقيقة، فلا وجه للعدول عن ذلك، كقوله -صلى الله عليه وسلم -: "تحاجت الجنة والنار، فقالت الجنة: ما لي
لا يدخلني إلا الضعفاء؟ وقالت النار: ما لي يدخلني
_________
(1) الآية 119 من سورة هود.
(2) الآية 30 من سورة ق.
(3) الآيتان 30و31من سورة المدثر.
(4) الآية 119 من سورة هود.
(5) رد عثمان بن سعيد على بشر المريسي، ملخصاً بتصرف.(1/159)
الجبارون، والمتكبرون؟ " (1) أخرجاه في "الصحيحين".
وفي "مسند الإمام أحمد" بسند فيه عطية العوفي- وهو ضعيف- عن أبي سعيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "يخرج عنق من النار يتكلم يقول: وكلت اليوم بثلاثة، بكل جبار، وبمن جعل مع الله إلهاً آخر، وبمن قتل نفساً بغير نفس، فينطوي عليهم، فيقذفهم في غمرات جهنم" (2) .
وفيه أيضاً من طريق ابن لهيعة -وفيه كلام معروف- عن عائشة- رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يخرج عنق من النار، فينطوي عليهم، ويتغيظ عليهم، ويقول ذلك العنق: وكلت بثلاثة، وكلت بمن دعا مع الله إلهاً آخر، ووكلت بمن لا يؤمن بيوم الحساب، ووكلت بكل جبار عنيد، فتنطوي عليهم، وتطرحهم في غمرات جهنم" (3) .
وقد ذكر ابن رجب أحاديث بهذا المعنى (4) ، وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أن حجراً كان يسلم عليه (5) ، كما صح أن الصحابة كانوا يسمعون تسبيح الطعام وهم يأكلون، ومن المشهور حنين الجذع الذي كان النبي -صلى الله عليه وسلم - يخطب عليه حين تركه، فكيف يستنكر كلام جهنم؟
قوله: "فينزوي بعضها إلى بعض" أي يلتئم بعضها على بعض، وتتضايق على من فيها، فلا يبقى فيها متسع لغير من فيها.
_________
(1) انظر: "البخاري مع الفتح" (13/434) ، (8/595) ، و"مسلم" (4/2186) .
(2) "المسند" (3/40) .
(3) "المسند" (6/110) .
(4) انظر: "التخويف من النار" (ص130) .
(5) انظر: "فتح الباري" (13/371) .(1/160)
قوله: "وتقول: قد قد" بفتح القاف، وسكون الدال، وفي رواية: "قط قط" وهو اسم فعل، ومعناه: حسبي وكفاني ما ألقي في، فلا متسع لغيرهم، أي قد امتلئت.
قوله: "بعزتك وكرمك" هذا محل الشاهد من الحديث لما ترجم به، وهو قسم من النار بعزة الله وكرمه، أنها قد امتلأت، وأصبحت ليس فيها متسع، وقد تقرر عند المسلمين أن القسم بغير الله لا يجوز.
قوله: "لا يزال يلقى فيها، وتقول" هذا القول من جهنم حقيقة، فالله-تعالى- ينطقها بكلام مسموع منها، كما ينطق-جل وعلا- الجوارح وغيرها، والله على كل شيء قدير، وأمور الآخرة أعظمها على خلاف ما يعرفه الناس في الدنيا، والقسم بأسماء الله وصفاته قسم به-تعالى-والمقصود أن الله تعالى متصف بالصفات، فأراد أن يبين ذلك بما ثبت منها في كتاب الله-تعالى- ومنها العزة، وبالأحاديث التي تبين ذلك وتوضحه، وقد تقدم البحث فيها في الباب الأول.
قال الحافظ: "يؤخذ منه مشروعية الحلف بكرم الله، كما شرع الحلف بعزة الله" (1) .
قوله: "ولا تزال الجنة تفضل، حتى ينشئ الله لها خلقاً، فيسكنهم فضل الجنة".
أي أن أهل الجنة الذين يدخلونها ينتهون، وفيها فضل مساكن لم يصبها أحد؛ لعظم سعتها، قال الله-تعالى-: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (2) ، وقال-تعالى-: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} (3) .
_________
(1) "الفتح" (13/371) .
(2) الآية 133 من سورة آل عمران.
(3) الآية 21 من سورة الحديد.(1/161)
وقد وعد الله -تعالى- الجنة والنار أن يملؤهما من الجنة والناس، ومما يشاء، فأما النار: فإن الله -تعالى- لا يدخل فيها إلا من يستحقها، ولا يظلم أحداً، ولسعتها أيضاً يتنهي أهلها دخولاً فيها مع كثرتهم، وهي تطلب الزيادة، وتسأل الله وعده، فعند ذلك يضع عليها -تعالى- قدمه، فتتضايق على أهلها، فينزوي بعضها إلى بعض -أي تجتمع- فتصبح ليس فيها موضع لأحد، فيحصل بذلك ملؤها.
وأما الجنة: فإن الله -تعالى- يخلق لها خلقاً جديداً فيسكنهم فضلها، أي المساكن التي فضلت عمن دخلها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، لا راد لفضله، ولا مانع لعطائه.(1/162)
قال: "باب قول الله -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} (1)
قال القرطبي: "بالحق-أي بكلمة الحق- يعني: قوله: كن" (2) .
ومثله قال القسطلاني، ثم قال: " وقال ابن عادل في لبابه: قيل: الباء بمعنى اللام، أي إظهاراً للحق؛ لأنه جعل صنعه دليلاً على وحدانيته، فهو نظير قوله - تعالى -: {مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} (3) .
وقال الخازن: " يعني إظهاراً للحق، فعلى هذا تكون الباء بمعنى اللام، لأنه جعل صنعه دليلاً على وحدانيته، وقيل: خلقها بكمال قدرته، وشمول علمه، وإتقان صنعه، وكل ذلك حق.
وقيل: خلقها بكلامه الحق، وهو قول "كن" وفيه دليل على أن كلام الله - تعالى- ليس بمخلوق؛ لأنه لا يخلق مخلوق بمخلوق" (4) .
_________
(1) الآية 73 من سورة الأنعام.
(2) "تفسير القرطبي" (6/19) .
(3) الآية 191 من سورة آل عمران، "هدي الساري" (10/369) .
(4) "تفسير الخازن" (2/147) .(1/163)
وقال ابن الجوزي: " فيه أربعة أقوال:
أحدها: خلقهما للحق. والثاني: خلقهما حقاً.
والثالث: خلقهما بكلامه، وهو الحق.
والرابع: خلقهما بالحكمة" (1) .
قلت: هذه الأقوال ليس فيها اختلاف، وهي داخلة في معنى الآية، إلا أن الطبري جعل القول الثاني والرابع قولاً واحداً، كما سيأتي، وهو الأظهر.
وقال ابن جرير: " واختلف أهل التأويل في قوله: " بالحق": فقال بعضهم: معنى ذلك: وهو الذي خلق السماوات والأرض حقاً وصواباً، لا باطلاً وخطأ، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} (2) ، وأدخلت الباء والألف، كما في
قولك: فلان يقول بالحق، يعني أنه يقول الحق، أي يصيب في قوله، فالحق صفة للقول، فخلق السماوات والأرض حكمة من حكم الله -تعالى-، والله موصوف بالحكمة في خلقهما، وخلق ما سواهما من سائر الخلق.
وقال آخرون: معنى ذلك: خلق السماوات والأرض بكلامه، وقوله لهما: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} (3) فالحق في هذا الموضع معنى به كلامه.
_________
(1) "زاد المسير" (3/67) .
(2) الآية 27 من سورة ص.
(3) الآية 11 من سورة فصلت.(1/164)
واستشهد لذلك بقوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} (1) ، فالحق هو قوله وكلامه، فالله -تعالى- خلق الأشياء بكلامه وقوله، فما خلق به الأشياء فهو غيرها، فكلام الله -تعالى- الذي خلق الخلق غير مخلوق" (2) .
قلت: وبهذا يظهر مراد البخاري - رحمه الله تعالى - فقول الله -تعالى- حق، وهو صفة له، وما وجد بقوله فهو غير القول، بل هو المفعول المخلوق، فقوله -تعالى- الذي خلق به الأشياء، لا يجوز أن يكون مماثلاً لها، فلا بد من التفريق بين قوله الذي هو صفته، وبين مفعولاته التي وجدت بقوله، كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - في باب: ما جاء في تخليق السماوات والأرض وهو -تعالى- خلق السماوات والأرض وغيرهما بقوله لها: كوني، كما قال -تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (3) .
قال الحافظ: " كأنه أشار بهذه الترجمة إلى ما ورد في تفسير هذه الآية، أن معنى قوله: {بالحق} أي بكلمة الحق، وهو قوله: {كن} ويدل عليه ما في أول الحديث، "وقولك الحق" فكأنه أشار إلى أن القول {في الحديث} الكلمة، وهي "كن" والله أعلم" (4) .
وقال ابن المرتضى: " هذا إشارة من البخاري إلى مذهب أهل السنة في إثبات الحكمة" (5) .
_________
(1) الآية 73 من سورة الأنعام.
(2) "تفسير الطبري" (11/458-459) تحقيق: محمود شاكر، ملخصاً.
(3) الآية 11 من سورة فصلت.
(4) "الفتح" (13/371) .
(5) "إيثار الحق على الخلق" (ص205) .(1/165)
قلت: هذا لا ينافي ما ذكرنا، فيجوز أن يقصد المعنيين، ولكنه في الأول أظهر وأليق بمراد البخاري؛ لأن القول بنفي الحكمة في خلق الله وفعله، ظاهر البطلان.
قال البخاري: " الفعل إنما هو إحداث الشيء، والمفعول هو الحدث؛ لقوله تعالى: {خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (1) .
قلت: يريد بذلك التفريق بين ما هو صفة لله تعالى، وبين ما هو مفعول له مخلوق.
وقال الراغب: " أصل الحق: المطابقة والموافقة، كمطابقة رجل الباب في حقه لدورانه على استقامة، والحق يقال على أوجه:
الأول: يقال لموجد الشيء بسبب ما تقتضيه الحكمة، ولهذا قيل في الله -تعالى- هو الحق، قال -تعالى-: {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ} (2) ، {فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (3) .
الثاني: يقال لما وجد بمقتضى الحكمة، ولهذا يقال: فعل الله -تعالى- كله حق، قال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ} (4) .
الثالث: الاعتقاد المطابق لما عليه الشيء في نفسه، كما في الحديث: " ووعدك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق"، قال الله -تعالى-: {هَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (5) .
_________
(1) "خلق أفعال العباد" (ص210) ضمن "العقائد السلفية".
(2) الآية 62 من سورة الأنعام.
(3) الآية 32 من سورة يونس.
(4) الآية 5 من سورة يونس.
(5) الآية 213 من سورة البقرة.(1/166)
الرابع: الفعل والقول الواقع بحسب ما يجب، وبقدر ما يجب، وفي الوقت الذي يجب، قال الله -تعالى-: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} (1) .
قلت: يأتي أيضاً موصوفا به دين الله وشرعه، وأمره، كما في قوله -تعالى-: {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} (2) أي: وعده أن يبعثكم ويجازيكم. وقال -تعالى- {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ} (3) ، {بِالْحَقِّ مِن رَّبِّك} (4) ، {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} (5) .
قال الحليمي: " الحق" ما لا يسمع إنكاره، ويلزم إثباته والاعتراف به.
ووجود الباري -تعالى- أول ما يجب الاعتراف به، ولا يسع جحده، إذ لا مثبت تظاهرت عليه الدلائل البينة مثل ما تظاهرت على وجود الباري - جل جلاله-" (6) .
وقال أيضاً: " الحق في الأسماء الحسنى معناه - كما قال ابن برجان: الواجب الوجود بالبقاء الدائم، الجامع للخير والمجد، والمحامد كلها، والثناء الحسن، والأسماء الحسنى والصفات العليا.
_________
(1) الآية 13 من سورة السجدة، "المفردات" (ص125) بتصرف.
(2) الآية 53 من سورة يونس.
(3) الآية 71 من سورة آل عمران.
(4) الآية 147 من سورة البقرة، والآية 60 من سورة آل عمران.
(5) الآية 149 من سورة البقرة.
(6) "المنهاج" (1/188) .(1/167)
ومعنى واجب الوجود: أنه اضطر جميع الموجودات إلى معرفة وجوده، وهو الذي أوجدها، قال -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) . ولما أظهر جملة المخلوقات التي خلقها بالحق وللحق قال -تعالى-: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} (2) .
فالله -تعالى- هو الحق المبين، ووجوده الحق، وقوله الحق، وصفاته الحق، وأسماؤه الحق" ا. هـ. (3)
_________
(1) الآية 6 من سورة الحج.
(2) الآية 44 من سورة العنكبوت.
(3) "المنهاج" (1/369) .(1/168)
15- قال: " حدثنا قبيصة؛ حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن سليمان، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو من الليل: اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض، لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، قولك الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وأسررت، وأعلنت، أنت إلهي، لا إله لي غيرك".
حدثنا ثابت بن محمد، حدثنا سفيان بهذا وقال: " أنت الحق، وقولك الحق".
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول هذا الدعاء بعد أن يكبر تكبيرة الإحرام في تهجده، كما بينه ابن خزيمة، حيث قال:
"باب ذكر الدليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يحمد بهذا التحميد بعد أن يكبر" ثم ساق بالسند إلى ابن عباس، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قام للتهجد قال بعد ما يكبر: اللهم لك الحمد " الخ. (1)
قوله: "اللهم لك الحمد " الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية، و"ال" فيه للاستغراق، والاستقصاء، أي جميع الحمد واجب ومستحق لله تعالى، فهو المحمود على صفاته، وأسمائه، وعلى نعمه، وأياديه، وعلى خلقه وأفعاله، وعلى أمره وحكمه، وهو المحمود أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.
_________
(1) "صحيح ابن خزيمة" (2/184) .(1/169)
وأما الشكر: فلا يكون إلا على الصفات المتعدية، ويكون بالقلب واللسان والجوارح، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} (1) .
وقال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
قوله: " أنت رب السماوات والأرض " أي: أنت مالكهما ومن فيهما، والمتصرف بهما بمشيئتك، وأنت موجدهما من العدم، فالملك لك، وليس لأحد معك اشتراك أو تدبير، تباركت وتعاليت.
قوله: " لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن" أي: أنت الذي أقمتهما من العدم، والقائم عليهما بما يصلحهما ويقيمهما، فأنت الخالق الرازق، المالك المدبر، المحيي المميت، الغني عن كل شيء، وكل من سواك فقير إليك، ومصيره إليك كما أنك أنت الذي أوجدته، فلك الحمد.
وفي رواية "قيام" وفي أخرى "قيوم"، وكلها من أبنية المبالغة.
"والقيم معناه: القائم بأمور الخلق، ومدبرهم، ومدبر العالم في جميع أحواله.
والقيوم: هو القائم بنفسه مطلقاً، لا بغيره، ويقوم به كل موجود، حتى لا يتصور وجود الشيء ولا دوام وجوده إلا به.
وقال النوربشتي: معناه: أنت الذي تقوم بحفظهما، وحفظ من أحاطتا به واشتملتا عليه، وقال " من" تغليباً للعقلاء على غيرهم" اهـ (2) .
قوله: " لك الحمد أنت نور السماوات والأرض " قال الحافظ: أي
_________
(1) الآية 13 من سورة سبأ.
(2) من القسطلاني (10/369) .(1/170)
منورهما، وبك يهتدي من فيهما" (1) .
وقال القاضي عياض: " معناه: ذو النور، أي خالقه.
وقيل: منور الدنيا بالشمس والقمر والنجوم.
وقيل: منور قلوب عباده المؤمنين بالهداية والمعرفة " (2) .
قلت: هذا تأويل باطل كما سيأتي بيان بطلانه.
قال شيخ الإسلام في جواب من قال: إنه يجب تأويل قوله: " الله نور السماوات والأرض " قطعاً. قال: " لا نسلم أنه يجب تأويله، ولا نسلم أن ذلك لو وجب قطعي، بل جماهير المسلمين لا يتأولون هذا الاسم، وهذا مذهب السلفية وجمهور الصفاتية من أهل الكلام والفقهاء والصوفية وغيرهم، وهو قول أبي سعيد ابن كلاب، ورد على الجهمية تأويلهم " اسم النور" وكذا الأشعري" ا. هـ (3) .
وقد نص الله -تعالى- في كتابه أنه نور السماوات والأرض، وزاد ذلك رسول الله _صلى الله عليه وسلم_إيضاحاً وبياناً، كما في هذا الحديث وغيره.
وقد أخبر -تعالى-: أن الأرض يوم القيامة تشرق بنوره، وصحت النصوص عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه يحتجب بالنور، فإذا كانت الأرض تشرق من نوره، فهو - جلا وعلا- نور، كما قاله رسوله: " أنت نور السماوات والأرض".
وقال -تعالى-: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (4) وقال -تعالى-: {وَأَشْرَقَتِ
_________
(1) "الفتح" (3/4) .
(2) "المشارق" (2/31) .
(3) "مجموع الفتاوى" (6/379) .
(4) الآية 35 من سورة النور.(1/171)
الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} (1) .
وفي الحديث الذي رواه ابن إسحاق في السيرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في دعائه: " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة " (2) .
وقال ابن مسعود: " إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور العرش من نور وجهه" (3) .
وفي حديث أبي ذر في "صحيح مسلم" قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنَّى أراه" وفي رواية "رأيت نوراً" (4) .
وفي حديث أبي موسى في "صحيح مسلم" قال: قام فينا رسول الله بخمس كلمات، فقال: "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" (5) .
السبحات هي: نوره وبهاؤه وجلاله.
_________
(1) الآية 69 من سورة الزمر.
(2) انظر: "مختصر السيرة" لابن هشام (1/420) ، وقال شيخ الإسلام: رواه الطبراني وغيره، انظر: "مجموع الفتاوى" (6/387) .
(3) رواه الدارمي في "الرد على بشر" (ص449) ، وابن منده في "الرد على الجهمية" (ص99) ، قال ابن القيم: رواه الطبراني في "المعجم" وفي "السنة". انظر: "اجتماع الجيوش" (ص6) .
(4) انظر: "مسلم" (1/161) .
(5) "مسلم" (1/162) .(1/172)
فأخبر - صلى الله عليه وسلم- أنه -تعالى- احتجب عن المخلوقات بحجابه النور، وأنه لو كشف ذلك الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه، ومعلوم أن بصره لا يفوته شيء، ولا يستره ساتر، ولا يحول دونه حائل.
وفي الترمذي عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " إن الله خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل" (1) .
فقد جاءت النصوص "بتسمية الرب نوراً، وبأن له نوراً مضافاً إليه، وبأنه نور السماوات والأرض، وبأن حجابه النور، فهذه أربعة أنواع:
فالأول: يطلق عليه -تعالى- اسماً له، فإنه النور الهادي.
والثاني: يضاف إليه كما تضاف إليه حياته، وسمعه وبصره، وعزته وقدرته وعلمه، ومرة يضاف إليه وجهه الكريم، وأخرى يضاف إلى ذاته المقدسة: فإضافته إلى وجهه -تعالى- كقوله -صلى الله عليه وسلم-: " أعوذ بنور وجهك " وقوله: "نور السماوات والأرض من نور وجهه".
وإضافته إلى ذاته المقدسة كقوله -تعالى-: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} (2) .
_________
(1) انظر: " تحفة الأحوذي: (7/401) وقال: حسن، ورواه أحمد بسند صحيح، انظر: "المسند" (2/176) ، وانظر: تحقيق أحمد شاكر (10/127) ، وأخرجه الحاكم وصححه الذهبي. انظر: "المستدرك" (1/10) ، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (1/107) .
(2) الآية 69 من سورة الزمر.(1/173)
وكما في حديث عبد الله بن عمرو: " أن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره" الحديث.
ويضاف نوره -تعالى- إلى السماوات والأرض، كقوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (1) .
وقوله في هذا الحديث: " أنت نور السماوات والأرض ". وكذا حجابه النور كقوله: " حجابه النور - أو النار-" كما في حديث أبي موسى" اهـ. (2)
وقال -تعالى-: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} (3) على القول بأن الضمير يعود إلى الله -تعالى-.
قال ابن القيم: " إضافة النور إلى الله -تعالى- على أحد وجهين:
إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله.
فالأول: كقوله - عز وجل -: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} (4) فهذا يكون يوم القيامة، تشرق بنوره -تعالى- إذا جاء لفصل القضاء بين عباده.
ومنه قوله في الدعاء المشهور: " أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلني، لا إله إلا أنت" (5) .
وفي الأثر الآخر: " أعوذ بنور وجهك، الذي أشرقت له الظلمات " (6) .
_________
(1) الآية 35 من سورة النور.
(2) من "الصواعق" ملخصاً (359) .
(3) الآية 35 من سورة النور.
(4) الآية 69 من سورة الزمر.
(5) هو الحديث المتقدم ذكره، قال في " الفتح الكبير": خرجه الطبراني. انظر لفظه فيه (1/235) .
(6) تقدم تخريجه قبل قليل.(1/174)
فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الظلمات أشرقت لنور وجهه، كما أخبر الله -تعالى- أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره.
الوجه الثاني: ما ذكر في قوله -تعالى-: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} (1) ، وقد اختلف على من يعود الضمير في {نوره} ، فقيل: على محمد -صلى الله عليه وسلم- وقيل: على المؤمن، والصحيح عوده على الله -تعالى-.
والمعنى: مثل نور الله في قلب عبده المؤمن، وأعظم عباده نصيباً من هذا النور رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
فهذا النور يضاف إلى الله -تعالى- على أن معطيه لعبده، وواهبه، كما يضاف إلى العبد؛ لأنه محله وقابله" اهـ (2) .
فالله -تعالى- سمى نفسه نوراً، وجعل كتابه نوراً، ورسوله نوراً، ودينه نوراً، واحتجب عن خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه في الآخرة نوراً يتلألأ، قال -تعالى-: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) ، قال أبي بن كعب: " بدأ الله بنور نفسه، ثم ذكر نور المؤمن" (4) .
وفسر بكونه منور السماوات والأرض، وبأنه هادي أهل السماوات والأرض، وهذا لا يمنع أنه -تعالى- في نفسه نور، فإن من عادة السلف في تفسيرهم أن يذكروا بعض صفات المفسر - بفتح السين - من الأسماء، أو بعض أنواع ذلك المفسر، ولا ينافي ذلك ثبوت بقية الصفات له.
_________
(1) الآية 35 من سورة النور.
(2) "اجتماع الجيوش" بتلخيص وتصرف (ص6) .
(3) الآية 35 من سورة النور.
(4) رواه ابن جرير في "تفسيره" (18/135) .(1/175)
فبنوره اهتدى أهل السماوات والأرض، وهذا إنما هو فعله، وأما النور الذي هو وصفه فهو قائم به، ومنه اشتق له اسم النور، الذي هو أحد الأسماء الحسنى، كما دلت على ذلك النصوص، فلا يجوز تحريف ذلك بالتأويلات الباطلة.
وأما الأنوار القائمة بأعيان مشاهدة قائمة بأنفسها، فلم تأت إضافتها إلى الله -تعالى- أبداً، فلا يقال لأنوار المصابيح، أو نور الشمس أو القمر أو الكواكب، إنها نور الله.
والحديث تضمن ثلاثة أمور شاملة عامة للسماوات والأرض:
وهي: ربوبيتهما، وقيوميتهما، ونورهما.
فكونه - سبحانه - رباً لهما، وقيوماً لهما، ونوراً لهما، أوصاف له -تعالى-، وآثار هذه الأمور الثلاثة قائمة بهما.
فأثر الربوبية: الخلق والإيجاد، وأثر القيومية: صلاحهما، وانتظامهما، وأثر نوره -تعالى- استنارة السماوات، وإشراق الأرض بنوره يوم القيامة.
وأما صفة الربوبية والقيومية، والنور، فهي قائمة به - تعالى - كما أن صفة الرحمة، والقدرة، والإرادة، والرضا، والغضب، قائمة به -تعالى- والرحمة الموجودة في العالم، والإحسان، والخير، والنعمة، والعقوبة، آثار تلك الصفات.
وهكذا علمه -تعالى- القائم به هو صفته، وأما علوم عباده فمن آثار علمه، وقدرتهم من آثار قدرته.
وبذلك يعلم أن قول المعطلة: " كل عاقل يعلم بالبديهة أنه الله - سبحانه - ليس هو هذا النور الفائض من جرم الشمس والقمر والمصابيح، فلا بد من حمل قوله: " أنت نور السماوات والأرض" على معنى أنه منور السماوات والأرض، أو هادي أهل السماوات والأرض " يعلم أنه باطل من جنس تحريفاتهم لسائر صفات الله، كما هو نهجهم.(1/176)
ونحن نقول لهم أيضاً: أسأتم الظن بكلام الله، وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- حيث فهمتم أن حقيقته ومدلوله أنه سبحانه هو هذا النور الواقع على الحيطان، وغيرها، وهذا الفهم الفاسد هو الذي أوجب لكم إنكار حقيقة نوره - تعالى - وجحده.
فجمعتم بين الفهم الفاسد، وإنكار المعنى الحق.
وليس ما ذكرتم هو نور الرب -تعالى- القائم به، الذي هو صفته، وإنما هو مخلوق له منفصل عنه، فإن هذه الأنوار المخلوقة، تكون في محل دون محل، فنور الشمس والقمر ينور بعض الأرض لا جملتها، ولا ينور السماوات.
فمن ادعى أن نور الشمس والقمر ونحوهما، هو المراد بقوله -تعالى-: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (1) وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: " أنت نور السماوات والأرض " فقد كذب على الله ورسوله (2) .
قوله: " وقولك الحق " أي أنت قلته حقاً، فهو صفتك. وما قاله الله -تعالى- فهو صدق وحق، لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، لا في خبره، ولا في حكمه وتشريعه، ولا في وعده ووعيده.
وهذه الجملة هي محل الشاهد من الحديث، حيث وصف قوله -تعالى- بأنه الحق، فلا يجوز أن يكون مخلوقاً، كما تزعم الفرق الضالة من المعتزلة وغيرهم.
قال سفيان في "تفسيره": " إن كل شيء مخلوق، والقرآن ليس بمخلوق، وكلامه أعظم من خلقه؛ لأنه يقول للشيء: كن فيكون، فلا يكون شيء أعظم مما يكون به الخلق، والقرآن كلام الله" (3) .
وقال أبو ذر - رضي الله عنه -: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " قال الله -تعالى-
_________
(1) الآية 35 من سورة النور.
(2) هذا مقتبس من كلام شيخ الإسلام. انظر: " مجموع الفتاوى" (6/374) .
(3) "خلق أفعال العباد " للبخاري (ص124) ، "مجموع عقائد السلف".(1/177)
عطائي كلام، وعذابي كلام، وإذا أردت شيئاً فإنما أقوله له: كن، فيكون" (1) .
والذين أراد البخاري - رحمه الله - الرد عليهم من الجهمية والمعتزلة ونحوهم، ينكرون أن يكون لله -تعالى- كلام تكلم به يكون صفة له؛ لأن هذا - بزعمهم - يقتضي أن يكون جسماً حادثاً؛ لأن الكلام - زعموا - من الصفات الدالة على حدوث من قام به؛ لما فيه من الترتيب، والتقديم والتأخير، والتعاقب. ولما رأوا اتفاق الرسل على إثبات الكلام لله -تعالى- وأن القرآن مملوء بذلك، قالوا: إن الله متكلم، بمعنى أنه خالق الكلام.
ثم جاءت الأشعرية، فقالوا: إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وليس لله كلام منطوق به، مسموع منه، كما سيأتي - إن شاء الله - تفصيل ذلك في أبواب الكلام.
وهم بذلك يتفقون مع المعتزلة على إنكار ثبوت الكلام لله حقيقة، كما أنهم يوافقونهم في المعنى على أنه مخلوق، وعلى هؤلاء جميعاً اتجه الرد فيما قصده البخاري وغيره من أهل السنة.
ومعلوم "أن: الإيمان الذي جاءت به الرسل عن الله -تعالى- وجاء به خاتمهم مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، هو أن كلام الله صفة له غير مخلوق، وأن القرآن، والتوارة، والإنجيل، وغيرها من كتب الله، هي كلامه.
وكلام الله لا يكون مخلوقاً منفصلاً عنه، كما لا يكون كلام المتكلم منفصلاً عنه، فإن من أنكر ذلك فقد جحد كلام الله الذي هو رسالته، وأنكر حقيقة ما أخبرت به الرسل، وعلمته أممها، وألحد في أسماء الله وآياته، ومثله بالمعدوم، والميت، فإن الحياة، والعلم، والقدرة، والكلام، ونحو ذلك، صفات
_________
(1) نفس المصدر (ص131) .(1/178)
كمال، والله -تعالى- أحق بكل كمال، فيمتنع أن يثبت للمخلوق كمال إلا والخالق أحق به، كما يمتنع أن يتنزه المخلوق عن نقص إلا والخالق أحق بتنزهه منه؛ لأنه هو الذي أعطى الكمال للكاملين.
ومن لم يتصف بصفات الكمال، من الحياة، والعلم، والسمع، والبصر، والقدرة، والكلام، وغير ذلك:
فإما أن يكون قابلاً للاتصاف بذلك ولم يتصف به.
أو غير قابل للاتصاف به.
فإن قبله ولم يتصف به، كان موصوفاً بصفات النقص، كالموت، والجهل، والعمى، والصمم، والعجز، والبكم.
فإن لم يقبل الاتصاف بهذه الصفات، كان أنقص من القابل الذي لم يتصف بها.
فالحيوان الذي يكون تارة سميعاً، وتارة أصم، وتارة بصيراً، وتارة أعمى، وتارة متكلماً، وتارة أخرس، أكمل من الجماد الذي لا يقبل لا هذا، ولا هذا، فمن لم يصف الله -تعالى- بصفات الكمال، لزمه إما أن يصفه بهذه النقائص، أو يكون أنقص ممن وصف بهذه النقائص (1) .
قوله: "ووعدك الحق" أي: لا بد من وقوعه، على ما وعدت، فلا خلف فيه ولا تبديل.
"ولقاؤك حق" أي: لا بد للميعاد من ملاقاتك، فتجازيهم على أعمالهم، واللقاء يتضمن الرؤية، والمعاينة، كما سيأتي – إن شاء الله تعالى -.
"والجنة حق، والنار حق" أي: ثابتتان، موجودتان، كما أخبرت بذلك أنهما معدتان لأهلهما، فهما دار البقاء، وإليهما مصير العباد.
_________
(1) "مجموع الفتاوى" (12/355) .(1/179)
"والساعة حق" أي مجيء يوم القيامة حق لا مرية فيه، فهو ثابت لا بد منه، وهي نهاية الدنيا، ومبدأ الآخرة، وفي ضمن هذه الأخبار: الإخبار عن إيمانه بما ذكر، إيماناً لا يتزعزع، والساعة يعبر بها عن البعث، أي الساعة التي يبعث الله فيها الموتى من قبورهم أحياء، فيجمعهم بعد تفرق أجزائهم وتشتتها، بل واستحالتها تراباً، وهباء، وغير ذلك.
فيجمعهم، ويحييهم، كما كانوا في الدنيا، ويجازيهم بعد حسابهم، وحشرهم. وأدخلت الألف واللام في الساعة؛ لأنها معروفة المعنى عند المخاطبين بها، وأنها مقصود بها قصد الساعة التي وصفت، قاله الطبري (1) .
"اللهم لك أسلمت" أي: أذعنت لأمرك، وانقدت له، وخضعت لحكمك.
" وبك آمنت" أي: صدقت، وعملت بمقتضى ذلك، بعد تحققي بالإيمان بك.
"وعليك توكلت" أي: اعتمدت عليك، ووكلت أموري إليك، راضياً بما قضيته لي، بعد أن فعلت الأسباب التي جعلتها إليّ، دينية كانت، أو دنيوية.
فالتوكل: هو الاعتماد على الله -تعالى- والثقة به، وفعل الأسباب التي رتبت عليها الأشياء، والتي يستطيع العبد فعلها، وهو من أفضل العبادة، بل جاء ما يدل على أنه شرط في حصول الإيمان، كما في قوله -تعالى-: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (2) .
_________
(1) انظر: "تفسيره" (11/324) ، ولكثرة ما أخبروا بها ووصفت لها، وخوفوا بقربها صارت معلومة لهم، فأدخلت عليها الألف واللام لذلك.
(2) الآية 23 من سورة المائدة.(1/180)
"وإليك أنبت" أي: رجعت إليك طائعاً منقاداً، مذعناً، خاضعاً لك في جميع أموري.
"وإليك حاكمت" أي: كل من أبى قبول الحق، أو جحده، حاكمته إليك وجعلتك الحكم بيني وبينه مجانباً بذلك حكم كل طاغوت، من قانون وضعي، أو كاهن أو غيره، مما يتحاكم إليه البشر، من الأوضاع الباطلة شرعاً.
وقدم صلات هذه الأفعال كلها لإرادة التخصيص والحصر، أي: أخصك - يا رب- وحدك فيما ذكر، ولا أعدو ذلك بحال من الأحوال.
في هذا الحديث قدم الثناء على الله -تعالى- بأن له الحمد، وبما ذكر من صفاته، ثم توس إليه، -تعالى- بإيمانه بأن قوله حق، ووعده حق، إلى آخر ما ذكر، وأنه مذعن لأمره، منقاد لطاعته، وأنه معتمد عليه، وبه يخاصم وإليه يحاكم، ثم بعد ذلك سأل حاجته، وهي أن يغفر له ما قدم من خطأ، أو تقصير، وما أخر، وما أسر، وما أعلن.
ثم ختم ذلك بأنه لا مفزع، ولا ملجأ له، غير ربه -تعالى- فهو إلهه الذي يعبده بما ذكر، ويخاف عقابه - ويؤمل فضله ونواله، فقال: " أنت إلهي لا إله لي غيرك" فلا أتوجه إلى سواك، إذ كل مألوه غيرك باطل ودعوته ضلال ووبال، وهذا هو التوحيد الذي جاءت به رسل الله، وفرضه -تعالى- على عباده.
قوله: " فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وأسررت، وأعلنت".
أصل الغفر: الستر مع الوقاية، ومنه المغفر؛ لأنه يستر الرأس ويقيه من السلاح.
"ما قدمت" أي: قبل وقتي هذا.
"وما أخرت" أي: بعد وقتي هذا.
أي: اغفر لي ما عملت من الذنوب،(1/181)
وما سأعمله، وما ظهر منها لأحد من خلقك، وما خفي عنهم، ولم يعلمه غيرك.
وقوله في الرواية الأخرى: " أنت الحق، وقولك الحق، " فيها البيان بأن اسم الحق يقع على ذات الله -تعالى- اسماً، كما سبق بيانه، ويقع على صفاته، كما في قوله: " وقولك الحق".
وفي هذا الحديث وأمثاله دليل على وقوع الذنوب من الأنبياء، إذ لو لم يكن له ذنب كيف يسأل المغفرة؟ وقد قص الله -تعالى- ما وقع لبعض الرسل من
المخالفات، وهذه مسألة مشهورة عند العلماء، وقد ألف فيها مؤلفات خاصة، وقد اتفق أهل السنة على أن ما يبلغونه من أمر الله وشرعه أنهم معصومون فيه من الخطأ، وأما وقوع الذنوب منهم ففيه الخلاف، وقد بالغ بعض الناس، وكفر من قال بوقوع الذنب منهم، وهذا جهل من قائله.(1/182)
قال شيخ الإسلام: " اتفق المسلمون على أنهم معصومون فيما يبلغون عن الله -تعالى-، وبهذا يحصل المقصود من البعثة، ولو لم تقع منهم الذنوب لفاتهم ما في التوبة من محبة الله وفرحه، ورفع درجة التائب، وكون التائب بعد التوبة أفضل منه قبلها، مع ما في القول بأن الذنوب لا تقع منهم من تكذيب لكتاب الله، وأخبار رسوله، أو تحريف لها، ومن اعتقد أن كل من لم يكفر، ولم يذنب، أفضل من كل من آمن بعد كفره، أو تاب بعد الذنب، فهو مخالف لما علم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن من المعلوم أن الصحابة أفضل من أبنائهم الذين ولدوا في الإسلام.
وقد قال -تعالى- في أفضل الرسل: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} لما نزلت قال الصحابة: يا رسول الله، هذا لك، فما لنا؟ فأنزل – عز وجل -: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} .
وتوبة الأنبياء واستغفارهم أدلته كثيرة، فكيف يقال: إنه لم يكن لهم ما يوجب التوبة والاستغفار، ولا تفضل الله عليهم بمحبته، وفرحه بتوبتهم، ومغفرته لهم ورحمته، واعتراف جليل القدر بما هو عليه من الحاجة إلى التوبة والاستغفار دليل على صدقه، ورفعته، وتواضعه، وعبوديته لله تعالى – والغنى عن الحاجة من خصائص الربوبية وقد قال –صلى الله عليه وسلم-: " اللهم اغفر خطئي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي" (1) .
قال: " باب: {وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} " (2)
يريد بهذه الترجمة بيان أن هاتين الصفتين – السمع والبصر- ثابتتان لله بالكتاب والسنة، وإجماع أتباع الرسل، وبالعقل، والفطرة، وبيان أن الله -تعالى- لم يزل بصفاته، وبيان أن المنكر لهاتين الصفتين قد ضل عن كتاب الله، وسنة رسوله، واتبع غير سبيل المؤمنين أتباع الرسل.
قال القسطلاني: " وقد علم بالضرورة من الدين، وثبت في الكتاب والسنة، بحيث لا يمكن إنكاره ولا تأويله، أن الباري -تعالى- حي سميع بصير، وانعقد إجماع أهل الأديان – بل جميع العقلاء- على ذلك" (3) .
"فالسمع، والبصر، والحياة، والعلم، والقدرة، والكلام، ونحوها، صفات كمال لا نقص فيها، فمن اتصف بها أكمل ممن لا يتصف بها، والنقص في انتفائها لا في ثبوتها بإجماع العقلاء، والقابل للاتصاف بها كالحيوان أكمل، ممن لا يقبل الاتصاف بها كالجماد" (4)
قلت: الحامل على إنكار ذلك هو الجهل بالله -تعالى- والقياس الفاسد؛ حيث قاسوا ذلك على ما يعرفون من أنفسهم بأن السمع ينشأ عن وصول الهواء إلى عصب الصماخ، والبصر عبارة عن وقوع أشعة الإبصار على جسم مقابل.
قالوا: هذا لا يكون إلا من جوارح وأجسام.
_________
(1) انظر: " منهاج السنة" (1/227-228) ملخصاً.
(2) الآية 134 من سورة النساء.
(3) "إرشاد الساري" (10/370) .
(4) "مجموع الفتاوى" (6/88) .(1/183)
فيقال لهم: هذه صفة أسماعكم وأبصاركم، أما رب العالمين فصفاته تابعة لذاته، وذاته ليس لها نظير أو شبيه، فكذلك صفاته تعالى.
وكيفية صفاته -تعالى- مجهولة للخلق، ويكفينا أن نعلم أنه -تعالى- متصف بما وصف به نفسه ووصفته به رسله حقيقة، وأنه في ذلك ليس له مثل، كما قال -تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} .
قال الحافظ: " قال ابن بطال: غرض البخاري في هذا الباب الرد على
من قال: إن معنى "سميع بصير" عليم، قال: ويلزم من قال ذلك أن يسويه بالأعمى الذي يعلم أن السماء خضراء، ولا يراها، والأصم الذي يعلم أن في الناس أصواتاً، ولا يسمعها، ولا شك أن من سمع وأبصر، أدخل في صفة الكمال، ممن انفرد بأحدهما دون الآخر.
فصح أن كونه سميعاً بصيراً، يفيد قدراً زائداً على كونه عليماً.
وكونه سميعاً بصيراً يتضمن أنه يسمع بسمع، ويبصر ببصر، كما تضمن كونه عليماً أنه يعلم بعلم، ولا فرق بين إثبات كونه سميعاً بصيراً، وبين كونه ذا سمع وبصر، وهذا قول أهل السنة قاطبة" (1)
وقال البيهقي: " السميع من له سمع يدرك به المسموعات، والبصير من له بصر يدرك به المرئيات، وكل منهما في حق الباري صفة قائمة بذاته" (2) .
وقد تكاثرت الأدلة من كتاب الله -تعالى- ومن سنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- على إثبات السمع والبصر صفتين لله -تعالى- حقيقتين على ما يليق بعظمته -تعالى- قال الله -تعالى-: {إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (3) ، {وَكَانَ اللهُ
_________
(1) "الفتح" (13/373) .
(2) "الاعتقاد" (ص58) .
(3) الآية 58 من سورة النساء.(1/184)
سَمِيعًا بَصِيرًا} (1) ، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (2) ، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3) ، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (4) ، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (5) ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (6) ، {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (7) ، {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (8) .
في آيات كثيرة قد ذكر الله -تعالى- في القرآن السمع والبصر، واصفاً بهما نفسه، فيما يقرب من مائة آية، مرة يجمع بين السمع والبصر، ومرة بين السمع والعلم، ومرة يذكر البصر وحده متعلقاً بعمل العباد، كقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (9) ، {وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (10) .
وقد تقرر في الفطر والعقول، أن عدم السمع والبصر، والأرجل والأيدي، نقص وعيب يمتنع معه دعوة الفاقد لذلك؛ لامتناع كونه إلهاً، إذ الإله يجب أن يكون سميعاً بصيراً حياً قادراً، كاملاً، لا نقص فيه، ولا عيب، قال –تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ
_________
(1) الآية 134 من سورة النساء.
(2) الآية 61 من سورة الحج.
(3) الآية 1 من سورة الإسراء.
(4) الآية 75 من سورة الحج.
(5) الآية 20 من سورة غافر.
(6) الآية 11 من سورة الشورى.
(7) الآية 56 من سورة غافر.
(8) الآية 1 من سورة المجادلة.
(9) الآية 265 من سورة البقرة.
(10) الآية 20 من سورة آل عمران.(1/185)
لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {194} أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} (1) .
وقال -تعالى- عن خليله إبراهيم في دعوته أبيه إلى الله -تعالى- {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا} (2) .
وأما سنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقد جاءت موافقة لما في كتاب الله ومبينة له، وهي كثيرة جداً، نكتفي بذكر يسير منها بالإضافة إلى ما ذكره البخاري في الباب.
فمن ذلك ما رواه أبو داود بسنده على شرط مسلم، عن أبي هريرة أنه قرأ قول الله -تعالى-: {وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (3) فوضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينه، وقال: " رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقرأ ويضع إصبعيه" (4) . قال البيهقي عقب روايته لهذا الحديث: " والمراد بالإشارة في هذا الخبر: تحقيق الوصف لله – عز وجل – بالسمع والبصر، فأشار إلى محل السمع والبصر منا لإثبات صفة السمع والبصر لله -تعالى-، وأفاد هذا الخبر أنه سميع بصير، له سمع وبصر، لا على معنى أنه عليم، إذ لو كان بمعنى العلم لأشار في تحقيقه إلى القلب؛ لأنه محل العلوم منا" (5) .
ثم ذكر البيهقي لحديث أبي هريرة هذا شاهداً، من حديث عقبة بن عامر، سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول على المنبر: " إن ربنا سميع بصير،
_________
(1) الآيتان 194، 195 من سورة الأعراف.
(2) الآية 42 من سورة مريم.
(3) الآية 134 من سورة النساء.
(4) انظر: " سنن أبي داود" (5/97) .
(5) "الأسماء والصفات" (ص179) ملخصاً.(1/186)
وأشار بيده إلى عينيه" (1) قال الحافظ: سنده حسن (2) ، وروى اللالكائي عن ابن عباس أنه قرأ قوله –تعالى-: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} فأشار بيده إلى عينيه (3) .
قال ابن خزيمة: " نحن نقول: لربنا عينان يبصر بهما ما تحت الثرى، وتحت الأرض السابعة السفلى، وما في السماوات، وما بينهما من صغير وكبير، لا يخفى
عليه خافية، فهو تعالى يرى ما في جوف البحار ولججها، كما يرى عرشه الذي هو مستو عليه" (4) .
فالسمع والبصر من الصفات الثابتة لله -تعالى- بقوله عن نفسه، ويقول رسوله –صلى الله عليه وسلم-، وبالعقل، والفطرة، وإجماع أهل العلم والإيمان، ولم ينكر ذلك إلا شواذ الطوائف المارقة من الحق، كالجهمية، وإخوانهم من بعض المعتزلة، وليس معهم على ذلك إلا التحذلق، والكلام الفارغ من الحق والمعنى الصحيح، أو التوهم بأن إثبات الصفات يقتضي التشبيه، حيث توهموا أن صفات الله كصفات خلقه، تعالى الله.
قوله -تعالى-: {وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} ، "كان" هنا تدل على الدوام والاستمرار الذي يعم جميع الأوقات، كما قال علماء النحو: " إن "كان" تستعمل بمعنى: بقي على حاله، واستمر شأنه، وسيستمر من غير انقطاع، ولا تقيد بزمن، نحو: كان الله غفوراً رحيماً" (5) .
قال ابن جرير: " إن الله لم يزل {سميعاً} بما تقولون، وتنطقون، وهو سميع لذلك منك إذا حكمتم بين الناس، ولما تحاورونهم به.
_________
(1) هذا الحديث لم أجده في "الصفات" المطبوع، فيكون في النسخة التي نقل منها الحافظ.
(2) "الفتح" (13/373) .
(3) "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (2/411) .
(4) كتاب "التوحيد" (ص50) .
(5) "النحو الواضح" (1/549) ، وانظر " " المقتضب للمبرد" (4/119) .(1/187)
{بصيراً} بما تفعلون فيما ائتمنتم عليه من حقوق رعيتكم وأموالهم، وما تقضون به بينهم من أحكامكم، بعدل تحكمون أو جور، لا يخفى عليه شيء من ذلك، حافظ ذلك كله، حتى يجازي محسنكم بإحسانه، ومسيئكم بإساءته، أو يعفو بفضله" (1)
قوله: " قال الأعمش، عن تميم، عن عروة، عن عائشة، قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، فأنزل الله -تعالى- على النبي –صلى الله عليه وسلم-: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} ".
هذا الحديث رواه أحمد في "المسند" موصولاً (2) ، وابن ماجه في "السنن" (3) ، والنسائي (4) ، وكلهم بأتم مما ذكر البخاري.
ولفظهم: " أنها قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة – وللنسائي- خولة – إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- وأنا في ناحية البيت، وما أسمع ما تقول، فأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلى آخر الآية.
ورواه ابن ماجه في كتاب الظهار من "السنن" بأتم مما هنا (5) .
قال ابن عبد البر: " روينا من وجوه عن عمر بن الخطاب، أنه خرج ومعه الناس فمر بعجوز، فاستوقفته، فجعل يحدثها وتحدثه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، حبست الناس على هذه العجوز، فقال: ويلك! أتدري من هذه؟
_________
(1) "تفسير الطبري" (8/494) بتحقيق محمود شاكر.
(2) انظر: " المسند" (6/46) ، وانظر: " الفتح الرباني " (18/298) .
(3) انظر: " سنن ابن ماجه " (1/67) .
(4) "المجتبى " (6/168) .
(5) انظر: " سنن ابن ماجه" (1/666) .(1/188)
هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة بنت ثعلبة التي أنزل الله فيها: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} والله لو أنها وقفت إلى الليل ما فارقتها إلا لصلاة، ثم أرجع إليها " (1) .
قال ابن كثير: ورواه ابن أبي حاتم، وساقه بسنده (2) .
قوله: " وسع سمعه الأصوات" أي: استوعبها وأدركها فلا يفوته منها شيء وإن خفي، فحينما ذكرت المرأة قصتها لرسول الله – صلى الله عليه وسلم- وقال لها: " قد حرمت عليه" جعلت تقول – بصوت منخفض يخفى على عائشة مع قربها منها-: بعدما
كبرت سني ظاهر مني؟ إلى الله أشكو حال صبية إن ضممتهم إليَّ جاعوا، وإن تركتهم عنده ضاعوا. فهذه مجادلتها لرسول الله – صلى الله عليه وسلم- التي ذكرها الله –تعالى- بقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} وهذا من أبلغ الأدلة على اتصاف الله –تعالى- بالسمع، وهو أمر معلوم بالضرورة من الدين، لا ينكره إلا من ضل عن الهدى.
وقول عائشة هذا يدل على أن الصحابة – رضي الله عنهم، آمنوا بالنصوص على ظاهرها الذي يتبادر إلى الفهم، وأن هذا هو الذي أراده الله منهم ومن غيرهم من المكلفين ورسوله، إذ لو كان هذا الذي آمنوا به واعتقدوه خطأ لم يقروا عليه ولبين لهم الصواب، ولم يأت عن أحد منهم تأويل هذه النصوص عن ظواهرها، لا من طريق صحيح ولا ضعيف، مع توافر الدواعي على نقل ذلك مما يبين قطعاً أن الذي أريد منهم، ومن كل مؤمن، هو ظاهر الخطاب، وهذا واضح لمن تأمل النصوص، وعرف حال الصحابة.
وبهذا يتبين بطلان التأويل، وأنه سلوك غير سبيل الرسول –صلى الله عليه وسلم- وصحابته، والتابعين لهم، إلى نهاية الدنيا.
_________
(1) "الاستيعاب" (4/1831) بتحقيق البجاوي.
(2) انظر: " تفسير ابن كثير" (8/60) مطبعة الشعب.(1/189)
16-قال: " حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي عثمان، عن أبي موسى، قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فكنا إذا علونا كبرنا، فقال: " اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، تدعون سميعاً بصيراً قريباً" ثم أتى علىّ، وأنا أقول في نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال: " يا عبد الله ابن قيس، قل: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة" أو قال: " ألا أدلك به".
قوله: " كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فكنا إذا علونا كبرنا" هذا مما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعله، فكان يكبر إذا علا نشزاً، ويسبح إذا هبط في منخفض من الأرض، وقد بوب البخاري -رحمه الله - على الأمرين في الجهاد والدعوات من "صحيحه"، فقال: باب التسبيح إذا هبط وادياً، وبعده: باب التكبير إذا علا شرفاً.
قال المهلب: " تكبيره -صلى الله عليه وسلم- عند الارتفاع، استشعار لكبرياء الله - عزوجل -، وعندما تقع عليه العين من عظيم خلق الله أنه - أكبر من كل شيء.
والتسبيح في الأماكن المنخفضة استشعار بتنزيهه -تعالى - عن صفة السفل والانخفاض" (1) .
وفيه دليل على علو الله -تعالى- فوق كل شيء، وأنه لا يجوز أن يكون شيء من خلقه فوقه، تعالى وتقدس، وسيأتي البحث فيه إن شاء الله -تعالى-.
قوله: " فقال: " اربعوا على أنفسكم" أي: ارفقوا بأنفسكم، فلا تكلفوها
_________
(1) "فتح الباري" (6/136) .(1/190)
برفع أصواتكم، فإنه لا حاجة إلى ذلك، فإن من تكبرونه وتسبحونه سميع بصير، يسمع الأصوات الخفية كما يسمع الجهرية، ويرى الأشياء وإن دقت، فلا يخفى عليه شيء.
قوله: " فإنكم لا تدعون أصم، ولا غائباً" قال صاحب "القاموس": "الصمم: انسداد الأذن، وثقل السمع، بحيث لا يسمع الأصوات إلا إذا كانت مرتفعة عالية" (1) .
وقيل: هو انسداد الأذن، وذهاب سمعها.
قوله: " غائباً" أي: ليس بعيداً ومستور الرؤية والسمع عنكم، فيحتاج إلى المناداة ورفع الأصوات كما قال -تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (2) .
ولهذا قال: " تدعون سميعاً بصيراً قريباً" وهذه صيغ مبالغة لله؛ لأن له -تعالى- تمام الكمال من هذه الصفات، فلا يفوت سمعه أي حركة وإن خفيت، فيسمع دبيب النملة على الصفاة الصماء في ظلمة الليل، وأخفى من ذلك، كما أنه -تعالى- لا يحجب بصره شيء من الحوائل، فهو يسمع نغماتكم وأصوات أنفاسكم وجميع ما تتلفظون به من كلمات، ويبصر حركاتكم، وهو معكم قريب من داعيه، وهو أيضاً مع جميع خلقه باطلاعه وإحاطته، وهم في قبضته، ومع ذلك هو على عرشه عال فوق جميع مخلوقاته، ولا يخفى عليه خافية في جميع مخلوقاته مهما كانت، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله - في مكانه.
قوله: " قل: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة" الكنز هو: المال النفيس المحفوظ، والجمع والادخار يسمى: كنزاً.
_________
(1) انظر " القاموس" (4/140) .
(2) الآية 186 من سورة البقرة.(1/191)
وكنز الجنة: الأعمال الصالحة الفضيلة، التي يقبلها الله ويرضاها، فيحفظها ويدخرها لصاحبها، فيكون سبباً في دخوله الجنة ورفع منزلته فيها، وهو دليل على تفاضل الأعمال، والأدلة على ذلك كثيرة جداً.
ومعنى هذه الكلمة: لا تحول من حالة إلى أخرى، ولا انتقال من أمر إلى آخر، ولا قوة على ذلك، ولا قدرة إلا بالله، فهو المعين عليه والمهيئ لأسبابه والموجد لها، فهي استسلام لله، وإذعان لقدرته وإرادته، وإقرار بأنه لا يقع حركة أو سكون إلا بمشيئته - جلا وعلا-.(1/192)
17-قال: " حدثنا يحيى بن سليمان، حدثني ابن وهب، أخبرني عمرو، عن يزيد، عن أبي الخير، سمع عبد الله بن عمرو، أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي؟ قال: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي من عندك مغفرة، إنك أنت الغفور الرحيم ".
عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل القرشي، السهمي، أبو محمد، أسلم قديماً، وكان من أفاضل الصحابة وعبادهم، ومن العلماء المكثرين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد ثبت عن حافظ الأمة أبي هريرة - رضي الله عنه - قوله: " ما كان أحد أكثر مني حديثاً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب" (1) .
ومع ذلك فالمروي عنه أقل بكثير من المروي عن أبي هريرة، وقد قيل: إن السبب في ذلك أن عبد الله سكن مصر، والوارد إليها من الناس قليل، وأبو هريرة سكن المدينة، وهي مجمع الناس.
قيل: إنه توفي في مصر، وقيل: في الطائف، وقيل: في مكة، وقيل: في فلسطين، سنة ثلاث وستين؛ أو خمس وستين، عن اثنتين وسبعين سنة، - رضي الله عنه-، وعن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجمعين.
وأما أبو بكر فهو: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، القرشي، كان أبيض نحيفاً خفيف العارضين، وهو أفضل من صحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو أعلم الصحابة بالله ورسوله، وهو أول من أسلم من الرجال، ولسرعته إلى تصديق الرسول -صلى الله عليه وسلم- وشدة قبوله لقوله سمي: الصديق، وهو رفيق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة، وصاحبه في الغار، كما قال الله
_________
(1) رواه البخاري، انظر "الفتح" (1/206) .(1/193)
-تعالى-: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (1) ، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أمن الناس عليه، وأنه لو اتخذ من الناس خليلاً لاتخذ أبا بكر خليلاً، كما ثبت في "الصحيحين"، وأخبر أنه أحب الناس إليه من الرجال، وأن ابنته عائشة زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب الناس إليه من النساء.
أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يؤم الناس في مرض موته، ولما روجع في ذلك غضب، وقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس.
وفضائله كثيرة، وقد كتب فيه مؤلفات، توفي - رضي الله عنه - سنة ثلاث عشرة من الهجرة، ودفن جوار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (2) .
قوله: " إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً" الظلم هو: وضع الشيء في غير موضعه.
"وهذا يدل على أن الإنسان لا ينفك عن الذنوب، والتقصير في حقوق الله، كما في الحديث: " كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" (3) ؛ لأنه أطلق هذا الظلم ولم يقيده، أو يخصصه بزمن دون آخر، أو بحالة دون حالة، فلو كان هناك حالة أو زمن من عمر الإنسان لا يكون فيه ظلم ما صح هذا الإطلاق، ولا صار مطابقاً للواقع" (4) .
قوله: " ولا يغفر الذنوب إلا أنت " تقدم معنى الغفر في اللغة، والمقصود محو الذنوب ووقاية تبعاتها، وهذا لجوء إلى التوحيد، وأنه لا مفر ولا ملجأ يفزع
_________
(1) الآية 40 من سورة التوبة.
(2) "أسد الغابة" (3/309) .
(3) رواه ابن ماجه في "السنن"، "الزهد" (2/1420) الحديث (4251) ، والترمذي (4/70) ، وأحمد في "المسند" (3/98) .
(4) "شرح العمدة" لابن دقيق العيد (2/78) .(1/194)
إليه في غفران الذنوب، ووقاية شرها إلا الله وحده، ولا طريق يسلك لذلك إلا الانطراح بين يدي رب العالمين، والافتقار إليه، والتوجه بكلية العبد إليه، وإخلاص الدعاء له وحده، رغبة ورهبة، كما قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1) .
فعلم العبد بأنه لا يغفر الذنوب إلا الله يضطره إلى اللجوء إليه -تعالى- والإخلاص له، وليس هناك طريق للنجاة إلا هذا الطريق، ولهذا قيل: " إن التوحيد مفزع أولياء الله، وأعدائه" أما أولياء الله فأمرهم ظاهر، وأما أعداؤه: فكانوا إذا وقعوا في الشدائد أخلصوا الدعاء لله وحده، كما ذكر الله عنهم في القرآن، ونظر العقل يؤدي إلى هذا دائماً.
قوله: " فاغفر لي من عندك مغفرة" أي أنه لا حيلة لي ولا خلاص إلا بأن تمن علي أنت وحدك بالمغفرة، فتستر ذنوبي، وتعفو عني، وتقيني ما يترتب عليها من تبعات وشرور.
وقال: " من عندك" ليبين الاختصاص، أي أن المغفرة منك وحدك تفضل بها عليّ، بدون استحقاق، بل هي محض جودك وكرمك.
وقوله: " إنك أنت الغفور الرحيم" ختم هذا الدعاء، بهذين الاسمين الكريمين، لمناسبتهما للمطلوب، فالغفور يناسب طلب المغفرة.
والرحيم يناسب طلب التفضل والجود، وهو قريب من الأول، وهذا من معاني دعاء الله بأسمائه الحسنى.
" وقد جمع في هذا الدعاء الشريف العظيم القدر بين الاعتراف بحاله والتوسل إلى ربه - عز وجل - بفضله وجوده، وأنه المنفرد بغفران الذنوب، ثم
_________
(1) الآية 135 من سورة آل عمران.(1/195)
سأل حاجته بعد التوسل بالأمرين معاً، وهكذا أدب الدعاء، وأدب العبودية" (1) .
والمقصود من الحديث في هذا الباب أن المدعو لا بد أن يكون سميعاً يسمع دعوة الداعي إذا دعاه، بصيراً بحاله فيوصل إليه ما طلب بقدرته، وإلا تكون دعوته ضلال وسدى، ففي الدعاء واستجابة الله، -تعالى- لعبده الداعي برهان على أنه سميع، بصير، قادر، حي، عليم، وقد قال الله -تعالى- فيمن يدعو من لا يسمع ولا يبصر: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ {5} وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (2)
وقال -تعالى- عن خليله إبراهيم في دعوته لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا} (3) .
" وقد قال ابن عقيل: قد ندب الله -تعالى- إلى الدعاء، وفي ذلك معان:
أحدها: الوجود، فإن من ليس بموجود لا يدعى.
الثاني: الغنى، فإن الفقير لا يدعى.
الثالث: السمع، فإن الأصم لا يدعى.
الرابع: الكرم، فإن البخيل لا يدعى.
الخامس: الرحمة، فإن القاسي لا يدعى.
السادس: القدرة، فإن العاجز لا يدعى.
_________
(1) "الوابل الصيب" (ص118) .
(2) الآيتان 5، 6 من سورة الأحقاف.
(3) الآية 42 من سورة مريم.(1/196)
ومن يقول بالطبائع، يعلم أن النار، لا يقال لها: كفي، ولا النجم يقال له: أصلح مزاجي، لأن هذه عندهم مؤثرة طبعاً لا اختياراً، فشرع الدعاء، وصلاة الاستسقاء، ليبين كذب أهل الطبائع" (1) .
و"فعل السمع يراد به أربعة معان:
أحدها: سمع إدراك، ومتعلقه الأصوات.
الثاني: سمع فهم، وعقل، ومتعلقه المعاني.
الثالث: سمع إجابة وإعطاء ما سئل.
الرابع: سمع قبول، وانقياد.
فمن الأول: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} ، و {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} (2) .
ومن الثاني: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا} (3) ، أي: سمع فهم وعقل، ومن الثالث: سمع الله لمن حمده، ومن الرابع: قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أي: قابلون له، ومنقادون، فسمع الإدراك يتعدى بنفسه، وسمع القبول يتعدى باللام، وبمن، ولإجابته بمن" (4) .
_________
(1) "شرح الطحاوية" (ص457) الطبعة الثالثة.
(2) الآية 181 من سورة آل عمران.
(3) الآية 104 من سورة البقرة.
(4) "بدائع الفوائد" (2/75) .(1/197)
18- قال: " حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، حدثني عروة - أن عائشة - رضي الله عنها - حدثته، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن جبريل - عليه السلام - ناداني، قال: " إن الله قد سمع قول قومك، وما ردوا عليك".
اختصر البخاري هذا الحديث هنا - فذكر الشاهد منه، وقد ذكره بتمامه في بدء الخلق، ولفظه: " قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟
قال: " لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت - وأنا مهموم- على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيئاً" (1) .
ففي هذا الحديث البيان الواضح في أن الله -تعالى- يسمع أقوال عباده، وأنه لا يخفى عليه -تعالى- من ذلك شيء.
_________
(1) انظر: " البخاري مع الفتح" (6/312) .(1/198)
وصفة السمع والبصر من الصفات اللازمة لله -تعالى- وقد-تعالى- تقدم بيان ثبوت ذلك له -تعالى- عقلاً، وشرعاً، وفطرة، وأن من أنكر ذلك عرف به وأعلم إن كان جاهلاً، وإلا حكم عليه بالكفر؛ لإنكاره الحق الواضح، الواجب اعتقاده والإيمان به؛ لأنه أنكر ما ثبت، وتواترت عليه كتب الله، وجاءت به جميع رسله، فهو أمر ضروري.(1/199)
قال: " باب قول الله -تعالى-: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ} (1) ".
هذا الخطاب الكريم، وأمثاله كثير في كتاب الله -تعالى- عام شامل، يجب أن يفهم على عمومه، كما يجب أن يفهم مراد الله -تعالى- فيه، وفي غيره من خطاباته -تعالى-.
"وقد اتفق المسلمون وسائر أهل الملل على أن الله -تعالى- على كل شيء قدير، كما في نصوص القرآن الكريم، وغيره من كتب الله -تعالى- وما وجد من أفراد مسائل وقع الخلاف فيها، فهو بسبب عدم فهم النصوص، كقول من يدخل في هذا العموم، الممتنع لذاته، مثل الجمع بين الضدين، ككون الشخص ميتاً حياً في آن واحد، والجمع بين الحركة والسكون، والسواد والبياض، وما أشبه ذلك.
وكذا من لا يدخل ذلك في هذا العموم، فلا يكون ذلك داخلاً عندهم في عموم القدرة.
والحق أن الممتنع لذاته ليس شيئاً، ولا وجود له في الخارج، بل لا يتصوره الفكر ثابتاً في خارج الذهن، ويمتنع تحققه في الأعيان وتصوره في الأذهان، إلا على وجه التمثيل، فهو ليس بشيء، لا في الأعيان، ولا في الأذهان، فلا يصلح أن يقال: إنه خارج من هذا العموم، أو داخل فيه؛ لأن هذا يجعل له وجوداً ولو في الفرض، فيوقع في الشبه والشكوك، بل يقال: {إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهذا ليس بشيء.
وأما المعدوم، فليس بشيء أيضاً في الوجود الخارج، ولكنه شيء في
_________
(1) الآية 65 من سورة الأنعام.(1/201)
التصور والذهن، وما علم الله -تعالى- أنه سيكون، فهو شيء في التقدير، والعلم والكتاب، وإن لم يكن شيئاً في الخارج كما قال الله -تعالى-: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (1) .
فلفظ الشيء في الآية يتناول ما وجد، وما يتصوره الذهن موجوداً، ولا يستثنى من ذلك شيء، لا أفعال العباد، ولا أفعاله -تعالى-، سواء المتعدية، أو اللازمة،
كما قال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (2) .
فجمع في الآية بين النوعين من الأفعال، المتعدية واللازمة.
والقدرة تتعلق بكل ما تتعلق به المشيئة، فإن ما شاء الله كان، ولا يكون شيء إلا بقدرته -تعالى-: ولهذا قال -تعالى-: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ} (3) . {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4)
والشيء في الأصل، مصدر شاء، يشاء، شيئاً، كنال، ينال، نيلاً، ثم وضعوا المصدر موضع المفعول، فسموا "المشاء" شيئاً، كما سموا المنال: نيلاً، فقالوا: نيل المعدن، كما يسمى المقدور: قدرة، والمخلوق: خلقاً، فقوله تعالى: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: على كل ما يشاء، فمنه ما قد شاءه فوجد، ومنه ما لم يشأه {فلم يوجد} وهو شيء في العلم، بمعنى أنه قابل لأن يشاءه.
_________
(1) الآية 82 من سورة يس.
(2) الآية 4 من سورة الحديد، انتهى من "مجموع الفتاوى" ملخصاً (8/7-11) .
(3) الآية 29 من سورة الشورى.
(4) الآية 120 من سورة المائدة، المصدر السابق (ص383) .(1/202)
فهذا العموم يتناول ما كان شيئاً في الخارج، والعلم، وما كان في العلم فقط، بخلاف ما لا يجوز أن تتناوله المشيئة، وهو الحق -تعالى- وصفاته، أو الممتنع لنفسه، فإنه غير داخل في العموم، ولهذا اتفق الناس على أن الممتنع لنفس ليس بشيء" اهـ (1) .
_________
(1) المصدر السابق (ص383) .(1/203)
19- قال: " حدثني إبراهيم بن المنذر، حدثنا معن بن عيسى، حدثني عبد الرحمن ابن أبي الموالي، قال: سمعت محمد بن المنكدر يحدث عبد الله بن الحسن، يقول: أخبرني جابر بن عبد الله، السلمي، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمهم السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم فإن كنت تعلم هذا الأمر - ثم تسميه بعينه - خيراً لي، في عاجل أمري وآجله - قال: أو: في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري- فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم إن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: في عاجل أمري وآجله - فاصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به".
جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، الأنصاري الخزرجي، من أكابر علماء الصحابة، والحريصين على تحصيل العلم، فقد ذكر له عدة رحلات في طلب الحديث، منها: أنه رحل من المدينة إلى مصر من أجل حديث واحد، كما ذكره البخاري في "صحيحه" معلقاً، وكان حافظاً مكثراً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو مفتي المدينة في زمانه، له مناقب كثيرة.
قال الواقدي: توفي سنة ثمان وسبعين، وقال صاحب الحلية: سنة سبع وسبعين. قيل: إنه عاش أربعاً وتسعين سنة، - رضي الله عنه - وعن سائر صحابة رسول(1/204)
الله -صلى الله عليه وسلم- (1) .
قوله: " يعلمنا الاستخارة" أي: صلاتها ودعاءها، وهذا من تمام شفقته على أمته، وحرصه على حصول الخير لهم، ودفع كل شر عنهم، وبمثل هذا يعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان ليترك باب ما يعتقدونه في ربهم، من الإيمان بأسمائه وصفاته، وما يجب له، وما يمتنع عليه، ما كان ليترك ذلك بدون إيضاح وبيان لا يحصل معه أي التباس أو اشتباه، وهذا واضح جلي من دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومن حاله، وهو موجب الرسالة، ومن حالة أصحابه أيضاً.
الاستخارة: طلب الخير من أحد الأمرين، الفعل لما هم به، أو الترك، وهي مشروعة في عامة الأمور، كما يدل عليه هذا الحديث، لا يخرج من عموم ذلك إلا الواجب، والمحرم، أما المستحب والمكروه، ففيهما تفصيل، يذكر في كتب الآداب الشرعية، وكتب الفروع.
وقوله: " كما يعلمنا السورة من القرآن " بيان لشدة الاهتمام بها والاعتناء، وهذا من محاسن الإسلام الظاهرة لكل عاقل، وقد كان العرب قبل ذلك إذا هم أحدهم بالأمر ذهب يستقسم بالأزلام، أو ذهب يزجر الطير ليستدل بطيرانه أو نعابه على ما سيحصل له في المستقبل، أو ذهب إليه الكهنة وإخوان الشياطين، وهذا كله رجم بالغيب، وشرك بالله، فعوضه الإسلام عن ذلك بالفزع إلى من بيده أزمة الأمور كلها، ومن يملك الخير والشر، فيقدمون بين يدي ذلك ركعتين، لتكونا وسيلة بين يدي الطلب، ثم يتوجهون إلى ربهم بهذا الدعاء، الذي فيه التوسل إليه -تعالى- بأسمائه وصفاته، وتوحيد الطلب والنية والقصد.
وقوله: " ليركع" أمر بالركوع، ويحمل على الندب؛ للأدلة الدالة على عدم الوجوب.
_________
(1) انظر: " سير أعلام النبلاء" (3/189) ، و "الإصابة" (1/213) ، و "أسد الغابة" (1/256) و "الاستيعاب" (1/219) .(1/205)
قوله: " من غير الفريضة" يدل على عدم حصول سنة الاستخارة بالدعاء عقب صلاة الفرض، بل لابد أن تكون بركعتين غير الفريضة، ثم يدعو بهذا الدعاء.
قوله: " اللهم إني أستخيرك" أي: أطلب منك بيان وتيسير ما هو خير لي.
قوله: " بعلمك" أي: أسألك وأتوسل إليك بصفتك، صفة العلم، أن ترشدني إلى الخير فيما أريد، فإنك عالم به لا يخفى عليك شيء.
وهذا صريح في إثبات صفة العلم لله -تعالى- ودعائه به، والأدلة عليه لا حصر لها، كما سبقت الإشارة إليه.
وقوله: " وأستقدرك" أي: أسألك أن تجعلني قادراً على فعل ما أريد، وتهيء أسباب ذلك لي.
وقوله: "بقدرتك" وهذا سؤال لله -تعالى- بصفته التي هي القدرة، أي: أنت القادر الذي لا يعجزه شيء، فأسألك بهذه القدرة العظيمة أن تنيلني ما أريد، وهذا هو محل الشاهد من الحديث للباب، كما هو ظاهر.
ثم عاد إلى التوسل بهاتين الصفتين، بقوله: " فإنك تقدر ولا أقدر" الخ، يعني: لك القدرة الكاملة الشاملة، فأسألك بها، كما أني أسألك بفقري إليك وعجزي، فليس لي قدرة على شيء حتى تجعلني قادراً عليه، وتيسر لي أسبابه، وأنت تعلم عواقب الأمور، وما تؤول إليه، بل لا يخفى عليك شيء في الماضي، والحاضر، والمستقبل، فعلمك شامل لكل شيء، ولا علم لي بشيء من ذلك إلا ما علمتني.
وقوله: " وأنت علام الغيوب" أي: ذلك خاص بك، لا يعلمه سواك.
قوله: " ثم يسميه بعينه" ظاهر في أنه يتلفظ به معيناً له باسمه؛ ليكون بذلك أقوى على اجتماع العزم على طلبه.(1/206)
"في عاجل أمري وآجله" أي: في دنياي وآخرتي.
"أو في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري" شك من الراوي: هل قال الأول أو الثاني؟ والمعنى واحد.
وقوله: " فاقدره لي، ويسره لي" اقض به لي، واجعلني قادراً على الحصول عليه، وسهل لي أسبابه بحيث أناله بلا مشقة وكلفة، وفي هذا: أنه لا يحصل شيء إلا بسبب.
"ثم بارك لي فيه " اجعل فيه بركة تنميه وتزيده، وفيما يترتب عليه.
"اللهم إن كنت تعلم أنه شر لي، في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري- أو قال: عاجل أمري وآجله- فاصرفني عنه" أي: هيئ الأسباب التي تصرف قلبي وتثني عزمي عن فعله.
"واقدر لي الخير حيث كان" أي: قدر لي فعل ما فيه خير لديني ودنياي، في أي مكان، وفي أي وقت.
"ثم رضني به" أي: اجعلني رضياً به، قانعاً، ناعم البال، مستغنياً عن خلقك، مستعيناً به على طاعتك، وشاكراً لك منقاداً لأمرك.
ومراد البخاري: إثبات صفة القدرة لله -تعالى- وأن قدرته -تعالى- عامة لكل مقدور، والرد على القدرية نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم، الذين يقيدون قدرة الله -تعالى- بما اخترعوه من عند أنفسهم، ولهذا اقتصر على هذا القدر من الآية، أي القادر على كل شيء.
فالله -تعالى- يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا مانع له، ولا يقدر غيره أن يمنعه مراده " فهو قادر على كل مقدور".
وكل ممكن يكون مقدوراً له، فما من ممكن في نفسه إلا والله قادر عليه.
وأما الممتنع لنفسه، فإنه ليس بشيء عند جميع العقلاء، إن تنازعوا في المعدوم(1/207)
الممكن مثل إيمان الكافر: هل هو شيء أو لا؟ فأما الممتنع لنفسه: فلم يقل أحد إنه شيء في الخارج، والممتنع هو: ما لا يمكن وجوده في خارج الذهن، مثل كون الشيء موجوداً معدوماً (1) ، فإنه لا يعقل ثبوت ذلك، وكذا كون الشيء أسود كله وأبيض كله، وكون الجسم الواحد بعينه في الوقت الواحد في مكانين، والممتنع يراد به الممتنع لنفسه مثل هذه الأمور، ويراد به الممتنع لغيره مثل ما علم الله أنه لا يكون، وأخبر أنه لا يكون، وكتب ذلك، فهذا ممتنع، لأنه لو كان للزم أن يكون علم الله متخلفاً عن معلومه، وخبره بخلاف الواقع، تعالى عن ذلك، ولكن هو ممكن بنفسه والله قادر عليه، كما قال -تعالى-: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} (2) ، وقال -تعالى-: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} (3) ، وقال -تعالى-: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (4) ، {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} (5) .
وأمثال ذلك مما يخبر -تعالى- أنه لو شاء لفعله، فإن هذه الأمور التي أخبر أنه لو شاء لفعلها يلزم أنها ممكنة مقدورة له، فإيمان من علم الله أنه لا يؤمن مقدور له ممكن، لكنه لا يقع، وقد علم الله أنه لا يؤمن، مع كونه مستطيع الإيمان، كمن علم أنه لا يحج مع استطاعته الحج.
_________
(1) ومن ذلك قول بعض الملاحدة: هل يقدر الله أن يخلق مثل نفسه؟ فهذا ممتنع لنفسه، وإنما يورده جاهل لا يتصور ما يقول، أو ملبس معاند يريد إفساد عقائد عوام المؤمنين، أو التشكيك في قدرة الله -تعالى-.
(2) الآية 4 من سورة القيامة.
(3) الآية 18 من سورة المؤمنون.
(4) الآية 13 من سورة السجدة.
(5) الآية 118 من سورة هود عليه السلام.(1/208)
قال الله -تعالى-: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (1)
وحقيقة الأمر هو ما أخبر الله به في غير موضع من كتابه أنه على كل شيء قدير، وهذا هو ما يعتقده أهل السنة المثبتون للقدر" (2) .
_________
(1) الآية 28 من سورة الأنعام.
(2) "منهاج السنة" (2/118-122) ملخصاً ببعض التصرف.(1/209)
"فعند أهل السنة أن الله على كل شيء قدير، وكل ممكن فهو مندرج في هذا، وأما المحال لذاته مثل كون الشيء الواحد موجوداً معدوماً، فهذا لا حقيقة له، ولا يتصور وجوده، ولا يسمى شيئاً باتفاق العقلاء، ومن هذا الباب خلق مثل نفسه، وأمثال ذلك" (1) .
قال: " باب مقلب القلوب" وقول الله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} (2) .
قال الراغب: " تقليب الشيء: تغييره من حال إلى حال، والتقليب: التصرف، وتقليب الله القلوب والبصائر: صرفها من رأي إلى رأي " (3) .
قال ابن عباس: " لما جحد المشركون ما أنزل الله، لم تثبت قلوبهم على شيء، وردت عن كل أمر " (4) .
وقال مجاهد: "ونحول بينهم وبين الإيمان، ولو جاءتهم كل آية، فلا يؤمنون، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة" (5) .
قال الحافظ: " المراد بتقليب القلوب: تقليب أعراضها، وأحوالها، لا تقليب ذات القلب" (6) .
أخبر -تعالى- أنه يعاقب من لا يقبل الحق، أو يرده أول ما يبلغه بتقليب القلب، وتركه يعمه في ضلاله وغيه، كما في هذه الآية المذكورة في الباب، وكما في قوله -تعالى-: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (7) ، وفي هذا بيان أن الله -تعالى- إذا منع فضله الإنسان، بالهداية، أنه يكون منحرفاً ضالاً.
_________
(1) المصدر السابق (1/213) .
(2) الآية 110 من سورة الأنعام.
(3) "المفردات" (ص411) .
(4) رواه الطبري، انظر: " التفسير" (12/43، 41) .
(5) المصدر نفسه (12/44) .
(6) "الفتح" (11/527) .
(7) الآية 5 من سورة الصف.(1/211)
ومراد البخاري - رحمه الله - وصف الله -تعالى- بأنه المنفرد بالتصرف في خلقه حتى قلوب العباد التي تنطوي على آرائهم، ونياتهم، وما يخططون لمستقبلهم، حيث يرى كثير منهم أو أكثرهم في الظاهر أنهم أحرار في أفكارهم، وما يريدونه، والواقع أن الله - تعالى- هو الذي يصرفهم في ذلك، فلا قدرة لهم إلا بعد مشيئته،
وبهذا يشير البخاري - رحمه الله - إلى تمام قدرة الله التي سبق ذكرها في الباب قبل هذا، حيث بين بهذا أن الله هو المتصرف بالقلوب، فإن شاء جعلها مريدة للخير، وإن شاء جعلها مريدة للشر وبذلك يعلم أنه لا قدرة لأحد على شيء إلا بعد أن يجعله الله قادراً عليه، خلافاً لما يقوله الضالون عن الحق، من أهل البدع والانحراف.(1/212)
20-قال: " حدثنا سعيد بن سليمان، عن ابن المبارك، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن عبد الله، قال: " أكثر ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحلف: لا، ومقلب القلوب".
ذكر البخاري - رحمه الله - هذا الحديث في كتاب القدر، بلفظ: " كثيراً ما كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يحلف" لا، ومقلب القلوب" (1) .
وذكر عن ابن عمر - أيضاً -: " كانت يمين النبي -صلى الله عليه وسلم- لا، ومقلب القلوب" (2) .
وفي رواية ابن ماجه: " كان أكثر أيمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا، ومصرف القلوب" (3) .
قال الحافظ: " في هذا الحديث دليل على أن أعمال القلب، من الإرادات والدواعي وسائر الأعراض، بخلق الله -تعالى- وفيه جواز تسمية الله -تعالى- بما ثبت من صفاته على الوجه الذي يليق به" (4) .
ففي هذا الحديث، وما هو نحوه من الدلائل، أن الله -تعالى- هو الذي يتولى قلوب العباد يصرفها كيف يشاء، وهذا من تمام ملكه، فلا ينازعه أحد في التدبير والتصرف، ولا يقع في الوجود إلا ما أراده، وبهذا يعلم مدى حاجة العبد إلى ربه، وأنه لا غنى له عنه طرفة عين، فلا بد له من هدايته وتوفيقه، وإلا ضل
_________
(1) انظر: " البخاري مع الفتح" (11/513) .
(2) انظر: المرجع السابق (ص523) .
(3) انظر: " سنن ابن ماجه" (1/677) رقم (2092) .
(4) "فتح الباري" (11/527) .(1/213)
وتاه في مهامه نهايتها الهلاك، والعذاب المؤبد، وهذا لا ينافي تكليف العباد بالأعمال التي يترتب عليها الجزاء، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى - في موضعه.
وفي " صحيح مسلم" عن عبد الله بن عمرو، أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين، من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفه
كيف يشاء" ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " اللهم مصرف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك" (1) .
_________
(1) انظر: " مسلم"، كتاب القدر، (4/2045) رقم الحديث (2654) .(1/214)
قال: " باب إن لله مائة اسم إلا واحدة ".
مراده بهذا الباب: وجوب إثبات أسماء الله -تعالى- على ما ورد في كتاب الله، وعن رسوله، وأن ذلك من التوحيد الذي بينه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودعا أمته إلى الإيمان به، ووجوب اعتقاده، قال الله -تعالى-: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (1) ، وقال - جل وعلا - {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (2) ، وقال - تبارك وتعالى-: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (3) .
فهذه الآيات وغيرها مما في معناها، تدل على وجوب الإيمان بما لله -تعالى- من الأسماء الحسنى، الدالة على عظيم جلاله، وسمعة أوصافه، فكل اسم من أسمائه دال على كمال عظمته، وبذلك كانت حسنى، أما الأسماء التي لا تدل على صفات الكمال، فليست بحسنى، وكذلك إذا اشتركت دلالتها بين الكمال والنقص، أو دلت على مجرد علم محض، مثل إبراهيم، وزيد، فلا تكون حسنى حتى تدل على كمال الصفة التي اشتق منها الاسم، مثل "العليم" فإنه يدل على أن له علماً عاماً محيطاً بجميع الأشياء، لا يخرج عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض، ومثل "القدير" الدال على قدرته التي لا يعجزها شيء، و"الرحيم" الدال على رحمته العظيمة التي وسعت كل شيء.
_________
(1) الآية 180 من سورة الأعراف.
(2) الآية 110 من سورة الإسراء.
(3) الآية 24 من سورة الحشر.(1/215)
وهكذا كل أسمائه - جلا وعلا - وهذا تفصيل وبيان للباب الثاني من الكتاب، ولكونها حسنى أوجب على عباده دعاءه بها، كما يأتي في الباب بعد هذا، وتوعد الملحدين بها.
فيدعى بكل مطلوب بما يناسبه منها، فقال: اللهم اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، وتب عليّ إنك عفو كريم، والطف بي يا لطيف، وارزقني يا رزاق، وهكذا.
"قوله: " إن لله مائة اسم إلا واحدة" التأنيث في لفظة "واحد" نظراً إلى التسمية أو الكلمة، كما يقول النجاة: " الكلمة اسم أو فعل أو حرف".
وقال ابن مالك: " أنت باعتبار معنى التسمية، أو الصفة، أو الكلمة" (1) .
وفي بعض روايته: " إلا واحداً".
قال ابن عباس: {ذو الجلال} : العظمة، {البر} : اللطيف".
في رواية: " ذو الجلال: العظيم"، فيكون "العظيم" تفسيراً لـ" ذو"، وعلى الأولى تفسيراً لـ" الجلال".
فذو الجلال: صاحب العظمة، الذي لا تقاس عظمته بشيء من خلقه - جل وعلا-.
وأما "البر" فهو: المحسن غاية الإحسان إلى خلقه، من غير استحقاق ولا مقابل، فهو بليغ الإحسان إلى خلقه، وإحسانه شامل لهم.
وأما " اللطيف" فهو: العالم بالخفيات، ودقائق الأمور، وغوامضها، والله أعلم.
_________
(1) "فتح الباري" (11/219) .(1/216)
وقال الزجاج: " اللطيف": المحسن إلى عباده في خفاء وستر، من حيث لا يعلمون" (1) .
_________
(1) "تفسير الأسماء الحسنى" (ص44) .(1/217)
21-قال: " حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة".
{أحصيناه} حفظناه.
" قال جماعة من العلماء: الحكمة في قوله: " مائة إلا واحداً" بعد قوله: " تسعة وتسعين" أن يقرر ذلك في نفس السامع، جمعاً بين جهتي الإجمال والتفصيل، أو دفعاً للتصحيف الخطي، أو اللفظي" (1)
قوله: " إن لله تسعة وتسعين اسماً" هذا لا يقصد به حصر أسماء الله -تعالى- في هذا العدد المذكور، وإنما قصد الإخبار عما يترتب على إحصائها وجزائه، كما تقول: عندي مائة كتاب أعددتها للإعارة، فلا ينفي أن يكون عندك كتب غيرها، فالتقييد بهذا العدد عائد إلى الأسماء الموصوفة بهذه الصفة، وهي قوله: " من أحصاها دخل الجنة" فهذه الجملة محلها النصب صفة " لتسعة وتسعين"، ويجوز أن تكون في محل رفع على الابتداء، والمعنى " إن لله أسماء بقدر هذا العدد، من أحصاها دخل الجنة".
فأسماء الله -تعالى-، لا تدخل تحت حصر، ولا تحد بعدد، بدليل ما رواه الإمام أحمد في " المسند"، حدثنا يزيد، أنبأنا ابن مرزوق، حدثنا أبو سلمة الجهني (2) ، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله، قال: قال
_________
(1) " الفتح" (11/219) .
(2) يزيد هو: ابن هارون، إمام حافظ مشهور. وابن مرزوق هو: فضيل بن مرزوق الأغر الرقاشي الكوفي، من رجال مسلم، وأبو مسلمة وأبو سلمة هو موسى بن عبد الله أو ابن عبد الرحمن.(1/218)
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " ما أصاب أحداً قط هم، ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحاً" (1) سنده صحيح.
قال ابن كثير: " أخرجه الإمام أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" بمثله" (2) .
فهذا يدل على أن لله أسماء غير التسع والتسعين.
وقوله في الحديث: " أو استأثرت به في علم الغيب عندك" معناه: انفردت بعلمه فلم تطلع عليه أحداً، لا ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً.
وقسم أسماء الله -تعالى- في هذا الحديث ثلاثة أقسام:
أحدها: ما سمى به نفسه، فأظهره لمن شاء، من ملائكته أو غيرهم، ولم ينزله في كتبه.
والثاني: أنزله في كتبه، أو في بعضها، فتعرف به إلى عباده.
والثالث: استأثر به في علم الغيب عنده، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه، ولهذا قال: "أو استأثرت به في علم الغيب عندك " أي: جعلته من الغيب الذي لا يعلمه غيرك، وليس المراد أنه -تعالى- انفرد بالتسمي به؛ لأن هذا الانفراد ثابت في الأسماء التي أنزلها في كتبه، وهو ثبوت ما دلت عليه من المعاني اللائقة بعظمته، لا مجرد التسمية.
_________
(1) "المسند" (1/391، 452) ، وانظر: " الفتح الرباني" (14/262) .
(2) انظر: " تفسير ابن كثير" (3/517) ط الشعب.(1/219)
ومن الأدلة على عدم حصرها فيما ذكر: قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث الشفاعة: " فيفتح عليّ من محامده ما لا أحسنه الآن" وتلك المحامد، هي الثناء عليه -تعالى- بما له من أسماء حسنى وصفات عليا.
ومن الأدلة أيضاً قوله -صلى الله عليه وسلم-: " لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" (1) وأحسن الثناء ما كان بأسمائه الحسنى وصفاته العلية.
وبهذا يتبين أن الأسماء الحسنى غير محصورة في العدد المذكور، وإنما خص ذكر هذا العدد لما رتب عليه من الحكم، وهو: " من أحصاها دخل الجنة "، فليس في الحديث حصر أسماء الله -تعالى- ولا يدل على أنه ليس لله اسم غير هذه التسع والتسعين، وإنما أريد به الإخبار بدخول الجنة لمن أحصاها، لا الإخبار بحصرها،
وإلى هذا ذهب جمهور العلماء، كما ذكره الحافظ، ونقل النووي الاتفاق على ذلك (2) .
قال شيخ الإسلام: " والصواب الذي عليه جمهور العلماء: أن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " إن لله تسعة وتسعين اسماً، من أحصها دخل الجنة " معناه: أن من أحصى التسعة والتسعين من أسمائه دخل الجنة، ليس مراده أنه ليس له إلا تسعة وتسعون اسماً، فإن في الحديث الآخر الذي رواه أحمد وأبو حاتم في "صحيحه": " أسألك بكل اسم هو لك" الحديث، وفي "الصحيحين": " لا أحصي ثناء عليك" ولو أحصى جميع أسمائه، لأحصى صفاته، فكان يحصي الثناء عليه؛ لأن صفاته يعبر عنها بأسمائه" (3) .
قوله: " من أحصاها دخل الجنة" اختلف في المقصود من الإحصاء، وربما فهم من صنيع البخاري أنه يرى أن إحصاءها هو حفظ ألفاظها، كما فهم
_________
(1) رواه "مسلم" في كتاب الصلاة (1/352) ، و "أبو داود" في الوتر (2/134) وغيرهما.
(2) انظر: " فتح الباري" (11/220) .
(3) "درء تعارض العقل والنقل" (3/332) .(1/220)
من ذلك الحافظ ابن حجر، وعندي فيه نظر، وذلك أن عادة البخاري التي سار عليها في كتابه هذا، أنه إذا جاء لفظ في الحديث، وفي القرآن لفظ يوافقه في اللفظ والاشتقاق، أنه يذكره وإن كان لا يوافقه في المعنى، وأمثلة ذلك كثيرة:
فهو في قوله: " أحصيناه: حفظناه" يشير إلى قوله -تعالى-: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} ، قال الأصيلي: " إحصاؤها: العمل بها، لا عدها وحفظها؛ لأن ذلك قد يقع للكافر والمنافق، كما في حديث الخوارج: " يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم" (1) .
وذكر العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - لإحصائها ثلاث مراتب:
"الأولى: إحصاء ألفاظها، وعددها. والثاني: فهم معانيها ومدلولها.
الثالثة: دعاؤه -تعالى- بها، كما قال: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} .
والدعاء نوعان:
1-دعاء ثناء وعبادة.
2-ودعاء مسألة وطلب، وكلا النوعين ورد بهما القرآن بكثرة.
فلا يثنى عليه -تعالى- إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، كما لا يسأل إلا بها، ويسأل بها في كل مطلوب بما يناسبه ويقتضيه من الأسماء الحسنى، والصفات العلية الكريمة، كما تقدمت الإشارة إليه.
وهذا من أعظم الوسائل إلى الله -تعالى-، وأنفعها، ولهذا جاءت أدعية الرسل مطابقة لذلك" (2) .
_________
(1) "فتح الباري" (11/226) .
(2) انظر: " بدائع الفوائد" (1/164) .(1/221)
وبهذا يتبين أن إحصاءها الموعود عليه دخول الجنة، يتضمن حفظها وفهمها، ودعاء الله بها، والله أعلم.
قال أبو عمر الطلمنكي: " من تمام المعرفة بأسماء الله -تعالى- وصفاته التي يستحق بها الداعي والحافظ ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المعرفة بالأسماء والصفات، وما تتضمنه من الفوائد، وتدل عليه من الحقائق، ومن لم يعلم ذلك لم يكن عالماً لمعاني الأسماء ولا مستفيداً بذكرها ما تدل عليه من المعاني" (1) .
_________
(1) "فتح الباري" (11/226) .(1/222)
قال: " باب: السؤال بأسماء الله -تعالى-، والاستعاذة بها".
السؤال: هو الطلب بذل وخضوع وافتقار، والاستعاذة هي: العوذ والاحتماء بمن يدفع المكروه، ويرفع البلاء بعد نزوله، وهما من أفضل أنواع العبادة، فالبخاري - رحمه الله- أراد بهذا الباب أن يبين معنى دعاء الله -تعالى- بأسمائه الذي أمر الله به، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد بينه.
قال ابن بطال: " مقصود بهذه الترجمة: تصحيح القول بأن الاسم هو المسمى، فلذلك صحت الاستعاذة بالاسم، كما تصح بالذات" (1) .
قلت: هذا بعيد عن مقصود البخاري، وإنما مقصوده بيان كيفية دعاء الله وعبادته بأسمائه التي أمر أن يدعى بها ويعبد، بقوله -تعالى-: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وبين ذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- بفعله، وأمره، كما في الأحاديث التي ذكرت في هذا الباب وغيرها.
وأما مسألة: هل الاسم هو المسمى، أو غيره؟ فهي من بدع الكلام، التي حدثت بعد القرون المفضلة، والتي اختلط فيها الحق بالباطل.
والبخاري - رحمه الله - من أبعد الناس عن مثل ذلك.
قال ابن جرير الطبري - رحمه الله -: " وأما القول في الاسم: أهو المسمى أم هو غيره؟ فإنه من الحماقات الحادثة، التي لا أثر فيها فيتبع، ولا قول من إمام فيستمع، فالخوض فيه شين، والصمت عنه زين، وحسب امرئ من العلم به والقول أن ينتهي إلى قوله - جل ثناؤه- الصادق، وهو قوله -تعالى-: {قُلِ ادْعُواْ
_________
(1) "الفتح" (13/379) .(1/223)
اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (1) وقوله: {وللهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (2) .
"وكان سبب حدوث هذه المسألة، أن الجهمية قالوا: إن الاسم غير المسمى، وأسماء الله غيره، وما كان غيره فهو مخلوق؛ لأن الله -تعالى- وحده هو الخالق، وما سواه مخلوق، فإذا كانت أسماؤه غيره، فهي مخلوقة. فرد عليهم السلف، واشتد
نكيرهم عليهم؛ لأن أسماء الله من كلامه، وكلام الله غير مخلوق، فهو الذي سمى نفسه بهذه الأسماء.
فكان مراد الذين يقولون: الاسم غير المسمى {من أهل السنة} هو هذا.
ولهذا روي عن الشافعي، والأصمعي، وغيرهما، أنهم قالوا: إذا سمعت الرجل يقول: الاسم غير المسمى، فاشهد عليه بالزندقة" (3) .
وللناس في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: ما ذكره ابن بطال، وإليه ذهب كثير من المنتسبين إلى السنة كأبي القاسم الطبري اللالكائي، والبغوي، وغيرهما.
قال البغوي: " والاسم هو المسمى، وعينه، وذاته، قال الله -تعالى-: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} (4) .
فأخبر أن اسمه يحيى، ثم نادى الاسم، فقال: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} (5) .
_________
(1) الآية 110 من سورة الإسراء.
(2) الآية 180 من سورة الأعراف، " عقيدة الطبري" (ص12) .
(3) "مجموع الفتاوى" (6/187) .
(4) الآية 7 من سورة مريم.
(5) الآية 12 من سورة مريم.(1/224)
وقال -تعالى-: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا} (1) ، وأراد الأشخاص المعبودة؛ لأنهم كانوا يعبدون المسميات.
وقال -تعالى-: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وقال: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَام} .
والقول الثاني: أن الاسم غير المسمى.
والثالث: أن الاسم للمسمى، وهذا القول دل عليه الكتاب والسنة، قال -تعالى-: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (2) ، وقال -تعالى-: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (3) ، وقال -تعالى-: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (4) ، وقال -تعالى-: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (5) .
ومن السنة هذا الحديث: " إن لله تسعة وتسعين اسماً".
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " إن لي خمسة أسماء، أنا محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب" (6) .
هذا مذهب أكثر أهل السنة.
فلا يطلقون بأنه المسمى، ولا غيره، بل يفصلون، حتى يزول اللبس.
فإذا قيل لهم: أهو المسمى أم غيره؟ قالوا: ليس هو نفس المسمى، ولكن يراد به المسمى.
_________
(1) الآية 40 من سورة يوسف.
(2) الآية 180 من سورة الأعراف.
(3) الآية 110 من سورة الإسراء.
(4) الآية 8 من سورة طه.
(5) الآية 24 من سورة الحشر.
(6) رواه البخاري، انظره مع "الفتح في التفسير" (8/640) ، وفي "المناقب" (6/544) ، ومسلم في "الفضائل" (4/1828) رقم (2354) ورقم (2355) .(1/225)
وإن أريد بأنه غيره: كونه بائناً عنه، فهو باطل؛ لأن أسماء الله من كلامه، وكلامه صفة له، قائمة به، لا تكون غيره.
واسم الله -تعالى- في مثل إذا قيل: " الحمد لله" أو "بسم الله" يتناول ذاته وصفاته، لا ذاتاً مجردة عن الصفات، ولا صفات مجردة عن الذات. وقد نص الأئمة على أن صفاته، داخلة في مسمى أسمائه، فلا يقال: إن علمه وقدرته زائدة عليه.
ومن قال من أهل السنة: إن الصفات، زائدة على الذات، فمراده: أنها زائدة على ما أثبته أهل التعطيل، الذين أثبتوا ذاتاً مجردة عن الصفات؛ لأنه ليس في الوجود ذات مجردة عن الصفات، كما لا يمكن وجود صفات بلا ذات، تقوم بها، فتخيل وجود أحدهما دون الآخر من الهوس.
ثم إن الذين قالوا: إن الاسم هو المسمى، ليس مرادهم أن مجرد اللفظ هو الذات، التي وضع لها هذا الاسم، فإن هذا لا يقوله عاقل.
كما أن الذين قالوا أن الاسم غير المسمى، لم يريدوا أن مجرد اللفظ غير الذات، فإن هذا لا جدال فيه.
وما ذكره البغوي - رحمه الله - محتجاً به على أن الاسم هو المسمى، فهو لا يدل على ما قاله.
فقوله -تعالى-: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} ثم قال {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} فاللفظ الذي هو "الياء والحاء والياء" ليس هو ذات المسمى به، فمن زعم ذلك فقد كابر.
فالمقصود نداء المسمى لا نداء اللفظ، والمتكلم لا يمكنه نداء من يريد مناداته إلا بذكر اسمه، إلا أن يكون ذلك بالإشارة.(1/226)
وأما قوله -تعالى-: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا} (1) .
فليس المراد: أنكم تعبدون الأوثان المسماة، فهم معترفون بذلك.
بل المراد: نفي ما كانوا يعتقدونه فيها من الإلهية، والواقع أنه ليس فيها شيء من ذلك.
فإذا عبدوها معتقدين ثبوت إلاهيتها، مسمينها آلهة، لم يكونوا في حقيقة الأمر عبدوا إلا أسماء ابتدعوها، ما أنزل الله بها من سلطان، وليس فيها من معنى الإلهية شيء، فعبادتهم لما تصوروه في أنفسهم من معنى الإلهية وعبروا عنه بألسنتهم.
وهذا التصور خيالي، لا حقيقة له، فهم لم يعبدوا في الحقيقة إلا ذلك الخيال الفاسد، الذي تصوروه، وسموه إلهاً، فكان مجرد تسمية فقط، ليس له من معنى الإلهية شيء.
وأما قوله -تعالى-: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} فالمراد به، تسبيحه -تعالى- وتنزيهه عما لا يليق به، معتقداً ذلك بقلبه، متلفظاً باسمه بلسانه، قائلاً: " سبحان ربي الأعلى" والمراد المسمى بهذا الاسم، فتسبيح الاسم هو تسبيح المسمى.
ومن قال: المراد بتسبيح الاسم، أنك لا تسمي به غير الله، ولا تلحد في أسمائه، فهذا المعنى مما يستحقه اسم الله -تعالى- وهو داخل في المراد بالآية، ولكن المقصود المعنى الأول، والله أعلم.
وأما قوله -تعالى-: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} فالمعنى: أن البركة تكتسب، وتنال بذكر اسمه.
_________
(1) الآية 40 من سورة يوسف.(1/227)
ولو كان لفظ الاسم يراد به المسمى، لكفى قوله: تبارك ربك؛ لأن نفس الاسم عندهم هو الرب، فيكون بذكر الاسم تكرار.
وبهذا يتبين أن الشبه التي دعت كثيراً من العلماء إلى القول بأن الاسم هو المسمى أنها باطلة، وهي: أن الله -تعالى- وحده هو الخالق، وما سواه مخلوق، فإذا قيل: إن أسماء الله غيره، لزم أن تكون مخلوقة (1) .
_________
(1) هذا البحث من منتصف صفحة (193) كله مقتبس من رسالة شيخ الإسلام في الموضوع المثبتة في المجلد السادس من "الفتاوى" انظر: (ص185) .(1/228)
22- قال: " حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثني مالك، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " إذا جاء أحدكم فراشه، فلينفضه بصنفة ثوبه ثلاث مرات، وليقل باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين".
العبد الصادق العبودية، لا ينفك عن عبادة ربه، في أمور حياته كلها، في خروجه من بيته، وفي دخوله، وفي أكله وشربه، وفي نومه ويقظته، وفي مقارفته لأهله، ومعاملته للناس، ولذلك أرشد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا النوع من العبادة، في هذا الحديث وغيره، عند النوم، والاستيقاظ منه، وهو من عبادة الله ودعائه بأسمائه.
قوله: " فلينفضه بصنفة ثوبه ثلاث مرات" صنفة الثوب: طرفه من الداخل، لما في الرواية الأخرى: " داخلة إزاره" ولو فعل ذلك بغير طرف ثوبه حصل المقصود، والحكمة في ذلك إزالة ما لعله يكون فيه مما يؤذيه، وأمر بأن يكون ذلك ثلاث مرات، للمبالغة، وليكون ذلك وتراً، إذ الوتر معتبر في الشرع.
"وليقل: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه" لما كان النوم نوعاً من الموت، وقد يموت فيه حقيقة، لجأ إلى ربه بذكر اسمه، داعياً ومتبركاً به، وسائلاً به المغفرة، وهي ستر الذنوب، والعفو عنها، إن أمسك نفسه - أي قبضها في النوم - فلم يردها إلى بدنها.
قال -تعالى-: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ(1/229)
لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) .
"وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين " أي: إن رددتها إلى بدنها، فاحفظها من الشياطين، والضلال، والمؤذيات، بحفظك وحمايتك، التي تحمي بها أولياءك الذين تتولى حفظهم من كل مضر ومؤذ.
ففي هذا الحديث مشروعية ذكر الله -تعالى- عند النوم؛ ليكون موته الأصغر على اسمه، فيدخل بذلك في العمل بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) .
وفيه الاستسلام لله، والافتقار إليه، وسؤاله ما لا غنى له عنه، وهذا كله من عبادة الله تعالى ودعائه بأسمائه، فهو تفسير لقوله -تعالى-: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (3) ، وهذا هو وجه ذكر البخاري له، ولما يأتي من الأحاديث.
_________
(1) الآية 42 من سورة الزمر.
(2) الآية 162 من سورة الأنعام.
(3) الآية 180 من سورة الأعراف.(1/230)
23-قال: " حدثنا مسلم، حدثنا شعبة، عن عبد الملك، عن ربعي، عن حذيفة - رضي الله عنه -: " كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أوى إلى فراشه، قال: " اللهم باسمك أحيا وأموت، وإذا أصبح قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور".
حذيفة هو ابن اليمان، واسم اليمان: حسل، أو حسيل، وهو عبسي.
كان من كبار أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن الفقهاء النجباء أهل الفتوى، وصح عنه أنه قال: " كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن أقع فيه" ولهذا اختص بمعرفة الفتن، كما أنه عرف بصاحب السر، حيث أسر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسماء المنافقين، وأمره أن يكتم ذلك، وسأله رجل عن أشد الفتن فقال: " أن يعرض عليك الخير والشر فلا تدري أيهما تختار" توفي - رضي الله عنه - سنة ست وثلاثين (1) .
" إذا آوى إلى فراشه" أي: رجع إليه بعد عمل النهار.
"اللهم باسمك أحيا وأموت" أي ذاكراً اسمك في حياتي، مطمئناً به قلبي، إذ لا راحة لي ولا اطمئنان إلا بذكر اسمك، ولا حياة نافعة إلا بذلك. وعلى ذكر اسمك يا رب أموت، متوسلاً به إليك أن تتولاني، وتحفظني في جميع أحوالي.
" وإذا أصبح قال: " الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور".
النوم نوع من الموت، واليقظة حياة، وهو نعمة من الله على عباده حتى
_________
(1) انظر: " الاستيعاب" (1/334) ، "الرياضي المستطابة" (ص49) .(1/231)
ترتاح أبدانهم، وأفكارهم، وقد ينام الإنسان فلا ترجع إليه روحه، فإذا استيقظ سالماً، قد رجع إليه نشاطه وقوته، استوجب ذلك شكر الله -تعالى- والثناء عليه، فناسب قوله بعد يقظته: " الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا" أي: أرجع إلينا أرواحنا بفضله ومنته.
والنشور: هو البعث بعد الموتة الكبرى، فمصيرنا إلى ربنا، حتى يجازينا على أعمالنا كما وعدنا.
ففي هذا الحديث كالذي قبله، ذكر اسم الله -تعالى- عند النوم، والتوسل به، والثناء عليه بأن له الحمد، وهذا من الدعاء بأسماء الله الحسنى.(1/232)
24-قال: " حدثنا سعد بن حفص، حدثنا شيبان، عن منصور، عن ربعي بن حراش، عن خرشة بن الحر، عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أخذ مضجعه من الليل قال: باسمك نموت ونحيا، فإذا استيقظ قال: الحمد لله، الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور".
أبو ذر الغفاري: اختلف في اسمه، واسم أبيه، وصحح الحفاظ أنه جندب بن جنادة، كان من السابقين الأولين إلى الإسلام، غير أنه ذهب إلى قومه فتأخرت هجرته، ففاتته غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأولى، وكان عازفاً عن الدنيا، راغباً بما عند الله، وقصة إسلامه في "الصحيحين"، وكان من الحنفاء قبل أن يسلم، له أخبار كثيرة، ومناقب شهيرة، توفي في الربذة سنة اثنتين وثلاثين، -رضي الله عنه- (1) .
هذا الحديث ليس فيه زيادة على الذي قبله، إلا قوله: " من الليل"، والأول يدخل فيه نوم الليل والنهار.
_________
(1) انظر: " الاستيعاب" (1/252) ، و "الرياض المستطابة" (ص272) .(1/233)
25-قال: " حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن منصور، عن سالم، عن كريب، عن ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله، فقال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً".
هذا نوع آخر من الدعاء بأسماء الله -تعالى-.
"باسم الله" أي: أفعل ذلك، ذاكراً اسم الله، عابداً ربي بهذا الذكر، ومتبركاً به.
"اللهم جنبنا الشيطان" أي: أبعدنا عنه، فلا يشاركنا، ولا يحضرنا.
"وجنب الشيطان ما رزقتنا" أي: أبعد الشيطان عن الرزق الذي تقدره لنا من الولد، في هذا الاتصال.
ولا بد من الصدق في ذلك من القلب، والرغبة، والإيمان، والثقة بما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى يحصل الموعود، وهو عدم مضرة الشيطان للمولود.
والمقصود، ذكر الله -تعالى- عند مقاربة الزوجة، والاستعاذة به من الشيطان، أن يشاركه أو يحضره، أو يضر المولود بحال من الأحوال.
وهذا كما تقدم من بيان معنى قوله -تعالى-: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} .(1/234)
26-قال: " حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا فضيل، عن منصور، عن إبراهيم، عن همام، عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال: سألت النبي-صلى الله عليه وسلم- قلت: أرسل كلابي المعلمة؟ قال: " إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله، فأمسكن فكل، وإذا رميت بالمعراض فخزق فكل".
عدي بن حاتم هو: أبو طريف، الجواد بن الجواد، قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شعبان سنة تسع، بسبب كثرة كتابة أخته، فأسلم، وقد فرح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإسلامه، وهو ممن ثبت الله قومه على الإسلام - حين ارتد الناس - بسببه، شهد فتوح العراق، وساهم فيها.
وكان شريفاً فاضلاً، جواداً عابداً، روي عنه أنه يقول: " ما دخل عليّ وقت صلاة إلا وأنا مشتاق إليها " ومن أقواله: " كثرة الكلام أوضع شيء لمقادير الرجال، وأمضى الأشياء عندي رد السؤال بغير نوال"، له أخبار كثيرة وفضائل، توفي في الكوفة سنة ثمان وستين، وقيل غير ذلك، وكان عمر طويلاً، قيل: كان عمره لما مات مائة وعشرون سنة، - رضي الله عنه- (1) .
وأما الحديث، فيدل على نوع آخر من أنواع عبادة الله -تعالى- بذكر اسمه على الصيد، والكلاب المعلمة هي: التي تقبل التعليم، فإذا أمرت فعلت، وإذا نهيت انتهت، فإذا أرسلها صاحبها أمسكت الصيد له، وليس لنفسها، فلا تأكل منه.
ومفهوم الحديث: أنه إذا لم يذكر اسم الله -تعالى- عند الإرسال
_________
(1) "الاستيعاب" (3/1057) ، و "أسد الغابة" (3/392) ، و "الإصابة" (2/468) .(1/235)
أنه لا يأكل مما أمسكت الكلاب المعلمة، وكذا إذا لم يخزق المعراض - وهو السهم - أي لم يجرح، ولم يصب الصيد بحده، بأن أصابه بعرضه، فإنه لا يأكل؛ لأن الصيد حينئذ يكون وقيذة.(1/236)
27- قال: " حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا أبو خالد الأحمر، قال: سمعت هشام بن عروة يحدث: عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قالوا: يا رسول الله، إن هنا أقواماً حديثاً عهدهم بشرك، يأتونا بلحمان، لا ندري يذكرون اسم الله عليها أم لا؟ قال: "اذكروا أنتم اسم الله وكلوا".
في هذا الحديث أن ذكر اسم الله على الذبيحة شرط في حل الأكل منها، وأنه إذا كان ظاهر الذابح الإسلام، لا يلتفت إلى الاحتمال بأنه ذبحها على غير اسم الله، أو أنه لا يعرف الحكم، وما أشبه ذلك.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " اذكروا اسم الله وكلوا" ليس معناه أن ذكر اسم الله -تعالى- عند الأكل يجعلها حلالاً إذا كانت قد ذبحت على غير اسم الله -تعالى-، ولكن أمرهم بذكر اسم الله عند الأكل؛ لأنه الذي يلزمهم، ومطيباً بذلك قلوبهم، ومشيراً بذلك إلى إطراح الشك، إذ الأصل خلافه، وهو أن ظاهر الذابح الإسلام.
وهذا الحديث يدل على نوع آخر من عبادة الله -تعالى- بذكر اسمه على الذبيحة، وعلى الأكل، فهو من جنس ما تقدم.(1/237)
28-قال: " حدثنا حفص بن عمر، حدثنا هشام، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه- قال: " ضحى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكبشين، يسمي ويكبر".
الأضحية هي: النسك الذي يذبح تقرباً إلى الله، - في الوقت المحدد له.
والكبش: هو الذكر من الضأن.
وقوله: " يسمي ويكبر " يعني عند الذبح، يقول: بسم الله، والله أكبر، أي: أذبح بسم الله متقرباً إليه عبادة له.
فهذا - أيضاً - من عبادة الله -تعالى- ودعائه بذكر اسمه -تعالى- في النسك الذي هو من أفضل القرب إلى الله -تعالى-.(1/238)
29-قال: " حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن الأسود بن قيس، عن جندب، أنه شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر، صلى ثم خطب، فقال: " من ذبح قبل أن يصلي، فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله ".
جندب هو: جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي العلقي، نسبة إلى علقة بن عبقر بن أنمار، سكن الكوفة، ثم البصرة، وتوفي بعد الستين، - رضي الله عنه- (1) .
والمراد من الحديث قوله: " فليذبح باسم الله" أي: ذاكراً اسم الله على الذبيحة، عبادة له بذكر اسمه وبالذبح له، متقرباً إليه بذلك، كما أمر الله -تعالى- عباده بأن يخلصوا ذلك له وحده {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} (2) .
وقال -تعالى-: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (3) .
_________
(1) انظر: " الاستيعاب" (1/256) ، و "الرياض المستطابة" (ص46) .
(2) الآيتان 162، 163، من سورة الأنعام.
(3) الآية 2 من سورة الكوثر.(1/239)
30-قال: " حدثنا أبو نعيم، حدثنا ورقاء، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " لا تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفاً فليحلف بالله".
المقصود بالحلف: تأكيد الخبر بذكر اسم الله العظيم، يوقع بالكاذب العقوبة، ففي ضمن ذلك: أن المحلوف به مطلع على حقيقة الأمر، ولذلك صار الحلف بغير الله شركاً؛ لما في الحديث الذي رواه الترمذي: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" (1)
_________
(1) انظر: " سنن الترمذي" (3/45) ، وقال بعد ذكره: هذا حديث حسن، وفيه أن ابن عمر سمع رجلاً يحلف بالكعبة، فقال: لا يحلف بغير الله ... ثم ذكره.
ورواه أحمد في "المسند" (2/125) وهو صحيح.
ورواه الحاكم في " المستدرك" (4/297) ، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
ورمز له في حاشية الذهبي (خ م) يعني عند البخاري ومسلم، وليس كذلك.
ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/29) .(1/240)
قال: " باب: ما يذكر في الذات، والنعوت، وأسامي الله - عز وجل- " وقال خبيب: وذلك في ذات الإله. فذكر الذات باسمه -تعالى-.
قال الحافظ: "أي: ما يذكر في ذات الله ونعوته، من تجويز إطلاق ذلك عليه، كإطلاق أسمائه عليه، أو منعه، لعدم ورود النص" (1) .
وقال عياض: " ذات الشيء: حقيقته، وقد استعمل أهل الكلام الذات، بالألف واللام، وغلطهم أكثر النحاة، وجوزه بعضهم، لأنها ترد بمعنى النفس وحقيقة الشيء، واستعمال البخاري لها على أنها حقيقة الشيء على ما استعملها المتكلمون في حق الله -تعالى-، ولهذا قال: ما جاء في الذات والنعوت، ففرق بينهما على طريقة المتكلمين" (2) .
وقال الراغب: " ذات تأنيث "ذو"، وهي كلمة يتوصل بها إلى الوصف بأسماء الأجناس، والأنواع، ولا يستعمل شيء منها إلا مضافاً، وقد استعاروا الذات، فجعلوها عبارة عن عين الشيء، جوهراً كان أو عرضاً، واستعملوها مفردة، ومضافة {وأدخلوا عليها} الألف واللام، وأجروا مجرى النفس، والخاصة، وليس ذلك من كلام العرب" (3) .
وقال ابن برهان: " إطلاق المتكلمين الذات في حق الله -تعالى- من جهلهم؛ لأن ذات تأنيث ذو، وهو - جلت عظمته - لا يصلح له إلحاق تاء
_________
(1) "الفتح" (13/381) .
(2) "مشارق الأنوار" (1/273) ملخصاً.
(3) "المفردات" (ص182) بتصرف.(1/241)
التأنيث. وقولهم: الصفات الذاتية، جهل منهم أيضاً؛ لأن النسب إلى ذات: ذوى" (1) .
وقال الكندي: " ذات بمعنى: صاحبة، تأنيث ذو، وليس لها في اللغة مدلول غير ذلك، وإطلاق المتكلمين وغيرهم الذات بمعنى النفس خطأ عند المحققين" (2) .
قال الحافظ: " وتعقب بأن الممتنع: استعمالها بمعنى صاحبة، أما إذا قطعت عن هذا المعنى، واستعملت بمعنى الاسمية، فلا محذور؛ لقوله -تعالى-: {إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (3) أي بنفس الصدور.
وقد حكى المطرزي: كل ذات شيء، وليس كل شيء ذات، وأنشد ابن فارس: فنعم ابن عم القوم في ذات ماله إذا كان بعض القوم في ماله وفر (4)
وقال النووي: " مرادهم بالذات: الحقيقة، وهذا اصطلاح للمتكلمين، وقد أنكره بعض الأدباء عليهم، وقال: لا يعرف ذات، لي لغة العرب، بمعنى حقيقة، وإنما ذات، بمعنى صاحبة، وهذا الإنكار منكر، بل الذي قاله الفقهاء والمتكلمون صحيح، وقد قال الإمام أبو الحسن الواحدي، في أول سورة الأنفال في قوله -تعالى-: {فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} (5) .
قال أبو العباس أحمد بن يحيى، ثعلب: {ذَاتَ بِيْنِكُمْ} أي: الحالة التي بينكم، فالتأنيث عنده للحالة، وهو قول الكوفيين.
_________
(1) "الفتح" (13/382) .
(2) نفس المرجع.
(3) المرجع المذكور.
(4) "الفتح" (13/382) .
(5) الآية الأولى من سورة الأنفال.(1/242)
قال: وقال الزجاج: معنى {ذَاتَ بِيْنِكُمْ} حقيقة وصلكم، والبين: الوصل.
قال الواحدي: فذات عنده بمعنى النفس، كما يقال: " ذات الشيء ونفسه" (1) .
قلت: وهذا الذي ذكره النووي هو ما يقصده البخاري - رحمه الله - ولهذا قال: " فذكر الذات باسمه -تعالى- " أي: أقام الذات مقام اسمه -تعالى-.
قال الحافظ: " واستعمال البخاري لها، دال على أن المراد بها: نفس الشيء - على طريقة المتكلمين - في حق الله -تعالى-، ففرق بين النعوت، والذات" (2) .
وقال شيخ الإسلام: " لفظ ذات تأنيث ذو، وذلك لا يستعمل إلا فيما كان مضافاً إلى غيره، فهم يقولون: فلان ذو علم، وذو قدرة، ونفس ذات علم وقدرة، وحيث جاء في القرآن أو لغة العرب، لفظ "ذو"، ولفظ "ذات" لم يجيء إلا مقروناً بالإضافة، كقوله -تعالى-: {فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُم} ، وقوله: {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وقول خبيب: " وذلك في ذات الإله" ونحو ذلك.
لكن لما صار النظار، يتكلمون في هذا الباب، قالوا: إنه يقال: إنها ذات علم وقدرة، ثم إنهم قطعوا هذا اللفظ عن الإضافة، وعرفوه، فقالوا: " الذات" - وهو لفظ مولد - ليس من لفظ العرب العرباء، ولهذا أنكره طائفة من أهل العلم، كأبي الفتح ابن برهان، وابن الدهان، وغيرهما، وقالوا: ليست هذه اللفظة عربية.
_________
(1) "تهذيب الأسماء واللغات" (2/113) القسم الثاني.
(2) "الفتح" (13/382) .(1/243)
ورد عليهم آخرون، كالقاضي، وابن عقيل، وغيرهما.
وفصل الخطاب: أنها ليست من العربية العرباء، بل من المولد، كلفظ الموجود، والماهية، والكيفية، ونحو ذلك.
فهذا اللفظ يقتضي وجود صفات، تضاف الذات إليها، فيقال: ذات علم، وذات قدرة، وذات كلام، فإنه لا يمكن وجود شيء قائم بنفسه في الخارج، لا يتصف بصفة ثبوتية أصلاً" (1) .
وقال ابن القيم: " وأصل هذه اللفظة، هو تأنيث "ذو"، بمعنى صاحب، فذات كذا: صاحبة كذا، في الأصل.
ولهذا لا يقال: ذات الشيء، إلا لما له صفات، ونعوت تضاف إليه، فكأنه يقول: صاحبة هذه الصفات، والنعوت.
ولهذا أنكر جماعة من النحاة على الأصوليين قولهم: " الذات"، وقالوا: لا مدخل للألف واللام هنا، كما لا يقال: "الذو"، في ذو. وهذا إنكار صحيح.
والاعتذار عنهم: أن لفظة الذات في اصطلاحهم، قد صارت عبارة عن نفس الشيء، وحقيقته، وعينه.
فلما استعملوها استعمال النفس، والحقيقة، عرفوها باللام، وجردوها من الإضافة، وهذا أمر اصطلاحي، لا لغوي.
فإن هذا اللفظ يقال لما هو منسوب إليه، أو من جهته، كجنب الشيء.
فإذا قالوا: هذا في جنب الله، لا يريدون إلا ما ينسب إليه، وفي سبيله، ومرضاته وطاعته، لا يريدون غير هذا.
فلما اصطلح المتكلمون على إطلاق الذات، على النفس، والحقيقة، ظن من ظن أن هذا هو المراد بمثل قوله: " ثلاث كذبات في ذات الله،
_________
(1) "مجموع الفتاوى" (6/98-99) .(1/244)
وقوله: " وذلك في ذات الإله"، وهذا غلط، بل الذات هنا كالجنب، في قوله: {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} ، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال: فرطت في نفس الله وحقيقته، ويحسن أن يقال: فرط في ذات الله، كما يقال: قتل في ذات الله، وصبر في ذات الله؟ " (1) .
وبهذا يتبين أن هذا الإستعمال صحيح لا ينكر؛ لأنه أمر اصطلاحي على معنى مفهوم معين.
وبعض الناس يظن أن إطلاق الذات على الله -تعالى- كإطلاق الصفات، أي أنه وصف له، فينكر ذلك بناء على هذا الظن، ويقول: هذا ما ورد. وليس الأمر كذلك، وإنما المراد التفرقة بين الصفة، والموصوف.
وقد تبين مراد الذين يطلقون هذا اللفظ، أنهم يريدون نفس الموصوف وحقيقته، فلا إنكار عليهم في ذلك، كما وضحه كلام شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم.
قال القسطلاني: "والظاهر جواز إطلاق لفظ "ذات"، لا بالمعنى الذي أحدثه المتكلمون، ولكنه غير مردود، إذا عرف أن المراد النفس؛ لثبوت لفظ النفس في القرآن " (2) .
وأما "النعوت" فهو جمع نعت، وهو الوصف، يقال: نعت فلاناً نعتاً، أي وصفه وصفاً، وزنه ومعناه واحد، ومنه الحديث: " لا تباشر المرأة المرأة، فتنعتها لزوجها، كأنه يراها" (3) .
_________
(1) "بدائع الفوائد" (2/7) ببعض التصرف.
(2) "إرشاد الساري" (10/379) .
(3) رواه البخاري في كتاب النكاح، انظر "البخاري مع الفتح" (9/338) .(1/245)
وأما الأسامي، فهي جمع اسم، وتجمع أيضاً على أسماء.
قوله: " فذكر الذات باسمه -تعالى- أي: ذكر الله بلفظ الذات، وسمعه النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم ينكره، فصار دليلاً على جواز ذلك.
واعترض على استدلال البخاري بذلك؛ لأن خبيباً لم يرد الحقيقة، والنفس، وإنما يعني بقوله: " وذلك في ذات الإله" أي: في سبيله وطاعته.
والجواب: أن إطلاق لفظ الذات على الله -تعالى- جائز في الجملة؛ لورود الآثار، فيكون ذلك أصلاً للجواز، ففي الحديث الصحيح المتفق عليه: " أن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات، اثنتين في ذات الله" (1) .
وفي حديث ابن عباس: " تفكروا في كل شيء، ولا تفكروا في ذات الله" (2) .
قال الحافظ: سنده جيد.
وقال أبو الدرداء: " لا تفقه كل الفقه، حتى تمقت الناس في ذات الله ".
قال الحافظ: إسناده ثقات، إلا أنه منقطع" (3) .
وقد تقدمت الإشارة إلى الفرق بين الأسماء والصفات في الباب الأول.
وقد ذكر البخاري - رحمه الله - قصة خبيب وأصحابه، في كتاب المغازي، وهي مشهورة، فنكتفي بنص ما ذكره البخاري هنا.
_________
(1) رواه البخاري، انظره مع "الفتح" (4/410) ، (5/246) ، ومواضع أخر عدة، ومسلم في "الفضائل".
(2) قال في "كشف الخفا": رواه أبو نعيم في "الحلية"، وابن أبي شيبة في "العرش" (ص311) (4/1840) .
(3) "الفتح" (13/383) .(1/246)
31- قال: " حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية، الثقفي - حليف لبني زهرة، وكان من أصحاب أبي هريرة- أن أبا هريرة قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشرة، منهم خبيب الأنصاري فأخبرني عبيد الله بن عياض، أن ابنة الحارث أخبرته، أنهم حين اجتمعوا، استعار منها موسى يستحد بها، فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه، قال خبيب الأنصاري:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي شق كان لله في مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
فقتله ابن الحارث، فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه خبرهم يوم أصيبوا".(1/247)
قال: " باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} (1) وقوله - جل ذكره -: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} (2) ".
المراد بالنفس في هذا: الله -تعالى-، المتصف بصفاته، ولا يقصد بذلك ذاتاً منفكة عن الصفات، كما لا يراد به صفة الذات كما قاله بعض الناس، وسيأتي بيان ذلك من كلام السلف.
قال ابن جرير - رحمه الله تعالى -: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} أن تسخطوها عليكم بركوبكم ما يسخطه عليكم، فتوافونه {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} وهو عليكم ساخط، فينالكم من أليم عقابه ما لا قبل لكم به " (3) .
وقال: " ويخوفكم الله من نفسه، أن تركبوا معاصيه، أو توالوا أعداءه، فإن إلى الله مرجعكم، فاتقوه واحذروا أن ينالكم عقابه، فإنه شديد العقاب" (4) .
وقال ابن خزيمة: "أول ما نبدأ به من ذكر صفات خالقنا: ذكر نفسه، جل ربنا عن أن تكون نفسه، كنفس خلقه، وعز عن أن يكون عدماً لا نفس له " (5) .
_________
(1) الآية 28 من سورة آل عمران.
(2) الآية 116 من سورة المائدة.
(3) "تفسير الطبري" (6/321) بتحقيق: محمود شاكر.
(4) المرجع المذكور (6/317) .
(5) كتاب "التوحيد" (ص5) .(1/249)
ثم ذكر بعض النصوص في ذلك كقوله -تعالى- {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقوله -تعالى-: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} ثم ذكر ما رواه البخاري في هذا الباب، وحديث ابن عباس: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين خرج إلى صلاة الصبح وجويرية جالسة في المسجد رجع حين تعالى النهار، قال: " لم تزالي جالسة بعدي؟ "
قالت: نعم. قال: " لقد قلت بعدك أربع كلمات، لو وزنت بهن لوزنتهن (1) : سبحان الله العظيم وبحمده. عدد خلقه، ومداد كلماته، ورضا نفسه، وزنة عرشه" (2) .
وذكر أيضاً حديث محاجة موسى لآدم، وفيه: "قال آدم لموسى: أنت الذي اصطفاك الله برسالاته، واصطنعك لنفسه ... " (3) ثم قال: "فالله - جل وعلا- أثبت في آي من كتابه أن له نفساً، وكذلك قد بين على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن له نفساً" (4) .
وفي "صحيح مسلم" في حديث أبي ذر الطويل: " يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا" (5) .
وفي "السنن" عن علي - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في آخر وتره: " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من
_________
(1) يعني: لو وزنت هذه الأربع بما قلتيه منذ فارقتك لوزنتهن. رواه مسلم في كتاب الذكر.
(2) كتاب "التوحيد" (ص7) رواه مسلم، كتاب "الذكر" رقم (2726) (4/2090) .
(3) كتاب "التوحيد" (ص9) وهو في "الصحيحين"، انظر: "الفتح (6/441) ، و (8/434) ، و (11/505) ، ومسلم (4/2043، 2044) .
(4) كتاب "التوحيد" (ص8) .
(5) "صحيح مسلم" (4/1994) .(1/250)
عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" (1) .
وتقدم ذكر حديث ابن مسعود في "المسند" مرفوعاً: "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك" (2) .
فهذه النصوص واضحة في أن المراد بالنفس هو الله -تعالى- كما قلنا.
ولا يخالف ذلك ما قاله ابن خزيمة والأئمة؛ لأن مقصودهم إثبات ما أثبته الله من غير تعرض له بتأويل أو تمثيل، تعالى الله عن الأمثال والأنداد، والتمسك بالنصوص التي قالها الله ورسوله، مع الإعراض عما يقوله أهل التأويل، وأصحاب
الوساوس الشيطانية، التي تعود على النصوص بالإبطال، وحسب المسلم أن يسعه ما وسع السلف الصالح من الصحابة، ومن سلك طريقهم.
وليس معنى ذلك الإعراض عن معاني النصوص، كما يتوهمه بعض الناس من مذهب السلف، ويعبرون عنه بالتفويض.
بل المقصود إثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله، مع فقه المعنى اللائق بعظمة الله -تعالى- وفهمه، على ما دل عليه قوله -تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ونحوها من الآيات المحكمات، والأمر في هذا واضح لمن تمسك بالكتاب والسنة.
روى ابن جرير، عن مجاهد، في قوله -تعالى-: {إن الساعة آتية أكاد أخفيها} (3) .
_________
(1) "سنن أبي داود" (2/134) ، والترمذي (5/187) رقم (3562) ، والنسائي (3/249) ، وابن ماجه (1/373) رقم (1179) ، ورواه مسلم في "صحيحه" (1/352) رقم (222) .
(2) "المسند" (5/267) ، (6/153) تحقيق: أحمد شاكر.
(3) الآية 15 من سورة طه.(1/251)
قال: من نفسي. وأصله عن ابن عباس.
وروي عن أبي صالح: {أكاد أخفيها} قال: يخفيها من نفسه.
وعن قتادة: {أكاد أخفيها} - وهي في بعض القراءات: " أخفيها من نفسي" (1) -: "لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين، ومن الأنبياء المرسلين" (2) .
وقال ابن كثير: " أكاد أخفيها" قال الضحاك: عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: "أكاد أخفيها من نفسي"، يقول: لأنها لا تخفى من نفس الله أبداً، وقال سعيد بن جبير: عن ابن عباس، "من نفسه"، وكذا قال مجاهد وأبو صالح، ويحيى بن رافع.
وقال السدي: ليس أحد من أهل السماوات والأرض، إلا وقد أخفى الله عنه علم الساعة، وهي في قراءة ابن مسعود: " إني أكاد أخفيها من نفسي" (3) .
وقال ابن جرير في قوله -تعالى-: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ، يقول: إنك يا رب لا يخفى عليك ما أضمرته نفسي مما لا أنطق به ولم أظهره بجوارحي، فكيف بما نطقت به وأظهرته بجوارحي، لو كنت قد قلت للناس:
{اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ} كنت قد علمته، لأنك تعلم ضمائر النفوس مما لم تنطق به، فكيف بما نطقت به؟ {وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} يقول: ولا أعلم أنا ما أخفيته عني فلم تطلعني عليه، لأني إنما أعلم من الأشياء ما علمتنيه" (4) .
_________
(1) هي قراءة ابن مسعود، كما سيأتي عن ابن كثير وابن عباس.
(2) "تفسير ابن جرير" (16/149) طبعة الحلبي.
(3) "تفسير ابن كثير" (5/272) طبعة الشعب.
(4) "تفسير ابن جرير الطبري" (11/238) تحقيق: محمود شاكر.(1/252)
وقال في قوله -تعالى-: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} " أنعمت عليك - يا موسى - هذه النعم، ومننت عليك هذه المنن، اجتباء مني لك، واختباراً لرسالاتي، والبلاغ عني، والقيام بأمري ونهيي" (1) .
وقال ابن كثير: "أي: اصطفيتك واجتبيتك رسولاً لنفسي، أي كما أريد وأشاء" (2) .
وقال ابن سعيد الدارمي: "وادعى المعارض: أن الله لا يوصف بالضمير، والضمير منفي عن الله، وهي كلمة خبيثة قديمة، من كلام جهم، عارض بها جهم قول الله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ، يدفع بذلك أن يكون الله -تعالى- سبق له علم في نفسه من الخلق وأعمالهم قبل أن يخلقهم.
فرد عليه بعض العلماء، وقالوا: كفرت بها من ثلاثة أوجه:
الأول: أنك نفيت عن الله العلم السابق في نفسه قبل حدوث الخلق.
الثاني: أنك استجهلت المسيح ابن مريم - عليه السلام - بأنه وصف ربه بأن له خفايا علم في نفسه، إذ يقول: {وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} .
الثالث: أنك طعنت به على محمد -صلى الله عليه وسلم- إذ جاء به مصدقاً لعيسى..
قال أبو سعيد: "وقول جهم هذا أصل كبير في تعطيل النفس والعلم السابق، ويرد عليه بقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ، فذكر المسيح أن لله علماً سابقاً في نفسه، يعلمه الله، ولا يعلمه هو".
ثم روى عن أبي البحتري أنه قال: " لا يقولن أحدكم: اللهم أدخلني مستقر رحمتك، فإن مستقر رحمته نفسه" (3) .
_________
(1) "تفسير الطبري" (16/168) مطبعة الحلبي.
(2) "تفسير ابن كثير" (4/287) طبعة الشعب.
(3) نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي، (ص550) "عقائد السلف"، ملخصاً بتصرف.(1/253)
وقال الراغب: " نفسه: ذاته، وهذا وإن كان قد حصل - من حيث اللفظ - مضاف، ومضاف إليه، يقتضي المغايرة، وإثبات شيئين من حيث العبارة، فلا شيء من حيث المعنى سواه، سبحانه عن الاثنوية من كل وجه" (1)
قال الحافظ: قال البيهقي: والنفس في كلام العرب على أوجه:
منها: الحقيقة، كما يقولون في نفس الأمر، وليس للأمر نفس منفوسة.
ومنها: الذات، قال: وقد قيل في قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} إن معناه: تعلم ما أكنه، وما أسره، ولا أعلم ما تسره عني" (2) ، "وقال أبو إسحاق الزجاج في قوله -تعالى-: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} أي: إياه.
وحكى صاحب "المطالع" في قوله -تعالى-: {وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ثلاثة أقوال:
أحدها: لا أعلم ذاتك.
ثانيها: لا أعلم ما في غيبك.
ثالثها: لا أعلم ما عندك، وهو بمعنى قول غيره: لا أعلم معلومك أو إرادتك، أو سرك، أو ما يكون منك" (3) .
"قال ابن بطال: في هذه الآيات والأحاديث، إثبات النفس لله -تعالى- وللنفس معان، والمراد بنفس الله -تعالى- ذاته، وليس بأمر مزيد عليه، فوجب أن يكون هو" (4) .
_________
(1) "المفردات" (ص511) .
(2) "الفتح" (13/384) . ذكر الحافظ كلام البيهقي بالمعنى، فصار أحسن من كلام البيهقي، ولهذا آثرته، وهو في "الأسماء والصفات" (ص286) .
(3) "الفتح" (13/384) .
(4) المرجع نفسه.(1/254)
وقال شيخ الإسلام: "ونفسه هي ذاته المقدسة" (1) .
وقال أيضاً: "ويراد بنفس الشيء: ذاته، وعينه، كما يقال: رأيت زيداً نفسه، وعينه، وقد قال -تعالى-: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ، وقال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقال: {ويحذركم الله نفسه} .
وفي الحديث: "سبحان الله رضا نفسه"، وفي الآخر: " إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي".
فهذه المواضع المراد فيها بلفظ النفس عند جمهور العلماء: الله نفسه التي هي ذاته، المتصفة بصفاته، ليس المراد بها ذاتاً منفكة عن الصفات، ولا المراد بها صفة للذات.
وطائفة من الناس يجعلونها من باب الصفات.
كما يظن طائفة أنها الذات المجردة عن الصفات، وكلا القولين خطأ" (2) .
_________
(1) "مجموع الفتاوى" (14/196) .
(2) "مجموع الفتاوى" (9/292-293) ، باختصار قليل.(1/255)
32- قال: " حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي حدثنا الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: " ما من أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش، وما أحد أحب إليه المدح من الله ".
هذا الحديث ذكره البخاري في مواضع متعددة، فتقدم في تفسير سورة الأنعام، وفيه: "ولا شيء أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه" (1) . "فذكر النفس ثابت في هذا الحديث، وإن كان لم يقع في هذه الطريق، لكنه أشار إليه، كعادته، فإنه - رحمه الله - كثيراً ما يترجم ببعض ما ورد في طرق الحديث الذي يورده" (2) .
قلت: وهذه الجملة من الحديث المذكورة في التفسير هي محل الشاهد، فهو يشير إليها.
وسيأتي الكلام - إن شاء الله - في الغيرة بعد أربعة أبواب غير هذا، وتقدم الكلام في النفس ما فيه الكفاية.
قوله: "من أجل ذلك حرم الفواحش " الحرام هو: الممنوع، وتحريم الله -تعالى- للشيء، هو منعه منه شرعاً، أو قدراً، فالشرع نحو ما في هذا الحديث، وهو كثير جداً، أي أمثلته.
وأما القدر فكقوله - تعالى -: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ
_________
(1) انظر: " الفتح" (8/295) .
(2) "الفتح" (13/385) .(1/256)
لا يَرْجِعُونَ} (1) ، وقوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ} (2) .
والفواحش: جمع فاحشة، وهي: ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال، في الشرع، أو في العقل، أو في العرف.
قوله: " وما أحد أحب إليه المدح من الله " كلمة "أحد" لا يوصف بها في الإثبات شيء من الأعيان إلا الله -تعالى-، ولكنها تستعمل في غير الله، في النفي وما في معناه، كالشرط، والاستفهام، وتستعمل في أول العدد، كأحد اثنين وأحد
عشر، ولهذا لم يجيء في القرآن استعمالها لغير الله، إلا في غير الموجب، أو في الإضافة، كقوله -تعالى-: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ}
قال أهل اللغة: " تقول: لا أحد في الدار، ولا تقل: فيها أحد" (3) .
والمدح: هو الثناء الحسن، قال الجوهري: "المدح: الثناء الحسن، وقد مدحه وامتدحه، بمعنى، وكذلك المدحة، والمديح، والأمدوحة" (4) .
وفي كليات أبي البقاء، بعدما ذكر قول الجوهري قال: " وقيل: المدح: الثناء باللسان على الجميل مطلقاً، سواء كان من الفواضل، أو من الفضائل، وسواء كان اختيارياً، أو غير اختياري، ولا يكون إلا قبل النعمة" (5) .
فالمدح: " ذكر محاسن الممدوح، والإخبار عنها على سبيل الثناء والتعظيم بذلك، فإن اقترن بالحب والإرادة، فهو حمد؛ لأن الحمد هو: ذكر محاسن المحمود، والإخبار عنها، مع حبه وإجلاله، وتعظيمه، فهو خبر يتضمن الإنشاء" (6) .
_________
(1) الآية 95 من سورة الأنبياء.
(2) الآية 12 من سورة القصص.
(3) "مجموع الفتاوى" (17/137) .
(4) انظر: "الصحاح" (1/403) .
(5) "الكليات" (4/277) .
(6) "بدائع الفوائد" (2/93) .(1/257)
ومدح الإنسان نفسه نقص يلام عليه، وكذلك طلبه من الناس، وتكلفه لذلك يدل على نقصه، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن المدح ولا سيما في الوجه؛ لأن ذلك مظنة الفتنة والاغترار، وقد يكون المدح بالكذب، وربما حمله المدح على ظلم من لم يمدحه.
وفي "صحيح مسلم" عن همام بن الحارث أن رجلاً جعل يمدح عثمان، فعمد المقداد فجثا على ركبتيه - وكان رجلاً ضخماً - فجعل يحثو في وجهه الحصباء، فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب" (1) .
وروى ابن ماجه عن معاوية قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إياكم والتمادح فإنه الذبح" (2) وسنده حسن، وفي ذلك أحاديث كثيرة.
قال النووي: " قال العلماء: الجمع بين هذه الأحاديث وما جاء دالاً على الجواز - أي جواز المدح - أن النهي محمول على المجازفة في المدح، والزيادة في الأوصاف، أو على من يخاف عليه الفتنة، من إعجاب ونحوه، إذا سمع المدح، وأما من لا يخاف عليه ذلك؛ لكمال تقواه، ورسوخ عقله، ومعرفته، فلا نهي في مدحه في وجهه إذا لم يكن فيه مجازفة" (3) .
أما الله -تعالى- فلكماله المطلق مدح نفسه؛ لأنه أهل المدح والثناء، ولأن الخلق لا يقدرون على مدحه بما يستحق، كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: " لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" (4) .
_________
(1) "مسلم" (4/1297) ، و "ابن ماجه" (2/1232) رقم (3742) .
(2) "السنن" (2/1232) رقم (3743) .
(3) "شرح مسلم" (18/126) .
(4) سبق تخريجه قريباً.(1/258)
قال النووي: " حقيقة مدح العباد لله -تعالى- هو مصلحة للعباد؛ لأنهم يثنون عليه سبحانه فيثيبهم، فينتفعون، وهو سبحانه غني عن العالمين، لا ينفعه مدحهم، ولا يضره تركهم ذلك، وفيه تنبيه على فضل الثناء عليه سبحانه وتسبيحه، وتهليله، وتحميده، وتكبيره، وسائر الأذكار" (1) .
_________
(1) "شرح مسلم" (15/77) .(1/259)
33-قال: " حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " لما خلق الله الخلق، كتب في كتابه - وهو يكتب على نفسه، وهو وضع عنده على العرش - إن رحمتي تغلب غضبي".
قوله: " لما خلق الخلق " يجوز أن يكون المراد تقدير ذلك وكتابته قبل وجوده وظهوره، ويجوز أن يكون المراد جنس الخلق، فيكون المراد وجوده مخلوقاً.
قوله: "كتب في كتابه" يجوز أن يكون المعنى: أمر القلم أن يكتب، كما قال الحافظ. ويجوز أن يكون على ظاهره بأن كتب -تعالى- بدون واسطة، ويجوز أن يكون قال: " كن" فكانت الكتابة، ولا محذور في ذلك كله، وقد ثبت في "سنن الترمذي " و"ابن ماجه" في هذا الحديث: " إن الله - عز وجل - لما خلق الخلق كتب بيده على نفسه إن رحمتي تغلب غضبي" (1) .
ولا يصح أن يراد بالكتابة: الحكم الذي قضاه، نظير قوله -تعالى-: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} ؛ لقوله: " فهو عنده فوق العرش".
وكتابته -تعالى- ذلك؛ لتأكيد هذا الحكم، وإخبار عباده به؛ حتى يؤمنوا به ويعملوا على مقتضاه، أو لحكمة الله أعلم بها، وليس خوفاً من النسيان -تعالى الله -.
قوله: "وهو يكتب على نفسه " جملة حالية يقصد بها بيان أن كتابته
_________
(1) انظر: " سنن الترمذي" (5/210) ، و "ابن ماجه" (2/1435) الحديث رقم (4295) .(1/260)
-تعالى- لم يحمله عليها أحد، وإنما وقعت بمحض إرادته، تفضلاً منه، وجوداً على خلقه كتبه على نفسه، كما قال -تعالى-: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} .
وقوله: "وهو وضع عنده على العرش" وضع: بفتح الواو، وسكون الضاد، أي موضوع، وكذا جاء في: الجمع بين "الصحيحين"، للحميدي (1) ، وضبط أيضاً بفتح الضاد، على أنه فعل ماض، وبضم الضاد أيضاً، والأول أظهر وأشهر. وقوله: "عنده على العرش" أي أنه -تعالى- وضع الكتاب عنده فوق عرشه،
وسيأتي في باب: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} بهذا اللفظ: "عنده فوق عرشه". وذلك للاهتمام به، حيث وضعه على عرشه الذي استوى عليه.
كما يدل على أن الله على العرش، مستو عليه، كما قال -تعالى- عن نفسه في مواضع كثيرة من كتابه، وأخبرت به رسله، ويدل على علوه -تعالى-، وسيأتي ذكر ذلك مستوفى -إن شاء الله - في موضعه.
وما نقله الحافظ - عفا الله عنا وعنه - عن شراح كتاب البخاري من تأويل هاتين اللفظتين بالتأويلات الباطلة، المبنية على فساد العقيدة، سيأتي ردها - إن شاء الله - هناك بالبراهين.
قوله: " إن رحمتي تغلب غضبي" الرحمة والغضب كلاهما من أوصاف الله -تعالى-، ولكن الرحمة أوسع وأشمل، فرحمته تعالى وسعت كل شيء، كما قال عن حملة العرش، ومن حوله من الملائكة في دعوتهم للمؤمنين، أنهم يقولون: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} (2) ، وقال -تعالى-: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (3) وهذه هو معنى غلبها للغضب.
_________
(1) قاله الحافظ ابن حجر في "الفتح" (13/385) .
(2) الآية 7 من سورة غافر.
(3) الآية 156 من سورة الأعراف.(1/261)
وفي هذه النصوص ونحوها كثير أبلغ دليل على ثبوت صفة الرحمة لله -تعالى-، وكذا صفة الغضب، وبذلك يتبين بطلان قول أهل التأويل في هذه الصفة الكريمة من صفات ربنا - تبارك وتعالى -، وقولهم: " إن الرحمة: رقة القلب، وهي تدل على الضعف والخور في طبيعة الراحم، وتألمه على المرحوم" وهذا قول باطل بالنسبة إلى صفة الله -تعالى-، وبيان ذلك على وجوه:
الأول: أن هذا وصف رحمة بعض المخلوقين من النساء ونحوهن.
وقد علم التفاوت العظيم بين الخالق -تعالى- والمخلوق؛ بالشرع والعقل، والإجماع، وقد تقرر أن الصفة تتبع الموصوف في الكمال، وضده، كما تقدم.
الثاني: أن الضعف والخور مذموم، وهو نقص، وأما الرحمة فممدوحة، كما قال -تعالى-: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (1) ، مع نهيه -تعالى- عباده عن
الوهن، والحزن، قال -تعالى-: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} (2) ، وحثهم على الرحمة، وقد تقدم ذكر بعض الأحاديث في ذلك، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: " من لا يرحم لا يرحم"، وقوله: " لا تنزع الرحمة إلا من شقي"، وقوله: " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
ومستحيل أن يقول: لا ينزع الضعف والخور إلا من شقي.
ولما كانت الرحمة في حق كثير من الناس، تقارن الضعف والخور، ظن من غلط في ذلك أنها كذلك مطلقاً.
الثالث: أن أسماء الله -تعالى- حسنى، لا يلحقها نقص بوجه من الوجوه، وصفاته عليا عن النقص أيضاً، والله -تعالى- قد تمدح بهذه الأسماء والصفات، لأنها تدل على الكمال، فمن المحال أن يلحقها ما يلحق رحمة المخلوق.
_________
(1) الآية 17 من سورة البلد.
(2) الآية 139 من سورة آل عمران.(1/262)
34- قال: " حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، سمعت أبا صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: يقول الله -تعالى-: " أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من منهم، وإن تقرب إلىّ بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة".
هذا الحديث من الأحاديث القدسية، وهي: ما يذكره الرسول -صلى الله عليه وسلم- مضافاً إلى الله -تعالى- أنه قاله، ولكنه غير متعبد بتلاوته، ولا هو معجز متحدى به كالقرآن.
والظن يأتي بمعنى العلم واليقين، كقوله -تعالى-: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (1) .
ويأتي واسطة بين الشك والعلم، أو بمعنى الشك، كقوله -تعالى- عن الكفار {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} (2) . والقرائن تبين ذلك وتحدده.
فقوله: " أنا عند ظن عبدي بي "، قال صاحب "المرعاة": "يجوز أن يكون على ظاهره، والمعنى: أنا أعامله على حسب ظنه بي، وأفعل به ما يتوقعه مني، من خير أو شر، والمراد: الحث على تغليب الرجاء على الخوف، وحسن الظن بالله -تعالى- على ما دل عليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله".
_________
(1) الآية 46 من سورة البقرة.
(2) "المرعاة" (2/414) الطبعة الحجرية.(1/263)
ويجوز أن يكون المراد بالظن: العلم الموقن، ويكون المعنى: أنا عند علمه بي ويقينه بأن مصيره إليّ، وحسابه عليَّ، وأن ما قضيت به له أو عليه، من خير أو شر، لا مرد له، لا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت" (1) .
وقال الحافظ: " أنا عند ظن عبدي بي" أي قادر على أن أعمل به ما ظن أن أعامله به، وقال الكرماني: وفي السياق إشارة إلى ترجيح جانب الرجاء على
الخوف، وكأنه أخذه من أن العاقل يختار لنفسه وقوع الخير، وهو مقيد بالمحتضر، لما في الحديث: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله" (2) .
قلت: قول الحافظ هذا خلاف ظاهر الحديث، إذ هو خبر عن الله -تعالى- أنه عند ظن عبده به، يعني أنه -تعالى- يفعل بعبده ما ظنه العبد أنه يفعله به، وقد جاءت أحاديث مصرحة بذلك، كما في "المسند" من حديث واثلة بن الأسقع، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله: أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيراً فله، وإن ظن شراً فله" (3) ، ورواه ابن حبان، وهذا لفظه، وفي هذا أحاديث كثيرة.
وقال في "المفهم": "معنى: "أنا عند ظن عبدي بي" ظن الإجابة عند الدعاء، والقبول عند التوبة، والمغفرة عند الاستغفار، والإثابة على العمل، إيماناً بوعده -تعالى-؛ لما في الحديث "ادعوا الله، وأنتم موقنون بالإجابة" (4) .
ولذلك ينبغي للمرء أن يجتهد في العمل، موقناً بأن الله يقبله، ويغفر له؛ لأنه وعد بذلك، وهو لا يخلف وعده.
_________
(1) "المرعاة" (2/414) الطبعة الحجرية.
(2) "فتح الباري" (13/385-386) .
(3) انظر: " المسند" (3/491) و (4/106) ، وانظر: " موارد الظمآن" (ص184) .
(4) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. انظر "السنن" (5/180) قلت: هو ضعيف؛ لأن في سنده صالح المري.(1/264)
هذا إذا أتى بالعبادة بشروطها، فإن اعتقد أن الله لا يقبلها، وأنها لا تنفعه، فهذا هو اليأس، وهو من الكبائر، وأما ظن المغفرة مع الإصرار على الذنوب، فهو محض الجهل، والغرور. (1)
والحديث معناه واضح كما تقدم، وما ذكره صاحب المفهم من معناه، ووراء ذلك معنى أدق، وهو قرب الله من عبده المنيب إليه، وخير ما يفسر به كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- كلامه، ولكن لا يعارض النصوص الكثيرة المحذرة من عذاب الله -تعالى- وعقابه، فالأمر كما قال -تعالى-: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {49} وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} (2) ، وحسن الظن يكون مع حسن العمل،
وقد تشعر الإضافة في قوله: " عبدي" بحسن العمل، أي أنه عبد الله، وليس للشيطان أو للدنيا أو غيرهما. والله أعلم.
قوله: " وأنا معه إذا ذكرني" أي: معه بالإجابة، والتوفيق، وبسماع كلامه، وإثابته عليه، أو بحسب ما قصد في ذكره، ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم، فهذه المعية هي المعية الخاصة المذكورة في مثل قوله -تعالى-: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (3) .
ومعية الله -تعالى- بالنسبة لعباده نوعان:
معية عامة للخلق كلهم، كما قال -تعالى-: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (4) .
وقال -تعالى-: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (5) ، ومن مقتضى هذه المعية: اطلاعه -تعالى-
_________
(1) من "الفتح" (13/385-386) .
(2) الآيتان 49، 50 من سورة الحجر.
(3) الآية 46 من سورة طه.
(4) الآية 7 من سورة المجادلة.
(5) الآية 4 من سورة الحديد.(1/265)
وعلمه بكل شيء، ومراقبته، وشهوده أفعال عباده، فتفيد الخوف منه -تعالى-.
والنوع الثاني: المعية الخاصة، وهي المذكورة في هذا الحديث، ونحوه، كقوله -تعالى-: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (1) ، وقوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (2) ، ومن مقتضى هذه المعية: النصر والتأييد والهداية والحماية.
و"معيته -تعالى- لخلقه، لا تخالف علوه، واستواءه على عرشه، فكل ذلك حق على ظاهره، وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة، كما جمع بينهما في قوله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا
كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (3) . فأخبر -تعالى- أنه فوق العرش يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث الأوعال: "والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه" (4) .
وذلك أن كلمة "مع" في اللغة إذا أطلقت، فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال.
فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا، ويقال: هذا المتاع معي؛ لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك.
فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة.
_________
(1) الآية 128 من سورة النحل.
(2) الآية 40 من سورة التوبة.
(3) الآية 4 من سورة الحديد.
(4) رواه أبو داود في باب في الجهمية (5/53) ، والترمذي (5/97) ، وابن ماجه (1/69) الحديث رقم (193) ، وقد صححه ابن القيم، وأبطل حجج المضعفين له، انظر: " تهذيب السنن" (7/91) .(1/266)
ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (1) ، دل ظاهر الخطاب أن حكم هذه المعية ومقتضاها: أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف أنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته.
وقوله: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (2) حق على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية: الاطلاع والنصر والتأييد، ومثل ذلك قوله {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (3) ، وقوله: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (4) " (5) ، وسيأتي لذلك بقية.
قوله: "فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" أي: إن ذكر ربه سراً في نفسه، فإن الله -تعالى- يذكره سراً في نفسه، من غير اطلاع أحد من خلقه على ذلك.
وهذا هو محل الشاهد من الحديث، حيث أثبت النفس لله -تعالى- على ما سبق توضيحه.
قوله: "وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" الملأ: الجماعة، والمعنى: أن العبد إذا ذكر ربه ظاهراً في جماعة يسمعون ذكره لربه، فإن الله -تعالى- يذكره ويثني عليه في جماعة أفضل من الجماعة الذين ذكر العبد ربه فيهم؛ لأن الذين يذكر الله عبده فيهم في الملأ الأعلى عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
_________
(1) الآية 4 من سورة الحديد.
(2) الآية 40 من سورة التوبة.
(3) الآية 46 من سورة طه.
(4) الآية 128 من سورة النحل.
(5) "مجموع الفتاوى" (5/102-104) ملخصاً.(1/267)
وهذا من أقوى أدلة القائلين بتفضيل الملائكة على صالحي بني آدم، وهي مسألة مشهورة، والراجح فيها: أن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين أفضل من الملائكة، وتفضيل فرد من النوع لا يلزم منه تفضيل النوع كله على الآخر، والله أعلم.
قوله: " وإن تقرب إليَّ بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة".
قرب الله -تعالى- من عابده وداعيه، ثبت في نصوص كثيرة، كقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (1) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم-: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" (2) .
فالعبد إذا قرب إلى الله -تعالى- بالتوجه والمحبة، وإخلاص العمل، والصدق في ذلك، فإن الله -تعالى- يقرب إليه أكثر من قربه، فكلما زاد قرب العبد إلى ربه بالطاعة والإنابة والحب والإخلاص، زاد قرب الله إليه، حتى يكون قلب العبد بين يدي ربه، كأنه يشاهده بعينيه، وهو -جل وعلا- على عرشه.
قال شيخ الإسلام: " فكلما تقرب العبد باختياره قدر شبر، زاده الرب قرباً إليه، حتى يكون كالمتقرب إليه بذراع، فكذلك قرب الرب من قلب العابد، وهو ما يحصل في قلب العبد من معرفة الرب، والإيمان به، وهو المثل الأعلى" (3) .
وبهذا يتبين أن معنى قوله: " إذا تقرب إليَّ بشبر تقربت إليه ذراعاً" أن العبد إذا تقرب إلى ربه بطاعته والإقبال عليه، أن الرب تعالى يزيده قرباً إليه، جزاءً من جنس عمله، وأكثر من قرب العبد الذي حصل باختياره.
_________
(1) الآية 186 من سورة البقرة.
(2) رواه مسلم،: (1/350) ، وأبو داود (1/545) ، والنسائي (2/226) .
(3) "مجموع الفتاوى" (5/510) .(1/268)
وقال: "فإذا قرب العبد من ربه بالإنابة إليه، قرب الرب إليه، فيدنو قلبه من ربه، وإن كان بدنه على الأرض، ومتى قرب أحد الشيئين من الآخر، صار الآخر إليه قريباً بالضرورة، وإن قدر أنه لم يصدر من الآخر تحرك بذاته، كما أن من قرب من مكة، قربت مكة إليه" (1) .
وقال أيضاً: "ومن الناس من غلط فظن أن قربه -تعالى- من جنس حركة بدن الإنسان إذا مال إلى جهة انصرف عن الأخرى.
والإنسان يجد عمل روحه يخالف عمل بدنه، فيجد نفسه تقرب من نفوس كثير من الناس، من غير أن ينصرف عمن هي قريبة منه، وكذلك يجد نفسه تبعد بعيداً عن بعض النفوس بعداً غير ما يقوم بالبدن" (2) .
وقال أيضاً: " وليس بين الرب والعبد إلا محض العبودية، فكلما كمل العبد عبودية ربه قرب إليه -تعالى-؛ لأنه - سبحانه - بر، جواد، محسن، يعطى العبد ما يناسبه، فكلما عظم فقره إليه، كان أغنى له، وكلما عظم ذله له، كان أعز له، فإن النفس- لما فيها من أهوائها المتنوعة، وتسويل الشيطان لها - تبعد عن الله -تعالى- حتى تصير ملعونة بعيدة عن الرحمة، واللعنة هي: البعد عن الله ورحمته.
ومن أعظم ذنوب العبد: علوه في الأرض، ونسيانه ربه، ولهذا لما كان السجود هو غاية سفول النفس، صار أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وكذلك الذكر المتضمن للإقبال على الله، والخضوع له " (3) .
_________
(1) "مجموع الفتاوى" (5/509) .
(2) المرجع المذكور ببعض التصرف (ص247) .
(3) المرجع المذكور بتصرف (ص238) .(1/269)
"وقوله: من تقرب إليَّ بشبر تقربت إليه ذراعاً ... " إلخ، هذا قربه -تعالى- من عابده، وأما قربه من داعيه فكما في الآية: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (1) ، وقربه تعالى من عابده وداعيه قرب خاص، أخص من قرب الإنابة وقرب الإجابة، الذي لم يثبت أكثر المتكلمين سواه" (2) .
"فالداعي والساجد تتوجه روحه إلى الله -تعالى-، والروح لها عروج يناسبها فتقرب من الله -تعالى- بلا ريب، بحسب تخلصها من الشوائب، فيكون الله - عز وجل - منها قريباً، قرباً يلزم منه قربها.
ويكون منه قرب آخر، كقربه عشية عرفة، وفي جوف الليل، وإلى من تقرب منه شبراً، تقرب منه ذراعاً" (3) .
قلت: وبهذا يتبين أن قربه -تعالى- من عباده نوعان:
أولهما: قربه -تعالى- من قلوب المؤمنين، وقرب قلوبهم منه، وهذا أمر معروف لا يجهل، فإن القلوب تصعد إليه على قدر ما فيها من الإيمان والمعرفة به تعالى، وذكره، وخشيته، والتوكل عليه، وهذا متفق عليه بين الناس، لم ينكره منهم أحد.
والثاني: ما دل عليه هذا الحديث - الذي نحن بصدد شرحه - ونحوه، مثل قربه عشية عرفة، وقربه آخر الليل، كما ثبتت بذلك النصوص، وهذا القرب ينكره أكثر المتكلمين، من الجهمية، والمعتزلة، والأشعرية، وإنكاره منكر.
_________
(1) الآية 186 من سورة البقرة.
(2) "بدائع الفوائد" (3/8) ملخصاً.
(3) "مجموع الفتاوى" (5/241) .(1/270)
قال شيخ الإسلام: "وقربه - سبحانه - ودنوه من بعض مخلوقاته، لا يستلزم أن تخلو ذاته من فوق العرش، بل هو فوق العرش ويقرب من خلقه كيف شاء، كما قال ذلك من قاله من السلف، وهذا كقربه إلى موسى لما كلمه من الشجرة، قال -تعالى-: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} (1) .
والذين يثبتون تقريبه العباد إلى ذاته، وهو القول المعروف للسلف، والأئمة، وهو قول الأشعري، وغيره من الكلابية، فإنهم يثبتون قرب العباد إلى ذاته، وأما
دنوه نفسه، وتقربه من بعض عباده، فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، وهو مذهب أئمة السلف، وأئمة الإسلام المشهورين، وأهل الحديث، والنقل عنهم بذلك متواتر" (2) .
وقوله: "وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" الهرولة: السرعة في المشي، بين المشي والعدو، وهو تمثيل لكرم الله وجوده على عبده، وأنه إذا أقبل إليه، فهو - سبحانه - أسرع إقبالاً وتفضلاً على عبده، من غير مقابل يناله من العبد، بل هو الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، ويؤخذ من الحديث: عظم فضل الله وكرمه، وعظم فضل الذكر.
_________
(1) الآية 52 من سورة مريم.
(2) "مجموع الفتاوى" باختصار (5/460-466) .(1/271)
قال: "باب قول الله -تعالى-: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (1) .
أراد البخاري بهذا الباب؟ إثبات صفة الوجه لله -تعالى- وهو ثابت لله -تعالى- في آيات وأحاديث كثيرة، سيأتي ذكر شيء منها.
قال ابن كثير: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} إخبار بأنه الدائم الباقي، الحي القيوم الذي تموت الخلائق ولا يموت، كما قال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ {26} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} فعبر بالوجه عن الذات، وهكذا قوله ها هنا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} أي: إلا إياه" (2) .
قلت: قوله: " فعبر بالوجه عن الذات" لا يقصد نفي صفة الوجه عن الله -تعالى-، وإنما مراده: أن الذات تابعة للوجه، فاكتفى بذلك.
وقد ذكر البخاري - رحمه الله - هذه الآية في التفسير، وأعقبها بقوله: " إلا ملكه، ويقال: إلا: ما أريد به وجهه" (3) . ولم يذكر غير هذا، فقد يقال: إن هذا تأويل سلك البخاري فيه طريق أهل التأويل، وليس الأمر كذلك.
قال الحافظ: " في رواية النسفي (4) : وقال معمر ... فذكره، ومعمر هذا هو أبو عبيدة {معمر} بن المثنى، وهذا كلامه في مجاز القرآن، لكنه بلفظ:
_________
(1) الآية 88 من سورة القصص.
(2) "تفسير ابن كثير " (6/272) .
(3) انظر: " الفتح " (8/505) .
(4) النسفي من رواة الصحيح عن البخاري.(1/273)
إلا هو، وكذا نقله الطبري عن بعض أهل العربية، وكذا ذكره الفراء" (1) .
قلت: الذي في كتاب "مجاز القرآن" لأبي عبيده، يخالف ما ذكره البخاري، وزعم الحافظ أنه كلامه. فإنه قال على الآية: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} مجازه: إلا هو، وما استثنوه من جميع فهو منصوب" (2) ، وكذا ما ذكره الفراء في "معاني القرآن" فإنه قال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} إلا هو، قال الشاعر:
أستغفر الله ذنباً لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل
أي: " إليه أوجه عملي" (3) .
وبهذا يتبين أن الأمر ليس كما قال الحافظ؛ لأن ما ذكره البخاري يختلف عما ذكره الفراء وأبو عبيدة، لفظاً ومعنىً.
قال الحافظ: " قال ابن التين: قال أبو عبيدة: {إِلاَّ وَجْهَهُ} إلا جلاله، وقيل: إلا إياه، تقول: أكرم الله وجهك، أي: أكرمك الله".
وقوله: ويقال: " إلا ما أريد به وجهه" نقله الطبري - أيضاً - عن بعض أهل العربية، ووصله ابن أبي حاتم من طريق خصيف، عن مجاهد مثله، ومن طريق سفيان الثوري قال: إلا ما ابتغي به وجه الله من الأعمال الصالحة" اهـ (4) .
وفي "الدر المنثور": " وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} إلا ما أريد به وجهه.
_________
(1) "الفتح" (8/505) .
(2) "مجاز القرآن" (2/112) .
(3) "معاني القرآن" (2/314) .
(4) "الفتح" (8/505) .(1/274)
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} قال: إلا ما أريد به وجهه.
وأخرج البيهقي في "شعب الإيمان" عن سفيان: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} قال: إلا ما أريد به وجهه من الأعمال الصالحة " (1) .
"قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} بعد قوله: {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ {86} وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {87} وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (2) .
فإن ذكر ذلك بعد نهيه عن الإشراك، وأن يدعو معه إلهاً آخر، وقوله: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} يقتضي في أظهر الوجهين، وهو أن كل شيء هالك إلا ما كان لوجهه من الأعيان، والأعمال.
روي عن أبي العالية قال: إلا ما أريد به وجهه.
وعن جعفر الصادق: إلا دينه، ومعناهما واحد" (3) .
قال ابن كثير: "وقال مجاهد والثوري " في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} أي: إلا ما أريد به وجهه، وحكاه البخاري في "صحيحه" كالمقرر له.
وهذا القول لا ينافي القول الأول، فإن هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلا ما أريد به وجه الله - عز وجل - من الأعمال الصالحة، المطابقة لما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
والقول الأول مقتضاه: أن كل الذوات فانية وهالكة وزائلة إلا ذاته -تعالى-، فإنه الأول، والآخر، الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء" (4) .
_________
(1) "الدر المنثور" (6/447) .
(2) الآيات 86- 88 من سورة القصص.
(3) "مجموع الفتاوى" (2/427) .
(4) "تفسير ابن كثير" (6/272) .(1/275)
والقول الأول هو ما ذكرناه عنه في أول الباب.
فعلى هذا لا يكون قوله: " ما أريد به وجهه" تأويلاً للوجه الذي هو صفة لله -تعالى-، بل هو من المعاني المستنبطة من الآية، كما يشير إليه سياق الآية، فإنه -تعالى- يقول: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {87} وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (1) .
وأما قوله: " إلا ملكه" فهذا تأويل بعيد، وهو مخالف لصنعه هنا، حيث ذكر الآية ثم أتبعها بحديث جابر، وفيه قوله -صلى الله عليه وسلم-: " أعوذ بوجهك". فهذا ظاهر جداً في أنه أراد إثبات الوجه صفة لله -تعالى-.
ومما يدل على بطلان ذلك: أن الأشياء كلها ملك لله -تعالى-، فهل يجوز أن يقال: كل شيء هالك إلا كل شيء؟ بخلاف قوله: إلا ما أريد به وجهه، فإن هذا مما تدل عليه الآية عن طريق المفهوم - مع بقائها نصاً - في إثبات الوجه لله -تعالى- والله أعلم.
_________
(1) الآيتان 87، 88 من سورة القصص.(1/276)
35-قال: " حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حماد بن زيد، عن عمرو، عن جابر بن عبد الله، قال: لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ} (1) ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- " أعوذ بوجهك"، فقال: {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " أعوذ بوجهك"، قال {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هذا أيسر".
يخوف الله -تعالى- عباده إن لم يطيعوه، ويعبدوه وحده لا شريك له، ويتبعوا رسوله، بأنه قادر على أن يرسل عليهم عذاباً من السماء، كما أرسل على قوم لوط وقوم شعيب، وغيرهم، أو نوعاً آخر مما يشاء.
وهو كذلك قادر بأن يبعث العذاب من تحتهم، إما بخسف أو زلازل، وبراكين، أو غير ذلك مما يشاء، كما قال -تعالى-: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16} أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} (2) ، وعندما سمع الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا التهديد من الله -تعالى- عاذ بوجه ربه الكريم أن يكون ذلك.
قال الحافظ: " وقد روى ابن مردويه، من حديث ابن عباس، ما يفسر به حديث جابر، ولفظه: " عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " دعوت الله أن يرفع عن أمتي أربعاً، فرفع عنهم اثنتين، وأبى أن يرفع عنهم اثنتين، دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء، والخسف من الأرض، وأن لا يلبسهم شيعاً، ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع عنهم الخسف والرجم، وأبي أن يرفع عنهم الأخريين".
_________
(1) الآية 65 من سورة الأنعام.
(2) الآيتان 16، 17 من سورة الملك.(1/277)
فيستفاد من هذه الرواية: المراد بقوله: " مِّن فَوْقِكُمْ، أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ "، ويستأنس له بقوله -تعالى-: {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} (1) . وقد وقع أصرح من ذلك، عند ابن مردويه، من حديث أبي بن كعب، قال: في قوله -تعالى-: {عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ} قال: الرجم، {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: الخسف.
وروى ابن أبي حاتم، من طريق السدي، عن شيوخه: أن المراد العذاب من فوق: الرجم، ومن تحت: الخسف.
وأخرج ابن عباس: " أن المراد بالفوق: أئمة السوء، وبالتحت: خدام السوء " انتهى (2) .
وذكر ابن كثير في تفسيره لهذه الآية أحاديث وآثاراً كثيرة.
قلت: في هذه الآية الكريمة التي ترجم بها البخاري، والحديث الذي ذكره، دليل واضح على وجوب الإيمان بوجه الله الكريم، وقد جاءت نصوص كثيرة من كتاب الله وسنة رسوله تثبت ذلك، ولم يزل أهل العلم والإيمان يسألون ربهم بوجهه الكريم، ويدعونه بأن يرزقهم النظر إليه في الجنة.
ولم ينكر ذلك إلا الجهمية، ومن شايعهم على مذهبهم الفاسد.
قال الله -تعالى-: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ {26} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (3) .
و"ذو" في الآية: وصف للوجه، فوصف -تعالى- وجهه الكريم بأنه ذو الجلال والإكرام، وهذا يبطل دعوى أن المراد بالوجه: الذات، كما يبطل دعوى كونه زائداً في الكلام.
_________
(1) الآية 68 من سورة الإسراء.
(2) "الفتح" (8/292) .
(3) الآيتان 26، 27 من سورة الرحمن.(1/278)
وفي "صحيح مسلم" عن أبي موسى الأشعري، قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخمس كلمات، فقال: " إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" (1) سبحات وجهه هي: نوره، وبهاؤه، وجلاله.
وقال أبو سعيد الدارمي - رحمه الله -: " حدثنا سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عمار بن ياسر، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو: " اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم".
حدثنا موسى بن إسماعيل، وغيره، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" قال: النظر إلى وجه الله -تعالى- (2) .
حدثنا أحمد بن يونس، عن أبي شهاب الحناط، عن خالد بن دينار، عن حماد بن جعفر، عن ابن عمر، رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- " أن أهل الجنة إذا بلغ النعيم منهم كل مبلغ، وظنوا أن لا نعيم أفضل منه، تجلى لهم الرب، فنظروا إلى وجه الرحمن، فنسوا كل نعيم عاينوه، حين نظروا إلى وجه الرحمن".
وذكر ابن إسحاق في "السيرة" حديثاً طويلاً - فيه: " أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السماوات والأرض، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين" (3) .
_________
(1) انظر: " مسلم" (1/162) رقم (293) .
(2) رواه مسلم في "صحيحه" بلفظ: " النظر إلى الله تعالى "، انظر: (1/163) الحديث رقم (180) .
(3) ذكره ابن كثير في "تاريخه" (3/196) .(1/279)
قال أبو سعيد: "وعلى تصديق هذه الآثار، والإيمان بها، أدركنا أهل الفقه والعلم" (1) وذكر أحاديث في ذلك.
وقد تكاثرت الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالاستعاذة بوجه الله -تعالى- كما في هذا الحديث الذي ذكره البخاري، وكما في " الموطأ"، و"مسند أحمد" أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: " أعوذ بوجه الله الكريم وبكلمات الله التامات" (2) وفي هذا أحاديث كثيرة.
وكذلك صح عنه -صلى الله عليه وسلم- سؤاله لذة النظر إلى وجه الله الكريم، كما في الحديث السابق وغيره.
وبذها يتبين أن إثبات الوجه والإيمان به متعين، وأنه داخل في الإيمان بالله -تعالى- وهو كسائر صفات الله الثابتة، يجب معرفتها والإيمان بها بدون تأويل، أو تشبيه، بل على ما يجب لله من الإجلال والتعظيم، ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته، ولا في أفعاله - تعالى وتقدس - عن ظنون أهل الانحراف والزيغ
من المؤولين والمعطلين الذين جعلوا أنفسهم هي الأصل، فقاسوا عليها ما أخبر الله به عن نفسه، وأخبر عنه رسوله، فحرفوا وعطلوا.
_________
(1) الرد على بشر المريسي (ص518) " عقائد السلف".
(2) " الموطأ" (2/950- 951) مرسل، و "المسند" (2/419) وهو حسن.(1/280)
قال: " باب قول الله -تعالى- {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (1) - تغذى- وقوله - جل ذكره-: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (2) ".
ققد دل كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- صراحة، وإجماع أهل العلم بالله والإيمان به، على أن الله -تعالى- موصوف بأن له عينين، حقيقة على ما يليق بجلاله وعظمته.
وقد جاء ذكر العين وصفاً لله -تعالى- في القرآن مفردة، مضافة إلى الضمير المفرد، كما جاءت مجموعة، مضافة إلى ضمير الجمع، كما في هاتين الآيتين اللتين ذكرهما البخاري. ولم يأت ذكر العين وصفا لله -تعالى- في القرآن مثناة، ولكن جاء ذلك في الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والحديث إذا صح عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجب الإيمان بما دل عليه، والعمل به.
قال ابن القيم: " ذكر العين مفردة، لا يدل على أنها عين واحدة، ليس إلا كقولك: افعل هذا على عيني، لا يريد له أن له عيناً واحدة.
ولما أضيفت العين إلى اسم الجمع، ظاهراً أو مضمراً، حسن جمعها مشاكلة للفظ، كقوله -تعالى-: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (3) ، وقوله -تعالى- {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} (4)
_________
(1) جزء من الآية 39 من سورة طه.
(2) جزء من الآية 14 من سورة القمر.
(3) جزء من الآية 14 من سورة القمر.
(4) جزء من الآية 37 من سورة هود.(1/281)
وهذا نظير لفظ اليد المضافة إلي المفرد، كقوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (1) ، و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} (2) ، ولما أضيفت إلى ضمير الجمع جمعت، كقوله -تعالى-: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} (3) .
وقد جاء في كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ذكر العين مضافة إلى الله -تعالى- مفردة، ومجموعة.
وجاءت السنة بإضافتها إليه -تعالى- مثناة، كما قال عطاء: عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: " إن العبد إذا قام في الصلاة، قام بين عيني الرحمن، فإذا التفت قال له ربه: إلى من تلتفت؟ إلى خير لك مني ".
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " إن ربكم ليس بأعور" صريح بأنه ليس المراد إثبات عين واحدة، فإن ذلك عور ظاهر، تعالى الله عنه.
وهل يفهم من قول الداعي: " اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام" أنها عين واحدة ليس إلا، إلا ذهن أقلف، وقلب أغلف؟
وقد استدل السلف على إثبات العينين لله -تعالى- بقوله - جل وعلا - {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} وممن صرح بذلك أبو الحسن الأشعري في الإبانة، والموجز، والمقالات" (4) .
قوله -تعالى-: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} فسر البخاري "تصنع" بتغذى، من التغذية، يقال: صنعت الفرس، إذا أحسنت القيام عليه (5) .
_________
(1) جزء من الآية مفتتح سورة الملك.
(2) جزء من الآية 26 من سورة آل عمران.
(3) الآية 71 من سورة يس.
(4) " مختصر الصواعق" (ص24) ط الإمام.
(5) " الفتح" (13/389) .(1/282)
قال ابن كثير: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} قال أبو عمران الجوني: تربى بعين الله -تعالى- وقال قتادة: تغذى على عيني.
وقال معمر بن المثنى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} بحيث أرى.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "يعني: أجعله في بيت الملك، ينعم ويترف، غذاؤه عندهم غذاء الملك، فتلك الصنعة" (1) .
وأسند ابن جرير هذه الأقوال، وروى عن ابن جريج: أنت بعيني إذ جعلتك أمك في التابوت، ثم في البحر. واختار قول قتادة.
وقال: " وعنى بقوله: {عَلَى عَيْنِي} بمرأى مني، ومحبة، وإرادة" (2) .
قوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} ، قال ابن جرير: " يقول - جل ثناؤه-: تجري السفينة التي حملنا نوح فيها، بمرأى منا، ومنظر" (3) .
قلت: وكذا قال غيره من المفسرين، ومن لازم الرؤية والنظر وجود العين، ففي هاتين الآيتين، وغيرهما من نصوص كتاب الله وحديث رسوله كثير، إثبات العينين
لله -تعالى- اللتين ينظر بهما إلى ما يريد، ولا يحجب نظره حاجب، وقد تقدم وجه الجمع والإفراد في ذلك.
وقال الأزهري: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} قال أصحاب النقل والأخذ بالأثر: الأعين: يريد به العين، قال: وعين الله لا تفسر بأكثر من ظاهرها، ولا يسع أحداً أن يقول: كيف هي، أو ما صفتها؟ - ذكره عن ابن الأنباري-" (4) .
_________
(1) "تفسير ابن كثير" (5/278) ط الشعب.
(2) "تفسير الطبري" (16/162-163) ط الحلبي.
(3) المرجع السابق (27/64) .
(4) انظر: " تهذيب اللغة" (3/205) .(1/283)
36- قال: " حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا جويرية، عن نافع، عن عبد الله، قال: ذكر الدجال عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: " إن الله لا يخفى عليكم، إن الله ليس بأعور - وأشار بيده إلى عينه - وإن المسيح الدجال أعور عين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية".
الدجال: الكذاب، ودجله: سحره وكذبه؛ لأنه يدجل الحق بالباطل، أي: يغطيه، وهو رجل من اليهود، يخرج في آخر هذه الأمة، كما جاءت الأحاديث بذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
قال أبو علي القالي: عن ابن دريد: " كل شيء غطيته فقد دجلته، ومنه اشتقاق دجلة، كأنها غطت الأرض إذا فاضت عليها ".
والدجال من هذا الاشتقاق؛ لأنه يغطي الحق بالباطل.
وقال قوم: سمي بذلك لأنه يغطي الأرض بكثرة جموعه.
وقال آخرون: " يغطي على الناس بكفره" (1) .
وقال الحافظ: الدجال: فعال، بفتح أوله، والتشديد، من الدجل، وهو التغطية، وسمي الكذاب دجالاً، لأنه يغطي الحق بباطله.
وقال ثعلب: " الدجال: المموه" (2) .
قوله: " إن الله لا يخفى عليكم" المؤمن بالله وبأوصافه التي تعرف بها إلى عباده، لا يخفى عليه رب العالمين، فهو -تعالى- {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ، ليس له كفؤ ولا ند، فلا يمكن أن يشابه المخلوق الضعيف، المحتاج
_________
(1) "البارع" (ص35) .
(2) "الفتح" (13/91) .(1/284)
الناقص، وكل مخلوق له صفة الضعف والحاجة والنقصان، ولا بد، تعالى عن مشابهة خلقه علواً كبيراً.
قوله: " إن الله ليس بأعور" هذه الجملة هي المقصودة من الحديث وفي هذا الباب، فهذا يدل على أن لله عينين حقيقة؛ لأن العور فقد أحد العينين، أو ذهاب نورها.
قال في " القاموس": " العور: ذهاب حس إحدى العينين ... والرديء من كل شيء، والضعيف الجبان البليد الذي لا يدل، ولا يندل، ولا خير فيه " (1) .
وعلى كل: العور نقص وعيب في الاتفاق، والمقصود أنه في اللغة هو ذهاب ضوء إحدى العينين.
ولهذا صار هذا الحديث من الأدلة الواضحة على إثبات تثنية العين لله -تعالى-، ويزيد ذلك وضوحاً إشارته -صلى الله عليه وسلم- إلى عينه لتحقيق الوصف، يعني أن لله عينين سالمتين من كل عيب كاملتين، بخلاف الدجال الفاقد لإحدى عينيه، وذلك من أعظم الأدلة على كذبه.
وقال ابن المنير: " وجه دلالة الحديث على إثبات العين لله، من حديث الدجال من قوله: " إن الله ليس بأعور" من جهة أن العور عرفاً: عدم العين، وضد العور ثبوت العين، فلما نزعت هذه النقيصة لزم ثبوت الكمال بضدها، وهو وجود العين" (2) .
قلت: الحديث فيه إثبات العينين لله -تعالى-، لا عين واحدة، كما قد يتوهمه كلامه.
وقوله: " عرفاً " بل هو لغة قبل العرف.
_________
(1) "القاموس" (2/97) .
(2) "الفتح" (13/390) .(1/285)
"وقال شهاب الدين السهروردي في كتاب العقيدة له: أخبر الله في كتابه وثبت عن رسوله، الاستواء، والنزول، والنفس، واليد، والعين، فلا يتصرف فيها بتشبيه، ولا تعطيل، إذ لولا إخبار الله ورسوله، ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى".
" قال الطيبي: هذا هو المذهب المعتمد، وبه يقول السلف الصالح ".
وقال غيره: لم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أحد من أصحابه، من طريق صحيح، التصريح بوجوب تأويل شيء من ذلك، ولا المنع من ذكره.
ومن المحال أن يأمر الله نبيه بتبليغ ما أنزل إليه من ربه، وينزل عليه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} ثم يترك هذا
الباب، فلا يميز ما يجوز نسبته إليه مما لا يجوز، مع حضه على التبليغ عنه بقوله: "ليبلغ الشاهد الغائب" حتى نقلوا أقواله، وأفعاله، وأحواله، وصفاته، وما فعل بحضرته.
فدل على أنهم اتفقوا على الإيمان بها، على الوجه الذي أراده الله منها.
ووجب تنزيهه عن مشابهة المخلوقات، بقوله -تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} فمن أوجب خلاف ذلك بعدهم، فقد خالف سبيلهم، وبالله التوفيق" انتهى (1) .
قال الإمام ابن خزيمة: " بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن لله عينين، فكان بيانه موافقاً لبيان محكم التنزيل".
ثم ذكر بسنده حديث أبي هريرة، وقرأ قوله -تعالى- {إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} " رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضع إبهامه على أذنه، وإصبعه التي تليها على عينه" (2) .
_________
(1) المرجع المذكور.
(2) كتاب "التوحيد" (ص42، 43) .(1/286)
قوله: " كأن عينه عنبة طافية " أي: قد ذهب ماؤها، فهي ضامرة ملتوية؛ ولهذا جاءت الأحاديث بوصفه بأنه ممسوح العين، كما في "سنن أبي داود" عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " إني قد حدثتكم عن الدجال، حتى خشيت أن لا تعقلوا، إن المسيح الدجال رجل قصير، أفحج، جعد، أعور، مطموس العين، ليست بناتئة، وجحراء، فإن لبس عليكم فاعلموا أن ربكم ليس بأعور" (1) .
في هذا بيان أن عينه - قبحه الله - قد ذهب ماؤها، فضمرت، وبقيت سادة مكانها، لم تكن غائرة، ولا ناتئة مرتفعة، وهذا هو وصف العنبة إذا ذهب ماؤها.
_________
(1) "سنن أبي داود" (4/496) .(1/287)
37-قال: " حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، أخبرنا قتادة، قال: سمعت أنساً - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " ما من نبي إلا أنذر قومه الأعور الكذاب، إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه: كافر".
الإنذار: هو الإخبار مع التخويف، وفي قوله: " ما من نبي " عموم يشمل جميع النبيين، وهو يدل على عظم فتنته وخطره.
وقوله: " الأعور الكذاب" تقدم أن الأعور: من عميت إحدى عينيه بآفة، فأصبح لا يرى إلا بعين واحدة.
ووصف بأنه الكذاب؛ لعظم كذبه، حيث يزعم أنه رب الناس، مع ظهور كذبه، وهو يتدرج في كذبه، فأولا: يدعي أنه مصلح، ثم يدعي أنه نبي، ثم يدعي أنه إله، وهذا أعظم الكذب، وأبينه.
وقد عين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عينه العوراء، أنها اليمنى، كما في حديث عبد الله ابن عمر، الذي قبل هذا وغيره.
واعلم أن المتكلمين من المعتزلة، والأشعرية، ونحوهم، يزعمون أن من أثبت لله عينين، ويدين، ووجهاً، ونحو ذلك مما جاءت به النصوص، من أثبت ذلك على ظاهر اللفظ، أنه يثبت جوارح، تشبه جوارح الخلق على حد زعمهم، تعالى الله وتقدس عن زعمهم، وظنهم السيء في الله ورسوله، حيث ظنوا أن ظاهر وصف الله نفسه، وظاهر وصف رسوله إياه يقتضي التشبيه، ولهذا تجد الذين تلقوا هذا الفكر، وتأثروا به، من الذين يشتغلون بالحديث، إذا جاء ذكر ذلك قالوا: مثلاً: إثبات صفة اليد لا من حيث الجارحة، إثبات صفة الوجه لا من حيث الجارحة، ونحو ذلك كما يقوله البيهقي في كتابه " الأسماء(1/288)
والصفات" وسائر شراح الحديث الذين لا يجرؤون على رد النصوص، فهم عندما يتكلمون على مثل هذه النصوص يبادرون إلى نفي الجارحة، كما قال بعض زعمائهم ما يلي:
"زعم قوم، أن لله عينا، يريدون: كجارحة العين من الإنسان، وأرادوا التركيب، واحتجوا بقوله -تعالى-: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (1) ، و {اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} (2) ، و {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (3) .
قال أبو سعيد الدارمي - رحمه الله تعالى - في الرد عليه: " أما ما ادعيت أن قوماً يزعمون أن لله عيناً، فإنا نقوله؛ لأن الله -تعالى- قاله، ورسوله.
وأما زعمك أنهم يثبتون جارحة كجارحة العين من الإنسان، على التركيب، فهذا كذب، ادعيته علينا عمداً، وأنت تعلم أن أحداً لم يقله، ولكنك تريد التشنيع، ليكون هنالك مقبولاً لدى الجهال، والكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، فمن الذي قال: إنها جارحة مركبة؟ اذكره، فإن قائله كافر.
وكم تشنع بما تقرر من قولك: جسم مركب، وجوارح، وأجزاء، وأبعاض، تريد أن يكف المؤمنون، عن وصف الله -تعالى- بما وصف به نفسه في كتابه، وما وصف به رسوله.
ونحن لم نصف الله بجسم كأجسام المخلوقين، ولا بعضو، ولا بجارحة، لكنا نصفه بما يغيظك من هذه الصفات، التي أنت ودعاتك لها منكرون، فنقول: إنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، ذو الوجه الكريم، والسمع السميع، والبصر البصير" (4) .
_________
(1) جزء من الآية 39 من سورة طه.
(2) جزء من الآية 37 من سورة هود.
(3) الآية 48 من سورة الطور.
(4) نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي، بتصرف (ص545-546) " عقائد السلف".(1/289)
وقوله: " إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور" اشتملت هذه الجملة على تأكيد وصف الدجال الكذاب، بأنه أعور العين، أي أنه ناقص، معيب، قد لحقه الضر لفقد إحدى عينيه، فمثله محال أن يكون إلهاً، لأنه فقير محتاج إلى غيره، بالإضافة إلى النقص والعيب الذي فيه، وقد جاء بأعظم الكذب والبهتان، حيث ادعى أنه إله، يتوجه إليه، بطلب الإسعاد، وصرف الشقاء.
كما اشتملت هذه الجملة من الحديث على وصف الله -تعالى- بكمال العينين، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: " وإن ربكم ليس بأعور".
فهذا بيان واضح بوصف الله -تعالى- بأن له عينين كاملتين، على ما يليق بعظمته.
قال النووي: " هذه علامة بينة تدل على كذب الدجال، دلالة قطعية، بديهية، يدركها كل أحد" (1) .
قوله: " مكتوب بين عينيه كافر" وفي رواية: " يقرأه كل مؤمن، كاتب، وغير كاتب".
قال النووي: " والصحيح الذي عليه المحققون: أن هذه الكتابة على ظاهرها، وأنها كتابة حقيقية، جعلها الله آية، وعلامة من جملة العلامات القاطعة بكفره، وكذبه وإبطاله، يظهرها الله -تعالى- لكل مسلم كاتب، وغير كاتب، ويخفيها عمن أراد شقاوته وفتنته، ولا امتناع في ذلك " (2) .
وهذا من رحمة الله بعباده، حيث أظهر علامات كذبه، إظهاراً لا يخفى إلا على من أريد فتنته، وعمي قلبه، وأشرب بحب الباطل، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.
_________
(1) "شرح مسلم " (18/60) .
(2) "شرح مسلم " (18/60) .(1/290)
قال: " باب قول الله -تعالى-: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} (1) .
قال ابن جرير: " يقول -تعالى- ذكره: هو المعبود الخالق، الذي لا معبود تصلح له العبادة غيره، ولا خالق سواه، البارئ الذي برأ الخلق فأوجدهم بقدرته، المصور خلقه كيف شاء، وكيف يشاء" (2) .
ومراد البخاري بهذا: بيان أن الله -تعالى- متصف بأنه الخالق، البارئ، المصور في الأزل، والأبد، فهو الخالق قبل وجود المخلوق، وهو البارئ قبل وجود المبري، وهو المصور قبل وجود المصوَّر، فهو -تعالى- لم يزل بصفاته ولا يزال، كما يريد أيضاً بيان أن الخلق الذي هو وصفه -تعالى- غير المخلوق، خلافاً لأهل البدع الذين يشير بهذا إلى الرد عليهم.
قال الزجاج: " أصل الخلق في الكلام: التقدير، يقال: خلقت الشيء خلقاً، إذا قدرته، كما قال زهير:
لأنت تفري ما خلقت وبعض ... القوم يخلق ثم لا يفري
يعني: أنك إذا قدرت الأمر مضيت في عزمك وفعلته، ولست ممن يقدر الأمر ثم لا يعزم على فعله، بل ينثني عن ذلك.
فالخلق في اسم الله -تعالى- هو: ابتداء تقدير النشء.
فاله -تعالى- خالقها، ومنشئها، وهو متممها، ومدبرها، فتبارك الله أحسن الخالقين. {البارئ} يقال: برأ الله الخلق إذا فطرهم.
والبرء: خلق على صفة، فكل مبروء مخلوق، وليس كل مخلوق مبروءاً، لأن البرء من تبرئة الشيء من الشيء، كما يقال: برأت من المرض، ومن الدين.
_________
(1) الآية 24 من سورة الحشر.
(2) "تفسير الطبري" (18/56) .(1/291)
فإذا فصل بعض الخلق من بعض، سمي فاعله بارئاً.
فهو المعنى الذي به انفصلت الصورة بعضها من بعض، فصورة زيد مفارقة لصورة عمرو، وصورة حمار مفارقة لصورة فرص، فتبارك الله خالقاً بارئاً.
{المصور} أي: مصور كل صورة، لا على مثال احتذاه - ولا رسم ارتسمه، -تعالى- عن ذلك علواً كبيراً " (1) .
أي أنه لم يتقدمه أحد فعل ذلك، لا تقديراً، ولا إظهاراً وإيجاداً.
وقال الحافظ: " قال الطيبي: قيل: الألفاظ الثلاثة مترادفة، وهو وهم.
فإن {الخلق} : من الخلق، وأصله التقدير المستقيم، ويطلق على الإبداع، وهو إيجاد الشيء على غير مثال، كقوله -تعالى-: {خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وعلى التكوين، كقوله -تعالى-: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ} و {البارئ} من البرء، وأصله خلوص الشيء عن غيره، إما على سبيل الخلوص منه، كبرء الرجل من مرضه، والمديون من دينه.
أو على سبيل الإنشاء، كبرء الله النسمة.
و {المصور} مبدع صور المخترعات، ومرتبها على حسب مقتضى الحكمة، فالله -تعالى- خالق كل شيء، بمعنى أنه موجده من أصل، ومن غير أصل، وبارئه، بحسب ما تقتضيه الحكمة، من غير تفاوت، ولا اختلاف، ومصوره في صورة يترتب عليها خواصه ويتم بها كماله.
فالتقدير يقع أولاً، ثم الإحداث على الوجه المقدر يقع ثانياً، ثم التصوير بالتسوية يقع ثالثاً " (2) .
_________
(1) "تفسير أسماء الله الحسنى" ببعض التصرف (ص26-27) .
(2) "فتح الباري" (13/391) ملخصاً.(1/292)
وبهذا يتبين الفرق بين هذه الأسماء الثلاثة:
فالخالق: مبدع الأشياء على غير مثال سابق.
والبارئ: موجد الأشياء، ومظهرها إلى الوجود، من أصل ومن غير أصل.
والمصور: الذي خص كل مخلوق بما يميزه عن الآخر، وما تحصل به مصلحته، كما قال تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (1) . ويظهر أن "البارئ" أخص من "الخالق" كما تقدم في كلام الزجاج ما يشير إلى ذلك، وإذا أضيف الخلق إلى الإنسان، فمعناه التقدير، ويأتي بمعنى الكذب.
_________
(1) الآية 50 من سورة طه.(1/293)
38-قال: " حدثنا إسحاق، حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا موسى - هو ابن عقبة- حدثني محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز، عن أبي سعيد الخدري، في غزوة بني المصطلق، أنهم أصابوا سبايا، فأرادوا أن يستمتعوا بهن، ولا يحملن، فسألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن العزل، فقال: " ما عليكم أن لا تفعلوا، فإن الله قد كتب من هو خالق إلى يوم القيامة"، وقال مجاهد: عن قزعة، سمعت أبا سعيد، فقال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " ليست نفس مخلوقة، إلا الله خالقها ".
"العزل": هو إنزال الماء خارج فرج المرأة، خوفاً أن تحمل.
قال الحافظ: " هو النزع بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج" (1) .
"قوله: ما عليكم أن لا تفعلوا " أي: لا يضركم عدم العزل؛ لأن ما قدره الله -تعالى- من الخلق، فلا بد من وجوده، عزل الإنسان أو لم يعزل، يوضحه ما في رواية مسلم فقال: "لا عليكم أن لا تفعلوا، ما كتب خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون" (2) .
وفي قصة الرجل الذي سأل عن العزل عن جاريته، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " إن ذلك لن يمنع شيئاً أراده الله " (3) .
قال الحافظ: " وفي رواية: " لا عليكم أن لا تفعلوا " أي: لا حرج عليكم أن لا تفعلوا العزل، ففيه نفي الحرج عن عدم الفعل، فأفهم ثبوت الحرج في فعل العزل.
_________
(1) "الفتح" (9/305) .
(2) "مسلم مع النووي" (10/10) .
(3) "مسلم مع النووي" (10/10) .(1/294)
ولو أراد نفي الحرج عن العزل لقال: " لا عليكم أن تفعلوا " (1) .
وفي مسلم لما ذكر هذا الحديث "قال محمد" وقوله: " لا عليكم" أقرب إلى النهي" ومحمد هذا هو ابن حاتم. وفيه أيضاً: " وقال ابن عون: فحدثت به الحسن، فقال: والله لكأن هذا زجر" (2) .
قوله: " فإن الله قد كتب من هو خالق إلى يوم القيامة" هذا يبين عدم فائدة العزل؛ لأن كل نفس قدر الله -تعالى- خلقها، لا بد أن يخلقها، عزلتم أم لا، وما لم يشأ خلقها لا يقع ولو لم يعزلوا، فإن كان الله أراد أن يخلق في تلك المقارنة وذلك الوقت، فلا بد من وجود ذلك ولو حرصتم كل الحرص على عدم الإنزال في الرحم، فلا غالب على أمره، وهو الخالق وحده.
وهذا هو وجه استدلال البخاري في الحديث، فإن الله -تعالى- هو الخالق البارئ المصور وحده، وأن كلا من الأب والأم، لا دخل لهما في ذلك، بل الله -تعالى- هو الذي يقدر خلق هذا المخلوق شاء الناس ذلك أو لم يشاؤوا، وأنه، هو بارئ النسمة من الذكر والأنثى، أو مما يشاء، والخلق كلهم لا يستطيعون فعل شئ من ذلك.
وهو -تعالى- المصور لهذا الإنسان السوي من نطفة متساوية الأجزاء، لو اجتمع عليها أمهر الأطباء، بكل ما أوتوا من علوم وآلات وإمكانيات، لم يستطيعوا أن يصوروا منها شيئاً حياً، فتبارك الله أحسن الخالقين.
فإن قيل: قد يتحكم الإنسان بالحمل إما بالعقاقير أو بوسائل أخرى.
فجوابه: أن ذلك من تقدير الله -تعالى-، ولا يمكن أن يكون شيء خارجاً عن مشيئته وتقديره، وإذا أراد أن يخلق مخلوقاً فلا بد من وجوده، وإن استعملت الوسائل المانعة لذلك.
_________
(1) "الفتح" (9/307) .
(2) "مسلم مع النووي" (10/11) .(1/295)
"قال ابن بطال: الخالق في هذا الباب، يراد به: المبدع المنشيء لأعيان المخلوقين، وهو معنى لا يشارك الله فيه أحد ".
"وقال الكرماني: " معنى قوله: إلا وهي مخلوقة، أي مقدرة الخلق، أو معلومة الخلق عند الله -تعالى- لابد من إبرازها إلى الوجود" (1) .
قال شيخ الإسلام: والذي عليه جماهير المسلمين من السلف والخلف: أن الخلق غير المخلوق، فالخلق فعل الخالق، والمخلوق مفعوله، ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بأفعال الرب وصفاته، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أعوذ برضاك من سخطك،
وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" (2) فاستعاذ بمعافاته كما استعاذ برضاه.
وقد استدل أئمة السنة كأحمد وغيره، على أن كلام الله غير مخلوق، بأنه استعاذ به، فكذلك معافاته ورضاه غير مخلوقة؛ لأنه استعاذ بهما، والعافية القائمة ببدن الإنسان مخلوقة، فإنها نتيجة معافاته " (3) .
وسيأتي - إن شاء الله تعالى - بسط ذلك وإيضاحه في محله.
_________
(1) "الفتح" (13/392) .
(2) تقدم تخريجه.
(3) "مجموع الفتاوى" (6/229-230) .(1/296)
قال: " باب قول الله -تعالى-: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1) ".
أراد - رحمه الله - بهذه الترجمة بيان ما أثبته الله -تعالى- لنفسه، من صفة اليدين، وأثبته له رسوله -صلى الله عليه وسلم- على ظاهر ما نطقت به النصوص المتنوعة الدلالة في ذلك، كما سيأتي - إن شاء الله تعالى -.
قال الله -تعالى-: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء} (2) .
وقال -تعالى-: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (3) .
وقال -تعالى-: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (4) ، {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (5) ، {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ في آيات كثيرة وقد ذكر البخاري في ذلك عدة أحاديث.
_________
(1) الآية 75 من سورة ص.
(2) الآية 64 من سورة المائدة.
(3) الآية 67 من سورة الزمر.
(4) جزء من الآية 10 من سورة الفتح.
(5) فاتحة سورة الملك.(1/297)
39- قال: " حدثني معاذ بن فضالة، حدثنا هشام، عن قتادة، عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " يجمع الله المؤمنين يوم القيامة، كذلك، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، حتى يريحنا من مكاننا هذا.
فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم، أما ترى الناس؟ خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، اشفع لنا إلى ربنا، حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناك، ويذكر لهم خطيئته التي أصاب، ولكن ائتوا نوحاً، فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحاً، فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، ولكن ائتوا إبراهيم -خليل الرحمن - فيأتون إبراهيم، فيقول: لست
هناكم، ويذكر خطاياه التي أصابها، ولكن ائتوا موسى، عبداً آتاه التوراة وكلمه تكليماً فيأتون موسى، فيقول: لست هناكم، ويذكر لهم خطيئته التي أصاب- ولكن ائتوا عيسى، عبد الله ورسوله، وكلمته، وروحه، فيأتون عيسى، فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمد صلى الله عليه وسلم عبداً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
فيأتوني، فانطلق، فاستأذن على ربي، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن(1/298)
يدعني، ثم يقال لي: ارفع محمد، وقل يسمع، وسل تطعه، واشفع تشفع، فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم اشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة.
ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع محمد، قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فاحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم اشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة.
ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع محمد، قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فاحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم اشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة.
ثم أرجع فأقول: يا رب، ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن، ووجب عليه الخلود.
قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة.
ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن برة.
ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة".
هذا حديث الشفاعة المشهور، وقد ذكره البخاري في أماكن متعددة من جامعه.
والمقصود هنا: قوله: "خلقك الله بيده" حيث جعل ذلك ميزة لآدم من بين الخلق، فدل على أن اليد هنا على ظاهرها، يد حقيقة، ولو كانت كما يقول أهل التأويل: إنها القدرة، لم يكن لآدم اختصاص بذلك، إذ الخلق كلهم مخلوقون بقدرة الله -تعالى-.(1/299)
قوله: " يجمع الله المؤمنين يوم القيامة كذلك " قال الحافظ: " هكذا للجميع، وأظن أول هذه الكلمة لام – أي لذلك – والإشارة ليوم القيامة – أو لما يذكر بعد.
وعند مسلم: " يجمع الله المؤمنين، يوم القيامة، فيهتمون لذلك، وفي رواية "يلهمون لذلك" (1) .
ومعنى: يهتمون ويلهمون متقارب، أي أنهم يعنون بسؤال الشفاعة، وإزالة الكرب الذي هم فيه، أو أن الله -تعالى- يلهمهم سؤال ذلك، والإلهام: أن يلقي الله -تعالى- في النفس أمراً يحمل على فعل الشيء أو تركه" (2) .
قوله: " فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، حتى يريحنا من مكاننا هذا " هذا هو الذي يهتمون له – أو يلهمونه – أي لو طلبنا مما هو موجود معنا من الرسل الذين لهم مقام عند الله من يشفع لنا عند ربنا! ليريحنا من عناء هذا الموقف وكرباته، فيحاسبنا ربنا، ويجزينا بأعمالنا، وما نستحق، ثم نصير إلى منازلنا.
قوله: " فيأتون آدم" إلى عيسى، وكلهم يعتذر، ويذكر لهم ذنبه.
فآدم – عليه السلام – يقول: نهاني عن الأكل من الشجرة فعصيته. ونوح – عليه السلام – يقول: دعوت على قومي، فأغرقوا، وسألت ما ليس لي به علم. وإبراهيم – عليه السلام – يقول: كذبت ثلاث كذبات، مع أنهن في سبيل الله، وهن: قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ، وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله: للظالم العنيد لما سأله عن زوجته، قال: " إنها أختي"؛ لأنها أخته في الإسلام، ولو قال: إنها زوجته، لأخذها منه ذلك الظالم.
_________
(1) "الفتح" (13/394) .
(2) "شرح النووي على مسلم" (3/53) .(1/300)
وموسى – عليه السلام – يقول: قتلت نفساً بغير حق، ولم يذكر لعيسى عليه السلام ذنباً، وهذا كله مع قول عيسى عليه السلام: " ولكن ائتوا محمداً، عبداً غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر" يدل على وقوع الذنوب من الأنبياء، وهؤلاء المذكورون هم أفضل الأنبياء، وهي مسألة مشهورة، ولا خلاف أن الكفر بعد النبوة غير واقع منهم، كما أنه لا خلاف في عصمتهم فيما يبلغونه عن طريق القول. وأما الفعل، فقد يقع منهم السهو أو النسيان، أو الخطأ الذي لا يقرون عليه، كما أنهم محفوظون من الذنوب، التي تزري بفاعلها، وتسقط مروءته.
وأما الصغائر فجائز وقوعها منهم، كما دل عليه هذا الحديث في الجملة، وغيره من النصوص الكثيرة، والله أعلم.
وقد تطرف بعض شراح الكتاب وزعم أن من قال بهذا أنه كافر.
ويدل على عظم الأمر، كيف اعتذر من هم أفضل البشر عن الشفاعة معتلين بذنوب أكثر الخلق لا يعدها ذنوباً، وهم قد تابوا منها، واستغفروا ربهم فغفر لهم، وهذا يدل على عظم الله، وعظيم قدره في قلوبهم، وعلى صعوبة الموقف بين يدي الله وشدته، فهل يفهم هذا من يهرع إلى قبور الموتى يطلبون منهم ما لا يطلبه أولو العزم من الرسل من الله -تعالى-؟
وقول كل واحد منهم: " لست هناكم" أي: لست كما تظنون أني أستطيع أن أشفع لكم، فليس ذلك عندي.
قوله: " فأنطلق، فأستأذن على ربي، فيؤذن لي عليه " يدل على أنه –صلى الله عليه وسلم- يقصد مكاناً معيناً، يرى فيه ربه، وسيأتي في باب الرؤية في هذا الحديث " فاستأذن على ربي في داره " وقد قيل: إن المراد بداره هنا الجنة، فالله أعلم.
قوله: " فإذا رأيت ربي وقعت له ساجداً " صريح في أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- يرى ربه عياناً في ذلك الموقت، وسيأتي ذلك – إن شاء الله تعالى -.(1/301)
قوله: " فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال لي: ارفع محمد، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع" أي: أن الله -تعالى- يمهل له في السجود، فيبقى ساجداً وقتاً طويلاً، يسبح ربه، ويمجده، ويثني عليه، ويحمده، فلا يرفع رأسه من سجوده حتى يأمره الله -تعالى- برفعه، ثم يأذن له -تعالى- بأن يطلب من ربه مراده، وقد علم الله مقصده، ولهذا قال له: اشفع تشفع، وهذا كله من رحمته -تعالى-، فهو الذي ألهم عباده طلب الشفاعة من الأنبياء، وهو الذي أذن في الشفاعة وقبلها، وحقيقة الأمر هو إرادة الله -تعالى- رحمة الخلق وإراحتهم من عناء الموقف، وإظهار كرامة محمد –صلى الله عليه وسلم- للخلق في ذلك الموقف العظيم، وإلا فالشفاعة كلها لله.
قوله: " فأحمد ربي بمحامد علمنيها " قد تقدم أن هذا يدل على عدم حصر أسماء الله الحسنى، في تسع وتسعين؛ لأن هذه المحامد بأسمائه الحسنى وصفاته
العليا، وقد جاء في الرواية الأخرى: " فيفتح الله عليّ من المحامد والثناء ما لا أحسنه الآن ".
قوله: " ثم أشفع، فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة" أي: أن الله –تعالى- يعين له من يشفع فيهم، وهذا من الأدلة الواضحة على أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- لا يشفع فيمن يريد، بل لمن يأذن الله له في الشفاعة فيهم، وبذلك يتبين أن الشفاعة لله جميعاً، كما صرحت بذلك آيات من كتاب الله –تعالى-: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ {43} قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (1) .
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ {22} وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا
_________
(1) الآيتان 43 و 44 من سورة الزمر.(1/302)
الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (1) .
بهذه الآية يتبين أن المدعو يجب أن يكون مالكاً لما يدعى من أجله، وإلا كانت دعوته ضلالاً مبيناً، فإن لم يكن مالكاً يكون مشاركاً للمالك، فإن انتفى الأمران، يكون معاوناً وظهيراً مساعداً للمالك، فإن لم يكن ذلك، فلا أقل من أن يكون شافعاً مقبول الشفاعة عند من يملك المطلوب، فنفى الله -تعالى- عن المدعوين من دونه هذه الأمور الأربعة، وبين أن الشفاعة لا تنفع إلا بعد إذنه، وهو – جل وعلا – لا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي عمله، وهم أهل الإخلاص، ومتابعة الرسول وهو -تعالى- لا يرضى عن المشرك، الذي يدعو غير الله -تعالى-.
فيجب على العاقل الذي تعز عليه نفسه أن لا يغتر بما اغتر به كثير من الناس الذين يعتمدون على الشفاعة، مع ما هم فيهم من المعاصي، فأفضل الشفعاء يحد الله له حداً، يقول: هؤلاء أشفع فيهم.
قوله: " فأقول: يا رب، ما بقي إلا من حبسه القرآن، ووجب عليه الخلود" أي: أن أهل التوحيد الذين استحقوا دخول النار بذنوبهم قد خرجوا منها بالشفاعة التي حقيقتها رحمة الله إياهم، بواسطة الشفاعة؛ ليظهر كرامة الشافع كما تقدم، وبقى من نص القرآن على أنه من أهل النار، الذين لا تنالهم شفاعة الشافعين.
قوله: " يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ... " إلى قوله: " ما يزن برة" يدل على أن مجرد قول: لا إله إلا الله، من دون أن يقوم في القلب شيء من الإيمان، لا ينفع، ولا يخرج من النار، فالمقصود بالخير: الإيمان الذي يقوم في القلب، وإن قل.
كما أنه يدل دلالة واضحة على تفاوت الإيمان وتفاضله، وأن أهل الكبائر من المؤمنين يدخل من يدخل منهم النار ثم يخرجون منها، والله أعلم.
_________
(1) الآيتان 22 و 23 من سورة سبأ.(1/303)
40- قال: " حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " يد الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار" وقال: " أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يده". وقال: " عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان، يخفض، ويرفع".
جاء في أول هذا الحديث في تفسير سورة هود: " أنفق أنفق عليك" (1) . وسيأتي كذلك، في باب قوله -تعالى-: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} .
وهو عند مسلم بلفظ: " إن الله قال لي: أنفق أنفق عليك" وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " يمين الله ملأى" إلى آخره (2) .
وسيأتي في باب " وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء " بلفظ: " إن يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم ينقص ما في يمينه، وعرشه عل الماء، وبيده الأخرى الفيض - أو القبض - يرفع ويخفض" وهو أبلغ في الدلالة على إثبات اليدين لله -تعالى- مما ها هنا.
وقد اضطرب أهل التأويل في تأويلهم اليد اضطراباً يدل على أنهم على باطل.
والعاقل المنصف يعجب إذا رأى ما كتبه ابن حجر في شرحه لهذا الباب،
_________
(1) انظره مع الفتح (8/352) .
(2) انظر: " مسلم" (2/691) الحديث رقم (37) ، و (ص690) الحديث رقم (36) .(1/304)
فإنه ذكر بعض أقوال أئمة الأشعرية، ثم قال: " واليد في اللغة تطلق لمعان كثيرة، اجتمع لنا منها خمسة وعشرون ومعنى" (1)
والنصوص في هذا الباب جاءت معينة معنى واحداً لا غير، هو يدا الله الكريمتان، وما عدا ذلك فهو بهتان عظيم.
قوله: " يد الله ملأى" ذكرنا أنها عند مسلم، وعند البخاري في مواضع غير هذا، بلفظ "يمين الله " بدل: " يد الله"، قال الحافظ: " يتعقب بهذه الرواية على من فسر اليد بالنعمة، وأبعد منه من فسرها بالخزائن " (2) .
قلت: هذا التفسير باطل، ولا يصح أن يسمى تفسيراً، وإنما هو تحريف للكلام عن مواضعه، كفعل اليهود، كما سيأتي بيان ذلك - إن شاء الله تعالى -.
و"ملأى" بفتح الميم، وسكون اللام، وهمزة، مع القصر، أي أنها: شديدة الامتلاء بالخير.
قوله: " لا يغيضها " أي: لا ينقصها، يقال: غاض الماء يغيض، إذا نقص.
قوله: " سحاء" بفتح السين والحاء المشددة، ممدوداً، أي دائمة الصب.
"الليل والنهار" منصوبان على الظرفية، أي: يد الله دائمة السح في الليل والنهار.
قوله: " أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ " استدلال، وإيضاح لكثرة نفقته تعالى، وتنبيه لمن له بصيرة إلى ذلك.
قوله: " فإنه لم يغض ما في يده" أي: هذا الإنفاق الهائل، المستمر الدائم بدون توقف، لم ينقص ما في يده -تعالى-؛ لأن بيده الخير كله لا مانع لما أعطى، ولا معطي لمن منعه، وإذا أراد شيئاً قال له: كن، فيكون.
قوله: "وعرشه على الماء" قال الحافظ: " مناسبة ذكر العرش هنا: أن
_________
(1) انظر " فتح الباري" (13/394) .
(2) "الفتح" (13/395) .(1/305)
السامع يتطلع من قوله: " منذ خلق السماوات والأرض " ماذا كان قبل ذلك؟ فذكر أن عرشه قبل خلق السماوات والأرض، كان على الماء " (1) .
قوله: " وبيده الأخرى، الميزان، يخفض ويرفع" الميزان: العدل، الذي به يرفع من يكون أهلاً لأن يرفع، ومن هو موضع له، فيتفضل عليه برفعه بالإيمان وقبول الحق، بأن يحبب إليه الإيمان، ويزينه في قلبه، ويكره إليه الكفر والفسوق، والعصيان، ويجعله من الراشدين، وهذا أعظم الرفع. ويخفض من ليس أهلاً
لذلك، بأن يمنع فضله عنه، ويكله إلى نفسه، فيضل، ويتولاه عدوه فيصبح خاسراً، وهذا أعظم الخفض؛ لأنه يصير إلى أسفل سافلين، في جهنم - نعوذ بوجه الله منها - وأمور الدنيا تبع لذلك.
"قال الطيبي: يجوز أن يكون "ملأى" و"لا يغيضها" و"سحاء" و"أرأيتم" أخبار مترادفة ليد الله، ويجوز أن تكون الثلاثة أوصافاً "لملأى" ويجوز أن يكون "أرأيتم" استئنافاً فيه معنى الترقي، كأنه لما قيل: "ملأى" {خشي} إيهام جواز النقصان، فأزيل بقوله: " لا يغيضها" وقد يمتلئ الشيء ولا يغيض، فقيل: "سحاء" إشارة إلى الفيض - وهو كثرة العطاء - وقرنه بما يدل على الاستمرار، من ذكر الليل والنهار، ثم أتبعه بما يدل على أن ذلك ظاهر غير خاف على ذي بصر وبصيرة، بقوله: " أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض" وهذا الكلام إذا أخذته بجملته أبان عن زيادة الغنى، وكمال السعة والجود، والبسط في العطاء" (2) .
قلت: الاستدلال بهذا الحديث على ثبوت اليدين لله -تعالى- حقيقة، ظاهر جداً، وسيأتي تقرير ذلك - إن شاء الله - في آخر الباب.
_________
(1) المصدر المذكور.
(2) "الفتح" (13/395) .(1/306)
41-قال: " حدثنا مقدم بن محمد، قال: حدثني عمي، القاسم بن يحيى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " إن الله يقبض يوم القيامة الأرض، وتكون السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك" رواه سعيد عن مالك.
القبض: " إمساك الشيء بجميع كف اليد، فقبض اليد على الشيء: جمعها بعد تناوله" (1) ، فقبض الشيء هو: جمعه في الكف.
فقوله: " إن الله يقبض يوم القيامة الأرض" أي يجمعها بيده، فتكون في قبضته، كما قال -تعالى-: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
وقوله: " وتكون السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك" أي أنه -تعالى- يطوي السماوات بيده اليمنى، والأرض مقبوضة بيده الأخرى، وأنه يهزهن ثم يقول - يعظم نفسه-: أنا الملك - أي: الذي يتصرف في كل شيء كيف يشاء، ولا يشاركه في ذلك أحد، ولهذا جاء فيه: أنه -تعالى- إذا قبضهن، يهزهن، ويقول: " أنا الملك، أنا الملك، أين ملوك الدنيا؟ ".
وهذا الحديث مطابق لقوله -تعالى-: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) .
وفيه الدليل الواضح على ثبوت اليدين لله -تعالى-، وهو نص لا يقبل تأويلاً، ولهذا صارت تأويلات المعطلين ليدي رب العالمين، شبه اللعب في كلام الله وكلام رسوله، الذي يترفع عنه العقلاء، فضلاً عن أهل التقى.
_________
(1) انظر: " المفردات" للراغب (ص391) .
(2) الآية 67 من سورة الزمر.(1/307)
42-قال: " وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني أبو سلمة، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " يقبض الله الأرض ".
تقدم تفسير القبض، وهذا الحديث مر في باب قوله -تعالى-: {مَلِكِ النَّاسِ} .(1/308)
43-قال: " حدثنا مسدد، سمع يحيى بن سعيد، عن سفيان، حدثني منصور، وسليمان، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله، أن يهودياً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد، إن الله يمسك السماوات على إصبع، والأرضيين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (1) ".
وقال يحيى بن سعيد، وزاد فيه فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله: " فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعجباً وتصديقاً له".
_________
(1) الآية 67 من سورة الزمر.(1/309)
44-قال: " حدثنا عمر بن حفص عن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، سمعت إبراهيم قال: سمعت علقمة يقول: قال عبد الله: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من أهل الكتاب، فقال: يا أبا القاسم، إن الله يمسك السموات على إصبع، والأرضيين على إصبع، والشجر والثرى على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أن الملك، أنا الملك، فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ضحك حتى بدت نواجذه، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ".
هذا الحديث يدل على عظمة الله -تعالى- حيث يضع السماوات كلها على إصبع من أصابع يده الكريمة العظيمة، وعدد المخلوقات المعروفة للخلق بالكبر والعظمة، وأخبر أن كل نوع منها يضعه -تعالى- على إصبع، لو أراد تعالى - لوضع السماوات والأرضيين ومن فيهن على إصبع واحدة من أصابع يده - جل وعلا-.
وهذا من العلم الموروث عن الأنبياء المتلقى عن الوحي من الله -تعالى-، ولهذا صدقه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل وأعجبه ذلك وسر به، ولهذا ضحك حتى بدت نواجذه، تصديقاً له، كما قال عبد الله بن مسعود، ولا التفات إلى قول من تبنى التعطيل، وصار نصيبه من معرفة هذه الأوصاف الكريمة العظيمة - التي تعرف الله بها إلى عباده - هو ما يعرفونه من أنفسهم، فحملهم ذلك على تعطيل الله -تعالى- من هذه الأوصاف، مرة برد هذه النصوص والطعن في رواتها بلا حجة سوى
روايتهم لها، ومرة بتأويلها التأويل الباطل الذي يخرجها عن مراد المتكلم بها {قل ءأنتم أعلم أم الله} .(1/310)
هذا وقد تنوعت النصوص من كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- على إثبات اليدين لله -تعالى- وإثبات الأصابع لهما، وإثبات القبض بهما وتثنيتهما، وأن إحداهما يمين، كما مر، وفي نصوص كثيرة، والأخرى شمال كما في "صحيح مسلم" (1) ، وأنه -تعالى- يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وبالنهار ليتوب مسيء الليل (2) ، وأنه -تعالى- يتقبل الصدقة من الكسب الطيب بيمينه فيربيها لصاحبها (3) ، وأن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين (4) ، وغير ذلك مما هو ثابت عن الله ورسوله، وسأذكر شيئاً يسيراً من ذلك - إن شاء الله - وبعضه يكفي المؤمن المريد للحق.
وهذا الذي أشرت إليه كله يمنع تأويل اليدين بالنعمة، أو القوة، أو الخزائن، أو القدرة، أو غير ذلك، ويجعل التأويل في حكم التحريف، بل هو تحريف.
وقد آمن المسلمون بهذه النصوص، على ظاهرها، وقبلوها، ولم يتعرضوا لها بتأويل تبعاً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته، وأئمة الهدى، بل وكل من قبل ما جاءت به الرسل، وآمن به.
قال الإمام ابن خزيمة معلقاً على هذا الحديث: " معناه أن الله - جل وعلا - يمسك ما ذكر في الخبر على أصابعه، على ما في الخير سواء، قبل تبديل الله الأرض غير الأرض؛ لأن الإمساك على الأصابع غير القبض على الشيء، وهو مفهوم في اللغة التي خوطبنا بها؛ لأن الإمساك على الشيء بالأصابع، غير القبض
_________
(1) سيأتي ذكره بعد قليل.
(2) سيأتي تخريجه.
(3) سيأتي ذكره بعد قليل.
(4) سيأتي ذكره في هذا الباب(1/311)
على الشيء" (1) .
قال الحافظ في شرحه لهذا الحديث: " زاد ابن خزيمة، عن محمد بن خلاد، عن يحيى بن سعيد القطان، عن الأعمش، فذكر الحديث، قال محمد: عدها علينا يحيى بأصابعه. وكذا أخرجه أحمد في السنة، عن يحيى بن سعيد، وقال: وجعل يحيى يشير بأصبعه يضع إصبعاً على إصبع، حتى أتى على آخرها، قال: ورواه الخلال في كتاب السنة، عن أبي بكر المروزي، عن أحمد، وقال: ورأيت أبا عبد الله يشير بإصبع إصبع" (2) .
قلت: تبعوا في ذلك ما وقع من الحبر الذي حدث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث كان يشير بأصابعه، ولم ينكر عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل أقره، وصدقه.
فهذه النقول عن هؤلاء المذكورين من السلف، تدل على أنهم فهموها على ظاهرها، وأنها أصابع حقيقة.
قال عبد الله ابن الإمام أحمد: " قال أبي: قال يحيى: قال: فضيل بن عياض ... فضحك رسول الله تعجباً وتصديقاً، سمعت أبي يقول: حدثني يحيى بن سعيد، بحديث سفيان، عن الأعمش، ومنصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: " إن الله يمسك السماوات على إصبع".
قال أبي: وجعل يحيى يشير بأصابعه، وأراني أبي كيف جعل يحيى يشير بأصابعه، يضع إصبعاً إصبعاً حتى أتى على آخرها" (3) .
وفي الترمذي عن ابن عباس، قال: " مر يهودي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا يهودي، حدثنا، فقال: كيف تقول يا أبا القاسم، إذا
_________
(1) كتاب "التوحيد" (ص79) .
(2) "فتح الباري" (13/397) .
(3) كتاب "السنة" (ص54) .(1/312)
وضع السماوات على ذه، والأراضين على ذه، والماء على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه؟ - وأشار محمد بن الصلت - أبو جعفر - بخنصره أولاً، ثم تابع حتى بلغ الإبهام - فأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح" (1) .
ورواه ابن جرير في "تفسيره"، وسنده حسن (2) .
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: " حدثني أبي، حدثنا حسين بن حسن، حدثنا أبو كريبة، عن عطاء عن أبي الضحى، عن ابن عباس، قال: مر يهودي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس، قال: كيف تقول يا أبا القاسم، يوم يجعل الله السماء على ذه - وأشار بالسبابة - والأرضيين على ذه، والماء على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلائق على ذه- وجعل يشير بأصابعه -؟ فأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} .
حدثني عبد الله بن عمر، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس، قال: مر يهودي على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا يهودي خوفنا، فقال: يا أبا القاسم، كيف بيوم تكون الأرضون على هذه، والسماوات على هذه، والماء على هذه، والخلق على هذه؟ - يعني أصابعه - ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (3) .
فمثل هذه الأحاديث هى مستند السلف في الإشارة بالأصابع، تحقيقاً لإثبات أصابع الرحمن - جل وعلا - وقدوتهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
_________
(1) "سنن الترمذي" (5/49) .
(2) انظر: " تفسير الطبري" (24/26) .
(3) كتاب "السنة" (لعبد الله ابن الإمام أحمد (ص55) .(1/313)
وهذه النصوص التي فيها ذكر الأصابع تدل دلالة قاطعة - عند المؤمنين الذين يحكمون الشرع - على ثبوت اليدين لله - تعالى -، وقد تنوعت الدلائل على ذلك - كما أشرنا إليه آنفا - من ذكر الأصابع، والقبض، والبسط، والتثنية، وذكر اليمين والشمال.
ففي "الموطأ" و"الترمذي" و"سنن أبي داود ": أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن الله - تبارك وتعالى - خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذريته" (1) ورواه أحمد.
وفي "الترمذي" و"سنن أبى داود" مرفوعاً: " أن الله - تبارك وتعالى خلق آدم من قبضة، قبضها من جميع الأرض " (2)
وفيه أيضاً من حديث أبي هريرة مرفوعاً، في حديث طويل في خلق آدم، وفيه: " فقال الله له: ويداه مقبوضتان، اختر أيهما شئت، قال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين، مباركة، ثم بسطها، فإذا فيها ذريته " (3) .
وفي "صحيح مسلم" عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " يطوي الله - عز وجل - السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ " (4) .
وفيه أيضاً عنه مرفوعاً، "قال: يأخذ الله - عز وجل - سماواته، وأرضيه،
_________
(1) "الموطأ" (2/898- 899) ، و "الترمذي" في التفسير رقم (3077) ، و "سنن أبي داود" في السنة رقم (4703) ، و "المسند" (1/324) .
(2) "الترمذي" رقم (2948) في التفسير، و "أبو داود" في السنة، في القدر، رقم (4693) .
(3) "سنن الترمذي" في التفسير في باب: من سورة المعوذتين، رقم (3365) ، وابن خزيمة في "التوحيد" (ص67) .
(4) "مسلم" (4/2148) رقم (2788) .(1/314)
بيديه، فيقول: أنا الله - ويقبض أصابعه، ويبسطها - أنا الملك، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ " (1) ورواه أحمد.
وفيه أيضاً من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " إن المقسطين عند الله؛ على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم، وما ولوا " (2) .
وفيه أيضاً من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وما تصدق أحد بصدقة، من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن، حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه، أو فصيله" (3) .
وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من تصدق بعدل تمرة، من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل" (4) .
وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ينزل الله في السماء الدنيا، لشطر الليل، أو لثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ أو يسألني فأعطيه؟ ثم يبسط يديه - تبارك وتعالى - يقول: من يقرض غير عدوم، ولا ظلوم " (5) .
_________
(1) "صحيح مسلم" الموضع المذكور، وانظر: " المسند" (2/72، 87، 88) .
(2) "مسلم" (3/1458) رقم (1827) .
(3) "مسلم" (2/702) رقم (1014) .
(4) انظر: " البخاري مع الفتح" (3/278) و (13/415) ، و "مسلم" (2/702) ، وابن خزيمة في "التوحيد" (ص61-63) .
(5) "مسلم" (1/176) ، وابن خزيمة في "التوحيد" عن عبد الله بن مسعود (ص58) .(1/315)
وفيه من حديث المغيرة بن شعبة في سؤال موسى ربه عن أدنى أهل الجنة منزلة، "رب، فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن" (1) .
وفي "الصحيحين" مرفوعاً من حديث أبي سعيد الخدري، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة، يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر، نزلاً لأهل الجنة" (2) . وفيهما من حديث أبي هريرة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " واحتج آدم وموسى فقال موسى: يا آدم أنت أبونا، خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة. فقال آدم: أنت موسى، اصطفاك الله بكلامه، وخط لك بيده، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ " (3) .
وفي رواية لمسلم: " احتج آدم وموسى عند ربهما، فحج آدم موسى، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته ... " (4) .
وروى البيهقي في " الأسماء والصفات" بسنده: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " لما خلق الله -تعالى- آدم وذريته، قالت الملائكة: يا رب، خلقتهم يأكلون ويشربون، وينكحون، ويركبون، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة، فقال الله -تعالى-: لا أجعل من خلقته بيدي، ونفخت فيه من روحي، كمن قلت له: كن، فيكون" (5) .
_________
(1) "مسلم" (1/176) ، وابن خزيمة في "التوحيد" (ص69-70) .
(2) "البخاري مع الفتح " (11/372) ، و "مسلم" (4/2151) رقم (2792) .
(3) "البخاري مع الفتح" (11/505) ، و "مسلم" (4/2042) .
(4) "مسلم " (4/2043) .
(5) " الأسماء والصفات " (ص317) .(1/316)
وروى بسند حسن، عن أنس، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " خلق الله -تعالى- جنة عدن، وغرس أشجارها بيده، فقال لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون" (1) .
ورواه ابن جرير موقوفاً (2) ، وذكره الحافظ ابن كثير، عن ابن أبي الدنيا مرفوعاً (3) .
وقال ابن جرير في قوله -تعالى-: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يقول -تعالى- ذكره -: والأرض كلها قبضته في يوم القيامة {والسماوات} كلها {مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ثم روى عن ابن عباس، قال: " ما السموات السبع، والأرضون السبع في يد الله إلا كخردلة في يد أحدكم".
وروى عن ربيعة الجرشي قال: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} قال: " ويده الأخرى خلو ليس فيها شيء".
وعن ابن عباس، قوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} يقول: قد قبض الأرضين والسموات جميعاً بيمينه، ألم تسمع أنه قال: {مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} يعني: الأرض والسماوات جميعاً؟ قال ابن عباس: وإنما يستعين بشماله المشغولة يمينه.
وعن الحسن: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال: " كأنها جوزة بقضها وقضيضها".
حدثنا الربيع، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد، عن أبي حازم، عن عبد الله بن عمر، أنه رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر - يخطب الناس،
فمر بهذه الآية: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ
_________
(1) المصدر المذكور (ص318) .
(2) "تفسير الطبري "، مفتتح الجزء (18) .
(3) "تفسير ابن كثير" (5/455) ط الشعب.(1/317)
الْقِيَامَةِ} فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " يأخذ السموات، والأرضين السبع فيجعلها في كفه، ثم يقول بهما - كما يقول الغلام بالكرة -: أنا الله الواحد، أنا الله العزيز" حتى لقد رأينا المنبر، وإنه ليكاد أن يسقط به (1) .
وذكر أحاديث وآثاراً في هذا.
والأحاديث والآثار عن السلف في ذلك كثيرة.
وروى ابن ماجه - قال في "الزوائد": وسنده صحيح، والإمام أحمد، عن النواس بن سمعان، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه" (2) .
وبهذا - وغيره كثير لم نذكره - يعلم خطأ الخطابي، وفريق أهل التأويل، قطعاً، حيث يقول: "لم يقع ذكر الإصبع في القرآن، ولا في حديث مقطوع به، وقد تقرر أن اليد ليست بجارحة، حتى يتوهم من ثبوتها ثبوت الأصابع، بل هو توقيف أطلقه الشارع، فلا يكيف، ولا يشبه، ولعل ذكر الأصابع من تخليط اليهودي، وأما ضحكه -صلى الله عليه وسلم- من قول الحبر، فيحتمل الرضا والإنكار، وأما قول الراوي: "تصديقاً له" فظن منه وحسبان" (3) .
ونحن نجيبه بما أجاب به عبد الله بن مسعود، لما قيل له: إن المنع من تعليق التميمة ليس في كتاب الله.
فنقول: بلى، إن ذكر الأصابع قد وقع في القرآن؛ لأن الله -تعالى- يقول فيه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه} ، وقد أتانا - صلى الله عليه وسلم- بذكر الأصابع،
_________
(1) "تفسير الطبري" (24/27-28) .
(2) "سنن ابن ماجه" (1/72) رقم (199) ، و "المسند" (4/182) ، والآجري في الشريعة (ص317) ، والحاكم (4/321) ، وابن أبي عاصم في "السنة" (1/98) ، وذكر عدداً من الأحاديث بهذا اللفظ.
(3) من "الفتح" (13/398) .(1/318)
وذكر الكف، وذكر اليمين، والشمال، واليدين، مرة مثناة، ومرة منصوص على أنها واحدة، وأنه
يفعل بها كذا وكذا، وأن الأخرى فيها كذا، كما تقدمت النصوص بذلك، وهو تبع لأهل الكلام – المذموم- ينكر وصف الله -تعالى- باليدين حقيقة، مع أن القرآن قد جاء بذلك صراحة، كما قال -تعالى- {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1) ، {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (2) ، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (3) . وهو مع ذلك لا يقبله؛ لأنه على خلاف تلقاه عن أهل البدع، ولهذا نراه – عفا الله عنا وعنه – يحاول رد النصوص بدون حجة، وكل ما يمكن أن يعتمد عليه هو – وكل من سلك مسلكه من أهل التأويل – ادعاؤهم أن العقل بخلاف ذلك، وأنه محال في العقل، وهو أمر غير منضبط، كما سنشير إليه – إن شاء الله – ودعوى بدون برهان.
قوله: " ولا حديث مقطوع به "، هذا عجيب من الخطابي، الذي كثر اشتغاله بالحديث تأليفاً، ورواية، وشرحاً لمتونه، وأسانيده، ثم يقول هذا القول، الذي هو عنوان لأهل البدع، فهم كلما ألجأتهم الحجج إلى المضائق رموها بهذه الدعوى " أنها أدلة غير مقطوع بها".
فإذا كانت أحاديث الرسول –صلى الله عليه وسلم- مع ثبوت أسانيدها غير مقطوع بها، فما هي الحجج المقطوع بها في نظر هؤلاء؟ هل هي أقوال أقوام متهمين على الدين الإسلامي، وتحوم حولهم شكوك كثيرة؟ كالجعد بن درهم، وجهم بن صفوان، وبشر المريسي، وأحمد بن أبي دؤاد، وابن الثلجي ونحوهم، فإن هؤلاء هم سلف متأخري الأشعرية في تأويلاتهم.
وإننا نربأ بالخطابي أن يسلك هذا المسلك المنحرف عن الهدى.
_________
(1) الآية 75 من سورة ص.
(2) الآية 67 من سورة الزمر.
(3) الآية 64 من سورة المائدة.(1/319)
وهذا دليل على ضعف مسلك التأويل في هذه النصوص، وأنه غير مقنع.
ثم هو يقصد بقوله: غير مقطوع به، عدم التواتر؛ لأنه لا يقبل من الحديث في باب الصفات إلا ما كان في القرآن، أو تواتر عن الرسول –صلى الله عليه وسلم- كما ذكر ذلك عنه شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد علم أن القرآن جاء بصفة اليدين لله صراحة
ومعلوم أن الصحابة ومن سلك نهجهم لم يفرقوا بين أصول الدين وفروعه في الثبوت، ومعظم الدين الإسلامي ثبت بأخبار الآحاد
وهذه الصفات التي ينكرها هؤلاء، قد ثبتت في أحاديث مقطوع بصحتها عند أهل العلم، وإذا صح الحديث وجب قبوله، والعمل به، والإيمان بما دل عليه، وحرمت مخالفته
ولا فرق بين كونها في العمليات، أو الاعتقادات، خلافاً لأهل البدع الذين يفرقون بين ذلك
ومعلوم أن الذي جاء بهذه النصوص – في الصفات – هو الذي جاء بالأمر بعبادة الله، وتحريم الشرك، وبيان عدد ركعات الصلوات الخمس، وأنصباء الزكاة، وبيان واجبات كثيرة، ومحرمات كثيرة، لم يأت تفصيلها في القرآن، ولا في أخبار متواترة، فلماذا يقبل هذا، ويرد ذاك؟ إن هذا التفريق فعل الذين جعلوا دينهم شيعاً، وآمنوا ببعض، وكفروا ببعض، وقد تقدم ما فيه كفاية لمن قصده الحق من ذكر النصوص في هذه المسألة، وغيرها من مسائل الصفات نظيرها، وقد يكون أوضح منها دليلاً كما سيأتي بعض ذلك
وقوله: " وقد تقرر أن اليد ليست بجارحة، حتى يتوهم من ثبوتها ثبوت الأصابع" حقيقة هذا الكلام: أن اليد ليست يداً، حتى يلزم ثبوت الأصابع، ومعلوم أن الله –تعالى- خاطبنا باللغة العربية، وبألفاظ معلومة المعاني للمخاطبين، فالمخاطبون بهذه النصوص، علموا أن المراد بها ما دلت عليه بظاهرها(1/320)
وكذلك المخاطب أراد منهم ذلك، ولهذا لم يأت عنه –صلى الله عليه وسلم- ولا من طريق ضعيف، أنه قال: لا تعتقدوا ظاهرها، ولا سيما وظاهرها عند الخطابي وفريقه كفر وتشبيه فهل يعقل أن الله ورسوله يخاطبان العباد بما ظاهره الكفر، ثم لا يبين ذلك لهم، ويحذرهم من اعتقاده؟ ولو كان لهذه النصوص معنى عند رسول الله غير ظاهرها لبينه؛ لأنه واجب عليه بمقتضى الرسالة
والصحابة سمعوا هذه النصوص، ورووها، ولم يسألوا عن معان لها غير ظاهرها، فلما سكتوا دل ذلك على أنهم علموا أن المراد بها هو الظاهر، فوجب علينا أن نسكت حيث سكتوا، وأن نقبل ونسلم كما قبلوا وسلموا لها بدون تأويل ونحن نسأل هؤلاء: مَنْ مِنَ المسلمين الذين يعتد بقولهم، قال: إن يد الله جارحة؟ وهل جاء ذلك، ولو بحديث ضعيف؟ إن هذا لا وجود له، ولكنها الأوهام، والإتجاهات الفاسدة، وإرادة التشنيع على أتباع الرسل
ونحن – بحمد الله وله المنة – وكل من تلقى عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بالقبول والتسليم، وفهم المراد – نعتقد مطمئنين أن لله يدين حقيقتين لهما أصابع يضع عليها السموات والأرض وما شاء يوم القيامة، وإن زعمت أنوف الأشعرية، وإمامنا في ذلك رسولنا محمد بن عبد الله – صلوات الله وسلامه عليه – وأصحابه، وأتباعه إلى يوم القيامة، وهو معلم الخير والهدى
قال الإمام أحمد: " الحديث عندنا على ظاهره، كما جاء عن النبي –صلى الله عليه وسلم- والكلام فيه بدعة، ولكن نؤمن به كما جاء على ظاهره" (1)
_________
(1) "طبقات الحنابلة" (1/242)(1/321)
ويقصد بالكلام فيه: التأويل الذي يخرجه عن ظاهره وقال البربهاري (1) : " إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار، ولا يقبلها، أو ينكر شيئاً من أخبار رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فاتهمه على الإسلام، لأنا إنما عرفنا الله ورسوله، وعرفنا القرآن، والخير والشر، بالآثار" (2)
وقال: " واعلم أنها لم تكن زندقة، ولا كفر، ولا شكوك، ولا بدعة، ولا ضلالة، ولا حيرة في الدين، إلا من الكلام وأهل الكلام، والجدل، والمراء،
والخصومة وكيف يجترئ الرجل على المراء، والخصومة، والجدال، والله يقول: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (3) "
وقال أيضاً: " واعلم إنما جاء هلاك الجهمية، من أنهم فكروا في الرب – عز وجل – فأدخلوا: لم، وكيف، وتركوا الأثر، ووضعوا القياس، وقاسوا الدين على رأيهم، فجاؤوا بالكفر عيانا، لا يخفى أنهم كفروا، وكفروا الخلق، واضطرهم الأمر إلى أن قالوا بالتعطيل" (4)
وقال: " إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار، أو يردها، ويريد غيرها، فاتهمه على الإسلام، ولا تشك أنه صاحب هوى مبتدع" (5) وقال القاضي، أبو الحسين محمد بن أبي يعلي: "قرأت على المبارك، عن علي بن عمر البرمكي، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله المالكي، حدثنا أبي،
_________
(1) هو شيخ الحنابلة في وقته الحسن بن علي بن خلف، كان شديد الإنكار على أهل البدع، وكان حافظاً ثقة، وأصولياً متقناً، له تصانيف كثيرة مفقودة، توفي سنة 329 "شذرات الذهب" (2/319)
(2) "طبقات الحنابلة" (2/25)
(3) المرجع المذكور (ص27)
(4) المرجع المذكور (ص30)
(5) المرجع المذكور (ص36)(1/322)
حدثنا محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن يعقوب ابن زوران – لفظاً – حدثنا أبو العباس أحمد بن جعفر بن يعقوب بن عبد الله الفارسي، الاصطخري، قال: قال أبو عبد الله، أحمد بن محمد بن حنبل – وذكر العقيدة إلى أن قال – "وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، ويوعيها ما أراد، وخلق آدم بيده، على صورته، والسموات والأرض يوم القيامة في كفه، ويضع قدمه في النار، فتنزوي" وذكر عقيدة طويلة جامعة (1) .
وقال الحسن بن علي بن خلف البربهاري: " وكل ما سمعت من الآثار شيئاً لم يبلغه عقلك، نحو قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: " قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن" وقوله: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا، وينزل يوم عرفة، وينزل يوم القيامة، وأن جهنم لا يزال يطرح فيها، حتى يضع عليها قدمه، وقوله للعبد: إن مشيت إليَّ هرولت إليك، وقوله: خلق الله آدم على صورته، وقول الرسول –صلى الله عليه وسلم-: " رأيت ربي في أحسن صورة" (2) ، وأشباه هذه الأحاديث، فعليك بالتسليم،
والتصديق، والتفويض (3) والرضا، ولا تفسر شيئاً من هذه بهواك (4) ، فإن الإيمان بهذا واجب، فمن فسر شيئاً من هذا بهواه، أو رده، فهو جهمي" (5) .
وهذا الذي ذكره الإمام أحمد، والبربهاري، هو مذهب السلف، الذين تلقوا عن الرسول –صلى الله عليه وسلم- ولم يزل السلف يوصي بعضهم بعضاً بالتمسك به، والتحذير ممن يخالفه؛ لأنه الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة.
_________
(1) "طبقات الحنابلة" (1/24-29)
(2) هذه رؤية منام كما هو مصرح به في الرواية.
(3) المقصود بالتفويض: تفويض الحقيقة، والكيف، فهو يوكل إلى الله -تعالى- فإن الخلق لا علم لهم بذلك.
(4) مراده التفسير: التأويل، وتعيين معنى لا يدل عليه اللفظ إلا بتكلف أو بغرابة.
(5) "طبقات الحنابلة" (2/23) .(1/323)
وقوله: " بل هو توقيف أطلقه الشارع، فلا يكيف، ولا يشبه "، يعني أن لفظ اليد الثابت بكتاب الله، وبالسنة، توقيف أطلقه الشارع، فلا يوقف له على معنى، فهو – عنده- لا يدل على ما وضعت له كلمة "يد" في اللغة، ومضمون ذلك أن آيات الصفات وأحاديثها لا يعلم لها معان تطابق ألفاظها، وتؤخذ منها، ويلزم على هذا أن الشارع خاطب الناس بما ظاهره غير مقصود، ولا مطلوب منهم الإيمان بظاهره، بل قد يكون ظاهره باطلاً وكفراً، فمعنى قوله: " لا يكيف، ولا يشبه" أي: لا يثبت لها معنى مطابقاً للفظها في وضع اللغة، فلا يوصف الله –تعالى- باليد الحقيقية التي أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله –صلى الله عليه وسلم-؛ لأن هذا تشبيه، فهذه النصوص في هذا الباب ونحوه فيها تشبيه لله –تعالى- عند هؤلاء، ولهذا صار تأويلها متعيناً.
فضاعت النصوص التي تعرف الله بها إلى عباده بين مردود (1) ومؤول.
وقوله: " ولعل ذكر الأصابع من تخليط اليهودي"، جوابه: أنه قد تقدم من ذكر بعض النصوص التي تبطل هذا الهراء، والقول الجائر، أن الخطابي – عفا الله عنا وعنه – بهذا القول إنما يشنع في الحقيقة على رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، والله المستعان.
وقوله: " فإن اليهود مشبهة، وفيما يدعونه من التوراة ألفاظ تدخل في باب التشبيه، ولا تدخل في مذاهب المسلمين "، ونحن لا نبرئ اليهود من الباطل، ولكن نقول: إن الحق يجب أن يقبل ممن قاله، سواء كان من اليهود أو من غيرهم.
وهو لم يبين هذه الألفاظ التي تدخل في باب التشبيه على حد قوله.
_________
(1) القاعدة عند الخطابي: أن الأحاديث الموافقة للقرآن، أو المتواترة، هي التي تقبل في الصفات، أما ما عدا ذلك، فإنه لا يثبت به صفة لله -تعالى-، وهذه القاعدة أخذت من كلامه، كما سبق قوله في الأصابع إنه لم يثبت فيه حديث.(1/324)
ولكن نعلم من طريقته أن كل من أثبت لله من الصفات ما ينكره هو ومن سلك نهجه، أنهم يسمونه مشبهاً، ولو كان متمسكاً بالكتاب والسنة، فعنده من أثبت لله يداً حقيقية فهو مشبه، وكذلك الوجه، والرجل، والأصابع، والعينين، ونحو ذلك. وقوله: " وأما ضحكه –صلى الله عليه وسلم- من قول الحبر، فيحتمل الرضا، والإنكار".
فجوابه: أن الحق الذي لا نشك فيه أنه لا يحتمل إلا الرضا، والموافقة؛ لأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- لا يضحك من الباطل والكفر الذي هو تشبيه رب العالمين بالخلق، كما هو مقتضى مذهب الخطابي.
ومقتضى الإيمان بالرسول –صلى الله عليه وسلم- يمنع من أن يكون ضحكه من أجل التشبيه الذي يقوله اليهودي – كما زعم الخطابي – عفا الله عنا وعنه -.
إن ما يقوله هؤلاء في الحقيقة قلب للحقائق، حتى تسلم عقيدة الأشعرية من معاول النصوص، التي تأتي على أسسها بالاقتلاع (1) ، ولو استطاع كثير منهم الرد على الله ورسوله لفعلوا، ولكن كما يقول الله -تعالى-: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (2)
وأما قوله: " وأما قول الراوي: " تصديقاً له، فظن وحسبان" يعني: أن عبد الله بن مسعود ظن ظناً أخطأ الحق، وأبعد عن الصواب، حيث خالف عقيدة أهل الكلام، فيرد قوله.
_________
(1) قال ابن خزيمة: " وقد أجل الله قدر نبيه، عن أن يوصف الباري بحضرته بما ليس من صفاته، فيسمعه فيضحك عنده، ويجعل بدل وجوب النكير والغضب على المتكلم به ضحكاً حتى تبدو نواجذه؛ وتعجباً لقائله، لا يصف النبي –صلى الله عليه وسلم- بهذه الصفة مؤمن مصدق برسالته" كتاب "التوحيد" (ص76) .
(2) الآية 18 من سورة الأنبياء.(1/325)
ونحن نقول: أيهما أولى عند الله، وعند المؤمنين، بالفهم عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: صحابته الذين عايشوه، وتربوا بين يديه، ونقلوا لنا ديننا عنه، أم الخطابي وذووه؟
ولو سلم ذلك لأمكن كل مبطل أن يقول في أي نص جاء عن الرسول –صلى الله عليه وسلم- وصحابته كقولك هذا: إنه ظن وحسبان، وأن الصواب خلافه، فتبطل الشريعة كلها. تقدم ذكر الآيات الدالة صراحة على وصف الله -تعالى- باليدين.
قال أبو سعيد الدارمي – رحمه الله -: " حدثنا أحمد بن يونس، عن فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله، أنه قال: " ضحك من قول الحبر، تعجباً لما قال، وتصديقاً له" (1) .
"وقد تواتر في السنة مجيء اليد – وصفاً - لله-تعالى- فعلم من ذلك أن لله -تعالى- يدين مختصتين به، ذاتيتين له، كما يليق بجلاله، وأنه -تعالى- خلق آدم بيده دون الملائكة وإبليس، وأنه – سبحانه – يقبض الأرض، ويطوي السموات بيده اليمنى، وأن {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (2) .
ومعنى بسطهما: بذل الجود، وسعة العطاء، لأن العطاء والجود في الغالب يكون ببسط اليد ومدها.
فإذا قيل: هو مبسوط اليد، فهم منه يد حقيقة، وكان ظاهره الجود والبذل.
وقد اعتمد أهل التأويل، في تأويلهم اليد، أنها النعمة والعطية، تسمية للشيء باسم سببه، كما يسمى المطر والنبات: سماء، ومن ذلك قولهم: لفلان عندي أياد، وقول أبي طالب لما فقد النبي –صلى الله عليه وسلم-:
يا رب رد راكبي محمداً رده عليَّ واصطنع عندي يداً
وقول عروة بن مسعود لأبي بكر يوم الحديبية: لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.
وقد تكون اليد بمعنى القدرة، تسمية للشيء باسم مسببه، لأن القدرة هي تحرك اليد، يقال: فلان له يد في كذا وكذا، أي له قدرة، ومنه قول زياد
_________
(1) الرد على بشر المريسي (ص418) "عقائد السلف"، ورواه ابن خزيمة في "التوحيد" (2/182) .
(2) الآية 64 من سورة المائدة.(1/326)
لمعاوية: " إني قد أمسكت العراق بإحدى يدي، والأخرى فارغة " يريد نصف قدرته. وقد يضاف الفعل إلى اليد إضافته إلى الشخص نفسه؛ لأن غالب الأفعال تكون بها، فصار ذكر اليد إشارة إلى أنه فعل بنفسه، كما قال –تعالى-: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} (1) .
وتقول العرب: " يداك أوكتا، وفوك نفخ" توبيخاً لكل من جر إلى نفسه شراً، لأن أول من قيل له ذلك، فعل بيديه وفمه.
ولذلك قالوا في مثل قوله -تعالى-: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} أي: نعمته في الدنيا الآخرة، واللفظ كناية عن نفس الجود، من غير أن يكون هناك يد حقيقة، بل هذه اللفظة صارت حقيقة في العطاء والجود.
وقالوا في قوله -تعالى-: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (2) أي: خلقته أنا، وليس هناك يد حقيقية، ونحو هذه التأويلات.
والجواب: أننا لا ننكر لغة العرب التي نزل بها القرآن، وأن ما ذكر معروف في اللغة، ولكن ننكر تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله وصفاته.
فإن لفظ "اليدين" بصيغة التثنية، لم يستعمل في النعمة، ولا في القدرة؛ لأن من لغة العرب استعمال الواحد في الجمع، كقوله –تعالى-: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) .
ولفظ الجمع في الواحد كقوله -تعالى-: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ} (4) ، والقائل واحد.
ولفظ الجمع في الإثنين كقوله -تعالى-: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (5) .
_________
(1) الآية 182 من سورة آل عمران.
(2) الآية 75 من سورة ص.
(3) الآية 2 من سورة العصر.
(4) الآية 173 من سورة آل عمران.
(5) الآية 4 من سورة التحريم.(1/327)
أما استعمال لفظ الواحد في الإثنين، والاثنين في الواحد، فلا أصل له في اللغة؛ لأن هذه الألفاظ عدد، وهي نصوص في معناها، لا يتجوز بها، فلا يجوز أن تقول: عندي رجل، وأنت تريد اثنين، ولا عندي رجلان، وأنت تريد واحداً، ولا عندي رجلان، وأنت تريد الجنس؛ لأن اسم الواحد يدل على الجنس، والجنس فيه شياع، وكذلك اسم الجمع فيه معنى الجنس، والجنس يحصل بحصول الواحد.
فقوله -تعالى-: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} لا يجوز أن يراد به القدرة؛ لأن القدرة صفة واحدة، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد.
ولا يجوز أن يراد به النعمة؛ لأن نعم الله لا تحصى، فلا يجوز أن يعبر عن النعم التي لا تحصى بصيغة التثنية.
ولا يجوز أن يكون كما قالوا: لما خلقت أنا؛ لأن العرب إذا أرادوا ذلك أضافوا الفعل إلى اليد، فتكون إضافته إلى اليد إضافة له إلى الفاعل.
كقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} (1) ، {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} (2) ، ومن هذا قوله -تعالى-: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ً} (3) .
أما إذا أضيف الفعل إلى الفاعل، وعدى الفعل إلى اليد بحرف الجر كقوله -تعالى-: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فإنه يكون نصاً في أنه فعل ذلك بيديه.
ولهذا لا يجوز لمن تكلم، أو مشى، أن يقول: فعلت ذلك بيدي، ولكن يقال: فعلته يداك؛ لأن مجرد قوله: " فعلت" كاف في الإضافة إلى الفاعل، فلو لم يرد أنه فعله باليد حقيقة كان قوله: {بيدي} زيادة لا فائدة فيها، ولا تجد في كلام العرب أن فصيحاً يقول: فعلت هذا بيدي، إلا وأنه فعله بيديه حقيقة، ولا يجوز أن يقول ذلك وهو ليس له يد" (4) .
_________
(1) الآية 10 من سورة الحج.
(2) الآية 182 من سورة آل عمران.
(3) الآية 71 من سورة يس.
(4) "مجموع الفتاوى" (6/363-366) .(1/328)
وأما تعليله لإنكاره إثبات اليد لله -تعالى- والأصابع، بأن اليد المتعارف عليها هي الجارحة، وذلك ممتنع على الله -تعالى-.
فالجواب: أن هذا ممتنع لو كانت اليد التي أثبتها الله لنفسه من جنس أيدي المخلوقين، أما إذا كانت يداً تناسب ذاته وتليق بعظمته، فما هو المانع من ذلك في العقل والشرع؟ وما هو الموجب لتلك التمحلات؟
وكل ما يذكر أهل التأويل إنما يدل على امتناع وصفه –تعالى- بما يستحقه المخلوق، وخصائص المخلوقين منفية عنه –تعالى-، وكل ما أثبت لله –تعالى- من الصفات فهي كمال، وفقدها نقص –تعالى- عنه.
ثم هل يجوز مع كثرة ما في كتاب الله، وسنة رسوله، من ذكر اليد، دالاً على الحقيقة، مثل ذكر خلق آدم بيديه، وأنهما مبسوطتان، وأن الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، وأن السموات مطويات بيمينه، وأن بيده الملك، وفي السنة ما لا يحصى إلا بمشقة، مثل ذكر الأصابع، والقبض، والبسط، واليمين، والشمال، وأن يديه كلتاهما يمين، ثم لا يبين الرسول –صلى الله عليه وسلم- أن هذا غير مراد منه الظاهر والحقيقة، مع حضه لنا على الفهم؟ وهل يجوز أن يفهم صحابته والتابعون لهم من هذه النصوص غير الحق المراد منها، ولا يعرف الحق فيها إلا جهم بن صفوان – بعد انقراض عهد الصحابة – وبشر بن غياث- وأشباههما ممن هو مغموص عليه في النفاق؟ مع أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قد علم أمته كيف يقضون الحاجة، وكيف يأكلون ويشربون، وينامون، ويدخلون بيوتهم ويخرجون، حتى أنزل الله –تعالى- عليه في آخر ما أنزل: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (1) ، والرسول –صلى الله عليه وسلم- يقول: " تركتم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك" (2) .
_________
(1) الآية 3 من سورة المائدة.
(2) تقدم تخريجه.(1/329)
هل يجوز – مع هذا كله وغيره – أن يترك الكتاب المنزل عليه، وسنته الغراء، مملوءان بما يزعم أهل التأويل أن ظاهره تشبيه وتجسيم، ومن اعتقد ظاهره – بزعمهم- فهو ضال مشبه لله ومجسم، ثم لا يبين ذلك ولا يوضحه، بل يكثر من ذكر ما يؤيد الظاهر بكل صراحة؟ إنه لا يعتقد ذلك ويقوله إلا ضال في دينه لم يعرف ما أنزل الله على رسوله، ولم يعرف الرسول حق المعرفة.
قال ابن القيم: " واطراد لفظ اليد في موارد استعمالها، وتنوع ذلك، يوجب أن تكون اليد حقيقة، كقوله -تعالى-: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1) ، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (2) ، {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (3) .
فلو كان المراد: القدرة، أو النعمة، لم يستعمل منه لفظ "يمين"، كما في الحديث "المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين" (4) ، فلا يصح أن تكون يد القدرة، والنعمة، وقوله: " يقبض الله سماوات بيده، والأرض باليد الأخرى، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك" (5) فالهز والقبض، وذكر اليدين، يمنع ذلك.
ولما ذكر ذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- جعل يقبض يديه ويبسطهما، تحقيقاً للصفة، لا تشبيهاً لها، كما أنه –صلى الله عليه وسلم- لما قرأ قوله -تعالى-: {وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (6) وضع إصبعه على عينه والأخرى على أذنه؛ تحقيقاً لصفة السمع والبصر.
_________
(1) الآية 75 من سورة ص.
(2) الآية 64 من سورة المائدة.
(3) الآية 67 من سورة الزمر.
(4) تقدم تخريجه.
(5) تقدم تخريجه.
(6) الآية 134 من سورة النساء.(1/330)
وقوله –صلى الله عليه وسلم-: " لما خلق الله آدم قبض بيديه، وقال: اختر، فقال: اخترت يمين ربي، وكلتا يديه يمين ففتحها، فإذا فيها أهل اليمين من ذريته" (1) .
وقوله –صلى الله عليه وسلم-: " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل" (2) اهـ.
وقد تقدمت الإشارة إلى بعض النصوص في ذلك.
فاقتران الطي والقبض، والإمساك باليد، جعل تأويلها بالقدرة والنعمة تحريفاً باطلاً.
قال الإمام ابن خزيمة: " نحن نقول: الله – جل وعلا- له يدان، كما أعلمنا الباري في محكم تنزيله، وعلى لسان نبيه المصطفي –صلى الله عليه وسلم- ونقول: كلتا يدي ربنا يمين، على ما أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- ونقول: إن الله – عز وجل – يقبض الأرض بإحدى يديه، ويطوي السماء بيده الأخرى " (3) .
فمن أثبت لله -تعالى- يدين، وأثبت لهما أصابع، على ما جاء في النصوص الصحيحة، لا يكون مشبهاً، بل يكون متبعاً لكتاب الله وسنة رسوله، مطيعاً لله ورسوله في ذلك؛ لأنه أثبت لله ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله –صلى الله عليه وسلم-.
والله -تعالى- ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أوصافه؛ لأن الوصف تابع للموصوف.
وقال البغوي: " الإصبع المذكورة في الحديث صفة، من صفات الله – عز وجل – وكذلك كل ما جاء به الكتاب أو السنة من هذا القبيل، في صفات الله -تعالى-، كالنفس، والوجه، والعين، واليد والرجل، والإتيان، والمجيء،
_________
(1) مضى تخريجه.
(2) "مختصر الصواعق" (ص337) .
(3) كتاب "التوحيد" (ص83) .(1/331)
والنزول إلى السماء الدنيا، والاستواء على العرش، والضحك، والفرح.
قال الله -تعالى- لموسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} (1) ، وقال – عز وجل – {ولتصنع على عيني} (2) ، وقال – سبحانه وتعالى -: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} (3) ، وقال – عز وجل -: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} (4) ، وقال تعالى: {بل يداه مبسوطتان} (5) ، وقال – جل وعلا-: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (6) ، وقال -تعالى-: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (7) ، وقال -تعالى-: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} (8) ، وقال – سبحانه وتعالى -: {وجاء ربك والملك صفا صفاً} (9) ، وقال –
تعالى -: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (10) ، وقال -تعالى-: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} (11) .
وقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: " ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر" (12) ، وروى أنس، عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: " لا تزال جهنم يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع
_________
(1) الآية 41 من سورة طه.
(2) الآية 39 من سورة طه.
(3) الآية 88 من سورة القصص.
(4) الآية 27 من سورة الرحمن.
(5) الآية 64 من سورة المائدة.
(6) الآية 75 من سورة ص.
(7) الآية 67 من سورة الزمر.
(8) الآية 210 من سورة البقرة.
(9) الآية 22 من سورة الفجر.
(10) الآية 5 من سورة طه.
(11) الآية 59 من سورة الفرقان.
(12) سيأتي شرحه، إن شاء الله.(1/332)
رب العزة فيها قدمه"، وفي رواية أبي هريرة: " حتى يضع الله رجله" (1) ، وفي حديث أبي هريرة في آخر من يخرج من النار "فيضحك الله منه، ثم يأذن له في دخول الجنة" (2) ، وفي حديث جابر: " فيتجلى لهم يضحك" (3) ، وفي حديث أنس وغيره: " لله أفرح بتوبة عبده، من أحدكم يسقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة" (4) .
فهذه ونظائرها صفات لله -تعالى-، ورد بها السمع، يجب الإيمان بها، وإمرارها على ظاهرها، معرضاً فيها عن التأويل، مجتنباً التشبيه، معتقداً أن الباري – سبحانه وتعالى- لا يشبه شيء من صفاته صفات خلقه، كما لا تشبه ذاته ذوات خلقه، قال -تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (5) .
وعلى هذا مضى سلف الأمة، وعلماء السنة، تلقوها جميعاً بالإيمان والقبول، وتجنبوا فيها التمثيل والتأويل، ووكلوا العلم فيها إلى الله – عز وجل -.
قال سفيان بن عيينة: " كل ما وصف الله -تعالى- به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته، والسكوت عليه، ليس لأحد أن يفسره إلا الله -تعالى- ورسوله ".
وقال الزهري: " على الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم".
وقال بعض السلف: " قدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم" (6) .
ومراده بقوله: " ووكلوا العلم فيها إلى الله " علم الكيفية، وأما ما يفهم منها في الوضع اللغوي في ظاهر ومعلوم، وكذا ما ذكره عن سفيان أنها لا تفسر، أي تؤول وتطلب معرفة كيفيتها.
_________
(1) تقدم، وهو في "مسلم" رقم (2848) .
(2) متفق عليه، وسيأتي، إن شاء الله.
(3) رواه مسلم في " الإيمان " رقم (191) .
(4) انظره في "مسلم" (4/2104) رقم (2747) .
(5) الآية 11 من سورة الشورى.
(6) "شرح السنة " (1/168-171) .(1/333)
وهذا كثير في أقوال العلماء والسلف من أهل السنة.
وقال ابن القيم: "ورد لفظ اليد في القرآن، والسنة، وكلام الصحابة والتابعين، في أكثر من مائة موضع، وروداً متنوعاً، متصرفاً فيه، مقروناً بما يدل على أنها يد حقيقة، من الإمساك، والطي، والقبض، والبسط، والمصافحة، والحثيات، والنضح باليد، والخلق باليدين، والمباشرة بهما، وكتب التوارة بيده، وغرس جنة عدن بيده، وتخمير طينة آدم بيده، ووقوف العبد بين يديه، وكون المقسطين عن يمينه، وقيام رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة عن يمينه، وتخيير آدم بين ما في يديه، فقال: " اخترت يمين ربي"، وأخذ الصدقة بيمينه، يربيها لصاحبها، وكتابته بيده على نفسه: أن رحمته تغلب غضبه، وأنه مسح ظهر آدم بيده، ثم قال له – ويداه مقبوضتان – "اختر"، فقال: " اخترت يمين ربي"، وكلتا يديه يمين مباركة، وأن يمينه ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، وبيده الأخرى القسط، يرفع ويخفض، وأنه خلق آدم من قبضه قبضها من جميع الأرض، وأنه يطوي السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يطوى الأرض باليد الأخرى، وأنه خط الألواح التي كتبها لموسى بيده" (1) .
_________
(1) "مختصر الصواعق" (ص348) .(1/334)
قال: " باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " لا شخص أغير من الله".
وقال عبيد الله بن عمرو بن عبد الملك: لا شخص أغير من الله.
الغيرة - بفتح الغين - وإسكان الياء - وهي في اللغة مأخوذة من التغير الحاصل من الأنفة، والحمية.
والشخص: هو ما شخص وبان عن غيره.
ومقصد البخاري أن هذين الاسمين يخبر بهما عن الله -تعالى- وصفاً له؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أثبتهما لله، وهو أعلم الخلق بالله -تعالى-.
قال النووي: " قال العلماء: الغيرة بفتح الغين، وأصلها المنع، والرجل غيور على أهله، أي: يمنعهم من التعلق بأجنبي بنظر، أو حديث، أو غيره، والغيرة صفة كمال" (1) .
قال الحافظ: " وقد فسر الرسول - صلى الله عليه وسلم- غيرة الله في قوله: " إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله " (2) .
ومعناه: أن الله يغار إذا انتهكت محارمه، وليس انتهاك المحارم هو غيرة الله؛ لأن انتهاك المحارم فعل العبد، ووقوع ذلك من المؤمن أعظم من وقوعه من غيره.
وغيرة الله -تعالى- من جنس صفاته التي يختص بها، فهي ليست مماثلة لغيرة المخلوق، بل هي صفة تليق بعظمته، مثل الغضب، والرضا، ونحو ذلك من خصائصه التي لا يشاركه الخلق فيها.
_________
(1) "شرح مسلم " (10/132) .
(2) "الفتح" (9/319) .(1/335)
وقد تقرر أنه -تعالى- ليس كمثله شيء في ذاته، فكذلك في صفاته، وأفعاله، ولكن لابد من الاشتراك في ألفاظ الأسماء التي تضاف إلى الله صفات له، وبين ألفاظ الأسماء التي يوصف بها العباد؛ لأنه لا يمكن معرفة ما غاب عنا إلا بمعرفة ما شهدناه، فنعتبر بعقولنا الغائب بالشاهد.
فلولا أنا نجد من أنفسنا جوعاً، وعطشاً، وشبعاً، ورياً، وحباً، وبغضاً، ولذةً، وألماً، ورضاً، وسخطاً، لم نعرف حقيقة ما نخاطب به إذا وصف لنا وأخبرنا به عن غيرنا.
ولو لم نعلم ما في المشاهد من الحياة، والقدرة، والعلم، والكلام، لم نفهم ما نخاطب به من ذلك في الغائب.
فلا بد فيما شهدناه، وما غاب عنا، من قدر مشترك، هو مسمى اللفظ.
وقد أخبرنا عن نعيم الآخرة، وعذابها مما يؤكل، ويشرب، ويفرح، ويحزن، وينعم، ويؤلم، فلولا معرفتنا بما يشبه ذلك في الدنيا، لم نفهم ما وعدنا به من ذلك، مع علمنا أن حقائق ما في الآخرة ليست كحقائق ما في الدنيا، كما قال ابن عباس في تفسير قوله -تعالى-: {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} : " ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء " (1) ، ولكن بين ما في الدنيا، وما في الآخرة، مشابهة واشتراك من بعض الوجوه. وبذلك نفهم المراد، فنحب النعيم، ونرغب فيه، ونكره المؤلم، وننفر عنه، فنعرف معنى العسل، واللبن، والحرير، والذهب، ونفرق بينهما؛ لما عرفناه من نظيرها في الشاهد، وإن كانت حقائقها فيما هي عليه لا يعلمها إلا الله -تعالى-، كما قال - جل وعلا -: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (2) .
_________
(1) رواه ابن جرير في "تفسيره" انظر (1/393-394) بتحقيق: محمود شاكر.
(2) الآية 17 من سورة السجدة.(1/336)
فإذا كان هذا في صفات المخلوق، فكيف في صفات الخالق - جل وعز - فإنها أشد مباينة، مثال ذلك: إذا قال نفاة الصفات: النزول، والاستواء، من صفات الأجسام، فإنه لا يعقل إلا لجسم مركب، والله منزه عن ذلك.
فيقال لهم: وكذلك الحياة، والإرادة، والسمع، والبصر، والعلم، والقدرة، والكلام، هي من صفات الأجسام، فإنه لا يعقل من يسمع، ويبصر، ويريد، ويعلم، ويقدر، ويتكلم، ويكون حياً، إلا الجسم.
فإن قالوا: سمعه ليس كسمعنا، وعلمه ليس كعلمنا، وبصره ليس كبصرنا، وكذا البقية.
قيل: فكذلك نزوله، واستواؤه، وغضبه، وفرحه، وحبه، وغيرته، وسائر صفاته، والذين يؤولون النصوص في ذلك، مخالفون لها، ومتناقضون.
قوله: " وقال عبيد الله بن عمرو، عن عبد الملك: " لا شخص أغير من الله" قال الحافظ: " يعني أن عبيد الله بن عمرو، روى الحديث المذكور، عن عبد الملك، بالسند المذكور فقال: " لا شخص" بدل كلمة " لا أحد" وقد وصله الدارمي، ثم ذكر سنده، وساقه أبو عوانة - يعقوب الإسفرائيني - في "صحيحه" عن محمد بن عيسى العطار، عن زكريا بتمامه، وقال في المواضع الثلاثة: " لا شخص".
قال الإسماعيلي - بعد أن أخرجه -: من طريق عبيد الله بن عمرو القواريري، وأبي كامل - فضيل بن حسين الجحدري - ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، ثلاثتهم عن أبي عوانة - الوضاح البصري - بالسند الذي أخرجه {به} البخاري، ولكن قال في المواضع الثلاثة: " لا شخص" بدل " لا أحد".
ثم ساقه من طريق زائدة بن قدامة عن عبد الملك كذلك.
فكأن هذه اللفظة لم تقع في رواية البخاري في حديث أبي عوانة، عن(1/337)
عبد الملك، فلذلك علقها عن عبيد الله بن عمرو.
قلت: وقد أخرجه مسلم، عن القواريري، وأبى كامل، كذلك" ا. هـ (1) .
ولفظ مسلم، بعد ذكر السند: " قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح عنه، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: " أتعجبون من غيرة سعد؟ فوالله لأنا أغير منه، والله أغير مني، من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أغير من الله، ولا شخص أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين، ولا شخص أحب إليه المدحة من الله، من أجل ذلك وعد الله الجنة" (2) .
ورواه الإمام أحمد في "المسند" بهذا اللفظ (3) ، قال عبد الله ابن الإمام أحمد بعد ذكره، قال عبيد الله القواريري: ليس حديث أشد على الجهمية من هذا الحديث.
وبهذا يتبين خطأ ابن بطال في قوله: " أجمعت الأمة على أن الله -تعالى- لا يجوز أن يوصف بأنه شخص، لأن التوقيف لم يرد به " ا. هـ ذكره الحافظ (4) .
وهذه مجازفة ودعوى عارية من الدليل، فأين هذا الإجماع المزعوم؟ ومن قاله؟ سوى المتأثرين ببدع أهل الكلام، كالخطابي، وابن فورك، وابن بطال- عفا الله عنا وعنهم-
وقوله: " لأن التوقيف لم يرد به " يبطله ما تقدم من ذكر ثبوت هذا اللفظ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بطرق صحيحة لا مطعن فيها.
_________
(1) "الفتح" (13/400) .
(2) "صحيح مسلم " (2/1136) رقم (1499) .
(3) "المسند" (4/248) ورواه الدارمي في "سننه" (2/73)
(4) انظر: " الفتح" (13/400) .(1/338)
وإذا صح الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وجب العمل به، والقول بموجبه سواء كان في مسائل الاعتقاد، أو في العمليات، وقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- إطلاق هذا الاسم - أعني الشخص - على الله -تعالى- خبراً، فيجب اتباعه في ذلك على من يؤمن بأنه رسول الله، وهو -صلى الله عليه وسلم- أعلم بربه وبما يجب له وما يمتنع عليه -تعالى- من غيره من سائر البشر.
وتقدم أن الشخص في اللغة: ما شخص، وارتفع، وظهر.
قال في "اللسان": " الشخص كل جسم له ارتفاع وظهور" (1) .
والله -تعالى- أظهر من كل شيء، وأعظم، وأكبر، وليس في إطلاق الشخص عليه محذور على أصل أهل السنة الذين يتقيدون بما قاله الله ورسوله.
_________
(1) انظر: " لسان العرب" (2/281) المرتب.(1/339)
45-قال: " حدثنا موسى بن إسماعيل التبوذكي، حدثنا أبو عوانة، حدثنا عبد الملك، عن وراد كاتب المغيرة، عن المغيرة، قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: " تعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة ".
نكتفي بما تقدم من كلام على معنى الحديث، ونذكر موجزاً من الكلام مما فيه فائدة، وتقدم معنى الغيرة، وأنها صفة كمال، كما تقدم أنا لا يمكن أن نفهم ما خوطبنا به إلا بواسطة المعلوم لنا في الشاهد المشارك له في المعنى في الجملة، وإن كان البون شاسعاً.
قال النووي: " أخبر - صلى الله عليه وسلم- أن سعداً غيور، وأنه أغير منه، وأن الله أغير منه، وأنه من أجل ذلك حرم الفواحش، فهذا تفسير لمعنى غيرة الله -تعالى-، أي: أنها منعه - سبحانه وتعالى - الناس من الفواحش" (1) .
ققلت: ليس هذا هو غيرة الله -تعالى- ولكنه مقتضى الغيرة، كما يوضحه قوله: " ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش" فبين أن تحريم الفواحش، والمنع منها، ليس هو الغيرة، وإنما هو من آثارها.
قوله: " لو رأيت رجلاً مع امرأتي، لضربته بالسيف غير مصفح" أي:
_________
(1) "شرح مسلم" (10/132) .(1/340)
لضربته بحد السيف لا بصفحه، يعني: لقتله بدون توقف، وقد أقره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، وأخبر أنه أغير من سعد، وأن الله أغير منه، وأما قول القرطبي وغيره: إن قوله: " ولا أحد أحب إليه العذر من الله " إشارة إلى الإنكار على سعد، فغير صحيح، بل مدلول الحديث خلافه، ولا بد من الغيرة، والذي لا غيرة له ديوث، والديوث لا يدخل الجنة، كما في "سنن النسائي" (1) وغيرها.
ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: " تعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير منه، والله أغير مني" الخ.
قوله: " ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش، ما ظهر منها، وما بطن" أي: من أثر غيرة الله: منع عباده من قربان الفواحش، وهي: ما عظم وفحش في النفوس الزاكية والعقول السليمة مثل الزنا.
والظاهر: يشمل ما فعل علناً، وما باشرته الجوارح وإن كان سراً.
والباطن: يشمل ما في السر، وما انطوت عليه القلوب.
قوله: " ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين".
العذر: هو طلب العفو عن فعل سابق مع الاعتراف بالذنب والندم على وقوعه منه، ويراد به الإعذار، وهو إقامة البينات، والحجج، وإيضاح طريق الخير والشر، وكلاهما يدخل فيما ذكر، والمبشرون والمنذرون هم الرسل، وفي رواية مسلم: " بعث المرسلين مبشرين ومنذرين" وفي رواية له أيضاً: " ولذلك أنزل الكتب والرسل".
قال عياض: المعنى: بعث المرسلين للإعذار والإنذار لخلقه، قبل
_________
(1) "المجتبي" (5/80) ، رواه أحمد في "المسند" (2/134) وفي سنده عبد الله بن يسار، روى له النسائي، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وبقية رجاله ثقات مشهورون.(1/341)
أخذهم بالعقوبة، وهو كقوله -تعالى-: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (1) .
قوله: " ولا أحد أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة" هذا لكماله المطلق، فهو -تعالى- يحب من عباده أن يثنوا عليه ويمدحوه على فضله وجوده، ومن أجل ذلك جاد عليهم بكل نعمة يتمتعون بها، ويرضى عنهم إذا حمدوه عليها.
ومهما أثنوا عليه ومدحوه لا يمكن أن يصلوا إلى ما يستحقه من المدح والثناء، ولهذا مدح نفسه كما تقدم، فوعد الجنة ليكثر سؤاله، والثناء عليه من عباده ومدحه، ويجهدوا في ذلك غاية ما يستطيعون؛ لأن الجنة هي منتهى الإنعام.
_________
(1) من "الفتح" (13/400) .(1/342)
قال: " باب {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ} (1) " " فسمى الله -تعالى- نفسه شيئاً، وسمى النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن شيئاً، وهو صفة من صفات الله، وقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} (2) ".
يريد بهذا أن يطلق على الله -تعالى- أنه شيء، وكذلك صفاته، وليس معنى ذلك أن "الشيء" من أسماء الله الحسنى، ولكن يخبر عنه -تعالى- بأنه شيء، وكذا يخبر عن صفاته بأنها شيء؛ لأن كل موجود يصح أن يقال: إنه شيء.
قال الحافظ: " الشيء يساوي الموجود، لغةً، وعرفاً، وأما قولهم: فلان ليس بشيء فهو على طريق المبالغة في الذم، فلذلك وصف بصفة العدم" (3) .
وقال: " أي: إذا جاءت استفهامية، اقتضى الظاهر أن تسمى باسم ما تضاف إليه، فعلى هذا صح الاستدلال بها على تسمية الله -تعالى- شيئاً.
واسم الجلالة خبر مبتدأ محذوف، أي: ذلك الشيء هو الله.
ويصح أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، والتقدير: الله أكبر شهادة والله أعلم " (4) .
وقوله -تعالى-: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} قال الحافظ: " الاستدلال بهذه الآية للمطلوب، ينبني على أن الاستثناء متصل، فإنه يقتضي اندراج المستثنى في المستثنى منه، وهو الراجح، على أن لفظ شيء يطلق على الله -تعالى- وهو الراجح أيضاً ". (5)
_________
(1) الآية 19 من سورة الإنعام.
(2) الآية 88 من سورة القصص.
(3) "الفتح" (13/402) .
(4) نفس المصدر.
(5) نفس المصدر.(1/343)
قال الإمام عبد العزيز الكناني، في محاجته لبشر المريسي، لما سأله بشر عن القرآن: أهو شيء أم ليس بشيء؟ قال: " فقلت لبشر: سألت عن القرآن، هو شيء أم غير شيء؟ فإن كنت تريد أنه شيء، إثباتاً للوجود، ونفياً للعدم، فنعم هو شيء.
وإن كنت تريد أن الشيء اسم له، وأنه كالأشياء فلا.
فإن الله أجرى كلامه على ما أجراه على نفسه، إذ كان كلامه من ذاته، ومن صفاته، فلم يتسم بالشيء، ولم يحمل الشيء اسماً من أسمائه، ولكنه دل على نفسه أنه شيء، وأنه أكبر الأشياء، إثباتاً للوجود، ونفياً للعدم، وتكذيباً للزنادقة، ومن تقدمهم ممن جحد معرفته، وأنكر ربوبيته، من سائر الأمم، فقال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} (1) ، فدل على نفسه أنه شيء، لا كالأشياء، وأنزل في ذلك خبراً خاصاً مفرداً، لعلمه السابق أن جهماً وبشراً، ومن قال بقولهما، سيلحدون في أسمائه وصفاته، ويشبهون على خلقه، ويدخلونه وكلامه في الأشياء المخلوقة، فقال - عز وجل-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (2) ، فأخرج نفسه وكلامه وصفاته من الأشياء المخلوقة، بهذا الخبر، تكذيباً لمن ألحد في كتابه، وافترى عليه، وشبهه بخلقه. وعدد أسماءه في كتابه، ولم يتسم بالشيء، ولم يجعل الشيء اسماً من أسمائه" (3) .
ونقل الحافظ عن ابن بطال: " أن الآيات والآثار المذكورة في هذا الباب ترد على من زعم أنه لا يجوز أن يطلق على الله -تعالى- أنه شيء، كما صرح به
_________
(1) الآية 19 من سورة الأنعام.
(2) الآية 11 من سورة الشورى.
(3) "الحيدة" (ص24-25) مطابع القصيم.(1/344)
عبد الله الناشيء المتكلم (1) وغيره.
كما ترد على من زعم أن المعدوم شيء، وقد أطبق العقلاء على أن لفظ "شيء" يقتضي إثبات موجود، وعلى أن لفظ " لا شيء" يقتضي نفي موجوده، إلا ما تقدم من إطلاقهم "ليس بشيء" في الذم" (2) .
وهذا الذي ذكره الحافظ عن ابن بطال واضح، وقد تقدم ما يدل عليه.
_________
(1) هو: أبو العباس عبد الله بن محمد الناشيء الشاعر المتكلم - يعرف بابن شرشير، أصله من الأنبار، وأقام ببغداد مدة طويلة، ثم خرج إلى مصر، وتوفي بها سنة ثلاث وتسعين ومائتين. "الشذرات" (2/214) .
(2) "الفتح" (13/402-403) .(1/345)
46-قال: " حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لرجل: " أمعك من القرآن شيء؟ قال: نعم، سورة كذا، وسورة كذا - لسور سماها-".
سهل بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلب بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة الأنصاري، من مشاهير الصحابة، ذكر ابن حبان أن اسمه حزن، فغير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اسمه، توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن خمس عشرة سنة وعمر طويلاً، فكان آخر من مات في المدينة من الصحابة، على أحد الأقوال، رضوان الله عليهم أجمعين، وله أحاديث كثيرة في كتب الحديث، مات سنة إحدى وتسعين من الهجرة (1) .
هذا الحديث مختصر من قصة الواهبة نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم- لما قال له رجل من أصحابه: إن لم يكن لك بها حاجة، فزوجنيها يا رسول الله، قال له -صلى الله عليه وسلم-: " أمعك شيء تعطيها إياه؟ قال: لا، قال: التمس ولو خاتماً من حديد، فلما لم يجد، قال له: هل معك شيء من القرآن؟ - أي: هل تحفظ شيئاً منه؟ - قال: نعم سورة كذا، وسورة كذا، لسور سماها. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " زوجتكها على ما معك من القرآن" أي يكون تعليمه لها ما معه من سور القرآن صداقاً لها.
والمقصود هنا أنه أطلق الشيء على القرآن، بقوله: " أمعك شيء من القران؟ " وهو صفة من صفات الله -تعالى- والصفة لها حكم الموصوف، فيصح إطلاق ذلك على الله -تعالى-.
وقد تقم في كلام عبد العزيز الكناني " أن لفظ الشيء يطلق على القرآن
_________
(1) "الإصابة" (2/87) ، "الاستيعاب" (2/94) .(1/346)
إثباتاً لوجوده، وحقيقته، ونفياً لعدمه، وليس لفظ الشيء اسماً له، كما أنه يطلق على الله -تعالى- كذلك.
وأن الله أجرى كلامه على ما أجره على نفسه، إذ كان كلامه من ذاته، ومن صفاته، فلم يتسم بالشيء، ولم يجعل الشيء اسماً من أسمائه، ولكنه دل على نفسه
أنه شيء، وأنه أكبر الأشياء، إثباتاً للوجود، ونفياً للعدم، وتكذيباً للزنادقة ومن تقدمهم، ممن جحد معرفته وأنكر ربوبيته من سائر الأمم" (1) .
_________
(1) انظر: " الحيدة" (ص24) .(1/347)
قال: " باب: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} (1) ، {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (2) ".
قال الأزهري: " العرش في كلام العرب: سرير الملك يدل على ذلك سرير ملكة سبأ، سماه الله - جل وعز- عرشاً، فقال: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} (3) .
قلت: والعرش في كلام العرب - أيضاً -: سقف البيت، وجمعه عروش، ومنه قول الله - جل وعز -: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} (4) .
قال الكسائي: {عَلَى عُرُوشِهَا} على أركانها.
وقال غيره من أهل اللغة: على سقوفها، أراد أن حيطانها قائمة، وقد تهدمت سقوفها، فصارت في قرارها، وانقعرت الحيطان من قواعدها، فتساقطت على السقوف المتهدمة قبلها" (5) .
"وقال الليث: العرش: السرير للملك، والعرش، والعريش: ما يستظل به.
قال: وعرش الرجل: قوام أمره، فإذا زال قوام أمره، قيل: ثل عرشه" (6) .
وقال الجوهري: " العرش: سرير الملك، وعرش البيت: سقفه، والعرش،
_________
(1) الآية 7 من سورة هود.
(2) الآية 129 من سورة التوبة.
(3) الآية 23 من سورة النمل.
(4) الآية 259 من سورة البقرة.
(5) "تهذيب اللغة" (1/413) .
(6) المصدر نفسه (1/415) .(1/349)
والعريش: ما يستظل به، وعرش القدم: ما نتأ في ظهرها، وفيه الأصابع، وعرش البئر" طيها بالخشب، بعد أن يطوى أسفلها بالحجارة قدر قامة، فذلك الخشب هو العرش، والجمع عروش.
وعرش يعرش ويعرش عرشاً، أي: بنى بناء من خشب" (1) .
ويظهر مما ذكره أهل اللغة: أن العرش اسم للسرير المرتفع العظيم، الذي يجلس عليه الملك، ويطلق على السقف وعرش الرب - جل وعلا - له المعنيان فهو محل استوائه تعالى، وهو سقف المخلوقات.
قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} (2) قال ابن جرير: " يقول -تعالى-: وكان عرشه على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض، وما فيهن".
ثم روى عن مجاهد: وكان عرشه على الماء قبل أن يخلق شيئاً.
وروى بسنده عن قتادة: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} ينبئكم ربكم - تبارك وتعالى- كيف كان بدء خلقه، قبل أن يخلق السموات والأرض.
ثم روى حديث أبي رزين العقيلي: " قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا، قبل أن يخلق خلقه؟ قال: " كان في عماء، ما فوقه هواء، وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء".
وفي رواية: " قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ " الخ (3) .
_________
(1) "الصحاح" (3/1010) .
(2) الآية 7 من سورة هود.
(3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/11، 12) ، والترمذي في "التفسير" من "سننه" (4/351) وقال: هذا حديث حسن، وابن ماجه في "السنن" (1/64) رقم (182) والطبري أيضاً في "التاريخ" (1/19) .(1/350)
ثم روى عن ابن عباس، أنه سئل: " وكان عرشه على الماء، على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح" (1) .
وقال الترمذي: " حدثنا أحمد بن منيع، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حدس (2) ، عن عمه أبي رزين، قال: قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا، قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عماء، ما تحته هواء،
وما فوقه هواء، وخلق عرشه على الماء"، قال أحمد: " قال يزيد: العماء، أي ليس معه شيء" (3) .
قال أبو عبيد: " العماء في كلام العرب، السحاب الأبيض"، قال الأصمعي وغيره، هو ممدود.
وقال الحارث بن حلزة اليشكري:
وكأن المنون تردي بنا أعـ ... ـصم ينجاب عنه العماء
يقول: هو في ارتفاعه، قد بلغ السحاب ينشف عنه، يقول: نحن في عزنا مثل الأعصم، فالمنون إذا أرادتنا، فكأنما تريد أعصم.
وإنما تأولنا هذا الحديث، على كلام العرب المعقول عنهم، ولا ندري كيف كان ذلك العماء، وما مبلغه، والله أعلم.
وأما العمى في البصر، فإنه مقصور، وليس هو من معنى الحديث في شيء " ا. هـ (4) ، نقل هذا الكلام الأزهري، ثم قال: "قلت: وقد بلغني، عن أبي الهيثم- ولم يعزه لي إلى ثقة - أنه قال في تفسير هذا الحديث، ولفظه: أنه كان في عمى مقصور، قال: وكل أمر لا تدركه القلوب بالعقول، فهو عمى، والمعنى: أنه كان حيث لا تدركه عقول بنى آدم، ولا يبلغ كنهه وصف.
_________
(1) "تفسير الطبري" (15/245-249) بتحقيق محمود شاكر.
(2) قال الترمذي: هكذا يقول حماد بن سلمة: وكيع بن حدس.
(3) "سنن الترمذي" (4/351) .
(4) "الغريب" (2/8-9) .(1/351)
قلت أنا (1) : والقول عندي، ما قاله أبو عبيد، أنه العماء، ممدود، وهو السحاب، ولا يدري كيف ذلك العماء، بصفة تحصره، ولا نعت يحده، ويقوى هذا القول قول الله - جل وعز -: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} (2) فالغمام معروف في كلام العرب.
إلا أنا لا ندري كيف الغمام الذي يأتي الله - عز وجل - يوم القيامة في ظلل منه، فنحن نؤمن به، ولا نكيف صفته، وكذلك سائر صفات الله - عز وجل- " ا. هـ (3) .
فعلى ما ذكره يزيد بن هارون، وأقره الترمذي، يكون المعنى: ليس مع الله شيء، فيدل على أن الله -تعالى- كان، ولم يكن معه شيء، كما سيأتي في حديث عمران، - إن شاء الله تعالى -.
وعلى قول من فسر العماء بالسحاب الرقيق، ورجحه الأزهري، لا يدل على قول الفلاسفة الدهرية، بقدم العالم، وتبنى مذهبهم الماديون اليوم، وذلك أن الله -تعالى- أخبرنا في كتابه، بابتداء الخلق، وإعادته كما قال -تعالى-: {وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده} (4) ، كما أخبر بخلق السماوات، والأرض وما بينهما في ستة أيام، في مواضع كثيرة من كتابه -تعالى- (5) .
_________
(1) القائل هو الأزهري.
(2) الآية 210 من سورة البقرة.
(3) "تهذيب اللغة" (3/246) .
(4) الآية 27 من سورة الروم.
(5) انظر: " نقض تأسيس الجهمية" (1/154) .(1/352)
وقوله: {وهو رب العرش العظيم} (1) أي: هو -تعالى- المالك للعرش، الذي هو أكبر المخلوقات، وأعظمها، وهو المتصرف فيه، وهو عرشه الذي استوى عليه، فاختاره لذلك.
فالإضافة تقتضي اختصاصاً للعرش من بين المخلوقات، فهو -تعالى- رب كل مخلوق، فإضافة العرش إليه - تعالى - ووصفه بأنه عظيم، يدل على خصوصية للعرش، ليست لغيره من سائر المخلوقات، كما يدل على أنه -تعالى- مالك لكل ما دون العرش بطريق الأولى. والمتصرف فيه كيف يشاء.
قال ابن جرير: " وإنما عنى بوصفه - جل ثناؤه - نفسه بأنه " رب العرش العظيم" الخبر عن جميع ما دونه، أنهم عبيده، وفي ملكه وسلطانه؛ لأن العرش إنما يكون للملوك، فوصف نفسه بأنه ذو العرش، دون سائر خلقه، وأنه الملك العظيم، دون غيره، وأن من دونه، في سلطانه وملكه، جار عليه حكمه وقضاؤه" (2) .
وقال ابن كثير: " وهو رب العرش العظيم" أي: هو مالك كل شيء، وخالقه؛ لأنه رب العرش العظيم، الذي هو سقف المخلوقات، وجميع المخلوقات، من السماوات والأرضين، وما فيهما، وما بينهما، تحت العرش، مقهورون بقدرة الله -
تعالى -، وعلمه محيط بكل شيء، وقدره نافذ في كل شيء، وهو على كل شيء وكيل" (3) .
"قال - جل وعلا-: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} (4) ، وقال - جلت عظمته-: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} (5) ، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} (6) ، وقال
_________
(1) آخر آية سورة التوبة.
(2) "تفسير الطبري" (14/587) بتحقيق محمود شاكر.
(3) "تفسير ابن كثير" (4/179-180) ط الشعب.
(4) الآية 15 من سورة البروج.
(5) الآية 75 من سورة الزمر.
(6) الآية 7 من سورة غافر.(1/353)
تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (1) .
وأقوال أهل التفسير {متفقة} على أن العرش هو السرير، وأنه جسم مجسم خلقه الله وأمر ملائكته بحمله، وتعبدهم بتعظيمه، والطواف به، كما خلق في الأرض بيتاً، وأمر بنى آدم بالطواف به، واستقباله في الصلاة.
وفي الآيات المتقدمة دلالة على صحة ما ذهبوا إليه " ا. هـ (2) .
والأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والصحابة، والتابعين لهم، في ذكر العرش ووصفه، وأن الله -تعالى- مستو عليه، كثيرة جداً، وسيأتي طرف يسير منها، - إن شاء الله تعالى -.
ففي "الصحيحين" عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " لقد اهتز عرش الرحمن لموت سعد" (3) .
"وقال ابن مسعود في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال: العرش على الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه" (4) .
وقال سليمان التيمي: لو سئلت: أين الله؟ لقلت: في السماء، فإن قال: أين كان عرشه قبل السماء؟ لقلت: على الماء، فإن قال: فأين كان عرشه قبل خلق الماء؟ قلت: لا أعلم.
قال البخاري: " وذلك لقوله -تعالى-: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} يعني: إلا بما بين" (5) .
_________
(1) الآية 17 من سورة الحاقة.
(2) " الأسماء والصفات" للبيهقي (ص392) ، والمفروض أن يقول: خلقه الله واستوى عليه وأمر ملائكته الخ. ولكن أبي عليه المذهب ذلك.
(3) "البخاري مع الفتح" (7/123) ، و"مسلم" (4/1915) .
(4) "خلق أفعال العباد" (ص43) .
(5) المصدر نفسه (ص37) .(1/354)
وقال أبو نصر السجزي في "الإبانة": " وأئمتنا، كسفيان، ومالك، والحمادين، وابن عيينة، والفضيل، وبن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، متفقون على أن الله - سبحانه - فوق العرش، وعلمه بكل مكان، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، وأنه يغضب، ويرضى، ويتكلم بما يشاء" (1) .
والنصوص في ذكر العرش، وأن الله -تعالى- مستو عليه، كثيرة جداً.
وآمن الصحابة وأتباعهم بذلك، على ما دلت النصوص عليه ظاهراً، دون تأويل أو تحريف، وبلا تشبيه ولا تمثيل، كما سيأتي بعض ذلك، - إن شاء الله تعالى -.
قوله: " قال أبو العالية: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} ارتفع، {فسواهن} خلقهن وقال مجاهد: {استوى} : علا على العرش".
هذا الذي ذكره البخاري عن أبي العالية، ومجاهد، هو الذي يقوله ويعتقده عامة السلف من الصحابة وأتباعهم إلى اليوم.
وهو الحق الذي دلت عليه النصوص، وجاءت تعبيراتهم في ذلك في أربعة ألفاظ، ما ذكره البخاري هنا، وثالثها "صعد"، ورابعها "استقر"، وسوف أذكرها مع أسانيدها إليهم:
قال ابن جرير: " حدثت، عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} يقول: ارتفع إلى السماء" (2) .
وروى اللالكائي بسنده، عن بشر بن عمر، قال: سمعت غير واحد من المفسرين يقولون: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} : ارتفع " (3) .
_________
(1) نقلاً عن "سير أعلام النبلاء" (17/650) .
(2) "تفسير الطبري" (1/429) بتحقيق محمود شاكر.
(3) "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (3/397) .(1/355)
قال ابن عبد البر: " الاستواء: الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله - عز وجل- فقال: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} (1) ، وقال: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} (2) .
وقال الشاعر:
فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة وقد خلق النجم اليماني فاستوى
وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد: استولى؛ لأن النجم لا يستولي.
وقد ذكر النضر بن شميل -وكان ثقة مأموناً، جليلاً في علم الديانة، واللغة - قال: "حدثني الخليل - وحسبك بالخليل- قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي، وكان من أعلم من رأيت، فإذا هو على سطح، فسلمنا، فرد علينا السلام، وقال لنا: استووا، فبقينا متحيرين، ولم ندر ما قال؟ قال: فقال لنا أعرابي إلى جنبه، إنه أمركم أن ترتفعوا، قال الخليل: هو من قول الله - عز وجل -: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} (3) ، فصعدنا إليه، فقال: هل لكم في خبز فطير، ولبن هجير، وماء نمير؟ فقلنا: الساعة فارقناه، فقال: سلاماً، فلم ندر ما قال، فقال الأعرابي: إنه سألكم
متاركة لا خير فيها، ولا شر، قال الخليل:
_________
(1) جزء من الآية 44 من سورة هود.
(2) الآية 28 من سورة المؤمنون.
(3) الآية 11 من سورة فصلت.(1/356)
هو من قول الله - عز وجل-: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} (1) " (2) ا. هـ.
قال البغوي: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال الكلبي، ومقاتل: استقر.
وقال أبو عبيدة: صعد".
ثم قال: " وأولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء، وأما أهل السنة، فيقولون: الاستواء على العرش صفة لله -تعالى- بلا كيف، يجب على العبد الإيمان به، ويكل العلم فيه إلى الله - عز وجل - " (3) .
وقال البخاري: " حدثت عن يزيد بن هارون، قال: من زعم أن الرحمن على العرش استوى، على خلاف ما يقر في قلوب العامة، فهو جهمي" (4) .
ومراده: أن الاستواء من الأمور الواضحة، التي يفهمها عامة المسلمين إذا كانوا من أهل اللغة العربية.
كما أن مراد البغوي في قوله: " ويكل العلم فيه إلى الله - عز وجل - ": علم الكيفية، وأما معناه في اللغة، فهو معلوم ظاهر، كما يأتي في كلام الإمام مالك، وشيخه ربيعة، وأم سلمة.
قال ابن جرير: الاستواء في كلام العرب يأتي على وجوه:
منها: انتهاء شباب الرجل، وقوته، فيقال إذا صار كذلك: قد استوى الرجل.
ومنها: استقامة ما كان فيه أود، من الأمور والأسباب، يقال منه: استوى لفلان أمره، إذا استقام بعد أود، ومنه قول الطرماح بن حكيم:
طال على رسم مهدد أبده وعفا واستوى به بلده
_________
(1) الآية 63 من سورة الفرقان.
(2) "التمهيد" (7/131، 132) .
(3) "تفسير البغوي" (2/237) .
(4) "خلق أفعال العباد " (ص127) مجموعة عقائد السلف.(1/357)
يعنى استقام به.
ومنها: الإقبال على الشيء، يقال: استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسؤوه بعد الإحسان إليه.
ومنها: الاحتياز، والاستيلاء، كقولهم: استوى على المملكة، بمعنى: احتوى عليها، وحازها.
ومنها: العلو، والارتفاع، كقول القائل: استوى فلان على سريره، يعني به: علوه عليه" (1) .
قلت: قد أنكر أهل اللغة المعنى الثالث، والرابع، مما ذكره ابن جرير في الاستواء المعدى بعلى.
قال ابن القيم: "ولفظ الاستواء في كلام العرب الذي خاطبنا الله به وأنزل به كلامه نوعان، مطلق، ومقيد.
فالمطلق: ما لم يوصل معناه بحرف، مثل قوله: {ولما بلغ أشده واستوى} ، وهذا معناه: كمل وتم، استوى الزرع واستوى الطعام.
وأما القيد: فثلاثة أضرب:
أحدها: مقيد بإلى، كقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} (2) ، واستوى فلان إلى السطح، وقد ذكر - تبارك وتعالى - هذا المعدى بإلى في موضعين من كتابه، في البقرة في قوله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} ، والثاني في سورة حم السجدة، قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} وهذا بمعنى العلو والارتفاع، بإجماع السلف.
_________
(1) "تفسير الطبري" (1/429) بتحقيق محمود شاكر.
(2) الآية 29 من سورة البقرة، والآية 11 من سورة فصلت.(1/358)
الثاني: مقيد بعلى، كقوله -تعالى-: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} (1) ، وقوله:
{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} (2) ، وقوله: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} (3) ، وهذا معناه - أيضاً - العلو والارتفاع والاعتدال، بإجماع أهل اللغة.
الثالث: المقرون بواو المعية، التي تعدي الفعل إلى المفعول معه، نحو: استوى الماء والخشبة، بمعنى: ساواها.
فهذه معاني الاستواء المعقولة في كلامهم، ليس فيها "استولى" البتة، ولا نقله أحد من أئمة اللغة، الذين يعتمد قولهم، وإنما قاله متأخرو النحاة، ممن سلك طريق المعتزلة، والجهمية.
والذين قالوه، لم يقولوه نقلاً، فإن ذلك مجاهرة بالكذب، ولكن قالوه استنباطاً وحملاً منهم للفظة " استوى" على "استولى" ولذلك لما سمع أهل اللغة ذلك أنكروه غاية الإنكار.
قال ابن الأعرابي - وقد سئل هل يصح أن يكون استوى بمعنى استولى؟ - فقال: لا تعرف العرب ذلك - وهو من أكابر أئمة اللغة-" ا. هـ (4) .
قال ابن جرير: " وأولى المعاني بقول الله - جل ثناؤه-: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ} : علا عليهن، وارتفع، فدبرهن بقدرته، وخلقهن سبع سماوات، والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم، من كلام العرب، في تأويل قول الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} الذي هو بمعنى العلو، والارتفاع، هرباً عند نفسه من أن يلزمه بزعمه - إذا تأوله بمعناه المفهوم كذلك - أن يكون إنما علا
_________
(1) الآية 13 من سورة الزخرف.
(2) الآية 44 من سورة هود.
(3) الآية 29 من سورة الفتح.
(4) "مختصر الصواعق" (ص320) ببعض التصرف.(1/359)
وارتفع بعد أن كان تحتها - إلى تأويله بالمجهول، المستكره، ثم لم ينج مما هرب منه.
فيقال له: زعمت أن تأويل قوله: " استوى ": أقبل، أفكان مدبراً عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقل: علا عليها، علو ملك، وسلطان، لا علو انتقال وزوال، ثم لن يقول في شيء من ذلك قولاً، إلا لزم في الآخر مثله" (1) .
قوله: " فقل: علا عليها علو ملك وسلطان، لا علو انتقال وزوال" هو من جنس كلام أهل البدع، فلا ينبغي، وهو خلاف الظاهر من النصوص، بل هو من التأويل الباطل.
قال ابن القيم: " نقل معنى الاستواء، كنقل لفظه، بل أبلغ، فإن الأمة كلها تعلم بالضرورة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخبر عن ربه بأنه استوى على عرشه، من يحفظ القرآن منهم، ومن لا يحفظه، كما قال مالك، وأئمة السنة: الاستواء معلوم، غير
مجهول، كما أن معنى السمع، والبصر، والقدرة، والحياة، والإرادة، وسائر ما أخبر به -تعالى- عن نفسه معلوم، وإن كانت كيفيته غير معلومة للبشر، فإنهم لم يخاطبوا بالكيفية، ولم يرد منهم العلم بها.
فإخراج الاستواء عن حقيقته المعلومة، كإنكار لفظه، بل أبلغ، وهذا مما يعلم أنه مناقض لما أخبر الله به ورسوله، فإن فهم معنى اللفظ هو المراد منه، وهو المقصود بالذات، لا اللفظ، فإن اللفظ مقصود قصد الوسائل للتعريف بالمراد، فإذا انتفى المعنى، وكانت إرادته محالاً - كما زعموا - لم يبق لذكر اللفظ فائدة، بل كان تركه أنفع من الإتيان به، فإن الإتيان به يحصل منه إيهام التشبيه، ويوقع الأمة في اعتقاد الباطل - على حد زعمهم - ولا ريب أن هذا إذا نسب إلى آحاد الناس كان ذمة أولى من مدحه، فيكف يجوز أن ينسب إلى من في كلامه الهدى، والشفاء؟ ومن المتفق عليه أنه لا يجوز أن يتكلم الله ورسوله
_________
(1) "تفسير الطبري" (1/430) بتحقيق محمود شاكر.(1/360)
بالشيء ويريد خلاف ظاهره" (1) .
وقال - أيضاً-: " وظاهر الاستواء: العلو، والارتفاع، كما نص عليه جميع أهل اللغة، وأهل التفسير المقبول، فلا يحتمل استواء الرب - تبارك وتعالى - على عرشه المعدى بعلى، المعلق بالعرش، المعرف بالألف واللام، المعطوف على خلق السماوات والأرض بثم مطرداً في " موارده" بهذا الأسلوب، لا يحتمل إلا معنى واحداً، لا معنيين، ولا كما يقول صاحب "العواصم والقواصم" (2) :
إذا قال لك المجسم: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) ، فقل: " استوى على العرش" يستعمل على خمسة عشر وجهاً، فأيها تريد؟
فيقال له: كلا والذي استوى على العرش، لا يحتمل هذا اللفظ معنيين ألبتة، والمدعي للإحتمال عليه الدليل، والأصل عدم الاشتراك والمجاز، ولم تذكر على دعواك دليلاً، ولم تبين الوجوه المحتملة، مع ذكر الدليل عليه.
والمقصود: أن استواء الرب -تعالى- على عرشه، المختص به، الموصول بأداة "على" نص في معناه، لا يحتمل سواه" ا. هـ (4) .
وقال الحافظ: " نقل أبو إسماعيل الهروي، في كتابه: الفاروق، بسنده إلى داود ابن علي بن خلف، قال: كنا عند أبي عبد الله بن الأعرابي - يعني يحيى بن زياد اللغوي- فقال له رجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (5) ، فقال: هو على العرش، كما أخبر، قال: يا أبا عبد الله إنما معناه: استولى، فقال: اسكت، لا يقال: استولى على شيء، إلا أن يكون له مضاد.
_________
(1) "مختصر الصواعق" (ص331-332) .
(2) هو ابن العربي المالكي.
(3) الآية 5 من سورة طه.
(4) "مختصر الصواعق" ملخصاً (ص332-334) .
(5) الآية 5 من سورة طه.(1/361)
ومن طريق محمد بن أحمد بن النضر الأزدي، سمعت ابن الأعرابي يقول: أرادني أحمد بن أبي دؤاد، أن أجد له في لغة العرب {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) بمعنى استولى، فقلت: والله ما أصبت هذا.
وقال غيره: لو كان بمعنى استولى، لم يختص بالعرش؛ لأنه غالب على جميع المخلوقات" ا. هـ (2) .
وروى اللالكائي بسنده من طريق الحسن، عن أمه، عن أم سلمة، في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) ، قالت: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر.
وروى عن مالك، جاء إليه رجل، فقال: يا أبا عبد الله، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ قال: فما رأيت مالكاً وجد من شيء، كموجدته من مقالته، وعلاه الرحضا- يعنى العرق- قال: وأطرق القوم، وجعلوا ينظرون ما يأتي منه فيه، فسري عن ذلك، فقال: الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فإني أخاف أن تكون ضالاً، وأمر به فأخرج.
وذكر بسنده عن ابن عيينة، قال: سئل ربيعة، عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (4) كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق".
_________
(1) ورواه اللالكائي في "شرح أصول السنة" (2/399) .
(2) "الفتح" (13/406) ، وذكر آثاراً كثيرة بهذا المعنى فليراجع.
(3) "شرح أصول السنة" اللالكائي (2/398) .
(4) "شرح أصول السنة" (2/398) .(1/362)
وذكر البيهقي بسنده، عن الأوزاعي، قال: " كنا والتابعون متوافرون، نقول: إن الله فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة، من صفاته" (1) .
قال الحافظ: سنده جيد (2) .
وقال: " وأخرج الثعلبي، من وجه آخر، عن الأوزاعي، أنه سئل عن قوله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) . فقال: هو كما وصف نفسه" (4) .
"قال أبو الأثرم، في كتاب "السنة": حدثنا إبراهيم بن الحارث - يعني العبادي- حدثني الليث بن يحيى، سمعت إبراهيم بن الأشعث، قال أبو بكر - هو صاحب الفضيل - سمعت الفضيل بن عياض، يقول: ليس لنا أن نتوهم في الله كيف وكيف؛ لأن الله وصف نفسه فأبلغ، فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ {2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (5) فلا صفة أبلغ مما وصف الله - عز وجل - نفسه، وكل هذا النزول، والضحك، وهذه المباهاة، وهذا الاطلاع، كما شاء أن ينزل، وكما شاء أن يباهي، وكما شاء أن يطلع، وكما شاء أن يضحك، فليس لنا أن نتوهم فيه كيف، وكيف، وإذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه، فقل أنت: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء.
وقال الخلال: وأنبأنا محمد بن علي الوراق: حدثنا أبو بكر الأثرم، حدثني محمد بن إبراهيم القيسي، قال: قلت لأحمد بن حنبل: يحكى عن ابن المبارك، قيل
له: كيف نعرف ربنا؟ قال: في السماء السابعة على عرشه بحد، فقال أحمد: هكذا هو عندنا.
_________
(1) " الأسماء والصفات " (ص408) .
(2) "الفتح" (13/406) .
(3) الآية 5 من سورة طه.
(4) "الفتح " (13/406) .
(5) سورة الإخلاص كاملة.(1/363)
وأخبرني حرب بن إسماعيل، قال: قلت لإسحاق - يعني ابن إبراهيم - هو على العرش بحد؟ قال: نعم بحد.
وذكر عن ابن المبارك، قال: هو على عرشه، بائن من خلقه، بحد.
وأخبرنا المروزي، قال: قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه: قال الله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) ، إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى، ويعلم كل شيء، في أسفل الأرض السابعة، وفي قعور البحار، ورؤوس الآكام، وبطون الأودية، وفي كل موضع، كما يعلم علم ما فوق السماوات السبع، وما فوق العرش، أحاط بكل شيء علماً، فلا تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات البر والبحر، ولا رطب ولا يابس، إلا قد عرف ذلك كله وأحصاه، فلا تعجزه معرفة شيء عن معرفة غيره" (2) .
ومعنى قولهم: "بحد" أنه -تعالى- بائن من خلقه، غير حال فيهم، ولا مخالط لهم - تعالى وتقدس - وقد قيدوا الحد، بأنه لا يعلمه إلا هو -تعالى- وهو قريب من قول الإمام مالك وغيره: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول"، فبين أن كيفية استوائه -تعالى- على العرش مجهولة للعباد، ولكنه لم ينف ثبوت ذلك في نفس الأمر، فكذلك قولهم: له حد لا يعلمه إلا هو، والله أعلم.
قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي - رحمه الله تعالى - في رده على بشر المريسي: " والله -تعالى- له حد، لا يعلمه غيره، ولا يجوز أن يتوهم لحده غاية في نفسه، ولكن نؤمن بالحد، ونكل علم ذلك إلى الله -تعالى-، ولمكانه حد، وهو على عرشه، فوق سماواته، فهذان حدان" (3) .
وقال عبد العزيز بن يحيى المكي الكناني، صاحب " الحيدة في الرد على الزنادقة والجهمية": " زعمت الجهمية في قوله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ
_________
(1) الآية 5 من سورة طه.
(2) درء تعارض العقل والنقل" (2/24، 34-35) .
(3) رد عثمان بن سعيد على بشر المريسي (ص382) " مجموع عقائد السلف "(1/364)
اسْتَوَى} (1) أنما
المعنى: استوى، كقول العرب: استوى فلان على مصر، استوى فلان على الشام، يريد: استولى عليها.
فيقال له: هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه؟ فإذا قال: لا.
قيل له: فمن زعم ذلك؟ فمن قوله: من زعم ذلك، فهو كافر.
يقال له: يلزمك أن تقول: إن العرش قد أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه، وذلك أن الله - تبارك وتعالى - أخبر أنه خلق العرش قبل خلق السماوات والأرض، ثم استوى عليه بعد خلق السماوات والأرض.
قال -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} (2) ، فأخبر أن العرش كان على الماء قبل خلق السماوات والأرض، وقال -تعالى-: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (3) ، وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ} (4) .
فأخبر أنه استوى على العرش، فيلزمك أن تقول: المدة التي كان على العرش فيها، قبل خلق السماوات، والأرض، ليس الله بمستول عليه، إذ كان: استوى على العرش، معناه عندك: استولى.
فإنما استولى بزعمك في ذلك الوقت لا قبله " ثم ذكر حديث عمران الآتي وحديث أبي رزين المتقدم، ثم قال:
" فقال الجهمي: أخبرني كيف استوى على العرش؟ أهو كما يقال: استوى فلان على السرير، فيكون السرير قد حوى فلاناً وحده إذا كان عليه؛ لأنا لا نعقل الشيء على الشيء إلا هكذا؟
_________
(1) الآية 5 من سورة طه.
(2) الآية 7 من سورة هود.
(3) الآية 4 من سورة السجدة.
(4) الآية 29 من سورة البقرة.(1/365)
فيقال له: أما قولك: كيف استوى؟ فإن الله لا يجري عليه كيف، وقد أخبرنا أنه استوى على العرش، ولم يخبرنا كيف استوى، فوجب على المؤمنين أن يصدقوا ربهم، باستوائه على العرش، وحرم عليهم أن يصفوا كيف استوى؛ لأنه لم يخبرهم
كيف ذلك، ولم تره العيون في الدنيا فتصفه بما رأت، وحرم عليهم أن يقولوا عليه من حيث لا يعلمون.
فآمنوا بخبره عن الاستواء، ثم ردوا علم "كيف استوى" إلى الله.
ولكن يلزمك - أيها الجهمي- أن تقول: إن الله محدود، وقد حوته الأماكن، إذا زعمت في دعواك، أنه في الأماكن، لأنه لا يعقل شيء في مكان، إلا والمكان قد حواه، كما تقول العرب: فلان في البيت، والماء في الجب، فالبيت قد حوى فلاناً، والجب قد حوى الماء.
ويلزمك اشنع من ذلك؛ لأنك قلت أفظع مما قالت به النصارى، وذلك أنهم قالوا: إن الله - عز وجل - في عيسى، وعيسى بدن إنسان واحد، وكفروا بذلك، وأنتم تقولون: إنه في كل مكان، وفي بطون النساء كلهن، و {في} بدن عيسى، وأبدان الناس كلهم.
ويلزمك أيضاً أن تقول: إنه في أجواف الكلاب، والخنازير، لأنها أماكن، وعندك أن الله في كل مكان، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً" (1) .
وقال أبو الحسن الأشعري في "الإبانة": " إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل: نقول: إن الله - عز وجل - مستو على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) ، وقال -تعالى-: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} (3) ، فالسموات فوقها العرش، فلما كان
_________
(1) "درء تعارض العقل والنقل" (6/115-118) .
(2) الآية 5 من سورة طه.
(3) الآية 16 من سورة الملك.(1/366)
العرش فوق السموات قال: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} لأنه مستو على العرش، الذي فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات، وليس ذا قال: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} يعني جميع السموات، وإنما أراد العرش، الذي هو أعلى السموات، ألا ترى أن الله - عز وجل- ذكر السموات فقال: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} (1) ، ولم يرد أن القمر يملأهن جميعاً، وأنه فيهن جميعاً.
ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا، نحو السماء، لأن الله - عز وجل- مستو على العرش، الذي هو فوق السماوات، كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض.
ولو كان كما تقوله المعتزلة، والجهمية، أن معناه: استولى، وملك، وقهر، لم يكن هناك فرق بين العرش، والأرض السابعة، ولكان مستوياً على العرش، وعلى الأرض، وعلى السماء، وعلى الحشوش، والأقذار" (2) ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وقال الباقلاني - وهو من أئمة الأشاعرة -: " فإن قال قائل: أتقولون: إنه في كل مكان؟ قيل: معاذ الله، بل هو مستو على عرشه، كما أخبرنا في كتابه، فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) ، وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (4) ، وقال: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} (5) .
_________
(1) الآية 16 من سورة نوح.
(2) "الإبانة" (ص85-87) ملخصاً.
(3) الآية 5 من سورة طه.
(4) الآية 10 من سورة فاطر.
(5) الآية 16 من سورة الملك.(1/367)
ولو كان في كل مكان، لكان في بطن الإنسان، وفمه، وفي الحشوش، والمواضع التي نرغب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن خلقه، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض، وإلى خلفنا، وإلى يميننا، وشمائلنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه، وتخطئة قائله" (1) .
وقال شيخ الإسلام: " وإذا كان المسلمون يكفرون من يقول: إن السموات تقله، أو تظله، لما في ذلك من احتياجه إلى مخلوقاته، فمن قال: إنه في استوائه على العرش محتاج إليه، كاحتياج المحمول، إلى حامله، فإنه كافر؛ لأن الله غني عن العالمين - حي، قيوم - الغنى المطلق، وما سواه فقير إليه.
مع أن أصل الاستواء على العرش، ثابت بالكتاب، والسنة، واتفاق سلف الأمة، وأئمة السنة، بل ثابت في كل كتاب، أنزل على كل نبي أرسل" (2)
وذكر عن أبي عمرو الطلمنكي: أنه قال: " قال أهل السنة، في قوله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) : أن الاستواء من الله على عرشه المجيد، على الحقيقة، لا على المجاز " (4) .
وقال ابن عبد البر في شرح حديث النزول: " وفيه دليل على أن الله في السماء، على العرش من فوق سبع سماوات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم: إن الله في كل مكان، وليس على العرش.
_________
(1) "التمهيد" (ص260) .
(2) "مجموع الفتاوى " (2/188) .
(3) الآية 5 من سورة طه.
(4) "مجموع الفتاوى " (3/261) .(1/368)
ومن الدليل على صحة ما قاله أهل الحق، قول الله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) ".
قال شيخ الإسلام: " وفي الفقه الأكبر، المروي عن الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - قال: " من قال: لا أعرف ربي في السماء، أم في الأرض، فقد كفر؛ لأن الله -تعالى- يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وعرشه فوق سبع سماواته.
قلت: فإن قال: أنه على العرش استوى، ولكنه يقول: لا أدري، العرش في السماء، أم في الأرض؟ قال: هو كافر؛ لأنه أنكر أن يكون في السماء؛ لأنه -تعالى- في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى، لا من أسفل.
وفي لفظ: سألت أبا حنيفة: عمن يقول: لا أعرف ربي، في السماء، أم في الأرض؟ قال: قد كفر؛ لأن الله -تعالى- يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) وعرشه فوق سبع سماوات.
قال: فإنه يقول: على العرش استوى، ولكن لا يدري العرش في الأرض، أو في السماء؟ قال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر".
ثم قال: " ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة، عند أصحابه؛ أنه كفر الواقف الذي يقول: لا أعرف ربي، في السماء، أم في الأرض.
فكيف يكون الجاحد النافي الذي يقول: ليس في السماء، أو ليس في السماء ولا في الأرض؟
واحتج على كفره بقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، قال: وعرشه فوق سبع سموات، وبين بهذا أن قوله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى
_________
(1) "التمهيد " (7/129) .
(2) الآية 5 من سورة طه.(1/369)
الْعَرْشِ اسْتَوَى} يبين أن الله فوق السماوات، فوق العرش، وأن الاستواء على العرش دل على أن الله بنفسه فوق العرش.
ثم إنه أردف ذلك بتكفير من قال: إنه على العرش استوى، ولكن توقف في كون العرش في السماء، أم في الأرض؛ قال: لأنه أنكر أنه في السماء، لأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى، لا من أسفل.
وهذا تصريح من أبي حنيفة - رحمه الله - بتكفير من أنكر أن يكون الله في السماء.
واحتج على ذلك بأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى، لا من أسفل، وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية، فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله في العلو، وعلى أنه يدعى من أعلى، لا من أسفل.
وقد جاء اللفظ الآخر صريحاً عنه بذلك، فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر" (1)
وكلام العلماء من أهل السنة من السلف وأتباعهم في هذا الموضوع كثيرة جداً، فنكتفي بهذا الطرف اليسير؛ لأن العاقل المنصف، الذي يريد الحق، ويطلبه إذا بان له الدليل، كفاه اليسير، وأما من ضل وعاند فلا يفيده البيان والإكثار من الكلام، والله الهادي، وهو المستعان.
قوله: " وقال ابن عباس: المجيد: الكريم، والودود: الحبيب. يقال: حميد مجيد، كأنه فعيل من ماجد، محمود من حمد ".
قول ابن عباس انتهى عند قوله: يقال. قال الحافظ: " وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، قال: المجيد الكريم، وبه - أي بالسند - عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} . قال: الودود: الحبيب" (2) .
_________
(1) "مجموع الفتاوى" (8/47-49) .
(2) "الفتح" (13/408) .(1/370)
وذكر السيوطي أنه خرجه ابن جرير، وقال المنذر، والبيهقي في "الصفات" في الموضعين" (1) .
قلت: يقصد البخاري - رحمه الله - أن العرش أضيف إلى الله -تعالى- الإضافة الدالة على المصاحبة، والاختصاص، حيث قال: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} أي: صاحب العرش، فدل ذلك على اختصاص العرش المذكور بالله -تعالى- دون سائر المخلوقات، والمجيد قرئ بالرفع صفة لذو، الذي هو الله -تعالى- وقرئ بالجر صفة للعرش.
قال ابن جرير: " قرأ عامة قراء المدينة ومكة، وبعض الكوفيين، بالرفع، رداً على قوله: {ذُو الْعَرْشِ} ، على أنه صفة الله - تعالى ذكره - وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة خفضاً، على أنه من صفة العرش.
والصواب من القول: أنهما قراءتان، معروفتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب" (2) .
قال أبو حيان: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} خص العرش بإضافة نفسه، تشريفاً للعرش، وتنبيهاً على أنه أعظم المخلوقات" (3) .
و"المجيد" فسره ابن عباس بالكريم، وقد جاء في القرآن وصف العرش بأنه كريم، قال -تعالى-: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ
الْكَرِيمِ} (4) ، فوصف العرش بأنه كريم لسعته وحسنه، وهو في وصف الله: الجواد، واسع العطاء، كثير الخير، حميد الصفات.
_________
(1) "الدر المنثور" (8/471) ، وانظر: " الطبري" (30/138، 139) .
(2) "تفسير الطبري" (30/139) .
(3) "البحر المحيط" (8/452) .
(4) الآية 116 من سورة المؤمنون.(1/371)
قال في "القاموس": {المجيد} الرفيع العالي، والكريم، والشريف الفعال" (1) .
قوله: {الودود} الحبيب، تقدم أن هذا التفسير مروي عن ابن عباس بسند متصل، الود: خالص الحب وصافيه.
وفي القاموس: " الودود" كثير الحب، وقد تقدم الكلام في صفة المحبة.
" الْوَدُودُ " فعول من الود، قال الله عن شعيب عليه السلام: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} (2) ، وقال -تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} (3) ، فقرنه بالرحيم في موضع، وبالغفور في موضع.
قال أبو بكر بن الأنباري: {الْوَدُود} معناه: المحب لعباده، من قولهم: وددت الرجل أوده، وداً، ووداً، ووداً.
ويقال: وددت الرجل، وداداً، ووداداً، وودادة.
وقال الخطابي: هو اسم مأخوذ من الود، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون فعولاً في محل مفعول، كما قيل: رجل هيوب، بمعني مهيب، وفرس ركوب، بمعنى مركوب. والله - سبحانه وتعالى - مودود في قلوب أوليائه؛ لما يعرفونه من إحسانه إليهم.
والوجه الآخر: أن يكون بمعنى الود، أي أنه تعالى يود عباده الصالحين.
قال -تعالى-: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (4) فسرت بأنه يحبهم، ويحببهم إلى عباده.
_________
(1) (1/336) .
(2) الآية 90 من سورة هود.
(3) الآية 14 من سورة البروج.
(4) الآية 96 من سورة مريم.(1/372)
ويؤيده الحديث الصحيح: " إذا أحب الله عبداً نادى: يا جبريل، أني أحب فلاناً، فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلاناً، فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض " وسيأتي - إن شاء الله تعالى -.
والأكثرون على ما ذكره ابن الأنباري، أنه فعول بمعنى فاعل، أي هو الواد، كما قرنه بالغفور، الذي يغفر، وبالرحيم هو الذي يرحم (1) .
وقوله: " يقال: حميد مجيد، كأنه فعيل من ماجد، محمود من حمد" قال الحافظ: " أصل هذا قول أبي عبيدة، في مجاز القرآن، في قوله: عليكم أهل البيت أي: محمود ماجد" (2) .
قال الكرماني: " غرضه منه، أن مجيداً بمعنى فاعل، كقدير بمعنى قادر، حميداً بمعنى مفعول، فلذلك قال: " مجيد من ماجد، حميد من محمود، قال: وفي بعض النسخ: محمود من حميد، وفي أخرى: من حمد، مبنى للفاعل، والمفعول أيضاً، وذلك لاحتمال أن يكون حميد بمعنى حامد، ومجيد بمعنى ممجد، ثم قال: وفي عبارته تعقيد" (3)
قال الحافظ: " قلت: وهو في قوله: " محمود من حمد" وقد اختلفت الرواة فيه، والأولى فيه ما وجد في أصله، وهو كلام أبي عبيدة " (4) .
"فالحميد الذي له من الصفات، وأسباب الحمد، ما يقتضى أن يكون محموداً، وإن لم يحمده غيره، فهو حميد في نفسه.
_________
(1) "النبوات" (ص71-72) ملخصاً.
(2) "الفتح" (13/408) .
(3) "شرح الكرماني على البخاري" (25/129) .
(4) "الفتح" (13/408) .(1/373)
والمحمود: من تعلق به حمد الحامدين، والحمد والمجد إليهما يرجع الكمال كله، فإن الحمد يستلزم الثناء والمحبة للمحمود، فمن أحببته ولم تثن عليه لم تكن حامداً له.
وهذا الثناء والحب، يتبع الأسباب المقتضية له، وهو ما عليه المحمود من صفات الكمال، ونعوت الجلال، والإحسان إلى الغير، فإن هذه هي أسباب المحبة، وكلما كانت هذه الصفات أجمع وأكمل، كان الحمد والحب أتم وأعظم.
والله - سبحانه - له الكمال المطلق، الذي لا نقص فيه بوجه، والإحسان كله له ومنه، فهو أحق بكل حمد، وبكل حب، فهو أهل أن يحب لذاته، ولصفاته، ولأفعاله، ولأسمائه، ولإحسانه، ولكل ما صدر منه.
والمجد مستلزم للعظمة، والسعة، والجلال، كما يدل عليه موضوعه في اللغة" (1) .
يقال: استمجد المرخ والعفار؛ لكثرة النار فيهما.
قال ابن القيم: " ومن أسمائه -تعالى- ما هو دال على جملة أوصاف عديدة، لا يختص بصفة معينة، بل هو دال على معناه، لا على معنى مفرد، نحو المجيد، العظيم، الصمد، فإن المجيد: من اتصف بصفات متعددة، من صفات الكمال، ولفظه يدل على هذا، فإنه موضوع في اللغة للسعة، والكثرة، والزيادة، فمنه: استمجد المرخ والعفار، وأمجد الناقة علفاً، ومنه {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} صفة للعرش، لسعته وعظمته وشرفه" (2) .
_________
(1) "جلاء الأفهام" (ص187) .
(2) "بدائع الفوائد " (1/160) .(1/374)
47-قال: " حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز، عن عمران بن حصين، قال: " إني عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ جاءه قوم من بني تميم، فقال: " اقبلوا البشرى يا بنى تميم" قالوا: بشرتنا فأعطنا، فدخل ناس من أهل اليمن، فقال: " اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إذ لم يقبلها بنو تميم" قالوا: قبلنا، جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟ قال: " كان الله، ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء" ثم أتاني رجل، فقال: يا عمران، أدرك ناقتك، فقد ذهبت، فانطلقت أطلبها، فإذا السراب ينقطع دونها، وايم الله لوددت أنها ذهبت ولم أقم".
عمران، هو أبو نجيد، بضم النون وفتح الجيم، ابن حصين، الخزاعي، البصري، أسلم عام خيبر، سنة سبع، وشهد ما بعدها من غزوات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان من فضلاء الصحابة، وكانت الملائكة تسلم عليه مواجهة، وكان مجاب الدعوة، بعثه عمر إلى أهل البصرة يفقههم، وكان الحسن البصرى يحلف بالله ما قدمها مثله، اعتزل الناس في الفتنة، فلم يشهد شيئاً من حروبها، مات في البصرة سنة اثنتين وخمسين، - رضي الله عنه - (1) .
قوله: إني عند النبي -صلى الله عليه وسلم- في الرواية التي ذكرها في بدء الخلق: " دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعقلت ناقتي بالباب (2) .
_________
(1) "الرياض المستطابة" (ص219) .
(2) انظر: " البخاري مع الفتح" (6/286) .(1/375)
ويظهر أن هذه الواقعة في المدينة، في آخر حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا ذكرها البخاري في آخر المغازي، في ذكر الوفود على النبي -صلى الله عليه وسلم-.
قوله: " اقبلوا البشرى يا بني تميم" وفي رواية: " أبشروا يا بني تميم"، والمراد بهذه البشرى: الخير العظيم الذي يترتب على الإسلام، والنجاة من العذاب العظيم الذي يترتب على عدم الدخول في الإسلام، وذلك في الدنيا والآخرة.
قال الحافظ: " والمراد بهذه البشارة: أن من أسلم نجا من الخلود في النار، ثم بعد ذلك يترتب جزاؤه على وفق عمله، إلا أن يعفو الله" (1) .
"وتميم: اسم رجل، وهو تميم بن مر بن إد بن طابخة - واسم طابخة- عمرو بن إلياس بن مضر، والتميم في اللغة: الشريد" (2) . " قالوا: بشرتنا فأعطنا" يظهر أنهم ما فهموا مقصد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بما أراده بالبشرى، أو أن رغبتهم في العاجلة، فعلقوا بها آمالهم، فقدموا ذلك على التفقه في الدين، والإقبال على تفهم ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا كره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قولهم، كما في الرواية الأخرى، وغير لون وجهه حيث استشعر قلة فقههم في الدين، ورغبتهم في الآخرة، والله أعلم.
"فدخل ناس من أهل اليمن " تقدم ذكر اليمن، وسبب تسميته في شرح حديث معاذ، "فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إذ لم يقبلها بنو تميم" البشرى: اسم من البشير، وهي الإخبار بما يسر ويفرح غالباً، وسميت بذلك لأنه يظهر أثرها على بشرة الوجه.
قال الحافظ: " أي: اقبلوا مني ما يقتضي أن تبشروا بالجنة، إذا أخذتم به" (3) . ويؤخذ من هذا: أنه ينبغي - بل يتعين - قبول ما جاء عن الله ورسوله،
_________
(1) "الفتح" (13/409) .
(2) انظر: " نهاية الأرب" (ص188، 322) .
(3) "الفتح" (6/288) .(1/376)
بدون توقف أو استفسار، أو طلب للعلة والسبب؛ لأن قول بني تميم: " بشرتنا فأعطنا" لا يدل بظاهره على أنهم لم يقبلوها، ومع ذلك جعل عدم فهمهم للمقصود وطلبهم لأمر عاجل، عدم قبول للبشرى.
قوله: " جئناك لنتفقه في الدين" الفقه هو الفهم، أي: فهم المراد، أي: أننا قد آمنا بك، وبما جئت به، وأتينا إليك لتفهمنا ديننا الذي جئت به، وتعلمنا ما نعتقده، ونعمل به، وهذا من توفيق الله لعبده؛ أن يهتم بالتفقه في دينه، حتى يعبد ربه على علم وبصيرة.
قله: " ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان "؟ الإشارة في قوله: " هذا" تعود إلى شيء مشاهد، حاضر، موجود، وهو هذا الخلق المرئي، من السماوات والأرض، وما بينهما، وما فيهما، والمعنى: جئنا نسأل عن مبدأ خلق هذه المخلوقات المشاهدة، وهذا هو الظاهر.
قال الحافظ: " كأنهم سألوا عن أحوال هذا العالم، وهو الظاهر، ويحتمل أن يكونوا سألوا عن أول جنس المخلوقات" (1) .
قلت: الاحتمال الثاني بعيد، بل باطل، كما يأتي بيانه في كلام شيخ الإسلام، وقوله في الحديث: " عن أول هذا الأمر" برده؛ لأن الإشارة إلى المخلوقات المشاهدة كما تقدم، وجوب السؤال يدل على أنهم سألوا عن مبدأ هذا العالم المشاهد، والأمر يطلق ويراد به المأمور، ويراد به المصدر، الذي هو حكم الأمر، والأول هو المراد هنا قطعاً.
وقد رد شيخ الإسلام احتمال كونهم سألوا عن أول جنس المخلوقات من وجوه كثيرة، وبين أن ذلك باطل، وذكر أن الحديث روي بثلاثة ألفاظ:
أحدها: المذكور هنا: " كان الله ولم يكن شيء قبله".
والثاني: " كان الله، ولم يكن شيء معه".
_________
(1) "الفتح" (6/288) .(1/377)
والثالث: " كان الله ولم يكن شيء غيره".
ثم قال: " لا بد أن يكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال أحدها؛ لأن المجلس كان واحداً، وسؤالهم وجوابهم في ذلك المجلس، وعمران الذي روى الحديث لم يبق في المجلس إلى انقضائه، بل ذهب لما أخبر بذهاب راحلته، وهو أخبر بلفظ الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يرو هذا الحديث غيره، فدل ذلك على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال واحداً من هذه الألفاظ، والآخران رويا بالمعنى، فيكون ما قاله: هو لفظ "القبل"؛ لما في "صحيح مسلم"، من قوله -صلى الله عليه وسلم-: " أنت الأول فليس قبلك شيء" (1) .
وأكثر أهل الحديث يرويه بهذا اللفظ، وهو ذكر الجمل الثلاث بالواو، وهي:
1-" قوله: كان الله، ولم يكن شيء قبله ".
2-" وكان عرشه على الماء".
3-" وكتب في الذكر كل شيء".
ولم يذكر شيئاً منها بثم، وإنما جاء ذلك في خلق السماوات والأرض.
والواو، لا تفيد الترتيب، على الصحيح، فلا يكون في ذلك ذكر أول المخلوقات، بل ولا فيه الإخبار بخلق العرش، والماء، وإن كان ذلك كله مخلوقاً، ولكن المقصود أن جوابه لأهل اليمن، عند بدء خلق السموات والأرض، وما بينهما، وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام، لا ابتداء ما خلقه الله قبل ذلك.
ويدل على ذلك، أنه أخبر عن تلك الأشياء بما يدل على وجودها، ولم يتعرض لابتداء خلقها، وذكر السموات والأرض بما يدل على خلقها، سواء قال: " خلق السموات والأرض" أو قال: " وثم خلق السموات والأرض" فعلى التقديرين، أخبر بخلق ذلك، وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن.
فتبين أنه لم يكن مقصوده الإخبار عن أول جنس المخلوقات، بل ولا الإخبار عن خلق العرش والماء، وإنما مقصوده الإخبار عن بدء خلق السموات
_________
(1) انظر: " صحيح مسلم" (4/2084) الحديث رقم (2713) .(1/378)
والأرض وما بينهما، حين كان عرشه على الماء" (1)
وقد ثبت في حديث عبد الله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء " (2) .
ولما كان شيخ الإسلام يقرر هذا، وهو أن الله لم يزل فعالاً لما يريد، ويرد على من يقول: المعنى: كان الله ولا شيء معه، أي: لا مخلوق، ولا فعل، ولا مفعول، ثم صار يخلق ويفعل بعد أن لم يكن يفعل ويخلق، وهذا هو قول الجهمية، والمعتزلة.
لما كان يقرر ذلك، ويرد قول الجهمية والمعتزلة، ظن كثير ممن لم يفهم مراده ولم يعرف مذهب أهل السنة في هذه المسألة، زن أنه يقول بقدم العالم؛ لأنه يقول بحوادث لا أول لها، لأنهم يسمون أفعال الله الاختيارية التي يفعلها بإرادته: حوادث.
وما علم هؤلاء أن لازم قولهم، أشنع، وأفظع، وهو أن الرب -تعالى- كان معطلاً عن الفعل، ثم صار فعالاً لأفعاله بعد أن لم يكن كذلك.
مع أن ما قاله شيخ الإسلام هو مذهب السلف، مثل الإمام أحمد والدارمي والبخاري وغيرهم.
قال الإمام أحمد في رده على الجهمية: " فلما ظهرت عليه الحجة، قال: إن الله يتكلم، ولكن كلامه مخلوق.
قلنا: وكذا بنو آدم كلامهم مخلوق، فقد شبهتم الله بخلقه، حين زعمتم أن كلامه مخلوق.
_________
(1) "مجموع الفتاوى" (18/216-222) بتصرف.
(2) "صحيح مسلم" (4/2044) رقم (2653) .(1/379)
ففي مذهبكم: قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم، حتى خلق التكلم، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق الله لهم كلاماً.
وقد جمعتم بين كفر، وتشبيه، وتعالى الله عن هذه الصفة.
بل نقول: إن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، ولا نقول: إنه كان، ولا يتكلم حتى خلق الكلام، ولا نقول: إنه قد كان لا يعلم، حتى خلق علماً فعلم، ولا نقول: إنه قد كان ولا قدرة له، حتى خلق لنفسه القدرة، ولا نقول: إنه كان ولا نور له، حتى خلق لنفسه نوراً، ولا نقول: إنه كان ولا عظمة له، حتى خلق لنفسه عظمة.
فقال الجهمية - لما وصفنا الله بهذه الصفات -: إن زعمتم أن الله ونوره، والله وقدرته، والله وعظمته، فقد قلتم بقول النصارى، حين زعموا أن الله لم يزل ونوره، ولم يزل وقدرته.
قلنا: لا نقول: إن الله لم يزل وقدرته، ولم يزل ونوره، ولكن نقول: لم يزل بقدرته ونوره، متى قدر، ولا كيف.
فقالوا: لا تكونوا موحدين أبداً، حتى تقولوا: قد كان الله ولا شيء.
فقلنا: نحن نقول: قد كان الله ولا شيء، ولكن إذا قلنا: إن الله لم يزل بصفاته كلها، أليس إنما نصف إلهاً واحداً بجميع صفاته؟
وضربنا لهم مثلاً في ذلك، فقلنا: أخبرونا عن هذه النخلة، أليس لها جذع، وكرب، وليف، وسعف، وخوص، وجمار، واسمها اسم شيء واحد، وسميت نخلة بجميع صفاتها، فكذلك الله - وله المثل الأعلى - بجميع صفاته، إله واحد.
ولا نقول: إنه كان في وقت من الأوقات ولا قدرة له حتى خلق له قدرة، والذي ليس له قدرة هو عاجز.(1/380)
ولا نقول: قد كان في وقت من الأوقات لا يعلم حتى خلق له علماً، والذي لا يعلم هو جاهل" (1) .
بين الإمام - رحمه الله تعالى - أنه -تعالى- لم يزل متكلماً، قادراً، فعالاً لما يريد، فلم يكن قبل وجود الخلق معطلاً عن الفعل، كما هو مقتضى قول الذين أنكروا وجود حوادث لا أول لها، وزعموا أن هذا قول الفلاسفة الدهرية، وفي الواقع هو قول السلف، وهو الذي دلت عليه نصوص الشرع، وأيده العقل، وإن كان كل مفعول معين حادث بعد أن لم يكن، وأما فعل الله الذي هو صفته فلم يزل، فلا أول له.
فمفعولات الله -تعالى- باعتبار أعيانها لها مبدأ فهي كائنة بعد العدم.
أما باعتبار كون الفعل صفة من صفات الله -تعالى-، وإن لم يكن متعلق موجود، فهو لا أول له.
قال الإمام أبو سعيد الدارمي - رحمه الله -: " والله -تعالى وتقدس اسمه - كل أسمائه سواء، لم يزل كذلك، ولا يزال، لم تحدث له صفة ولا اسم لم يكن، كذلك كان خالقاً قبل المخلوقين، ورازقاً قبل المرزوقين، وعالماً قبل المعلومين، وسميعاٌ قبل أن يسمع أصوات المخلوقين، بصيراً قبل أن يرى أعيانهم مخلوقة" (2) .
والمقصود أن الله - سبحانه وتعالى - لم يزل فعالا لما يريد، وأنه لم يكن معطلاً عن الفعل حتى خلق هذا الكون المشهود، الذي سأل عن مبدئه أهل اليمن، قال شيخ الإسلام:
" لا نزاع بين أهل الملل أن الله - سبحانه - كان قبل أن يخلق هذه الأمكنة والأزمنة، وأن وجوده لا يجب أن يقارن هذه الأزمنة والأمكنة" (3) .
قوله: " كان الله، ولم يكن شيء قبله " تقدم في كلام شيخ الإسلام أن هذا اللفظ هو الذي قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأن اللفظين الآخرين رويا بالمعنى، وهما " لم يكن
شيء غيره " و" لم يكن شيء معه"، وأيد ذلك بأنه من معنى قوله - تعالى -: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4) .
_________
(1) "الرد على الجهمية" (ص90-92) عقائد السلف.
(2) نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي.
(3) "نقض التأسيس" (1/562) .
(4) الآية 3 من سورة الحديد.(1/381)
فقوله -تعالى-: {هُوَ الأَوَّلُ} هو الذي ليس قبله شيء، كما في "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول: " اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر، ليس بعدك شيء، وأنت الظاهر، فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء" (1) .
وأما قول الحافظ: " قضية الجمع بين الروايتين، تقتضي حمل هذه على رواية: "ولا شيء غيره"، لا العكس، والجمع يقدم على الترجيح بالاتفاق" (2)
فيقال له: هذا لو احتمل أن يكون الحديث صدر منه -صلى الله عليه وسلم- في مقامين، أما إذا كان في مجلس واحد، والراوي واحد، وقد أخبر أنه لم يبق إلى نهاية المجلس، بل قام لما سمع هذا القول من النبي -صلى الله عليه وسلم- ولحق براحلته، فلا بد أن اللفظ الذي سمعه أحد هذه الألفاظ الثلاثة، والآخران رويا بالمعنى، فأصبح الجمع لا وجه له.
وحمل هذه الرواية على رواية " ولا شيء غيره" بلا دليل، حمل عليه التعصب للمذهب، وإلا فالواجب حملها على المعروف من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- الموافق لكلام الله -تعالى- كما تقدمت الإشارة إليه.
وأما قوله: إن هذه المسألة من مستشنع ما ينسب لابن تيمية، فقد تقدم أن هذا هو مذهب السلف، وأن ما يريد ترجيحه الحافظ هو مذهب الجهمية والمعتزلة، والأشعرية، من أهل البدع، والله أعلم.
وكلمة "كان" هنا تفيد الأزلية، والأزلية هي: ما لا بداية له.
قال الطيبي: " لفظة كان في الموضعين - يعني " كان الله" و"كان
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) "الفتح" (13/410) .(1/382)
عرشه على الماء"- بحسب حال مدخولها، فالمراد بالأول: الأزلية والقدم، وبالثاني الحدوث بعد العدم" (1) .
"وقال ابن عباس: "كان ولا يزال" ولم يقيد كونه بوقت دون وقت، ويمتنع أن يحدث له غيره، صفة، بل يمتنع توقف شيء من لوازمه على غيره - سبحانه- فهو المستحق لغاية الكمال، وذاته هي المستوجبة لذلك الكمال المطلق، وهو المحمود على ذلك، أزلاً وأبداً، ولا يحصي الخلق ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه" (2) .
وقال الراغب: " كان عبارة عما مضى من الزمان، وفي كثير من وصف الله -تعالى- تنبئ عن معنى الأزلية، قال: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (3) ، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} (4) ، وما استعمل منه في جنس الشيء متعلقاً بوصف له هو موجود فيه، فتنبيه على أن ذلك الوصف لازم له، قليل الانفكاك منه، نحو قوله في الإنسان: {وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} (5) ، وإذا استعمل في الزمان الماضي، فقد يجوز أن يكون المستعمل فيه على حالته، ويجوز أن يكون قد تغير، نحو: كان فلان كذا ثم صار كذا" (6) .
ومعنى قوله: "كان الله، ولم يكن شيء قبله" أنه -تعالى- هو الأول قبل كل شيء، الذي لا يتصور لأوليته مبدأ، حتى يمكن أن يتصور قبله شيء، بل هو الأول بلا بداية، كما أنه الآخر بلا نهاية، فما من غاية يقدرها العقل إلا وأزليته -تعالى- قبلها، بلا غاية محدودة، والأزل معناه عدم الأولية، فليس الأزل
_________
(1) "الفتح" (13/410) .
(2) "مجموع الفتاوى" (18/232-233) .
(3) الآية 26 من سورة الفتح، والآية 40 من سورة الأحزاب.
(4) الآية 27 من سورة الأحزاب، والآية 21 من سورة الفتح.
(5) الآية 67 من سورة الإسراء.
(6) "المفردات في غريب القرآن " (ص444) .(1/383)
شيئاً محدوداً، فلو قدر أن الأرض كلها وعاء مملوء ذرات، وبعد مليون سنة تفنى ذرة واحدة فقط، لفنيت الذرات كلها، والأزل باق، بل لو فرض أضعاف أضعاف ذلك بالملايين، والمقصود بذلك التقريب إلى الفهم فقط، وإلا فالأزل ليس له بداية أبداً.
قوله: " وكان عرشه على الماء" أي: وقت خلق السموات والأرض كان عرشه على الماء، والمراد هنا الإخبار بكون العرش على الماء، عند ابتداء خلق السموات والأرض.
قال ابن خزيمة: " معنى قوله: "وكان عرشه على الماء" كقوله: {وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} (1) ، يعني: أن "كان" هنا لا تدل على أن ذلك أمر قد مضى، وانقضى، بل تدل على ثبوته، فهو كان، ولا يزال على ما كان، و"ليس معنى ذلك أن شيئاً من مفعولاته قديم معه، بل هو خالق كل شيء، ولك شيء سواه مخلوق له، وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن، مع أنه -تعالى- لم يزل بصفاته خالقاً فعالاً لما يريد".
ومن المعلوم أن الخلق صفة كمال، كما قال -تعالى-: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} (2) ، فلا يجوز أن ينفك عن هذه الصفة، ولكن كل مخلوق محدث، مسبوق بالعدم، وليس مع الله شيء قديم، ولا شك أن هذا أبلغ في الكمال، من أن يكون معطلاً غير قادر على الفعل.
وأما جعل المفعول المعين مقارناً له -تعالى- أزلاً وأبداً، فهو باطل عقلاً وشرعاً، ولا يقوله إلا جاهل أو معطل.
"والأدلة على بدء خلق الأفلاك، وخلق الزمان - الذي هو مقدار حركة الفلك - كثيرة، أخبرت بها الرسل، كما أخبرت أنها خلقت من مادة موجودة قبلها، وفي زمان قبل هذا الزمان، فإن الله -تعالى- أخبر أنه خلق السموات
_________
(1) كتاب "التوحيد" (ص103) .
(2) الآية 17 من سورة النحل.(1/384)
والأرض وما بينهما في ستة أيام، وسواءً قيل: إن تلك الأيام بمقدار هذه الأيام المعروفة بطلوع الشمس وغروبها، أو أنها أكبر منها، وأن كل يوم قدره ألف سنة.
والحق أن تلك الأيام، التي خلقت فيها السموات والأرض غير هذه الأيام، وغير الزمان الذي هو مقدار حركة هذه الأفلاك، وأن تلك الأيام مقدرة بحركة أجسام موجودة قبل خلق السماوات والأرض.
وقد أخبر - سبحانه وتعالى - أنه {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (1) فخلقت من الدخان.
وقد جاءت الآثار عن السلف، أنها خلقت من بخار الماء، وهو الماء الذي كان العرش عليه، قبل وجود هذا الخلق، كما قال -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} (2) .
فأخبر -تعالى- أنه خلق السماوات والأرض في مدة، ومن مادة، ولم يذكر القرآن أنه خلق شيئاً من لا شيء، ولا يعارض هذا بقوله -تعالى-: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} (3) ؛ لأنه تعالى قد أخبر أنه خلقه من نطفة" (4) ، وخلق أباه من تراب، وقد أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن الملائكة خلقت من نور، والجن من النار.
وهذه الجملة من الحديث هي محل الشاهد، وهو دليل على عظم العرش، وأن له شأناً غير شأن السماوات والأرض، وأن وجوده قبل وجودهما.
وقوله: " ثم خلق السماوات والأرض " نص في ذلك؛ لأن "ثم" تفيد الترتيب مع التراخي، أي: ترتيب خلق السماوات والأرض على وجود العرش والماء.
ولا شك أن العرش والماء مخلوقان، ولم يذكر الله - جل وعلا- لنا وقت خلق العرش والماء، كما لم يذكر لنا أن له مخلوقات قبلهما، ولكن النصوص من الوحي، والفطرة والعقل السليم، تدل على أن الله -تعالى- لم يزل يفعل ما يشاء، ويتكلم
_________
(1) الآية 11 من سورة فصلت.
(2) الآية 7 من سورة هود.
(3) الآية 9 من سورة مريم.
(4) "مجموع الفتاوى" (18/235) بتصرف.(1/385)
بما يشاء، وهذا من الكمال الواجب له، والذي يليق به -تعالى-.
وما يقوله المتكلمون من المعتزلة، والأشاعرة، ومن تبعهم، من أن هذا الكون المشاهد لنا، وما يتصل به من السموات والأرض، وكذلك العرش والماء، هو مبدأ فعله وخلقه، وليس قبله شيء من مفعولاته، يخالف كماله الواجب له -تعالى-.
فإنه وصفه -تعالى- بأنه لم يكن قادراً على الفعل والكلام ونحوهما من صفات الكمال، ثم صار قادراً على ذلك، فيه نقص يجب أن ينزه عنه، وقدرته التامة الكاملة التي هي من لوازم ذاته -تعالى- تفيد خلاف هذا القول، وهي من أظهر صفات الكمال، ولا يجوز أن تقيد صفاته -تعالى- وأفعاله بوقت دون وقت.
وباليقين العقلي يمتنع أن يكون قادراً بعد أن لم يكن كذلك، إلا بأمر جعله قادراً، ومن المحال أن يؤثر فيه شيء غيره، فإذا لم يكن هناك إلا العدم المحض استحال كونه قادراً، بعد أن لم يكن كذلك.
كما يمتنع أن يكون عالماً بعد أن لم يكن كذلك، وأن يكون سميعاً بصيراً، بعد أن لم يكن، أما المخلوق المفعول، مثل الإنسان، فإنه كان غير عالم، ولا قادر، فجعله الله عالماً قادراً.
وقوله: " وكتب في الذكر كل شيء" الكتابة هنا أضيفت إلى الله -تعالى- ولا يتعين منه أنه -تعالى- باشر الكتابة بنفسه، بل يجوز أن يأمر بذلك ما يشاء.
وقد جاء الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موضحاً ذلك، كما في حديث عبادة بن الصامت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: رب، وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة" (1) .
والمقصود بالذكر هنا: محل الكتابة، وهو اللوح المحفوظ.
_________
(1) رواه أبو داود في "السنن" (5/76) رقم (4700) .(1/386)
"والمراد أنه -تعالى- كتب كل ما أراد إيجاده من تلك الساعة التي جرت فيها الكتابة إلى قيام الساعة.
ولفظة "كل شيء" يعم في كل موضع بحسب ما سيقت له، كما في قوله -تعالى-: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} و {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} و {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} .
و {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} و {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} (1) .
وقوله: " فإذا السراب ينقطع دونها" أي يشاهدها من خلق السراب، فهو ينقطع بينه وبينها لبعدها، فيراها مرة، وأخرى يكاد يخفيها السراب.
وقوله: " وايم الله " قيل معناه: يمين الله، فهو قسم مشهور عند العرب، وفيه لغات عدة.
وقوله: " لوددت أنها ذهبت، ولم أقم" يقول: إن رغبتي والأحب إليَّ أني بقيت في مجلسي عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتعلم منه الإيمان والعلم، ولم أقم في طلب راحلتي، بل أتركها مؤثراً ما أسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غذاء القلب والروح، على راحلتي، وهذا شأن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنهم - في حرصهم على التعلم منه، والبحث عن الهدى والخير، ولهذا حفظوا كل ما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما فعله، والبحث عن الهدى والخير، ولهذا حفظوا كل ما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم - وما فعله، حتى نقلوا لنا تحرك شعر لحيته وهو يصلي، وغير ذلك، فجزاهم الله خيراً، وقاتل من يبغضهم وينتقصهم.
_________
(1) "مجموع الفتاوى" (18/233) .(1/387)
48-قال: " حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام، حدثنا أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم ينقص ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى الفيض - أو القبض- يرفع، ويخفض".
قد تقدم هذا الحديث في باب قول الله -تعالى-: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، وتقدم الكلام عليه، وما هنا يختلف عن الماضي في سنده، وفي بعض ألفاظه، على عادة المؤلف - رحمه الله- إذا كرر الحديث، فلا بد أن يأتي بما يغاير السابق، أما في السند والمتن، أو في أحدهما، إلا إذا تيسر له ذلك، وهو نادر.
والذي تقدم فيه "يد الله ملأى" وما هنا " إن يمين الله ملأى".
وما تقدم فيه " وقال: أرأيتم"، وهنا كلمة "قال" ليست موجودة.
وما تقدم فيه " فإنه لم يغض ما في يده"، وما هنا " فإنه لم ينقص ما في يمينه"
وما تقدم فيه "وقال: عرشه على الماء "، وهنا لفظة "قال" غير موجودة.
وما تقدم " وبيده الأخرى الميزان"، وهنا "وبيده الأخرى الفيض - أو القبض-" هذا في المتن، وأما السند فهو غير المتقدم.
والمقصود قوله: " وعرشه على الماء" أي أنه -تعالى- لما خلق السماوات والأرض، كان عرشه على الماء، فوجود العرش والماء سابق وجود السماوات والأرض بزمن طويل جداً -تعالى- الله أعلم بمقداره.(1/388)
49-قال: " حدثنا أحمد، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس، قال: جاء زيد بن حارثة، يشكو، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: " اتق الله وأمسك عليك زوجك" قال (1) أنس: لو كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كاتماً شيئاً لكتم هذه، قال: فكانت زينب تفخر على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله -تعالى- من فوق سبع سماوات".
وعن ثابت: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ نزلت في شأن زينب وزيد بن حارثة".
زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم-.
ذكر الحافظ في "الإصابة" نقلاً عن الكلبي بسنده، قال: " زارت سعدى أم زيد قومها وزيد معها، فأغارت خيل لبني القين بن جسر، على أبيات بني معن، فاحتملوا زيداً وهو غلام يفعة، فأتوا به سوق عكاظ، فعرضوه للبيع، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد، بأربعمائة درهم، فلما تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهبته له، ثم جاء والده حارثة، وعمه كعب، يريدان فداءه، فطلبا ذلك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم فقال لهما رسول الله: " ادعوه فخيروه، فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني، فوالله ما أنا بالذي أختار على من أختارني " فاختار زيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فقال له والده وعمه: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية؟ فقال: إني رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً.
_________
(1) في بعض نسخ البخاري: قالت عائشة.(1/389)
لما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك خرج به إلى المحجر، وقال: اشهدوا أن زيداً ابني، عند ذلك طابت نفس والده وعمه.
وزوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- زينب بنت جحش، وهي ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب، ثم لم يتلاءما، فطلقها زيد، فزوجها الله -تعالى- نبيه؛ لحكمة ذكرها الله -تعالى- في القرآن.
قال ابن عمر: " إن زيد بن حارثة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} (1) .
كان زيد هو الأمير في غزوة مؤتة، واستشهد فيها رضي الله عنه" (2) .
قوله: " جاء زيد بن حارثة يشكو" أي: جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشكو زوجه زينب ويستشيره في طلاقها؛ لأنها كانت تترفع عليه، وتقابله ببعض الكلام غير المناسب؛ لحدة كانت فيها، كما روى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال: " جاء زيد بن حارثة، فقال: يا رسول الله، إن زينب اشتد عليَّ لسانها، وأنا أريد أن أطلقها؟ فقال له: " اتق الله، وأمسك عليك زوجك" (3) .
وهذا منقطع، وقد ذكر كثير من المفسرين والمؤرخين آثاراً موضوعة، مكذوبة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قصة زواجه -صلى الله عليه وسلم- بزينب، وبعضها ضعيف، لا يثبت به حكم.
ثم استغل تلك الأخبار بعض أعداء الرسل، من زنادقة وكفار ملاحدة، متقدمون، ومتأخرون، واغتر بذلك كثير من الجهلة.
_________
(1) الآية 5 من سورة الأحزاب، ورواه البخاري، انظره مع الفتح (8/517) .
(2) "الإصابة" (2/599-601) .
(3) "الفتح" (8/524) .(1/390)
وقد بين الله -تعالى- المقصود من زواج رسوله -صلى الله عليه وسلم- بزينب بقوله: {فلما قض زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً} (1) .
المعنى: لما فرغ زيد منها وطابت نفسه عنها، وطلقها، أمرناك بتزوجها؛ لئلا يبقى في قلوب المؤمنين حرج في تزوج زوجات أدعيائهم، الذين تبنوهم، فصاروا يدعون إليهم، فيقال: ابن فلان، وليس ابناً له، إذا فارقوهن.
وهذا إمعان في إبطال هذا التبني، الذي كان معروفاً في الجاهلية الأولى كما عرف في الجاهلية الحاضرة، حيث أمر الله -تعالى- إمام المسلمين وقدوتهم بذلك، وكان زيد بن حارثة قد تبناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما تقدمت الإشارة إليه، فكان يدعى بزيد بن محمد، فأبطل الله -تعالى- ذلك بقوله: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ {4} ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (2) .
فهو -تعالى- يعلم عباده أن أدعياءهم الذين هم مواليهم، ودعوهم أبناء لهم، أنهم ليسوا لهم بأبناء؛ لأنهم أبناء رجال آخرين.
وقد أوحى الله -تعالى- إلى رسوله بأنه سوف يتزوج زينب، أوحى الله بذلك إليه قبل أن يطلقها زيد، فلما جاء يشكوها إليه، ويستشيره في طلاقها، قال له: " اتق الله يا زيد، وأمسك عليك زوجك" فعاتبه الله -تعالى-: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي
_________
(1) الآية 37 من سورة الأحزاب.
(2) الآيتان 4 و 5 من سورة الأحزاب.(1/391)
فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} (1) . الآية.
والذي كان -صلى الله عليه وسلم- يخفيه، هو كراهيته لزواجها؛ خوفاً من قالة الناس أنه تزوج زوجة ابنه.
قال ابن حجر: " والحاصل: أن الذي كان يخفيه هو إخبار الله إياه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس: تزوج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان الجاهلية عليه، من أحكام التبني، بأمر لا أبلغ في الإبطال منه، وهو تزوج امرأة الذي يدعي ابناً {له} ، ووقوع ذلك من إمام المسلمين؛ ليكون أدعى لقبولهم.
وإنما وقع الخبط في تأويل متعلق الخشية، والله أعلم " (2) .
يشير إلى ما ذكره بعض المفسرين من أقوال باطلة، وقصص موضوعة مكذوبة.
قوله: "قال أنس: لو كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كاتماً شيئاً لكتم هذه".
أي: لو قدر على سبيل الفرض الممتنع شرعاً كتم شيء من الوحي، لكان في هذه الآية، ولكنه غير واقع بل ممتنع شرعاً.
وهذه الآية من أعظم الأدلة لمن تأملها على صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فالله - تعالى - يخبر عما وقع في نفسه من خشية الناس، فبلغه كما قال الله -تعالى- مع ما تضمنه من لومه، بخلاف حال الكذاب، فإنه يتجنب كل ما يمكن أن يكون فيه عليه غضاضة، ومثل ذلك قوله -تعالى-: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} إلى آخر الآيات ونظائرها في القرآن.
وقوله: " فكانت زينب تفخر على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ".
_________
(1) الآية 37 من سورة الأحزاب.
(2) "الفتح" (8/524) .(1/392)
الفخر: هو ذكر المحاسن، وعدها، مباهاة بها غيره.
قال الجوهري: " الفخر: الافتخار، وعد القديم" (1) .
فزينب - رضي الله عنها - تعتد بأن زواجها برسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان بأمر الله له بذلك، وأنه من أعظم فضائلها، وأنه لا يساويها في ذلك من أزواجه أحد.
قوله: " تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله - تعالى - من فوق سبع سماوات".
هذا القدر من الحديث هو محل الشاهد، وهو ثبوت علو الله -تعالى- وتقرره لدى المؤمنين، فهو أمر مسلم به بين عموم المسلمين، بل بين عموم الخلق إلا من غيرت فطرته، لهو من الصفات المعلومة بالسمع، والعقل، والفطرة، عند كل من لم تنحرف فطرته.
وأما الاستواء على العرش فهو من الصفات المعلومة بالسمع، لا بالعقل، كما نبه على ذلك شيخ الإسلام (2) ، وغيره من الأئمة.
ومعنى قولها: " وزوجني الله" أي: أمر رسوله بأن يتزوجها بقوله -تعالى-: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا} وتولى -تعالى- عقد زواجها عليه.
وقوله في الرواية الأخرى: " نزلت آية الحجاب في زينب بنت جحش".
آية الحجاب هي قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} إلى آخر الآية. (3)
قوله: " وأطعم عليها يومئذ خبزاً ولحماً".
أي: صنع وليمة لزواجه بها، من
_________
(1) "الصحاح" (2/779) .
(2) انظر: " مجموع الفتاوى" (5/227) .
(3) الآية 53 من سورة الأحزاب.(1/393)
الخبز، واللحم، وهذا النوع من الطعام هو أعلى ما يمكن في زمنه -صلى الله عليه وسلم-.
قوله: " تقول: إن الله أنكحني في السماء".
هو كقولها السابق: " وزوجني الله من فوق سبع سماوات "، وكثير ما تأتي "في" بمعنى "على" أي: إن زواجي صدر من الله -تعالى- حيث أمر رسوله به، وتولى عقد نكاحها عليه، والله في السماء.
فإما أن تكون "في" بمعنى على، أو يراد بالسماء العلو، وكلاهما صحيح مستقيم جاءت به النصوص، قال -تعالى-: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا} (1) وقال -تعالى-: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء} (2) .
ولما كان مستقراً في نفوس المخاطبين أن الله -تعالى- هو العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء، كان المفهوم من قوله: " أنه في السماء" أنه في العلو، وأنه فوق كل شيء ولهذا قالت: " من فوق سبع سماوات ".
وكذلك الجارية، لما قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم-: " أين الله؟ قالت: في السماء" (3) إنما أرادت: العلو، وإذا قيل: العلو، فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به، إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله -تعالى-.
وكذلك إذا قيل: العرش في السماء، فإنه لا يقتضي أن يكون العرش في شيء آخر موجود مخلوق، وإن قدر أن السماء المراد بها الأفلاك، وكان المراد أنه عليها، كما قال: {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ} (4) ، وقال: {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (5) ، وقال: {فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ} (6) ، ويقال: فلان في الجبل، وفي
_________
(1) جزء من الآية 15 من سورة الحج.
(2) رواه مسلم وغيره.
(3) رواه مسلم وغيره.
(4) الآية 2 من سورة براءة.
(5) جزء من الآية 71 من سورة طه.
(6) الآية 137 من سورة آل عمران.(1/394)
السطح، وإن كان على أعلى شيء منه، فإن حرف "في" يتعلق بما قبله، وبما بعده، فيكون بحسب المضاف إليه.
ولهذا يفرق بين كون الشيء في المكان، وكون الماء في الإناء، وكون الوجه في المرآة، وكون الكلام في الكتاب، وكون العرش والجنة في السماء، فإن لكل نوع من هذه خاصة يتميز بها عن غيره.(1/395)
50-قال: " حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد؛ عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن الله لما قضى الخلق، كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي".
قوله: " قضى الله الخلق" قضي: يأتي بمعنى حكم، وأمر، وقدر، وفرغ، وأمضى، وأتقن، ومعناها هنا: فرغ من خلق المخلوقات، فهو نحو قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أو فرغ من تقدير الخلق، ويدل لذلك الرواية الآتية في آخر الكتاب " قبل أن يخلق الخلق".
وتقدم هذا الحديث في باب قول الله،: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} وقد غاير بين سنده هنا وهناك، وفي متنه بعض الاختلاف، ففي الرواية المتقدمة " لما خلق الله الخلق " وهنا " إن الله لما قضى الخلق"، وهناك "كتب في كتابه وهو يكتب على نفسه، وهو وضع عنده على العرش، وهنا "كتب عنده، فوق عرشه" وهناك " إن رحمتي تغلب غضبي"، وهنا "سبقت غضبي".
وقد مضى شرحه، والمقصود هنا، قوله: " عنده، فوق عرشه، " هذان ظرفان مختصان بالمكان، وقد أضيفا إلى الله -تعالى-، فلا بد أن هذه الإضافة تقتضي تخصيصاً للعرش على غيره من السماوات والأرض.
"فإضافة العرش إلى الله إضافة مخصوصة، وقد قال -تعالى-: {عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (1) ، فإذا كان العرش مضافاً إلى الله في هذه الآية ونحوها إضافة اختصاص، فذلك يوجب أن يكون بينه وبين الله -تعالى- من النسبة ما ليس لغيره، فما يذكره الجهمية من الاستيلاء، والقدرة، وغير ذلك، أمر مشترك بين العرش، وسائر المخلوقات" (2) .
وما في هذا من قوله: " عنده فوق عرشه"، والآيات نحو {ذُو الْعَرْشِ} ، و {عَرْشَ رَبِّكَ} ينفي أن يكون الثابت من الإضافة هو القدر المشترك بين سائر
_________
(1) الآية 17 من سورة الحاقة.
(2) "نقض التأسيس" (1/570-577) .(1/396)
المخلوقات، كما تقوله الجهمية وأتباعهم، ويوجب اختصاصاً للعرش بالله ليس لغيره من سائر
339
المخلوقات، وقد علم المسلمون أنه استوى على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، كما أخبرهم ربهم بذلك، ونبيهم -صلى الله عليه وسلم-.
وما نقله الحافظ عن الخطابي أن معنى "فوق العرش" أي: " عنده علم ذلك فهو لا ينساه، ولا يبدله" هو من تخبطات أهل التأويل، ويقال له: وهل علم الله يختص بهذا الكتاب، فهو الذي لا ينساه، ولا يبدله، وأما سائر الكون فليس عنده علمه أو ينساه ويبدله؟ إن الأجدى بالخطابي ومن يشتغل بالحديث أن يتبع كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يحمله على المذاهب الباطلة، بل يجب أن يصونه عن مثل هذه التحريفات الباردة. والحق أن قوله: "عنده فوق عرشه" على ظاهره، وأن كل تأويل له عن ظاهره، تبديل للمعنى الذي أراده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونحن نؤمن إيماناً يقيناً قاطعاً - وكل المؤمنين- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أحرص على عقيدة المسلمين، وعلى تنزيه الله -تعالى- من هؤلاء المحرفين لكلامه، وهو كذلك أقدر على البيان والإيضاح منهم، وهو كذلك أعلم بالله، وما يجب له وما يمتنع عليه من هؤلاء المتخبطين.
فهذا كتاب خاص، وضعه عنده فوق عرشه، مثبتاً فيه ما ذكر؛ لزيادة الاهتمام به، ولا ينافي ذلك أن يكون مكتوباً أيضاً في اللوح المحفوظ.
وهو كتاب حقيقة، كتبه -تعالى- كما ذكر لنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- حقيقة، وهو عند الله حقيقة، فوق عرشه حقيقة، والمقصود أن الله، -تعالى- مستو على عرشه على الحقيقة، وعرشه فوق مخلوقاته كلها عالٍ عليها.(1/397)
51-قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثني محمد بن فليح، قال: حدثني أبي، حدثني هلال، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها " قالوا: يا رسول الله، أفلا ننبئ الناس بذلك؟ قال: إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله، فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة".
قوله: " من آمن بالله ورسوله " هذا هو الأساس الذي يبنى عليه العمل، فلا بد من الإيمان بالله ورسوله أولاً قبل العمل، فكل عمل مشروط لصحته أن يكون العامل مؤمناً، قال الله -تعالى-: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة} (1) .
وقال -تعالى-: {فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه} (2) .
وقد ذكر الله -تعالى- عن رسله الذين أرسلهم إلى الناس أنهم دعوهم إلى الإيمان بالله، وعبادته وحده، وهو معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: " أمرت أن أقاتل
_________
(1) الآية 40 من سورة غافر.
(2) الآية 94 من سورة الأنبياء.(1/398)
الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله " كما سبق، وتقدم حديث معاذ، حين بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن، وقال له: " فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله " الخ.
والإيمان بالله -تعالى- يدخل فيه الإيمان بأنه المالك لكل شيء، المتصرف كيف يشاء، وأنه الإله الحق، الذي يجب أن يعبد وحده، لا شريك له في ذلك، لا ملك ولا نبي، ولا أحد من الخلق مهما علت منزلته، وحسنت عبادته.
ويدخل فيه الإيمان بأسماء الله الحسنى، وصفاته العليا، وأن يثبت له ما أثبته لنفسه، وأثبت له رسله، من غير تحريف ولا تمثيل، ولا تكييف ولا تعطيل، بل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
قوله: " وأقام الصلاة" إقامة الصلاة: الإتيان بها على وفق أمر الله -تعالى- وأمر رسوله، كاملة في أفضل أوقاتها.
قوله: " وصام رمضان" الصيام في اللغة: هو الإمساك، وفي الشرع: إمساك مخصوص، عن أشياء مخصوصة، من طلوع الفجر، إلى غروب الشمس، تعبداً لله تعالى.
قال الحافظ: وسقط ذكر الحج، على أحد الرواة؛ لأنه قد جاء ذكره في الترمذي، والحديث لم يذكر لبيان الأركان، فيجوز أنه اقتصر على ذكر البعض، لأنه هو المتكرر غالباً، وأما الزكاة فلا تجب إلا على من له مال، بشرطه، والحج لا يجب إلا مرة على التراخي" (1) .
والمقصود من الحديث: أن من حصل له الإيمان بالله، وما يلزم له، من إيمان برسله، وملائكته، وكتبه، واليوم الآخر، وبقضاء الله وقدره، مع التزام ما شرعه الله لعباده من الأمر، والنهي، وجاهد في سبيل الله، مع ما ذكر، استحق دخول الجنة على الله، ولا بد أن يوفي الله -تعالى- بذلك.
_________
(1) "الفتح" (6/12) .(1/399)
قوله: " كان حقاً على الله أن يدخله الجنة" قد تقدم الكلام على حق العباد على الله، في حديث معاذ، في الباب الأول، وهو حق أحقه الله -تعالى- على نفسه كما قال -تعالى-: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} (1) .
قال الحافظ: " ليس معنى ذلك، أنه لازم له، لأنه لا آمر له، ولا ناهي يوجب عليه، ويلزمه المطالبة به، وإنما معناه إنجاز ما وعد به من الثواب، وهو لا يخلف الميعاد" (2) .
قلت: لا يلزم من كونه حقاً واجباً، أن يكون له آمر وناه يوجب عليه ذلك، بل هو -تعالى- الذي أوجبه على نفسه، فلا بد من وقوعه، كما أخبر -تعالى-.
قوله: " هاجر في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها" الهجرة في اللغة هي: الترك، والمفارقة. والمقصود بها هنا: الانتقال من بلد الشرك والكفر إلى بلد الإسلام، وهي واجبة على المسلم إذا خاف الفتنة في دينه، أو منع من ممارسة شعائر دينه، وإعلانه ظاهراً.
وتكون الهجرة بالنية والقصد، وتكون باللسان، وبالبدن.
قال الراغب: " الهجر، والهجران: مفارقة الإنسان غيره، إما بالبدن، أو باللسان، أو بالقلب، قال -تعالى-: {واهجروهن في المضاجع} (3) كناية عن عدم قربهن.
وقال تعالى: {إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً} (4) ، فهذا هجر بالقلب واللسان.
وقوله: {واهجرهم هجراً جميلاً} (5) يحتمل الثلاثة، وقوله: {والرجز
_________
(1) الآية 54 من سورة الأنعام.
(2) "الفتح" (13/413) .
(3) الآية 34 من سورة النساء.
(4) الآية 30 من سورة الفرقان.
(5) الآية 10 من سورة المزمل.(1/400)
فاهجر} (1) ، حث على المفارقة بالوجوه كلها.
والمهاجرة في الأصل: مصارمة الغير، ومتاركته، من قوله عز وجل: {والذين هاجروا وجاهدوا} (2) ، وقوله: {للفقراء والمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم} (3) ، وقوله: {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله} (4) ، وقوله: {فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله} (5) ، فالظاهر منه: الخروج من دار الكفر، إلى دار الإيمان، كمن هاجر من مكة إلى المدينة" (6) .
ويدخل في ذلك هجران المعاصي، والشهوات، والأخلاق الذميمة، وجميع المعاصي ورفضها واجتنابها.
قال ابن القيم: " وللعبد في كل وقت هجرتان: هجرة إلى الله بالطلب، والمحبة، والعبودية، والتوكل، والإنابة، والتسليم والتفويض، والخوف والرجاء، وصدق اللجاء. وهجرة إلى رسوله –صلى الله عليه وسلم- في حركاته وسكناته، الظاهرة، والباطنة، بحيث تكون موافقة لشرعه الذي هو تفضيل محاب الله، ومرضاته، ولا يقبل الله من أحد ديناً سواه" (7) .
وسبيل الله: طاعته، واتباع أمره، واجتناب نهيه، واتباع رسوله – صلى الله عليه وسلم-.
_________
(1) الآية 4 من سورة المدثر.
(2) الآية 218 من سورة البقرة.
(3) الآية 8 من سورة الحشر.
(4) الآية 100 من سورة النساء.
(5) الآية 89 من سورة النساء.
(6) "المفردات" (536-537) .
(7) "طريق الهجرتين" (ص7) .(1/401)
قوله: " أو جلس في أرضه التي ولد فيها" وفي رواية: " في بيته".
والمعنى: أنه بقي في بلده يعبد ربه، ولا يشرك به شيئاً، ولم يهاجر إلى المدينة النبوية، وذلك أن الهجرة كانت فرضاً على كل قادر، فلما فتحت مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وأصبحت جزيرة العرب كلها دار إسلام، إلا القليل، نسخت الهجرة لأجل ذلك، ولكن حكمها باق إلى يوم القيامة.
قال الحافظ: " فيه تأنيس لمن حرم الجهاد، وأنه ليس محروماً من الجر، بل له من الإيمان والتزام الفرائض ما يوصله إلى الجنة، وإن قصر عن درجة المجاهدين" (1) .
قوله: " فقالوا: يا رسول الله، أفلا ننبئ الناس بذلك؟ " رأوا أن هذا فيه بشارة للمسلمين، وتسهيل عظيم عليهم، في عدم لزوم الهجرة، فإن ترك الوطن، والأهل والأقارب، والمألوفات، كل ذلك يشق على النفس، ولا يقوى عليه كل أحد.
قال الحافظ: " الذي خاطبه بذلك هو معاذ بن جبل – كما في رواية الترمذي- أو أبو الدرداء، كما وقع عند الطبراني، وأصله في النسائي، لكن فيه: فقلنا" (2) .
قوله: " إن في الجنة مائة درجة " جاء في رواية الترمذي، عن معاذ، " قلت: يا رسول الله، ألا أخبر الناس؟ قال: " ذر الناس يعملون، فإن في الجنة مائة درجة" (3) .
فظهر أن المراد: لا تبشر الناس بما ذكر من دخول الجنة، لمن آمن وعمل الأعمال المفروضة عليه، فيقفوا عند ذلك، ولا يتجاوزوه إلى ما هو أفضل منه من الدرجات التي تحصل بالجهاد، وهذه هي النكتة في قوله: " أعدها الله
_________
(1) "الفتح" (6/12) .
(2) "الفتح" (6/12) .
(3) انظر "السنن للترمذي" (4/82) .(1/402)
للمجاهدين"، وفي هذا تعقب على بعض شراح المصابيح، في قوله: " سوى النبي –صلى الله عليه وسلم- بين الجهاد في سبيل الله، وبين عدمه، وهو الجلوس في الأرض التي ولد فيها؛ لأن التسوية ليست على عمومها، وإنما هي في أصل دخول الجنة، لا في تفاوت الدرجات " (1) .
وهذه الدرجات للمجاهدين في سبيل الله خاصة، ولا ينفي هذا وجود درجات أخر لغير المجاهدين في الجنة، كما جاء في "سنن أبي داود" و"الترمذي" و"صححه": يقال لصاحب القرآن: " اقرأ وارتق، ورتل، كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها" (2) وعدد آيات القرآن ست وثلاثون ومائتان وستة آلاف، على اختلاف في ذلك.
ولهذا قال: " أعدها الله للمجاهدين في سبيله، قال ابن القيم: " يجوز أن تكون هذه المائة من جملة الدرج، ويجوز أن تكون نهايتها هذه المائة " (3) ، ورجح الأول.
"الجهاد: استفراغ الوسع في مدافعة العدو. وهو ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس" (4) ، وتدخل كلها في الجهاد في سبيل
الله، ويشملها قوله -تعالى-: {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم} (5) ونحوها من الآيات.
_________
(1) "الفتح" (6/12) .
(2) انظر " سنن أبي داود" (2/153) ، و "الترمذي" (4/248) ، "فضائل القرآن " (رقم 2915) .
(3) "حادي الأرواح" (ص6) .
(4) "المفردات" (ص101) .
(5) الآية 218 من سورة البقرة.(1/403)
وقال الحافظ: " الجهاد بكسر الجيم: أصله لغة: المشقة، يقال: جهدت جهاداً، بلغت المشقة، وشرعاً: بذل الجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضاً على مجاهدة النفس والشيطان والفساق".
فأما مجاهدة النفس، على تعلم أمور الدين، ثم على العمل بها، ثم تعليمها.
وأما مجاهدة الشيطان، فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات، وما يزينه من الشهوات.
وأما مجاهدة الكفار، فتقع باليد، والمال، واللسان، والقلب.
وأما مجاهدة الفساق: فباليد، ثم اللسان، ثم القلب" (1) .
قوله: " كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض " المقصود بالدرجة: المنزلة المعدة لمن يستحقها من أهل الإيمان، والعمل، ودرجات الجنة كثيرة، كما تقدمت الإشارة إليه، ولا شك أن كل درجة تختلف عن التي دونها بما فيها من أنواع النعيم والحسن.
وهذا التفاوت العظيم في الدرجات لتفاوت أعمال العاملين في الإيمان، والمقاصد، والخشية، والإخلاص، والمحبة، والإنابة، والجد، وكثرة العمل، وغير ذلك.
قال الحافظ: " عند الترمذي: ما بين كل درجتين مائة عام، وللطبراني: خمسمائة عام، فإن كانتا محفوظتين، كان اختلاف العدد بالنسبة إلى اختلاف السير، وفي رواية للترمذي: لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم" (2) .
وقال ابن القيم: لا تناقض بين تقدير ما بين الدرجتين، لاختلاف السير في السرعة، والبطء، والنبي –صلى الله عليه وسلم- ذكر هذا تقريباً للأفهام" (3) .
_________
(1) "الفتح" ج6 فاتحته.
(2) المصدر نفسه (ص12-13) .
(3) "حادي الأرواح" (ص61) .(1/404)
قوله: " فإذا سألتم الله، فسلوه الفردوس"، الفردوس: اسم يطلق على جميع الجنة، ويطلق على أفضلها وأعلاها، كأنه أحق بهذا الاسم من غيره من الجنات.
قال -تعالى-: {أولئك هم الوارثون (10) الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} (1) .
وقال -تعالى-: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً} (2) .
وأصل الفردوس: البستان، والفراديس: البساتين، قال الليث: الفردوس: الجنة ذات الكروم، يقال: كرم مفردس، أي معرش.
وقال الضحاك: هي الجنة الملتفة بالأشجار، واختاره المبرد، وقال: الفردوس فيما سمعت من كلام العرب: الشجر الملتف، والأغلب عليه العنب.
وقال مجاهد: هو البستان بالرومية واختاره الزجاج، وقال: حقيقته: البستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين" (3) .
وفي "اللسان": " الفردوس: البستان؛ قال الفراء: هي عربي، قال ابن سيده: الفردوس: الوادي الخصيب عند العرب، وهو بلسان الروم: البستان" (4) ، وذكر نحو ما تقدم.
قوله: " فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة" قال الحافظ: " المراد بالأوسط
_________
(1) الآيتان 10 و 11 من سورة المؤمنون.
(2) الآية 107 من سورة الكهف.
(3) "حادي الأرواح" (ص74-75) .
(4) "لسان العرب" (2/1069) .(1/405)
هنا: الأعدل والأفضل، كقوله -تعالى-: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} (1) ، فعلى هذا فعطف الأعلى عليه للتأكيد.
وقال الطيبي: المراد بأحدهما: العلو الحسي، وبالآخر: العلو المعنوي.
وقال ابن حبان: المراد بالأوسط: السعة، وبالأعلى: الفوقية " (2) .
قلت: الظاهر أن المراد أن الفردوس، هو وسط الجنة، وهو أعلاها، على ظاهر النص، يعني: أن الجنان الأخرى عن جوانبه، ومن تحته، وهو أعلاها، ويدل على
ذلك قوله: " وفوقه عرش الرحمن " فليس فوق الفردوس إلا عرش الرحمن - جل وعلا-، كما يدل عليه أيضاً قوله: " ومنه تفجر أنهار الجنة "؛ لأن الأنهار عادة تنبع من الأعلى، والله أعلم.
قوله: " وفوقه عرش الرحمن " هذه الجملة هي المقصود من سياق الحديث؛ لأنه يدل على أن أعلى مخلوق هو العرش، وليس فوق العرش مخلوق، ولكن الرحمن - جل وعلا- فوقه.
قال ابن خزيمة: " فالخبر يصرح أن عرش ربنا - جل وعلا - فوق جنته، وقد أعلمنا - عز وجل - أنه مستوٍ على عرشه، فخالقنا عالٍ فوق عرشه، الذي هو فوق جنته" (3)
وذكر بسنده، عن عبد الله بن مسعود: " قال: ما بين كل سماء إلى الأخرى مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي إلى الماء مسيرة خمسمائة عام، والعرش على الماء، والله على العرش، ويعلم أعمالكم" (4) .
_________
(1) الآية 143 من سورة البقرة.
(2) "الفتح" (6/13) .
(3) كتاب " التوحيد" (ص104) .
(4) كتاب " التوحيد" (ص105) .(1/406)
وذكر له طرقاً عدة، وهو صحيح، ورواه البيهقي عن أبي ذر مرفوعاً، قريباً من لفظه. (1)
وعلو الله -تعالى- واستواؤه على عرشه، مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين ومن تبعهم، ولم يخالف فيه إلا من هو منهم على الإسلام، أو مغرور بالتقليد لمن يحسن به الظن.
" وأول من ابتدع بأن الله -تعالى- ليس فوق العرش في الإسلام هو الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، وشيعتهما، وهم عند أئمة المسلمين من شرار أهل الأهواء، وقد أطلق السلف من القول بتكفيرهم ما لم يطلقوه على أحد، وقالوا: نحكي كلام اليهود، والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، كما
قال عبد الله بن المبارك، وقالوا: اتفق المسلمون، واليهود، والنصارى، على أن الله -تعالى- فوق العرش، وقالت الجهمية: ليس الله فوق العرش" (2) .
_________
(1) انظر: " الأسماء والصفات" (ص401) .
(2) "نقض التأسيس" (1/127) .(1/407)
52-قال: " حدثنا يحيى بن جعفر، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم - هو التيمي - عن أبيه، عن أبي ذر، قال: " دخلت المسجد، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس؛ فلما غربت الشمس قال: يا أبا ذر، هل تدري أين تذهب هذه؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب تستأذن في السجود، فيؤذن لها، وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، ثم قرأ: (ذلك مستقر لها) في قراءة عبد الله".
قوله: " أتدري أين تذهب هذه؟ " هذا الأسلوب من التعليم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعمله مع أصحابه، وهو من الأساليب التي ترسخ المعلومات في الذهن؛ لأن المسئول يبقى بعده يتطلع إلى الجواب بإقبال ولهف، فإذا ورد عليه الجواب وهو بهذه الحال، ثبت في قلبه، ورسخ لديه، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.
قوله: " ذلك مستقر لها" هذا تفسير لقوله -تعالى-: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (1) ، قال ابن كثير: " فيه قولان: أحدهما: أن المراد: مستقرها المكاني، وهو تحت العرش مما يلي الأرض، من ذلك الجانب، وهي أينما كانت فهي تحت العرش، هي وجميع المخلوقات؛ لأنه سقفها، وليس بكرة، كما يزعمه كثير من أرباب الهيئة، وإنما هو قبة ذات قوائم، تحمله الملائكة، وهو فوق العالم، مما يلي رؤوس الناس، فالشمس إذا كانت في قبة الفلك، وقت الظهيرة، تكون أقرب ما تكون إلى العرش، فإذا استدارت في فلكها الرابع، إلى مقابلة هذا
_________
(1) الآية 38 من سورة يس.(1/408)
المقام، وهو وقت نصف الليل، صارت أبعد ما تكون من العرش، فحينئذ تسجد، وتستأذن في الطلوع، كما جاءت بذلك الأحاديث " ثم ذكر هذا الحديث بطرقه، ثم قال: " والقول الثاني: أن المراد بمستقرها" هو منتهى سيرها، وهو يوم القيامة، يبطل سيرها، وتسكن حركتها، وتكور، وينتهي هذا العالم إلى غايته، وهذا مستقرها الزماني" (1) .
قوله: " تستأذن في السجود، فيؤذن لها" أي: تطلب من الله الإذن في مواصلة سيرها في حالة سجودها، فيأذن الله -تعالى- لها إلى الوقت الذي تستأذن، ثم لا يؤذن لها، فتبقي في مكانها، ثم يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فينعكس سيرها، حيث تطلع على الناس من المغرب، ولا بد أن تطلع على كل الناس من مغربها، وعند ذلك يؤمنون، ولكن لا ينفعهم إيمانهم، كما أخبر الله -تعالى- بذلك، وهذا إيذان بانقضاء هذه الدار.
قال الكرماني: " القراءة المشهورة المتواترة هي: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} وقراءة عبد الله بن مسعود: ذلك مستقرها" (2) .
هكذا قال، والذي في "البخاري": مستقر لها، ولم يقرأ بها أحد من القراء.
قال ابن كثير: " قرأ ابن مسعود، وابن عباس: (والشمس تجري لا مستقر لها) أي: لا قرار لها، ولا سكون، بل هي سائرة ليلاً ونهاراً، لا تفتر، ولا تقف" (3) .
فعلى هذا يكون لابن مسعود فيها قراءتان، وافقه ابن عباس على إحداهما، وهما شاذتان.
وقد ذكر البخاري - رحمه الله - هذا الحديث في بدء الخلق، وفيه " فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش".
_________
(1) "تفسير ابن كثير" (6/562-563) .
(2) الكرماني (25/633) .
(3) "تفسير ابن كثير " (6/563) .(1/409)
وسيأتي في آخر الباب بعد هذا، وفيه، " قال: مستقرها تحت العرش"، وذكر أيضاً هذين اللفظين في تفسير سورة يس، وبذلك تظهر مناسبة الحديث للباب، فذكره لأجل ما فيه من قوله: " تذهب حتى تسجد تحت العرش"، وقوله: " مستقرها تحت العرش" في غير هذه الرواية هنا.
قال الحافظ: " وأخرجه النسائي بلفظ: " تذهب حتى تنتهي تحت العرش، عند ربها" (1) ، وهو واضح في أن سجودها في أرفع ما تكون، وأقرب ما تكون إلى العرش، ومعلوم أنها دائماً تحت العرش، ولكن سجودها في مكان معين من
مسيرها، وهو دليل واضح على العرش، وارتفاعه العظيم، وهذا هو مراد البخاري - رحمه الله - من الحديث، ومعلوم أن الله -تعالى- فوق العرش كما سبق.
قال الحافظ: " قوله: تحت العرش" قيل: معناه: هي حين محاذاتها، ولا يخالف هذا قوله تعالى: {وجدها تغرب في عين حمئة} (2) ، فإن المراد بها: نهاية مدرك البصر إليها حال الغروب، وسجودها تحت العرش إنما هو بعد الغروب".
قال: " وفي الحديث رد على من زعم أن المراد بمستقرها: غاية ما تنتهي إليه في الارتفاع، وذلك أطول يوم في السنة ".
وقيل: مستقرها: منتهى أمرها، عند انتهاء الدنيا.
وقال الخطابي: يحتمل أن يكون المراد باستقرارها تحت العرش: أنها تستقر تحته استقراراً لا نحيط به نحن، وليس في سجودها كل ليلة تحت العرش ما يعيق سيرها ودورانها فيه.
قلت: وظاهر الحديث أن المراد بالاستقرار: وقوعه في كل ليلة ويوم عند سجودها، ومقابل الاستقرار: المسير المعبر عنه بالجري " انتهى (3) .
_________
(1) "الفتح" (8/541) .
(2) الآية 86 من سورة الكهف.
(3) "الفتح" ملخصاً (8/542) .(1/410)
وقال أيضاً: " وظاهر الحديث: أن الشمس هي التي تسير، وتجري.
وقال ابن العربي: أنكر قوم سجودها، وهو صحيح ممكن، وتأوله قوم على ما هي عليه من التسخير الدائم، ولا مانع من أن تخرج عن مجراها، فتسجد ثم ترجع.
قلت: إن أراد بالخروج: الوقوف، فواضح، وإلا فلا دليل على الخروج" اهـ. (1)
قلت: وكونها تسجد تحت العرش لا يقتضي مفارقتها لفلكها وانتظامها في مسيرها بالنسبة للأرض، فهي دائمة الطلوع على جزء من الأرض، والأوقات بالنسبة إلى أهل الأرض تختلف بمقدار سيرها.
ومعلوم أن تعاقب الليل والنهار واختلافهما يترتب على مسيرها، فربما يقول قائل: أين سجودها تحت العرش؟ ومتى يكون؟ وسيرها مستمر، وبعدها عن الأرض لا يختلف في وقت من الأوقات كما أن سيرها لا يتغير، كما هو مشاهد.
والجواب: أنها تسجد كل ليلة تحت العرش، كما أخبر به الصادق المصدوق، وهي طالعة على جانب من الأرض، مع سيرها في فلكها، وهي دائماً تحت العرش، في الليل والنهار، بل وكل شيء من المخلوقات تحت العرش، لكنها في وقت من سيرها، وفي مكان معين، يصلح سجودها، الذي لا يدركه الخلق، ولكن علم بالوحي، وهو سجود يناسبها على ظاهر النص.
أما التسخير: فهي لا تنفك عنه أبداً. والله أعلم.
قال شيخ الإسلام: " فإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر أنها تسجد كل ليلة تحت العرش، فقد علم اختلاف حالها بالليل والنهار، مع كون سيرها
_________
(1) "الفتح" (6/299) .(1/411)
في فلكها من جنس واحد، وأن كونها تحت العرش لا يختلف في نفسه، وإنما ذلك اختلاف بالنسبة والإضافة، علم أن تنوع النسب والإضافة لا يقدح فيما هو ثبات في نفسه لا مختلف" (1) .
يعني: أن اختلاف السير يكون بالنسبة لمن في الأرض، فهي تطلع على جانب منها وتغرب عن جانب آخر، مع أن سيرها في فلكها ليس فيه هذا الاختلاف، فلا يختلف سجودها باختلاف الليل والنهار؛ لأن هذا الاختلاف يكون بالنسبة إلى من في الأرض، وبالإضافة إليهم، أما هي فسجودها في مكان معين من سيرها، وفي وقت معين لا يختلف.
ثم قال -رحمه الله -: " ومن هنا يظهر الجواب عما ذكره ابن حزم، وغيره في حديث النزول (2) ، حيث قالوا: قد ثبت أن الليل يختلف بالنسبة إلى الناس، فيكون أوله ونصفه وثلثه بالمشرق قبل أوله، ونصفه وثلثه بالمغرب، قالوا: فلو كان
النزول هو النزول المعروف، للزم أن ينزل في جميع أجزاء الليل، إذ لا يزال في الأرض ليل، قالوا: أو لا يزال نازلاً وصاعداً، وهو جمع بين الضدين.
وهذا إنما قالوه لتخيلهم من نزوله -تعالى- ما يتخيلونه من نزول أحدهم، وهذا عين التمثيل، ثم إنهم بعد ذلك جعلوه كالواحد العاجز منهم، الذي لا يمكنه أن يجمع من الأفعال ما يعجز غيره عن جمعه.
وقد جاءت الأحاديث بأنه يحاسب خلقه يوم القيامة، كل منهم يراه مخلياً به، ويناجيه، لا يرى أنه متخلياً لغيره، ولا مخاطباً لغيره" (3) .
وسيأتي - إن شاء الله تعالى - إيضاح الرد على شبههم هذه وغيرها في
_________
(1) "بيان تلبيس الجهمية" (2/228) .
(2) سيأتي شرحه - إن شاء الله تعالى -، وهذا الكلام محله شرح حديث النزول، ولكن لشدة ارتباطاه بما ذكر في سير الشمس أحببت إثباته هنا.
(3) "بيان تلبيس الجهمية" (2/228) .(1/412)
شرح الحديث.
وفي "صحيح مسلم"، عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قول الله -تعالى-: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} قال: " مستقرها تحت العرش" (1) .
وهذا يعين المقصود بالمستقر، وأنه: الموضع الذي تسجد فيه لربها، وتستأذن بمواصلة سيرها، وأن هذا يكون كل ليلة بالنسبة إلينا، ويجوز أن يكون بالنهار بالنسبة لغيرنا كأمريكا مثلاً.
وقد روى مسلم هذا الحديث مبسوطاً مبيناً، حيث قال بعد ذكر السند: " عن أبي ذر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال يوماً: " أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك، حتى يقال لها: ارتفعي، ارجعي من حيث جئت، فترجع، فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، ولا تزال كذلك، حتى يقال لها: ارتفعي، ارجعي من حيث جئت، فترجع، فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئاً حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فيقال لها: ارتفعي، أصبحي طالعة من
مغربك، فتصبح طالعة من مغربها" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: " أتدرون متى ذاكم؟ ذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها، لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً" (2) .
وقد ذكر الله -تعالى- في كتابه أن الشمس والقمر يسجدان له تعالى فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (3) .
_________
(1) "صحيح مسلم" (1/39) .
(2) "صحيح مسلم" (1/138) ، وانظر: " شرح النووي" (2/195) .
(3) الآية 18 من سورة الحج.(1/413)
53-قال: " حدثنا موسى، عن إبراهيم، حدثنا ابن شهاب، عن عبيد بن السباق، أن زيد بن ثابت.
وقال الليث: حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن ابن السباق، أن زيد بن ثابت حدثه، قال: أرسل إلىَّ أبو بكر، فتتبعت القرآن، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} (1) حتى خاتمة براءة ".
زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان، النجاري، الأنصاري، أبو سعيد، ويقال: أبو خارجة، قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وهو ابن إحدى عشرة سنة.
وكان يكتب الوحي، قال الشعبي: غلب زيد الناس على اثنتين، الفرائض، والقرآن، وكان أحد أصحاب الفتوى من الصحابة.
وقال مسروق: " قدمت المدينة، فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم"، وفضائله كثيرة، توفي سنة 4، وقيل: 51، وقيل: 55، وقيل غير ذلك" (2) .
ومقصود البخاري - رحمه الله - من هذا الحديث: هو ذكر العرش في الآية الكريمة، حيث قال تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (3) .
_________
(1) الآية 128 من سورة براءة.
(2) "تهذيب التهذيب" (3/399) .
(3) آخر آية من سورة براءة.(1/414)
قال الإمام ابن جرير - رحمه الله تعالى -: " يقول - تعالى ذكره - فإن تولى، يا محمد، هؤلاء الذين جئتهم بالحق من عند ربك، من قومك، فأدبروا عنك، ولم يقبلوا ما أتيتهم به من النصيحة في الله، وما دعوتهم إليه من النور والهدى، فقل: {حَسْبِيَ اللهُ} يكفيني ربي {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} لا معبود سواه {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} وبه وثقت، وعلى عونه اتكلت، وإليه وإلى نصره استندت، فإنه ناصري، ومعيني، على من خالفني وتولى عني ومن غيركم من الناس، {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} الذي يملك ما دونه، والملوك كلهم مماليكه، وعبيده.
وإنما عنى بوصفه - جل ثناؤه - نفسه بأنه رب العرش العظيم: الخبر عن جميع ما دونه أنهم عبيده، وفي ملكه، وسلطانه؛ لأن العرش العظيم إنما يكون للملوك، فوصف نفسه بأنه ذو العرش، دون سائر خلقه، وأنه المالك العظيم، دون غيره، وأن من دونه في سلطانه، وملكه، جار عليه حكمه وقضاؤه" (1) .
وقال ابن كثير: " وهو رب العرش العظيم" أي: هو مالك كل شيء، وخالقه؛ لأن العرش العظيم، الذي هو سقف المخلوقات، وجميع الخلائق من السماوات والأرضيين وما فيهما وما بينهما، تحت العرش، مقهورون بقدرة الله -تعالى-، وعلمه محيط بكل شيء، وقدره نافذ في كل شيء، وهو على كل شيء وكيل" (2) .
وثبت عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - أن هذه الآية آخر ما نزل من القرآن (3) .
وقد تقدم أن تخصيصه -تعالى- العرش بأنه ربه، وإضافته إليه -تعالى- يدل على أمر زائد على ما في المخلوقات غيره من السماوات والأرض بأنه ربها.
_________
(1) "تفسير الطبري" (11/77-78) بتحقيق محمود شاكر.
(2) "تفسير ابن كثير" (4/179-180) ط الشعب.
(3) انظر: المصدرين السابقين.(1/415)
وكذلك وصفه إياه بأنه عظيم وكريم ومجيد، وهذه الأوصاف والإضافة لم تأت في غير العرش من المخلوقات؛ وهذا لأنه تعالى اختاره لقربه، واستوائه عليه.
قوله: " حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره" يعني: أنه ما وجدها مكتوبة، مثبتة بالكتابة، إلا عند أبي خزيمة.
وليس معنى ذلك أنه لم يحفظها إلا أبو خزيمة، فإن زيداً وأُبياً، وأبا بكر، وغيرهم من الصحابة، كانوا يحفظون القرآن كله، وهو يريد من كتبها عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بدون واسطة.
قال الحافظ: " قوله: لم أجدها مع أحد غيره" أي: مكتوبة؛ لما تقدم من أنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة.
ولا يلزم من عدم وجدانه إياها حينئذ أن لا تكون تواترت عند من لم يتلقها من النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما زيد كان يطلب التثبت عمن تلقاها بغير واسطة.
ولعلهم لما وجدها زيد عند أبي خزيمة تذكروها، كما تذكرها زيد، وفائدة التتبع: المبالغة في الاستظهار، والوقوف عند ما كتب بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-.
قال الخطابي: هذا مما يخفى معناه، ويوهم أنه كان يكتفي في إثبات الآية بخبر الشخص الواحد، وليس كذلك، فقد اجتمع في هذه الآية زيد بن ثابت، وأبو خزيمة، وعمر".
ثم علق الحافظ على كلام الخطابي بقوله:
"وكأنه ظن أن قولهم: لا يثبت القرآن بخبر الواحد، أي: الشخص الواحد، وليس كما ظن، بل المراد بخبر الواحد: خلاف التواتر، فلو بلغت رواة(1/416)
الخبر عدداً كثيراً، وفقد شيئاً من شروط المتواتر (1) ، لم يخرج عن كونه خبراً لواحد.
والحق أن المراد بالنفي: نفي وجودها مكتوبة، لا نفي كونها محفوظة" (2) .
ثم ذكر أحاديث تؤيد ما قال.
وقال في موضع آخر: " والذي يظهر أن الذي أشار إليه أنه فقده، فقد وجودها مكتوبة، لا فقد وجودها محفوظة، بل كانت محفوظة عنده، وعند غيره، ويدل على هذا قوله في حديث جمع القرآن: " فأخذت أتتبعه، من الرقاع والعسب" (3)
وقال أيضاً: " والأرجح أن الذي وجد معه آخر سورة التوبة أبو خزيمة - بالكنية- والذي وجد معه الآية من سورة الأحزاب خزيمة.
وأبو خزيمة، قيل: هو ابن أوس بن يزيد بن أحرم، مشهور بكنيته، دون اسمه، وقيل: هو الحارث بن خزيمة.
وأما خزيمة، فهو ابن ثابت ذو الشهادتين" (4)
_________
(1) من كون الناقلين عدداً كثيراً، يمتنع تواطؤهم على الكذب، من أول السند إلى نهايته.
(2) "فتح الباري" (9/15) .
(3) "الفتح" (8/518) .
(4) "الفتح" (9/15) .(1/417)
54- قال: " حدثنا معلى بن أسد، حدثنا وهيب عن سعيد، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يقول عند الكرب: " لا إله إلا الله العليم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات، ورب الأرض، ورب العرش الكريم ".
قوله: " يقول عند الكرب" الكرب - بفتح الكاف، وسكون الراء - قال الأزهري: "هو: الغم الذي يأخذ النفس، يقال: كربه الغم، وإنه لمكروب النفس، والكربة الاسم، والكريب: المكروب" (1) .
وقال الجوهري: " الكربة بالضم: الغم الذي يأخذ بالنفس، وكذلك الكرب، على مثال الضرب، تقول منه: كربه الغم، إذا اشتد عليه، والكرائب: الشدائد، الواحدة: كريبة" (2) .
قوله: " كان يقول عند الكرب" كان: تدل على كثرة وقوع ذلك منه -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن لفظة "كان" تدل على الاستمرار غالباً.
وقوله: " لا إله إلا الله " الإله هو: المعبود الذي تأله القلوب، وتذل له، وتحبه، وتعظمه، وتخافه، وترجوه، فالإله هو الذي يقصد بالخوف والرجاء، مع الذل والتعظيم، وكلما زاد الخوف والرجاء، والذل والتعظيم، صارت العبادة أكمل.
_________
(1) "تهذيب اللغة" (10/205) .
(2) "الصحاح" (1/211) .(1/418)
قال شيخ الإسلام: " الإله هو: الذي يؤله، فيعبد، محبة وإنابة، وإجلالاً وإكراماً" (1) .
فقوله: " لا إله إلا الله " أي: لا أتوجه بقلبي عابداً وخاضعاً، متذللاً، خائفاً، راجياً، إلا إلى الله وحده، فهو إلهي، ومعبودي، الذي يملك نفعي وضري، وبإخلاص التأله له كمال حياتي، وسعادتي، وفي عدم ذلك الشقاء والهلاك.
"فالعبد كلما كان أذل لله، وأعظم افتقاراً إليه، وخضوعاً له، كان أقرب إليه وأعز له، وأعظم لقدره عنده، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله تعالى، فأما المخلوق
فكما قيل: احتج لمن شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن لمن شئت تكن أميره.
فأعظم ما يكون العبد قدراً وحرمة عند الخلق: إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم ولو بشربة ماء نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته؛ ليكون الدين كله لله، لا يشرك به شيء.
والرب -تعالى- أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه، وأفقر ما تكون إليه، وهو -تعالى- يعلم ما يصلح عبده، ويقدر على ذلك، ويريده، رحمة منه وفضلاً، وذلك صفته من جهة نفسه، لا شيء آخر جعله مريداً، راحماً، بل رحمته من لوازم نفسه، فإنه كتب على نفسه الرحمة، ورحمته وسعت كل شيء" (2) .
قوله: " العليم الحليم" أي: هو تعالى العظيم بكل شيء، فيعلم حالي. وما نزل به، ويعلم أسبابه، وما يترتب عليه، لا يخفى عليه خافية، فعلمه محيط بكل شيء.
_________
(1) "مجموع الفتاوى" (1/22) .
(2) "مجموع الفتاوى" (1/39-40) .(1/419)
وهو -تعالى- حليم لا يعجل بالعقوبة لمن يستحقها، بل يعفو ويتجاوز، وحلمه عن علم وحكمة، فله -تعالى- الكمال المطلق قال -تعالى-: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً {42} سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا {43} تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (1) .
وكثيراً ما يأتي وصفه -تعالى- بالحلم مقروناً بالمغفرة، مما يدل على أن الحلم هو: عدم المعاجلة لمن استحق العقوبة، وأنه -تعالى- يحلم على عباده، ويغفر لهم جرائمهم، ولهذا أخبر -تعالى- أنه لو يؤاخذ الناس بظلمهم وما كسبت أيديهم ما ترك على ظهر الأرض من دابة، قال -تعالى-: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ} (2)
قوله: " لا إله إلا الله رب العرش العظيم " كرر التوسل بإلهيته تعالى، والتبري من كل ما سواه من مألوه، وهذا أعظم الوسائل إلى الله -تعالى-، وهو إخلاص العبادة والتوجه إلى الله بصدق، ورغبة، ورهبة.
ولهذا صار إخلاص التأله والدعاء لله وحده، مفزع جميع العقلاء من المؤمنين والكفار، في كل كرب وشدة، كما ذكر الله -تعالى- هذا المعنى عن السابقين من الكفار، وغيرهم من أهل الإيمان.
قال تعالى: {لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ {63} قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ
_________
(1) الآيات من 42- 44 من سورة الإسراء.
(2) الآية 61 من سورة النحل.(1/420)
كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} (1) ، وقال -تعالى- عن الطاغية الجبار: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2) ، وقال -تعالى-: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} (3) ، وقال -تعالى- عن نبيه يونس عليه السلام: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (4) ، وهذا كثير في القرآن، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك.
قوله: " لا إله إلا الله رب السماوات والأرض، ورب العرش الكريم" هذا تكرير للتوسل إلى الله -تعالى- بألوهيته، وربوبيته، فبدأ بما يدل على إخلاص التأله له -تعالى-، ثم توسل باسميه الكريمين: العليم والحليم، ثم بأنه رب العرش العظيم، ثم بأنه رب السماوات والأرض، ورب العرش الكريم.
فاشتمل هذا الدعاء العظيم على التوجه إلى الله -تعالى- بأنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات.
والربوبية نوعان: عامة، وخاصة، فهو -تعالى- رب كل شيء ومليكه، المتصرف فيه كيف يشاء، وهو القائم على كل مخلوق بما يصلحه، ويربيه، {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} ، وقد جمع النوعين في هذا الحديث، فتوسل بأنه رب
العرش العظيم الكريم، وبأنه رب السماوات والأرض، والرب هو: المالك المتصرف، القائم على كل مربوب بما يحتاجه من تربية في شؤون حياته كلها.
والمقصود من الحديث: قوله: " رب العرش العظيم" وقوله: " رب العرش
_________
(1) الآيتان 63 و 64 من سورة الأنعام.
(2) الآية 90 من سورة يونس.
(3) الآية 8 من سورة الزمر.
(4) الآية 87 من سورة الأنبياء.(1/421)
الكريم" وكلاهما وصف للعرش، وصف بأنه عظيم، وبأنه كريم، والعظمة تدل على الكبر، والسعة، والكرم يدل على الحسن، والجمال، والسعة أيضاً.
قال الكرماني: "وصف العرش بالعظمة، هو من جهة الكمية، وبالكرم، أي: الحسن من جهة الكيفية، فهو ممدوح ذاتاً وصفة، وخص بالذكر لأنه أعظم أجسام العالم، فيدخل الجميع تحته دخول الأدني تحت الأعلى، وذكر لفظ " الرب" من بين سائر الأسماء الحسنى؛ ليناسب كشف الكروب، الذي هو مقتضى التربية، ولفظ "الحليم"؛ لأن كرب المؤمن غالباً إنما هو على نوع تقصير أو غفلة في الطاعات" (1) .
وربوبيته -تعالى- للعرش، مع وصفه بأنه عظيم وكريم، تفيد تخصيصاً له عن غيره من السماوات والأرض، وذلك لأنه قد خصه بقربه، واستوائه -تعالى- عليه، ذكر شيخ الإسلام، عن أبي عمرو الطلمنكي – وهو من أئمة أهل السنة – أنه قال: " وأجمعوا – يعني أهل السنة والجماعة – على أن لله عرشاً، وعلى أنه مستوٍ على عرشه، وعلمه، وقدرته، وتدبيره بكل ما خلقه.
قال: فأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (2) ، ونحو ذلك في القرآن أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه، كيف شاء. قال: وقال أهل السنة في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) : الاستواء من الله -تعالى- على عرشه المجيد، على الحقيقة، لا على المجاز. واستدلوا بقول الله -تعالى-: {فإذا استويت أنت ومن معك على
_________
(1) "شرح الكرماني على البخاري" (21/149) .
(2) الآية 4 من سورة الحديد.
(3) الآية 5 من سورة طه.(1/422)
الفلك} (1) ،
وبقوله: {لتستوا على ظهوره} (2) ، وبقوله: {واستوت على الجودي} (3) ، إلا أن المتكلمين من أهل الإثبات في هذا على أقوال:
فقال مالك – رحمه الله تعالى -: إن الاستواء معقول، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
وقال عبد الله بن المبارك، ومن تابعه من أهل العلم، وهم كثير: إن معنى استوى على العرش: استقر. وهو قول القتيبي.
وقال غير هؤلاء: استوى، أي: ظهر.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: استوى بمعنى: علا.
وتقول العرب: استويت على ظهر الفرس، بمعنى: علوت عليه، واستويت على سقف البيت، بمعنى: علوت عليه.
ويقال: استويت على السطح، بمعناه.
فقوله تعالى: {استوى على العرش} بمعنى: علا على العرش.
وقول الحسن (4) ، وقول مالك، من أنبل جواب وقع في هذه المسألة، وأشده استيعاباً، لأن فيه نبذ التكييف، وإثبات الاستواء المعقول، وقد ائتم أهل العلم بقوله واستجودوه، واستحسنوه" (5) .
ثم تكلم على فساد قول من تأول استوى بمعنى استولى، وقد مضى ما يغني عن ذكره.
_________
(1) الآية 28 من سورة المؤمنون.
(2) الآية 13 من سورة الزخرف.
(3) الآية 44 من سورة هود.
(4) الحسن يقول: معنى استوى: ارتفع.
(5) إلى هنا ينتهي كلام الطلمنكي.(1/423)
ثم قال: " وقال الثعلبي: قال الكلبي، ومقاتل: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} يعني: استقر، قال: وقال أبو عبيدة: صعد.
وقيل: استولى، وقيل: ملك، واختار هو (1) ما حكاه عن الفراء وجماعة أن معناه: أقبل على خلق العرش، وعمد إلى خلقه، قال: ويدل عليه قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} (2) أي: عمد إلى خلق السماء.
وهذا من أضعف الوجوه (3) ، فإنه قد أخبر أن العرش كان على الماء قبل خلق السماوات، والأرض، وكما مر في حديث عمران: " كان الله، ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض ".
فإذا كان العرش مخلوقاً، قبل خلق السماوات والأرض، فكيف يكون معنى استوائه عليه، بعد خلق السماوات والأرض، هو عمده إلى خلقه، مع أنه لا يعرف في اللغة "استوى" بمعنى: عمد إلى فعل كذا، لا حقيقة، ولا مجازاً، لا في النثر، ولا في النظم.
ومن قال: استوى، بمعنى عمد، ذكره في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} (4) ؛ لأنه عدى بحرف الغاية، كما يقال: عمدت إلى كذا، وقصدت إلى كذا، ولا يقال: عمدت على كذا، ولا قصدت عليه، مع أن هذا أيضاً غير معروف في اللغة، ولا هو قول أحد من مفسري السلف، بل المفسرون من السلف بخلاف ذلك.
_________
(1) يعني الثعلبي، وهذه الأقوال منقولة من تفسيره، وهو يجمع فيه بين المتناقضات، وليس لديه تميز لمذهب السلف.
(2) الآية 11 من سورة حم فصلت.
(3) بل هو باطل مخالف للنصوص الواضحة، وقد تقدم بيان بطلانه. وهذا الذي اختاره الثعلبي هو قول الجهمية والمعتزلة، ومن تبعهم من الأشعرية وغيرهم من أهل البدع.
(4) الآية 11 من سورة حم فصلت.(1/424)
وإنما هذا القول وأمثاله ابتدع في الإسلام، لما ظهر إنكار أفعال الرب -تعالى- التي تقوم به، ويفعلها بقدرته، ومشيئته، واختياره، فصار كل يفسر القرآن على ما يوافق قوله، واعتقاده.
وأما السلف فأقوالهم في هذا الباب متفقة، وإن اختلفت عباراتهم، فمقصودهم واحد، وهو إثبات علو الله واستوائه على عرشه.
فإن قيل: إذا كان الله لا يزال عالياً على المخلوقات، فكيف يقال: ثم ارتفع إلى السماء وهي دخان؟ أو يقال: ثم علا على العرش؟
فالجواب: أن هذا كما أخبر أنه ينزل إلى السماء الدنيا ثم يصعد، وروي: " ثم يعرج" وكما أخبر أنه يجيء لفصل القضاء بين عباده، وهو سبحانه لم يزل فوق، فإن صعوده من جنس نزوله ومجيئه، وهو –تعالى- في نزوله ومجيئه، لا يصير شيء من المخلوقات فوقه، فهو سبحانه يصعد، وإن لم يكن منها شيء فوقه.
فإن قيل: فإذا كان إنما استوى على العرش بعد أن خلق السماوات والأرض في ستة أيام، فقبل ذلك: هل كان على العرش، أو لم يكن؟
قيل: الاستواء علو خاص، فكل مستوٍ على شيء عال عليه، وليس كل عال على شيء مستو عليه، ولهذا لا يقال لكل ما كان عالياً على غيره: إنه مستو عليه، ولكن كل ما قيل: إنه استوى على كذا، فهو عالٍ عليه.
والذي أخبر الله -تعالى- أنه كان – خلق السماوات والأرض – الاستواء، لا مطلق العلو، مع أنه يجوز أنه كان مستوياً عليه قبل خلق السماوات والأرض، لما كان عرشه على الماء، ثم لما خلق هذا العالم كان عالياً على العرش، ولم يكن مستوياً عليه، ثم استوى عليه بعد ذلك (1) . والأصل أن علوه على المخلوقات، وصف لازم له، كما أن عظمته وكبرياءه
_________
(1) أو يقال: إن الاستواء بعد خلق السماوات والأرض، استواء خاص غير الذي قبل ذلك.(1/425)
وقدرته كذلك، وأما الاستواء فهو فعل يفعله سبحانه بمشيئته وقدرته، ولهذا قال فيه: ثم استوى" (1) .
وقال ابن عبد البر: " وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء، وقولهم في تأويل استوى: استولى. فلا معنى له؛ لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة: المغالبة، والله لا يغالبه ولا يعلوه أحد، وهو الواحد الصمد.
ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا، إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله – عز وجل – إلى الأشهر والأظهر من وجوهه، ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم.
ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع، ما ثبت شيء من العبارات، وجل الله عن أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها، وهو العلو والارتفاع على الشيء، والاستقرار والتمكن فيه " (2) .
وقد تقدم ذكر بعض ما قاله السلف والأئمة في ذلك، في أول الباب، والجواب عما اعتمده أهل التأويل.
_________
(1) "مجموع الفتاوى" (5/519-523) ببعض التصرف.
(2) "التمهيد" (7/131) .(1/426)
55-قال: " حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال النبي: " يصعقون يوم القيامة فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش".
56-" وقال الماحشون: عن عبد الله بن الفضل، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: " فأكون أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش".
"الصعق: غشي يلحق من سمع صوتاً شديداً أو يرى شيئاً هائلاً مفزعاً" (1) .
وفي الأبي: " الصعق، والصعقة، والصاعقة، والهلاك، والموت، وقيل: كل عذاب مهلك، وهو أيضاً: الغشية تعتري من فزع لسماع صوت {مفزع، أو رأى مهولاً} (2) " وقد اختلف في هذا الصعق المذكور في هذا الحديث: أهو نفخة الصور للبعث، أو غيرها؟
فقيل: أنها نفخة البعث؛ لأن النفخة الأولى، لا يحس بها الأموات، وإنما هي لموت من كان حياً، وإنهاء الدنيا، وابتداء الآخرة.
ولكن يشكل على هذا قوله -صلى الله عليه وسلم-: " فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي، أو حوزي بصعقة الطور" ومعلوم أن موسى عليه السلام قد مات، فلا يجوز أن يكون المعنى: " فلا أدري: هل موسى مات، أم جوزي عن الموت بصعقة الطور".
وقد اختلف في النفخ في الصور: هل هو مرتان أو ثلاث؟
_________
(1) "الفتح" (6/444) .
(2) " شرح الأبي على مسلم" (6/167) .(1/427)
قال الإمام ابن جرير – رحمه الله – في قوله تعالى: {وله الملك يوم ينفخ في الصور} (1)
اختلف في الصور في هذا الموضع.
فقال بعضهم: هو قرن ينفخ فيه نفختان، إحداهما لفناء من كان حياً على الأرض، والثانية لنشر كل ميت، واعتلوا لقولهم ذلك، بقوله: {ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} (2)
وقال على قوله تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} (3) .
اختلف أهل التأويل في المعنى بقوله: {فإذا نفخ في الصور} من النفختين، أيهما عنى بها؟ فقال بعضهم: عنى بها النفخة الأولى.
ثم ذكر عن ابن عباس: قال: فذلك في النفخة الأولى، فلا يبقى على الأرض شيء. وروي ذلك أيضاً عن السدي.
ثم ذكر القول الثاني: أن المراد بذلك النفخة الثانية، وروي ذلك عن ابن مسعود وغيره" (4) وهذا الذي ذكره الطبري – رحمه الله – يدل على أن النفخ في الصور مرتين، الأولى لموت من كان حياً على وجه الأرض، والثانية لبعث الموتى. وعليه يكون الإشكال في الحديث ظاهراً، وسيأتي ذكر ألفاظ الحديث في "البخاري" و"مسلم".
_________
(1) الآية 73 من سورة الأنعام.
(2) الآية 68 من سورة الزمر.
(3) "تفسير الطبري" (11/462) بتحقيق محمود شاكر.
(4) "تفسير الطبري" (18/54) ط الحلبي.(1/428)
وقد أجاب القرطبي عن الإشكال بقوله: " المعنى: فلا أدري: أبعثه الله قبلي؟ تفضيلاً له، من هذا الوجه، كما فضل بالدنيا بالتكليم، أو كان جزاء له بصعقة الطور قدم بعثه على بعث الأنبياء، الآخرين، بقدر صعقته عندما تجلى ربه للجبل؟ " (1)
فعي هذا يكون المعنى في قوله: " أو جوزي بصعقة الطور" أي قدم بعثه عليَّ جزاء له بما حصل من صعقته في الطور، وهذا غير صحيح؛ لأمور عدة:
منها: أن الحديث على هذا يصبح فيه تكرار لا معنى له، إذ لا يكون المعنى على قول القرطبي: " فلا أدري أبعث قبلي؟ أو جوزي ببعثه قبلي بصعقة الطور".
ومنها: أن ظاهر الحديث يرد هذا؛ لأن قوله: " فلا أدري أبعث قبلي؟ أم جوزي بصعقة الطور؟ " ظاهره: فلا أدري أصعق فبعث قبلي؟ أم أنه لم يصعق، وإنما جوزي عن الصعق بصعقة الطور؟ ولهذا لم يقتنع القرطبي بهذا الجواب، فذكر جواباً آخر – سيأتي- ثم قال:
وقال شيخنا أحمد بن عمر: وظاهر حديث النبي –صلى الله عليه وسلم- يدل على أن ذلك إنما هو بعد النفخة الثانية، نفخة البعث، ونص القرآن يقتضي أن ذلك الاستثناء إنما هو بعد نفخة الصعق، ولهذا قال بعض العلماء: يحتمل أن يكون موسى – عليه السلام – ممن لم يمت من الأنبياء، وهذا باطل بما صح من النصوص بذكر موته.
قال: وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد بهذه صعقة فزع، بعد النشر، حين تنشق السماوات والأرض، قال: فتستقل الأحاديث والآيات، والله أعلم.
ثم قال: قال شيخنا أبو العباس: وهذا يرده ما جاء في الحديث أنه عليه
_________
(1) التذكرة (1/208) ، وهو أخذ هذا عن الحليمي كما في المنهاج، انظر: الورقة 214 من المخطوطة، وانظر المطبوع (1/432) .(1/429)
السلام حين يخرج من قبره يلقى موسى، وهو متعلق بالعرش، وهذا عند نفخة البعث.
قلت: وسيأتي ما يوضح ذلك في روايات الحديث التي أذكرها، - إن شاء الله -.
ثم قال: " قال شيخنا أحمد بن عمر: والذي يزيح هذا الإشكال – إن شاء الله تعالى – أن الموت ليس بعدم محض، وإنما هو انتقال من حال إلى حال، ويدل على ذلك أن الشهداء بعد قتلهم، أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين، مستبشرين، وهذه صفة الأحياء في الدنيا.
وإذا كان هذا في الشهداء، كان الأنبياء بذلك أحق، وأولى، فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق، صعق كل من في السماوات والأرض، إلا من شاء الله، فأما
صعق غير الأنبياء فموت، وأما صعق الأنبياء فالأظهر أنه غشية، فإذا نفخ في الصور نفخة البعث، فمن مات حيي، ومن غشي عليه أفاق" (1) .
قلت: وحاصل هذا الجواب: أن الصعقة المذكورة في الحديث هي الأولى، وأن الصعق يكون للأرواح، كل ذلك باطل؛ لأنه سيأتي أن الحديث ينص على أنها نفخة البعث، ومعلوم أن الأرواح لا تموت، فكيف يكون صعق غير الأنبياء موت مع أنه زعم أن الصعق للأرواح، وكل ذلك يفتقر إلى دليل، والأدلة خلافه.
ولهذا قال ابن القيم: " وحمل الحديث على هذا لا يصح، لأنه –صلى الله عليه وسلم- تردد: هل أفاق موسى قبله، أو لم يصعق، بل جوزي بصعقة الطور؟
فالمعنى: لا أدري: أصعق أم لم يصعق؟
وقد قال في الحديث: " فأكون أول من يفيق"، وهذا يدل على أنه –صلى الله عليه وسلم- يصعق فيمن يصعق، وأن التردد حصل في موسى، هل صعق وأفاق قبله من صعقته، أو لم يصعق؟
_________
(1) "التذكرة" (1/208-209) .(1/430)
ولو كان المراد به: الصعقة الأولى، وهي صعقة الموت، لكان – صلى الله عليه وسلم- قد جزم بموته، وتردده: هل مات موسى، أو لم يمت، وهذا باطل؛ لوجوه كثيرة، فعلم أنها صعقة فزع، لا صعقة موت، والآية لا تدل على أن الأرواح كلها تموت، عند النفخة الأولى، وإنما تدل على أن من لم يذق الموت قبلها يموت، وأما من مات، أو من لم يكتب عليه الموت، فلا يموت " (1) .
وقال السفاريني: " وصعق الأرواح عند النفخ في الصور، لا يلزم منه موتها. ففي "الصحيحين": " أن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور؟ ".
فهذا صعق في موقف القيامة، إذا جاء الله لفصل القضاء، وأشرقت الأرض بنوره، فحينئذ، يصعق الخلائق كلهم، قال تعالى: {فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون} (2) .
ولو كان هذا الصعق موتاً، لكانت موتة أخرى " (3)
ثم ذكر كلام ابن القيم السابق، وقال ابن القيم بعد ما قرر أن هذا الصعق المذكور، إنما هو في الموقف، إذا جاء رب العالمين – جل وعلا – لفصل القضاء بين عباده.
قال: " فإن قيل: فكيف تصنعون بقوله في الحديث: " إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش"؟ قيل: لا ريب أن هذا اللفظ قد ورد هكذا، ومنه نشأ الإشكال، ولكنه دخل فيه على الراوي، حديث في حديث، فركب بين اللفظين، فجاء هكذا، والحديثان هكذا أحدهما:
_________
(1) "الروح" (ص36) .
(2) الآية 45 من سورة الطور.
(3) "لوامع الأنوار البهية" (2/38) .(1/431)
" أن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق".
والثاني: " أنا أول من تنشق عنه الأرض، يوم القيامة "، فدخل على الراوي هذا الحديث في الحديث الآخر، وكان شيخنا أبو الحجاج المزي يقول ذلك " (1) .
قلت: وهذا احتمال بعيد جداً، ويحتاج إلى دليل، ولا وجود له، إذ لا يجوز تخطئة الراوي بمجرد إشكال يعرض للإنسان في لفظ الحديث، فما قال ابن القيم – رحمه الله – هنا غير صحيح، وسيتبين ذلك عند ذكر روايات الحديث.
فلفظ حديث أبي سعيد في "البخاري": " لا تخيروا الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري: أكان فيمن صعق؟ أم حوسب بصعقته الأولى " (2) ثم رواه في أماكن متعددة من "صحيحه" بألفاظ متقاربة، ليس فيها: " فأكون أول من تنشق عنه الأرض" إلا في هذا الموضع.
ولكن في رواية أبي هريرة: أنه –صلى الله عليه وسلم- قال: " لا تفضلوا بين أولياء الله، فإنه ينفخ في الصور، فيصعق من في السماوات، ومن في الأرض، إلا من شاء الله، ثم
ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش، فلا أدري: أحوسب بصعقته يوم الطور، أم بعث قبلي؟ " (3) .
قال الحافظ: " وقع في رواية: " إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الثانية "، وفي أخرى: " إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الأخيرة" (4) .
ورواه في "التفسير" بسند آخر، مختصراً، ولفظه: " إني أول من يرفع
_________
(1) "الروح" (ص37) .
(2) انظر: " البخاري مع الفتح " (5/70) .
(3) انظر: " الفتح" (6/451) .
(4) "الفتح" (6/444) .(1/432)
رأسه، بعد النفخة الأخيرة، فإذا أنا بموسى، متعلق بالعرش، فلا أدري، أكذلك كان، أم بعد النفخة" (1) ثم ذكره معلقاً في الموضع نفسه بلفظ: " فأكون أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش" ورواه مسلم، ولفظه: " لا تفضلوا بين أنبياء الله، فإنه ينفخ في الصور، فيصعق من في السماوات، ومن في الأرض، إلا من شاء الله – قال- ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من بعث، أو في أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش، فلا أدري: أحوسب بصعقة يوم الطور، أو بعث قبلي؟ ".
ثم رواه بسند آخر – وفيه: " فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق" (2) .
وأما حديث أبي سعيد المتقدم، في ذكر الانشقاق، فقد رواه أيضاً الإمام أحمد، فقال: حدثنا وكيع عن سفيان، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: " لا تخيروا بين الأنبياء، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، فأفيق، فأجد موسى متعلقاً بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري: أجزي بصعقة الطور، أو أفاق قبلي؟ " (3) .
وذكر الحافظ أن في رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة – عند ابن مردويه-: "أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، فأنفض التراب عن رأسي، فآتي قائمة
العرش فأجد موسى قائماً عندها، فلا أدري أنفض التراب عن رأسه قبلي، أو كان ممن استثنى الله" (4) .
فهذه الرواية تدل على أن الصعق المذكور هو النفخة الثانية في الصور، فإن قوله في رواية أبي هريرة: " فإنه ينفخ في الصور، فيصعق من في السماوات
_________
(1) "الفتح" (8/551) .
(2) "مسلم" (4/1844) رقم (2373) .
(3) "المسند" (3/33) .
(4) "الفتح" (6/445) .(1/433)
ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بالعرش" وفي الرواية الأخرى: " إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الآخرة، فإذا أنا بموسى متعلق بالعرش"، وفي أخرى: " إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الثانية ".
وفي رواية مسلم: " ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من بعث".
فهذا واضح وصريح في أن المقصود: البعث من الموت الحاصل بنفخ الصور النفخة الثانية، وبه يتبين أن ما قاله القرطبي وغيره مما سبق ذكره، وكذا ما ذهب إليه ابن القيم، كله غير صحيح كما سبق، وكذا قول الحليمي في "المنهاج": "أن ظاهر الحديث أن هذه صعقة غشي يوم القيامة، لا صعقة الموت، الحادث عن نفخ الصور" (1) مردود بما صرحت به الروايات المذكورة.
الصواب ما نصت عليه هذه الروايات من أن موسى عليه السلام يبعث قبل نبينا –صلى الله عليه وسلم-، وأما تردده: أأصابه الصعق فبعث قبله، أو كان ممن استثنى الله – تعالى-، أو جوزي عن الصعق بصعقة الطور، كل ذلك يقتضي أنه بعث قبله.
ولكن يبقى الإشكال في أن النفخة التي استثنى الله -تعالى- منها هي الأولى، ومعلوم أن موسى عليه السلام قد مات قبلها، فكيف يصح استثناؤه منها؟
فيقال: وكذا نبينا –صلى الله عليه وسلم- وسائر الأنبياء لا ينالهم ذلك، وإنما ينال من كان حياً في ذلك الوقت، ويكون الأقرب ما قاله الحليمي: " أن المعنى: إذا نفخ في الصور
مرة أخرى، كنت أول من بعث، فأجد موسى مبعوثاً قبلي، فلا أدري: أفضل بذلك على سائر الخلق، أو أن ذلك جزاء له بصعقة الطور؟ " (2) .
_________
(1) انظر: " المنهاج" المخطوط رقم 214، وانظر: المطبوع (1/432) وهو كثير التحريف.
(2) انظر: " المنهاج" الورقة 214، أو المطبوع (1/432) وهذا معنى كلامه وليس لفظه.(1/434)
وهذا بناء على أن النفخ في الصور مرتان، وهو الذي تؤيده الأدلة الصحيحة، كما مر في هذه الروايات السابقة.
قال الحافظ: " ثبت في "صحيح مسلم" أنهما نفختان، ولفظه في أثناء حديث مرفوع: " ثم ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً، ورفع ليتاً، ثم يرسل الله مطراً كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون".
وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه: " بين النفختين أربعون"، وفي ذلك دلالة على أنهما نفختان فقط، والتغاير في كل منهما باعتبار من يسمعهما، فالأولى: يموت بها كل من كان حياً، ويغشى على من لم يمت ممن استثنى الله تعالى، والثانية: يعيش بها من مات، ويفيق بها من غشي عليه" (1) .
وقد ذهب إلى أنها ثلاث نفخات بعض العلماء، كالحافظ ابن كثير، وحمل قوله تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض} على أنها نفخة الفزع، وممن ذهب إلى ذلك القرطبي وابن العربي وغيرهما، وعمدتهم في ذلك حديث الصور، حيث صرح فيه أن النفخات ثلاث، ولكنه حديث ضعيف مضطرب، كما بينه الحافظ ابن حجر – رحمه الله – فلا يعتمد عليه لذلك، وآية الزمر واضحة الدلالة في أن النفخ في الصور مرتين.
وأما قوله تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض} فالظاهر أنها النفخة الأولى، ذكرها بمقدماتها، ومما يدل على أنها نفختان فقط: قوله تعالى: {يوم ترجف الراجفة (6) تتبعها الرادفة} .
قوله: " فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش " وفي رواية أبي هريرة: " آخذ بالعرش" أي: أنه –صلى الله عليه وسلم- يجد موسى عليه السلام بعد ما بعث، ممسكاً بأحد قوائم العرش، والمراد بالعرش: عرش رب العالمين.
_________
(1) انظر " فتح الباري" (11/369-370) و (6/446) ، وانظر: الحديث الذي يشير إليه في "صحيح مسلم" (4/2258، 2259) رقم (2940) ، وانظر: حديث أبي هريرة في "البخاري مع الفتح" (8/551، 689) ، وفي "مسلم" (4/2270) رقم (2955) .(1/435)
ففي هذا فضل لموسى عليه السلام، حيث بعث قبل نبينا –صلى الله عليه وسلم- وهذه القبلية إما مجرد فضيلة خصه الله بها كما خص بالتكليم، وإما جزاء بالصعقة التي أصابته، يوم سأل ربه الرؤية عندما تجلى الله -تعالى- للجبل، والله أعلم.
ومما تقدم من النصوص التي ذكرها البخاري – رحمه الله – هنا وغيرها، يعلم أن الله -تعالى- خص العرش من بين مخلوقاته، بأنه استوى عليه، وأنه فوق جميع المخلوقات، وأنه له حملة، ويوم القيامة، وأنه -تعالى- تعبد من شاء من ملائكته بأن يحفوا به، ويطوفوا به، وأن حملته ومن حوله من الملائكة يسبحون الله -تعالى- ويستغفرون للمؤمنين، وأنه أول المخلوقات المعلومة لنا، فقد أخبر تعالى أن عرشه كان على الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض، كما قال -تعالى-: {وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء} (1) .
وأنه- تعالى – كان ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض.
وقد تقدم ذكر حديث عبد الله بن عمرو: " إن الله قدر مقادير الخلائق، قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء" وهو في "صحيح مسلم".
كما في هذه النصوص، وصف العرش بأنه عظيم، وأنه كريم، وأنه مجيد.
وكثيراً ما يمدح الله -تعالى- نفسه بأنه ذو العرش، كما قال -تعالى-: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً (42) سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً (43) تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده لكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً} (2) .
_________
(1) الآية 7 من سورة هود.
(2) الآيات 42و 43و 44 من سورة الإسراء.(1/436)
وقال -تعالى-: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} (1) ، وقال – جل وعلا-: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ {14} ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} (2) ، وقال -تعالى-: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (3) ، إلى غير ذلك.
كما جاء في الحديث الصحيح ما يدل على أنه أثقل الأوزان، كما في قوله –صلى الله عليه وسلم- لجويرية: " لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته" (4) .
كما في النصوص المتقدمة أنه سقف أعلى الجنان، وهي الفردوس، وأن له قوائم، وغير ذلك مما بينته النصوص التي جاءت بها الرسل، وكل ذلك يدل على أن الله فوق العرش مستوٍ عليه، وقد اتفق على هذا الأنبياء كلهم، وذكر في كل كتاب أنزل على كل نبي، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها من جميع الطوائف، إلا من ضل الحق واتبع غير سبيل المؤمنين من الجهمية والمعتزلة والأشعرية وغيرهم.
_________
(1) الآية 15 من سورة غافر.
(2) الآيتان 14 و 15 من سورة البروج.
(3) الآية الأخيرة من سورة براءة.
(4) "صحيح مسلم" (4/2090) .(1/437)
قال: " باب قول الله -تعالى-: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (1) ، وقوله - جل ذكره-: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً إليه يصعد الكلم الطيب} (2) .
قال الأزهري: في عرج: " قال الله - جل وعز -: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} ، أي: تصعد، يقال: عرج، يعرج، عروجاً.
وقوله - جل وعز -: {مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} (3) ، قال قتادة: ذي المعارج: ذي الفواضل، والنعم، وقيل: معارج الملائكة، وهي مصاعدها التي تصعد وتعرج فيها، ذكر ذلك أبو إسحاق.
وقال الفراء: ذي المعارج، من نعت الله؛ لأن الملائكة تعرج إلى الله، فوصف نفسه بذلك (4) .
وقال الليث: عرج يعرج، عروجاً، ومعروجاً، قال: والمعرج: المصعد، والمعرج: الطريق الذي تصعد فيه الملائكة.
_________
(1) الآية 4 من سورة المعارج.
(2) الآية 10 من سورة فاطر.
(3) الآية 3 من سورة المعارج.
(4) انظر: " معاني القرآن " للفراء (3/184) .(1/439)
قال: والمعراج: يقال: شبه السلم، أو درجة، تعرج فيه الأرواح، إذا قبضت" (1) .
وقال الجوهري: " عرج في الدرجة، والسلم، يعرج، عروجاً: إذا ارتقى.
والمعراج: السلم، ومنه: ليلة المعراج، والجمع: معارج، ومعاريج" (2) .
وقال الراغب: " العروج: ذهاب في صعود، قال: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (3) ، {فظلوا فيه يعرجون} (4) ، والمعارج: المصاعد، قال: {مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} (5) ، وليلة المعراج، سميت لصعود الدعاء فيها، إشارة إلى قوله: {إليه يصعد الكلم الطيب} (6) ".
قوله: سميت، لصعود الدعاء فيها، يعني: المعارج سميت لذلك، ولا يعني ليلة المعراج.
وقال الطبري، في قوله -تعالى-: {ولو فتحنا عليهم باباً من السماء} (7) : " وأما قوله: {يعرجون} ، فإن معناه: يرقون فيه، ويصعدون، يقال منه: عرج يعرج، عروجاً: إذا رقي وصعد" (8) .
_________
(1) "تهذيب اللغة" (1/355) .
(2) "الصحاح" (1/328) ..
(3) الآية 4 من سورة المعارج.
(4) الآية 14 من سورة الحجر.
(5) الآية 3 من سورة المعارج.
(6) "المفردات" (ص329) .
(7) الآية 14 من سورة الحجر.
(8) "تفسير الطبري" (14/11) ط. الحلبي.(1/440)
وقال في قوله -تعالى-: {ذي المعارج} : يعني: ذا العلو، والدرجات، والفواضل والنعم" – ثم روى ذلك عن ابن عباس، وقتادة، وروى عن مجاهد، قال: معارج السماء.
ثم قال: " وقوله -تعالى-: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} : يقول –تعالى ذكره- تصعد الملائكة، والروح – وهو جبريل – عليه السلام {إليه} يعني: إلى الله – جل وعز- والهاء في قوله: {إليه} عائدة على اسم الله " (1) .
قوله: {والروح} هو: جبريل هذا هو الظاهر من سياق الآية، فيكون من عطف الخاص على العام.
وقوله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب} قال مجاهد: " العمل الصالح يرفع الكلم الطيب".
قال الحافظ: " وصله الفريابي من رواية ابن نجيح، وأخرج البيهقي من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: " الكلم الطيب: ذكر الله، والعمل الصالح: أداء فرائض الله فمن ذكر الله، ولم يؤد فراضه، رد كلامه" (2) ورواه ابن جرير. (3)
قلت: أثر مجاهد، رواه ابن جرير في "تفسيره"، ولفظه: " الكلام الطيب: ذكر الله، والعمل الصالح: أداء فرائضه، فمن ذكر الله في أداء فرائضه، حمل عليه ذكر
الله، فصعد به إلى الله، ومن ذكر الله ولم يؤد فرائضه، رد كلامه على عمله، فكان أولى به ".
_________
(1) "تفسير الطبري" (29/70) .
(2) "الفتح" (13/416) .
(3) "تفسير الطبري" (22/121) ط. الحلبي، وانظر: " الأسماء والصفات" (ص426) .(1/441)
وقال ابن جرير: {إليه يصعد الكلم الطيب} يقول -تعالى ذكره -: إلى الله يصعد ذكر العبد إياه وثناؤه، وأداء فرائضه، والانتهاء إلى ما أمر به " (1)
ثم روى عن ابن مسعود أنه قال: " إذا حدثناكم بحديث، أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله -تعالى-، إن العبد المسلم، إذا قال: سبحان الله وبحمده، الحمد لله، لا إله إلا الله والله أكبر، تبارك الله، أخذهن ملك، فجعلهن تحت جناحيه، ثم صعد بهن إلى السماء، فلا يمر بهن على جمع من الملائكة، إلا استغفروا لقائلهن، حتى يجيء بهن وجه الرحمن - ثم قرأ عبد الله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (2) ".
ثم روى قول مجاهد الذي ذكره البخاري، وروى عن الحسن، وقتادة: " لا يقبل الله قولاً إلا بعمل، من قال وأحسن العمل، قبل الله منه" (3) .
ومقصود البخاري بهذا الباب: ذكر بعض الأدلة على علو الله -تعالى-، وبيان أن ذلك ثابت بكتاب الله -تعالى- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وبالعقل، والفطرة، فقد فطر الله تعالى العباد على الإيمان بذلك، وآمن الصحابة به، واتبعهم عليه كل من سلك طريق الرسل.
فالإيمان بعلو الله -تعالى- وفوقيته، فطري عقلي شرعي، ومن خالف ذلك فقد انحرف عن طريق الرسل، وسلك في ذلك غير سبيل المؤمنين.
ولبيان أن الإيمان بذلك فطري، عقلي، ذكر قول أبي ذر، قبل أن يسلم، أنه قال لأخيه: " أعلم لي علم هذا الرجل، الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء " كما يأتي بيانه.
_________
(1) "تفسير الطبري" (22/120) .
(2) المرجع السابق.
(3) "الطبري" (22/121) .(1/442)
ومعلوم أن الخبر، لا يأتي إلا من مخبر، والمخبر الذي يرسل الرسل بأوامره، ونواهيه، هو الله – جل وعلا – وهو في السماء، أي في العلو، بائن من خلقه.
وهذه المسألة من كبار مسائل العقيدة الإسلامية، ومع ظهورها، وكثرة الأدلة عليها وتنوعها، واتفاق الرسل والكتب وأتباع الرسل عليها، ضل فيها طوائف كثيرة كالجهمية، والمعتزلة، وأكثر الأشعرية، ولا يزال على الضلال فيها خلق كثير ممن يتبنى مذهب الأشعرية، والماتريدية، معتقدين أن ذلك الضلال هو الحق وأنه مذهب أهل السنة، وأن أدلة كتب الله ووحيه إلى رسله ظواهر تدل على التشبيه بظاهرها، فلهذا يجب صرفها عن ذلك الظاهر.
ويرى هؤلاء من اعتقد ما دل عليه القرآن والسنة بظاهرهما، أنه مشبه ومجسم، مع أن العقل والفطر السالمة من الانحراف، يتفقان على ما دل عليه وحي الله -تعالى-، ولهذا ترمي الأشعرية كل من اعتقد علو الله واستواءه على عرشه على الحقيقة، بالتشبيه، والتجسيم، وأحياناً يصرحون بكفرهم كما هو عقيدتهم في قرار نفوسهم، ومع هذا ترى كثيراً منهم رافعاً عقيرته داعياً إلى الاتفاق والوئام، وهذا لن يكون أبداً ما دام في الأرض معتقد للحق؛ لأنه لا اتفاق بين الهدى والضلال، والحق والباطل، وكيف يكون اتفاق مع من يرى أن من اعتقد ما دلت عليه النصوص الصريحة، الواضحة الكثيرة، أنه ضال ومشبه؟ كما سيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى.
قوله: " وقال أبو جمرة: عن ابن عباس، لما بلغ أبا ذر مبعث النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال لأخيه: أعلم لي علم هذا الرجل، الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء ".
هذا التعليق قد تقدم تاماً موصولاً، في " المناقب"، وفي "الفضائل" (1) .
ومقصوده من ذلك: بيان أن علو الله -تعالى- على خلقه، أمر مفطور عليه الخلق، ومعلوم بالعقل، والوحي جاء مؤيداً لذلك، وموضحاً له.
_________
(1) انظر: " الفتح" (6/549) و (7/173) .(1/443)
57-قال: " حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة- رضي الله عنه – أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر، وصلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم، وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون".
"يتعاقبون": التعاقب: إتيان فريق، عقب فريق، ثم يعود الأول، بعد إتيان الثاني.
وإنما يكون التعاقب بين طائفتين، أو رجلين، ومنه: تعقيب الجيوش، بأن يرسل طائفة من الجيش إلى مدة، ثم يرسل مكانهم طائفة أخرى، ويرجع الأولون.
والضمير في قوله "فيكم" يعود إلى المخاطبين، وهم الأمة المستجيبة للرسول –صلى الله عليه وسلم -.
والأظهر أن هؤلاء الملائكة غير الحفظة، كما قاله القرطبي، وأيده الحافظ، بأنه لم ينقل أن الحفظة يفارقون العبد، ولا أن حفظة الليل، غير حفظة النهار، وبغير ذلك. (1)
"ويجتمعون في صلاة العصر، وصلاة الفجر" أي: يجتمع في صلاة العصر الهابطون ليبيتوا مع العباد، والذين كانوا معهم في النهار، فالفريقان يحضران صلاة العصر، وصلاة الفجر، فيصعد الذين صحبوا العباد بالنهار،
_________
(1) انظر: " الفتح" (2/34-35) .(1/444)
عقب صلاة العصر، ويبقى الذين يبيتون معهم ليلاً، ثم بعد اجتماع الفريقين أيضاً في صلاة الفجر يصعد الذين باتوا مع العباد، ويبقى الذين نزلوا في صلاة الفجر من السماء. والله -تعالى- يسأل كل فريق عن العباد، كيف تركتم عبادي، أي: على أي حال تركتموهم؟ - وهو جل وعلا – أعلم من الملائكة المصاحبين لهم بهم، ولكن يسأل –تعالى- الملائكة عنهم؛ لإظهار كرامتهم، فضلاً منه، وإحساناً إليهم، وبهذا يعلم أهمية المحافظة على هاتين الصلاتين في الجماعة.
قوله: " ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم – وهو أعلم – كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم يصلون، وأتيناهم، وهم يصلون".
تقدم معنى العروج، وأنه: الصعود، والارتفاع، والذهاب إلى العلو، وهذا هو محل الشاهد من الحديث؛ لأن السؤال حصل بعد صعودهم، حيث يصلون إلى المكان المحدد لهم، والله –تعالى- فوقهم، وهو –تعالى- يخاطبهم بذلك، بدون واسطة، كما هو ظاهر النص، ولو كان ذلك بوحي لم يكن هناك فرق بين كونهم في السماء، أو في الأرض.
وهذا الحديث يتفق في المعنى مع قوله -تعالى-: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} وكأن البخاري يشير بذلك إلى تفسيرها، وأن عروج الملائكة المذكور في هذا الحديث، داخل في مدلولها.
ودل قوله: " وهم أعلم بهم" أن المقصود من السؤال: إظهار كرامة المؤمنين من بني آدم، بطاعتهم لربهم، وعبادتهم إياه، والتنويه بفضلهم عند الملائكة الذين في السماء، والملائكة المسؤولون فهموا من الله-تعالى- ما أرادوه، ولهذا قالوا في الجواب: " تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون".
وفي هذا دليل على أن من جلس في مصلاه، يذكر الله ويدعوه، أنه في صلاة، لأن الملائكة يحضرون الصلاة معهم، وبعد الفراغ منها يصعدون.(1/445)
قال الحافظ: " ويستفاد منه أن الصلاة أعلى العبادات؛ لأنه عنها وقع السؤال والجواب، وفيه الإشارة إلى عظم هاتين الصلاتين؛ لكونهما تجتمع فيهما الطائفتان، وفي غيرهما طائفة واحدة، والإشارة إلى شرف الوقتين المذكورين، وقد ورد أن الرزق يقسم بعد صلاة الصبح، وأن الأعمال ترفع آخر النهار، فمن كان حينئذ في طاعة، بورك في رزقه، وفي عمله.
ويترتب عليه حكمة الأمر بالمحافظة عليهما، والاهتمام بهما.
وفيه تشريف هذه الأمة على غيرها، ويستلزم تشريف نبيها على غيره.
وفيه الإخبار بالغيوب، ويترتب عليه زيادة الإيمان.
وفيه الإخبار بما نحن فيه، من ضبط أحوالنا، حتى نتيقظ، ونتحفظ في الأوامر والنواهي، ونفرح في هذه الأوقات بقدوم رسل ربنا، وسؤال ربنا عنا.
وفيه إعلامنا بحب ملائكة الله لنا، لنزداد فيهم حباً، ونتقرب إلى الله -تعالى- بذلك.
وفيه كلام الله -تعالى- مع الملائكة، وغير ذلك من الفوائد " (1) .
وفيه كثرة الملائكة، وأن لكل منهم وظائف مكلفون بها، وبيان نصحهم لبني آدم، وحبهم الخير لهم، وأن استقرارهم في السماء، وإنما ينزلون إلى الأرض حسب أوامر الله لهم.
_________
(1) "الفتح" (2/37) .(1/446)
58-قال: " وقال خالد بن مخلد: حدثنا سليمان، حدثني عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "من تصدق بعدل تمرة، من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل ".
" الصدقة: ما يخرجه الإنسان من ماله، على وجه القربة، كالزكاة، لكن الصدقة –في الأصل – تقال للمتطوع به، والزكاة للواجب، وقد يسمى الواجب صدقة إذا تحرى صاحبها الصدق في فعلها " (1) .
وسميت صدقة، من الصدق؛ لأنه تدل على صدق إيمان المتصدق غالباً.
قوله: " بعدل تمرة" بفتح العين، قال القاضي عياض: " العدل – بالفتح – المثل وما عادل الشيء، وكافأه، من غير جنسه، وبالكسر: ما عادله من جنسه وكان نظيره، وقيل: الفتح والكسر لغتان فيها، وهو قول البصريين" (2) .
والمعنى: من تصدق بقدر تمرة، أو بقيمتها.
قوله: " من كسب طيب " أي: تصدق بمال حلال، جيد، وإن كان قليلاً.
" ولا يصعد إلى الله إلا الطيب" تقدم هذا الحديث في الزكاة بسند
_________
(1) "المفردات " للراغب (ص278) .
(2) "المشارق" (2/69) .(1/447)
متصل غير هذا، وفيه "ولا يقبل الله إلا الطيب" (1) .
فالذي يقبله الله -تعالى- يصعد إليه، فيبارك به لصاحبه، وينميه.
وهذه الجملة من الحديث هي المقصود منه هنا، حيث دل على علو الله -تعالى- وأنه فوق، وما قبله الله من الأعمال، فإنه يصعد إليه، وقد تقدم أن الملائكة تصعد إلى الله -تعالى- وتعرج إليه، والصعود والعروج سواء في المعنى، كما تقدم في كلام ابن جرير.
وقد اختار البخاري بعض النصوص في هذا الباب، التي فيها ذكر الصعود والعروج ونحوهما؛ لوضوح الدلالة في ذلك على علو الله –تعالى- كما أنه نوع
الأدلة في ذلك كما تقدم للإيضاح، وأدلة علو الله -تعالى- كثيرة جداً ومتنوعة، كما ستأتي الإشارة إلى ذلك.
قوله: " فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فلوه"، أي: أن الله -تعالى- يقبلها من صاحبها، فيأخذها بيده اليمنى، وكلتا يديه يمين، فينميها لصاحبها، ويبارك فيها، ويعتني بها عناية بالغة، كما يعتني أحدنا بأغلى ما لديه من المال، وأنفسه، وهو ولد الفرس، الذي يعد لمدافعة الأعداء وقتالهم، وحماية الأعراض، والنفوس، والأموال، حتى يصير ما هو بقدر التمرة – لشدة عناية الله تعالى به – مثل الجبل.
وقد تخبط شراح الحديث ممن سلك طريق الأشاعرة، في شرح هذه الجملة، وجاؤوا بما ليس له وجه، مع أن المتكلم به قد أعطي من الفصاحة والبيان والنصح للسامع، والحرص على وصول الخير إليه، ما ليس عليه مزيد، فيجب أخذ كلامه على ظاهره، والإيمان به، وإحسان الظن به، فهو – صلوات الله وسلامه عليه – أقدر على إيضاح ما يريد من هؤلاء، كما أنه –صلى الله عليه وسلم- أعلم بالله منهم، فليس
_________
(1) انظر: " الفتح" (3/378) .(1/448)
كلامه بحاجة إلى تلك التأويلات الباردة (1) ، والتمحلات المتكلفة، كالتي ذكر ابن حجر – عفا الله عنا وعنه -.
_________
(1) انظر: بعض ما قاله هؤلاء المؤولة في "فتح الباري" (3/280) .(1/449)
59-ثم ذكر حديث ابن عباس: في دعاء الكرب.
وقد تقدم في الباب قبل هذا، وفيه اختلاف في سنده ومتنه، كما هي عادته.
والمقصود منه هنا قول: " رب العرش العظيم" وقوله: " رب العرش الكريم"، وقد تقدم أن العرش هو سقف المخلوقات كلها، وليس فوقه مخلوق، وقد وصفه -تعالى- بأنه عظيم، وبأنه كريم، وأضافه -تعالى- إليه مما يدل على أن له خصوصية دون غيره من السماوات والأرض، كما تقدم.
وقد أخبرنا -تعالى- بأنه استوى عليه فهو من دلائل علوه -تعالى- فوق خلقه.(1/450)
60-قال: " حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن أبيه، عن ابن أبي نعم – أو أبي نعم، شك قبيصة -، عن أبي سعيد، قال: بعث إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- بذهيبة، فقسمها بين أربعة ".
وحدثني إسحاق بن نصر، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان، عن أبيه، عن ابن أبي نعم، عن أبي سعيد الخدري، قال: " بعث علي، وهو في اليمن، إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- بذهيبة في تربتها، فقسمها بين الأقرع بن حابس الحنظلي، ثم أحد بني مجاشع، وبين عيينة بن بدر الفزاري، وبين علقمة بن علاثة العامري، ثم أحد بني كلاب، وبين زيد الخيل الطائي، ثم أحد بني نبهان، فتغيظت قريش، والأنصار، فقالوا: يعطيه صناديد أهل نجد، ويدعنا –؟ قال: " إنما أتألفهم"، فأقبل رجل، غائر العينين، ناتيء الجبين، كث اللحية، مشرف الوجنتين، محلوق الرأس، فقال: يا محمد: اتق الله، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: " فمن يطيع الله إذا عصيته؟ فيأمنني على أهل الأرض، ولا تأمنوني؟ " فسأل رجل من القوم قتله – أراه خالد بن الوليد – فمنعه النبي –صلى الله عليه وسلم- فلما ولى، قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: " إن من ضئضئ هذا قوماً يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام، ويعدون أهل الأوثان لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ".
أرسل النبي –صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب إلى اليمن، يدعو الله -تعالى- ويقبض الزكاة من أصحابها، ويقضي في المنازعات، وكان ذلك قبل حجة الوداع، كما ذكره البخاري في آخر المغازي، ثم إن علياً وافى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بمكة، في حجة الوداع راجعاً من اليمن، وكان قد أرسل بذهيبة، تصغير(1/451)
ذهبة، أي قطعة من الذهب، فقسمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين هؤلاء الأربعة المذكورين رجاء إسلامهم، وكانوا رؤساء قبائلهم، فإذا أسلموا، أسلم تبعاً لهم خلق كثير، ولهذا أعطاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- المال ترغيباً لهم في الإسلام، وتأليفاً لقلوبهم عليه، كما بينه -صلى الله عليه وسلم- في جوابه للصحابة، الذين قالوا: " يعطيه صناديد أهل نجد، ويدعنا".
وقوله: " في تربتها" أي: أنها لم تخلص من ترابها، فليست ذهباً خالصاً؛ لأنها مختلطة بالتراب.
قيل: أنها من الخمس، واستبعد ابن حجر أن يكون من أصل الغنيمة، ويمكن أن تكون زكاة.
قوله: " فتغيظت قريش، والأنصار " من الغيظ، أي غاظها ذلك، حيث لم يعطهم منها، وفي رواية: " فغضبت" من الغضب.
"فقالوا: يعطيه صناديد أهل نجد، ويدعنا" الصناديد: جمع صنديد، وهو: الرئيس، وفي "القاموس": الصندد {بفتح الصاد، وإسكان النون، وكسر الدال الأولى} (1) : السيد، الشجاع، أو الحليم، أو الجواد، أو الكريم " اهـ.
قوله: " إنما أتألفهم" أي: أعطيهم ليألفوا الدين، ويجتمعوا على حبه، والرغبة فيه، فأرغبهم فيه على طريق الإحسان إليهم بالدنيا حتى يصل إلى قلوبهم، فيحبوه ويرغبوا فيه، أو لأجل ما يتحصلون عليه من الدنيا، ثم بعد ذلك لما يرجونه من جزاء الله وثوابه في الآخرة.
والتأليف من الإلف، وهو الإجتماع والالتئام مع الحب.
والمعنى: إني أعطيهم؛ ليكون ذلك داعياً لهم إلى حب الإسلام، والرغبة فيه والإجتماع عليه، حتى يكونوا من أنصاره، ويتبعهم على ذلك أقوامهم وعشائرهم،
_________
(1) ما بين المعقوفتين من حاشية "القاموس" (1/309) .(1/452)
فيحصل بذلك عز الإسلام، ونصره، فهذا العطاء مما يحبه الله ويثيب عليه، وهو من الإنفاق في سبيل الله -تعالى- بل من أفضله.
ووصفه الرجل المعترض على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي أمور اتفقت فيه، وليست هذه الأوصاف الظاهرة في هذا الهالك مذمومة لذاتها.
وقوله: " فمن يطيع الله إذا عصيته؟ " يعني: أنه -صلى الله عليه وسلم- هو أحق الناس وأولاهم بطاعة الله -تعالى- وتقواه.
وهذا هو الضلال؛ أن يتصور الإنسان الطاعة معصية، فهذا الرجل المعترض تصور أن فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معصية، وأنه من الجور، فنصب نفسه آمراً بتقوى الله، فقال للرسول -صلى الله عليه وسلم-: " اتق الله" مع أن فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو تقوى، ومن أعظم الطاعات له، فهو يعطي الله، ولنصر دينه، وهداية عباده.
قوله: " فيأمنني على أهل الأرض، ولا تأمنوني" أي يأمنني الله -تعالى- على الرسالة التي أرسلني بها إلى الأرض، ولا تأمنني أنت أيها المعترض، ومن على شاكلتك ممن ضل طريق الرشد، لا تأمنوني على حطام الدنيا أن أضعه حيث يجب أن يوضع، على وفق أمر الله -تعالى-.
والرواية التي ذكرها في "المغازي": "فقال: ألا تأمنوني، وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً" (1) .
وهذا اللفظ أظهر، وأوضح في المقصود، من الرواية المذكورة هنا.
قال الحافظ: " وبهذا تظهر مناسبة هذا الحديث للترجمة، لكنه جرى على عادته في إدخال الحديث في الباب، للفظة تكون في بعض طرقه هي المناسبة
_________
(1) انظر "الفتح" (8/67) .(1/453)
لذلك الباب، يشير إليها، ويريد بذلك شحذ الأذهان، والبعث على كثرة الاستحضار" (1) .
قلت: ولا يخلو اللفظ المذكور من الدليل على المقصود، الذي هو علو الله -تعالى-؛ لأن قوله: " فيأمنني على أهل الأرض" يدل على أن الآمن الذي هو الله -تعالى- في السماء.
ومعنى قوله: " من في السماء" أي: الله الذي في السماء، و"في" هنا بمعنى "على" كما ذكر البيهقي، عن أبي بكر، أحمد بن إسحاق الضبعي: " أن العرب قد تضع "في" بموضع "على" قال الله -تعالى-: {فسيحوا في الأرض} (2) ، وقال: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} (3) ومعناه: على الأرض، وعلى جذوع النخل.
فكذلك قوله: " في السماء" أي: على العرش، فوق السماء، كما صحت الأخبار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- " (4) .
وهذا الحديث مثل قول الله -تعالى-: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16} أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ً} (5) .
فإما أن تكون "في" بمعنى "على" كما تقدم، أو يقصد بالسماء: العلو، أي: أأمنتم من في العلو، وكلاهما صحيح سائغ في اللغة والمعنى.
_________
(1) "الفتح" (13/418) .
(2) الآية 2 من سورة التوبة.
(3) الآية 71 من سورة طه.
(4) " الأسماء والصفات " (ص421) .
(5) الآيتان 16 و 17 من سورة الملك.(1/454)
قوله: " فسأله رجل من القوم قتله، أراه خالد بن الوليد، فمنعه النبي -صلى الله عليه وسلم- " أي: استأذن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، وقد تقدم في المناقب أن السائل هو عمر بن الخطاب. (1)
قال الحافظ: " لا تنافي بين الروايتين، إذ يجوز أن يكون كل واحد منهما طلب ذلك" (2) .
وقد جاء أن سبب منعه من قتله، خوف أن يقال: إن محمداً يقتل أصحابه، فيصير بذلك تنفيراً عن الدخول في الإسلام.
قوله: " إن من ضئضئ هذا، قوم يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم" قال في "النهاية": "الضئضئ: الأصل، يقال: ضئضئ صدق، وضؤضؤ صدق، يريد أن يخرج من نسله وعقبه " (3)
وفي "اللسان": "الضئضئ، والضؤضؤ: الأصل، والمعدن" (4) .
والمقصود، الإخبار بأنه يأتي من جنس هذا الرجل الضال، قوم يسلكون مسلكه، يقرأون القرآن، ولكن لا يصل إلى قلوبهم، فهم لا يفهمونه على ما أريد، بل يضعونه في غير موضعه؛ لأنهم ضالون، وجاهلون، ولهذا يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، أي: يخرجون من الإسلام بسرعة وسهولة، غير متأثرين به، كأنهم لم يدخلوه، وهذا يدل على أنهم دخلوا في الإسلام، ولكن لم يتمكن
الإيمان في قلوبهم، ولم يفهموه على وجهه، ولهذا صار من أوصافهم: أنهم يقتلون أهل الإسلام، ويدعون الكفار عباد الأوثان، ومن أجل ذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: " لئن أدركتهم، لأقتلنهم قتل عاد" أي لا أبقي منهم
_________
(1) انظر: "الفتح" (6/618) .
(2) المرجع السابق (6/618) .
(3) "النهاية" (3/69) .
(4) "لسان العرب" (2/503) المرتب.(1/455)
أحداً، يشير بذلك إلى قوله -تعالى- في وصف هلاك عاد: {فهل ترى لهم من باقية} (1) ولم يرد أنه يقتلهم بالشيء الذي قتلت به عاد بعينه.
ويحتمل أن يكون من الإضافة إلى الفاعل، ويراد به: " القتل الشديد القوي، ويكون في ذلك إشارة إلى وصفه بالشدة والقوة، ويؤيده أنه وقع في طريق أخرى "قتل ثمود" (2) .
_________
(1) الآية 8 من سورة الحاقة.
(2) قاله الحافظ في "الفتح" (6/377) .(1/456)
61-ثم ذكر حديث أبي ذر الذي تقدم في الباب قبل هذا فقال:
"حدثنا عياش بن الوليد، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر، قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ؟ قال:: " مستقرها تحت العرش".
قد تقدم شرحه والشاهد منه هنا: أن الشمس في ارتفاعها، وأبعد ما تكون عن الأرض التي عليها المخاطبين آنذاك، تكون تحت العرش، فالمخلوقات كلها تحته، والله -تعالى- فوق العرش، فهو عالٍ على خلقه كلهم وفوقهم.
في هذا الباب والذي قبله قصد البخاري - رحمه الله تعالى - إثبات علو الله، واستواءه على العرش، كما هو ثابت في نفس الأمر، وتضافرت عليه أدلة الوحي، والعقول والفطر، وكما هو مذهب السلف من الصحابة، وأتباعهم إلى اليوم.
والنصوص التي ذكرها البخاري ظاهرة الدلالة على ذلك، وهي نزر يسير جداً من النصوص الكثيرة المتنوعة في ذلك.
قال ابن أبي العز: " ومن سمع أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكلام السلف، وجد منه في إثبات الفوقية ما لا ينحصر.
ولا ريب أن الله - سبحانه - لما خلق الخلق، لم يخلقهم في ذاته المقدسة، فإنه الأحد الصمد، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته.
ولو لم يتصف - سبحانه - بفوقية الذات، مع أنه قائم بنفسه، غير مخالط للخلق؛ لكان متصفاً بضد ذلك؛ لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية: السفول، وهو مذموم على الإطلاق.(1/457)
فإن قيل: لا نسلم أنه قابل للفوقية، حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها.
قيل: لو لم يكن قابلاً للعلو، والفوقية، لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها، فمتى أقررتم أنه موجود قائم بنفسه، ليس وجوده ذهنياً، بل وجوده خارج الأذهان قطعاً، يتعين أن يكون متميزاً عن خلقه، عالياً عليهم.
وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة، أن ما كان وجوده خارج الأذهان، فهو إما أن يكون داخلاً في الخلق، أو بائنا منهم خارجاً عنهم.
وإنكار ذلك إنكار لما هو أجلى وأظهر من الأمور البديهيات الضرورية، بلا ريب، فلا يستدل بدليل على وجوده، إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه، وأوضح وأبين.
وإذا كانت صفة العلو والفوقية صفة كمال، لا نقص، ولا تستلزم نقصاً، ولا محذور فيها، ولا تخالف كتاباً، ولا سنة، ولا إجماعاً، فنفي حقيقتها يكون عين الباطل والمحال، الذي لا تأتي به شريعة أصلاً، فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده -تعالى-، وتصديق رسله، والإيمان بكتابه، وما جاء به رسوله، إلا بذلك؟
فكيف إذا انضم إلى ذلك شهادة العقول السليمة، والفطر المستقيمة، والنصوص الواردة، المتنوعة في الدلالة، على علو الله -تعالى- على خلقه، وكونه فوق عباده، التي تقرب من عشرين نوعاً:
أحدها: التصريح بالفوقية، مقروناً بأداة "من" المعينة للفوقية بالذات، كقوله -تعالى-: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} (1) .
_________
(1) الآية 50 من سورة النحل.(1/458)
الثاني: ذكر الفوقية، مجردة عن الأداة، كقوله -تعالى-: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (1)
الثالث: التصريح بالعروج إليه، كقوله -تعالى-: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (2) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " فيعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم، وهو أعلم" كما تقدم.
الرابع: التصريح بالصعود إليه، كقوله -تعالى-: {إليه يصعد الكلم الطيب} (3) .
الخامس: التصريح برفعه -تعالى- بعض خلقه إليه، كقوله -تعالى-: {بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} (4) ، وقوله: {إني متوفيك ورافعك} (5) .
السادس: التصريح بالعلو المطلق، الدال على جميع مراتب العلوم، ذاتاً وقدراً، وشرفاً، كقوله -تعالى-: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (6) ، وقوله -تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (7) ، وقوله -تعالى-: {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (8) .
_________
(1) الآية 18 و 61 من سورة الأنعام.
(2) الآية 4 من سورة المعارج.
(3) الآية 10 من سورة فاطر.
(4) الآية 158 من سورة النساء.
(5) الآية 55 من سورة آل عمران.
(6) الآية 255 من سورة البقرة.
(7) الآية 23 من سورة سبأ.
(8) الآية 51 من سورة الشورى.(1/459)
السابع: التصريح بتنزيل الكتاب منه، كقوله -تعالى-: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (1) ، وقوله: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (2) ، وهو كثير.
الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات، بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله -تعالى-: {إن الذين عند ربك} (3) ، وقوله -تعالى-: {وله من في السموات والأرض ومن عنده} (4) ، ففرق تعالى بين من عنده عموماً، وبين من عنده من الملائكة، وقد تقدم قوله -صلى الله عليه وسلم-: " إن الله لما خلق الخلق كتب كتاباً، فهو عنده فوق عرشه".
التاسع: التصريح بأنه -تعالى- في السماء، كقوله تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} (5) ، وتقدم أن ذلك، على وجهين، إما أن تكون "في" بمعنى "على" أو يراد بالسماء العلو، لا يجوز غير ذلك.
العاشر: التصريح برفع الأيدي إلى الله -تعالى-: كقوله -صلى الله عليه وسلم-: " إن الله يستحي من عبده، إذا رفع إليه يديه، أن يردهما صفراً" (6) .
الحادي عشر: التصريح بالاستواء، مقروناً بأداة "على" مخصوصاً بالعرش الذي هو أعلى المخلوقات.
_________
(1) الآية الأولى من سورة الزمر.
(2) الآية 2 من سورة غافر.
(3) آخر آية من سورة الأعراف.
(4) الآية 19 من سورة الأنبياء.
(5) الآية 16 من سورة الملك.
(6) أخرجه أبو داود في "السنن" (2/165) رقم (1488) ، والترمذي في الدعوات (5/217) ، وابن ماجه في "السنن" (2/1271) الحديث رقم (3865) .(1/460)
الثاني عشر: التصريح بنزوله -تعالى- كل ليلة إلى سماء الدنيا، والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى أسفل.
الثالث عشر: الإشارة الحسية إليه في العلو، كما فعل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خطبته في حجة الوداع، حيث قال: " إنكم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت، فرفع إصبعه إلى السماء، وقال: اللهم اشهد" (1) .
الرابع عشر: سؤال الرسول -صلى الله عليه وسلم- بلفظ "أين الله؟ " وإخباره عمن قال: " الله في السماء" بأنه مؤمن (2) .
الخامس عشر: اتفاق الكتب المنزلة من الله والرسل على أن الله فوق عباده عال عليهم، كما قال -تعالى- عن فرعون: {وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب (36) أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً} (3) ؛ لأن موسى عليه السلام أخبر فرعون أن الله في السماء، فقال هذا القول ليموه على السذج أتباع كل ناعق بدون بصيرة.
السادس عشر: عروج النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه -تعالى- وإخباره أنه تردد بينه -تعالى- وبين موسى، يطلب التخفيف من عدد الصلوات" (4) .
وقد غلط أكثر المتكلمين في مسمى السماء، حيث ظنوا أن السماء يقصد به مكان معين محاط، فتوهموا أن من قال: إن الله في السماء، أن مكاناً يحيط به أو يحويه - تعالى وتقدس-.
_________
(1) رواه مسلم في "صحيحه" وغيره، انظر: "مسلم" (2/890) الحديث رقم (1218) ، وهو حديث جابر الطويل في صفة الحج.
(2) انظر: " صحيح مسلم" (1/382) الحديث رقم (537) .
(3) الآيتان 36 و 37 من سورة غافر.
(4) "شرح الطحاوية" بتصرف (ص256-260) الطبعة الثالثة.(1/461)
قال شيخ الإسلام: " من توهم أن كون الله في السماء أن السماء تحيط به، أو تحويه، فهو كاذب أن نقله عن غيره، وضال إن اعتقده في ربه.
وما فهم هذا أحد من النصوص، ولم ينقل عن أحد، ولو سئل سائر المسلمين: هل تفهمون من قول الله ورسوله: إن الله في السماء، أن السماء تحويه؟ لبادروا إلى القول: بأن هذا شيء ما خطر بالبال.
فمن الضلال أن يجعل ظاهر نصوص الكتاب والسنة في ذلك دالة على الباطل والتشبيه.
بل عند الناس قولك: إن الله في السماء، وقولك: الله فوق العرش، سواء، إذ السماء إنما يراد به العلو، فالمعنى: أن الله في العلو، لا في السفل.
وقد علم المسلمون أن كرسيه - سبحانه وتعالى - وسع السموات، والأرض، وأن الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وأن العرش خلق من مخلوقات الله، لا نسبة له إلى عظمة الله تعالى.
فكيف يتوهم بعد هذا أن خلقاً يحصره أو يحويه؟ وقد قال -تعالى-: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} (1) ، وقال -تعالى-: {فسيروا في الأرض} (2) ، بمعنى: على الأرض، وهو كلام عربي حقيقة لا مجازاً، وهذا يعلمه من عرف حقائق الحروف" (3) .
وعلو الله -تعالى- ظاهر جداً، وقد تقدم أن البخاري - رحمه الله - أشار بما ذكره في هذا الباب، إلى أن علو الله -تعالى- وفوقيته ثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطر.
أما ثبوته بالكتاب والسنة فواضح.
_________
(1) الآية 71 من سورة طه.
(2) الآية 137 من سورة آل عمران، والآية 36 من سورة النحل.
(3) "مجموع الفتاوى" (5/106) .(1/462)
وأما الإجماع: فأشار إليه بقصة زينب: أنها كانت تفتخر على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- تقول: " زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات" فهذا يدل
على الإجماع؛ لأن ذلك متقرر عندهم، ولم ينكر ذلك أحد، بل يذكر في كل مناسبة، ومن ذلك هذا الذي قالته زينب، فالإجماع عليه ظاهر، والإجماع لا يكون على خلاف المعقول، ومن أيمان العرب قولهم: " لا والذي يراني من فوق سبعة أرقعة" (1) .
وأما الفطرة، فأشار إليها بما ذكره عن أبي ذر أنه قال لأخيه، قبل أن يسلم: " أعلم لي علم هذا الرجل، الذي يأتيه الخبر من السماء" أي: يأتيه الخبر من الله الذي في السماء؛ لأنه يقول للناس: أنا رسول الله إليكم.
قال شيخ الإسلام: " تبين وجوب إثبات العلو لله -تعالى- من وجوه:
أحدها: أن القرآن، والسنن المستفيضة، المتواترة، وغير المتواترة، وكلام السابقين والتابعين وأهل القرون الثلاثة، مملوء بما فيه إثبات العلو لله، وأنه مستوٍ على عرشه، بأنواع من الدلالات.
فالله -تعالى- يخبرنا تارة، أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش.
وتارة يخبر بعروج الأشياء، وصعودها، وارتفاعها إليه، كقوله -تعالى-: {بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} (2) ، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (3) ، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (4) ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} # (5) .
_________
(1) انظر: " أيمان العرب" للنجيرمي (ص15) .
(2) الآية 158 من سورة النساء.
(3) الآية 55 من سورة آل عمران.
(4) الآية 4 من سورة المعارج.
(5) الآية 10 من سورة فاطر.(1/463)
وتارة يخبر بنزولها منه، أو من عنده، كقوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ} (1) ، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} (2) ،
{حم {1} تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (3) ، {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (4) .
وتارة يخبر بأنه العلي الأعلى، كقوله -تعالى-: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (5) ، وقوله -تعالى-: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (6) .
وتارة يخبر بأنه في السماء، كقوله -تعالى- أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16} أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (7) ، فذكر السماء دون الأرض، وكقوله -صلى الله عليه وسلم-: " ألا تأمنوني، وأنا أمين من في السماء؟ " وقوله للجارية: " أين الله؟ " قالت: في السماء، قال: " اعتقها، فإنها مؤمنة" ولم يعلق ذلك بألوهية أو غيرها، كما في قوله -تعالى- وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله (8) ، وقوله: وهو الله في السماوات وفي الأرض (9) ، أي: هو المألوه المعبود في السموات والأرض.
وتارة يجعل بعض الخلق عنده، دون بعض، كقوله وله من في
_________
(1) الآية 114 من سورة الأنعام.
(2) الآية 102 من سورة النحل.
(3) فاتحة سورة فصلت.
(4) فاتحة سورة الجاثية والأحقاف.
(5) فاتحة سورة الأعلى.
(6) الآية 255 من سورة البقرة، والآية 4 من سورة الشورى.
(7) الآيتان 16 و 17 من سورة الملك.
(8) الآية 84 من سورة الزخرف.
(9) الآية 3 من سورة الأنعام.(1/464)
السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته} (1) .
فلو كان موجب العندية معنى عاماً، كدخولهم تحت قدرته، ومشيئته، ونحو ذلك، لكان كل مخلوق عنده، ولم يكن أحد مستكبراً عن عبادته.
وأما الأحاديث، والآثار عن الصحابة، والتابعين فلا يحصيها إلا الله -تعالى-.
فلا يخلو أن يكون ما اتفقت عليه هذه النصوص، من إثبات علو الله -تعالى- على خلقه هو الحق، أو الحق نقيضه، إذ الحق لا يخلو عن النقيضين.
فإذا كان نفي العلو هو الحق، فمعلوم أن القرآن لم يبين هذا، لا نصاً، ولا مفهوماً، وكذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا أحد من الصحابة وأتباعهم، ولا أحد من أئمة المسلمين، ولا يمكن أحد أن ينقل عن واحد منهم شيئاً من ذلك، بل نقيضه هو المستفيض عنهم، كما هو الموافق للكتاب والسنة.
ويلزم على ذلك أن يكون الله ورسوله والمؤمنون، لم ينطقوا بالحق في هذا الباب، بل تكلموا بما يدل على الضلال، إما نصاً، أو ظاهراً.
فإن قيل: هذه النصوص ما أريد بها إثبات علو الله على خلقه، وإنما أريد بها علو المكانة والقدر.
قيل: فكان يجب على المتكلم بها أن يبين للناس الحق، الذي يجب أن يؤمن به ويعتقد، ظاهراً وباطناً، وأنه لم يرد بهذا الكلام مفهومه، ومقتضاه.
فإن قيل: إنه تكلم بالمجاز، المخالف للحقيقة.
قيل: من المعلوم باتفاق العقلاء: أن المخاطب المبين إذا تكلم بمجاز، فلا بد أن يقرن بخطابه ما يدل على إرادة المعنى المجازي، فإذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم-
_________
(1) الآية 19 من سورة الأنبياء.(1/465)
الذي بين للناس ما نزل إليهم - يعلم أن المراد بالكلام خلاف مقتضاه وظاهره، وجب عليه أن يقرن بخطابه ما يصرف القلوب عن فهم المعنى الذي لم يرده، ولا سيما إذا كان ذلك المعنى باطلاً، ولا يجوز اعتقاده في الله -تعالى-، وهذا يجب ولو لم يخاطبهم بما يفهم منه خلاف الحق، الذي يجب اعتقاده، إذا كان مخوفاً عليهم، فكيف إذا كان في كلامه ما يفهم منه خلاف الحق" (1) .
فلا عذر لمن أنكر علو الله، ونفاة العلو والصفات، يقولون: إن هذه النصوص لم يرد بها الحقيقة والظاهر المفهوم منها، والقرينة الصارفة عن ذلك هي دلالة العقل، فاكتفى المتكلم بهذه القرينة؛ لأنها عقلية، عند كل عاقل.
فيقال لهم: إذا كان ما تكلم به الله ورسوله، إنما يفيد مجرد الضلال، والهدى إنما يستفاد من العقول، فلماذا ينزل الله الكتاب، ويرسل الرسول؟ للعناء والشقاء؟ فإن تركهم على جاهليتهم خير لهم من أن ينزل عليهم الكتاب، ويرسل إليهم الرسول، هذا هو لازم هذا القول الباطل.
ويقال أيضاً: الرسول جاء بإثبات العلو، والصفات، وذلك أظهر في العقل من قولكم.
ثم الرسول -صلى الله عليه وسلم- أما أن يتكلم بالهدى، أو بالضلال، أو يسكت عنهما.
ومعلوم أن السكوت عنهما خير من التكلم بالضلال.
وبذلك يعلم بالعقل، أنه لم يسكت عن بيان الحق، والهدى، والتحذير من اعتقاده الباطل، وبذلك يتفق ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع العقل الصحيح، الذي لم تفسده الشياطين، والهوى المضل.
فالعقل يوافق ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا ما يقوله نفاة الصفات،
_________
(1) "مجموع الفتاوى" (5/164-168) ملخصاً.(1/466)
وليس بين العقل الصريح والنقل الصحيح تناقض أصلاً، كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: درء تعارض العقل والنقل، وغيره.
فقولهم: إن القرينة الصارفة عن الظاهر، هي العقل، خطأ محض، إذ العقل يوافقها لا يخالفها كما توهموه، كما أن إثبات الصفات ليس فيه تشبيه كما زعموا، ولكن الأوهام وسوء الظن بالله ورسوله أرداهم.
ومن حججهم الباطلة التي حملتهم على صرف النصوص عن ظاهرها، ورأوا وجوب تأويلها لذلك، هي قاعدتهم في أن جميع الأجسام حادثة لملازمتها للأعراض التي هي الصفات، فوجب تنزيه الرب -تعالى- عن كل صفة تستلزم التركيب، أو الجسمية؛ لأن الأعراض لا تكون إلا في جسم، والجسم لا بد أن يكون مركباً من الجواهر - كما زعموا-، ولهذا قالوا: إن الاستواء والعلو، يلزم منهما النقلة، والمكان، والحركة، وهذه من صفات الأجسام.
فيقال لهم: الحياة، والعلم، والسمع، والبصر - مما جوزتم لأنفسكم أن تصفوه به- لا يعقل أن تقوم إلا بجسم، مع أنكم تسمون الصفات: أعراضاً، ولا فرق بين ما أثبتموه وما نفيتموه في المعنى، ألا يجوز لغيركم أن يصف الله -تعالى- بما وصف
به نفسه، ووصفته به رسله بأنه -تعالى- مستوٍ على عرشه، وعالٍ على خلقه، وبأن له وجهاً ويدين حقيقة، ونحو ذلك مما تسمونه: أبعاضاً، تستلزم التركيب، والجسمية؟ كما افتريتموه على رب العالمين، ورميتم من وصف الله -تعالى- بما وصف به نفسه، بالتشبيه، والتجسيم، مع أنهم أقرب إلى المعقول منكم، وقد سلم لهم المنقول بدون تحريف.
قال شيخ الإسلام: " ولا ريب أن الله موجود، قائم بنفسه، وترفع إليه الأيدي عند الدعاء، كما فطر على ذلك جميع عباده، ولا ريب أنه تجوز رؤيته في الآخرة، كما أخبر بذلك في كتابه، فإذا سموا هذه المعاني تجسيماً، فلا ينبغي لنا أن نترك ما أخبر الله به عن نفسه في كتابه، ونذهب إلى تأويلها، لمجرد هذه(1/467)
التسميات الحادثة المبتدعة" (1)
وقال أيضاً: " ولفظ الظاهر فيه إجمال، واشتراك، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فلا ريب أن هذا غير مراد.
والسلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفراً، وباطلاً.
والله سبحانه - وتعالى - أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه، لا يظهر منه إلا ما هو كفر، أو ضلال.
والذين يجعلون ظاهرها ذلك، يغلطون من وجهين:
أحدهما: أنهم جعلوا المعنى الفاسد، هو ظاهر نص كلام الله وكلام رسوله، ولذلك أوجبوا تأويله، ليخالف الظاهر الذي زعموا، وليس الأمر كذلك.
الثاني: أنهم ردوا المعنى الصحيح الذي هو ظاهر اللفظ؛ لاعتقادهم أنه باطل، كقولهم في الحديث: " قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن "، قالوا: لا يجوز أن يراد به الظاهر، فليس في قلوبنا أصابع.
ومعلوم أنه ليس ظاهره أن القلوب متصلة بالأصابع، ولا مماسة لها، ولا أن أصابع الرحمن في جوف العبد، ولا يفهم من قول القائل: هذا بين يدي، ما يقتضي مباشرته ليديه.
وإذا قيل: إن السحاب بين السماء والأرض، لم يقتض أن يكون مماساً للسماء، أو الأرض، ونظائر ذلك كثيرة " (2) .
_________
(1) "مجموع الفتاوى" (3/43-45) ملخصاً.
(2) المصدر السابق.(1/468)
وقال أبو نصر السجزي في "الإبانة": "وأئتمنا، كسفيان، ومالك، والحمادين، وابن عيينة، والفضيل، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، متفقون على أن الله فوق العرش، وعلمه في كل مكان، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا، وأنه يغضب، ويرضى، ويتكلم بما يشاء" (1) .
وقال ابن عبد البر في شرحه لحديث النزول: "وفيه دليل على أن الله - عز وجل - في السماء على العرش، من فوق سبع سماوات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية، في قولهم: إن الله - عز وجل - في كل مكان، وليس على العرش، والدليل على صحة ما قال أهل الحق: قوله - تعالى -: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) وقوله -تعالى-: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} (3) ، وقوله -تعالى-: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} (4) ، وقوله -تعالى-: {إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً} (5) ، وقوله -تعالى-: {إليه يصعد الكلم الطيب} (6) ، وقوله -تعالى-: {تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} (7) ، وقوله -تعالى-: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} (8) ، وقوله -تعالى-: {سبح اسم ربك
الأعلى} ، وهذا من العلو، وكذلك قوله -تعالى-: {العلي العظيم} (9) ،
_________
(1) ذكره الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (17/656) .
(2) الآية 5 من سورة طه.
(3) الآية 4 من سورة آلم السجدة.
(4) الآية 11 من سورة حم فصلت.
(5) الآية 42 من سورة الإسراء.
(6) الآية 10 من سورة فاطر.
(7) الآية 143 من سورة الأعراف.
(8) الآية 16 من سورة الملك.
(9) الآية 255 من سورة البقرة، والآية 4 من سورة الشورى.(1/469)
وقوله -تعالى-: {الكبير المتعال} (1) ، وقوله -تعالى-: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} (2) ، وقوله -تعالى-: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} (3) ، والجهمي يزعم أنه أسفل.
وقال - جل ذكره -: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} (4) ، وقال -تعالى-: تعرج الملائكة والروح (5) ، وقال -تعالى- لعيسى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ (6) ، وقال -تعالى-: بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ (7) ، وقال -تعالى-: فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ (8) ، وقال -تعالى-: وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (9) ، وقال تعالى: لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ {2} مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (10) ، والعروج: الصعود.
وأما قوله -تعالى-: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} (11) ، فمعناه: من على السماء، يعني على العرش، وقد يكون "في" بمعنى "على" ألا ترى إلى قوله -تعالى-: {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (12) ، وقوله -تعالى-: {فَسِيحُواْ فِي
الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (13) ؟ أي: على الأرض، وهذا كله يعضده قوله -تعالى-: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (14) ، وما كان مثله مما تلونا من الآيات في هذا الباب" (15) ا. هـ.
_________
(1) الآية 9 من سورة الرعد.
(2) الآية 15 من سورة غافر.
(3) الآية 50 من سورة النحل.
(4) الآية 5 من سورة آلم السجدة.
(5) الآية 4 من سورة المعارج.
(6) الآية 55 من سورة آل عمران.
(7) الآية 158 من سورة النساء.
(8) الآية 38 من سورة فصلت.
(9) الآية 19 من سورة الأنبياء.
(10) الآيتان 2 و 3 من سورة المعارج.
(11) الآية 16 من سورة الملك.
(12) الآية 71 من سورة طه.
(13) الآية 2 من سورة التوبة.
(14) الآية 4 من سورة المعارج.
(15) "التمهيد" (7/129-130) .(1/470)
وقال أيضاً: " وما روي عن ابن عباس في قوله -تعالى-: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (1) ، أنه قال على جميع بريته، فلا يخلو منه مكان".
فالجواب: أنه منكر، ونقلته مجهولون، وضعفاء، وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول، فكيف يحتجون بمثل هذا الأثر الساقط؟ وأما تعلقهم بقوله -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} (2) ، وقوله -تعالى-: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} الآية (3) ، وزعمهم أنه الله - تبارك وتعالى - في كل مكان بنفسه وذاته. فيقال لهم: أنتم لا تخالفون بأنه ليس في الأرض دون السماء، بذاته، فيجب حمل هذه النصوص على المعنى الصحيح المجمع عليه، وهو أنه في السماء إله معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض، وهو الذي قاله أهل العلم بالتفسير.
وقوله -تعالى-: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (4) الآية، ليس فيها حجة لهم؛ لأن علماء الصحابة والتابعين، الذين روي عنهم التفسير، قالوا في هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان. ولم يخالفهم في ذلك من يعتد به.
ثم ذكر عن ابن مسعود: قال: " الله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم" وذكر عن الضحاك، وسفيان الثوري مثله" (5) .
_________
(1) الآية 5 من سورة طه.
(2) الآية 84 من سورة الزخرف.
(3) الآية 7 من سورة المجادلة.
(4) الآية 7 من سورة المجادلة.
(5) "التمهيد" (7/133-139) ملخصاً.(1/471)
فتبين بما ذكره أن هذه الآيات التي تعلق بها نفاة العلو، تدل على عكس قولهم، فهي متفقة مع النصوص الصريحة في الدلالة على علو الله -تعالى-.
من الحجج القاطعة أن الله تعالى فوق السماوات على عرشه: أن كل داع يدعو الله -تعالى- يجد في نفسه دافعاً إلى الاتجاه إلى الله فوقه، وهو أمر ضروري وقطعي، فلا يمكن لأي سائل يسأل الله ويطلب منه إلا – رفع – يديه، واتجه بقلبه إلى من يستغيث به، الذي هو عال فوق جميع مخلوقاته، مستو على عرشه، فالعلم بذلك فطري ضروري عقلي، ونصوص الشرع جاءت مؤيدة ذلك مقررة له.
قال شيخ الإسلام: " ذكر محمد بن طاهر المقدسي، عن الشيخ الجليل أبي جعفر الهمداني، أنه حضر مجلس أبي المعالي الجويني، وهو يقول: كان الله، ولا عرش {ولا مكان} وهو على ما {كان} عليه {قبل خلق المكان} ، أو كلام من هذا المعنى، فقال: يا شيخ، دعنا من ذكر العرش، أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: يا الله، إلا وجد من قلبه ضرورة بطلب العلو، ولا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟.
فصرخ أبو المعالي، ولطم رأسه، وقال: " حيرني الهمداني" (1) .
وقد تعلق نفاة العلو أيضاً: بأن الله -تعالى- لو كان في مكان، لأشبه المخلوقات؛ لأن ما أحاطت به الأمكنة فهو مخلوق.
فيقال: هذا نشأ عن القياس الفاسد، والتشبيه المستكن في نفوس هؤلاء، إذ لو آمنوا بأن الله على كل شيء قدير، وأنه ليس كمثله شيء، ما انطلت هذه الشبه وهذا الهراء على نفوسهم.
ويقال أيضاً: ألستم تقرون بأن الله -تعالى- موجود قبل خلق الكون،
_________
(1) "الاستقامة" (1/167) .(1/472)
فهو -تعالى- كما قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: " كان الله، ولم يكن شيء معه" (1)
ونحن وأنتم وكل العقلاء، لا نعقل وجود أحد منا، إلا في مكان، وما ليس في مكان، فهو عدم، والله بخلاف ذلك، فلا يجوز أن يقاس بخلافه كما فعلتم، قلتم: لو كان في مكان لأشبه خلقه.
فإن زعموا أنه يلزم من كونه -تعالى- في العلو، التغير، والانتقال؛ لأنه، كان ولا مكان، فلما خلق المكان صار في العلو، فزال عن صفته في الأزل وصار في مكان.
قيل: وأنتم يلزمكم أقبح من ذلك، وهو زعمكم أنه -تعالى- كان، لا في مكان، ثم صار في كل مكان، فقد تغير عندكم معبودكم، وانتقل من لا مكان، إلى كل مكان، وهذا لازم لكم، لا انفكاك لكم منه.
وقولهم: كان الله، ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان، كلام فاسد، متناقض، وذلك أن النفاة للاستواء والعلو، وغيرهما، على قسمين:
قسم يقول: إن الله لا فوق، ولا تحت، ولا يمين، ولا شمال، ولا أمام، ولا خلف، ولا داخل العالم، ولا خارجه، وهذا لا يفهم منه إلا العدم المحض، فليس له وجود فعلي على هذا الوصف، فهو إذاً ليس له مكان أصلاً، إذ لا وجود له.
وقسم يقول: إنه في كل مكان، فيلزم أنه كان في كل مكان، قبل خلق المكان، فهو إذا في هذا الكون كله، قبل خلقه له، وهذا قول ظاهر الفساد، إذ معناه: كان في الأمكنة، قبل خلقها.
فالحق " أن الله -تعالى- ليس كمثله شيء، لا في نفسه، ولا في فعله، ولا في
_________
(1) تقدم هذا الحديث مشروحاً، وبين أن هذا اللفظ مروي بالمعنى، وأن الصواب: "ولم يكن شيء قبله".(1/473)
صفاته، ولا في مفعولاته، فإذا رام الإنسان أن ينفي شيئاً مما يستحقه؛ لعدم نظيره في الشاهد المحسوس، صار ما يثبته بدل نفيه أبعد عن المعقول، والمشهود" (1) .
ومن الحجج المشهورة على وجوب علو الله -تعالى-: ما تقدم في كلام ابن أبي العز: وهو أن يقال: لما خلق الله الخلق، لا بد أن يكون خلقه بائناً منه، فلا يجوز أن يكون الخالق -جل وعلا- في المخلوق، وأن يكون المخلوق حاوياً له، تعالى عن
ذلك، فلا بد أن يكون بائناً عنه، ولا يجوز أن يكون المخلوق فوق الخالق -تعالى وتقدس - فلا بد أن يكون عالياً فوق خلقه.
قال شيخ الإسلام: " معرفة القلوب، وإقرارها بفطرة الله التي فطرها عليها، أن ربها فوق العالم، ودلالة الكتاب والسنة على ذلك، وظهور ذلك في خاصة الأمة وعامتها، وكلام السلف في ذلك، أعظم من كونه -تعالى- يرى بالأبصار يوم القيامة، أو أن رؤيته بالأبصار جائزة.
ويشهد لهذا أن الجهمية، أول ما ظهروا في الإسلام، في أوائل المائة الثانية، وكان حقيقة قولهم في الباطن: تعطيل الرب -تعالى- من الصفات كلها، ولا يصفونه -تعالى- إلا بالسلوب المحضة، التي لا تنطبق إلا على المعدوم، وكانوا في الباطن ينكرون أن يرى، أو يتكلم، أو أنه فوق العرش، أو أن يكون موصوفاً بالصفات التي جاءت بها كتب الله، أو دلت عليها مع ذلك الدلائل العقلية، لكن ما كانوا يظهرون من قولهم للناس، ما هو ظاهر البطلان، وما ليس فيه شبهة، مثل نفي العلو المعروف، المتيقن من الدين بالضرورة عند العامة والخاصة، وإنما يظهرون ما فيه شبهة، ولهم عليه حجة، ويكونون فيه أقل مخالفة لما يعلمه الناس من الحجج الفطرية، الشرعية، وهذا شأن كل من أراد أن يظهر خلاف ما عليه أمة من الأمم من الحق، فإنهم لا ينقضون الأصول العظيمة الظاهرة ابتداء" (2) .
ومن المؤسف أن بعض ضلالات الذين ذكرهم الشيخ، قد ورثها كثير من علماء المسلمين، كالأشعرية الذين يزعمون أنهم أعداء لهم وخصوم، مع أنهم
_________
(1) "بيان تلبيس الجهمية" (1/147) .
(2) "بيان تلبيس الجهمية" (2/78-79) بتصرف.(1/474)
يتفقون معهم على إنكار علو الله تعالى، واستوائه على عرشه، ومجيئه لفصل القضاء بين عباده، ونزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة، كما أخبر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
كما أنهم يؤولون الصفات إلا قليلاً، تأويلاً يؤول إلى الإنكار، مثل اليدين، والرجلين، والوجه، والرحمة، والمحبة، والضحك، والرضا، والغضب، والسخط، والمقت، وغير ذلك.
ويوافقون الجهمية في كون القرآن مخلوقاً، فإنهم يجعلون الكلام قسمين: نفسي، وهو المعنى القائمة بالنفس، وهذا هو الذي يصفون الله به، ولفظي حرفي وهو
المكتوب في المصاحف، وهو ليس كلاماً لله عندهم، بل هو عبارة عن كلام الله، وهو مخلوق، وهذا قول الجهمية الذين كفرهم السلف من أجله.
والمقصود: أن علو الله -تعالى- واستواءه على عرشه ثابت بنصوص الكتب المنزلة على رسل الله، وأما العلو فهو ثابت بذلك، وبالفطر التي عليها عباده، وبالعقول التي لم تنتكس بفعل الشياطين، وبإجماع أهل العلم والإيمان من جميع الأمم، كما تقدمت الإشارة إليه، ولم يعرف خلاف في هذه المسألة، ونحوها إلا بعدما دخل كثير من الزنادقة في الإسلام نفاقاً، وقصداً لإفساد الدين، بعد المائة الأولى للهجرة، وإن كان قد وجد قبل ذلك بعض المفسدين المتطرفين، الذين كان لهم الأثر السيء في الأمة.
قال شيخ الإسلام: " افترق الناس، في علو الله واستوائه، أربع فرق:
الأولى: الجهمية، النفاة، يقولون: ليس داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوق، ولا تحت، وجميع الطوائف، من أهل البدع يتمسكون بنصوص، إلا الجهمية.
وقسم ثان منهم يقولون: إنه بذاته في كل مكان، ويدخل فيهم الأشاعرة، وهؤلاء هم الفرقة الثانية.(1/475)
الثالثة: من يقول: إنه فوق العرش، وهو في كل مكان، ويزعم أنه بذلك يجمع بين النصوص.
الرابعة: المتبعون للكتاب، والسنة، الذين أثبتوا ما أثبته الله ورسوله، من غير تحريف، فآمنوا بالله فوق سماواته، مستوٍ على عرشه" (1) .
وقد تقدم ذكر بعض الآيات الدالة على علو الله -تعالى- صراحة، وبعض الأحاديث مما ذكره البخاري وغيره.
ومما لم يذكره: قصة معراج الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى ربه فوق السماوات كلها، وهي ثابتة ثبوتاً قطعياً بدون ريب.
وفي حديث الرقية: " ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك" (2) .
وفي حديث الأوعال: " والعرش فوق ذلك، والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه" (3)
وفي "سنن أبي داود"، عن جبير بن مطعم قال: أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعرابي فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وجاع العيال، وهلك المال، فادع الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فسبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال: " ويحك! أتدري ما الله؟ إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، إن الله على عرشه، وإن عرشه على سماواته وأرضه هكذا، وقال بأصابعه مثل القبة" (4) .
_________
(1) "مجموع الفتاوى" (5/229-231) ملخصاً.
(2) رواه أبو داود في "السنن" (4/218) رقم (3892) ، وأحمد في "المسند" (6/21) .
(3) رواه أبو داود (5/93) والترمذي وقال: حسن غريب (5/424) رقم (3320) ، وابن ماجه (1/69) وأحمد في "المسند" (1/206-207) وغيرهم.
(4) أخرجه أبو داود في "السنن" (5/94) ، وأبو سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية" (ص272) ، وفي الرد على المريسي (ص447) .(1/476)
وفي خطبته -صلى الله عليه وسلم- في عرفة، في أعظم جمع اجتمع له -صلى الله عليه وسلم- بعدما أمر، ونهى، جعل يقول: " ألا هل بلغت؟ " فيقولون: نعم، عند ذلك يرفع إصبعه إلى السماء وينكبها إليهم، ويقول: " اللهم اشهد" - غير مرة - (1) .
والنصوص في ذلك كثيرة جداً، والحق في هذه المسألة واضح جلي، بل وفي كل ما يجب لله -تعالى- وما يمتنع عليه، ومعلوم أن الله -تعالى- قد أكمل لهذه الأمة دينها على لسان رسولها، وأتم عليها النعمة بذلك، وأنزل كتابه فيه تبيان كل شيء، ومعرفته -تعالى- بما له من الأوصاف، ومعرفة ما يمتنع عليه، هي أجل أمور الدين وأعظم أصوله، فلا بد أن يكون هذا قد بين غاية البيان.
ثم إنه ليس بين علو الله -تعالى- على جميع خلقه، ومعيته لخلقه، وقربه من عباده، منافاة، فعلوه -تعالى- واستواؤه على عرشه، ثابت ثبوتاً قطعياً، كما وضح ذلك -تعالى- في كتابه، وبينه رسوله -صلى الله عليه وسلم- وكذلك معيته -تعالى- لخلقه، قد وضحها وبينها رسوله، فوجب الإيمان بذلك، فكما أنه تعالى مستوٍ على عرشه، وعالٍ على خلقه، حقيقة، فهو كذلك موصوف بالقرب والمعية على الحقيقة.
قال شيخ الإسلام: " لا يخالف ما ثبت من علو الله، وأنه فوق العرش، معيته لخلقه، الثابت بمثل قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (2) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم-: " إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإن الله قبل وجهه" (3) ونحو ذلك.
وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة، كما جمع الله بينهما في
_________
(1) تقدم أنه أخرجه مسلم.
(2) الآية 4 من سورة الحديد.
(3) رواه البخاري في الصلاة، باب 33 (ص75) وفي أماكن متعددة، ومسلم.(1/477)
قوله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1) ، فأخبر -تعالى- أنه فوق العرش، يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث الأوعال: " والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه" (2) .
وذلك أن كلمة "مع" في اللغة، إذا أطلقت، لم يكن ظاهرها، في اللغة إلا المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسة، أو محاذاة، عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني، دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا، ويقال: هذا المتاع معي، لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك، فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة.
ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فقوله -تعالى-: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (3) دل ظاهر الخطاب أن حكم هذه المعية، ومقتضاها: أنه مطلع عليكم شهيد عليكم، ومهيمن، عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته.
وقوله: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (4) ، حق على ظاهره، ودلت الحال
على أن حكم هذه المعية: الاطلاع، والنصر، والتأييد، ومثلها قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} (5) ، وقوله -تعالى-: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم
_________
(1) الآية 4 من سورة الحديد.
(2) تقدم تخريجه.
(3) الآية 4 من سورة الحديد.
(4) الآية 40 من سورة التوبة.
(5) الآية 46 من سورة طه.(1/478)
مُّحْسِنُونَ} (1) حق، وحكمها النصر، والتأييد" (2) .
والمعية نوعان: عامة وخاصة.
فالأولى: هي المذكورة في مثل قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (3) .
والثانية: هي المذكورة في مثل قوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (4) ، فهذه خاصة بأنبيائه وأوليائه، وعباده المؤمنين، فهو -تعالى- معهم دون أعدائهم، ومعهم بسمعه ورؤيته، ونصره وتأييده، كما أنه -تعالى- معهم بإحاطته وقبضته.
والمعية لا تدل على المخالطة، والممازجة، وإنما تدل على المصاحبة، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل" (5) .
فهو - سبحانه - مع المسافر في سفره، ومع أهله في وطنه، وهو فوق عرشه، وكل ذلك على ظاهره، غير محتاج إلى تأويل، ولا يلزم منه أن تكون ذاته مختلطة بذوات خلقه -تعالى الله وتقدس عن ذلك -؛ وذلك لأن المفهوم من المعية في اللغة العربية: المصاحبة والمقارنة، حكمها حسب مورد الخطاب، فقوله -تعالى-: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} (6) أي: على الإيمان، لا أن ذواتهم حالة في ذاته، بل هم مصاحبون له ومتبعون له على الإيمان، وقوله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} يدل على موافقتهم في الإيمان، وموالاتهم.
_________
(1) الآية 128 من سورة النحل.
(2) "مجموع الفتاوى" (5/102-104) .
(3) الآية 4 من سورة الحديد.
(4) الآية 46 من سورة طه.
(5) رواه مسلم في "الصحيح" (2/978) الحديث رقم (1342) ورواه غيره.
(6) الآية 29 من سورة الفتح.(1/479)
فالله -تعالى- مع عباده، يراهم، ويسمع كلامهم، وهو محيط بهم، وعلمه بهم من لوازم معيته لهم، وليست المعية هي العلم كما يتوهمه بعض الناس، فعلمه -
تعالى - محيط بكل شيء ولا يختلف أو يتغير، ولذلك صارت المعية إلى خاصة، وعامة، وكل واحدة لها مقتضاها وحكمها، فمن مقتضى العامة: المراقبة، والتخويف، والاطلاع على جميع التصرفات، وما تكنه الصدور.
ومن مقتضى الخاصة: النصر، والتأييد، والحفظ.
وتفسير من فسرها بالعلم من السلف، يقصد بيان أن الله ليس مختلطاً بخلقه أو حالاً فيهم، أو أن شيئاً من مخلوقاته تحويه، أو تظله، أو تقله - تعالى وتقدس-.
وأما القرب، فقد جاء على صيغتين: الإفراد، نحو قوله -تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (1) ، وكما في حديث أبي موسى المتقدم: " إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته".
وهو -تعالى- فوق عرشه، ويقرب ممن يشاء من خلقه، كيف يشاء، كما قرب من موسى - عليه السلام - حين كلمه، وهو فوق عرشه، فوق السماوات كلها، فلا تنافي بين علوه، وقربه ومعيته؛ لأنه تعالى أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وهو محيط بكل شيء، وهو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، تعالى الله عن ظنون السوء الكاذبة.
فعلو الله العلي العظيم، واستواؤه على عرشه، ومعيته وقربه، كل ذلك ثابت له، حق على ظاهره، كما أخبر به -تعالى- عن نفسه، وأخبرت به رسله، فالكل ثابت لله -تعالى- في الكتب الإلهية، وفي نصوص الأنبياء.
وأهل الفطرة العقلية السليمة، من الأولين والآخرين، يقولون: إنه -تعالى- فوق عرشه، عالٍ على خلقه، وهو معهم، بعلمه ورؤيته، وسمعه وإحاطته، وقبضته وهيمنته عليهم.
_________
(1) الآية 186 من سورة البقرة.(1/480)
ومع أنبيائه وأوليائه بذلك، وبنصره، وتأييده، وحفظه. ومعيته -تعالى- من صفاته الخاصة به.
وأما الصيغة الأخرى للقرب: صيغة الجمع، كقوله -تعالى-: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (1) ، وهذا يقصد به لغة العرب: الواحد العظيم، الذي له عبيد يطيعونه، ويسارعون في أمره، وإذا وقع الفعل منهم عن أمره قال: نحن فعلنا، كما يقول الرئيس: نحن أمرنا بكذا، والله -تعالى- رب الملائكة، وخالقهم، وخالق أفعالهم، وهم ممتثلون لأمره: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (2) ، {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (3) ، مع أنه -تعالى- غني بذاته عن ملائكته، وجميع خلقه، وهو الذي أقدر خلقه على ما يفعلون، وأعطاهم القدرة على ذلك، وإذا شاء سلبهم ذلك، فإذا قال -تعالى-: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ} (4) ، إذا كان المراد الملائكة، كان من هذا الباب.
والمقصود: أن علو الله -تعالى- ثابت له بالفعل، وأدلة الكتاب، وما بلغه الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمته، وثابت بالضرورة الفطرية، والأدلة عليه لا تحصى، ومنكره منكر للمعلوم بالضرورة من الدين، والمعلوم بالضرورة العقلية الفطرية، وليس بين علو الله واستوائه على عرشه، وبين معيته لخلقه، ولأوليائه وأنبيائه، وقربه منهم تعارض.
تم الجزء الأول من الشرح ويليه الجزء الثاني وأوله:
باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}
_________
(1) الآية 16 من سورة ق.
(2) الآية 6 من سورة التحريم.
(3) الآية 27 من سورة الأنبياء.
(4) الآية 85 من سورة الواقعة.(1/481)
شرح
كتاب التوحيد
من صحيح البخاري
تأليف
عبد الله بن محمد الغنيمان
رئيس قسم الدراسات العليا
بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
الجزء الثاني
قال: باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (1) .
قال ابن جرير: ((يقول - تعالى -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} يعني: يوم القيامة, {نَّاضِرَةٌ} حسنة جميلة من النعيم, يقال: نَضُر وجه فلان: إذا حسن من النعمة, ونضَّرَ الله وجهه: إذا حسنه كذلك)) (2) .
ثم روى ذلك بأسانيده عن المفسرين من السلف.
{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أي: تلك الوجوه النضرة, تنظر بأبصارها إلى ربها, وذلك أعلى نعيم الآخرة.
روى ابن جرير, عن عكرمة, والحسن, وعطية العوفي: ينظرون إلى ربهم.
روي عن مجاهد, وأبي صالح: تنتظر ثواب ربها.
ثم قال: والصواب القول الأول: أنها تنظر إلى خالقها, وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
حدثني علي بن الحسين بن أبجر, قال: حدثنا مصعب بن المقدام, قال: حدثنا إسرائيل بن يونس, عن ثوير, عن ابن عمر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: ((إن أدنى أهل الجنة منزِلة, لَمَن ينظر في مُلْكه ألفي سنة - قال -
_________
(1) الآيتان 22 , 23 من سورة القيامة
(2) انظر: ((تفسير ابن جرير)) (29/191) .(/)
وإن أفضلهم منزلة, لمن ينظر في وجه الله كل يوم مرتين)) ثم تلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} , قال: البياض, والصفاء, {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} تنظر كل يوم في وجه الله - عز وجل -)) .
حدثنا محمد بن منصور الطوسي, وإبراهيم بن سعيد الجوهري, قالا: حدثنا علي بن الحسن بن شقيق, قال: حدثنا الحسين بن واقد, عن يزيد النحوي (1) , عن عكرمة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} , قال: تنظر وهي تنظر إلى ربها نظراً.
حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق, قال: سمعت أبي يقول: أخبرني الحسن بن واقد, في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة} من النعيم {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أخبرني يزيد النحوي, عن عكرمة, وإسماعيل بن أبي خالد, وأشياخ من أهل الكوفة, قال: تنظر إلى ربها نظراً.
حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا المبارك عن الحسن, في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة} قال: حسنة {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال تنظر إلى الخالق, وحق لها أن تنضَّر وهي تنظر إلى الخالق (2) .
وقال ابن كثير: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة} من النضارة, أي: حسنة بهية مشرقة مسرورة {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أي تراه عياناً, كما رواه البخاري في ((صحيحه)) : ((إنكم ستَرَوْن ربكم عَياناً)) [أي: معاينة ينظرون إليه] .
_________
(1) هو يزيد بن أبي سعيد , أبو الحسن , القرشي بالولاء , المروزي , ثقة عابد. قتل ظلماً سنة إحدى وثلاثين ومائة , انظر: ((التقريب)) (2/365) و ((تهذيب التهذيب)) (11/332) .
(2) ((تفسير الطبري)) (29/192-193) .(2/6)
وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله - عز وجل - في الدار الآخرة, في الأحاديث الصحاح, من طرق متواترة عند أئمة الحديث, لا يمكن دفعها, ولا منعها)) (1) ثم ذكر طرفاً منها.
وقال البغوي: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} يوم القيامة {نَّاضِرَة} قال ابن عباس: حسنة, وقال مجاهد: مسرورة, وقال ابن زيد: ناعمة, وقال مقاتل: بيض يعلوها النور, وقال السدي: مضيئة, وقال يمان: مسفرة, وقال الفراء: مشرقة بالنعيم, يقال: نضر الله وجهه, ينضر نضراً, ونضره الله, وأنضره, ونَضُر وجهه, ينضر نضرة ونضارة، قال تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيم} (2) .
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة} قال ابن عباس, وأكثر الناس: تنظر إلى ربها عياناً بلا حجاب.
قال الحسن: تنظر إلى الخالق, وحق لها أن تنضَّر وهي تنظر إلى الخالق.
ثم روى بسنده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: ((إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه, وأزواجه, ونعيمه, وخدمه, وسرره, مسيرة ألف سنة, وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية)) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (3) .
وهذا الحديث هو الذي نقلته عن تفسير الطبري قريباً, وفيه ثوير بن أبي
_________
(1) ((تفسير ابن كثير)) (8/304) .
(2) الآية 24 من سورة المطففين.
(3) تفسير البغوي على هامش الخازن (7/185-187) .(2/7)
فاختة, سعيد بن جهمان, ضعيف, قال الحافط: ((أطبقوا على تضعيفه)) (1) .
وقال ابن عدي: ((أثَرُ الضعف بَيِّنٌ على رواياته, وهو إلى الضعف أقرب منه إلى غيره)) (2) .
وهذا لا يمنع من الاستشهاد بحديثه, كما هي طريقة العلماء فيما لا يخالف الثابت الصحيح, بل يوافقه.
وفي ((الدر المنثور)) : ((أخرج ابن مردويه, عن ابن عباس, في قوله - تعالى -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: تنظر إلى وجه ربها)) (3) .
وذكر أحاديث في ذلك وآثاراً كثيرة.
والأحاديث في رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة كثيرة جداً, وقد تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وتلقاها أتباعه بكل قبول وارتياح وانشراح لها, وكلهم يرجو ربه ويسأله أن يكون ممن يراه في جنات عدن, يوم يلقاه.
ولم يرد هذه الأحاديث إلا أهل البدع والضلال, الذي اعتاضوا بهداية كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم - آراء فاسدة, زعموا أنها معقولات, وهي ضلالات وجهالات وشبهات, كما سيأتي بيان ذلك, إن شاء الله تعالى.
وقد أفرد كثير من أهل السُّنَّة هذه المسألة بمؤلفات خاصة.
قال البيهقي: ((لا يخلو النظر أن يكون الله - تعالى - عنى به: نظر الاعتبار,
_________
(1) ((الفتح)) (13/424) .
(2) انطر: ((الكامل)) (2/534) .
(3) (8/350) .(2/8)
كقوله – تعالى -: {َفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} (1) .
أو عنى به: نظرَ التعطف والرحمة, كقوله – تعالى -: {وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ} (2) .
أو عنى به: الانتظار, كقوله – تعالى -: {مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} (3)
أو عنى به: الرؤية, كقوله – تعالى -: {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} (4) .
ولا يجوز أن يكون عنى بقوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} نظر التفكر والاعتبار؛ لأن الآخرة ليست بدار استدلال واعتبار, وإنما هي دار اضطرار.
ولا يجوز أن يكون عنى نظر الانتظار؛ لأن ليس في شيء من أمر الجنة انتظار؛ لأن الانتظار معه تنغيص وتكدير, والآية خرجت مخرج البشارة, وأهل الجنة فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, من العيش, فهم مُمَكَّنون مما أرادوا, وإذا خطر ببالهم شيء, أُتوا به مع خطوره, فلم يجز أن يكون الله أراد بقوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} نظر الانتظار.
ولأن النظر إذا ذكر مع ذكر الوجه فمعناه: نظر العينين اللتين في الوجه, كما قال – تعالى -: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} (5) , أراد بذلك تقلب عينيه نحو السماء, ولأنه قال: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .
_________
(1) الآية 17 من سورة الغاشية.
(2) الآية 77 من سورة آل عمران. وفي أن المقصود بالآية: العطف والرحمة، نظر.
(3) الآية 17 من سورة يس.
(4) الآية 20من سورة محمد.
(5) الآية 144 من سورة البقرة.(2/9)
ونظر الانتظار لا يكون مقروناً بإلى؛ لأنه لا يجوز عند العرب أن يقولوا في نظر الانتظار ((إلى)) إذا كان معناه الانتظار, قالت بلقيس فيما أخبر الله - تعالى - عنها: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} (1) .
ولا يجوز أن الله - تعالى - أراد نظر التعطف والرحمة؛ لأن الخلق لا يجوز أن يتعطفوا على خالقهم, فإذا فسدت هذه الأقسام الثلاثة, صح القسم الرابع من أقسام النظر, وهو معنى قوله - تعالى -: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} , أنها رائية ترى الله عز وجل.
ولا يجوز أن يكون معناه: إلى ثواب ربها ناظرة؛ لأن ثواب الله غير الله, والله - تعالى - قال: {إِلَى رَبِّهَا} لم يقل: إلى غير ربها ناظرة.
والقرآن على ظاهره, وليس لنا أن نزيله عن ظاهره, إلا بحجة.
ألا ترى أنه لما قال: ((اعْبُدُونِي, وَاشْكُرُواْ لِي)) لم يجز أن يقال: أراد: ملائكتي أو رسلي.
ثم نقول: إنْ جاز لكم أن تدَّعوا هذا, في قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} جاز لغيركم أن يدعيه في قوله - تعالى -: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} (2) فيقول: أراد بها: لا تدرك غيره, ولم يرد أنها لا تدركه هو, وإذا لم يجز ذلك لم يجز هذا)) (3)
************
62 - قالَ: ((حدثنا عمرُو بنُ عَوْن, حدثنا خالدٌ وهُشَيمٌ, عن إسماعيلَ, عن قيسٍ, عن جَرير, قالَ: كُنا جُلوساً عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذا نظرَ إلى القمر ليلةَ البدر, قالَ: ((إنَّكم سترونَ رَبَّكُم,
_________
(1) الآية 35 من سورة النمل.
(2) الآية 103 من سورة الأنعام.
(3) ((الاعتقاد)) للبيهقي (ص74-75) .(2/10)
كما ترونَ هذا القمرَ, لا تُضامُّونَ في رؤيتِهِ, فإنَ استطعتُمْ أنْ لا تُغْلَبوا على صلاةٍ قبلَ طلوعِ الشمسِ, وصلاةٍ قبلَ غروبِ الشمسِ, فافعَلُوا)) .
63 – حدثنا يوسفُ بنُ موسى, حدثنا عاصمُ بنُ يوسفَ اليَرْبُوعِيُّ, حدثنا أبو شهابٍ, عن إسماعيلَ بن أبي خالدٍ, عن قيس بن أبي حازمٍ, عن جَريرِ بنِ عبدِ اللهِ, قالَ: قالَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم سترونَ رَبَّكُم عِيَاناً)) .
64 – حدثنا عَبْدَةُ بنُ عبدِ اللهِ, حدثنا حُسَينٌ الجُعْفِيُّ, عن زائدةَ, حدثنا بَيانُ بنُ بِشْرٍ, عن قيسِ بن أبي حازمٍ, حدثنا جريرٌ, قال: خرج علينا رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – ليلةِ البدرِ, فقالَ: ((إنكم سَتَروْنَ رَبَّكُم يومَ القيامةِ, كما تَرَونَ هذا, لا تُضَامُون في رؤيتهِ)) .
هذا حديث واحد, ذكره هنا من ثلاثة طرق إلى قيس بن أبي حازم, اقتصر على المقصود في الطريقين الأخيرين, وقد رواه في الصلاة, وفي التفسير.
قوله: ((كنا جلوساً عند النبي – صلى الله عليه وسلم – إذ نظر إلى القمر ليلة البدر)) هذا يدل على أنه – صلى الله عليه وسلم – بدأهم بذلك, وسيأتي في حديث أبي هريرة, وأبي سعيد, أن الناس سألوه عن ذلك, فهي قضية أخرى.
فهو – صلى الله عليه وسلم – أخبرهم ابتداء بأنهم يرون ربهم يوم القيامة, ووقع من بعضهم السؤال, فأجابهم بأنهم يرونه.
وليلة البدر: هي ليلة أربع عشرة, سميت ليلة البدر؛ لأن القمر يكمل فيها ويبدر, وإبداره: كماله وتمامه.
قوله: ((إنكم سترون ربكم, كما ترون هذا القمر)) , هذا بيان بليغ, وتأكيد عجيب, فأكده بأن, وبالفعل المضارع المسبوق بالسين, وبقوله:(2/11)
((كما ترون هذا القمر)) مع إشارته إليه, فليس بعد هذا البيان بيان, ولا مزيد على هذه التأكيدات, فمن حاول تأويل رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة بعد ما سمع هذا البيان من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهو يجادل بالباطل ليدحض به الحق, قد اختار الباطل على الحق, وسوف يولّه الله ما تولى.
وإذا دخلت السين على الفعل, صار وقوعه في المستقبل.
ورؤية العباد لربهم – تعالى – لا تقع إلا في الآخرة, كما سيأتي, إن شاء الله تعالى.
وفي ((صحيح مسلم)) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قوله: ((أما إنكم سَتُعرَضون على ربكم فَتَرَونه)) (1) . ففي كلا اللفظين تأكيد بليغ منه – صلى الله عليه وسلم – بأن المؤمنين يرون ربهم رؤية حقيقية بأبصارهم, مؤكدة كما سيأتي بيان ذلك, إن أراد الله تعالى.
قوله: ((لا تضامون في رؤيته)) يروى بضم التاء وتخفيف الميم, والمعنى: لا ينالكم في رؤية ربكم ضيم, أي ظلم وهضم.
ويروى بفتح التاء, وتشديد الميم, والمعنى: أنكم ترون ربكم رؤية واضحة, لا تحتاجون في رؤيته أن ينضم بعضكم إلى بعض لتتساعدوا على الرؤية, كما يقع عند رؤية الأمور الخفية.
ويروى أيضا: ((تضارون)) بفتح التاء, وضمها, والمعنى: لا يضر بعضهم بعضاً في رؤية الله – تعالى -, فيراه بعضهم, ويحجب عن رؤيته آخرون منهم, بل يراه المؤمنون رؤية واضحة, كوضوح الشمس والقمر.
قال الحافظ: ((تضارون بضم أوله, وبالضاد, وتشديد الراء, بصيغة
_________
(1) انظر: مسلم بشرح النووي (5/134) .(2/12)
المفاعلة من الضرر, وأصله: تضاررون, بكسر الراء وفتحها, أي لا تضرون أحداً, ولا يضركم, بمنازعة ولا مضايقة.
وجاء – أيضا – بتخفيف الراء, من الضير, وهي لغة في الضر, أي لا يخالف بعض بعضاً, فيكذبه وينازعه, فيضيره بذلك, يقال: ضاره, يضيره.
وقيل: المعنى: لا يحجب بعضكم بعضاً عن الرؤية, فيضر به)) (1) .
والمقصود من هذا كله أنهم يرون ربهم, رؤية واضحة, لا يلحقها نقص وليس فيها خفاء, ولا يحتاجون معاونة عليها.
قوله: ((فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس, وصلاة قبل غروبها, فافعلوا)) تعقيب الخبر عن رؤيتهم لربهم بالفاء المقترنة بالحث على فعل الصلاة المذكورة, يدل على أن المحافظة على هاتين الصلاتين من أسباب حصول الرؤية.
وعلق ذلك بالاستطاعة؛ لأنها مناط التكليف, فالله – تعالى – لا يكلف إلا بالمستطاع, كما تدل لذلك النصوص من الكتاب والسُّنَّة.
ولهذا قال: ((فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس, وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا)) .
والمقصود بالصلاة قبل طلوع الشمس: صلاة الفجر, والصلاة قبل غروبها: صلاة العصر.
وقد جاءت أحاديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالحض على زيادة الاعتناء بهاتين الصلاتين.
_________
(1) ((الفتح)) (11/446) ، وانظر: ((النووي على مسلم)) (3/18) و (5/134) و ((الفتح)) (13/427) .(2/13)
ففي ((الصحيحين)) عن أبي موسى الأشعري, أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من صلى البردين دخل الجنة)) .
وفي ((صحيح مسلم)) عن عمارة بن رؤيبة, عن أبيه, قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس, وقبل غروبها – يعني صلاة الفجر والعصر -)) (1) .
وفي ذلك أحاديث كثيرة:
وقد قال الله – تعالى -: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (2) .
وقال تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} (3) .
وقال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (4) .
قوله: ((إنكم سترون ربكم عياناً)) هذا اللفظ من أبلغ النصوص في إثبات الرؤية, فقد أكد رؤية المؤمنين لربهم عدة تأكيدات, كما سبق في الطريق الأولى, غير أنه هنا قال: ((عياناً)) وهو لا يحتمل أي تأويل.
ومعنى عياناً: معاينة مقابلين له – تعالى – ينظرون إليه بأعينهم, وفي هذا أبلغ الرد على منكري الرؤية الحقيقية, كما فيه الرد على المتطرفين من الصوفية الذين يزعمون بأنهم يرون الله في الدنيا؛ لأنه قال: ((سترون ربكم)) وهذا
_________
(1) ((مسلم)) (1/440) رقم (634) .
(2) الآية 39 من سورة ق.
(3) الآية 238 من سورة البقرة.
(4) الآية 78 من سورة الإسراء.(2/14)
يكون في المستقبل وفي الرواية الأخرى قيد الرؤية بيوم القيامة, وفي ((صحيح مسلم)) : ((وتعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت)) (1)
والواقع أن هؤلاء الأدعياء يرون آلهتهم من الشياطين الذين أضلوهم.
قال الأزهري: ((رأيت فلاناً عياناً, أي: مواجهة)) (2) .
وهذا التفسير لقوله: ((سترون ربكم عياناً)) متفق عليه عند أهل الأثر, وأهل اللغة, وهو من الأمور الواضحة, ولكن لما جاء أهل البدع والتحريف احتيج في ذلك إلى ذكر أقوال العلماء, وسيأتي لذلك مزيد بيان, إن شاء الله تعالى.
قوله: ((إنكم سترون ربكم يوم القيامة, كما ترون هذا, لا تضامون في رؤيته)) قيد الرؤية بيوم القيامة, لئلا يتوهم أحد أنه يرى ربه قبل يوم القيامة.
وقوله: ((كما ترون هذا)) الإشارة إلى القمر تلك الليلة التي هي ليلة البدر والقمر فيها أتم ما يكون, وأوضح ما يكون, فشبه الرسول – صلى الله عليه وسلم – رؤية المؤمنين لربهم – تعالى – برؤيتهم القمر تلك الليلة في تمامه واستوائه, ووضوحه, والمعنى: أنكم ترون ربكم يوم القيامة رؤية واضحة جلية, لا لبس فيها, ولا خفاء, كما ترون القمر وقت تمامه وكماله ليلة
أربع عشرة من الشهر, ليس بينكم وبينه حائل ولا قتر.
وهذا غاية البيان والإيضاح في أن المؤمنين يرون الله – تعالى – يوم القيامة, ومع هذا يأبى من غلبت شقوته وضلاله الإيمان بذلك، ويحاول تحريف النصوص الواضحة, لتتفق مع مذهبه الفاسد.
65 – قالَ: حدثنا عبدُ العزيزِ بنُ عبدِ اللهِ, حدثنا إبراهيمُ بنُ
_________
(1) ((مسلم)) (4/2245) رقم (2931) .
(2) ((تهذيب اللغة)) (3/206) .(2/15)
سعدِ, عن ابنِ شهابٍ, عن عطاءِ بنِ يزيدَ الليثيِّ, عن أبي هريرةَ, أنَّ الناسَ قالوا: يا رسولَ اللهِ, هل نَرى ربنا يومَ القيامةِ؟
فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((هل تضارونَ في القمرِ ليلةَ البدرِ؟)) .
قالوا: لا يا رسولَ اللهِ, قالَ: ((فهل تضارونَ في الشمسِ ليسَ دونها سحابٌ؟)) .
قالوا: لا يا رسولَ اللهِ, قال: ((فإنَّكم ترونَهُ كذلكَ, يجْمَعُ اللهُ الناسَ يومَ القيامِة, فيقولُ: مَنْ كانَ يعبدُ شيئاً فليتَّبِعْهُ, فَيَتَّبِعُ مَنْ كانَ يَعْبُدُ الشمسَ الشمسَ, ويَتَّبِعُ مَنْ كانَ يعبدُ القمرَ القمرَ, ويتبعُ منْ كان يعبدُ الطواغيتَ الطواغيتَ, وتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ, فيها شافِعُوها – أو مُنَافِقُوها – شكَّ إبراهيمُ فيأتِيهُمُ اللهُ فيقولُ: أنا ربكم, فيقولونَ: هذا مكانُنا حتّى يأتِينَا ربُّنا, فإذا جاءَ ربُّنا عَرَفْناهُ, فيأتِيهُمُ اللهُ في صُورَتِهِ التي يعرفُونَ, فيقول: أنا ربكم, فيقولونَ: أنتَ رَبُّنا, فَيَتَّبعُونَهُ, ويُضْرَبُ الصراطُ بين ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ, فأكُونُ أنا وأُمَّتي أوَّل مَنْ يجيزُها.
ولا يتكلمُ يومئذٍ إلا الرسلُ, ودعوى الرسلِ يومئذٍ: اللهمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ.
وفي جهنمَ كلاليبٌ مثلُ شَوْكِ السَّعْدانِ, هل رَأيْتُمُ السَّعدانَ؟)) قالوا: نَعَمْ يا رسولَ اللهِ, قال: ((فإنها مثلُ شوكِ السعدانِ, غيرَ أنّه لا يَعْلَمُ ما قَدْرُ عِظَمِها إلا اللهُ, تَخْطَفُ الناسَ بأعمالهم, فمنهم المُوبَقُ, بَقِيَ بعَمَلِهِِ, أو الموثَقُ بعَمَلِهِ, ومنهمُ المُخَرْدَلُ, أو المُجازَى – أو نحوه -.(2/16)
ثم يتجلّى, حتى إذا فرغَ اللهُ مِنَ القضاءِ بينَ العِبادِ, وأرادَ أنْ يُخْرِجَ برحمتِهِ مَنْ أرادَ مَنْ أهل النارِ, أمرَ الملائكةَ أنْ يُخرجوا مِنَ النارِ مَنْ كان لا يُشركُ بالله شيئاً, ممن أرادَ اللهُ أنْ يرحمَهُ, ممن يشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ, فيعرفونهم في النارِ بأثرِ السجودِ, تأكلُ النارُ ابنَ آدمَ إلا أثَرَ السجودِ, حَرَّم اللهُ على النارِ أن تأكلَ أثرَ السجودِ, فيخرجونَ من النارِ قد امْتُحِشُوا, فَيُصَبُّ عليهم ماءُ الحياةِ, فينبتونَ تحتَهُ, كما تنبتُ الحبةُ في حميلِ السيلِ, ثم يَفْرُغُ اللهُ مِنَ القضاءِ بينَ العبادِ, ويبقى رَجُلٌ مقبلٌ بوجههِ على النارِ, هو آخرُ أهلِ النارِ دُخُولاً الجنةَ.
فيقولُ: أيُ ربِّ, اصْرِفْ وَجْهي عَنِ النارِ, قَدْ قَشَبَني ريحُها, وأحْرَقنيِ ذكاؤُها, فيدعو الله بما شاءَ أنْ يدعُوه, ثم يقول اللهُ: هل عَسَيْتَ إن أعْطَيْتُكَ ذلك أن تَسْألني غيرَه.
فيقولُ: لا وعِزَّتِكَ لا أسألكَ غيرَه, ويعطي رَبَّهُ منْ عهودِ ومواثيقَ ما شاءَ, فيصرف وجهَهُ عن النارِ, فإذا أقبلَ على الجنةِ ورآها سكتَ ما شاءَ اللهُ أنْ يسكتَ, ثم يقولُ: أيْ رَبِّ, قدِّمني إلى بابِ الجنةِ, فيقولُ اللهُ: ألستَ قد أعطيتَ عهودَك ومواثيقَكَ أنْ لا تسألَني غيرَ الذي أُعطِيتَ أبداً؟ ويلكَ يا ابن آدمَ, ما أغْدَرَكَ.
فيقول: أيْ رَبِّ, ويدعو الله, حتى يقولَ: هل عسيتَ إنْ أُعطيتَ ذلك أن تسألَ غيرَهُ؟
فيقول: لا وعزتكَ, لا أسألكُ غيرَهُ, ويُعطي ما شاءَ مِنْ عهودٍ ومواثيقَ, فيقدَّمه إلى بابِ الجنةِ.
فإذا قامَ إلى بابِ الجنةِ انْفَهَقَتْ له الجنةُ, فرأى ما فيها من الحَبْرَةِ,(2/17)
والسرورِ, فيسكتُ ما شاءَ اللهُ أنْ يسكتَ.
ثم يقولُ: أيْ رَبِّ, أدْخِلْني الجنةَ, فيقولُ اللهُ: ألستَ قد أعطيتَ عهودَكَ ومواثيقَكَ أنْ لا تسألَ غيرَ ما أُعطيتَ؟
فيقول: ويلكَ يا ابنَ آدمَ, ما أغدركَ.
فيقول: أيْ رَبِّ, لا أكُونَنَّ أشْقَى خَلْقِكَ, فلا يزالُ يدعُو حتى يضحكَ اللهُ مِنْهُ, فإذا ضحكَ مِنْهُ, قالَ له: ادْخُلِ الجنةَ, فإذا دَخَلَها, قالَ اللهُ له: تَمَنَّهْ.
فسألَ رَبَّهُ وتمنّى, حتى إنَّ اللهَ لَيُذَكِّرُهُ, يقولُ: كَذا وكَذا, حتى إذا انقطعتْ بهِ الأمانيُّ, قالَ اللهُ: ذلكَ لَكَ, ومِثْلُهُ مَعَهُ)) .
قال عَطَاءُ بنُ يزيدَ: وأبو سعيدٍ لخُدْرِيُّ مع أبي هريرةَ, لا يَرُدُّ عليهِ مِنْ حديثِهِ شيئاً, حتى إذا حَدَّثَ أبو هريرةَ أنَّ اللهَ – تَباركَ وتعالى – قالَ: ذلك لكَ, ومِثلُهُ مَعَهُ, قال أبو سعيد الخدريُّ: وَعَشَرَةُ أمثَالِهِ مَعَهُ, يا أبا هريرةَ.
قال أبو هريرةَ: ما حفظتُ إلا قولَهُ: ذلك لك, ومثلُهُ معهُ.
قال أبو سعيد الخدريُّ: أشْهَدُ أني حفظتُ مِنْ رسولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – قَوْلَهُ: ذلكَ لكَ, وعشرةُ أمثالِهِ.
قال أبو هريرة: فذلكَ الرَّجُلُ آخِرُ أهلِ الجنةِ دُخُولاً الجنة)) .
قوله: إن الناس قالوا: هل نرى ربنا يوم القيامة؟)) , هذا السؤال تكرر من الصحابة في مجالس متعددة, كما تدل على ذلك الأحاديث, وسبب ذلك الدافع الإيماني, والاشتياق من المؤمنين صادقي(2/18)
الإيمان, إلى رؤية ربهم, تبارك وتعالى.
وقد أجابهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جواباً شافياً, وواضحاً غاية الوضوح, حتى لو تكلف أحد أن يوضحه أكثر من إيضاح الرسول – صلى الله عليه وسلم – له ما استطاع.
فلذلك صار من لم يقبل ذلك تاركاً للحق عناداً وقصداً, والله يوليه ما تولى.
ولذلك قال: ((هل تضارون في القمر ليلة البدر)) أي: هل يضر بعضكم بعضاً في مشاهدة القمر, في أتم ما يكون, وأكمل ما يكون, وهذا أمر واضح جداً.
ولهذا قالوا: لا.
ثم قال - صلى الله عليه وسلم - ((فهل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟)) أي: لم يحل دونها حجاب, مع صحة أبصاركم, قالوا: لا يا رسول الله, قال: ((فإنكم ترونه كذلك)) أي: أنكم ترون ربكم, رؤية واضحة, كرؤيتكم للقمر ليلة أربع عشرة, وكوضوح الشمس طالعة ليس دونها ما يحول بينكم وبينها.
فأي وضوح أوضح وأجلى من ذلك؟
قوله: ((يجمع الله الناس يوم القيامة)) أي أنه: - تعالى - يبعثهم من قبورهم أحياء, ثم يجمعهم جميعاً في مكان واحد, من أولهم – الذي هو أبوهم آدم عليه السلام – إلى آخر مولود منهم, ثم يقفون في ذلك المكان, وقوفاً طويلاً جداً, ينتظرون ربهم يأتيهم فيقضي بينهم, قال الله – تعالى -: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) , فيأتيهم – تعالى – ((فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه)) يعني من كان في الدنيا يعبد شيئاً غير الله فإنه يمثل له, أو يؤتى بذلك المعبود
_________
(1) الآية 6 من سورة المطففين.(2/19)
نفسه – إن لم يكن ممن يطيع الله – كهيئته في الدنيا, سواء كان ذلك المعبود رجلاً, أو صنماً, أو مالاً, أو شهوة, أو غير ذلك, ثم يؤمر بتلك المعبودات إلى النار ((فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس, ويتبع من كان يعبد القمر القمر, ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت)) الطواغيت هي: كل معبود من دون الله, وتطلق على الأصنام, والأوثان, والقبور, التي يتجه إليها بالعبادة, قال الأزهري: ((قال أبو إسحاق: كل معبود من دون الله: جبت وطاغوت.
وقيل: الجبت والطاغوت: الكهنة والشياطين.
وفي بعض التفسير: الجبت والطاغوت: حيي بن أخطب, وكعب بن الأشرف, اليهوديان, وهذا غير خارج مما قال أهل اللغة؛ لأنهم إذا اتبعوا أمرهما فقد أطاعوهما من دون الله)) (1) .
وقال ابن القيم: ((الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود, أو متبوع, أو مطاع, فطاغوت كل قوم: من يتحاكمون إليه غير الله – تعالى – ورسوله – صلى الله عليه وسلم أو يعبدونه, من دون الله, أو يتبعونه على غير بصيرة من الله, أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله, فهذه طواغيت العالم, إذا تأملتها, وتأملت أحوال الناس, رأيت أكثرهم عدلوا عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت, وعن التحاكم إلى الله, وإلى الرسول, إلى التحاكم إلى الطاغوت, وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته)) (2) .
قلت: أكثر الخلق اليوم واقعون فيما ذكره ابن القيم, فهم يعبدون
_________
(1) ((تهذيب اللغة)) (8/168) .
(2) ((إعلام الموقعين)) (1/50) .(2/20)
الطواغيت من الأحياء والأموات ويتحاكمون إليها, ويدينون لها بالولاء والطاعة, ويجعلون السيادة للقانون الذي هو طاغوت يحكمونه من دون الله ويستخفون بشرع الله وحكمه, مع تيسر الوصول إليه, ولكنهم لا يريدون حكم الله, وإنما يريدون حكم الجاهلية, وقد قال الله – تعالى -: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (1) .
قوله: ((تبقى هذه الأمة فيها شافعوها – أو منافقوها – شك إبراهيم)) قال ابن أبي جمرة: ((يحتمل أن يكون المراد بالأمة: أمة محمد – صلى الله عليه وسلم -، يحتمل أن يدخل فيه جميع أهل التوحيد, حتى من الجن, ويدل عليه ما في بقية الحديث: ((ممن كان يعبد الله من بر وفاجر)) (2) .
قال الحافظ: ((ويدل له أيضاً قوله: ((فأكون أول من يجيز)) فإن فيه إشارة إلى أن الأنبياء يجيزون أممهم بعده)) (3) .
وفي رواية أبي سعيد: ((حتى يبقى من يعبد الله من بر وفاجر)) كما سيأتي.
قوله: ((فيها شافعوها – أو منافقوها -)) هذه رواية إبراهيم بن سعد.
قال الحافظ: ((والمعتمد: رواية ((منافقوها)) كما هي رواية الأكثر)) (4) .
ويأتي في رواية أبي سعيد: ((حتى يبقى من كان يعبد الله, من بر وفاجر, وغبرات من أهل الكتاب)) وفي رواية مسلم: ((وغبر)) وكلاهما: جمع غابر, والغبرات: جمع غبر, وغبر: جمع غابر, ويجمع أيضا على أغبار, والمراد البقية,
_________
(1) الآية 65 من سورة النساء.
(2) ((بهجة النفوس)) (2/24) وما نقل هنا بالمعنى.
(3) ((الفتح)) (11/449) .
(4) المرجع المذكور.(2/21)
أي بقايا قليلة من اليهود والنصارى, الذين كانوا يعبدون الله – تعالى – وحده, أما معظمهم, فقد ذهب بهم إلى جهنم, عندما قال الله: ((ليتبع كل عابد ما كان يعبده)) .
وفي قصة لوط – صلى الله عليه وسلم – قول الله – تعالى -: {إِلاَّ عَجُوزًا فِي الْغَابِرِين َ} (1) .
والمراد: أن كل من يعبد – غير الله تعالى – يحضر له معبوده الذي كان يعبده في الدنيا أو يمثل له, فيقال: اتبعه, ويذهب به إلى النار, ويبقى الذين لا يعبدون إلا الله من المؤمنين الصادقين, والمنافقين.
قوله: ((فيأتيهم الله)) هذا من أوصاف الله وأفعاله التي يفعلها إذا شاء, وهي مما يجب الإيمان به على ظاهر النص, كما هي طريقة سلف هذه الأمة الذين تلقوا ذلك عن الله ورسوله بالقبول, والتسليم, ومعلوم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أغير على الله, وأعظم تعظيماً له, وأعلم به وبما يجب له, وما يمتنع عليه, من أهل التأويل الذين يزعمون أنهم ينزهون الله عن أوصاف المحدثين, كما يقولون, ولهذا تجدهم يجهدون أنفسهم في تحريف كلام الله – تعالى – وكلام رسوله – صلى الله عليه وسلم – زاعمين أنه لو أُجري على ظاهره لأفاد التشبيه والتجسيم, فلذلك جعلوا تأويله واجباً.
والواقع أن ما يسمونه من ذلك تأويلاً هو تحريف وإلحاد, كما أشرنا إليه فيما سبق.
وفي هذه الجملة من الحديث, وهي قوله: ((فيأتيهم الله, فيقول: أنا ربكم، فيقولون: ((هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا, فإذا جاء ربنا عرفناه)) شاهد للباب, لأن ظاهره أنهم يرونه, غير أنهم في هذه المرة لم يعرفوه؛
_________
(1) الآية 171 من سورة الشعراء.(2/22)
لأنه تعالى لم يظهر لهم بأوصافه التي يعرفونه بها, وقد جاء في رواية أبي سعيد الآتية: ((فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة)) ولهذا قالوا: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا, فإذا جاء ربنا عرفناه)) .
قوله: ((فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون, فيقول: أنا ربكم, فيقولون: أنت ربنا, فيتبعونه)) وهذه الجملة أيضاً هي المرادة من سياق الحديث في الباب؛ لأن فيها دلالة واضحة على رؤية المؤمنين ربهم في ذلك الموقف, وسيأتي بحث ذلك والرد على شبه النفاة, إن شاء الله تعالى.
وفي هذه الجملة من الحديث, والتي قبلها, كثر اضطراب شراح الحديث, وتخبطوا كثيراً؛ لأنهم على عقيدة الأشاعرة, وسأذكر بعض أقوالهم في ذلك؛ للعبرة, ثم أذكر ما يبين بطلانها, مستعيناً بالله تعالى.
ثم إنه يجب على كل مسلم أن يعلم بأن الله تعالى – قد أكمل لهذه الأمة دينها, وبينه بياناً لا يحتاج معه إلى استدراك أحد من الناس, وسيأتي دليل ذلك, ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد أقام الحجة وأوضح المحجة, فيجب على المسلم أن يؤمن بأنه أكمل الخلق هداية, وأنه بلغ عن الله ما أمره الله بتبليغه, وأنه أفصح الناس, وأقدرهم على بيان مراده, وأنه أنصح الخلق لأمته وأحرصهم على هدايتهم, وهو أعظم الناس خوفاً من الله, وتعظيماً له, وهو أعلم الناس بالله, وبما يجب له - تعالى - وما يمتنع عليه.
فلابد أن يبين لأمته ما يجب عليهم أن يعتقدوه في ربهم, بياناً لا لبس فيه, ولا غموض, فلا يحتاجون معه إلى بيان غيره, وإلا لا يكون بلغ البلاغ المبين, قال الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (1) , وقد سأل الناس: هل بلغ رسالة
_________
(1) الآية 67 من سورة المائدة.(2/23)
ربه؟ فشهدوا له بأنه بلغ البلاغ المبين.
وأخبر – صلوات الله وسلامه عليه – أنه ترك أمته على البيضاء, ليلها كنهارها, لا يزيغ عنها إلا هالك (1) .
ولا يعقل أنه يبين لأمته آداب الأكل والشرب والنوم, ودخول المنزل والخروج منه, وركوب الدابة, ولبس النعل والثوب, وقضاء الحاجة, وغير ذلك مما لو تركه المسلم لم يأثم على تركه, ثم يترك معرفة الله, وما يجب أن يعتقد ويثبت له - تعالى -, وما يجب أن ينفى عنه مجهولاً, أو ملتبساً حقه بباطله.
إن من يترك التعصب ويتخلص من التقليد الأعمى, وينظر بعقل وإنصاف, فلابد أن يقتنع بأن الذي قاله الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبلغه هو الحق.
ثم صحابة الرسول – صلى الله عليه وسلم – الذين تلقوا العلم والإيمان منه لابد أن تكون هدايتهم أتم وأكمل ممن جاء بعدهم, لا يخالف في هذا إلا ضال أو مضلل تائه, لا يعرف الإسلام.
ولم يأت عنهم – رضوان الله عليهم – كما لم يأت عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – ما يشير, ولو إشارة, إلى أن ظاهر النصوص التي فيها أوصاف الله – تعالى – أنه لا يجوز اعتقاد ما دلت عليه ظاهراً, أو أنه ينبغي تأويلها.
قال الله -تعالى -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دينًا} (2) .
وقال – تعالى -: {ِ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ
_________
(1) انظر ((سنن ابن ماجه)) (1-4) .
(2) الآية 3 من سورة المائدة.(2/24)
يَتَفَكَّرُونَ} (1) وقال – تعالى -: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (2) , وقال – تعالى -: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (3) وقال – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} (4) .
ولا يشك مسلم بأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قد امتثل أمر ربه, فبلغ البلاغ المبين, حتى ترك أمته على المحجة البيضاء, ليلها كنهارها, لا لبس فيها, ولا غموض.
وأعظم ذلك باب معرفة الله - تعالى – بأسمائه وصفاته.
وبهذا يتبين أن قول أهل التأويل باطل قطعاً, وأن الحق فيما قاله الله – تعالى – عن نفسه, وما قاله رسوله – صلى الله عليه وسلم – وأن ظاهر قول الله – تعالى – وقول رسوله – صلى الله عليه وسلم – حق وهدى.
ولكن يجب أن يفهم مراد الله – تعالى – في خطابه لعباده, ومراد رسوله – صلى الله عليه وسلم, من غير تقصير, ولا غلو.
وإن من الخذلان أن ينصرف العبد عما تعرف الله به إلى عباده, من أسمائه وأوصافه, ويعتقد أنها تدل على خلاف الحق, وأن الحق والهدى في كلام أهل الجدل والفلسفة, الذين يعتمدون على آرائهم, وعقولهم, فيما يجب لله, وما يمتنع عليه, مع أنهم لم يجنوا من ذلك إلا الحيرة والشك, فإذا حضرهم الموت, أقروا على أنفسهم بأنهم لم يعلموا شيئاً.
قال شيخ الإسلام: ((بلغني بإسناد متصل, عن بعض رؤوسهم, وهو الخونجي,
_________
(1) الآية 44 من سورة النحل.
(2) الآية 89 من سورة النحل.
(3) الآية 64 من سورة النحل.
(4) الآية 67 من سورة المائدة.(2/25)
وهو عند كثير منهم, غاية في هذا الفن (1) ، أنه قال عند الموت: ((أموت, وما علمت شيئاً, إلا أن الممكن يفتقر إلى الواجب, ثم قال: الافتقار: وصف عدمي, أموت وما علمت شيئاً.
قال: وذكر الثقة, عن الآمدي أنه قال: ((أمعنت النظر في الكلام, وما استفدت منه شيئاً إلا ما عليه العوام)) .
وقال الأصبهاني للشيخ إبراهيم الجعبري: ((بت البارحة أفكر إلى الصباح, في دليل على التوحيد سالم عن المعارض, فما وجدته)) (2) .
وحدثني من قرأ على ابن واصل الحموي, أنه قال: ((أبيت بالليل, وأستلقي على ظهري, وأضع الملحفة على وجهي, وأبيت أقابل أدلة هؤلاء, بأدلة هؤلاء, وبالعكس, وأصبح وما ترجح عندي شيء)) كأنه يعني أدلة المتكلمين والفلاسفة)) (3)
ولهذا وأمثاله قال الشافعي: ((لئن يبتلى العبد بكل ذنب نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خير له من أن يبتلى بالكلام)) .
بعض أقوال شراح الحديث:
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله-: ((نسبة الإتيان إلى الله, عبارة عن رؤيتهم إياه, وقيل: الإتيان: فعل من أفعال الله (4) يجب الإيمان به مع تنزيه الله عن سمات الحدوث.
_________
(1) يعني: فن الكلام الذي يسمونه: التوحيد.
(2) يعني: ما يسمونه بالأدلة العقلية، وهي جهالات توصل إلى ظلمات الشك.
(3) ((درء تعارض العقل والنقل)) (3/262-264) .
(4) تقدم أن الفعل عند الأشاعرة المراد به: المفعول المخلوق المنفصل عن الله – تعالى -.(2/26)
وقيل: فيه حذف, تقديره: يأتيهم بعض ملائكته, ورجحه عياض, ولعل هذا الملك جاءهم في صورة أنكروها؛ لما رأوا فيها من سمة الحدوث.
ويحتمل وجهاً رابعاً: وهو أن المعنى: يأتيهم الله بصورة – أي بصفة - تظهر لهم, من الصور المخلوقة, التي لا تشبه صفة الإله, ليختبرهم بذلك, فإذا قال لهم هذا الملك: أنا ربكم, رأوا عليه من علامة المخلوقين ما يعلمون به أنه ليس ربهم)) (1)
وقال الرازي: ((الكلام على هذا الحديث من وجوه:
الأول: أن تكون ((في)) بمعنى الباء, والتقدير: فيأتيهم الله بصورة, غير الصورة التي عرفوها في الدنيا, وذلك بأن يريهم ملكاً من الملائكة, ونظيره قول ابن عباس في قوله – تعالى -: {هَل يَنظُرُونَ إَّلا أَن يَأتِتَهُمُ اللهُ فيِ ظُلَلِ مّنَ الغَمَامِ} . أي: بظلل من الغمام.
ثم إن تلك الصورة تقول: أنا ربكم, وكأن ذلك آخر محنة تقع للمكلفين في دار الآخرة.
أما قولهم: ((إذا جاء ربنا عرفناه)) فيحمل على أن يكون المراد: فإذا جاء إحسان ربنا عرفناه.
وقوله: ((فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفونها)) فمعناه: فيأتيهم بالصورة التي يعرفون أنها من أمارات الإحسان.
الثاني: أن يكون المراد من الصورة: الصفة, والمعنى: أن يظهر لهم من بطش الله, وشدة بأسه, ما لم يألفوه, ولم يعتادوه من معاملة الله – تعالى – معهم, ثم يأتيهم بعد ذلك بأنواع الرحمة والكرامة, على الوجه الذي اعتادوه
_________
(1) ((الفتح)) (11/450) وانظر: كلام النووي في ((شرح مسلم)) (3/19) فإنه متفق مع ما هنا.(2/27)
وألفوه)) (1) .
وقال الخطابي: ((الذي يجب على كل مسلم أن يعلم أن ربنا ليس بذي صورة, ولا هيئة, فإن الصورة تقتضي الكيفية, وهي عن الله وعن صفاته منفية, وقد يتأول معناها على وجهين:
أحدهما: أن تكون الصورة بمعنى الصفة, كقول القائل: صورة هذا الأمر كذا وكذا, يريد صفته, فوضع الصورة موضع الصفة.
والثاني: أن المذكور من المعبودات في أول الحديث إنما هو صور وأجسام, كالشمس والقمر, والطواغيت, ونحوها, ثم لما عطف عليها ذكر الله – سبحانه – خرج الكلام فيه على نوع من المطابقة, فقيل: يأتيهم الله في صورة كذا)) (2) .
وهذا كثير من كلام أهل التأويل ممن يتصدى لشرح الحديث, وغيرهم ممن يتكلم في العقائد, حتى لا تكاد تجد من تكلم على هذا الحديث بالصواب.
لهذا سأجعل الكلام على هذه الجملة من الحديث في أربعة فصول:
الأول: في ذكر ما تيسر من روايات الحديث.
الثاني: في معنى الصورة في اللغة.
الثالث: في تعيين المراد من الحديث.
الرابع: في رد التأويل الباطل الذي يُؤول به الحديث, كما ذكرت أمثلة منها.
_________
(1) تأسيس التقديس)) (ص88-89) .
(2) نقلا من: ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص296) .(2/28)
الفصل الأول
في ذكر ما تيسر من روايات الحديث
فحديث أبي هريرة هذا رواه البخاري في الصلاة, في باب فضل السجود, ولفظه: ((وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها, فيأتيهم الله, فيقول: أنا ربكم, فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا)) إلخ (1) .
ورواه في ((الرقاق)) ولفظه: ((وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها, فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون, فيقول: أنا ربكم, فيقولون: نعوذ بالله منك, هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا, فإذا أتانا ربنا عرفناه, فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون, فيقول: أنا ربكم, فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه)) ورواه في ((التوحيد)) : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله, حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب)) إلخ, وقد مضى ذكر لفظه.
وأخرجه مسلم, ولفظه: ((وتبقى هذه الأمة, فيها منافقوها, فيأتيهم الله – تبارك وتعالى – في صورة غير صورته التي يعرفون, فيقول: أنا ربكم, فيقولون: نعوذ بالله منك, هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا, فإذا جاء ربنا عرفناه, فيأتيهم الله – تعالى – في صورته التي يعرفون, فيقول: أنا ربكم, فيقولون: أنت ربنا, فيتبعونه)) إلخ (2) .
وذكر الدارقطني له عدة ألفاظ بطرق عدة, في إحداها: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة, جاء الرب – عز وجل – إلى المؤمنين, فوقف عليهم, والمؤمنون على كوم – قالوا لعقبة: وما الكوم؟ قال: المكان المرتفع – فيقول: هل تعرفون ربكم؟ فيقولون: إن عرفنا نفسه عرفناه, فيقول لهم الثانية: هل تعرفون ربكم؟ فيقولون: إن عرفنا نفسه عرفناه, قال: فيتجلى
_________
(1) ((البخاري)) (1/133) من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة.
(2) ((صحيح مسلم)) (1/113) .(2/29)
لهم – عز وجل – فيضحك في وجوههم فيخرون له سجداً)) (1) .
وذكر روايات كثيرة كلها تتفق مع لفظ البخاري ومسلم, وفي بعض رواياته: ((فيأتيهم الله – عز وجل – في غير صورته, فيقول: أنا ربكم, فيقولون: نعوذ بالله منك, هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا, فإذا جاء ربنا عرفناه, فيأتيهم الله – عز وجل – في صورته التي يعرفون, فيقول: أنا ربكم, فيقولون: أنت ربنا)) إلخ (2) .
ورواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري, وسيأتي – إن شاء الله تعالى – ولفظ الشاهد منه: ((فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة, فيقول: أنا ربكم, فيقولون: أنت ربنا, فلا يكلمه إلا الأنبياء)) .
ورواه في ((التفسير)) ولفظه: ((حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله, من بر وفاجر, أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها, فيقول: ماذا تنتظرون)) ولم يذكر بقيته (3) .
ورواه في ((الرقاق)) وفي ((الإيمان)) مختصراً جداً.
ورواه مسلم مطولاً: ((حدثني سويد بن سعيد, قال: حدثني حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم, عن عطاء بن يسار, عن أبي سعيد الخدري: أن ناساً في زمن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قالوا: يا رسول الله, هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((نعم – قال– هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس فيها سحاب؟)) قالوا: لا يا رسول الله, قال: ((ما تضارون
_________
(1) كتاب ((الرؤية)) (ص64) رسالة دكتوراه من الجامعة الاسلامية.
(2) المرجع المذكور (ص99) .
(3) ((البخاري مع الفتح)) (8/249، 663) و (1/72) و (11/416، 446) .(2/30)
في رؤية الله – تبارك وتعالى – يوم القيامة، إلا كما تضارون في رؤية أحدهما, إذا كان يوم القيامة, أذن مؤذن: ليتبع كل أمة ما كانت تعبد, فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله – سبحانه – من الأصنام والأنصاب, إلا يتساقطون في النار.
حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله, من بر وفاجر, وغُبَّرُ أهل الكتاب, فيدعى اليهود, فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيزاً ابن الله, فيقال: كذبتم, ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد, فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا يا ربنا فاسقنا, فيشار إليهم: ألا تردون؟ فيحشرون إلى النار, كأنها سراب, يحطم بعضها بعضاً, فيتساقطون في النار.
ثم يدعى النصارى, فقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله, فيقال لهم: كذبتم, ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد, فيقال لهم: ماذا تبغون؟ فيقولون: عطشنا يا ربنا فاسقنا, قال: فيشار إليهم: ألا تردون؟ فيحشرون إلى جهنم, كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً, فيتساقطون في النار.
حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله, من بر وفاجر, أتاهم رب العالمين - سبحانه وتعالى - في أدنى صورة من التي رأوه فيها, قال: فماذا تنتظرون؟ تتبع كل أمة ما كانت تعبد.
قالوا: يا ربنا, فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم, ولم نصاحبهم.
فيقول: أنا ربكم, فيقولون: نعوذ بالله منك, لا نشرك بالله شيئاً - مرتين أو ثلاثاً - حتى إن بعضهم ليكاد ينقلب.
فيقول: هل بينكم وبينه آية, فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم, فيكشف عن ساق, فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود, ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء, إلا جعل الله ظهره طبقة(2/31)
واحدة, كلما أراد أن يسجد خر على قفاه.
ثم يرفعون رؤوسهم, وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة, فقال: أنا ربكم, فيقولون: أنت ربنا)) (1) وذكر بقية الحديث.
ورواه ابن أبي عاصم في ((السُّنَّة)) وفيه: ((فيبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر, ثم يتبدى الله لنا في صورة غير صورته التي رأيناه فيها أول مرة, فيقول: أيها الناس, لحقت كل أمة ما كانت تعبد, وبقيتم, فلا يكلمه يومئذ إلا الأنبياء: فارقنا الناس ونحن إلى صحبتهم أحوج, لحقت كل أمة ما كانت تعبد, ننتظر ربنا الذي كنا نعبد.
فيقول: أنا ربكم, فيقولون: نعوذ بالله منك, فيقول: هل بينكم وبين الله آية تعرفونها؟ فيقولون: نعم, فيكشف عن ساق, فيخرون سجداً أجمعين، ولا يبقى أحد كان يسجد في الدنيا سمعة ولا رياء, ولا نفاقاً, إلا على ظهره (2) طبق, كلما أراد أن يسجد خر على قفاه.
ثم يرفع برنا ومسيئنا, وقد عاد لنا في صورته التي رأيناه فيها أول مرة, فيقول: أنا ربكم, فنقول: نعم)) (3) .
وفيه مع رواية مسلم التصريح بأنهم قد سبق أن رأوه مرة قبل هذه.
وفي هذه المرة تنكر لهم في غير صورته التي تبدى لهم بها قبلها, وذلك للامتحان, ولهذا قالوا: نعوذ بالله منك, لا نشرك بالله شيئاً, هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا, فإذا جاء ربنا عرفناه, فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها؟ فيقولون: نعم, الساق, فيكشف عن ساقه, عند ذلك يعرفونه, فيخرون
_________
(1) ((صحيح مسلم)) (1/167) .
(2) هكذا في المطبوعة بتحقيق الألباني ويظهر أنها محرفة من ((إلا عاد ظهره طبقا) والمطبوعة كثيرة التحريف.
(3) ((السُّنّة)) لابن أبي عاصم (1/285) .(2/32)
له سجداً, فإذا رفعوا رؤوسهم من السجود، إذا هو قد عاد في صورته التي رأوه فيها أول مرة.
وهذا الحديث كما يقول ابن فورك: ((يدخل في باب المستفيض الذي تلقاه أهل العلم بالقبول, ولم ينكره منهم منكر)) (1)
وقد جاء ذكر الصورة في أحاديث أخرى, ثابتة لا مطعن فيها, كما في ((الصحيحين)) من حديث أبي هريرة, عن النبي – صلى الله عليه وسلم -, قال: ((خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا, فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة جلوس, فاستمع ما يحيونك, فإنها تحيتك وتحية ذريتك, فقال: السلام عليكم, فقالوا: السلام عليك ورحمة الله, فزادوه: ورحمة الله – فكل من يدخل الجنة على صورة آدم, فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن)) (2) .
وفيهما أيضاً من حديث أبي هريرة, عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه, فإن الله خلق آدم على صورته)) (3)
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان, عن أبي الزناد, عن الأعرج, عن أبي هريرة, عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته)) (4) .
وقال أيضاً: ((حدثنا يحيى, عن ابن عجلان, عن سعيد, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه, ولا تقل: قبح الله وجهك, ووجه من أشبه وجهك, فإن الله – تعالى –
_________
(1) ((مشكل الحديث)) (ص4) .
(2) ((البخاري)) (8/43) و ((مسلم)) (4/2183) وأحمد في ((المسند)) (2/315) .
(3) البخاري في كتاب ((العتق)) (3/131) وليس فيه ذكرُ الصورة، ولفظه لمسلم (4/2017) .
(4) ((المسند)) (2/244) وإسناده في أعلى درجات الصحة.(2/33)
خلق آدم على صورته)) (1) , وفي رواية الدارقطني: ((فإن الله خلقه على صورته)) .
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا المثنى بن سعيد, وبهز, قالا: حدثنا همام, عن قتادة, عن أبي أيوب, عن أبي هريرة, عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا قاتل أحدكم, فليجتنب الوجه, قال ابن المهدي: فإن الله – تعالى – خلق آدم على صورته)) (2) .
قال: حدثنا سليمان بن داود, أخبرنا المثنى, عن قتادة, عن أبي أيوب, عن أبي هريرة, أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه فإن الله – عز وجل – خلق آدم على صورته)) (3) .
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثنا أبو خيثمة, حدثنا يحيى بن سعيد, عن ابن عجلان, حدثنا سعيد, عن أبي هريرة, عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه, ولا يقول قبح الله وجهك, ووجه من أشبه وجهك)) (4) .
وقال أيضاً: كتب إلى قتيبة بن سعيد, يذكر أن الليث حدثهم, عن ابن عجلان, عن سعيد المقبري, عن أبي هريرة, أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا يقولن أحدكم: قبح الله وجهك, ووجه من أشبه وجهك, فإن الله خلق آدم على صورته)) (5) 0) .
_________
(1) ((المسند)) (2/251، 434) وسنده حسن، ورواه ابن أبي عاصم في ((السُّنّة)) (1/229) .
(2) ((المسند)) (2/463) .
(3) ((المسند)) (2/519) .
(4) ((السُّنّة)) لعبد الله ابن الإمام أحمد (ص161) .
(5) ((السُّنّة)) (ص169) .(2/34)
وقال أيضاً: حدثني أبو معمر, حدثنا جرير, عن الأعمش, عن حبيب بن أبي ثابت, عن عطاء, عن ابن عمر, قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقبحوا الوجه, فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن)) (1)
وقال: حدثني أبو بكر الصاغاني, حدثنا أبو الأسود, وهو النضر بن عبد الجبار, حدثنا ابن لهيعة, عن أبي يونس, عن أبي هريرة, عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه, فإن صورة الإنسان على وجه الرحمن)) (2) .
وقال ابن أبي عاصم: ((حدثنا محمد بن ثعلبة بن سواء, حدثني عمي محمد بن سواء عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, عن أبي رافع, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه, فإن الله – تعالى – خلق آدم على صورة وجهه)) (3) هذا إسناد صحيح, وهو ظاهر في إبطال قول من جعل الضمير في قوله ((على صورته)) عائداً إلى آدم.
وقال: حدثنا يوسف بن موسى, حدثنا جرير, عن الأعمش, عن حبيب بن أبي ثابت, عن عطاء, عن ابن عمر, قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقبحوا الوجوه فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن)) (4) .
هذا حديث صحيح صححه الأئمة, الإمام أحمد, وإسحاق بن راهويه, وليس لمن ضعفه دليل إلا قول ابن خزيمة, وقد خالفه من هو أجل منه.
_________
(1) كتاب ((السُّنّة)) (ص170) ورواه ابن خزيمة في ((التوحيد)) ، وقد اشترط أنه لا يدخل فيه إلا حديثاً صحيحاً، ورواه ابن أبي عاصم في ((السُّنّة)) وسيأتي، والبيهقي في ((الصفات)) (ص291) .
(2) المرجع السابق (ص215) .
(3) ((السُّنّة)) (1/227-228) وقول الألباني: لكني في شك من ثبوت قوله ((على صورة وجهه)) لا وجه له، وإن كان هو في شك من ذلك، فالحفاظ من أهل الحديث لم يشكوا فيه.
(4) المرجع السابق (ص228-229) .(2/35)
((قال شيخ الإسلام – رحمه الله -: ((وأما تضعيف ابن خزيمة لحديث ابن عمر بأن الثوري أرسله, فخالف فيه الأعمش, وأن الأعمش وحبيباً مدلسان.
فيقال: قد صححه إسحاق بن راهويه, وأحمد بن حنبل, وهما أجل من ابن خزيمة باتفاق الناس.
وأيضاً فمن المعلوم أن عطاء بن أبي رباح إذا أرسل هذا الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فلابد أن يكون قد سمعه من أحد (1) , فإذا كان في إحدى الطريقين قد بين أنه أخذه عن ابن عمر, كان هذا بياناً وتفسيراً لما تركه وحذفه في الطريق الأخرى, ولم يكن هذا اختلافاً أصلاً)) (2) ويأتي بقيته – إن شاء الله تعالى -.
وقال ابن أبي عاصم أيضاً: ((حدثنا عمر بن الخطاب, حدثنا ابن أبي مريم, حدثنا ابن لهيعة, عن أبي يونس – سليم بن جبير -, عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((من قاتل فليجتنب الوجه, فإن صورة وجه الإنسان على صورة وجه الرحمن)) (3) , وسنده أقل درجاته الحسن, فابن لهيعة رمي بسوء الحفظ, وهو في هذا لم يخالف غيره من الثقات, كما في الذي قبله.
وقال الخلال: أخبرنا علي بن حرب الطائي, حدثنا زيد بن أبي الزرقاء, عن ابن لهيعة, عن أبي يونس, والأعرج, عن أبي هريرة, عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه, فإن صورة الإنسان على صورة الرحمن عز وجل)) (4) .
_________
(1) لأنه قد علم أن القول على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعظم الذنوب.
(2) ((نقض التأسيس)) (2/2636) والجزء مكتوب عليه أنه الثالث، وهو خطأ.
(3) ((السُّنّة)) لابن عاصم (1/230) .
(4) ((نقض التأسيس)) (2/223) ، ورواه ابن أبي عاصم في ((السُّنّة)) (1/230) ، والدارقطني في ((الصفات)) (ص37) .(2/36)
وروى الإمام أحمد, والترمذي, وابن خزيمة, من حديث معاذ بن جبل قال: احتبس عنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات غداة, عن صلاة الصبح, حتى كدنا نترائى قرن الشمس, فخرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سريعاً, فثوب بالصلاة, فصلى, وتجوز فيها, فقال: ((إنما حبسني أني رأيت ربي – عز وجل – في أحسن صورة)) (1) .
وأخرج الدرامي, عن عبد الرحمن بن عائش, سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((رأيت ربي عز وجل في أحسن صورة, فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: أنت أعلم أي رب, فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي, فعلمت ما في السماوات والأرض)) وذكر بقيته مطولاً)) (2) .
وأخرج الترمذي عن ابن عباس, أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((أتاني ربي في أحسن صورة, فقال: يا محمد, فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري يا رب – أعادها ثلاثاً – فرأيته وضع كفه بين كتفي, حتى وجدت برد أنامله بين صدري, فتجلى لي كل شيء وعرفت,
_________
(1) ((المسند)) (5/243) ، والترمذي في تفسير سورة ص، (5/369) رقم (3288) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث؟ فقال: هذا صحيح، وقال: هذا أصح من حديث الوليد بن مسلم. ورواه الدارقطني في كتاب: ((الرؤية)) وذكر له طرقاً عدة (ص385-394) رسالة دكتوراه في الجامعة الإسلامية.
(2) رواه الحاكم في ((المستدرك)) (1/520) ، وابن جرير: في ((التفسير)) ، وابن منده في: الرد على الجهمية (ص90) ، والآجري في: الشريعة (ص497) ، والدارقطني في: ((الرؤية)) (ص395/411) وذكر له طرقاً متعددة.(2/37)
فقال: يا محمد, فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات)) (1) إلى آخره.
وروي هذا الحديث عن جماعة من الصحابة, منهم: أنس, وأبي أمامة, وعمران بن حصين, وعبد الله بن عمر بن الخطاب, وثوبان مولى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -, وغيرهم, ذكر أحاديثهم الدراقطني في ((الرؤية)) وغيره.
*******
_________
(1) الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، (5/45) رقم (3287) ، ورواه ابن أبي عاصم في ((السُّنّة)) (1/204) ، والآجري في: الشريعة (ص496) ، والدراقطني في: ((الرؤية)) ، وذكر له عدة طرق رقم (244) (ص411) رسالة دكتوراه في الجامعة الإسلامية.(2/38)
الفصل الثاني
في معنى الصورة في اللغة
((وهو شكل الشيء, وحقيقته, وهيئته)) , وفي متن اللغة: ((الصورة: الشكل, والهيئة, والحقيقة)) (1) .
قال في ((القاموس)) : ((الصورة, بالضم: الشكل, جمعها صور)) .
وقال في ((شرحه)) : ((الصورة بالضم: الشكل, والهيئة, والحقيقة, والصفة)) (2) .
وقال الراغب: ((الصورة: ما ينتقش به الأعيان, ويتميز بها عن غيرها, وذلك ضربان:
أحدهما: محسوس, يدركه الخاصة والعامة, بل يدركه الإنسان, وكثير من الحيوان, كصورة الإنسان, والفرس والحمار, بالمعاينة والرؤية.
والثاني: معقول, يدركه الخاصة دون العامة, كالصورة التي اختص الإنسان بها, من العقل والرؤية, والمعاني التي خص بها. وإلى الصورتين أشار بقوله - تعالى -: {فَأَحَسَنَ صُوَرَكُم} , {يُصَوِرُكُم فِي الأَرحَامِ} , فالصورة المراد بها: ما خص
الإنسان بها من الهيئة المدركة بالبصر, والبصيرة, وبها فضله على كثير من خلقه)) (3) .
_________
(1) ((متن اللغة)) (4/514) .
(2) ((تاج العروس)) (3/342) .
(3) ((المفردات)) (ص289) .(2/39)
وقال ابن الأثير: ((الصورة ترد في كلام العرب على ظاهرها ,وعلى معنى حقيقة الشيء, وهيئته, وعلى معنى صفته)) (1) .
وقال ابن فارس: ((الصورة جمعها صور, وهي هيئة خلقته)) (2) .
وبهذا يتبين أن الصورة في اللغة: هيئة الشيء القائم بنفسه, وشكله, وكل موجود غير مفتقر لغيره يكون قائماً بنفسه, تصح رؤيته ومشاهدته, يكون له صورة وحقيقة, والله – عز وجل – أعظم موجود وأكبره, وهو مستغن بنفسه عن غيره, وهو القائم بنفسه, والقائم على كل شيء بما يصلحه, فهو – تعالى – حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم, ورؤيته تعالى جائزة في العقل في الدنيا؛ لأن كليم الله موسى سألها, ولا يسأل نبي الله إلا ما هو جائز, وواقعة في الآخرة للمؤمنين والمنافقين أيضاً في الموقف, كما نطقت بذلك الأحاديث.
وأما في الجنة فلا يراه إلا المؤمنون, والمنافقون لا يدخلون الجنة.
قال شيخ الإسلام: ((الصورة: هي الصورة الموجودة في الخارج, ولفظ ((صَ وَرَ)) يدل على ذلك, وما من موجود من الموجودات إلا له صورة في الخارج, وما يكون من الوقائع يشتمل على أمور كثيرة لها صورة موجودة في الخارج, ثم تلك الصورة الموجودة ترتسم في النفس صورة ذهنية, فمثلاً صورة الواقعة, أو صورة المسألة, إما أن يراد بها الصورة الخارجية, أو الصورة الذهنية)) (3) .
وقد يقصد بالصورة: الوجه, كما في ((المسند)) من حديث ابن عمر مرفوعاً: ((ونهى أن تضرب الصور – يعني الوجه-)) (4) .
_________
(1) ((النهاية)) (3/59) .
(2) ((مقاييس اللغة)) (3/320) .
(3) ((نقض التأسيس)) (3/245) .
(4) ((المسند)) (2/118) .(2/40)
وفيه أيضاً عن ابن عمر أنه كان يكره العلم في الصورة, أو قال: ((نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن ضرب الصور – يعني الوجه -) (1) .
وقال شيخ الإسلام أيضاً: ((لفظ الصورة في الحديث كسائر ما ورد من الأسماء والصفات, التي قد يسمى المخلوق بها, على وجه التقييد, وإذا أطلقت على الله اختصت به, مثل العليم, والقدير, والرحيم, والسميع, والبصير, ومثل خلقه بيديه, واستوائه على العرش, ونحو ذلك)) (2) .
وقال أيضاً: ((وكما أنه لابد لكل موجود من صفات تقوم به, فلابد لكل قائم بنفسه من صورة يكون عليها, ويمتنع أن يكون في الوجود قائم بنفسه ليس له صورة يكون عليها)) (3) .
وبهذا يتبين أن الصورة كالصفات الأخرى, فأي صفة ثبتت لله تعالى بالوحي, وجب إثباتها والإيمان بها.
_________
(1) ((المسند)) (8/189) رقم ((5991)) تحقيق أحمد شاكر، والعلم هو: الوسم.
(2) ((نقض التأسيس)) (3/396) .
(3) ((نقض التأسيس)) (3/275) .(2/41)
الفصل الثالث
في المعنى المراد من حديث الصورة
إن من يتتبع روايات هذه الأحاديث يتبين له بوضوح المعنى المراد بها, وقد تقدم ما فيه الكفاية من ذكر الروايات, لمن كان قصده الحق.
قال ابن قتيبة: ((الصورة ليست بأعجب من اليدين, والأصابع, والعين, وإنما وقع الإلف لتلك؛ لمجيئها في القرآن, ووقعت الوحشة من هذه؛ لأنها لم تأت في القرآن, ونحن نؤمن بالجميع, ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حد)) (1) .
قال شيخ الإسلام: ((وقد ذكر الخلال في ((السُّنَّة)) ما ذكره إسحاق بن منصور الكوسج عن أحمد, وإسحاق, أنه قال لأحمد: لا تقبحوا الوجه, فإن الله خلق آدم على صورته, أليس تقول بهذه الأحاديث؟ قال أحمد: صحيح, وقال إسحاق: صحيح.
وذكر عن يعقوب بن بختان, أن أبا عبد الله, أحمد بن حنبل, سئل عن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خلق الله آدم على صورته؟)) قال: الأعمش يقول: عن حبيب بن أبي ثابت, عن عطاء, عن ابن عمر (2) .
وقد رواه أبو الزناد, عن الأعرج, عن أبي هريرة, عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((على صورته)) , فنقول كما جاء بالحديث.
_________
(1) ((تأويل مختلف الحديث)) (ص221) .
(2) يعني حديثه: ((فإن آدم خلق على صورة الرحمن)) ، فأحمد يشير بذلك إلى أن الواجب القول بظاهر الحديث؛ لأنه ظاهر مراد المتكلم به، وقوله: صحيح، يعني أن الحديث صحيح، فيجب اعتقاد ما دل عليه، والقول بموجبه، وفي ذلك رد لقول ابن خزيمة ومن قلده، وسيأتي ذلك.(2/42)
قال: وسمعت أبا عبد الله, يقول: لقد سمعت الحميدي بحضرة سفيان بن عيينة, وذكر هذا الحديث: ((خلق الله آدم على صورته)) , فقال: من لا يقول بهذا الحديث, فهو كذا وكذا – يعني من الشتم – وسفيان ساكت, لا يرد عليه شيئاً.
قال المروزي: أظن أني ذكرت لأبي عبد الله, عن بعض المحدثين بالبصرة أنه قال: قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((خلق الله آدم على صورته)) , قال: صورة الطين, قال: هذا جهمي, وقال: نسلم للخبر كما جاء.
وروى الخلال, عن أبي طالب, من وجهين, قال: سمعت أبا عبد الله – يعني أحمد بن حنبل – يقول: من قال: إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي. وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه؟
قال الخلال: أخبرني حرب بن إسماعيل الكرماني, قال: سمعت إسحاق – ابن راهويه – يقول: قد صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه نطق به.
قال إسحاق: حدثنا جرير, عن الأعمش, عن حبيب بن أبي ثابت, عن عطاء, عن ابن عمر, عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن)) .
فقد صحح إسحاق حديث ابن عمر مسنداً, خلاف ما قاله ابن خزيمة.
وقال الخلال: أخبرنا علي بن حرب الطائي, حدثنا يزيد بن أبي الزرقاء, عن ابن لهيعة, عن أبي يونس, والأعرج, عن أبي هريرة, عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه, فإن صورة الإنسان على صورة الرحمن – عز وجل -)) (1) .
_________
(1) ((نقض التأسيس)) المخطوط (3/223) .(2/43)
وقال الحافظ: ((الأكثر على أن الضمير يعود على المضروب؛ لما تقدم من الأمر بإكرام وجهه, ولولا أن المراد التعليل بذلك لم يكن لهذه الجملة ارتباط بما قبلها)) .
وقال القرطبي: أعاد بعضهم الضمير على الله, متمسكاً بما ورد في بعض طرقه: ((إن الله خلق آدم على صورة الرحمن)) , قال: وكأن من رواه أورده بالمعنى, متمسكاً بما توهمه, فغلط.
وقد أنكر المازري ومن تبعه صحة هذه الزيادة.
ثم قال: وعلى تقدير صحتها فيحمل على ما يليق بالباري – سبحانه وتعالى -.
قلت: الزيادة أخرجها ابن أبي عاصم في ((السُّنَّة)) والطبراني من حديث ابن عمر بإسناد رجاله ثقات, وأخرجها ابن أبي عاصم أيضاً من طريق أبي يونس, عن أبي هريرة ,بلفظ يرد التأويل الأول (1) , ولفظه: ((من قاتل فليجتنب الوجه, فإن صورة وجه الإنسان, على صورة وجه الرحمن)) .
فتعين إجراء ما في ذلك على ما تقرر بين أهل السُّنَّة, من إمراره كما جاء من غير اعتقاد تشبيه (2) , أو من تأويله على ما يليق بالرحمن (3) - جل جلاله -.
وزعم بعضهم أن الضمير يعود على آدم (4) , أي على صفته, أي خلقه موصوفاً بالعلم الذي فضل به على الحيوان, وهذا محتمل.
وقال حرب في كتاب ((السُّنَّة)) : ((سمعت إسحاق بن راهويه يقول: صح أن الله خلق آدم على صورة الرحمن)) .
_________
(1) وهو كون الضمير يعود إلى المضروب
(2) مذهب السلف اعتقاد ما دلت عليه النصوص بلا تفويض ولا تشبيه ولا تأويل.
(3) التأويل باطل , وهو مذهب المتأخرين من الأشاعرة والماتريدية ونحوهم.
(4) سيأتي إبطال ذلك , إن شاء الله تعالى.(2/44)
وقال إسحاق الكوسج: سمعت أحمد يقول: هو حديث صحيح.
وقال الطبراني: في كتاب السُّنَّة: حدثنا عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل قال: قال رجل لأبي: إن رجلاً قال: خلق الله آدم على صورته, أي صورة الرجل, فقال: كذب, هو قول الجهمية)) (1) .
********
_________
(1) ((الفتح)) (5/183) .(2/45)
الفصل الرابع
في بيان بطلان قول أهل التأويل الفاسد
فمن ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في تأويل إتيان الله - تعالى - بأنه رؤيتهم إياه, أو أنه مجاز حذف تقديره: ((يأتيهم بعض ملائكة الله, أو: أن يأتيهم بصورة من الصور المخلوقة)) إلى آخر ما ذكر.
والجواب: أن هذه التأويلات مخالفة لكتاب الله - تعالى - ولأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخالفة صريحة, بحيث يجوز أن نقول: إنها تكذيب لكلام الله وكلام رسوله, ورد له, وفتح لباب الزندقة والكفر.
لأن النصوص في ذلك جلية واضحة, فإذا صح تأويلها بما ذكر, أمكن كل مبطل أن يؤول ما شاء من التأويل.
قال الله - تعالى -: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الامُورُ} (1) .
وقال- تعالى -: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلآئِكَةُ أوْ يَأتِىَ رَبُّكَ} (2) .
فبين تعالى أن إتيانه غير إتيان الملائكة, وغير إتيان الآيات.
وقال - جل وعلا -: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (3) .
_________
(1) الآية 21 من سورة البقرة.
(2) الآية 158 من سورة الأنعام.
(3) الآية 22 من سورة الفجر.(2/46)
وغير ذلك من الآيات, وأما الأحاديث, فكثيرة جداً, وسيأتي ذكر بعضها, إن شاء الله – تعالى -.
فالحق الذي دلت عليه نصوص الوحي: أن لله – تعالى – أفعالاً اختيارية يفعلها بمشيئته, كالاستواء, والنزول, والمجيء, والخلق, والرزق, ونحو ذلك.
قال ابن كثير: ((قوله – تعالى -: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ} , يعني: يوم القيامة لفصل القضاء بين الأولين والآخرين, فيجزي كل عامل بعمله, إن خيراً فخير, وإن شراً فشر, ولهذا قال – تعالى -: {وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الامُورُ} (1) .
وقال ابن جرير: ((والأولى بالصواب من وجه قوله: {فيِ ظُلَلِ مِنَ الغَمَامِ} أنه من صلة فعل الله – تعالى – وأن معناه: ((هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام, وتأتيهم الملائكة)) ؛ لما حدثنا به محمد بن حميد, قال: حدثنا إبراهيم بن المختار, عن ابن جريح, عن زمعة بن صالح, عن سلمة بن وهرام, عن عكرمة, عن ابن عباس, أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفاً)) , وذلك قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} (2) .
ثم ذكر حديث الصور الطويل المشهور, وفيه: ((فيقول الله لي: يا محمد, فأقول: نعم, وهو أعلم, فيقول: ما شأنك؟ فأقول: يا رب, وعدتني الشفاعة, فشفعني في خلقك (3) , فاقض بينهم, فيقول: قد شفعتك, أنا آتيكم فأقضي بينكم ... فبينا نحن وقوف سمعنا حساً من السماء شديداً,
_________
(1) ((تفسير ابن كثر)) (1/248) .
(2) الآية 210 من سورة البقرة.
(3) هذه الجملة من الحديث فيها نكارة؛ لأنها تخالف النصوص الثابتة قطعاً من أن الشفاعة لا تطلب من الله رأساً بدون دعاء , وكذلك له تعالى , حتى يأمر – جلا وعلا – بها , قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشفَعُ عِندَهُ إِلا بِإذنِهِ} .(2/47)
فهالنا فنزل أهل السماء الدنيا, بمثلي من في الأرض من الجن والإنس, حتى إذا دنوا من الأرض, أشرقت الأرض بنورهم, وأخذوا مصافهم, فقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: لا, وهو آت)) .
ثم ذكر مثل ذلك في كل سماء, ثم قال: ((حتى نزل الجبار في ظلل من الغمام, والملائكة, ولهم زجل من تسبيحهم, يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت, سبحان رب العرش ذي الجبروت, سبحان الحي الذي لا يموت, سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت, سبوح قدوس, رب الملائكة والروح, قدوس, قدوس, سبحان ربنا الأعلى, سبحان ذي السلطان والعظمة, سبحانه أبداً أبداً، فينزل - تبارك وتعالى - يحمل عرشه يومئذ ثمانية)) (1) .
وهذا صريح في أن إتيان الله – تعالى – على ظاهره, يأتي إلى الأرض, يفصل بين عباده, ويتولى حسابهم بنفسه – تعالى -, وكل واحد منهم سوف يخاطبه, كما سيأتي في حديث عدي بن حاتم.
وهذا الحديث الذي استشهد به الإمام الطبري, وإن كان سنده ضعيفاً, إلا أن هذا القدر منه قد دلت عليه النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة, فوجب قبوله, والإيمان به.
والله – عز وجل – ليس كمثله شيء لا في ذاته, ولا في أوصافه, ولا في أفعاله, فمجيء الله – تعالى – ونزوله, وعلوه, واستواؤه, خاص به, على ما يليق بعظمته.
((والمجيء والإتيان, والصعود والنزول, توصف به روح الإنسان التي تفارقه بالموت, وتوصف به الملائكة, وليس نزول الروح وصعودها من جنس نزول
_________
(1) ((تفسير الطبري)) (1/191) طبعة بولاق الأولى(2/48)
البدن وصعوده, فإن روح المؤمن تصعد إلى فوق السماوات ثم تهبط إلى الأرض فيما بين قبضها ووضع الميت في قبره.
وهذا زمن يسير لا يمكن صعود البدن ثم نزوله في مثله.
وكذلك صعودها في النوم, وذهابها إلى أماكن نائية, ثم عودها إلى البدن في اليقظة, لا يمكن للبدن مثل ذلك.
فإذا كانت الروح تعرج إلى السماء في هذا الوقت القصير, فهذا يدل على أن عروجها ومجيئها ليس من جنس عروج البدن ومجيئه, ومثل ذلك يقال في الملائكة.
فمجيء الرب تعالى, وصعوده, واستواؤه, فوق ذلك كله وأجل منه وأعظم, فإنه – تعالى – أبعد عن مماثلة كل مخلوق, من مماثلة مخلوق لمخلوق كالروح والبدن مثلاً)) (1) .
وقوله: ((نسبة الإتيان إلى الله عبارة عن رؤيتهم إياه)) .
فنقول: هذا من التحريف الجلي, فالناس كلهم يفرقون بين الإتيان والرؤية, فإن الإتيان المذكور في الحديث فعل الله – تعالى – يفعله إذا شاء, وأما الرؤية فهي تقع من الخلق.
وقد ذُكرت في أول الحديث في قوله: ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر)) وذلك بعد مجيئه – تعالى – إليهم في الموقف, وقوله لأهل ذلك الموقف: ((ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون, فتمثل لهم معبوداتهم, ثم يتبعونها إلى النار)) .
فهذا التأويل بطلانه ظاهر, وهو أشبه باللعب في كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم -,
_________
(1) ((شرح حديث النزول)) (ص 75 , 92 , 93) بتلخيص وتصرف.(2/49)
بل هو تحريف كتحريف الباطنية والفلاسفة وأهل الزندقة.
وأما قوله: ((وقيل: الإتيان: فعل من أفعال الله يجب الإيمان به مع تنزيه الله عن سمات الحدوث)) . فيقال: لو أن الحافظ رحمه الله اقتصر على هذا القول الذي ذكره بصيغة التمريض, لكان أولى له وأعذر عند الله – تعالى – وعند عباده المؤمنين؛ لأنه لا يخالف لفظ الحديث, وإن كان الفعل عند الأشعرية يقصد به المفعول, كما تقدم.
وأما قوله: ((وقيل: فيه حذف تقديره: يأتيهم بعض ملائكة الله، ورجحه عياض)) فيقال: بطلان هذا أظهر مما تقدم.
وكل مَنْ قَبِلَ ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – وسلم له منقاداً, فإنه يعلم يقيناً بطلان هذا القول, بل هذا يعلمه كل عاقل يتصور ما يقول.
ونحن نسأل أصحاب هذا القول الذي رجحه عياض: هل يجوز للمَلَك الذي يأتيهم – كما زعموا- أن يقول لأهل ذلك الموقف: أنا ربكم؟ وقد قال الله – تعالى – عن الملائكة أجمعين: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِين َ} (1) .
والله – تعالى – لا يأمره بذلك؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاء والمنكر, فإن هذا شرك وكفر, والله – تعالى – لا يأمر به.
ومثل هذا, التأويل الرابع, الذي جعله محتملاً له, وهو قولهم: إن الله – تعالى – يأتيهم بصورة مخلوقة, تقول لهم: أنا ربكم)) فهذا كلام سخيف مضحك, وشر البلية ما أضحك.
فلولا أنه مسطور في الكتب المتداولة بين طلبة العلم لنزهت كتابي عن ذكره,
_________
(1) الآية 29 من سورة الأنبياء.(2/50)
فإن مثله يجب أن تنزه عنه كتب العلم؛ لأنه منكر من القول وزور, وهو أقرب إلى السخرية والتهكم بكلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من كونه يحتمله, ولا يشك من يعرف معاني الكلام أن هذا تحريف لكلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتعطيل لله – تعالى – عن الإتيان, والصعود والاستواء, أو فعل ما يريد من ذلك.
ولكن هؤلاء المحرفون يجهدون أنفسهم ويبذلون وسعهم في تحريف كلام الله وكلام رسوله, وصد الناس عن قبوله على ظاهره, ثم يغلبون وتكون جهودهم عليهم حسرة, وسوف يندمون عند ظهور الحقائق.
قال شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى -:
((وأما أهل التحريف والتأويل, فهم الذين يقولون: إن الأنبياء لم يقصدوا بهذه الأقوال ما هو الحق في نفس الأمر, وأن الحق في نفس الأمر هو ما علمناه بعقولنا.
ثم يجتهدون في تأويل هذه الأقوال إلى ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات, التي يحتاج فيها إلى إخراج اللغات عن طريقتها المعروفة, وإلى الاستعانة بغرائب المجازات, والاستعارات.
وهم في أكثر ما يتأولونه قد يعلم عقلاؤهم علماً يقيناً أن الأنبياء لم يريدوا بقولهم ما حملوه عليه.
وهؤلاء كثيراً ما يجعلون التأويل من باب دفع المعارض, فيقصدون حمل اللفظ على ما يمكن أن يريده متكلم, لا يقصدون طلب مراد المتكلم به, وحمله على ما يناسب حاله.
وكل تأويل لا يقصد به صاحبه بيان مراد المتكلم, وتفسير كلامه بما يعرف به مراده, وعلى الوجه الذي يعرف مراده, فصاحبه كاذب على من تأول كلامه.(2/51)
ولهذا كان أكثرهم لا يجزمون بالتأويل, بل يقولون: يجوز أن يراد كذا, وغاية ما معهم إمكان احتمال اللفظ.
فهذه طريق خلق كثير من المتكلمين, وغيرهم)) (1) .
ومن تأمل هذه الأحاديث التي تقدم ذكر بعضها, وتفهم سياقها, وما دلت عليه من المعاني, وما اتفقت عليه من الأخبار بأن الله يأمر كل من عبد غيره أن يتبعه, بعدما يمثل له ذلك المعبود, وأنه لا يبقى في الموقف إلا من يعبد الله وحده, من بر وفاجر, فيأتيهم الله في صورة لا يعرفونه فيها, امتحاناً, فيثبتهم, ثم يتجلى لهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة, وذلك بعد أن كشف لهم عن ساقه فسجدوا له, هل يصح عند عاقل أنهم يسجدون لصورة مخلوقة؟
فمن تأمل ذلك علم قطعاً أن الذي يأتيهم هو رب العالمين, وليس ملكاً ولا شيئاً آخر مما ذكره المحرفون, وعلم قطعاً بطلان تأويلهم.
وأما قوله: ((يحتمل أن المعنى: يأتيهم الله بصورة, تظهر لهم من الصور المخلوقة)) , فهذا الاحتمال هو ما ذكره الرازي في تأسيسه, وقد تكفل شيخ الإسلام بدحض باطلة, قال رحمه الله -:
((الوجه الثاني: أن قوله: تكون ((في)) بمعنى الباء, والتقدير: فيأتيهم الله بصورة, غير الصورة التي عرفوها في الدنيا إلى آخره.
يقال: أولاً: هذا تبديل للغة, وقلب [لها] , فإن الباء في مثل قولك: جئت بكذا, تكون لتعدية الفعل, فالمجرور بالباء في مثل هذا اللفظ يدل دلالة صريحة على أنه أوقع الفعل ممن غيره, فهو جعل غيره آتياً, كقوله – تعالى -: {عَسَى
_________
(1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/12) .(2/52)
اللهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} (1) .
وقوله: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللهُ إِن شَاءَ} (2) .
وقوله: {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ} (3) . فليس في هذا النظم إشعار بأن المأتي به ظرف للفاعل, ولا أنه فوقه, أو في جوفه, أو غير ذلك من المعاني التي يدل عليها لفظ ((في)) ولذلك لا تصلح أن توضع ((في)) موضع الباء في هذا الاستعمال, فلا تقول: ((عسى الله أن يأتيني فيهم)) ((إنما يأتيكم فيه الله)) .
وأما قوله: {فَلَنَأتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ} , فإذا كان هو الذاهب بالجنود, فإنه يصح أن يقول ((فلنأتينهم في جنود)) وإلا لم يصح, وهذا من المشهور في اللغة يعرفه عامة علماء اللغة.
فلذلك صار هذا التأويل تحريفاً لكلام الله, وكلام رسوله, فإن قوله – تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} (4) , لا يصلح أن يراد به أنه يرسل ذلك، ولا يأتي هو.
ثم قال: ((الوجه الثالث)) : أن قوله: ((فيأتي الله في صورته التي يعرفون)) وقوله: ((فيأتيهم الله في صورة غير صورته)) .
وقوله: ((أتاهم رب العالمين في أدني صورة من التي رأوه فيها أول مرة)) .
وقوله: ((في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة)) ، ونحو ذلك،
_________
(1) الآية 83 من سورة يوسف عليه السلام.
(2) الآية 33 من سورة هود عليه السلام.
(3) الآية 37 من سورة النمل.
(4) الآية 210 من سورة البقرة.(2/53)
لو احتمل أن يكون بمعنى: فيأتيهم بصورة، فإن لفظ الصورة المضاف إلى شيء هو من باب الإضافة النفسية, لا الخلقية، فإن الإضافة تكون فيما هو قائم بنفسه، كما في قوله ((ناقة الله)) و ((بيت الله)) و ((أرض الله)) ونحو ذلك مما فيه دلالة على أنه منفصل عن المضاف إليه، وأما الصفات، مثل العلم، والقدرة، ونحو ذلك، فإذا أضيف كانت إضافته إضافة نفسية، إذا لم يتبين خلاف ذلك.
والصورة صفة قائمة بذي الصورة، فليست من الأعيان المنفصله عن المضاف إليه، حتى تجعل بمعنى الملك، فلا يمكن أن تكون صورة الله التي يأتي فيها مخلوقاً منفصلاً عنه.
الوجه الرابع: أنه قال: فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون (1) ، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا)) ، وفي لفظ: ((أتاهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم)) (2) .
ومعلوم أن أحداً من الملائكة لا يقول للخلق: أنا ربكم، بل لا يدعي هذه الدعوى إلا كافر بالله، كفرعون, والدجال، والشيطان.
بل الملائكة عباد مطيعون لله – تعالى –، لا يدعون الربوبية، ولا الإلهيَّة، كما قال – تعالى -: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِين َ} (3) .
ولا يأمر الله أحداً من الخلق أن يقول لجميع العباد: أنا ربكم، فإنه - تعالى – لا يأمر بالشرك.
_________
(1) هذه رواية مسلم في حديث أبي هريرة، انظر: ((صحيح مسلم)) (1/164) .
(2) هذه أيضا رواية مسلم من حديث أبي سعيد، إلا أنه ليس فيها ((أول مرة)) ، انظر: ((مسلم)) (1/168) .
(3) الآية 29 من سورة الأنبياء.(2/54)
ومن زعم أن الله يأمر بهذا، فهو مفتر على الله.
وإن كان الملك يقول امتحاناً، فهذا لا يصلح، كما لا يصلح أن يقول أحد من الأنبياء والمرسلين للناس: أنا ربكم، على سبيل الامتحان.
ولسنا ننكر الامتحان في القيامة، فإن المحنة لا تنقطع إلا بدخول دار الجزاء، الجنة أو النار، ولكن المحنة من الملائكة أن يقول للعبد: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟
الوجه الخامس: أنه لو كان الممتحن لهم في ذلك الموقف، ملكاً من الملائكة، لقال لهم: من ربكم؟ ومن تعبدون؟ ويقال لهم: هلا تذهبون مع ربكم؟ إذ من الممكن أن يظهر لهم صورة، ويقول لهم الملك: هلا تذهبون مع هذه الصورة؟ كما أنه في أول الحديث قال: وأذن مؤذن: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد.
فلو كان المخاطب لهم عن الله – تعالى – لقال ما يصلح له، كما في نظائر ذلك، ولكن من شأن الجهمية أنهم يجعلون المخاطب للعباد بدعوى الربوبية غير الله، كما قالوا: إن الخطاب الذي سمعه موسى، بقوله: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} (1) ، كان قائماً بمخلوق، كالشجرة، وكما قالوا: في قوله: ((من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟)) (2) . إنه يقول هذا ملك من الملائكة. وهذا كله من الكفر والإلحاد. وكما يزعم الرازي في قوله: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (3) . أن ربه ملك من الملائكة.
_________
(1) الآية 12 من سورة طه.
(2) الحديث سيأتي.
(3) الآية 22 من سورة الفجر، انظر: ((تفسير الرازي)) (31/ 173) ومراده قوله: ((الرب هو المربي، ولعل ملكاً هو أعظم الملائكة هو مربِّ للنبي – صلى الله عليه وسلم – جاء، فكان هو المراد من قوله: وجاء ربك)) (ص 174) .(2/55)
الوجه السادس: أنه قال: ((فيأتيهم الله في صورة، غير صورته التي رأوه فيها أول مرة)) (1) ، وهذا نص في أنهم رأوا الله قبل هذا الخطاب في صورة غير الصورة [التي ظهر لهم فيها حال الخطاب] ، فلو كان المخاطب لهم ملكاً لكان المرئي قبل ذلك هو الملك، لا الله، والحديث نص في أنهم رأوا الله قبل هذه المرة.
الوجه السابع: أنه قال: ((فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه)) (2) .
وفي الحديث الآخر: ((إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله، من بر وفاجر، أتاهم الله في أدنى صورة، من التي رأوه فيها (3) .
وفي رواية: ((إنا سمعنا منادياً ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما ننتظر ربنا، فيأتيهم الجبار في صورة، غير صورته التي رأوه فيها أول مرة)) (4) .
وفي رواية: ((أتاهم رب العالمين، في أدنى صورة من التي رأوه فيها، فيقال: ماذا تنتظرون؟ فيقولون: فارقنا الناس أفقر ما كنا إليهم، ولم نصاحبهم، ونحن ننتظر ربنا الذي كنا نعبد، فيقول: أنا ربكم؟ فيقولون: لا نشرك بالله شيئاً، مرتين، أو ثلاثاً فيقول: هل بينكم وبينه آية، فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساقه، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه، إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد
_________
(1) سيأتي ذلك في حديث أبي سعيد إن شاء الله تعالى.
(2) سيأتي ذلك في حديث أبي سعيد إن شاء الله تعالى.
(3) تقدم ذلك في حديث أبي هريرة، وهو متفق عليه.
(4) في حديث أبي سعيد، وهو متفق عليه.(2/56)
اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة، فقال: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا)) (1) .
وهذا صريح بأن الذي أتاهم، وقال: أنا ربكم، هو الذي أراهم العلامة حتى عرفوه فسجدوا له بعد ذلك، وعرفوا أنه رب العالمين، ولو كان القائل: أنا ربكم، ملكا، لكان الملك هو الذي اعترفوا آخر اً أنه رب العالمين، وهو الذي سجدوا له، وهذا من أعظم الكفر والضلال.
الوجه الثامن: أن قوله: ((فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا)) وأنه يبدي العلامة التي ذكرها، فيسجدون له، صريح بأن الذي يسجدون له، قد جاء في الصورة التي يعرفون، ويتجلى لهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة، وذلك صريح بأن الله هو الآتي، في الصورة التي عرفوه فيها، ويسجدون له لما عرفوه)) (2) .
وقولهم: ((يحتمل أن يكون المراد: إذا جاء إحسان ربنا عرفناه)) ، وقوله: ((فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون)) ، معناه: بالصورة التي يعرفون أنها من أمارات الإحسان.
فيقال: هذا باطل، فإن معرفة آياته تكون في الإحسان والعقاب، في الدنيا والآخرة، والله – تعالى – هو الخالق لكل شيء، كما قال – تعالى -: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} (3) .
وقال – تعالى - {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (4) .
_________
(1) ((نقض التأسيس)) (3/223) ، وكل هذه الروايات التي ذكرها في ((الصحيحين)) .
(2) ((نقض التأسيس)) (3/223) ، وكل هذه الروايات التي ذكرها في ((الصحيحين)) .
(3) الآية 93 من سورة النمل.
(4) الآية 53 من سورة فصلت.(2/57)
فمعرفة الله بآياته ليست موقوفة على الإحسان، فبطلان هذه الدعوى واضح، كما أن الأوجه التي ذكرها شيخ الإسلام كلها تبطل هذا الزعم.
ومما يبطله أيضاً ما ذكر في الأحاديث، أنه إذا قال لهم أولاً: ((أنا ربكم، يقولون: لا نشرك بالله شيئاً، أو نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء عرفناه، فيقول: هل بينكم وبينه آية، فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى ممن كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود)) إلى آخره.
وقد قال أهل التأويل الباطل: إن المراد بقوله: ((فيكشف عن ساق)) : الشدة، كما يقال: كشفت الحرب عن ساق.
كما قالوا في قوله: ((فيأتيهم في الصورة التي يعرفون)) إنها أمارات الإحسان)) وهذا تناقض، حيث جعلوا ما تتوقف معرفته عليه: مرةً الإحسان، ومرة أخرى هو الشدة والعذاب.
ومما يبطل قولهم أيضاً ما في حديث جابر: ((ثم يأتينا ربنا، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: حتى ننظر إليك، فيتجلى لهم يضحك، قال: فينطلق بهم ويتبعونه)) (1) ، وهذا صريح أن الذي أتاهم، والذي تجلى لهم هو ربهم – تعالى – وأنهم عرفوه لما تجلى لهم يضحك.
ثم إن جميع ألفاظ الحديث صريحة في أن الذي يأتي، وجاء إليهم، وقال: أنا ربكم، ورأوه، هو الذي سجدوا له، فاقتضى ذلك أن يكون المتجلي لهم، المسجود له، هو الذي جاءهم في الصورة، وتكرر ذلك، فلا يجوز أن يكون ذلك ملكاً، أو بعض النعم المخلوقة، أو شدة، أو غير ذلك مما زعمه المبطلون.
_________
(1) رواه مسلم في ((صحيحه)) رقم (316) ، ورواه الإمام أحمد، انظر: ((المسند)) (3/345) .(2/58)
ولهذا كان الإمام أحمد يحتج على إثبات الرؤية بالمجيء والإتيان، كما ذكر الخلال في السنة، عن أبي طالب، قال: ((وقول الله تعالى: {هَل يَنِظُرُونَ إِلا أَن يَأتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ وَالمَلائِكَةُ} {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّاَ صَفَّاَ} فمن قال: إن الله لا يرى فقد كفر)) .
فبين أن هذه الآيات تدل على أنه يأتي، ويجيء، وذلك يقتضي الرؤية, كما صرحت به الأحاديث المفسرة لكتاب الله تعالى.
ومما يبين فساد قول المؤولين: أن في حديث ابن مسعود فرقاً بين إتيان الرب نفسه، وإتيان سائر المعبودات، وذلك يفسر ما ورد في بقية الأحاديث، فإنه قال:
((ثم ينادي مناد: يا أيها الناس، ألا ترضون من ربكم الذي خلقكم ورزقكم، وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، أن يولي كل إنسان منكم ما كان يتولاه، ويعبده في الدنيا؟ أليس ذلك عدلاً من ربكم؟ قالوا: بلى، قال: فينطلق كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويتولون في الدنيا, قال: فينطلقون ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون.
فمنهم من ينطلق إلى الشمس، ومنهم من ينطلق إلى القمر، وإلى الأوثان من الحجارة، وأشباه ما كانوا يعبدون، قال: ويتمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، ويتمثل لمن كان يعبد عزيزاً شيطان عزيز.
قال: فيتمثل لهم الرب فيأتيهم فيقول: ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ فيقولون: إن لنا إلهاً ما رأيناه بعد، فيقول: وهل تعرفونه إن رأيتموه؟ فيقولون: نعم، بيننا وبينه علامة، إذا رأيناها عرفناه، فيقول: ما هي؟ قال: فيقولون: يكشف عن ساقه، قال: فعند ذلك يكشف عن ساقه،(2/59)
قال: فيخر من كان يسجدله طوعاً، ويبقى قوم ظهورهم كأنها صياصي البقر)) (1) .
فلما ذكر تلك المعبودات، ذكر أنه يمثل أشباهها، وأن المعبود من الأنبياء تأتي شياطينهم؛ لأنهم قد اتبعوها في الدنيا وعبدوها، وذكر أن الرب - تعالى - لما امتحن العباد هو الذي يتمثل لهم، وهو الذي أظهر لهم العلامة التي عرفوه بها حتى سجدوا.
فلو كان الآتي هو ملك من ملائكة الله، أو شيء من مخلوقاته، لكان بيان هذا أولى من بيان أن أولئك إنما جاءت أشباههم، إذ في هذا من المحذور ما ليس في ذلك، بل هذا التفريق بين هذا وهذا دليل واضح على أن الذي أتاهم هو رب العالمين، الذي تمثل لهم في الصورة، والذي اتبعه المشركون هو أشباه المعبودات، وشياطين الأنبياء.
ومما يبين ذلك ما أخبر به: أنه بعد إتيانه إياهم في الصورة التي يعرفون، وإظهار الآية التي عرفوه بها، وسجود المؤمنين له دون المنافقين أنهم اتبعوه حتى مروا على الصراط، كما بين ذلك في حديث أبي هريرة وأبي سعيد وجابر وابن مسعود، فلو كان الذي جاء في هذه المرة الثانية هو بعض النعم – كما زعم المحرفون – لكانوا قد اتبعوا تلك النعمة المخلوقة، وليس الرب الذي عبدوه، وهو خلاف نصوص الأحاديث، وخلاف العدل الذي أخبر به الحديث، وذلك أن العبادة مستلزمة كمال المحبة للمعبود، وكمال التعظيم له، فإن المعبود هو الذي يقصد ويحب لذاته، والمرء مع من أحب، وهذا حقيقة العدل: أن يكون الإنسان مع المحبوب الذي يحبه محبة كاملة بحيث يحبه لذاته.
_________
(1) رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في ((السنة)) (2/521) فقرة (1203) ، ورواه الدراقطني في كتاب: الرؤية، انظر: (ص 297) رسالة دكتوراه من الجامعة الإسلامية.(2/60)
وإذا كان كذلك فيمتنع أن يكون المؤمنون متبعين لغير الله، والذي جاءهم هو الذي اتبعوه، وهو الله، وهو الذي جاءهم في الصورة التي عرفوه فيها.
ولا ريب أن عند الجهمية ممتنعاً أن يكونوا متبعين لله، كما يمتنع أن يكون هو الآتي، وكما يمتنع أن يكون قد أتاهم في صورة، وكما يمتنع أن يتجلى لهم ضاحكاً، وكما يمتنع أن يكشف عن ساقه، بل أن يكون له ساق.
فأحد الأمرين لازم: إما أن يكون ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم – هو الحق، أو ما يقوله هؤلاء الجهمية – المحرفون -.
وهما متناقضان غاية التناقض، ومن عرف ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم - ثم وافقهم فلا ريب أنه منافق)) (1) .
وأما قولهم: ((يحتمل أن يراد بالصورة: الصفة (2) ، والمعنى: أنه يظهر لهم من بطش الله وشدة بأسه ما لم يألفوه، ولم يعتادوه، ثم يأتيهم بعد ذلك بأنواع الرحمة والكرامة، على الوجه الذي اعتادوه وألفوه)) (3) .
قال شيخ الإسلام: ((هذا التأويل أفسد من الذي قبله، وأكثر الوجوه التي أبطل بها التأويل السابق تبطل هذا، ولهذا خصائص تظهر بوجوه:
أحدها: أن تفسير الصورة بمجرد الصفة فاسد (4) ، فحيث دل لفظ الصورة على صفة قائمة بالموصوف، أو على صفة قائمة بالذهن واللسان، فلا بد مع ذلك أن يدل على الصورة الخارجية.
الثاني: أن إظهار الشدة في تسمية ذلك صفة، كإظهار النعمة، وكإظهار
_________
(1) ((نقض التأسيس)) (3/365-375) المخطوط، ببعض التصرف.
(2) هذا التأويل غير التأويل المشهور، الذي يظن كثير من الناس أنه قول أهل السنة، وهو أن المراد بالصورة: أن خلق فيه السمع والبصر والإرادة، ونحو ذلك، وسيأتي بطلانه إن شاء الله تعالى -.
(3) هذا من كلام الرازي في تأسيسه.
(4) سيأتي بيان فساده إن شاء الله تعالى -.(2/61)
الملك، إذ جميع ذلك عبارة عن خلق شيء من الأجسام وإظهاره.
فتسمية هذا صفة دون الملك والإحسان تحكم باطل.
الثالث: أن الناس مازالوا يألفون أن الله يبتليهم بالسراء والضراء، فدعوى أن أحدهما مألوف دون الآخر باطل.
الرابع: أن الله إذا أظهر عذابه وشدته، لم يجز الامتناع من السجود له في هذه الحال، ولا يجوز إنكار ربوبيته، حتى يقول الأنبياء والمؤمنون: نعوذ بالله منك، وينكرون أن يكون هو ربهم، ومعلوم أن السجود في حال إظهار الشدة أولى منه في حل إظهار النعمة، كما في الكسوف والخسوف ونحوهما.
الخامس: أن هذا يكون قبل مرورهم على الصراط، وقبل تميز المنافقين من المؤمنين، والنعيم والعذاب والشدة بعد ذلك، إذا مروا على الصراط وتميز السعداء من الأشقياء.
السادس: أنه أخبر في الأحاديث أن المشركين الذين عبدوا مع الله إلهاً آخر قد صاروا إلى العذاب، وبعد ذلك يأتي المسلمين ربُّهم في غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفونها.
فلم يظهر الشدة والبطش والعذاب إلا للكفار من المشركين وأهل الكتاب.
السابع: أن في الأحاديث: ((إذا سجد المسلمون، لم يتمكن من السجود المنافقون)) ، وفي أحاديث أخرى (1) : أنهم يعطون بعد هذا الأنوار, على قدر أعمالهم, ثم يمرون على الصراط، فناج مسلم، وهو الذي ينجو بلا أذى، وناج مخدوش، وهو الذي يصيبه من لفح النار، ومكدوس في نار
_________
(1) كحديث جابر، وحديث ابن مسعود، وقد تقدم ذكر من خرجهما.(2/62)
جهنم، وهم المعذبون.
فلم يكن العذاب والشدة إلا بعد هذا كله، حيث المرور على الصراط، فكيف يقال: إن إتيانه أولاً في غير صورته التي يعرفون، هو إتيان عذابه وبأسه، وهو لم يأت منه شيء بعد؟
الثامن: أنهم تأولوا كشفه عن ساقه بأنه إظهار الشدة، وفي نفس هذه الأحاديث أنه إذا أتاهم في الصورة التي [لا] يعرفونها يكشف لهم عن ساقه فيسجدون له، فإذا تأولوا مجيئه في الصورة التي يعرفون على إظهار رحمته وكرامته، كان هذا من التحريف والتناقض في تفسير الكتاب والسنة.
التاسع: أنه ليس في ما ذكره إلا أنه يجيء بعض مخلوقاته، إما التي تسر، وإما التي تضر، ومن المعلوم أن الله – تعالى – لا يوصف بنفسه مخلوقاته، بل كونها ليست صفات له أظهر من كونها ليست صورة له، فقول القائل: يأتيهم الله في صورته التي يعرفون، أو التي لا يعرفون، أي في صفته التي يعرفون، أو التي لا يعرفون، ثم يؤول ذلك بمجيء بعض ما يخلقه من الضراء أو السراء، من أفسد الكلام، فإن النعم والنقم ليست من صفات الله التي يوصف بها، وإنما يوصف بأنه يخلقها ويحدثها ويفعلها، فلا يصح أن يكون مجيئها مجيء الله في صفته.
العاشر: أن أكثر هؤلاء المؤولة أشاعرة، وعندهم أن الخلق هو المخلوق، كما سيأتي – إن شاء الله – بيانه، فليس الخلق صفة لله – تعالى – عندهم، كالمعتزلة، فإذا كان كذلك كيف يكون المخلوق المكون من صفات الله تعالى؟
الحادي عشر: أنه لو كان اللفظ: فيأتيهم الله في صورة عظيمة، أو: في صفة عظيمة، كما يقال: وجاء الملك في صورة عظيمة، ودخل المدينة على صفة عظيمة، ونحو ذلك، لأمكن صحة دعواهم أن الصورة أو الصفة من(2/63)
المخلوقات؛ لأن قوله: في صورة، أو صفة، نكرة مثبتة لم يعين صاحبها.
فإذا قيل: في صورته التي يعرفون، أو صورته التي لا يعرفون، أو: في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، وقيل: إن الصورة بمعنى الصفة، كان ذلك صفة له، فيمتنع أن يكون عائداً إلى غيره.
الثاني عشر: أن ألفاظ الحديث في هذا كله مصرحة بأن الله – تعالى – هو الآتي، وهي بذلك موافقة لدلالة القرآن مفسرة له، حيث أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – في أول الأحاديث بأنهم يرون ربهم، كما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، وكما يرون القمر ليلة البدر صحواً ليس دونه سحاب، جواباً لهم لما سألوه: هل نرى ربنا يوم القيامة؟
وأخبرهم أيضاً ابتداءً بدون سؤال، فإنه – صلى الله عليه وسلم – كان يحدثهم بهذا الحديث مرات متعددة.
ثم وصف هذه الرؤية، فأخبر أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، وأخبر باتباع المشركين لما كانوا يعبدونه، ثم قال: ((وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعم، أنت ربنا، فيتبعونه)) .
وفي الحديث الآخر يقال لهم: ((هل بينكم وبينه علامة فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياءً وسمعة، فيذهب كيما يسجد، فيعود ظهره طبقاً واحداً, ثم يرفعون رؤوسهم، وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة)) .
وفي الحديث الآخر: ((ثم يأتينا ربنا، بعد ذلك، فيقول: من تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: حتى ننظر إليك، فيتجلى(2/64)
لهم يضحك، قال: فينطلق بهم فيتبعونه)) .
وفي الحديث الآخر: قال: ((يجمع الله الأولين والآخرين لميقات)) (1) يوم معلوم، قياماً، أربعين سنة، شاخصة أبصارهم إلى السماء، ينتظرون فصل القضاء، قال: وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي، ثم ينادي مناد ... )) الخ.
وإذا كانت الأحاديث مصرحة بمجيء الرب نفسه صريحاً يعلمه الخاص والعام، ويزيل كل شبهة، علم أن هذه التحريفات، تكذيب للرسول – صلى الله عليه وسلم -, لا تصدر إلا من جاهل بما أخبر به أو منافق، ليس بمؤمن به.
فأما من آمن به، وعلم ما جاء به، فلا يكون إلا مصدقاً بمضمونها.
ومضمون ما يقوله هؤلاء المحرفون: أن العبادة تكون لغير الله، وهذا من جملة شركهم، فإنهم دخلوا في الشرك من وجوه: منها: إثباتهم خصائص الربوبية لغير الله، حتى جعلوه يدعي الربوبية، ويحاسب العباد, ويسجدون له)) (2) .
واعلم أن لهم تأويلات غير ما ذكر هنا، من ذلك ما ذكره الإمام ابن خزيمة في كتاب التوحيد، وما ذكره الفخر الرازي في ((تأسيسه)) ، وتبعه على ذلك كل من جاء بعده من شراح الحديث, إلا من شاء الله – تعالى -, فلذلك ننقل ما فيه شبهة قد تشكل على من قرأ كلامهم، وننقل رد شيخ الإسلام عليهم، أما ما هو ظاهر البطلان، فلا حاجة إلى ذكره.
قال الرازي: ((اعلم أن الصورة ما وردت في القرآن، ولكنها واردة في الأخبار، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كقوله: ((إن الله خلق آدم على صورته)) وقوله: ((لا يقولن أحدكم لعبده: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته)) .
ثم قال: ((والجواب: اعلم أن الهاء في قوله: على صورته،
_________
(1) وكل هذه الروايات ثابتة في ((الصحاح)) وغيرها، وسبقت الإشارة إلى ذكر من رواها.
(2) ((نقض التأسيس)) (3/377 – 383) مخطوط.(2/65)
يحتمل أن تكون عائدة على شيء غير صورة آدم، وغير الله، ويحتمل أن تكون عائدة إلى آدم، ويحتمل أن تكون عائدة إلى الله، فهذه طرق ثلاث)) .
ثم ذكر الطريقين الأولين والتأويل فيهما، ولظهور بطلان ما ذكره نعرض عنهما؛ لأننا قد ذكرنا فيما تقدم ما يبين بطلان كون الضمير عائدا إلى غير الله – تعالى -.
ثم قال: (الطريق الثالث أن يكون ذلك الضمير عائداً إلى الله – تعالى – وفيه وجوه:
الأول: المراد من الصورة: الصفة، فيكون المعنى: أن آدم عليه السلام امتاز عن سائر الأشخاص والأجسام بكونه عالماً بالمعقولات، قادراً على استنباط الحرف, والصناعات, وهذه صفات شريفة, مناسبة لصفات الله من بعض الوجوه, فصح قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله خلق آدم على صورته)) بناءً على هذا التأويل.
فإن قيل: المشاركة في صفات كمال تقتضي المشاركة في الإلهية.
قلنا: المشاركة في بعض اللوازم البعيدة مع حصول المخالفة في الأمور الكثيرة لا تقتضي المساواة في الإلهية, ولهذا المعنى قال الله – تعالى - {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} (1) , وقال – صلى الله عليه وسلم -: ((تخلقوا بأخلاق الله)) (2) .
الثاني: أنه كما يصح إضافة الصفة إلى الموصوف، فقد يصح إضافتها إلى الخالق، والموجد, فيكون الغرض من هذه الإضافة الدلالة على أن هذه الصورة ممتازة عن سائر الصور, بمزيد الكرامة والجلالة.
_________
(1) الآية 27 من سورة الروم.
(2) سيأتي – إن شاء الله تعالى – أنه حديث باطل لا أصل له.(2/66)
قال: والخبر الثاني: ما رواه ابن خزيمة في كتابه الذي سماه ((التوحيد)) بإسناده عن ابن عمر، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((لا تقبحوا الوجه، فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن)) ، قال: واعلم أن ابن خزيمة ضعف هذه الرواية، ويقول: إن صحت هذه الرواية فلها تأويلان:
الأول: أن يكون المراد بالصورة: الصفة على ما بيناه.
الثاني: أن يكون المراد من هذه الإضافة: بيان شرف هذه الصورة، كما في قوله: ((بيت الله)) و ((ناقة الله)) (1) .
وقد تولى شيخ الإسلام – رحمه الله – رد هذه التأويلات, ردا مقنعاً، عن علم، وبإنصاف، ولخطورة هذه المسألة، ومكانة شيخ الإسلام، فإني أكتفي بنقل كلامه هنا، وهو كاف واف.
قال – رحمه الله – بعدما نقل الكلام المتقدم عن الرازي:
((فيقال: هذا الحديث مخرج في ((الصحيحين)) من وجوه:
ففي ((الصحيحين)) عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً، ثم قال له: اذهب فسلم على أولئك الملائكة فاستمع ما يحيونك به فإنها تحيتك, وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم)) (2) .
قال في رواية جعفر بن محمد بن رافع على صورته.
وروى البخاري من حديث أبي سعيد المقبري، ويحيى بن همام عن
_________
(1) ((تأسيس التقديس)) للرازي (ص 83 91) .
(2) انظر: ((البخاري مع الفتح)) (6/362) و (11/2) و ((مسلم)) (4/2183) رقم (2841) .(2/67)
أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه)) (1) .
وذكر بعض ما تقدم من روايات الحديث، ثم قال: لم يكن بين السلف، من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير في هذا الحديث عائد إلى الله – تعالى – فإنه مستفيض من طرق متعددة، عن عدد من الصحابة، وسياق الأحاديث كلها تدل على ذلك، وهو أيضاً مذكور فيما عند أهل الكتابين، من الكتب، كالتوراة، وغيرها، وما كان من العلم الموروث عن نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم -، فلنا أن نستشهد عليه بما عند أهل الكتاب، كما قال تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (2) .
ولكن كان العلماء في القرن الثالث، من يكره روايته، ويروي بعضه، كما يكره رواية بعض الأحاديث، لمن يخاف أن يلم نفسه ويفسد عقله، أو دينه، كما قال عبد الله بن مسعود: ((ما من رجل يحدث قوماً حديثاً، لا تبلغه عقولهم، إلا كان فتنة لبعضهم)) (3) . وفي البخاري، عن علي بن أبي طالب، أنه قال: ((حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله)) (4) .
وإن كانوا مع ذلك، لا يرون كتمان ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – مطلقاً، بل لا بد أن يبلغوه، حيث يصلح ذلك، ولذلك اتفقت الأمة على تبليغه، وتصديقه، وإنما دخلت الشبهة في الحديث؛ لتفريق ألفاظه، فإن من ألفاظه
_________
(1) انظر: ((الفتح)) (5/182) ، ورواه مسلم من حديث المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، وفيه: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)) (4/2017) .
(2) آخر آية من سورة الرعد.
(3) رواه مسلم في ((مقدمة الصحيح)) (1/11) .
(4) رواه في كتاب العلم، باب: من خص بالعلم قوماً دون قوم؛ كراهية أن لا يفهموا، انظر: ((الفتح)) (1/225) .(2/68)
المشهورة: ((إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته، ولا يقل أحدكم: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته)) (1) .
وهذا فيه حكم عملي، يحتاج إليه الفقهاء، وفيه الجملة الثانية الخبرية المتعلقة بالإخبار، عن خلق آدم، فكثير من الفقهاء روى الجملة الأولى فقط، وهي قوله: ((فإذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه)) ولم يذكر الثانية.
وعامة أهل الأصول والكلام، إنما يروون الجملة الثانية وهي قوله: ((خلق الله آدم على صورته)) ، ولا يذكرون الجملة الطلبية, فصار الحديث متواتراً بين الطائفتين، وصاروا متفقين على تصديقه، لكن مع تفريق بعضه عن بعض، وإن كان هو محفوظاً عند آخرين من علماء الحديث وغيرهم.
وقد ذكره النبي – صلى الله عليه وسلم – ابتداءً في إخباره بخلق آدم، في ضمن حديث طويل، إذا ذكر على وجهه زال كثير من الأمور المحتملة.
ولكن لما انتشرت الجهمية في المائة الثالثة، جعل طائفة الضمير فيه عائداً إلى غير الله – تعالى -، حتى نقل ذلك عن طائفة من العلماء المعروفين بالعلم والسنة، في عامة أمورهم، كأبي ثور، وابن خزيمة، وأبي الشيخ الأصبهاني وغيرهم، ولذلك أنكر عليهم أئمة الدين وغيرهم من علماء السنة.
قال الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي في كتاب ((الفصول في الأصول)) : ((فأما تأويل من لم يتابعه عليه الأئمة، فغير مقبول، وإن صدر ذلك التأويل عن إمام معروف، غير مجهول، نحو ما ينسب إلى أبي بكر محمد بن إسحاق ابن خزيمة، في تأويل الحديث: ((خلق الله آدم
_________
(1) رواه عبد الرزاق في ((المصنف)) (9/445) ، والدراقطني في ((الصفات)) (ص 35، 36) ، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (1/228، 229) ، وابن خزيمة في ((التوحيد)) (1/81 –86) . ...(2/69)
على صورته)) ، فإنه: يفسر ذلك بذلك التأويل، ولم يتابعه عليه من قبله من أئمة الحديث، كما روينا عن أحمد – رحمه الله -، ولم يتابعه أيضاً من بعده، حتى رأيت في كتاب الفقهاء للعبادي الفقيه: أنه ذكر الفقهاء، وذكر عن كل واحد منهم مسألة انفرد بها، فذكر الإمام ابن خزيمة، وأنه انفرد بتأويل هذا الحديث: ((خلق الله آدم على صورته)) ، على أني سمعت عدة من المشايخ رووا أن ذلك التأويل مزور مربوط على ابن خزيمة، وإفك مفترى عليه، فهذا وأمثال ذلك من التأويل لا نقبله ولا يلتفت إليه)) .
قلت: ذكر الحافظ أبو موسى المديني، فيما جمعه من مناقب إسماعيل بن محمد التيمي، قال: سمعته يقول: أخطأ محمد بن إسحاق بن خزيمة في حديث الصورة، ولا يطعن عليه ذلك، بل لا يؤخذ عنه هذا فحسب. قال أبو موسى: أشار بذلك إلى أنه قلَّ من إمام إلا وله زلة، فإذا ترك ذلك الإمام لأجل زلته, ترك كثير من الأئمة.
إذا عرف ذلك فيقال: أما عود الضمير إلى غير الله – تعالى -، فباطل من وجوه:
أحدها: ما في ((الصحيحين)) ابتداءً ((أن الله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعاً)) .
وفي أحاديث أخر: ((أن الله خلق آدم على صورته)) ولم يقدم ذكر أحد يعود الضمير إليه.
وما ذكر بعضهم: من أن النبي – صلى الله عليه وسلم – رأى رجلاً يضرب رجلاً، ويقول: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فقال: (خلق الله آدم على صورته)) أي صورة هذا المضروب.
فهذا شيء لا أصل له، ولا يعرف في شيء من كتب الحديث.
الثاني: أن الحديث الآخر لفظه: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإن(2/70)
الله خلق آدم على صورته) (1) وليس في هذا ذكر أحد يعود الضمير إليه.
الثالث: أن اللفظ الذي ذكره ابن خزيمة, وتأوله، وهو قوله: ((لا يقولن أحدكم: قبح الله وجهك، ووجهاً أشبه وجهك, فإن الله خلق آدم على صورته)) (2) , ليس فيه ذكر أحد يصلح عود الضمير إليه، وقوله في التأويل: أراد – صلى الله عليه وسلم – أن الله خلق آدم على صورة هذا المضروب الذي أمر الضارب باجتناب وجهه بالضرب, والذي قبح وجهه، فزجر – صلى الله عليه وسلم – أن يقول: ووجه من أشبه وجهك.
فيقال له: لم يتقدم ذكر مضروب، فيما رويته عن النبي – صلى الله عليه وسلم -, ولا في لفظه ذكر ذلك، بل قال: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)) ، ولم يقل: إذا قاتل أحدكم أحداً، أو إذا ضرب أحداً، والحديث الآخر ذكرته (3) من رواية الليث بن سعد، ولفظه: ((ولا يقل أحدكم: قبح الله وجهك، ووجهاً أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته)) (4) .
وليس في هذا ذكر مضروب، حتى يصلح عود الضمير إليه.
فإن قيل: قد يعود الضمير إلى ما دل عليه الكلام، وإن لم يكن مذكوراً، كما في قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ} (5) أي: البخل؛ لأن لفظ البخل يدل على المصدر الذي هو البخل، ومنه قول الشاعر
_________
(1) تقدم تخريجه قريباً.
(2) تقدم تخريجه.
(3) الخطاب لابن خزيمة، فإنه رواه من هذا الطريق.
(4) انظر: كتاب ((التوحيد)) لابن خزيمة (81 – 86) .
(5) الآية 180 من سورة آل عمران.(2/71)
إذا نهي السفيه جرى إليه وخالف، والسفيه إلى خلاف أي: إلى السفه.
قيل: إنما يكون ذلك فيما لا لبس فيه، حيث لم يتقدم ما يصلح لعود الضمير إلا ما دل عليه الخطاب، فيكون العلم بأنه لا بد للظاهر من مضمر يدل على ذلك، أما إذا تقدم اسم صريح قريب إلى الضمير، فلا يصلح أن يترك عوده إليه، ويعود إلى شيء متقدم، لا ذكر له في الخطاب، وهذا مما يعلم بالضرورة فساده في اللغات.
الرابع: أنه في مثل هذا لا يصلح إفراد الضمير، فإن الله خلق آدم على صورة بنيه كلهم، فتخصيص واحد لم يتقدم له ذكر، بأن الله خلق آدم على صورته، في غاية البعد.
لا سيما وقوله: ((إذا قاتل أحدكم)) ، و ((إذا ضرب أحدكم)) عام في كل مضروب.
والله خلق آدم على صورهم جميعهم، فلا معنى لإفراد الضمير.
وكذلك قوله: ((لا يقولن أحدكم: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك)) عام في كل مخاطب، والله قد خلقهم كلهم على صورة آدم.
الخامس: أن ذرية آدم خلقوا على صورة آدم، لم يخلق آدم على صورهم. فإن مثل هذا الخطاب إنما يقال فيه: خلق الثاني المتأخر في الوجود على صورة الأول المتقدم في الوجود، لا يقال: إنه خلق الأول على صورة الثاني المتأخر في الوجود، كما يقال: خلق الخلق على غير مثال, أو نسج هذا على منوال هذا، ونحو ذلك، فإنه في جميع هذا إنما يكون المصنوع المقيس متأخراً في الذكر، عن المقيس عليه.
وإذا قيل: خلق الوالد على صورة ابنه، أو على خلق ابنه، كان كلاماً(2/72)
فاسداً، بخلاف ما إذا ذكر التشبيه بغير لفظ الخلق، وما يقوم مقامه، مثل أن يقال: الوالد يشبه ولده، فإن هذا سائغ؛ لأن قوله: ((خلق)) إخبار عن تكوينه، وإبداعه، على مثال غيره، ومن الممتنع أن الأول يكون على مثال ما لم يكن بعد، وإنما يكون على مثال ما قد كان.
السادس: أنه إذا كان المقصود أن هذا المضروب والمشتوم يشبه آدم، فمن المعلوم أن هذا من الأمور الظاهرة، المعلومة للخاص والعام، فلو أريد التعليل بذلك لقيل: ((فإن هذا يدخل فيه الأنبياء، إذ هذا يدخل فيه آدم، أو نحو ذلك من العبارات، التي تبين قبح كلامه، وهو اشتمال لفظه على ما يعلم هو وجوده)) .
أما مجرد إخباره بما يعلم وجوده كل أحد، فلا يستعمل في مثل هذا الخطاب.
السابع: أن يقال إذا أريد مجرد المشابهة لآدم وذريته، لم يحتج إلى لفظ ((خلق)) على كذا، فإن هذه العبارة إنما تستعمل فيما فعل على مثال غيره، بل يقال: ((فإن وجهه يشبه وجه آدم)) ، أو ((فإن صورته تشبه صورة آدم)) .
الثامن: أن يقال: مثل هذه تصلح لقوله: ((لا يقولن أحدكم: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك)) فكيف يصلح لقوله: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه)) .
ومعلوم أن كون صورته تشبه صورة آدم، لا توجب سقوط العقوبة عنه، فإن الإنسان لو كان يشبه نبياً من الأنبياء، أعظم من مشابهة الذرية لأبيهم في مطلق الصورة والوجه، ثم وجبت على ذلك الشبيه بالنبي عقوبة, لم تسقط عقوبته بهذا الشبه باتفاق المسلمين، فكيف يحوز تعليل تحريم العقوبة بمجرد المشابهة المطلقة لآدم؟(2/73)
التاسع: أن في ذرية آدم من هو أفضل منه، وتناول اللفظ لجميعهم واحد، فلو كان المقصود بالخطاب ليس ما يختص به آدم، من ابتداء خلقه على صورته، بل المقصود مجرد مشابهة المضروب المشتوم له، لكان ذكر سائر الأنبياء أولى، كإبراهيم، وموسى، وعيسى، وإن كان آدم أباهم، فليس هذا المقام مقاماً له به اختصاص، على زعم هؤلاء.
العاشر: - وهو قاطع أيضاً – أن يقال: كون الوجه يشبه وجه آدم، هو مثل كون سائر الأعضاء تشبه أعضاء آدم، فإن رأس الإنسان يشبه رأس آدم، ويده تشبه يده، ورجله تشبه رجله، وبطنه، وظهره، وفخذه، وساقه، يشبه بطنه وظهره وفخذه وساقه، فليس للوجه بمشابهة آدم اختصاص.
بل جميع أعضاء البدن بمنزلته في ذلك، فلو صح أن يكون هذا علة لمنع الضرب، لوجب أن لا يجوز ضرب شيء من أعضاء بني آدم؛ لأن ذلك جميعه على صورة أبيهم آدم.
وفي إجماع المسلمين على وجوب ضرب هذه الأعضاء، في الجهاد للكفار والمنافقين، وإقامة الحدود - مع كونها مشابهة لأعضاء آدم، وسائر النبيين – دليل على أنه لا يجوز المنع من ضرب الوجه، ولا غيره؛ لأجل هذه المشابهة.
الحادي عشر: أنه لو كان علة النهي عن شتم الوجه وتقبيحه: أنه يشبه وجه آدم, لنهي أيضاً عن الشتم والتقبيح لسائر الأعضاء [فيقال] : لا يقولن أحدكم: قطع الله يدك، ويد من أشبه يدك.
الثاني عشر: أن ما ذكروه من أنه إبطال لقول من يقول: إن آدم كان على صورة أخرى، مثل ما يقال: عظيم الجثة، طويل القامة، وإن النبي – صلى الله عليه وسلم – أشار إلى إنسان معين، وقال: إن الله خلق آدم على صورته، أي كان شكل آدم مثل شكل هذا الإنسان، من غير تفاوت البتة.
فيقال لهم: الحديث المتفق عليه في ((الصحيحين)) ، مناقض لهذا التأويل،(2/74)
مصرح فيه بأن خلق آدم أعظم من صور بنيه بشيء كثير، وأنه لم يكن على شكل أحد من أبناء الزمان.
فعن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((خلق الله آدم على صورته، وطوله ستون ذراعاً، ثم قال له: اذهب، فسلم على أولئك الملائكة، فاسمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم.
قال: فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن)) (1) .
قال في رواية يحيى بن جعفر، ومحمد بن رافع: ((على صورته)) ، وذكر فيه: طوله ستون ذراعاً، وأن الخلق لم يزل ينقص حتى الآن، وأن أهل الجنة يدخلون على صورة آدم.
ولم يقل: إن آدم على صورتهم، بل قال: على صورة آدم.
وقد روي: أن عرض أحدهم سبعة أذرع، فهل في تبديل كلام الله ورسوله أبلغ من هذا؟ أن يجعل ما أثبته النبي – صلى الله عليه وسلم – وأخبر به، وأوجب التصديق به، قد نفاه، وأبطله، وأوجب تكذيبه، وإبطاله؟
الثالث عشر: أنه قد روي من غير وجه: ((على صورة الرحمن)) (2) .
وأما عود الضمير على آدم ففاسد، وبيان ذلك من وجوه:
أحدهما: أنه إذا قيل: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الله خلق
_________
(1) تقدم الحديث.
(2) تقدم تخريجه، وانظر كتب ((التوحيد)) لابن خزيمة (2/85) وذكر من خرجه هناك غيره، ورواه الدراقطني في ((الصفات)) (36 - 37) وهو حديث ثابت.(2/75)
آدم على صورة آدم)) أو: ((لا يقل أحدكم: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورة آدم)) .
كان هذا من أفسد الكلام، فإنه لا يكون بين العلة والحكم مناسبة أصلاً؛ فإن كون آدم مخلوقاً على صورة آدم، فأي تفسير فسر، فليس في ذلك مناسبة للنهي عن ضرب وجوه بنيه، ولا عن تقبيحها، وتقبيح ما يشبهها. وإنما دخل التلبيس بهذا التأويل حيث فرق الحديث:
فروى قوله: ((إذا قاتل أحدكم، فليتق الوجه)) وحده مفرداً.
وروى قوله: ((إن الله خلق آدم على صورته)) مفرداً.
أما مع أداء الحديث على وجهه، فإن عود الضمير إلى آدم، يمتنع فيه؛ وذلك أن خلق آدم على صورة آدم، سواء كان فيه تشريف لآدم، أو كان مجرد إخبار بالواقع، لا يناسب الحكم.
الوجه الثاني: أن الله خلق سائر أعضاء آدم على صورة آدم، فلو كان ذلك مانعاً من ضرب الوجه وتقبيحه لوجب أن يكون مانعاً من ضرب سائر الأعضاء, وتقبيح سائر الصور، وهذا معلوم الفساد في العقل والدين، وتعليل الحكم الخاص بالعلة المشتركة، من أقبح الكلام.
وإضافة ذلك إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يصدر إلا عن جهل عظيم، أو نفاق شديد، إذ لا خلاف في علمه، وحكمته، وحسن كلامه.
فإن هذا مثل أن يقال: لا تضربوا وجوه بني آدم، فإن أباهم له صفات يختص هو بها دونهم، مثل كونه خلق من غير أبوين. أو يقال: لا تضربوا وجوه بني آدم، فإن أباهم خلق من تراب.
الوجه الثالث: أن هذا تعليل للحكم بما يوجب نفيه، وهذا من أعظم(2/76)
التناقض، وذلك أنهم تأولوا الحديث على أن آدم لم يخلق من نطفة، وعلقة، ومضغة، وعلى أنه لم يتكون في مدة طويلة، بواسطة العناصر، وبنوه قد خلقوا من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضعة، وخلقوا في مدة من عناصر الأرض.
فإن كانت العلة المانعة من الضرب للوجه وتقبيحه كونه خلق على هذا الوجه، وهذه العلة منتفية في بنيه، فينبغي أن يجوز ضرب وجوه بنيه، وتقبيحها؛ لانتفاء العلة فيها، فإن آدم هو الذي خلق على صورته دونهم، إذ هم لم يخلقوا على صورهم التي هم عليها، كما خلق آدم، بل نقلوا من نطفة إلى علقة، ثم إلى مضغة.
الوجه الرابع: ما أبطل به الإمام أحمد هذا التأويل، حيث قال: من قال: إن الله خلق آدم على صورة آدم، فهو جهمي، وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلق؟
وهذا الوجه الذي ذكره الإمام أحمد يعم الأحاديث كلها، قوله ابتداء: ((إن الله خلق آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً)) .
وقوله: ((لا تقبحوا الوجه)) إلى آخره، و ((إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)) .
وذلك أن قوله: ((خلق آدم على صورته)) يقتضي أنه كان له صورة قبل الخلق [خلقه] عليها.
فإن هذه العبارة لا تستعمل إلا في مثل ذلك، وبمثل هذا أبطلنا قول من يقول: إن الضمير عائد إلى المضروب، فإن المضروب متأخر عن آدم، فجميع ما يذكر من التأويلات مضمونها أن صورته تأخرت عنه، فتكون باطلة.
وأيضاً: فمن المعلوم بالضرورة أنه لم تكن لآدم صورة خلق عليها قبل صورته التي خلقها الله – تعالى -.(2/77)
الوجه الخامس: أن جميع ما يذكر من التأويلات، كقولهم: خلق آدم على صورة آدم، موجود نظيره في جميع المخلوقات، سواء أريد بذلك الصورة الثابتة قدراً في علم الله وكتابه، أو غير ذلك.
وأما كونه خلق على صورته ابتداء، أو في غير مدة، فإنه ليس كذلك، بل خلقه تنقل من حال إلى حال، من التراب إلى الطين، ثم إلى الصلصال، كبنيه فإنهم من نطف، إلى علق، ثم إلى مضع.
فإذا جاز أن يقال في أحدهما: خلق على صورته، مع تنقل إلى هذه الأطوار، جاز ذلك في الآخر.
ولاشك أن هذه الأحاديث وردت في تخصيص آدم، بأنه خلق على صورته دون غيره من الخلق، وإن كان بنوه تبعاً له في ذلك.
ولكن هذا كخلقه بيده، وإسجاد ملائكته له، وبهذا علم بطلان ما يوجب الاشتراك، ويزيل الاختصاص.
الوجه السادس: أن المعنى الذي تدل عليه هذه العبارة التي ذكروها هي من الأمور المعلومة ببديهة العقل، التي لا يحسن بيانها، والخطاب بها لتعريفها، فإن قول القائل: إن الشيء الفلاني خلق على صورة نفسه، لا يدل لفظه على غير ما هو معلوم بالعقل، إن كان مخلوقاً على الصورة التي خلق عليها.
وهذا مثل أن يقال: أوجد الله الشيء، كما أوجده، وخلق الله الأشياء على ما هي عليه، وعلى الصورة التي هي عليها، ونحو ذلك، مما هو معلوم ببديهة العقل، ومعلوم أن بيان هذا وإيضاحه قبيح جداً.
الوجه السابع: أن ما ذكروه من كون آدم خلق على صورة آدم، أو أنه خلق من غير نطفة، ثم علقة، ثم من مضغة، أو أنه لم يخلق من مادة، أو بواسطة القوى والعناصر – كما يدعون – لا دليل عليه، وليس في هذه(2/78)
الأحاديث ما يدل عليه بحال من الأحوال.
الوجه الثامن: أن الحديث، وري من وجوه، بألفاظ تبطل دعوى الضمير إلى آدم، مثل قوله: ((لا تقبحوا الوجه، فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن)) (1) .
وقوله في الطريق الآخر، من حديث أبي هريرة: ((إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه، فإن صورة الإنسان على صورة الرحمن)) (2) .
وقول ابن عباس فيما ذكره عن الله – تعالى -: ((تعمد إلى خلق من خلقي، خلقتهم على صورتي، فتقول لهم: اشربوا يا حمير)) (3) .
وأما تضعيف ابن خزيمة لحديث ابن عمر، بأن الثوري أرسله، فخالف فيه الأعمش، وأن الأعمش وحبيباً مدلسان.
فيقال: قد صححه إسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، وهما أجل من ابن خزيمة باتفاق الناس.
وأيضاً فمن المعلوم أن عطاء بن أبي رباح، إذا أرسل هذا الحديث، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فلا بد أن يكون قد سمعه من أحد.
فإذا كان في إحدى الطريقين، قد بين أنه أخذه عن ابن عمر، كان بياناً وتفسيراً لما تركه، وحذفه في الطريق الأخرى، ولم يكن هذا اختلافاً أصلاً.
ولو قدر أن عطاء لم يذكره إلا مرسلاً، عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، فمن المعلوم أن عطاء من أجل التابعين قدراً، فإنه هو، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري، من أئمة التابعين في زمانهم.
_________
(1) تقدم تخريجه
(2) تقدم أيضا ذكر ما رواه.
(3) روي أن هذا الخطاب موجه إلى موسى صلى الله عليه وسلم لما ضرب الحجر وانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً.(2/79)
ومن المعلوم أن مثل عطاء، لو أفتى في مسألة فقه، بموجب خبر أرسله، لكان ذلك يقتضي ثبوته عنده.
ولهذا يجعل الفقهاء احتجاج المرسل بالخبر دليلاً على ثبوته عنده.
والأخبار التي توجب العلم أعظم من التي توجب العمل.
فإذا كان عطاء، قد جزم بهذا الخبر العلمي، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذا الباب العظيم، فلا يمكن أن يستجيز ذلك من غير أن يكون ثابتاً عنده.
واتفاق السلف على رواية هذا الخبر، ونحوه، مثل عطاء، وحبيب بن أبي ثابت، والأعمش، والثوري، وأصحابهم، من غير نكير سمع من أحد لمثل ذلك، في ذلك العصر، مع أن هذه الروايات المتنوعة في مظنة الاشتهار، دليل على أن علماء الأمة [لا] تنكر إطلاق القول بأن الله خلق آدم على صورة الرحمن، بل كانوا متفقين على إطلاق مثل هذا.
وكراهة بعضهم لرواية ذلك في بعض الأوقات، له نظائر، فإن الشيء قد يمنع سماعه لبعض الجهال، وإن كان متفقاً عليه بين علماء المسلمين.
والله – تعالى – قد وصف هذه الأمة بأنها خير أمة أخرجت للناس، وأنها تأمر بالمعروف، وتنهي عن المنكر، فمن الممتنع أن يكون في عصر التابعين، يتكلم أئمة ذلك العصر بما هو كفر، وضلال، ولا ينكر عليهم أحد.
فلو كان قوله: ((خلق آدم على صورة الرحمن)) ، باطلاً، لكانوا مقرين للباطل، غير منكرين له.
وقد روي بهذا اللفظ من طريقين مختلفين، كما روي عن أبي هريرة، فيؤيد أحدهما الآخر، ويشهد له، ويعتبر به، بل قد يفيد ذلك العلم، إذا خيف في الرواية من تعمد الكذب، أو من سوء الحفظ.
فإذا كان الرواة ممن لا يتواطأون في العادة على الكذب، لم يبق إلا سوء(2/80)
الحفظ، فإذا تبين أن كل واحد منهم حفظ مثل ما حفظ الآخر، كان ذلك دليلاً على أن الحديث محفوظ، ولهذا مَنْ منع مِن الاحتجاج بالمرسل، إذا روي من وجه آخر؛ احتج به.
ولهذا الترمذي وغيره، يجعل الحسن: ما وري من وجهين مختلفين، وليس في طريقه متهم بالكذب، ولم يكن مخالفاً للأخبار المشهورة، وأدنى أحوال هذا الحديث ذلك.
ويؤيده أن الصحابة تكلموا بمعناه، كما تقدم عن ابن عباس.
وليس ذلك مأخوذاً عن أهل الكتاب؛ لأنه كان ينهى عن الأخذ عنهم، كما في البخاري وغيره، ولا يجوز أن يكون ذلك من قبيل الرأي.
وهذه الوجوه كلها مبطلة لقول من يعيد الضمير إلى آدم.
فهي أدلة مستقلة في الإخبار بأن الله خلق آدم على صورة نفسه – تعالى -.
وبهذا يحصل الجواب عما يذكر من كون الأعمش وحبيب مدلسين، فقد أخذه عنهما الأئمة، ووافقهما الثوري, وتلقاه العلماء – مثل أحمد وإسحاق وسفيان، وغيرهم – بالقبول.
وقد قدمنا أنه يجوز الاستشهاد بما عند أهل الكتاب، مما هو موافق لما أثر عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – ففي السفر الأول من التوراة: ((سنخلق بشراً على صورتنا، يشبهنا)) (1) .
وأما قول المؤولة: إن الله لم يغير صورة آدم، ولم يمسخها كل مسخ غيره، كالحية والطاووس، ولهذا قيل: خلق آدم على صورته، أي: على صورة آدم.
_________
(1) هذا النص يوجد في التوراة السامرية هكذا: ((وقال الله: نصنع إنساناً يشبهنا وصورتنا، ليستولي على سمك البحر)) (ص36) طبعة السقا.(2/81)
فيقال: العبارة المعروفة عن هذا المعنى أن يقال: أبقى آدم على صورته، أو تركه على صورته، أو لم يغير صورة آدم، لا يقال: خلقه على صورة نفسه، فإن هذا اللفظ لا يستعمل في مثل هذا المعنى.
ولهذا قال الله – تعالى – عن الذين مسخ منهم قردة، وخنازير: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} (1) ، ولم يقل: وخلق منهم.
كما أن من المعروف الظاهر لكل أحد: أن صورة آدم كانت كهذه الصور لبنيه لم تمسخ، وما ذكروه من مسخ غير آدم غير معلوم، ولا مذكور.
وأما قولهم: إنه أراد به بيان بطلان قول الدهرية، في أن الإنسان لا يتولد إلا من نطفة، ودم الطمث.
فيقال لهم: قد أخبر الله – تعالى – أنه خلق آدم من الماء والتراب، ومن الطين، ومن الحمأ المسنون، فهذه نصوص ظاهرة متواترة، يسمعها العام والخاص، تبين أنه لم يخلق من نطفة، ودم الطمث، وتبطل هذا القول إبطالاً بيناً معلوماً بالاضطرار.
وأما قوله: إن آدم خلق على صورة آدم، فليس فيه دلالة على إبطال قول الدهرية ولا غيرهم.
وقولهم: خلق آدم ابتداء من غير تقدم نطفة، ثم علقة، ثم مضغة.
يقال لهم: بعد تقدم، تراب، وطين، وصلصال.
وأما قولهم: إن الصورة تذكر ويراد بها الصفة، يقال: شرحت له صورة هذه الواقعة، وذكرت له صورة هذه المسألة.
والمراد: أن الله – تعالى – خلق آدم من أول الأمر كاملاً، تاماً، في علمه، وقدرته، وكونه سعيداً، عارفاً، تائباً.
_________
(1) الآية 60 من سورة المائدة.(2/82)
فيقال: الصورة: هي الصورة الموجودة في الخارج، ولفظ ((صَ وَرَ)) يدل على ذلك، وما من موجود من الموجودات إلا [له] صورة في الخارج.
وما يكون من الوقائع، يشتمل على أمور كثيرة، لها صور موجودة.
وكذلك المسئول عنه من الحوادث، وغيرها، له صور موجودة في الخارج، ثم تلك الصور الموجودة، ترتسم في النفس صورة ذهنية.
فقوله: شرحت له صورة الواقعة، وأخبرني بصورة المسألة.
إما أن يكون المراد به الصورة الخارجية، أو الصورة الذهنية.
وأما الصفة: فهي في الأصل: مصدر وصفت الشيء، أصفه، وصفاً، ثم يسمون المفعول، باسم المصدر [صفة] .
وإذا كان ما في النفس من العلم بالشيء، يسمى مثلاً له، وصفة.
فالصورة الذهنية: هي المثل الذي يسمى أيضاً صفة، ومثلاً.
ولهذا يقال: تصورت الشيء، وتمثلت الشيء، وتخيلته، إذا صار في نفسك صورته ومثاله وخياله.
كما يسمى مثاله الخارجي: صورة، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله المصورين)) (1) .
كما يسمى ذلك تمثالاً، في مثل قول علي: ((بعثني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأمرني أن لا أدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)) (2) .
وقوله: لفظ الصورة يذكر ويراد به: الصفة.
_________
(1) سيأتي الحديث مشروحاً – إن شاء الله – وهو متفق عليه.
(2) رواه مسلم , انظر: (رقم 969) (2/666) .(2/83)
إن أراد به أن الصورة توصف بالقول، وأن لفظ الصورة يراد به ما يوصف بالقول من الصورة الخارجية, أو ما يطابقه من الصورة الذهنية، فهذا قريب.
ولكن هذا يوجب أن يكون له صورة خارجية، وإن طابقتها الصورة الذهنية.
وإن أراد به أن لفظ الصفة قد لا يراد به إلا ما يقوم بالأعيان، كالعلم، والقدرة، فهذا باطل، لا يوجد في الكلام أن قول القائل – مثلاً -: صورة فلان يراد بها مجرد الصفات القائمة [به] ، من العلم، والقدرة، ونحو ذلك.
بل هذا من البهتان على اللغة وأهلها.
وأيضا فقول القائل: خلق آدم، على صورة آدم، بمعنى: على صفة آدم، لا يدل على أنه خلق على صفات الكمال ابتداء، ولو أريد بالصورة ما يتأخر عن وجوده، فإن المخلوق على صفة من الصفات، يخلق عليها في وقت خلقه وبعده، يبين ذلك أنه جعل أحد المحملين كونه خلق عارفاً، تائباً، مقبولاً عند الله – تعالى – ومعلوم أن هذه الصفة تأخر وجودها عن ابتداء خلقه، فإن التوبة كانت بعد الذنب.
فإذا كان لا ينافي كونه مخلوقاً عليها تأخرها، فكذلك صفة العلم والقدرة، لا ينافي كونه مخلوقاً عليهما تأخرهما عن ابتداء خلقه، وإذا كان كذلك، فلا فرق بينه وبين غيره.
وعلى كلِّ فما ذكره من أن معنى الحديث: أنه خلق كاملاً، باطل، فإن آدم لم يجعل ابتداء على صفة الكمال، بل بعد أن خلقه الله – تعالى – علمه الأسماء التي لم يكن بها عالماً، كما علم بنيه البيان، بعد أن خلقهم.
فهذه التأويلات: تارة يكون المعنى المحمول عليه النص فيها باطلاً، وتارة يكون غير دال عليه، وتارة يكون النص دالاً على نقيض ما يقول المؤول، ومضاداً له.(2/84)
وتارة يجمع من ذلك ما يجمع، وهذا شأن أهل التحريف، والإلحاد، ومن ذلك ما ذكر لأحمد، فقال: إن قائل ذلك جهمي، وهو قوله: ((خلق على صورة الطين)) ، وهذا وإن كان أجود من هذه التأويلات المذكورة، فإنه فاسد، فإن هذا يقتضي أن تكون له صورة أخرى، خلقت على تلك الصورة، وآدم بعينه هو تلك الصورة، التي خلق فيها الروح.
بل تصويره هو خلقه من تراب، ثم من طين، كما قال – تعالى -: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} (1) فقدم الخلق على التصوير، فكيف تكون الصورة لآدم سابقة على الخلق، حتى يقال: خلق آدم على تلك الصورة. ولو أريد أنه خلق من صورة الطين، لا من أبوين، لقيل كما قال الله – تعالى -: {مِن تُرَابِ} ، وقال تعالى -: {خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ} (2) ، وقال – تعالى -: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} (3) .
وكذلك لو تأوله متأول على الصورة المقدرة له، وهي ما سبق له في علم الله – تعالى – وكلامه، وكتابه، أي خلق آدم على الصورة التي قدرها له، فهذا لا يصح، وإن كان الله – تعالى – خلق كل شيء على ما سبق من تقديره، فتأويل الحديث بذلك باطل؛ لأن جميع الأشياء خلقها الله - تعالى – على ما قدره، فلا اختصاص لآدم بذلك، كما أنه لا يصح أن يقول: لا تقبحوا الوجه، ولا يقول أحدكم: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على ما قدره؛ فإن الوجه وسائر المخلوقات خلقها الله على ذلك، فينبغي أن لا يصلح تقبيح شيء من الأشياء البته؛ لعموم العلة.
_________
(1) الآية 11 من سورة الأعراف.
(2) الآية 71 من سورة ص.
(3) الآية 28 من سورة الحجر.(2/85)
وقوله في الحديث: ((فكل من يدخل الجنة يدخلها على صورة آدم)) صريح في أنه أراد صورة آدم المخلوقة، لا المقدرة.
وتسمية ما قدر ((صورة)) ليس له أصل في كلام الله وكلام رسوله – صلى الله عليه وسلم.
وإن كان بعض المتأخرين يقول: لفلان عند فلان صورة عظيمة، وهذا الأمر مصور في نفسي، لكن مثل هذا لا يجوز أن يحمل عليه كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا خطابه لأمته، لأنه ليس من لغته)) (1) .
وأما قوله: المراد من الصورة الصفة، كما بيناه، فيكون المعنى: أن آدم امتاز عن سائر الأشخاص والأجسام بكونه عالماً بالمعقولات، قادراً على استنباط الحرف والصناعات، وهذه صفات شريفة مناسبة لصفات الله من بعض الوجوه، فصح قوله: إن الله خلق آدم على صورته على هذا التأويل.
فالكلام عليه من وجوه:
أحدهما: أنه تقدم أن لفظ الصفة، سواء عني به القول الذي يوصف به الشيء، وما يدخل في ذلك من المثال العلمي الذهني، أو أريد به المعاني القائمة بالموصوف، فإن لفظ الصورة لا يجوز أن يقتصر به على ذلك، بل لا يكون لفظ الصورة إلا لصورة موجودة في الخارج، أو لما يطابقها من العلم والقول، وذلك المطابق يسمى صفة, ويسمى صورة.
وأما الحقيقة الخارجية، فلا تسمى: صفة, كما أن المعاني القائمة بالموصوف لا تسمى وحدها: صورة.
وإذا كان كذلك، فقوله: ((على صورته)) لا بد أن يدل على الصورة الموجودة في الخارج، القائمة بنفسها، التي ليست مجرد المعاني القائمة بها، من العلم والقدرة, وإن كان لتلك [المعاني] صورة، وصفة ذهنية؛ إذ
_________
(1) ((نقض التأسيس)) (3/202 – 250) .(2/86)
وجود هذه الصورة الذهنية مستلزم لوجود [الصورة الخارجية] وإلا [كانت الصورة الذهنية] جهلاً لا علماً.
فسواء عنى بالصورة، الصورة الخارجية، أو العلمية، لا يجوز أن يراد به مجرد المعنى القائم بالذات، والمثال العلمي المطابق لذلك.
الوجه الثاني: أن قوله: إن آدم امتاز عن سائر الأشخاص والأجسام بالعلم والقدرة، إن أراد به امتيازه عن بنيه، فليس كذلك، وإن أراد امتيازه عن الملائكة والجن، فهو لم يتميز بنفس العلم والقدرة، فإن الملائكة قد تعلم ما لا يعلمه آدم، كما أنها تقدر على ما لا يقدر عليه؛ وإن كان علمه الله ما لم تكن الملائكة تعلمه.
فقد ثبت باتفاق الطوائف، أن آدم لم يخلق على صفة من العلم والقدرة امتاز بها عن سائر الأشخاص والأجسام، بل فيها من كان امتيازه عن آدم بالعلم والقدرة أكثر.
الوجه الثالث: أن يقال: المشاركة في بعض الصفات، واللوازم البعيدة، إما أن يصحح قول القائل: إن الله خلق آدم على صورة الله، أو لا يصحح ذلك، فإن لم يصحح ذلك، بطل قولك.
وإن كانت تلك المشاركة تصحح هذا الإطلاق، جاز أن يقال: إن الله خلق كل ملك من الملائكة على صورته، بل خلق كل حي على صورته؛ إذ ما من شيء من الأشياء، إلا وهو يشاركه في بعض اللوازم البعيدة، كالوجود، والقيام بالنفس، وحمل الصفات.
فعلى هذا يصح أن يقال في كل جسم وجوهر: أن الله خلقه على صورته.
[فبطل هذا التأويل على التقديرين] .(2/87)
الوجه الرابع: أن لفظ الحديث: ((إذ قاتل أحدكم، أو ضرب أحدكم، فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)) فنهى عن ضرب الوجه؛ لأن الله خلق آدم على صورته، فلو كان المراد مجرد خلقه عالماً قادراً، ونحو ذلك، لم يكن للوجه بذلك اختصاص، بل لا بد أن يريد الصورة التي يدخل فيه الوجه، ومثل ذلك يقال في اللفظ الآخر: ((لا يقولن أحدكم: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته)) ، فهو يقتضي النهي عن ذلك؛ لتناوله الله – تعالى -، وأن وجه ابن آدم داخل فيما خلقه الله على صورته.
فإن قيل: هذا تصرح بأن وجه الله يشبه وجه الإنسان، كما ورد: ((صورة الإنسان على صورة الرحمن)) (1) .
فالجواب: أن هذا أيضاً لازم للمنازع، ولهذا أورده الرازي، وأجاب عنه بقوله: ((فإن قيل: المشاركة في صفات الكمال، تقتضي المشاركة في الإلهية، قلنا: المشاركة في بعض اللوازم البعيدة، مع حصول المخالفة في الأمور الكثيرة، لا تقتضي المساواة في الإلهية، ولهذا المعنى قال – تعالى - {وَلَهُ المَثَلُ الأعلَى} (2) ، وقال – صلى الله عليه وسلم -: ((تخلقوا بأخلاق الله)) (3) .
فيقال: لا ريب أن كل موجودين، لا بد أن يتفقا في شيء يشتركان فيه، وأن أحدهما أكمل فيه وأولى من الآخر، وإلا إذا قدر أنهما لا يتفقان في شيء أصلاً، ولا يشتركان فيه، لم يكونا موجودين، وهذا معلوم بالفطرة البديهية، التي لا يتنازع فيها العقلاء، الذين يفهمونها.
وهذا الذي جاءت به السنة من ثبوت هذا الشَّبه من بعض الوجوه، وقد أخبر به الرسول – صلى الله عليه وسلم – فوجب قبوله، والإيمان به، والله – تعالى – هو الذي
_________
(1) تقدم ذكر من رواه.
(2) الآية 27 من سورة الروم.
(3) ((أساس التقديس)) (ص 86 – 87) ، والحديث غير معروف، بل هو موضوع، كما قاله شيخ الإسلام، انظر: ((نقض التأسيس)) (3/272) .(2/88)
خلق آدم على صورته، وهذا لا يناقض قوله – تعالى -: {لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءُُُ ُ} لأن المماثلة منفية عن الله – تعالى - على كل حال، فهو – جل وعلا – لا يماثله شيء، وليس له سمي، ولا ند، ولا كفء، وكل ذلك لا يمنع المشابهة من بعض الوجوه البعيدة، كالوجود مثلاً، والعلم، والحياة، ونحو ذلك.
الوجه الخامس: أن يقال: المحذور الذي فروا منه إلى تأويل الحديث، على أن الصورة بمعنى الصفة، أو الصفة المعنوية؛ أو الروحانية، ونحو ذلك، يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما فروا [منه] .
فإذا كان مثل هذا لازماً على التقديرين، لم يجز ترك مقتضي الحديث، ومفهومه، مع أنه لا محذور فيه.
وذلك أن كون الإنسان على صورة الله - تعالى – التي هي صفته، أو صورته المعنوية، أو الروحانية، فيه نوع من المشابهة
كما أنه إذا أقر الحديث كما جاء فيه نوع من المشابهة، غايته أن يقال: المشابهة هنا أكثر، ولكن مسمى نوع من المشابهة لازم على التقديرين.
والتشبيه المنفي بالنص، والإجماع، والأدلة العقلية الصحيحة، منتف على التقديرين.
وإذا ادعى المنازع أن هذا فيه نوع من التجسيم المقتضي للتركيب، فقد تقدم أن ما يسمونه تركيباً لازم على القول بثبوت الصفات، بل على القول بنفس الوجود الواجب، بل هو لازم لمطلق الوجود.
وتقدم بيان ذلك، وبيان أن جميع ما يدعى من الأدلة العقلية المانعة من ذلك أنها فاسدة، ومتناقضة.
ومعنى فسادها ظاهر، ومعنى تناقضها: أن ما يدعيه يلزمه من الإثبات نظير ما نفاه، فيكون جامعاً بين النفي، وإثباته، وإثبات نظيره.
الوجه السادس: أن يقال: إذا كان مخلوقاً (1) على صورة الله - تعالى –
_________
(1) التقدير: إذا كان آدم مخلوقاً ... الخ.(2/89)
المعنوية، فلا يخلو: إما أن يكون ذلك مقتضياً لكون صفات العبد المعنوية، من جنس صفات الله، بحيث تكون حقيقتها من جنس حقيقتها، أو لا يقتضي ذلك، بل يقتضي المشابهة فيها مع تباين الحقيقتين.
فإن كان مقتضى الحديث الأول، فهو تصريح بأن الله له مثل، وهذا باطل، وهو أيضا ممتنع في العقل.
فإن المتماثلين في الحقيقة، يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه.
والمخلوق يجب أن يكون معدوماً، محدثاً، مفتقراً، ممكناً.
والخالق يجب أن يكون قديماً، واجب الوجود غنياً.
[فيلزم] أن يكون الشيء الواحد واجباً، ممكناً، غنياً، فقيراً، موجوداً، معدوماً، وهذا جمع بين النقيضين.
فثبت أن الحديث لا يجوز حمله على هذا [المعنى] .
وأيضا: فإنه لا هذا التقدير لا يكون في حمله على الصورة الظاهرة محذور، ولم يكن ذلك مقتضياً لكون صفات العبد من [جنس] صفات الرب – تعالى -، بحيث تكون الحقيقة من جنس الحقيقة، مع كون هذا عالماً، وهذا عالماً، وهذا حياً، وهذا حياً، وهذا قادراً، وهذا قادراً، وهذا سميعاً بصيراً، وهذا سميعاً بصيراً، بل هذا موجود، وهذا موجود، مع كون الحقيقتين، والعلم، والقدرة، متشابهات.
وكذلك لا يجب إذا كان لهذا وجه وصورة، ولهذا وجه وصورة، أن تكون الحقيقة من جنس الحقيقة، مع تشابه الحقيقتين.
يوضح ذلك أنه على التقديرين، لا بد أن يكون بين الذات والذات مشابهة(2/90)
إذا كان على الصفة المعنوية، فإن كون هذا عالماً قادراً، وهذا عالماً قادراً، وهذا موجوداً، وهذا موجوداً، وهذا ذاتاً لها صفات، وهذا ذاتاً لها صفات، لا بد أن يثبت التشابه كما تقدم.
الوجه السابع: أن الأدلة الشرعية، والعقلية، التي يثبت بها تلك الصفات، يثبت بنظيرها هذه الصورة.
فإن وجود ذات ليس لها صفات ممتنع في العقل، وثبوت الصفات الكمالية معلوم بالشرع والعقل.
كذلك ثبوت ذات، لا تشبه الموجودات بوجه من الوجوه ممتنع في العقل.
وثبوت المشابهة في بعض الوجوه، في الأمور الكمالية، معلوم بالشرع والعقل.
وكما أنه لا بد لكل موجود من صفات تقوم به، فلا بد لكل قائم بنفسه من صورة يكون عليها، ويمتنع أن يكون في الوجود قائم بنفسه ليس له صورة يكون عليها.
الوجه الثامن: أن هذا المعنى الذي ذكروه، وإن كان ثابتاً بنفسه (1) ، ويمكن أن يكون الحديث دالاً عليه باللزوم والتضمن، لكن قصر الحديث عليه باطل قطعاً، كما تقدم.
الوجه التاسع: أن ثبوت الوجه، والصورة لله – تعالى – قد جاء في نصوص كثيرة من الكتاب، والسنة المتواترة، واتفق على ذلك سلف الأمة.
[وقد تقدم بعض النصوص التي فيها إثبات الوجه والصورة لله – تعالى -] مع أن النصوص في الوجه لا يمكن استقصاؤها.
_________
(1) يعني أن آدم متصف بالعلم، والقدرة، والحياة، وغير ذلك من الصفات.(2/91)
فإن قيل: قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً، فلما خلقه قال له: اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة، فسلم عليهم واستمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك، قال: فذهب، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله.
قال: فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، طوله ستون ذراعاً، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن)) (1) .
وهذا الحديث إذا حمل على صورة الله – تعالى -، كان ظاهره أن الله طوله ستون ذراعاً، والله – تعالى – كما قال ابن خزيمة: جل أن يوصف بالذرعان، والأشبار.
ومعلوم أن هذا التقدير في حق الله – تعالى – باطل، على قول من يثبت له حداً ومقداراً من أهل الإثبات، وعلى قول النفاة كذلك.
أما النفاة فظاهر، وأما المثبتة فعندهم قدر الله – تعالى – أعظم، وحده لا يعلمه إلا هو، وكرسيه قد وسع السماوات والأرض، والكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والعرش لا يعرف قدره إلا الله – تعالى -.
وقد قال – تعالى -: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) .
وقد تواترت النصوص عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، من حديث أبي هريرة، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، أن الله يقبض السماوات والأرض بيديه.
قال ابن عباس: ((ما السماوات السبع وما بينهما، وما فيهما، في يد
_________
(1) تقدم ذكر من رواه.
(2) الآية 67 من سورة الزمر.(2/92)
الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم)) (1) .
وإذا كان الأمر كذلك، كان – جل وعلا – أكبر وأعظم من أن يقدر بهذا المقدار.
وهذا من المعلوم بالضرورة، من العقل والدين.
[وليس ما ذكر هو ظاهر الحديث] ، ومن زعم أن الله طوله ستون ذراعاً، فهو مفتر كذاب، ملحد، وفساد هذا معلوم بالضرورة، ومعلوم عدم ظهور ذلك من الحديث، فإن الضمير في قوله: ((طوله)) عائد إلى آدم، الذي قيل فيه ((خلق آدم على صورته)) ثم قال: ((طوله ستون ذراعاً)) ، أي: طول آدم، ولفظ الطول وقدره، ليس داخلاً في مسمى الصورة، حتى يقال: إذا قيل: خلق الله آدم على صورته، وجب أن يكون على قدره.
ومن المعلوم أن الشيئين المخلوقين يكون أحدهما على صورة الآخر، مع التفاوت العظيم في جنس ذواتهما، وقدر ذواتهما.
والإضافة تتنوع دلالتها بحسب المضاف إليه، فلما قال في آخر الحديث:
((فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، طوله ستون ذراعاً)) اقتضى ذلك مشابهة الجنس في القدر؛ لأن صورة المضاف، من جنس صورة المضاف إليه، وحقيقتهما واحدة.
وأما قوله: ((خلق الله آدم على صورته)) ، فإنها تقتضي نوعاً من المشابهة فقط، لا تقتضي تماثلاً في حقيقة، ولا قدر.
وأما قول ابن خزيمة: فإن الإضافة [فيه] إضافة خلق، كما في ((ناقة الله)) و ((بيت الله)) و ((أرض الله)) و ((فطرة الله))
_________
(1) رواه ابن جرير في ((تفسيره)) (24/25) .(2/93)
فالكلام عليه من وجوه:
أحدهما: أنه لم يكن قبل آدم صورة مخلوقة، خلق عليها، فقول القائل: خلق على صورة مخلوقة - لله – وليس هناك إلا صورة آدم، بمنزلة قوله: على صورة آدم، وقد تقدم إبطال هذا من وجوه كثيرة.
الثاني: أن إضافة المخلوق جاءت في الأعيان القائمة بنفسها، كالناقة والبيت، والأرض، والفطرة، التي هي [السنة] المطردة.
فأما الصفات القائمة بغيرها، مثل العلم، والقدرة، والكلام، والمشيئة، إذا أضيفت كانت إضافة صفة إلى الموصوف.
وهذا هو الفرق بين [الإضافتين] وإلا التبست الإضافة التي هي إضافة صفة إلى موصوف، والتي هي إضافة مملوك ومخلوق إلى المالك والخالق، وذلك هو ظاهر الخطاب في الموضعين؛ لأن الأعيان القائمة بنفسها، قد علم المخاطبون أنها لا تكون قائمة بذات الله – تعالى – فيعلمون أنها ليست إضافة صفة.
وأما الصفات القائمة بغيرها، فيعلمون أنه لا بد لها من موصوف تقوم به، وتضاف إليه.
وعلى هذا، فالصورة قائمة بالموصوف بها، المضافة إليه.
فصورة الله، كوجه الله، ويد الله، وعلم الله، وقدرة الله، ومشيئة الله، وكلام الله، ويمتنع أن تقوم بغيره.
الوجه الثالث: أن الأعيان المضافة إلى الله، لا تضاف إليه؛ لعموم كونها مخلوقة مملوكة له؛ إذ ذلك يوجب إضافة جميع الأعيان إلى الله – تعالى -؛ لأنها كلها مخلوقة له، مملوكة.
فلو كان قوله في ناقة صالح: {نَاَقَةَ اللهِ} بمعنى: الله خلقها، وهي(2/94)
ملكه؛ لوجب أن تضاف سائر النوق إلى الله بهذا المعنى، فلا يكون حينئذ لها اختصاص بالإضافة، وكذلك قوله: {وَطَهِر بَيتِيَ} لو كان المراد به: خلقي وملكي؛ لوجب إضافة سائر البيوت إلى الله – تعالى – لمشاركتها في هذا المعنى.
فلابد أن يكون في العين المضافة معنى يختص بها، تستحق به الإضافة، فبيت الله هو الذي اتخذ لذكر الله - تعالى – وعبادته، وهذه إضافة من جهة كونه معبوداً فيه، فهو إضافة إلى إلهيته، لا إلى عموم ربوبيته، وخلقه، كما في لفظ العبد، فإن قوله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} (1) ، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} (2) ، هو إضافة إليه؛ لأنهم عبدوه، لا لعموم كونه عَبَّدهم بخلقه لهم، فإن هذا يشركهم فيه جميع الناس.
وهو تعالى قد خص بقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (3) ، وقوله: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا} (4) ، ونحو ذلك [خصهم من بين الناس بالإضافة إليه] .
كذلك الناقة فيها اختصاص بكون الله – تعالى – جعلها آية، ففيها معنى الإضافة إلى إلهيته.
وأما قوله – تعالى -: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (5) ،
_________
(1) الآية 19 من سورة الجن.
(2) الآية 63 من سورة الفرقان.
(3) الآية 42 من سورة الحجر.
(4) الآية 6 من سورة الإنسان.
(5) الآية 56 من سورة العنكبوت.(2/95)
وقوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} (1) ، ففي الإضافة تخصيص
للأرض، التي هي باقية على ما خلقها الله – تعالى – فلم يستول عليها الكفار، والفجار من عباده، ويمنعوا – باستيلائهم عليها – من عبادة الله عليها.
ولهذا لم تدخل أرض الحرب في هذا العموم.
وقد يقال: الإضافة لعموم الخلق؛ لأن الأرض واحدة لم تتعد، كما تعددت النوق، والبيوت، والعبيد.
وقوله: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (2) ، تضاف إلى الله – تعالى – من الوجهين، من جهة أن الله خلقها، فتكون إضافة إلى جهة ربوبيته.
ومن جهة أنه – تعالى – فطرها على الإسلام، الذي هو عبادة الله، فتكون الإضافة إلى ألوهيته.
وأما الصورة المخلوقة، فهي مشاركة لجميع الصور في كون الله خلقها من جميع الوجوه، فما الموجب لتخصيصها بالإضافة إلى الله – تعالى -؟.
وأيضاً فسائر الأعضاء مشاركة للصورة التي هي الوجه في كون الله – تعالى – خلق ذلك جميعه، فينبغي أن يضاف سائر الأعضاء إلى الله – تعالى – بهذا الاعتبار، حتى يقال [ليد الإنسان] : يد الله، ولوجهه: وجه الله، ولقدمه: قدم الله، ونحو ذلك؛ لأن الله خلقه.
الوجه الرابع: أن قوله: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)) ، لو كانت الإضافة خلق وملك؛ لوجب أن
_________
(1) الآية 97 من سورة النساء.
(2) الآية 30 من سورة الروم.(2/96)
لا يضرب شيء من الأعضاء؛ لأن إضافته إلى خلق الله – تعالى - وملكه كإضافة الوجه سواء.
الوجه الخامس: أن قوله: ((لا يقولن أحدكم: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته)) يدل على أن المانع هو مشابهة وجهه لصورة الله – تعالى -.
فلو أريد صورة يخلقها الله – تعالى -؛ لكان كونه هو مخلوقاً لله أبلغ من كونه مشبهاً لما خلقه الله، فيكون عدولاً عن التعليل بالعلة الكاملة إلى ما يشبهها.
الوجه السادس: أن العلم بأن الله خلق آدم، من أظهر العلوم، عند العامة والخاصة، فلو لم يكن في قوله: ((على صورته)) معنى إلا أن الله – تعالى – خلقها، وهي ملكه؛ لكان قوله: ((خلق آدم)) كافيا ً.
إذ على هذا التقدير: ((خلق آدم)) و ((خلق آدم على صورته)) سواء، ولا فرق بين قول القائل: ((هذا مخلوق الله، وقوله: هذا خلقه الله على الصورة التي خلقها الله)) ومثل هذا الكلام لا يجوز أن يضاف إلى أدنى الناس، ممن يعرف اللغة، فكيف يضاف إلى النبي – صلى الله عليه وسلم –؟
الوجه السابع: أن قوله: ((خلق آدم على صورته)) ، أو ((على صورة الرحمن)) يقتضي أن برأه، وصوره على تلك الصورة.
فلو أريد الصورة المخلوقة المملوكة، التي هي صورة آدم المضافة إليه تشريفاً، لقيل: ((صورة آدم صورة الله)) ، أو ((صورة الإنسان صورة الله)) ، ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على الإضافة المجردة، وإن كان في ذلك ما فيه.
أما إذا قيل: ((خلقه على صورته)) ، ولم يرد إلا أن صورته المخلوقة هي(2/97)
المضافة إلى الله؛ لكونها مخلوقة له، فهذا تناقض ظاهر، لا يحتمله اللفظ)) (1) .
وأكتفي بهذا النقل المطول عن شيخ الإسلام رحمه الله، وقد اختصرته كثيراً، وتصرفت فيه قليلاً جداً؛ لأجل الإيضاح، ومن أراد الاستيعاب فليرجع إليه، فإن فيه علماً غزيراً، وإبطالاً لتأويل المتكلمين، بحجج وبراهين مقنعة لمن يريد الحق.
قوله: ((وضرب الصراط بين ظهري جهنم)) معنى ضرب: نصب ووضع فوق النار، والصراط: هو الجسر الذي يعبر عليه، كما هو معلوم في حياة الناس اليوم.
ومعنى قوله: ((بين ظهري جهنم)) يعني: فوقها، ويمتد من طرفها إلى طرفها الآخر.
يقال: أقام الرجل بين ظهراني القوم، إذا أقام معهم في أرضهم، كما في الحديث: ((أنا برىء من مسلم أقام بين ظهراني المشركين)) (2) .
ومعنى ذلك: أن الصراط الذي يعبر عليه المؤمنون إلى الجنة يؤتى به في ذلك اليوم، فيوضع فوق النار، فيعبرون عليه، فليس لهم طريق إلى الجنة، إلا من فوق جهنم، ومع ذلك، فقد جاء وصف الصراط بأنه دقيق جداً، وغير ثابت، بل هو متحرك، ومضطرب، وهو في منتهى الحرارة؛ لأنه فوق جهنم، فالعبور عليه شديد جداً، والحقيقة أن العبور بالأعمال، فمن كان مستقيماً على صراط الله في الدنيا الذي هو دينه، استقام على ذلك الصراط.
وأما تثنية الظهر في قوله: ((بين ظهري جهنم)) فإنه يدل على أن الصراط مستوعب جهنم، يعني يمر عليها كلها، والله أعلم.
_________
(1) ((نقض التأسيس)) (3/273 - 275) ملخصا.
(2) رواه أبو داود في ((الجهاد)) ، باب: النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، (3/105) ، والترمذي في ((السير)) باب: كراهية المقام بين أظهر المشركين، رقم (1604) (4/155) .(2/98)
قوله: ((فأكون أنا وأمتي أول من يجيز)) يعني: رسولنا محمداً – صلى الله عليه وسلم -، وأمته الذين هم أتباعه على دينه، هم أول من يعبر الصراط، إلى الجنة، وفيه دليل على فضله – صلى الله عليه وسلم – على سائر الأنبياء، وفضل أمته على الأمم.
ثم يعبر الأمم الأخرى من أتباع الرسل مع رسلهم، فكل أمة معها رسولها.
قوله: ((ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل)) وذلك لهول الموقف، وعظم ذلك المنظر، وشدة الأمر، فالطريق الذي يمكن أن ينجو من سلكه من فوق جهنم، وهو كما مر دقيق، وغير ثابت، وفي منتهى الحرارة، وعليه كلاليب تخطف بعض الناس، فإذاً لا بد من النار، ومن أجل ذلك خرست الألسن، فلا أحد يستطيع أن يتكلم، وإنما ينفرد بالتكلم رسل الله، حيث أمنوا بأمان الله لهم، وكلامهم هو تضرع إلى الله – تعالى – بقولهم: ((اللهم سلم سلم)) .
قوله: ((وفي جهنم كلاليب)) جمع كلوب، وهو حديدة معقوف رأسها ومحدد، بحيث تدخل في الشيء الذي يراد إمساكه بها، وقد يقسم رأسها إلى عدة كلاليب يستخرج بها ما يسقط في البئر، أو غيرها، وقد يعلق بها اللحم.
ولكن هذه الكلاليب على خلاف المعهود للناس من كلاليب الدنيا، ولهذا قال: ((مثل شوك السعدان)) ، السعدان عشب تحبه الإبل، وتسمن عليه، له شوك مفلطح، يشبه القرص، وعلى دائرته شويكات كثيرة معقفة، وفي أحد جانبيه شويكات كذلك معقفة، إذا أمسكت شيئاً يصعب استخراجها، ولما كان شوك السعدان ليس كبيراً، قال: ((غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله)) ، يعني: لا أحد يستطيع وصف كبرها، وقدرتها على خطف من أمرت بخطفه، وإنما يعلم ذلك خالقها وحده.
قوله: ((تخطف الناس بأعمالهم)) أي: بسبب أعمالهم، التي عصوا الله بها(2/99)
وخالفوا أمره، ولهذا قال: ((فمنهم الموبق)) أي: الهالك الذي أهلكته ذنوبه، وهو من سقط في النار.
((والمخردل)) وهو من يلقى في النار، ويرمى به فيها، والمعنى: أن الكلاليب تمسكه فتلقيه في النار صريعاً، إلقاء بقوة وشدة.
قوله: ((أو المجازى، ونحوه)) هو شك من الراوي: هل قال: المخردل، أو المجازى؟ والمجازى: هو الذي يجزى بعمله، فإذا لم يعف الله – تعالى - عن عبده فإنه يهلك.
قوله: ((ثم ينجلي)) أي: ينجلي ذلك الأمر الهائل، وينكشف، وهو العبور على النار، والمحاسبة، وغير ذلك من عظائم يوم القيامة.
قوله: ((حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد)) كل عمل له بداية ونهاية، ونهايته الفراغ منه، والمعنى: أن الله تعالى يتولى محاسبة عباده بنفسه وينتهي من ذلك، وهو – تعالى – أسرع الحاسبين، وجاء وصف الله – تعالى – بذلك في كثير من النصوص، وهو من أوصاف الفعل، وهي كثيرة.
قوله: ((وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار)) المقصود بأهل النار هنا: أهل التوحيد، الذين دخلوا النار بذنوبهم، وموبقات أعمالهم، وهم كثيرون.
أما المشركون، والكافرون، فإنهم لا يخرجون من النار، بل هم خالدون فيها، وأوضح ذلك بقوله:
((أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً ممن أراد الله أن يرحمه، ممن يشهد أن لا إله إلا الله)) فهذا صريح في أنه يدخل النار خلق كثير ممن لا يشرك بالله شيئاً، ولكنهم عصوا الله بفعل المحرمات، غير الشرك، وبترك الأوامر، ولهذا قال: ((ممن يشهد أن لا إله إلا الله)) يعني:(2/100)
يعبد الله وحده، ولا يشرك معه غيره في العبادة.
قوله: ((فيعرفونهم في النار، بأثر السجود، تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود؟ حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود)) وهذا أيضاً صريح وواضح في أنهم كانوا يصلون، ويسجدون لله - تعالى – ويعبدونه وحده.
وأثر السجود هي الأعضاء التي يسجد عليها، وهي: الجبهة والأنف، وبطون الكفين، والركبتان، وأطراف القدمين.
وفي هذا دليل على فضل السجود لله - تعالى – وهو من آيات الله تعالى الدالة على قدرته الباهرة، حيث تأكل النار جسم ابن آدم إلا هذه المواضع المختلفة في البدن، فإنها لا تضرها، ولا تغيرها؛ لأن الله حرمها عليها، والنار لا تأكل إلا ما أمرها الله بأكله.
قوله: ((فيخرجون من النار قد امتحشوا)) امتحشو: يعني احترقوا، وقد استدل بهذه الجملة من يقول: إنهم يموتون في النار، وقيل: إنهم لا يموتون، فالله أعلم.
أما قوله: ((فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون تحته، كما تنب الحبة في حميل السيل)) فالمراد: نبات لحومهم وغيرها التي أحرقتها النار، ولا يلزم من ذلك أنهم ماتوا، وفارقتهم الحياة، بل الظاهر أنهم بقوا أحياء يذوقون العذاب، جزاء لإجرامهم، وسيأتي أنهم يموتون موتاً حقيقيًّا، فالله أعلم.
وماء الحياة، جاء تفسيره بأنه نهر من أنهار الجنة، وسيأتي في حديث أبي سعيد: أنهم يلقون في ذلك النهر، ثم ينبتون على حافتيه.
((والحبة)) هي: البذرة التي ينبت منها الزرع وغيره.
وحميل السيل هو: ما يحمله من الغثاء، ويلقيه على جوانب الوادي، والنبات يكون فيه أسرع، وأقوى؛ لما فيه من الأسمدة.
قوله: ((ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار)) يعني: أنه أخرج من النار(2/101)
وأوقف قريباً منها، وجعل وجهه إليها، لا يستطيع أن يصرف وجهه عنها، وذلك من بقية عذابه، ولهذا يدعو ربه بأن يصرف وجهه عن النار، ويكون ذلك هو أعظم ما يتمناه ويريده، بل هو مراده.
قوله: ((هو آخر أهل النار دخولاً الجنة)) أهل الفساد قسمان: قسم خلق للنار، وهم المشركون والكفار باختلاف أنواعهم، فهؤلاء لا يخرجون من النار أبداً.
وقسم يكون من أهل النار مؤقتاً، وهؤلاء هم عصاة المؤمنين من الذين لا يعبدون إلا الله وحده، إلا أنهم ارتكبوا ذنوبا عظاماً استوجبوا بها النار، وهم خلائق لا يحصيهم إلا الله - تعالى -، ويتفاوتون في لبثهم في النار تفاوتاً عظيماً، ولكن لا يبقى في النار منهم أحد وإن طال لبثه، وهذا الرجل المذكور في الحديث هو آخر من يخر ج من النار من الموحدين الذين أدخلوا النار، وهو أدنى أهل الجنة منزلة، كما سيأتي التصريح بذلك في هذا الحديث.
قوله: ((قشبني ريحها)) قال النووي: معنى قشبني: سمني، وآذاني، وأهلكني، قاله جماهير أهل اللغة.
وقال الخطابي: قشبه الدخان: ملأ خياشيمه وأخذ بكظمه، وأصل القشب: خلط السم بالطعام، يقال: قشبه، إذا سمّه (1) .
والمعنى: أن ريح النار الكريه عذّبه، وبلغ منه مبلغ الهلاك.
قوله: ((وأحرقني ذكاؤها)) ذكاؤها: حرها ووهجها.
((ثم يقول الله: هل عسيت إن أعطيت ذلك أن تسألني غيره؟ فيقول: لا وعزتك، لا أسألك غيره، ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء)) .
_________
(1) ((فتح الباري)) (11/459) .(2/102)
هذا الرجل الذي هو آخر من يخرج من النار، من أهل الإيمان، يخاطبه الله - تعالى - بعد أن يدعوه، ويسأله بأن يصرف وجهه عن النار، فهو قد قصر مسألته لله على صرف وجهه عن النار فقط.
ولهذا يقول الله له: لعلك إذا أعطيتك ما سألتني، أن تسأل غيره، وليس ذلك لأن الله - تعالى - يكبر عليه شيء، بل لتحصل هذه المحاورة بين رب العالمين وبين هذا الرجل الذي هو أدنى أهل الجنة منزلة، وليظهر ضعف العبد، وقصر نظره، وغنى الرب - تعالى -، وكمال حلمه وعلمه، وحكمته ورحمته، وسيعيد البخاري هذا الحديث مستدلاً به على وقوع الكلام من الله - تعالى - لمن يشاء من عباده يوم القيامة.
قوله: ((فإذا أقبل على باب الجنة، ورآها، سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب: قدمني إلى باب الجنة)) أي: أنه يرى الجنة، ظاهراً، فيحاول أن يفي بعهوده ومواثيقه التي أعطاها ربه، فيسكت وقتاً، ولكن لضعفه وفقره، وحاجته إلى فضل ربه، لا يستطيع الصبر، فيعود مرة أخرى ناكثاً لعهوده ومواثيقه بأنه لا يسأل غير ما سأل أول مرة، ولكن الله - تعالى- يعفو عنه ويعذره؛ لأنه لا يستطيع الصبر على ما يرى.
وقول الله - تعالى - له: ((ويلك يا ابن آدم، ما أغدرك)) يعني: أنك كثير الغدر والخيانة، فقد نكثت بالعهود والمواثيق التي أعطيتها بأنك لا تسأل غير ما سألت مرات متعددة.
قوله: ((انفهقت له الجنة)) أي: انفتحت، وانزاحت الستائر التي تحجب الرؤية، قوله: ((الحبرة والسرور)) أي: يرى أنواع النعيم، من المأكولات، وغيرها، فالخير كله بحذافيره في الجنة.
قوله: ((لا أكون أشقى خلقك)) يقول ذلك، لأنه يشاهد أهل الجنة يتنعمون بأنواع النعيم، وما هم فيه من الفرح والسرور، وهو ممنوع عن دخولها،(2/103)
فتصور عند ذلك أنه أشقى خلق الله، وليس كذلك.
قوله: ((حتى يضحك الله منه)) صفة الضحك تكاثرت عليها الأدلة، وهي صفة من صفات الفعل، يجب الإيمان بها على ظاهر ما دلت عليه النصوص، ولا يجوز تأويل الضحك بلازمه، كما يقوله أهل الباطل، من الجهمية ومن سار على نهجهم، من أن الضحك هو الرضا أوالعطا، ونحو ذلك مما هو من مخلوقات الله - تعالى -.
قال أبو سعيد الدرامي - رحمه الله -: [وادعى المعارض أن ضحك الرب: رضاه ورحمته، وصفحه عن الذنوب، كقولك: رأيت زرعاً يضحك.
فيقال له: كذبت بأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم - إذ شبهت ضحكه بضحك الزرع؛ لأن ضحك الزرع ليس بضحك، وإنما هو خضرته ونضارته، ولم تسبق إلى هذا التفسير، فأنت محرف لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكيف تجعل ضحك الرب إلى أوليائه، كضحك الزرع، الذي هو عبارة عن نضارته وخضرته؟ فهو ما دام كذلك فهو يضحك لكل من رآه، لمن يسقيه، ومن يحصده.
وقولك: إن ضحكه: رضاه ورحمته، تصديق لبعض الحديث، وتكذيب للبعض الآخر، حيث رددت الضحك وقبلت الرضا، والله - تعالى - لا يضحك لأحد إلا عن رضا، فيجتمع منه الضحك والرضا.
ولم نسمع عن أحد من أهل السنة أنه يشبه ضحك الله - تعالى - أو شيئاً من أفعاله بشيء من فعل المخلوقين، كما ادعيت أيها المعارض.
بل نقول: إن الله - تعالى - يضحك كما يشاء، وكما يليق به.
ثم ادعيت تفسيراً أوحش من هذا، فقلت: يحتمل أن يكون ضحكه أن يظهر من خلقه ضاحكاً، يأتيهم يبشرهم.(2/104)
مع أن الحديث الذي ذكره المؤول يرد عليه، وفيه قول أبي رزين: ((قلت: يا رسول الله، أو يضحك ربنا؟ قال: نعم)) ، ولم يقل: يخلق ربنا من يضحك.
ثم قال أبو رزين: ((لن نعدم من رب يضحك خيراً)) فجعل الضحك من الرب - تعالى - دليلاً على حصول الخير.
ثم ادعى المعارض ما هو أبعد من هذا كله، فزعم أن معنى: يضحك الله من كذا، أي: يجعله ضاحكا.
فيقال: إذا تحولت اللغة العربية إلى لغتك، ولغة أصحابك، جاز فيها أنكر من هذا التأويل، وأفحش.
ولو كان كما ذكر، لكان سؤال أبي رزين، لرسول الله - صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم - يدل على الجهل، حيث سأل، أو يُضحك ربنا الخلق؟ وهو يعلم أن كل الخلق الذي يضحكهم هو الله - تعالى -، وقد قرأ قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} (1) .
ثم ذكر بسنده حديث ابن مسعود، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم - قال: ((آخر رجل يدخل الجنة رجل يمشي، يكبو على الصراط مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي أنجاني منك، فترفع له الجنة، فيقول: يا رب أدنني إليها، وفيه: ((ألا تسألوني: مم أضحك؟)) فقالوا: مم تضحك؟ فقال: من ضحك رب العالمين)) (2) .
وذكر الحديث: ((ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره)) (3) .
_________
(1) الآية 43 من سورة النجم.
(2) رواه مسلم في ((الصحيح)) (1/174 - 175) في الإيمان.
(3) رواه الإمام أحمد في ((المسند)) (4/11، 12) .(2/105)
وحديث أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاثة يضحك الله - تعالى - إليهم يوم القيامة: رجل قام من الليل، والقوم إذا صفوا للقتال، والقوم إذا صفوا للصلاة)) (1) . وحديث نعيم بن عمار ((جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم - فقال: أي الشهداء أفضل؟ قال: ((الذين يلقون في الصف، ولا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا، أولئك الذين يتبلطون (2) في الغرف العلى من الجنة، يضحك إليهم ربك، وإذا ضحك ربك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه)) (3) .
وحديث عبد الله بن عمرو: ((يضحك الله إلى صاحب البحر ثلاث مرات، حين يركبه، ويخلى من أهله، وحين يميد متشطحاً، وحين يرى البر ... )) .
وحديث ابن مسعود: ((إن الله يضحك إلى اثنين: رجل قام من جوف الليل، فتوضأ وصلى، ورجل كان مع قوم، فلقوا العدو فانهزموا وحمل عليهم، فالله يضحك إليه)) (4) .
وحديث أبي هريرة: ((يضحك الله من رجلين قتل أحدهما صاحبه، وكلاهما دخل الجنة)) (5) .
وحديث أسماء بنت يزيد بن السكن: لما توفي سعد بن معاذ، صاحت أمه، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا يرقأ دمعك، ويذهب حزنك؟ فإن
_________
(1) رواه الإمام أحمد في ((المسند)) (3/80) وابن ماجه (1/73) والبغوي في ((شرح السنة)) (4/2) .
(2) قال في ((القاموس)) : تلبط: تحير، وعدا، واصجع، وتمرغ، فمعناه: تبوأ المكان واستقر فيها.
(3) قال المنذري: رواه الطبراني بإسناد حسن، انظر: ((الترغيب والترهيب)) (2/319) .
(4) رواه ابن ماجه في ((سننه)) من حديث أبي سعيد الخدري (1/73) .
(5) متفق عليه، انظر: ((الفتح)) (6/39) ومسلم (3/1504، 1505) .(2/106)
ابنك أول من يضحك الله إليه)) (1) ] (2) .
((والضحك في موضعه المناسب له، صفة مدح وكمال، وإذا قُدِّر حَيَّان: أحدهما يَضْحَكُ منه، والآخر لا يضحك، فإن الأول أكمل من الثاني.
ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ينظر إليكم الرب قنطين، فيظل يضحك، يعلم أن فرجكم قريب)) .
فقال له أبو رزين العقيلي: يا رسول الله، أو يضحك الرب؟ قال: ((نعم)) قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً)) .
فجعل الأعرابي العاقل - بصحة فطرته - ضحكه دليلاً على إحسانه وإنعامه، فدل على أن هذا الوصف مقرون بالإحسان المحمود، وأنه من صفات الكمال، والشخص العبوس الذي لا يضحك، مذموم بذلك.
وإذا كان الضحك فينا مستلزماً لشيء من النقص، فالله - تعالى - منزه عن ذلك، فضحكه - تعالى - يليق به، لا يلزم عليه شيء من النقص)) (3) .
ولأصحاب التأويل، تأويلات مضحكة، وحجج متهافتة سخيفة، يحاولون أن ينفوا عن الله - تعالى - ما أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كقولهم: لو كان يضحك، لكان هذا القول - مثلا - مضحكاً له، وقوله: لو جاز عليه الضحك لجاز عليه البكاء.
وهكذا تكون حجج أهل الضلال والهوى، وطرد قولهم أن يقال: لو جاز عليه العلم لجاز عليه الجهل، ولو جاز أن يكون حياً لجاز أن يموت.
_________
(1) قال في ((مجمع الزوائد)) : رواه الطبراني (9/309)
(2) الرد على بشر المريسي لعثمان بن سعيد الدرامي (ص 530 536) ملخصاً في عقائد السلف.
(3) ((مجموع الفتاوى)) (6/121- 122) بشيء من التصرف.(2/107)
فكيف تجعل صفات الكمال مستلزمة لثبوت صفات النقص؟ أليس هذا هو قلب الحقائق، وعين المحال؟ سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم.
ومن لا يكتفي بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويتخذه إماماً هادياً، اجتالته الشياطين، وتقاذفته الأهواء، ومن حكم عقله على الوحي فسوف يلقيه في مكان سحيق.
قوله: ((فإذا ضحك منه، قال له: ادخل الجنة)) الضحك دليل على الرضا، ولهذا لما ضحك الله - تعالى - من هذا
الرجل، رضي عنه فأمره بدخول الجنة، وهذا مما يبطل قول أهل التأويل الذين يفسرون الضحك في الله - تعالى - بالثواب.
قوله: ((فإذا دخلها قال الله له: تمنه)) أي: اسأل ما تريد، واطلب ما يخطر على بالك.
قوله: ((فسأل ربه، وتمنى)) السؤال لما يتوقع حصوله، والتمني لما لا يتوقع حصوله، بل هو بعيد المنال.
قوله: ((حتى إن الله ليذكره، يقول: كذا وكذا)) أي يقول له: اسأل كذا وكذا، من الأشياء التي لم تخطر على فكره.
قوله: ((حتى إذا انقطعت به الأماني، قال الله: ذلك لك ومثله معه)) كان أبو سعيد الخدري يستمع لأبي هريرة، فلما قال: ((ذلك لك ومثله معه قال له: ((عشرة أمثاله معه يا أبا هريرة)) يعني: أن الله - تعالى - يعطي هذا الرجل كل ما سأل وتمنى، ومعه عشرة أمثاله، قال أبو هريرة: ((ما حفظت إلا قوله: ((ذلك لك، ومثله معه)) ، قال أبو سعيد: ((أشهد أني حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: ((ذلك لك، وعشرة أمثاله)) .
وهذا يدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حدث أصحابه بهذا الحديث مرات(2/108)
متعددة، في بعضها ذكر ما حفظه أبو سعيد، حيث حضر ذلك المجلس الذي قال فيه: ((ذلك لك وعشرة أمثاله)) وغاب عنه أبو هريرة، ولا منافاة، ومثل ذلك يحصل كثيراً.
قوله: ((قال أبو هريرة: فذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولاً الجنة)) .
وهو أدنى أهل الجنة منزلة، ومع ذلك يعطى ما ذكر، وقد جاء في بعض الروايات أنه يعطى عشر مرات.
66 - قال: حدثنا يحيي بن بكير، حدثنا الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال: قلنا: يا رسول الله: هل نرى ربنا يوم القيامة؟
قال: ((هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً؟ قلنا: لا، قال: ((فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارون في رؤيتهما)) .
ثم قال: ((ينادي مناد: ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم، حتى يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر، وغبرات من أهل الكتاب.
ثم يؤتى بجهنم، تعرض كأنها سراب، فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟
قالوا: كنا نعبد عزيز ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة، ولا ولد، فما تريدون؟(2/109)
قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم.
ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟
فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون [في جهنم] .
حتى يبقى من كان يعبد الله من بر أو فاجر، فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس؟
فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم، وإنا سمعنا مناديا ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما ننتظر ربنا.
قال: فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم.
فيقولون: أنت ربنا، فلا يكلمه إلا الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ فيقولون: الساق.
فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعه، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً.
ثم يؤتى بالجسر، فيجعل بين ظهري جهنم، قلنا: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: مدحضة، مزلة، عليه خطاطيف، وكلاليب، وحسكة مفلطحة، لها شوكة عقيفاء، تكون بنجد، يقال لها: السعدان.(2/110)
المؤمن عليها كالطرف، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنم، حتى يمر آخرهم يسحب سحباً، فما أنتم بأشد لى مناشدة في الحق، قد تبين لكم من المؤمن يومئذ للجبار.
وإذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم، يقولون: ربنا، إخواننا الذين كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا.
فيقول الله - تعالى – اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار، فيأتونهم، وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا.
ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا.
ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا.
قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني، فاقرءوا {إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} (1) .
فيشفع النبيون، والملائكة، والمؤمنون.
فيقول الجبار جل جلاله: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار
_________
(1) الآية 40 من سورة النساء.(2/111)
فيخرج أقواماً قد امتحشوا، فيلقون في نهر بأفواه الجنة، يقال له: ماء الحياة، فينبتون في حافتيه، كما تنبت الحبة في حميل السيل، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة، وإلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض.
فيخرجون كأنهم اللؤلؤ، فيجعل في رقابهم الخواتيم، فيدخلون الجنة.
فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه.
فيقال لهم: لكم ما رأيتم ومثله معه)) .
قوله: ((قلنا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟)) في رواية مسلم: ((أن ناساً في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا ... الخ)) فما هنا تفسير لها.
قوله: ((هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً؟))
في رواية مسلم: ((في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب)) يعني: في وقت خلو السماء من السحاب والقتر، فقوله: ((ليس معها سحاب)) زيادة إيضاح لقوله: ((صحواً)) .
قوله: ((ثم ينادي مناد: ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون)) تقدم في حديث أبي هريرة قوله: ((يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه)) . فيكون المنادي هو الله تعالى، ومعلوم أن النداء هو رفع الصوت بالكلام، فما أبلغ هذا في إثبات تكلم الله تعالى حقيقة.
قوله: ((فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم)) يعني: عبَّاد الصليب، وهم النصارى كما هو معلوم.
((والأوثان هي الأصنام، وقد تطلق على كل معبود من دون الله تعالى)) .(2/112)
قال ابن الأثير: ((الفرق بين الوثن، والصنم: أن الوثن: كل ما له جثة معمولة، من جواهر الأرض، أو من الخشب أو الحجارة، كصورة الآدمي تعمل وتنصب، فتعبد، والصنم: الصورة بلا جثة. ومنهم من لم يفرق بينهما، وأطلعهما على المعنيين، وقد يطلق الوثن على غير الصورة)) (1) .
وقد جاء في قصة عدي بن حاتم أنه قال: ((قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: ((ألق هذا الوثن عنك)) (2) وهذا يدل على أن الوثن يطلق على كل ما عبد من دون الله، وقد قال الأعشى:
تطوف العفاة بأبوابه ... كطوف النصارى ببيت الوثن (3)
يريد بالوثن: الصليب.
قوله: ((وأصحاب كل آلهة مع آلهتم)) ، قال الله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ {22} مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ {23} وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ {24} مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُون} (4) والمقصود بأزواجهم: نظراؤهم وإخوانهم في العمل. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} (5) .
فالله تعالى يحشر كل عابد مع معبوده؛ لأنهم كانوا في الدنيا يزعمون أن معبوداتهم من دون الله سوف تتولاهم، وتشفع لهم وتنفعهم، فجمعهم الله مع معبوداتهم ليظهر كذبهم وغرورهم، وفقر كل من العابد والمعبود.
_________
(1) ((النهاية)) (5/151) .
(2) أخرج قصته أحمد (4/378) والترميذي رقم (2956) وابن هشام في ((السيرة)) (2/578) .
(3) انظر ((ديوان الأعشى)) ص (209) .
(4) الآيات 22-25 من سورة الصافات.
(5) الآية 17 من سورة الفرقان.(2/113)
وفي رواية عبد الله بن مسعود: ((يقول الله – تعالى – للناس في ذلك الموقف: أليس عدل مني أن أُوَلِّيَ كل عابد ما كان يعبد؟)) . قوله: ((حتى يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر، وغبرات من أهل الكتاب)) .
البر: هو المطيع لله، المتبع لرسله، والفاجر هو: الخارج عن الطاعة، ولو في بعض الأمور.
والغبرات جمع غبر، بضم الغين وفتح الباء، المقصود: بقايا من اليهود والنصارى قليلة، وأما معظمهم وجُلُّهم فقد ذهب بهم مع أوثانهم إلى جهنم.
قوله: ((ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب)) في ذلك الموقف أمور عظام ومهولة، وله أحوال متعددة، وحقائقها لا تعلم إلا بالمعاينة، ولكن الرسل، ولا سيما خاتمهم، جاءوا بما يكفي المؤمن في الإتقان من أوصاف ذلك اليوم.
وفي هذا: ((أن جهنم يؤتى بها كأنها سراب)) وفي صحيح مسلم، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)) (1) .
فيؤتى بجهنم بهذه الصفة تعرض على الناس في ذلك الموقف، وهناك: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (2) .
والسراب: هو ما يرى في الأرض الخالية المستوية وقت ما تشتد حرارة الشمس من أثر انعكاس أشعتها على الأرض، فيرى في القيعان كأنه ماء، فإذا قرب إليه الرائي أُبعد عنه، فهو كما قال الله تعالى:
_________
(1) انظر ((صحيح مسلم)) (8/149) .
(2) الآية 2 من سورة الحج.(2/114)
{كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} (1) .
قوله: ((فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيزاً ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد)) السؤال لتبكيتهم، وتقريرهم بما يستحقون به العذاب، وهو عبادتهم لغير الله.
وفيه دليل على أن الناس في ذلك اليوم يكونون على عقائدهم في الدنيا؛ لأن هؤلاء اليهود والنصارى لما سئلوا عما كانوا يعبدون قالوا: عزيزاً ابن الله والمسيح ابن الله، فهم لا يزالون يعتقدون أن عزيزاً ابن الله، وكذلك النصارى يظنون ذلك في المسيح.
والكذب الذي أضيف إليهم هو قولهم: عزيز ابن الله، والمسيح ابن الله، ولهذا قال: لم يكن لله صاحبة ولا ولد.
قوله: ((فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم)) في ذلك الموقف يشتد الظمأ لتوالي الكربات، وترادف الشدائد المهولات، ولهذا صار أول مطلبهم الماء، وقد مثلت لهم جهنم كأنها ماء، كما سبق في قوله: ((كأنها سراب)) فيقال لهم: اذهبوا إلى ماترون، وتظنونه ماء، فاشربوا فيذهبون فيجدون جهنم يحطم بعضها بعضاً، فيتساقطون فيها، ومثل ذلك يقال للنصارى بعدهم.
قوله: ((حتى يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر)) تقدم في الحديث قبله: ((وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها)) وما هنا أعم، وتقدم الكلام عليه.
قوله: ((فيقال لهم: ما يحبسكم، وقد ذهب الناس؟ فيقولون: فارقناهم، ونحن أحوج منا إليه اليوم)) الذي يخاطبهم بذلك هو رب العالمين، كما هو واضح في السياق.
والرواية التي ذكرها البخاري في ((التفسير)) : ((حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر أو فاجر، أتاهم رب العالمين)) (2) ، وهذا من الامتحان
_________
(1) الآية 39 من سورة النور.
(2) انظر ((البخاري)) (6/65.(2/115)
والابتلاء؛ ليتبين ثباتهم وصدقهم، ولذلك قالوا: فارقنا الناس في الدنيا ونحن أحوج إليهم منا اليوم، وذلك لأنهم عصوا الله وخالفوا أمره وناصبوا من أطاعه العداوة، فعاديناهم لذلك، وزايلناهم بغضاً لهم في الله، وإيثاراً لطاعة ربنا، كما قال إبراهيم عليه السلام، والذين معه من الرسل والمؤمنين: {قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (1) .
قوله: ((إليه)) قال مصححو الطبعة البولاقية: ((هكذا في جميع النسخ متناً وشرحاَ بضمير الإفراد، وهو مخالف لما ذكره الشارح [يعني: القسطلاني] نقلاً عن البرماوي والكرماني والعيني، حيث قال: ((وكنا في ذلك الوقت أحوج إليهم)) وتقدم في تفسير سورة النساء بضمير الجمع)) (2) .
وقد أشار الحافظ إلى صحة الإفراد، وأن عياضاً رجحه، وجعل الضمير عائداً إلى الله تعالى، والمعنى: ((فارقنا الناس في معبوداتهم، ولم نصاحبهم، ونحن اليوم أحوج إلى ربنا من أي يوم كان، أي: إنا محتاجون إليه)) (3) .
قوله: ((وإنا سمعنا منادياً ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما ننتظر ربنا)) يعني: أنهم امتثلوا قول المنادي، وليسوا ممن يعبد تلك المعبودات التي أحضرت إلى عابديها، ثم سيقوا معها إلى النار، وقد علموا أن ربهم تعالى سيأتيهم.
قوله: ((فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة)) .
وقد تقدم الكلام في الصورة بما يكفي، وفي الرواية التي ذكرها في ((التفسير)) : ((أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها أول مرة)) وهو لفظ
_________
(1) الآية 4 من سورة الممتحنة.
(2) حاشية البخاري ((طبعة بولاق)) (9/159) .
(3) انظر ((فتح الباري)) (11/450) .(2/116)
رواية مسلم (1) ، وفي السنة لابن أبي عاصم: ((ثم يتبدى الله لنا في صورة غير صورته التي رأيناه فيها أول مرة)) ، وفي رواية عنده أيضا: ((ثم يرفع برنا ومسيئنا، وقد عاد لنا في صورته التي رأيناه فيها أول مرة)) (2) وقد تقدم.
وفي صحيح مسلم في هذا الحديث: ((ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة، فقال: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا)) (3) .
ففي هذه الألفاظ بيان صريح بأنهم قد رأوه في صورة عرفوه فيها، قبل أن يأتيهم هذه المرة، وفي ذلك رد لما قاله الإمام أبو سعيد الدرامي - رحمه الله -، حيث جعل معرفتهم إياه بصفاته التي تعرف بها إليهم في الدنيا.
وكذلك قوله: ((إن هذا التحول من صورة إلى صورة، هو تمثيل يمثله الله في أعينهم.
أما هو - تعالى - فلا يتحول من صورة إلى صورة، وهذا خلاف ما صرحت به الأحاديث كما ذكرنا (4) .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - قول أبي سعيد هذا، ورده من وجوه عدة، فقال بعد ما ذكر أقوال أهل التأويل، من الجهمية والحلولية، لحديث الصورة وإتيان الرب - تعالى - إلى أهل الموقف بصورته، فقال: ((وأقرب ما يكون عليه إتيان الله - تعالى - في صورته بعد صورة - وإن كان تأويلا باطلاً - أيضاً ما ذكره بعض أهل الحديث، مثل أبي عاصم
_________
(1) انظر ((صحيح مسلم مع النووي)) (3/27) .
(2) انظر ((السنة)) (1/285) .
(3) ((صحيح مسلم)) (1/169) ، رقم (302) .
(4) انظر الرد على ((المريسي)) (ص421) مجموعة عقائد السلف.(2/117)
النبيل، أنه كان يقول: ذلك تغيير يقع في عيون الرائين، كنحو ما يخيل إلى الإنسان الشيء بخلاف ما هو به فيتوهم الشيء على الحقيقة.
وقال عثمان بن سعيد في نقضه على بشر المريسي: ((وأما إنكارك على رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن الله يتراءى لعباده المؤمنين يوم القيامة، في غير صورته، فيقولون: نعوذ بالله منك، ثم يتراءى في صورته التي يعرفونها، فيتبعونه، فزعمت أن من أقر بهذا فهو مشرك.
فيقال لهم: أليس قد عرفتم ربكم في الدنيا، فكيف جهلتموه عند العيان، وشككتم فيه؟
وقد صح بهذا الخبر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - كأنك تسمعه يقوله من جودة إسناده.
ولو أن الله تجلّى لهم أول مرة في صورته التي عرّفهم صفاتها في الدنيا، لاعترفوا بما عرفوا، ولكنه يُرى نفسه في أعينهم؛ لقدرته، ولطف ربوبيته، في صورة غير ما عرفهم الله صفاتها في الدنيا؛ ليمتحن الله بذلك إيمانهم، ثانية في الآخرة، أنهم لا يعترفون بالعبودية في الدنيا والآخرة إلا للمعبود الذي عرفوه في الدنيا بصفاته التي أخبرهم بها في كتابه، واستشعرتها قلوبهم حتى ماتوا على ذلك.
فإذا مثل في أعينهم غير ما عرفوا من الصفة نفروا، وأنكروا، إيماناً منهم بصفة ربوبيته التي امتحن قلوبهم في الدنيا بها، من غير أن يتحول الله من صورة إلى صورة.
ولكن يمثل ذلك في أعينهم، كما مثل جبريل مع عظم صورته، في صورة دحية الكلبي، وكما مثل لمريم بشراً، وكما شبه عيسى في أعين اليهود)) (1) .
_________
(1) نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي (ص421 – 423) ، وانظر ((نقض التأسيس)) (3/397-401) المخطوط.(2/118)
وهذا باطل من وجوه:
أحدها: أن في حديث أبي سعيد المتفق عليه: ((فيأتيهم في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة)) . ... وفي لفظ: ((في أدنى صورة من التي رأوه فيها)) ، وهذا يفسر قوله في حديث أبي هريرة: ((فيأتيهم الله في صورة غير
صورته التي يعرفون)) ، ويبين أن تلك المعرفة كانت لرؤية منهم متقدمة، في صورة غير الصورة التي أنكروه فيها.
وفي هذا التفسير قد جعل صورته التي يعرفون، هي التي عرفهم صفاتها في الدنيا، وليس الأمر كذلك؛ لأنه أخبر أنها الصورة التي رأوه فيها أول مرة، لا أنهم عرفوها بالنعت في الدنيا.
ولفظ الرواية صريح في ذلك، وقد بينا أنه في غير حديث ما يبين أنهم رأوه قبل هذه المرة.
الثاني: أنهم لا يعرفون في الدنيا لله صورة، ولم يروه في الدنيا في صورة، فإن ما وصف الله – تعالى – به نفسه، ووصفه به رسوله، لا يوجب لهم معرفة صورة يعرفونه فيها، ولهذا قال – تعالى -: {لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءُُُ} (1) ، فلو أرادوا الصفات المخبر بها في الدنيا لذكروا ذلك.
فعلم أنهم لم يطبقوا الصورة التي رأوه فيها أول مرة [على ما علموه في الدنيا] (2) .
وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – في سدرة المنتهى: ((فغشيها من أمر الله ما غشاها، حتى لا يستطيع أحد أن ينعتها من حسنها)) (3) ، فالله أعظم من أن يستطيع
_________
(1) الآية 11 من سورة الشورى.
(2) ليست من كلام الشيخ، وإنما زدتها للإيضاح.
(3) انظر ((صحيح مسلم)) (1/146) ، الحديث رقم (259) .(2/119)
أحد أن ينعت صورته، وهو سبحانه وصف نفسه لعباده بقدر ما تحتمله أفهامهم.
ومعلوم أن قدرتهم على معرفة الجنة بالصفات أيسر، ومع هذا فقد قال: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) (1) فالخالق أن لا يكونوا يطيقون معرفة صفاته كلها أولى.
الوجه الثالث: أن في حديث أبي سعيد: ((فيرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة)) فقوله: ((لا يتحول من صورة إلى صورة ولكن يمثل ذلك في أعينهم)) مخالف لهذا النص.
الوجه الرابع: أن في حديث ابن مسعود، وأبي هريرة، من طريق العلاء: ((أنه يمثل لكل قوم ما كانوا يعبدون)) وفي لفظ ((أشباه ما كانوا يعبدون)) .
ثم قال: ((ويبقى محمد وأمته، فيتمثل لهم الرب – تبارك وتعالى 0 فيأتيهم فيقول: ((ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ فيقولون: إن لنا إلهاً ما رأيناه بعد)) ، فقد أخبر أن الله – تعالى – هو الذي يتمثل لهم، ولم يقل لهم كما قال في معبودات المشركين، وأهل الكتاب.
الوجه الخامس: أن في عدة أحاديث، كحديث أبي سعيد، وابن مسعود: ((قال: هل بينكم وبينه علامة؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساقه، فيسجدون له)) . وهذا بيِّن أنهم لم يعرفوه بالصفة التي وصف لهم في الدنيا، بل بآية وعلامة عرفوها في الموقف.
وكذلك في حديث جابر: ((قال: فيتجلى لنا يضحك)) ، ومعلوم أنه وإن
_________
(1) رواه البخاري في عدة مواضع من ((صحيحه)) ، وسيأتي، ومسلم: انظر (4/2174) رقم (2824) .(2/120)
وصف بالدنيا بالضحك فصورته لا تعرف بغير المعاينة.
الوجه السادس: أنه مثل ذلك بقوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} (1) ، وبقوله: {وَلَكِن شُبِّهَ لَهُم ْ} (2) ، وهذا غير مناسب؛ لأن اليهود غلطوا في الذي رأوه، حيث ظنوه المسيح، ولم يكن هو، ولكن ألقى شبهه عليه، وكذا الذي رأته مريم، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، هو جبريل نفسه في صورة آدمي، فكيف يقاس ما رئي هو نفسه في صورة على ما لم ير؟
وأما التقليل والتكثير في أعينهم فهو في المقدار، ليس في نفس المرئي، ولكن في صفته.
الوجه السابع: أن هذا المعنى كان مقيداً بالرائي، لا بالمرئي، مثل قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً ْ} (3) ، فقيد ذلك بأعين الرائين، يقال: كان هذا في عين فلان رجلاً، فظهر امرأة، وكان كبيراً، فظهر صغيراً، ونحو ذلك.
لا يقال: جاء فلان في صورة كذا، ثم تحول في صورة كذا، ويكون التصوير في عين الرائي فقط)) (4) .
قوله: ((فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن الضمير في قوله: ((فيكشف عن ساقه)) يعود إلى الله تعالى، ففي ذلك إثبات الساق صفة لله تعالى، ويكون هذا الحديث ونحوه تفسيراً لقوله تعالى: {يَوْمَ
_________
(1) الآية 44 من سورة الأنفال.
(2) الآية 157 من سورة النساء.
(3) الآية 44 من سورة الأنفال.
(4) ((نقض التأسيس)) (3/397 – 404) المخطوطة.(2/121)
يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ْ} (1) .
قال البخاري في ((التفسير)) من ((صحيحه)) : ((باب: ((يوم يكشف عن ساق)) :
حدثنا آدم، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد ابن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد – رضي الله عنه _ قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقاً واحداً)) وهذا حديث متفق على صحته، وفيه التصريح في أن الله تعالى يكشف عن ساقه، وعند ذلك يسجد له المؤمنون.
ومن تأوّله التأويلات المستكرهة، فقد استدرك على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يرض بما جاء به عن ربه تبارك وتعالى.
ومعلوم أن قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ْ} (2) ليس نصاً في أن الساق صفة لله – تعالى -؛ لأنه جاء نكرة غير معرف بالإضافة إلى الله – تعالى -، فيكون قابلاً كونه صفة، وكونه غير صفة، وتعينه لواحد من ذلك يتوقف على الدليل، وقد دل الدليل الصحيح على أنه صفة لله – تعالى – فلا يجوز تأويله بعد ذلك.
أما ما جاء عن ابن عباس وغيره أن ذلك: الشدة والكرب يوم القيامة، فهذا بالنظر إلى لفظ الآية؛ لأنها كما قلنا لم تدل على الصفة بلفظها، وإنما الدليل هو الحديث المذكور، مع أنه جاء عن أبي سعيد، راوي الحديث، وجاء عن غيره أيضاً، أنهم جعلوها دالة على الصفة.
قال شيخ الإسلام: ((وقد طالعت التفاسير المنقولة، عن الصحابة،
_________
(1) الآية 42 من سورة ن.
(2) الآية 42 من سورة ن.(2/122)
وما رووه من الحديث، ووقفت على أكثر من مِائَة تفسير، فلم أجد عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئاً من آيات الصفات، أو أحاديثها، بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف، إلا في مثل قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ْ} فروي عن ابن عباس، وطائفة، أن المراد به: الشدة، أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة، وعن أبي سعيد، وطائفة، أنهم عدوها في الصفات، للحديث الذي رواه أبو سعيد في ((الصحيحين)) .
ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات، فإنه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاق} نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله، ولم يقل عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة، لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر)) (1) .
وقال أيضاً: ((الصحابة قد تنازعوا في تفسير هذه الآية، هل المراد به: الكشف عن الشدة، أو المراد: أنه يكشف الرب عن ساقه؟
ولم يتنازع الصحابة والتابعون فيما يذكر من آيات الصفات، إلا في هذه الآية، بخلاف [قوله: {لِمَا خَلَقتُ بِيَدَى َّ {} وَيَبقَى وَجهُ رَبِكَ} ونحو ذلك، فإنه لم يتنازع فيها الصحابة والتابعون] ، وذلك أنه ليس في ظاهر القرآن أن ذلك صفة لله – تعالى – [يعني قوله – تعالى -: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاق} ؛ لأنه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاق} ، ولم يقل عن ساق الله، ولا قال: يكشف الرب عن ساقه، وإنما ذكر ساقاً نكرة غير معرفة، ولا مضافة.
وهذا اللفظ بمجرده، لا يدل على أنها ساق الله، والذين جعلوا ذلك من صفات الله – تعالى –أثبتوه بالحديث الصحيح، المفسر للقرآن، وهو
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (6/394 - 395) .(2/123)
حديث أبي سعيد الخدري، المخرج في ((الصحيحين)) الذي قال فيه: ((فيكشف الرب عن ساقه)) .
وقد يقال: إن ظاهر القرآن يدل على ذلك، من جهة أنه أخبر أن يكشف عن ساق، ويدعون إلى السجود، والسجود لا يصلح إلا لله، فعلم أنه هو الكاشف عن ساقه، وأيضاً فحمل ذلك على الشدة، لا يصلح، لأن المستعمل في الشدة أن يقال: كشف الله الشدة – أي: أزالها – كما قال: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} (1) وقال: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (2) .
وإذا كان المعروف من ذلك في اللغة أنه يقال: كشف الشدة – أي: أزالها – فلفظ الآية: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاق} وهذا يراد به الإظهار والإبانة، وأيضاً هناك تحدث الشدة، لا إزالتها، فلا تكشف الشدة يوم القيامة.
لكن هذا الظاهر [من كون القرآن دالاً على الصفة] ليس ظاهراً من مجرد لفظة ((ساق)) بل بالتركيب، والسياق، وتدبر المعنى المقصود)) (3) .
وبهذا يتبين بطلان قول من يقول: المراد بالساق: الأمر الشديد المهول، أو أنه مَلَكٌ يجعله الله علامة يعرفونها، ونحو ذلك من التأويلات الباردة السخيفة التي يجب أن ينزه عنها كلام العقلاء، فضلاً عن كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
وكل من جرّد نفسه لله، وطرح عنه التعصب، والتقليد، فإنه يعلم بطلان هذه التأويلات، وسخافتها.
قوله -: ((فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة، فيذهب
_________
(1) الآية 50 من سورة الزخرف.
(2) الآية 75 من سورة المؤمنون.
(3) ((نقض التأسيس)) (3/15-16) .(2/124)
كيما يسجد، فيعود ظهره طبقاً واحداً)) ، وهذا مما يدل على أن الساق صفة لله – تعالى – حيث عرفه المؤمنون بذلك فسجدوا له، ومعلوم أن الشدائد في ذلك اليوم متوالية، من النفخ في الصور، وجمع الناس في صعيد واحد من أولهم إلى آخرهم، فيطول وقوفهم، شاخصة أبصارهم، حفاة، عراة، غرلاً، جياعاً عِطاشاً، ثم يؤتى إليهم بجهنم، تُجر بسبعين ألف زمام، في كل زمام سبعون ألف ملك، ثم تتوالى الأهوال من نصب الموازين، والصراط، والعبور على النار، حتى ينجو المؤمنون إلى الجنة، وأما من عداهم فلا يخرجون من شدة إلا إلى ما هو أشد منها، وكل هذه الأمور وغيرها لم توجب للمؤمنين السجود.
فلما مثل لكل قوم ما يعبدون، وأمروا باتباع معبوداتهم إلى النار، وبقي المؤمنون ينتظرون معبودهم، حتى إذا جاءهم في صورة لا يعرفونه بها، وقال: أنا ربكم، فيتعوذون بالله منه، خوفاً أن يكون غير ربهم؛ لأنهم لم يكونوا يشركون به شيئاً ثم يقول لهم: هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، الساق، عند ذلك يكشف عن ساقه - جل وعلا -، فيخرُّون له سُجَّداً.
وأما المنافقون الذين يراءون الناس بعبادتهم، فمنعوا من السجود، وجعلت ظهورهم طبقاً واحداً، لا يستطيعون الانحناء، ولا السجود؛ لأنهم ما كانوا في الحقيقة يسجدون لله في الدنيا، وإنما كانوا يسجدون لأغراضهم الدنيوية.
قوله: ((ثم يؤتى بالجسر، فيجعل بين ظهري جهنم، قلنا: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: مدحضة، مزلة)) المدحضة: الذي لا تستمسك فيه الأقدام، ومزلة: صفة لمدحضة، يعني: أن القدم إذا وطئ عليه لا يثبت، بل يزل، والدحض: هو الموضع الذي فيه طين وأصابه الماء، فأصبح يدحض من وطئ عليه، أي: يزله، ولا يثبت عليه قدم.
قوله: ((عليه خطاطيف)) هو الحديدة المعقوفة، المحددة؛ لأجل أن تمسك(2/125)
من أريد خطفه بها، فهي قريبة من الكلوب، وتقدم شرحها وتفسير السعدان.
قوله: ((المؤمن عليها كالطرف، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل، والركاب)) يعني: مرورهم على النار يختلف باختلاف إيمانهم، فمن كان إيمانه كاملاً، وعمله صالحاً خالصاً لله، فإنه يمر من فوق جهنم كلمح البصر، ومن كان دون ذلك يكون مروره بحسب إيمانه وعمله، كما فصل ذلك في الحديث، ومثل بالبرق، والريح، إلى آخره.
قوله: ((فناج مسلم، وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنم، حتى يمر آخرهم يسحب سحباً)) جعل المارين على الصراط أربعة أصناف:
الأول: الناجي المسلم من الأذى، وهؤلاء يتفاوتون في سرعة المرور عليه كما سبق.
والثاني: الناجي المخدوش، والخدش هو الجرح الخفيف، يعني: أنه أصابه من لفح جهنم، أو أصابته الكلاليب والخطاطيف التي على الصراط بخدوش.
والثالث: المكدوس في النار، الملقى فيها بقوة، قال ابن الأثير: ((كأن الإنسان تجمع يداه، ورجلاه، ويشد، ويلقى في النار، وهو بمعنى المكردس، وجاء في بعض نسخ مسلم ((مكدوش)) (1) .
والرابع: الذي يسحب على الصراط سحباً قد عجزت أعماله عن حمله.
قوله: ((فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبين لكم، من المؤمن يومئذ للجبار)) هذا من كرم الله، ورحمته، حيث أذن لعباده المؤمنين في مناشدته وطلب عفوه عن إخوانهم الذين ألقوا في النار، بسبب جرائمهم التي كانوا
_________
(1) ((جامع الأصول)) (11/314) مطبعة أنصار السنة.(2/126)
يبارزون بها ربهم، ومع ذلك ألهم المؤمنين الذين نجوا من عذاب النار وهول الصراط، ألهمهم مناشدته، والشفاعة فيهم، وأذن لهم في ذلك؛ رحمة منه لهم – تبارك وتعالى -.
((يقولون: ربنا إخواننا الذين كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا)) مفهوم هذا أن الذين لا يصلون مع المسلمين، ولا يصومون معهم، لا يشفعون فيهم، ولا يناشدون ربهم فيهم.
وهو يدل على أن هؤلاء الذين وقعت مناشدة المؤمنين لربهم فيهم كانوا مؤمنين، موحدين؛ لقولهم: ((إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ولكن ارتكبوا بعض المآثم، التي أوجبت لهم دخول النار.
وفي هذا رد على طائفتين، ضالتين، الخوارج، والمعتزلة، في قولهم: إن من دخل النار، لا يخرج منها، وإن صاحب الكبيرة في النار.
((فيقول الله تعالى: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار، فيأتونهم، وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا، قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني، فاقرؤوا: {إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} (1) أما كون المؤمنين يذهبون ِإلى النار، وكيف يستطيعون الوصول إليها؟ وكيف يعرفون من في قلبه مثقال دينار، أو نصف دينار، أو مثقال ذرة من إيمان؟ هذه كلها من أمور الآخرة، التي لا تقاس بما تعارف
_________
(1) الآية 40 من سورة النساء.(2/127)
عليه الناس في الدنيا، ولا يستطيع عقل البشر الحكم عليها، وإنما تعرف حقائقها يوم القيامة، فهناك يأتي تأويلها، وإنما يجب علينا تصديقها، والتيقن منها.
وليس بمستنكر في قدرة الله – تعالى – أن يجعل النار غير مؤذية لهؤلاء المؤمنين الذاهبين إلى إخوانهم في النار، كالملائكة الذين فيها.
والمقصود بالصور في قوله: ((ويحرم صورهم على النار)) وجوههم، وقد تقدم أن الله يحرم على النار مواضع السجود، وذلك من آيات الله وعظيم قدرته.
واستشهاد أبي سعيد بالآية ظاهر في أن العبد إذا كان معه مثقال ذرة من إيمان، فإن الله يضاعفه له، فينجيه بسببه.
قوله: ((فيشفع النبيون، والملائكة، والمؤمنون)) صريح في أن هؤلاء الأقسام الثلاثة يشفعون، ولكن يجب أن يعلم أن شفاعة أي شافع، لا تقع إلا بعد أن يأذن الله فيها، كما تقدم في مناشدتهم ربهم وسؤالهم إياه، ثم يأذن لهم فيقول: اذهبوا فمن وجدتم، إلى آخره.
قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (1) .
ولا تقع أيضا إلا لمن يرضى الله – تعالى – عنه، وهو تعالى لا يرضى إلا عن أهل التوحيد والإخلاص، أما المشركون، ومنهم عباد الأولياء والقبور فحرام عليهم الشفاعة، كحرمة الجنة عليهم، كما هو معلوم من نصوص الشرع.
قوله: ((فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار، فيخرج
_________
(1) الآية 255 من سورة البقرة.(2/128)
أقواماً قد امتحشوا)) الله تعالى هو مالك الشفاعة، والأمر له في كل شيء، والملائكة، والرسل، والمؤمنون، يطلبون منه أن يشفعهم في من دخل النار من المؤمنين بأن يخرجهم، وهو – تعالى – الذي يُلقي هذا الطلب في نفوسهم كما سبق، والمراد بشفاعته – تعالى – رحمته لهؤلاء المعذبين، فيخرجهم من النار.
قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ {43} قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون} (1) .
وقال تعالى {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} (2) .
والعهد: هو شهادة ألاَّ إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، صادقاً مخلصاً، وعمل بما دلت عليه هذه الشهادة.
وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} (3) .
ففي هذه الآيات – ونحوه كثير – البيان الواضح في أن الشفاعة لله وحده، وأنها لا يمكن أن تقع من أحد عند الله إلا بعد أن يأذن لمن يشفع، ويرضى عن المشفوع له، وحقيقة الشفاعة أن الله يكرم الشافع بإذنه له في ذلك، ويرحم المشفوع فيه.
_________
(1) الآيتان 43 – 44 من سورة الزمر.
(2) الآية 87 من سورة مريم.
(3) الآية 4 من سورة السجدة.(2/129)
قوله: ((فيقبض قبضة)) فيه إثبات القبض لله تعالى، ومِنْ لازِمِهِ إثبات اليد التي يقبض بها، وكم في كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من نص يثبت ذلك، ولكن أهل التأويل الفاسد المحرِّفين يأبون قبول ذلك، والإيمان به، وسوف يعلمون أن الحق ما قاله الله وقاله رسوله، وأنهم قد ضلوا السبيل في هذا الباب.
قوله: ((قد امتحشوا)) يعني: احترقوا، وفي رواية مسلم: ((قد عادوا حمماً)) أي: صاروا حمماً، والحمم - بضم الحاء وفتح الميم الأولى المخففة - هو الفحم.
والامتحاش: احتراق الجلد، وظهور العظم، وليس المقصود هنا أن عظامهم ظهرت، وإنما المقصود احتراقهم ظاهراً.
وبهذا استدل على أن من يدخل النار من الموحدين يموتون فيها؛ لأنهم احترقوا، وصاروا حمماً، وفي ((صحيح مسلم)) من حديث أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها، ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال بخطاياهم - فأماتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحماً، أذن في الشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر، فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة، أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة في حميل السيل)) (1) .
قال ابن رجب: ((وظاهر الحديث يدل على أن هؤلاء يموتون حقيقة، وتفارق أرواحهم أجسادهم، ويدل على ذلك: ما أخرجه البزار، من حديث عبد الله بن رجاء، حدثنا سعيد بن مسلمة، أخبرني موسى بن جبير، عن أبي أمامة بن سهل، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أدنى أهل
_________
(1) ((صحيح مسلم)) (3/37) مع شرح النووي.(2/130)
الجنة حظاً – أو نصيباً – قوم يخرجهم الله من النار، فيرتاح لهم الرب – تعالى – أنهم كانوا لا يشركون بالله شيئاً، فينبذون بالعراء، فينبتون كما تنبت البقلة، حتى إذا دخلت الأرواح إلى أجسادها، قالوا: ربنا كما أخرجتنا من النار، وأرجعت الأرواح إلى أجسادها، فاصرف وجوهنا عن النار، فيصرف وجوههم عن النار)) (1) .
قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لكن ناس أصابتهم النار)) إلى آخره، معناه: أن المذنبين من المؤمنين يميتهم الله – تعالى – إماتة بعد أن يعذبوا المدة التي أرادها الله – تعالى -، وهذه الإمامة، إماتة حقيقية، يذهب معها الإحساس، ويكون عذابهم على قدر ذنوبهم، ثم يميتهم، ثم يكونون فحماً، فيُحملون ضبائر، كما تحمل الأمتعة، ويلقون على أنهار الجنة، فيصب عليهم ماء الحياة، فيحيون، وينبتون نبات الحبة في حميل السيل، في سرعة نباتها، وضعفها، فتخرج لضعفها صفراء، ملتوية، ثم تشتد قوتهم، ويصيرون إلى منازلهم، وتكمل أحوالهم، هذا هو ظاهر الحديث.
وحكى القاضي عياض فيه وجهين، أحدهما: أنها إماتة حقيقية، والثاني ليس بموت حقيقي، ولكن يغيب عنهم إحساسهم بالألم، والمختار ما قدمناه)) (2) .
قوله: ((فينبتون في حافتيه، كما تنبت الحبة في حميل السيل)) المقصود: نبات لحومهم وأبصارهم وعظامهم التي احترقت في النار، ولا يلزم عند من يقول إنهم لا يموتون موتاً حقيقياً أنهم ماتوا في النار بحيث تفارق أرواحهم أجسامهم، والله أعلم.
_________
(1) ((التخويف من النار)) (ص152) .
(2) ((شرح النووي على مسلم)) (3/38) .(2/131)
و ((الحبة)) بكسر الحاء، قال الحافظ: ((هي بزور الصحراء، وجمعها: حبب، بكسر الحاء، وأما الحبة بفتح الحاء – وهو ما يزرعه الناس – فجمعها حبوب)) (1) (2)
((في حميل السيل، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة، وإلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان إلى الظل كان أبيض)) يعني بذلك: سرعة خروج لحومهم؛ لأن النبت في حميل السيل – كما ذكر – يخرج بسرعة، ولهذا يكون من جانب الظل أبيض، ومن جانب الشمس أخضر، وذلك لضعفه ورقته، ولا يلزم أن يكون نبتهم كذلك – كما قاله بعضهم: بأن الذي من جانب الجنة يكون أبيض، والذي من جانب النار يكون أخضر – بل المراد تشبيههم بالنبت المذكور في سرعة خروجه، ورقته، ولذلك قال: ((فيخرجون كأنهم اللؤلؤ)) يعني: في صفاء بشرتهم، وحسنها.
قوله: ((فيجعل في رقابهم الخواتيم)) خواتيم: جمع خاتم، وهذه الخواتيم يكتب فيها ((عتقاء الرحمن من النار)) كما ذكر في الرواية الأخرى.
قوله: ((فيدخلون الجنة، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة، بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه)) يعني أنهم لم يعملوا صالحاً في الدنيا، وإنما معهم أصل الإيمان، الذي هو شهادة أن لا إله إلا الله والإيمان برسولهم. قال الكرماني: ((ليس معهم إلا مجرد الإيمان، دون أمر زائد عليه، من الأعمال والخيرات، وعلم منه أن شفاعة الملائكة، والنبيين، والمؤمنين، فيمن كان له طاعة غير الإيمان الذي لا يطلع عليه إلا الله)) (3) ، وتقدم في الحديث
_________
(1) ((شرح النووي على مسلم)) (3/38) .
(2) انظر ((الفتح)) (11/458) .
(2) ((شرح الكرماني)) (25/150) .
(3)(2/132)
أنهم يخرجون من كان في قلبه مثقال دينار من الإيمان، ومن كان في قلبه مثقال نصف دينار، ومن كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، والله أعلم.
قوله: فيقال لهم: ((لكم ما رأيتم، ومثله معه)) يظهر أنهم يدخلون أماكن من الجنة خالية، ولهذا قيل لهم ذلك.
ومحل الشاهد من الحديث قوله: ((فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته، التي رأوه فيه أول مرة)) ، وقوله: ((فيكشف عن ساق، فيسجد له كل مؤمن)) مع قوله: ((فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ، إلا كما تضارون في رؤيتهما)) جواباً لسؤالهم: ((هل نرى ربنا يوم القيامة)) وهي كما ترى أدلة واضحة صريحة، وهذا من أوضح الأدلة على أن عموم أهل الموقف من الرجال، والنساء، والمنافقين، يرونه، فإن الناس يعمهم، والحشر مشترك بينهم.
فقد ظهر مراد النبي – صلى الله عليه وسلم – لكل عاقل عارف باللغة بقوله: ((إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر ليس دونهما سحاب)) أن مراده رؤيتهم إياه بأبصارهم، لا يستريب في ذلك من عرف دلالة الألفاظ على المعاني، وليس في الممكن عبارة أوضح من هذا.
*******
67 – وقال حجاج بن منهال: حدثنا همام بن يحيى، حدثنا قتادة، عن أنس – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((يحبس المؤمنون يوم القيامة، حتى يهموا بذلك.
فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيريحنا من مكاننا، فيأتون آدم.
فيقولون: أنت آدم أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، لتشفع لنا عند ربك، حتى يريحنا من مكاننا هذا.(2/133)
قال: فيقول: لست هناكم، قال: ويذكر خطيئته التي أصاب، أكله من الشجرة وقد نهي عنها، ولكن ائتوا نوحاً، أول نبي بعثه الله – تعالى – إلى أهل الأرض، فيأتون نوحاً، أول نبي بعثه الله – تعالى – إلى أهل الأرض، فيأتون نوحاً، فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، سؤاله ربه بغير علم.
ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن، قال: فيأتون إبراهيم، فيقول: إني لست هناكم، ويذكر ثلاث كذبات كذبهن، ولكن
ائتوا موسى، عبداً آتاه الله التوراة، وكلمه وقربه نجياً.
قال: فيأتون موسى، فيقول: إني لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، قتله النفس، ولكن ائتوا عيسى، عبد الله ورسوله، وروح الله وكلمته.
قال: فيأتون عيسى، فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمداً – صلى الله عليه وسلم – عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، فيأتوني، فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، فيقول: ارفع محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعط.
قال: فأرفع رأسي، فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، فيحد لي حداً، فأخرج، فأدخلهم الجنة – قال قتادة: وسمعته أيضا يقول: ((فأخرج فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة – ثم أعود فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفع محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه.
قال: فأرفع رأسي، فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، قال: ثم أشفع، فيحد لي حداً، فأخرج، فأدخلهم الجنة – قال قتادة: وسمعته يقول: فأخرج، فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة – ثم أعود الثالثة، فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفع محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه.(2/134)
قال: فأرفع رأسي، فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه.
قال: ثم أشفع فيحد لي حداً، فأخرج، فأدخلهم الجنة – قال قتادة: وقد سمعته يقول: فأخرج، فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة – حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن – أي: وجب عليه الخلود -، ثم تلا الآية: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُكَ مَقَامَا مَّحمُودَا} .
قال: وهذا المقام المحمود، الذي وعده نبيكم - صلى الله عليه وسلم –)) .
هذا حديث الشفاعة المشهور، وقد تقدم في باب قوله تعالى: {لِمَا خَلَقتُ بِيَدَىَّ} .
وقد جاء من رواية عدد من الصحابة، ((وأول حديث أبي هريرة: ((أنا سيد الناس يوم القيامة، يجمع الله الناس، الأولين والآخرين، في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون، ولا يحتملون))
وزاد في رواية إسحاق بن راهويه: ((فتدنو الشمس من رؤوسهم، فيشتد(2/135)
عليهم حرُّها، ويشق عليهم دنُّوُّها، فينطلقون من الضجر والجوع مما هم فيه)) .
وأول حديث أبي بكر: ((عُرض عليَّ ما هو كائن من أمر الدنيا والآخرة، يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيفظع الناس لذلك، والعرق كاد يلجمهم)) .
وفي حديث عبادة بن الصامت: ((إني لسيد الناس يوم القيامة – بغير فخر -، وما من الناس إلا من هو تحت لوائي، ينتظر الفرج، وإن معي لواء الحمد)) (1)
وبهذا يتبين أن قوله في رواية أنس: ((يحبس المؤمنون يوم القيامة)) أن قبله كلاماً محذوفاً، وأن المقصود الخلق عامة، ولهذا جاءت أكثر الروايات بالتعبير ((بالناس)) .
وفي هذه الرواية – زائداً على ما تقدم -، ذكر الذنوب التي يعتذر بها الأنبياء، وتقدم أن هذا من الأدلة على وقع الذنوب في الجملة من الأنبياء، وتقدم الكلام في هذه المسألة.
ومن ذلك قوله: ((فاستأذن على ربي في داره)) ، وتكرر ذلك ثلاثا، قيل: المراد الجنة، والظاهر أن المراد مكان معين، كما في حديث الشفاعة الطويل ((فآتي تحت العرش)) ، وفي حديث الصور: ((فآتي مكاناً تحت العرش، يقال له: الفحص)) ، فيكون المعنى: المكان الذي تحت عرشه.
وما ذكره الحافظ، نقلاً عن الخطابي، أن قوله: ((فأستأذن على ربي في داره)) يوهم المكان، والله منزه عن ذلك، وإنما معناه في داره التي اتخذها لأوليائه، وهي الجنة، أضيفت إليه إضافة تشريف، مثل بيت الله وحرم
_________
(1) انظر ((الفتح)) (11/432) .(2/136)
الله)) (1) .
فيقال له: ماذا تقصد بالمكان؟ إن كنت تريد مكاناً يحويه ويحيط به، فالله - تعالى - منزه عن ذلك.
وإن كنت تريد أنه ليس فوق عرشه، عال على خلقه، كما هو مذهب أهل الباطل من أشعرية، ومعتزلة، وغيرهم، فقد أثبت الله - تعالى - ذلك لنفسه وأثبتته له رسله، واتفقت عليه كتبه، وأجمعت عليه أتباع الرسل، وفطر الله - تعالى - عليه خلقه، فإنكار ذلك عناد، ومكابرة للعقول السليمة من الانحراف، ومخالفة للشرع، وقد تقدم من الأدلة على ذلك ما يكفي بعضه لمن يريد الحق.
ومما لم يتقدم في الرواية السابقة قوله: ((فأخرج)) فأخرجهم من النار)) يعني: يخرج من المكان الذي استأذن في الدخول فيه.
وفيه ألفاظ أُخر تختلف عما سبق، ولكن المعنى متقارب.
والمقصود منه هنا قوله: ((فأستأذن على ربي في داره، فإذا رأيته وقعت ساجداً)) كرر ذلك ثلاث مرات، وهو صريح في أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرى ربه عياناً في ذلك المكان، فيسجد له، وإذا رآه جاز أن يراه غيره.
وأما تلاوة الآية إلى آخر قول أنس، فهو تفسير للمقام المحمود، وسيأتي.
وفي هذا الحديث إشكال ظاهر، حتى قال الداودي: ((أول هذا الحديث ليس متصلاً بآخره، بل بقي بين طلبهم الشفاعة، وبين قوله: ((فأستشفع)) ، أمور كثيرة من أمور القيامة)) (2) ، وقال: ((وكأن راوي الحديث ركّب شيئاً على غير أصله، وذلك أن أول الحديث في ذكر الشفاعة، في الإراحة من كرب الموقف، وآخره في الشفاعة لإخراج بعض العصاة من النار، وهذا إنما يكون
_________
(1) ((الفتح)) (13/429) .
(2) ذكره الحافظ في ((الفتح)) (13/426) .(2/137)
بعد انتهاء الوقوف، والقضاء بين الخلق، وذهاب أهل الجنة إليها، وأهل النار إليها)) ، قال الحافظ: ((وهذا إشكال قوي)) (1)
ثم ذكر جوابه، عن القاضي عياض، قال: وتبعه عليه النووي.
وحاصله: أن الحديث فيه اختصار، وحذف، وذكر بعض الروايات التي تبين ذلك.
منها ما في حديث أُبي بن كعب، عند أبي يعلى: ((ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني، ثم يؤذن لي في الكلام، ثم تمر أمتي على الصراط، وهو منصوب بين ظهراني جهنم، فيمرون)) .
ومنها ما في رواية ابن عباس عند الإمام أحمد: ((فيقول - عز وجل - يا محمد، ما تريد أن أصنع في أمتك؟ فأقول: يا رب، عجِّل حسابهم)) .
وذكر جواب القرطبي، ((بأن قوله في حديث أبي هريرة: ((أدْخل من أمتك من الباب الأيمن من أبواب الجنة من لا حساب عليه ولا عذاب)) فهذا يدل على الشفاعة في تعجيل الحساب)) (2)
وذكر غير ذلك مما هو مخالف لظواهر الأحاديث، فلا يعول عليه.
وقال ابن أبي العز: ((والعجب كل العجب من إيراد الأئمة لهذا الحديث من أكثر طرقه، ولا يذكرون أمر الشفاعة الأولى، في إتيان الرب - تعالى - لفصل القضاء، مع أنه المقصود من سياق الحديث.
فإن الناس يطلبون الشفاعة ليقضى بينهم، فيستريحوا من عناء الموقف.
وقد جاء التصريح بذلك في حديث الصور المشهور، فإن فيه:
_________
(1) ((الفتح)) (11/ 437 - 438) ببعض التصرف.
(2) ((الفتح)) (11/438) .(2/138)
((فأذهب فأسجد تحت العرش، في مكان يقال له: الفحص، فيقول الله: ما شأنك؟ - وهو أعلم - فأقول: يا رب، وعدتني الشفاعة، فشفعني في خلقك، فاقض بينهم، فيقول سبحانه: شفعتك، أنا آتيكم فأقضي بينهم، قال: فأرجع فأقف مع الناس)) ، ثم ذكر ((انشقاق السماوات، وتنزل الملائكة، ثم يجيء الرب - تعالى - لفصل القضاء)) إلى آخره. وكأن السلف اقتصروا على هذا القدر من الحديث، للرد على الخوارج، ومن تابعهم من المعتزلة، الذين أنكروا خروج أحد من النار، بعد دخولها، فذكروا القدر الذي فيه التصريح بذلك)) (1) .
وبذلك يزول الإشكال، فإن حديث الصور مشهور، وإن كان سنده ضعيفاً، ولكن له شواهد كثيرة صحيحة، فيصلح أن يكون جواباً لهذا الإشكال، والله أعلم.
وأما قوله تعالى: ((عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً)) فقال ابن جرير: ((يقول تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم: أقم الصلاة المفروضة، في أوقاتها التي أمرتك بإقامتها فيها، ومن الليل فتجهد فرضاً فرضته عليك، لعل ربك أن يبعثك يوم القيامة مقاماً تقوم فيه محموداً، تحمده وتغبط فيه.
قال أكثر أهل العلم: إنه الشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه، من شدة ذلك اليوم ... ثم ذكر الآثار في ذلك.
وذكر بسنده، عن مجاهد: أن المقام المحمود: أن يجلسه معه على عرشه.
ثم قال: الصواب: ما صح به الخبر، أنه الشفاعة ... وذكر بعض أحاديث الشفاعة، ثم قال: ((وما قاله مجاهد، غير مدفوع صحته سنداً، ولا نظراً،
_________
(1) ((شرح الطحاوية)) (ص193) .(2/139)
إذ لا خبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن صحابته، ولا التابعين بإحالة ذلك)) (1) .
قال الحافظ: ((الجمهور على أن المراد بالمقام المحمود: الشفاعة، وبالغ الواحدي ونقل فيه الإجماع.
ثم قال: والراجح أن المراد به الشفاعة، لكن الشفاعة التي وردت في الأحاديث المذكورة في المقام المحمود نوعان:
الأول: العامة في فصل القضاء.
والثاني: الشفاعة في إخراج المذنبين من النار)) (2) .
*****
68 - قال: حدثنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، حدثني عمي، حدثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: حدثني أنس بن مالك - رضي الله عنه - ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى الأنصار، فجمعهم في قبة، وقال لهم: اصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإني على الحوض)) .
ذكر البخاري - رحمه الله - هذا الحديث من رواية أنس رضي الله عنه - في سبعة مواضع غير هذا الموضع، منها في غزوة الطائف، ولفظه: ((قال ناس من الأنصار - حين أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما أفاء، من أموال هوازن، فطفق النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي رجالاً المائة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يعطي قريشاً ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم.
قال أنس: فحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار، فجمعهم في قبة من أدم، ولم يدع معهم غيرهم.
_________
(1) ((تفسير الطبري)) (15/143 - 147) ملخصاً.
(2) ((الفتح)) (11/426 - 427) ملخصاً.(2/140)
فلما اجتمعوا قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ما حديث بلغني عنكم؟)) .
فقال فقهاء الأنصار: أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئاً، وأما أناس منا، حديثة أسنانهم، فقالوا: يغفر الله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي قريشا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر، أتألفهم، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وتذهبون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى رحالكم؟ فو الله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به)) قالوا: يا رسول الله قد رضينا، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ستجدون أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإني على الحوض)) (1) .
وله ألفاظ وروايات متعددة، من رواية أنس وغيره.
والأثرة: اختصاص غيرهم واستبدادهم بما يستحقونه هم، والمعنى: أن الناس يختصون بالدنيا، ويستأثرون بها، دون الأنصار، مع استحقاق الأنصار لها وهم الذين اجتمعوا على نصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآووه إلى بلادهم، وعاقدوه على أن ينصروه، ويمنعوه مما يمنعون أنفسهم وأولادهم منه، فلنصرهم لله ورسوله سموا الأنصار، وهو أشرف أسمائهم وقد وقع لهم ما أخبرهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك تقدير الحكيم العليم، حيث استأثر الناس عليهم بالدنيا، مع أنهم الذين كانوا يؤثرون على أنفسهم، وهذا من فضل الله عليهم، حتى يجازيهم على أعمالهم الدرجات العالية في جنات عدن، فتظهر هناك فضيلتهم، ويغبطهم الناس الذين استأثروا عليهم بالدنيا أعظم غبطة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
قوله: ((جمعهم في قبة من أدم)) القبة: كل ما كان مقبباً، وفي الأصل
_________
(1) انظر ((الفتح) (8/52) .(2/141)
أن يكون عالي الوسط متداني الأطراف، والأدم: الجلود.
وتقدم تفسير الصبر.
وقوله: ((حتى تلقوا الله ورسوله)) هذا هو محل الشاهد من الحديث؛ لأن اللقاء يتضمن الرؤية والمعاينة كما قال أهل اللغة.
قال الأزهري: ((كل شيء استقبل شيئاً، أو صادفه، فقد لقيه، من الأشياء كلها)) (1)
وقال ابن فارس: ((اللقاء: الملاقاة، وتوافي الاثنين متقابلين، ولقيته لقيا، ولقيانا، واللقية: فعلة من اللقاء والجمع: لقى، قال:
وإني لأهوى النوم من غير نعسة لعل لقياكم في المنام تكون)) (2) .
وقال الراغب: ((اللقاء: مقابلة الشيء ومصادفته معاً، وقد يعبر به على كل واحد منهما، يقال: لقيه يلقاه لقاء، ولقياً، ولقية.
ويقال ذلك: في الإدراك بالحس، وبالبصر، وبالبصيرة، قال تعالى: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} (3) .
وقال تعالى: {لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} (4) .
وملاقاة الله عبارة عن القيامة، وعن المصير إليه، قال تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ} (5) ، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللهِ} (6) .
_________
(1) ((تهذيب اللغة)) (9/299) .
(2) ((مقاييس اللغة)) (5/261) .
(3) الآية 143 من سورة آل عمران.
(4) الآية 62 من سورة الكهف.
(5) الآية 223 من سورة البقرة.
(6) الآية 249 من سورة البقرة.(2/142)
واللقاء: الملاقاة، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} (1) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيه} ِ (2) ، وقال: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا (3) } ) ، أي: نسيتم القيامة، والبعث والنشور)) (4) . وقد ذكر لقاء الله في القرآن في أكثر من عشرين موضعاً، كقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} (5) كقوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} (6) وقوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللهِ} (7) ، وقوله تعال: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} (8) ، وقوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِين} (9) ، وقوله تعالى: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ (10) } ) ، وقوله تعالى: {يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (11) ، وقوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (12) ،
وقوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ
_________
(1) الآية 15 من سورة يونس.
(2) الآية 6 من سورة الانشقاق.
(3) الآية 14 من سورة السجدة.
(4) ((المفردات)) (ص453) .
(5) الآية 44 من سورة الأحزاب.
(6) الآية 77 من سورة التوبة
(7) الآية 31 من سورة الأنعام.
(8) الآية 154 من سورة الأنعام.
(9) الآية 45 من سورة يونس.
(10) الآية 5 من سورة العنكبوت.
(11) الآية 2 من سورة الرعد.
(12) الآية الأخيرة من سورة الكهف..(2/143)
النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ َ} (1) ، وقوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} (2) ، وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} َ (3) ، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي َ} (4) .
فمن قرأ هذه الآيات ونحوها مما لم نذكر، مؤمناً بها، علم يقيناً أن مضمونها إخبار الله تعالى بأن العبد سيلقى ربه، لقاء يتضمن المحاسبة والكلام والمقابلة والمعاينة، والجزاء بالعمل الذي كان العبد يعمله في الدنيا.
ولم يزل أهل السُّنَّة من السلف، وأتباعهم، يستدلون بمثل هذه الآيات على رؤية الله تعالى.
وسيأتي حديث عدي بن حاتم، وفيه: ((واعلموا أن كل واحد منكم سيلقى ربه، ليس بينه وبينه ترجمان)) .
فمن أنكر ذلك فقد خالف كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وسلك غير سبيل المؤمنين.
والله تعالى - جعل التكذيب بلقائه كفراً، لا ينفع معه عمل كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (} َ (5) .
قال ابن بطة: ((سمعت أبا عمر الزاهد اللغوي يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى يقول في قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا {43} تَحِيَّتُهُمْ
_________
(1) الآية 8 من سورة الروم.
(2) الآية 54 من سورة فصلت.
(3) الآية 105 من سورة الكهف.
(4) الآية 23 من سورة العنكبوت.
(5) (الآية 23 من سورة العنكبوت.(2/144)
يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ َ} (1) : أجمع أهل اللغة أن اللقاء ها هنا لا يكون إلا معاينة ونظرة بالأبصار)) (2) .
وقال شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى: ((اللقاء فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن رؤيته - سبحانه وتعالى - واحتجوا بآيات اللقاء على من أنكر رؤية الله في الآخرة، من الجهمية، والمعتزلة وغيرهم.
وجعلوا اللقاء يتضمن معنيين، أحدهما: السير إلى الملك.
والثاني: معاينته، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهَِ} (3) .
فذكر أنه يكدح إلى الله، فيلاقيه، والكدح يتضمن السلوك والسير إليه، واللقاء يعقبها.
وأما المعاينة من غير سير إلى المعاين - كمعاينة الشمس، والقمر - فلا يسمى لقاء.
وقول الذين يجعلون المراد من اللقاء، هو الجزاء، دون لقاء الله، معلوم الفساد بالاضطرار، بعد تدبر الكتاب والسُّنَّة.
ويظهر فساده من وجوه:
أحدها: أنه خلاف التفاسير المأثورة عن الصحابة والتابعين.
الثاني: أن حذف المضاف إليه لا بد أن يقارنه قرائن تبين ذلك، كما في
_________
(1) الآيتان 43 - 44 من سورة الأحزاب.
(2) انظر ((مجموع الفتاوي)) (6/488) .
(3) الآية 6 من سورة الانشقاق.(2/145)
قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} (1) ولو قال قائل: رأيت زيداً أو لقيته، وأراد بذلك أنه رأى غلامه، أو أباه، أو لقيهما، لم يجز ذلك في لغة العرب بلا نزاع.
ولقاء الله - تعالى - قد ذكر في كتاب الله وسنة رسوله في مواضع كثيرة مطلقاً غير مقترن بما يدل على أنه أريد بلقاء الله بعض مخلوقاته من ثواب وغيره.
الثالث: أن اللفظ إذا تكرر ذكره في الكتاب، ودار مرة بعد مرة على وجه واحد، وكان المراد به غير مفهومه ومقتضاه عند الإطلاق، ولم يبين ذلك، كان تدليساً وتلبيساً يجب أن يصان كلام الله عنه، الذي أخبر أنه شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، وأنه بيان للناس.
وقد علم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلغ البلاغ المبين، وأنه بين للناس ما نزل إليهم.
وأما قول أهل البدع: إن القرينة الدالة على أن لقاء الله غير مراد من هذه النصوص: هو ما في العقل من امتناع ذلك وإحالته.
فهو مردود من وجهين:
أحدهما: أنه ليس في العقل ما يمنع ذلك، بل البراهين العقلية تتفق مع القرآن، كما قال الله - تعالى -: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} (2) .
وما يدعيه نفاة لقاء الله ورؤيته من الحجج العقلية التي تخالف ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله، ليست حججاً، وإنما هي شبهات فاسدة، عند من له خبرة جيدة بالمعقولات، وإنما تنطلي على المقلدين.
_________
(1) الآية 82 من سورة يوسف.
(2) (الآية 6 من سورة سبأ.(2/146)
الثاني: أنه لو فرض أن هناك دليلاً عقلياً ينافي مدلول القرآن لكان خفياً، له مقدمات طويلة، متنازع فيها، ليس فيها واحدة متفق عليها، والواقع أنها شبهات فاسدة، أورثها صدودهم عن كتاب الله.
ومن الضروري أن الذي أخبر أنه بيان للناس، وأن كلامه هدى ورحمة، وشفاء، وبلاغ مبين، إذا أراد بكلامه الموصوف بما ذكر ما يقوله هؤلاء المتكلمون، فإنه بعكس تلك الأوصاف، فيكون فيه الضلال، واللبس؛ لأنه لا يدل على قولهم.
واتفاق المسلمين على وجوب تنزيه كلام الله ورسوله من ذلك أمر ضروري.
الوجه الرابع: أنه سيأتي في حديث ابن عباس، قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((أنت الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق)) . ففرق بين لقائه، وبين الجنة والنار.
ومعلوم أن الجنة والنار، تتضمن جزاء المطيعين، والعصاة، فعلم أن لقاء الله غير لقاء الثواب، والعقاب.
الوجه الخامس: ما بينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة أن العباد سوف يلقون ربهم، وقد ذكر البخاري في هذا الباب قليلاً منها، مثل حديث عدي بن حاتم ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه حاجب يحجبه، ولا ترجمان)) .
الوجه السادس: أنه لو أريد بلقاء الله ما يخلقه من ثواب أو عقاب أو غير ذلك، لكان ذلك واقعاً في الدنيا والآخرة، كما في عقاب الأمم المكذبة، ونصر المؤمنين، وإسعادهم.
وقد علم أتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لقاء الله - تعالى - لا يكون إلا بعد الموت.(2/147)
كما علموا بطلان قول أهل البدع: إن لقاء الله هو لقاء بعض مخلوقاته.
وعلى قولهم، فليس في اللفظ ما يدل على تعيين مخلوق دون مخلوق، فإذا قالوا: إن لقاء الله هو الجنة، أو النار، جاز أن يقال: بل هو بعض ملائكته أو بعض الشياطين، أو غير ذلك، إذ ليس دلالة اللفظ على تعيين هذا بأولى من دلالته على تعيين هذا، فبطل قولهم.
الوجه السابع: أن لقاء الله لم يستعمل في لقاء غيره، لا حقيقة ولا مجازاً، بل وفي المخلوق كذلك، فلا يقال: لقيت زيداً، وأنت تريد عمراً.
الوجه الثامن: النصوص الكثيرة التي تفرق بين لقاء الله، وثوابه وجزائه، كقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} (1) ، فلو كان لقاؤه هو لقاء جزائه، لكان هو الأجر الكريم، ولا يحسن أن يخبر بأنه أعده لهم بعد ما حصل لهم؛ لأنهم لقوه، فلقاؤه وسيلة، وإعداد الأجر الكريم مقصود، فكيف يخبر بالوسيلة بعد حصول المقصود.
ومثل هذا يصان عنه كلام أوسط الناس، فضلاً عن كلام رب العالمين، ولا سيما وقد قرن اللقاء بالتحية، التي لا تكون إلا في اللقاء.
الوجه التاسع: ما في الحديث من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)) (2) ، فلو كان لقاء الله هو جزاءه، لامتنع أن يحب جزاء عبده، ويكره جزاء آخر.
والله تعالى لا يكره جزاء عباده بما يستحقون، بل يحب ذلك، ولا يجزيهم إلا بما يستحقون، والجزاء لا يلقاه الله - تعالى -، ودلائل بطلان هذا القول
_________
(1) الآية 44 من سورة الأحزاب.
(2) رواه البخاري، انظر ((الفتح)) (11/357) في الرقاق، ورواه مسلم في ((الذكر والدعاء)) (4/2065، 2066، 2067) .(2/148)
لا حصر لها)) (1) .
فيكتفى بما ذكر، وبذلك يتضح أن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: ((اصبروا حتى تلقوا الله ورسوله)) يتضمن معاينتهم لربهم، وتكليمه لهم ومجازاتهم، وتكريمه لهم بمخاطبتهم قبل أن يدخلهم دار النعيم الأبدي.
فهو - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم: تسلَّوا عما فاتكم من الدنيا مما تستحقونه، بما يكون لكم بعد البعث من الموت، عندما تلقون ربكم، فيكرمكم بتحيته لكم ومخاطبتكم، ورؤيتكم إياه، فذلكم اليوم الذي تسعدون فيه حقاً.
وكذلك تلاقون نبيكم على حوضه، الذي منّ الله به عليه، فأكرمه به في الموقف الذي يشتد فيه الظمأ، فأنتم أحق من يرد ذلك الحوض، فتشربون منه دون معوق، أو مكدر، فلا ينالكم بعد ذلك نصب، ولا وصب، ولا ظمأ، ولا أذى.
69 - قال: ((حدثني ثابت بن محمد، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تهجد من الليل قال: اللهم ربنا لك الحمد، أنت قيم السموات والأرض، ولك الحمد، أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، وقولك الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك خاصمت، وبك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وأسررت، وأعلنت، وما أنت أعلم به مني، لا إله إلا أنت)) .
_________
(1) ((مجموع الفتاوي)) بتصرف وتلخيص (6/462-475) .(2/149)
قال أبو عبد الله: قال قيس بن سعد، وأبو الزبير، عن طاوس: قيام.
وقال مجاهد: القيوم: القائم على كل شيء، وقرأ عمر: القيام، وكلاهما مدح)) .
تقدم شرح هذا الحديث، والمقصود منه هنا قوله: ((أنت الحق، وقولك الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق)) ففرق بين لقائه وجزائه، بقوله: ((ووعدك حق، ولقاؤك حق، والنار حق)) .
فلقاؤه غير وعده، وغير جزائه، الذي هو الجنة والنار.
فدل على أن تفسير لقائه بثوابه أو نحو ذلك تفسير باطل، لم يدل عليه لا كتاب ولا سنة، بل الأدلة من الكتاب والسُّنَّة تبين بطلانه.
وبذلك يتبين أن لقاءه - تعالى - يتضمن رؤيته، ومعاينته، وهو ما أراده البخاري من هذا الحديث، وذلك ما قاله السلف، وهو واضح.
*****
70 - قال: ((حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا أبو أسامة، حدثني الأعمش، عن خيثمة، عن عدي بن حاتم، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، ولا حجاب يحجبه)) .
قوله: ((ما منكم من أحد)) الخطاب للصحابة، ويتناول جميع المؤمنين، سابقهم ولاحقهم، برهم وفاجرهم، إلى قيام الساعة.
والترجمان: هو الواسطة بين اثنين أو أكثر الذي ينقل الكلام من لغة إلى أخرى، أو يبلغ عن المتكلم كلامه.(2/150)
والمقصود هنا أنه ليس بين العبد وربه أحد يبلغه عنه، لا من الملائكة ولا من البشر.
بل الله - تعالى - هو الذي يتولى كلام عباده في ذلك الموقف بنفسه، فيحاسبهم على أعمالهم، وقد بين ذلك في لفظ الحديث، لكن الإمام البخاري - رحمه الله - اختصره، واقتصر على محل الشاهد منه.
ولفظه: ((بينا أنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أتاه رجل، فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل.
فقال: يا عدي، هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها، وقد نبئت عنها.
قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة (1) ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحداً إلا الله.
- قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعار طيء (2) الذين سعروا البلاد؟ - ولئن طالت بك حياة، لتفتحن كنوز كسرى قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: كسرى بن هرمز.
ولئن طالت بك الحياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من الذهب أو الفضة، يطلب من يقبله منه، فلا يجد أحداً يقبله منه.
وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه، وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فيقول: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول: بلى.
فيقول ألم أعطك مالاً، وأفضل عليك؟ فيقول: بلى.
_________
(1) الظعينة: الهودج فيه المرأة، وهو شبه الغرفة الصغيرة يوضع فوق البعير، فتركب في وسطه المرأة ليسترها، والظعن هو: الخروج من المكان والسير.
(2) الدعار - بضم الدال - مأخوذ من الدعارة، هي: الخبث، والتلصص، وقطع الطريق.(2/151)
فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم.
قال عدي: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة.
قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج ملء كفه)) (1) .
وفي رواية: ((كنت عند رسول - صلى الله عليه وسلم - فجاء رجلان، أحدهما يشكو العيلة، والآخر يشكو قطع السبيل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أما قطع السبيل فإنه لا يأتي عليك إلا قليل حتى تخرج العير إلى مكة بغير خفير (2) .
وأما العيلة، فإن الساعة لا تقوم حتى يطوف أحدكم بصدقته لا يجد من يقبلها منه.
ثم ليقفن أحدكم بين يدي الله، ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، ثم ليقولن له: ألم أوتك مالاً؟ فليقولن: بلى، ثم ليقولن: ألم أرسل إليك رسولا؟ فليقولن: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار، فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة)) (3) .
ففي هاتين الروايتين بيان جلي بأن الله - تعالى - يتولى كلام عباده ومحاسبتهم بنفسه بدون واسطة بينه وبينهم، وفي ضمن ذلك رؤيته - تعالى - وسماع كلامه.
قوله: ((ولا حجاب يحجبه)) أي: ليس بين العبد وبين ربه ما يمنع رؤيته ومشاهدته. وهذا ظاهر الدلالة على رؤية المؤمن ربه يوم يحاسبه، وعلى سماعه كلامه.
_________
(1) انظر البخاري (6/110) ، وانظر ((فتح الباري)) (6/610)
(2) (الخفير: هو من يحمي سالك الطريق ويجيره ممن يريده بسوء.
(3) انظر ((فتح الباري)) (3/281) .(2/152)
وفيه دليل على أن لله تعالى حجاباً يحتجب به عن خلقه، والأدلة على ذلك كثيرة، وأهل البدع ينكرون حجاب الله تعالى، فهو عندهم كما يقول الفخر الرازي: ((هو عبارة عن الجسم المتوسط بين جسمين آخرين. وهذا محال على الله)) (1) .
ونقل الحافظ عن ابن بطال، أن الحجاب هو: الآفة المانعة من النظر التي تكون على أبصار المؤمنين، ومعنى رفع الحجاب: إزالة الآفة من أبصار المؤمنين المانعة لهم من الرؤية، فيرونه لارتفاعها عنهم، بخلق ضدها فيهم)) (2) .
ومقتضى هذا الكلام أن الذي يمنع المؤمنين في الدنيا من رؤية الله تعالى هو الآفة التي على أبصارهم، ولو زالت تلك الآفة لرأوه.
فالحجاب عند هؤلاء: هو عدم الإدراك في أبصار الخلق، وما وصف به الله - تعالى - من الحجاب راجع إلى الخلق. وشبهتهم: أن ما ستر بالحجاب، فالحجاب أكبر منه، ويكون متناهياً، ومحاذياً للحجاب، وهذا لا يكون إلا للأجسام.
نقل ابن حجر، عن العلائي قوله: ((المراد بالحاجب، والحجاب: نفي المانع من الرؤية)) ثم قال: ((وقد ورد ذكر الحجاب في عدة أحاديث صحيحة.
والله - سبحانه - منزه عما يحجبه، إذ الحجاب إنما يحيط بمقدر محسوس، ولكن المراد بحجابه: منعه أبصار خلقه، وبصائرهم، بما شاء متى شاء كيف شاء، وإذا شاء كشف ذلك عنهم)) (3) .
وهكذا شراح الحديث وغيرهم - الأشاعرة - ساروا على هذا المنوال.
_________
(1) ((تأسيس التقديس)) (ص99) .
(2) ((الفتح)) (13/430) .
(3) المرجع المذكور (ص431) .(2/153)
ويلزم من ذلك أن الله - تعالى - وصف نفسه وكذلك رسوله وصفه بما يجب أن ينزه عنه، فهؤلاء المبتدعة أعلم من الله، ومن رسوله بالله، وأحرص على تنزيه الله من الله ورسوله، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} (1) .
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا} (2) .
وقال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (3) ، وعدم الإدراك الذي زعموا ليس شيئاً موجوداً فيكون حائلاً دون رؤيتهم ربهم، بل هو عدم، والعدم لا وجود له.
وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (4) .
فتجليه للجبل يدل على أنه محتجب بحجاب كشف للجبل منه ما جعله دكاً.
وفي صحيح مسلم، عن أبي موسى الأشعري، قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)) (5) .
_________
(1) الآية 5 من سورة الكهف.
(2) الآية 52 من سورة الشورى.
(3) الآية 15 من سورة المطففين.
(4) الآية 143 من سورة الأعراف.
(5) انظر ((صحيح مسلم)) (1/162) الحديث رقم (179) .(2/154)
ومعلوم أن بصر الله تعالى لا ينتهي دون شيء، ولا يحول دونه شيء، فهو بكل شيء بصير، فلولا الحجاب الذي احتجب به لما بقي شيء من المخلوقات إلا ذاب واحترق، فكيف جاز لهؤلاء الذين جعلوا أقيستهم وعقولهم هي الحكم على ما يوصف الله - تعالى - به، وما يمتنع عليه.
وسيأتي حديث أبي موسى، وفيه: ((وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)) .
وفي ((صحيح مسلم)) ، عن صهيب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال يقول الله - تبارك وتعالى -: ((تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتُنَجِّنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم - عز وجل)) (1)
والنصوص في إثبات الحجب لله - تعالى - كثيرة، يؤمن بها أتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويعلمون بما ورثوه من نور النبوة بأن الله - تعالى - احتجب بالنور، وبالنار، وبما شاء من الحجب، وأنه لو كشف عن وجهه الكريم الحجاب لما قام لنوره شيء من الخلق، بل يحترق، ولكنه تعالى في الدار الآخرة يكمل خلق المؤمنين ويقويهم على النظر إليه - تعالى - فينعمون بذلك، بل هو أعلى نعيمهم يوم القيامة.
وقد تولى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إبطال شبه هؤلاء المنكرين لحجب الله - تعالى -، في كتابه ((نقض تأسيس الجهمية، وإبطال بدعهم الكلامية)) بوجوه كثيرة، أكثر من أربعين وجهاً، كل وجه منها كاف في إبطال قولهم.
_________
(1) ((صحيح مسلم)) (1/163) الحديث رقم (181) .(2/155)
قال - رحمه الله -: ((أحدها: أنهم يقولون: إن الحجاب هو ما يخلقه الله في العين من الرؤية المتعلقة به تعالى.
وهذا باطل بالضرورة؛ لأنهم فسروا الحجاب بعدم الإدراك في أبصارهم، والعدم لا يخلق ولا وجود له، فهو ليس شيئاً.
الثاني: أنه ثبت في الحديث قوله: ((فيكشف الحجاب، فينظرون إليه)) .
وكشف الشيء: إزالته ورفعه، وهذا لا يوصف به المعدوم، فإنه لا يزال، ولا يرفع، وإنما الذي يُزال ويُرفع: الموجود.
الثالث: أنه قال: ((فيكشف الحجاب فينظرون إليه)) فجعل النظر متعقباً لكشف الحجاب. وعند هؤلاء المبتدعة: الحجاب هو عدم خلق الرؤية، وضده خلق الرؤية، فيكون زوال ذلك العدم هو عين الرؤية، لا يكون شيئاً يتعقب [كشف] الحجاب، وتقدم أن العدم ليس شيئاً.
الرابع: أن في الحديث: ((حجابة النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه)) .
ولو كان كما زعموا هو خلق الرؤية لم يكن كشف ذلك يحرق شيئاً. فالمؤمنون يرون ربهم في عرصات القيامة، وفي الجنة، ولا تحرق رؤيتهم شيئاً.
الخامس: [أنه] ثبت في ((الصحيحين)) : ((وما بين القوم وبين أن ينظرون إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه، في جنة عدن)) .
وعلى قول هؤلاء: ما بينهم وبين أن ينظرون إليه إلا زوال ذلك العدم بخلق الرؤية في أعينهم.
ومعلوم أن عدم خلق الرؤية فيهم ليس هو رداء الكبرياء، ولا هو على وجه الله الكريم، ولا هو في جنة عدن، ولا هو شيء أصلاً حتى يوصف بصفات الموجود.(2/156)
السادس: أن من تأمل نصوص الكتاب والسُّنَّة، وما ورد في ذلك من الآثار عن الصحابة والتابعين، علم بالضرورة علماً يقيناً لا يستريب فيه أن لله حجاباً، وحجباً منفصلة عن العباد، يكشفها إذا شاء، فيتجلى، وإذا شاء لم يكشفها.
وإذا كان الحجاب كما يقول الرازي وذووه: ((هو الجسم المتوسط بين جسمين)) فلازم الحق حق، لا يمكن أن يدفع حيث علم بالاضطرار من دين المرسلين، فلا يدفع بما أحدثه سلف الرازي، وأئمته، ولا بما يشنعون به على أهل السُّنَّة من اصطلاحات، وألفاظ ابتدعوها، ما أنزل الله بها من سلطان.
فإن من أعظم بدعهم: قولهم: إن الله ليس بجوهر ولا جسم، وهذا هو الصنم الأكبر الذي صدوا به عباد الله عن معرفته، والإيمان به.
وهو الذي عُطل الله به من أسمائه وصفاته.
بل هو أساس الشرك والردة، والنفاق، وإن كان قد اغتر به طوائف من أهل الإيمان، لم يعلموا ما قصده واضعوه الذين أفسدوا به فطرة العباد التي فطرهم الله عليها، وأفسدوا به معاني كتاب الله، وصدوا به عن سبيل الله.
وهو لهؤلاء المبتدعة كاللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى للمشركين القدماء.
فإن الله - تعالى - لم ينزل في شيء من كتبه، ولا قال أحد من رسله، ولا أحد من ورثتهم: إن الله ليس بجوهر ولا جسم، وإن كان إثبات ذلك أيضاً بدعة وضلالة، إلا أن نفيه أعظم وأضل.
السابع: أن الله - تعالى - قال: {وَمَا كَاَنَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحيًا أَو مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} ومعلوم أن هذا التكليم مثل ما حصل لموسى، وهو أرفع درجة من التكليم بالوحي، وإرسال الرسول باتفاق المسلمين، كما دل على ذلك الكتاب والسُّنَّة.(2/157)
فإذا كان الحجاب كما يقول هؤلاء: هو عدم خلق الرؤية، فذلك مشترك بين الأقسام الثلاثة، فلا يكون لمن كلم من وراء حجاب ميزة.
وبطلان ذلك ظاهر.
وقوله تعالى: {مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} معناه: من خلف حجاب، وعدم خلق الرؤية عدم محض، ليس له خلف، ولا أمام، فعلم أن الحق إثبات الحجاب لله حقيقة؛ لأنه موجود.
والتقدير على قولهم: أن يقال: ((أو من وراء عدم خلق الرؤية)) وهذا يشبه كلام المجانين، ولا يجعل هذا معنى كلام الله إلا زنديق متلاعب بالقرآن.
الثامن: أنه تعالى قال في الكفار: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (1)) ، فجعل حجابهم يوم القيامة، ولو كان الحجاب هو عدم خلق الرؤية لكانوا محجوبين في الدنيا والآخرة، ولكان المؤمنون أيضاً داخلين في ذلك، معذبين بهذا الحجاب الذي عذب به الكفار في الآخرة.
ولكنه حجاب خاص يحجب الله به الكفار حين يتجلى للأبرار.
ثم هذا الذي قالوه في الحجاب حمل للفظ على ما لا تحتمله اللغة بوجه من الوجوه فهو تبديل للغة، كما هو تحريف للقرآن وتبديل لمعانيه)) (2) .
قوله: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان ولا حجاب يحجبه)) .
وفي رواية ((حاجب)) وهذا يدل على وجود الحاجب كما تقدم، ويدل على جواز أن يكون له ترجمان يبلغ عنه.
_________
(1) الآية 15 من سورة المطففين.
(2) ((نقض التأسيس)) بتصرف وتلخيص، وانظر بقية الوجوه فيه (3/145-154) مخطوط.(2/158)
وقد جاء نص القرآن بأن التكليم يكون من وراء حجاب، وعلى قول المنكرين للحجاب لا يمكن أن يكون بينه وبين عباده حجاب حقيقي، ولا ترجمان، وهذا يلزم منه إما إنكار وجود الله، أو أنه حال مع خلقه، تعالى الله عن ذلك.
ومذهبهم في المسألتين من أعظم الباطل - أعني الرؤية والكلام - لأنهم يقولون: التكليم: هو خلق إدراك الكلام؛ لأن كلام الله معنى قائم بنفسه.
كما أنهم يقولون: الرؤية هي رفع الموانع، وخلق الرؤية في العين، فعلى هذا يكون الذي يراه المؤمنون في الجنة شيئا مخلوقاً، والنصوص تبطل ذلك، وكذلك العقل والفطر إذا سلمت من الانتكاس، والتغيير.
71 - قال: ((حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد، عن أبي عمران، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)) .
قال الحافظ: في رواية الحارث بن عبيد، عن أبي عمران الجوني، في أول هذا الحديث: ((جنان الفردوس أربع، ثنتان من ذهب)) ... الخ.
وهذا يبين أن الحديث قد حذف شيء من أوله.
وهو يدل على تفاوت منازل الجنة ودرجاتها، فبعضها أعلى من بعض حساً ومعنى، حيث يكون بناؤها من الذهب، وأوانيها من الذهب، ومعلوم أن الذهب هو أغلى المعادن وأنفسها لدى المخاطبين بالقرآن عند نزوله، ويجوز أن يكون فيها ما هو أعلى من الذهب وأرفع؛ لأن الله - تعالى - أخبر أن فيها ما لا عين رأته، ولا أذن سمعته، ولا خطر على قلب بشر، وتقدم البحث في درجات الجنة.(2/159)
قوله: ((وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن.
هذا الشاهد من الحديث للباب، إذ فيه التصريح بقرب نظرهم إلى ربهم فإذا أراد تعالى أن ينعمهم ويزيد في كرامتهم رفع رداء الكبرياء عن وجهه فنظروا إليه، وفي الرواية التي ذكرها في ((التفسير)) ، ((رداء الكبر على وجهه)) (1)
لقد تخبط شراح الحديث هنا من الأشاعرة - تخبطهم في كثير من صفات الله - تعالى - فأخرجوا كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ظاهره إلى المجازات البعيدة، وطلبوا له التأويلات المستكرهة، تحريفاً له وتعطيلاً لله من أوصافه، ظانين أن ما وصفه به رسوله في مثل هذا الحديث فيه تجسيم وتشبيه، كما هي طريقتهم.
نقل الحافظ كثيراً من كلامهم على هذا الحديث، فنقل عن القاضي عياض قوله: ((من أجرى هذا الكلام على ظاهرة أفضى به إلى التجسيم)) .
وقال الكرماني: ((هذا من المتشابهات، فإما مفوض، وإما متأول بأن المراد من الوجه الذات، والرداء صفة من صفات الذات اللازمة، المنزه عما يشبه المخلوقات)) ، وقال المازري: ((عبر عن زوال الموانع، ورفعها عن أبصارهم برداء الكبرياء) (2) .
ونحن نجيبهم عما قالوا بجوابين، أحدهما مجمل، والآخر مفصل.
أما المجمل، فنقول: نحن لا نشك، ولا يشك مسلم عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرف قدره، أنه أفصح منكم، وأقدر على بيان الحق وإيضاح ما يريد
_________
(1) انظر البخاري (6/121) تفسير سورة الرحمن.
(2) انظر بقية كلامهم في ((الفتح)) () 13/433 فإني اختصرته.(2/160)
منكم ومن أئمتكم، وأنه أنصح للأمة وأشفق عليها وأحرص على هدايتها، وسد طرق الكفر والضلال عنها، منكم ومن غيركم، وأنه أعلم بالله وما يجب له وما يمتنع عليه، وأنه أخشى لله وأتقى له، فمع ذلك يمتنع أن يتكلم بما ظاهره الكفر والضلال، أو بما يؤدي إلى الباطل، بل كلامه فيه الهدى والنور والعصمة من الضلال والانحراف لمن آمن به واتبعه.
بخلاف كلام غيره من الناس فإنه لا بد من عرضه على قول الله وقول رسوله، فإن وافقه قبل، وإلا رد على قائله.
فالحق قطعاً فيما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس في قول من خالفه ممن يتلقى عقيدته عن أهل الكلام والفلسفة المبنية على آراء الرجال وتخرصاتهم.
وأما الجواب المفصل: فمن وجوه:
أحدها: أن ما قالوه خلاف ظاهر النصوص، كما صرحوا بذلك، وليس في اللفظ المذكور ولا في غيره مما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على ما قالوه.
ومعلوم أن صرف اللفظ عن ظاهره يحتاج إلى دليل يدل على ذلك، وإلا صار التأويل تحريفاً وتلاعباً.
أما ما يدعون من قرينة دلالة العقل، فمجرد دعوى تفتقر إلى برهان، والحق أن العقل يدل على ما دل عليه نص الشرع.
الوجه الثاني: أنه قال: ((وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)) ، ومن المعلوم أن الكبرياء من صفات الله - تعالى - ولا يجوز للعباد أن يتصفوا بها، فقد توعد الله المتكبر بجهنم، كما قال تعالى َ {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينََ} (1) .
_________
(1) الآية 72 من سورة الزمر.(2/161)
وفي الحديث: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) (1) .
فلا يجوز أن يكون رداء الكبرياء إلا وصفاً لله - تعالى - فبطل قولهم: ((إن المقصود من رداء الكبرياء: زوال الموانع)) .
الوجه الثالث: أنه أضاف رداء الكبرياء إلى وجه الله الكريم حجاباً له.
فقال: ((إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)) ، فلا يجوز أن يكون رداء الكبرياء ما في أعين العباد من المانع الذي منعهم من رؤية الله كما يقوله هؤلاء، وقيد ذلك في جنة عدن.
وعلى مقتضى قولهم أنه لو زال المانع عن أعين العباد لرأوه في الدنيا.
الوجه الرابع: أنه ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله - تعالى -: ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار)) (2) .
ورواه مسلم، ولفظه: ((العز إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته)) (3) .
ورواه ابن ماجه، ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله سبحانه: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحداً منهما ألقيته في جهنم)) (4) .
ووصف الله - تعالى - بأن العظمة إزاره، والكبرياء رداؤه، كسائر صفاته، تثبت على ما يليق به، ويجب أن يؤمن بها على ما أفاده النص دون تحريف ولا تعطيل.
_________
(1) رواه مسلم (1/93) .
(2) رواه أبو داود في ((السنن)) (4/350) .
(3) ((صحيح مسلم)) (4/2023) رقم (2620) .
(4) انظر ابن ماجه (2/1397) رقم (4174) .(2/162)
قوله: ((في جنة عدن)) قيد لكونهم ليس بينهم وبين أن ينظروا إلى وجه ربهم - جل وعلا - إلا رداء الكبرياء.
وهذا دليل على فضل جنة عدن، وعلوها، ومن لازم ذلك علو الله - تعالى -؛ لأنهم ينظرون إليه - تعالى - من فوقهم، وتقدم بحث ذلك بما فيه الكفاية.
وأما قول ابن بطال: ((لا تعلق به للمجسمة في إثبات المكان؛ لما ثبت من استحالة أن يكون جسماً، أو حالاً في مكان.
فيكون تأويل الرداء: الآفة الموجودة في أبصارهم، المانعة لهم من رؤيته، وسماه رداء لتنزله في المنع منزلة الرداء الذي يحجب الوجه عن رؤيته، فأطلق عليها الرداء مجازاً، وقوله: ((في جنة عدن)) راجع إلى القوم)) (1) .
فيقال له أولاً: من هم المجسمة؟ ومعلوم أنه يقصد من أثبت أن الله فوق عرشه، وأنه يراه أهل الجنة من فوقهم، ولا شك أن نصوص الكتاب والسُّنَّة في إثبات ذلك أكثر من أن يحاط بها.
وعلى اصطلاح ابن بطال وذويه، كل من أثبت ذلك فهو مجسم. والله - تعالى - قد أثبت ذلك لنفسه، وأثبته رسوله له، ونحن نتبع ذلك، سواء سماه أهل البدع تجسيماً شنعوا على من اعتقده، أو قاله، أو لم يسموه، فإنه هو الحق الذي لا مرية فيه عند أهله.
وأما قوله: ((لما ثبت من استحالة أن يكون - سبحانه - جسماً، أو حالاً في مكان)) فكما سبق أن هذه البدعة هي التي عُطل رب العالمين من أسمائه وصفاته بها، وأنها الصنم الذي عبده المتكلمون، وصدوا به عباد الله عن معرفته وعبادته بأسمائه وصفاته.
_________
(1) ((الفتح)) (13/433) .(2/163)
ثم هذا القول من ابن بطال ومن قال به مجرد دعوى، لا برهان عليها، فمن أين لهم استحالة أن يكون الله في مكانه، وكتب الله وسنة رسوله ظاهرة في ذلك جلية تنادي بأن الله فوق عرشه مستو عليه، عال على خلقه؟
أما يستحيون من الدعاوى الكاذبة، التي يريدون بها التشنيع على أتباع الرسل؟!
وقد علم أن مقصودهم بالجسم: ما شغل مكاناً، أو ما يصلح أن يقال إنه هنا أو هناك، أو ما صحت الإشارة إليه، أو ما كان له مقدار.
وتقدم من الأدلة على استواء الله - تعالى - على عرشه، وعلوه على خلقه، وأنه يشار إليه، ويقال: إنه في السماء، ما فيه مقنع لمن يريد الحق.
وأما قوله: ((في جنة عدن راجع إلى القوم)) فمراده: أن القوم في جنة عدن، وأنه لا يجوز أن يقال: إن الله يرى في جنة عدن، وإنما معناه الإخبار بأن القوم في جنة عدن.
فيقال: أولاً: هذا رد صريح لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكفى بذلك ضلالاً، وبعداً عن سبيل المؤمنين.
ويقال: ثانيا: إن هذا من جنس تأويلات أهل البدع الباردة، التي لا تصدر عن عربي يعرف معنى ما يقول، فضلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أفصح العرب، وكونهم في جنة عدن قد علم من أول الحديث؛ لأنه قال: ((جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما)) ... الخ، ثم أخبر أن رؤيتهم لربهم قريبة، ليس دونها إلا رفع الحجاب، فهم يرونه في جنة عدن من فوقهم، يوضحه الحديث المتقدم: ((إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة، وسقفه عرش الرحمن)) ، ومن أجل ذلك أورده البخاري - رحمه الله - في هذا الباب مستدلاً به على رؤية الله - تعالى - كما هو واضح وصريح في ذلك.
****(2/164)
72 - قال: ((حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عبد الملك بن أعين، وجامع ابن أبي راشد، عن أبي وائل، عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين كاذبة؛ لقي الله وهو غضبان)) .
قال عبد الله: ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصداقه من كتاب الله جل ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله} ُ (1) الآية.
قوله: ((من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين كاذبة)) ((مَن)) مِن أدوات العموم، والأغلب أن تكون لخطاب من يعقل.
و ((مال)) نكرة، أضيفت إلى نكرة موصوفة بالإسلام، فشملت كل مسلم، وكل ما يسمى مالاً، قليلاً كان أو كثير.
روى الطبراني من حديث جابر بن عتيك، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة، وأوجب له النار)) ، قالوا: يا رسول الله، وإنْ شيء يسير؟ قال: ((وإن كان سواكاً)) (2) .
ورواه الحاكم، ولفظه: ((من اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأدخله النار)) ، قالوا: يا رسول الله، وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال: ((وإن كان سواكاً، وإن كان سواكاً)) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة (3) . وقال الذهبي: صحيح.
_________
(1) الآية 77 من سورة آل عمران.
(2) ((معجم الطبراني الكبير)) (2/210) .
(3) ((المستدرك)) (4/295) .(2/165)
((اقتطع)) من القطع؛ لأنه قطعه عن صاحبه، أو أخذ قطعة من ماله بالحلف الكاذب.
قوله: ((لقي الله وهو عليه غضبان)) هذا محل الشاهد من الحديث الذي أورده من أجله، وتقدم أن اللقاء يتضمن النظر والمعاينة، وأن السلف استدلوا بلفظ اللقاء على الرؤية.
قال الحافظ: ((في حديث وائل بن حجر عند مسلم: ((لقي الله وهو عنه معرض)) .
وفي رواية كردوس، عن الأشعت، عند أبي داود: ((لقي الله، وهو أجذم)) قال: وفي حديث أبي أمامة عند مسلم، والنسائي، نحو ما في هذا الحديث: ((فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة)) ، وفي حديث عمران، عند أبي داود ((فليتبوأ مقعده من النار)) (1) .
وهذا وعيد شديد جداً لمن يفعل ذلك، فعلى المسلم أن يحذر كل الحذر من أموال المسلمين بأي وسيلة كانت، فإن ذلك من أسباب سخط الله - تعالى -.
قوله: ((مصداقه من كتاب الله جل ذكره)) إلى آخره، أي: الذي يصدق هذا الحديث ويوافقه.
قال ابن كثير: ((يقول تعالى: إن الذين يعتاضون عما عاهدهم عليه من اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - وذكر صفته للناس وبيان أمره، وعن أيمانهم الكاذبة الفاجرة الآثمة، بالأثمان القليلة الزهيدة - وهي عرض الدنيا الزائلة - {أُولَئِكَ لاَ خَلَقَ لَهُم فِي الأَخِرَةِ} أي: لا نصيب لهم فيها، ولا حظ لهم منها، {وَلاَ يُكَلِمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنُظُر إِلَيهِم يَومَ القِيامَةِ} برحمة منه لهم،
_________
(1) ((الفتح)) (11/559) .(2/166)
بمعنى: لا يكلمهم كلام لطف بهم، ولا ينظر إليهم بعين الرحمة {وَلاَ يُزَكِيهِم ِ} أي: من الذنوب، والأدناس، بل يأمر بهم إلى النارِ، {وَلَهُم عَذَابُ أَلِيمُ ِ} (1) مؤلم شديد الألم.
قال الحافظ: ((يؤخذ من الآية تفسير قوله: ((لقي الله وهو عليه غضبان)) ، ومقتضاه: أن الغضب سبب لمنع الكلام، والرؤية، والرضا سبب لوجودهما)) (2) .
وفيه وصف الله - تعالى - بالغضب، وأنه يغضب على بعض عباده بسبب ذنوبهم، وفيه أن الغضب غير العقاب، وإذا كان يغضب فهو تعالى يرضى، والأدلة على ذلك كثيرة.
73 - قال: ((حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: رجل حلف على سلعة لقد أعطى بها أكثر مما أعطى، وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر؛ ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماء، فيقول الله - تعالى - يوم القيامة: اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك)) .
قوله: ((ثلاثة لا يكلمهم الله)) أي: ثلاثة من أجناس الناس، يعم الذكور والإناث، والأحرار والعبيد.
وعدم تكليم الله لهم يوم القيامة دليل على غضبه عليهم، ومقتضاه: أنهم
_________
(1) ((تفسير ابن كثير)) (2/51) ط الشعب.
(2) ((الفتح)) (13/433) .(2/167)
يذهب بهم إلى النار بدون سؤال ومحاسبة؛ لأنهم قد تناهى جرمهم في القبح، فاستحقوا أليم العذاب، مع الإعراض عنهم وإهانتهم من أول الأمر، فيكون هذا الحديث مخصصاً لحديث عدي السابق، وهو قوله: ((ما منكم من أحد إلاَّ سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان)) .
وقوله: ((ولا ينظر إليهم)) نظر الله - تعالى - إلى العبد يقتضي الرحمة، وهؤلاء فعلوا أفعالاً مقتهم الله عليها، فأعرض عنهم، ومن أعرض الله عنه فهو هالك، الهلاك الأكبر.
والمقصود بالنظر المنفي هنا، نظر خاص يتضمن الإحسان والرحمة، ويفهم منه نظر العبد إلى الله - تعالى - لا يحجب بصره شيء أبداً، في أي وقت كان.
وهذا القدر من الحديث: أعني قوله: ((لا يكلمهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة)) هو محل الشاهد لما مر، ولأن الكلام والنظر المقيد بيوم القيامة يدل على اللقاء، واللقاء يتضمن المعاينة.
ثم ذكر أفعالهم التي استحقوا عليها هذا الوعيد الشديد، وهي ثلاثة أنواع:
أحدها: الحلف على السلعة التي يريد بيعها، أنه أعطى بها أكثر مما يريد المشتري أن يأخذها به، وهو كاذب في حلفه، وذلك لأنه اشترى بيمينه ثمناً قليلاً بخساً، مما يدل على رغبته في الدنيا وزهده في الآخرة، واليمين دين يتعبد الله به، فمن خاف الله في يمينه، فلم يكذب فهو من المتقين في ذلك.
ومن بذل يمينه بعرض من الدنيا، فهو فاجر يستحق العقوبة، مستخف بحرمات الله.
والسلعة هي: كل بضاعة عرضت للبيع.
والنوع الثاني - وهو أخص من الذي قبله - وهو الحلف على يمين كاذبة(2/168)
بعد العصر، ليقتطع بها مال امرئ مسلم، وهذا يكون عند من يحكم بين الحالف والمحلوف له، وهو الحاكم؛ لأن المحلوف له يلزم بأن هذا المال للحالف بمقتضى يمينه، وهذا هو معنى الاقتطاع.
وخص المسلم لأن ماله أشد حرمة، وحقه على أخيه المسلم أعظم، وإلا فمال الكافر غير المحارب لا يجوز أخذه إلا بحق.
وخص وقت بعد العصر لفضله، ولأنه آخر النهار الذي أثنى الله على المسبحين فيه لقرب نهاية النهار وختم عمله، وقرب الليل الذي فيه النوم المذكر بالمصير إلى الله - تعالى -، وهو وقت أصوات الداعين لله والمسبحين.
وهذه اليمين هي الغموس سميت بذلك؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم فلا يخرج منه إلا أن يشاء الله - تعالى - فإنه يخرج الحي من الميت.
النوع الثالث: منع فضل الماء الذي زاد عن حاجته، ويحتاج إليه سالك الطريق؛ وذلك لأن الماء يتجدد بدله كلما أخذ منه، ولا يضر بذله، فمانعه لا يكون إلا لئيماً خبيث النفس، يقصد الأذية، وليس لديه رحمة للخلق، ولا رغبة في الخير.
وفهم من قوله: ((فضل ماء)) أن ما يحتاجه لشربه هو ومن يلزمه إعاشته لا يلزمه بذله.
ولكون الماء يتجدد بما أخذ منه، ولا صنع للإنسان فيه، كالطعام مثلاً واللباس الذي يحتاج معالجة وعملاً، لأجل ذلك يقول الله - تعالى - يوم القيامة: ((اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك)) .
ومن منع فضل الله فهو الخاسر الخسران الأبدي.
وقوله: ((يقول الله)) إلى آخره، لا يعارض أول الحديث أن هؤلاء(2/169)
لا يكلمهم الله، لأنه لا يلزم أن يكون هذا القول مواجهاً به صاحب هذا العمل فقد يكون للملائكة الذين يتولون عذابه، أو غير ذلك، والله أعلم.
74 - قال: ((حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب، عن محمد، عن ابن أبي بكرة عن أبي بكرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان. أي شهر هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه يسميه بغير اسمه، قال: ((أليس ذا الحجة؟)) قلنا: بلى.
قال: ((أي بلد هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: ((أليس البلدة؟)) قلنا: بلى، قال: ((فأي يوم هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: ((أليس يوم النحر؟)) قلنا: بلى.
قال: ((فإن دماءكم وأموالكم - قال محمد: وأحسبه قال: وأعراضكم - عليكم حرام، كحرمةِ يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم.
ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً، يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى من بعض من سمعه)) .
فكان محمد إذا ذكره، قال: صدق النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: ((ألا هل بلغت، ألا هل بلغت)) .(2/170)
هذا الحديث قاله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته العظيمة يوم النحر، في حجة الوداع، وفي هذا الحديث بيان وجوب الاجتماع على الحق، والاعتصام بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعظم حرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، ووجوب سلوك طريقه - صلى الله عليه وسلم -، وبيان أن الله - تعالى - أتم عليهم نعمته بنبيه، وأخذهم بما جاء به.
وحذرهم من ترك هذا الهدى والرجوع إلى الضلال وكفر النعمة والفرقة الداعية إلى التصارم والقتال، فإن ذلك من الكفر.
وبين أن الزمان قد عاد كما خلقه الله، بعد تبديل المشركين الشهور المحرمة بالتقديم والتأخير حسب أهوائهم، حتى يستحلوا القتال في الأشهر الحرم.
وفيه بيان تأكد حرمة الأشهر الحرم التي حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض، وحرمة مكة، وأن هذا التحريم مستمر إلى يوم القيامة لا يستحله إلا من جانب طريق الرسل، وأحل شعائر الله والشهر الحرم والبلد الحرام، وذلك من العظائم.
قوله: ((الزمان قد استدار، كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض)) كان المشركون لا يستحلون القتال في الأشهر الحرم، ولما كان منها ثلاثة متواليات، طالت عليهم، فتحيلوا على تأخير المحرم وتقديم صفر مكانه، فيحلون المحرم عاماً ويحرمون صفر بدله ويحرمونه عاماً، فيجعلون المحرم هو صفر في هذا العام مثلاً، وفي العام الآخر يبقون المحرم وصفر على ما هما عليه، يفعلون ذلك تحيلاً على استحلال القتال، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ِ} (1) .
فيستحلون القتال في الشهر الحرام، ويسمونه بغير اسمه، ويحرمون في
_________
(1) الآية 37 من سورة التوبة.(2/171)
الشهر الحلال ويسمونه محرماً؛ ليتفق ذلك مع عدة ما حرم الله - تعالى- من الأشهر؛ لأن توالى ثلاثة شهور محرمة يطول عليهم، ففعلوا ذلك لأجل قتال أعدائهم، ولغير ذلك من أغراضهم.
وفي السَّنة التي حج فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - اتفق أن الأشهر الثلاثة كلها محرمة، لأنها السَّنة التي كانوا يحرمون القتال في محرم على ما هو عليه، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض)) أي: رجع تحريم الأشهر الحرم في حساب المشركين وعملهم متفقاً مع حكم الله وشرعه، فقد جعل الله السَّنة اثني عشر شهراً، منها أربعة حرم، يحرم القتال فيها، والظلم فيها أعظم منه في غيرها.
قال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس، ((كان جنادة بن عوف بن أمية الكناني، يوافي الموسم في كل عام، وكان يُكْنَى أبا ثمامة، فينادي: ألا إن أبا ثمامة لا يجاب ولا يعاب، ألا إن محرم العام الأول هذا العام حلال، فيحله الناس، فيحرم صفر عاماً ويحرم المحرم عاماً)) .
قال شاعرهم - وهو عمير بن قيس الذي يقال له: جذل الطعان - يفتخر بذلك:
لقد علمت معدُّ بأن قومي ... كرام الناس إن لهم كراما
ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما
فأى الناس لم ندرك بوتر ... وأي الناس لم نعلك لجاما
وقوله: ((ورجب مضر)) إضافة إليهم؛ لأنهم كانوا متمسكين بتعظيمه وحرمة القتال فيه، أكثر من غيرهم، وكان بعض العرب يعمل فيه ما يعملونه في محرم حسب حاجتهم إلى القتال.
وقوله: ((الذي بين جمادى وشعبان)) تأكيد لتعريفه، ونَص عليه.
والمراد بالزمان في قوله: ((إن الزمان قد استدار)) : السَّنة:(2/172)
قال الخطابي: ((كانوا يخالفون بين أشهر السنة بالتحليل والتحريم والتقديم والتأخير؛ لأسباب تعرض لهم.
منها: استعجال الحرب، فيستحلون الشهر الحرام، ثم يحرمون بدله شهراً غيره، فتتحول بذلك السنة وتتبدل، فإذا أتى عدة من السنين استدار الزمان، وعاد الأمر إلى أصله، فاتفق وقوع حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك)) (1) .
فعلى هذا يكون المراد بالزمان: مطلقة.
قوله: ((أي شهر هذا؟)) إلى قوله: ((أليس يوم النحر؟)) لما كان متقرراً عندهم حرمة ذي الحجة وحرمة البلد الحرام، وحرمة يوم النحر، أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يؤكد تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم بالتمثيل البالغ في الحرمة منتهاها.
وفيه تعظيم شأن الدماء والأموال والأعراض وشدة حرمتها، حيث قال: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) فهذا غاية ما يمثل به شدة حرمة الشيء وتعظيمه.
وقد صح أن أول ما يبدأ به في المُقَاصَّة بين الناس يوم القيامة: الدماءُ.
قوله: ((وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم)) هذا هو المقصود من الحديث؛ لأنه ظاهر في مواجهتهم لله - تعالى - ومخاطبته لهم، فيدل على أنهم يرونه، كما تقدم أن اللقاء يتضمن المعاينة والرؤية.
وهذه الجملة تأكيد لما سبق من ذكر حرمة الدماء، وما عطف عليها، إذ المعنى: إذا تأكد لديكم شدة حرمة ذلك، فاحذروا أن تقعوا فيه، فإنكم
_________
(1) انظر ((فتح الباري)) (8/325) .(2/173)
سوف تلاقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، وهو أعلم بها منكم.
والسؤال يتضمن الجزاء.
وقوله: ((فلا ترجعون بعدي ضلالاً، يضرب بعضكم رقاب بعض)) أي: إياكم أن تعرضوا عما تركتكم عليه، وحضضتكم عليه، وهو التمسك بكتاب ربكم وسنة نبيكم، فإنه الصراط المستقيم، الذي يوصلكم إلى الجنة والسعادة في الدنيا والآخرة، فإنكم إن ملتم عن ذلكم ضللتم الطريق السوي، وارتكبتم أعظم ما حذرتكم منه، وهو الوقوع في الدماء، فيصبح بعضكم يضرب رقاب بعض، وهذا هو الضلال.
قوله: ((ألا ليبلغ الشاهد الغائب)) هذا من الواجب الذي لا يجوز الإخلال به أو التساهل؛ لأن الأمة لا تصلح إلا بمعرفة ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - العمل به، كما قال الإمام مالك: ((إنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها)) .
ولما جهلت الأمة طريق الرسول كثر الضلال فيها، والتخبط في ظلمات الجهل والخرافة، فظهرت فيها الرافضة، والصوفية، والباطنية، والملاحدة والزنادقة، وكل منهم يدعي أن الحق معه لا يعدوه، ومن خالفه فهو ضال أو كافر حلال الدم والمال، وغالب ذلك بسبب الجهل بما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – وإن كان رؤساء هذه الطرق بالغالب ملاحدة يتسترون بالإسلام، هدفهم هدمه من أساسه، {وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللهُ واللهُ خَيرُ المَاكِرِينَ} .
قوله: ((فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى من بعض من سمعه)) .
الوعي: هو الفهم والمعرفة ثم الامتثال، والمراد تبليغ أقواله – صلى الله عليه وسلم – المتضمنة لأحكام الدين الذي جاء به.
وقوله: ((فلعل)) مشعر بقلة ذلك، ولهذا جاء في رواية بدل ((فلعل)) ((رُبَّ)) المفيدة للتقليل.(2/174)
قال الحافظ: ((فيه الحث على تبليغ العلم، وجواز التحمل قبل كمال الأهلية، وأن الفهم ليس شرطاً في الأداء، وأنه يأتي في الآخر من يكون أفهم من بعض من تقدم ولكن بقلة)) (1)
هذه النصوص التي ذكرها المؤلف – رحمة الله – كلها دلت على أن الله – تعالى – يُرى في الآخرة، دلالة متنوعة.
منها ما هو نص جلي لا يحتمل أي تأويل، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا القمر)) .
وقوله: ((إنكم سترون ربكم عياناً)) .
وقوله جواباً لسؤالهم: ((هل نرى ربنا يوم القيامة؟)) فقال: ((هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً؟ قالوا: لا، قال: فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ، إلا كما تضارون في رؤيتهما)) .
وقوله: ((فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم، فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون. فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه)) .
وقوله في حديث الشفاعة: ((فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي، فإذا رأيته وقعت ساجداً)) كرر ذلك مراراً، كل هذه الألفاظ صريحة في الرؤية، غير قابلة لتأويل وصرف عن ظاهرها.
فلا عذر لمن خالفها، ولا حجة له، إلا اتباع الهوى، والتقليد الأعمى أو التعصب، أو الضلال البعيد، أو الكفر والجحود.
فقد وضح مراد النبي – صلى الله عليه وسلم – من هذه الأحاديث لكل عاقل، عارف باللغة،
_________
(1) ((الفتح)) (1/159) .(2/175)
لا يستريب في ذلك من عرف دلالة الألفاظ على المعاني؛ أن مراده بهذه الألفاظ المذكورة رؤيتهم إياه بأبصارهم، وليس في الممكن أوضح من هذه العبارات.
وهناك نصوص كثيرة غير ما ذكره هنا دالة على رؤية الله – تعالى – في الآخرة دلالة ظاهرة، استقصاها كثير ممن ألف في هذا الموضوع.
قال ابن القيم: ((اتفق [على أن الله يُرَى في الآخرة] الأنبياء، والمرسلون وجميع الصحابة، والتابعون، وأئمة الإسلام، على تتابع القرون.
وأنكرها أهل البدع المارقون، والجهمية المتهوكون، والفرعونية المعطلون، والباطنية الذين هم من جميع الأديان منسلخون، والرافضة الذين هم بحبائل الشيطان متمسكون، ومن حبل الله منقطعون، وعلى مَسبَّةِ أصحاب رسول الله عاكفون، وللسنة وأهلها محاربون، ولكل عدو لله ورسوله ودينه مسالمون.
وكل هؤلاء عن ربهم محجوبون، وعن بابه مطرودون، أولئك أحزاب الضلال، وشيعة اللعين، وأعداء الرسول وحزبه)) (1) .
وقال شيخ الإسلام: ((والذي يجب على كل مسلم اعتقاده: هو أن المؤمنين يرون ربهم في الدار الآخرة، في عرصة القيامة (2) ، وبعد ما يدخلون الجنة، على ما تواترت به الأحاديث، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – عند العلماء بالحديث، فإنه أخبر أنا نرى ربنا كما نرى القمر ليلة البدر، والشمس عند الظهيرة، لا نُضَام في رؤيته)) (3)
_________
(1) ((حادي الآرواح)) (ص212) .
(2) عرصة القيامة، أو عرصاتها: هي مواقفها التي يقف الناس فيها مجتمعين.
(3) ((مجموع الفتاوي)) (6/485) .(2/176)
واعلم أن الذين أنكروا رؤية الله - تعالى - اعتمدوا على شبه سموها براهين عقلية، وتعلقوا ببعض الأيات والأخبار، وهي في الحقيقة مبطلة لقولهم.
ومن أعظم الفرق إنكاراً لرؤية الله - تعالى - بالأبصار: المعتزلة، وبنوا إنكارهم لها على التشبيه المستكن في نفوسهم؛ لأنهم بنوا علمهم على الجدل، الذي أصله القياس المبني على تشبيه الغائب بالمشاهد، فإذا نظرت فيما ذكروه وجدت ذلك واضحاً في استدلالاتهم وتعليلاتهم إلى جانب التعصب للآراء.
قال عبد الجبار: ((قال أهل العدل بأسرهم، والزيدية، والخوارج وأكثر المرجئة: لا يجوز أن يُرَى الله - تعالى - بالبصر، ولا يدرك به على وجه، لا لحجاب ومانع، لكن لأن ذلك يستحيل)) (1)
1 - ثم استدل ((بأن الرؤية لا تصح إلا بحاسة البصر، والله لا يجوز أن يوصف بأن له حواس)) (2) فالله عنده لا يَرى ولا يُرى - تعالى الله عن ذلك -.
2 - ((ولأن البصر لا يصح أن يَرَى إلا ما كان مقابلاً، أو في حكم المقابل، وهذا لا يكون إلا للجسم ذي الألوان، وهو محال على الله)) (3) .
3 - ((ما يصح أن يُرى، لا يجوز أن يختص بصحة رؤيته بعض الرائين دون بعض، كما أن ما يصح أن يُعلم لا يجوز أن يختص بالعلم به بعض الأحياء دون بعض)) (4) .
_________
(1) ((المغني)) للقاضي عبد الجبار المعتزلي (4/139) .
(2) المصدر السابق (ص36) .
(3) المصدر السابق (ص140) .
(4) المصدر السابق (ص89) .(2/177)
4 – ((ولأن الموانع من الرؤية لا تختص بشيء تصح رؤيته دون شيء، وهي القرب المفرط، والبعد المفرط، والحجاب، واللطافة، والرقة، وأن يكون المرئي في غير جهة محاذاة الرائي، أو يكون حالاً فيما هذا سبيله، فإذا زالت هذه الموانع، وجب أن يُرى ما صحت رؤيته)) (1) والحجاب عندهم مستحيل على الله، كما تقدم.
فهذه جملة من أدلة هذه الفرقة، التي يسمونها براهين، إذا تأملها العاقل وجدها مبنية على قياس رب العالمين على المخلوق، وتحكيم الآراء، ولهذا ذهبت هيبة الله وعظمته من قلوبهم، واستخفوا بكتابه، فاجتهدوا في تحريف معانيه وصرفه عما قصد به.
والمقصود ذكر بعض أدلتهم العقلية – كما يقولون – وهي في الحقيقة شبه داحضة، وضلالات بينَّة لمن عرف الحق.
وهم لا يقبلون أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وإن كانت أسانيدها في غاية الصحة والجودة، ويقبلون قول فلان وفلان؛ لأنهم يزعمون أن ذلك براهين عقلية.
فقوله: ((إن لله لا يرى بالبصر، لا لحجاب يحجبه، أو مانع يمنع رؤيته، لكن لأن رؤيته مستحيلة)) فيقال له: هذا مجرد دعوى غير مقبولة، وهو في مقابلة قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ.}
وقوله في المعذبين: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} .
وقوله تعالى: {للَّذينَ أَحسَنُواْ الحُسنَى وَزِيَادَةُ} وفسر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم، ((كما في صحيح مسلم)) ، وهو أيضا مصادم لقول
_________
(1) المصدر السابق (116) .(2/178)
رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته)) كما سبق.
فأيهما أحق بالاتباع: قول طائفة الاعتزال، عبّاد الآراء والأهواء، أم قول الله ورسوله؟ إن المقارنة بين هذا وهذا غير سائغة ولا مقبولة، لولا أن المسلمين قد بُلُوا بمن يعظّم آراء المعتزلة ويرى لها وزناً.
وكل ما أشرنا إليه عن المعتزلة هو في مقابلة النصوص الصحيحة الصريحة، فلا يسوغ لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر الاعتداد بها، أو جعلها أدلة على أمر قد بان ووضح غاية الوضوح من كتاب الله وسنة رسوله.
((وقد ثبت اتفاق سلف الأمة وأئمتها على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، وثبت في النصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته)) .
وقال: ((إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، وكما ترون القمر صحواً ليس دونه سحاب)) (1) .
وقولهم: ((إن ما يُرى يجب أن يكون مقابلاً للرائي، وأن يكون متحيزاً في جهة، ولا يكون ذلك إلا لجسم، والله يتعالى عن ذلك؛ لأن هذا صفة المحدث.
وهذا شيء لازم للرؤية، ولهذا سخر المعتزلة وغيرهم من الأشعرية لما قالوا: إن الله يُرى لا من جهة؛ لأن هذه رؤية غير معقولة؛ لإثباتهم الرؤية ونفيهم الجهة.
وأهل السُّنَّة يقولون: لا مانع من كون المرئي – الذي هو رب العالمين –
_________
(1) ((نقض التأسيس)) (2/406) .(2/179)
جل وعلا – في مقابلة الرائين من عباده المؤمنين، فهم يرونه من فوقهم، كما صرحت به النصوص، ولا محذور فيه.
وأما اللوازم الباطلة، التي يدعيها المعتزلة وغيرهم، فهي منتفية عن الله – تعالى -.
ونحن نستفسر منهم: ما هو مرادكم بكونه مقابلاً للرائي؟ هل تريدون أنه لا بد له من مكان يحويه ويحيط به؟ فإن كان هذا ما أردتم، فالله – تعالى – له مكان هو فوق عرشه، ولا يحيط به شيء، ولا يحويه شيء – جل وعلا – وهو أكبر من كل شيء وأعظم، فهو – تعالى – يطوي السماوات كلها بيمينه، ويقبض الأرض كلها بيده الأخرى، وتكون كالخردلة في يد أحدنا، ولله المثل الأعلى.
قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1) .
وأما التحيز، فإن أردتم أن الله مختلط بخلقه لئلا يلزم أن يكون متحيزاً، فنحن نكفر بقولكم هذا، ونتيقن أنه باطل، والنصوص من الشرع ترده، وكذلك العقل يرده.
وإن أردتم أن الله لا حقيقة له تميزه عن خلقه، فكذلك هذا كفر وضلال.
وإن أردتم أن الله – تعالى – متميز من خلقه، وأنه بائن منه، فهذا حق، والنصوص فيه أكثر من أن تحصى، وهو ما يعتقده المسلمون ويؤمنون به، واتفق عليه سلف هذه الأمة وأئمتها قبل ظهور المعتزلة والفرق الضالة، ومثل ذلك يقال في الجهة.
_________
(1) الآية 67 من سورة الزمر.(2/180)
وتقدم من أدلة الكتاب والسُّنَّة، والعقل، وإجماع أهل الحق، وأدلة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، على أن الله في السماء مستوٍ على عرشه، عالٍ على خلقه ما يكفي عن ذكر شيء من ذلك هنا.
قال شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى -: ((كون الرؤية مستلزمة لأن يكون الله في جهة من الرائي أمر ثبت بالنصوص المتواترة، كما في قوله: ((هل تضامون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب ولا قتر؟)) .
قالوا: لا يا رسول الله، قال: ((فإنكم ترونه كذلك)) . وذكر الحديث بطوله.
قال أبو سعيد: أشهد لحفظته من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
فهذا فيه مع إخباره أنهم يرونه، إخبارهم أنهم يرونه في جهة منهم، من وجوه:
أحدها: أن الرؤية في لغتهم لا تعرف إلا لرؤية ما يكون في جهة منهم، فأما رؤية ما ليس في جهة فلم يكونوا يتصورونه، فضلا عن أن يكون اللفظ دالاً عليه، بل لا يتصور أحد من الناس وجود موجود في غير جهة.
الثاني: أنه قال: ((فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس صحواً، وكما ترون القمر صحواً)) فشبه لهم رؤيته برؤية الشمس والقمر، وهما يريان من جهة.
الثالث: أنه قال: ((هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليس دونه سحاب؟)) .
فشبه رؤيته برؤية أظهر المرئيات، إذا لم يكن ثم حجاب منفصل عن الرائي يحول بينه وبين المرئي.
وفي لفظ في ((الصحيح)) : ((إنكم ترون ربكم عياناً)) (1) .
_________
(1) ((نقض التأسيس)) (2/409-415) ملخصاً.(2/181)
((فقد أخبرنا أنا نراه، وأخبرنا أيضاً أنه قد استوى على العرش، فهذه النصوص يصدق بعضها بعضاً، والعقل أيضاً يوافقها، ويدل على أنه سبحانه مباين لمخلوقاته، وأنه فوق سماواته، وأن وجود موجود لا مباين للعالم، ولا مداخل له، محال في بديهة العقل.
فإذا كانت رؤيته تعالى مستلزمة هذه المعاني التي شنعتم بها، فهي حق، وإذا سميتم أنتم هذا قولاً بالجهة والتجسيم، لم تكن هذه التسمية نافية لما علم بالشرع والعقل.
ثم يقال: ما تعنون بقولكم: إن هذا إثبات للجهة، والجهة ممتنعة على الله؟ أتعنون بالجهة أمراً وجودياً أو أمراً عدمياً؟
فإن أردتم الأول، فقد علم أنه ليس هناك موجود إلا الخالق والمخلوق، والله – تعالى – فوق مخلقاته، بائن منها.
وعليه فليس الله – تعالى – في جهة موجودة.
وقولكم: إن المرئي لا بد أن يكون في جهة موجودة، باطل، فإن سطح العالم مرئي، وليس هو في عالم آخر.
وإن فسرتم الجهة بأمر عدمي – كما تقولون -: ((إن الجسم في حيز، والحيز تقدير مكان، وتجعلون ما وراء العالم حيزاً)) .
فيقال: الجهة والحيز إذا كانا أمراً عدمياً فهو ليس شيئاً، وما كان في جهة عدمية أو في حيز عدمي فليس هو في شيء.
ولا فرق بين قول القائل: هذا ليس في شيء، وبين قوله: هو في العدم، أو أمر عدمي.
فإذا كان الخالق – تعالى – مبايناً للمخلوقات عالياً عليها، وما ثم موجود إلا الخالق، أو المخلوق، لم يكن معه غيره من الموجودات، فضلاً عن أن(2/182)
يكون هو سبحانه في شيء موجود يحصره ويحيط به)) (1) .
((وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليس دونه سحاب؟)) تشبيه لرؤيتهم لربهم برؤية أظهر المرئيات، إذا لم يكن بينهم وبينها حجاب منفصل عنهم يحول بينهم وبين المرئي.
ومن يقول: إنه يُرى في غير جهة، يمتنع عنده أن يكون بينه بين العباد حجاب منفصل، إذ الحجاب لا يكون إلا للجسم ولما يكون في جهة.
والحجاب عندهم عدم خلق الإدراك في العين، كما تقدم.
الرابع: أنه أخبر أنهم لا يضارون في رؤيته، وفي رواية ((لا يضارون)) ، ونفي الضير، والضيم، إنما يكون لما يمكن لحوقه للرائي، ومعلوم أن رؤية ما ليس بجهة من الرائي، لا فوقه ولا في شيء من جهاته، لا يتصور فيها ضير ولا ضيم حتى ينفي ذلك.
وقد روى ابن ماجه، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، قال: وذلك قول الله – تعالى - {سَلامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} .
قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته في ديارهم)) (2) وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند، فإن الأدلة الصحيحة تؤيده.
الخامس: أن كون الله – تعالى – يُرى بجهة من الرائي، ثبت بإجماع السلف، ونصوصهم في ذلك مشهورة.
_________
(1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/153-254) ببعض التصرف.
(2) ((سنن ابن ماجه)) (1/65 - 66) ، رقم (184) .(2/183)
((فسلف الأمة وأئمتها متفقون على أن الله يُرى في الآخرة عياناً كما نرى الشمس والقمر، وأنه لا يلزم من تعذر رؤية الشيء في حال تعذُّرُها في حال أخرى، بل قد يرى الشيء في حال دون حال، كما أن الأنبياء يرون ما لا يراه غيرهم)) (1) .
السادس: ((أن كل موجود قائم بنفسه فلا بد أن يكون في جهة، والله – تعالى – هو الحق، وهو فوق خلقه، عال عليهم)) (2) .
وأما ما تعلقوا به من مثل قوله: {لَن تَرَاني} ، وقوله: لاَ تُدرِكُهُ الأبصَارُ} ونحو ذلك، فكله يدل على عكس ما قالوا.
والإدراك المنفي هو الإحاطة، وليست الرؤية، كما بيّن ذلك حبر الأمة ابن عباس، ومثَّل ذلك بالسماء، والشمس، حيث قال للسائل: ((ألست ترى السماء؟ قال: بلى. فقال: أكلها ترى؟ قال: لا. قال: فالله أعظم)) .
وما يذكر عنه أنه فسر الآية بنفي الرؤية كذب عليه.
وقد قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ {61} قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (3) .
فأثبت الرؤية ونفى الإدراك، فدل ذلك على أن الإدراك غير الرؤية. وبهذا أجاب العلماء عن استدلالهم بهذه الآية.
_________
(1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/132) .
(2) ((نقض التأسيس)) (2/409-415) ملخصاً.
(3) الآيتان 61، 62 من سورة الشعراء.(2/184)
قال: ((باب ما جاء في قول الله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (1) .
الرحمة المضافة إلى الله - تعالى - تكون صفة له ذاتية، كقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء} ٍ (2) ، وقوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَة (3) } وقوله تعالى: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} (4)
وقوله تعالى: {ِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (5) . ونحو ذلك وهو كثير.
وتكون مفعولاً له مخلوقاً، وهي من أثر صفة الرحمة الذاتية، كقوله تعالى:: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا} (6) ، وقوله تعالى: {ِ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (7) }
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} (8) .
وقوله تعالى: {وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ (9) } وهو أيضا كثير.
_________
(1) الآية 56 من سورة الأعراف.
(2) الآية 156 من سورة الأعراف.
(3) الآية 132 من سورة الأنعام.
(4) الآية 147 من سورة الأنعام.
(5) الآية 218 من سورة البقرة.
(6) الآية 21 من سورة يونس.
(7) الآية 9 من سورة هود.
(8) الآية 48 من سورة الفرقان.
(9) الآية 63 من سورة النمل.(2/185)
ومن ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خلق الله مائة رحمة، فوضع واحدة بين خلقه، وخبّأ عنده مِئَةً إلا واحدة)) (1) .
ومثله ما يأتي من قوله: ((فقال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء)) .
ومراده بيان أن الرحمة تطلق على المخلوق، فتكون مخلوقة لله مفعولاً له، وذلك من آثار رحمته التي هي صفته تعالى، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - جواباً لسعد بن عبادة، لما قال له: ما هذا؟ قال: ((هذه رحمة جعلها الله في قلوب عبادة، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)) .
ولكن أشار إلى هذا اللفظ كعادته بذكره غير الصريح، والاكتفاء بالتلويح.
وفي الآية التي ترجم بها إشارة إلى مراده، فكأنه لحظ أن الرحمة فيها الجنة، وهي قريب من المحسنين، كما في الحديث: ((الجنة أقرب إلى أحدكم من شِرَاك نعله، والنار مثل ذلك)) يعني: من المسيئين.
وبذلك تظهر المناسبة بين الآية المترجم بها وأحاديث الباب. والله أعلم)) .
وقال الحافظ: ((المراد أنه يدخل من أحسن الجنة التي وعد المتقين برحمته، وقد قال للجنة: أنت رحمتي، وقال: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} وبهذا تظهر مناسبة الحديث للترجمة، والعلم عند الله)) (2) .
وليس هذا من التأويل المذموم؛ لأنه من المعنى الذي دلت عليه الآية ضمناً، وإلا فمنطوقها دال على صفة الرحمة الموصوف بها رب العالمين - جل وعلا -.
ومما يبين ذلك أن هذه الآية جاءت عقب الأمر بالدعاء تضرعاً وخفية،
_________
(1) رواه مسلم، انظر (17/69) بشرح النووي.
(2) ((الفتح)) (13/437) .(2/186)
والنهي عن الاعتداء والإفساد في الأرض بالمعاصي، ثم أمر تعالى بدعائه خوفاً وطمعاً، وهذه حال المتقين، الذين أحسنوا في أعمالهم، وأحسنوا إلى عباد الله بالنصح لهم، وإصلاح الأرض بالطاعة، والبعد عن مساخط الله التي هي الإفساد في البلاد والعباد، وهؤلاء هم المحسنون الذين قريبة منهم رحمة الله - تعالى -، ومنها الجنة.
قال ابن جرير: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} يقول جل ذكره: إن ثواب الله الذي وعد المحسنين على إحسانهم في الدنيا قريب منهم، وذلك هو رحمته؛ لأنه ليس بينهم وبين أن يصيروا إلى ذلك من رحمته وما أعد لهم من كرامته إلا أن تفارق أرواحهم أجسادهم.
ولذلك ذكَّرَ قوله: ((قريبٌ)) وهو خبر عن الرحمة، والرحمة مؤنثة؛ لأنه أريد به القرب في الوقت)) (1) .
وقال ابن كثير: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} أي: إن رحمته مرصدة للمحسنين الذين يتبعون أوامره، ويتركون زواجره، كمال قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} (2) .
وقال: ((قريب)) ولم يقل قريبة؛ لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب، أو لأنها مضافة إلى الله.
وقال مطر الوراق: ((استنجزوا موعود الله بطاعته، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين)) رواه ابن أبي حاتم (3) .
****
_________
(1) ((تفسير الطبري)) (12/488) ط: المعارف.
(2) الآية 156 من سورة الأعراف.
(3) ((تفسير ابن كثير)) (2/222) .(2/187)
75 - قال: ((حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد، حدثنا عاصم، عن أبي عثمان، عن أسامة، قال: كان ابن لبعض بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - يقضي، فأرسلت إليه أن يأتيها، فأرسل: ((إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل إلى أجل مسمى، فلتصبر، ولتحتسب)) ، فأرسلت إليه فأقسمت عليه، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقمت معه، ومعاد بن جبل، وأبي بن كعب، وعبادة بن الصامت، فلما دخلنا ناولوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبي، ونفسه تقلقل في صدره، حسبته قال: كأنها شنة، فبكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال سعد بن عبادة: أتبكي؟ فقال: ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)) .
تقدم هذا الحديث في باب قول الله - تعالى -: {قُلِ أدعُواْ اللهَ أَوِ أدعُواُ الرَّحَمَنَ} .
وتقدم شرحه هناك، والشاهد منه قوله: ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)) أي: الذين جعل الله في قلوبهم الرحمة، التي يرحمون بها عباد الله، فرحمة الله منهم قريب.
وسبق أن اللفظ الذي تقدم في الباب المشار إليه أوضح وأظهر في الدلالة على مقصوده هنا، ولكنه عدل عنه كعادته، إيثاراً للإشارة على التصريح في العبارة، حتى يروّض ذهن القارئ على التفطن والاستنباط، ولأن عادته أيضاً إذا أعاد الحديث فلا بد أن يختاره بألفاظ غير لفظه المتقدم، ما وجد إلى ذلك سبيلاً في المتن وفي رجال السند، أو على الأقل في أحدهما.
هنا السند أكثرهم غير من تقدم، والمتن فيه تغاير عما سبق.
76 - قال: ((حدثنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن صالح بن كيسان، عن الأعرج، عن أبي(2/188)
هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اختصمت الجنة والنار إلى ربهما، فقالت الجنة: يا رب، ما لها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ وقالت النار: يعني: أوثرت بالمتكبرين؟
فقال الله - تعالى - للجنة: أنت رحمتي، وقال للنار: أنت عذابي أصيب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها.
قال: فأما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحداً، وإنه ينشئ للنار من يشاء فيلقون فيها، فتقول: هل من مزيد - ثلاثاً - حتى يضع فيه قدمه، فتمتلئ، ويرد بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط قط)) .
الاختصام: هو التنازع بين فريقين، يذكر كل واحد منهما حجته أمام من يحكم بينهما.
وتقدم هذا الحديث في ((التفسير)) بلفظ تحاجت الجنة والنار.
وفي ((صحيح مسلم)) : ((احتجت)) ، والمعنى واحد.
قال المهلب: ((يجوز أن يكون هذا الخصام حقيقة، بأن يخلق الله فيهما فهماً، وكلاماً، والله قادر على كل شيء، ويجوز أن يكون هذا مجازاً، كقولهم: ((امتلأ الحوض، وقال قَطْنِِي)) ، والحوض لا يَتكلم، وإنما ذلك عبارة عن امتلائه)) (1) .
قلت: الأول هو المعتمد، وتقدم الكلام فيه والاستدلال له في شرح حديث أنس: ((لا يزال يلقى في النار، وتقول: هل من مزيد)) .
_________
(1) انظر ((الفتح)) (13/436) .(2/189)
وقال النووي: ((هذا الحديث على ظاهره، وأن الله – تعالى – يجعل في النار والجنة تمييزاً تدركان له، فتحاجتا، ولا يلزم من هذا أن يكون ذلك التمييز دائماًً)) (1) .
قال الحافظ: ((وحاصل اختصامهما: افتخار إحداهما على الأخرى بمن يسكنها، فتظن النار أنها بمن ألقي فيها من عظماء الدنيا أبر عند الله من الجنة.
وتظن الجنة أنها بمن أسكنها من أولياء الله – تعالى – أبر عند الله.
فأجيبتا: بأنه لا فضل لأحدهما على الأخرى من طريق من يسكنها، وفي كلامهما شائبة شكاية إلى ربهما، إذ لم تذكر كل واحدة منهما إلا ما اختصت به، وقد ردَّ الله الأمر في ذلك إلى مشيئته)) (2) .
قلت: الظاهر أن افتخار النار على الجنة بأنها محل انتقام الله – تعالى – من الطغاة والمجرمين الذين عصوا الله وكذبوا رسله، وسخروا منهم وبارزوا الله بالجرائم والآثام.
وغالب هذا النوع من قادة الناس ورؤسائهم وأغنيائهم، وأهل السيادة والقيادة فيهم، وأهل التجبر والتكبر.
وأما الجنة فإنها اشتكت لكون من يدخلها الضعفاء والفقراء وأهل المسكنة غالباً، ولهذا قالت: ((ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟)) .
قوله: ((قالت الجنة)) إلى آخره. تقدم أن الصحيح أن هذا بلسان المقال، أي: أنه قول قالته الجنة حقيقة، وأن الله جعل لها شعوراً وتمييزاً، وعقلاً ونطقاً، والله لا يعجزه شيء.
_________
(1) ((شرح مسلم)) (17/181) .
(2) ((شرح مسلم)) (17/181) .(2/190)
وليس هذا خاصاً بالجنة والنار، فقد ذكر الله – تعالى – أن الجبال كانت تسبح مع نبي الله داود عليه السلام.
وقال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (1) .
وقوله: ((فقالت: يا رب ما لها)) . عدول بالخطاب من المتكلم إلى الغائب، كأن الراوي كره أن يأتي به على أصله خشية أن يظن ظان أنه مضاف إليه، وهذا كثير في روايات الحديث.
والمقصود بضعفاء الناس: فقراؤهم، وأهل المسكنة والتواضع، الذين لا يبغون في الأرض علواً ولا فساداً، ولا يترفعون على عباد الله، بل هم متواضعون لله خاضعون له، أذلة على المؤمنين، وإن كانوا عند ذوي السلطان حقيرين ساقطين في أعينهم، لا يؤبه لهم لديهم، فهم عند الله عظماء رفعاء.
قوله: ((قالت النار: يعني: أوثرت بالمتكبرين)) أي: خصصت بأهل التكبر على عباد الله والتجبر والظلم للناس باحتقارهم، وغمط حقوقهم.
قوله: ((فقال الله للجنة: أنت رحمتي، وقال للنار: أنت عذابي أصيب بك من أشاء)) .
هذا هو حكم الله بينهما، يعني: أن الله – تعالى – خلق الجنة ليرحم بدخولها من شاء من عباده، من يتفضل عليه ويجعله مؤهلاً لذلك.
وأما النار فخلقها لمن عصاه وكفر به، وبرسله، يعذبهم بها.
وذلك كله ملكه يتصرف فيه كيف يشاء، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، ولكن لا يدخل النار إلا من استوجبها بعمله.
_________
(1) الآية 44 من سورة الإسراء.(2/191)
وهذه الجملة وهي قوله: ((فقال الله للجنة: أنت رحمتي)) هي الشاهد للباب، فالجنة قريب من المحسنين، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
ثم قال: ((ولكل واحدة منكما ملؤها)) وهذا وعد من الله – تعالى – لهما بأن يملأهما بمن يسكنهما، وفي هذا إشعار بأنهما يرغبان ذلك، وقد جاء الطلب من النار صريحاً، كما قال تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ (1) } ، وأقسم الله – تعالى – ليملأن جهنم من الجِنَّةِ والناس أجمعين)) .
فهما يمتلآن من بني آدم ومن الجن.
فمن آمن وعبد الله وحده، واتبع رسله، فمصيره إلى الجنة، ومن عصى وبغى، وطغى، وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى.
قوله: ((فأما الجنة، فإن الله لا يظلم من خلقه أحداً، وأنه ينشئ للنار من يشاء فيلقيهم فيها)) ، وتقدم حديث أنس في باب قول الله – تعالى -: {هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} ، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا يزال يلقى فيها وتقول: هل من مزيد، حتى يضع فيها رب العالمين قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض، ثم تقول: قد قد بعزتك وكرمك.
ولا تزال الجنة تفضل حتى ينشئ الله لها خلقاً، فيسكنهم فضل الجنة)) (2) .
وفي ((صحيح مسلم)) في هذا الحديث قال: ((فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله – تبارك وتعالى – رجله، تقول: قط قط قط، فهناك تمتلئ، ويُزْوَى بعضها إلى بعض، ولا يظلم ربك من خلقه أحداً.
_________
(1) الآية 30 من سورة ق.
(2) انظر الجزء الأول من هذا الشرح (ص140) .(2/192)
وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاً)) (1) ، ورواه البخاري بهذا اللفظ في ((التفسير)) (2) .
وبهذا يتبين أن قوله: ((وأنه ينشئ للنار من يشاء فيلقيهم فيها)) أنه خطأ، وإنما انقلب على الراوي، فصار ما للجنة للنار، فإن إنشاء الخلق يكون للجنة، وأما النار فإن الله – تعالى – يضع عليها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض، وتتضايق على من فيها، وبذلك تمتلئ ولا يظلم ربك أحداً. ويؤيد ذلك أن هذا الحديث جاء في ((التفسير)) من ((صحيح البخاري)) ، وجاء كذلك في مسلم على الوجه الصحيح، كما ذكره آنفاً، وبأنه خطأ قد انقلب على الراوي جزم به شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم، ويؤيده أيضا قوله تعالى: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} أي: من ذريتك وممن تبعك من بني آدم.
فلو دخلها أحد من غير أتباع الشيطان من ذريته وذرية آدم لم تمتلئ منهم.
قال الحافظ: قال أبو الحسن القابسي: ((المعروف في هذا الموضع أن الله ينشئ للجنة خلقاً، وأما النار فيضع فيها قدمه. قال: ولا أعلم في شيء من الأحاديث أنه ينشئ للنار خلقاً إلا هذا) انتهى.
وقد مضى في تفسير سورة ق، من طريق محمد بن سيرين، عن أبي هريرة: ((ويقال لجهنم: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد، فيضع الرب عليها قدمه، فتقول: قط قط)) .
ومن طريق همام بلفظ: ((فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله، فتقول: قط قط، فهناك تمتلئ، ويُزْوَى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحداً)) (3) .
_________
(1) ((صحيح مسلم)) (4/2187) رقم (2846) .
(2) انظر ((الفتح)) (8/595) .
(3) انظر ((الفتح)) (13/436-437) .(2/193)
وقال: ((وقد قال جماعة من الأئمة: إن هذا الموضع من الحديث مقلوب، وجزم ابن القيم بأنه غلط، واحتج بأن الله – تعالى – أخبر بأن جهنم تمتلئ من إبليس وأتباعه من بني آدم، وكذا أنكر الرواية شيخنا البلقيني، واحتج بقوله: {وَلاَ يَظلِمُ رَبُكَ أَحَدَا} . ثم ذكر تأويلات بعيدة جداً، بل باطلة، ثم قال: ((وفي الحديث دلالة على اتساع الجنة والنار، بحيث تسع كل من كان، ومن يكون إلى يوم القيامة، وتحتاج إلى زيادة، وقد تقدم أن آخر من يدخل الجنة يُعطى مثل الدنيا عشر مرات.
وقال الداودي: يؤخذ من الحديث أن الأشياء توصف بغالبها؛ لأن الجنة يدخلها غير الضعفاء، والنار قد يدخلها غير المتكبرين، وفيه رد على من حمل قول النار: {هَلْ مِن مَّزِيد} على أنه استفهام إنكار، وأنها لا تحتاج إلى زيادة)) (1) .
وقال شيخ الإسلام: ((قوله: وأما الجنة، فيبقى فيها فضل، فينشئ الله لها خلقاً فيسكنهم)) : ((ووقع في بعض طرق البخاري غلط، قال فيه: ((وأما النار فيبقى فيها فضل)) ، والبخاري رواه في سائر المواضع على الصواب؛ ليبين غلط هذا الراوي، كما جرت عادته بمثل ذلك، إذا وقع من بعض الرواة غلط في لفظ، ذكر ألفاظ سائر الرواة التي يعلم بها الصواب، وما علمت وقع فيه غلط إلا وقد بين فيه الصواب)) (2) .
وقال ابن القيم: ((وأما اللفظ الذي وقع في ((صحيح البخاري)) في حديث أبي هريرة: ((وأنه ينشئ للنار من يشاء، فيلقى فيها، فتقول: هل من مزيد)) فغلط من بعض الرواة، انقلب عليه لفظه، والروايات الصحيحة ونص القرآن يرده، فإن الله سبحانه أخبر أنه يملأ جهنم من إبليس وأتباعه،
_________
(1) ((الفتح)) (13/437) .
(2) ((منهاج السنة)) (3/25) .(2/194)
فإنه لا يعذب إلا من قامت عليه الحجة، وكذب رسله، قال تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ {8} قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} (1) ، ولا يظلم الله أحداً من خلقه)) (2) .
77 - قال: ((حدثنا حفص بن عمر، حدثنا هشام، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليصيبن أقواماً سفع من النار بذنوب أصابوها عقوبة، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته، يقال لهم: الجهنميون)) .
((سفع)) بفتح السين، وسكون الفاء، هو أثر تغير البشرة من حر النار أي: يصيبهم من لهبها ما يغير ألوانهم، وتقدم أنهم يحترقون حتى يكونوا فحماً.
قوله: ((بذنوب أصابوها)) أي: أن إصابتهم بسفع النار جزاء على ما اقترفه من الذنوب عقوبة لهم.
((ثم يدخلهم الجنة بفضل رحمته)) أي: يرحمهم الله تفضلاً منه وجوداً عليهم من غير استحقاق للجنة، وهذا محل الشاهد من الحديث، ووجهه أن هؤلاء لما كان معهم شيء من الإيمان صارت رحمة الله قريبة إليهم بالنسبة لمن هو في النار، وبقدر ما معهم من إيمان وإحسان.
والجهنميون نسبة إلى جهنم؛ لأن أثر إحراقهم ظاهر عليهم.
قولُهُ: ((وقال هَمّامٌ: حدثنا قتادة، حدثنا أنس)) إلى آخره.
يريد بيان أن عنعنة قتادة محمولة على السماع؛ لأنه صرح بالتحديث من هذه الطريق. والله أعلم.
_________
(1) الآيتان 8، 9 من سورة تبارك.
(2) ((حادي الأرواح)) (ص295) .(2/195)
قال: ((باب قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا} (1) .
قال ابن كثير: ((أخبر تعالى عن قدرته العظيمة، التي بها تقوم السماء والأرض عن أمره، وما جعل فيهما من القوة الماسكة لهما، فلا تضطربا عن أماكنهما، كما قال تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (2) ، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ (3) (4) } .
وقوله تعالى: {وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ} (5) ، أي: لا يقدر على إبقائهما بلا زوال واضطراب إلا هو - تعالى -، ومع موجب زوالهما واضطرابهما من جرائم بني آدم أمسكهما، فحلم الله الواسع، ومغفرته العظيمة، تدعوه تعالى إلى إمساكهما، ولهذا قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورَا} فيحلم ويغفر، ويستر، ويصفح عن العظيم مما يبارزه به عباده من الجرائم، كما ذكر تعالى عن بعض المجرمين ما يقتضى تفطر السماوات، وتشقق الأرض، وانهداد الجبال الراسيات منه، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا {88} لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا {89} تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا {90} أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} (6) .
_________
(1) الآية 41 من سورة فاطر.
(2) الآية 65 من سورة الحج.
(3) ((تفسير ابن كثير)) (6/543) ط: الشعب. ...
(4) الآية 25 من سورة الروم.
(5) الآية 41 من سورة فاطر.
(6) الآيات 88 - 91 من سورة مريم.(2/196)
ومراد البخاري - رحمه الله - من هذا الباب إثبات جنس الفعل لله تعالى؛ لقوله في الآية: ((يمسك)) وقوله في الحديث: ((يضع السماوات على إصبع)) إلى آخره، وإن تقدم ذكر الاستواء المتضمن للعلو فهو من صفات الذات والفعل، وأما هذا فهو نوع آخر من صفات الله - تعالى - الدالة على أنه تعالى فعَّال لما يريد، وهذا ما أنكره أهل الباطل من معتزلة وغيرهم، فأراد البخاري أن ينبه عى بطلان قولهم.
يعني: أن الله - تعالى - هو الممسك للسماوات والأرض بقدرته، وإذا أراد أن يطوي السماوات والأرض لترك إمساكهما فزالتا، فهو تعالى يفعل باختياره ما شاء، وفعله غير خلقه، وهذا يرد مذهب المعتزلة ومن قال بقولهم، حيث قالوا: إن أفعال الله - تعالى - مخلوقة.
قال المؤلف - رحمه الله - في كتابه ((خلق أفعال العباد)) : ((ادعت المعتزلة: أن فعل الله مخلوق، وأن أفعال العباد غير مخلوقة، وهذا خلاف علم المسلمين، إلا من تعلق من البصريين بكلام سنسويه، كان مجوسياً فادعى الإسلام)) (1) .
يعني: أن المسلمين مجمعون على خلاف ما يقوله المعتزلة من أن فعل الله - تعالى - مخلوق، ومراده بذلك: أنه لا فرق عندهم بين الفعل والخلق، فليس لله فعل يفعله باختياره وإرادته، وإنما يخلق، والخلق هو المخلوق المفعول.
وقوله: ((إلا من تعلق بكلام سنسويه من البصريين)) ، يقصد القدرية الذين أنكروا علم الله بالأشياء قبل وجودها، وتقديره لها، وخلقه إياها، فهؤلاء شذوا عن المسلمين.
وقد اتفق سلف هذه الأمة وأئمتها على أن الله - تعالى - متصف بصفات
_________
(1) ((خلق أفعال العباد)) (ص75) ، تحقيق الدكتور عبد الرحمن عميرة.(2/197)
الأفعال كما أنه متصف بصفات الذات، ولم يخالف في ذلك إلا الجهمية والمعتزلة.
ولا ينبغي أن يعد خلاف هؤلاء خلافاً؛ لأنهم تركوا صريح الأدلة في ذلك من كتاب الله - تعالى -، ومن سنة رسوله، ومن العقل أيضاً.
وقد علم أن الأفعال نوعان: متعد، ولازم، والله - تعالى - متصف بالنوعين.
فالمتعدي مثل الرزق، والإحياء، والإماتة، والخلق، ونحو ذلك.
واللازم مثل المجيء، والنزول، والإتيان، والاستواء، ونحوه.
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1) ، فجمع النوعين في هذه الآية، وكل ذلك واقع بمشيئته تعالى.
وهذا معنى قول أهل السُّنَّة: إن الله موصوف بالأفعال الاختيارية، أي: التي يفعلها باختياره تعالى، وأدلة ذلك في كتاب الله، وسنة رسوله، كثيرة جداً، وسوف يذكر فيما يأتي طرفاً من ذلك.
ومراده بيان أن أفعال الله من صفاته، وهي ثابتة بالكتاب والسُّنَّة والإجماع من أهل العلم والإيمان، وبالعقل السليم، وسيأتي في الباب بعد هذا التفرقة بين الفعل والمفعول، وما يأتي بعده إلى آخر الكتاب تفريع عليه.
***
78 - قال: ((حدثنا موسى، حدثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: جاء حبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد، إن الله يضع السماء على إصبع،
_________
(1) الآية 4 من سورة السجدة.(2/198)
والأرض على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر والأنهار على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يقول بيده: أنا الملك، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: {وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدرِهِ} .
سبق هذا الحديث في باب قول الله - تعالى -: {لِمَا خَلَقتُ بِيَدَىَّ} وذكره هناك من طريقين، غير الطريق التي هنا، وتقدم شرحه هناك، وجرياً على عادته إذا أعاد ذكر الحديث؛ فلا بد أن يغاير بين لفظه اللاحق وبين السابق، وبين سنديه، فإن لم يمكن ذلك فعل ما أمكنه منه.
وهنا قد غاير بين لفظه هنا وهناك، وكذلك في الإسناد.
ففي الباب السابق ((أن يهودياً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -)) .
وفي الطريق الأخرى: ((جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتاب)) .
وهنا: ((جاء حبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الراغب: ((الحبر: الأثر المستحسن، ومنه ما روي: (يخرج من النار رجل قد ذهب حبره، وسبره)) أي: جماله، وبهاؤه، ومنه سمي الحبر بالكسر، والحبر: العالم، وجمعه أحبار - سموا بذلك - لما يبقى من أثر علومهم في قلوب الناس، ومن آثار أفعالهم الحسنة المقتدى بها)) (1) ، وفي ((القاموس)) : الحبر: ((العالم أو الصالح)) .
قوله: ((ثم يقول بيده: أنا الملك)) ، أي: أنه تعالى يهزهن، استخفافاً لهذه المخلوقات، واستصغاراً لها أمام عظمة الله وقوته - جل وعلا -، وقد جاء مصرحاً بذلك في الروايات الأخرى.
قال ابن جرير: ((وحدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، عن منصور، عن خيثمة بن عبد الرحمن،
_________
(1) ((المفردات)) (ص106) .(2/199)
عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جاءه حبر من أحبار اليهود، فجلس إليه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((حدثنا؟)) قال: إن الله - تبارك وتعالى - إذا كان يوم القيامة جعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والماء الشجر على إصبع، وجميع الخلائق على إصبع، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك، قال: فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه؛ تصديقاً لما قال، ثم قرأ هذه الآية: {وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدرِهِ وَالأَرضُ جَمِيعَا قَبضَتُهُ يَومَ القِيامِةِ وَالسَّماواتُ مَطوِيَّاتٌ بِيمِينِهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمَّا يُشرِكُونَ} (1) .
ثم رواه من طريق أخرى، وهو صحيح لا مطعن فيه، وقد رواه أحمد والبخاري ومسلم، من حديث عبد الله بن عمر، ولفظه: ((قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: ((يطوي الله - عز وجل - السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)) وهذا لفظ رواية مسلم (2) .
وقال ابن جرير: ((حدثنا الربيع، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد، عن أبي حازم، عن عبد الله بن عمر، أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، يخطب الناس، فمر بهذه الآية: {وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدرِهِ وَالأَرضُ جَمِيعَا قَبضَتُهُ يَومَ القِيامِةِ وَالسَّماواتُ مَطوِيَّاتُ بِيمِينِهِ} فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يأخذ السماوات والأرضين السبع فيجعلها في كفه، ثم يقول بهما - كما يقول الغلام بالكرة -: أنا الله الواحد، أنا الله العزيز))
حتى لقد رأينا
_________
(1) ((تفسير الطبري)) (24/26) .
(2) انظر ((صحيح مسلم)) (4/2148) رقم (2788) وقد تقدم.(2/200)
المنبر وإنه ليكاد يسقط به)) (1)
وقال أيضاً: ((حدثنا علي بن داود، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا ابن أبي حازم، قال: حدثني أبو حازم، عن عبيد الله بن مقسم، أنه سمع عبد الله بن عمر، يقول: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر يقول: ((يأخذ الجبار سماواته وأرضه بيديه)) وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه، وجعل يقبضهما، ويبسطهما، قال: ((ثم يقول: أنا الرحمن، أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)) وتمايل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه، وعن شماله، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (2) .
وقد تقدم ذكر بعض الأحاديث في هذا، ففي هذه ونحوها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يذكر صفات الله - تعالى - فى المجامع العامة، ويخطب ببيانها على المنبر، ويبالغ في إيضاحها، وتفهيم السامعين لها، حتى إنه يقبض يديه ويبسطهما عند ذكره لقبض الله - تعالى - السماوات والأرض، خلافاً لمن زعم أنه لا ينبغي ذكر صفات الله عند عامة الناس، وهو زعم باطل مخالف للحق وطريق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، حيث كان يعرف الناس بربهم، ويذكر لهم صفاته وأفعاله وأقواله في كل موطن، ويكرر ذلك في مجالسه، وخطبه، يعرف ذلك من سبر حاله، وتتبع سنته، صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا الذي فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يدع مجالاً للشك في أن المراد من هذه النصوص هو ما دلت عليه ظاهراً، وأن تأويلها وصرفها عن ظاهرها باطل قطعاً، وتحريف للكلم عن مواضعه.
_________
(1) ((تفسير الطبري)) (24/26) ، ورواه البخاري (6/104) ، ومسلم (4/2147) ، رقم (2786) .
(2) المرجع السابق.(2/201)
ويزيد ذلك تأكيداً وبياناً أن أحداً من الصحابة لم يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يستفسر عن شيء منها؛ لأنهم فهموا المراد من ظاهر الخطاب ونصه.
ومما يزيد ذلك تأكيداً أيضاً، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر ولا حرفاً واحداً يدل على وجوب التأويل كما يقوله الموجبون للتأويل.
ومعلوم أن بيان ما أنزل الله إلى عباده واجب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد فعل بقوله، وفعله، كما كان يقبض يديه ويبسطهما عندما ذكر قبض الله - تعالى - لسماواته وأرضه بيديه، تقريراً منه - صلى الله عليه وسلم - لظاهر النص، وتأكيداً لما يفهمه كل مخاطب عربي يسمع هذا الكلام، ولو كان من أبلد الناس.
وهذا الذي فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو فعله أحد أمام من يدعون التحقيق، وأنهم أهل السُّنَّة، لصاحوا به، وعدوه مشبهاً مجسماً.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يفعل مثل ذلك كثيراً عند ذكر صفات الله - تعالى -، كما سبق أنه - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ قول الله - تعالى -: {وَكَانَ اللهُ سَمِيعَا بَصِيراً} .
وضع إصبعه على عينه، والأخرى على أذنه، زيادة إيضاح وتبيين أنه أراد ظاهر الخطاب، وكما سبق أيضاًً أنه قال: ((إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر ليس دونهما سحاب ولا قتر)) ، وغير ذلك.
وفي هذا الحديث ثبوت صفة الكف لله - تعالى -؛ لقوله: ((فيجعلهما في كفه)) .
وتقدم أن ضحك الرسول - صلى الله عليه وسلم - لفرحه بما قاله الحبر حيث ذكر ما يصدق ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - مما أوحاه الله إليه، ولهذا قرأ قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدرِهِ وَالأَرضُ جَمِيعَا قَبضَتُهُ يَومَ القِيامِةِ وَالسَّماواتُ مَطوِيَّاتٌ بِيمِينِهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمَّا يُشرِكُونَ} (1) ؛ لأن هذه الآية مطابقة لما قاله الحبر،
_________
(1) الآية 67 من سورة الزمر.(2/202)
وهو من العلم الموروث عن الأنبياء الذي أوحاه الله إليهم، ولا يمكن أن يكون إلا كذلك؛ لأنه إخبار عن شيء لم يقع، وإنما سيقع كما هو ظاهر.
وقد تقدم ذكر الأدلة في إثبات يدي الله - تعالى - وأصابعه، وتفنيد تأويلات المنكرين لها، وبيان أن تأويلها من تحريف الكلم عن مواضعه.
****
قال: ((باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض، وغيرهما من الخلائق، وهو فعل الرب - تبارك وتعالى - وأمره، فالرب بصفاته وفعله وأمره [وكلامه] وهو الخالق، هو المكون غير مخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه، فهو مفعول مخلوق مكون)) .
التخليق: مصدر، والمصدر هو: الحدث الذي لم يقترن بزمن، والحدث لا بد له من محدث، فتخليق السماوات والأرض هو فعل الله الذي وجدت به، فالله - تعالى - هو الخالق، والخلق والتخليق فعله الواقع منه على المخلوق، فالمخلوقات وجدت بفعل الله.
والمخلوق ليس هو فعل الله، وإنما هو مفعوله، أي: مخلوقه الذي صدر عن تخليقه.
وأفعاله الله نوعان: لازم، ومتعدَّ، فاللازم: نحو نزوله، ومجيئه، والمتعدي: نحو خلقه ورزقه، ولابد لهذا النوع من مفعول يتعدى إليه، وهو المخلوق، والمرزوق، بخلاف الأول.
قوله: ((وهو فعل الرب - تبارك وتعالى - وأمره)) يعني: أن التخليق فعل الرب - تعالى - والمقصود بالأمر هنا: قوله للمخلوق: ((كن)) .
قوله: ((فالرب بصفاته وفعله وأمره [وكلامه] يعني: أن صفاته وأمره وفعله، وكلامه، داخل في مسمى اسم الرب - تعالى - لا يكون شيء(2/203)
منها غيره؛ لأن صفة الشيء تقوم به، وفعله يقوم به - لا بغيره - وكذا أمره وكلامه.
ولفظه: ((وكلامه)) ثبتت في بعض نسخ الصحيح، وهي رواية أبي ذر، أحد رواة الصحيح عن البخاري، وهو من عطف الخاص على العام.
قوله: ((وهو الخالق، المكوِّن، غير مخلوق)) المكون بكسر الواو المشددة، وهو بمعنى المصوِّر.
قوله: ((وما كان بفعله وأمره، وتخليقه، وتكوينه، فهو مفعول مخلوق مكوَّن)) يعني: أن الفعل غير المفعول، فالفعل من صفات الفاعل يقوم به، والمفعول هو ما وجد بالفعل، فهو مفعول له محدث بعد أن لم يكن، بخلاف الفعل، فإنه قائم بالفاعل، فهو صفته، فالمفعول مخلوق، مكوَّن - بفتح الواو المشددة - بعد أن لم يكن.
ومراد البخاري - رحمه الله - الرد على من لم يفرق بين الفعل المفعول، كما بين ذلك في كتابه ((خلق أفعال العباد)) فإنه قال فيه:
((اختلف الناس في الفاعل، والمفعول، فقالت القدرية: الأفاعيل كلها من البشر، ليست من الله.
وقالت الجبرية: الأفاعيل كلها من الله.
وقالت: الفعل والمفعول واحد، لذلك قالوا: لـ ((كن)) مخلوق، وقال أهل العلم: التخليق فعل الله، وأفاعيلنا مخلوقه؛ لقوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {13} أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} (1) ، يعني: السر والجهر من القول، ففعل الله صفة الله، والمفعول غيره من الخلق)) (2)
_________
(1) الآيتان 13، 14 من سورة الملك.
(2) ((خلق أفعال العباد)) (ص144) ، تحقيق عبد الرحمن عميرة.(2/204)
وقال أيضاً: ((وأما الفعل من المفعول، فالفعل إنما هو إحداث الشيء، والمفعول هو الحدث؛ لقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} (1) ، فالسماوات والأرض مفعولة، وكل شيء سوى الله بصفاته - فهو مفعول - فتخليق السماوات فعله؛ لأنه لا يمكن أن تقوم سماء بنفسها من غير فعل الفاعل، وإنما تنسب السماء إليه لحال فعله، ففعله من ربوبيته، حيث يقول: ((كن فيكون)) ، و ((كن)) من صفته، وهو الموصوف به، كذلك قال: رب السماوات، ورب الأشياء، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((رب كل شيء ومليكه)) (2) .
وهذا شرح لما ترجم به هنا، وبيان لمراده، وهو واضح.
وبه يتبين خطأ ابن بطال في قوله: ((غرضه بيان أن جميع السماوات والأرض وما بينهما مخلوق؛ لقيام دلائل الحدوث عليها)) إلى آخره، كما ذكره الحافظ عنه في ((الفتح)) (3) ؛ لأن هذا أمر ظاهر، لا ينكره أحد.
****
79 - قال: ((حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرها محمد بن جعفر، أخبرني شريك ابن عبد الله بن أبي نمر، عن كريب، عن ابن عباس، قال: بت في بيت ميمونة ليلة، والنبي -صلى الله عليه وسلم - عندها، لأنظر كيف صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل، فتحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أهله ساعة، ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر أو بعضه قعد، فنظر إلى السماء، فقرأ: {إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاواتِ وَالأَرضِ} إلى قوله: {لأُوْلىِ الأَلبَابِ} ثم قام فتوضأ، واستن،
_________
(1) الآية الأولى من سورة الأنعام.
(2) ((خلق أفعال العباد)) (ص113) ، تحقيق الدكتور عميرة.
(3) انظر: ((الفتح)) (13/440) .(2/205)
ثم صلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى للناس الصبح)) .
هذا الحديث أكثر البخاري - رحمه الله - من تكراره، فقد ذكره فيما يقرب من عشرين موضعاً، كما بينته في دليل القارئ.
وميمونة: أم المؤمنين بنت الحارث الهلالية، وهي خالة ابن عباس أخت أمه لبابة الكبرى زوج العباس بن عبد المطلب.
وأمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث بن حماطة بن حمير.
تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمرة القضاء، سنة سبع، بسرف، وهو حلال غير محرم، وتوفيت - رضي الله عنها - بسرف، سنة إحدى وخمسين، وقيل غير ذلك، وصلى عليها ابن عباس، ودفنت هناك (1) .
قوله: ((بت في بيت ميمونة)) في رواية مسلم: ((فرقبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يصلي)) ، وفي أخرى له، قال: ((بعثني العباس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -)) .
وكان العباس بعثه في حاجة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بني، بت عندنا الليلة)) ذكره الحافظ،
عن قيام الليل، لمحمد بن نصر (2) ، فانتهز ابن عباس هذه الفرصة لينظر إلى عمل رسول الله - في الليل، فيتخذه قدوة.
قوله: ((فتحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أهله ساعة)) كان - صلى الله عليه وسلم - خير الناس لأهله، فكان يفعل ما يأنسون به من المحادثة، والتعليم لكل خير، من أمور الدنيا والآخرة.
_________
(1) انظر ((الإصابة)) (8/126) ، و ((الاستيعاب)) (4/1914) ، و ((أسد الغابة)) (7/272) ، وغيرها كثير.
(2) انظر ((فتح الباري)) (2/482) ، وانظر ((مختصر قيام الليل)) (ص105) وفيه: ((بعثني أبي العباس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد العشاء الآخرة في حاجة له، فلما بلغته إياها قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أي بني، بت عندنا هذه الليلة)) ... الخ.(2/206)
قوله: ((فلما كان ثلث الليل الأخير)) يجوز أن يكون التقدير: فلما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثلث الليل الأخير، ويجوز أن تكون (كان) تامة، والتقدير: فلما جاء ثلث الليل، وهذا هو الأظهر.
قوله: ((أو بعضه)) أي: بعض الليل، والبعض يصدق على كل فترة منه.
وقد جاء في غير هذا الموضع: ((حتى انتصف الليل، أو قريباً منه)) .
قوله: ((قعد، فنظر إلى السماء، فقرأ: {إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاواتِ وَالأَرضِ} إلى آخره، المعنى: أنه صلى الله عليه وسلم حين استيقظ نظر إلى السماء معتبراً بخلقها، ولهذا قرأ الآيات المذكورات، وجاء في روايات أنه قرأ العشر آيات من آخر سورة آل عمران، وهذا هو محل الشاهد من الحديث للباب؛ لأن فيها قوله: {إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاواتِ وَالأَرضِ} ، مع قوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَذَا بَاطِلاً} ، فالمنظور إليه، المشاهد، المشار إليه بقوله: {مَا خَلَقتَ هَذَا بَاطِلاً} ، مفعول مخلوق، وهو غير الفعل الذي هو صفة الفاعل، والفعل نتج عنه المفعول المحدث، هذا هو وجه الاستدلال الذي أراده البخاري - رحمه الله -.
قوله: ((ثم قام فتوضأ واستن)) أي: استاك بالسواك دالكاً به أسنانه.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك، ويحث عليه، وأخبر أنه مطهرة للفم، ومرضاة للرب - تعالى.
قوله: ((ثم صلى إحدى عشرة ركعة)) هذه سنته - صلى الله عليه وسلم - التي استمر عليها كما أخبرت بذلك زوجه عائشة - رضي الله عنها - أنه ما كان يزيد على إحدى عشرة ركعة في رمضان وغيره.
قوله: ((ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى ركعتين)) هاتان الركعتان، غير ما سبق ذكره من أنه صلى إحدى عشرة ركعة، بل هما سنة الفجر، لأنه صلاهما بعد الأذان، وكان - صلى الله عليه وسلم - يصليهما في بيته، ويحافظ عليهما حضراً وسفراً.(2/207)
قوله: ((وصلى للناس الصبح)) أي: صلى بهم إماماً، كما هو ظاهر، وقد تقدم شرح بعض هذا الحديث في باب قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرضَ بِالحَقِ} .
****
قال: ((باب قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} (1) .
قال ابن جرير: ((يقول جل ذكره: ولقد سبق منا القول لرسلنا إنهم لهم المنصورون، أي: مضى بهذا منا القضاء، والحكم في أم الكتاب، وهو أنهم لهم النصرة والغلبة، بالحجج)) ثم روى عن قتادة: قال: سبق هذا من الله لهم أن ينصرهم.
ثم ذكر أن بعضهم فسر السبق: بالسعادة، أي: سبق القضاء، والحكم لهم بالسعادة، وذكر أنه روي في قراءة عبد الله: (ولقد سبقت كلمتنا على عبادنا المرسلين) فجعلت ((على)) مكان اللام، فكأن المعنى: حقت عليهم ولهم، كما قيل: {عَلَى مُلكِ سُلَيمانَ} ، وفي ملك سليمان، إذ كان المعنى في ذلك واحداً)) (2) .
والسبق هو التقدم على الشيء، والكلمة المضافة إلى الله - تعالى - هي كلمته الكونية القدرية.
والقدر يتضمن علم الله بالشيء، وكتابته لذلك، ومشيئته له، ثم إيجاده له وفق تقديره، وهذا لابد أن يكون بكلامه.
وقد علم أن كلام الله - تعالى - ينقسم إلى: كوني قدري، وإلى شرعي أمري، وهذا الذي يخالفه أكثر العباد، ويعصونه.
_________
(1) الآية 171 من سورة الصافات.
(2) ((تفسير الطبري)) (23/114) .(2/208)
أما القسم الأول فلا يخالفه أحد، بل لابد من وقوعه وحصوله، وهو قد يكون متفقاً مع الكلام الشرعي الأمري، وقد يكون مخالفا له، وسيأتي تفصيل ذلك - إن شاء الله تعالى - في موضعه.
ومراد البخاري - رحمه الله - أن كلمة الله - تعالى - سبقت وجود الرسل والمرسل إليهم، فهي قبل الخلق الذي هو المخلوق، وهي غيره؛ لأنها صفة الله - تعالى -، وأما نصر الرسل وإسعادهم فهو جزاء عملهم وطاعتهم، فهو من إثابته لهم وفضله عليهم، فهو مخلوق بكلمته - تعالى -.
وأما قول الحافظ: ((أشار به إلى ترجيح القول بأن الرحمة من صفات الذات؛ لكون الكلمة من صفات الذات، فمهما استشكل في إطلاق السبق في صفة الرحمة، جاء مثله في صفة الكلمة، ومهما أجيب عن قوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُناَ} حصل به الجواب عن قوله: ((سبقت رحمتي)) ، وقد غفل عن مراده من قال: دل وصف الرحمة بالسبق على أنها من صفات الفعل)) (1) .
فهذا بعيد كل البعد عن مراد البخاري، وهو مبني على مذهب الأشعرية القائلين بأن الكلام من صفات الذات، وهو المعنى القائم بذات الله - تعالى -، وهو مخالف لكتاب الله وسنة رسوله، واعتقاد أهل السُّنَّة، وإنما مراده ما ذكرت. والله أعلم.
وأما صفات الرحمة فتكون صفة ذات وصفة فعل، كما سبق الكلام في ذلك.
وفي كتاب ((خلق أفعال العباد)) للبخاري - رحمه الله - نقلاً عن أبي عبيدة: {إنمَاَ قَولُنَاَ لِشَيءٍ إِذَا أَرَدناهُ نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} ، فأخبر أن أول خلقه بقوله، وأول خلق هو من الشيء الذي قال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ} فأخبر
_________
(1) ((فتح الباري)) (13/441) .(2/209)
أن كلامه قبل الخلق)) (1) ، وهذا قريب مما ذكره هنا، وهو يعين على فهم مراده.
قال: ((حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لما قضى الله الخلق كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي)) .
تقدم هذا الحديث في باب قول الله - تعالى -: ((ويحذركم الله نفسه)) لكن بلفظ يختلف عما هنا، فلفظه هناك: ((لما خلق الله الخلق كتب في كتابه - وهو يكتب على نفسه، وهو وضع عنده على العرش -: إن رحمتي تغلب غضبي)) والمعنى لا يختلف، والمقصود بالقضاء: التقدير، ويأتي القضاء بمعنى الأمر والحكم، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} (2) ، ويأتي بمعنى: قدر وأمضى، كما في قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ} (3) ، ويأتي بمعنى: فرغ من الشيء وأتقنه، نحو قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (4) ، والمعنى هنا: لما فرغ من تقدير الخلق، كما في الرواية الآتية في باب قول الله تعالى -: {بَل هُوَ قُرءَانُ مَّجِيدُ} ؛ أن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق)) .
ومراد البخاري من هذا الحديث: أن الكتاب الذي كتبه قبل خلق الخلق فيه سبق رحمته لعباده المرسلين، أي: أن كلمته التي سبقت بنصره عباده المرسلين قبل وجودهم.
_________
(1) ((خلق أفعال العباد)) (ص44) ، تحقيق عبد الرحمن عميرة.
(2) الآية 23 من سورة الإسراء.
(3) الآية 4 من سورة الإسراء.
(4) الآية 12 من سورة فصلت.(2/210)
وبهذا يتبين أن قوله غير خلقه، ونصرته لعباده المرسلين من رحمته التي سبقت غضبه، وتقدم الكلام على قوله ((عنده فوق عرشه)) ، وأنه يدل على استوائه على عرشه، وعلوه على خلقه، كما تقدم الكلام في صفة الرحمة والغضب.
80 - قال: ((حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا الأعمش، سمعت زيد بن وهب، سمعت عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق: ((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما وأربعين ليلة، ثم يكون علقة مثله، ثم يكون مضغة مثله، ثم يبعث إليه الملك، فيؤذن بأربع كلمات، فيكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل الجنة فيدخلها)) .
علماء الأمة يعدون هذا الحديث أصلاً كبيراً من أصول الإسلام؛ لأن فيه بيان وجوب الإيمان بالقدر، وهو أحد أركان الإيمان بالله ورسوله.
قوله: ((الصادق المصدوق)) وصف للنبي - صلى الله عليه وسلم - مستمر، أي: أنه صادق فيما يخبر به، وما يفعله، فلا يخبر إلا بالحق المطابق للواقع.
والصدق يطلق أيضاً على الفعل، يقال: صدق القتال، وهو صادق فيه والرسول - صلى الله عليه وسلم - صادق في أقواله وأفعاله.
((المصدوق)) فيما يأتيه من الأخبار؛ لأنه وحي من الله - تعالى -.
قوله: ((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً وأربعين ليلة)) يعني:(2/211)
أنه في هذه المدة يكون نطفة داخل بويضة المرأة، فيستمر هذه المدة، وتغلب عليه هذه الصفة في الأربعين الأولى - يعني: وصف النطفة، وفي الثانية: وصف العلقة، وفي الثالثة: وصف المضغة، وإن كانت خلقته قد تمت وتم تصويره.
قوله: ((ثم يكون علقة مثله)) يعني: بعد مضى أربعين على النطفة في الرحم، تصير علقة، وهي قطعة دم جامد، فتنقلب النطفة بعد دخولها بويضة المرأة، ومرور أربعين يوماً، إلى علقة، بدون تخطيط ولا روح.
((ثم يكون مضغة مثله)) يعني: بعد تمام الأربعين الثانية تصير العلقة مضغة.
والمضغة: قطعة لحم على قدر ما يمضغ الإنسان في فمه، وفي هذا الدور يبدأ تخطيط خلقه.
فالحديث يدل على أن خلق الإنسان يتقلب في مِئَة وعشرين يوماً في ثلاثة أطوار، في كل أربعين يوماً منها يكون في طور، فهو في الأربعين الأولى نطفة، وفي الثانية علقة، وفي الثالثة مضغة، وبعد ذلك يأتيه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بكتابة رزقه وأجله، وشقاوته أو سعادته.
((ثم يبعث إليه الملك)) جاء في الحديث الذي رواه مسلم، عن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: ((يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين، أو خمسة وأربعين ليلة، فيقول: يا رب، أشقي أو سعيد؟ فيكتبان، فيقول: أي: رب، أذكر أو أنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله، وأثره، وأجله، ورزقه، ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص)) (1) .
وفيه أيضاً عنه قال: ((سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا مر بالنطفة اثنتان
_________
(1) ((مسلم)) (4/2037) رقم (2644) .(2/212)
وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً، فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب، أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما يشاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أمر، ولا ينقص)) (1) .
وقد يبدو أن هذا يخالف حديث عبد الله بن مسعود؛ لأن ظاهر حديث عبد الله – كما تقدم- أنه يبقى أربعين يوماً نطفة، ثم أربعين أخرى علقة، ثم أربعين مضغة، ثم يبعث إليه الملك بعد الأربعين الثالثة.
قال ابن رجب: ((ظاهر حديث حذيفة يدل على أن تصوير الجنين، وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظامه يكون في الأربعين الثانية، فيلزم أن يكون في الأربعين الثانية لحماً وعظاماً، وهذا خلاف ظاهر حديث عبد الله، وظاهره أنه يصورها، ويخلق هذه الأجزاء كلها، وقد يكون خلق ذلك بتصويره وتقسيمه قبل وجود اللحم والعظام، فلا يكون بين الحديثين اختلاف.
وتأول بعضهم على أن الملك يقسّم النطفة إذا صارت علقة إلى أجزاء، فيجعل بعضها للجلد، وبعضها للحم، وبعضها للعظام، فيقدر ذلك كله قبل وجوده، وهذا خلاف ظاهر الحديث)) (2) .
قال ابن رجب: ((وقد ذكر علماء الطب ما يوافق الحديث، قالوا: إن المني إذا وقع في الرحم حصل له زبدة ورغوة ستة أيام، أو سبعة أيام، وفي هذه الأيام تصور النطفة من غير استمداد من الرحم (3) ، ثم بعد ذلك تستمد منه.
_________
(1) المرجع المذكور.
(2) شرح الأربعين (1/117-118) الطبعة السعدية.
(3) تبين في الطب الحديث أن نطفة الرجل تحمل حيوانات منوية كثيرة جداً، وإذا صادف واحد من هذه الحيوانات بويضة المرأة يكون انعقاد التلقيح.(2/213)
وابتداء الخطوط والنقط بعد هذا بثلاثة أيام، وقد يتقدم ويتأخر يوماً، ثم بعد ستة أيام، وهو الخامس عشر من وقت العلوق، ينفذ الدم إلى الجميع، فيصير علقة، ثم تتميز الأعضاء تميزاً ظاهراً، ويتنحى بعضها عن مماسة بعض، وتمتد رطوبة النخاع، ثم بعد تسعة أيام ينفصل الرأس عن المنكبين، والأطراف عن الأصابع [ويتميز] تميزاً يستبين في بعض، ويخفى في بعض.
قالوا: وأقل مدة يتصور فيها الذكر ثلاثون يوماً، والزمان المعتدل في تصوير الجنين خمسة وثلاثون يوماً، وقد يتصور في خمسة وأربعين يوماً، ولم يوجد في الإسقاط ذكر تم قبل ثلاثون يوماً، ولا أنثى قبل أربعين يوماً.
فهذا يوافق ما دل عليه حديث حذيفة في التخليق في الأربعين الثانية، ومصيره لحماً فيها أيضاً)) (1) .
وقال ابن القيم: ((إذا اشتمل الرحم على المني، ولم يقذف به إلى الخارج، استدار على نفسه وصار كالكرة، وأخذ بالشدة إلى تمام ستة أيام، فإذا اشتد نقط فيه نقطة في الوسط، وهو موضع القلب، ونقطة في أعلاه، وهي نقطة الدماغ، وفي اليمين، وهي نقطة الكبد، ثم تتباعد تلك النقط، ويظهر بينها خطوط حمر، إلى تمام ثلاثة أيام أخر، ثم تنفذ الدموية في الجميع بعد ستة أيام أخر، فيصير المجموع سبعة وعشرين يوماً، ثم ينفصل الرأس عن المنكبين، والأطراف عن الضلوع، والبطن عن الجنبين، وذلك في تسعة أيام، فتصير ستة وثلاثين يوماً، ثم يتم هذا التمييز بحيث يظهر للحس ظهوراً بيناً في تمام أربعة أيام، فيصير المجموع أربعين يوماً تجمع خلقه.
وهذا مطابق لقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً)) واكتفى صلى الله عليه وسلم بهذا الإجمال عن التفصيل، وهذا يقتضي أن الله قد جمع
_________
(1) ((شرح الأربعين)) (1/118-119) الطبعة السعدية.(2/214)
خلقه فيها جمعاً خفياً)) (1) .
وهذا الذي ذكره ابن رجب وشيخه ابن القيم – رحمهما الله تعالى – يكاد يكون متفقاً مع ما يقرره الأطباء حديثاً، وقد أصبحت الأجنة مشاهدة بواسطة آلات التصوير والمناظير، فصارت عند علماء الأجنة من الأطباء من الأمور الظاهرة، وعندهم التخليق يبدأ مبكراً من أيام الأربعين الأولى، وأحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا تخالف الواقع، وإنما يأتي الغلط من عدم فهم مراده - صلى الله عليه وسلم -.
وقد ذكر خلق الإنسان في مواضع عديدة من القرآن، كما قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} (2) ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ {12} ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ {13} ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (3) وحديث عبد الله يتفق مع هذه الآية الكريمة.
ولدلالة خلق الإنسان على خالقه، وعظيم قدرته، وعلى إعادته بعد موته، وعلى وجوب عبادة الله وحده، أكثر الله – تعالى – من ذكره في كتابه، وأمر عباده بالاعتبار به.
والملك الذي يرسل إلى النطفة في الرحم خلقه الله لذلك، وجعل ذلك وظيفته، وقد جعل الله – تعالى – لملائكته أعمالاً يختص بها كل فريق منهم.
قوله: ((فيؤذن بأربع كلمات، فيكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد)) .
_________
(1) ((التبيان)) (ص337) .
(2) الآية 14 من سورة نوح.
(3) الآيات 12 – 14 من سورة المؤمنون.(2/215)
قال الحافظ: ((المراد بالكلمات: القضايا المقدرة، وكل قضية تسمى كلمة)) (1) .
وهذا هو الذي عناه العلماء بقولهم في هذا الحديث: وجوب الإيمان بالقدر، فكل ما سيجري على هذه النطفة التي ذكر تكوينها في أول بدايتها، مكتوب مفروغ منه، قبل وجودها، فما تأكله مكتوب مسجل، لا يزيد ولا ينقص، وما تعمله كذلك، وبقاؤها حية في هذه الدنيا كذلك، ونهايتها ومصيرها مسجل معلوم لله – تعالى -: فالسعادة والشقاوة قد سبق بهما الكتاب، غير أن ذلك مقدر بحسب الأعمال التي يعملها هذا المخلوق، ومرتب عليها، بمعنى أن الله علم ذلك فكتبه، وكل ميسر لما خلق له.
وهذا أصل عظيم من أصول الإسلام، لا يمكن أن يستقيم لأحد دينه إلا بالإيمان به، وهو محل الشاهد الذي ساقه البخاري من أجله، فقد سبقت كلمة الله لعباده السعداء بالسعادة قبل وجودهم، وذلك فضل من الله ورحمة تفضل عليهم بذلك.
وظاهر حديث عبد الله بن مسعود هذا أن الكتابة تكون بعد الأربعين الأخيرة، وحديث حذيفة بن أسيد ظاهر في أن الكتابة تكون بعد الأربعين الأولى.
قال ابن رجب: ((جمع بعضهم بينهما بأن الكتابة تكون مرتين، ثم قال: وقد يقال: إن إحداهما في السماء، والأخرى في بطن أمه.
والأظهر أنها مرة واحدة.
ولعل ذلك يختلف باختلاف الأجنة، فبعضهم يكتب له ذلك بعد الأربعين
_________
(1) ((الفتح)) (11/482) .(2/216)
الأولى، وبعضهم بعد الأربعين الثالثة)) (1) .
وقال ابن القيم: ((ما في حديث ابن مسعود تقدير ثان بعد التقدير الذي ذكره في حديث حذيفة، فأول تقدير عند انتقال النطفة إلى أول أطوار التخليق التي هي أول مراتب الإنسان.
والتقدير الثاني: تقدير عند كمال خلقه، ونفخ الروح، فذلك تقدير عند أول خلقه وتصويره، وهذا تقدير عند تمام خلقه وتصويره)) (2) .
قوله: ((ثم ينفخ فيه الروح)) في رواية لمسلم: ((ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات)) . قال الحافظ: ((ويجمع بأن هذه الرواية صريحة في تأخير النفخ؛ للتعبير بقوله: ((ثم)) ، والأخرى محتملة، فترد إلى الصريحة، ولأن قوله في رواية مسلم: ((ويؤمر بأربع كلمات)) معطوفة بالواو، وهي لا تقتضي الترتيب فيكون عطف جملة على جملة، والتقدير: ((يجمع خلقه في هذه الأطوار، ويؤمر الملك بالكتابة)) ، وجاء قوله: ((ينفخ فيه الروح)) متوسطاً بين الجمل)) (3) .
وقال ابن رجب: ((إما أن يكون هذا من تصرف الرواة برواياتهم بالمعنى الذي يفهمونه، وإما أن يكون المراد ترتيب الأخبار فقط، لا ترتيب ما أخبر به)) .
وعلى كل فحديث ابن مسعود يدل على تأخير نفخ الروح في الجنين وكتابة الملك [ما أمر به] إلى ما بعد أربعة أشهر، حتى تتم الأربعون الثالثة.
فأما نفخ الروح فقد روي صريحاً عن الصحابة – رضي الله عنهم – أنه
_________
(1) ((شرح الأربعين)) (1/129) .
(2) ((التبيان)) (ص345) .
(3) ((الفتح)) (11/485) بمعناه ملخصاً.(2/217)
إنما ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر، كما دل عليه ظاهر حديث ابن مسعود)) (1) .
وقال عياض: ((اختلفت ألفاظ هذا الحديث في مواضع، ولم تختلف أن نفخ الروح فيه بعد مائة وعشرين يوماً، وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس، وهذا موجود في الشاهد، وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام، وقيل: إنه الحكمة في عدة الوفاة)) (2) .
والحديث يدل صراحة أن الملك هو الذي ينفخ في الجنين الروح، التي تحصل بها الحياة، وتسري في الجسد، وهي سر من الله، لا يعلم حقيقتها إلا هو تعالى، كما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (3) .
قوله: ((فإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل الجنة فيدخلها)) .
هذا مما يدل على ما أراده البخاري – رحمه الله -؛ لأن سبق الكتاب لما سيكون صريح في هذا النص، وهو دليل على كمال علم الله تعالى – وكمال قدرته، وإحاطته بكل شيء، فهو – تعالى – يعلم الأشياء قبل وجودها، وكتب كل ما هو كائن، فكل الحوادث تقع وفق علمه وكتابته.
فإذا وضعت النطفة التي يتكون منها الإنسان في رحم المرأة، وأراد - تعالى - تكوينها مخلوقاً أمر بكتابة ما يعمله هذا المخلوق، وما يكون له من رزق، وما سيلاقيه في حياته، وما يؤول إليه وينتهي، من سعادة أو شقاوة.
_________
(1) ((شرح الأربعين)) (1/123-124) .
(2) من ((الفتح)) (11/485) .
(3) الآية 85 من سورة الإسراء.(2/218)
وهذه الكتابة غير كتابة المقادير السابقة لخلق الخلائق، المذكورة في مثل قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا (1) } .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم، عن عبد الله بن عمرو، قال: ((إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)) ونحو ذلك من النصوص. وليس في كتابة الله تعالى وتقديره كل شيء قبل وجوده منافاة لمشيئة الإنسان واختياره، كما يتوهمه بعض الناس.
لأن الله – تعالى – كتب علمه بما يعمله هذا المخلوق، وما يترتب على عمله، ولم يجبره على فعل المعاصي، بل نهاه عنها وزجره وحذره من فعلها، وتوعده على ذلك، وخلّى بينه وبين نفسه ليختار ما يريد من غير إكراه وإلزام.
والمقصود أن هذا يدل على سبق الرحمة من الله لأهل السعادة قبل وجودهم، حيث قدر ذلك وكتبه، تفضلاً منه وإحساناً، ثم هيأهم للعمل لذلك ويسره لهم، فيدخل ذلك في قوله تعالى: {وَلَقد سَبَقَت كَلِمَتُنَا لِعبَادِنَا المُرسَلِينَ} .
ثم هذا يدل على أن الجزاء مرتب على العمل، فلا يدخل أحد الجنة إلا إذا عمل بعمل أهل الجنة، ولا يدخل أحد النار إلا إذا عمل بعمل أهل النار.
قال ابن رجب: ((فيه أن السعادة والشقاوة قد سبق الكتاب بهما، وأن ذلك مقدر بحسب الأعمال، وأن كلاً ميسر لما خلق له من الأعمال التي هي سبب السعادة أو الشقاوة)) (2) .
_________
(1) الآية 22 من سورة الحديد.
(2) ((شرح الأربعين)) (1/132) .(2/219)
وفيه أن الإنسان قد يعمل بعمل أهل الجنة، وهو في الحقيقة من أهل النار، فلا بد أن يعمل بعمل أهل النار قبيل موته، فيختم له بذلك وبالعكس؛ لأن الكتاب سبق بذلك، والحقيقة أن الذي سبق هو علم الله بأنه سوف يكون كذلك، وقد كتب الله ذلك.
وهذا هو الذي أزعج كثيراً من السلف، وأقلقهم.
قال ابن رجب: ((بكى أحد الصحابة عند موته، فسئل عن ذلك؟ فقال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((إن الله – تعالى – قبض خلقه قبضتين، فقال: هؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار)) ولا أدري في أي القبضتين كنت.
وقال بعض السلف: الذي أبكى العيون أشد البكاء هو الكتاب السابق)) .
وقال عبد العزيز بن أبي رواد: حضرت رجلاً عند الموت يلقن الشهادة: لا إله إلا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافر بما تقول، ومات على ذلك فسألت عنه، فإذا هو مدمن خمر.
فكان عبد العزيز يقول: اتقوا الذنوب فإنها هي التي أوقعته.
وقال سفيان لبعض الصالحين: هل أبكاك قط علم الله فيك؟ فقال ذلك الرجل: تركتني لا أفرح أبداً.
وكان سفيان يشتد قلقه من السوابق، والخواتيم، فكان يبكي، ويقول: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً، ويبكي ويقول: أخاف أن أسلب الإيمان عند الموت.
وكان مالك بن دينار يقوم طول ليله قابضاً على لحيته ويقول: يا رب، قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، ففي أي الدارين منزل مالك؟
وقال حاتم الأصم: من خلا قلبه من ذكر أربعة أخطار، فهو مغتر، فلا يأمن الشقاء:(2/220)
الأول: خطر يوم الميثاق حين قال: هؤلاء في الجنة، ولا أبالي، وهؤلاء في النار، ولا أبالي، فلا يعلم في أي الفريقين كان؟
والثاني: لما خلق في الظلمات الثلاث، حين نادى الملك بالشقاوة أو السعادة ولا يدري: أمن الأشقياء هو أم من السعداء؟
والثالث: ذكر هول المطلع بعد الموت، فلا يدري: أيبشر برضاء الله، أم بسخطه؟
والرابع: يوم يصدر الناس أشتاتاً، فلا يدري مع أي الفريقين يسلك به؟
وقال سهل التستري: المريد يخاف أن يبتلى بالمعاصي، والعارف يخاف أن يبتلى بالكفر.
وكان الصحابة – رضوان الله عليهم – ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق، ويشتد قلقهم وجزعهم منه.
فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر.
وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول في دعائه: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)) فقيل له: يا نبي الله، آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟
فقال: ((نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن – عز وجل – يقلبها كيف يشاء)) (1) .
وفي الجملة: فالخواتم ميراث السوابق، فكل شيء سبق في الكتاب السابق.
_________
(1) أخرجه أحمد في المسند (3/122، 256) و (6/91، 315) ، والترمذي من حديث أنس وأم سلمة وعائشة، انظر الترمذي (5/538) .(2/221)
وقد قيل: إن قلوب الأبرار معلقة بالخواتم، وقلوب المقربين معلقة بالسوابق، يقولون: ماذا سبق لنا؟)) (1) .
81 - قال: ((حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا عمر بن ذر، سمعت أبي يحدث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يا جبريل، ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟)) فنزلت: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأمرِ رَبِكَ لَهُ مَا بَينَ أَيدِيِنَا وَمَا خَلفَنَا وَمَا بَينَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيَّا} قال: كان الجواب لمحمد - صلى الله عليه وسلم -)) .
المقصود: أن كل شيء بتصريف الله وتدبيره، فلا أحد يملك معه شيئاً حتى يملكه هو ما يريد، فله الأمر من قبل وجود الخلق، ومن بعد وجودهم، وما بين ذلك، فلا يخرج من قبضته شيء، فإذا وقع في خلقه خير وفضل فبرحمته التي سبقت منه لهم، وإن وقع غير ذلك، فبعدله وسبب ذنوب خلقه، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، وأمره تعالى غير خلقه وأفعاله، فلهذا قال: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأمرِ رَبِكَ} فالتنزيل فعل جبريل، ولا يقع إلا بأمر الله - تعالى -، فأمره تعالى سابق خلقه وما يفعلونه.
ذكر ابن جرير عن الضحاك في قوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأمرِ رَبِكَ} قال: احتبس جبريل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تكلم المشركون في ذلك، واشتد ذلك على نبي الله، فأتاه جبريل، فقال: اشتد عليك احتباسنا عنك، وتكلم في ذلك المشركون، وإنما أنا عبد الله ورسوله، إذا أمرني بأمر أطعته، {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأمرِ رَبِكَ} أي: بقول ربك، {لَهُ مَا بَينَ أَيدِيِنَا وَمَا خَلفَنَا} معناه: له ما بين أيدينا من أمر الآخرة؛ لأن ذلك لم يجيء [وهو
_________
(1) ((شرح الأربعين)) (1/137-139) .(2/222)
آت] ، فهو بين أيديهم، وما خلفنا من أمر الدنيا، وذلك ما قد خلفوه فمضى، فصار خلفهم بتخليفهم إياه، وما بين ذلك ما لم يمض من أمر الدنيا إلى الآخرة)) (1) .
وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيَّا} أي: أنه تعالى علم كل شيء، فلا يخفى عليه شيء، ولا يغيب عنه صغير أو كبير، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أكبر من ذلك ولا أصغر إلا في كتاب مبين، قد كتبه قبل وجود خلقه لا من خشية نسيان أو فوات.
ووجه الاستشهاد بهذا الحديث: أن الأمر الذي قال جبريل عنه: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأمرِ رَبِكَ} يدخل فيه الأمر الكوني القدري الذي سبق كل ما هو كائن، والأمر الشرعي التكليفي، ونزول جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكون إلا بالخير والبركة والنصر والتأييد للمؤمنين، فهو مما سبقت به كلمته تعالى لرسوله ومن معه، والله أعلم.
قال البخاري في كتابه ((خلق أفعال العباد)) : ((قال الله - عز وجل - عن جبريل: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأمرِ رَبِكَ} فبين أن التنزيل غير الأمر)) (2) . وتقدم أن أمر الله سابق لخلقه.
82 - قال: ((حدثنا يحيى، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة، وهو متكئ على عسيب، فمر بقوم من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه، فسألوه، فقام متوكئاً على العسيب، وأنا خلفه، فظننت
_________
(1) ((تفسير الطبري)) (16/401-405) ببعض التصرف.
(2) (ص183) تحقيق بدر البدر.(2/223)
أنه يوحى إليه، فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} ، فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم لا تسألوه)) .
قال ابن جرير: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} يعني: أنه من الأمر الذي يعلمه الله دونكم، فلا تعلمونه، ويعلم ما هو.
{وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} خرج الكلام خطاباً لمن خوطب به، والمراد: جميع الخلق؛ لأن علم كل أحد سوى الله - تعالى - وإن كثر، فهو في علم الله - تعالى - قليل، والمعنى: وما أوتيتم أيها الناس من العلم إلا قليلاً من كثير مما يعلم الله)) (1) .
قوله: ((في حرث بالمدينة)) في رواية لابن مردويه: ((في حرث للأنصار)) ، وعند مسلم: ((كان في نخل)) وكل هذه الألفاظ تؤكد أن هذه الواقعة كانت في المدينة، ومعلوم أن سورة الإسراء مكية، فإما أن يقال: إن هذه الآية مدنية، وهو الأوجه، فكثير من السور المكية يكون فيها آيات مدنية، أو يقال: إنها نزلت مرتين للتأكيد، كما قيل في الفاتحة، وغيرها.
وأما كونه - صلى الله عليه وسلم -لم يجبهم بها من أول وهلة، فلعله كان ينتظر الأمر يأتيه من الله، إما بزيادة أو بغير ذلك. والله أعلم.
قوله: ((وهو متكئ على عسيب)) أي: معتمد عليه وهو يمشي، والعسيب بوزن عظيم، هو جريد النخل، بمنزلة الغصن من الشجرة، ويسمى عسيباً إذا كان فيه خوصة، فإذا أزيل فهو جريدة.
قوله: ((فظننت أنه يوحى إليه)) ، في الرواية الأخرى: ((فعلمت أنه يوحى
_________
(1) ((تفسير الطبري)) (15/157) .(2/224)
إليه)) وقد يستعمل الظن بمعنى العلم.
قال ابن كثير: ((قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي: من شأنه، ومما استأثر بعلمه دونكم، ولهذا قال: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} أي: وما أطلعكم من علمه إلا على القليل، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء - تبارك وتعالى -.
والمعنى: أن علمكم في علم الله قليل، وهذا الذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى، ولم يطلعكم عليه، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه - تعالى -.
وقد اختلف في الروح المسؤول عنها هنا، فقيل، المراد: أرواح بني آدم، قال العوفي: عن ابن عباس في قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية، وذلك أن اليهود قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أخبرنا عن الروح، وكيف تعذب الروح التي في الجسد، وإنما الروح من الله؟ ولم يكن نزل فيه شيء فلم يحر إليهم جواباً، فأتاه جبريل، فقال له: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} أخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقالوا: من جاءك بهذا؟ فقال: ((جاءني به جبريل من عند الله)) .
وقيل: المراد هنا: جبريل - عليه السلام -، قاله قتادة.
وقيل: المراد: ملك عظيم بقدر المخلوقات كلها، قال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس: قوله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} يقول: الروح: ملك عظيم.
وقيل: المراد طائفة من الملائكة)) (1) .
_________
(1) ((تفسير ابن كثير)) (5/112-113) طبعة الشعب.(2/225)
وقال الحافظ: ((قال الأكثر: سألوه عن الروح التي تكون بها الحياة في الجسد، وقال أهل النظر: سألوه عن كيفية مسلك الروح في البدن، وامتزاجه به، وهذا هو الذي استأثر الله بعلمه.
وقال القرطبي: الراجح أنهم سألوه عن روح الإنسان؛ لأن اليهود لا تعترف بأن عيسى روح الله، ولا تجهل أن جبريل ملك، وأن الملائكة أرواح.
وقال الرازي: المختار أنهم سألوه عن الروح الذي هو سبب الحياة، وأن الجواب وقع على أحسن الوجوه.
وبيانه: أن السؤال عن الروح يحتمل أن يكون عن ماهيته، أو عن صفته، أو كيفية تعلقه بالبدن، أو غير ذلك، وقد سكت السلف عن البحث في هذه الأشياء)) (1) .
وقال ابن القيم: ((في المراد بالروح في هذه الآية خلاف بين السلف والخلف.
وأكثر السلف، بل كلهم، على أن الروح المسؤول عنها في الآية ليست أرواح بني آدم، بل هو الروح الذي أخبر الله عنه في كتابه أنه يقوم يوم القيامة مع الملائكة، وهو ملك عظيم)) (2) .
قال الحافظ: ((الراجح أنها روح الإنسان)) . وهذا هو الظاهر، أن المراد: الروح الذي تحصل به الحياة، وهو ما ذهب إليه أكثر المفسرين من المتأخرين وشراح الحديث.
وأما قول ابن القيم - رحمه الله -: ((ومعلوم أنهم إنما سألوه عن أمر لا يعرف
_________
(1) ((الفتح)) (8/402) بتصرف.
(2) ((الروح)) (ص237) .(2/226)
إلا بالوحي، وذلك هو الروح الذي عند الله، لا يعلمها الناس، وأما أرواح بني آدم فليست من الغيب، وقد تكلم فيها طوائف من الناس، من أهل الملل وغيرهم، فلم يكن الجواب عنها من أعلام النبوة)) (1) .
فيقال: بل الروح من الغيب الذي لا يعلمه الناس، فإن هذه الروح التي في بني آدم وإن تكلم فيها طوائف من الناس فهي مجهولة الحقيقة، لا يعلمها إلا الله، والذين تكلموا فيها تكلموا بالظنون، ولم يصلوا إلى معرفة شيء من حقيقتها.
((قال بعض السلف في تفسيرها: جرى بأمر الله في أجساد الخلق، وبقدرته استقر، وهذا بناء على أن المراد بالروح في الآية روح الإنسان)) (2) .
((قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} من المعلوم قطعاً أنه ليس المراد بالأمر ها هنا الطلب الذي هو أحد أنواع الكلام، فيكون المعنى: إن الروح كلامه الذي يأمر به، بل المراد بالأمر هنا: المأمور، وهو عرف مستعمل في لغة العرب، وفي القرآن منه كثير، كقوله تعالى: {أَتَى أَمرُ اللهِ فَلاَ تَستَعجِلُوهُ} أي: مأموره الذين قدره وقضاه، وقال له: كن، فيكون، وقوله: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ} (3) ، أي: مأموره الذي أمر به، من إهلاكهم)) (4) .
ومقصود البخاري من الحديث: قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} يعني: أنها كانت ووجدت بأمر الله، فأمر الله ليس هو الروح، وإنما وجدت الروح
_________
(1) ((الروح)) (ص237) .
(2) المرجع السابق.
(3) الآية 101 من سورة هود.
(4) المرجع المذكور.(2/227)
بأمره، وهو سابق لما وجد به.
83 - قال: ((حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تكفل الله لمن جاهد في سبيله، لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلماته، بأن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، مع ما نال من أجر أو غنيمة)) .
((تكفل)) معناه: ضمن له حصول ما ذكره، فلا يمكن فواته؛ لأن الله - تعالى - إذا ضمن شيئاً فلا بد من حصوله لمن ضمنه له.
وفي رواية: بدل ((تكفل)) : ((انتدب الله لمن خرج)) ومعناه: سارع بثوابه وحسن جزائه، وقيل: أجاب إلى المراد، ففي الصحاح: ندبت فلاناً فانتدب، أي: أجاب إليه، وقيل: معناه: تكفل بالمطلوب، ويدل عليه رواية ((تكفل)) (1) .
قلت: المعنى الأخير هو الصواب، والمعنيان الأولان يدخلان فيه، وقد جاء في رواية مسلم ((تضمن الله لمن خرج في سبيله)) ، والمعنى واحد.
وهذا من باب التأكيد، وإلا فوعد الله لابد من وقوعه، فإن الله لا يخلف وعده، والتكفل: وعد وزيادة تأكيد لوقوعه بالضمان.
قوله: ((لمن جاهد في سبيله)) الجهاد، والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو، فهو بذل للجهد بالنفس والمال.
قال الراغب: ((الجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس، وتدخل ثلاثتها في قوله - تعالى - {وَجَاهِدُوا
_________
(1) ((الفتح)) (1/93) .(2/228)
فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (1) {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} (2) و {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} ِ (3) .
والمجاهدة تكون باليد، واللسان)) (4)
وقال الحافظ: ((الجهاد بكسر الجيم: أصله لغة: المشقة، يقال: جهدت جهاداً: بلغت المشقة. وشرعاً: بذل الجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضاً على مجاهدة النفس، والشيطان، والفساق.
فأما مجاهدة النفس؛ فعلى تعلم أمور الدين، ثم على العمل بها، ثم على تعليمها.
وأما مجاهدة الشيطان؛ فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات، وما يزينه من الشهوات.
وأما مجاهدة الكفار؛ فيقع باليد، والمال، واللسان، والقلب.
وأما مجاهدة الفساق؛ فباليد، ثم اللسان، ثم القلب)) (5) .
((سبيل الله)) : طريقه الذي شرعه لعباده المؤمنين، وهو دينه وشرعه.
قوله: ((لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلماته)) أي: ليس له أي دافع غير ذلك، بل الجهاد في سبيل الله، والإيمان بوعده للمجاهدين في سبيله هو الحامل له على الخروج، وهذا هو الإخلاص لله - تعالى - في الجهاد،
_________
(1) الآية 78 من سورة الحج.
(2) الآية 41 من سورة التوبة.
(3) الآية 72 من سورة الأنفال.
(4) ((المفردات)) (ص101) .
(5) ((الفتح)) (6/3) .(2/229)
والإخلاص هو الذي يجعل العمل القليل كثيراً عظيماً، مع أنه شرط في قبول العمل.
والتصديق بكلمات الله - تعالى - يشمل الإيمان بكلماته الأمرية الشرعية والعمل بها، والإيمان بكلماته الكونية القدرية، وهي التي سبقت بتقدير الأشياء كلها قبل وجودها.
وهذه الجملة هي المقصودة من الحديث هنا؛ لهذا المعنى المذكور.
قوله: ((بأن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة)) هذا هو الذي كفله الله لمن يخرج مجاهداً في سبيله.
وسبيل الله - تعالى - هو الجهاد لإعلاء كلمته التي هي: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أي: عبادة الله وحده، ومتابعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن لا يحكم إلا بشرعه، ولا يتعبد إلا بما جاء به رسوله.
فهذا هو غاية المجاهد في سبيل الله، فمن خرج مجاهداً لهذا الغرض، فإن قتل أو مات في مخرجه ذلك فهو في الجنة، وإن فاته ذلك فلا بد أن يصل إلى مسكنه الذي خرج منه بما نال من الأجر، والغنيمة، فهو متحصل على إحدى الحسنيين على كل تقدير، وهذا هو الربح.
****
84- ((حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن أبي موسى، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟
قال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) .
الحمية: مأخوذة من الحم: وهو الحرارة المتولدة من الجواهر المتوقدة، كالنار والشمس.(2/230)
وعبر عن القوة الغضبية إذا ثارت وكثرت بالحمية.
وإذا كانت من أجل الباطل، ومدافعة الحق، فهي حمية الجاهلية.
والمقصود بالحمية هنا: القتال لأجل القومية، أو الدنيا من أرض أو ملك أو غير ذلك، لا لأجل إعلاء دين الله - تعالى -.
وأما الشجاعة: فهي الجرأة والإقدام على العدو بقوة، ودون تهيب، وهي من الصفات المحمودة، إذا كانت في الحق، وهي من المفاخر التي يفتخر بها الناس، فقد يقدم المرء على القتال لأجل إظهار شجاعته وحبه للقتال فقط.
وأما الرياء، فهو: مراءاة الناس للأعمال الحسنة، حتى يثنى عليه أو يحبوه ونحو ذلك، وهذا كله من الشرك، فقد يكون شركاً أكبر، وقد يكون أصغر، على حسب الدافع وما يقوم بالنفس.
وقوله: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) جواب جامع شامل لما ذكر في السؤال وغيره من الأغراض والدوافع التي قد تدفع الإنسان إلى القتال، فمن كان قصده في قتاله: رفع دين الله وإعزازه، وأن لا يعبد معه غيره، ولا يحكم إلا بشرعه، فهو في سبيل الله، وإلا فليس في سبيل الله.
والمقصود من الحديث قوله: ((لتكون كلمة الله هي العليا)) والذي يقاتل لذلك هو الذي سبقت له كلمة الله الكونية أنه من المنصورين؛ لأنه من أتباع المرسلين، فهو منهم في هذا الحكم، وهذا وجه الشاهد، والله أعلم.
****
قال: ((باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا قَولُنَا لِشَيءٍ} .
قال ابن كثير: ((أخبر تعالى عن قدرته على ما يشاء، وأنه لا يعجزه شيء، وإنما إذا أمر به مرة واحدة كان من غير تأكيد فيما يأمر به، فإنه تعالى(2/231)
لا يمانع ولا يخالف)) (1) .
قال ابن بطال: ((غرضه الرد على المعتزلة، في زعمهم أن أمر الله مخلوق، فبين أن الأمر هو قوله للشيء ((كن)) فيكون بأمره له، وأن أمره وقوله بمعنى واحد، وأنه يقول: ((كن)) حقيقة، وأن الأمر غير الخلق، لعطفه عليه بالواو)) (2) .
وقال الحافظ: ((قال ابن أبي حاتم في كتاب ((الرد على الجهمية)) :
حدثنا أبي قال: قال أحمد بن حنبل: دل على أن القرآن غير مخلوق حديث عبادة ((أول ما خلق الله القلم، فقال: اكتب)) الحديث، وإنما نطق القلم بكلامه؛ لقوله: {إِنَّمَا قَولُنَا لِشَيءٍ إِذَا أَرَدنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} ، فكلام الله سابق على أول خلقه، فهو غير مخلوق.
وعن الربيع بن سليمان، سمعت البويطي يقول: خلق الله الخلق بقوله: ((كن)) فلو كان ((كن)) مخلوقاً، لكان قد خلق الخلق بمخلوق، وليس كذلك)) (3) .
وقال البخاري: ((قال سفيان: إن كل شيء مخلوق، والقرآن ليس بمخلوق، وكلامه أعظم من خلقه؛ لأنه يقول للشيء: ((كن)) فيكون، فلا يكون شيء أعظم مما يكون به الخلق، والقرآن كلام الله)) (4) .
وقال: ((وقيل لأبي عبيد: إن المريسي سئل عن ابتداء خلق الأشياء، وعن قول الله - عز وجل -: {إِنَّمَا قَولُنَا لِشَيءٍ إِذَا أَرَدنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن
_________
(1) ((تفسير ابن كثير)) ملخصاً (4/490-491) .
(2) من ((الفتح)) (13/443) .
(3) ((الفتح)) (13/444) .
(4) خلق أفعال العباد)) (ص34.)
(4) وقال ابن عطية: ((من الدليل على أن القرآن غير مخلوق: أن الله - تعالى - ذكر القرآن في كتابه العزيز في أربعة وخمسين موضعاً، ما فيها موضع صرح فيه بلفظ الخلق، ولا أشار إليه، وذكر الإنسان على الثلث من ذلك، في ثمانية عشر موضعاً، كلها نصت على خلقه، وقد افترق ذكرهما على هذا النحو في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ {1} عَلَّمَ الْقُرْآنَ {2} خَلَقَ الإِنسَانَ {3} عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} .(2/232)
فَيَكُونُ} فقال: كله صلة (1) ، فمعنى قوله: {أَن نَّقُولَ} صلة، كقوله: قالت السماء فأمطرت، وكقوله: قال الجدار فمال، قال الله - تعالى -: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ} (2) ، والجدار لا إرادة له، فمعنى قوله: إذا أردناه: كوناه، فكان.
لم يكن عند المريسي جواب أكثر من هذا، يعني: أن الله - تعالى - لا يتكلم.
قال أبو عبيد، القاسم بن سلام: أما تشبيه قول الله - تعالى -: {إِذَا أَرَدنَاهُ} ، بقوله: قالت السماء فأمطرت، أو: قال الجدار فمال.
فإنه لا يشبهه، وهذه أغلوطة أدخلها؛ لأنك إذا قلت: قالت السماء، ثم سكت، لم يدر ما معنى ((قالت)) ، حتى تقول: فأمطرت.
وكذلك إذا قلت: أراد الجدار، ثم لم تبين ما معنى: أراد، لم يدر ما معناه، وإذا قلت: ((قال الله)) اكتفيت بقوله ((قال)) . فـ ((قال)) كافٍ، لا يحتاج إلى شيء يستدل به على ((قال)) ، كما احتجت، ((إذا قال الجدار فمال)) ، وإلا لم يكن لقال الجدار معنى.
ومن قال هذا فليس شيء من الكفر إلا وهو دونه.
ومن قال هذا، فقد قال على الله ما لم يقله اليهود، والنصارى، ومذهبه التعطيل للخالق)) (3) .
يعني: أن القول إذا أسند إلى ما لا يعقل فلا بد أن يقيد بالفعل الذي يصدر من ذلك المسند إليه؛ لأن القول عبارة عن ذلك الفعل.
_________
(1) يعني: زائداً ليس له معنى.
(2) الآية 77 من سورة الكهف.
(3) ((خلق أفعال العباد)) (ص35) .(2/233)
فالمراد بقوله: قال الجدار فمال: الإخبار على ميل الجدار، وقوله حسب ما يليق به، أما إذا أسند القول إلى من يتكلم حقيقة فلا يحتاج إلى أي قيد، بل إذا قلت: قال أبو بكر، فهم السامع أنه نطق بكلام ينتظر أن نذكره له.
وأراد البخاري أن يبين أن القول غير الشيء الذي أراد الله إيجاده، فالقول صفة لله - تعالى -، وبه يوجد الأشياء التي يريد وجودها، فإذا قال لها: ((كوني)) كانت بلا مهلة ولا امتناع، والقول والأمر سواء.
***
85 - قال: ((حدثنا شهاب بن عباد، حدثنا إبراهيم بن حميد، عن إسماعيل، عن قيس، عن المغيرة بن شعبة، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يزال من أمتي قوم ظاهرين على الناس، حتى يأتيهم أمر الله)) .
في رواية مسلم عن المغيرة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون)) (1) .
وفيه عن ثوبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) (2) .
وفيه أيضاً من حديث جابر بن عبد الله: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين إلى يوم القيامة)) (3) .
قوله: ((لا يزال من أمتي قوم ظاهرين)) أي: يستمرون في الظهور على
_________
(1) ((صحيح مسلم)) (3/1523) رقم (1921) .
(2) المرجع المذكور رقم (1920) .
(3) ((صحيح مسلم)) (3/1524) رقم (1923) .(2/234)
الناس، يعني: أنهم يكونون على الحق منصورين ظاهرين على عدوهم.
قوله: ((حتى يأتيهم أمر الله)) أي: حكمه وقضاؤه، إما بقيام الساعة كما في حديث جابر: ((إلى يوم القيامة)) ، أو بالريح التي يموتون منها، كما جاء في الحديث.
قال الحافظ: ((أي: غالبون من خالفهم، أو المراد بالظهور: أنهم غير مستترين، بل مشهورون، والأول أولى؛ لما في مسلم: ((لن يبرح هذا الدين قائماً تقاتل عليه عصابة من المسلمين، حتى تقوم الساعة)) ، وفيه أيضاً من حديث عقبة بن عامر: ((لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة)) (1) ، والمراد بالساعة: الريح التي تقبض روح كل مؤمن، وذلك قبيل الساعة، فلا يبقى إلا شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة، وهذا معنى الذي في مسلم: ((لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس)) .
وهذه الطائفة هم أتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال البخاري - رحمه الله -: ((هؤلاء هم أهل العلم)) (2) أي: العلم الشرعي، الذين علموا ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعملوا به.
وقال الترمذي بعد روايته لهذا الحديث: ((سمعت محمد بن إسماعيل يقول: سمعت علي بن المديني يقول: هم أصحاب الحديث)) (3) .
وقال الحاكم: سمعت أبا عبد الله، محمد بن علي بن عبد الحميد الأدمي بمكة يقول:
_________
(1) ((صحيح مسلم)) (3/1524 - 1525) رقم (1922، 1924) .
(2) انظر ((الفتح)) (13/393) .
(3) انظر ((سنن الترمذي)) (4/504 - 505) رقم (2229) .(2/235)
سمعت موسى بن هارون، يقول: سمعت أحمد بن حنبل، وسئل عن معنى هذا الحديث، فقال: ((إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث فلا أدري من هم)) وهذا إسناد صحيح، قال الحاكم: ((فلقد أحسن أحمد بن حنبل في تفسير هذا الخبر، أن الطائفة المنصورة، التي يرفع الخذلان عنهم إلى قيام الساعة، هم أصحاب الحديث)) (1) .
والمقصود من هذا الحديث قوله: ((حتى يأتيهم أمر الله)) وهو أمره الكوني القدري الذي قضاه، وكتبه قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فأوحاه الله إلى رسوله ليعلم أمته به فيؤمنوا به، ويصدقوه، فإذا وصل وقته قال الله - تعالى -: كن، فيكون كما أراد.
ومراد البخاري أن أمر الله من صفاته، فهو غير المخلوق، وغير المأمور، وهو مرادف للقول.
******
86 - قال: ((حدثنا الحميدي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن جابر، حدثني عمير بن هانئ، أنه سمع معاوية، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من كذبهم، ولا من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)) .
فقال مالك بن يخامر: سمعت معاذاً يقول: وهم بالشام، فقال معاوية: ((هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول: وهم بالشام)) .
((الأمة)) تطلق على الجماعة من الناس، كما قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} (2) ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا
_________
(1) ((علوم الحديث)) (ص3) .
(2) الآية 23 من سورة القصص.(2/236)
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً (1) } .
فالأمة: كل جماعة يجمعهم أمر من الأمور؛ إما دين، أو زمان، أو مكان.
ويراد بها الملة والدين، كما في قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ} (2) .
ويراد بها الطائفة من الزمان، كما في قوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعدَ أُمَّةٍ} (3) ، أي: بعد حين.
ويراد بها: الإمام القدوة المتبع، كما في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا} (4) . والمقصود أن جماعة من هذه الأمة تبقى ظاهرة على دين الله، منصورة إلى قيام الساعة، وهذا من فضل الله - تعالى - أن جعل الحق باقياً، لا يذهب ولا يضمحل وإن كثر محاربوه وأعداؤه، كما هو الواقع، والحمد لله على ذلك.
قوله: ((لا يضرهم من كذبهم، ولا من خذلهم)) هذا من نصر الله - تعالى -، وتأييده لهذا الدين، ومن آياته: بقاء هذه الأمة ظاهرة، منصورة على عدوها، مع كثرة الأعداء، ومحارتهم لها بأنواع الأسلحة المادية والمعنوية، ومع خذلان من هم على دينها من المسلمين.
فقوله: ((من كذبهم)) يقصد بهم: الكفار من جميع الأجناس، من ملاحدة، ويهود، ونصارى، ومشركين، ومرتدين، وغيرهم.
وقوله: ((ولا من خذلهم)) يقصد بهم: من قعد عن نصرتهم ممن هو على
_________
(1) الآية 36 من سورة النحل.
(2) الآية 23 من سورة الزخرف.
(3) الآية 45 من سورة الزخرف.
(4) الآية 120 من سورة النحل.(2/237)
دينهم ممن آثر الحياة الدنيا، وركن إلى الدعة والراحة.
قال النووي: ((المراد بقوله: ((حتى يأتي أمر الله)) : الريح التي تأخذ كل مؤمن ومؤمنة، ورواية ((حتى تقوم الساعة)) أو ((إلى يوم القيامة)) ، يعني: قربها، وهو خروج تلك الريح.
وأما هذه الطائفة فقال البخاري: هم أهل العلم.
وقال أحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث، فلا أدري من هم.
وقال القاضي عياض: إنما أراد أحمد أهل السُّنَّة والجماعة، ومن يعتقد مذهب أهل الحديث.
قلت: ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين، منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد، وآمرون بالمعروف، وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض.
وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة، فإن هذا الوصف ما زال - بحمد الله تعالى - من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا الآن، ولا يزال حتى يأتي أمر الله المذكور، وفيه دليل لكون الإجماع حجة)) (1) .
وروى مسلم في ((الصحيح)) من حديث سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق، حتى تقوم الساعة)) (2) .
قال النووي: ((قال علي بن المديني: هم العرب، والمراد بالغرب: الدلو
_________
(1) ((شرح مسلم)) (13/66-67) .
(2) ((مسلم)) (3/1525) رقم (1925) .(2/238)
الكبيرة، وهي خاصة بهم.
وقال آخرون: المراد الغرب من الأرض. وقال القاضي عياض: المراد بأهل الغرب: أهل الشدة والجلد)) (1) .
قال الحافظ: ((ذكر يعقوب بن شيبة، عن علي بن المديني، قال: المراد بالغرب: الدلو، أي: العرب؛ لأنهم أصحابها، لا يستقي بها أحد غيرهم.
لكن في حديث معاذ: ((وهم أهل الشام)) ، فالظاهر أن المراد بالغرب: البلد؛ لأن الشام غرب الحجاز، كذا قال، وليس بواضح (2) .
ووقع في بعض طرق الحديث ((المغرب)) وهو يرد التأويل، ولكن يحتمل أن يكون بعض الرواة نقله بالمعنى الذي فهمه.
وقيل: هم أهل القوة، والاجتهاد.
ووقع في حديث أبي أمامة، عند أحمد أنهم بيت المقدس (3) ، وعند الطبراني ونحوه، وله أيضاً في الأوسط، عن أبي هريرة: ((يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس، وما حوله، لا يضرهم من خذلهم، ظاهرين إلى يوم القيامة)) .
قلت: ويمكن الجمع بأن المراد: قوم يكونون ببيت المقدس، وهي: من الشام، ويسقون بالغرب، وتكون لهم قوة في جهاد العدو)) .
ثم ذكر كلام النووي المتقدم، ثم قال: ((ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، بل
_________
(1) ((الفتح)) (13/295) ملخصاً.
(2) يعني: أن الشام ليست غرب الحجاز، وإنما هي شماله كما هو معلوم.
(3) في ((المسند)) عن أبي أماةه، قال: لا تقوم الساعة حتى يتحول خيار أهل العراق إلى الشام، ويتحول شرار أهل الشام إلى العراق، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بالشام)) ((المسند)) (5/249) ، فلعل الحافظ لديه نسخة فيها ما ليس في المطبوعة، فإن فيها سقطاً.(2/239)
يجوز اجتماعهم في قطر واحد، وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد، وأن يكونوا في بعض منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم، أولا، فأولاً، إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا جاء أمر الله)) (1) .
وقوله: ((فإذا انقرضوا جاء أمر الله)) هذا خلاف ظاهر الحديث، فإن أمر الله يأتي عليهم.
والمقصود من الحديث قوله: ((حتى يأتي أمر الله)) أي: الأمر الذي يكون بقوله: ((كن)) فأمره هنا مأموره، الصادر عن قوله، فقوله الذي هو ((كن)) يصدر عنه ذلك الأمر الآتي، والفرق بينهما واضح، فإن قوله صفة له لا يدخل في المخلوقات، وأما مأموره كالريح التي تقبض كل مؤمن ومؤمنة، والساعة التي هي النفخ في الصور، فإن ذلك مأموره، والله أعلم.
*****
87 - قال: ((حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن عبد الله بن أبي حسين، حدثنا نافع بن جبير، عن ابن عباس، قال: وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - على مسيلمة في أصحابه، فقال: ((لو
_________
(1) ((الفتح)) (13/295) .(2/240)
سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله)) .
ذكر هذا الحديث في علامات النبوة، وفي المغازي، بأبسط مما ها هنا، ولفظه: ((عن ابن عباس، قال: قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته، وقدمها في بشر كثير من قومه، فأقبل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وفي يد النبي - صلى الله عليه وسلم - قطعة جريد، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال: ((لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني لأراك الذي أريت فيه ما أُريت، وهذا ثابت يجيبك عني)) ثم انصرف عنه.
قال ابن عباس: فسألت عن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وإني لأراك الذي أُريت فيه ما أُريت)) فأخبرني أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب، فأهمني شأنهما، فأوحى إليَّ في المنام أن أنفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان بعدي، أحدهما العنسي، والآخر مسيلمة)) (1) .
وهذا كان في آخر حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان في سنة عشر من الهجرة، وكان مسيلمة مع وفد قومه بني حنيفة.
قال الواقدي: كانوا بضعة عشر رجلاً، وكان معهم الرحال بن عنفوة، ومسيلمة بن حبيب الكذاب، وكان في رحالهم، فلما أسلموا وأعطاهم جائزتهم، ذكروا له أن مسيلمة في رحالهم، فقال: ((أما إنه ليس بشَرَّكُمْ مكاناً)) يعني: لكونه بقي يرصد رحالهم، ويخدمهم في ذلك.
فأخبروه بما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتعلق بهذه الكلمة، وقال: إنما قال ذلك؛ لأنه عرف أن الأمر لي من بعده. واشتدت فتنته لما شهد له الرحال، بأنه شريك في النبوة، وقد كان تعلم شيئاً من القرآن، فكان يلقي على مسيلمة مما يحفظه من القرآن، فيدعي مسيلمة أنه أوحي إليه، فعظمت بذلك فتنته)) (2) .
هذا خلاصة ما ذكره المؤرخون، عن ابن إسحاق وغيره.
قال الحافظ: ((وسياق ما ذكره البخاري يخالف ما ذكره ابن إسحاق:
_________
(1) ((البخاري)) (5/140) .
(2) ((البداية والنهاية)) (5/59) .(2/241)
أنه قدم مع وفد قومه، وأنهم تركوه في رحالهم يحفظها لهم، وذكروه له إلى آخر ما ذكره، وهذا - مع شذوذه - ضعيف السند؛ لانقطاعه.
وأمر مسيلمة كان عند قومه أكبر من ذلك، فقد كان يقال له: رحمان اليمامة؛ لعظم قدره عندهم.
وكيف يلتئم هذا الخبر الضعيف مع قوله - في هذا الحديث الصحيح - إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اجتمع به، وخاطبه، وصرح له بحضرة قومه أنه لو سأله قطعة الجريد التي كانت بيده ما أعطاه إياها؟
ويحتمل أن مسيلمة قدم مرتين، الأولى كان تابعاً، والرئيس غيره، ولهذا أقام في رحالهم يحفظها، ومرة متبوعاً، وفيها خاطبه النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو القصة واحدة، وكان تخلفه في رحلهم أنفةً منه واستكباراً)) (1) ، والظاهر أنها مرة واحدة، والمعتمد ما ثبت في ((الصحيحين)) ، كما ذكر في هذا الحديث.
ولما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قصده الرئاسة والعلو، وأنه ليس أهلاً لما يطمع فيه، وأن ذلك يخالف ما جاء به - صلى الله عليه وسلم -، فلم يأت لتأسيس حكم يورث من بعده، وإنما جاء بالنبوة، كما أخبر أن خلافة النبوة بعده تكون ثلاثون سنة ثم يكون ملكاً)) (2) .
ولهذا قال له: لو سألتني هذه القطعة من الجريد التي لا تساوي شيئاً لم أعطكها؛ لأنها خير منك، ولأنك ليس لك من الأمر شيء ولا تستحق، وما أنت بأهل لذلك.
قوله: (ولن تعدو أمر الله فيك)) يعني: حكمه وقضاءه، من شقاوتك التي حكم بها عليك قبل وجودك، وأمر الله هنا هو أمره الكوني القدري
_________
(1) ((الفتح)) (8/89-90) .
(2) انظر ((المسند)) (5/44) ، و ((سنن أبي داود)) رقم (4635) .(2/242)
وهذه الجملة هي المقصود من الحديث كما مر التنبيه على ذلك.
قوله: ((لئن أدبرت ليعقرنك الله)) أي: أعرضت عن الحق الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنك لا تعجز الله، فسوف يأخذك أخذ عزيز مقتدر، وقد فعل، فقتل شر قتلة، فقطع دابر القوم الذين لا يؤمنون، والحمد لله رب العالمين.
****
88 - قال: ((حدثنا موسى بن إسماعيل، عن عبد الواحد، عن الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة، عن ابن مسعود، قال: بينا أنا أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض حرث المدينة، وهو يتوكأ على عسيب معه، فمررنا على نفر من اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقال بعضهم: لا تسألوه؛ أن يجيء فيه بشيء تكرهونه.
فقال بعضهم: لنسألنه، فقام إليه رجل منهم، فقال: يا أبا القاسم، ما الروح؟ فسكت عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلمت أنه يوحى إليه.
فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} قال الأعمش: ((هكذا في قراءتنا)) .
تقدم أن هذه الواقعة كانت في المدينة، وفي هذه الرواية نص على ذلك، وفي هذا دليل على أن اليهود يعلمون أنه نبي؛ لعلمهم أن الروح لا يعلم حقيقتها إلا الله، ولأنهم قالوا: لا تسألوه أن يجيء فيه بشيء تكرهونه، وهذا لا يأتي إلا بالوحي، والذي منعهم من متابعته: الحسد والبغي والكبر والعناد، وقد تقدم شرح هذا الحديث.
والمقصود هنا قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي: مأموره الذي قال له: كن، فيكون، فهو تعالى أوجد الأرواح بقوله، فقوله غير الذي أوجده به، كما تقدم إيضاح ذلك.
*****(2/243)
قال: ((باب قول الله - تعالى -: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (1) .
{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (2) .
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (3) . سخر: ذَلَّلَ)) .
هذه ثلاث آيات، أما الأولى والثانية فمعناهما واحد.
قال الحافظ: ((جاء في سبب نزولها ماأخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح، عن ابن عباس، في قصة سؤال اليهود عن الروح، ونزول قوله تعالى -: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} . قالوا: كيف وقد أوتينا التوراة؟
فنزلت: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} الآية.
وأخرج عبد الرزاق في تفسيره من طريق أبي الجوزاء، قال لو كان كل شجرة في الأرض أقلاماً، والبحر مداد، لنفد الماء، وتكسرت الأقلام قبل أن تنفد كلمات الله.
_________
(1) الآية 109 من سورة الكهف.
(2) الآية 27 من سورة لقمان.
(3) الآية 54 من سورة الأعراف.(2/244)
وعن معمر، عن قتادة، أن المشركين قالوا في القرآن: يوشك أن ينفد، فنزلت)) (1) .
وقال ابن جرير: ((يقول - عز ذكره - لنبيه محمد- صلى الله عليه وسلم -: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} للقلم الذي يكتب به كلمات ربي، لنفد ماء البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً. يقول: ولو مددنا البحر بمثل ما فيه من الماء مدداً، من قولك: جئتك مدداً لك)) (2) .
وقال في تفسير آية لقمان: ((يقول تعالى ذكره: لو أن شجر الأرض كلها، بريت أقلاماً: والبحر يمده)) يقول: والبحر له مداد، والهاء في قوله ((يمده)) عائدة على البحر، وقوله: ((من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله)) في هذا الكلام محذوف استغنى بدلالة الظاهر عليه عنه، وهو يكتب كلامه بتلك الأقلام، وبذلك المداد، لتكسرت تلك الأقلام، ولنفد ذلك المداد، ولم تنفد كلمات الله)) (3) .
وقال ابن كثير: ((يقول تعالى - مخبراً عن عظمته، وكبريائه، وكلماته التامة التي لا يحيط بها أحد -: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} أي: ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاماً، وجعل البحر مداداً، ومده سبعة أبحر معه، فكتب بها كلمات الله، لتكسرت الأقلام، ونفد ماء البحر، ولو جاء أمثالها مدداً، وإنما ذكرت السبعة على وجه المبالغة، ولم يرد الحصر، ولا أن هناك سبعة أبحر تحيط بالأرض.
فليس المراد بقوله: ((بمثله)) آخر فقط، بل بمثله، ثم بمثله، ثم بمثله، ثم
_________
(1) ((الفتح)) (13/445) .
(2) ((تفسير الطبري)) (16/39) .
(3) المصدر السابق (21/80-81) .(2/245)
هلم جرّاً؛ لأنه لا حصر لآيات الله وكلماته)) (1) .
ففي هاتين الآيتين أكبر دليل على أن كلام الله غير مخلوق، وأنه من صفاته، إذ المخلوق لا بد أن يكون له نهاية ونفاد، فإنه مسبوق بالعدم فلا بد أن يلحقه العدم.
أما كلام الله - تعالى - فلا نهاية له، ولا نفاد، وقد قرب تعالى إلى أفهام المخاطبين بما ضرب من المثل بما ذكر من كون البحار كلها ويزاد معها مثلها مرات كثيرة، وكون جميع ما وجد على وجه الأرض من عود أقلاماً يكتب بها كلامه تعالى لنفد البحر، وأمسحت الأقلام، وكلمات الله كما هي لم تنقص.
وليس معنى قوله: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} أن كلمات الله لها نهاية، وأنها يمكن أن تنفد، بل المعنى أنها لا نهاية لها أبداً؛ لأنها من صفاته تعالى.
وليس هذا وصف المخلوق، وهذا وجه استدلال البخاري بهاتين الآيتين. ومراده الرد على القائلين بخلق كلم الله - تعالى -.
كما قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ} الآية. ففيها يعلم تعالى عن عباده بأنه ربهم ومالكهم، المتصرف فيهم كيف يشاء، وهو الذي يصلح لهم حياتهم ويربيهم بنعمه الظاهرة والباطنة. وأنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وقد جاء بيانها في السنة أن أولها الأحد وآخرها يوم الجمعة، وأنه بعد خلقه السماوات والأرض استوى على عرشه، وهو السرير العظيم، وهو سقف المخلوقات، وقد تقدم الكلام فيه.
_________
(1) ((تفسير ابن كثير)) (6/351) .(2/246)
ويعلمهم - تعال - أنه يدخل الليل في النهار والنهار في الليل، أي يجعل أول هذا متصلاً بآخر هذا.
وأما قوله: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْل ِ} (1) فكل واحد يطلب الثاني، أي: يتبعه ((حثيثاً)) أي: سريعاً.
ويعلمهم أن الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، أي: منقادة طائعة لأمره، فجميع الكون بما فيه يسير حسب مشيئته، فالخلق والأمر له وحده.
وفسر البخاري كلمة ((مسخر)) بأنه مذلل، أي: هي خاضعة له منقادة لأمره، وهو تعالى لا يمتنع عليه شيء فكل شيء من حس وجامد في الأرض والسماوات وما بينهما مسخر لأمره الكوني القدري.
{تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالمِينَ} أي: تعاظم وتقدس عن قول الظالمين الذين لم يقدروه حق قدره، و ((العالمين)) جميع الخلق، فكل ما سواه تعالى عالم، وهو ربهم الذي يتصرف فيهم كيف يشاء.
والمقصود من الآية قوله: ((ألا له الخلق والأمر)) فهو دليل على أن الخلق غير الأمر، لعطف الأمر على الخلق؛ لأن العطف كما هو معلوم يقتضي المغايرة، وبهذه الآية استدل الأئمة على أن الكلام غير الخلق، وبها وأمثالها ردوا على المعتزلة الذين قالوا بخلق الكلام.
قال البخاري: ((والقرآن كلام الله غير مخلوق؛ لقوله عز وجل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأّرضَ فيِ سِتَّةِ أَيّامِ ثُمَّ استَوَىَ عَلَى العَرشِ يُغشِى الَّليلَ النَّهَارَ يَطلُبُهُ حَثِيثَا وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مَسَخَّراتِ بأَمرِهِ} فبين أن الخلائق، والطلب الحثيث، والمسخرات، بأمره، ثم شرح فقال: {أَلاَ لَهُ الخَلقُ وَالأمرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} .
_________
(1) الآية 6 من سورة الحديد.(2/247)
قال ابن عيينة: قد بين الله الخلق من الأمر بقوله: {أَلاَ لَهُ الخَلقُ} . فالخلق بأمره، كقوله: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ (1) } ، وكقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (2) ، وكقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} (3) ولم يقل: بخلقه.
حدثنا أصبغ، أخبرني عبد الله بن وهب، أخبرني يحيى بن وهب، أخبرني يحيى بن أيوب، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: قلت لعبد الله بن عباس: ما القدر؟ قال: يا مجاهد، أين قوله: {أَلاَ لَهُ الخَلقُ وَالأمرُ} (4) .
****
89- قال: ((حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تكفل الله لمن جاهد في سبيله، لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلمته، أن يدخله الجنة، أو يرده إلى مسكنه، بما نال من أجر أو غنيمة)) .
تقدم هذا الحديث في باب قوله تعالى: {وَلَقَد سَبَقَت كَلمِتُنَا لِعِبَادِنَا المُرسَليِنَ} وتقدم شرحه هناك.
والمقصود منه هنا: قوله: ((وتصديق كلمته)) ، إذ هي غير الجهاد في سبيله، وغير التصديق، سواء قيل: هي كلمته الدينية الشرعية، أو الكونية القدرية، فكلمته من صفاته كما تقدم، وهي غير خلقه، هذا ما أراده البخاري - رحمه الله - من الحديث، والله أعلم.
_________
(1) الآية 4 من سورة الروم.
(2) الآية 82 من سورة يس.
(3) الآية 25 من سورة الروم.
(4) ((خلق أفعال العباد)) (ص45) .(2/248)
قال البخاري: قال سفيان في ((تفسيره)) : ((إن كل شيء مخلوق، والقرآن ليس بمخلوق، وكلامه أعظم من خلقه؛ لأنه إنما يقول للشيء: كن فيكون، فلا يكون شيء أعظم مما يكون به الخلق، والقرآن كلام الله)) (1) .
******
قال: ((باب في المشيئة والإرادة)) .
أي: مشيئة الله وإرادته، وهذا مما يتعلق بربوبيته - تعالى -، وهو رب كل شيء وخالقه ومالكه، يدخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها، وصفاتها القائمة بها، مثل أفعال العباد، فإنه - تعالى - خالق العبد وفعله، كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - بيان ذلك.
وهو سبحانه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته، ولا يمتنع عليه شيء يريده، بل هو القادر على كل شيء.
كما أنه سبحانه يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وقد ذكر الله - تعالى - مشيئته عامة في القرآن، في ما يقرب من أربع مِائةِ موضع.
كقوله تعالى - {وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (2) ، وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (3) ، وقوله: {قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (4)
وقوله: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (5) .
وقوله: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء
_________
(1) ((خلق أفعال العباد)) (34) تحقيق عميرة.
(2) الآية 35 من سورة الأنعام.
(3) الآية 48 من سورة المائدة.
(4) الآية 149 من سورة الأنعام.
(5) الآية 99 من سورة يونس.(2/249)
وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} (1) ، وقوله: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (2) ، وقوله: {مَن يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (3) ، وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (4) ، وقوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} (5) ففي هذه الآيات ونحوها الرد على طائفتي الضلال، نفاة المشيئة بالكلية، ونفاة مشيئة الله لأفعال العباد وحركاتهم، وهداهم، وضلالهم، وهذا هو مراد البخاري من هذا الباب، وسيذكر تفصيلاً لهذا الباب في الأبواب الآتية.
والله – سبحانه وتعالى – علق وجود كل شيء وعدمه بمشيئته، فمرة يخبر أن كل ما في الكون بمشيئته، وأخرى يخبر أن ما لم يشأ لم يكن، ومرة يخبر أنه لو شاء لكان خلاف الواقع، وأنه لو شاء لكان خلاف القدر الذي قدره وكتبه، وأنه لو شاء ما عصي، ولو شاء لجمع خلقه على الهدى وجعلهم أمة واحدة.
فكل ما وجد من عين أو حركة، أو موت أو حياة، أو مصيبة، أو عز أو ذل، أو غير ذلك، فهو بمشيئته، وكل ما لم يوجد، ولم يقع، فهو لعدم مشيئته لوجوده، وهذا معنى كونه على كل شيء قدير، وهو حقيقة ربوبيته لكل شيء، ومعنى كونه القيوم بتدبير عباده، فلا خلق، ولا رزق، ولا عطاء، ولا منع، ولا قبض، ولا بسط، ولا ضلال، ولا هدى، ولا سعادة، ولا شقاء، إلا بمشيئته وتكوينه، إذ لا مالك غيره ولا رب سواه (6) .
_________
(1) الآية 26 من سورة آل عمران.
(2) الآية الأخيرة من سورة التكوير.
(3) الآية 39 من سورة الأنعام.
(4) الآية 13 من سورة السجدة.
(5) لآية 133 من سورة النساء.
(6) انظر ((شفاء العليل)) (ص44) .(2/250)
فمشيئته تعالى تتعلق بخلقه، وأمره الكوني والشرعي بما يحب وما يكره، كل شيء داخل تحت مشيئته، فقد شاء وجود إبليس والشياطين، والكفار والفساق، وهو يكره ذلك ويبغضه.
وكذلك ما يحبه ويرضاه كوجود الرسل والصِّدِّيقين، والشهداء والصالحين والطاعات، وأمثال ذلك من امتثال أمره الديني الشرعي، فهو أيضاً بمشيئته.
وأما الإرادة فقد بين الله – تعالى – أنها نوعان:
أحدهما: الإرادة الكونية القدرية، وهي مرادفة للمشيئة، وهذه الإرادة تستلزم وقوع المراد ولا بد، ولا يلزم أن يكون مرادها محبوباً لله مرضياً له.
بل قد يكون مكروهاً مسخوطاً له، ككفر الكافرين، ومعاصي العاصين، ووجود المفسدين.
وقد يكون مرادها محبوباً مرضياً لله تعالى، كوجود إيمان المؤمنين، وطاعات الطائعين، ووجود رسل الله وعباده المخلصين، والصديقين والشهداء والصالحين.
وهذه الإرادة هي المذكورة في مثل قوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} (1) .
قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (2) .
وقوله تعالى: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} (3) ، وقوله تعالى: ... {ْ وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ
_________
(1) الآية 125 من سورة الأنعام.
(2) الآية 253 من سورة البقرة.
(3) الآية 34 من سورة هود.(2/251)
مِنَ اللهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} (1) ، ونحو ذلك من الآيات الدالة على عموم إرادته لما يشاء، وأنه لا راد لمراده تعالى، ولهذا صارت هذه الإرادة مرادفة للمشيئة، فالإرادة الكونية القدرية هي المشيئة، ولهذا لا بد أن يقع مرادها.
والنوع الثاني: الإرادة الدينية الأمرية الشرعية، وهي المذكورة في مثل قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2) ، وقوله تعالى: {ُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَه} ُ (3) .
وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {26} وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا {27} يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ} (4) ، وأمثال ذلك من الآيات، فهذه الإرادة يحب الله مرادها، ويأمر به ويرضاه، ولا يلزم أن يقع المراد بها إلا أن يتعلق به الإرادة الكونية.
وقد أشار البخاري – رحمه الله – إلى نوعي الإرادة بالمثال، فأشار إلى الإرادة الكونية بقوله تعالى: {تُؤتِي المُلكَ مَن تَشَاءُ} ، وقوله: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ} ، وقوله: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاىءٍ إِنيِ فَاعِلٌ ذَلكَ غَدًا {23} إِلاَ أَن يَشَاءَ اللهُ} ، وقوله: {إِنَّكَ لاَ تَهدِي مَن أَحبَبتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهدِي مَن يَشَاءُ} ؛ لأن الإرادة الكونية هي المشيئة العامة التي لا يخرج عنها شيء.
وأشار إلى النوع الثاني من الإرادة بقوله: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ
_________
(1) الآية 41 من سورة المائدة.
(2) الآية 185 من سورة البقرة.
(3) الآية 6 من سورة المائدة.
(4) الآيات 6-8 من سورة النساء.(2/252)
بِكُمُ الْعُسْرَ} فهذه الإرادة الدينية الأمرية، التي تتضمن الأمر والمحبة والرضا، فهذا ما دلت عليه نصوص كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – ومذهب أهل السُّنَّة، وبه تتفق الدلائل، وتنحل الإشكالات، وتفصيل ذلك أن يقال: الأشياء كلها لا تخرج عن أربعة أقسام:
((أحدها: ما تعلقت به الإرادتان، الكونية، والدينية، وهو ما يقع في الوجود من الأعمال الصالحة الموافقة لأمر الله وشرعه، فإن الله أرادها ديناً وشرعاً، فأمر بها، أرادها كوناً، وقدراً، فوجدت، ولولا إرادته إياها كوناً لم توجد؛ لأنه لا يوجد ما لا يريد وجوده، ولا يمتنع عليه ما يريد وجوده كما تقدم.
والثاني: ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط، وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة، فعصى أمره فيها الكفار، والفساق، فلم يفعلوها، فتلك الأعمال تعلقت بها الإرادة الدينية فقط؛ لأنه أمر ربها، وطلب فعلها، ولم يردها كوناً وقدراً، ولهذا تخلف وجودها، وإن كان يحب وجودها، ويرضاه، ولكن لا يلزم وجود ما يحب ويرضى.
ولا يقال: هذا يخالف كونه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن؛ لأنه تعالى يريد قدراً وكوناً ما لا يحب ويرضى، كوجود إبليس، وجنوده المفسدين في الأرض بالمعاصي والكفر والفسوق، وذلك لحِكَمٍ عظيمة يعلمها تعالى، ويُطلع على ما يشاء منها من يشاء من عباده.
الثالث: ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط، وهو ما قدره وشاءه من الحوادث التي لم يأمر بها، كالمباحات والمعاصي، فإنه لم يأمر بها، ولم يرضها ولم يحبها، إذ هو – تعالى – لا يأمر بالفحشاء والمنكر، ولا يرضى لعباده الكفر، ولولا إرادته الكونية،
وقدرته، وخلقه لذلك، لما كان شيء منها، فإنه – تعالى – ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.(2/253)
الرابع: ما لم تتعلق به الإرادتان، فهذا ما لم يكن، ولن يكون، من الأفعال والأعيان)) (1) .
وبهذا البيان والتفصيل تزول الإشكالات التي يوردها أصحاب الشكوك والأهواء، الذين لم يستنيروا بنور كتاب الله – تعالى-.
قوله: {تُؤتِي المُلكَ مَن تَشَاءُ} يخبر تعالى أن الملك بيده، فيعطى ملك الدنيا من يشاء من عباده، وينزعه ممن يشاء، ولهذا قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) فبين أن جميع التصرف في الكون ومن فيه بيده، وأنه على كل شيء قدير.
وقوله تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ} (3) في هذه الآية الكريمة الرد على طائفتي الضلال، القدرية، والجبرية، حيث أثبت – تعالى – للعباد مشيئة تتعلق بأفعالهم، وأخبر أن مشيئتهم وفعلهم موقوفان على مشيئته لهم، فلا تحصل لهم المشيئة ولا الفعل حتى يشاء تعالى ذلك، وسيأتي تفصيل ذلك، وبيان بطلان قول القدرية الذين يقولون: إن العباد يخلقون أفعالهم ويوجدونها استقلالاً دون مشيئة الله، وقول الجبرية الذين يجعلون العبد بمنزلة الآلة التي لا تصرف لها ولا خيار.
قوله: {إِنَّكَ لاَ تَهدِي مَن أَحبَبتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهدِي مَن يَشَاءُ} (4) .
هذه الآية نزلت في عم النبي – صلى الله عليه وسلم – أبي طالب، ففي ((الصحيحين))
_________
(1) انظر ((مجموع الفتاوى)) (8/188-189) .
(2) الآية 26 من سورة آل عمران.
(3) الآية 30 من سورة الإنسان، الآية 29 من سورة التكوير.
(4) الآية 56 من سورة القصص.(2/254)
عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، قال: لما حضرت الوفاة أبا طالب، جاءه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال: ((أي عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)) فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعرضها عليه، ويعيدانه بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب – آخر ما كلمهم -: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك)) ، فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ} (1) الآية، وأنزل الله في أبي طالب، وقال لرسول الله – صلى الله عليه وسلم - {إِنَّكَ لاَ تَهدِي مَن أَحبَبتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهدِي مَن يَشَاءُ} (2) (3) .
قال ابن كثير: ((يقول تعالى لرسوله – صلى الله عليه وسلم -: إنك يا محمد ((لا تهدي من أحببت)) أي: ليس إليك ذلك، إنما عليك البلاغ، والله يهدي من يشاء، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، كما قال تعالى: {ليْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} (4) .
وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (5) .
وهذه الآية أخص من ذلك كله، فإنه قال: {إِنَّكَ لاَ تَهدِي مَن أَحبَبتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدِينَ} ، أي: هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية، وقد ثبت في ((الصحيحين)) أنها نزلت في أبي طالب)) (6) .
*****
_________
(1) الآية 113 من سورة التوبة.
(2) الآية 56 من سورة القصص.
(3) انظر ((البخاري)) (6/65) و ((مسلم في الإيمان)) (1/24) .
(4) الآية 272 من سورة البقرة.
(5) الآية 103 من سورة يوسف.
(6) ((تفسير ابن كثير)) (6/257) .(2/255)
90 – قال: ((حدثنا مسدد، حدثنا عبد الوارث، عن عبد العزيز، عن أنس قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دعوتم الله فاعزموا في الدعاء، ولا يقولن أحدكم: إن شئت فأعطني، فإن الله لا مستكره له)) .
الدعاء عبادة للمدعو بالرغبة والرهبة، والذل والاستكانة والافتقار، ولهذا صار صرفه لغير الله شركاً أكبر، لا يغفره الله إلا بالتوبة منه.
والله جل وعلا هو رب الخلق وإلههم، خلقهم وتعبدهم، وجعل مصيرهم إليه، وهو يملك كل شيء، حتى أفعالهم الاختيارية لا يمكن أن تقع إلا بمشيئته.
ويملك هداية قلوبهم وإزاغتها، وهو الذي يحبب الإيمان إلى من يشاء، ويكرهه إلى من يشاء، ويكره الكفر والفسوق والعصيان إلى من يشاء، ويحببه إلى من يشاء، وبهذا يعلم شدة حاجة الإنسان إلى دعاء الله – تعالى – بصدق وإلحاح، وعزم قوي، ورغبة شديدة؛ لأنه فقير فقراً ذاتياً لا ينفك عنه لحظة واحدة إلى ربه، ولا خلاص له من العذاب السرمدي إلا إذا منّ الله عليه وتفضل بهدايته، لذلك وجب أن لا يعلق الدعاء على مشيئته – تعالى -، فهذه علة النهي، والعلة الثانية ما ذكره – صلى الله عليه وسلم – بقوله: ((فإنه لا مستكره له)) فإن تعليق الدعاء بالمشيئة يشعر بأن الله – تعالى – يعطي ما لا يريد، كما يحصل لابن آدم، وهذا لا يجوز اعتقاده في الله.
والمقصود أنه يحرم تعليق الدعاء بالمشيئة لعلتين:
إحداهما: إشعار ذلك باستغناء الداعي عما يدعو، وهو خلاف الواقع، وخلاف العبودية الواجبة على العبد.
والثانية: إشعار ذلك بأن الله قد يعطي ما يكره عطاءه، فيجب على العبد أن يدعو ربه بعزم لا تردد فيه، وبرغبة وإلحاح وإظهار الافتقار والفاقة.(2/256)
وفي ((صحيح مسلم)) من حديث أبي هريرة: ((لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم في الدعاء، فإن الله صانع ما يشاء، لا مُكْرِه له)) .
وفي رواية: ((ولكن ليعزم المسألة، وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)) .
قال النووي: ((قال العلماء: عزم المسألة: الشدة في طلبها، والجزم من غير ضعف في الطلب، ولا تعليق على مشيئته ونحوها)) .
وقيل: هو حسن الظن بالله – تعالى – في الإجابة.
قال العلماء: سبب كراهته: أنه لا يتحقق استعمال المشيئة إلا في حق من يتوجه عليه الإكراه، والله – تعالى – منزه عن ذلك، وقيل: لأن في هذا صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه)) (1) .
وكلا المعنيين مشعر به الحديث، والظاهر منه تحريم ذلك، فالحديث ظاهر فيه، ولا صارف له عنه، والله أعلم.
*****
91 – قال: ((حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، ح.
وحدثنا إسماعيل، حدثني أخي عبد الحميد، عن سليمان، عن محمد بن أبي عتيق، عن ابن شهاب، عن علي بن حسين أن حسين بن علي – عليهما السلام – أخبره أن علي بن أبي طالب أخبره، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – طرقه وفاطمة بنت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليلة، فقال لهم: ((ألا تصلون؟)) قال علي:
_________
(1) ((شرح النووي لمسلم)) (17/17) .(2/257)
فقلت: يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئاً، ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه، ويقول: {وَكَانَ الإِنَسَانُ أَكثَر شَيءٍ جَدَلاَ} .
علي بن أبي طالب بن هاشم بن عبد مناف: ابن عم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، رابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، كان من السابقين إلى الإسلام، وعمره لم يجاوز العشر، وكان في بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، شهد مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سائر مشاهده مع الكفار ما عدا تبوك، خلفه ليقوم بمصالح أهله، ولما قال المنافقون: إنه استثقله لحق به، فقال له: ((أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلاّ أنه لا نبي بعدي)) .
هلك فيه طوائف من الرافضة؛ غلوّاً فيه، بين قائل بألوهيته، وقائل بأنه وصي معصوم.
قتل سنة أربعين في رمضان، رضي الله عنه وعن سائر صحابة النبي – صلى الله عليه وسلم - (1) .
((طرقه)) : أتاه ليلاً، وكل آت ليلاً فهو طارق، وقد يطلق على من يأتي نهاراً، كما في قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((وأعوذ بك من طوارق الليل والنهار، إلا طارقاً يطرق بخير)) (2) ، ولهذا قال: ((طرقه وفاطمة بنت رسول الله)) وهي زوجه؛ لأنهما كانا نائمين.
((فقال لهم: ألا تصلون؟)) الخطاب لعلي وفاطمة، وقد جمع الضمير العائد إليهما في قوله لهم: ((ألا تصلون؟)) ، وهو سائغ في اللغة.
_________
(1) انظر ((الرياض المستطابة)) (163) ، ((أسد الغابة)) (4/91) ، ((الإصابة)) (2/105) ، ((تاريخ بغداد)) (1/133) ، ((تاريخ الخلفاء)) (166) ، ((تذكرة الحفاظ)) (1/10) ، ((طبقات ابن سعد)) (3/11) .
(2) ((مجموع الفتاوى)) (8/244) .(2/258)
((ألا تصلون)) عرض عليهما، يدل على أن الأمر غير واجب، وإنما هو التماس يدل على الاستحباب.
((فقلت: يا رسول الله إنما نفوسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا)) إلى آخره.
هذا هو محل الشاهد من الحديث، وأراد بيان أنه لا يجوز معارضة الأمر الشرعي بالقدر، كما صنع سلف القدرية المشركون في قوله: {لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} (1) .
ففي هذا الحديث بيان أنه لا ينبغي معارضة الأمر بالقدر، فإن قوله: ((إنما نفوسنا بيد الله)) إلى آخره، استناد إلى القدر في ترك امتثال الأمر، وهذا القول في نفسه حق، ولكن لا يصلح لمعارضة الأمر، بل معارضة الأمر بهذا من باب الجدل المذموم الذي قال الله فيه: {وَكَانَ الإِنَسَانُ أَكثَر شَيءٍ جَدَلاَ} . (2)
ولهذا انصرف عنه النبي – صلى الله عليه وسلم – كارهاً لمقالته، وتلا قوله تعالى: {وَكَانَ الإِنَسَانُ أَكثَر شَيءٍ جَدَلاَ} وضربه فخذه يدل على كراهته لذلك أيضاً، وتعجبه من علي كيف يعارض قوله له: ((ألا تصلون؟)) بتلك المقالة.
ومعلوم أن كل شيء بمشيئتة الله، فلو أن كل من أمر بأمر قال: إذا شاء الله فعلته، وإذا شاء لم أفعله، لتعطلت الأوامر كلها، وساد هوى النفوس، قال الحافظ: ((فيه أن الإنسان طبع على الدفاع عن نفسه بالقول والفعل، وأنه ينبغي له أن يجاهد نفسه لقبوله النصيحة ولو كان في غير واجب)) (3)
****
_________
(1) الآية 148 من سورة الأنعام.
(2) انظر ((مجموع الفتاوى)) (8/244) .
(3) انظر ((الفتح)) (13/314) .(2/259)
92 – قال: ((حدثنا محمد بن سنان، حدثنا فليح، حدثنا هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((مثل المؤمن كمثل خامة الزرع يفيء ورقه من حيث أتتها الريح تكفئها، فإذا سكنت اعتدلت، وكذلك المؤمن يكفأ بالبلاء، ومثل الكافر، كمثل الأرزة، صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء)) .
قال في ((المصباح)) : ((الخامة الغضة من النبات، والجمع خام، وخامات، والخام من الثياب: الذي لم يقصر، وثوب خام، أي: غير مقصور)) (1) .
وقال الحافظ: ((هي الطاقة الطرية اللينة، أو الغضة، أو القضبة، قال الخليل: ((خامة الزرع: أول ما ينبت على ساق واحد)) (2) .
قلت: قول الخليل هو الصواب، فالزرع في أول أمره يكون على ساق واحد، ويكون ليناً طيعاً للريح ينثني معها حيث أتت، ولا تؤثر على صحته واعتداله، فإذا سكنت رجع على ساقه قائماً كأن لم يصبه شيء، بل ربما ازداد قوى ونضارة، وهذا هو المقصود من المثل، فإن المؤمن تأتيه المصائب من نواح شتى، ففي كل مرة يقال: هذه تهلكه، ثم تنجلي ويعود إلى صحة إيمانه قوياً سليماً، كأن لم يصب بأذى.
قال البكري: الخامة الغضة من الزرع: أول ما تستقل على ساق، وألفه منقلبة عن ياء، قال أبو عبيد: هي الغضة الرطبة، وأنشد:
إنما نحن مثل خامة زرع ... فمتى يأن يأت محتصده (3)
_________
(1) ((المصباح)) (1/251) .
(2) ((الفتح)) (10/106) .
(3) ((فصل المقال)) (ص7، 8) .(2/260)
ومعنى ((يفيء)) : يميل مع الريح ثم يرجع إلى اعتداله.
ومعنى ((تكفئها)) : تميل بشدة.
قوله: ((ومثل الكافر، كمثل الأرزة صماء معتدلة)) إلى آخره، في رواية: ((ومثل المنافق)) ، وفي أخرى: ((الفاجر)) والمثل يصدق على الكافر والمنافق، والفاجر هو الكافر، وكلهم أريد بالمثل.
والأرزة هي شجرة الصنوبر، وهو شجر قوي معتدل، ولا بد له من نهاية، فإذا شاء الله قصمه، وأهلكه، فإذا انثنى انكسر فلا يعود إلى اعتداله كخامة الزرع.
وكذلك الكافر والمنافق غالب حاله أنه معافى من المصائب، كالمرض وغيره من مصائب المال والولد؛ لأنه يعطى نصيبه من السعادة في الدنيا، ثم يوافى الآخرة مفلساً صفر اليدين، فتكون حسرته أشد، وهلاكه أنكى وأعظم، وقد يصاب أيضاً في الدنيا.
أما المؤمن: فمن رحمة الله – تعالى – به أن قدر عليه المصائب في الدنيا، حتى يكتسب بذلك الثواب، أو يكفر عنه به من ذنوبه، ليسلم له جزاء عمله في الآخرة.
قال البكري: ((الأرزة: شجرة معروفة، وهي من أصلب الخشب، قال أبو عبيد: وأهل العراق يسمونها الصنوبر، وإنما الصنوبر: ثمر الأرز.
ومعنى الحديث – والله أعلم -: أنه شبه المؤمن بالخامة التي تميلها الريح؛ لأنه مرزَّء في نفسه، وأهله، وماله، وولده، وأما الكافر، فمثل الأرزة التي لا تميلها الريح، والكافر لا يرزَّء شيئاً حتى يموت، وإن رزئ لم يؤجر عليه، فشبه موته بانجعاف تلك [الشجرة] حتى يلقى الله بذنوبه كملاً، والانجعاف: السقوط والانقلاب.(2/261)
والشاهد قوله: ((حتى يقصمها الله إذا شاء)) فكل شيء ينتهي إلى مشيئة الله – تعالى – فلا يحدث حدث صغير أو كبير إلا إذا شاء الله، كما أن مشيئة الله عامة لكل شيء، وهو معنى أنه على كل شيء قدير.
*****
93 – قال: ((حدثنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو قائم على المنبر، يقول: ((إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أعطي أهل التوراة التوراة، فعملوا بها حتى انتصف النهار ثم عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أعطي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا حتى صلاة العصر، ثم عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أعطيتهم القرآن فعملتم به حتى غروب الشمس، فأعطيتم قيراطين قيراطين، قال أهل التوراة: ربنا، هؤلاء أقل عملا وأكثر أجرا؟ قال: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، فقال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء)) .
قوله: ((إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس)) أي: أن نسبة مدة هذه الأمة إلى مدة من تقدم من الأمم، كنسبة ما بعد العصر إلى غروب الشمس، إلى بقية النهار، و ((في)) في قوله: ((فيما قبلكم)) بمعنى إلى.
قوله: ((أعطي أهل التوراة، التوراة)) إلى آخره، شرح وبيان لما تقدم من تقدير مدة بقاء هذه الأمة بالنسبة لبقاء الأمم قبلها.
قوله: ((قيراطاً قيراطاً)) كرره ليدل على تقسيم القراريط على العمال؛ لأن العرب إذا أرادت تقسيم الشيء على متعدد كررته، فيقولون: أقسم هذا المال(2/262)
على بني فلان درهماً درهماً، أي: لكل واحد درهم (1) .
قوله: ((ثم عجزوا)) لا يلزم ما نقله الحافظ عن الداودي من الإشكال في أنه إذا كان المراد من مات مسلماً فلا يوصف بالعجز، وإن أريد من مات بعد التبديل والتغيير، فهو كافر لا يعطى أجراً. وهذا غير لازم ولا مراد، ولا داعي لتكلف الجواب عليه؛ لأن المقصود ضرب المثل لهذه الأمة مع أهل الكتاب مجموع هؤلاء مع أولئك، ولا يقصد كل فرد بعينه، وهذا واضح.
قال ابن العربي: ((المثل بفتح الميم والثاء: عبارة عن تشابه المعاني المعقولة.
والمثل بكسر الميم وإسكان الثاء: عبارة عن تشابه الأشخاص المحسوسة ويدخل أحدهما على الآخر)) (2) .
والقيراط: النصيب المقدر، وهو في الأصل: نصف دانق، والدانق: سدس درهم، وقد يقصد بالقيراط، الشيء الكثير، كما في الحديث: ((من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان)) وقيل: وما القيراطان؟ قال: ((مثل الجبلين العظيمين)) (3) .
قوله: ((ثم أعطيتم القرآن فعملتم به حتى غروب الشمس)) مثل انتهاء الدنيا باليوم الكامل، فجعل لليهود من أول النهار إلى صلاة الظهر، وللنصارى من صلاة الظهر إلى العصر، ولهذه الأمة من صلاة العصر إلى غروب الشمس، وهو نهاية الدنيا، فكان نصيب هذه الأمة من الزمن أقل، ونصيبهم من الأجر أكثر وأوفر، وعندما اعترض أصحاب العمل الأكثر على ذلك قال لهم: ((هل ظلمتكم من عملكم شيئاً؟ قالوا: لا، فذلك فضلي أوتيه من أشاء)) .
_________
(1) ((الفتح)) (2/39) .
(2) ((طرح التثريب)) (8/221) .
(3) رواه البخاري (رقم 1325) ومسلم (2/652) رقم (945) ، والترمذي (2/358) رقم (1040) .(2/263)
وهذا هو المقصود من الحديث، أن مشيئة الله نافذة، لا يحكمها عرف أو نظر أو غير ذلك، بل ما شاء فِعْلَهُ فَعَلَهُ، وما لم يشأ لا يقع.
وبهذا وأمثاله كثير يتبين ضلال المعتزلة، ومن سلك طريقهم، الذين يحكمون على الله بعقولهم القاصرة، بأنه يجب أن يفعل كذا، ويمتنع أن يفعل كذا، كقولهم: يجب أن يعذب العاصي، ويثيب المطيع، بحكم العقل قياساً منهم على المخلوق، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
****
94 – قال: ((حدثنا عبد الله المسندي، حدثنا هشام، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي إدريس، عن عبادة بن الصامت، قال: بايعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في رهط، فقال: ((أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً، فأخذ به في الدنيا فهو كفارة وطهور، ومن ستره الله فذلك إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له)) .
عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم، الأنصاري، الخزرجي: أحد النقباء، من أعيان البدريين، وسادة الصحابة وكبارهم، شهد مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – غزواته كلها، وكان من حفظة كتاب الله – تعالى -، مات بالرملة سنة أربع وثلاثين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، رضي الله عنه وعن جميع صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - (1) .
المبايعة: عبارة عن المعاهدة على فعل شيء أو تركه، سميت بذلك تشبيهاً
_________
(1) انظر ((سير أعلام النبلاء)) (2/5) ، ((الاستيعاب)) (2/807) ، ((أسد الغابة)) (3/16) ، ((تهذيب التهذيب)) (5/111) ، ((الإصابة)) (5/322) .(2/264)
بالمعاوضة المالية، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ اشتَرَىَ مِنَ المُؤمِنِينَ أَنفُسَهُم وَأموَالَهُم بِأَنَ لَهُمُ الجََنَّةَ} (1) .
بدأ بما هو أعظم المحرمات، وهو الشرك بالله بأن يجعل ما هو لله من العبادة لغيره، أو شيئاً منها، ولكونه أعظم المحرمات حرمت الجنة على المشرك، كما قال تعالى: {مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (2) ومنع صاحبه المغفرة إلا إذا تاب منه، لهذا وجب على العبد أن يهتم بمعرفته حتى لا يقع فيه وهو لا يشعر، كما هو حال كثير من الناس.
وقوله: ((شيئاً)) نكرة في سياق النهي، فيعم جميع أنواع الشرك، كبيره وصغيره، فعلاً كان أو قولاً.
والسرقة: هي أخذ مال غيره المحرز، على وجه الخفية، والخيانة فيه، وهي من الجرائم الكبيرة، فقد نفي الإيمان عن السارق.
وأما الزنا: فهي أيضاً جريمة شنيعة موجبة لسخط الله – تعالى – ومقته، كما قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} (3) .
وقوله: ((ولا تقتلوا أولادكم)) خص قتل الأولاد؛ لأنه أشنع قتل، وأعظمه ذنباً، ولأن بعض العرب كان يستسيغه، خوفاً من العار، أو الفقر؛ ولأن الأولاد ليس لهم من يدافع عنهم إذا كان والدهم هو الذي يقتلهم.
والمقصود جميع أنواع القتل بغير حق، فإنه من أكبر الكبائر، وفاعله متوعد بالخلود في النار، ولعنه الله وغضبه، قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا
_________
(1) ((الفتح)) (1/16) .
(2) الآية 72 من سورة المائدة.
(3) الآية 32 من سورة الإسراء.(2/265)
عَظِيمًا} (1) .
وقوله: ((وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ)) البهتان: الكذب الذي يبهت سامعه؛ لأنه خلاف الواقع.
قال الحافظ: ((وخص الأيدي والأرجل بالافتراء؛ لأن معظم الأفعال تقع بهما، إذ هي العوامل والحوامل للمباشرة والسعي، ولذلك يسمون الصنائع: الأيادي.
وقد يعاقب الرجل بجناية قولية، فيقال: هذا بما كسبت يداك، ويحتمل أن يكون المراد: لا تبهتوا الناس كفاحاً، وبعضكم يشاهد بعضاً)) (2) والأول أولى.
قوله: ((ولا تعصوني في معروف)) المعروف: ما عرف حسنه. وما جاء به الرسول وأمر به فهو معروف، وحسن، والشرع لا يأتي مخالفاً للعقل والفطرة.
والرسول – صلى الله عليه وسلم – لا يأمر إلا بالمعروف.
قال النووي: ((يحتمل أن يكون المعنى: ولا تعصوني، ولا أحداً ولِّيَ الأمر عليكم في المعروف، فيكون التقيد بالمعروف متعلقاً بشيء بعده.
وقال غيره: نبه بذلك على أن طاعة المخلوق إنما تجب فيما كان غير معصية لله)) (3) ودخل في قوله: ((ولا تعصوني في معروف)) : فعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم.
_________
(1) الآية 93 من سورة النساء.
(2) ((الفتح)) (1/65) .
(3) الفتح (1/65) .(2/266)
قوله: ((فمن وَفَّى منكم)) أي: ثبت على العهد الذي أخذ عليه، ووفى به، دون وقوع في مخالفة (وفى)) بالتخفيف، وفي رواية بالتشديد، وكلاهما بمعنى واحد.
وقوله: ((فأجره على الله)) أطلق الأجر، ولم يعينه، لتفخيمه، وجاء في رواية تعيينه بالجنة، وهي الغاية التي يتسابق إليها العاملون.
قوله: ((ومن أصاب من ذلك شيئاً فأخذ به في الدنيا، فهو كفارة له وطهور)) يعني: إذا وقع في معصية مما ذكر أنه لا يفعله، ثم أقيم عليه الحد في الدنيا، فإن إقامة الحد عليه تكون كفارة له، وطهوراً يطهره، وهذا كما قال النووي مخصوص بالشرك، فإنه لا كفارة له إلا بالتوبة منه.
قال النووي: ((فيه تحريم هذه المذكورات، وما في معناها، وفيه الدلالة لمذهب أهل الحق أن المعاصي غير الكفر، ولا يقطع لصاحبها بالنار، إذا مات ولم يتب منها، بل هو بمشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه، خلافاً للخوارج والمعتزلة، فإن الخوارج يكفرون بالمعاصي، والمعتزلة يقولون: لا يكفر، ولكن يخلد في النار، وفيه أن إقامة الحد تكفر)) (1) .
قوله: ((ومن ستره الله، فذلك إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له)) .
هذا هو محل الشاهد من الحديث، وهو أن الله يفعل ما يشاء، لا يحكمه شيء، ولا يمنعه عما يريد شيء، وهو حكيم عليم، فمن أصاب معصية مما ذكر أو غيره فاستتر، ولم يؤخذ بها في الدنيا ثم مات بدون توبة، فإن أمره إلى الله إن شاء أن يعذبه عذبه، وإن شاء أن يعفو عنه عفا عنه.
وقد تقدم التنبيه أن هذا فيه رد لمذهب المعتزلة، مشبهة الأفعال، نفاة
_________
(1) ((شرح مسلم)) (11/223-224) .(2/267)
الصفات، الذين يحكمون على الله بمثل ما يحكمون به على الناس، تعالى الله عن قولهم، وفيه الرد على إخوانهم في الضلالة، الخوارج، الذين يكفرون المؤمنين بالمعاصي.
*****
95 – قال: ((حدثنا معلى بن أسد، حدثنا وهيب، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة، أن نبي الله سليمان – عليه السلام – كان له ستون امرأة، فقال: لأطوفن الليلة على نسائي فلتحملن كل امرأة، ولتلدن فارسا يقاتل في سبيل الله، فطاف على نسائه، فما ولدت منهن إلا امرأة، ولدت شق غلام. قال نبي الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لو كان سليمان استثنى لحملت كل امرأة منهن، فولدت فارسا يقاتل في سبيل الله)) .
قال في الجهاد: ((باب من طلب الولد للجهاد)) ، ثم ذكر هذا الحديث، يعني: أن الذي ينوي عند جماع زوجته حصول الولد؛ لأجل أن يجاهد في سبيل الله يحصل له بذلك أجر نيته، وإن لم يولد له، أو ولد له ولم يجاهد.
قوله: ((كان له ستون امرأة)) جاء في رواية: سبعون، وفي أخرى: تسعون، وفي أخرى تسع وتسعون، وفي أخرى مائة، وكلها صحيحة.
قال الحافظ: ((يجمع بينها بأن له ستين حرائر، والزائد سراري، أو بالعكس، وأما السبعون فللمبالغة، وأما التسعون، والمائة، فما كان دون المائة وفوق التسعين، فمن قال: تسعون، ألغى الكسر، ومن قال: مائة، جبره)) (1) .
قوله: ((لأطوفن الليلة على نسائي)) يقصد وطأهن، وقد استدل ((المصنف))
_________
(1) ((الفتح)) (6/460) .(2/268)
به على جواز مثل هذا الكلام أمام الناس.
وفيه: ما أُعطي سليمان عليه السلام من القوة.
قوله: ((فلتحملن كل امرأة، ولتلدن فارساً يقاتل في سبيل الله)) قال هذا على سبيل التمني للخير، وإنما جزم به؛ لأنه غلب عليه الرجاء؛ لكونه قصد الخير وأمر الآخرة، لا عرض الدنيا.
قال بعض السلف: ((نبه – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث على آفة التمني والإعراض عن التفويض، ولذلك نُسِّي الاستثناء ليمضي فيه القدر)) (1) .
قلت: جاء في رواية ذكرها البخاري في الجهاد والأنبياء، أن سليمان عليه السلام لما قال ذلك قال له صاحبه: قل: إن شاء الله، وفي أخرى: قال له الملك، فلم يقل: إن شاء الله، وهذا يدل على أنه لم ينس، وأنه جزم بذلك لحسن قصده، وقيام السبب، فجوزي بعدم حصول المراد، وهذه الرواية أظهر في المقصود بهذا الباب. وجاء في رواية أخرى: ونسي أن يقول: إن شاء الله، فيحمل على أن معنى النسيان: تركه مع علمه، غير قاصد خروج ذلك عن مشيئة الله – تعالى -.
قوله: ((فما ولدت منهن إلا امرأة ولدت شق غلام)) الشق: النصف، أي: أنها جاءت بغلام ناقص، لا يستطيع أن يعمل شيئاً. وهذا يدل على أنه ليس لأحد مهما ملك من الأسباب أن يخرج عن مشيئة الله – تعالى -، سواء كان نبياً، أو ملكاً، أو غير ذلك، فمشيئة الله هي النافذة في كل شيء، ومشيئة الخلق مقيدة لها، لا يعملون شيئاً، ولا يتم لهم، إلا بعد أن يشاءه الله – تعالى -.
قوله: ((لو كان سليمان استثنى لحملت كل امرأة منهن، فولدت فارساً يقاتل في سبيل الله)) .
_________
(1) المصدر المذكور (ص461) .(2/269)
في رواية: لو قال: ((إن شاء الله)) فهذا هو الاستثناء المراد هنا.
وفي هذا قدرة الله – تعالى – على تغيير الواقع إلى ضده، وما علم تعالى أنه لا يكون، وما يمتنع صدوره عنه، فلعدم إرادته، لا لعدم قدرته عليه، كما قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (1) ، وقال عز وجل: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} (2) ونحو ذلك مما يبين فيه أنه – تعالى – لو شاء أن يفعل أموراً لم تكن، بل كان خلافها، لفعل، فدل ذلك على أنه قادر على ما علم أنه لا يكون.
وإذا قيل: هذا ممتنع، قيل: امتناعه لعدم مشيئة الرب تعالى له، لا لكونه ممتنعاً في نفسه، ولا لكون الله تعالى غير قادر عليه. ووجه الاستدلال بالحديث ظاهر.
****
96 – قال: ((حدثنا محمد، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دخل على أعرابي يعوده، فقال: ((لا بأس عليك، طهور إن شاء الله)) قال: قال الأعرابي: طهور؟! بل هي حمى تفور، على شيخ كبير، تزيره القبور، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((فنعم إذا)) .
كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعود المريض، ويتفقد أحوال المؤمنين، وهذا الأعرابي يجوز أنه مهاجر إلى المدينة فمرض، أو أنه جاء لحاجة.
والأعرابي: ساكن البراري، وأما العربي فهو أعم منه؛ لأنه من ينتسب إلى العرب، أو من يتكلم العربية.
_________
(1) الآية 13 من سورة السجدة.
(2) الآية 118 من سورة هود.(2/270)
قوله: ((لا بأس عليك، طهور إن شاء الله)) أي: أن المرض يزول، ويكون ذلك مكفراً لخطاياك، أو: أنه لا بأس عليك في مستقبلك؛ لأن المرض يطهرك من ذنوبك، فإن حصلت العافية اكتسب فائدتين، وإلا حصل له التكفير، وهذا دعاء خرج مخرج الخبر، ولهذا علقه بالمشيئة؛ لأنه أمر مستقبل، وكل ما يأتي يقيد بمشيئة الله – تعالى -، أما ما وقع فقد علم أن الله شاءه.
وقول الأعرابي: ((طهور؟!)) ، كأنه رد لقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واستبعاد له، ولهذا قال: ((بل هي حمى تفور)) أي: تغلى في جسمه ((على شيخ كبير)) والشيخ الكبير يكون ضعيفاً لا يتحمل ما يتحمله الشاب القوي ((تزيره القبور)) أي: يموت منها ويذهب به إلى المقبرة.
فلما رد ما قاله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يقبله، واختار ما ذكره هو، قال النبي – صلى الله عليه وسلم – ((فنعم إذاً)) أي: إذا لم تقبل ما قلت لك، فالأمر كما تقول أنت.
قال الحافظ: ((روى الطبراني أن الأعرابي أصبح ميتاً، وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((أما إذ أبيت فهي كما تقول، قضاء الله كائن)) فما أمسى من الغد إلا ميتاً)) (1) .
والمقصود من الحديث قوله: ((لا بأس عليك، طهور إن شاء الله)) وقد جاءت النصوص بأن المصائب كفارات للذنوب، كما جاء ترتيب الجزاء على أعمال معينة، فكل ذلك يكون مقيداً بمشيئة الله تعالى، فعلى العبد أن يضرع إلى الله تعالى بذل وافتقار، ويسأله من فضله أن يهديه لما يرضيه.
والأمور كلها بيده – تعالى – يتصرف فيها كيف يشاء، والخلق عبيده، وفقراء إليه، ولا يظلم ربك أحداً.
*****
_________
(1) ((الفتح)) (6/625) .(2/271)
97 - قال: ((حدثنا ابن سلام، أخبرنا هشيم، عن حصين، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، حين ناموا عن الصلاة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها حين شاء)) فقضوا حوائجهم، وتوضؤوا إلى أن طلعت الشمس وابيضت، فقام فصلى)) .
هذا الحديث مختصر، وقد ذكره في مواقيت الصلاة، باب الأذان بعد ذهاب الوقت، وقد اختلف في أي مسير كان ذلك.
قال الحافظ: ((جزم بعض الشراح بأنه في رجوعه من خيبر، معتمداً على ما قع عند مسلم، وفيه نظر؛ لما بينته في باب الصعيد الطيب)) (1) .
وقال في باب الصعيد الطيب: اختلف في تعيين هذا السفر، ففي مسلم أنه وقع في رجوعهم من خيبر قريب من هذه القصة.
وفي أبي داود: ((أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية ليلاً، فنزل، فقال: ((من يكلؤنا؟ فقال بلال: أنا)) الحديث (2) .
وفي ((الموطأ)) عن زيد بن أسلم مرسلاً: ((عَرَّسَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة بطريق مكة، ووكل بلالاً)) الحديث (3) .
وفي ((مصنف)) عبد الرزاق مرسلاً: أن ذلك بطريق تبوك، وفي ((الدلائل)) للبيهقي نحوه (4) ، وذكر أشياء غير ذلك، ومال إلى تعدد القصة كعادته في مثل هذا.
_________
(1) ((الفتح)) (2/67) .
(2) ((السنن)) (1/310) .
(3) ((الموطأ)) (1/14) .
(4) ((الفتح)) (1/488) .(2/272)
ولم أجد في ((مصنف عبد الرزاق)) تعيين السفر، فإنه قال: ((أخبرني عطاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بينا هو في بعض أسفاره)) فذكره (1) . وكذلك ما في ((الدلائل)) ليس فيه ذكر تبوك، وإنما ذكر ما في ((الموطأ)) ، وسنن أبي داود، ومسلم، والصحيح أن ذلك في مرجعه من خيبر، كما قال عبد الرزاق: عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، قال: ((لما قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر، أسرى ليله، حتى إذا كان آخر الليل عدل عن الطريق، ثم عَرَّسَ، وقال: من يحفط علينا الصلاة؟ فقال بلال: أنا)) وذكر الحديث (2) وهذا مرسل.
ورواه أبو داود موصولاً، عن سعيد، عن أبي هريرة (3) .
ورواه مسلم في ((صحيحه)) مطولاً (4) .
قوله: ((وإن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها حين شاء)) أي: أن الله - تعالى - له ملك كل شيء، فروح الإنسان التي بها حياته وتصرفه، هي بيد الله، إذا شاء قَبضَها من بدنها، وأصبح الإنسان ميتاً لا يستطيع أي عمل، وإذا شاء رَدَّها إلى بدنها فاستطاع العمل والتصرف، وكذلك الإنسان لا يستطيع أن ينام متى شاء، ويستيقظ متى شاء، إلا بمشيئة الله - تعالى -، قال عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (5) } .
_________
(1) انظر ((المصنف)) (1/588) .
(2) ((المصنف)) (1/587) .
(3) انظر ((السنن)) (1/302) .
(4) انظر مسلم (1/471) رقم (680) .
(5) الآية 42 من سورة الزمر.(2/273)
قوله: ((فقضوا حوائجهم، وتوضؤوا إلى أن طلعت الشمس وابيضت فقام فصلى)) يعني: أنهم حين استيقظوا مع طلوع الشمس لم يستعجلوا بأداء الصلاة، بل قضوا حوائجهم مما يحتاجه عادة من يقوم من النوم من بول ونحوه، وتوضؤوا ثم انتظروا حتي ابيضت الشمس، ومعنى ابيضاضها ارتفاعها عن الأفق، ثم قام وصلى بهم، فهذا وقت صلاتهم، لأن النائم وقت صلاته إذا استيقظ، وكذلك الناسي، والله أعلم.
98 - قال: ((حدثنا يحيى بن قزعة، حدثنا إبراهيم، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة والأعرج.
وحدثنا إسماعيل، حدثني أخي، عن سليمان، عن محمد بن أبي عتيق، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب، أن أبا هريرة قال: ((استب رجل من المسلمين، ورجل من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى محمداً على العالمين، في قسم يقسم به، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم اليهودي، فذهب اليهودي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بالذي كان من أمره وأمر المسلم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري: أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله)) .
قال الحافظ: ((المسلم هو أبو بكر الصديق، جاء مصرحاً به فيما أخرجه سفيان ابن عيينة في ((جامعه)) ، وابن أبي الدنيا في ((كتاب البعث)) من طريقه، عن عمرو بن دينار، قال: هو أبو بكر الصديق)) (1) .
_________
(1) انظر ((الفتح)) (6/450) .(2/274)
ولكن يعارض ذلك ما في الأنبياء في هذا الحديث: ((قال اليهودي: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فسمعه رجل من الأنصار فقام فلطم وجهه)) (1) .
قوله: ((استب)) استب: افتعل، من السب، أي: كل واحد منهما سب الآخر، وهو الشتم وذكر العيوب والمثالب، أو الدعاء عليه.
وسبب ذلك قول اليهودي حينما كان يعرض سلعته، فأُعطي فيها ما لا يرضى، فقال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فغضب المسلم ولطمه؛ لأنه فهم من كلامه تفضيل موسى على نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه متقرر عند المسلمين أن محمداً أفضل البشر على الإطلاق.
وجاء في رواية أبي سعيد: أن المسلم لما دعاه النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال له: ((أضربته؟)) قال: سمعته بالسوق يحلف: والذي اصطفى موسى على البشر، قلت: أي خبيث، على محمد – صلى الله عليه وسلم -؟ فأخذتني غضبة، ضربت وجهه)) (2) .
وفهم المسلم أن اليهودي بحلفه ذلك ينتقص محمداً – صلى الله عليه وسلم – فلهذا غضب، ولطمه، ولما ذكر قول اليهودي للنبي – صلى الله عليه وسلم – لم يعاقبه، بل نهى عن تفضيل بعض النبيين على بعض، في مثل هذا المقام الذي يكون فيه الغضب والسب؛ لأن ذلك مدعاة إلى هضم حق بعضهم، أو التنقص لهم، أو الافتخار، وذلك من الكفر.
وأما ذكر الواقع للعلم به، واعتقاده، فلا يدخل في النهي، وقد قال الله – تعالى -: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ َ} (3) ، وقال تعالى: {وَلَقَد
_________
(1) انظر المصدر نفسه.
(2) ((الفتح)) (5/70) .
(3) الآية 253 من سورة البقرة.(2/275)
ْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا َ} (1) .
وصح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)) (2) .
قال البيهقي عن الخطابي: معنى النهي عن التخيير بين الأنبياء: ترك التخيير بينهم على وجه الإزراء ببعضهم، فإنه ربما أدى ذلك إلى فساد الاعتقاد فيهم، والإخلال بالواجب من حقوقهم والإيمان بهم.
وليس معناه أن يعتقد التسوية بينهم في درجاتهم، فإن الله – عز وجل – قد أخبر أنه فاضل بينهم، فقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} .
وقوله: ((أنا سيد ولد آدم)) إنما هو إخبار عما أكرمه الله به من الفضل، والسؤدد، وتحدث بنعمة الله – تعالى – عليه، وإعلام لأمته بعلو مكانه عند ربه؛ ليكون إيمانهم بنبوته واعتقادهم لطاعته على حسب ذلك، وبيان هذا لأمته من اللازم له، والمفروض عليه)) (3) .
قوله: ((لا تخيروني على موسى)) أي: لا تقولوا: أنا خير من موسى، وجاء النهي عن التخيير بين الأنبياء عامة، وهذا خاص بموسى؛ لأن المقام يقتضي ذلك لأجل ما وقع بين اليهودي والمسلم، وسبق وجه النهي. ثم ذكر ما يقتضي تفضيل موسى في كونه يجده باطشاً بجانب العرش، فيكون قد أفاق قبله أو لم يصبه الصعق، كما سبق بيانه. والمقصود هنا قوله: ((أو كان ممن استثنى الله)) أي: في قوله تعالى:: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ َ} (4) ، ففي هذه الآية أن الخلق لا ينجو أحد منهم
_________
(1) الآية 55 من سورة الإسراء.
(2) رواه مسلم (4/1782) رقم (2278) .
(3) ((دلائل النبوة)) (5/495-496) .
(4) الآية 68 من سورة الزمر.(2/276)
من صعق نفخة الصور، إلا من يشاء الله، فدل على أن مشيئة الله عامة شاملة لكل شيء، فلا يخرج عنها ما يعم الخلق كنفخ الصور، ولا ما يخص بعضهم، ومن أجل ذلك – والله أعلم – جاء قوله في أهل الجنة وأهل النار: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ َ} (1) فما شاء الله كان كما يشاء، وما لم يشأ لم يكن.
واختلف في الذين استثناهم الله – تعالى – من صعقة الصور.
قال ابن جرير: ((قال بعضهم: عنى به جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت)) ، ثم روى ذلك عن السدي، وروى فيه حديثاً مرفوعاً بسند فيه يزيد الرقاشي، وهو ضعيف، عن أنس أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قرأ هذه الآية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ} الآية، فقيل له: من هؤلاء الذين استثنى الله يا رسول الله؟ قال: جبريل وميكائيل وملك الموت)) وذكره بطوله، ثم قال:
((وقال آخرون: عنى بذلك: الشهداء)) ، وروى ذلك عن سعيد بن جبير، واختار أن المستثنى من الفزع الشهداء ومن الصعق: جبريل وملك الموت، وحملة العرش، واستدل لذلك بحديث الصور، وهو ضعيف، وبأن الصعق في هذا الموضع: الموت، والشهداء قد ماتوا، فلا يذوقون الموت مرة أخرى، وذكر أن بعض السلف توقف فيه)) (2) .
وقال ابن كثير: ((قال أبو يعلى: حدثنا يحيى بن معين، حدثنا أبو اليمان، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه عن أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: سألت جبريل عن هذه الآية: {وَنُفِخَ
_________
(1) الآية 107 من سورة هود.
(2) انظر ((تفسير ابن جرير)) (24/29-30) .(2/277)
فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ َ} من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا؟ قال: هم الشهداء، مقلدون أسيافهم حول عرشه، تتلقاهم الملائكة يوم القيامة إلى المحشر بنجائب من ياقوت، نمارها ألين من الحرير، مد خطاها مد أبصار الرجال، يسيرون في الجنة، يقولون عند طول النزهة: انطلقوا بنا إلى ربنا – عز وجل – لننظر كيف يقضي بين خلقه، يضحك إليهم إلهي، وإذا ضحك إلى عبد في موطن، فلا حساب عليه)) قال ابن كثير: ((رجاله كلهم ثقات إلا شيخ إسماعيل بن عياش فهو غير معروف)) (1) .
******
99 – قال: ((حدثنا إسحاق بن أبي عيسى، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((المدينة يأتيها الدجال فيجد الملائكة يحرسونها، فلا يقربها الدجال، ولا الطاعون، إن شاء الله)) .
تقدم وجه تسمية الدجال.
قال الحافظ: ((ومما يحتاج إليه في أمر الدجال: أصله، وهل هو ابن صياد، أو غيره؟ وإذا كان غيره: فهل كان موجوداً في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – أو لا؟ وما الذي يدعيه؟ وما الذي يظهر عند خروجه؟ ومتى يخرج؟ وما سبب خروجه؟ ومن أين يخرج؟ وما صفته؟ وما هي الخوارق التي تظهر على يديه، حتى يكثر أتباعه؟ ومتى يهلك؟ ومن يقتله؟)) (2) .
وقد تبين أنه ليس ابن صياد؛ لأن ابن صياد قد مات في المدينة، وقد دخل مكة وولد له، والدجال لا يولد له، ولا يدخل مكة ولا المدينة، ويقتله
_________
(1) انظر تفسير ابن كثير (7/108) .
(2) انظر ((فتح الباري)) (13/91) .(2/278)
عيسى ابن مريم عليه السلام، ويكون رئيساً لليهود، وله خوارق عظيمة، وفتنة هائلة، ولم يحصل لابن صياد من ذلك شيء.
وحديث الجساسة في ((صحيح مسلم)) يدل على ذلك، وليس الأمر فيه مشكلاً كما قاله النووي – رحمه الله -؛ لأن ابن صياد أول الدجاجلة الذين يتقدمون الدجال الأكبر، وأما كونه موجوداً في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم-، فخبر تميم الداري في قصة الجساسة يدل على وجوده.
وأما سبب خروجه، فجاء في ((صحيح مسلم)) ما يدل على أن سبب خروجه غضبة يغضبها، وسأذكر ذلك إن شاء الله – تعالى -.
وخروجه في آخر الزمان، إذ خروجه من علامات الساعة الكبار.
وهو خارج من المشرق، كما سيأتي.
وأما صفته فقد أوضحها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدم أنه أعور العين اليمنى، وأنه مكتوب بين عينيه: كافر.
وإذا خرج ادعى أنه مصلح، ويريد القضاء على الفساد، كما هي عادة كل دجال وطاغوت من طواغيت العالم ودجاجلته الموجودين اليوم وقبله، ثم يدعي الولاية، ثم يدعي النبوة، ثم يدعي أنه رب الخلق المتصرف فيهم.
قال الحافظ: ((وأخرج الطبراني من طريق سليمان بن شهاب، قال: نزل عليَّ عبد الله بن المعتمر، وكان صحابيَّا، فحدثني عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((الدجال ليس به خفاء، يجيء من قبل المشرق، فيدعو إلى الدين، فيتبع، ويظهر فلا يزال حتى يقدم الكوفة، فيظهر الدين ويعمل به، فيتبع ويحث على ذلك، ثم يدعي أنه نبي، فيفزع من ذلك كل ذي لب ويفارقه، فيمكث بعد ذلك، فيقول: أنا الله، فتغشى عينه، وتقطع أذنه، ويكتب بين عينيه: كافر، فلا يخفى على كل مسلم، فيفارقه كل أحد من الخلق في قلبه مثقال حبة من خردل(2/279)
من إيمان)) قال: ((وسنده ضعيف)) (1) .
وأما ما ثبت في ((الصحيحين)) عن محمد بن المنكدر قال: رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن صياد الدجال، قلت: تحلف بالله؟ قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي – صلى الله عليه وسلم – فلم ينكره النبي – صلى الله عليه وسلم (2) .
وفي ((صحيح مسلم)) عن ابن عمر قال: لقيته مرتين، قال: فلقيته فقلت لبعضهم: هل تحدثون أنه هو؟ قال: لا والله، قال: قلت: كذبتني، والله لقد أخبرني بعضكم أنه لن يموت حتى يكون أكثركم مالاً وولداً، فكذلك هو – زعموا – اليوم، قال: فتحدثنا، ثم فارقته، قال: فلقيته لقية أخرى، وقد نفرت عينه، قال: فقلت: متى فعلت عينك ما أرى؟ قال: لا أدري، قال: قلت: لا تدري وهي في رأسك؟ قال: إن شاء الله خلقها في عصاك هذه، فنخر كأشد نخير حمار سمعت: قال: فزعم بعض أصحابي أني ضربته بعصا كانت معي حتى تكسرت، وأما أنا فوالله ما شعرت.
قال: وجاء حتى دخل على أم المؤمنين، فحدثها، فقالت: ما تريد إليه؟ ألم تعلم أنه قد قال: إن أول ما يبعثه على الناس غضب يغضبه)) (3) .
قال النووي: ((قال العلماء: قصته مشكلة، وأمره مشتبه في أنه هو الدجال المشهور، أو غيره، ولا شك في أنه دجال من الدجاجلة.
وظاهر الأحاديث أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يُوحَ إليه بأنه الدجال،، ولا غيره، وإنما أوحي إليه بصفات الدجال، وكان في ابن صياد قرائن محتملة، فلذلك كان النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يقطع بأنه الدجال، ولا غيره)) (4) .
_________
(1) ((الفتح)) (13/91) .
(2) البخاري (9، 88) ، ومسلم (4/2243) رقم (2929) .
(3) مسلم (4/2246) .
(4) ((شرح النووي)) (18/46) .(2/280)
قلت: ابن صياد فيه كلام كثير للعلماء، وفيه أحاديث بعضها في مسلم.
وليس هو الدجال المشهور، وإنما هو من جملة الدجالين كما سبق. والله أعلم.
قوله: ((المدينة يأتيها الدجال، فيجد الملائكة يحرسونها، فلا يقربها الدجال)) .
قد أثبت إتيانه إليها، ولكن لا يستطيع دخولها؛ لأن الملائكة تصده عنها، وذلك لأن سلطان المسلمين قد ضعف عن مقاومة الكفر وأهله، فلهذا جعل الله – تعالى – الملائكة هي التي تصد الدجال عن مدينة رسوله وعن مكة.
وفي مسند الإمام أحمد عن محجن بن الأدرع أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خطب الناس فقال: ((يوم الخلاص، وما يوم الخلاص، يوم الخلاص وما يوم الخلاص)) ثلاثاً، فقيل له: وما يوم الخلاص؟ قال: ((يجيء الدجال، فيصعد أحداً، فينظر المدينة فيقول لأصحابه: أترون هذا القصر الأبيض؟ هذا مسجد أحمد، ثم يأتي المدينة فيجد بكل نقب منها ملكاً مصلتاً، فيأتي سبخة الجرف، فيضرب رواقه، ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات، فلا يبقى منافق، ولا منافقة، ولا فاسق ولا فاسقة، إلا خرج إليه، فذلك يوم الخلاص)) (1) .
قوله: ((ولا الطاعون إن شاء الله)) الطاعون: من الطعن والوخز، وهو الوباء، وهذا من تكريم الله – تعالى – لرسوله، حيث منع الوباء من مدينته، وجاء في بعض الروايات أن مكة كذلك لا يدخلها الطاعون.
والشاهد قوله: ((إن شاء الله)) يعني: أن ذلك معلق بمشيئة الله، فلو شاء لم يحصل المنع.
_________
(1) انظر ((المسند)) (4/338) و (5/31) .(2/281)
وذكر البخاري هذا الحديث في فضائل المدينة بأبسط مما ها هنا، ولفظه:
((ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، ليس له من نقابها نقب إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فيخرج الله كل كافر ومنافق)) (1) .
قال الحافظ: ((هذا الخبر على ظاهره وعمومه عند الجمهور، وشذ ابن حزم فقال: لا يدخل وجنوده، وكأنه استبعد إمكان دخول الدجال جميع البلاد؛ لقصر مدته، وغفل عما في ((صحيح مسلم)) أن بعض أيامه كسنة)) (2) .
وقوله: ثم ترجف المدينة، أي: يحصل لها زلزلة بعد أخرى، حتى يخرج منها من ليس مؤمناً، ويبقى المؤمنون الصادقون، فلا يسلط عليهم ولا ينالهم شره وفتنته.
ولا يعارض هذا ما في حديث أبي بكرة: ((لا يدخل المدينة رعب الدجال)) ؛ لأن المراد برعبه: ما يحدث من الفزع من فعله وعتوه، لا الرجفة التي تقع لإخراج المنافقين والكافرين، وحمل بعض العلماء حديث ((إنها تنفي الخبث)) على هذا، والصحيح أنه خاص بناس، وبزمان، فلا مانع أن يكون هذا الزمان هو المراد، ولا يلزم من كونه مراداً، نفي غيره)) .
****
100 – قال: ((حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، حدثني أبو سلمة ابن عبد الرحمن، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: ((لكل نبي دعوة فأريد – إن شاء الله – أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)) .
_________
(1) انظر ((الفتح)) (4/95) .
(2) المصدر السابق (ص96) .(2/282)
أي: لكل نبي من أنبياء الله دعوة مستجابة، كدعوة نوح – عليه السلام – على قومه: بقوله: {ربِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (1) فاستجاب الله دعوته فأغرق أهل الأرض عموماً، وكدعوة صالح، وشعيب، ولوط، وغيرهم مما ذكره الله – تعالى – في كتابه.
والصحيح أن لكل نبي دعوة عامة مستجابة في أمته، وأما الدعوات غير العامة فكثيرة، منها ما يستجاب، ومنها ما لا يستجاب.
قال النووي: ((معناه أن لكل نبي دعوة متيقنة الإجابة، وهو على يقين من إجابتها، وأما باقي دعواتهم، فهم على طمع من إجابتها، وبعضها يجاب، وبعضها لا يجاب)) (2) .
قوله: ((فأريد إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)) .
هذا من رحمة الله – تعالى – بهذه الأمة، حيث ألهم رسوله – صلى الله عليه وسلم – أن يجعل دعوته العامة المستجابة في أمته، شفاعة له فيهم.
وقد بين أنها للموحدين، فلا نصيب لمشرك في هذه الدعوة العامة، كما في رواية مسلم ((فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً)) (3) .
قال النووي: ((في هذا الحديث كمال شفقة النبي – صلى الله عليه وسلم – على أمته ورأفته بهم، واعتناؤه بالنظر في مصالحهم المهمة، فأخر – صلى الله عليه وسلم – دعوته لأمته إلى أهم أوقات حاجاتهم)) (4) .
_________
(1) الآية 26 من سورة نوح.
(2) ((شرح مسلم)) (3/75) .
(3) انظر: مسلم (1/189) رقم (199) .
(4) المصدر السابق (3/76) .(2/283)
وقال في قوله: ((إن شاء الله - تعالى -)) : هو على جهة التبرك والامتثال لقوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} (1) (2) .
قلت: ليس كما قال - رحمه الله - إن التعليق للتبرك وامتثال الأمر، ولكنه تعليق حقيقة، إذ لو شاء الله لم يقع ذلك، غير أنه تعالى شاء وقوعه فأخبر به على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وخبره حق، والمقصود أن كل شيء بمشيئة الله.
*****
101 - قال: ((حدثنا يسرة بن صفوان بن جميل اللخمي، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بينا أنا نائم رأيتني على قليب فنزعت ما شاء الله أن أنزع، ثم أخذها ابن أبي قحافة، فنزع ذنوبا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم أخذها عمر، فاستحالت غربا، فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه، حتى ضرب الناس حوله بعطن)) .
هذه رؤيا منام، ورؤيا الأنبياء نوع من أنواع الوحي، كما في حديث عائشة: ((إن أول ما بدأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة)) .
والرؤيا: هي ما يراه الإنسان في نومه.
قوله: ((بينا)) هي ((بين)) الظرفية الزمانية، والألف للإشباع.
((رأيتني على قليب)) أي: رأيت نفسي على قليب وهي البئر المحفورة لاستخراج الماء منها، وقال النووي: ((هي البئر غير المطوية)) (3) .
_________
(1) الآية 23 من سورة الكهف.
(2) المصدر السابق.
(3) ((شرح مسلم)) (15/159) .(2/284)
قوله: ((فنزعت ما شاء الله أن أنزع)) النزع هو: استخراج الماء من البئر بالدلو، وهذا محل الشاهد من الحديث حيث أسند كمية النزع إلى مشيئة الله – تعالى -، وقد سبق أن مشيئة الله عامة لا يخرج عنها شيء، والإنسان وإن كان له مشيئة، فهي داخلة تحت مشيئة الله تعالى -، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ} (1) .
قوله: ((ثم أخذها ابن أبي قحافة)) أبو قحافة هو: عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، والد أبي بكر الصديق – رضي الله عنهما -.
((فنزع ذنوباً أو ذنوبين)) الذنوب: الدلو المملوء ماء.
((وفي نزعه ضعف، والله يغفر له)) ، في رواية مسلم: ((وفي نزعه – والله يغفر له – ضعيف)) (2) .
وفي رواية له: ((بينا أنا نائم رأيت أني أنزع على حوضي أسقي الناس، فجاء أبو بكر، فأخذ الدلو من يدي ليروحني، فنزع دلوين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، فجاء ابن الخطاب، فأخذ منه، فلم أر نزع رجل قط أقوى منه، حتى تولى الناس والحوض ملآن يتفجر)) وهذا يفسر الرواية المذكورة هنا.
والضعف المذكور إشارة إلى قلة المال من المغانم ونحوها في وقته، بالنسبة إلى زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – وزمن عمر، وذلك لما حصل من انتكاسة الناس وارتداد أكثر العرب عن الإسلام، فانشغل في قتالهم، وإدخالهم في الإسلام مرة أخرى، وهذا العمل أفضل مما حصل في وقت عمر – ومن بعده من الخلفاء – من الفتوح.
_________
(1) الآية 30 من سورة الإنسان، الآية 29 من سورة التكوير.
(2) انظر: مسلم (4/1860) .(2/285)
وقوله: ((والله يغفر له)) إشارة إلى أن ما يقع في الأمة من صدود عن الله أو انحراف، فإن الإمام قد يكون مسؤولاً عن ذلك، إذ هو القائد الذي يجب أن يقودهم إلى الصلاح والخير، ويحملهم على طاعة الله وطاعة رسوله، ولذلك أخبر أن هذه المسؤولية مغفورة لأبي بكر؛ لأنه بذل جهده في ردهم إلى الإسلام حتى استقاموا على الحق، والعلم عند الله.
قوله: ((ثم أخذها عمر، فاستحالت غرباً)) أي: الدلو، تحولت إلى غرب، والغرب – بفتح الغين المنقوطة وإسكان الراء – هي: الدلو العظيمة المتخذة من جلود الإبل أو البقر، والمعنى: أن الدلو التي كنت أنزع بها وأخذها مني أبو بكر، لما أخذها عمر بعد أبي بكر، صارت غرباً كبيراً يتسع لماء كثير.
((فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريَّه)) العبقري: الكامل من كل شيء.
قال في ((القاموس)) : العبقري: الكامل من كل شيء، والسيد من الرجال، قال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء، عن العبقري؟ قال: يقال: هذا عبقري قوم، كقولك: هذا سيد قوم، وكبيرهم، وشديدهم، وقويهم، ونحو ذلك.
وقيل: العبقري: الذي ليس فوقه شيء، يعني: من جنسه.
قال أبو عبيد: وأصل هذا فيما يقال إنه نسب إلى ((عبقر)) وهي أرض يسكنها الجن، فصارت مثلاً لكل منسوب إلى شيء رفيع)) (1)
وقال الراغب: (عبقر: قيل: هو موضع للجن، ينسب إليه كل نادر من إنسان، وحيوان، وثوب، ولهذا قيل في عمر: لم أر عبقرياً مثله، {وَعَبقَرِيٍ حِسَانِ} هو ضرب من الفرش – فيما قيل – جعله الله – تعالى – مثلاً
_________
(1) ((تاج العروس)) (12/514) .(2/286)
لفرش الجنة)) (1) .
((يَفْري فَرِيَّهُ)) بفتح الياء وإسكان الفاء وكسر الراء، وفتح الفاء الثانية وكسر الراء وفتح الياء المشددة، قال ابن الأثير: ((أي: يعمل عمله، ويقطع قطعه، ويُروي: ((يفري فريه)) بسكون الراء الثانية والتخفيف، وحكي عن الخليل أنه أنكر التثقيل، وغلط قائله.
وأصل الفري: القطع، يقال: فريت الشيء أفريه فرياً: إذا شققته وقطعته للإصلاح، فهو مفري)) (2) .
وقال النووي: ((أما يفري، بفتح الياء، وإسكان الفاء، وكسر الراء، وأما فريه، فروى بوجهين: أحدهما: فريه بإسكان الراء وتخفيف الياء، والثانية بكسر الراء وتشديد الياء، وهما لغتان صحيحتان، وأنكر الخليل التشديد، وقال: هو غلط. واتفقوا على أن معناه: لم أر سيداً يعمل عمله، ويقطع قطعه، ثم ذكر ما ذكره ابن الأثير)) (3) .
والمعنى: فلم أر رجلاً كاملاً، قوياً، يستخرج الدلاء من البئر مثله، حتى كثر الماء وشرب الناس، وجلسوا حول الحوض الذي يصب فيه الماء لا حاجة لهم فيه، وهذا معنى قوله: ((حتى ضرب الناس حوله بعطن)) كما في رواية مسلم.
((فلم أر نزع رجل قط أقوى منه، حتى تولى الناس، والحوض ملآن يتفجر)) (4) .
_________
(1) ((المفردات)) (ص320) .
(2) ((النهاية)) (3/442) ، وانظر ((الفتح)) (7/46) ، و ((مشارق الأنوار)) (2/64) .
(3) ((شرح مسلم)) (15/162) .
(4) تقدم تخريجه.(2/287)
قال النووي: ((قال القاضي عياض: ظاهره أنه عائد إلى خلافة عمر خاصة، وقيل: يعود إلى خلافة أبي بكر وعمر جيمعاً؛ لأن ذلك تم بنظرهما، وتدبيرهما، وقيامهما بمصالح المسلمين، وضرب الناس بعطن؛ لأن أبا بكر قمع أهل الردة وجمع شمل المسلمين، وألَّف بينهم، وابتدأ الفتوح، ومهد الأمور، وتمت ثمرات ذلك وتكاملت في زمن عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما)) (1) .
وقال أيضاً: ((قال العلماء: هذا المنام مثال واضح لما جرى لأبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – في خلافتهما، وحسن سيرتهما، وظهور آثارهما، وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبي – صلى الله عليه وسلم -، ومن بركته، وآثار صحبته، فكان النبي – صلى الله عليه وسلم – هو صاحب الأمر، فقام به أكمل قيام، وقرر قواعد الإسلام، ومهد أموره، وأوضح أصوله وفروعه، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وأنزل الله – تعالى: {اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم} ، ثم توفي - صلى الله عليه وسلم - فخلفه أبو بكر – رضي الله عنه – سنتين وأشهراً، وهو المراد بقوله: ((ذنوباً أو ذنوبين)) وهذا شك من الراوي، بل هما ذنوبان، كما صرح به في الرواية الأخرى.
وحصل في خلافته قتال أهل الردة، وقطع دابرهم، واتساع الإسلام، وعودة قوة المسلمين وهيبتهم.
ثم توفي، فخلفه عمر – رضي الله عنه – فاتسع الإسلام في زمنه، وتقرر لهم من أحكامه ما لم يقع مثله، فعبّر بالقليب عن أمر المسلمين؛ لما فيها من الماء الذي به حياتهم وصلاحهم، وشبه أميرهم بالمستقي لهم، وسقيه هو قيامه بمصالحهم وتدبير أمورهم.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في أبي بكر – رضي الله عنه -: ((وفي نزعه ضعف)) .
_________
(1) ((شرح مسلم)) (15/162) .(2/288)
فليس فيه حط من فضيلته، ولا إثبات لفضل عمر عليه، وإنما هو إخبار عن مدة ولايتهما، وكثرة انتفاع الناس في ولاية عمر لطولها، ولاتساع الإسلام وبلاده وكثرة الأموال، وغيرها من الغنائم والفتوح، وتمصير الأمصار، وتدوين الدواوين.
أما قوله: ((والله يغفر له)) فليس فيه تنقيص له، ولا إشارة إلى ذنب، وإنما هي كلمة كان المسلمون يقولونها: افعل كذا، والله يغفر لك.
قال العلماء: وفي كل هذا إعلام بخلافة أبي بكر وعمر، وصحة ولايتهما، وبيان صفتها، وانتفاع المسلمين بها)) (1) .
أما ما ذكره من أنه إعلام بصحة ولايتهما، فهو أمر متفق عليه عند أتباع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذين آمنوا به، ولم يخالف فيه إلا الذين دخلوا الإسلام تستراً لأجل هدمه ومحاربته، أمثال الرافضة والإسماعيلية والنصيرية، وهم ليسوا من المسلمين في شيء، ومن نظر في كتبهم تيقن أنهم من أبعد الناس عن الإسلام.
وأما ما ذكر من أن قوة نزع عمر لطول مدته، وضعف نزع أبي بكر لقصر مدته، فهو خلاف ظاهر الحديث، وإنما قوة نزع عمر كناية عن قوته في الحق وصلابته وقوة عزيمته، وضعف نزع أبي بكر كناية عن لينه ورقته، ولا يلزم من ذلك أن عمر أفضل من أبي بكر إذا فضله في خصلة من الخصال.
وأما المدة، فعبر عنها بالدلاء، فأبو بكر لم ينزع إلا ذنوبين، بينما عمر نزع حتى روى الناس، وتركوا الحوض ملآن.
******
102 – قال: ((حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا أتاه
_________
(1) ((شرح النووي على مسلم)) () 15/161.(2/289)
السائل - وربما قال: جاءه السائل أو صاحب الحاجة - قال: ((اشفعوا فلتؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء)) .
الرسول - صلى الله عليه وسلم - معلم الخير والداعي إليه، فلم يترك طريقاً يوصل الخلق إلى اكتساب الخير إلا دلهم عليه، وحضهم على سلوكه، حتى الأمور التي قد يظن بعض الناس أنها أمور عادية لا تدخل في العبادة، مثل ما في هذا الحديث، وخصوصا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يتصور مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يمنع أحداً ما يستحقه، أو يبخسه شيئاً من ذلك، ومع ذلك أمر بالشفاعة عنده، وأخبر أن شفاعتهم لا تأثير لها في مشيئة الله - تعالى -، بل المقصود حصول الثواب للشافع.
وأما ما يقع للمشفوع له فهو ما يقضيه الله - تعالى - ويشاؤه، ولهذا قال: ((اشفعوا فلتؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما يشاء)) .
والشاهد فيه: أن مشيئة الله - تعالى - لا تؤثر فيها شفاعة ولا غيرها، بل ما شاء فِعْلَهُ فَعَلَهُ، وما شاء تَرْكَهُ تَرَكَهُ، لا راد لما أراد، ولا يمنع ذلك فعل الأسباب، ولا كون المسببات مرتبة على أسبابها، فكلها بمشيئة الله.
******
103 - قال: ((حدثنا يحيى، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، سمع أبا هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، ارحمني إن شئت، ارزقني إن شئت، وليعزم مسألته، إنه يفعل ما يشاء، لا مكره له)) .
تقدم هذا الحديث من رواية أنس، وبينا الحكمة في النهي عن ذلك.
قال النووي: ((قال العلماء: عزم المسالة: الشدة في طلبها، والجزم من غير ضعف في الطلب، ولا تعليق على المشيئة ونحوها.
وقيل: هو حسن الظن بالله - تعالى - في الإجابة. ومعنى الحديث: استحباب(2/290)
الجزم في الطلب، وكراهة التعليق على المشيئة.
قال العلماء: كراهة ذلك أنه لا يتحقق استعماله المشيئة إلا في حق من يتوجه عليه الإكراه، والله - تعالى - منزه عن ذلك، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الحديث: ((فإنه لا مكره له)) .
وقيل: سبب الكراهة أن في هذا اللفظ صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه)) (1) .
وقال الحافظ: ((النهي لأن التعليق بالمشيئة إنما يحتاج إليه إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء، فيخفف الأمر عليه، ويعلمه بأنه لا يطلب منه الشيء إلا برضاه، والله - تعالى - منزه عن ذلك، فلا فائدة لتعليق. وقيل: لأن فيه صورة الاستغناء عن المطلوب، والمطلوب منه، والأول أولى)) (2) .
قلت: كلا الأمرين دل عليهما النهي، ويدخلان فيه، كما تقدم.
وكلام النووي - رحمه الله - ظاهره أن النهي للكراهة، وليس للتحريم، ومثله كلامه في الأذكار، فإنه قال: ((ويكره أن يقول في الدعاء: اللهم اغفر لي إن شئت، أو إن أردت، بل يجزم بالمسألة)) (3) .
وهذا خلاف ظاهر الحديث، ولا أدري ما دليله على ذلك؟ وقد جاء في رواية في ((الصحيحين)) ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم في الدعاء، فإن الله صانع ما شاء)) (4) ، وهذا ظاهر في التحريم، والقاعدة: أن النهي يحمل على التحريم، ما لم يدل دليل على أنه لكراهة التنزيه.
_________
(1) ((شرح مسلم)) (17/7) .
(2) ((الفتح)) (1/140) .
(3) (ص496) .
(4) انظر ((الفتح)) (11/139) ، و ((مسلم)) (4/2063) رقم (2679) .(2/291)
قال ابن عبد البر: ((لا يجوز لأحد أن يقول: اللهم أعطني إن شئت، [سواء] من أمور الدين أو الدنيا؛ لأنه كلام مستحيل لا وجه له، إذ لا يفعل إلا ما يشاء)) .
قال الحافظ: ((وظاهره أنه حمل النهي على التحريم، وهو الظاهر، وحمله النووي على كراهة التنزيه، وهو أولى)) (1) .
قلت: بل الأولى ما دل ظاهر النص عليه، وهو التحريم.
والمقصود من الحديث هنا قوله: ((إنه يفعل ما يشاء لا مكره له)) أي: أنه تعالى لا يحمله دعاء ولا غيره على فعل ما لا يريد، فلا يمكن أن يقع في الوجود إلا ما شاء، أما المخلوق فإنه قد يكره على فعل ما لا يريد.
******
104 - قال: ((حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا أبو حفص عمرو، حدثنا الأوزاعي، حدثني ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري، في صاحب موسى، أهو خضر، فمر بهما أبي بن كعب الأنصاري، فدعاه ابن عباس، فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا، في صاحب موسى، الذي سأل السبيل إلى لقيه، هل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر شأنه؟ قال: نعم. إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول: بينا موسى في ملأ بني إسرائيل، إذ جاءه رجل فقال: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ فقال موسى: لا، فأوحي إلى موسى: بلى، عبدنا خضر، فسأل موسى السبيل إلى لقيه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت
_________
(1) انظر ((الفتح)) (1/144) .(2/292)
فارجع، فإنك ستلقاه، فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر، فقال فتى موسى: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة، فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن ذكره، قال موسى: ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصاً، فوجدا خضراً، وكان من شأنهما ما قص الله)) .
المراء: المجادلة، يقال: ماريته، أماريه مماراة ومراء، ولا يكون المراء إلا اعتراضاً بخلاف الجدال، فإنه يكون ابتداء، واعتراضاً، فهو أعم)) (1) .
فقوله: ((تماريت)) أي: جادلت معترضاً عليه، وهو كذلك، في أن صاحب موسى هو الخضر، وكان الحر بن قيس يرى أنه غيره.
قال الحافظ: ((لم يذكر ما قال الحر بن قيس، ولا وقفت على ذلك في شيء من طرق الحديث، والخضر: بفتح أوله، وكسر ثانيه، أو بكسر أوله، وإسكان ثانيه)) (2) .
وفي ذلك جواز المجادلة في العلم، إذا كان بغير تعنت وازدراء لغيره.
وفيه إنصاف الصحابة وأدبهم في طلب العلم.
وقد جاء في بعض طرق الحديث في الصحيح، أن ابن عباس لما رأى أُبيّاً قام إليه وسأله.
وفيه الرجوع إلى العلماء عند التنازع وقبول الحق ممن قاله، وقبول خبر الواحد الصدوق، وفضل العلم وأهله.
قوله: ((بينا موسى في ملأ بني إسرائيل)) أي: في أشرافهم، ورؤسائهم.
_________
(1) ((المصباح)) (2/782) .
(2) ((الفتح)) (1/169) .(2/293)