فإن لم يكن عندك تمر فالماء فإن قال قائل ليس عندي رطب ولا تمر ولكن عندي خبز وماء أيهما أفطر عليه؟ أفطر على الماء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى ذلك وقال: (إنه طهور) يطهر المعدة والكبد فلذلك أمرنا عليه الصلاة والسلام أن نفطر على الماء وإنما قدم الرطب والتمر لأنه أنفع للبدن من الماء لأنه حلوى وغذاء وقوة وقد قال أهل الطب: (إن الحلاوة التي في التمر هي أسرع شيء يتقبله الجسم من أنواع الحلوى وإنها تسري إلى العروق فورا) وهذا من حكمة الله عز وجل فهذا الذي ينبغي أن تفطر عليه رطب فإن لم تجد فتمر فإن لم تجد فماء فإن لم تجد ماء فما تيسر من مأكول أو مشروب فإن لم تجد كما لو كنت في البر وليس عندك شيء فقال بعض العوام: (امصص إصبعك) وهذا غلط إذا لم تجد فتكفي النية في القلب وإذا عثرت على مطعوم أو مشروب بعد ذلك فافعل أما مص الإصبع فليس له أصل تحذلق عامي وقال: اتفل في ثوبك ثم امصص الريق أي: كأنه يجعل مثل الماء وهذا أيضا غلط كل هذا ليس بمشروع ولكن إن تيسر لك ما تفطر عليه فهذا هو المطلوب وإلا فانتظر حتى ييسر الله وانو بقلبك.
وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم قال بعض أهل العلم فقد أفطر يعني: وإن لم ينو الفطر يعني فقد انتهى صيامه وأفطر حكما وقال بعضهم فقد أفطر أي: فقد حل له الفطر لكن لا شك أنك إذا نويت الفطر إذا ما لم يكن عندك ما تأكله وتشربه فهو أحسن وأفضل حتى تكون مبادرا إلى الإفطار بالنية لعدم القدرة(5/290)
على الأكل والشرب والله الموفق.(5/291)
باب أمر الصائم بحفظ لسانه وجوارحه عن المخالفات والمشاتمة ونحوها
1240 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم متفق عليه.
1241 - وعنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه رواه البخاري.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب أمر الصائم بحفظ لسانه وجوارحه.
والمراد بذلك أنه يجب على الصائم أن يتجنب كل قول محرم وكل فعل محرم لأن الله تعالى إنما فرض الصيام من أجل التقوى كما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أي: من أجل أن تتقوا الله عز وجل وتجتنبوا محارمه ولا يريد الله من عباده أن يضيق عليهم بترك الأكل والشرب والجماع ولكن يريد أن يمتثلوا أمره ويجتنبوا نواهيه حتى(5/292)
يكون الصيام مدرسة يتعودون فيها على ترك المحرمات وعلى القيام بالواجبات وإذا كان شهر كامل يمر بالإنسان وهو محافظ على دينه تارك للمحرم قائم بالواجب فإن ذلك سوف يغير من مجرى حياته.
ولهذا بين الله الحكمة من ذلك بأنها التقوى وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق يعني لا يفعل فعلا محرما ولا يقول قولا محرما فإن سابه أحد يعني: صار يعيبه ويشتمه.
(أو قاتله) فليقل (إني صائم) حتى يدفع عن نفسه العجز عن المدافعة ويبين لصاحبه أنه لولا الصيام لقابلتك بمثل ما فعلت بي، فيبقى عزيزا لا ذليلا لكنه ذل لعبودية الله تعالى وطاعة الله، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: من لم يدع قول الزور يعني: قول المحرم والعمل به أي بالمحرم، والجهل كما في لفظ آخر يعني: العدوان على الناس فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه لأن الله تعالى إنما أوجب الصيام لأهم شيء وهو ترك المحرمات والقيام بالواجبات والله الموفق.(5/293)
باب في مسائل من الصوم
1243 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا نسي أحدكم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه متفق عليه.
1243 - وعن لقيط بن صبرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء؟ قال: أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح..
1244 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم.
متفق عليه.
1245 - وعن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما قالتا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من غير حلم ثم يصوم متفق عليه.
قال المؤلف رحمه الله في كتاب رياض الصالحين باب في مسائل من الصوم يعني مسائل متنوعة متفرقة فمنها إذا أكل الإنسان أو شرب وهو صائم ناسيا(5/294)
فهل يفسد صومه استمع للجواب من قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه قال: من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه فإذا أكلت أو شربت ولو شبعت ورويت وأنت ناس في الصيام فإن صومك كامل ليس فيه نقص ولهذا قال: فليتم صومه وفي قوله: فإنما أطعمه الله وسقاه دليل على أن فعل الناسي لا ينسب إليه وإنما ينسب إلى الله وكذلك النائم لا ينسب فعله إلى نفسه وإنما ينسب إلى الله كما قال الله تعالى في أصحاب الكهف {ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال} والذي يتقلب هو النائم ولكن لما لم يكن له قصد نسب الله الفعل إليه كذلك الناسي لم يتعمد فساد الصوم نسي وأكل وشرب نقول صومك صحيح وكذلك لو كان جاهلا مثل أن يحتجم وهو لا يدري أن الحجامة تفطر فصومه صحيح ومثل أن يأكل يظن أن الفجر لم يطلع ثم تبين أنه طالع فصومه صحيح ومثل أن يأكل يظن أن الشمس قد غربت فأكل ثم تبين أن الشمس لم تغرب فصيامه صحيح.
وقد وقعت هذه المسألة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان الناس صائمين في يوم غيم فأفطروا ظنا منهم أن الشمس قد غابت ثم طلعت الشمس ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء الصوم لأنهم لا يدرون ولم يتعمدوا ولكن متى ذكر الإنسان وجب عليه الترك والإمساك حتى لو كانت اللقمة في فمه وجب عليها لفظها وكذلك لو كان الماء في فمه وجب عليه أن يريقه وكذلك لو كان جاهلا ثم أخبر فإنه يجب عليه أن يمسك مثلا لو رأى(5/295)
إنسانا يأكل ويشرب يقول ما هذا وأنت صائم قال: الشمس غربت قال: الشمس لم تغرب فيجب عليه أن يتوقف لأنه زال عنه العذر.
فإذا قال قائل لو رأيت صائما يأكل وأعرف أنه ناس فهل علي أن أذكره قلنا: نعم يجب أن تذكره لأن أخاك إذا عذر بالنسيان وأنت علمت به وجب عليك أن تذكره ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة: (إذا نسيت فذكروني) فأمر أن يذكر إذا نسي كذلك أيضا إذا رأيت صائما يأكل ويشرب ناسيا فذكره كما لو رأيت إنسانا يصلي منحرفا عن القبلة وجب عليك أن تخبره.
فالمهم أنه إذا وقع أخوك في شيء لا يحل له فعليك أن تذكره لأن النسيان كثير والخطأ كثير.
ثم ذكر المؤلف حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما.
أسبغ الوضوء: يعني توضأ وضوءا سابغا كاملا والإسباغ بمعنى الإتمام قال تعالى: {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة} أي: أكلمها والثاني: وخلل بين الأصابع ولاسيما أصابع الرجلين خلل بينهما بالماء لأن أصابع الرجلين متلاصقة وربما لا يدخل الماء من بينها وبالغ في(5/296)
الاستنشاق يعني استنشاق الماء عند الوضوء إلا أن تكون صائما فلا تبالغ في الاستنشاق لأنك إذا بالغت في الاستنشاق دخل الماء إلى جوفك من طريق الأنف فدل ذلك على أن وصول الأكل أو الشرب عن طريق الأنف كوصوله عن طريق الفم يفطر الصائم وأما الإبر التي تكون في الوريد أو تكون في اليد أو تكون في الظهر أو في أي مكان فإنه لا يفطر الصائم إلا الإبر المغذية التي يستغنى بها عن الأكل والشرب فهذه تفطر الصائم ولا يحل له إذا كان صومه فرضا أن يستعملها إلا عند الحاجة عند الضرورة فإذا اضطر إلى ذلك أفطر واستعمل الإبر وقضى يوما مكانه.
ثم ذكر المؤلف حديثي عائشة وأم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا فيصوم ثم يغتسل وهذا أيضا جائز يعني: يجوز للجنب أن ينوي الصوم وإن لم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك وفي حديث عائشة وأم سلمة دليل على أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم حجة يحتج بها، ولا يقال هذا من خصائصه لأن الأصل عدم الخصوصية فإن فعل النبي صلى الله عليه وسلم فعلا فهو حق إن كان عبادة فهو عبادة وإن كان عادة فهو عادة وليس بمحرم والله الموفق.(5/297)
باب بيان فضل صوم المحرم وشعبان والأشهر الحرم
1246 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل رواه مسلم.
1247 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم من شهر أكثر من شعبان فإنه كان يصوم شعبان كله.
وفي رواية كان يصوم شعبان إلا قليلا متفق عليه.
1248 - وعن مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انطلق فأتاه بعد سنة، وقد تغيرت حاله وهيئته فقال: يا رسول الله أما تعرفني؟ قال: ومن أنت؟ قال: أنا الباهلي الذي جئتك عام الأول قال: فما غيرك وقد كنت حسن الهيئة قال: ما أكلت طعاما منذ فارقتك إلا بليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عذبت نفسك ثم قال: صم شهر الصبر ويوما من كل شهر قال: زدني فإن بي قوة، قال: صم يومين قال: زدني قال: صم ثلاثة أيام قال: زدني.
قال: صم من الحرم واترك صم من الحرم واترك صم من الحرم واترك وقال بأصابعه الثلاث فضمها ثم أرسلها رواه أبو داود.
وشهر الصبر رمضان.(5/298)
[الشَّرْحُ]
هذا الباب ذكر المؤلف رحمه الله فيه بيان ما يسن صومه من الأيام والشهور فمن ذلك: صوم شعبان فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه كله أو كله إلا قليلا كما روت عنه ذلك عائشة رضي الله عنها ولهذا ينبغي للإنسان أن يكثر من الصيام في شهر شعبان أكثر من غيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومه.
قال أهل العلم: والحكمة من ذلك أنه يكون بين يدي رمضان كالرواتب بين يدي الفريضة.
ومن ذلك أيضا شهر الله المحرم وشهر الله المحرم هو ما بين ذي الحجة وصفر قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم) ويتأكد أن يصوم منه التاسع والعاشر والحادي عشر) .
ومن ذلك أيضا أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، كما في حديث الباهلي (وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام لا يبالي أصامها في أول الشهر أو وسطه أو آخره) لكن أيام البيض أفضل وهي يوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر.
ومن ذلك أيضا أن يصوم يوم عرفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صومه فقال: (إنه يكفر السنة الماضية والباقية) يعني يكفر سنتين.(5/299)
وفي حديث الباهلي الذي صام سنة كاملة حتى تغيرت هيئته وضعفت حاله وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: هل تعرفني قال: من أنت قال أنا الباهلي الذي أتيتك عام أول فأخبره بما كان يصنع وأنه لم يترك الصوم منذ فارقه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: عذبت نفسك وفي هذا دليل على أنه ليس من الشرع أن يكلف الإنسان نفسه ما لا تطيقه، وأن يعذب نفسه، لأن الله يقول ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما والله الموفق(5/300)
باب فضل الصوم وغيره في العشر الأول من ذي الحجة
1249 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء رواه البخاري.(5/301)
باب فضل صوم يوم عرفة وعاشوراء وتاسوعاء
1250 - عن أبي قتادة رضي الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن صوم يوم عرفة قال: يكفر السنة الماضية والباقية رواه مسلم.
1251 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه متفق عليه.
1252 - وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: يكفر السنة الماضية رواه مسلم.
1253 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع رواه مسلم.(5/302)
باب استحباب صوم ستة أيام من شوال
1254 - عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
هذا الأبواب الثلاثة التي عقدها النووي في كتابه رياض الصالحين في بيان أيام يسن صيامها فمنها مما يسن صيامه أيام العشر عشر ذي الحجة الأول فأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر وقوله العمل الصالح يشمل الصلاة والصدقة والصيام والذكر والتكبير وقراءة القرآن وبر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الخلق وحسن الجوار وغير ذلك ...
كل الأعمال الصالحة.
ما من أيام في السنة يكون العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام العشر قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء.
ففي هذا دليل على فضيلة العمل الصالح في أيام العشر الأولى من شهر ذي الحجة من صيام وغيره وفيه دليل أيضا على أن الجهاد من أفضل الأعمال ولهذا قال الصحابة: (ولا الجهاد في سبيل الله) وفيه دليل على فضيلة هذه الحال النادرة أن يخرج الإنسان مجاهدا في سبيل(5/303)
الله بنفسه وماله وماله يعني: سلاحه ومركوبه ثم يقتل ويؤخذ سلاحه ومركوبه يأخذه العدو فهذا فقد نفسه وماله في سبيل الله فهو من أفضل المجاهدين فهذا أفضل من العمل الصالح في أيام العشر وإذا وقع هذا العمل في أيام العشر تضاعف فضله.
ومن الأيام التي يسن صيامها يوم عرفة واليوم العاشر من شهر المحرم لحديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة قال: يكفر السنة الماضية والباقية الماضية يعني: التي انتهت لأن يوم عرفة في آخر شهر من العام والباقية فهو يكفر سنتين.
وسئل عن صوم يوم عاشوراء قال: يكفر السنة الماضية فهو أقل أجرا من صوم يوم عرفة ومع ذلك ينبغي أن يصوم من عاشوراء تاسوعاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لأن بقيت إلى قادم لأصومن التاسع يعني: مع العاشر.
ولأنه أمر أن يصام يوما قبله أو يوما بعده مخالفة لليهود لأن يوم عاشوراء العاشر من المحرم هو اليوم الذي أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه فكان اليهود يصومونه شكرا لله على هذه النعمة العظيمة أن الله أنجى جنده وهزم جند الشيطان أنجى موسى وقومه وأهلك فرعون وقومه فهو نعمة عظيمة ولهذا لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم عن ذلك فقالوا: هذا يوم نجا الله موسى وقومه وأهلك فرعون وقومه فنصومه شكرا لله فقال: نحن أولى بموسى منكم لماذا لأن النبي والذين(5/304)
معه أولى الناس بالأنبياء السابقين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين أمنوا والله ولي المؤمنين فرسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بموسى من اليهود لأن اليهود كفروا به وكفروا بعيسى وكفروا بمحمد فصامه وأمر الناس بصيامه إلا أنه أمر أن يخالفوا اليهود الذين يصومون إلا يوم العاشر كان نصوم التاسع أو الحادي عشر مع العاشر أو الثلاثة.
ولهذا ذكر بعض أهل العلم كابن القيم وغيره أن صيام عاشوراء ثلاثة أقسام: 1 - أن يصوم عاشوراء والتاسع وهذا أفضل الأنواع.
2 - أن يصوم عاشوراء والحادي عشر وهذا دون الأول.
3 - أن يصوم عاشوراء وحده فكرهه بعض العلماء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمخالفة اليهود ورخص فيه بعض العلماء.
وكذلك من الأيام التي يسن صيامها ستة أيام من شوال كما في حديث أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال فكانما صام الدهر فسر العلماء ذلك بأن الحسنة بعشر أمثالها فيكون رمضان شهرا بعشرة أشهر ويكون الستة أيام بستين يوما وهم شهران فعلى هذا يسن للإنسان إذا أتم صيام رمضان أن يصوم ستة من شوال.
وليعلم أنها لا تصام قبل القضاء يعني: لو كان على الإنسان يوم واحد من رمضان وصام الست فإنه لا يحصل على أجر ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان) ومن عليه يوم واحد من رمضان لم(5/305)
يكن صامه بل صام أياما منه من كان عليه يوم فقد صام تسعة وعشرين ومن كان عليه يومان فقد صام ثمانية وعشرين ما صام الشهر والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: من صام رمضان فإذا صمت رمضان وصمت ستة أيام بعده من شوال فكانما صمت الدهر كله.
وسواء صمتها من ثاني يوم العيد وأتبعت بعضها بعضا أو صمتها بعد يومين أو ثلاثة أو صمتها متتابعة أو صمتها متفرقة الأمر في هذا واسع لكن لو أنك تساهلت حتى خرج شوال وصمت فإنها لا تكون بهذا الأجر اللهم إلا من كان معذورا مثل أن يكون مريضا أو امرأة نفساء أو مسافرا ولم يصم في شوال وقضاها في ذي القعدة فلا بأس.(5/306)
باب استحباب صوم الاثنين والخميس
1255 - عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: ذلك يوم ولدت فيه ويوم بعثت أو أنزل علي فيه رواه مسلم.
1256 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم رواه الترمذي وقال: حديث حسن ورواه مسلم بغير ذكر الصوم.
1257 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى صوم الاثنين والخميس رواه الترمذي وقال حديث حسن.(5/307)
باب استحباب صوم ثلاثة أيام من كل شهر والأفضل صومها في الأيام البيض وهي: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر وقيل: الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر والصحيح المشهور هو الأول.
1258 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام متفق عليه.
1259 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاث لن أدعهن ما عشت بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى وبأن لا أنام حتى أوتر رواه مسلم.
1260 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله متفق عليه.
1261 - وعن معاذة العدوية أنها سألت عائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام & قالت: نعم فقلت: من أي الشهر كان يصوم قالت: لم يكن يبالي من أي الشهر يصوم رواه مسلم.(5/308)
1262 - وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا صمت من الشهر ثلاثا فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة رواه الترمذي وقال حديث حسن.
1263 - وعن قتادة بن ملحان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام أيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة رواه أبو داود.
1264 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفطر أيام البيض في حضر ولا سفر رواه النسائي بإسناد حسن.
[الشَّرْحُ]
هذان البابان عقدهما المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في بيان فضل صوم يوم الاثنين والخميس وثلاثة أيام من كل شهر.
أما صوم يوم الاثنين فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صومه فقال: ذاك يوم ولدت فيه وبعثت أو أنزل علي فيه وكذلك مات فيه عليه الصلاة والسلام فيوم الاثنين ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم لكن في أي شهر لم يتبين هل في شهر ربيع الأول أو في غيره وهل هو في اليوم الثاني عشر منه أو في غيره إنما(5/309)
المؤكد أنه ولد في يوم الاثنين كذلك أيضا أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم فيه يعني: أول ما نزل عليه القرآن في يوم الاثنين.
والراوي شك هل قال: (أنزل) أو (بعثت) وبينهما فرق لأنه أنزل عليه القرآن قبل أن يبعث أنزلت عليه سورة (اقرأ باسم ربك الذي خلق ...
) وبهذا صار نبيا وأنزل عليه وأما البعث وهو الإرسال فإنما كان بقوله تعالى: يأيها المدثر قم فأنذر ...
وهذا بعد الأول وعلى كل صار هذا اليوم فيه مناسبات شريفة عظيمة ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم وإنزال الوحي عليه أو إرساله إلى الناس.
وأما صيام ثلاثة أيام من كل شهر ففيه أحاديث منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأبي الدرادء وأبي ذر هؤلاء الثلاثة أوصاهم النبي صلى الله عليه وسلم بوصية واحدة لكن كل واحد في وقت.
أوصاهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وقال لعبد الله بن عمرو بن العاص: صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله يعني: ثلاثة أيام والحسنة بعشرة أمثالها تكون ثلاثين يوما فتكون صوم الدهر كله.
أوصاهم بثلاثة أيام من كل شهر ولم يعين لم يقل الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر وأوصاهم أيضا بركعتي الضحى.
وركعتا الضحى وقتها من ارتفاع الشمس قدر رمح أي من نحو ثلث ساعة بعد طلوع الشمس إلى قبيل الزوال أي إلى ما قبل الزوال بنحو عشر(5/310)
دقائق كل هذا وقت لركعتي الضحى.
وتسن كل يوم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن كل عضو من أعضاء بني آدم يصبح كل يوم عليه صدقة مقابلة للأعضاء والأعضاء ثلاثمائة وستون عضوا إذا عليك كل يوم ثلاثمائة وستون صدقة لكن الصدقات ما هي لازمة بالمال فكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تهليلة صدقة أمر بالمعروف صدقة نهي عن المنكر صدقة حتى إعانة الرجل في دابته صدقة حتى جماع الرجل لأهله صدقة.
ولكن قال النبي صلى الله عليه وسلم: يغني عن ذلك كله ركعتان يركعهما من الضحى.
إذا أنت إذا ركعت ركعتين من الضحى أديت الواجب عليك من الصدقات وبقي الباقي تطوعا.
أما الثالث: (وأن أوتر قبل أن أنام) هذا لمن يخشى أن لا يقوم من آخر الليل الذي يخشى ألا يقوم من آخر الليل نقول: أوتر قبل أن تنام احتط لنفسك أما الذي يطمع أن يقوم من آخر الليل فليجعل وتره من آخر الليل هكذا جاءت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال العلماء: وإنما أوصى هؤلاء بأن يوتروا قبل أن يناموا لأن مقتضى حالهم يقتضي ذلك فقد كان أبو هريرة رضي الله عنه في أول الليل يتحفظ أحاديث رسول الله وينام في آخر الليل.
ثم إن الأيام الثلاثة يجوز أن تصومها في العشر الأول أو في العشر(5/311)
الأوسط أو في العشر الأخير أو كل عشرة أيام يوما أو كل أسبوع يوما كل هذا جائز والأمر واسع ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يبالي من أي الشهر صامها من أوله أو من وسطه أو من آخره.
لكن اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر أحسن وأفضل لأنها أيام البيض.
أما صوم يوم الخميس فهو أيضا سنة لكنه دون صوم يوم الاثنين صوم يوم الاثنين أفضل وكلاهما فاضل.
وإنما كان صيامهما فاضلا أنه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن: الأعمال تعرض فيهما على الله قال: فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم.
وأفضل الصيام صيام داود أن يصوم الإنسان يوما ويفطر يوما هذا لمن قدر ولم يكن عليه مشقة ولم يضيع بسببه الأعمال المشروعة الأخرى ولم يمنعه عن تعلم العلم لأن هناك عبادات أخرى إذا كان كثرة الصيام تعجزك عنها فلا تكثر الصيام ...
والله الموفق.(5/312)
باب فضل من فطر صائما وفضل الصائم الذي يؤكل عنده ودعاء الآكل للمأكول عنده
1265 - عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
1266 - وعن أم عمارة الأنصارية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فقدمت إليه طعاما فقال: كلي فقالت إني صائمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الصائم تصلي عليه الملائكة إذا أكل عنده حتى يفرغوا وربما قال: حتى يشبعوا رواه الترمذي وقال حديث حسن.
1267 - وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه فجاء بخبز وزيت فأكل ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة رواه أبو داود بإسناد صحيح.(5/313)
كتاب الاعتكاف
1268 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان متفق عليه.
1269 - وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى ثم اعتكف أزواجه من بعده متفق عليه.
1270 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما رواه البخاري.
[الشَّرْحُ]
باب فضل من فطر صائما هو آخر ما ذكره النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين فيما يتعلق بالصيام وذلك أن من نعمة الله سبحانه وتعالى على عباده أن شرع لهم التعاون على البر والتقوى ومن ذلك تفطير الصائم لأن الصائم مأمور بأن يفطر وأن يعجل الفطر فإذا أعين على هذا فهو من نعمة الله عز وجل ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: من فطر صائما فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء.
واختلف العلماء في معنى من فطر صائما فقيل: إن المراد من فطره على أدنى ما يفطر به الصائم ولو بتمرة.
وقال بعض العلماء: المراد بتفطيره أن يشبعه لأن هذا هو الذي ينفع الصائم طول ليله وربما يستغني به عن السحور؟ ولكن ظاهر الحديث أن الإنسان لو فطر صائما ولو بتمرة واحدة فإنه له مثل أجره.
ولهذا ينبغي للإنسان أن يحرص على إفطار الصائمين بقدر المستطاع لاسيما مع حاجة الصائمين وفقرهم أو حاجتهم لكونهم لا يجدون من يقوم بتجهيز الفطور لهم وما أشبه ذلك.
ثم ذكر رحمه الله تعالى باب الاعتكاف.
والاعتكاف: لزوم المسجد لطاعة الله عز وجل وهو مشروع في العشر الأواخر من رمضان لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأخير ثم اعتكف العشر الأوسط يتحرى ليلة القدر ثم قيل له: (إنها في العشر الأواخر) فصار يعتكف العشر الأواخر من رمضان وبهذا عرفنا أنه لا(5/315)
يشرع الاعتكاف في غير رمضان وأن ما ذكره بعض العلماء من أنه ينبغي للإنسان إذا قصد المسجد أن ينوي الاعتكاف مدة مكثه فيه قول لا دليل عليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرعه لأمته لا بقوله ولا بفعله يعني لم يقل للناس إذا دخلتم المسجد فأنووا الاعتكاف فيه في أي وقت ولم يكن يفعل ذلك هو بنفسه وإنما كان يعتكف العشر الأواخر تحريا لليلة القدر ولهذا ينبغي للمعتكف ألا يشتغل إلا بالطاعة من صلاة وقراءة القرآن وذكر وغير ذلك حتى تعليم العلم قال العلماء: لا ينبغي للمعتكف أن يشتغل بتعليم العلم بل يقبل على العبادات الخاصة لأن هذا الزمن مخصوص للعبادات الخاصة.
ولا يجوز للمعتكف أن يخرج من المسجد إلا لما لابد منه كأن يكون ليس عنده من يأتيه بالطعام والشراب فيخرج ليأكل ويشرب أو يخرج لقضاء الحاجة أو يحتاج إلى الخروج من أجل غسل الجنابة وما أشبه ذلك أو يحتاج للخروج لكونه في مسجد غير جامع فيذهب إلى الجمعة المهم أن المعتكف لا يخرج من المسجد إلا لشيء لابد له منه شرعا أو طبعا.
ثم إنه ينبغي للمعتكف إذا جاءه أحد يريد أن يشغله بالكلام اللغو الذي لا فائدة منه أن يقول له: يا أخي أنا معتكف إما أن تعينني على الطاعة وإما أن تبتعد عني والله تعالى لا يستحي من الحق وأما الجلوس اليسير عند المعتكف والتحدث اليسير فهذا لا بأس به لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقبل نساءه وهو معتكف فيتحدث إليهن ويتحدثن إليه والله الموفق.(5/316)
كتاب الحج
قال الله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} .
1271 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان متفق عليه.
1272 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل: أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب وجوب الحج وفضله.
الحج: هو قصد مكة للتعبد لله سبحانه وتعالى بأداء المناسك وهو أحد(5/317)
أركان الإسلام بإجماع المسلمين ودليل فرضه قول الله تبارك وتعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين.
وهذه الآية نزلت في العام التاسع من الهجرة وهو العام الذي يسمى عام الوفود وبها فرض الحج أما قوله تعالى في سورة البقرة: {وأتموا الحج والعمرة لله} ففيها فرض الإتمام لا فرض الابتداء ففرض الابتداء كان في السنة التاسعة في آية سورة آل عمران وأما فرض الاستمرار والإتمام فكان في آية البقرة في سنة ست من الهجرة.
قال الله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} على الناس يعني على جميعهم لكن الكافر لا نأمره بالحج حتى يسلم وأما المسلم فنأمره بأن يحج بهذا الشرط الذي اشترطه الله عز وجل {من استطاع إليه سبيلا} يعني: من استطاع أن يصل إلى مكة فمن لم يستطع لفقره فلا حج عليه ومن لم يستطع لعجزه نظرنا فإن كان عجزه لا يرجى زواله وعنده مال وجب أن يقيم من يحج عنه.
وإن كان يرجى زواله كمرض طارئ طرأ عليه في أيام الحج فإنه ينتظر حتى يعافيه الله ثم يحج بنفسه.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بني الإسلام على خمس وقد سبق الكلام عليه فلا حاجة إلى الإعادة والشاهد من هذا قوله: وحج البيت الحرام والحج لا يجب إلا مرة إلا إذا نذر الإنسان أن يحج فليحج لكن بدون نذر لا يجب إلا مرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل في كل عام قال: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم(5/318)
الحج مرة فما زاد فهو تطوع وهذا من نعمة الله عز وجل أنه لم يفرضه إلا مرة واحدة في العمر وذلك لأن غالب الناس يشق عليهم الوصول إلى مكة وهذه من الحكمة تجد الصلوات الخمس مفروضة كل يوم الجمعة مفروضة في الأسبوع مرة لأن الجمعة يجب أن تكون في مسجد واحد فقط في البلد كله وهذا قد يكون فيه مشقة لو قلنا للناس اجتمعوا في مسجد واحد كل يوم خمس مرات فيه مشقة ولهذا لم تفرض الجمعة إلا في الأسبوع مرة.
الزكاة لم تجب إلا في السنة مرة الصيام لم يجب إلا في السنة مرة الحج لا يجب إلا في العمر مرة وهذا من حكمة الله تعالى ورحمته حيث جعل هذه الفرائض مناسبة لأحوال العباد.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال عليه الصلاة والسلام ذروني ما تركتكم يعني: لا تسألوا عن أشياء أنا ساكت عنها ما دمت ساكت عن الشيء فاسكتوا عنه لأن أعظم الناس جرما من سأل عن مسألة حلال فحرمت من أجل مسألته أو عن مسألة غير واجبة فوجبت من أجل مسألته.
لكن بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لا بأس أن يسأل الناس العلماء عن أمور دينهم لأن الشرع انتهى ما في تحليل ولا تحريم ولا إيجاب ولا إسقاط.
فهذا هو مراد الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تسأل ولا تقل: {ولا تسألوا عن أشياء أن تبد لكم تسؤكم} اسأل.
ثم بين الرسول عليه الصلاة والسلام: أن ما أهلك الذين من قبلنا كثرة مسألهم واختلافهم على أنبيائهم يعني أنهم يسألون يسألون فهلكوا وانظر إلى(5/319)
أصحاب البقرة حين قال لهم موسى عليه الصلاة والسلام اذبحوا بقرة وخذوا جزءا منها واضربوا به القتيل وكان القتيل من بين قبيلتين أو طائفتين قتل فادعت إحدى الطائفتين على الأخرى أنها قتلته فأنكروا وهو ميت وليس يوجد شهود.
فجاءوا إلى موسى عليه الصلاة والسلام فأمرهم بأمر الله أن يذبحوا بقرة لو ذبحوا أي بقرة تلك الساعة لحصل لهم المقصود لكن جعلوا يسألون: ما هي ما لونها ما هي حتى شددوا فشدد الله عليهم فذبحوها وما كادوا يفعلون.
فالحاصل أن كثرة المسائل والاختلاف على الأنبياء من أسباب الهلاك وهذا كله كما قلت في عهد النبوة عهد التشريع.
أما الآن فاسأل عن كل ما تحتاج إلى السؤال عنه ولا حرج عليك.
أما أغلوطات المسائل وألغاز المسائل والأشياء التي يقصد بها التشدد والتعنت فهذه منهي عن السؤال عنها لقول النبي صلى الله عليه وسلم هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون والله أعلم.
1273 - وعنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل قال: إيمان بالله ورسوله قيل ثم ماذا قال: الجهاد في سبيل الله قيل ثم ماذا قال: حج مبرور متفق عليه.(5/320)
المبرور هو الذي لا يرتكب صاحبه فيه معصية.
1274 - وعنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه متفق عليه.
1275 - وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة متفق عليه.
1276 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد فقال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور رواه البخاري.
1276 - وعنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة رواه مسلم.
1277 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عمرة في رمضان تعدل عمرة أو حجة معي متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث ذكرها النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب: وجوب الحج وفضله.
وهي تدل على أمور: الأمر الأول: أن الحج المبرور في المرتبة الثالثة بالنسبة(5/321)
لأفضل الأعمال فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل قال: إيمان بالله ثم ماذا قال: الجهاد في سبيل الله ثم قال الثالث: حج مبرور فالحج المبرور هو الذي اجتمعت فيه أمور: الأمر الثاني: أن يكون خالصا لله بأن لا يحمل الإنسان على الحج إلا ابتغاء رضوان الله والتقرب إليه سبحانه وتعالى لا يريد رياءا ولا سمعة ولا أن يقول الناس فلان حج وإنما يريد وجه الله.
الثالث: أن يكون الحج على صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم يعني أن يتبع الإنسان فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ما استطاع.
الرابع: أن يكون من مال مباح ليس حراما بأن لا يكون ربا ولا من غش ولا من ميسر ولا غير ذلك من أنواع المفاسد المحرمة بل يكون من مال حلال ولهذا قال بعضهم:
إذا حججت بمال أصله سحت ...
فما حججت ولكن حجت العير
يعني الإبل حجت أما أنت فما حججت لماذا لأن مالك حراما.
الخامس: أن يجتنب فيه الرفث والفسوق والجدال لقول الله تعالى: فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج فيجتنب الرفث وهو الجماع ودواعيه ويجتنب الفسوق سواء كان في القول المحرم الغيبة النميمة والكذب أو الفعل كالنظر إلى النساء وما أشبه ذلك لابد أن يكون قد تجنب فيه الرفث والفسوق والجدال: المجادلة والمنازعة بين الناس في الحج هذه تنقص الحج(5/322)
كثيرا.
اللهم إلا جدالا يراد به إثبات الحق & وإبطال الباطل فهذا واجب فلو جاء إنسان مبتدع يجادل والإنسان محرم فإنه لا يتركه بل يجادله ويبين الحق لأن الله أمر بذلك {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} لكن الجدال من غير داع يتشاحنون أيهم يتقدم أو عند رمي الجمرات أو عند المطار أو ما أشبه ذلك هذا كله مما ينقص الحج فلابد من ترك الجدال فالحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
ومن حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه أي رجع من الذنوب نقيا لا ذنوب عليه كيوم ولدته أمه.
وفي حديث عائشة الذي سألت فيه النبي صلى الله عليه وسلم نرى الجهاد أفضل الأعمال قال: لكن أفضل العمال حج مبرور هذا بالنسبة للنساء.
فالنساء جهادهن هو الحج أما الرجال فالجهاد في سبيل الله أفضل من الحج إلا الفريضة فإنها أفضل من الجهاد في سبيل الله لأن الفريضة ركن من أركان الإسلام.
وفي هذه الأحاديث عموما دليل على أن الأعمال تتفاضل بحسب العامل ففي حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل الأعمال الإيمان بالله ثم الجهاد في سبيل الله ثم الحج وفي حديث ابن مسعود أنه سأل النبي(5/323)
صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله قال: الصلاة على وقتها قال ثم أي قال: بر الوالدين قال ثم أي قال: الجهاد في سبيل الله.
فكل يخاطب بما يليق بحاله وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال: أوصني قال: لا تغضب قال أوصني قال: لا تغضب قال أوصني قال: لا تغضب ما قال أوصيك بتقوى الله وبالعمل الصالح لأن هذا الرجل يليق بحاله أن يوصي بترك الغضب لأنه غضوب فالرسول صلى الله عليه وسلم يخاطب كل إنسان بما يليق بحاله ويعلم هذا بتتبع الأدلة العامة في الشريعة وبيان مراتب الأعمال.
1279 - وعنه أن امرأة قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال نعم: متفق عليه.
1280 - وعن لقيط بن عامر رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن قال: حج عن أبيك واعتمر رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.(5/324)
1281 - وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: حج بي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأنا ابن سبع سنين رواه البخاري.
1282 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركبا بالروحاء فقال: من القوم قالوا: المسلمون قالوا: من أنت قال رسول الله فرفعت امرأة صبيا فقالت ألهذا حج قال: نعم ولك أجر رواه مسلم.
1283 - وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج على رحل وكانت زاملته رواه البخاري.
1284 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم} في مواسم الحج رواه البخاري.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث ساقها النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب وجوب الحج وفضله.
الحديث الأول والثاني: فيمن عجز عن الحج هل يحج عنه أحد أم لا ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن(5/325)
أبي أدركته فريضة الله على عباده في الحج شيخا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال: نعم.
فدل ذلك على أن الإنسان إذا عجز عن الحج عجزا لا يرجى زواله كالكبر والمرض الذي لا يرجى شفاؤه وما أشبه ذلك فإنه يحج عنه.
وفي هذا دليل على أن المرأة يجوز أن تحج عن الرجل وكذلك الرجل يجوز أن يحج عن المرأة والرجل عن الرجل والمرأة عن المرأة كل ذلك جائز ولذلك أذن النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي أخبره أن أباه شيخ كبير لا يستطيع الركوب ولا الحج ولا العمرة فقال: حج عن أبيك واعتمر.
وفي هذه الأحاديث أيضا دليل على جواز حج الصبيان فها هو السائب بن يزيد رضي الله عنه يقول: حج بي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأنا ابن سبع سنين.
طفل حج به: فدل ذلك على جواز الحج من الأطفال وكذلك حديث ابن عباس: أن امرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبيا فقالت: ألهذا حج قال: نعم ولك أجر.
ففي هذين الحديثين دليل على جواز حج الصبيان والصبي يفعل ما يفعله الكبير وإذا عجز عن شيء فإنه يفعل عنه إن كان مما تدخله النيابة أو يحمل إذا كان مما لا تدخله النيابة فمثلا إذا كان لا يستطيع أن يطوف أو يسعى يحمل إذا كان لا يستطيع أن يرمي يرمى عنه لأن حمله في الجمرات فيه مشقة ولا فائدة من حمله لأنه ليس رميا بيده لهذا نقول: في الطواف والسعي يحمل وفي الرمي يرمى عنه ثم إن الطائف والساعي هل يسعى(5/326)
لنفسه وهو حامل طفله ينوي به السعي عن نفسه وعن طفله والصواب عن نفسه وعن طفله؟ نقول: لا فيه تفصيل: إن كان الطفل يعقل النية وقال له وليه: انو الطواف انو السعي فلا بأس أن يطوف به وهو حامله ينوي عن نفسه والصبي عن نفسه وإن كان لا يعقل النية فإنه لا يطوف به وينوي نيتين: نية لنفسه ونية لمحموله بل يطوف أولا عن نفسه ثم يحمل صبيه فيطوف به أو يجعله مع إنسان آخر يطوف به وذلك لأنه لا يمكن أن يكون عمل واحد بنيتين فهذا هو التفريق في مسألة الطواف به.
ثم إن الإنسان إذا حج فإنه يجب عليه وهو نائب لغيره أن يفعل كل ما في وسعه من تميم الحج من أركانه وواجباته ومكملاته لأنه نائب عن غيره فلا ينبغي له أن يهمل فيما يقوم به عن الغير بخلاف من حج لنفسه فمن حج لنفسه وترك المستحب فلا بأس لكن الحج عن الغير تؤديه بقدر ما تستطيع & والله الموفق.(5/327)
كتاب الجهاد(5/328)
وقال تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} وقال تعالى {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} وقال تعالى {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم} .
[الشَّرْحُ]
ساق المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين من آيات الجهاد منها ما سبق ومنها ما يلحق إن شاء الله فمن ذلك قوله تعالى كتب عليكم القتال وقد سبق أن القتال واجب على المسلمين أن يقاتلوا أعداء الله وأعداءهم من اليهود والنصارى والمشركين والشيوعيين وغيرهم كل من ليس بمسلم(5/337)
فالواجب على المسلمين أن يقاتلوه حتى تكون كلمة الله هي العليا وذلك إما بإسلام هؤلاء وإما بأن يبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون نحن لا نكرههم على الإسلام لا نقول لابد أن تسلموا ولكن نقول: لابد أن يكون الإسلام هو الظاهر فإما أن تسلموا وحياكم الله وإما أن تبقوا على دينكم ولكن أعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون فإن أبوا لا الإسلام ولا الجزية وجب علينا قتالهم ولكن يجب قبل قتالهم أن نعد ما استطعنا من قوة لقوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} والقوة نوعان قوة معنوية وقوة مادية حسية القوة المعنوية الإيمان الإيمان بالله والعمل الصالح قبل أن نبدأ بجهاد غيرنا قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فالإيمان قبل الجهاد ثم بعد ذلك الإعداد بالقوة المادية ولكن مع الأسف أن المسلمين لما كان بأسهم بينهم من أزمنة متطاولة نسوا أن يعدوا هذا وهذا لا إيمان قوي ولا مادة سبقنا الكفار بالقوة المادية بالأسلحة وغيرها وتأخرنا عنهم بهذه القوة كما أننا تأخرنا عن إيماننا الذي يجب علينا تأخرا كبيرا وسار بأسنا بيننا نسأل الله السلامة والعافية.
فالقتال واجب ولكنه كغيره من الواجبات لابد من القدرة والأمة الإسلامية اليوم عاجزة لا شك عاجزة ليس عندها قوة معنوية ولا قوة مادية إذا يسقط الجواب لعدم القدرة عليه فاتقوا الله ما استطعتم(5/338)
قال تعالى:} وهو كره لكم {أي القتال كره لكم ولكن الله قال} وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم {.
أول الآية خاص بماذا بالقتال وآخر الآية عام} وعسى أن تكرهوا شيئا {ولم يقل وعسى أن تكرهوا القتال ولكن قال: شيئا أي شيء يكون ربما يكره الإنسان شيئا يقع ويكون الخير فيه وربما يحب شيئا أن يقع ويكون الشر فيه وكم من شيء وقع وكرهته ثم في النهاية تجد أن الخير فيه مصداقا لقوله تعالى:} وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم {.
وهذه الآية يشبهها قوله تبارك وتعالى في النساء} فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خير كثيرا {قال: فعسى أن تكرهوا شيئا ولم يقل: فعسى أن تكرهوهن ويجعل الله فيهن خيرا كثيرا.
فهذا آمن في كل شيء قد يجري الله عز وجل بقضائه وقدره وحكمته شيئا تكرهه ثم في النهاية يكون الخير فيه والعكس ربما يجري الله عز وجل شيئا تظنه خيرا ولكنه شر عاقبته شر ولهذا ينبغي للإنسان أن يسأل الله تعالى حسن العاقبة دائما.
ثم قال:} والله يعلم وأنتم لا تعلمون {نعم الله يعلم ونحن لا نعلم لأن علم الله تعالى واسع بكل شيء عليم علم الله علم واسع للمستقبل يعلم الغيب ونحن لا نعلم يعلم كل شيء ونحن لا نعلم(5/339)
بل يعلم ما توسوس به النفوس قبل أن يبدو وقبل أن يظهر ونحن لا نعلم وسأسألكم عن شيء سهل غير بعيد هل تعرفون عن روحكم شيئا الروح التي بها الحياة تعرفون عنها شيئا الجواب لا} ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا {الروح التي بين جنبيك لا تعرفها ولا تدري عنها وجملة} قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا {هذه الجملة وما أوتيتم من العلم إلا قليلا كأن فيها التوبيخ كأنه يقول: وما خفي عليكم من العلم إلا أن تعلموا هذه الروح ما أكثر العلوم التي فاتتكم والحاصل أن الله يقول:} والله يعلم وأنتم لا تعلمون {.
وقال تعالى:} انفروا خفافا وثقالا {انفروا إلى أي شيء إلى الجهاد} انفروا خفافا وثقالا {يعني انفروا حال ما يكون النفر خفيفا عليكم أو ثقيلا عليكم} انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون {أي إن كنتم من ذوي العلم فاعلموا أن ذلك خير لكم.
وقال تعالى:} إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والأنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله {انظروا لهذه الصفقة صفقة بيع تامة الشروط والأركان والوسائل: من المشتري الله والبائع المؤمنون والعوض من المؤمنين الأنفس والأموال(5/340)
والعوض من الله الجنة والوثيقة وعد من الله ما هي أوراق تمزق وترمى في التوراة والإنجيل والقرآن أوثق الوثائق هذه وثيقة مكتوبة في التوراة والإنجيل والقرآن ليس هناك شيء أوثق منها وذكر التوراة والإنجيل والقرآن لأنها أوثق الكتب المنزلة على الرسل القرآن أشرفها ثم التوراة ثم الإنجيل هذه صفقة لا يمكن لها نظير كل الشروط كاملة وصفقة كبيرة عظيمة النفس والمال هو العوض من الإنسان والمعوض وهو المليك وهو الله عز وجل وهو الجنة التي قال عنها الرسول عليه الصلاة والسلام لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها موضع سوط: يعني حوالي (متر أو نحوه) خير من الدنيا وما فيها أي دنيا دنياك هذه؟ لا.
قد تكون دنياك دنيا مملؤة بالتنغيص والتنفير والعمر قصير ولكن خير من الدنيا منذ خلقت إلى يوم القيامة بما فيها من السرور والنعيم موضع السوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها.
أيهما أغلى الأنفس والأموال أم الجنة الجنة إذا البائع رابح لأنه باع النفس والمال الذي لابد من فناءه بنعيم لا يزول ومن الذي عاهد على هذا البيع الله ومن أوفى بعهده من الله من هنا استفهام بمعنى النفي يعني لا أحد أصدق وأوفى بعهده من الله وصدق الله عز وجل(5/341)
(والله لا يخلف الميعاد) .
ثم قال:} فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به {يعني تستبشر النفوس بذلك وليبشر بعضكم بعضا ولهذا قال الله تعالى:} ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون {يستبشروا بهذا البيع بيع عظيم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم الجملة هذه فيها ضمير الفصل وذلك هو الفوز العظيم.
وضمير الفصل يقول العلماء يستفاد منه ثلاث فوائد: 1 - الاختصاص 2 - التوفيق 3 - التمييز بين الخبر والصفة يعني معنى ذلك هو الفوز العظيم الذي لا فوز مثله وصدق الله ورسوله ونسأل الله تعالى أن يجعلنا من هؤلاء ممن باعوا أنفسهم لله عز وجل والله الموفق.
قال تعالى:} لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما {.(5/342)
يعني: لا يستوي القاعدون والمجاهدون ونفي الاستواء ظاهر لأن المجاهد قد بذل نفسه وماله لله عز وجل والقاعد خائف إلا من استثنى الله عز وجل في قوله تعالى:} غير أولي الضرر {غير الذين يتضررون إذا ذهبوا إلى الجهاد وهو ثلاثة أصناف ذكرهم الله تعالى في قوله:} ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج {وكذلك الذين لا يجدون ما ينفقون أو كانوا ضعفاء في أبدانهم لقول الله تعالى:} ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم {والثالث: من قعدوا للتفقه في الدين لقوله تعالى:} وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون {.
فهؤلاء ثلاثة أصناف: 1 - أولو الضرر والضعفاء 2 - والذين لا يجدون مالا 3 - من قعدوا ليتفقهوا في الدين.
فهؤلاء معذورون إما لوجود مصلحة في بقائهم أعلى من مصلحة الجهاد وهم الذين قعدوا للتفقه في الدين وإما لعذر لا يستطيعون معه أن يذهبوا إلى الجهاد.
وقول الله تعالى:} ولا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم {المجاهدون أفضل وفي هذه الآية نفي الاستواء بين المؤمنين وأن المؤمنين ليسوا سواء فمثل ذلك قوله تعالى:(5/343)
} لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى {ونفي الاستواء في القرآن العزيز كثير} قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور {وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج} والآيات كثيرة.
وأحب أن أنبه هنا على كلمة يطلقها بعض الناس قد يريدون بها خيرا وقد يطلقها بعض الناس يريدون بها شرا وهي قولهم: إن الدين الإسلامي دين المساواة فهذا كذب على الدين الإسلامي لأن الدين الإسلامي ليس دين مساواة الدين الإسلامي دين عدل وهو إعطاء كل شخص ما يستحق فإذا استوى شخصان في الأحقية فحين إذا يتساويان فيما يترتب على هذه الأحقية أما مع الاختلاف فلا ولا يمكن أن يطلق على أن الدين الإسلامي دين مساواة أبدا بل إنه دين العدل لقول الله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى} .
هذه الكلمة: الدين الإسلامي دين المساواة قد يطلقها بعض الناس ويريد بها شرا فمثلا يقول: لا فرق بين الذكر والأنثى الدين دين مساواة الأنثى أعطوها من الحقوق مثل ما تعطون الرجل ...
لماذا لأن الدين الإسلامي دين المساواة الاشتراكيون يقولون: الدين دين مساواة لا يمكن هذا غني جدا وهذا فقير جدا لابد أن نأخذ من مال الغني ونعطي الفقير لأن الدين دين المساواة فيريدون بهذه الكلمة شرا ولما كانت هذه الكلمة قد يراد بها خير وقد يراد(5/344)
بها شر لم يوصف الدين الإسلامي بها بل يوصف بأنه دين العدل الذي أمر الله به {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} ما قال: بالمساواة ولا يمكن أن يتساوى اثنان أحدهما أعمى والثاني بصير أحدهما عالم والثاني جاهل أحدهما نافع للخلق والثاني شرير لا يمكن أن يستوون.
العدل الصحيح: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى} لهذا أحببت التنبيه عليها لأن كثيرا من الكتاب العصريين أو غيرهم يطلق هذه الكلمة ولكنه لا يتفطن لمعناها ولا يتفطن أن الدين الإسلامي لا يمكن أن يأتي بالمساواة من كل وجه مع الاختلاف أبدا لو أنه حكم بالمساواة مع وجود الفارق لكان دينا غير مستقيم فعلى المسلم ألا يسوي بين اثنين بينهما تضاد أبدا لكن إذا استووا من كل وجه صار العدل أن يعطي كل واحد منهما ما يعطي الآخر.
وعلى كل حال فهذه الكلمة ينبغي لطالب العلم أن يتفطن لها وأن يتفطن لغيرها أيضا من الكلمات التي يطلقها بعض الناس وهو لا يعلم معناها ولا يعلم مغزاها.
ومن ذلك أيضا قول بعضهم: اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه هذه كلمة عظيمة لا تجوز لا أسألك رد القضاء؟ وقد قال النبي: لا يرد القضاء إلا الدعاء الدعاء لا يرد القضاء لكن من أثر الدعاء إذا دعوت الله تعالى بكشف ضر فهذا قد كتب في الأزل في اللوح المحفوظ أن الله تعالى يرفع هذا الضر عنك بدعائك فكله مكتوب وأنت إذا قلت لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه كأنك تقول: ما يهمني ترفع(5/345)
أو لا ترفع لكن الإنسان يطلب رفع كل ما نزل به فلا تقل اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه قل: اللهم إني أسألك العفو والعافية اللهم اشفني من مرضي اللهم أغنني من فقري الهم اقض عني الدين اللهم علمني ما جهلت وما أشبه ذلك أما لا أسألك رد القضاء فالله تعالى يفعل ما يشاء ولا أحد يرده لكن أنت مفتقر إلى الله أما هذا الكلام لا أصل له ولا يجوز بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت وهي أهون من اللهم لا أسألك رد القضاء لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت وليعزم المسألة فإن الله تعالى لا مكره له وفي لفظ فإن الله لا يتعاظمه شيء.
وأرجو منكم حين جرى التنبيه على هاتين الكلمتين الدين الإسلامي دين المساواة واللهم لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه إذا سمعتم أحدا يقول ذلك أن تنبهوه وتتعاونوا على البر والتقوى وأكثر ما في القرآن العزيز هو نفي الاستواء لم يأت ذكر الاستواء إلا في مواطن قليلة مثل قوله تعالى: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء}(5/346)
فالمراد نفي المساواة {هل لكم} هذا الاستفهام بمعنى النفي هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء والجواب لا إذا فالمراد نفي المساواة وعلى كل حال فإني أنصح وأريد منكم إذا سمعتم أحدا يقول هذا فقل له لا ليس دين المساواة بل هو الدين العدل فهو إعطاء كل واحد ما يستحق.
والقول الآخر لا أسألك رد القضاء ...
هذا كلام لغو من يرد القضاء لكن من قضاء الله أن يرفع عنك المرض أو يرفع عنك الجهل نسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في ديننا وألا يجعلنا إمعة نقول ما يقول الناس ولا ندري ما نقول والله الموفق.
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين} والآيات & في الباب كثيرة مشهورة.(5/347)
{يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} صدر الله تعالى هذه الآيات بهذا النداء الشريف الموجه للمؤمنين من أجل إثارة هممهم وتنشيطهم على قبول ما يسمعون من كلام الله عز وجل.
{يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} القائل هو ربنا عز وجل وهذا الاستفهام للتشويق يشوقنا جل وعلا بهذه التجارة التي يدلنا عليها ويستفاد من قوله: {هل أدلكم} أنه ليس لنا طريق إلى هذه التجارة إلا الطريق الذي شرعه الله عز وجل هو الدال على ذلك {هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} وهذه التجارة ليست تجارة الدنيا لأن تجارة الدنيا قد تنجي من العذاب الأليم وقد تكون سببا للعذاب الأليم فالرجل الذي عنده مال لا يزكي يكون ماله عذابا عليه والعياذ بالله {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير} .
تجارة الدنيا قد تنجي من العذاب وقد توقع في العذاب لكن هذه التجارة التي عرضها الله عز وجل علينا ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن يقبلونها يقول: (تنجيكم من عذاب أليم) أي عذاب مؤلم لأنه لا(5/348)
عذاب أشد ألما من عذاب النار أعاذني الله وإياكم منها.
ما هذه التجارة قال: {تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} هذه التجارة: الإيمان بالله ورسوله وهذا يتضمن جميع شرائع الإسلام كلها لكن نص على الجهاد لأن السورة سورة الجهاد من أولها إلى آخرها كلها جهاد {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص} ثم ذكر ما يتعلق بذلك وهنا يقول {تجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم} أي: تبذلوا جهدكم في سبيل الله ببذل المال وبذل النفس {ذلكم خير لكم} خير لكم من كل شيء {أن كنتم تعلمون} يعني إن كنتم من ذوي العلم وفي هذه الآية وأمثالها يحسن الوقوف على قوله {ذلكم خير لكم} ولا تصل لا تقل {ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} لأنك لو وصلت لأفهمت معنى باطلا في الآية لكان المعنى: (ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون وإن كنتم لا تعلمون فليس خيرا لكم) وهذا ليس مراد الله عز وجل بل إن المعنى: ذلكم خير لكم ثم قال: إن كنتم من ذوي العلم كأنه يقول: فاعلموا ذلك إن كنتم أهلا للعلم.
هذا هو العمل فما هو الثواب {يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم} .
جنات: هي ما أعده الله عز وجل لعباده الصالحين وبالأخص المجاهدين في سبيل الله إن في الجنة مائة درجة أعدها الله عز وجل للمجاهدين في سبيله ولهذا جمع جنات تجري من تحتها الأنهار(5/349)
أي من تحت قصورها وأشجارها وهي أنهار ليست كأنهار الدنيا أربعة أصناف: أنهار من ماء غير آسن يعني: لا يمكن أن يتغير بخلاف ماء الدنيا فإنه إذا بقي يتغير وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى أنهار تجري أنهار العسل فيها لم يخرج من النحل واللبن لم يخرج من ضرع بهيمة والماء لم يخرج من نبع أرض وكذلك الخمر لم يخرج من زبيب أو تمر أو شعير أو غير ذلك أنهار خلقها الله عز وجل في الجنة تجري هذه الأنهار ورد في الحديث أنها أنهار لا تحتاج إلى شق ولا إلى سد يعني ما يحتاج أن تضع له أخدودا تمنعه من التسرب يمينا وشمالا.
قال ابن القيم في النونية:
أنهارها في غير أخدود جرت ...
سبحان ممسكها عن الفيضان
جل وعلا ثم هذا النهر يأتي طوعك ذلك أن تطلب أن الماء يذهب يمينا يذهب يسارا يذهب أماما يذهب يتوقف يتوقف كما تشاء.
وقوله: {ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم} مساكن طيبة: طيبة في بنائها طيبة في غرفها طيبة في منظرها طيبة في مسكنها طيبة من كل ناحية والساكن فيها حور مقصورات في الخيام خيام من لؤلؤ مرتفعة من أحسن ما تراه بصرا قال النبي صلى الله عليه وسلم: جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وما(5/350)
فيهما اللبن: لبن البناء ليس من الطوب والتراب بل هو من الذهب أو من الفضة ولهذا وصفها الله بالطيب.
ثم إن من طيبها أن ساكنها لا يبغي عنها حولا..
مساكن الدنيا مهما حسنت سترى ما هو أحسن من بيتك فتقول: ليت هذا لي.
لكن في الجنة لا تبغي حولا عن مسكنك ولا انتقال كل إنسان يرى أنه هو أنعم أهل الجنة لكي لا ينكسر قلبه لو رأى من هو أفضل منه ولكن يرى أنه أنعم أهل الجنة عكس ذلك أهل النار أهل النار يرى أنه أشد أهل النار عذابا وإن كان هو أهونهم.
فهذه المساكن الطيبة في جنات عدن قال العلماء العدن بمعنى الإقامة..
ومنه المعدن في الأرض لطول إقامته بمعدنه ومكانه.
أي في جنات إقامة لا يمكن أن تزول أبد الآبدين ...
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها.
(ذلك الفوز العظيم) الفوز أن ينال الإنسان ما يريد وينجو مما يخاف العظيم الذي لا أعظم منه ريح ليس فوقه ريح عوض ليس فوقه عوض لهؤلاء الذين آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا في سبيل الله أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم منهم ولا يحرمنا هذا الفضل بسوء أعمالنا وأن يعاملنا بعفوه إنه على كل شيء قدير.(5/351)
1288 - وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها متفق عليه.
1289 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أي الناس أفضل قال: مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله قال: ثم من قال: مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ويدع الناس من شره متفق عليه.
1290 - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله تعالى أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
سبق لنا الكلام على قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم.
وبقي قوله تعالى: {وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين} {وأخرى تحبونها} يعني ولكم أخرى تحبونها..
ثم بينها بقوله: {نصر من(5/352)
الله وفتح قريب وبشر المؤمنين} {نصر من الله} ينصركم الله به على أعدائكم ولا شك أن الإنسان إذا انتصر على عدوه فإن ذلك له حب عظيم لأن الله تعالى يجعل عذاب عدوه على يده كما قال تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم} فوائد عظيمة إذا عذب الله تعالى عدوك على يديك ولهذا قال {نصر من الله وفتح قريب} وقد حصل هذا للمؤمنين في صدر هذه الأمة فتح الله عليهم فتوحات عظيمة وغنموا غنائم كثيرة لأنهم قاموا بما يجب عليهم من الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله عز وجل ثم قال: {وبشر المؤمنين} يعني بشر بهذه الأمور كلها من كان مؤمنا بها قائما بما يجب عليه من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيل الله.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله أحاديث في فضل الجهاد والرباط في سبيل الله وأن الغدوة والروحة في سبيل الله أو غدوة وروحة في الرباط خير من الدنيا وما فيها وهذا فضل عظيم خير من الدنيا كلها من أولها إلى آخرها وما فيها.
وليس خيرا من دنياك التي أنت تعيشها فقط بل من الدنيا وما فيها ومن متى الدنيا من زمن لا يعلمه إلا الله وكذلك لا يدري متى تنتهي كل هذا خير من الدنيا وما فيها.
قال: وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ويقال في ذلك ما قيل في الأول إن الدنيا كلها من أولها إلى آخرها موضع(5/353)
السوط في الجنة خير منها والغدوة والروحة في سبيل الله خير منها والرباط في سبيل الله خير منها.
وفي هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أي الرجال خير فبين أنه الرجل الذي يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه ثم أي قال ورجل مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ويدع الناس من شره يعني أنه قائم بعبادة الله كاف عن الناس ولا يريد أن ينال الناس منه شر وهذا أحد الأدلة الدالة على أن العزلة خير من الخلطة مع الناس ولكن الصحيح في هذه المسألة أن في ذلك تفصيلا من كان يخشى على دينه بالاختلاط بالناس فالأفضل له العزلة ومن لا يخشى فالأفضل أن يخالط الناس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على آذاهم.
فمثلا: إذا فسد الزمان ورأيت أن اختلاطك مع الناس لا يزيدك إلا شرا وبعدا من الله فعليك بالوحدة اعتزل قال النبي صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يكون خير مال الرجل غنما يتبع بها شعث الجبال ومراتع القطر.
فالمسألة تختلف العزلة في زمن الفتن والشر والخوف من المعاصي خير من الخلطة أما إذا لم يكن الأمر كذلك فاختلط مع الناس وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على آذاهم وعاشرهم ربما ينفع الله بك رجلا(5/354)
واحدا خير لك من حمر النعم إذا هداه الله على يديك والله الموفق.
1291 - وعن سلمان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات فيه أجري عليه عمله الذي كان يعمل وأجري عليه رزقه وأمن الفتان رواه مسلم.
1292 - وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن فتنة القبر رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
1293 - وعن عثمان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: رباط يوم & في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
1294 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تضمن الله لمن خرج في سبيل لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو على ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى منزله الذي خرج منه بما نال من أجر(5/355)
أو غنيمة والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم لونه لون الدم وريحه ريح المسك والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل رواه مسلم وروى البخاري بعضه.
[الشَّرْحُ]
الكلم الجرح.
هذه الأحاديث ساقها النووي رحمه الله في كتاب رياض الصالحين في بيان فضل المرابطة في سبيل الله يعني أن يرابط الإنسان على الحدود أو تجاه العدو في سبيل الله عز وجل لإعلاء كلمة الله وحفظ دين الله وحفظ المسلمين فأن هذا من أفضل الأعمال.
وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها وفي هذه الأحاديث دليل على أن المرابط يجري عليه عمله إلى يوم القيامة وأنه يأمن فتنة القبر يعني: أن الناس إذا ماتوا ودفنوا أتاهم ملكان يسألان الرجل عن ربه ودينه ونبيه إلا من مات مرابطا في سبيل الله فإنه لا يأتيه الملكان يسألانه.(5/356)
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة من ذلك فقال: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنه فالشهيد والمرابط كلاهما لا يأتيه الملكان في قبره فيسألانه بل يأمن ذلك وهذا فضل عظيم وأجر عظيم.
وأما حديث أبي هريرة الأخير ففيه دليل على فضيلة القتيل في سبيل الله ولهذا أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لولا أن يشق على المسلمين ما تخلف عن سرية قط ولكنه يتخلف عليه الصلاة والسلام أحيانا لأشغال المسلمين وقضاء حوائجهم وعدم المشقة عليهم وأقسم صلى الله عليه وسلم أنه يتمنى ويود أن لو قتل في سبيل الله ثم أحيي فقتل ثم أحيي فقتل فهذا يدل على فضل القتل في سبيل الله ولا شك في هذا والقرآن واضح في ذلك قال الله تعالى: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين وهذه الحياة البرزخية لا نعلم بها وليست كحياتنا ولهذا قال تعالى: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون} .
حياة ما يعلم بها يعني لو فتحت عليه قبره لوجدت الإنسان ميتا لكنه عند الله حي يرزق يأكل من الجنة بكرة وعشية نسأل الله سبحانه أن يرزقنا وإياكم الشهادة في سبيله وأن يعيننا وإياكم على الجهاد في سبيله(5/357)
جهاد أنفسنا جهاد أعدائنا إنه على كل شيء قدير.
1295 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي: اللون لون دم والريح ريح مسك متفق عليه.
1296 - وعن معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فواق ناقة وجبت له الجنة ومن جرح جرحا في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها الزعفران وريحها كالمسك رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
1297 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشعب فيه عيينة من ماء عذبة فأعجبته فقال: لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة اغزوا في سبيل الله من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة رواه الترمذي وقال: حديث حسن.(5/358)
والفواق: ما بين الحلبتين.
1298 - وعنه قال قيل: يا رسول الله ما يعدل الجهاد في سبيل الله قال: لا تستطيعونه فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول: لا تستطيعون ثم قال: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر: من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله متفق عليه وهذا لفظ مسلم.
وفي رواية البخاري أن رجلا قال: يا رسول الله دلني على عمل يعدل الجهاد قال: لا أجده ثم قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر فقال: ومن يستطيع ذلك؟
1299 - وعنه أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من خير معاش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار على متنه يبتغي القتل أو الموت مظانه أو رجل في غنيمة أو شعفة من هذه الشعف أو بطن واد من هذه الأودية يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين ليس من الناس إلا في خير رواه مسلم.
1300 - وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض(5/359)
رواه البخاري.
1301 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا وجبت له الجنة فعجب لها أبو سعيد فقال أعدها علي يا رسول الله فأعادها عليه ثم قال: وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض قال: وما هي يا رسول الله قال الجهاد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
هذه أحاديث متعددة كلها في فضل الجهاد في سبيل الله فمنها أي من فضل الجهاد في سبيل الله: أن الإنسان إذا قتل شهيدا فإنه يأتي يوم القيامة وجرحه يدمي اللون لون الدم والريح ريح المسك يشهده الأولون والآخرون من هذه الأمة وغيرها بل ويشهده الملائكة في ذلك اليوم المشهود وهذا يوجب له الرفعة في الدنيا والآخرة.
ومنها أن من قاتل (فواق ناقة) وهو ما بين الحلبتين فإنه تجب له الجنة فإذا شهد الصف ولو بهذا المقدار يقاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا فإنها تجب له الجنة.
ومنها أن الخارج للجهاد في سبيل الله له مثل أجر الصائم القائم من حين أن يخرج إلى أن يرجع والصائم القائم من حين أن يخرج المجاهد إلى أن(5/360)
يرجع هو الذي يساويه في الأجر عند الله عز وجل ولكن ذلك لا يستطاع كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وقاله الصحابة له ومنها أن الله أعد للمجاهدين في سبيله مائة درجة في الجنة كل درجة بينها وبين الأخرى مثل ما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله.
فهذه الأحاديث وأمثالها وهي كثيرة جدا تدل على فضل الجهاد في سبيل الله والجهاد في سبيل الله يكون بالمال ويكون بالنفس ولكنه بالنفس أفضل وأعظم أجرا لأن كل هذه الأحاديث التي سمعناها كلها فيمن جاهد بنفسه ومن جاهد بماله فهو على خير وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا أي كتب له أجر الغازي ومن خلفه في أهله في خير فقد غزا فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المجاهدين في سبيله ابتغاء وجه الله إنه على كل شيء قدير.
1302 - وعن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري قال: سمعت أبي رضي الله عنه وهو & بحضرة العدو يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف فقام رجل رث الهيئة فقال: يا أبا موسى أأنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا قال نعم فرجع إلى أصحابه فقال: أقرأ عليكم السلام ثم كسر جفن سيفه فألقاه ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قتل رواه مسلم.(5/361)
1303 - وعن أبي عبس عبد الرحمن بن جبير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار رواه البخاري.
1304 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
1305 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله رواه الترمذي وقال حديث حسن.
1306 - وعن زيد بن خالد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا متفق عليه.
1307 - وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل الصدقات ظل فسطاط في سبيل الله ومنيحة خادم في سبيل الله أو طروقه فحل في سبيل الله رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.(5/362)
1308 - وعن أنس رضي الله عنه أن فتى من أسلم قال: يا رسول الله إني أريد الغزو وليس معي ما أتجهز به قال: ائت فلانا فإنه قد كان تجهز فمرض فأتاه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام ويقول: أعطني الذي تجهزت به قال: يا فلانة أعطيه الذي كنت تجهزت به ولا تحبسين منه شيئا فوالله لا تحبسي منه شيئا فيبارك لك فيه رواه مسلم.
1309 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني لحيان فقال: لينبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما رواه مسلم.
وفي رواية له: ليخرج من كل رجلين رجل ثم قال للقاعد: أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج.
1310 - وعن البراء رضي الله عنه قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل مقنع بالحديد فقال: يا رسول الله أقاتل أو أسلم فقال: أسلم ثم قاتل فأسلم ثم قاتل فقتل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل قليلا وأجر كثيرا متفق عليه وهذا لفظ البخاري.
1311 - وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع(5/363)
إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة.
وفي رواية: لما يرى من فضل الشهادة متفق عليه.
1312 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يغفر الله للشهيد كل شيء إلا الدين رواه مسلم.
وفي رواية له القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين.
1313 - وعن أبي قتادة & رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فيهم فذكر أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال فقام رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلت قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك رواه مسلم.(5/364)
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث المتعددة ذكرها النووي رحمه الله في كتاب رياض الصالحين في كتاب الجهاد وفيها مسائل منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حسن التدبير في أصحابه فهذا الرجل الذي جاء إليه إني أريد الغزو وليس عندي شيء يعني يغزو به فأحاله على رجل كان قد تجهز ليغزو ولكن مرض ثم إن الرجل ذهب إلى صاحبه فأخذ جهازه وقال لامرأته: لا تتركي منه شيء فإنك لم تتركي شيء فيبارك لنا فيه فجهزه.
وفيها أي في هذه الأحاديث دليل على أن من جهز الغازي وأعطاه ما يكفي لغزوه فإنه كالذي يغزو وأن من خلف الغازي في أهله فله مثل أجره ويدل لهذا أيضا قضية بني لحيان حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يخرج منهم واحد ويبقى واحد يخلف الغازي في أهله ويكون له نصف أجره لأن النصف الثاني للغازي وفي هذه الأحاديث أيضا من فضائل الجهاد أن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف بمعنى أن من قاتل فإنه يكون قتاله سببا لدخول الجنة من أبوابها فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن في الجنة بابا يقال له باب الجهاد يدخله من يجاهد في سبيل الله.
وفي هذه الأحاديث: أن الشهادة تكفر كل شيء من الأعمال إلا الدين: يعني إلا دين الآدمي فإن الشهادة لا تكفره وذلك لأن دين الآدمي لابد من إيفائه إما في الدنيا وإما في الآخرة وفي هذا الحديث التحذير من التساهل(5/365)
في الدين وأنه لا ينبغي للإنسان أن يتساهل في الدين ولا يتدين إلا عند الضرورة ما عند الحاجة لا إنما عند الضرورة القصوى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن للرجل الذي قال زوجني فقال: أصدق المرأة قال: ليس عندي إلا إزاري قال: إزارك لا ينفعها أن أعطيتها إياه بقيت بلا إزار وأن أبقيته عليك بقيت بلا مهر التمس ولو خاتما من حديد فالتمس فلم يجد فقال: زوجتها بما معك من القرآن ولم يقل استقرض من الناس مع أنه زواج حاجة ملحة لكن لم يأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم بل لم يرشده إلى الاستدانة لأن الدين خطير جدا وقد روى & عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند فيه نظر: أن نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضي عنه فالأمر مهم فلا تستهن الدين الدين هم في الليل وذل في النهار فالإنسان مهما أمكنه يجب أن يتحرز من الدين وأن لا يكثر في الإنفاق لأن كثيرا من الناس تجده فقيرا ثم يريد أن ينفق على نفسه وأهله كما ينفق الأغنياء فيستلف من هذا ويستلف من هذا أو يستدين أو يرابي وهذا غلط عظيم يعني لو لم يكن لك إلا وجبة واحدة في الليل والنهار فلا تستلف اصبر وقل اللهم: أغنني قال الله تعالى: وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء & إن الله(5/366)
عليم حكيم أما تهاون بعض الناس نسأل الله العافية يستدين من أجل أن يفرش كل البيت فراء حتى الدرج هذا غلط أو يستدين من أجل أن يأخذ سيارة فخمة مع أنه يكفيه سيارة مثلا بعشرين ألف يقول: لا بمائة ألف وهو فقير.
هذا من سوء التصرف ومن ضعف الدين ومن قلة المبالاة لأن الدين لا تكفره حتى الشهادة في سبيل الله لا تكفر الدين فكيف تستدين إلا عند الضرورة وأقول عند الضرورة ليس عند الحاجة يعني حتى لو & كنت محتاجا لعدة كماليات لا تستدين لا تشتري شيء ليس معك ثمنه اصبر حتى يرزقك الله ثم اشتر على قدر الحال ولهذا من الأمثال العامية الصحيحة (مد رجلك على قدر لحافك) إن مددتها أكثر تعرضت للبرد والشمس وغير ذلك.
ففيه التحذير من الدين وأنه لا ينبغي للإنسان أن يتدين.
وهنا مسألة: بعض الناس يكون عليه دين ثم يتصدق & ويقول: أحب هذه الصدقة وهذا حرام كيف تتصدق وأنت مدين أد الواجب أولا ثم التطوع ثانيا لأن الذي يتصدق ولا يوفي الدين كالذي يبني قصرا ويهدم مصرا(5/367)
أنت الآن مطالب أن توفي دينك كيف تتصدق أوف ثم تصدق.
وفي هذه الأحاديث أيضا أن الجهاد بدون إسلام لا ينفع صاحبه لأن الرجل الذي استأذن من النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله أجاهد ثم أسلم أم أسلم ثم أجاهد قال: أسلم ثم جاهد فأسلم ثم جاهد وهكذا جميع الأعمال الصالحة يشترط فيها الإسلام لا يقبل الله من أحد صدقة ولا حج ولا صيام ولا أي شيء وهو غير مسلم فإذا رأينا مثلا رجل لا يصلي ولكنه كثير الصيام كثير الصدقات بشوش للناس أخلاقه طيبة لكنه لا يصلي اعلم أن كل عمل يعمله لا ينفعه يوم القيامة حتى الصيام يصوم رمضان ولا يصلي ما له صيام يحج وما يصلي ما له حج بل يحرم عليه أن يروح مكة ولا يصلي لأن الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} فالإسلام شرط لكل عبادة لا تقبل أي عبادة إلا بالإسلام ولا تصح أي عبادة إلا بالإسلام والله الموفق.
1314 - وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رجل: أين أنا يا رسول الله إن قتلت قال في الجنة فألقى تمرات كن في يده ثم قاتل حتى قتل رواه مسلم.(5/368)
1315 - وعن أنس رضي الله عنه قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر وجاء المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه فدنا المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري رضي الله عنه: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض قال: نعم قال: بخ بخ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على قولك بخ بخ قال لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها قال: فإنك من أهلها فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة فرمى بما معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل رواه مسلم.
القرن بفتح القاف والراء هو جعبة النشاب.
1316 - وعنه قال: جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار يقال لهم: القراء فيهم خالي حرام يقرؤون القرآن ويتدارسونه بالليل يتعلمون وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد & ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا وأتى رجل حراما خال أنس من خلفه فطعنه برمح حتى أنفذه فقال حرام: فزت ورب الكعبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن إخوانكم قد قتلوا وإنهم قالوا اللهم(5/369)
بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا متفق عليه وهذا لفظ مسلم.
1317 - وعنه قال: غاب & عمي أنس بن النضر رضي الله عنه عن قتال بدر فقال يا رسول الله غبت & عن أول قتال قاتلت المشركين لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد قال سعد فما استطعت يا رسول الله ما صنع قال أنس: فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه قال أنس كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه} إلى آخرها متفق عليه وقد سبق في باب المجاهدة.
1318 - وعن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت الليلة رجلين أتياني فصعدا بي الشجرة فأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل لم أر قط أحسن منها قالا: أما هذه الدار فدار الشهداء رواه البخاري وهو بعض من(5/370)
حديث طويل فيه أنواع العلم سيأتي في باب تحريم الكذب إن شاء الله تعالى.
1319 - وعن أنس رضي الله عنه أن أم الربيع بنت البراء وهو أم حارثة بن سراقة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ألا تحدثني عن حارثة وكان قتل يوم بدر فإن كان في الجنة صبرت وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء فقال: يا أم حارثة إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى رواه البخاري.
&
1320 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جيء بأبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد مثل به فوضع بين يديه فذهبت أكشف عن وجهه فنهاني قوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها متفق عليه.
1321 - وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه منازل الشهداء وإن مات على فراشه رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في فضل الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله وأن لهم الجنة كما قال الله سبحانه وتعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن(5/371)
وذكر المؤلف أحاديث كثيرة تدل على صدق الصحابة رضي الله عنهم وصدق إيمانهم يخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بما للشهداء فيدعون ما بأيديهم من الطعام ويتركونه ويتقدمون إلى الجهاد في سبيل الله ثم يقتلون فيلقون الله عز وجل راضين عنه وهو راض عنهم جل وعلا وهذا لا شك من فضائل الصحابة رضي الله عنهم التي لا يلحقهم بعدهم أحد فيها.
هذا عمير بن الحمام الأنصاري رضي الله عنه لما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: من قاتلهم محتسبا مقبلا غير مدبر وجبت له جنة عرضها كعرض السماء والأرض قال: يا رسول الله جنة عرضها كعرض السماء والأرض قال: نعم فأخرج تمرات من قرنه الذي يوضع فيه الطعام عادة ويأخذه المجاهد ثم جعل يأكل ثم استطال الحياة رضي الله عنه وقال: والله لأن بقيت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة ثم تقدم فقاتل وقتل رضي الله عنه وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.
وكذلك أنس بن المضر رضي الله عنه لقي سعد بن معاذ في غزوة أحد وأخبره بأنه يجد ريح الجنة دون أحد قال ابن القيم: فهذه من الكرامات التي يكرم بها الله من يشاء من عباده أن يجد ريح الجنة وهو في الأرض والجنة في السماء لكن من أجل أن الله يثبت يقينه حتى يتيقنها وكأنها أمر محسوس عنده فقاتل حتى قتل لأنه رضي الله عنه تأخر عن غزوة بدر وسبب ذلك أن كثيرا من الصحابة لم يخرجوا في بدر لأنهم إنما خرجوا من أجل عير أبي سفيان التي جاء بها من الشام يريد بها مكة ولم يخرجوا لقتال(5/372)
ولكن الله جمع بينهم وبين عدوهم من غير معاد فتخلف رضي الله عنه لأنهم لم يؤمروا بالخروج إلى الغزو وإنما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: من شاء أن يخرج معنا فليخرج فخرج من خرج وتخلف من تخلف لكنه قال رضي الله عنه: حين تخلف عن هذه الغزوة غزوة بدر لإن أشهدني الله مشهد يعني غزوا في سبيل الله ليرين الله مني ما أصنع ثم تقدم وجاهد وجالد وقاتل حتى قتل ووجدوا به بضعا وثمانين أو بضعا وتسعين ضربة في جسد واحد مما يدل على أنه قد غامر وخاض صفوف المشركين لم تعرفه إلا أخته بنانه وقال: رضي الله عنه وهو يجاهد: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه الذين انكشفوا في غزوة أحد وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين.
فهذه القصص وأمثالها تدل دلالة واضحة على أن الله اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأنه مصداق قوله صلى الله عليه وسلم خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ...
نسأل الله أن يبلغنا وإياكم منازل الشهداء وأن يجمع بيننا وبينهم في جنات النعيم.
1322 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم تصبه رواه مسلم.(5/373)
1323 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
1324 - وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس ثم قام في الناس فقال: أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ثم قال: اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم متفق عليه.
1325 - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثنتان لا تردان أو قلما تردان الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضا رواه أبو داود بإسناد صحيح.
1326 - وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال اللهم أنت عضدي ونصيري بك أجول وبك أصول وبك أقاتل رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن.(5/374)
1327 - وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوما قال: اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم رواه أبو داود بإسناد & صحيح.
1328 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة متفق عليه.
1329 - وعن عروة البارقي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم متفق عليه.
1330 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة رواه البخاري.
1331 - وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة رواه مسلم.(5/375)
1332 - وعن أبي حماد ويقال: أبو سعاد ويقال: أبو أسد ويقال: أبو عامر ويقال: أبو عمرو ويقال: أبو الأسود ويقال أبو عبس عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث ساقها النووي في رياض الصالحين بعضها في بيان فضيلة الشهداء وقد سبقت أحاديث كثيرة في هذا الموضوع وبعضها في فضل المشاركة في الجهاد بالراحلة والسهم.
فأما الأول فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا استشهد في سبيل الله فإن ما يصيبه من القتل يكون كالقرصة يعني كقرصة النملة أو الذرة أو ما أشبه ذلك لأن الله تعالى يسهل عليه القتل كما أنه يسهل عليه خروج الروح لأن الروح تبشر برضوان من الله عز وجل وبالجنة فيسهل عليها الخروج كما في غيرها من الأموات.
ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بين حينما خطب الناس بين الحكم في قوله: لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا فإن الجنة تحت ظلال السيوف والشاهد من هذا الحديث قوله: الجنة تحت ظلال السيوف.
ومنها أي من فضائل الجهاد في سبيل الله عز وجل أن الإنسان الذي(5/376)
يشارك براحلة يكتب له بذلك أجرها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة والمراد بالخيل: خيل الجهاد لأنه فسر هذا الخير بقوله: الأجر والمغنم وهذا إنما يكون في خيل الجهاد فخيل الجهاد في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ويحتمل أن يكون الحديث عاما أي الخيل كلها سواء كانت ممن يجاهد عليه أم لا للعموم ومنها أيضا أن رجلا جاء بناقة مخطومة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذه يا رسول الله في سبيل الله فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أعد له يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة لأن الله تعالى يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
ومنها أي من الجهاد في سبيل الله المساعدة في السهام: الرمي ولهذا خطب النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال في قوله تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا أن القوة الرمي والرمي في كل وقت بحسبه ففي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يكون الرمي بالقوس بالسهام وفي وقتنا الآن يكون الرمي بالقنابل والصواريخ وما أشبهه لأن كل رمي بحسب الوقت الذي يكون فيه الإنسان نسأل الله أن يجعلنا من المجاهدين في سبيله بالمال والنفس إنه على كل شيء قدير.(5/377)
1333 - وعنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه رواه مسلم.
1334 - وعنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو فقد عصى رواه مسلم.
1335 - وعنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يدخل بالسهم ثلاثة نفر الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به ومنبله وارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها أو قال كفرها رواه أبو داود.
1336 - وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على نفر ينتضلون فقال: ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا رواه البخاري.
1337 - وعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من رمى بسهم في سبيل الله فهو له عدل محررة رواه أبو داود والترمذي وقالا: حديث حسن صحيح.
1338 - وعن أبي يحيى خريم بن فاتك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنفق نفقة في سبيل الله كتب له سبعمائة ضعف رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
1339 - وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا(5/378)
متفق عليه.
1340 - وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من صام يوما في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقا كما بين السماء والأرض رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
1341 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق رواه مسلم.
1342 - وعن جابر رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة & فقال: إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم المرض.
وفي رواية: حبسهم العذر وفي رواية إلا شركوكم في الأجر رواه البخاري من رواية أنس ورواه مسلم من رواية جابر واللفظ له.(5/379)
1343 - وعن أبي موسى رضي الله عنه أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل ليذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه وفي رواية: يقاتل شجاعة ويقاتل حمية وفي رواية: ويقاتل غضبا فمن في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في بيان أمور في الجهاد في سبيل الله منها الرمي وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا إن القوة الرمي كررها ثلاثا.
وفي الأحاديث التي ساقها المؤلف في هذا الباب حث على تعلم الرمي وعلى أن من ترك الرمي بعد أن من الله تعالى عليه به فإنها نعمة كفرها وفي بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ منه.
وفي بعض الأحاديث أيضا إنها ستفتح عليكم أرضون وسيكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه.
ففي هذه الأحاديث وأشباهها حث على تعلم الرمي وعلى أن الإنسان ينبغي له أن يتعلم كيف يرمي ولو بالأسلحة الخفيفة لأنه لا يدري ماذا يحدث له حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز العوض في المسابقة في الرمي يعني مثلا رمي اثنان بالبندقية أو شبهها من السلاح ويجعلون بينهما عوضا من يرمي منهم يأخذه(5/380)
هذا أيضا لا بأس به وجائز لما في ذلك من الحث على تعلم الرمي وفي هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اركبوا وارموا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا لأن الرمي يدركه الإنسان الراكب والراجل أما الركوب فلا يدركه إلا من ركب ولهذا كان الرمي أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الركوب.
وفي هذه الأحاديث أيضا دليل على فضيلة الصيام في الجهاد في سبيل الله وأن الإنسان إذا صام يوما في سبيل الله باعد الله بين وجهه وبين النار سبعين خريفا يعني سبعين سنة وفي هذه الأحاديث دليل على وجوب إخلاص النية لله فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل زورا ويقاتل غضبا يعني عصبية لقومه فمن في سبيل الله قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.
1344 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من غازية أو سرية تغزو فتغنم وتسلم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم وما من غازية أو سرية تخفق وتصاب إلا تم لهم أجورهم رواه مسلم.
1345 - وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله عز وجل رواه(5/381)
أبو داود بإسناد جيد.
1346 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قفلة كغزوة رواه أبو داود بإسناد جيد.
القفلة الرجوع والمراد: الرجوع من الغزو بعد فراغه ومعناه: أنه يثاب في رجوعه بعد فراغه من الغزو.
1347 - وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك تلقاه الناس فتلقيته مع الصبيان على ثنية الوداع رواه أبو داود بإسناد صحيح بهذا اللفظ ورواه البخاري قال: ذهبنا نتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصبيان إلى ثنية الوداع.
1348 - وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من لم يغز أو يجهز غازيا أو يخلف غازيا في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة رواه أبو داود بإسناد صحيح.
1349 - وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم رواه أبو داود بإسناد صحيح.(5/382)
1350 - وعن أبي عمرو ويقال: أبي حكيم النعمان بن مقرن رضي الله عنه قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل من أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
1351 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا متفق عليه.
1352 - وعنه وعن جابر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحرب خدعة متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث هي بقية أحاديث باب الجهاد المنقولة في كتاب رياض الصالحين وفيها الحث على الغزو وأن الإنسان إذا لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو ولم يخلف غازيا في أهله وماله فإنه تصيبه قارعة قبل يوم القيامة وهذه القارعة ربما تفسر بما سبق في الحديث من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق وفيها أيضا الحث على جهاد المشركين بالمال والنفس واللسان بالمال: أي يبذل الإنسان مالا يساعد به المجاهدين أو يشتري به سلاحا أو غير ذلك(5/383)
والنفس أن يخرج بنفسه يقاتل واللسان أن يهجوهم [أي المشركين] بالقصائد والأشعار لأن هجو المشركين يؤثر عليهم ويكون ذكرى سيئة في حقهم إلا ما شاء الله مثلا إلى الآن ونحن نسمع هجاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وغيرهم للمشركين.
وفي هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف رحمه الله فضيلة الجهاد في سبيل الله وأنه من أفضل الأعمال وقد مرت الأحاديث الكثيرة في هذا المعنى وأطال المؤلف رحمه الله في نقل الأحاديث في ذلك لأن باب الجهاد من أهم أبواب الدين حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ذروة سنامه أي ذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله لما فيه من إعلاء كلمة الله ونصر الإسلام والمسلمين وغير ذلك من المصالح العظيمة والله الموفق.(5/384)
باب بيان جماعة من الشهداء في ثواب الآخرة يغسلون ويصلى عليهم بخلاف القتيل في حرب الكفار
1353 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهداء خمسة: المطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله متفق عليه.
1354 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تعدون الشهداء فيكم قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد قال: إن شهداء أمتي إذا لقليل قالوا: فمن يا رسول الله قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في الطاعون فهو شهيد ومن مات في البطن فهو شهيد والغريق شهيد رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتاب رياض الصالحين باب بيان شيء من الشهداء يعني غير المقتولين في سبيل الله والمقتول في سبيل الله هو أعلى أنواع الشهداء أما الشهداء الآخرون فهم كما أشار إليهم المؤلف هم شهداء في الآخرة في أحكام الآخرة لا في أحكام الدنيا ويتبين ذلك بأن الشهيد(5/385)
المقتول في سبيل الله شهيد في الدنيا والآخرة فهو شهيد في الدنيا إذا قتل ومات فإنه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ويدفن ولا يأتيه الملكان اللذان يسألانه عن ربه وعن دينه وعن نبيه فلا يغسل من أجل أن يبقى أثر الدم عليه أثر الدم الذي قتل في سبيل الله من أجله فيأتي يوم القيامة وجرحه يسغب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك لذلك قال العلماء: يحرم أن يغسل ويحرم أن يغسل دمه بل يبقى على ما هو عليه.
ولا يكفن وإنما يكفن في ثيابه التي قتل فيها حتى يأتي يوم القيامة بهذه الثياب ولا يصلى عليه لأن الصلاة شفاعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الميت: ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه والمقتول في سبيل الله لا يحتاج لأن يشفع له أحد لأن الشفاعة له كونه يعرض رقبته لأعداء الله إعلاء لكلمة الله.
ولهذا علل النبي صلى الله عليه وسلم عدم فتنته في قبره فقال: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة أي كفى بها اختبارا وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيكفن في ثيابه ليأتي بها يوم القيامة ولا يصلى عليه ونظير هذا في بعض الوجوه الرجل إذا مات محرما فإنه يغسل بماء وسدر ولا يحنط ولا يقرب طيبا ولا يغطى رأسه ولا يكفن في ثياب غير ثياب الإحرام التي(5/386)
كانت عليه لأنه يبعث يوم القيامة ملبيا يبعث يقول: لبيك اللهم لبيك.
والشهيد يبعث يوم القيامة جرحه يسغب دما لونه لون الدم وريحه ريح المسك فهذا الشهيد في أحكام الدنيا الشهيد في سبيل الله يجنب هذه الأشياء لا يغسل لا يكفن بكفن جديد وإنما يكفن في ثيابه ولا يصلى عليه ويدفن ولا يأتيه الملكان يسألانه عن ربه ودينه ونبيه لأن هذا أكبر امتحان واختبار له ودليل على صدقه أما في الآخرة فقد قال الله تعالى: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين.
أما بقية الشهداء المذكورين في الحديث فهم شهداء في الآخرة لا في الدنيا ومع ذلك فإنهم لا يساوون الذين قتلوا في سبيل الله ولكنهم شهداء ولكل درجات مما عملوا المطعون والمبطون والغريق ومن قتل في سبيل الله شهيد في الدنيا وصاحب الهدم.
الأول: المطعون يعني من مات بالطاعون والطاعون وباء فتاك معدي نسأل الله العافية إذا وقع في أرض فإنه يهلك ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الطاعون: إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها وإذا وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه لأنه كيف تفر من الله عز وجل وانظر إلى قوم ألوف خرجوا من ديارهم حذر الموت فقال الله لهم: موتوا فماتوا هربوا من الموت لكن الله تعالى أراد أن يبين لهم أنه لا مفر من الله عز وجل قال الله لهم موتوا فماتوا ثم أحياهم ليتبين أنه لا مفر من قدر الله عز وجل لكن نفعل الأسباب التي أمرنا بها أما التي نهينا عنها فلا(5/387)
ولهذا قال: إذا وقع وأنتم في أرض فلا تخرجوا منها فرارا منه هذا المطعون إذا مات بالطاعون كان شهيدا.
الثاني: المبطون والمبطون هو الذي أصابه داء البطن ويشبه والله أعلم ما يسمونه الآن الغاشية تصيب الإنسان في بطنه ثم يموت هذه إذا مات بها الإنسان فإنه يكون شهيدا.
الثالث: الغريق الذي يغرق إما في أنهار عظيمة أو يقع في النهر أو في البحر أو ما أشبه ذلك فإنه يكون من الشهداء في الآخرة ولهذا أمر الإنسان أن يتعلم السباحة فالإنسان مأمور أن يتعلم السباحة حتى إذا حصل مثل هذه الأشياء أمكنه أن يتوقى منه.
وأما الرابع: من مات بهدم يعني رجل انهدم عليه البيت أو الجدار أو ما أشبه ذلك فإنه يكون شهيدا لأن هؤلاء كلهم ماتوا بحوادث مميتة بريئة وهل يقاس عليهم مثلهم كالذي يموت في حادث أو في صدم أو ما أشبه ذلك الله أعلم قد يقاسون على هذا ويقال لا فرق بين أن ينهدم الجدار أو أن تنقلب السيارة لأن كل حادث مات به الإنسان يحكم على من مات بهذا الحادث أنه شهيد لكننا لا نجزم به لأن مسائل الجزاء عقوبة أو مثوبة ليس فيها قياس فالحاصل أن هناك شهداء غير المقتولين في سبيل الله ومن ذلك أيضا من مات في سبيل الله وإن لم يقتل فهو شهيد لكنه شهيد في الآخرة كرجل خرج مع المجاهدين ومات في الطريق موتة طبيعية فهذا أيضا من الشهداء لكن شهيد الآخرة أما في الدنيا فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن مع الناس(5/388)
كالشهداء الذين ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو من مات بهدم أو غرق أو طاعون أو بطن والله الموفق.
1355 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل دون ماله فهو شهيد متفق عليه.
1356 - وعن أبي الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة المشهود لهم بالجنة رضي الله عنهم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
1357 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي قال: فلا تعطه مالك قال: أرأيت إن قاتلني قال قاتله قال: أرأيت إن قتلني قال: فأنت شهيد قال: أرأيت إن قتلته قال: هو في النار رواه مسلم.(5/389)
[الشَّرْحُ]
هذه بقية الأحاديث في بيان الشهداء في ثواب الآخرة منها ما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وعن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قتل دون ماله فهو شهيد يعني إذا أتاك أحد يريد أخذ مالك فدافعت عنه حتى قتلت فأنت شهيد.
وفي الحديث الأخير أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله أرأيت إن جاء أحد يريد أخذ مالي قال: فلا تعطه مالك قال أرأيت إن قاتلني قال: قاتله قال: أرأيت إن قتلني قال: فأنت شهيد قال: أرأيت إن قتلته قال: هو في النار.
فدل ذلك على أن الإنسان يدافع عن ماله إذا جاء أحد يريد أخذ المال فإنك تدافع فإذا لم يندفع إلا بالقتل فاقتله وإن اندفع بدون ذلك فلا تقتله يعني لو أمكن أن تكون أنت أقوى منه وتشد يديه ورجليه وتأسره فلا تقتله لأنه لا حاجة لقتله وإذا كان لا يمكن فقاتلك فقاتله ولو قتلته وإن خفت أن يبادرك بالقتل فاقتله ولا حاجة للمقاتلة يعني لو جاء إليك يسعى يشتد ومعه سلاح قد شهره فاقتله لأنك إن لم تبادره قتلك فإذا قتلته فإنه في النار وإن قتلك هو فأنت شهيد.
وكذلك في حديث سعيد بن زيد من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد.
حتى لو أن أحدا أراد أن يفتنك في دينك يهتك عرضك أو ما أشبه ذلك فقاتلته فقتلك(5/390)
فأنت شهيد وإن قتلته أنت فهو في النار.
ولهذا قال العلماء: إن دفع الصائل ولو أدى إلى قتله جائز لأنه إذا صال عليك فلا حرمة له لكن إذا اندفع بما دون القتل فلا تقتله.
نسأل الله تعالى أن يعيذنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.(5/391)
باب فضل العتق
قال الله تعالى {فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة}
1358 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار حتى فرجه بفرجه متفق عليه.
1359 - وعن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل قال: الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله قال: قلت أي الرقاب أفضل قال أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا متفق عليه.(5/392)
باب فضل الإحسان إلى المملوك
قال الله تعالى {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم} .
1360 - وعن المعرور بن سويد قال: رأيت أبا ذر رضي الله عنه وعليه حلة وعلى غلامه مثلها فسألته عن ذلك فذكر أنه ساب رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيره بأمه فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنك امرؤ فيك جاهلية هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم متفق عليه.
1361 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه ولي علاجه رواه البخاري.
الأكلة بضم الهمزة: هي اللقمة.(5/394)
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف في كتابه & رياض الصالحين: باب فضل العتق العتق هو: تحرير الرقاب يعني أن يكون هناك إنسان مملوك فيأتي شخص فيعتقه ويحرره ابتغاء وجه الله عز وجل فهذا من أفضل الأعمال قال الله تعالى: فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة.
اقتحم العقبة يعني رأس صعدها على مشقة والعقبة هي الطريق المرتفع ومعلوم أن اقتحام العقبات صعب وشاق وكذلك إعتاق الرقاب صعب على النفوس لأن فيه إخراج المملوك عن ملكه وهو شاق وقوله: {فك رقبة} يشمل العتق ويشمل فك الأسير من العدو فإن هذا من فك الرقاب ففي الآية دليل على فضيلة العتق ثم ذكر المؤلف ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من أعتق عبدا أعتق الله بكل عضو منه أي من العتيق عضوا منه أي من المعتق من النار حتى الفرج بالفرج يعني أنك إذا أعتقت عبدا أعتق الله كل بدنك من النار لأنك أعتقت هذا العبد من الرق فيعتقك الله تعالى من النار ثم ذكر فضل الإحسان إلى المملوك وصدر هذا بقوله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} اعبدوا الله يعني أطيعوا الله فعبادة الله هي طاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه وهذا هو الذي خلق العباد من أجله قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ما خلقنا الله لنأكل ونشرب ونلبس ونسكن ونتمتع لا هذه كلها وسائل الغاية هي العبادة {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} فمن لم يعبد الله أو عبد مع الله غيره أو لم يعبد أحدا فإنه أضاع دينه ودنياه لأنه أضاع ما خلق من أجله.
وقوله: {ولا تشركوا به شيئا} عام و {شيئا} مشرك به لأنه نكرة في سياق النهي فيكون عاما فلا تشرك بعبادة الله أحدا لا الرسول ولا جبريل ولا وليا من أولياء الله ولا صديقا ولا شهيدا لا تعبد إلا الله وحده لا تشرك به شيئا فمن أشرك بالله شيئا فإن كان شركا أكبر فقد قال الله في حقه: {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} .
مثاله: أن يذهب إلى قبر ثم يسجد له أو يدعوه يقول: يا سيدي أغثني يا سيدي ارزقني ولدا ارزقني زوجة ارزقني مالا فهذا الشرك الأكبر مخرج من الملة حتى لو صام الإنسان وتصدق وصلى وقرأ القرآن وحج البيت وهو باق على هذا الشرك فإنه لا يدخل الجنة والجنة عليه حرام ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لأنه أشرك بالله.
قوله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى ...
} ولم يذكر الله حق النبي صلى الله عليه وسلم مع أن حق الرسول أعظم من حق الوالدين يجب على الإنسان أن يحب الرسول صلى الله عليه وسلم أشد من حبه لنفسه ومن حبه لولده ومن حبه لوالده وحق الرسول فوق كل حقوق الخلق.
قال العلماء: لأن حق الرسول من حق الله لأن عبادة الله لا يمكن أن تقبل إلا باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحق الرسول داخل في ضمن حق الله عز وجل فمن لم يجرد العبادة لله إخلاصا وللرسول اتباعا فلا عبادة له ولهذا لم يذكر حق الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه داخل في حق الله.
وقوله: {وبالوالدين} يشمل الأم والأب {إحسانا} يعني أحسنوا للوالدين إحسانا إحسانا بالمال تعطهم من مالك إذا كانوا فقراء محتاجين أو غير فقراء ولكن تعطهم كمالا كماليات تتودد إليهما ومن الإحسان أن تخدمهما أرسلك أبوك إلى شيء اذهب قال: انتظر فلان انتظره قال: ائت لي بالحاجة الفلانية تأت له فتخدمهما بالمال وبالبدن وبالجاه أيضا لو كان الابن له جاه عند الناس أو عند الدولة وأبوه محتاج إلى جاهه فمن الإحسان أن يخدمه بجاهه وكذلك الأم فالإحسان هنا يشمل كل ما يعد إحسانا ويأتي بقية الكلام على الآية وما بعدها من الأحاديث.
باب فضل المملوك الذي يؤدي حق الله وحق مواليه
1362 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين متفق عليه.
1363 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للعبد المملوك المصلح أجران والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك متفق عليه.
1364 - وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المملوك الذي يحسن عبادة ربه ويؤدي إلى سيده الذي عليه من الحق والنصيحة والطاعة له أجران رواه البخاري.
1365 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه ورجل كانت له أمة فأدها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
هذا الباب عقده المؤلف في كتابه رياض الصالحين في باب فضل العتق ليبين ما جاءت به الأحاديث أن المملوك إذا قام بحق الله وحق سيده كان له الأجر مرتين الأجر الأول لقيامه بحق الله والثاني: لقيامه بحق سيده لأن لله عليه حقا كالصلوات والصيام وغيرهما من العبادات التي ليست مبنية على أمر مالي وللسيد عليه حق وهو القيام بخدمته وما إلى ذلك فإذا قام بالحقين صار له أجران.
وكذلك في الحديث الأخير ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن ثلاثة لهم الأجر مرتين: رجل من أهل الكتاب اليهود والنصارى يعني كان يهوديا أو نصرانيا ثم آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم فهذا له الأجر مرتين الأجر الأول إيمانه برسوله والثاني إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم وليعلم أن اليهود والنصارى إذا بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا به حبطت أعمالهم حتى أعمالهم التي يتدينون بها في ملتهم حابطة غير مقبولة لقول الله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين أما الثاني: فهو العبد المملوك الذي قام بحق سيده وحق الله عز وجل أما الثالث: فرجل عنده أمة أدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها وتزوجها فله الأجر مرتين المرة الأولى لإحسانه إليها وهي رقيقة مملوكة والأجر الثاني لإحسانه إليها بعد أن أعتقها لم يضيعها بل تزوجها وكفها وأحصن فرجها والله الموفق.(5/398)
باب فضل العبادة في الهرج وهو الاختلاط والفتن ونحوها
1366 - عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: العبادة في الهرج كهجرة إلي رواه مسلم.(5/399)
باب فضل السماحة في البيع والشراء والأخذ والعطاء وحسن القضاء والتقاضي وإرجاح المكيال والميزان والنهي عن التطفيف
قال الله تعالى: {وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم} وقال تعالى: {ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم} وقال تعالى: {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس & يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين} .
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب فضل السماحة في البيع والشراء.
البيع والشراء أمران ضروريان لا تقوم حياة بني آدم إلا بهما غالبا وذلك لأن الإنسان قد يحتاج إلى شيء عند غيره فكيف يواصل إليه إن استجداه وقال: هبه لي أذل نفسه وإن استعاره بقي في قلق وإن أخذه غصبا ظلمه فكان من حكمة الله عز وجل أن شرع البيع والشراء لأني أنا ممكن أحتاج دراهم فأبيع ما عندي وأنت محتاج هذا الشيء المعين عندي فتشتريه بالدراهم فكان البيع أمرا ضروريا لحاجة بني آدم.(5/400)
ولكن من الناس من يبيع بالعدل ومن الناس من يبيع بالظلم ومن الناس من يبيع بالإحسان فالناس ثلاثة أقسام: 1 - قسم يبيع بالعدل لا يظلم ولا يظلم كما قال تعالى في الذين يتعاملون بالربا وأن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.
2 - وقسم يبيع بالجور والظلم كالغشاش والكذاب وما أشبه ذلك.
3 - وقسم يبيع بالفضل والإحسان فيكون سمحا في البيع وفي الشراء إن باع لم يطلب حقه وافيا بل ينزل من الثمن ويمهل في القضاء وإن اشترى لا يهمه أن يزيد عليه الثمن ويبادر بالوفاء فيكون محسنا.
وقد استدل المؤلف رحمه الله على فضل السماحة في البيع والشراء بآيات منها قوله تعالى: {وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم} كلمة من خير نكرة في سياق الشرط فتعم جميع الخيرات من أي جهة وهي مؤكد عمومها بـ (من) {من خير} يعني أي خير تفعلونه فإن الله به عليم يعني لا يخفى عليه ولا يفوته عز وجل وسيجازيكم على هذا أفضل مما عملتم لأن الله يجازي بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
والمراد بالآية الكريمة المراد بذلك الحث على فعل الخير وأن يعلم الفاعل أنه لن يضيع عليه شيء من فعله فإن الله به عليم وسيجازيه عليه عز وجل أفضل الجزاء ومن الخير السماحة في البيع والشراء وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمتسامحين في البيع والشراء فقال: رحم الله امرءا سمحا إذا باع(5/401)
سمحا إذا اشترى سمحا إذا قضى سمحا إذا اقتضى فالإنسان كلما كان أسمح في بيعه وشرائه وتأجيره واستئجاره ورهنه وارتهانه وغير ذلك فإنه أفضل وقال الله تعالى عن شعيب أنه قال لقومه: {ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين} أوفوا المكيال: أي ما تبيعونه كيلا والميزان ما تبيعونه وزنا أوفوه ولا تنقصوا منه شيئا.
وهذا دليل على أن الوفاء في العقود مما جاء في الشرائع السماوية السابقة واللاحقة وقال تعالى: {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون} .
ويل: كلمة وعيد يتوعد الله عز وجل المطففين الذين هذه صفاتهم إذا اكتالوا على الناس يستوفون يعني إذا كان الحق لهم واكتالوا فإنهم يستوفون حقهم كاملا وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون يعني إذا كان الحق عليهم وكالوا لهم أو وزنوا لهم يخسرون أي يبخسون الكيل والميزان فيظلمون من الوجهين أو يطلبون العدل فيما يتعاملون به ويبخسون فيما يعاملون الناس به وهذا هو المطفف وهذه الآية وإن(5/402)
كانت قد وردت في المكيال والميزان إلا أن العامل حتى الموظف إذا كان يريد أن يعطي راتبه كاملا لكنه يتأخر في الحضور أو يتقدم في الخروج فإنه من المطففين الذي توعدهم الله بالويل لأنه لا فرق بين إنسان يكيل أو يزن للناس وبين إنسان موظف عليه أن يحضر في الساعة الفلانية ولا يخرج إلا في الساعة الفلانية ثم يتأخر في الحضور ويتقدم في الخروج هذا مطفف وهذا المطفف في الوظيفة لو نقص من راتبه ريال واحد من عشرة آلاف لقال لماذا تنقص هذا مطفف يدخل في هذا الوعيد {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} ثم قال تعالى منكرا عليهم {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم} يعني هل هؤلاء نسوا يوم الحساب نسوا يوم القيامة الذي ما أقرب منه.
فالإنسان في هذه الدنيا ليس معه ضمان أن يعيش ولا لحظة واحدة يموت الإنسان وهو يتغذى أو يتعشى يموت وهو نائم يموت وهو على مكتبه يموت وهو ذاهب لحاجته أو راجع منها ثم يأتي اليوم العظيم {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم} استعظمه الله عز وجل بين أنه عظيم فيدل على عظمه وقد وصف الله هذا اليوم في آيات كثيرة كلها تزعج وتروع وتخوف هؤلاء سوف يتعرضون لعقوبة الله في ذلك اليوم هؤلاء المطففون سيتعرضون لعقوبة الله في ذلك اليوم {يوم يقوم الناس لرب العالمين} يقوم الناس كلهم لرب العالمين من في مشارق الأرض ومغاربها يبعثون على صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر الداعي يسمعهم كلهم لأن الأرض مبسوطة غير كروية يغيب بعض الناس فيها عن بعض بل هي(5/403)
سطح واحد إذا تكلم أحد في أولهم سمعه آخرهم وينفذهم البصر يراهم الرائي بخلاف الدنيا الأرض منعطفة كروية لكن في الآخرة الأرض سطح واحد كما قال تبارك وتعالى: {وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت} تمد كما يمد الجلد هذا اليوم العظيم يقوم الناس فيه لله عز وجل للحساب والمعاقبة ومقدار هذا اليوم خمسون ألف سنة والشمس من فوقهم بقدر ميل ولا شجرة يستظلون به ولا بناء ولا شيء إلا من يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم فهذا اليوم العظيم سيجد هؤلاء المطففون عقوبتهم في ذلك اليوم لا فيه ولد ينفع ولا أب ولا أم ولا زوجة ولا أحد لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه فليحذر هؤلاء المطففون وليتقوا الله عز وجل ويؤدوا الحق كاملا وإن زادوا فضلة فهو أفضل ولهم أن يأخذوا حقهم كاملا وإن تسامحوا فهو أفضل والله الموفق.
1367 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه فأغلظ له فهم به أصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا ثم قال: أعطوه سنا مثل سنه قالوا: يا رسول الله لا نجد إلا أمثل من سنه قال: أعطوه فإن خيركم أحسنكم قضاء متفق عليه.(5/404)
1368 - وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى رواه البخاري.
1369 - وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث ذكرها المؤلف النووي رحمه في باب فضل السماحة في البيع والشراء وسبق الكلام على الآيات التي في صدر بها المؤلف & هذا الباب.
أما الأحاديث فمنها حديث أبي هريرة أن أعرابيا جاء يتقاضى الرسول صلى الله عليه وسلم حقه يتقاضاه يعني يطلب أن يقضيه النبي صلى الله عليه وسلم حقه وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم استقرض بكرا يعني ناقة صغيرة فجاء صاحبها يطلبها يقول: أعطني بكري والأعراب كما نعلم عندهم جفاء فأغلظ للرسول صلى الله عليه وسلم القول فهم به الصحابة يعني هموا به أن يضربوه أو يسكتوه أو ما أشبه ذلك فقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا صلوات الله وسلامه عليه ما ظنكم لو تكلم مثل هذا الأعرابي على جندي من الجنود ماذا يفعل به يبطش به أو على أمير من الأمراء أو على قاض من(5/405)
القضاة أو على وزير من الوزراء لو جاء يطلب حقه ولو بسهولة ربما يفتك به إلا من شاء الله هذا يغلظ القول لمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا ومن هنا نعرف أن الإنسان إذا كان عليه حق لشخص وكان الشخص جاء يطلبه فلصاحب الحق أن يغلظ له القول لأنه صاحب حق والرسول صلى الله عليه وسلم سيوفيه لا شك لكن قد لا يكون عنده تلك الساعة شيء ولذلك أمرهم بقضاء بكره فقالوا: إنا لا نجد إلا سنا خيرا من سنة وفي رواية قالوا: لا نجد إلا رباعيا خيارا والرباعي أحسن بكثير من البكر البكر صغير والرباعية كبيرة تتحمل الحمل والأثقال وغير ذلك فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطوه إياها وقال: إن خيركم أحسنكم قضاء في صفة القضاء وفي معاملة المستقضي الذي يطلب حقه فينبغي للإنسان أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في حسن القضاء لكن معاملة المستقضي الذي يطلب حقه أي لا يعامله بالجفاء والسب والشتم بل باللين لأن له حقا ومقالة ولا في المقضي يعني يقضي أحسن مما عليه سواء كان أحسن مما عليه كيفية أو أكثر مما يطلب فمثلا إذا استقرضت من شخص مائة ريال وعند الوفاء أعطيته مائة وعشرة بدون شرط فإن هذا لا بأس به وهو من خير القضاء وكذلك لو استقرضت منه صاعا من الطعام وسطا ليس بالطيب ولا بالرديء فأعطيته صاعا طيبا فهذا أيضا من حسن القضاء وخير الناس أحسنهم قضاء(5/406)
وفي حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع قال: رحم الله امرءا سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى سمحا إذا اقتضى وكذلك سمحا إذا قضى فقوله عليه الصلاة والسلام رحم الله امرءا أو قال رجلا هذا خبر بمعنى الدعاء يعني يدعو له بالرحمة إذا كان سمحا في هذه المواضع الأربعة سمحا إذا باع لا يشتد على المشتري ويكون سهلا يواضعه ويضع عنه سمحا إذا قضى إذا قضى غيره كان سمحا يعطيه في وقته ولا يماطل كذلك سمحا إذا اشترى وكذلك سمحا إذا اقتضى إذا أخذ حقه فهذه الأحوال الأربعة ينبغي للإنسان أن يكون سمحا فيها حتى ينال دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأتي الكلام إن شاء الله على بقية الأحاديث.
1370 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان رجل يداين الناس وكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسرا فتجاوز عنه لعل الله أن يتجاوز عنا فلقي الله فتجاوز عنه متفق عليه.
1371 - وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرا وكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه رواه مسلم.(5/407)
1372 - وعن حذيفة رضي الله عنه قال: أتى الله تعالى بعبد من عباده آتاه الله مالا: فقال له: ماذا عملت في الدنيا قال: ولا يكتمون الله حديثا قال يا رب آتيتني مالك فكنت أبايع الناس وكان من خلقي الجواز فكنت أتيسر على الموسر وأنظر المعسر فقال الله تعالى: أنا أحق بذا منك تجاوزوا عن عبدي فقال عقبة بن عامر وأبو مسعود الأنصاري رضي الله عنهما هكذا سمعناه من في رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث الثلاثة في باب فضل السماحة في البيع والشراء وفيها فضل العفو عن الناس والتجاوز عنهم ففي الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان رجل يداين الناس يعني يتعامل معهم بالدين والدين ليس هو المعروف عندنا يعني أن تشتري سلعة لتبيعها وتنتفع بثمنها الدين كل ما ثبت في الذمة فهو دين حتى لو بعت إلى شخص سيارة بثمن غير مؤجل ولم يسلمك الثمن فالثمن في ذمته دين وإن استأجرت بيتا وتمت المدة ولم تسلمه الأجرة فالأجرة في ذمتك دين المهم أن المداينة أن يعامل الناس ليس نقدا يعني يدا بيد بل يبيع إليهم ويشتري منهم ويعفو عن المعسر فكان يقول لغلامه: إذا رأيت معسرا فتجاوز عنه لعل الله يتجاوز عنا فكان الغلام يفعل هذا فلقي الله(5/408)
عز وجل فجازاه الله عز وجل بمثل ما يجازي به الناس يعني بمثل ما يفعل هذا الرجل في الناس عامله الله عز وجل فتجاوز عنه وذلك لأن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ولأن الجزاء من حسن العمل ففي هذا الحديث حديث أبي هريرة والحديثين بعده دليل على فضيلة إنظار المعسر والتجاوز عنه وإبرائه.
واعلم أن هذا لا ينقصك شيئا من المال لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما نقصت صدقة من مال بل هذا يجعل في مالك البركة والخير والزيادة والنماء.
وأما إنظار المعسر فإنه واجب يجب على الإنسان إذا كان صاحبه معسرا لا يستطيع الوفاء يجب عليه أن ينظره ولا يحل له أن يكربه أو يطالبه لقول الله تعالى: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة فهناك فرق بين الإبراء وهو إسقاط الدين عن المعسر وبين الإنظار الإنظار واجب والإبراء سنة ولا شك أن الإبراء أفضل لأن الإبراء تبرأ به الذمة نهائيا والإنظار تبقي الذمة مشغولة لكن صاحب الحق لا يطالب به حتى يستطيع المطلوب أن يوفي وبعض الناس نسأل الله العافية تحل لهم الديون على أناس فقراء فيؤذونهم ويضربونهم ويطالبونهم ويدفعون بهم إلى ولاة الأمور ويحسبونهم عن(5/409)
أهليهم وأولادهم وأموالهم وهذا لا شك أنه منكر والواجب على القضاة إذا علموا أن هذا معسر لا يستطيع الوفاء الواجب عليهم أن يقولوا للدائن ليس لك حق في مطالبته لأن الله تعالى هو الحكم هو الحاكم بين العباد وقد قال الله تعالى: {إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} لكن & يتعلل بعض القضاة في هذه المسألة يقولون: إن بعض المدينين يتلاعبون بالناس فيأخذون الأموال ويجحدون الإيثار فيعاملونهم بهذا تنكيلا بهم وهذا نعم إذا ثبت أن هذا المدين يدعي الإعسار وليس بمعسر فإنه لا بأس أن يجبر ويحبس ويضرب حتى يوفي فإن لم يفعل فإن الحاكم يتولى بيع ما شاء من ماله ويوفي دينه أما الذي نعلم أنه معسر حقيقة فإنه لا يجوز لطالبه أن يطالبه ولا أن يقول: أعطني يجب أن يعرض عنه بالكلية {فنظرة إلى ميسرة} والله الموفق.
1373 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أنظر معسرا أو وضع له أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
1374 - وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى منه بعيرا فوزن له فأرجح(5/410)
متفق عليه.
1375 - وعن أبي صفوان سويد بن قيس رضي الله عنه قال: جلبت أنا ومحرمة العبدي بزا من هجر فجاءنا النبي صلى الله عليه وسلم فساومنا بسراويل وعندي وزان يزن بالأجر فقال النبي صلى الله عليه وسلم للوزان: زن وأرجح رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
[الشَّرْحُ]
هذه بقية الأحاديث الواردة في فضل السماحة في البيع والشراء والقضاء والاقتضاء وقد سبق أحاديث كثيرة حول هذا الموضع والأحاديث التي ذكرها المؤلف رحمه الله وردت فيمن أنظر معسرا أو وضع عنه فإن الله تعالى يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله أنظره يعني أمهله حتى يوسع الله عليه وهذا أمر واجب كما سبقت الإشارة إليه فإن وضع عنه فهو أفضل وأكمل لأنه إذا وضع عنه أبرأ ذمته وأما إذا أنظره فإنما أمهله وبقيت ذمته أي ذمة المطلوب مشغولة لم تنفك.
ثم ذكر حديثين أيضا فيهما ذكر الوزن والإرجاح حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى منه فوزن وأرجح يعني أرجح الوزن لأنهم كانوا فيما سبق يتعاملون بالنقود وزنا لا عددا وإن كانوا يتعاملون أيضا بها عددا لكن الكثير وزنا كما جاء في الحديث ليس فيما دون خمس أواق(5/411)
صدقة فوزن له النبي صلى الله عليه وسلم وأرجح يعني زاده أكثر مما يستحق وهكذا ينبغي للإنسان عند الوفاء أن يوفي كاملا بدون نقص وإذا زاد فهو أفضل والله الموفق.(5/412)
كتاب العلم باب فضل العلم علما وتعليما لله قال الله تعالى {وقل رب زدني علما} وقال تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} وقال تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} وقال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} .
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي في كتابه رياض الصالحين باب فضل العلم تعلما وتعليما لله عز وجل والمراد بالعلم الذي وردت به النصوص في فضله والثواب عليه ورفعه أهله وكونهم ورثة الأنبياء إنما هو علم الشريعة عقيدة وعملا وليس علم ما يتعلق بالدنيا كالحساب والهندسة وما أشبه ذلك المراد بالعلم العلم الشرعي الذي جاءت به الشرائع هذا هو العلم الذي يثني على من أدركه وعلى من علمه وتعلمه.
والعلم جهاد جهاد في سبيل الله وعليه يبنى الجهاد وسائر الإسلام لأن من لا يعلم لا يمكن أن يعمل على الوجه المطلوب ولهذا قال الله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون يعني لولا نفر بالجهاد من المؤمنين من كل فرقة منهم طائفة وقعدت طائفة أخرى ليتفقهوا أي الطائفة القاعدون في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم أي رجعوا من الغزو لعلهم يحذرون(5/413)
فجعل الله تعالى الفقه في دين الله معادلا للجهاد في سبيل الله بل أولى منه لأنه لا يمكن أن يجاهد المجاهد ولا أن يصلي المصلي ولا أن يزكي المزكي ولا أن يصوم الصائم ولا أن يحج الحاج ولا أن يعتمر المعتمر ولا أن يأكل الآكل ولا أن يشرب الشارب ولا أن ينام النائم ولا أن يستيقظ المستيقظ إلا بالعلم فالعلم هو أصل كل شيء ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
ولا فرق بين المجاهد الذي يسوي قلل قوسه وبين طالب العلم الذي يستخرج المسائل العلمية من بطون الكتب كل منهم يعمل للجهاد في سبيل الله وبيان شريعة الله لعباد الله ولهذا أعقب المؤلف رحمه الله باب الجهاد بباب العلم ليبين أنه مثله بل إن بعض العلماء فضله على الجهاد في سبيل الله والصحيح أن في ذلك تفصيلا فمن الناس من يكون الجهاد في حقه أفضل ومن الناس من يكون طلب العلم في حقه أفضل فإذا كان الرجل قويا شجاعا مقداما لكنه في العلم بضاعته مزجاة قليل الحظ قليل الفهم يصعب عليه تلقي العلم فهنا نقول: الجهاد في حقه أفضل وإذا كان بالعكس رجل ليس عنده تلك القوة البدنية أو الشجاعة القلبية لكن عنده حفظا وفهما واجتهادا فهذا طلب العلم في حقه أفضل فإن تساوى الأمران فإن من أهل العلم من رجح طلب العلم لأنه أصل ولأنه ينتفع به الناس كلهم القاصي والداني وينتفع به من كان حيا(5/414)
ومن يولد بعد وينتفع به صاحبه في حياته وبعد مماته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية وعلم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له وجميع الناس محتاجون للعلم الأنبياء وغير الأنبياء كلهم محتاجون للعلم ولهذا أمر الله نبيه أن يقول: {وقل رب زدني علما} {ولا تعجل بالقرآن من قبل إن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما} فالرسل محتاجون إلى العلم والزيادة فيه وإلى سؤال الله عز وجل أن يزيدهم منه فمن دون الأنبياء من باب أولى فجدير بالعبد أن يسأل الله دائما أن يزيده من العلم ولكن إذا سأل الله أن يزيده من العلم فلابد أن يسعى في الأسباب التي يحصل بها العلم أما أن يطلبه ويقول: رب زدني علما وهو لم يفعل الأسباب فهذا ليس من الحكمة ولا من الصواب هذا كمن قال الله ارزقني ولدا ولا يتزوج من أين يأتي هذا الولد فلابد إذا سألت الله شيئا أن تسعى للأسباب التي يحصل بها لأن الله حكيم قرن المسببات بأسبابها وفي هذه الآية {وقل رب زدني علما} دليل على فضل العلم لم يقل لنبيه وقل رب زدني مالا بل قال له: وقل رب زدني علما وقال له في الدنيا: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لتفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى} أسأل الله تعالى أن يمن علينا وعليكم بالعلم النافع والعمل الصالح والدعوة إلى الله(5/415)
على بصيرة.
وقال تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} وقال تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} .
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب فضل العلم تعلما وتعليما لله وقد سبق لنا شيء من الكلام على العلم وبيان أن العلم الممدوح الذي فيه الثواب هو العلم في شريعة الله عز وجل: وما كان وسيلة لذلك كعلم النحو والصرف وما إليهما فإنه وسيلة وقد قال العلماء: إن للوسائل أحكام المقاصد.
والعلم الشرعي ينقسم إلى قسمين: قسم فرض عين يجب على كل إنسان أن يتعلمه وقسم آخر فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن بقية الناس وقسم ثالث يتفرع عن الثاني سنة وهو إذا ما قام بالعلم من يكفي فيكون للباقين سنة.
أم العلم الفرض العين الذي يجب على كل إنسان فهو أن يتعلم الإنسان ما يحتاج إليه في أمور دينه الواجبة كأن يتعلم ما يتعلق بتوحيد الله وبيان ما ينافيه ويناقضه من الشرك كله جليه وخفيه صغيره وكبيره لأن هذا مفروض على كل أحد كل إنسان يجب عليه أن يعرف توحيد الله ويوحد الله تعالى بما يختص به جل وعلا كذلك أيضا الصلاة الصلاة مفروضة على كل أحد لا تسقط عن المسلم أبدا ما دام عقله ثابتا فلابد أن يتعلمها ويتعلم ما يلزم لها من طهارة(5/416)
وغيرها حتى يعبد الله على بصيرة الزكاة لا يجب تعلمها على كل أحد من عنده مال وجب عليه أن يتعلم ما هو المال الزكوي وما مقدار النصاب وما مقدار الواجب ومن الذي تؤتى إليه الزكاة وما أشبه ذلك لكن لا يجب على كل واحد أن يتعلم الزكاة فإذا كان فقيرا فلماذا نوجب عليه أن يتعلم أحكام الزكاة وهو ليس عنده مال الصوم يجب تعلمه على كل أحد يجب أن يتعلم الإنسان ماذا يصوم عنه وما هي المفطرات وما هي نواقض الصوم وما هي منقصاته وما أشبه ذلك كل إنسان يصوم يجب عليه أن يتعلم ذلك الحج لا يجب على كل أحد أن يتعلمه وإنما يجب أن يتعلمه من استطاع إليه سبيلا حتى يحج على بصيرة.
ومع الأسف أن كثيرا من الناس لا يتعلمون ما يجب عليهم من أحكام دينهم فيقعون في المتاعب ولاسيما في الحج وما أكثر الذين يسألون عن الحج وتجدهم قد وقعوا في خلل كبير لأنهم لم يتعلموا قبل أن يعملوا البيع مثلا أحكام البيع لا يجب على كل إنسان أن يتعلم أحكام البيع لكن من أراد أن يتجر ويبيع ويشتري لابد أن يتعلم ما هو البيع الممنوع وما هو البيع المشروع حتى يكون على بصيرة من أمره وهلم جرا.
فتبين الآن أن العلم الشرعي ينقسم إلى قسمين الأول فرض عين والثاني فرض كفاية وفرض الكفاية يستحب لمن زاد على من تقوم به الكفاية أن يتعلم ليحفظ شريعة الله ويهدي الله به عباده وينتفع الناس به.
ولا شيء أشرف من العلم ويدل لهذا قول الله تبارك وتعالى لنبيه(5/417)
صلى الله عليه وسلم: ولا تعجل بالقرآن من قبل إن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما ربنا عز وجل يقول للرسول صلى الله عليه وسلم {وقل رب زدني علما} الرسول عليه الصلاة والسلام محتاج إلى زيادة العلم فدل ذلك على فضيلة العلم لأنه لم يقل له وقل رب زدني مالا زدني زوجات زدني أولادا بل قال له: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى} ومما يدل على فضل العلم قول الله تبارك وتعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} بين كل الناس قول عام {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} والجواب مفهوم أنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وهذا أمر منتف بمقتضى طبيعة الإنسان وفطرته أنه لا يستوي الإنسان الذي يعلم والذي لا يعلم لكن الله سبحانه وتعالى ذكره على صيغة الاستفهام ليكون متضمنا للتحدي ليكون هذا النفي متضمنا للتحدي يعني ما في أحد يقول إنه يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون لا أحد يقول بذلك ولا يمكن أن يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون أبدا حتى في أمور الدنيا لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
وقال الله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} هذا أيضا يدل على فضيلة العلم {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا} يعني قوموا(5/418)
وارتفعوا {فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} فإذا دخل إنسان والمجلس ملئ بالجالسين وقال تفسحوا فليفسحوا له يفسح الله لكم يعني يوسع لكم الأمور لأنكم وسعتم على هذا الداخل فيوسع الله عليكم لأن الجزاء من جنس العمل فمن عامل أخاه بشيء عامله الله تعالى بمثله إن أيسرت على معسر يسر الله عليك إن فرجت عن مؤمن كربة فرج الله عنك كربة من كرب يوم القيامة إن أعنت أحدا كان الله في عونك والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ولهذا قال: {فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا} يعني قوموا فقوموا وفي هذا دليل على أنه لا حرج على الإنسان أن يقول للجماعة الذين عنده انشزوا اخرجوا بارك الله فيكم انتهى شغلكم ولا حياء في ذلك لا حياء في ذلك ولا غضاضة على الإنسان حتى الجلوس لا ينبغي لهم أن يكونوا ثقلاء لا يقومون إلا إذا قيل قوموا ينبغي للإنسان أن يخفف الجلوس عند الناس ما استطاع إلا إذا علم من صاحبه أنه يحب أن تبقى عنده فلا بأس وإلا فالأصل ألا تطيل الجلوس عند الناس لأن الناس قد يكون لهم شغل ويستحيون أن يقولوا قم لكن من قال قم فلا حرج عليهم حتى إن الله عز وجل قال لجلساء نبيه الذين يجلسون عنده بعد أن ينتهوا من الطعام قال لهم سبحانه وتعالى: {إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحي من الحق} يعني معناه إذا انتهيتم من الطعام فاخرجوا لا تجلسوا فإن ذلك يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق فإذا قيل: {انشزوا فانشزوا}(5/419)
ومثل ذلك أيضا إذا استأذن عليك أحد في البيت ففتحت له وقلت ارجع ما في جلوس الآن فلا حرج عليك كما قال تعالى: {وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم} بعض الناس إذا أرجعته من عند الباب يغضب والله يقول: {هو أزكى لكم} أحسن إن ترجعوا يعطيكم الله زكاءا يزكيكم عز وجل قال: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} ولم يعين عز وجل الدرجات لأن هذه الدرجات بحسب ما مع الإنسان من الإيمان والعلم كلما قوي الإيمان وكلما كثر العلم وانتفع الإنسان به ونفع غيره كان أكثر درجات فهلم فأكثر قوي إيمانك أكثر من طلب العلم أكثر من بث العلم ما استطعت فإن الله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} رفعني الله وإياكم بذكره وأعاننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وقال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}
1376 - وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
ساق الإمام النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين ما يتعلق أو بعض ما يتعلق من كتاب الله عز وجل في فضل العلم وسبق الكلام على آيات ثلاث مما ذكره في باب(5/420)
فضل العلم تعلما وتعليما لله.
أما الآية الرابعة فيه قوله تعالى: إنما يخشى الله من عبادة العلماء والخشية هي الخوف المقرون بالتعظيم فهي أخص من الخوف فكل خشية خوف وليس كل خوف خشية ولهذا يخاف الإنسان من الأسد ولكنه لا يخشاه أما الله عز وجل فإن الإنسان يخاف منه ويخشاه قال الله تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشون} ولكن من هم أهل الخشية حقا أهل الخشية حقا هم العلماء العلماء بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه الذين يعرفون ما لله عز وجل من الحكم والأسرار في مقدوراته ومشروعاته جل وعلا وأنه سبحانه وتعالى كامل من كل الوجوه ليس في أفعاله نقص ولا في أحكامه نقص فلهذا يخشون الله عز وجل وفي هذا دليل على فضيلة العلم وأنه من أسباب خشية الله والإنسان إذا وفق للخشية عصم من الذنوب وإن أذنب استغفر وتاب إلى الله عز وجل لأنه يخشى الله يخافه يعظمه ثم ذكر الأحاديث وصدرها بحديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين والله جل وعلا يريد في خلقه ما يشاء من خير وشر لكن إرادته خير وأما مراداته ففيها الخير والشر كل قضائه خير وأما مقتضياته ففيها الخير والشر والناس أوعية منهم من يعلم الله تعالى في قلبه خيرا فيوفقه ومنهم من يعلم الله في قلبه شرا فيخذله والعياذ بالله قال الله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} لم يزغ قلوبهم إلا حين زاغوا هم أولا وأرادوا الشر لم يوفقوا لخير(5/421)
أما من علم الله في قلبه خيرا فإن الله يوفقه فإذا علم الله في قلب الإنسان خيرا أراد به الخير وإذا أراد به الخير فقهه في دينه وأعطاه من العلم بشريعته ما لم يعط أحدا من الناس وهذا يدل على أن الإنسان ينبغي له أن يحرص غاية الحرص على الفقه في الدين لأن الله تعالى إذا أراد شيئا هيئ أسبابه ومن أسباب الفقه أن تتعلم وأن تحرص لتنال هذه المرتبة العظيمة أن الله يريد بك الخير فاحرص على الفقه في دين الله والفقه في الدين ليس هو العلم فقط بل العلم والعمل ولهذا حذر السلف من كثرة القراء وقلة الفقهاء فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كيف بكم إذا كثر قراؤكم وقل فقهاؤكم) فإذا علم الإنسان الشيء من شريعته الله ولكن لم يعمل به فليس بفقيه حتى لو كان يحفظ أكبر كتاب في الفقه عن ظهر قلب ويفهمه لكن لم يعمل به فإن هذا لا يسمى فقيها يسمى قارئا لكن ليس بفقيه الفقيه هو الذي يعمل بما علم فيعلم أولا ثم يعمل ثانيا هذا هو الذي فقه في الدين وأما من علم ولم يعمل فليس بفقيه بل يسمى قارئا ولا يسمى فقيها ولهذا قال قوم شعيب لشعيب: {ما نفقهه كثيرا مما نقول} لأنهم حرموا الخير لعلم الله ما في قلوبهم من الشر فاحرص على العلم واحرص على العمل به لتكون ممن أراد الله به خيرا أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من هؤلاء الذين فقهوا في دين الله وعملوا وعلموا ونفعوا وانتفعوا به.(5/422)
1377 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فيسلط على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها متفق عليه.
والمراد بالحسد الغبطة وهو أن يتمنى مثله.
[الشَّرْحُ]
قال الإمام النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب فضل العلم تعلما وتعليما لله في الأحاديث الواردة في فضل العلم سبق حديث معاوية رضي الله عنه من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
ثم ذكر حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا حسد إلا في اثنتين الحسد يطلق ويراد به الحسد المحرم الذي هو من كبائر الذنوب وهو أن يكره الإنسان ما أنعم الله به على غيره هذا الحسد أن تكره ما أنعم الله به على غيرك تجد إنسانا عنده مال فتكره تقول: ليت الله ما رزقه عنده علم تكره ذلك وتتمنى أن الله لم يرزقه العلم عنده أولاد صالحون تكره ذلك وتتمنى أن الله لم يرزقه وهلم جرا هذا الحسد هذا النوع هذا من كبائر الذنوب.
وهو من خصال اليهود كما قال الله تعالى عنهم: أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله وقال عنهم: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد(5/423)
إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق} .
أما النوع الثاني من الحسد فهو حسد الغبطة يعني الذي تغبط به غيرك أن أنعم الله عليه بمال أو علم أو ولد أو جاه أو غير ذلك الناس يغبط بعضهم بعضا على ما آتاهم الله من النعم يقول: ما شاء الله فلان أعطاه الله كذا فلان أعطاه الله كذا لكن لا غبطة إلا في شيئين الغبطة الحقيقية التي يغبط عليها الإنسان شيئان الأول: العلم العلم النافع وهو المراد بقوله: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقض بها ويعلمها هذا العلم إذا من الله على إنسان بعلم فصار يقضي به بين الناس سواء كان قاضيا أو غير قاضي وكذلك يقضي به في نفسه وعلى نفسه ويعلم الناس فهذا هو الغبطة لأن العلم هو أنفع شيء أنفع من المال أنفع للإنسان من الأعمال الصالحة العلم لأنه إذا مات وانتفع الناس بعلمه جرى ذلك عليه إلى يوم القيامة كل ما انتفع به أي إنسان من الناس فله أجر العلم كل ما أنفقت منه وعلمته ازداد ولهذا من أقوى ما يثبت العلم ويبقي حفظه أن يعلمه الإنسان غيره لأن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه فإذا علمت غيرك علمك الله وإذا علمت غيرك ثبت العلم في نفسك لكن لا تتقدم للتعليم إلا وأنت أهل له حتى ينفع الله بك وحتى لا تفشل أمام الناس لأن الذي يتقدم للتعليم وليس أهلا له بين أمرين: إما أن يقول بالباطل وهو لا يشعر وإما أن يفشل وإذا سئل عجز عن الإجابة مثلا فهذا العلم كل ما أنفقت منه ازداد أيضا العلم لا يحتاج إلى(5/424)
تعب إلا في تعلمه & لا يحتاج مثلا إلى خزائن كالمال المال يحتاج إلى خزائن وإلى محاسبين وإلى حسابات وإلى تعب لكن العلم لا يحتاج إلى هذا خزينته قلبك هذا الخزينة وهي معك أينما كنت فلا تخشى عليه لا تخشى أن يسرق ولا أن يحرق لأنه في قلبك فالمهم أن العلم هو أفضل نعمة أنعم الله بها على الإنسان بعد الإسلام والإيمان ولهذا قال: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها.
أما الثاني: فهو رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق يعني صار يبذل ماله فيما يرضي الله عز وجل لا يبذله في حرام ولا يبذله في لغو وإنما يبذله فيما يرضي الله سلطه الله على هلكته يعني على إنفاقه في الحق هذا أيضا ممن يغبط نحن لا نغبط من عنده مال عظيم لكنه بخيل لا ينفع المال لا نغبطه بعد بل هذا نتأوى له ونقول هذا المسكين كيف يستطيع الجواب على حساب يوم القيامة على هذا المال من أين اكتسبه وفيما أنفقه وكيف تصرف فيه لكن إذا رأينا رجلا آتاه الله مالا وصار ينفقه فيما يرضي الله نقول ما شاء الله هذا يغبط لا نغبط إنسانا آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في القصور والديكورات والسيارات الفخمة نحن لا نغبطه على هذا بل نقول هذا مسرف إذا كان تجاوز الحد فيما ينفق نقول هذا مسرف والله لا يحب المسرفين.
كذلك لا نغبط شخصا عنده مال فصار ينفق منه جوائز في أشياء لا ينتفع الناس بها لا في دينهم ولا في دنياهم فإن بعض الناس يعطي جوائز على ألعاب وأشياء من الأمور التي ليس بها خير لا في الدنيا ولا في(5/425)
الآخرة هذا لا نغبطه لأنه لم يسلط على هلكة ماله في الحق إنما الذي يغبط من سلطه الله هلكة ماله في الحق أيضا لا نحسد إنسانا آتاه الله مالا فصار كل ما عن له أن يتزوج تزوج وجمع عنده من النساء الحسان ما لا يجمعه غيره هذا لا نغبطه أيضا إلا إذا كان سلطه الله على هلكته في الحق وأراد بذلك تحصين فرجه وتحصيل السنة وكثرة النسل هذا مقصود شرعي يغبط عليه الإنسان.
الشاهد في هذا الحديث في باب فضل العلم هو الجزء الأول منه: من آتاه الله الحكمة يعني العلم فقضى بها وعلمها وهذا خير الرجلين يعني خير من صاحب المال الذي سلط على هلكته في الحق نسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.
1378 - وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء وتنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به متفق عليه.(5/426)
[الشَّرْحُ]
في هذا الحديث الذي ساقه & النووي رحمه الله في كتاب رياض الصالحين في باب فضل العلم تعلما وتعليما لله الذي رواه أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا مثل بديع عجيب فقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم ما بعثه الله به من العلم والهدى بغيث يعني بمطر ووجه الشبه أن بالغيث تحيي الأرض وبالوحي تحيى القلوب ولهذا سمى الله سبحانه وتعالى ما بعث به محمدا صلى الله عليه وسلم سماه روحا فقال تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور.
فالوحي غيث لكنه كما مثل الرسول صلى الله عليه وسلم نزل على الأرض فصارت الأرض ثلاثة أقسام قسم قبل المطر وشرب وأنبت العشب الكثير والكلأ فانتفع الناس بذلك لأن الأرض أنبتت والقسم الثاني: قيعان لا تنبت لكن أمسكت الماء لم تشربه فسقى الناس منه وارتووا وزرعوا القسم الثالث أرض قيعان بلعت الماء ولم تنبت سباخ سبخة تبلع الماء ولكنها لا تنبت فهذا مثل من فقه في دين الله فعلم وعلم ومثل من لم يرفع به رأسه الصورة الأولى والثانية للمثل فيمن قبل الحق فعلم وتعلم(5/427)
ونفع وانتفع لكن الذين قبلوا الحق صاروا قسمين قسم آتاه الله تعالى فقها فصار يأخذ الفقه والأحكام الشرعية من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلم والثاني: رواية ولكنه ليس عنده ذلك الفقه يعني يحكي الحديث يرويه يحفظه ولكنه ليس عنده فقه وهذا كثير أيضا ما أكثر رجال الحديث الذين رووا الحديث لكنهم ليس عندهم فقه ما هم إلا أوعية يأخذ الناس منهم ولكن الذي يوزع من هذا الماء وينفع الناس به هم الفقهاء هذان قسمان: قسم حفظ الشريعة ووعاها وفهمها وعلمها واستنبط منها الأحكام الكثيرة هؤلاء مثل الأرض التي قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير قسم آخر نقلة فقط ينقلون ينقلون الأحاديث لكنهم لا يحفظونها كثيرا هؤلاء كالأرض التي أمسكت الماء فانتفع الناس به وارتووا منه لأن الناس يأخذون من هؤلاء الرواة للحديث ثم يستنبطون منه الأحكام وينفعون الناس بها القسم الثالث: أرض لم تنتفع بالغيث قيعان لا تمسك الماء ولا تنبت الكلأ هؤلاء ما فيهم خير لم ينتفعوا بوحي الله ولم يرفعوا به رأسا والعياذ بالله يكذبون بالخبر ويستكبرون عن الأمر فهؤلاء هم شر الأقسام نسأل الله العافية فأنت انظر في نفسك من أي الأرضيين الثلاث أنت هل أنت من الأرض التي قبلت الماء وأنبتت العشب والكلأ أو من الأرض الثانية أو من الأرض الثالثة والعياذ بالله.(5/428)
وفي الحديث حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يضرب الأمثال بالمعاني المعقولة بأشياء محسوسة لأن إدراك المحسوس أقرب من إدراك المعقول وما أكثر الأمثال في القرآن {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة} هذا مثل لو جاء الكلام هكذا: من أنفق في سبيل الله حبة فله سبعمائة حبة لم يرسخ في الذهن كرسوخ المثل فالمثل الذي يستحضره الإنسان يرسخ قال الله تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} فضرب الأمثال تقريب للعلم وترسيخ له وإعانة على الفهم لهذا ينبغي لك إذا حدثت عاميا ولم يفهم أن تضرب له مثلا اضرب له المثل بشيء يعقله ويعرفه حتى يعرف المعاني المعقولة بواسطة الأشياء المحسوسة والله الموفق.
1379 - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم متفق عليه.
1380 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن & بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا(5/429)
فليتبوأ مقعده من النار رواه البخاري.
[الشَّرْحُ]
ساق الإمام النووي في كتابه رياض الصالحين أحاديث في بيان فضل العلم ومنها حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب حين أعطاه الراية يوم خيبر قال: امض على رسلك ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه فوالله لئن يهدي بك الله رجلا واحدا خير لك من حمر النعم أقسم صلى الله عليه وسلم أن الله لو هدي به رجلا واحدا لكان خيرا له & من حمر النعم والحمر بسكون الميم جمع حمراء وأما الحمر بضم الميم فهي جمع حمار ولهذا يخطئ بعض الطلبة فيقول: خير لك من حمر هذا غلط لأن الحمر جمع حمار كما قال الله تعالى: كأنهم حمر مستنفرة أما حمر بسكون الميم فهي جمع حمراء وكذلك جمع أحمر لكن هنا جمع حمراء وهي الناقة الحمراء وكانت أعجب المال إلى العرب في ذلك الزمان وأحب المال إلى العرب في ذلك الزمن فإذا هدى الله بك رجلا واحدا كان ذلك خير لك من حمر النعم ففي هذا حث على العلم وعلى التعليم وعلى الدعوة إلى الله عز وجل لأنه لا يمكن أن يدعو الإنسان إلى الله إلا وهو يعلم فإذا كان يعلم ما يعلم من شريعة الله ودعا إلى ذلك كان هذا دليلا على فضل العلم.
ثم ذكر حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وعن أبيه أن(5/430)
النبي صلى الله عليه وسلم قال: بلغوا عني ولو آية بلغوا عني يعني بلغوا الناس بما أقول وبما أفعل وبجميع سنته عليه الصلاة والسلام بلغوا عني ولو آية من كتاب الله ولو هنا للتقليل يعني لا يقول الإنسان أنا لا أبلغ إلا إذا كنت عالما كبيرا لا إنما يبلغ الإنسان ولو آية بشرط أن يكون قد علمها وأنها من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا قال في آخر الحديث: ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار من كذب على الرسول متعمدا يعلم أنه كاذب فليتبوأ مقعده من النار هنا اللام للأمر لكن المراد بالأمر هنا الخبر يعني فقد تبوأ مقعده من النار والعياذ بالله أي فقد استحق أن يكون من ساكني النار لأن الكذب على الرسول ليس كالكذب على واحد من الناس الكذب على الرسول كذب على الله عز وجل ثم هو كذب على الشريعة لأن ما يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي هو من شريعة الله وكذلك يقال: الكذب على العالم ليس كالكذب على عامة الناس يعني مثلا تقول فلان كذا وكذا قال: هذا حرام هذا حلال هذا واجب هذا سنة وأنت تكذب هذا أيضا أشد من الكذب على عامة الناس لأن العلماء ورثة الأنبياء يبلغون شريعة الله إرثا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا كذبت عليهم إذ قال العالم فلان كذا وكذا وأنت تكذب فهذا إثمه عظيم نسأل الله العافية بعض الناس والعياذ بالله إذا اشتهى شيئا يكف الناس عنه قال: قال العالم فلان هذا حرام هو يكذب لكن يعرف أن الناس إذا نسب العلم إلى فلان قبلوه فيكذب وهذا أشد من الكذب على عامة الناس.(5/431)
فالحاصل أن من كذب على الرسول صلى الله عليه وسلم متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ومن نقل عمدا حديثا كذبا يعلم أنه كذب فهو أحد الكذابين يعني فليتبوأ مقعده من النار.
وما أكثر من ينشر من النشرات التي بها الترغيب أو الترهيب وهي مكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم لكن بعض المجتهدين الجهال ينشرون هذه النشرات ويوزعونها بكمية كبيرة يقولون: نعظ الناس بهذا كيف تعظونهم بشيء كذب ولهذا يجب الحذر من هذه المنشورات التي تنشر في المساجد أو تعلق على الأبواب أبواب المساجد أو غير ذلك يجب الحذر منها وربما يكون فيها أشياء مكذوبة فيكون الذي ينشرها قد تبوأ مقعده من النار إذا علم أنها كذب.
وقال في حديث عبد الله بن عمرو: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج بنو إسرائيل اليهود والنصارى إذا قالوا قولا فحدث عنهم ولا حرج عليك بشرط أن لا تعلم أنه مخالف للشريعة لأن بني إسرائيل عندهم كذب يحرفون الكلم عن مواضعه ويكذبون فإذا أخبروك بخير فلا بأس أن تحدث به بشرط أن لا يكون مخالفا لما جاء في شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن كان مخالفا له فإنه لا يجوز أن يحدث إلا إذا حدث به ليبين أنه باطل فلا حرج والله أعلم.(5/432)
1381 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ...
ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة رواه مسلم.
1382 - وعنه أيضا رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا رواه مسلم.
1383 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث الثلاثة في بيان فضل العلم وآثاره الحميدة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة سلوك الطريق يشمل الطريق الحسي الذي تقرعه الأقدام مثل أن يأتي الإنسان من بيته إلى مكان العلم سواء كان مكان العلم مسجدا أو مدرسة أو كلية أو غير ذلك ومن ذلك أيضا الرحلة في طلب العلم أن يرتحل الإنسان من بلده إلى بلد آخر يلتمس العلم فهذا سلك طريقا يلتمس فيه علما وقد رحل جابر بن عبد الله الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث واحد مسيرة شهر كامل على الرواحل على الإبل سار من بلده إلى بلد مسيرة شهر & من أجل حديث واحد رواه عبد الله بن أنيس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الثاني: فهو الطريق المعنوي وهو أن يلتمس العلم من أفواه(5/433)
العلماء ومن بطون الكتب فالذي يراجع الكتب للعثور على حكم مسألة شرعية وإن كان جالسا على كرسيه فإنه قد سلك طريقا يلتمس فيه علما ومن جلس إلى شيخ يتعلم منه فإنه قد سلك طريقا يلتمس فيه علما ولو كان جالسا فسلوك الطريق ينقسم & كما سمعتم إلى قسمين: قسم يراد به الطريق الذي تقرعه الأقدام والثاني يراد به الطريق الذي يتوصل به إلى العلم وإن كان جالسا.
من سلك هذا الطريق سهل الله له به طريقا إلى الجنة لأن العلم الشرعي تعرف به حكم ما أنزل الله تعرف به شريعة الله تعرف به أوامر الله تعرف به نواهي الله فتستدل به على الطريق الذي يرضى الله عز وجل ويوصلك إلى الجنة وكلما ازددت حرصا في سلوك الطرق الموصلة إلى العلم ازددت طرقا توصلك إلى الجنة.
وفي هذا الحديث من الترغيب في طلب العلم ما لا يخفى على أحد فينبغي للإنسان أن ينتهز الفرصة ولا سيما الشاب الذي يحفظ سريعا ويمكث في ذهنه ما حفظه ينبغي له أن يبادر الوقت يبادر العمر قبل أن يأتيه ما يشغله عن ذلك.
أما الحديث الثاني فهو أيضا عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من دعا إلى هدى فله أجر من اتبعه يعني إلى يوم القيامة من دعا إلى هدى يعني علم الناس فإن الداعي إلى الهدى هو الذي يعلم الناس ويبين لهم الحق ويرشدهم إليه فهذا له مثل أجر من فعله مثلا دللت إنسانا على أنه ينبغي له أن يوتر يجعل آخر صلاته في الليل وترا كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال:(5/434)
اجعلوا آخر صلاتكم في الليل وترا وحثثت على الوتر ورغبت فيه فأوتر أحد من الناس بناء على كلامك وعلى توجيهك فلك مثل أجره لك علم بذلك آخر منك أو من الذي علمته أنت فلك مثل أجره وإن تسلسلوا إلى يوم القيامة.
وفي هذا دليل على كثرة أجور النبي صلى الله عليه وسلم لأنه دل الأمة على الهدى فكل من عمل من هذه الأمة بهدي فللنبي صلى الله عليه وسلم أجره من غير أن ينقص من أجورهم شيء الأجر تام للفاعل والداعي وإذا تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم له أجر ما عملته أمته تبين بذلك خطأ من يهدي ثواب العبادة للرسول صلى الله عليه وسلم يعني مثلا بعض الناس اجتهد وصار يصلي ركعتين ويقول اللهم اجعل ثوابها للرسول يقرأ قرآنا ويقول: اللهم اجعل ثوابه للرسول هذا غلط وأول ما حدث هذا في القرن الرابع الهجري يعني بعد ثلاثمائة سنة من موت الرسول يستحسن بعض العلماء أنه يفعل هذا قال كما أهدي لأبي وأمي صدقة أو صلاة أو ذكر أهديه للرسول صلى الله عليه وسلم نقول: هذا خطأ غلط سفه في التصور وضلال في الدين كيف نسأله ونقول هل أنت أعظم حبا للرسول من أبي بكر فيقول لا أعظم من عمر لا أعظم من عثمان لا أعظم من علي لا أعظم من ابن عباس ابن مسعود الصحابة(5/435)
لا هل أحد منهم أهدى للرسول عملا صالحا أبدا وكذلك التابعون والأئمة الإمام أحمد بن حنبل الشافعي مالك أبو حنيفة ما فعلوا هذا ما الذي أطلعك على شيء لم يعملوا به أو لم يعملوا به من أنت فهو خطأ في التصور وضلال في الدين لأن أي عمل تعمله ولو كان ثوابه لك فللرسول صلى الله عليه وسلم مثله وإن لم تقل شيئا أي عمل لو تصلي ركعتين أجرهما لك وللرسول مثله من غير أن ينقص من أجرك شيئا إذا ما الفائدة لا يعني إرجاعك القرب للرسول إلا أنك حرمت نفسك من الأجر فقط وللرسول صلى الله عليه وسلم مثل أجرك & سواء أهديت له أو لم تهد لأنه يقول صلى الله عليه وسلم من دعا إلى هدى فله أجر من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيء فلا حاجة.
إذا نأخذ من هذا الحديث فضيلة العلم لأن العلم به الدلالة على الهدى والحث على التقوى فالعلم أفضل بكثير من المال حتى لو تصدق بأموال عظيمة طائلة فالعلم ونشر العلم أفضل واضرب لكم مثلا الآن في عهد أبي هريرة خلفاء ملوك ملكوا الدنيا وفي عهد الإمام أحمد أغنياء ملكوا أموالا عظيمة وتصدقوا وأوقفوا في عهد من بعدهم كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أناس أغنياء تصدقوا وأنفقوا وأوقفوا أين ذهب المال أين ذهب ما أنفقوه أين ذهب ما وقفوه راح لا يوجد له أثر الآن لكن أحاديث أبي هريرة تتلى في كل وقت ليلا ونهارا ويأتيه أجرها الأئمة أيضا علمهم وفقهم منشور بين الأمة يأتيهم الأجر وهكذا شيخ الإسلام(5/436)
ابن تيمية وابن القيم وغيرهم من العلماء ماتوا لكن ذكرهم حي باق يعلمون الناس وهم في قبورهم ينالهم الأجر وهم في قبورهم وهذا يدل على أن العلم أفضل بكثير من المال وأنفع للإنسان وسيأتي إن شاء الله في حديث أبي هريرة الذي ذكره المؤلف إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له والله الموفق.
1383 - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
ساق المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب فضل العلم تعلما وتعليما لله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له وهذا الحديث فيه الحث أعني حث الإنسان على المبادرة بالأعمال الصالحة لأنه لا يدري متى يفاجئه الموت فليبادر قبل أن ينقطع العمل بالعمل الصالح الذي يزداد به رفعة عند الله سبحانه وتعالى وثوابا ومن المعلوم أن كل واحد منا لا يعلم متى يموت ولا يعلم أين يموت كما قال الله تعالى: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض(5/437)
تموت فإذا كان الأمر كذلك فإن العاقل ينتهز الفرص فرص العمر في طاعة الله عز وجل قبل أن يأتيه الموت ولم يستعتب ولم يتب وقولنا انقطع عمله يشمل كل عمل لا يكتب له ولا عليه إذا مات لأنه انتقل إلى دار الجزاء دار العمل هي دار الدنيا أما بعد ذلك فالدور كلها دور جزاء إلا من ثلاث: صدقة جارية يعني أن يتصدق الإنسان بشيء ويستمر هذا الشيء وأحسن ما يكون المساجد بناء المساجد صدقة جارية لأن أجر الباني مستمر مادام هذا المسجد قائما ليلا ونهارا والمسلمون يمكثون في المساجد في صلاتهم وقراءتهم وتعلمهم العلم وتعليمهم العلم وغير ذلك ومن الصدقات الجارية أن يوقف الإنسان وقفا من عقار أو بستان أو نحوه على الفقراء والمساكين أو على & طلبة العلم أو على المجاهدين في سبيل الله أو ما أشبه ذلك ومن الصدقات الجارية أن يطبع الإنسان كتبا نافعة للمسلمين يقرءون فيها وينتفعون بها سواء كانت من مؤلفين في عصره أو من مؤلفين سابقين المهم أن تكون كتبا نافعة بنتفع بها المسلمون من بعده ومن الصدقات الجارية إصلاح الطرق فإن الإنسان إذا أصلح الطرق وأزال عنها الأذى واستمر الناس ينتفعون بهذا فإن ذلك من الصدقات الجارية والقاعدة في الصدقة الجارية كل عمل صالح يستمر للإنسان بعد موته.(5/438)
أما الثاني فعلم ينتفع به وهذا أعمها وأشملها وأنفعها أن يترك الإنسان وراءه علما ينتفع المسلمون به سواء ورث من بعده بالتعليم الشفوي أو بالكتابة فتأليف الكتب وتعليم الناس وتداول الناس لهذه المعلومات مادام مستمرا فأجر المعلم جاز مستمر لأن الناس ينتفعون بهذا العلم الذي ورثه.
والثالث ولد صالح يدعو له ولد يشمل ذكر وأنثى يعني ابن أو بنت يشمل ابنك لصلبك وابنتك لصلبك وأبناء أبنائك وأبناء بناتك وبنات أبنائك وبنات بناتك إلى آخره ولد صالح يدعو للإنسان بعد موته هذا أيضا يثاب عليه الإنسان وانظر كيف قال الرسول صلى الله عليه وسلم ولد صالح يدعو له ولم يقل: ولد صالح يصلي له أو يقرأ له القرآن أو يتصدق عنه أو يصم عنه لا ما قال هذا مع أن هذه كلها أعمال صالحة بل قال: ولد صالح يدعو له وفي هذا دليل على أن الدعاء لأبيه وأمه وجده وجدته أفضل من الصدقة عنهم وأفضل من الصلاة لهم وأفضل من الصيام لهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يدل أمته إلا على خير ما يعلمه لهم ما من نبي بعثه الله إلا & دل أمته على خير ما يعلمه لهم فلو علم الرسول صلى الله عليه وسلم أن كونك تتصدق عن أبيك وأمك أفضل من الدعاء لقال في الصدقة ما قال الدعاء فلما عدل عن الصدقات والصيام والصلاة وقراءة القرآن والمقام مقام تحدث عن الأعمال لما عدل عن هذه الأعمال إلى الدعاء علمنا يقينا لا إشكال فيه أن الدعاء أفضل من ذلك فلو سألنا سائل: أيهما أفضل أتصدق لأبي أو ادعو له قلنا الدعاء أفضل لأن رسول الله(5/439)
هكذا أرشدنا فقال: أو ولد صالح يدعو له والعجيب أن العوام وأشباه العوام يظنون أن الإنسان إذا تصدق عن أبيه أو صام يوما لأبيه أو قرأ حزبا من القرآن لأبيه أو ما أشبه ذلك يرون أنه أفضل من الدعاء ومصدر هذا هو الجهل وإلا فمن تدبر النصوص علم أن الدعاء أفضل ولهذا لم يرشد النبي صلى الله عليه وسلم في أي حديث بحرف واحد إلى العمل الصالح يجعله الإنسان لوالده أبدا قال الإمام مالك أنه حصلت قضايا أعيان يسأله الصحابة هل يتصدقوا عن أبيه وهو ميت وعن أمه وهي ميتة فيقول: نعم لا بأس لكنه لم يحث الأمة على ذلك ولم يرشدهم إلى هذا لكن سئل في قضايا أعيان سعد بن عبادة رضي الله عنه سأله هل يتصدق بحائطه يعني ببستانه عن أمه بعد موتها قال الرسول: نعم وجاءه رجل قال: يا رسول الله إن أمي أفتلتت نفسها يعني ماتت بغتة أفأتصدق عنها قال: نعم لكن ما أراد أن يشرع تشريعا عاما للأمة قال: أو ولد صالح يدعو له نسأل الله أن يغفر لنا ولكم ولوالدينا وللمسلمين جميعا.
1388 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من سلك طريقا يبتغي فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم(5/440)
يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر رواه أبو داود والترمذي.
[الشَّرْحُ]
ساق المؤلف رحمه الله في باب فضل العلم تعلما وتعليما لله حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من سلك طريقا يبتغي فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة وقد سبق بيان معنى هذه الجملة وفيه أيضا من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن العالم ليستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في البحر وهذا يدل على فضل العلم وأن العلماء يستغفر لهم أهل السماء والأرض وحتى الحيتان في البحر وحتى الدواب في البر كل شيء يستغفر له & ولا تستغرب أن تكون هذه الحيوانات تستغفر الله عز وجل للعالم لأن الله سبحانه وتعالى قال في القرآن الكريم على لسان موسى عليه الصلاة والسلام ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى فالبهائم والحشرات تعلم ربها عز وجل وتعرفه {تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} كل شيء يسبح بحمد الله حتى إن الحصى سمع تسبيحه بين يدي النبي(5/441)
وهو حصى لأن الله تعالى رب كل شيء ومليكه حتى إن الله قال للسماوات والأرض {ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} فخاطبهما {ائتيا طوعا أو كرها} يعني لما أمر كما به قالتا أتينا طائعين فكل شيء يمتثل أمر الله عز وجل إلا الكفرة من بني آدم والجن ولهذا قال الله عز وجل في كتابه العزيز بين أن كثيرا من الناس يسجد لله عز وجل وكثيرا حق عليه العذاب {ألم ترى أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب} ما يسجد ولهذا الكافر لا يستجيب لله لا يسجد لله شرعا وتعبدا لكنه يسجد لله ذلا قدريا ما له مفر عما قضى الله كما قال الله تعالى {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها} والسجود هنا السجود القدري فكل أحد خاضع لقدر الله ما أحد يستطيع أن يغالب الله عز وجل أين المفر يقول الشاعر
أين المفر والإله الطالب ...
والأشرم المغلوب ليس الغالب
فالسجود الشرعي كثير من الناس حق عليهم العذاب فلم يسجدوا على أن الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب كلها يسجد لله عز وجل لكن الكفرة من بني آدم ومن الجن لا يسجدون لله تعالى إلا السجود(5/442)
الكوني القدري {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها} المهم أن الله تعالى سخر هذه الكائنات تستغفر للعالم وأفضل من ذلك أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع.
الملائكة الكرام الذين كرمهم الله عز وجل تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع أترون فضلا أعظم من هذا أن الملائكة ملائكة الله عز وجل تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع هذا فضل عظيم وبين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي الدرداء أن العلماء ورثة الأنبياء لو سألت من الذي يرث الأنبياء العباد الذين يركعون ويسجدون ليلا ونهارا لا أقارب الأنبياء لا لا يرث الأنبياء إلا العلماء اللهم اجعلنا منهم العلماء هم ورثة الأنبياء ورثوا العلم من الأنبياء وورثوا العمل كما يعمل الأنبياء وورثوا الدعوة إلى الله عز وجل وورثوا هداية الخلق ودلالتهم على شريعة الله فالعلماء هم ورثة الأنبياء الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا توفي النبي صلى الله عليه وسلم عن ابنته فاطمة وعن عمه العباس وعن أبناء عمه وعن زوجاته ولم ترثه ابنته ولا زوجاته ولا عصبته لأن الأنبياء لا يورثون درهما ولا دينارا وهذا من حكمة الله عز وجل أنهم لا يورثون لئلا يقول قائل إن النبي إنما ادعى النبوة لأجل أن يملك فيورثوا فيرثه أقاربه من ذلك فقطع هذا وقيل النبي لا يرثه ابنه وأما قول زكريا {فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب} فالمراد بذلك إرث العلم والنبوة وليس المال فالأنبياء لا يورثون(5/443)
ما ورثوا درهما ولا دينارا إنما ورثوا هذا العلم صلوات الله عليه هذا أعظم ميراث فمن أخذه أخذ بحظ وافر أي بنصيب وافر كثير من أخذ بهذا الإرث واسأل الله أن يجعلني وإياكم من آخذيه هذا هو الإرث الحقيقي النافع العلماء ورثة الأنبياء والأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا العلم.
أليس الإنسان يسعى من شرق الأرض إلى مغربها من أجل أن يحصل على مال خلفه أبوه له وهو متاع دنيا فلماذا لا نسعى من مشارق الأرض ومغاربها إلى أخذ العلم الذي هو ميراث من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جدير بنا أن نسعى بكل ما نستطيع لأخذ العلم الموروث عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولو لم يكن من فضل العلم إلا أن العالم كلما عمل شيئا فهو يشعر مع إخلاصه لله عز وجل يشعر بأن إمامه محمد صلى الله عليه وسلم لأنه يعبد الله على بصيرة عندما يتوضأ يشعر كأن الرسول أمامه يتوضأ الآن يتبعه تماما وكذلك في الصلاة وغيرها من العبادات لو لم يأتك من فضل العلم إلا هذا لكان كاف فكيف وهذا الفضل العظيم في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه فالمهم أن الإنسان الذي يمن الله عليه بالعلم فقد من الله عليه بما هو أعظم من الأموال والبنين والزوجات والقصور والمراكب وكل شيء(5/444)
اللهم ارزقنا علما نافعا & وعملا صالحا ورزقا طيبا واسعا تغننا به عن خلقك إنك على كل شيء قدير.
1389 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول نضر الله امرءا سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع رواه الترمذي.
وقال حديث حسن صحيح.
1390 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن.
[الشَّرْحُ]
ساق النووي رحمه الله في باب فضل العلم تعلما وتعليما لله أحاديث متعددة في هذا الباب سبق كثير منها ومنها حديث ابن مسعود رضي الله(5/446)
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال نضر الله امرءا سمع منا يعني مقالا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع نضر الله يعني حسنه لأن نضر بالضاد من الحسن ومنه قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ناضرة يعني حسنة إلى ربها ناظرة يعني تنظر بالعين إلى الله عز وجل جعلنا الله وإياكم منهم وكذلك أيضا قال الله تبارك وتعالى {فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا} أي حسنا وسرورا حسنا في الوجوه وسرورا في القلوب هنا يقول نضر الله امرءا سمع منا يعني مقالا فأداه كما سمعه والمراد بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للإنسان إذا سمع حديثا عن رسول الله فبلغه كما سمعه أن يحسن الله تعالى وجهه يوم القيامة.
فرب مبلغ أوعى من سامع لأنه ربما يكون الإنسان يسمع الحديث ويبلغه ويكون المبلغ أوعى من السامع يعني أفقه وأفهم وأشد عملا من الإنسان الذي سمعه وأداه وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم معلوم تجد مثلا من العلماء من هو راوية يروي الحديث يحفظه ويؤديه لكنه لا يعرف معناه فيبلغه إلى شخص آخر من العلماء يعرف المعنى ويفهمه ويستنتج من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أحكاما كثيرة فينفع الناس وقد سبق أن مثل الأول كمثل الأرض التي أمسكت الماء فروي الناس وارتووا لكنها لا تنبت وأما الأرض الرياض التي أنبتت هم الفقهاء الذين عرفوا الأحاديث وفقهوها واستنتجوا منها الأحكام الشرعية أما حديث أبي هريرة بعد هذا فقد توعد النبي صلى الله عليه وسلم من سئل عن علم(5/447)
فكتمه توعده بأن يلجم يوم القيامة بلجام من نار أي يوضع على فمه لجام من نار نسأل الله العافية لأنه كتم ما أنزل الله بعد أن سئل عنه وهذا إذا علمت أن السائل يسأل لاسترشاده فلا يجوز لك أن تمنعه أما إذا علمت أنه يسأل امتحانا وليس قصده أن يسترشد فيعلم ويعمل فأنت بالخيار إن شئت فعلمه وإن شئت فلا تعلمه لقول الله تعالى {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} لأن الله علم أن هؤلاء يأتون النبي صلى الله عليه وسلم يستحكمونه لا لأجل أن يعملوا بكلامه ولكن لينظروا ما عنده فإذا علمت أن هذا الرجل جاء يسألك عن علم امتحانا فقط لا طلبا للحق فأنت بالخيار إن شئت فافعل وأفته وعلمه وإن شئت فلا تفته ولا تعلمه كذلك إذا علمت أنه يحصل من الفتوى مفسدة كبيرة فلا بأس أن ترجئ الإفتاء لا تكتم لكن لا بأس أن ترجئ الإفتاء إلى وقت يكون فيه المصلحة لأنه أحيانا تكون الفتوى لو أفتيت بها سببا للشر والفساد فأنت إذا رأيت أنها سبب للشر والفساد وأجلت الإجابة فلا حرج عليك في ذلك والله الموفق.
1391 - وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعلم علما مما يبتغي به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة يعني ريحها رواه أبو داود بإسناد صحيح.(5/448)
[الشَّرْحُ]
من فضل العلم تعلما وتعليما لله ما ساقه المؤلف رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من طلب علما مما يبتغي به وجه الله لا يريد إلا أن ينال عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة يعني ريحها.
العلوم تنقسم إلى قسمين قسم يراد به وجه الله وهو العلوم الشرعية وما يساندها من علوم عربية وقسم آخر علم الدنيا كعلم الهندسة والبناء والميكانيكا وما أشبه ذلك فأما الثاني علم الدنيا فلا & بأس أن يطلب الإنسان به عرض الدنيا يتعلم الهندسة ليكون مهندسا يأخذ راتبا وأجرة يتعلم الميكانيكا من أجل أن يكون ميكانيكيا يعمل ويكدح وينوي الدنيا هذا لا حرج عليه أن ينوي في تعلمه الدنيا لكن لو نوى نفع المسلمين بما تعلم لكان ذلك خيرا له وينال بذلك الدين والدنيا يعني لو قال أنا أريد تعلم الهندسة من أجل أن أكفي المسلمين أن يجلبوا مهندسين كفارا مثلا لكان هذا طيبا أو يتعلم الميكانيكا من أجل أن يسد حاجة المسلمين فيما إذا احتاجوا ميكانيكيين فهذا خير وله أجر على ذلك لكن لو لم يرد إلا الدنيا فله ذلك ولا إثم(5/449)
عليه كالذي يبيع ويشتري من أجل زيادة المال أما القسم الأول الذي يتعلم شريعة الله عز وجل وما يساندها فهذا علم لا يبتغي به إلا وجه الله إذا أراد به الدنيا فإنه لا يجد ريح الجنة يوم القيامة وهذا وعيد شديد والعياذ بالله يدل على أن من قصد بتعلم الشرع شيئا من أمور الدنيا فإنه قد أتى كبيرة من كبائر الذنوب ولا يبارك له في علمه يعني مثلا قال أريد أن أتعلم من أجل أن أصرف وجوه الناس إلي حتى يحترموني ويعظموني أريد أن أتعلم حتى أكون مدرسا فآخذ راتبا وما أشبه ذلك هذا والعياذ بالله لا يجد ريح الجنة يوم القيامة وقد أشكل على هذا أو قد روع هذا بعض الذين يقرءون في المدارس النظامية كالمعاهد والكليات من أجل أن ينالوا الشهادة فيقال نيل الشهادة ليس للدنيا وحدها قد يكون للدنيا وحدها وقد يكون للآخرة فإذا قال الطالب أنا أطلب العلم لأنال الشهادة حتى أتمكن من وظائف التدريس وأنفع الناس بذلك أو حتى أكون مديرا في دائرة أوجه من فيها إلى الخير فهذا خير ونية طيبة ولا فيها إثم ولا حرج.
وذلك أنه مع الأسف في الوقت الحاضر صار المقياس في كفاءة الناس هذه الشهادات معك شهادة توظف وتولي قيادة على حسب هذه الشهادة ممكن يأتي إنسان يحمل شهادة دكتوراه فيولى التدريس في الكليات والجامعات وهو من أجهل الناس لو جاء طالب في الثانوية العامة لكان خيرا منه وهذا مشاهد يوجد الآن من يحمل شهادة دكتوراه لكنه لا يعرف من العلم شيئا أبدا إما أنه نجح بغش أو نجح نجاحا سطحيا لم يرسخ العلم في ذهنه لكن يوظف لأن معه شهادة دكتوراة يأتي إنسان طالب علم جيد هو خير للناس وخير لنفسه من هذا الدكتور ألف مرة لكن لا يوفق لا يدرس في الكليات لماذا لأنه لا يحمل شهادة دكتوراه فنظرا لأن الأحوال تغيرت وانقلبت إلى هذه المآل نقول إذا طلبت العلم من أجل أن تنال الشهادة التي تتمكن بها من تولى التدريس(5/450)
لا لأجل الدنيا لكن لأجل نفع الخلق فإن هذا لا بأس به ولا تعد قاصدا بذلك الدنيا ولا ينالك هذا الوعيد فالحمد لله إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى الحمد لله هذا ميزان انظر قلبك ماذا نوى فعلى هذا فالذي يطلب العلم في الجامعة من أجل أن ينال الشهادة نقول ما الذي تريده هل أنت تريد أن تنال الشهادة من أجل أن تكون المرتبة الفلانية وراتبك كذا وكذا إذا نعم أنا فقير أنا أريد هذا نقول خبت وخسرت ما دمت تريد الدنيا أما إذا قال لا أنا أريد أن أنفع الخلق لأن الأمور الآن لا يمكن الوصول إلى نفع الخلق بالتدريس إلا بالشهادات وأنا أريد أن أصل إلى هذا أو لا يوظف الإنسان وظيفة كبيرة يكون قائد فيها على جماعة من المسلمين إلا بالشهادة وأنا أريد هذا قلنا الحمد لله هذه نية طيبة وليس عليك شيء والأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى المهم احذر أخي طالب العلم احذر من النيات السيئة العلم الشرعي أعز وأرفع وأعلى من أن تريد به عرضا من الدنيا عرض الدنيا ما الذي تنتفع به آخر أمره أن يكون في محل القاذورات تأكل وتشرب ويذهب للمرحاض وألذ ما يتطلبه الإنسان هو الأكل والشرب في المنافع البدنية ومع ذلك نهايته المرحاض أيضا لو بقيت عندك الدنيا فلابد إما أن تفارقها أو تفارقك إما أن تفتقر وتعدم المال وإما أن تموت ويذهب المال لغيرك.
لكن أمور الآخرة تبقى فلماذا تجعل العلم الشرعي الذي هو من أجل العبادات وأفضل العبادات تجعله سلما لتنال به عرضا من الدنيا هذا سفه في العقل وضلال في الدين العلم الشرعي اجعله لله عز(5/451)
وجل ولحماية شريعة الله ورفع الجهل عن نفسك وعن إخوانك المسلمين وللدلالة على الهدى ولتنال ميراث النبي صلى الله عليه وسلم لأن العلماء ورثة الأنبياء نسأل الله أن يخلص لنا ولكم النية ويصلح العمل إنه على كل شيء قدير.
1392 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا متفق عليه
[الشَّرْحُ]
ساق المؤلف الإمام النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب فضل العلم تعلما وتعليما لله حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من صدور الرجال ففي هذا الحديث إشارة إلى أن العلم سيقبض ولا يبقى في الأرض عالم يرشد الناس إلى دين الله فتتدهور الأمة وتضل بعد ذلك ينزع منهم القرآن ينزع من الصدور ومن المصاحف كما قال أهل السنة إن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود قالوا معنى وإليه يعود أي يرجع إلى الله(5/452)
عز وجل في آخر الزمان حين يهجره الناس هجرا تاما لا يقرؤونه ولا يعملون به ونظير ذلك الكعبة المشرفة حماها الله عز وجل لما أراد أبرهة أن يهدمها وقدم إليها بفيل عظيم وجنود كبيرة حماها الله عز وجل منه وأنزل الله في ذلك سورة كاملة ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول طيور أرسلها الله عز وجل أبابيل يعني جماعات متفرقة كل واحد في منقاره وبين رجليه حجارة من سجيل يعني من طين صلب فكانت هذه الطيور بأمر الله ترسل هذه الحجارة على هؤلاء الجنود حتى أنها تضرب الرجل من رأسه وتخرج من دبره نعوذ بالله حتى جعلهم كعصف مأكول يعني كعصف الزرع الذي أكلته البهائم واختلط بعضه ببعض لكن في آخر الزمان إذا انتهك الناس حرمة هذا البيت واكثروا فيه من المعاصي وغير ذلك مما يعد امتهانا لحرمته سلط الله عليهم رجلا من الحبشة أفحج الرجلين قصير فينقضها حجرا حجرا يأتي إليها بجنود فينقضها يهدمها حجرا حجرا إذا نزع الحجر أعطاه أحد الجنود ثم التالي الذي بجنبه من مكة إلى البحر يتمادون حجارتها حتى تهدم عن آخرها فانظر كان في الأول حماها الله عز وجل من أولئك الكفرة لأنه يعلم أنه سيبعث فيها رسولا ينقل الناس من الضلال والظلم والشرك إلى الهدى والعدل والتوحيد.
لكن في آخر الزمان عندما ينتهك الناس هذه الحرمة ترفع من مكانها يسلط الله عليها بحكمته من يهدمها(5/453)
ولا أحد يقول شيء ولا أحد يعارض هذا الرجل والله عز وجل بحكمته يمكنه من ذلك كذلك القرآن الكريم ينتزع من الصدور ومن المصاحف ويرفع إلى الرب عز وجل لأنه كلامه منه بدأ وإليه يعود العلم أيضا لا ينتزع من صدور الرجال لكنه يقبض بموت العلماء يموت العلماء الذين هم علماء حقيقة ولا يبقى عالم فيتخذ الناس رؤساء يعني يتخذ الناس من يترأسهم ويستفتونه لكنهم جهال يفتون بغير علم فيضلون ويضلون والعياذ بالله وتبقى الشريعة بين هؤلاء الجهال يحكمون بها بين الناس وهم جهلة لا يعرفون فلا يبقى عالم وحينئذ لا يوجد الإسلام الحقيقي الذي يكون مبنيا على الكتاب والسنة لأن أهله قد قبضوا وفي هذا الحديث حث على طلب العلم لأن الرسول أخبرنا بهذا لأجل أن نتحاشى ونتدارك هذا الأمر ونطلب العلم وليس المعنى أنه أخبرنا لنستسلم فقط لا من أجل أن نحرص على طلب العلم حتى لا نصل إلى الحال التي وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم والإخبار بالواقع لا يعني إقراره يعني إذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء ليس معناه أنه يقره ويسمح فيه كما أخبر عليه الصلاة والسلام وأقسم قال لتركبن سنن من كان قبلكم يعني لتركبن طرق من كان قبلكم قالوا اليهود والنصارى قال نعم اليهود والنصارى فأخبر أن هذه الأمة سوف ترتكب ما كان عليه اليهود والنصارى إخبار تحذير لا إخبار تقرير وإباحة فيجب أن نعلم الفرق بين ما يخبر به الرسول مقررا له ومثبتا له(5/454)
وما يخبر به محذرا عنه فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن العلماء سيموتون ويعني ذلك أن نحرص حتى ندرك هذا الوقت الذي يموت به العلماء ولا يبقى إلا هؤلاء الرؤساء الجهال الذين يفتون بغير علم فيضلون بأنفسهم ويضلون غيرهم اللهم إنا نسألك علما نافعا وعملا صالحا ورزقا طيبا واسعا.(5/455)
كتاب حمد الله تعالى وشكره
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب حمد الله وشكره حمد الله يعني وصفه بالمحامد والكمالات وتنزيهه عن كل ما ينافي ذلك ويضاده فهو سبحانه وتعالى أهل الحمد يحمد على جميل إحسانه وعلى كمال صفاته جل وعلا مع المحبة والتعظيم وقد حمد الله نفسه في ابتداء خلقه فقال الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور وحمد نفسه حين أنزل على عبده الكتاب فقال {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا} وحمد نفسه على تنزيهه عن الشريك والند فقال {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا} وحمد نفسه جل وعلا عند انتهاء الخلق فقال سبحانه وتعالى {وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} فهو جل وعلا محمود في ابتداء الخلق وانتهاء الخلق واستمرار الخلق ومحمود على ما أنزل على عبده من الشرائع محمود على كل حال ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه ما يسره قال الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وإذا أتاه ما يخالف ذلك(5/456)
قال الحمد لله على كل حال وما يقوله بعض الناس اليوم الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه فهو خطأ غلط لأنك إذا قلت الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه فهو عنوان على إنك كاره لما قدره عليك ولكن قل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله على كل حال هذا هو الصواب وهو السنة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد حمد الله نفسه وأمر بحمده فقال الله تعالى {قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى} فأمرنا أن نحمده جل وعلا بل جعل حمدنا إياه من أركان الصلاة لا تتم الصلاة إلا به فالفاتحة أولها {الحمد لله رب العالمين} لو أسقطت هذه الآية من الفاتحة ما صحت صلاتك فحمد الله تعالى واجب على كل إنسان وكذلك الشكر الشكر على إنعامه كم أنعم عليك من نعمة عقل سلامة بدن مال أهل أمن نعم لا تحصى {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} لو لم يكن من نعمته عليك إلا هذا النفس الذي لو منعته لفقدت الحياة مع أنه يخرج بدون أن كلفة وبدون أن تتعب له وانظر الذين ابتلوا بضيق النفس كيف يتكلفون عند إدخال النفس وإخراجه وهذا النفس مستمر دائم نعمة لا تحصى أبدا العقل الأولاد المال الدين كل هذه نعم عظيمة يستحق جل وعلا أن يشكر عليها والشكر قال أهل العلم هو القيام بطاعة المنعم هذا الشكر أن تقوم بطاعة المنعم ولاسيما(5/457)
جنس هذه النعمة فإذا أنعم الله عليك بمال فليكن عليك أثر هذا المال في لباسك في بيتك في مركوبك في صدقاتك في نفقاتك ليرى أثر نعمة الله عليك في هذا المال في العلم إذا أنعم الله عليك بعلم فليرى عليك أثر هذا العلم من نشره بين الناس تعليمه الناس والدعوة إلى الله عز وجل وغير ذلك فالشكر يكون من جنس النعمة التي أنعم الله بها عليك أو بأعم.
إذا فمن عصى الله فإنه لم يقم بشكر نعمة الله كافر بنعمة الله والعياذ بالله قال الله تعالى {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار} فالعاصي لم يقم بشكر نعمة الله عز وجل وينقص من شكره بقدر ما أتى من المعصية حتى لو قال الإنسان بلسانه اشكر الله الشكر لله وهو يعصي الله فإنه لم يصدق فيما قال الشكر القيام بطاعة المنعم والشكر له فائدتان عظيمتان منها الاعتراف بالله تعالى في حقه وفضله وإحسانه ومنها أنه سبب لمزيد النعمة كلما شكرت زادت نعم الله عليك قال الله تعالى {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} إذا شكر الإنسان زاده الله وإذا كفر عرض نفسه لعذاب الله وعذاب الله تعالى شديد وقال الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله} واشكروا الله تعالى على هذه النعمة التي أنعمها عليكم وسهل لكم الوصول إليها فوصلت إليكم من غير حول ولا قوة هذه الطيبات التي(5/458)
نأكلها لو شاء الله تعالى لم نقدر عليها إما لعسر فينا وإما لفقد لهذه النعم قال الله تعالى {أفرأيتم ما تحرثون ءأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون أفرأيتم الماء الذي تشربون ءأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون أفرأيتم النار التي تورون ءأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين} .
فالمهم أن علينا أن نشكر نعمة الله ويكون الشكر من جنس النعمة فتبذل من العلم والمال بحسب ما أعطاك الله عز وجل الصحة أنت أعطاك الله صحة ونشاطا واحتاج إخوانك إلى المساعدة والمعاونة فمن شكر النعمة أن تعينهم والله الموفق.
قال الله تعالى {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون} وقال تعالى {لئن شكرتم لأزيدنكم} وقال تعالى {وقل الحمد لله} وقال تعالى {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}
قال المؤلف النووي - رحمه الله - في كتابه رياض الصالحين باب حمد الله وشكره وقد سبق الكلام على هذا ولكننا لم نتكلم على الآية الأولى وهي قوله تبارك وتعالى {فاذكروني اذكركم واشكروا لي ولا تكفرون}(5/459)
فاعلم أن ذكر الله عز وجل هو ذكر القلب وأما ذكر اللسان مجردا عن ذكر القلب فإنه ناقص ويدل لهذا قوله عز وجل {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه} ولم يقل من أمسكنا لسانه عن ذكرنا قال من أغفلنا قلبه عن ذكرنا فالذكر النافع هو ذكر القلب وذكر القلب يكون في كل شيء يعني معنى ذلك أن الإنسان وهو يمشي وهو قاعد وهو مضجع إذا تفكر في آيات الله عز وجل فهذا من ذكر الله ومن ذكر الله أيضا ما جاء في السنة مثل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وسبحان الله وما أشبه ذلك.
ومن ذكر الله أيضا الصلاة فإنها من ذكر الله قال الله تبارك وتعالى {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} قال بعض العلماء المعني ولنا فيها من ذكر الله أكبر فعلى كل حال ينبغي للإنسان عند ذكر الله باللسان أن يكون ذاكرا لله بقلبه حتى يتطابق القلب واللسان وتحصل الفائدة لأن مجرد الذكر باللسان ينفع الإنسان ولكنه ناقص لكن الذكر بالقلب هو الأصلي والمهم وأعلم أن الله تعالى يقول {فاذكروني أذكركم} وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قال من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم يعني الإنسان إذا(5/460)
ذكر الله في نفسه وليس حوله أحد ذكره الله في نفسه وإن ذكر الله وحوله ملأ يعني في جماعة ذكره الله في ملأ خير منهم وهذا يدل على فضيلة الذكر أن الله تعالى التزم بأن من ذكره في نفسه ذكره في نفسه ومن ذكره في ملأ ذكره في ملأ خير منهم وقال {واشكروا لي ولا تكفرون} وقد سبق معنى الشكر ومعنى الكفران ويأتي إن شاء الله بقية الكلام على هذا الباب في الأحاديث القادمة.
1393 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي ليلة أسري به بقدحين من خمر ولبن فنظر إليهما فأخذ اللبن فقال جبريل صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي هداك للفطرة لو أخذت الخمر غوت أمتك رواه مسلم
1394 - وعنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع حديث حسن رواه أبو داود وغيره.
1395 - وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذ مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته قبضتم ولد عبدي فيقولون نعم فيقول قبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول فماذا قال عبدي فيقولون حمدك واسترجع فيقول الله تعالى ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت(5/461)
الحمد رواه الترمذي وقال حديث حسن.
1396 - وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث ذكرها المؤلف رحمه الله في باب & حمد الله وشكره ومن المعلوم لنا جميعا أن كل ما بنا من نعمة فمن الله عز وجل وأنه إذا مسنا الضر فليس لنا ملجأ إلا إلى الله وأن الإنسان إذا أصيب بما يكره أو بما يؤذيه فإن الله تعالى يكفر بذلك عنه ما من أذى أو هم أو غم يصيب المؤمن إلا كفر الله بذلك عنه حتى الشوكة يشاكها الشوكة إذا شكتك فإن الله يكفر بها عنك إذا فنعم الله عظيمة كثيرة لا تعد ولا تحصى لذلك يجب علينا أن نحمد الله تعالى وأن نشكره على نعمه التي أصبغها علينا ومن فوائد الحمد أن الإنسان إذا ابتدأ الشيء بحمد الله فإن الله تعالى يجعل فيه البركة إذا ابتدأه بحمد الله جعل الله فيه البركة يعني أراد أن يؤلف كتابا أو يتكلم في كلام خطبة أو غير ذلك إذا حمد الله جعل الله فيه البركة وكل أمر لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع يعني منزوع البركة لكن قد ينوب عن الحمد غيره كالبسملة(5/462)
مثلا البسملة أيضا يبارك الله فيها بأشياء كثيرة منها أن الإنسان إذا ذبح الذبيحة إن قال بسم الله حلت الذبيحة وكانت طيبة وإن قال الحمد لله لم تحل الذبيحة لأن الذبيحة لا تحل إلا بالبسملة وإذا قال عند الذبح الله أكبر ولم يقل بسم الله لم تحل الذبيحة فكل أمر يبدأ فيه بالحمد لله فهو خير وبركة لكن قد ينوب عن الحمد ما سواه كالبسملة عند الأكل والشرب والذبح والوضوء وإتيان الرجل أهله يقول بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا وغير ذلك ومن فوائد الحمد أن الله سبحانه وتعالى يرضى عن العبد إذا أكل الأكلة أن يحمده عليها وإذا شرب الشربة أن يحمده عليها فما هي الأكلة هل هي الوجبة أو كل ردة يردها الإنسان إلى فمه فهي أكلة الحديث محتمل وكان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كل ما أكل ردة قال الحمد لله فقيل له يا أبا عبد الله ما هذا قال أكل وحمد خير من أكل وسكوت وكأن الإمام أحمد رحمه الله رأى أن الأكلة هي الردة وعلى هذا يكون حمد الإنسان على طعامه كثيرا لكن أكثر العلماء يقولون أن الأكلة هي الوجبة تجلس على الطعام وإذا خلصت تقول الحمد لله والحمد كله خير فهذه من فوائد الحمد أنه إذا حمد الإنسان على أكله وشربه كان ذلك سببا لرضا الله عز وجل عنه نسأل الله أن يحل(5/463)
علينا وعليكم الرضا إنه على كل شيء قدير.(5/464)
/0L2 باب الأمر بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال الله تعالى {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنو صلوا عليه وسلموا تسليما} .
1397 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم الأمر يكون تارة للوجوب وتارة يكون للاستحباب فالذي للوجوب يعني أن الإنسان إذا تركه فهو آثم عاص مستحق للعقوبة ومعنى للاستحباب أن الإنسان إذا فعله فله أجر وإذا تركه فليس عليه إثم فيتفق الواجب والمستحب بأن فيهما ثوابا لفعلهما لكن ثواب الواجب أعظم وأكثر لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي أن الله تعالى قال ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضه عليه ويختلف الواجب عن المستحب بأن تارك الواجب آثم عاص لله ومستحق للعقوبة وتارك المستحب لا يأثم لكن فاته خير والأمر(5/465)
بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أطلقه المؤلف رحمه الله فاختلف العلماء رحمهم الله هل تجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في العمر مرة أو بأسباب أو لا تجب والصحيح أنها تجب بأسباب وإلا فالأصل أنها مستحبة فما معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أي ما معنى قول القائل اللهم صل على محمد أكثر الناس يقرأ هذا أو يدعو بهذا الدعاء وهو لا يدري معناه وهذا غلط كل شيء تقوله تعرف معناه كل شيء تدعو به تعرف معناه حتى لا تدعو بإثم فقولك اللهم صل على محمد يعني اللهم اثني عليه في الملأ الأعلى ومعنى أثني عليه يعني اذكره بالصفات الحميدة والملأ الأعلى هم الملائكة فكأنك إذا قلت اللهم صل على محمد كأنك تقول يا رب صفه بالصفات الحميدة واذكره عند الملائكة حتى تزداد محبتهم له ويزداد ثوابهم بذلك هذا معنى اللهم صلى على محمد.
واختلف العلماء رحمهم الله هل يصلى على غير النبي أم لا يعني هل يجوز أن تقول اللهم صل على فلان العالم الفلاني أو الشيخ الفلاني أو اللهم صل على أبي أو ما أشبه ذلك؟ والصحيح أن في ذلك تفصيلا فإن كان ذلك تابعا للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فلا بأس ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم حين سألوه كيف يصلون عليه قال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وإن كان مستقلا فإن كان لسبب فلا بأس(5/466)
ومن ذلك إذا أتى الإنسان إليك بصدقته لتوزعها فقل اللهم صل عليه واحد أعطاك مائتي ألف ريال يقول هذه للزكاة وزعها فقل اللهم صل على فلان ويسمع يسمع هذا منك لقول الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم قال عبد الله بن أبي أوفى فأتيت بصدقتي أو قال أتاه أبي فقال اللهم صل على آل أبي أوفى هذا أيضا لا بأس كذلك إذا صليت على إنسان دون أن تجعل ذلك شعارا له كلما ذكرته صليت عليه فلا بأس يعني حتى لو قلنا اللهم صل على أبي بكر أو على عمر أو على علي عثمان أو علي فلا بأس ولكن لا تجعل هذا شعار كلما ذكرت هذا صليت عليه لأنك إذا فعلت ذلك جعلته كأنه نبي.
ثم صدر المؤلف هذا الباب بالآية الكريمة {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} فتأمل ما في هذه الآية من خبر وأمر وتأكيد إن الله وملائكته يصلون على النبي هذا خبر أخبرنا الله بذلك حثا لنا على الصلاة والسلام عليه الله وملائكته كل الملائكة في كل السماوات والأرض يصلون على النبي والملائكة عالم الغيب من مخلوقات الله لا يحصيهم إلا الله عز وجل البيت المعمور في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك كل يوم ثم لا يعودون إليه يعني يجيء ملائكة غيرهم إذن(5/467)
من الذي يحصيهم ما يحصيهم إلا الله وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أطت السماء وحق لها أن تئط والأطيط هو أصوات الإبل ولا يصر إلا إذا كان عليه حمل ثقيل تسمع له صرخة ويقول وحق لها أن تئط ما من موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع أو ساجد.
والسماء ليست كالأرض السماء أوسع بكثير بكثير من الأرض انظر الآن بعدها الشاسع وهي على الأرض كالكرة فتكون دائرتها واسعة عظيمة والسماء الثانية أوسع والثالثة أوسع والرابعة أوسع والخامسة أوسع والسابعة أوسع كل سماء في ملك بين أربعة أصابع في ملك قائم لله راكع ساجد إذا من الذي يحصي الملائكة إذا كنا لا نحصي الملائكة فهل يمكن أن نحصي الصلاة على الرسول لا لأن الملائكة يصلون على النبي فلا تحصى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم انظر فضل الله واسع أعطى الله هذا الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه الله هذه الفضيلة العظيمة التي لا ينالها أحد فيما نعلم {إن الله وملائكته يصلون على النبي} هذا خبر أراد الله منا أن نتشجع ولهذا قال بعدها {يا أيها الذين آمنوا} بمقتضى إيمانكم صلوا عليه وجه الخطاب لنا بصدد الإيمان لأن الإيمان هو الذي يحمل الإنسان(5/468)
على امتثال الأمر {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} الصلاة والسلام {صلوا عليه} أي ادعوا الله أن يثني عليه في الملأ الأعلى {وسلموا تسليما} أي ادعوا الله أن يسلمه تسليما تاما ومما يسلمه في حياته يسلمه من الآفات الجسدية والآفات المعنوية وبعد موته من الآفات المعنوية بمعنى أن تسلم شريعته من أن يقضى عليها قاض أو ينسخها ناسخ وكذلك الجسد لأنه ربما يعتدي عليه بعد موته في قبره كما يأتي في قصة مشهورة أن رجلين أرادا أن يستخرجا جسد النبي صلى الله عليه وسلم فنزل المدينة رجلان غريبان نزلا المدينة وبدءا يحفران من تحت الأرض حفرة يحفران من تحت الأرض حتى يتوصلا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيأخذا جسده الشريف فبقيا على ذلك مدة فأريا أحد الملوك في المنام أن رجلين يحفران ليصلا إلى جسد النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذاه فاهتم بذلك اهتماما عظيما ثم ارتحل إلى المدينة ارتحل إلى المدينة وصل المدينة فمن أين يعلم هذين الرجلين كيف يتوصل إلى معرفتهما فقال لأمير المدينة ادع لي جميع أهل المدينة لأنه في المنام إما وصفا له أو رآهما في المنام وعرفهما فقال ادع لي أهل المدينة فدعاهم أطعمهم ومشوا ما رأى الرجلين فقال ادع لي أهل المدينة دعاهم أظن مرتين أو ثلاث ولم ير الرجلين والرؤيا التي رآها حق لابد أن يكون هذا قال أين أهل المدينة قالوا ما في أحد في رجلين غريبين في المسجد يعني ليس لهما قيمة قال أحضرهما فجيء بهما فإذا هما اللذان رآهما في المنام فعرفهما ثم أمر بأن يحفر حفرة على جوانب الحجرة التي فيها قبر النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تكون(5/469)
حجرة بالبناء ثم صبها بالنحاس والرصاص والرخام حتى يحمي الله جسد هذا النبي الكريم فصب الرصاص إلى الأرض ولهذا قبر النبي صلى الله عليه وسلم محفوظ حفظا تاما فالمهم أن قول المسلم اللهم صل وسلم على محمد يعني سلمه من الآفات الجسدية حيا وميتا وسلمه أيضا سلم شريعته من أن يطمسها أحد أو أن يعدو عليها أحد ثم اعلموا أيها الإخوان أن أجساد الأنبياء لا يمكن أن تأكلها الأرض لا يمكن لأن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء إذن فأجساد الأنبياء سالمة من الأرض الأرض التي تأكل كل جسد إلا من شاء الله لا تأكل أجساد الأنبياء والحاصل أن في هذه الآية الكريمة أمر الله تعالى أن نصلي ونسلم عليه تسليما والصلاة عليه واجبة في مواضع منها إذا ذكر اسمه عندك فصل عليه لأن جبريل أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك رغم أنف معني رغم يعني سقط في الرغامة الرغامة هي الأرض الترابية رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك يعني إذا سمعت ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فقل اللهم صل وسلم عليه فإن له حق عليك تجب الصلاة على النبي أيضا عند كثير من العلماء في الصلاة في التشهد(5/470)
الأخير فعند كثير من العلماء أنها ركن لا تصح الصلاة إلا به وعند بعضهم أنها سنة وعند بعضهم أنها واجب والاحتياط أن لا يدعها الإنسان في صلاته أي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولو أن الإنسان جعل كل دعاء يدعو به مقرونا بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لكان كما جاء في الحديث يكفى همه ويغفر ذنبه.
ولهذا أكثر يا أخي من الصلاة والسلام على الرسول ليزداد إيمانك ويسهل لك الأمر ثم اعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر لا يملك النفع لك ولا الضر فلا تسأله لا تقول يا رسول الله افعل كذا يا رسول الله استغفر لي يا رسول الله أغثني يا رسول الله سهل أمري هذا حرام شرك أكبر لأنه لا يجوز أن تدعو مع الله أحدا الدعاء خاص بمن بالله قال تعالى {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} فإن قال قائل أيما أعظم حقا الوالدان يعني الأم والأب أم الرسول؟ الرسول أعظم من حق نفسك عليك ولهذا يجب على الإنسان أن يفدي نفسه للرسول(5/471)
يجب على كل إنسان وأن يكون الرسول أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين فإن قال قائل أليس الله يذكر حق الوالدين بعد حقه قلنا بلى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إيه وبالوالدين إحسانا} ولكن حق الرسول متبوع بحق الله لأن عبادة الله لا تتم إلا بالإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والله الموفق.
قال الله تعالى {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} .
1397 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا رواه مسلم.(5/472)
1398 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة رواه الترمذي وقال حديث حسن.
1399 - وعن أوس بن أوس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي فقالوا يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت يقول بليت قال إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء رواه أبو داود بإسناد صحيح.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث الثلاثة في بيان فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم لنا معنى الصلاة عليه فالحديث الأول عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من صلى علي مرة واحدة صلى الله عليه بها عشرة يعني إذا قلت اللهم صل على محمد صلى الله عليك بها عشر مرات فأثنى الله عليك في الملأ الأعلى عشر مرات وهذا يدل على فضيلة الصلاة على فضيلة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل على علو مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله حيث جازى من صلى عليه بعشر أمثال عمله يصلي الله عليه عشر مرات.(5/475)
وأما الحديث الثاني فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أولى الناس به أكثرهم صلاة عليه أولى الناس به يوم القيامة وأقربهم منه من صلى عليه عليه الصلاة والسلام أكثرهم صلاة على النبي هو أولى الناس به يوم القيامة وهذا أيضا يدل على الترغيب في كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الحديث الثالث فهو حديث أوس بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن نكثر من الصلاة عليه يوم الجمعة وأخبر بأن صلاتنا معروضة عليه تعرض عليه فيقال صلى عليك فلان بن فلان أو تعرض عليه يقال صلى عليك رجل من أمتك الله أعلم هل يعين المصلي أم لا المهم أنها تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله كيف تعرض عليك وقد أرمت أو أرمت أي بليت فقال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام مهما بقوا في الأرض فإن الأرض لا تأكلهم أما غير الأنبياء فإنها تأكلهم لكن قد يكرم الله تعالى بعض الموتى فلا تأكلهم الأرض وإن بقوا ولكننا لا نتيقن أن أحدا لا تأكله الأرض إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ففي هذه الأحاديث الثلاثة الترغيب في كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولاسيما في يوم الجمعة ولكن أكثر الصلاة عليه في كل وقت فإنك إذا صليت مرة واحدة صلى الله بها عليك عشرة اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(5/476)
1401 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم رواه أبو داود بإسناد صحيح.
1402 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم & قال ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام رواه أبو داود بإسناد صحيح.
1403 - وعن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
1404 - وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته لم يمجد الله تعالى ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عجل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه سبحانه والثناء عليه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بعد بما شاء رواه أبو داود والترمذي وقالا حديث حسن صحيح.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث الأربعة أيضا فيها الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وفضيلة ذلك فمنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تجعلوا(5/477)
قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم.
المعنى لا تجعلوا القبر عيدا تكرمونه بالمجيء إليه كل سنة مرة أو مرتين أو ما أشبه ذلك وفيه دليل على تحريم شد الرحل لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأن الإنسان إذا أراد الذهاب إلى المدينة لا يقصد أن يسافر من أجل زيارة قبر الرسول ولكن يسافر من أجل الصلاة في مسجده لأن الصلاة في مسجده خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام قال وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم إذا صليت على الرسول صلى الله عليه وسلم فإن صلاتك تبلغه حيثما كنت في بر أو بحر أو جو قريبا كنت أو بعيدا وكذلك الحديث الثاني أنه ما من رجل مسلم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام فإذا سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم رد الله عليه روحه فرد عليك السلام والظاهر أن هذا فيمن كان قريبا منه كأن يقف على قبره ويقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ويحتمل أن يكون عاما والله على كل شيء قدير.
ثم ذكر المؤلف حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وحديث فضالة بن عبيد وفيهما أيضا الحث على الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن حديث فضالة بن عبيد الظاهر أن المراد بذلك التشهد وأن هذا الرجل تشهد ولم يثن على الله ولم يمجده ولم يصل على النبي ولكنه دعا مباشرة ومعلوم أن التشهد & فيه أولا الثناء على الله في قوله التحيات لله والصلوات والطيبات(5/478)
وفيه أيضا السلام على النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة عليه ثم الدعاء فيحمل أعني حديث فضالة بن عبيد على هذا على أن المراد بذلك الدعاء في الصلاة وأنه يسبق بالتحيات ثم بالسلام والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم الدعاء والله الموفق.
جائز أن يفرد السلام أو الصلاة لكن الفضل أن يجمع بينهما.
1405 - وعن أبي محمد كعب بن عجزة رضي الله عنه قال خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك قال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد متفق عليه.
1406 - وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة رضي الله عنه فقال له بشير بن سعد أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد والسلام كما قد علمتم رواه مسلم.(5/479)
1407 - وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك قال قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
هذه أحاديث ثلاثة في بيان كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه في كيفية الصلاة أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم كيف يصلون عليه لأنه علمهم كيف يصلون عليه لأنه علمهم كيف يسلمون والذي علمهم إياه هو قوله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته أما الصلاة فعلمهم وقال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وقد سبق أن معنى صلاة الله على العبد هو ثناؤه عليه في الملأ الأعلى والمراد بآل محمد هنا كل أتباعه على دينه فإن آل الإنسان قد يراد بهم أتباعه على دينه وقد يراد بهم قرابته لكن في مقام الدعاء ينبغي أن يراد بهم العموم لأنه أشمل فالمراد بقوله وعلى آل محمد يعني جميع أتباعه فإن قال قائل هل تأتي الآل بمعنى الاتباع قلنا نعم قال الله تعالى ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب(5/480)
قال العلماء معناه أدخلوا أتباعه أشد العذاب وهو أوله كما قال تعالى {يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود} وقوله كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم الكاف هنا للتعليل وهذا من باب التوسل بأفعال الله السابقة إلى أفعاله اللاحقة يعني كما مننت بالصلاة على إبراهيم وآله فامنن بالصلاة على محمد وآله صلى الله عليه وسلم فهي من باب التعليل وليست من باب التشبيه وبهذا يزول الإشكال الذي أورده بعض أهل العلم رحمهم الله حيث قالوا كيف تلحق الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله بالصلاة على إبراهيم وآله مع أن محمد أشرف من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فالجواب أن الكاف هنا ليست للتشبيه ولكنها للتعليل كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد حميد يعني محمود مجيد يعني ممجد والمجد هو العظمة والسلطان والعزة والقدرة وما إلى ذلك اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد كذلك أيضا التبريك تقول اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد أي أنزل فيهم البركة والبركة هي الخير الكثير الواسع الثابت كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد هذه هي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم وهذه هي الصفة الفضلى وإذا اقتصرت على قولك اللهم صل على محمد كما فعل العلماء(5/481)
في جميع مؤلفاتهم إذا ذكروا الرسول لم يقولوا هذه الصلاة المطولة لأن هذه هي الكاملة وأما أدنى مجزئ فأن تقول اللهم صل على محمد.
أما حديث أبي مسعود البدري وهو زيد وأبي حميد الساعدي فهما مقاربان لهذا اللفظ إلا أن في حديث أبي حميد الساعدي ذكر الأزواج والذرية وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يعني زوجاته والذي مات عنهم تسع زوجات وكان يقسم لثماني زوجات منهن وأما التاسعة سودة فقد وهبت يومها لعائشة رضي الله عنها فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومين يومها ويوم سودة وبقية الزوجات يقسم لهن النبي صلى الله عليه وسلم بالعدل يقسم بالعدل كما أمر بذلك فالحاصل أن هذه الصفات الثلاث التي ذكر المؤلف رحمه الله وساقها في أحاديث ثلاثة متقاربة ولكنها تصف الكمال من صفة الصلاة عليه فصلوت الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.(5/482)
كتاب الأذكار
/0L2 باب فضل الذكر والحث عليه
قال الله تعالى {ولذكر الله أكبر} وقال تعالى {فاذكروني أذكركم} وقال تعالى {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين} وقال تعالى {واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} .
وقال تعالى {إن المسلمين والمسلمات} إلى قوله تعالى {والذاكرين الله كثيرا والذكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما} وقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا} والآيات في الباب كثيرة معلومة.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين كتاب الأذكار.
الأذكار جمع ذكر والمراد بذلك ذكر الله عز وجل ثم ذكر باب فضل الذكر والحث عليه وذكر آيات متعددة وليعلم أن ذكر الله تعالى يكون بالقلب ويكون باللسان ويكون بالجوارح أما القلب فهو التفكر ذكر الله تعالى بالقلب أن يتفكر الإنسان في أسماء الله وصفاته وأحكامه وأفعاله وآياته وأما الذكر باللسان فظاهر ويشمل كل قول يقرب إلى الله عز وجل من التهليل والتسبيح والتكبير وقراءة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقراءة السنة وقراءة العلم(5/483)
كل قول يقرب إلى الله فهو ذكر لله عز وجل.
وأما ذكر الله بالأفعال فهو ذكر الله بالجوارح فهو كل فعل يقرب إلى الله كالقيام في الصلاة والركوع والسجود والقعود وغير ذلك لكن يطلق عرفا على ذكر الله تعالى التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل وذكر المؤلف رحمه الله في ذلك آيات منها قول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثير وسبحوه بكرة وأصيلا فخاطب الله المؤمنين وأمرهم أن يذكروا الله تعالى ذكرا كثيرا في كل وقت وفي كل حال وفي كل مكان اذكر الله ذكرا كثيرا {وسبحوه بكرة وأصيلا} أي قولوا سبحان الله في البكور والأصيل يعني في أول النهار وآخر النهار ويحتمل أن يراد بالنهار كله وفي الليل كله وقال الله تعالى {واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} وهذا ذكره الله عز وجل في سياق لقاء العدو فقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} فذكر الله تعالى من أسباب الثبات والفلاح والفلاح كلمة جامعة يراد بها حصول المطلوب والنجاة من المرهوب وقال الله تعالى {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} قيل المعنى ولما فيها من ذكر الله أكبر وقيل المعنى ذكر الله عموما أكبر وهو أن الإنسان إذا صلى كان ذلك سببا لحياة قلبه وذكره لله عز وجل كثيرا وقال تعالى في وصف الخلق من عباده {إن المسلمين والمسلمات(5/484)
والمؤمنين والمؤمنات} إلى قوله {والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما} وقال تعالى {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون} والآيات في هذا كثيرة كلها تدل على فضيلة الذكر والحث عليه وقد أثنى الله تعالى على الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم وبين أنهم هم أصحاب العقول فقال تعالى {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} فالمهم أن نحث أنفسنا وإياكم على إدامة ذكر الله وهو لا يكلف باللسان واللسان لا يعجز ولا يتعب بل يبقي دائما لا إله إلا الله وسبحان الله والحمد لله والله أكبر ما تعب فهو سهل ولله الحمد وأجره عظيم جعلني الله وإياكم من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات إنه على كل شيء قدير.
1408 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم متفق عليه.
1409 - وعنه رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن أقول سبحان الله(5/485)
والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس رواه مسلم.
1410 - وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه وقال من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث الثلاثة عن أبي هريرة رضي الله عنه كلها تدل على فضل الذكر الأول قال النبي صلى الله عليه وسلم كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم كلمتان وهما أيضا ثقيلتان في الميزان إذا كان يوم القيامة ووزنت الأعمال ووضعت هاتان الكلمتان في(5/486)
الميزان ثقلتا به والثالث حبيبتان إلى الرحمن وهذا أعظم الثوابين أن الله تعالى يحبهما وإذا أحب الله العمل أحب العامل به فهاتان الكلمتان من أسباب محبة الله للعبد ما معنى سبحان الله وبحمده المعنى أنك تنزه الله تعالى عن كل عيب ونقص وأنه الكامل من كل وجه جل وعلا مقرونا هذا التسبيح بالحمد الدال على كمال إفضاله وإحسانه إلى خلقه جل وعلا وتمام حكمته وعلمه وغير ذلك من كمالاته.
سبحان الله العظيم يعني ذي العظمة والجلال فلا شيء أعظم من الله سلطانا ولا أعظم قدرا ولا أعظم حكمة ولا أعظم علما فهو عظيم بذاته وعظيم بصفاته جل وعلا سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم فيا عبد الله أدم هاتين الكلمتين قلهما دائما لأنهما ثقيلتان في الميزان وحبيبتان إلى الرحمن وهما لا يضرانك في شيء خفيفتان على اللسان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم فينبغي للإنسان أن يقولهما ويكثر منهما.
ثم ذكر الحديث الثاني عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أربع كلمات أحب إلي مما طلعت عليه الشمس يعني أحب علي من كل الدنيا وهما أيضا كلمات خفيفة سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر الناس الآن يسافرون ويقطعون الفيافي والصحاري والمهالك والمفاوز من أجل أن يربحوا شيئا قليلا من الدنيا قد يتمتعون به وقد(5/487)
يحرمون إياه وهذه الأعمال العظيمة يتعاجز الإنسان عنها لأن الشيطان يكسله ويخذله ويثبطه عنها وإلا فهي كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إلي الإنسان مما طلعت عليه الشمس وإذا فرضنا أن عندك ملك الدنيا كلها كل الدنيا عندك ملكها ما طلعت عليه الشمس وغربت ثم مت ماذا تستفيد لا تستفيد شيئا لكن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هي الباقيات الصالحات قال الله تعالى المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا فينبغي لنا أن نغتنم الفرصة بهذه الأعمال الصالحة.
أما الحديث الثالث والرابع فهو من قال في يومه مائة مرة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير حصل له هذه الفضائل الخمسة.
أولا: كان كمن أعتق عشر رقاب وثانيا كتبت له مائة حسنة وحطت عنه مائة خطيئة وكانت له حرزا من الشيطان ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا من عمل أكثر مما عمل.
خمس فضائل إذا قلت لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وهذه مائة مرة وهذه سهلة يمكن وأنت تنتظر صلاة الفجر بعد أن تأتي للمسجد تقولها في طريقك أو بعد طلوع الفجر تقولها تنتفع بها وهذا أيضا من الأمور التي ينبغي للإنسان أن يداوم عليها وينبغي أن يقولها في أول النهار لتكون حرزا له من الشيطان.(5/488)
أما سبحان الله وبحمده فمن قالها مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر وهذه سبحان الله وبحمده تقولها في آخر النهار لأجل أن تحط عنك خطايا النهار فانتهز الفرصة يا أخي انتهز الفرصة العمر يمضي ولا يرجع ما مضى من عمرك فلن يرجع إليك وهذه الأعمال أعمال خفيفة مفيدة ثوابها جزيل وعملها قليل نسأل الله أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
1411 - وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل متفق عليه.
1412 - وعن أبي ذر رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله إن أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده رواه مسلم.
1413 - وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض رواه مسلم.(5/489)
1414 - وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علمني كلاما أقوله قال قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم قال فهؤلاء لربي فما لي قال قل اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني رواه مسلم.
1415 - وعن ثوبان رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقال اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام قيل للأوزاعي وهو أحد رواة الحديث كيف الاستغفار قال تقول أستغفر الله أستغفر الله رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث ساقها المؤلف رحمه الله في باب فضل الذكر وقد سبق لنا شيء من هذه الأحاديث فمنها أي من الأحاديث التي ساقها أن من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل يعني كان الذي أعتق أربع رقاب من أشرف الناس نسبا وهم بنو إسماعيل لأن أشرف الناس نسبا هم العرب وهم بنو إسماعيل وأما(5/490)
العجم فلهم أباء آخرون ولكن ذرية إسماعيل هم العرب فمن قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس وهذا دليل على فضل هذا الذكر.
وكذلك أيضا قال النبي صلى الله عليه وسلم أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.
وكذلك حديث ثوبان لكنه ذكر مقيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته قال استغفر الله يعني استغفر ثلاثا قال استغفر الله استغفر الله استغفر الله اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام وإنما يستغفر الإنسان إذا فرغ من صلاته من أجل ما يكون فيها من خلل ونقص ويقول اللهم أنت السلام يعني اللهم إني أتوسل إليك بهذا الاسم الكريم من أسمائك أن تسلم لي صلاتي حتى تكون تكفرة للسيئات ورفعة للدرجات والله الموفق.
1416 - وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة وسلم قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد متفق عليه.(5/491)
1417 - وعن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول دبر كل صلاة حين يسلم لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون قال ابن الزبير وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل بهن دبر كل صلاة مكتوبة رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
هذان الحديثان في بيان الأذكار المقيدة لأن الأذكار تنقسم إلى قسمين مطلقة ومقيدة منها مقيد بالوضوء ومنها ما هو مقيد بالصلاة فهذان الحديثان مقيدان بالصلاة حديث المغيرة بن شعبة وحديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.
أما حديث المغيرة فقد أخبر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا سلم من صلاته لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ومعنى لا إله إلا الله يعني لا معبود حق إلا الله فلا معبود في الكائنات يستحق أن يعبد إلا الله عز وجل أما الأصنام التي تعبد من دون الله فليست مستحقة للعبادة حتى وإن سماها عابدوها آلهة فإنها ليست آلهة بل هي كما قال الله تعالى ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان(5/492)
فالمعبود حقا هو الله عز وجل.
وقوله وحده لا شريك له هذا من باب التأكيد تأكيد وحدانيته جل وعلا وأنه لا مشارك له في ألوهيته له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير له الملك المطلق العام الشامل الواسع ملك السماوات والأرض وما بينهما ملك الآدميين والحيوانات والأشجار والبحار والأنهار والملائكة والشمس والقمر كل هذه ملك لله عز وجل ما علمنا وما لم نعلم له الملك كله يتصرف فيه كما يشاء وعلى ما تقتضيه حكمته جل وعلا.
وله الحمد يعني الكمال المطلق على كل حال فهو جل وعلا محمود على كل حال في السراء وفي الضراء أما في السراء فيحمد الإنسان ربه حمد شكر وأما في الضراء فيحمد الإنسان ربه حمد تفويض لأن الشيء الذي يضر الإنسان قد لا يتبين له وجه مصلحته فيه ولكن الله تعالى أعلم فيحمد الله تعالى على كل حال وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه ما يسره قال الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وإذا أتاه ما لا يسره قال الحمد لله على كل حال.
وأما ما يقوله بعض الناس الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه فهذه كلمة خاطئة لم ترد ومعناها غير صحيح وإنما يقال الحمد لله على كل حال.
اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد هذا أيضا تفويض إلى الله عز وجل بأنه لا مانع لما أعطى فما أعطاك الله لا أحد يمنعه وما منعك لا أحد يعطيك إياه ولهذا قال ولا معطي لما منعت فإذا آمنا بهذا فممن نسأل العطاء من الله إذا آمنا بأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع إذا لا نسأل العطاء إلا من الله عز وجل ونعلم أنه لو أعطانا فلان شيئا فالذي قدر(5/493)
ذلك هو الله والذي صيره حتى يعطينا هو الله وما هو إلا مجرد سبب لكن نحن مأمورون بأن نشكر من صنع إلينا معروفا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه لكن نعلم أن الذي يسر لنا هذا العطاء وصير لنا هذا المعطي هو الله عز وجل.
اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد الجد يعني الحظ والغنى يعني الإنسان المحظوظ الذي له حظ وعنده مال وعنده أولاد وعنده زوجات وعنده كل ما يشتهي من الدنيا فإن هذا لا ينفعه من الله لا يمنع ذا الجد منك الجد الجد فاعل يعني أن الجد هو الحظ والغنى ما يمنع من الله عز وجل لأن الله تعالى له ملك السماوات والأرض وكم من إنسان تراه مسرورا في أهله وعنده المال والبنون وجميع ما يناله من الدنيا ولا ينفعه شيء من الله يصاب بمرض ولا يقدر أن يرفعه عنه إلا الله عز وجل يصاب به غم وهم وقلق لا ينفعه إلا الله عز وجل.
وهذا كله في التفويض إلى الله إذا ينبغي لنا إذا سلم الإنسان واستغفر ثلاثا وقال اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام أن يذكر الله تعالى بهذا الذكر.(5/494)
والترتيب بين الأذكار ليس بواجب يعني لو قدمت بعضها على بعض فلا بأس لكن الأفضل أن تبدأ بالاستغفار ثلاثا واللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ثم تذكر الله تعالى بالأذكار الواردة وسيأتي الكلام إن شاء الله عن حديث عبد الله بن الزبير.
1418 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضل من أموال يحجون ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون فقال ألا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم & قالوا بلى يا رسول الله قال تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين قال أبو صالح الراوي عن أبي هريرة لم سئل عن كيفية ذكرهن قال يقول سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون منهن كلهن ثلاثا وثلاثين متفق عليه.
وزاد مسلم في روايته فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.(5/495)
الدثور جمع دثر بفتح الدال وإسكان الثاء المثلثة وهو المال الكثير.
[الشَّرْحُ]
هذا من الأحاديث الدالة على فضيلة الذكر المخصوص المقيد بعمل وقد سبق لنا أن الأذكار منها مطلق ومقيد وهذا منها حديث أبي هريرة أن فقراء المهاجرين جاءوا يشتكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقولون إن أهل الأموال سبقونا إنهم يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضل من الأموال يعني زيادة يتصدقون بها ويحجون ويعتمرون ويجاهدون فدلهم النبي صلى الله عليه وسلم على أمر قال ألا أخبركم بشيء إذا فعلتموه لم يزدكم من لحقكم وتسبقون به من بعدكم قالوا بلى يا رسول الله قال تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين يعني تقولون سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثا وثلاثين مرة فهذه تسع وتسعون ثم إنهم فعلوا ذلك ولكن سمع الأغنياء بهذا ففعلوا مثله فتساووا معهم في هذا الذكر فرجع الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا يا رسول الله سمع إخواننا أهل الأموال بما صنعنا فصنعوا مثله وكأنهم يريدون شيئا آخر يختصون به فقال ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ففي هذا الحديث من الفوائد: أولا حرص الصحابة رضي الله عنهم على التسابق إلى الخير وأن كل واحد منهم يحب أن يسبق غيره.
ومنها من فوائد هذا الحديث أن هذا الذكر سبحان الله والحمد لله والله أكبر(5/496)
ثلاثا وثلاثين مشروع خلف الصلوات وقد ورد في حديث آخر أنه تكمل المائة بقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وهذه صفة من صفات الذكر بعد الصلاة.
ومن صفات الذكر بعد الصلاة أن تقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمسا وعشرين فيكون الجميع مائة ومن صفاته أيضا أن تقول سبحان الله ثلاثا وثلاثين والحمد لله ثلاثا وثلاثين والله أكبر أربع وثلاثين فهذه مائة.
ومن صفاته أن تقول سبحان الله عشر مرات والحمد لله عشر مرات والله أكبر عشر مرات تفعل هذا مرة وهذا مرة لأن الكل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد الحديث سعة صدر النبي صلى الله عليه وسلم على المراجعة والمناقشة لأنه عليه الصلاة والسلام يريد الحق أينما كان والحق معه لكن يطيب قلوب الناس ويبين لهم.
ومنها من فوائد الحديث أن الله سبحانه وتعالى إذا من على أحد بفضل فإنما هو فضله يؤتيه من يشاء ولن يجور بهذا الفضل على أحد فإذا أغنى هذا وأفقر هذا فهو فضله يؤتيه من يشاء وليس هذا بجور بل ذلك فضله يؤتيه من يشاء وكذلك أيضا من رزقه الله علما ولم يرزق الآخر فهذا من فضله فالفضل بيد الله عز وجل يؤتيه من يشاء.
ومن فوائد هذا الحديث أيضا أن الأغنياء من الصحابة كالفقراء(5/497)
حريصون على فعل الخير والتسابق فيه ولهذا صنعوا مثل ما صنع الفقراء فصاروا يسبحون ويحمدون ويكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين والله الموفق.
1421 - وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ دبر الصلوات بهؤلاء الكلمات اللهم إني أعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من فتنة القبر رواه البخاري
1422 - وعن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال يا معاذ والله إني لأحبك فقال أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك رواه أبو داود بإسناد صحيح.
[الشَّرْحُ]
هذه من الأذكار التي تقال دبر الصلاة الحديث الأول عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهذه الكلمات دبر كل صلاة اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من فتنة(5/498)
القبر.
وكذلك حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وعلى شكرك وعلى حسن عبادتك فكلمة دبر القاعدة فيها أنه إذا كان المذكور أذكارا فإنه يكون بعد السلام وإذا كان المذكور دعاء فإنه يكون قبل السلام لأن ما قبل السلام وبعد التشهد هو دبر الصلاة وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية دبر الشيء من الشيء كما يقال دبر الحيوان المؤخرة.
وعلى هذا فيكون حديث سعد بن أبي وقاص وحديث معاذ بن جبل يكون هذا الدعاء قبل أن تسلم إذا انتهيت من التشهد ومن قولك أعوذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال تقول اللهم إني أعوذ بك من البخل والجبن وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من فتنة القبر هذه خمسة أشياء تستعيذ بالله منهن: الأول البخل وهو الشح بالمال.
الثاني الجبن وهو الشح بالنفس فالبخل أن يمنع الإنسان ما يجب عليه بذله من ماله من زكاة أو نفقات أو إكرام ضيف أو غير ذلك وأما الجبن فأن يشح الإنسان بنفسه لا يقدم في جهاد يخشى أن يقتل ولا يتكلم بكلام حق يخشى أن يسجن وما أشبه ذلك فهذا جبن.
وأما أعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر أرذل يعني أرداه وأنقصه وذلك على وجهين: الوجه الأول أن يحدث للإنسان حادث فيختل به عقله فيهذي فيرد(5/499)
إلى أرذل العمر ويصير كالصبي كما يوجد هذا في الحوادث يوجد أحد يصاب بحادث فيختل مخه ثم يكون كالصغير أو أن يكون ذلك عن كبر وهو الوجه الثاني لأن الإنسان كلما كبر إذا استوى وبلغ أربعين سنة بدأ يأخذ في النقص ولكن الناس يختلفون أحد ينقص كثيرا وأحد ينقص قليلا قليلا لكنه لابد أن ينقص إذا بلغ الأربعين فقد استوى وكمل والشيء إذا استوى وكمل أخذ في النقص.
فمن الناس من يرد إلى أرذل العمر في قواه الحسية وقواه العقلية فيضعف بدنه ويحتاج إلى من يحمله ويوضئه ويوجهه وما أشبه ذلك أو عقليا بحيث يهذي ولا يدري ما يقول فالرد إلى أرذل العمر يشمل هذا وهذا ما كان بحادث وما كان بسبب تقادم السن به ثم إن الإنسان إذا وصل إلى هذه الحال نسأل الله أن يعيذنا وإياكم منها فإن أهله يملونه أهله الذين هم أشفق الناس به يتعبون منه ويملونه وربما يتركونه في مكان تتكفل به الحكومة مثلا وهذا لا شك أن الإنسان لا يرضاه ولا يرضى لنفسه أن يصل إلى هذا الحد وتسقط أيضا عنه الصلاة ويسقط عنه الصوم وتسقط عنه الواجبات لأنه وصل إلى حد يرتفع عنه التكليف.
وأعوذ بك من فتنة الدنيا وما أعظم فتنة الدنيا وما أكثر المفتونين في الدنيا لاسيما في عصرنا هذا وعصرنا هذا هو عصر الفتنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم والله ما الفقر أخشى عليكم وإنما أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم وهذا هو(5/500)
الواقع في الوقت الحاضر فتحت علينا الدنيا من كل جانب من كل شيء من كل وجه منازل كقصور الملوك ومراكب كمراكب الملوك وملابس ومطاعم ومشارب فتحت فصار الناس الآن ليس لهم هم إلا البطون والفروج فتنوا بالدنيا نسأل الله العافية.
ففتنة الدنيا عظيمة يجب على الإنسان أن ينتبه لها ولهذا قال الله عز وجل إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور وأعوذ بك من فتنة القبر أو من عذاب القبر وفتنة القبر أيضا فتنة عظيمة إذا دفن الميت وانصرف عنه أصحابه حتى أنه ليسمع قرع نعالهم منصرفين عنه أتاه ملكان يسألانه عن ربه ودينه ونبيه إن كان مؤمنا خالصا أجاب بالصواب وقال ربي الله ونبي محمد وديني الإسلام وإن كان مرائيا أو منافقا أعاذنا الله وإياكم من ذلك قال هاها لا أدري هاها لا أدري فيضرب بمرزبة من حديد المرزبة من الحديد قالوا مثل المطرقة وقد ورد في بعض الأحاديث أنه لو اجتمع عليها أهل منى ما أقلوها من عظمتها نسأل الله العافية فيصيح صيحة يسمعها كل شيء يسمعها كل شيء إلا الثقلين يعني الإنس والجن وهذه من رحمة الله أن الله تعالى لا يسمعنا عذاب القبر لأننا إذا سمعنا الناس يعذبون في قبورهم ما طاب لنا(5/501)
عيش ولتنكدنا إن كان قريبا لنا تنكدنا من وجهين: من قرابته ومن هذه الأصوات المزعجة.
وإن كان غير قريب أيضا انزعجنا منه ففتنة القبر فتنة عظيمة نسأل الله أن يعيذنا وإياكم منها هذه أشياء كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه خمسة أشياء اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من عذاب القبر أو من فتنة القبر.
أما حديث معاذ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له إني أحبك وأقسم قال والله إني لأحبك وهذه منقبة عظيمة لمعاذ بن جبل رضي الله عنه أن نبينا صلى الله عليه وسلم أقسم أنه يحبه والمحب لا يدخر لحبيبه إلا ما هو خير له وإنما قال هذا له لأجل أن يكون مستعدا لما يلقى إليه لأنه يلقيه إليه من محب ثم قال له لا تدعن أن تقول دبر كل صلاة مكتوبة اللهم أعني على ذكرك وعلى شكرك وعلى حسن عبادتك ودبر كل صلاة يعني في آخر الصلاة قبل السلام هكذا جاء في بعض الروايات أنه يقولها قبل السلام وهو حق وكما ذكرنا أن المقيد بالدبر أي دبر الصلاة إن كان دعاء فهو قبل التسليم وإن كان ذكرا فهو بعد التسليم ويدل لهذه القاعدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن مسعود في التشهد لما ذكره قال ثم ليتخير من الدعاء ما شاء أو ما أحب أو أعجبه إليه أما الذكر فقال الله تعالى {فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم} أعني على ذكرك يعني كل قول يقرب إلى(5/502)
الله كل شيء يقرب إلى الله كل تفكير يقرب إلى الله فهو من ذكر الله وشكرك أي شكر النعم واندفاع النقم فكم من نعمة لله علينا وكم من نقمة اندفعت عنا فنشكر الله على ذلك ونسأل الله أن يعيننا عليه وعلى حسن عبادتك وحسن العبادة يكون بأمرين بالإخلاص لله عز وجل كل ما قوي الإخلاص كان أحسن وبالمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والله الموفق.
1423 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال رواه مسلم.
1424 - وعن علي رضي الله عنه قال كان رسول الله إذا قام إلى الصلاة يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله هذين الحديثين فيما يتعوذ به ويذكر الله به في الصلوات ففي الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال(5/503)
إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع وفي لفظ التشهد الأخير يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال.
هذه أربعة أمور أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ بالله منها إذا فرغنا من التشهد يعني قبل التسليم أعوذ بالله من عذاب جهنم وهي النار فتتعوذ بالله من عذابها وهذا يشمل ما عملت من سوء تسأل الله أن يعفو عنك منه وما لم تعمل من السوء تسأل الله أن يجنبك إياه ومن عذاب القبر لأن القبر فيه عذاب عذاب دائم للكافرين وعذاب قد ينقطع للعاصين وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بقبرين فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستبرأ من البول وأما الأخر فكان يمشي بالنميمة ومن فتنة المحيا والممات فتنة المحيا ما يفتتن به الإنسان في حياته وتدور على شيئين إما جهل وشبهة وعدم معرفة بالحق فيشتبه عليه الحق بالباطل فيقع في الباطل فيهلك وإما شهوة أي هوى بحيث يعلم الإنسان الحق لكنه لا يريده وإنما يريد الباطل وأما فتنة الممات فقيل إنها فتنة القبر وهي سؤال الملكين للإنسان إذا دفن عن ربه ودينه ونبيه وقيل فتنة الممات هي ما يكون عند موت(5/504)
الإنسان وذلك أن أشد ما يكون الشيطان حرصا على إغواء بني آدم عند موتهم يأتي للإنسان عند موته ويوسوس له ويشككه وربما يأمره بأن يكفر بالله عز وجل فهذه الفتنة من أعظم الفتن وأما فتنة المسيح الدجال فالمسيح الدجال هو من يبعثه الله عز وجل عند قيام الساعة رجل خبيث كاذب مكتوب بين عينيه كافر يقرؤوه المؤمن الكاتب وغير الكاتب ويفتن الله تعالى الناس به لأنه يمكن له في الأرض بعض الشيء يبقي في الأرض أربعين يوما اليوم الأول طوله طول السنة الكاملة والثاني طول الشهر والثالث طوله أسبوع والرابع كسائر الأيام.
يدعو الناس إلى أن يكفروا بالله وأن يشركوا به يقول أنا ربكم ومعه جنة ونار لكنها جنة فيما يرى الناس ونار فيما يرى الناس وإلا فحقيقة حنته أنها نار وحقيقة ناره أنها جنة كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيغتر الناس به ويفتتن به ما شاء الله أن يفتتن وفتنته عظيمة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما في الدنيا فتنة أعظم من خلق آدم إلى قيام الساعة مثل فتنة المسيح الدجال وما من نبي إلا وأنذر به قومه ولهذا خصه من بين فتنة المحيا بأن فتنته عظيمة نسأل الله أن يعيذنا وإياكم منها(5/505)
وهذه الأربع يذكرها الإنسان قبل أن يسلم واختلف العلماء رحمهم الله هل هذا واجب أو سنة فأكثر العلماء على أنه سنة وأن الإنسان لو تركه لم تبطل صلاته وقال بعض أهل العلم إنه واجب إنه يجب على الإنسان أن يستعيذ بالله من هذه الأربع قبل أن يسلم وأنه لو ترك ذلك فصلاته باطلة وعليه أن يعيدها وقد أمر طاووس وهو أحد كبار التابعين ابنه حين لم يقرأ هذه التعويذات الأربع أمره أن يعيد صلاته فينبغي للإنسان ألا يدعها أن يحرص عليها لما فيها من الخير الكثير ولئلا يؤدي بصلاته إلى أنها تكون باطلة عند بعض أهل العلم والله الموفق.
1425 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي متفق عليه.
1426 - وعنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده سبوح قدوس رب الملائكة والروح رواه مسلم.
1427 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم رواه مسلم.(5/506)
[الشَّرْحُ]
هذه أذكار في أحوال معينة فمنها ما نقله المؤلف رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي وهذا بعد أن أنزل الله عليه إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توبا وهذه السورة هي أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله نعاه إلى نفسه بأنه إذا جاء نصر الله وتم الفتح فقد قرب أجله كما فهم ذلك ابن عباس رضي الله عنهما فإن ابن عباس - رضي الله عنهما - كان صغير السن وكان عمر رضي الله عنه يحضره مع مجالس الرجال وكبار القوم فقال بعضهم لماذا يحضر عمر ابن عباس ويترك أبناءه فأراد أن يبين لهم رضي الله عنه فضل ابن عباس فقال لهم يوما من الأيام ما تقولون في قوله تعالى {إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توبا} ما معنى هذه السورة قالوا معناها أنه إذا جاء الفتح فسبح بحمد ربك واستغفره فقال ما تقول يا ابن عباس قال أقول هذا أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله أعطاه علامة وهي الفتح والنصر إذا جاءت فقد قرب أجله فقال ما فهمت منها إلا ما فهمت فالحاصل أن هذه الآية أمر الله نبيه أن يسبح بحمد ربه ويستغفره(5/507)
وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك يكثر أن يقول في ركوعه وهو كذلك في سجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ومعنى هذا أنك تثني على الله عز وجل بكمال صفاته وانتفاء صفات النقص عنه وتسأله المغفرة.
أما حديثها الثاني فقالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده سبوح قدوس رب الملائكة والروح يعني أنت سبوح قدوس وهذه مبالغة في التنزيه وأنه جل وعلا سبوح قدوس رب الملائكة وهم جند الله عز وجل عالم لا نشاهدهم وأما الروح فهو جبريل وهو أفضل الملائكة فينبغي للإنسان أن يكثر في ركوعه وسجوده من قوله سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يقول كذلك في ركوعه وسجوده سبوح قدوس رب الملائكة والروح.
أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقال أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء وهذا طرف من حديث أوله ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا فأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم أي حري أن يستجاب لكم لأن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد والركوع لا يجوز لأحد أن يقرأ القرآن وهو راكع ولا يجوز أن يقرأ القرآن وهو ساجد لكن له أن يدعو بالدعاء الذي يوافق القرآن مثل أن يقول مثلا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين(5/508)
لكن أما أن يقرأ القرآن فهذا حرام عليه أن يقرأ وهو راكع أو يقرأ وهو ساجد الركوع له التعظيم يعظم ربه سبحان ربي العظيم سبحان الملك القدوس وما أشبه ذلك السجود يقول سبحان ربي الأعلى سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ويدعو ويكثر من الدعاء فقمن أن يستجاب له أي حري أن يستجاب له وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه.
1428 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء رواه مسلم.
1429 - وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره وعلانيته وسره رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
هذان الحديثان في بيان دعاء وأذكار مخصوصة ذكرها المؤلف رحمه الله في باب فضل الدعاء فمنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وذلك لأن الإنسان إذا سجد فإنه يضع أشرف ما به من الأعضاء في أماكن وضع الأقدام التي توطأ بالأقدام وكذلك أيضا يضع أعلى ما في جسده حذاء أدنى ما في جسده يعني أن وجهه أعلى ما في جسده وقدميه أدنى ما في(5/509)
جسده فيضعهما في مستوى واحد تواضعا لله عز وجل ولهذا كان أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيما سبق بالإكثار من الدعاء في حال السجود فيجتمع في ذلك الهيئة والمقال تواضعا لله عز وجل ولهذا يقول الإنسان في سجوده سبحان ربي الأعلى إشارة إلى أنه جل وعلا وهو العلي الأعلى في ذاته وفي صفاته وأن الإنسان هو السافل النازل بالنسبة لجلال الله تعالى وعظمته.
أما الحديث الثاني فهو فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في صلاته اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله علانيته وسره وأوله وآخره وهذا من باب التبسط في الدعاء والتوسع فيه لأن الدعاء عبادة فكل ما كرره الإنسان ازداد عبادة لله عز وجل ثم إنه في تكراره هذا يستحضر الذنوب كلها السر والعلانية وكذلك ما أخفاه وكذلك دقه وجله وهذا هو الحكمة في أن النبي صلى الله عليه وسلم فصل بعد الإجمال فينبغي للإنسان أن يحرص على الأدعية الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها أجمع الدعاء وأنفع الدعاء وفقنا الله وإياكم لما فيه الخير والصلاح.
1430 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فتحسست فإذا هو راكع أو ساجد يقول سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت وفي رواية فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو يقول اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ(5/510)
بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك رواه مسلم.
1431 - وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أيعجز أحدكم أن يكسب في كل يوم ألف حسنة فسأله سائل من جلسائه كيف يكسب ألف حسنة قال يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة رواه مسلم.
قال الحميدي كذا هو في كتاب مسلم أو يحط قال البرقاني ورواه شعبة وأبو عوانة ويحيى القطان عن موسى الذي رواه مسلم من جهته فقالوا ويحط بغير ألف.
[الشَّرْحُ]
هذان الحديثان في بيان الذكر وفضله الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها أنها افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فخرجت تتحسس عنه لأنها رضي الله عنها هي أحب نسائه إليه وهي تحبه أيضا فتخشى أن يكون حصل عليه شيء فذهبت تتحسس فوجدته صلى الله عليه وسلم في المسجد وهو ساجد يدعو الله تبارك وتعالى بهذا الدعاء قالت ووقعت يدي على بطون قدميه وهو ساجد واستدل العلماء بذلك على أن الساجد ينبغي له أن يضم قدميه بعضهما إلى بعض ولا يفرقهما لأنه لا يمكن أن تقع اليد الواحدة على(5/511)
قدمين متفرقتين وكذلك هو أيضا في صحيح ابن خزيمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضم رجليه في السجود.
أما الركبتان فهما على طبيعتهما لا يفرقهما ولا يضمهما على طبيعتهما كان من دعائه عليه الصلاة والسلام اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله عز وجل بالأعمال الصالحة عن الأعمال السيئة لأن الأعمال السيئة توجب الغضب والسخط والأعمال الصالحة توجب الرضا والشيء إنما يداوي بضده فالسخط ضده الرضا فيستعيذ بالرضا من السخط وبمعافاتك من عقوبتك يعني أستعيذ بمعافاتك من الذنوب وآثارها وعقوباتها من عقوبتك على الذنوب وهذا يتضمن سؤال المغفرة وأعوذ بك منك وهذا أشمل وأعم أنه يتعوذ بالله من الله عز وجل وذلك لأنه لا منجى ولا ملجأ من الله إلا إليه لا أحد ينجيك من عذاب الله إلا الله عز وجل فتستعيذ بالله من الله سبحانه وتعالى أي تستعيذ به من عقوبته وغير ذلك مما يقدره فدل ذلك على ما ذكرنا من انضمام القدمين في السجود ودل هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي أحيانا النافلة في المسجد مع أن الأفضل أن تكون في البيت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة لكنه عليه الصلاة والسلام أحيانا يصلي(5/512)
النافلة في المسجد وفيه أيضا دليل على محبة عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا غرابة فإنه عليه الصلاة والسلام كانت هي أحب نسائه اللاتي عنده ولا يساميها أحد اللهم إلا خديجة رضي الله عنها فإن خديجة هي أول نسائه صلى الله عليه وسلم ولم يتزوج عليها أحد حتى ماتت وكان يذكرها دائما أي يذكر خديجة لكن عائشة رضي الله عنها هي أحب نساءه الموجودات في عهد عائشة.
ومن فوائد هذا الحديث أن الإنسان يستعيذ بصفات الله عز وجل من ضدها بالرضا من السخط وبالمعافاة من العقوبة وأنه لا ملجأ له من الله إلا إليه فيستعيذ بالله منه تبارك وتعالى والله الموفق.
1433 - وعن أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال مازلت على الحال التي فارقتك عليها قالت نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه(5/513)
ومداد كلماته رواه مسلم.
وفي رواية له سبحان الله عدد خلقه سبحان الله رضاء نفسه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله مداد كلماته.
وفي رواية الترمذي ألا أعلمك كلمات تقولينها سبحان الله عدد خلقه سبحان الله عدد خلقه سبحان الله عدد خلقه سبحان الله رضا نفسه سبحان الله رضا نفسه سبحان الله رضا نفسه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله مداد كلماته سبحان الله مداد كلماته سبحان الله مداد كلماته.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث من الأحاديث التي فيها بيان فضيلة نوع من أنواع الذكر وهو ما روته أم المؤمنين جويرية بنت الحارث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج من عندها الفجر ثم رجع إليها ضحا وهي تسبح وتهلل فبين لها صلى الله عليه وسلم أنه قال بعدها كلمات تزن ما قالت منذ الفجر أو منذ الصبح سبحان الله وبحمده عدد خلقه ثلاث مرات سبحان الله وبحمده رضا نفسه ثلاث مرات سبحان الله وبحمده زنة عرشه ثلاث مرات سبحان الله وبحمده مداد كلماته ثلاث مرات.(5/514)
أما سبحان الله وبحمده عدد خلقه فمعناه أنك تسبح الله عز وجل وتحمده عدد مخلوقاته ومخلوقات الله عز وجل لا يحصيها إلا الله كما قال الله تعالى وما يعلم جنود ربك إلا هو.
وأما سبحان الله وبحمده زنة عرشه وزنة عرشه لا يعلم ثقلها إلا الله سبحانه وتعالى لأن العرش أكبر المخلوقات التي نعلمها فإن النبي صلى الله عليه وسلم يروى عنه أنه قال إن السماوات السبع والأرضين السبع في الكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة إذا فهو مخلوق عظيم لا يعلم قدره إلا الله عز وجل.
وأما سبحان الله وبحمده رضا نفسه فيعني أنك تسبح الله وتحمده حمدا يرضى به الله عز وجل وأي حمد يرضى به الله إلا وهو أفضل الحمد وأكمله.
وأما سبحان الله وبحمده مداد كلماته والمداد ما يكتب به الشيء وكلمات الله تعالى لا يقارن بها شيء قال الله تعالى {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم} وقال تعالى {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} فكلمات الله تعالى لا نهاية لها(5/515)
فالمهم أنه ينبغي لنا أن نحافظ على هذا الذكر.
سبحان الله وبحمده عدد خلقه (ثلاث مرات) سبحان الله وبحمده رضا نفسه (ثلاث مرات) سبحان الله وبحمده زنة عرشه (ثلاث مرات) سبحان الله وبحمده مداد كلماته (ثلاث مرات) فيكون الجميع اثنتي عشرة مرة.
1434 - وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت رواه البخاري.
ورواه مسلم فقال مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت
1435 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم متفق عليه.
1436 - وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله قال الذاكرون الله كثيرا والذكرات رواه مسلم.(5/516)
روي المفردون بتشديد الراء وتخفيفها والمشهور الذي قاله الجمهور التشديد.
[الشَّرْحُ]
هذه أحاديث في فضل ذكر الله عز وجل أما الحديث الأول فقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكر الله كمثل الحي والميت وذلك لأن الذي يذكر الله تعالى قد أحيا الله قلبه بذكره وشرح له صدره فكان كالحي وأما الذي لا يذكر الله فإنه لا يطمئن قلبه والعياذ بالله ولا ينشرح صدره للإسلام فهو كمثل الميت وهذا مثل ينبغي للإنسان أن يعتبر به وأن يعلم أنه كلما غفل عن ذكر الله عز وجل فإنه يقسو قلبه وربما يموت قلبه والعياذ بالله.
وأما الحديثان الأخيران ففيهما أيضا دليل على فضيلة الذكر وهو أن الإنسان إذا ذكر الله عز وجل في نفسه ذكره الله في نفسه وإن ذكره في ملأ ذكره الله في ملأ خير منهم يعني إذا ذكرت ربك في نفسك إما أن تنطق بلسانك سرا ولا يسمعك أحد أو تذكر الله في قلبك فإن الله تعالى يذكرك في نفسه وإذا ذكرته في ملأ أي عند جماعة فإن الله تعالى يذكرك في ملأ خير منهم أي في ملأ من الملائكة يذكرك عندهم ويعلي ذكرك ويثني عليك جل وعلا ففي هذا دليل على فضيلة الذكر وأن الإنسان إذا ذكر الله عند ملأ كان هذا أفضل مما إذا ذكره في نفسه إلا أن يخاف الإنسان على نفسه الرياء فإن خاف الرياء فلا يجهر ولكن لا يكون في قلبه وساوس بأن يقول إذا(5/517)
ذكرت الله جهرا فهذا رياء فلا أذكر الله فليدع هذه الوساوس ويذكر الله تعالى عند الناس وفي نفسه حتى يذكره الله عز وجل كما ذكر ربه.
وأما حديث أبي هريرة الثالث فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال سبق المفردون قالوا وما المفردون قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات فهذا دليل على أن الذاكرين الله كثيرا لهم السبق على غيرهم لأنهم عملوا أكثر من غيرهم فكانوا أسبق إلى الخير والله الموفق.
1437 - وعن جابر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أفضل الذكر لا إله إلا الله رواه الترمذي وقال حديث حسن.
1438 - وعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه أن رجلا قال يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به قال لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله رواه الترمذي وقال حديث حسن.
1439 - وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة رواه الترمذي وقال حديث حسن.(5/518)
1440 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيت إبراهيم صلى الله عليه وسلم ليلة أسري بي فقال يا محمد أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر رواه الترمذي وقال حديث حسن.
1441 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى قال ذكر الله تعالى رواه الترمذي قال الحاكم أبو عبد الله إسناده صحيح.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث التي ساقها المؤلف رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) كلها في مجموعها تدل على فضيلة الذكر كما سبق ولكن في بعضها ما فيه ضعف فمنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال لسانك رطبا بذكر الله عز وجل هذا الحديث فيه ضعف لكن إن صح فالمعنى أن هذا الرجل كثرت عليه النوافل أما الفرائض فلا يغني(5/519)
عنها قول لا إله إلا الله ولا غيره الفرائض لابد منها أما النوافل إذا شق على الإنسان بعضها فالذكر قد يسد ما يحصل به الخلل ومنها أيضا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال أفضل الذكر لا إله إلا الله ولا شك أن هذه الكلمة كلمة عظيمة فهي التي يدخل بها الإنسان في دين الإسلام فهي مفتاح الإسلام كما جاء في الحديث أن مفتاح الجنة هو لا إله إلا الله ومنها أيضا فضيلة سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وأن هذه غراس الجنة يعني أن الإنسان إذا قالها يغرس له في الجنة غرسا في كل كلمة ومنها أن ذكر الله عز وجل من أفضل الأعمال وأوفاها وأحبها إلى الله عز وجل بل هو من أسباب الثبات عند اللقاء كما قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون مثل هذه الأحاديث كلها تدل على فضيلة الذكر وأنه ينبغي للإنسان أن يكثر من ذكر الله وقد مر علينا قول النبي صلى الله عليه وسلم كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم والله الموفق.
1442 - وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة وبين يديها نوى أو حصى تسبح به فقال ألا أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل فقال سبحان الله عدد ما خلق في السماء وسبحان الله(5/520)
عدد ما خلق في الأرض سبحان الله عدد ما بين ذلك وسبحان الله عدد ما هو خالق والله أكبر مثل ذلك والحمد لله مثل ذلك ولا إله إلا الله مثل ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك رواه الترمذي وقال حديث حسن.
1443 - وعن أبي موسى رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة فقلت بلى يا رسول الله قال لا حول ولا قوة إلا بالله متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
هذان الحديثان في بيان فضل الذكر وقد سبقت أحاديث كثيرة كلها تدل على فضل الذكر فحديث سعد بن أبي وقاص في دخول النبي صلى الله عليه وسلم على المرأة وبين يديها حصى أو نوى تسبح به فقال ألا أخبرك بما هو أفضل من ذلك فذكر لها تسبيحا سبق نظيره أو قريب منه قوله صلى الله عليه وسلم سبحان الله وبحمده عدد خلقه (ثلاث مرات) سبحان الله وبحمده زنة عرشه (ثلاث مرات) سبحان الله وبحمده رضا نفسه (ثلاث مرات) سبحان الله وبحمده مداد كلماته (ثلاث مرات) هذه اثنتا عشرة مرة فيها خير كثير وسبق بيان شرح ذلك.
أما حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة والاستفهام هنا للتشويق يعني يشوقه(5/521)
الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يستمع إلى ما يقول قلت بلى يا رسول الله قال لا حول ولا قوة إلا بالله لأن هذه الكلمة فيها التبرء من الحول والقوة إلا بالله عز وجل فالإنسان ليس له حول وليس له قوة فلا يتحول من حال إلى حال ولا يقوى على ذلك إلا بالله عز وجل فهي كلمة استعانة إذا أعياك الشيء وعجزت عنه قل لا حول ولا قوة إلا بالله فإن الله تعالى يعينك عليه وليست هذه الكلمة كلمة استرجاع كما يفعله كثير من الناس إذا قيل له حصلت المصيبة الفلانية قال لا حول ولا قوة إلا بالله ولكن كلمة الاسترجاع أن تقول إنا لله وإنا إليه راجعون أما هذه فهي كلمة استعانة إذا أردت أن يعينك الله على شيء فقل لا حول ولا قوة إلا بالله وكما مر عليكم في سورة الكهف قصة صاحبي الجنتين قال له صاحبه ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله لكان هذا خيرا لك وأبقى لجنتك ولكنه دخلها وقال {ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة} فأعجب بها وأنكر قيام الساعة فأرسل الله عليها حسبانا من السماء فأصبحت صعيدا زلقا فالمهم أن كلمة لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة تقولها أيها الإنسان عندما يعييك الشيء ويثقلك وتعجز عنه قل لا حول ولا قوة إلا بالله ييسر الله لك الأمر والله الموفق.(5/522)
باب ذكر الله تعالى قائما وقاعدا ومضطجعا ومحدثا وجنبا وحائضا إلا القرآن فلا يحل لجنب ولا حائض
قال الله تعالى {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} .
1444 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله تعالى على كل أحيانه رواه مسلم.
1445 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضى بينهما ولد لم يضره متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) باب ذكر الله تعالى قائما وقاعدا ومضطجعا.
يعني أن الإنسان ينبغي له أن يذكر الله تعالى في كل حال قائما وقاعدا وعلى جنبه(5/523)
ثم استشهد رحمه الله بقوله الله تعالى إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم في خلق السماوات والأرض يعني في ذات السماوات وذات الأرض بما فيهما من عجائب مخلوقات الله تعالى آيات لأولي الألباب أولي العقول الذين يدركون ما بآيات الله من الحكم والأسرار فالسماء واسعة عالية والأرض مسطحة مذللة للخلق فيها من آيات الله تعالى من البحار والأنهار والأشجار والجبال وغير ذلك ما يستدل به على خالقها جل وعلا.
وأما اختلاف الليل والنهار فاختلاف الليل والنهار في الطول والقصر والحر والبرد والرخاء والشدة والأمن والخوف والبؤس والعافية وغير ذلك فيها أيضا آيات عظيمة والإنسان إذا طالع التاريخ ورأى تقلبات الليل والنهار واختلافهما رأى من آيات الله العجيبة ما يزداد به إيمانه وقوله {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} هذا هو الشاهد يذكرون الله في كل حال قياما وقعودا وعلى جنوبهم في كل حال.
وكذلك ذكر رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل الأحيان أي على كل الأزمان في كل زمن يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجا حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الإنسان أن يذكر الله عند جماع أهله فقال لو أن أحدكم أتى أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إذا قضى بينهما ولد لم يضره الشيطان(5/524)
ففي هذا دليل على أنه ينبغي لك أن تكثر من ذكر الله في كل حال إلا أن العلماء قالوا لا ينبغي أن يذكر الله تعالى في الأماكن القذرة مثل أماكن قضاء الحاجة (المراحيض) ونحوها تكريما لذكر الله عز وجل عن هذه المواضع هكذا ذكر بعض أهل العلم والله أعلم.(5/525)
باب ما يقوله عند نومه واستيقاظه
1446 - عن حذيفة وأبي ذر رضي الله عنهما قالا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال باسمك اللهم أحيا وأموت وإذا استيقظ قال الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور رواه البخاري.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله باب ما يقوله عند نومه واستيقاظه من نعمة الله سبحانه وتعالى علينا أن الله شرع لنا أذكارا عند النوم والاستيقاظ والأكل والشرب ابتداء وانتهاء بل حتى عند دخول الخلاء وعند اللباس كل هذا من أجل أن تكون أوقاتنا معمورة بذكر الله عز وجل ولولا أن الله شرع لنا ذلك لكان بدعة ولكن الله شرع لنا هذا من أجل أن تزداد نعمته علينا بفعل هذه الطاعات.
فمنها هذا الحديث الذي ذكره المؤلف عن حذيفة وأبي ذر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال باسمك اللهم أحيا وأموت.
إذا أوى يعني إذا ذهب إلى فراشه وأراد أن ينام قال باسمك اللهم أحيا وأموت لأن الله سبحانه وتعالى هو المحيي المميت فهو المحيي يحيي من شاء وهو المميت يميت من يشاء فتقول باسمك اللهم أحيا وأموت أي أموت على اسمك وأحيا على اسمك ومناسبة(5/526)
هذا الذكر عند النوم هو أن النوم موت لكنه موت أصغر كما قال تعالى وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم وقال تعالى {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل قال الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور فتحمد الله الذي أحياك بعد الموت وتذكر أن النشور يعني من القبور والإخراج من القبور يكون إلى الله عز وجل فتتذكر ببعثك من موتتك الصغرى بعثك من موتتك الكبرى وتقول الحمد لله الذي أحيانا بعد إذ أماتنا وإليه النشور وفي هذا دليل على الحكمة العظيمة في هذا النوم الذي جعله الله راحة للبدن عما سبق وتنشيطا للبدن فيما يستقبل وأنه يذكر أيضا بالحياة الأخرى تذكر بذلك إذا قمت من قبرك بعد موتك حيا إلى الله عز وجل.
وهذا يزيدك إيمانا بالبعث والإيمان بالبعث أمر مهم لولا أن الإنسان يؤمن بأنه سوف يبعث ويجازى على عمله ما عمل ولهذا نجد كثيرا أن الله يقرن الإيمان باليوم الآخر بالإيمان به عز وجل كما قال تعالى {الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر} وآيات كثيرة في هذا فالمهم أنه ينبغي لك إذا أويت إلى فراشك أن تقول باسمك اللهم أحيا وأموتوإذا استيقظت تقول الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور والله الموفق.(5/527)
باب فضل حلق الذكر والندب إلى ملازمتها والنهي عن مفارقتها لغير عذر
قال الله تعالى {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم} .
1447 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لله تعالى ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قوما يذكرون الله عز وجل تنادوا هلموا إلى حاجتكم فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا فيسألهم ربهم وهو أعلم ما يقول عبادي قال يقولون يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك فيقول هل رأوني فيقولون لا والله ما رأوك فيقول كيف لو رأوني قال يقولون لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيدا وأكثر لك تسبيحا فيقول فماذا يسألون قال يقولون يسألونك الجنة قال يقول وهل رأوها قال يقولون لا والله يا رب ما رأوها قال يقول فكيف لو رأوها قال يقولون لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا وأشد لها طلبا وأعظم فيها رغبة قال فمم يتعوذون قال يقولون يتعوذون من النار قال فيقول وهل رأوها قال يقولون لا والله ما رأوها فيقول كيف لو رأوها قال يقولون لو رأوها كانوا أشد منها فرارا وأشد لها مخافة قال فيقول فأشهدكم أني قد غفرت لهم قال يقول ملك من الملائكة فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة قال هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم متفق عليه.(5/528)
وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن لله ملائكة سيارة فضلاء يتتبعون مجالس الذكر فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم حتى يملأوا ما بينهم وبين السماء الدنيا فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم من أين جئتم فيقولون جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك قال وماذا يسألوني قالوا يسألونك جنتك قال وهل رأوا جنتي قالوا لا أي رب قال فكيف لو رأوا جنتي قالوا ويستجيرونك قال ومم يستجيروني قالوا من نارك يا رب قال وهل رأوا ناري قالوا لا قال فكيف لو رأوا ناري قالوا ويستغفرونك فيقول قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا قال فيقولون رب فيهم فلان عبد خطاء إنما مر فجلس معهم فيقول وله غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه (رياض الصالحين) باب فضل حلق الذكر يعني الاجتماع على ذكر الله عز وجل ثم ساق الآية الكريمة واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصبر نفسه مع هؤلاء القوم الفضلاء الشرفاء الكرماء وصبر النفس يعني حبسها احبس نفسك معهم فإن هؤلاء القوم خير من تجلس إليهم {يدعون ربهم بالغداة} أي في أول النهار وبالعشي في آخر(5/529)
النهار ومن ذلك إن شاء الله الاجتماع على صلاة الفجر وعلى صلاة العصر لأن الأولى في الصباح والثانية في المساء غداة وعشيا {يدعون ربهم} أي يريدون وجهه هذا دليل على إخلاصهم لله عز وجل وأنهم لا يريدون من هذا الاجتماع والدعاء أن يمدحوا بذلك أو يقال ما أعظم عبادتهم ما أكثرها ما أصبرهم عليها لا يريدون هذا كله يريدون وجه الله عز وجل {ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدينا} يعني لا تتجاوز عنهم وتفارقهم وتغض الطرف عنهم من أجل الدنيا أما من أجل مصلحة أخرى أعظم مما هم عليه فلا بأس لكن من أجل الدنيا لا هؤلاء هم القوم وهم أهل الدنيا والآخرة {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} يعني لا تطع الغافل الذي غفل قلبه عن ذكر الله وكان أمره فرطا واتبع هواه وضاعت عليه دنياه وضاعت عليه أخراه.
ففي هذه الآية الكريمة فضل الاجتماع على الذكر والدعاء وفيها فضل الإخلاص وأن الإخلاص هو الذي عليه مدار كل شيء وفيها أن الإنسان لا ينبغي له أن يدع أحوال الآخرة والعبادات إلى أحوال الدنيا.
أما الأحاديث فذكر المؤلف حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح البخاري وصحيح مسلم إن الله تعالى وكل ملائكة يسيحون في الأرض يطلبون حلق الذكر والملائكة عالم غيبي فاضل خلقهم الله عز وجل من النور وجعلهم صمدا لا أجواف لهم فلا يأكلون ولا يشربون ولا يحتاجون إلى هذا ليست لهم بطون ولا أمعاء فهم صمد ولهذا لا(5/530)
يأكلون ولا يشربون وهم عالم غيبي لا يراهم البشر ولكن قد يري الله تعالى الناس إياهم أحيانا كما جاء جبريل عليه الصلاة والسلام على هيئة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد من الصحابة وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله فهذا يحدث أحيانا ولكن الأصل أن عالم الملائكة عالم غيبي والملائكة كلهم خير ولهذا لا يدخلون الأماكن التي فيها ما يغضب الله عز وجل فلا يدخلون بيتا فيه صورة ولا يصحبون رفقة فيها جرس ولا رفقة معهم كلب إلا الكلب المحلل الذي يجوز اقتناؤه هؤلاء الملائكة وكلهم الله عز وجل يسيحون في الأرض فإذا وجدوا حلق الذكر جلسوا معهم ثم حفوا هؤلاء الجالسين بأجنحتهم إلى السماء يعني هؤلاء الملائكة من الأرض إلى السماء ثم إن الله تعالى يسألهم ليظهر فضيلة هؤلاء القوم الذين جلسوا يذكرون الله ويسبحونه ويحمدونه ويهللونه ويكبرونه ويدعونه وإلا فالله أعلم عز وجل لماذا جلسوا لكن ليظهر فضلهم ونبلهم يسأل الملائكة من أين جئتم فيقولون جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحون ويهللون ويكبرون ويحمدون ويدعون فيقول لهم ماذا يريدون قالوا يريدون الجنة (اللهم اجعلنا ممن أرادها وكان من أهلها) قال هل رأوها قالوا لا قال فكيف لو رأوها قالوا لكانوا أشد لها طلبا وأشد فيها رغبة لأن الله عز وجل يقول أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب(5/531)
بشر ثم يسألهم ماذا يدعون بالنجاة منه قالوا يسألونك النجاة من النار هذا معنى الحديث قال هل رأوها قالوا لا ما رأوها قال فيكف لو رأوها قالوا لكانوا أشد منها مخافة فيقول الله عز وجل أشهدكم أني قد غفرت لهم جميعا وإذا غفر الله لإنسان استحق أن يدخل الجنة وأن ينجو من النار فيقول ملك من الملائكة إن فيهم فلانا ما جاء للذكر لكن جاء لحاجة فوجد هؤلاء القوم فجلس معهم فيقول جل وعلا فله قد غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
ففي هذا الحديث دليل على فضلية مجالسة الصالحين وأن الجليس الصالح ربما يعم الله سبحانه وتعالى بجليسه رحمته وإن لم يكن مثله لأن الله قال قد غفرت لهذا مع أنه ما جاء من أجل الذكر والدعاء لكنه جاء لحاجة وقال هم القوم لا يشقى بهم جليسهم وعلى هذا فيستحب الاجتماع على الذكر وعلى قراءة القرآن وعلى التسبيح والتحميد والتهليل وكل يدعو لنفسه ويسأل الله لنفسه ويذكر لنفسه.
ومن الاجتماع كما ذكرت من قبل أن يجتمع المسلمون على صلاة الفجر وصلاة العصر لأنها ذكر تسبيح وتكبير وتهليل وقراءة قرآن ودعاء وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة الموكلين ببني آدم يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر وفقنا الله وإياك إلى ما يحبه ويرضاه.(5/532)
1448 - وعنه عن أبي سعيد رضي الله عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده رواه مسلم.
1449 - وعن أبي واقد الحارث بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فجلس خلفهم وأما الثالث فأدبر ذاهبا فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا أخبركم عن النفر الثلاثة أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله وأما الآخر فاستحيي فاستحيي الله منه وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
هذان الحديثان من الأحاديث التي ذكرها المؤلف رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) فالأول أخبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما جلس قوم يذكرون الله تعالى إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده وهذا يدل على فضل الاجتماع على ذكر الله عز وجل ولا يلزم من هذا أن(5/533)
يذكروا الله بصوت واحد بل الحديث مطلق لكن لم يعهد عن السلف أنهم يذكرون ذكرا جماعيا كما يفعله بعض أهل الطرق من الصوفية وغيرها وفيه أن هؤلاء المجتمعين تنزل عليهم السكينة والسكينة هي طمأنينة القلب وخشوعه وإنابته إلى الله عز وجل وتغشاهم الرحمة أي تحيط بهم من كل جانب فيكونون أقرب إلى رحمة الله عز وجل وحفتهم الملائكة أي كانوا حولهم يحفون بهم إكراما لهم ورضا بما فعلوا وذكرهم الله فيمن عنده أي في الملأ الأعلى وقد مر علينا أن الله تعالى قال من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم.
وأما الحديث الثاني ففيه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالسا مع أصحابه في المسجد فأقبل ثلاثة نفر يعني ثلاثة رجال أما أحدهم فولي وأعرض ولم يأت إلى الحلقة وأما الثاني فوجد في الحلقة فرجة فجلس وأما الثالث فجلس خلف الحلقة كأنه استحيا أن يزحم الناس وأن يضيق عليهم فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم قال ألا أخبركم بنبأ القوم أما أحدهم فأوى إلى الله فأواه الله عز وجل وهو الذي جلس فأواه الله عز وجل إليه لأنه كان صادق النية في الجلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم فيسر الله له وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه لأنه ما زاحم ولا تقدم وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه لم يوفقه لأن يجلس مع هؤلاء القوم البررة الأطهار.
وفي هذا الحديث إثبات الحياء لله عز وجل ولكنه ليس كحياء المخلوقين بل هو حياء الكمال يليق بالله عز وجل وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إن(5/534)
الله حيي كريم وقال الله تعالى والله لا يستحي من الحق والله سبحانه وتعالى يوصف بهذه الصفة لكن ليس مثل المخلوقين لأن الله سبحانه وتعالى يقول في القرآن {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} فكلما مر عليك صفة من صفات الله مشابهة لصفات المخلوقين في اللفظ فاعلم أنهما لا يستويان في المعنى لأن الله {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} فإذا مر بك مثلا أن الله استوى على العرش فلا تظن أن استواءه على العرش كاستوائك أنت على ظهر البعير الذي قال فيه {إذا استويتم عليه} وإذا قال الله تعالى {بل يداه مبسوطتان} فلا تظن أن يدي الله جل وعلا مثل يديك لأن الله ليس كمثله شيء فجميع صفاته هو منفرد بها وكما أننا نوحده في ذاته ونوحده في العبادة كذلك نوحده في صفاته {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} .
1450 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال خرج معاوية رضي الله عنه على حلقة في المسجد فقال ما أجلسكم قالوا جلسنا نذكر الله قال آلله ما أجلسكم إلا ذاك قالوا ما أجلسنا إلا ذاك قال أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثا مني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال ما أجلسكم قالوا جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا قال آلله ما أجلسكم إلا ذاك(5/535)
قالوا والله ما أجلسنا إلا ذاك قال أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
إن هذا الحديث من الأحاديث التي تدل على فضيلة الاجتماع على ذكر الله عز وجل وهو ما رواه أبو سعيد الخدري عن معاوية رضي الله عنهما أنه خرج على حلقة في المسجد فسألهم على أي شيء اجتمعوا فقالوا نذكر الله فاستحلفهم رضي الله عنه أنهم ما أرادوا إلا ذلك فحلفوا له ثم قال لهم إني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم خرج على قوم وذكر مثله فدل ذلك على فضيلة هذا الاجتماع على ذكر الله وأن الله عز وجل يباهي بهم الملائكة فيقول مثلا انظروا إلى عبادي اجتمعوا على ذكري وما أشبه ذلك مما فيه المباهاة ولكن كما أسلفنا ليس هذا الاجتماع أن يجتمعوا على الذكر بصوت واحد ولكن يتذكرون نعمة الله عليهم بما أنعم عليهم من نعمة الإسلام وعافية البدن والأمن وما أشبه ذلك فإن ذكر نعمة الله من ذكر الله عز وجل فيكون في هذا دليل على فضل جلوس الناس ليتذاكروا نعمة الله عليهم ولهذا كان بعض السلف إذا مر بأخيه أو آتاه أخوه قال اجلس بنا نؤمن ساعة.
أي اجلس بنا نتذكر نعمة الله علينا حتى يزداد إيماننا فدل ذلك على فضيلة هذا الاجتماع نسأل الله أن يجمع قلوبنا على ذكره وشكره وحسن عبادته.(5/536)
باب الذكر عند الصباح والمساء
قال الله تعالى {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين} قال أهل اللغة الآصال جميع أصيل وهو ما بين العصر والمغرب وقال تعالى {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} وقال تعالى {وسبح بحمد ربك بالعشي والأبكار} قال أهل اللغة العشي ما بين زوال الشمس وغروبها وقال تعالى {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} وقال تعالى {إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق} .
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى باب الذكر في الصباح والمساء.
يعني فضيلته في الصباح والمساء يعني أول النهار وآخر النهار وأول الليل ويدخل الصباح من طلوع الفجر وينتهي بارتفاع الشمس ضحا ويدخل المساء من صلاة العصر وينتهي بصلاة العشاء أو قريبا منها.
فالأذكار التي قيدت بالصباح والمساء هذا وقتها والأذكار التي قيدت بالليل تكون بالليل مثل آية الكرسي من قرأها في ليلة فلابد أن تكون في الليل نفسه ثم ذكر المؤلف رحمه الله آيات متعددة في ذلك منها قوله تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين.(5/537)
{واذكر ربك في نفسك} يعني فيما بينك وبين نفسك {تضرعا وخيفة} يعني تضرعا إلى الله عز وجل وافتقارا إليه وإظهارا للفقر بين يديه {وخيفة} يعني خيفة منه أو خيفة ألا تقبل لقول الله تعالى {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} يعني يؤتون ما آتوا ومع هذا قلوبهم وجلة يخافون ألا يقبل منهم لأن الله تعالى لا يتقبل إلا من المتقين {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول} يعني الإسرار {ولا تكن من الغافلين} ثم ذكر أيضا قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا} .
وقوله تعالى {إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق} والآيات في هذا كثيرة وسوف يأتي إن شاء الله في الأحاديث تفسير ذلك.
1451 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد رواه مسلم.
1452 - وعنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة قال أما لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات(5/538)
الله التامات من شر ما خلق لم تضرك رواه مسلم.
1453 - وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا أصبح اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور وإذا أمسى قال اللهم بك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث الثلاثة ذكرها النووي رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) في باب الذكر في الصباح والمساء الأول فضل قول الإنسان سبحان الله وبحمده مائة مرة إذا قالها الإنسان مائة مرة حين يصبح ومائة مرة حين يمسي لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا من عمل أكثر مما عمل وهذا الذكر سبحان الله وبحمده معناه أنك تنزه الله عز وجل عن كل ما لا يليق بجلاله سبحانه وتعالى وتثني عليه بل وتصفه بصفات الكمال وذلك في قولك وبحمده فينبغي للإنسان إذا أصبح أن يقول سبحان الله وبحمده مائة مرة وإذا أمسى أن يقول سبحان الله وبحمده مائة مرة وذلك ليحوز هذا الفضل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك أن الإنسان يقول إذا أصبح وإذا أمسى أعوذ بكلمات الله(5/539)
التامات من شر ما خلق فهذا لجوء إلى الله سبحانه وتعالى واعتصام به من شر ما خلق فإذا قلته ثلاث مرات في الصباح والمساء فإنه لا يضرك شيء ولهذا اشتكى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما وجده من لدغة عقرب فقال أما أنك لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك.
ومن الأذكار الصباحية والمسائية قوله اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور في الصباح وفي المساء اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا وبك نموت وبك نحيا وإليك المصير فينبغي للإنسان أن يحافظ على هذه الأذكار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليكون من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات والله الموفق.
كلمات الله التامات هي كلماته كونية فإنه يقول للشيء كن فيكون وبذلك يحميه.
1454 - وعنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال يا رسول الله مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت قال قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه قال قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك رواه أبو داود والترمذي وقال حديث(5/540)
حسن صحيح.
[الشَّرْحُ]
هذا من الأذكار التي تقال في الصباح والمساء والذي علمها النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه حيث قال علمني فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ذكرا ودعاء يدعو به كلما أصبح وكلما أمسى يقول رضي الله عنه قال قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه قل اللهم فاطر السماوات والأرض يعني يا الله يا فاطر السماوات والأرض وفاطرهما يعني أنه خلقهما عز وجل على غير مثال سبق بل أبدعهما وأوجدهما من العدم على غير مثال سبق عالم الغيب والشهادة أي عالم ما غاب عن الخلق وما شاهدوه لأن الله تعالى يعلم الحاضر والمستقبل والماضي رب كل شيء ومليكه يعني يا رب كل شيء ومليكه والله تعالى هو رب كل شيء وهو مليك كل شيء والفرق بين الرب والمالك في هذا الحديث أن الرب هو الموجد للأشياء الخالق لها والمليك هو الذي يتصرف فيها كيف يشاء أشهد أن لا إله إلا أنت أعترف بلساني وقلبي أنه لا معبود حق إلا أنت فكل ما عبد من دون الله فإنه باطل لا حق له في العبودية ولا حق في العبودية إلا لله وحده عز وجل أعوذ بك من شر نفسي لأن النفس لها شرور كما قال تعالى وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي فإذا لم يعصمك الله من شرور نفسك فإنها تضرك وتأمرك(5/541)
بالسوء ولكن الله إذا عصمك من شرها وفقك إلى كل خير ومن شر الشيطان وشركه وفي لفظ وشركه يعني تسأل الله أن يعيذك من شر الشيطان ومن شر شركه أي ما يأمرك به من الشرك أو شركه والشرك ما يصاد به الحوت والطير وما أشبه ذلك لأن الشيطان له شرك يصطاد به بني آدم إما شهوات أو شبهات أو غير ذلك وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم هذا تتمة الحديث ولعله سقط من هذه النسخة أن أقترف على نفسي سوءا أقترف يعني أجر على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم فهذا الذكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يقوله إذا أصبح وإذا أمسى وإذا أخذ مضجعه.
نسأل الله لنا ولكم الهداية والتوفيق لما يحب ويرضى.
1455 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله لا إله إلا الله وحده لا شريك له قال الراوي أراه قال فيهن له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر وإذا أصبح قال ذلك أيضا أصبحنا وأصبح الملك لله رواه مسلم.(5/542)
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث من الأذكار الواردة في الصباح والمساء وهو ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمسى يقول أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وقد سبق أن أوضحنا معاني هذه الكلمات.
والنبي صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكر الله عز وجل على وجوه متنوعة وأما لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة ومن شر ما بعدها رب أعوذ بك من الكسل والهرم وسوء الكبر وفي لفظ وسوء الكبر وأعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر وإذا أصبح يقول مثل ذلك إلا أنه يقول أصبحنا وأصبح الملك لله ومن أراد الاستزادة من هذه الأذكار فعليه بكتاب (الأذكار) للمؤلف رحمه الله النووي أو (الوابل الصيب من الكلم الطيب) لابن القيم رحمه الله أو غير ذلك مما ألفه العلماء في هذا الباب والله الموفق.
1456 - وعن عبد الله بن خبيب بضم الخاء المعجمة رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء رواه أبو داود والترمذي وقال حديث(5/543)
حسن صحيح.
1457 - وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات إلا لم يضره شيء رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
[الشَّرْحُ]
هذان الحديثان في بيان أذكار الصباح والمساء ذكرهما النووي رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) الأول حديث عبد الله بن خبيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقرأ قل هو الله أحد و {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} في الصباح والمساء ثلاث مرات وبين أن هذا يكفيه كل شيء.
أما السورة الأولى فهي سورة الإخلاص {قل هو الله أحد} التي أخلصها الله تعالى لنفسه فلم يذكر فيها شيئا إلا يتعلق بنفسه جل وعلا ما فيها ذكر لأحكام الطهارة أو الصلاة أو البيع أو غير ذلك كلها مخلصة لله عز وجل ثم الذي يقرأها يكمل إخلاصه لله تعالى فهي مخلصة ومخلصة تخلص قارئها من الشرك وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها تعدل ثلث القرآن ولكنها لا تجزئ عنه تعدله ولا تجزئ عنه الشيء قد(5/544)
يكون عديلا للشيء ولكن لا تجزئ عنه ألم تروا أن الإنسان إذا قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل ومع ذلك لا يجزئ عن عتق رقبة ففرق بين المعادلة في الأجر وبين الإجزاء في الكفارة ولهذا لو قرأ الإنسان {قل هو الله أحد} في الصلاة ثلاث مرات ما أجزأت عن الفاتحة مع أنه لو قرأها ثلاث مرات كأنما قرأ القرآن كله لأنها تعدل ثلث القرآن.
وأما {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} فهما السورتان اللتان نزلتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سحره الخبيث لبيد بن الأعصم اليهودي فأنزل الله هاتين السورتين فرقاه بهما جبريل فأحل الله عنه السحر قال النبي صلى الله عليه وسلم ما تعوذ متعوذ بمثلهما تستعيذ {برب الفلق} فالفلق فلق الإصباح وهو فالق الحب والنوى جل وعلا {من شر ما خلق} كل ما خلق {ومن شر غاسق إذا وقب} يعني الليل إذا دخل لأن الليل تكثر فيه الهوام والوحوش وغير ذلك فتستعيذ بالله من شر غاسق إذا وقب {ومن شر النفاثات في العقد} أي الساحرات اللاتي يعقدن عقد السحر وينفثن فيها بالطلاسم والتعوذات والاعتصام بالشياطين والاستعانة بهم والعياذ بالله {ومن شر حاسد إذا حسد} هو العائن يصيب بعينه لأن الساحر يؤثر والعائن يؤثر فأمرت أن تستعيذ {برب الفلق} جل وعلا {من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات(5/545)
في العقد ومن شر حاسد إذا حسد} وتأمل تناسب هذه الآيات الثلاثة {ومن شر غاسق إذا وقب} الليل لأن البلاء يكون فيه خفيا والسحر كذلك خفي والعين كذلك خفية فنستعيذ برب الفلق الذي يفلق الإصباح حتى يتبين ويفلق النوى حتى يظهر ويبرز فهذه من مناسبة المقسم به والمقسم عليه.
أما {قل أعوذ برب الناس} فهي السورة الأخرى أيضا التي بها الاستعاذة بالله عز وجل {قل أعوذ برب الناس ملك الناس} فهو الرب الملك ذو السلطان الأعظم الذي لا يمانعه شيء ولا مبدل لكلماته جل وعلا {ملك الناس إله الناس} أي معبودهم الذي يعبد بحق فلا معبود حق إلا الله عز وجل {من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس} هذه وساوس الصدور التي يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم وما أكثر ما يلقي الشيطان في هذا العصر من الوساوس العظيمة التي تقلق الإنسان وسبحان الله العظيم الدنيا اسم على مسمى دنيئة لا تتم من وجه إلا نقصت من وجوه ترفنا في هذه الأيام في هذا العهد لا يوجد نظير فيما سبق النعم متوافرة والأموال والبنون وكل شيء والترف الجسدي ظاهر لكن كثرت في الناس الآن كثرة الوساوس والأمراض النفسية والبلاء حتى لا تتم الدنيا فيركن الإنسان إليها لأن الدنيا لو تمت من كل وجه أنست الآخرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها(5/546)
كما تنافسها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم والله عز وجل إذا فتح الدنيا من جانب صار صفوها كدرا من جانب آخر أو من جوانب أخرى والشاعر الجاهلي يقول
فيوم علينا ويوم لنا ...
ويوم نساء ويوم نسر
فالحاصل أن هذه السورة فيها الاستعاذة من الوسواس والوسواس يقع في الإنسان أحيانا في أصول الدين وفي ذات الرب وفي القرآن وفي الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يوسوس الإنسان في أشياء يحب أن يكون فحمة ولا يتكلم بها وسواس أيضا في الطهارة بعض الناس يصاب بالوسواس والعياذ بالله يدخل الحمام للوضوء الذي لا يستغرق خمس دقائق يبق خمس ساعات نسأل الله العافية وفي الصلاة تجده يكرر تكبيرة الإحرام يكرر الكاف عشرين مرة الله أكبر وربما يعجز حتى إن بعضهم يقول إني ما أستطيع أن أصلي إطلاقا فيؤدي به الوسواس إلى ترك الصلاة يقع الوسواس في معاملة الأهل حتى إن بعضهم يخيل إليه أن أهله وضعوا له سحرا في أكله وشربه فيأكل من المطاعم وحتى إن الرجل ليتكلم لأهله فيقول يا أم فلان (زوجته) فيقول له الشيطان طلقتها وينكد عليه الحال حتى إن بعضهم إذا فتح المصحف ليقرأ كلما قلب ورقة خيل له الشيطان أنه قال لامرأته طالق فترك قراءة القرآن فالوساوس عظيمة لكن(5/547)
طردها سهل جدا بينه النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعطاه الله جوامع الكلم وفواتح الكلم وخواتم الكلم حين شكي إليه هذا الأمر فقال صلى الله عليه وسلم إذا وجد أحدكم ذلك فليستعذ بالله ولينته كلمتان يستعذ بالله يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولكن يقولها بصدق وإخلاص وأنه ملتجأ إلى الله حقا لا مفر له من الله إلا إليه ولينتهي يعرض عن هذا ويقول لنفسه لماذا أتوضأ وأصلي ألست أرجو الله وأخافه فينتهي عن هذا ويعرض إطلاقا إذا استعمل هذا وإن كان سوف يكبس على نفسه وسوف يتعلم وسوف يتعذب لكن هذا في أول الأمر ثم بعد ذلك يزول بالكلية لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى قال فليستعذ ولينته {قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس} هذه الجمل الثلاثة الآيات الثلاث يمكن أن يقال إنها استوعبت أقسام التوحيد {رب الناس} توحيد الربوبية {ملك الناس} الأسماء والصفات لأن الملك لا يستحق أن يكون ملكا إلا بتمام أسمائه وصفاته {إله الناس} الألوهية {من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس} .
قال العلماء الخناس هو الذي يخنس عند ذكر الله ولهذا جاء في الحديث إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان(5/548)
الغيلان هي الأوهام والخيالات التي تعرض للإنسان في سفره ولاسيما في الأسفار الأولى على الإبل أو الإنسان الذي يسافر وحده فتتهول له الشياطين تتلون بألوان مزعجة مثل أسد ذئب ضبع شياطين جن إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان يعني قولوا (الله أكبر) فتتلاشى لأن الشيطان يخنس عند ذكر الله عز وجل {من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس} يعني هذا الوسواس يكون من الجنة ويكون من الناس الجنة هي الجن والمراد بهم الشياطين توسوس في الصدور والناس أيضا شياطين بني آدم وما أكثر الشياطين في زماننا وقبل زماننا وإلى يوم القيامة {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين} الآية كذلك لأتباع الأنبياء أعداء من الشياطين يأتون إلى الناس يوسوسون هذا كذا وهذا كذا ربما يوسوسون على السذج من العوام سواء في مذاهب باطلة وملل كاذبة أو غير ذلك المهم عندهم وسواس شياطين الإنس أحذرهم أحذر شياطين الإنس الذين يوسوسون لك في أمور يزينونها في نفسك وهي فاسدة.
فالمهم أن هذه السور الثلاث ينبغي للإنسان أن يقرأها كل صباح وكل مساء لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها والله الموفق.(5/549)
باب ما يقوله عند النوم
قال الله تعالى {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض} .
1458 - وعن حذيفة وأبي ذر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال باسمك اللهم أحيا وأموت رواه البخاري.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه (رياض الصالحين) فيما نقله في باب أذكار الصباح والمساء فيما نقله عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من عبد يقول حين يمسي وحين يصبح بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات إلا وقاه الله تعالى شر ذلك اليوم وهذه الكلمات كلمات يسيرة لكن فائدتها عظيمة بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم لأن الله سبحانه وتعالى بيده ملكوت السماوات والأرض واسمه مبارك إذا ذكر على الشيء ولهذا يسن ذكر الله تعالى بالتسمية على الأكل إذا أردت أن تأكل تقول بسم الله إذا أردت أن تشرب تقول بسم الله إذا أردت(5/550)
أن تأتي أهلك تقول بسم الله فالتسمية مشروعة في أماكن كثيرة ولكنها على القول الراجح على الأكل والشرب واجبة يجب على الإنسان إذا أراد أن يأكل أن يقول بسم الله وإذا أراد أن يشرب أن يقول بسم الله لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن من لم يسم الله على أكله شاركه الشيطان في ذلك فلا تنسى أن تقول في كل مساء وفي كل صباح بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات.
وقوله وهو السميع العليم فالسميع من أسماء الله والعليم من أسماء الله.
فالسميع من أسماء الله تعالى ولها معنيان الأول السمع الذي هو إدراك كل صوت فالله تعالى لا يخفى عليه شيء كل صوت فالله يسمعه مهما بعد ومهما ضعف لما أنزل الله تعالى قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير وهي امرأة جاءت تشتكي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام تقول إن زوجها ظاهر منها يعني قال لها أنت علي كظهر أمي وهذا القول يعد في الجاهلية طلاقا بائنا مثل الطلاق بالثلاثة وهو كذب ومنكر كما قال تعالى {وإنهم ليقولون منكرا من القول} فجاءت تشتكي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية {قد سمع الله قول التي تجادلك} قالت عائشة رضي الله عنها الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات والله لقد جاءت المجادلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلمه وإني لفي الحجرة ويخفي على بعض حديثها(5/551)
والله تعالى من فوق سبع سماوات يسمع كلامهما فالله تعالى يسمع كلامك وإن خفت (ضعف) {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم} فإياك أن تسمع الله عز وجل كلاما لا يرضاه منك واحرص على أن تسمع الله ما يرضاه منك.
ومن معاني السميع أنه سميع الدعاء أي مجيب الدعاء كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم {إن ربي لسميع الدعاء} أي مجيبه فهو جل وعلا يجيب دعاء المضطر وإن كان كافرا ولهذا يجيب الله عز وجل دعاء المضطرين في البحر إذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فينجيهم ويجيب جل وعلا دعوة المظلوم قال النبي صلى الله عليه وسلم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ويجيب سبحانه وتعالى من تعبد له وحمده وأثنى عليه كما يقول المصلي سمع الله لمن حمده.
وأما العليم فهو من أسمائه أيضا وعلم الله تعالى علم واسع محيط بكل شيء قال الله تعالى {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} .
يعلم ما في الأرحام ومفاتح الغيب خمس مذكورة في قوله تعالى {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس(5/552)
ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت} فالله عز وجل عنده مفاتح الغيب ما تسقط من ورقة من شجرة إلا يعلمها إذا سقطت ورقة في شجرة في أبعد الفيافي ولو كانت الورقة صغيرة فالله يعلمها وإذا كان يعلم الساقط فهو جل وعلا يعلم الحادث الذي يخلقه فكل شيء فالله به عليم.
قال الله تعالى {وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت} أنت الآن مثلا في بلدك مستقر ولا عندك نية تسافر يمينا ولا شمالا فإذا أراد الله أن تموت بأرض جعل لك حاجة تحملك تلك الحاجة إلى تلك الأرض وتموت هناك.
ولقد حدثني الثقة عن قصة غريبة يقول إنهم خرجوا من مكة لما كان الناس يحجون على الإبل خرجوا من مكة بعد الحج وفي أثناء الطريق مرضت أمه فجعل يمرضها فارتحل القوم في آخر الليل وبقي هو يمرض أمه ويمهد لها الفراش على الراحلة ثم ركبت الأم وسار يقودها فذهب مع أحد الريعان ضل الطريق فذهب مع أحد الريعان وارتفعت الشمس واحتر الجو فإذا بخباء صغير عند بادية فعرج عليهم (اتجه إليهم) ونزل سلم عليهم وقال لهم أين طريق نجد قالوا طريق نجد بعيد أنت الآن ليس حولك طريق ولكن انزل استرح ثم ندلك على الطريق يقول فأنخت الراحلة وأنزلت والدتي وحينما نزلت على الأرض قبض الله روحها سبحان الله يعني جاءت من بلدها إلى هذه الريعان المجهولة فماتت في المكان الذي قدر الله عز وجل أن تموت فيه لأن الله يقول {وما تدري نفس بأي أرض تموت}(5/553)
فالله تعالى محيط بكل شيء علمه محيط بكل شيء حتى ما في نفسك إذا كنت تفكر في نفسك فالله يعلم ما يدور بنفسك قال الله تعالى {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} فإياك أن تخفي في نفسك ما الله مبديه إياك أن تخفي في نفسك ما لا يرضي الله.
فالمهم أن هذا الدعاء مشروع في كل صباح وفي كل مساء بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
1459 - وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ولفاطمة رضي الله عنهما إذا أويتما إلى فراشكما أو إذا أخذتما مضاجعكما فكبرا ثلاثا وثلاثين وسبحا ثلاثا وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين وفي رواية التسبيح أربعا وثلاثين وفي رواية التكبير أربعا وثلاثين متفق عليه.
1460 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم يقول باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن(5/554)
أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
هذان الحديثان في بيان ما يقوله الإنسان عند نومه الحديث الأول حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وفاطمة بنت محمد رضي الله عنها وصلى الله وسلم على أبيها وذلك أن فاطمة اشتكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما تجده من الرحى (أداة لطحن الحب) وطلبت من أبيها خادما فقال صلى الله عليه وسلم ألا أدلكما على ما هو خير من الخادم ثم أرشدهما إلى هذا أنهما إذا أويا إلى فراشهما وأخذا مضجعيهما يسبحان ثلاثة وثلاثين ويحمدان ثلاثة وثلاثين ويكبران أربعة وثلاثين قال فهذا خير لكما من الخادم وعلى هذا فيسن للإنسان إذا أخذ مضجعه لينام أن يسبح ثلاثة وثلاثين ويحمد ثلاثة وثلاثين ويكبر أربعة وثلاثين فهذه مائة مرة فإن هذا مما يعين الإنسان في قضاء حاجاته كما أنه أيضا إذا نام فإنه ينام على ذكر الله عز وجل.
وكذلك أيضا حديث أبي هريرة إذا أراد الإنسان أن ينام أن ينفض فراشه بداخلة إزاره ثلاث مرات وداخلة الإزار طرفه مما يلي الجسد وكأن الحكمة من ذلك والله أعلم بألا يتلوث الإزار بما قد يحدث من أذى في الفراش وليقل باسمك اللهم وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت روحي فاغفر لها وارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين وذلك(5/555)
أن الإنسان إذا نام فإن الله تعالى يقبض روحه كما قال تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ولكن قبض الروح في المنام ليس كقبضها في الموت إلا أنه نوع من القبض ولهذا يفقد الإنسان وعيه ولا يحس بمن حوله فلهذا سماه الله تعالى وفاة وقال تعالى {وهو الذي يتوفكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار} فينبغي للإنسان أن يقول هذا الذكر باسمك اللهم أحيا وأموت اللهم بك وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت روحي فاغفر لها وارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين والله الموفق.
1461 - وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه وقرأ بالمعوذات ومسح بهما جسده متفق عليه.
وفي رواية لهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس ثم مسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات متفق عليه.
قال أهل اللغة النفث نفخ لطيف بلا ريق.
1462 - وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم(5/556)
إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجي منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت فإن مت مت على الفطرة واجعلهن آخر ما تقول متفق عليه.
1463 - وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي رواه مسلم.
1464 - وعن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يرقد وضع يده اليمنى تحت خده ثم يقول اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك رواه الترمذي وقال حديث حسن.
ورواه أبو داود من رواية حفصة رضي الله عنها وفيه أنه كان يقوله ثلاث مرات.
هذه الأحاديث من بقية الأحاديث التي ساقها المؤلف في كتابه (رياض الصالحين) في باب أذكار النوم فمنها حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ(5/557)
مضجعه جمع كفيه يعني ضم بعضهما إلى بعض ونفث فيهما والنفث هو النفخ مع ريق يسير ثم يقرأ قل هو الله أحد قل أعوذ برب الفلق قل أعوذ برب الناس يمسح بهما أي بيديه ما استطاع من جسده يبدأ برأسه ومقدم جسده ثلاث مرات.
فينبغي للإنسان إذا أخذ مضجعه أن يفعل ذلك ينفخ في يديه مجموعتين ويقرأ فيهما قل هو الله أحد قل أعوذ برب الفلق قل أعوذ برب الناس ثلاث مرات يمسح رأسه ووجهه وصدره وبطنه وفخذيه وساقيه وكل ما يستطيع من جسده.
أما الحديث الثاني فهو حديث البراء بن عازب رضي الله عنه وقد سبق شرحه.
وأما الحديث الثالث فهو حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي يحمد الله عز وجل الذي أطعمه وسقاه بأنه لولا أن الله عز وجل يسر لك هذا الطعام وهذا الشراب ما أكلت ولا شربت كما قال تعالى {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} وقال تعالى {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} فتحمد الله الذي أطعمك وسقاك الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا كفانا يعني يسر لنا الأمور وكفانا المؤونة وآوانا أي جعل لنا مأوى نأوي إليه فكم من إنسان لا كافي له ولا مأوى أو ولا مؤوي فينبغي لك إذا أتيت مضجعك أن تقول هذا(5/558)
الذكر.
ومن ذلك أيضا حديث حذيفة وحفصة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اضطجع وضع يده اليمنى تحت خده الأيمن وقال اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك.
فكل هذه أذكار واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي على الإنسان أن يحفظها ويقولها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقولها والله الموفق.(5/559)
كتاب الدعوات
باب فضل الدعاء
قال الله تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} وقال تعالى {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين} وقال تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} وقال تعالى {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء}
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين كتاب الدعوات: الدعوات جمع دعوة وهي دعوة الإنسان ربه عز وجل يقول يا رب يا رب وما أشبه ذلك يسأل الله تعالى أن يعطيه ما يريد وأن يكشف عنه ما لا يريد ثم قال باب الأمر بالدعاء وفضله ثم ذكر الآيات ادعوني أستجب لكم وهذا قول من الله عز(6/7)
وجل ووعد والله تعالى لا يخلف الميعاد {ادعوني أستجب لكم} والمراد بالدعاء هنا دعاء العبادة ودعاء المسألة أما دعاء العبادة فهو أن يقوم الإنسان بعبادة الله لأن القائم بعبادة الله لو سألته لماذا أقمت الصلاة لم آتيت الزكاة لماذا صمت؟ لماذا حججت؟ لماذا جاهدت؟ لماذا بررت الوالدين؟ لماذا وصلت الرحم؟ لقال أريد بذلك رضا الله عز وجل وهذه عبادة متضمنة للدعاء.
أما دعاء المسألة فهو أن تسأل الله الشيء فتقول يا رب اغفر لي يا رب ارحمني يا رب ارزقني وما أشبه ذلك..
وهذا أيضا عبادة كما جاء في الحديث الدعاء عبادة وهو عبادة لما فيه من صفة التوجه إلى الله عز وجل والاعتراف بفضله فيكون قوله {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} يشمل دعاء العبادة ودعاء المسألة {أستجب لكم} والاستجابة في دعاء العبادة هي قبولها والاستجابة في دعاء المسألة إعطاء الإنسان مسألته وهذا وعد من الله تعالى لكن لابد من أمور فلابد لإجابة الدعاء من شروط منها الإخلاص أن تخلص لله فتكون داعيا له حقا إن كنت في عبادة لا تشرك به شيئا لا تعبده رياء ولا سمعة ولا من أجل أن يقال فلان حاج فلان سخي فلان كثير الصوم إذا قلت هذا أحبط عملك فلابد من الإخلاص في المسألة أيضا(6/8)
ادع الله وأنت تشعر بأنك في حاجة إليه وأنه غني عنك وقادر على إعطائك ما تسأل ولابد أيضا من أن يكون الدعاء لا عدوان فيه فإن كان فيه عدوان فإن الله لا يقبله ولو من الأب لابنه أو من الأم لابنها إذا كان فيه عدوان فإن الله لا يقبله لقول الله تعالى {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين} فلو دعا الإنسان بإثم بأن سأل ربه شيئا محرما فهذا لا يقبل لأنه معتد ولو سأل ما لا يمكن شرعا مثل أن يقول اللهم اجعلني نبيا هذا لا يجوز وهو عدوان لا يقبل ولو دعا على مظلوم فإنه لا يقبل ولو دعت المرأة على ابنها لأنه يحب زوجته فإنه لا يقبل وكذلك الأب لو دعا على ابنه لأنه صاحب أناسا طيبين فإنه لا يقبل فيشترط أن يكون في الدعاء عدوان الشرط الثالث: يشترط أن يدعو الله تعالى وهو موقن بالإجابة لا دعاء تجربة لأن بعض الناس قد يدعو ليجرب ليرى هل يقبل الدعاء أم لا؟ هذا لا يقبل منه ادع الله وأنت موقن بأن الله تعالى سوف يجيبك فإن كنت دعوته وأنت في شك فإن الله لا يقبله منك الشرط الرابع: اجتناب الحرام بأن لا يكون الإنسان آكلا للحرام فمن أكل الحرام من ربا أو فوائد غش أو كذب أو ما أشبه ذلك فإنه لا يستجاب له والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين قال تعالى {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا} وقال {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات(6/9)
ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك فاستبعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستجيب الله لهذا مع أنه فعل من أسباب الإجابة ما يكون جديرا بالإجابة ولكن لما كان يأكل الحرام صار بعيدا أن يقبل الله منه فهذه أربعة شروط للدعاء لابد منها والله الموفق
باب الأمر بالدعاء وفضله
وقال تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} وقال تعالى {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء}
[الشَّرْحُ]
سبق لنا الكلام على بيان فضيلة الدعاء وشروط الإجابة وفي هذه الآية الكريمة يقول الله تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله له {وإذا سألك عبادي عني}(6/10)
يعني هل أني قريب أم لست بقريب؟ فالجواب {فإني قريب} وقربه جل وعلا قرب يليق بجلاله وعظمته ليس قرب مكان لأنه سبحانه وتعالى فوق كل شيء فوق السماوات السبع فوق العرش ولكنه قرب يليق بجلاله وعظمته فهو مع علوه العظيم الذي لا منتهى له إلا بذاته المقدسة فهو مع ذلك قريب في علوه بعيد في دنوه جل وعلا قال النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم لأصحابه إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ولكنه فوق سماواته.
السماوات السبع والأراضين السبع في كفه جل وعلا كالخردلة في كف أحدنا فهو محيط بكل شيء لا إله إلا هو {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب} قربا يليق بجلاله وعظمته وليس قرب مكان بمعنى أنه ليس عندنا في الأرض بل هو فوق السماوات جل وعلا {أجيب دعوة الداع إذا دعان} هذا الشاهد أنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه حقيقة والتجأ إليه وافتقر إليه وعلم أنه لا يكشف السوء إلا الله وأنه محتاج إلى ربه فإنه إذا دعاه في هذا الحال أجابه سبحانه وتعالى ولكن لابد من ملاحظة الشروط السابقة وقال تعالى {فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي} فليستجيبوا أي لما دعوتهم إليه من عبادته سبحانه وتعالى ومنها أن يدعوني لأن الله أمرنا بذلك {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم}(6/11)
{وليؤمنوا بي} إيمانا حقيقيا لا شك معه ولا كفر معه وحينئذ يكون الله تعالى أسرع إليهم بالإجابة {لعلهم يرشدون} لعل هنا للتعليل أي لأجل أن يرشدوا فيكونوا في جميع تصرفاتهم على وجه الرشد والرشد عكس السفه وهذه أيضا من الآيات التي تحث الإنسان إلى الدعاء بإيمان وإخلاص ثم ذكر المؤلف الآية الرابعة: قال تعالى {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض} الاستفهام هنا للإنكار والنفي يعني لا أحد يجيب المضطر إذا دعاه إلا الله فالله عز وجل يجيب دعوة المضطر ولو كان كافرا حتى الكافر إذا اضطر ودعا ربه أجابه قال الله تعالى {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور} فالمضطر الذي تلجئه الضرورة إلى دعاء الله ولو كان كافرا يجيب الله دعوته فما بالك إذا كان مؤمنا؟ فمن باب أولى فلا أحد يجيب المضطر إلا الله أما غير الله عز وجل فقد يجيب وقد لا يجيب ربما تستغيث بإنسان في ضيق أو حريق تستغيث به ولا يجيبك ولا ينقذك لكن الله عز وجل إذا اضطررت إليه ودعوته أجابك {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض} {يكشف السوء} أي يزيله {أإله مع الله} أي لا إله مع الله يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء وفي هذا رد وإبطال لما يدعيه(6/12)
عباد الأصنام من أنها تجيبهم وتغيثهم فإن هذا لا حقيقة له أي أحد تدعوه من دون الله لا يجيب حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لو دعوته وقلت يا رسول الله أنقذني من الشدة فإنك مشرك كافر والرسول صلى الله عليه وسلم متبرئ منك ويقاتلك لو كان حيا لأنه لا أحد يدعى إلا الله كل من يدعى من دون الله فإنه لا يستجيب وقال تعالى {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين} فهذه الآيات وأمثالها كلها تدل على فضيلة الدعاء والدعوة إليه وإنه لا ينبغي للإنسان أن يستغني عن ربه طرفة عين والله الموفق
1465 - وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدعاء هو العبادة رواه أبو داود والترمذي وقالا حديث حسن صحيح
[الشَّرْحُ]
عندما ذكر المؤلف رحمه الله الآيات الدالة على فضل الدعاء والأمر به ذكر الأحاديث وذلك أن الأدلة هي الكتاب والسنة وإجماع المسلمين(6/13)
والقياس الصحيح هذه هي الأدلة الأربعة التي بنى المسلمون عليها أحكام شريعة الله عز وجل الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح وكلها تدور على القرآن الكريم هو الأصل فلولا أن الله سبحانه وتعالى جعل طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم من طاعته وأمر باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ما كانت السنة دليلا ولولا أن الله جعل إجماع هذه الأمة على حق ولا يمكن أن تجتمع على ضلالة ما كان الإجماع دليلا ولولا أن الاعتبار والنظر وإلحاق النظير بالنظير من أدلة الشرع دل عليه القرآن ما كان القياس أيضا دليلا ولكن كل هذا قد دل عليه القرآن بأنه دليل تثبت به الأحكام الشرعية فذكر المؤلف رحمه الله آيات من كتاب الله عز وجل في فضل الدعاء والأمر به ثم ذكر الأحاديث ومنها حديث النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الدعاء هو العبادة يعني الدعاء من العبادة ويشهد لهذا قول الله تعالى وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين لم يقل يستكبرون عن دعائي قال {عن عبادتي} فدل هذا على أن الدعاء هو العبادة ووجه ذلك من النظر أن الإنسان إذا دعا ربه فقد اعترف لله عز وجل بالكمال وإجابة الدعاء وأنه على كل شيء قدير وأن العطاء أحب إليه من المنع ثم إنه لم يلجأ إلى غيره لم يدع غير الله لا ملكا ولا نبيا ولا وليا ولا قريبا ولا بعيدا وهذا هو حقيقة العبادة وبذلك تعرف أنك إذا دعوت الله أثبت على(6/14)
هذا الدعاء سواء استجيب لك أم لا لأنك تعبدت لله عز وجل وعبدت الله فإذا قلت يا رب اغفر لي يا رب ارحمني يا رب ارزقني يا رب اهدني فهذه عبادة تقربك إلى الله عز وجل ويكتب الله لك بها ثوابا عنده يوم القيامة والله الموفق
1466 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك رواه أبو داود بإسناد جيد
1467 - وعن أنس رضي الله عنه قال: كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار متفق عليه زاد مسلم في روايته قال: وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله في باب فضل الدعاء أحاديث منها حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الجوامع من الدعاء ويدع ما(6/15)
سوى ذلك يعني أنه إذا دعا يختار من الدعاء أجمعه كلمات جامعة عامة ويدع التفاصيل وذلك لأن الدعاء العام أبلغ في العموم والشمول من التفاصيل فمثلا إذا أراد أن يدعو الإنسان ربه أن يدخله الجنة قال اللهم أدخلني الجنة ولا يحتاج أن يفصل ويقول فيها كذا وكذا لأنه قد يكون هناك أشياء لا يعلمها فيكون هذا التفصيل كالحاصل لها فإذا دعا دعاء عاما كان هذا أشمل وأجمل.
وأما تكرار الدعاء فسوف يأتي إن شاء الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكرر الدعاء فإذا دعا دعا ثلاثا والظاهر أن المؤلف سيذكره ومن أجمع ما يكون من الدعاء ما ذكره في حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول في دعائه ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار فإن هذا الدعاء أجمع الدعاء ربنا آتنا في الدنيا حسنة يشمل كل حسنات الدنيا من زوجة صالحة ومركب مريح وسكن مطمئن وغير ذلك وفي الآخرة حسنة كذلك يشمل حسنة الآخرة كلها من الحساب اليسير وإعطاء الكتاب باليمين والمرور على الصراط بسهولة والشرب من حوض الرسول صلى الله عليه وسلم ودخول الجنة إلى غير ذلك من حسنات الآخرة فهذا الدعاء من أجمع الأدعية بل هو أجمعها لأنه شامل وكان أنس رضي الله عنه يدعو بذلك وإذا دعا بشيء آخر دعا بذلك أيضا يعني كأنه(6/16)
رضي الله عنه لا يدعه أبدا إذا دعا وهذا يدل على فضيلة هذا الدعاء وأنه ينبغي للإنسان أن يدعو به ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يختم به أشواط الطواف يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار في آخر كل شوط والله أعلم
1468 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
لما ذكر المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين بعض الأحاديث الواردة في الدعاء ذكر حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى هذه أربع كلمات يسألها النبي صلى الله عليه وسلم ربه اللهم إني أسألك الهدى والهدى يعني العلم النافع والهدى نوعان هدى علم وهدى عمل وبعضهم يقول هدى دلالة وهدى توفيق فإذا سأل الإنسان ربه الهدى فهو يسأل الأمرين يعني يسأل الله أن يعلمه وأن يوفقه للعمل وهذا داخل في قوله تعالى في سورة الفاتحة اهدنا الصراط المستقيم يعني دلنا على الخير ووفقنا إلى القيام به(6/17)
لأن الناس ينقسمون إلى أربعة أقسام في هذا الباب: قسم علمه الله ووفقه للعمل وهذا أكمل الأقسام وقسم حرم العلم والعمل وقسم أوتي العلم وحرم العمل وقسم أوتي العمل لكن بدون علم فضل كثيرا خير الأقسام الذي أوتي العلم والعمل وهذا داخل في دعاء الإنسان اللهم اهدني أو {اهدنا الصراط المستقيم} وأما قوله التقى فالتقى بمعنى التقوى والتقوى اسم جامع لفعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه لأنه مأخوذ من الوقاية ولا يقيك من عذاب الله إلا فعل أوامره واجتناب نواهيه والعفاف يعني العفاف عن الزنا ويشمل الزنا بأنواعه زنا النظر زنا اللمس زنا الفرج زنا الاستماع كل أنواع الزنا فتسأل الله العفاف عن الزنا كله بأنواعه وأقسامه لأن الزنا والعياذ بالله من الفواحش قال الله تعالى {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} وهو مفسد للأخلاق ومفسد للأنساب ومفسد للقلوب ومفسد للأديان وأما الغنى فالمراد الغنى عن الخلق بأن يستغني الإنسان بما أعطاه الله عما في أيدي الناس سواء أعطاه الله مالا كثيرا أو قليلا والقناعة كنز لا ينفد وكثير من الناس يعطيه الله تعالى ما يكفيه لكن يكون في قلبه الشح والعياذ بالله فتجده دائما في فقر وإذا سألت الله الغنى فهو سؤال أن يغنيك الله تعالى عما في أيدي الناس بالقناعة والمال الذي تستغني به عن غيره جل(6/18)
وعلا فهذه الأدعية الأربعة ينبغي أن يدعى بها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بها اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى والله الموفق
1469 - وعن طارق بن أشيم رضي الله عنه قال: كان الرجل إذا أسلم علمه النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني رواه مسلم وفي رواية له عن طارق أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل فقال يا رسول الله كيف أقول حين أسأل ربي قال: قل اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني فإن هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك
[الشَّرْحُ]
ساق المؤلف في كتابه رياض الصالحين عن طارق بن أشيم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أسلم الرجل علمه الصلاة لأن الصلاة هي أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين أركان الإسلام خمسة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام وأعظم أركانه بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله الصلاة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الرجل إذا أسلم كيف يصلي ويأمره بهذا(6/19)
الدعاء اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني خمس كلمات يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم الرجل إذا أسلم اللهم اغفر لي يعني الذنوب والكافر إذا أسلم غفر الله له ذنوبه كما قال الله تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ولكن مع ذلك فطلب المغفرة يستمر حتى بعد الإسلام فيكون من كل مسلم لأن الإنسان لا يخلو من الذنوب كما جاء في الحديث كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون وارحمني يعني أسبغ علي رحمتك ففيه طلب المغفرة والمغفرة النجاة من السيئات والآثام والعقوبات وفيه طلب الرحمة والرحمة حصول المطلوبات لأن الإنسان لا يتم له الأمر إلا إذا نجا من المكروب وفاز بالمطلوب واهدني وقد سبق لنا بيان معنى الهداية أنها هداية علم وبيان وهداية توفيق ورشد وعافني وارزقني عافني أي من كل مرض والأمراض نوعان مرض قلبي كما قال تعالى {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا} ومرض جسمي في الأعضاء في البدن وإذا سألت الله العافية فالمراد من هذا ومن هذا ومرض القلب أعظم من مرض البدن لأن مرض البدن إذا صبر الإنسان واحتسب الأجر من الله صار رفعة في درجاته وتكفيرا لسيئاته والنهاية فيه الموت والموت مآب كل حي ولابد منه(6/20)
لكن مرض القلب والعياذ بالله فيه فساد الدنيا والآخرة إذا مرض القلب بالشك أو بالشرك أو النفاق أو كراهة ما أنزل الله أو بعض أولياء الله أو ما أشبه ذلك فقد خسر الإنسان دنياه وآخرته ولهذا ينبغي لك إن سألت الله العافية أن تستحضر أنك تسأل الله العافية من مرض القلب والبدن مرض القلب الذي مداره على شك أو شرك أو شهوة وكذلك اللفظ الآخر الذي ذكره المؤلف رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل عن ما الذي ينفعه وما الذي يحتاجه فأمره أن يدعو بهذا الدعاء اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني فينبغي للإنسان أن يحرص على هذا الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم أمته والذي يبادر بتعليمه إذا أسلم ارزقني يعني الرزق الذي يقوم به البدن من الطعام والشراب واللباس والمسكن وغير ذلك والرزق الذي يقوم به القلب وهو العلم النافع والعمل الصالح وهذا يشمل هذا وهذا فالرزق نوعان رزق يقوم به البدن ورزق يقوم به القلب والدين والإنسان إذا قال ارزقني فهو يسأل الله هذا وهذا والله الموفق
1470 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك رواه مسلم(6/21)
1471 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تعوذوا بالله من جهد البلاء ودرك الشفاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء متفق عليه وفي رواية قال سفيان أشك أني زدت واحدة منها
[الشَّرْحُ]
نقل المؤلف رحمه الله فيما كان يسوقه من أحاديث الدعاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك القلوب بيد الله عز وجل كل قلب من قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه حيث يشاء وكيف شاء عز وجل ولهذا كان ينبغي للإنسان أن يسأل الله دائما أن يثبته وأن يصرف قلبه على طاعته وإنما خص القلب لأن القلب إذا صلح صلح الجسد كله وإذا فسد فسد الجسد كله كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله وقوله صرف قلوبنا على طاعتك قد يتبادر إلى الذهن أن الأولى أن يقال إلى طاعتك لكن قوله على طاعتك أبلغ يعني قلب القلب على الطاعة فلا يتقلب على معصية الله لأن القلب إذا تقلب على الطاعة صار ينتقل من طاعة إلى أخرى من صلاة إلى ذكر إلى صدقة إلى صيام إلى علم إلى غير ذلك من طاعة الله فينبغي لنا أن ندعو بهذا الدعاء اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك(6/22)
أما الحديث الثاني حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تعوذوا بالله من جهد البلاء ودرك الشفاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء فهذه أربعة أشياء أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نتعوذ منها أولا: جهد البلاء أي من البلاء الذي يبلو الجهد أي الطاقة والبلاء نوعان بلاء جسمي كالأمراض وبلاء ذكري معنوي بأن يبتلى الإنسان بمن يتسلط عليه بلسانه فينشر معايبه ويخفي محاسنه وما أشبه ذلك هذا من البلاء الذي يشق على الإنسان وربما يكون مشقة هذا على الإنسان أبلغ من مشقة جهد البدن فيتعوذ الإنسان بالله من جهد البلاء أما البلاء البدني فأمره ظاهر أمراض في الأعضاء أوجاع في البطن في الصدر في الرأس في الرقبة في أي مكان هذا من البلاء وربما يكون أيضا من البلاء قسم(6/23)
ثالث وهو ما يبتلي الله به العبد من المصائب العظيمة الكبيرة فمن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه وإذا أصابه خير وراحة وطمأنينة اطمأن وإذا أصابه فتنة دينية أو دنيوية انقلب على وجهه تجد إيمانه مثلا متزعزع أدنى شبهة ترد عليه تصرفه عن الحق تجده لا يصبر أدنى بلاء يصيبه يصرفه عن الحق فيتسخط على قضاء الله وقدره وربما يقع في قلبه أشياء لا تليق بالله عز وجل من أجل هذا البلاء ومن درك الشقاء أي ومن أن يدركك الشقاء والشقاء ضد السعادة والسعادة سببها العمل الصالح والشقاء سببه العمل السيئ فإذا استعذت بالله من درك الشقاء فهذا يتضمن الدعاء بألا تعمل عمل الأشقياء ومن سوء القضاء سوء القضاء يحتمل معنيين المعنى الأول أن أقضي قضاء سيئا والمعنى الثاني أن الله يقضي على الإنسان قضاء يسوءه والقضاء يعني الحكم فالإنسان ربما يحكم بالهوى ويتعجل الأمور ولا يتأنى ويضطرب هذا سوء قضاء كذلك القضاء من الله قد يقضي الله عز وجل على الإنسان قضاء يسوءه ويحزنه فتستعيذ بالله عز وجل من سوء القضاء ومن شماتة الأعداء الأعداء جمع عدو وقد ذكر الفقهاء ضابطا للعدو فقالوا من سره ما ساء في شخص أو غمه فرحه فهو عدوه كل(6/24)
إنسان يسره ما ساءك أو يغمه فرحك فهو عدو لك وشماتة الأعداء أن الأعداء يفرحون عليك يفرحون بما أصابك والعدو لا شك أنه يفرح في كل ما أصاب الإنسان من بلاء ويحزن في كل ما أصابه من خير فأنت تستعيذ بالله عز وجل من شماتة الأعداء فأمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نتعوذ بالله من هذه الأمور الأربعة فينبغي للإنسان أن يمتثل أمر الرسول وأن يستعيذ بالله منها لعل الله أن يستجيب له والله الموفق
1472 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث ساقها المؤلف رحمه الله في كتاب رياض الصالحين في باب فضل الدعاء منها حديث علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقول اللهم إني أسألك الهدى والسداد أما الهدى فقد سبق الكلام على معناه وأما السداد فهو تسديد الإنسان في قوله وفعله وعقيدته والتسديد معناه أن يوفق الإنسان إلى الصواب بحيث لا يضل وقد قال تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم قولا سديدا أي صوابا فذكر الله تعالى في القول السديد فائدتين أولا: صلاح الأعمال والثانية: مغفرة الذنوب فينبغي للإنسان أن يسأل الله هذا الدعاء اللهم إني أسألك الهدى والسداد أو يقول اللهم اهدني وسددني المعنى واحد ومن ذلك أيضا حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي(6/25)
آخرتي التي إليها معادي أو التي فيها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر فبدأ بالدين أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري الذي به يعتصم الإنسان من الشر ويعتصم من الأعداء لأنه كلما صلح الدين اعتصم الإنسان به من كل شر وصلاح الدين يكون بالإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أشرك بالله فدينه غير صالح من صلى رياء أو تصدق رياء أو صام رياء أو قرأ القرآن رياء أو ذكر الله رياء أو طلب العلم رياء أو جاهد رياء فكل هذا عمله غير صالح والعياذ بالله وهو مردود عليه لقول الله تعالى في الحديث القدسي أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك به معي غيري تركته وشركه كذلك المبتدع لا عصمة له فليس معصوما من الشر بل الذي وقع فيه هو الشر قال الرسول صلى الله عليه وسلم كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار فالمبتدع وإن ذكر الله وإن سبح وإن حمد وإن صلى على وجه ليس بمشروع فعمله مردود عليه قد يزين الشيطان للإنسان عبادة فيلين قلبه ويخشع ويبكي ولكن ذلك لا ينفعه إذا كان بدعة بل هو مردود عليه ألم تر إلى النصارى يأتون الكنيسة ويبكون ويخشعون أشد من خشوع(6/26)
بعض المسلمين ومع ذلك لا ينفعهم هذا لأنهم على ضلالة كذلك أهل البدع نجد مثلا من أهل البدع ولاسيما الصوفية نجد عندهم أذكار كثيرة يذكرون الله ويبكون ويخشعون وتلين قلوبهم لكن هذا كله لا ينفعهم لأنه على غير شرع الله قال النبي صلى الله عليه وسلم من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد مردود عليه وقال من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد أصلح لي ديني يعني اجعله صالحا بأن يكون خالصا صوابا وقوله هو عصمة أمري يعني الذي اعتصم به من الشر والفتن وغير ذلك وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي الدنيا معاش تقيم فيها أو تسكن فيها إلى أن تموت ولكنها ليست دار قرار وأين الذين استقروا فيها أين الملوك وأبناء الملوك أين الأغنياء أين الأثرياء أين الفقراء أين الأسياد كلهم ذهبوا فصاروا أحاديث وأنت في يوم من الأيام ستكون أحاديث قال الشاعر الحكيم دنيا يرى الإنسان فيها مخطرا حتى يرى خبرا من الأخبار هو الآن مخطر يقول صار كذا وصار كذا ومات فلان وولد فلان(6/27)
ولكنه سوف يكون هو خبرا من الأخبار نحن الآن نتحدث عن مشايخنا عن زملائنا عن إخواننا عن آبائنا خبرا من الأخبار كأن لم يوجد بالدنيا كأنهم أحلام وهكذا أنت أيضا فالدنيا معاش فقط وليست قرار ولكنها إن وفق الإنسان فيها إلى العمل الصالح وجعلها منفعة للآخرة فيا حبذا وإن كانت الأخرى وصار يعمل للدنيا لا للآخرة خسر الدنيا والآخرة والعياذ بالله ولهذا قال التي فيها معاشي فقط معاش يعيش الإنسان ثم يتركها وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي الآخرة هي التي إليها المعاد ولا مفر منها قال الله تعالى في كتابه {قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم} الأولون والآخرون كلهم سوف يجمعهم الله عز وجل في صعيد واحد يوم القيامة يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وقال الله تبارك وتعالى {ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود} لأجل معدود ما قال لأجل ممدود معدود يعد عدا لكن كله يفنى سريعا حال اليوم الذي هو معاد كل واحد كل واحد معاده إلى يوم القيامة والشاعر الحكيم يقول
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته ...
يوما على آلة حدباء محمول
كلنا سنحمل على النعش مهما طالت بنا الحياة أو نحترق فتأكلنا(6/28)
النار أو نموت في فلاة من الأرض فتأكلنا السباع أو في البحر فتأكلنا الحيتان لا ندري المهم أن كل إنسان معاده إلى الآخرة ولهذا قال أصلح لي آخرتي التي إليها معادي وصلاح الآخرة أن الله تعالى ينجيك من عذاب النار ويدخلك الجنة نسأل الله أن يصلح لي ولكم الآخرة واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي في كل شر الإنسان إذا وفق في هذه الحياة وصار يزداد خيرا كل يوم يكتسب عملا صالحا ويحس ذلك بنفسه وتجده يفرح إذا عمل عملا صالحا ويقول {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} كل يوم يزداد يصلي يسبح يقرأ يأمر بالمعروف ينهى عن المنكر يلقى أخاه بوجه طلق إلى آخره خيرات كثيرة فكلما ازداد الإنسان في حياته خيرا كانت حياته خيرا ولهذا في الحديث خيركم من طال عمره وحسن عمله واجعل الموت راحة لي من كل شر الموت فقد الحياة لكن دعا النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله الموت له راحة من كل شر لأن الإنسان لا يدري ما يصيبه في هذه الدنيا قد يبقى في الدنيا طويلا لكنه ينتكس والعياذ بالله يفسد دينه قد يبقى في الدنيا وتحدث فتن عظيمة يتعب فيها يقول ليت أمي لم تلدني يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا يجد فتنا عظيمة لكن قد يكون الموت الذي عجله الله له راحة له من كل شر ولهذا كان الرسول يدعو بهذا الدعاء(6/29)
واجعل الموت راحة لي من كل شر فعليك يا أخي المسلم بهذا الدعاء اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر
1473 - وعن علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قل: اللهم اهدني وسددني وفي رواية: اللهم إني أسألك الهدى والسداد رواه مسلم(6/30)
1474 - وعن أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم والبخل وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات وفي رواية: وضلع الدين وغلبة الرجال رواه مسلم
1474 - وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم والبخل وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات وفي رواية: وضلع الدين وغلبة الرجال رواه مسلم(6/31)
1475 - وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم متفق عليه وفي رواية وفي بيتي وروي ظلما كثيرا وروي كبيرا بالثاء المثلثة وبالباء الموحدة فينبغي أن يجمع بينهما فيقال كثيرا كبيرا
[الشَّرْحُ]
هذه من الأحاديث الذي ذكرها المؤلف رحمه الله في باب الأمر بالدعاء وفضله عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن الحزن لما مضى والهم لما يستقبل والإنسان إذا كان حزينا فيما مضى مهتما لما يستقبل فإنه يتنكد عيشه لكن إذا كان لا يهتم إلا بحاضره ويستعد لمستقبله على الوجه الذي أمر به كان ذلك من طمأنينته فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الهم والحزن الهم للمستقبل والحزن للماضي كثير من الناس تجده يهتم اهتماما عظيما للمستقبل اهتماما لا داعي له فتتنكد عليه حياته ويتعب وإذا وصل إلى حد الفعل وجده سهلا وكثير من الناس أيضا لا ينسى ما مضى فيتجدد له الحزن فيتعب وأعوذ بك من العجز والهرم والكسل العجز والهرم والكسل فالعجز عدم القدرة والهرم الشيخوخة والكسل عدم الإرادة وذلك أن الإنسان إذا لم يفعل فإما لعجزه عن الفعل لمرض أو غيره أو كبر وإما لعدم عزيمته وإرادته فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من العجز والهرم والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل الجبن هو الشح بالنفس وألا يكون الإنسان شجاعا فلا يقدم في محل الإقدام وأما البخل فهو الشح بالمال لا يبذل المال بل يمسكه حتى في الأمور الواجبة لا يقوم بها وأعوذ بك من ضلع الدين وغلبة الرجال ومن غلبة الدين وقهر الرجال كلاهما صحيح فالدين هم والعياذ بالله هم بالنهار وسهر بالليل والإنسان المدين يقلق ويتعب ولكن بشرى للإنسان أنه إذا أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه وإذا أخذها يريد إتلافها أتلفه الله فإذا أخذت أموال الناس بقرض أو ثمن مبيع أو أجرة بيت أو غير ذلك وأنت تريد الأداء أدى الله عنك إما في الدنيا يعينك حتى تسدد وإما في الآخرة صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أما المتلاعب بأموال الناس والذي يأخذها ولا يريد أداءها ولكن يريد إتلافها فإن الله يتلفه والعياذ بالله وأما حديث أبي بكر رضي الله عنه فإنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم دعاء يدعو به في الصلاة وأنت الآن أفهم من السائل ومن المسئول السائل أبو بكر والمسئول النبي صلى الله عليه وسلم أحب الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أبو بكر والرسول صلى الله عليه وسلم أحب الناس إلى أبو بكر لا شك فالسؤال من حبيب إلى حبيبه فلابد أن يكون الجواب من أفضل الأجوبة وقوله في صلاته يحتمل في السجود أو بعد التشهد الأخير قال قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم هذا دعاء جامع نافع اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا وهذا اعتراف من العبد بالظلم وهو من وسائل الدعاء يعني أن ذكر الإنسان حاله إلى ربه عز وجل(6/33)
تتضمن الدعاء فهو وسيلة كما قال موسى عليه السلام رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير فتوسل إلى الله بحاله ولا يغفر الذنوب إلا أنت هذا ثناء على الله عز وجل واعتراف بالعجز وأنه لا يغفر الذنوب إلا الله كما قال تعالى {ومن يغفر الذنوب إلا الله} لو اجتمع الناس كلهم على أن يغفروا لك ذنبا واحدا ما استطاعوا وإنما الذي يغفر لك هو الله عز وجل وقوله اغفر لي مغفرة من عندك أضافها إلى الله لأنها تكون أبلغ وأعظم فإن عظم العطاء من عظم المعطي وارحمني في المستقبل وفقني إلى كل خير إنك أنت الغفور الرحيم هذا توسل إلى الله عز وجل باسمين مناسبين للدعاء لأنه قال اغفر لي وارحمني فالمناسب إنك أنت الغفور الرحيم فينبغي للإنسان أن يقول هذا الدعاء في صلاته إما في سجوده أو بعد التشهد الأخير والله الموفق
1476 - وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما(6/34)
أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير متفق عليه
1477 - وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل رواه مسلم
1478 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك رواه مسلم
1479 - وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والبخل والهرم وعذاب القبر اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها رواه مسلم(6/35)
1480 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت زاد بعض الرواة ولا حول ولا قوة إلا بالله متفق عليه
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث المتعددة ذكرها المؤلف رحمه الله في باب فضل الدعاء والأمر به في كتابه رياض الصالحين وتشتمل على جمل كثيرة منها أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله تعالى أن يغفر له ما قدم وما أخر فقال اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني وهذا يغني عنه كلمة واحدة اللهم اغفر لي ذنبي كله لكن التفصيل في مقام الدعاء أمر مطلوب لأنه يؤدي إلى أن يتذكر الإنسان كل ما عمل مما أسر وأعلن وما علم وما لم يعلم ولأنه كلما تمادى في سؤال الله عز وجل ازداد تعلقا بالله تعالى ومحبة له وخوفا منه ورجاء فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفصل فيما يسأل ربه عز وجل من مغفرة الذنوب وغير ذلك وكذلك أيضا استعاذ الرسول صلى الله عليه وسلم من أمور كثيرة من شر الذنوب وآفاتها وعذاب القبر وغير ذلك مما سمعتم في هذه الأحاديث وهذه الأحاديث ينبغي للإنسان أن يكتبها عنده من هذا الكتاب ويذكر الله تعالى بها(6/36)
ويدعو بها حتى ينتفع وأما قراءتها كهذا هنا فهي حسنة ولا بأس بها لكن في علمي أو ظني أنكم سوف تسمعونها الآن ثم تذهب عن قلوبكم لكن خير من هذا أن تكتبوها من هذا الكتاب وتدعوا الله تعالى بها والله الموفق
1481 - وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الكلمات: اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار ومن شر الغنى والفقر رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح وهذا لفظ أبي داود
1482 - وعن زياد بن علاقة عن عمه وهو قطبة بن مالك رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء رواه الترمذي وقال حديث حسن
1483 - وعن شكل بن حميد رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله علمني دعاء قال: قل اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي ومن شر(6/37)
بصري ومن شر لساني ومن شر قلبي ومن شر منيي رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن
1484 - وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من البرص والجنون والجذام وسيئ الأسقام رواه أبو داود بإسناد صحيح
1485 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة رواه أبو داود بإسناد صحيح
1486 - وعن علي رضي الله عنه أن مكاتبا جاءه فقال إني عجزت عن كتابتي فأعني قال: ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان عليك مثل جبل دينا أداه الله عنك قل: اللهم اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك رواه الترمذي وقال حديث حسن(6/38)
[الشَّرْحُ]
هذه جملة أحاديث من الأدعية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بها منها أنه كان صلى الله عليه وسلم يعوذ بالله من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء الأمراض كما في رواية أخرى سيئات الأعمال والأخلاق سيئات الأعمال هي المعاصي وسيئات الأخلاق هي سوء العاملة مع الخلق والأهواء والإنسان له أهواء ومن الناس من يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهم من يكون هواه تبعا لنفسه وما تهواه وأما الأدواء فهي الأمراض فهذه أيضا مما ينبغي للإنسان أن يستعيذ بالله منها فإذا أعاذه الله من ذلك حصل على خير كثير ومنها أنه كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من البرص والجنون والجذام وسيئ الأسقام وهذه أيضا من أمراض البدن والعقل الجذام هو مرض يصيب الإنسان في أطرافه أحيانا والعياذ بالله إذ بدأ بالطرف يتآكل يتآكل حتى يقضي على البدن كله ولهذا قال العلماء إنه لا يجوز أن يخالط الجذماء الناس وإنه يجب على ولي الأمر أن يجعلهم في مكان خاص وهو ما يعرف الآن عند الناس بالحجر الصحي لأن هذا المرض والعياذ بالله الجذام من أشد الأمراض عدوى يسري سير الهواء نسأل الله العافية قالوا يجب على ولي الأمر أن يجعل الجذماء المصابون بمرض الجذام في مكان خاص كي لا يختلطوا بالناس(6/39)
وسيئ الأسقام وهو جمع سقم وهو المرض ويشمل هذا كل الأمراض السيئة ومنها ما عرف الآن بالسرطان نسأل الله العافية فإنه من أسوأ الأسقام فمثل هذه الأحاديث ينبغي للإنسان أن يحرص عليها وأن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم فيها ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من الجوع ويقول إنه بئس الضجيع ومن الخيانة فإنها بئست البطانة وكما قلت لكم بالأمس إنه مهما كان من سرد الأحاديث فإنها تتبخر لكن ينبغي للإنسان أن يقيدها من هذا الكتاب في صحائف يختص بها ويحفظها شيئا فشيئا والله الموفق
1487 - وعن عمران بن الحصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أباه حصينا كلمتين يدعو بهما: اللهم ألهمني رشدي وأعدني من شر نفسي رواه الترمذي وقال حديث حسن
1488 - وعن أبي الفضل العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله علمني شيئا أسأله الله تعالى قال: سلوا الله العافية فمكثت أياما ثم جئت فقلت يا رسول الله علمني شيئا أسأله الله تعالى قال لي يا عباس يا عم رسول الله سلوا الله العافية في الدنيا(6/40)
والآخرة رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح
1489 - وعن شهر بن حوشب قال قلت لأم سلمة رضي الله عنها يا أم المؤمنين ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك قالت: كان أكثر دعائه: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك رواه الترمذي وقال حديث حسن
1490 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من دعاء داود صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك والعمل الذي يبلغني حبك اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد رواه الترمذي وقال حديث حسن
1491 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألظوا بياذا الجلال والإكرام رواه الترمذي ورواه النسائي من رواية ربيعة بن عامر الصحابي(6/41)
قال الحاكم حديث صحيح الإسناد ألظوا بكسر اللام وتشديد الظاء المعجمة معناه الزموا هذه الدعوة وأكثروا منها
1492 - وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعاء كثير لم نحفظ منه شيئا قلنا يا رسول الله دعوت بدعاء كثير لم نحفظ منه شيئا فقال ألا أدلكم على ما يجمع ذلك كله تقول: اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وأعوذ بك من شر ما استعاذ منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وأنت المستعان وعليك البلاغ ولا حول ولا قوة إلا بالله رواه الترمذي وقال حديث حسن
1493 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والسلامة من كل إثم والغنيمة من كل بر والفوز بالجنة والنجاة من النار رواه الحاكم أبو عبد الله وقال حديث صحيح على شرط مسلم
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في بيان فضل الدعاء ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بها(6/42)
ويأمر بها فمنها حديث الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي وفي رواية وقني شر نفسي ألهمني رشدي يعني اجعلني موفقا إلى الرشد والرشد ضد الغي والغي هو المعاصي والشر والفساد والإنسان إذا وفق إلى الرشد فإنه موفق هو غاية المؤمنين الذين قال الله عنهم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فهذا هو الرشد ومن ذلك أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله العباس عن شيء يدعو الله به فقال قال اللهم إني أسألك العافية ثم جاءه بعد أيام فسأله أي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال قل اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة والعافية هي السلامة من كل شر وإذا وفقك الله لها وعافاك من كل شر من شر الأبدان والقلوب والأهواء وغيرها فأنت في خير ومن ذلك أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر هذا الدعاء اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك وسبق لنا أنه كان يدعو بدعاء آخر مقارب لهذا الدعاء وهو اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك فإذا جمعت بينهما وقلت اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك اللهم يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك كان هذا خيرا(6/43)
ومن ذلك أيضا هذا الدعاء الذي أثر عن داود صلى الله عليه وسلم اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك والعمل الذي يقربني إلى حبك هذا أيضا من الأدعية المهمة إذا أحبك الله وأحببت من أحبه الله كنت من أوليائه وكذلك إذا أحببت العمل الذي يحبه الله عز وجل فهذا أيضا من الدعاء الذي ينبغي للإنسان أن يلزمه دائما فإن حب الله عز وجل هو الغاية كما قال الله تعالى {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} ومن ذلك أيضا اللهم إني أسألك العزيمة على الرشد والسلامة من الإثم والغنيمة من كل بر وأسألك الفوز بالجنة والنجاة من النار إلى غير ذلك من الأحاديث التي ذكرها المؤلف وقد سبق لنا أننا قلنا لكم لو تكتبونها من الكتاب وتقرءونها لأن حفظها في هذا الوقت قد يكون صعبا على الإنسان لكن إذا أخذها وصار يحفظها شيئا فشيئا هان عليه(6/44)
باب فضل الدعاء بظهر الغيب
قال الله تعالى {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} وقال تعالى {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} وقال تعالى إخبارا عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم {ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب}
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصاحين باب فضل الدعاء بظهر الغيب يعني الدعاء لأخيك بظهر الغيب يعني في حال غيبته وذلك أن الدعاء بظهر الغيب يدل دلالة واضحة على صدق الإيمان لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه فإذا دعوت لأخيك بظهر الغيب بدون وصية منه كان هذا دليلا على محبتك إياه وأنك تحب له من الخير ما تحب لنفسك ثم استدل المؤلف رحمه الله بثلاث آيات من كتاب الله ومنها قوله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم واستغفر لذنبك والمؤمنين والمؤمنات فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لذنبه وأن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات وما أكثر الأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر لذنبه ونحن نعلم أنه يستغفر للمؤمنين أيضا لأنه أمر بذلك ومعنى استغفر لذنبك يعني اطلب المغفرة من الله عز وجل أن يغفر ذنبك والمغفرة ستر الذنب والتجاوز عنه لأن هذا هو الذي يدل عليه الاشتقاق فإنه مشتق من المغفر وهو وقاية الرأس بالبيرة المعروفة الخوذة توضع على الرأس عند القتال فتقيه من السهام وتستره ومن ذلك أيضا قول الله تعالى {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين(6/45)
سبقونا بالإيمان} وهؤلاء هم الصنف الثالث من الأصناف الثلاثة الذين قال الله فيهم {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ويبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون} فوصفهم الله بالهجرة والنصرة الصنف الثاني {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون وهؤلاء هم الأنصار أنصار المدينة(6/46)
والصنف الثالث} والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم {وهذه دعوة لإخوانهم بظهر الغيب وأما الآية الثالثة فقال إبراهيم صلى الله عليه وسلم} ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب {فقوله} وللمؤمنين {هذا دعاء للمؤمنين بظهر الغيب إذن الدعاء للمؤمنين بظهر الغيب من طرق الرسل عليهم الصلاة والسلام ومن سبيل الرسل عليهم الصلاة والسلام ومن ذلك أننا نحن كلنا ندعو لإخواننا في صلاتنا بظهر الغيب كلنا يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وهذا دعاء وقد قال النبي إنكم إذا قلتم ذلك فإنكم قد سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض إذن إذا قلت السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فهذا دعاء لإخوانك بظهر الغيب
1494 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك ولك بمثل رواه مسلم(6/47)
1495 - وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
ثم ذكر المؤلف حديث أبي الدرداء رضي الله عنه بلفظيه أن الإنسان إذا دعا لأخيه بظهر الغيب قال الملك آمين ولك مثله يعني لك بمثل ذلك فالملك يؤمن على دعائك إذا دعوت لأخيك بظهر الغيب ويقول لك مثله وهذا يدل على فضيلة هذا لكن هذا فيمن لم يطلب منك أن تدعو له أما من طلب منك أن تدعو له فدعوت له فهذا كأنه شاهد لأنه يسمع كلامك لأنه هو الذي طلب منك لكن إذا دعوت له بظهر الغيب بدون أن يخبرك بدون أن يطلب منك فهذا هو الذي فيه الأجر وفيه الفضل والله الموفق}(6/48)
باب في مسائل من الدعاء
1496 - عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح
[الشَّرْحُ]
هذه مسائل متشكلة من أنواع الدعاء منها حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من صنع إليه معروف فقال جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء إذا صنع إليك إنسان معروفا بمال أو مساعدة أو علم أو جاه يعني توجه لك أو غير ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تكافئ صانع المعروف فقال من صنع إليكم معروفا فكافئوه والمكافأة تكون بحسب الحال من الناس من تكون مكافأته أن تعطيه مثل ما أعطاك أو أكثر ومن الناس من تكون مكافأته أن تدعو له ولا يرضى أن تكافئه بمال فإن الإنسان الكبير الذي عنده أموال كثيرة وله جاه وشرف في قومه إذا أهدى إليك شيئا فأعطيته مثل ما أهدى إليك رأى في ذلك قصورا في حقه لكن مثل هذا ادع الله له فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا(6/49)
أنكم قد كافأتموه ومن ذلك أن تقول له جزاك الله خيرا إذا أعطاك شيئا أو نفعك بشيء فقل له جزاك الله خيرا فقد أبلغت في الثناء وذلك لأن الله تعالى إذا جزاه خيرا كان ذلك سعادة له في الدنيا والآخرة
1497 - وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم رواه مسلم
وأما الحديث الثاني وهو حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تدعوا على أنفسكم ولا على أولادكم ولا على أموالكم فإنه ربما يصادف ساعة إجابة فتجاب فهذا يقع كثيرا عند الغضب إذا غضب الإنسان ربما يدعو على نفسه وربما يدعو على ولده ويقول قاتلك الله قتلك الله..
..
وما أشبه ذلك حتى إن بعضهم يدعو على ولده باللعنة نسأل الله العافية وكذلك نجد بعضهم يدعو على أهله على زوجته على أخته ربما دعا على أمه والعياذ بالله مع الغضب وكذلك أيضا يدعو على ماله يقول مثلا على سيارة اختلفوا عليها الله لا(6/50)
يبارك في هذه السيارة أو في هذه الدار أو هذا الفراش وما أشبه ذلك كل ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن ندعو عليه لأنه ربما صادف ساعة إجابة فإذا صادف ساعة إجابة فإنه يستجاب لو قلت لولدك تعال لماذا فعلت كذا الله لا يوفقك الله لا يربحك الله لا يصلحك فتصادف ساعة إجابة كل هذا حرام لا يجوز لأنه ربما صاف ساعة إجابة كذلك المال المال الذي يتعاكس عليك السيارة أو الشغل في البيت أو غير ذلك لا تدع عليه لكن قل اللهم يسر الأمر اللهم سهل حتى يحصل التسهيل والتيسير
1498 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء رواه مسلم
وأما حديث أبي هريرة ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء الإنسان إذا كان يدع الله تعالى فإنه قريب من الله والله تعالى قريب منه كما قال جل وعلا وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان(6/51)
فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون أقرب ما يكون الإنسان من ربه وهو ساجد وذلك لأن في السجود كمال الخضوع لله عز وجل لأنك تضع أشرف أعضائك وأعلى أعضائك تضعها في الأسفل في موضع الأقدام تعظيما للرب عز وجل فيأبى الله تعالى إلا أن يقرب منك في هذا الحال وأنت تقرب من ربك فأكثروا من الدعاء وأنتم سجود في الفرائض والنوافل أكثر من الدعاء في أمور الدنيا وأمور الآخرة كله خير حتى لو كنت تدعو الله في أمور الدنيا وأنت ساجد فهو خير لأن الدعاء نفسه عبادة لو قلت اللهم كثر مالي اللهم هيئ لي سكنا جميلا اللهم هيئ لي سيارة مريحة وما أشبه ذلك فلا بأس به ولو كان في الفريضة اللهم اغفر لي ولوالدي لأن الدعاء عبادة فأي شيء تدعوا به الله فإنه عبادة أي شيء حتى جاء في الحديث ليسأل أحدكم ربه حتى شراك نعله شراك النعل شيء زهيد ولكن تسأل الله كل شيء لأن كل شيء تسأله الله فهو عبادة لك ثم اعلم أنك إذا سألت الله فإنك رابح في كل حال لأنه إما أن يعطيك ما تسأل أو يصرف عنك من السوء ما هو أعظم أو يدخر ذلك لك عنده يوم القيامة أجرا فمن دعا الله تعالى فإنه لا يخيب فأكثر من الدعاء أكثر من دعاء الله أكثر من الاستغفار إلى الله والتوبة إليه فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول إنه ليغان على قلبي وإني أستغفر الله وأتوب إليه مائة مرة وهو الذي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة ولا تغفل هذا في اليوم وهو يسير يعني لو قلت أستغفر الله وأتوب إليه تخلص مائة مرة في عشر دقائق أو أقل الأمر بسيط وبه تحصل على خير والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم والله الموفق(6/52)
1499 - وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول قد دعوت ربي فلم يستجب لي متفق عليه وفي رواية لمسلم: لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل قيل يا رسول الله ما الاستعجال قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء
[الشَّرْحُ]
إن هذا الحديث في باب آداب الدعاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يعني أن الإنسان حري أن يستجيب الله دعاءه إلا إذا عجل ومعنى العجلة فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول دعوت ودعوت فلم(6/53)
أر من يستجيب لي فحينئذ يستحسر ويدع الدعاء وهذا من جهل الإنسان لأن الله سبحانه وتعالى لا يمنعك ما دعوته به إلا لحكمة أو لوجود مانع يمنع من إجابة الدعاء ولكن إذا دعوت الله فادع الله تعالى وأنت مغلب للرجاء على اليأس حتى يحقق الله لك ما تريد ثم إن أعطاك الله ما سألت فهذا المطلوب وإن لم يعطك ما سألت فإنه يدفع عنك من البلاء أكثر وأنت لا تدري أو يدخر ذلك لك عنده يوم القيامة فلا تيأس ولا تستحسر ادع ما دام الدعاء عبادة فلماذا لا تكثر منه بل أكثر منه استجاب الله لك أو لم يستجب ولا تستحسر ولا تسيء الظن بالله عز وجل فإن الله تعالى حكيم يقول الله تعالى وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله الموفق
1500 - وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي الدعاء أسمع قال: جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات رواه الترمذي وقال حديث حسن
1501 - وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم فقال رجل من القوم إذا نكثر قال الله أكثر(6/54)
رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ورواه الحاكم من رواية أبي سعيد وزاد فيه أو يدخر له من الأجر مثلها
1502 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم متفق عليه
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث من بقية الأحاديث التي جمعها النووي رحمه الله في كتاب رياض الصالحين منها الحديث الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الدعاء أسمع يعني أي الدعاء أقرب إجابة فقال جوف الليل الآخر وأدبار الصلوات المكتوبة جوف الليل الآخر يعني آخر الليل وذلك لأن اله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له فينبغي للإنسان أن يجتهد بالدعاء في هذا الجزء من الليل رجاء الإجابة الثانية: أدبار الصلوات المكتوبات وأدبار الصلوات يعني أواخرها وهذا قد أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر التشهد ثم قال بعد ذلك ثم(6/55)
ليتخير من الدعاء ما يشاء وليس المراد بأدبار الصلوات هي ما بعد السلام لأن ما بعد السلام في الصلوات هو ليس محل دعاء إنما هو محل ذكر لقول الله تعالى فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ولكن المراد بأدبار الصلوات المكتوبة أواخرها ثم ذكر المؤلف حديث أبي أمامة رضي الله عنه أنه ما من مسلم يدعو الله تعالى بشيء إلا أعطاه ما سأل أو صرف عنه من السوء مثل ذلك أو ادخر له أجره عنده يوم القيامة وقد سبق لنا بيان هذا وبينا أنه لا يخيب من يسأل الله بل لابد أن يحدث له واحد من هذه الأمور الثلاثة إلا أن يدعو بإثم أي بشيء محرم فإنه لا يستجاب له لأن الدعاء بالإثم ظلم وقد قال الله تعالى {إنه لا يفلح الظالمون} وأما الحديث الأخير فهو في دعاء الكرب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم فهذه الكلمات إذا قالها الإنسان عند الكرب كانت سببا في تفريج كربه والله الموفق(6/56)
باب كرامات الأولياء وفضلهم
قال الله تعالى {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم} وقال تعالى {وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي}
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصاحين باب كرامات الأولياء وفضلهم الكرامات هنا معناها هي كل أمر خارق للعادة يظهره الله سبحانه وتعالى على يد متبعي الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الكرامة يعني أمر غير معتاد يظهره الله على يد متبع الرسول إما تكريما له وإما نصرة للحق وهي ثابتة أعني الكرامات ثابتة بالكتاب والسنة والواقع ولكن من هم الأولياء؟ الأولياء هم من بينهم الله في قوله ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون هؤلاء هم الأولياء جمعوا بين الإيمان والتقوى وليس أولياء الله الذين يدعون أنهم أولياءه وهم من أعدائه كما يفعل في بعض البلاد يأتي الرجل يدعي أنه ولي وهو عاص فاسق يدعو الناس إلى أن يعبدوه ويطيعوه في كل شيء ويدعي أن الله قد أحل له كل شيء حتى المحرمات أحلها الله له لأنه بلغ الغاية هؤلاء ليسوا بأولياء الله هؤلاء أعداء الله ولي الله هو المؤمن التقي كما في هذه الآية(6/57)
الكريمة التي ساقها المؤلف {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون} وسوف يذكر المؤلف إن شاء الله الآيات والأحاديث الدالة على ذلك والواقع أيضا والفرق بين الآية آية النبي صلى الله عليه وسلم وكرامة الولي وشعوذة العدو الفرق بينهم أن آية النبي صلى الله عليه وسلم أمر خارق للعادة يظهره الله تعالى على يد النبي صلى الله عليه وسلم تأييدا له وتصديقا له مثل إحياء عيسى صلى الله عليه وسلم للموتى كان عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم يحيي الموتى بل يخرجهم من القبور بعد الدفن كما قال الله تعالى {وإذ تخرج الموتى بإذني} فيقف على القبر ويدعو صاحبه فيخرج من قبره حيا يبرئ الأكمة والأبرص يخلق من الطين على صورة الطير يعني يصنع شيئا على صورة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله يطير من بين يديه كان بالأول طينا فإذا نفخ فيه طار هذا أيضا من آيات الله إذن فآيات الأنبياء هي أمور خارقة للعادة يظهرها الله تعالى على أيديهم تأييدا لهم أما كرامات الأولياء فهي أمور خارق للعادة ولكنها لا تكون للأنبياء بل تكون لمتبعي الأنبياء مثل ما حدث لمريم بنت عمران {فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فنادها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا} هذه من آيات الله كرامة لمريم امرأة في المخاض تحت نخلة تهز الجذع وهز الجذع ليس سهلا هز رأس النخلة ممكن لكن هز الجذع صعب تهز الجذع ثم يتساقط الرطب من النخلة جنيا(6/58)
يعني كأنه مخروط خرطا ما يتفصص إذا نزل في الأرض أو يفسد هذه آية من آيات الله كذلك ما حدث لها من الحمل والولادة كلها من آيات الله عز وجل كرامة لها كما قال تعالى {وجعلناها وابنها آية للعالمين} أما الثالث الذي يظهره الله على يد المشعوذين الذين يستخدمون الجن يظهرها الله عز وجل على أيديهم فتنة لهم وفتنة بهم فإنه يوجد من الناس من يأتي بأشياء خارقة للعادة ولكنه ليس وليا فنقول كرامة ومعلوم أيضا أنه ليس بنبي لأنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم إذن فهي من الشياطين الأمر الرابع: ما يكون خارقا للعادة يظهره الله سبحانه وتعالى على يد الكاذب تكذيبا له مثل ما يذكر عن مسيلمة الكذاب مسيلمة رجل ادعى النبوة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقال إنه نبي وتبعه من تبعه من الناس وفي يوم من الأيام أتاه قوم أهل حرب يشكون إليه أن بئرهم قد غار ماؤها ولم يبق فيه إلا القليل فطلبوا منه أن يأتي إلى البئر ويمج فيه من ريقه لعله يعود الماء ففعل فأعطوه ماء فتمضمض به ثم مجه في البئر وكان في البئر شيء من الماء ولما مجه في البئر غار الماء كله ما بقي شيء هذا خارق للعادة ولا شك أنه آية ولكن الله سبحانه وتعالى جعله إهانة لذلك الرجل الكذاب وإظهارا لكذبه فهذه أربعة أشياء آية النبي وكرامة الولي وشعوذة المشعوذ وإهانة الكذاب المفتري كلها أمور خارقة للعادة لكنها تختلف بحسب من أظهرها الله على يديه ويأتي إن شاء الله الكلام على الآيات التي ذكرها المؤلف(6/59)
قال تعالى {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب}
[الشَّرْحُ]
تقدم لنا الكلام على كرامات الأولياء وأنها أي الكرمات كل أمر خارق للعادة يعني كل ما يخرج عن العادة يظهره الله تعالى على يد الوالي تكريما له أو نصرة لدين الله وذكرنا أن هناك آيات وهناك شعوذة وهناك إهانات أربعة أشياء كلها تخرج عن العادة وبيناها فيما سبق واعلم أن كل كرامة لولي فهي آية للنبي الذي اتبعه لأن هذا الوالي الذي اتبع هذا النبي إذا أكرم بكرامة فهي شهادة من الله سبحانه وتعالى على صحة طريقته وعلى صحة الشرع الذي اتبعه ولهذا نقول كل كرامة لولي فهي آية للنبي الذي اتبعه.
ثم ذكر المؤلف آيات فيها كرامات منها كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب مريم ابنة عمران نذرتها أمها {إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني(6/63)
محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} فزكريا إذا دخل على مريم المحراب أي مكان صلاتها وجد عندها رزقا أي وجد عندها طعاما لم تجر العادة بوجوده فيقول أنى لك هذا ما جاء به قالت هو من عند الله لم تقل جاء به فلان أو فلان بل هو من عند الله عز وجل والله تعالى على كل شيء قدير يأتي به من عنده لا من سعي البشر ولكنه من عند الله {إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} وعندئذ دعا زكريا ربه وكان قد بلغه الكبر ولم يأته أولاد فقال إن الله على كل شيء قدير واستدل بقدرة الله الذي جاء بهذا الرزق إلى مريم بدون سبب بشري فاستدل بذلك على كمال قدرة الله فدعا ربه أن يأتيه ولدا فجاءه الولد وفيه أيضا كرامات لذلك فمريم رضي الله عنها لها كرامات منها هذه المسألة رزقها يأتيها من عند الله لا يشترى من السوق ولا يأتي به فلان أو فلان من عند الله وكذلك ما ذكرناه بالأمس حين جاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت {يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا} وسبق الكلام على هذا ومن الكرامات أيضا ما وقع لأصحاب الكهف والكهف هو غار فسيح في الجبل وكان هؤلاء القوم سبعة رجال رأوا ما عليه أهل بلدتهم من(6/64)
الشرك والكفر ولم يرضوا بذلك فاعتزلوا قومهم وهاجروا من بلدهم لأنها بدل شرك وكفر فاعتزلوا قومهم ولجأوا إلى غار كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمنوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَا مِن دُونِهِ إِلَهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا هَؤُلاَءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} يعني لما اعتزلوهم وشركهم أمروا أن يأووا إلى الكهف {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا} فأووا إلى الكهف اذهبوا إلى الكهف وهذا الكهف كما قلنا هو غار في الجبل ذهبوا إليه هذا الغار وجهه إلى الشمال الشرقي بحيث الشمس ما تدخل عليه لا أول النهار ولا آخره يسره الله لهم لأن الله تعالى يقول {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا} وهؤلاء خرجوا يريدون وجه الله فيسر الله أمرهم أوووا إلى الكهف وألقى الله عليهم النوم قال الله تعالى مبينا هذا {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} يعني ما تدخل عليهم الشمس دخولا كاملا فيصيبهم الحر لكنه تقرضه شيء بسيط يأتيهم من الشمس لكي لا يتبخر الغار فيفسد يدخل عليه من الشمس بقدر الحاجة فقط {وهم في فجوة منه} أي في(6/65)
مكان متسع كما جاء في الحديث كلما أتى فجوة..
...
أي شيء متسع هم في مكان متسع في الغار ذلك من آيات الله أن يسر الله لهم هذا المكان لما دخلوا في هذا المكان آمنين متوكلين على الله عز وجل مفوضين أمرهم إليه ألقى الله عليهم النوم فناموا كم ناموا يوما..
يومين ...
ثلاثة؟ لا ناموا ثلاثمائة سنة وتسع سنين وهم نائمين 309 سنة لا يستيقظون من حر ولا برد ولا جوع ولا عطش هذا من كرامات الله هل يبقى الواحد منا ثلاثة أيام نائما لا يجوع ولا يعطش ولا يحتر ولا يبرد لا هؤلاء بقوا في كهفهم 309 سنة {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} ويقول الله عز وجل {ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال} الله عز وجل هو الذي يقلبهم لماذا يقلبهم الله عز وجل لأن النائم لا فعل له مرفوع عنه القلم حتى لو فعل لن يتم فعله {ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد} عند الباب يحرصهم بإذن الله عز وجل وإنما قلبهم الله تعالى لأنهم لو بقوا هذه المدة الطويلة على جنب واحد لفسد الدم ولم يتحرك لكن يقلبون ذات اليمين وذات الشمال إذا رآهم الإنسان حسبهم أيقاظا يعني ليس على وجههم وجه النوم الذي يراهم يقول هؤلاء أيقاظ وهم رقود نائمون وألقى الله عليهم(6/66)
المهابة العظيمة {لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا} لوليت منهم فرارا ببدنك ولملئت منهم رعبا بقلبك القلب يفزع والبدن يهرب لأن لا يحوم أحد حولهم فيوقظهم لكن الله عز وجل أكرمهم بهذا وكرامات أصحاب الكهف كثيرة نقتصر منها على هذا ونذكر إن شاء الله الباقي في درس آخر نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من أوليائه المكرمين إنه على كل شيء قدير
وقال تعالى {وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال}
قال الله تعالى {وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال}
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين في باب كرامات الأولياء وفضلهم عدة آيات تشتمل على كرامات الأولياء ومنها قصة أصحاب الكهف وكانوا فتية آمنوا بالله واعتزلوا قومهم وخرجوا من بلدهم فهيأ الله لهم كهفا يعني غارا واسعا في الجبل فدخلوا فيه فألقى الله عليهم النوم فناموا 309 سنة وهم نائمون لم يحتاجوا إلى أكل ولا شرب ولم تتأثر أبدانهم وكان الله تعالى يقبلهم ذات اليمين وذات الشمال وهذه من كرامات الله لهم أن الله تعالى هيأ لهم مقرا آمنا حتى إن الله يقول(6/67)
لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا ما أحد يحوم حولهم ومن كرامات الله لهم أنهم بقوا هذه المدة 309 سنة ولم يتغير منهم ظفر ولا شعر ولا غيره مع أن العادة أن الشعور تطول والأظفار تطول لكن هؤلاء لم تطل شعورهم ولا أظفارهم وبقوا وكأنهم ناموا بالأمس ولهذا قال الله تعالى {وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم} وإنما قالوا ذلك لأنهم لم يتغير منهم شيء وأما ما ذكر بعض الناس أنهم طالت أظفارهم وشعورهم فهذا خطأ لأنه لو كان كذلك لعرفوا أنهم بقوا مدة طويلة ولكنهم لم يتغيروا ومن كرامات الله لهم أن الله أبقاهم على هذه النومة حتى أبدل الله تعالى ملكهم الظالم بملك صالح ولما استيقظوا بعثوا واحدا منهم إلى البلدة ليأتي بطعام له وكان معهم نقود سابقة من النقود التي لها 309 سنة فلما جاءوا يشترون من البلدة ودفعوا النقود تعجب أهل البلدة من أين هذه النقود حتى أطلع الله الناس عليهم فهذا من كرامات الله لهم ويحسن أن يجمع هذه الآيات وغيرها وتتأمل ويستخرج ما فيها من الكرمات الدالة على قدرة الله عز وجل وعلى أنه تبارك وتعالى أكرم من خلقه إذا تعبد الإنسان له بما يرضى أعطاه الله تعالى ما يرضى والله الموفق(6/68)
قال الله تعالى {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم}
[الشَّرْحُ]
صدر المؤلف رحمه الله تعالى باب كرامات الأولياء بهذه الآية ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون وتقدم الكلام على أولها وأن الله تعالى بين أن أولياءه هم المؤمنون المتقون {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون} وقد أخذ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من هذه الآية عبارة قال فيها من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا فيقول الله عز وجل إن هؤلاء الأولياء {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} لا خوف عليهم لما يستقبل من أمرهم ولا هم يحزنون على ما مضى من أمرهم لأنهم أدركوا معنى الحياة الدنيا فعملوا عملا صالحا وآمنوا بالله واتقوه فصاروا من أوليائه ثم قال {لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة} البشرى تعني البشارة في الحياة الدنيا وفي الآخرة والبشارة في الحياة الدنيا أنواع فمنها الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له أحد يراها له يعني يرى في المنام ما يسره أو يرى له أحد من أهل الصلاح ما يسره مثل أن يرى أنه يبشر بالجنة أو يرى أحد من الناس أنه من أهل الجنة أو ما أشبه ذلك أو يرى على هيئة صالحة المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرؤيا الصالحة يراها أو ترى له تلك عاجل بشرى المؤمن ومنها إن الإنسان يسر في الطاعة، ويفرح بها وتكون قرة عينه، فإن هذا يدل على أنه من أولياء الله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: من سرته حسنته، وساءته سيئته فذلك المؤمن فإذا رأيت من نفسك أن صدرك ينشرح بالطاعة، وأنه يضيق بالمعصية فهذه بشرى لك، أنك من عباد الله المؤمنين ومن أوليائه المتقين، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: وجعلت قرة عيني في الصلاة ومن ذلك أيضاً أن أهل الخير يثنون عليه ويحبونه ويذكرونه بالخير، فإذا رأيت أن أهل الخير يحبونك ويثنون عليك بالخير، فهذه بشرى للإنسان أنه يثنى عليه من أهل الخير، ولا عبرة بثناء أهل الشر ولا قدحهم، لأنهم لا ميزان لهم ولا تقبل شهادتهم عند الله، لكن أهل الخير إذا رأيتهم يثنون عليك وأنهم يذكرونك بالخير ويقتربون منك ويتجهون إليك فاعلم أن هذه بشرى من الله لك.
ومن البشرى في الحياة الدنيا، ما يبشر به العبد عند فراق الدنيا، حيث تتنزل عليه الملائكة {ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلاً من غفور رحيم} ومن البشارة أيضاً أن الإنسان عند موته بشارة أخرى، فيقال لنفسه: اخرجي أيتها النفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب، اخرجي إلى رحمة من الله ورضوان، فتفرح وتسر.
ومن ذلك أيضاً البشارة في القبر، فإن الإنسان إذا سئل عن ربه ودينه ونبيه وأجاب بالحق، ناد مناد من السماء أن صدق عبدي؛ فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً من الجنة.
ومنها أيضاً البشارة في الحشر، تتلقاهم الملائكة {هذا يومكم الذي كنتم توعدون} و {وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} المهم أن أولياء الله لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم {لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم} يعني لا أحد يبدل كلمات الله تعالى، أما الكونية فلا يستطيع أحد أن يبدلها وأما الشرعية فقد يحرفها أهل الباطل، كما فعل اليهود والنصارى في كتبهم حرفوها وبدلوها وغيروها، وأما الكلمات الكونية فلا أحد يبدلها {لا تبديل لكلمات الله ذلك الفوز العظيم} .
والله الموفق(/)
150 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون، فإن يك في أمتي أحد، فإنه عمر.
رواه البخاري، ورواه مسلم من رواية عائشة، وفي روايتهما قال(6/78)
ابن وهب: محدثون أي: ملهمون.
[الشَّرْحُ]
سبق لنا ما يتعلق بقضية أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيما أكرمه الله به من الكرامة، ثم أتى المؤلف رحمه الله بحديث لأبي هريرة في كرامة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: كان فيما كان قبلكم محدثون - يعني: ملهمون للصواب، يقولون قولاً فيكون موافقًا للحق، وهذا من كرامة الله للعبد أن الإنسان إذا قال قولاً، أو أفتى بفتوى، أو حكم بحكم تبين له بعد ذلك أنه مطابق للحق، فعمر رضي الله عنه من أشد الناس توفيقًا للحق، كما سيأتي إن شاء الله تعالى فيما سيذكره المؤلف من أمثلة لذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإن يكن فيكم محدثون فعمر يعني إن كان فيكم محدثون فعمر، ويحتمل قوله: إن يكن فيكم إنه خطاب لقوم مجتمعين ليس فيهم أبو بكر ويحتمل أنه خطاب إلى الأمة كلها، ومن بينهم أبو بكر رضي الله عنه، فإن كان الأول فلا إشكال، وإن كان الثاني فقد يقول قائل: كيف يكون عمر ملهمًا وأبو بكر ليس كذلك، فيقال: إن أبا بكر رضي الله عنه يوفق للصواب بدون إلهام، بمعنى أنه رضي الله عنه من ذات نفسه بتوفيق الله - عز وجل - يوفق للصواب ويدل على هذا عدة مسائل، يعني يدل على أن أبا بكر أشد توفيقًا للصواب من عمر عدة مسائل: أولاً: في صلح الحديبية لما اشترطت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم شروطاً يبدو أنها ثقيلة عظيمة، عمل عمر رضي الله عنه على إبطالها، وجاء إلى النبي(6/79)
صلى الله عليه وسلم يراجعه في ذلك ويقول: كيف نعطي الدنية في ديننا؟ كيف نشترط على أنفسنا أن من جاءنا منهم مسلمًا، ردنناه إليهم، ومن جاءهم منا لا يردونه؟ هذا ثقيل , ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال له (إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري) ، فذهب عمر رضي الله عنه - إلى أبي بكر - رضي الله عنه - يريد أن يستنجد به في إقناع الرسول صلى الله عليه وسلم فكلم أبا بكر فقال له أبو بكر مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم سواء بسواء قال إنه رسول الله وليس بعاصيه وهو ناصره فاستمسك بعرزه، يعني لا يكن عندك شك في أمر، فهذه واحدة، إذن من الموفق إلى الصواب في هذا؟ أبو بكر لا شك، كذلك أيضًا في موت الرسول صلى الله عليه وسلم، لما شاع الخبر في المدينة أن النبي صلى الله عليه وسلم مات.
قال عمر في الناس وقال إنه لم يمت وإنما صعق وليبعثنه الله، فليقطعن أيدي أقوام وأرجلهم من خلاف، وأنكر أن يكون قد مات، وكان أبو بكر قد خرج ذلك اليوم إلى بستان له خارج المدينة فلما رجع وجد النبي صلى الله عليه وسلم قد مات حقًا، فخرج إلى المسجد وصعد المنبر، وقال كلماته المشهورة التي تكتب بأغلى من ماء الذهب.
قال: أما بعد أيها الناس، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ قول الله تعالى إنك ميت وإنهم ميتون وقوله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم}(6/80)
قال عمر: فوالله ما إن تلاها أبو بكر حتى عقرت فما تحملني رجلاي، يعني الإنسان إذا خاف واشتد به الشيء ما يقدر أن يقف، هذه الثانية، الثالثة: إنه لما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ارتد من ارتد من العرب، كفروا والعياذ بالله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جهز جيشًا أميره أسامة بن زيد، ليقاتل أدنى أهل الشام والجيش كان ظاهر المدينة ولكن لم يسيروا بعد، ولما ارتد العرب جاء عمر لأبي بكر، وقال لا ترسل الجيش، نحن في حاجة، فقال له أبو بكر: والله لا أحلن راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرهم أبو بكر، فكان الصواب مع أبي بكر - رضي الله عنه - لأن الناس لما سمعوا أن أهل المدينة أرسلوا الجيوش إلى أطراف الشام، قالوا: هؤلاء عندهم قوة ولا يمكن أن نرتد، فامتنع كثير من الناس عن الردة وبقوا في الإسلام، المهم أن أبا بكر رضي الله عنه أبلغ من عمر، رضي الله عنه - في إصابة الصواب لاسيما في المواضع الضنكة الضيقة، وعلى كل حال كلا الرجلين - رضي الله عنهما - كلاهما موفق إلى الصواب، جمعنا الله وإياكم بهما في الجنة، وكلما الإنسان أقوى إيمانًا بالله وأكثر طاعة لله وفقه الله تعالى إلى الحق بقدر ما معه من الإيمان والعلم والعمل الصالح، تجده مثلاً يعمل عملاً يظنه صوابًا بدون ما يكون معه دليل من الكتاب والسنة فإذا راجع أو سأل، وجد أن عمله مطابق للكتاب والسنة، وهذه من الكرامات، فعمر رضي الله عنه قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم إن يكن فيه محدثون فإنه عمر(6/81)
1505 - وعن جابر بن سمرة، رضي الله عنهما.
قال: شكا أهل الكوفة سعداً، يعني: ابن أبي وقاص - رضي الله عنه - إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فعزله واستعمل عليهم عمارًا، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي، فأرسل إليه فقال: يا أبا إسحاق، إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي.
فقال: أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أخرم عنها أصلي صلاة العشاء فأركد في الأوليين، وأخف في الأخريين، قال: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق، وأرسل معه رجلاً - أو رجالاً - إلى الكوفة يسأل عنه أهل الكوفة، فلم يدع مسجداً إلا سأل عنه، ويثنون معروفًا، حتى دخل مسجداً لبني عبس، فقام رجل منهم، يقال له أسامة بن قتادة يكنى أبا سعدة، فقال: أما إذ نشدتنا فإن سعداً كان لا يسير بالسرية ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً، قام رياء، وسمعة، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن، وكان بعد ذلك إذا سئل يقول، شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد.
قال عبد الملك بن عمير الراوي عن جابر بن سمرة فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق فيغمزهن متفق عليه.(6/82)
[الشَّرْحُ]
هذه من الكرامات التي نقلها المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصاحين، وهي ما رواه جابر بن سمرة في قصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وكان سعد معروفاً بإجابة الدعوة (مستجاب الدعاء) يعني أن الله أعطاه كرامة وهو أن الله تعالى يجيب دعوته إذا دعا، وقد جعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أميراً على أهل الكوفة، لأن المسلمين لما فتحوا العراق مصروا الأمصار وجعلوا البصرة والكوفة وهما أشهر ما يكون في العراق، ثم إن أمير المؤمنين جعل لهم أمراء، فأمر سعد بن أبي وقاص على الكوفة، فشكاه أهل الكوفة إلى أمير المؤمنين عمر، حتى قالوا إنه لا يحسن أن يصلي، وهو صحابي جليل شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، فأرسل إليه عمر، فحضر وقال له: إن أهل الكوفة شكوك حتى قالوا: إنك لا تحسن تصلي، فأخبره سعد رضي الله عنه أنه كان يصلي بهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وذكر صلاة العشاء وكأنها - والله أعلم - هي التي وقع تعيينها من هؤلاء الشكاة، فقال: إني لأصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أخرم عنها يعني لا أدعها، فكنت أطول في العشاء بالأوليين وأقصر في الأخريين، فقال له عمر رضي الله عنه: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق، فزكاه عمر؛ لأن هذا هو الظن به، أنه يحسن الصلاة وانه يصلي بقومه الذين أمر عليهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ولكن مع ذلك تحرى ذلك عمر رضي الله عنه لأنه يتحمل المسئولية ويعرف قدر المسئولية، أرسل رجالاً إلى أهل الكوفة، يسألونهم عن سعد وعن سيرته، فكان هؤلاء(6/83)
الرجال، لا يدخلون مسجداً ويسألون عن سعد إلا أثنوا عليه معروفًا.
حتى أتى هؤلاء الرجال إلى مسجد بني عبس، فسألوهم، فقام رجل فقال: أما ناشدتمونا، فإن هذا الرجل لا يعدل في القضية ولا يسير بالسرية ولا يقسم بالسوية، فقوله لا يسير في السرية، يعني لا يخرج في الجهاد، ولا يقسم بالسوية إذا غنم ولا يعدل في القضية إذا حكم بين الناس، فاتهمه هذه التهم، فهي تهم ثلاث، فقال أما إن قلت كذا (المتحدث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه) ، فلأدعون عليك بثلاث دعوات، دعا عليه أن يطيل الله تعالى عمره وفقره ويعرضه للفتن، نسأل الله العافية، ثلاث دعوات عظيمة، لكنه رضي الله عنه استثنى، قال: إن كان عبدك هذا قام رياء وسمعة يعني لا بحق، فأجاب الله دعاءه، فكان هذا الرجل طويل العمر، عمر طويلاً وشاخ حتى إن حاجبيه سقطت على عينيه من الكبر، وكان فقيراً وعرض للفتن، حتى وهو في هذه الحال وهو كبير إلى هذا الحد كان يتعرض للجواري، يتعرض لهن في الأسواق ليغمزهن والعياذ بالله، وكان يقول عن نفسه شيخ مفتون كبير أصابتني دعوة سعد.
فهذه من الكرامات التي أكرم الله بها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
وفيه فوائد عديدة منها: أن من تولى أمراً في الناس فإنه لا يسلم منهم مهما كانت منزلته، لابد أن يناله السوء قال ابن الوردي في منظومته المشهورة، التي أولها
اعتزل ذكر الأغاني والغزل ...
وقل الفصل وجانب من هذل
ودع الذكرى لأيام الصبى ...
فلأيام الصبى نجم أفل
قال فيها من جملة ما قال من حكم:(6/84)
إن نصف الناس أعداء لمن ...
ولي الأحكام، هذا إن عدل
ومن الفوائد أيضاً في هذا الحديث جواز دعاء المظلوم على ظالمه بمثل ما ظلمه كما دعا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه هذه الدعوات على من ظلمه، ومن فوائدها: أن الله تعالى يستجيب دعاء المظلوم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن وأمره أن يأخذ الزكاة من أموالهم، قال: إياك وكزائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب فالمظلوم يستجيب الله دعاءه حتى ولو كان كافراً فلو كان كافراً وظلم ودعا على من ظلمه أجاب الله دعاءه، لأن الله حكم عدل عز وجل، يأخذ بالإنصاف والعدل لمن كان مظلوماً ولو كان كافراً، فكيف إذا كان مسلماً؟ ومن فوائد هذا الحديث، أنه يجوز للإنسان أن يستثني في الدعاء، إذا دعا على شخص يستثني فيقول: اللهم إن كان كذا فافعل به كذا، اللهم إن كان ظلمني فأنصفني منه أو فابتله بكذا وكذا، تدعو بمثل ما ظلمك، وقد جاء الاستثناء في الدعاء في القرآن الكريم فقال تبارك وتعالى: والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادت بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ويدرؤوا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين(6/85)
ومن فوائد هذا الحديث أيضاً: حرص أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه على الرعية وتحمله المسئولية والإحساس بها وشعوره بها رضي الله عنه ولهذا اشتهر بعدالته وحسن سياسته في الأمور كلها، الحربية والسلمية والدينية والدنيوية، فهو في الحقيقة خير الخلفاء بعد أبي بكر، بل حسنة من حسنات أبي بكر رضي الله عنه؛ لأن الذي ولاه على المسلمين هو أبو بكر رضي الله عنه، فالحاصل أن هذا الحديث فيه فوائد نقتصر منها على ذلك.
(والله الموفق)
1506 - وعن عروة بن الزبير أن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، رضي الله عنه خاصمته أروى بنت أوس إلى مروان بن الحكم، وادعت أنه أخذ شيئاً من أرضها، فقال سعيد: أنا كنت آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أخذ شبراً من الأرض ظلمًا طوقه إلى سبع أرضين فقال له مروان: لا أسألك بينة بعد هذا، فقال سعيد: اللهم إن كانت كاذبة، فاعم بصرها، واقتلها في أرضها، قال: فما ماتت حتى ذهب بصرها، وبينما هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت متفق عليه.
وفي رواية لمسلم عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بمعناه وأنه(6/86)
رآها عمياء تلتمس الجدر تقول: أصابتني دعوة سعيد، وأنها مرت على بئر في الدار التي خاصمته فيها، فوقعت فيها، وكانت قبرها.
[الشَّرْحُ]
من كرامات الأولياء أن الله سبحانه وتعالى يجيب دعوتهم، حتى يدركوها بأعينهم فهذا سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، خاصمته امرأة ادعت أنه أخذ شيئاً من أرضها فخاصمته عند مروان، فقال: أنا آخذ من أرضها شيئاً بعد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: وماذا سمعت؟ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول (من اقتطع شبراً من الأرض ظلمًا طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين - أو - طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) يعني فكيف آخذ منها بعد أن سمعت هذا من النبي صلى الله عليه وسلم؟ كل مؤمن يؤمن بالله ورسوله إذا سمع مثل هذا الخبر الصادر عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فإنه لا يمكن أن يظلم أحداً من أرضه ولا شبراً، فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبر أنك لو أخذت شبراً من الأرض وقيده بالشبر من باب المبالغة وإلا فإن أخذ أقل من ذلك ولو سنتيمتر واحدًا فإنه يطوق به يوم القيامة من سبع أرضين، إذا كان يوم القيامة جاءت هذه القطعة التي أخذها مطوقة في عنقه من سبع أرضين؛ لأن الأرضين سبع طباق، كما قال الله تعالى الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن.
والإنسان إذا ملك أرضاً، ملك قعرها إلى أسفل السافلين، إلى الأرض السابعة، وإذا ملكها أيضاً ملك هواءها إلى الثريا، لا أحد يستطيع(6/87)
أن يبني فوقه جسراً أو أن يحفر تحته خندقًا، لأن الأرض له إلى أسفل السافلين، وإلى أعلى السماء، كلها له، إذا كان يوم القيامة وهذا قد اقتطع شبراً من الأرض بغير حق، فإنه يأتي يوم القيامة مطوق به عنقه نسأل الله العافية.
وعند جميع العالم كل شيء محشور يوم القيامة حتى الوحوش تحشر حتى الإبل حتى البقر حتى الغنم كلها تحشر يوم القيامة، وهذا يشاهد حاملاً هذه الأرض والعياذ بالله من سبع أرضين، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (لعن الله من غير منار الأرض) غير منارها: أي غير مراسيمها فأدخل شيئاً ليس له، وفي هذا دليل على أن قصف الأرض أو أخذ شيء بغير الحق من كبائر الذنوب لأن عليه هذا الويل العظيم، اللعن وأنه يحمل به يوم القيامة، فما بالك بقوم اليوم يأخذون أميالاً بل أميال الأميال والعياذ بالله بغير الحق، يأخذونها يضيقون بها مراعي المسلمين، ويحرمون المسلمين من مراعيهم أو من طرقهم أو ما أشبه ذلك، هؤلاء سوف يطوقون ما أخذوا يوم القيامة والعياذ بالله، لأنهم أخذوها بغير الحق، المراعي للمسلمين عموماً، الخطوط الطرقات للمسلمين عمومًا، الأودية أودية الأمطار للمسلمين عموماً، ولهذا قال العلماء: إن الإنسان لا يملك بالأحياء ما قرب من عامر وهو يتعلق بمصلحة هذا العامر، حتى لو أحياها وغرسها يقلع غرسه ويهدم بناؤه إذا كان هذا يتعلق بمصالح البلد، والبلد ليست ملكاً لفلان أو علان بل هي لعموم المسلمين، حتى لو فرضنا أن ولي الأمر أقطع(6/88)
هذا الرجل من الأرض التي يحتاجها أهل البلد فإنه لا يملكها بذلك لأن ولي الأمر إنما يفعل لمصالح المسلمين، لا يخص أحدًا بمصالح المسلمين دون أحد، وهذه المسألة خطيرة للغاية، ولهذا لما ارتفعت قيم الأراضي صار الناس والعياذ بالله يعتدي بعضهم على بعض، يدعي أن الأرض له وهي ليست له يكون جاراً لشخص ثم يدخل شيئاً من أرضه إلى أرضه، وهذا على خطر عظيم إن العلماء - أقول لكم كلامًا تعجبون منه قالوا: لو أن الإنسان بني جدارًا ثم زاد في لياصته (المحارة) إذا زاد في لياصته دخل على السور سنتيمترًا في اللياصة فإنه يكون ظالمًا ويكون بذلك معاقبًا عند الله يوم القيامة، إلى هذا الحد الناس الآن والعياذ بالله يبلعون أميالاً أو أمتارا مع هذا الوعيد الشديد، سعيد بن زيد رضي الله عنه، لما حدث مروان بهذا الحديث قال الآن لا أطلب عليك بينة، لأنه عارف أن سعيدًا لا يمكن أبدًا أن يأخذ من أرض هذه المرأة بدون حق أما المرأة؟ فقال سعيد رضي الله عنه: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها وأهلكها في أرضها، فماذا كان، كانت هذه المرأة أعماها الله عز وجل قبل أن تموت وبينما هي تمشي في أرضها ذات يوم إذ سقطت في بئر فماتت فكانت البئر قبرها في نفس الأرض التي كانت تخاصم سعيد بن زيد رضي الله عنه فيها، وهذا من كرامة الله عز وجل لسعيد بن زيد أن الله أجاب دعوته وشاهدها حيا قبل أن يموت، وقد سبق لنا أن المظلوم تجاب دعوته ولو كان كافراً إذا كان مظلوماً، لأن الله تعالى ينتصر للمظلوم من الظالم؛ لأن الله تعالى حكم عدل لا يظلم ولا يمكن أحدًا من الظلم وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم إنه لا يفلح الظالمون(6/89)
فالظالم لا يفلح أبدًا، ولذلك انظر إلى هذه القصة وإلى قصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه التي ذكرناها سابقاً وكيف أجاب الله الدعوة؟ وهذه هي عادة الله سبحانه وتعالى في عباده نسأل الله أن يحمينا وإياكم من الظلم (والله الموفق)
1507 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما حضرت أحد دعاني أبي من الليل فقال: ما أراني إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإني لا أترك بعدي أعز علي منك غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن علي دينا فاقض، واستوص بأخواتك خيرًا: فأصبحنا، فكان أول قتيل، ودفنت معه آخر في قبره، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع آخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته غير أذنه، فجعلته في قبر على حدة رواه البخاري.
[الشَّرْحُ]
سبق لنا بيان شيء من كرامات الأولياء التي ذكرها المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب كرامات الأولياء وفضلهم، وذكر في هذا الحديث ما جرى لعبد الله بن حرام رضي الله عنه والد جابر بن عبد الله، فإنه أيقظ ابنه جابراً ليلة من الليالي(6/90)
وقال: ما أراني إلا أول قتيل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك قبيل غزوة أحد، ثم أوصاه وقال: إني لن أترك من بعدي أحدًا أعز منك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوصاه بأن يقضي ديناً كان عليه وأوصاه بأخواته ثم كانت الغزوة فقاتل رضي الله عنه (عبد الله بن حرام) وقتل، وكان القتلى في ذلك اليوم سبعين رجلاً فكان يشق على المسلمين أن يحفروا لكل رجل قبرًا، فجعلوا يدفنون الاثنين والثلاثة في قبر واحد، فدفن مع أبي جابر (عبد الله بن حرام) رجل آخر، ولكن جابر رضي الله عنه لم تطب نفسه حتى فرق بين أبيه وبين من دفن معه، فحفره بعد ستة أشهر من دفنه فوجده كأنه دفن اليوم، لم يتغير إلا شيء في أذنه، شيئاً يسيرا، ثم أفرده في قبر، أما جابر رضي الله عنه فقد وفى دين أبيه واستوصى بأخواته خيراً حتى إنه تزوج بعد ذلك - أعني جابرًا - فقد تزوج بعد ذلك وتزوج امرأة ثيبًا فسأله النبي صلى الله عليه وسلم هل تزوجت؟ قال: نعم قال: بكرًا أم ثيبًا؟ قال: ثيبًا، قال: فهلا تزوجت بكرًا تلاعبك وتلاعبها، وتضاحكك وتضاحكها فقال: يا رسول الله إن أبي ترك أخوات لي وذكر أنه أخذ الثيب لتقوم عليهن (لتقوم على خدمتهن) .
في هذا الحديث كرامة لأبي جابر وهو عبد الله بن حرام أنه رضي الله عنه صدق الله رؤياه فصار أول قتيل في أحد، دفن ولم تأكل الأرض منه شيئاً إلا يسيراً وقد مضى عليه ستة أشهر وهذا من كراماته.
واعلم أن الإنسان إذا دفن فإن الأرض تأكله لا يبقى إلا عجب الذنب، وعجب الذنب هذا يكون كالنواة لخلق الناس يوم القيامة، تنبت منه الأجساد، إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإن الأرض لا تأكلهم، كما(6/91)
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) أما غير الأنبياء فإن الأرض تأكل أجسادهم، ولكن قد يمنع الله الأرض أن تأكل أحدًا كرامة له والله الموفق
1508 - وعن أنس رضي الله عنه: أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة ومعهما مثل المصباحين بين أيديهما، فلما افترقا، صار مع كل واحد منهما واحد حتى أتى أهله رواه البخاري من طرق، وفي بعضها أن الرجلين أسيد بن حُضير، وعباد بن بشر رضي الله عنهما.
[الشَّرْحُ]
هذان حديثان ذكره النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب كرمات الأولياء وفضلهم وهو حديث الرجلين: أسيد بن حضير وعباد بن بشر رضي الله عنهما كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة وكان في ذات الوقت ليس في الأسواق أنوار بل ولا في البيوت مصابيح، فخرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة، الليلة المظلمة، فجعل الله تعالى بين أيديهما مثل المصباحين يعني مثل(6/92)
لمبة الكهرباء تضيء لهما الطريق، وليس هذا من فعلهما ولا بسبب منهما ولكن الله تعالى خلق نوراً يسعى بين أيديهما حتى تفرقا، وتفرق النور مع كل واحد منهما، حتى بلغا بيوتهما، وهذه كرامة من الله عز وجل، من كرامة الله تعالى أنه يضيء للعبد الطريق، الطريق الحسي وفائدته الحسية، فإن هذين الرجلين رضي الله عنهما وأرضاهما مشيا في إضاءة ونور بينما الأسواق ليس فيها إضاءة ولا أنوار والليلة مظلمة، فقيض الله لهما هذا النور.
هناك أيضًا نور معنوي يقذفه الله تعالى في قلب المؤمن كرامة له، تجد بعض العلماء يفتح الله عليه من العلوم العظيمة الواسعة في كل فن ويرزقه الفهم والحفظ والمجادلة، ومن هؤلاء العلماء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه، فإن هذا الرجل من الله به على الأمة الإسلامية، ومازالت الأمة الإسلامية تنتفع بكتبه إلى يومنا هذا وقد توفي رحمه الله سنة 728هـ يعني منذ مئات السنين والأمة تنتفع بكتبه، وقد أعطاه الله تعالى علمًا عظيمًا، وفهمًا ثاقبًا، وقوة في المجادلة ولا أحد يستطيع أن يجادله في شيء أبداً، ما قام له أحد حتى إنه رحمه الله قال: أي إنسان يجادلني بالباطل ويستدل بآية أو حديث فإنني أنا سأجعل الآية والحديث دليلاً عليه وليست دليلاً له.
وهذا من نعمة الله عز وجل أن الله تعالى يعطي الإنسان قدرة إلى هذا الحد، وحتى إنه يتكلم مع المجادلين ويناظرهم ثم يقول لهم: انظروا إلى قول فلان من زعمائهم في كتابه الفلاني مع أن أتباع هذا الرجل الذي يجادلون فيه شيخ الإسلام لا يعلمون عن كتبه شيئاً وهو يعلم ما في كتبه، ومناظرته في العقيدة الواسطية مع القاضي المالكي عجيبة،(6/93)
كان القاضي المالكي يحاول أن يجعل السلطان يبطش به؛ لكنه هو يقول: هذا لا يمكن ولا يجري على مذهبكم وأنتم أيها المالكية قلتم كذا وكذا.
ولا يمكن أن يدين للوالي في هذا الذي ذكرت بناء على مذهبكم، فيبهت الرجل، كيف يعرف من مذهبنا ما لا نعلم.
وله أيضًا رحمه الله في كل فن يد واسعة، كان عالماً في النحو والعربية والصرف والبلاغة.
حتى إن تلميذه ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد بحث بحثًا دقيقًا جدًا جدًا في الفرق بين مدح وحمد وكيف تفرق اللغة العربية بين المعاني في الكلمات بتقديم حرف أو تأخيره، وأتى ببحث عجيب، ثم قال: وكان شيخنا رحمه الله إذا تكلم في هذا أتى بالعجب العجاب، يعني في مسألة اللغة والصرف، ولكنه كما قال الشاعر:
تألق البرق نجديا فقلت له ...
إليك عني فإني عنك مشغول
يعني شيخ الإسلام مشتغل بما هو أكبر من مسألة نحوية أو بلاغية أو صرفية، فهو مشغول بأكبر من هذا، وفي يوم من الأيام قدم مصر وكان فيها أبو حيان اللغوي المشهور والمفسر من الكبير في هذا الباب، وكان أبو حيان يمدح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وله في مدحه قصيدة عصماء، منها قوله: قام ابن تيمية في
نشر الدين نصر شرعتنا ... مقام سيد تيم إذا عصت مضر
وسيد تيم هو أبو بكر رضي الله عنه، يعني أنه قام في(6/94)
الإسلام في محنة الإسلام والبدع مقام أبي بكر في يوم المحن ومدحه في قصيدة عصماء، فلما قدم مصر، جاء الناس إلى شيخ الإسلام ابن تيمية يستفيدون من علمه ويناقشونه وكان من بينهم أبو حيان، فناقشه في مسألة نحوية، لأن أبا حيان بحر محيط في النحو ناقشه في مسألة نحوية فقال له شيخ الإسلام: هذا غلط من كلام العرب، فقال له: كيف وسيبويه إمام النحويين ذكر هذا في كتابه، فقال له شيخ الإسلام: وهل سيبويه نبي نحو يجب علينا أن نتبعه؟ لقد أخطأ سيبويه في كتابه في أكثر من ثمانين موضعًا لا تعلمه أنت ولا سيبويه، سيبويه عند النحويين مثل البخاري عند أهل الحديث، فتعجب أبو حيان، كيف يقول هذا الكلام، ثم إنه ذهب عنه فأنشأ فيه قصيدة يذمه والعياذ بالله، بالأمس يمدحه والآن يذمه.
المهم أني أقول: إذا كان الله تعالى يعطي بالكرامات نورًا حسيًا يستضيء به الإنسان كما حدث لهذين الصحابيين، فكذلك يعطي الله نورًا معنويًا يقذفه في قلب العبد المؤمن، نسأل الله يقذف في قلوبنا وإياكم نورًا، يستطيع الإنسان به أن يتكلم في شريعة الله وكأن النصوص بين عينيه، وهذا من نعمة الله على العبد، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من أوليائه المتقين وعباده الصالحين
1509 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط عينا سرية، وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله(6/95)
عنه فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهداة، بين عسفان ومكة، ذكروا لحي من هذيل يقال لهم: بنو لحيان، فنفروا لهم بقريب من مائة رجل رام فاقتصوا آثارهم، فلما أحس بهم عاصم وأصحابه، لجأوا إلى موضع، فأحاط بهم القوم، فقالوا: انزلوا، فأعطوا بأيديكم ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحدًا.
فقال عاصم بن ثابت: أيها القوم، أما أنا فلا أنزل على ذمة كافر.
اللهم أخبر عنا نبيك صلى الله عليه وسلم فرموهم بالنبل فقتلوا عاصمًا، ونزل إليهم ثلاثة نفر على العهد والميثاق، منهم خبيب، وزيد بن الدثنة ورجل آخر، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم، فربطوهم بها، قال الرجل الثالث: هذا أول الغدر والله لا أصحبكم إن لي بهؤلاء أسوة، يريد القتلى فجروه وعالجوه، فأبى أن يصحبهم، فقتلوه، وانطلقوا بخبيب، وزيد بن الدثنة، حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر، فابتاع بنو الحارث ابن عامر بن نوفل بن عبد مناف خبيبًا، وكان خبيب هو قتل الحارث يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيراً حتى أجمعوا على قتله، فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها فأعارته، فدرج بني لها وهي غافلة حتى أتاه، فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده، ففزعت فزعة عرفها خبيب، فقال: أتخشين أن أقتله، ما كنت لأفعل ذلك، قالت: والله ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب، فوالله لقد وجدته يوماً يأكل قطفاً من عنب في يده، وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمرة، وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيباً، فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل، قال لهم خبيب: دعوني أصلي(6/96)
ركعتين، فتركوه، فركع ركعتين، فقال: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً.
وقال:
فلست أبالي حين أقتل مسلماً ...
على أي جنب كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ...
يبارك على أوصال شلو ممزع
وكان خبيب هو سن لكل مسلم صبراً الصلاة وأخبر - يعني النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أصيبوا خبرهم، وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت حين حدثوا أنه قتل أن يؤتوا بشيء منه يعرف وكان قتل رجلاً من عظمائهم، فبعث الله لعاصم مثل الظلة من الدبر، فحمته من رسلهم فلم يقدروا أن يقطعوا منه شيئاً رواه البخاري.
قوله: الهداة: موضع، والظلة: السحاب، والدبر: النحل.
وقوله: اقتلهم بددا بكسر الباء وفتحها، فمن كسر، قال: هو جمع بدة بكسر الباء وهو النصيب، ومعناه اقتلهم حصصاً منقسمة لكل واحد منهم نصيب، ومن فتح، فقال: معناه: متفرقين في القتل واحدًا بعد واحد من التبديد.
وفي الباب أحاديث كثيرة صحيحة سبقت في مواضعها من هذا الكتاب، منها حديث الغلام الذي كان يأتي الراهب والساحر، ومنها حديث جريج، وحديث أصحاب الغار الذين أطبقت عليهم الصخرة، وحديث الرجل الذي سمع صوتًا في السحاب يقول: اسق حديقة فلان،(6/97)
وغير ذلك والدلائل في الباب كثيرة مشورة، وبالله التوفيق.
:
[الشَّرْحُ]
ساق المؤلف رحمه الله في باب كرامات الأولياء وفضلهم عدة أحاديث، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة عاصم بن ثابت الأنصاري وصحبه، أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو عشرة عينا سرية، عيناً يعني مثل الجواسيس للعدو، سرية يعني أخفاهم عليه الصلاة والسلام، فلما وصلوا قرب مكة شعر بهم جماعة من هذيل، فخرجوا إليهم في نحو مائة رجل رامٍ، يعني يجيدون الرمي، فاتبعوا آثارهم حتى أحاطوا بهم، ثم طلبوا منهم أي هؤلاء الهذليون طلبوا منهم أن ينزلوا بأمان وأعطوهم عهدًا أن لا يقتلوهم، فأما عاصم فقال: والله لا أنزل على ذمة كافر أي على عهده؛ لأن الكافر قد خان الله عز وجل، ومن خان الله خان عباد الله، ولهذا لما كتب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كتب إليه أن عنده رجلاً نصرانياً جيدًا في المحاسبة، وطلب من عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يأذن له أن يوظف هذا النصراني على بيت المال؛ لأنه رجل جيد في الحساب، فكتب إليه عمر (إنني لا آمن من خان الله ورسوله) ؛ لأن كل كافر فهو خائن ولا توله على بيت المال، فكتب إليه مرة ثانية (أبو موسى) قال: هذا الرجل قلما يوجد مثله في الحساب والجودة، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم من أمير المؤمنين عبد الله عمر بن الخطاب: مات النصراني، والسلام كلمة واحدة(6/98)
جملة واحدة، مات النصراني، يعني قدره أنه مات، هل إذا مات تتعطل المحاسبة عندنا في بيت المال، فقطع طمع أبي موسى رضي الله عنه.
المهم أن عاصم بن ثابت رضي الله عنه أبى أن ينزل على عهد الكفار؛ لأنهم لا يؤمنون، كل كافر فهو غير أمين، ثم إنهم رموهم بالنبل، أي هؤلاء الهذليون رموا هؤلاء الصحابة العشرة، فقتلوا عاصماً وقتلوا ستة آخرين، وبقي ثلاثة، بقي هؤلاء الثلاثة وقالوا: ننزل وننظر هل يوفون أم لا؟ فأخذهم الهذليون ثم حلوا قسيهم وربطوهم بها أي ربطوا أيديهم، فقال الثالث: هذا أول الغدر، لا يمكن أن أصحبكم، فحاولوا معه قال: أبدًا فقتلوه، ثم ذهبوا بخبيب وصاحبه إلى مكة فباعوهما، فاشترى خبيباً رضي الله عنه أناس من أهل مكة وقد كان قتل زعيمًا لهم في بدر، ورأوا أن هذه فرصة أن يقتلوه ثم أبقوه عندهم أسيراً مغلولة يداه، وفي يوم من الأيام كان في البيت وكان أسيراً مغلولة يده، فدرج صبي من أهل البيت إلى خبيب رضي الله عنه، فكأنه رق له ورحمه كعادة الإنسان يرحم الصغار ويرق لهم، ولهذا إذا رأيت من نفسك أنك ترق للصغار وترحمهم فهذه من علامة رحمة الله لك، لأن الراحمين يرحمهم الله عز وجل، ولهذا قال الأقرع بن الحابس لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقبل - أظنه الحسن والحسين - قال: إن لي عشرة من الولد ما قبلتهم، قال: أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك، إنما يرحم الله من عباده الرحماء.(6/99)
خبيب أخذ الصبي ووضعه على فخذه وكان قد استعار من أهل البيت موسى (يعني موس) يستحد به أي يحلق به عانته، لما ذهب الصبي يلعب وأمه غافلة عنه، لما تفطنت له إذا هو على فخد خبيب، وخبيب معه الموس فظنت أن هذه فرصة لخبيب، ماذا يصنع، يذبح الولد، الموس معه والولد صبي وهو منفرد به، لكنه رضي الله عنه أمين، صحابي جليل، لما أحس أنها ارتاعت (فزعت) الأم، قال: والله ما كنت لأذبحه، قالت: والله ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب، رأيته ذات يوم وفي يده قطف عنب يأكله، ومكة ما فيها ثمر، فعلمت أن ذلك من عند الله عز وجل، الله سبحانه وتعالى هيأ له هذا العنب وهو أسير لا يملك لنفسه شيئاً لا يستطيع أن يخرج إلى السوق يشتري أو يطعم، تحت رحمة هؤلاء، ولكن الله جل وعلا يسر له هذا القطف من العنب، يأكل عنباً وهو في مكة فعلمت أنه من عند الله.
وهذا كقصة مريم رضي الله عنها كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، فهذه من كرامة الله تعالى لخبيب رضي الله عنه، أكرمه الله سبحانه وتعالى، تنزل عليه مائدة من العنب يأكلها وهو أسير في مكة، وبقي أسيراً ثم أجمع هؤلاء القوم - الذين قتل والدهم على يد خبيب - أجمعوا على أن يقتلوه، لكنهم لاحترامهم للحرم قالوا: نقتله خارج الحرم، لأن الإنسان إذا قتل أحدًا خارج الحرم ودخل إلى الحرم فإنه لا يجوز أن يقتل(6/100)
في الحرم قال الله تعالى {ومن دخله كان أمناً} فهذه سنة كانت في الجاهلية وأقرها الإسلام، على أن الإنسان إذا فعل ما يوجب القتل (يستحق عليه القتل) خارج الحرم ثم لجأ إلى الحرم فإن الحرم يعيذه ولا يجوز أن يقتل فيه، وماذا يصنع به؟ يعني لو قال قائل: لو سلمنا بهذه القاعدة، كان كل إنسان مجرم يذهب إلى الحرم ويلوذ به، قلنا: نحن لا نقتله في الحرم لكن نضيق عليه حتى يخرج، كيف نضيق عليه؟ قال العلماء: لا يؤكل معه ولا يشارب ولا يبايع ولا يشترى منه ولا يكلم، نضيق عليه حتى تضيق عليه الأرض بما رحبت، حينئذ ماذا يفعل؟ يخرج، وإذا خرج أقمنا عليه ما يجب عليه.
المهم أنهم خرجوا بخبيب خارج الحرم إلى الحل ليقتلوه، فطلب منهم، أن يصلي ركعتين؛ لأن أشرف الأعمال البدنية الصلاة، ولأنها صلة بين العبد وبين ربه عز وجل، فأذنوا له أن يصلي ركعتين، انتهى منها وقال: لولا أني أخاف أن تقولوا: إنه فر من القتل أو كلمة نحوها، لزدت، ولكنه رضي الله عنه صلى ركعتين فقط ثم قال: لولا أني أخاف أن تظنوا أن بي جزعاً لزدت؛ لأنه رضي الله عنه، كان حريصًا على الصلاة ويحب أن يكثر منها عند موته ثم دعا عليهم رضي الله عنه بهذه الدعوات الثلاث، اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدًا.
فأجاب الله دعوته، وما دار الحول على واحد منهم، كلهم قتلوا وهذا من كرامته.
ثم انشد هذا الشعر:
ولست أبالي حين أقتل مسلمًا ... على أي جنب كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله فإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
فصار من الكرامة لهذا الرجل أن الله سبحانه وتعالى كان يرزقه(6/101)
الفاكهة التي لا توجد في مكة، وأنه كان يأكلها بيده، ويده موثقة بالحديد، وأنه أول من سن الصلاة عند القتل، فإنه فعل ذلك وأقره الله ورسوله، وأنه دعا على هؤلاء القوم، فأجاب الله دعوته أما عاصم بن ثابت الذي قتل رضي الله عنه، فإنه شعر به قوم من قريش، وكان قد قتل رجلاً من عظمائهم فأرسلوا إليه جماعة يأتون بشيء من أعضائه يعرف به حتى يطمئنوا أنه قتل، فلما جاء هؤلاء القوم ليأخذوا شيئاً من أعضائه، أرسل الله سبحانه وتعالى عليه شيئاً مثل الظلة من الدبر (أي من النحل) نحل عظيم، يحميه به الله تعالى من هؤلاء القوم، فعجزوا أن يقربوه ورجعوا خائبين.
وهذا أيضاً من كرامة الله سبحانه وتعالى لعاصم رضي الله عنه، أن الله سبحانه وتعالى حمى جسده بعد موته من هؤلاء الأعداء الذين يريدون أن يمثلوا به.
والكرامات كثيرة ذكر المؤلف منها ما ذكر في هذا الباب وذكر أيضاً أشياء متفرقة في هذا الكتاب.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: من أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء وما يجري الله سبحانه وتعالى على أيديهم من أنواع العلوم والمكاشفات، والقدرة والتقديرات، وقال: الكرامات موجودة قبل هذه الأمة، وفي صدر هذه الأمة إلى يوم القيامة.
وذكر شيئاً كثيراً منها في كتابه الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن(6/102)
كتاب الأمور المنهي عنها
باب تحريم الغيبة والأمر بحفظ اللسان
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين، باب تحريم الغيبة ووجوب حفظ اللسان، ثم ذكر عدة آيات في هذا المعنى.
والغيبة بينها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لأصحابه أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: الغيبة ذكرك أخاك بما يكره، فقالوا: يا رسول الله أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته يعني مع الغيبة، فالغيبة من كبائر الذنوب التي لا تكفرها الصلاة ولا الصدقة ولا الصيام ولا غيرها من الأعمال الصالحة، بل تبقى على الموازنة، قال ابن عبد القوي رحمه الله في نظمه الآداب:
وقد قيل صغرى غيبة ونميمة ...
وكلتاهما على نص أحمد
أي أحمد بن حنبل رحمه الله، يعني أنه قد نص على أن الغيبة والنميمة من كبائر الذنوب.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في تعريف الغيبة ذكرك أخاك بما يكره، يشمل ما يكرهه من عيب خلقي وعيب خلقي وعيب ديني، كل شيء يكرهه فإنك إذا ذكرته به فهي غيبة، من العيب الخلقي مثلاً لو اغتبته أنه أعرج، أعور، أو طويل، أو قصير، أو ما أشبه ذلك، هذه غيبة، أو خلقي كما لو ذكرته بأنه ليس بعفيف يعني يتتبع النساء ينظر إلى النساء ينظر إلى المردان وما أشبه ذلك أو عيب ديني، بأن تقول إنه مبتدع أو إنه لا يصلي مع الجماعة، إنه لا(6/103)
يفعل كذا وكذا تعيبه في غيبته ولهذا سميت غيبة، لأنها في غيبة الإنسان، أما لو كان ذلك في وجهه فإنه يسمى سباً وشتماً ولا يسمى غيبة.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته.
يعني بهته مع الغيبة، فحذف الشق الثاني لأنه معلوم، ونظير ذلك في الكلام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: ليت أنا نرى إخواننا، قالوا يا رسول الله أولسنا إخوانك؟ قال: لا أنتم أصحابي، وإخواننا هم الذين يأتون من بعدي يعني فيؤمنون به وهم لا يرونه، وقوله أنتم أصحابي لا يعني بذلك نفي الأخوة بل الصحابة إخوانه وأصحابه ومن بعده إخوانه وليسوا أصحابه، هذا أيضاً فقد بهته يعني ولا يمكن أن يكون غيبة بل هو غيبة وبهتان.
واعلم أن الغيبة تزداد قبحاً وإثماً بحسب ما تؤدي إليه، فغيبة العامة من الناس ليست كغيبة العالم أو ليست كغيبة الأمير أو المدير أو الوزير أو ما أشبه ذلك، لأن غيبة ولاة الأمور صغيراً كان الأمر أو كبيراً أشد من غيبة من ليس لهم إمرة وليس له أمر ولا ولاية، لأنك إذا اغتبت عامة الناس إنما تسيء إليه شخصياً فقط، أما إذا اغتبت من له أمر فقد أسأت إليه وإلى ما يتولاه من أمور المسلمين، مثلاً فرض أنك اغتبت عالماً من العلماء، هذا لا شك أنه عدوان عليه شخصيا كغيره من المسلمين لكنك أيضاً أسأت إساءة كبيرة إلى ما يحمله من الشريعة، رجل عالم يحمل الشريعة، إذا اغتبته سقط من أعين الناس، وإذا سقط من أعين الناس لن يقبلوا قوله ولم يأتوا إليه يرجعون إليه في أمور دينهم، وصار ما يطلبه من الحق مشكوكاً فيه لأنك اغتبته، فهذه جناية(6/104)
عظيمة على الشريعة.
كذلك الأمراء، إذا اغتبت أميراً أو ملكاً أو رئيسًا أو أشبه ذلك ليس هذه غيبة شخصية له فقط بل هي غيبة له وفساد لولاية أمره؛ لأنك إذا اغتبت الأمير أو الوزير أو الملك معناها أنك تشحن قلوب الرعية على ولاتهم، وإذا شحنت قلوب الرعية على ولاة أمورهم فإنك في هذه الحال أسأت إلى الرعية إساءة كبيرة؛ إذ أن هذا سبب لنشر الفوضى بين الناس، وتمزق الناس وتفرق الناس، واليوم يكون رمياً بالكلام، وغداً يكون رميًا بالسهام؛ لأن القلوب إذا شحنت وكرهت ولاة أمورها، فإنها لا يمكن أن تنقاد لأوامرهم، إذا أمرت بخير رأته شرا ولهذا قال الشاعر كلمة صادقة، قال:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ...
كما أن أعين السخط تبدي المساوئ
فأنت مثلاً إذا اغتبت أحداً من الكبار الذين لهم ولاية أمر على المسلمين، قيادة دينية، أو قيادة تنفيذية وسلطة، فإنك تسيء إلى المسلمين عمومًا من حيث لا تشعر، قد يظن بعض الناس أن هذا يشفي من غليله وغليانه، لكن كيف يصب جامه على أمن مستقر ليقلب هذا الأمن إلى خوف، وهذا الاستقرار إلى قلق؟ أو ليقلب هذه الثقة بالعالم إلى سحب الثقة، إذا كنت ذا غليان أو إذا كان صدرك مملوءًا غيظًا فصبه على نفسك قبل أن تصبه على غيرك، انظر مساوئك أنت، هل أنت ناج من المساوئ؟ هل أنت سالم؟ أول عيب فيك أنك تسب ولاة الأمور وتغتاب ولاة الأمور، قد يقول: أنا أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، نقول: حسناً ما قصدت، ولكن البيوت تؤتى من أبوابها، ليس طريق(6/105)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تنشر معايب ولاة أمورك؛ لأن هذا مما يزيد المنكر، لا يثق الناس في أداء أحد، إذا قال العالم: هذا منكر، قالوا: هذا اجعلوه على جنب، إذا قال الأمير: هذا منكر، وأراد أن يمنع منه، يقول لا، أنت ما أصلحت نفسك حتى تصلح غيرك، فيحدث بهذا ضرر كبير على المسلمين، والعجب أن بعض المفتونين بهذا الأمر، أي بسبب ولاة الأمور من العلماء والأمراء، العجب أنهم لا يأتون بحسنات هؤلاء الذين يغتابونهم، حتى يقوموا بالقسط، لأن الله يقول: يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجر منكم شنأن قوم على ألا تعدلوا، لا يجرمنكم: لا يحملنكم بغضهم على ألا تعدلوا، والعجب أيضاً أنك لا تكاد تجد في مجالسهم أو في أفواههم يوماً من الدهر إلا قليلاً أنهم يقولون: يا أيها الناس اتقوا كذا، اتقوا الغش، اتقوا الكذب.
الغش موجود في البيع والشراء والمعاملات والكذب موجود أيضاً والغيبة موجودة، لا تكاد تجد أنهم يصبون حامهم (غضبهم) على إصلاح العامة ويحذرونهم، ومن المعلوم أن العامة إذا صلحت فالشعب هو العامة، الشعب يتكون من زيد وعمر وبكر وخالد، أفراد، إذا صلحت الأفراد صلح الشعب، وإذا صلح الشعب فلابد أن تصلح الأمة كلها، لكن بعض الناس يكون فيه مرض يحب مثل هذا الأمر، يحب أن يطرح على بساط البحث عالمًا من العلماء فيتتبع عوراته ولا يذكر خيراته ويشيع هذه العورات بين الناس، أو(6/106)
يأخذ أميرًا، أو وزيرًا أو ملكًا، ويضعه على البساط ثم يشرحه ويتكلم فيه، ولا يذكر شيئاً من حسناته، سبحان الله أين العدل؟ إذا كان الله عز وجل {يقول الحق وهو يهدي السبيل} حتى في معاملة المشركين، يقول عز وجل: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} قالوا كلمتين وجدنا عليها آبائنا، والثانية: والله أمرنا بها، حكم الله بينهم {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} فقبل منهم الحق وهو أنهم وجدوا آباءهم عليها ورد الباطل.
إذا كنت تريد أن تتكلم بالعدل تكلم بالعدل أما أن تتبع عورات المسلمين ولاسيما ولاة الأمور منهم، فاعلم أن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، وأن من تتبع الله عورته فضحه ولو في بيت أمه.
المهم أن علينا أن نتجنب الغيبة، وأن نكف ألسنتنا، وأن نعلم أن كل كلمة تكون غيبة لشخص فإنما تكون نقصاً من حسناتنا وزيادة في حسنات هذا الذي ظلم بسبه كما جاء في الحديث أتدرون من المفلس فيكم؟ قالوا: من لا درهم عنده ولا متاع، قال: لا المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيأتي وقد ظلم هذا، وشتم هذا، وأخذ مال هذا فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته فإن بقي من حسناته شيء وإلا أخذ من سيئاتهم وطرح عليه ثم طرح في النار.
حتى إننا سمعنا عن بعض السلف أنه سمع عن شخص يغتابه فأرسل إليه بهدية من الذي أرسل الذي اغتيب، أرسل إلي(6/107)
الذي اغتابه بهدية وقال له: أنت أهديتني حسنات أنتفع بها يوم القيامة، وأنا أهديك هذه الهدية تنتفع بها في الدنيا، وآخر أمرها أن تكون خراءة أو بولاً.
المهم يا إخوان نصيحتي لنفسي ولكم أن تتجنبوا الغيبة، وأن تتجنبوا الخوض في مساوئ ولاة الأمور من العلماء والأمراء والسلاطين وغيرهم، إذا كنتم تريدون الخير والإصلاح، فالباب مفتوح، اتصلوا بأنفسكم، اتصلوا بقنوات أخرى إذا لم تستطيعوا أن تتصلوا بأنفسكم، ثم إذا أديتم الواجب سقط عنكم ما وراء ذلك، ثم اعلم يا أخي، هل غيبتك هذه للعلماء أو الأمراء هل تصلح من الأمور شيئاً؟ أبدًا بل هي إفساد الواقع لا تزيد الأمر إلا شكا ولا ترتفع بها مظلمة ولا يصلح بها فاسد، وإنما الطرق موجودة، ثم على الإنسان أن يتكلم بالعدل كما قلت، إذا ابتليت بنشر مساوئ الناس فانشر المحاسن حتى تتعادل الكفة أو ترجح إحدى الكفتين على الأخرى، أما أن تبتلى بنشر المعايب وتكون أخرس في نشر المحاسن، فهذا ليس بعدل.
وفقنا الله وإياكم لما فيه الخير والصلاح
قال الله تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم} وقال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} .
وقال تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} .
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصاحين باب تحريم الغيبة والأمر بحفظ اللسان، سبق لنا أن الغيبة هي أن تذكر أخاك بما يكره في دينه أو خلقه أو خلقته(6/108)
أو غير ذلك، كل شيء يكرهه أخوك فلا تذكره به في حال غيبته، وسبق لنا أن الغيبة من الكبائر من كبائر الذنوب، وأنه لا تكفرها الصلاة ولا الصدقة ولا الصيام ولا الحج إلا أنها كغيرها من الكبائر يوازن بينها وبين الحسنات، وسبق لنا أن الغيبة تختلف، أي يختلف حكمها وقبحها بحسب ما تقضي إليه من مفاسد، وسبق لنا أن غيبة ولاة الأمور من العلماء والأمراء أشد من غيبة غيرهم لما يترتب على ذلك من المفاسد العظيمة، أما ما ساقه المؤلف من الآيات فأولها قوله تعالى ولا يغتب بعضكم بعضا.
وهذه معطوفة على ما ذكر في أول الآية: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه} ، فنهى الله عن الغيبة ثم ضرب مثلاً ينفر منه كل أحد، فقال: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه} ، لو قدم لك أخوك المسلم ميتًا هل تحب أن تأكل لحمه؟ الجواب: لا.
الكل يقول: لا أحب ذلك، ولا يمكن، فإذا قال قائل: ما هي مناسبة الغيبة لهذا المثل؟ قلنا: لأن الذي تغتابه غائب لا يمكن أن يدافع عن نفسه، كالميت إذا قطعت لحمه لا يمكن أن يقوم ليدافع عن نفسه، ولهذا إذا ذكرت أخاك بما يكره في حال وجوده فإن ذلك لا يسمى غيبة فإن بل يسمى سباً وشتمًا.
{واتقوا الله إن الله تواب رحيم} ، فأمر بتقوى الله عز وجل بعد أن نهى عن الغيبة، وهذا إشارة إلى أن الذين يغتابون الناس لم يتقوا الله عز وجل.
واعلم أنك إذا سلطت على عيب أخيك ونشرته وتتبعت عورته فإن الله تعالى(6/109)
يقيد لك من يفضحك ويتتبع عورتك حيًا كنت أو ميتًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في بيت أمه.
إلا أن الغيبة إذا كانت للنصح والبيان فإنه لا بأس بها؛ كما لو أراد إنسان أن يعامل شخصًا من الناس، وجاء إليك يستشيرك، يقول: ما تقول؟ هل أعامل فلانًا؟ وأنت تعلم أن هذا سيئ المعاملة، ففي هذا الحال يجب عليك أن تبين ما فيه من العيب من باب النصح، ودليله أن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها خطبها ثلاثة من الصحابة: أسامة بن زيد، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبو جهم، فجاءت تستشير النبي صلى الله عليه وسلم تقول له خطبني فلان وفلان وفلان، فقال لها عليه الصلاة والسلام: أما أبو جهم فضراب للنساء، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة فذكر هذين الرجلين بما يكرهان لكن من باب النصيحة لا من باب نشر العيب والفضيحة، وفرق بين هذا وهذا، وكذلك لو جاء إنسان يستشيرك قال: اطلب العلم عند فلان؟ وأنت تعلم أن فلانًا ذو منهج منحرف، فلا حرج عليك: لا تطلب العلم عنده.
مثل أن يكون في عقيدته شيء أو في فكره شيء أو في منهجه شيء وتخشى أن يؤثر على هذا الذي جاء يستشيرك أيطلب العلم عنده أم لا، وجب عليك أن تبين له، تقول: لا تطلب العلم عند هذا، هذا فيه كذا وكذا(6/110)
من العيوب حتى لا ينتشر عيبه بين الناس؛ والأمثلة على هذا كثيرة، والمهم أنه إذا كان ذكرك أخاك بما يكره من أجل النصيحة فلا بأس.
وقد شاع عند الناس كلمة غير صحيحة وهي قولهم: [لا غيبة لفاسق] هذا ليس حديثًا وليس قولاً مقبولا بل الفاسق له غيبة مثل غيره، وقد لا يكون له غيبة فإذا ذكرنا فسقه على وجه العيب والسب فإن ذلك لا يجوز، وإذا ذكرناه على سبيل النصيحة والتحذير منه فلا بأس بل قد يجب، والمهم أن هذه العبارة ليست حديثًا عن الرسول عليه والسلام
قال الله تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضًا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم} وقال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} وقال تعالى {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}
[الشَّرْحُ]
قد سبق الكلام عن الآية الأولى ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم أما الآية الثانية فهي قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} .
(لا تقف) يعني: لا تتبع ما ليس بك به علم، وهذا النهي يشمل كل شيء، كل شيء ليس لك به علم فلا تتبعه أعرض عنه ولا تتكلم فيه لأنك على خطأ، وهذا إذا كان بالنسبة لما تنسبه إلى الله ورسوله كان محرمًا من أشد المحرمات إثما، إذا قلت مثلاً: قال الله تعالى كذا وكذا والله لم يقله، أو تفسر الآية بما تهواه لا بما تدل عليه الآية، فقد قلت على الله ما لا تعلمه، ولهذا سيأتي(6/111)
الحديث: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ولا يحل لأحد أن يفسر آية من كتاب الله وهو لا يعلم معناها، وإنما يفسرها بالظن والتخمين؛ لأن الأمر خطير؛ لأنك إذا فسرت آية إلى معنى من المعاني فقد شهدت على الله إنه أراد كذا وكذا وهذا خطر عظيم، ولهذا يجب على الإنسان التحرز من التسرع فيما ليس له به علم بالنسبة للأحكام الشرعية، وكذلك غيرها ولكن هي أشد، وقد قرن الله تعالى القول عليه بلا علم، قرنه بالشرك، فقال تعالى: {إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطنا وأن تقولوا على ما الله لا تعلمون} وكذلك إذا قفوت ما ليس لك به علم بالنسبة للآدميين (بني آدم) ؛ بأن تنقل عن شخص أنه قال كذا وكذا وهو لم يقله، حتى لو قيل لك: إنه قال كذا وكذا، فلا تعتمد على هذا حتى تتيقن، لاسيما إذا كثر القول بين الناس في الأمور، فإن يجب التحرز أكثر؛ لأن الناس إذا كثر فيهم القول والقيل والقال فإنهم يبنون من الحبة قبة، ومن الكلمة كلمات ولا يتحرزون في النقل ولهذا يسمع لإنسان أنه ينقل عنه أو عن غيره ما ليس بصحيح إطلاقاً؛ لأن الناس مع القول والقيل والقال يكون لهم هوى، والعياذ بالله، فيقولون ما لا يعلمون.
ثم ذكر الآية الثالثة وهي قوله تعالى {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} المؤلف رحمه الله لم يسق إلا هذه الثالثة، وليته ساق الآيات كلها لكان(6/112)
أحسن، فالله تعالى يخبر أنه خلق الإنسان، وهذا أمر معلوم بالضرورة والفطرة، فالله وحده هو الخالق والخالق يعلم من خلق كما قال تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} فهو جل وعلا يعلم بأحوالنا ونياتنا ومستقبلنا وكل ما يتعلق بنا، ولهذا قال: {ونعلم ما توسوس به نفسه} الشيء الذي تحدث به نفسك يعلمه الله قبل أن نتكلم، ولكن هل يؤاخذك به، في هذا تفصيل، إن ركنت إليه وأثبته في قلبك عقيدة، فإن الله يؤاخذك به، وإلا فلا شيء عليك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم فمثلاً لو أن إنسان صار يوسوس ويفكر؛ هل يطلق زوجته أو لا ومثل هذا كثير بين الناس، فإنها لا تطلق حتى ولو عزم على أن يطلقها فإنها لا تطلق إلا بالقول أو بالكتابة الدالة على القول أو بالإشارة الدالة على القول؛ لأن الله تجاوز عن هذا الأمة ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم، قال: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد} فإن الله تعالى وكل بالإنسان ملكين يلازمانه، أحدهما عن اليمين والثاني عن الشمال، عن اليمين وعن الشمال يلازمانه دائما ويكتبان عليه كل ما نطق به وكل ما فعل ولهذا قال: {ما يلفظ من قول إلا ليه رقيب عتيد} (ومن) هنا زائدة للتوكيد، يعني ما يلفظ قولاً من الأقوال أي قول كان، إلا لديه رقيب عتيد؛ (رقيب) أي مراقب (عتيد) أي حاضر لا(6/113)
يتركه، وأنت الآن لو جعلت في جيبك مسجلاً يسجل ما تقول لوجدت العجب العجاب مما يصدر منك أحيانًا وأنت لا تفكر فيه، والرجل قد يتكلم الكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً، تهوي به في النار كذا وكذا خريفًا والعياذ بالله، (الرقيب) معناه المراقب الذي يراقبك (العتيد) الحاضر الذي لا يغيب عنك أي قول كان يكتب، ويذكر عن الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - أنه دخل عليه أحد أصحابه وهو مريض، يئن من المرض، فقال له إن فلانًا من التابعين يقول عن الملك يكتب حتى أنين المريض، فأمسك رحمه الله عن الأنين خوفًا من أن يكتب عليه، ولهذا ينبغي على الإنسان أن يقلل من الكلام ما استطاع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت (فليقل خيرًا) أي كلام فيه الخير، إما لأنه خير بذاته، وإما أنه خير لما يؤدي إليه من الألفة بين الجلساء والمحبة؛ لأنك إذا حضرت مجلسًا مثلاً ولم تتكلم فيه لم يستحب الناس الجلوس معك، لكن إذا انطلقت في الكلام المباح من أجل أن تتألفهم وتتودد إليهم فهذا خير.
تأخذ بقوله صلى الله عليه وسلم: فليقل خيرًا أو ليصمت والمهم أن من جملة الأقوال التي تكتب الغيبة، فاحذر أن تكتب عليك؛ لأنك إذا اغتبت أحدًا فإنه يوم القيامة يأخذ من حسناتك التي هي أغلى ما يكون عندك في ذلك الوقت، فإن بقي من حسناتك شيء، وإلا أخذ من سيئات الذين اغتبتهم وطرح عليك ثم طرحت في النار.
والله الموفق(6/114)
باب تحريم الغيبة والأمر بحفظ اللسان اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلامًا ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة فالسنة الإمساك عنه، لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة والسلامة لا يعدلها شيء.
1511 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا، أو ليصمت متفق عليه.
وهذا الحديث صريح في أنه ينبغي أن لا يتكلم إلا إذا كان الكلام خيرًا، وهو الذي ظهرت مصلحته، ومتى شك في ظهور المصلحة، فلا يتكلم.
1512 - وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي المسلمين أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده.
متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف النووي رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) في باب تحريم الغيبة والأمر بحفظ اللسان: اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلامًا ظهرت فيه المصلحة الدينية أو الدنيوية، وهذا الكلام مأخوذ من قول(6/115)
النبي صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت وهو الحديث الذي ساقه المؤلف رحمه الله، فإذا استوى الأمران، أن يسكت أو يتكلم، فالسلامة أفضل، يعني لا يتكلم إذا كان يشك هل في كلامه خيرًا أو لا، فالأفضل ألا يتكلم؛ لأن السلامة لا يعدلها شيء، والساكت سالم إلا إذا اقتضت الحال أن يتكلم فليتكلم، مثلاً لو رأى منكرًا فهنا لا يسكت، يجب أن يتكلم وينصح وينهى عن هذا المنكر؛ وأما إذا لم تقتضي المصلحة أن يتكلم فلا يتكلم لأن ذلك أسلم له؛ ثم اعلم أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت يدل على أنه يجب على الإنسان أن يسكت إذا لم يكن الكلام خيرًا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم شرط الإيمان بالله واليوم الأخر أن يقول الخير وإلا فليسكت؛ لكن الخير نوعان: خير في ذات الكلام، كقراءة القرآن والتسبيح والتكبير والتهليل وتعليم العلم وما أشبه ذلك هذا خير وخير لغير الكلام، يعني خيرًا في الكلام وخيرًا لغير الكلام بمعنى أن الكلام مباح لكن يجر إلى مصلحة يجر إلى تأليف القلب وانبساط الإخوان وسرورهم بمجلسك هذا أيضاً من الخير؛ لأن الإنسان لو بقي ساكتًا من أول المجلس لآخره مله الناس وكرهوه، وقالوا: هذا رجل فظ غليظ؛ لكن إذا تكلم بما يدخل السرور عليهم وإذا كان كلامًا مباحًا فإنه من الخير، وأما من تكلم بكلام يضحك الناس وهو كذب فإنه قد ورد فيه الوعيد: (ويل لمن حدث وكذب ليضحك به القوم(6/116)
ويل له ثم ويل له) وهذا يفعله بعض الناس ويسمونها (النكت) ، يتكلم بكلام كذب ولكن من أجل أن يضحك الناس، هذا غلط، تكلم بكلام مباح من أجل أن تدخل السرور على قلوبهم، وأما الكلام الكذب فهو حرام.
ثم ذكر حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي المسلم خير يعني أي المسلمين خير؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده أي لا يعتدي على المسلمين لا بلسانه؛ بغيبة أو نميمة أو سب أو ما أشبه ذلك، ويده يعني لا يأخذ أموالهم ولا يضرب أبشارهم، بل هو كاف عادل، لا يأتي الناس إلا ما هو خير، هذا هو المسلم، وفي هذا حث على أن يسلم الإنسان من لسانك ويدك، احفظ لسانك لا تتكلم في عباد الله إلا في الخير، كذلك احفظ يدك لا تجن على أموالهم ولا على أبشارهم، بل كن سالمًا يسلم منك وهذا هو خير المسلمين
1513 - وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة متفق عليه.
1514 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق(6/117)
والمغرب متفق عليه.
ومعنى: يتبين يتفكر أنها خير أم لا.
1515 - وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم رواه البخاري.
[الشَّرْحُ]
هذه أحاديث ثلاثة في بيان خطر اللسان وأنه من أعظم ما يكون من الأعضاء خطورة، ففي الحديث الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة الذي بين لحييه هو اللسان والذي بين الرجلين هو الفرج، سواء للرجل أو المرأة، يعني من حفظ لسانه وحفظ فرجه، حفظ لسانه عن القول المحرم، من الكذب والغيبة والنميمة والغش وغير ذلك، وحفظ فرجه من الزنا واللواط ووسائل ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يضمن له الجنة، يعني أن جزاءه هو الجنة إذا حفظت لسانك وحفظت فرجك، فزلة اللسان كزلة الفرج، خطيرة جدًا، وإنما قرن النبي صلى الله عليه وسلم بينهما لأن في اللسان شهوة الكلام، كثير من الناس يتنطع ويتلذذ إذا تكلم في أعراض(6/118)
الناس، ويتفكه والعياذ بالله.
وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين فنجده أحب شيء عنده أن يتكلم في أعراض الناس، ومن الناس من يهوى الكذب، فنجد أحسن شيء عنده هو الكذب، والكذب من كبائر الذنوب لاسيما إذا كذب بالكلمة ليضحك القوم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ويل لمن حدث فكذب ليضحك به القوم، ويل له ثم ويل له.
وأما الثاني الذي قرن بينه وبين شهوة الكلام فكذلك شهوة النساء، فإن الإنسان مجبول على ذلك ولاسيما إذا كان شابًا، فإذا حاول حفظ هاتين الشهوتين، ضمن النبي صلى الله عليه وسلم له الجنة، أي هذا جزاؤه، لأنهم خطيران.
كذلك أيضاً الحديث الثاني إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب الكلمة (ما يتبين فيها) يعني لا يتأكد، ينقل ما سمع وكفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع فتجده يتكلم بالكلمة ولا يتبين ولا يتثبت ولا يدرس معناه ولا يدرس ماذا توصل إليه، والعياذ بالله يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب.
ومسافة ما بين المشرق والمغرب بعيدة جدًا، نصف الكرة الأرضية، ومع ذلك كلمة واحدة زل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب، وهذا يدل على وجوب التأكد مما تتكلم به، سواء نقلته إلى غيرك أو نقلته عن غيرك، تثبت، اصبر، لا تستعجل، ما الذي يوجب لك أن تستعجل في المقال؟ اصبر حتى(6/119)
تتثبت ويتبين لك الأمر، ثم إن رأيت مصلحة في الحديث فتحدث، وإذا لم تر مصلحة في الحديث فاسكت من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خير أو ليصمت.
وأما الحديث الثالث هو أن الرجل يتكلم بالكلمة من رضوان الله، ويعني كلمة ترضي الله، قرآن، تسبيح، تكبير، تهليل، أمر بالمعروف، نهي عن المنكر، تعليم علم، إصلاح ذات البين، وما أشبه ذلك، يتكلم بالكلمة ترضي الله عز وجل ولا يلقي لها بالاً، يعني أنه لا يظن أنها تبلغ به ما بلغ، وإلا فهو قد درسها وعرفها وألقى لها البال، لكن لا يظن أن تبلغ ما بلغت يرفع الله له بها درجات في الجنة، وعلى ذلك رجل يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي بها بالاً يهوي بها في النار، لأنه تكلم بها ولا ظن أن تبلغ ما بلغت، وهذا يقع كثيراً، كثيراً من الناس والعياذ بالله تجده يسأل عن فلان العاصي وما أشبه ذلك فيقول: هذا اتركه، اترك هذا، وهذا والله ما يعرف سبيله، هذا والله ما يغفر الله له، هذه كلمة خطيرة.
كان رجل عابد يمر برجل عاص، عابد يعبد الله، فيقول هذا الرجل العابد: والله لا يغفر لفلان، انظر، والعياذ بالله تحجر واسعًا وتألى على الله، والله لا يغفر لفلان؛ لأن الرجل العابد هذا معجب بعمله، يرى نفسه، ويدلي بعمله على ربه، وكأن له المنة على الله سبحانه وتعالى، فقال: والله لا يغفر الله لفلان، قال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ قد غفرت لفلان وأحبطت عملك الملك والسلطان لمن؟ لله عز وجل، ما هو لك حتى تقول: والله ما يغفر الله لفلان.
والملك والسلطان لله لا ينازعه فيه منازع إلا أذله الله، قال: من ذا الذي يتألى علي أن لا(6/120)
أغفر لفلان؟ قد غفرت لفلان وأحبطت عملك كلمة واحدة صارت سببًا لحبط عمله نسأل الله العافية.
إذاً احذر زلة اللسان، ومن ذلك أيضاً أي من زلل اللسان إذا قال مثلاً شخص: يا فلان، إن جارنا لا يصلي لعلك تنصحه إن شاء الله خيرًا قال له: هذا ما يمكن أن يهتدي أبدًا، هذا طاغ هذا فاسق.
أعوذ بالله، القلوب بيد من؟ بيد الله عز وجل كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما من قلب من قلوب بني آدم إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل يقلبه كيف يشاء، إن شاء أزاغه وإن شاء هداه.
وهذا شيء مسلم به حتى الإنسان أحيانًا يجد في قلبه أشياء يعرف أنها من الشيطان، وأنه إن لم يثبته الله زل، فالقلوب بيد الله عز وجل فكيف تقول هذا ما ينفع له شيء هذا ما هو مهتد؟ حرام هذا ما يجوز، ادع ولا تيأس، ألا يوجد في هذه الأمة من كان من ألد أعدائها وأشد خصومها؟ وكان ثاني اثنين في زعامة الأمة بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من؟ عمر بن الخطاب، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه مناوئاً للدعوة الإسلامية، وكان يحذر منها وكان يفر منها وكان من ألد أعدائها، فهداه الله فصار هو الخليفة الثاني بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك خالد بن الوليد، عكرمة بن أبي جهل، ماذا فعل في أحد؟ كرا على المسلمين من الخلف على فرسيهما ومعهم فرسان آخرون واختلطا بالمسلمين وحدثت الهزيمة وفي النهاية كانا قائدين عظيمين من قواد المسلمين، فلا تيأس يا أخي، واسأل الله الهداية والثبات، ولا تزل بلسانك،(6/121)
فتهلك، حمانا الله من معاصيه، ووفقنا لما يرضيه، إنه على كل شيء قدير
1516 - وعن أبي عبد الرحمن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه رواه مالك في الموطأ والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وعن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله حدثني بأمر اعتصم به قال: قل ربي الله، ثم استقم قلت: يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: هذا رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
1518 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تعالى قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي رواه الترمذي.(6/122)
1519 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من وقاه الله شر ما بين لحييه، وشر ما بين رجليه دخل الجنة رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
1520 - وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال: أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
1521 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أصبح ابن آدم، فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان، تقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك: فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا رواه الترمذي.
معنى تكفر اللسان: أي تذل وتخضع له.
1522 - وعن معاذ رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار؟ قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل ثم تلا: {تتجافى جنوبهم عن(6/123)
المضاجع} حتى بلغ {يعملون} .
ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه قلت: بلى يا رسول الله: قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه قال: كف عليك هذا قلت يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟ رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وقد سبق شرحه.
[الشَّرْحُ]
هذا من الأحاديث التي ساقها المؤلف رحمه الله، كلها فيها التحذير من اللسان وشروره وآفاته، وأن الإنسان ربما يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً ولا يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله بها عليه سخطه إلى يوم يلقاه، وكلها فيها التحذير من اللسان وآفاته، ولهذا قيل: احفظ لسانك أن تقول فتبتلى إن البلاء موكل بالمنطق.
كثير من الناس يدعو على نفسه بشر وهو لا يشعر يدعو على ولده، يدعو على ماله، يدعو على صديقه، يدعو على قريبه، من حيث لا يشعر فربما يصادف ذلك بابًا مفتوحًا فيصبه الدعاء،(6/124)
وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ألا أخبرك بملاك ذلك كله أي بما يملك هذا كله، قلت: بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بلسانه وقال: كيف عليك هذا فقلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ يعني هل نؤاخذ بما نتكلم به، فقال ثكلتك أمك يا معاذ وهذه كلمة يقصد بها تعظيم الأمر، وهل يكب الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم فاحذر يا أخي هذه الحصائد واحفظ لسانك، ومن حفظ اللسان، أن يحفظ لسانه عن الكذب والغش وقول الزور والنميمة والغيبة وكل قول يبعده من الله عز وجل ويوجب عليه العذاب، فإنه يجب عليه أن يتنزه منه، نسأل الله أن يحفظ علينا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، إنه على كل شيء قدير
1523 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: ذكرك أخاك بما يكره قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته رواه مسلم.
1524 - وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر بمنى في حجة الوداع: إن دماءكم، وأموالكم وأعراضكم حرام(6/125)
عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بل بلغت متفق عليه
1525 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا قال بعض الرواة: تعني قصيرة، فقال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته قالت: وحكيت له إنساناً فقال: ما أحب أني حكيت إنسانًا وإن لي كذا وكذا رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
ومعنى: مزجته خالطته مخالطة يتغير بها طعمه، أو ريحه لشدة نتنها وقبحها، وهذا من أبلغ الزواجر عن الغيبة، قال الله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}
1526 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم رواه أبو داود.
1527 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله رواه مسلم.(6/126)
[الشَّرْحُ]
هذه بقية الأحاديث التي ساقها المؤلف رحمه الله في باب الغيبة والأمر بحفظ اللسان، واشتملت على أشياء متعددة منها بيان الغيبة، وأنها ذكرك أخاك بما يكره، وقد سبق لنا بيان هذا وأن الغيبة ذكرك أخاك بما يكره في دينه أو خلقه أو بدنه أو أهله أو غير ذلك، إلا إذا كان المقصود النصيحة، كما لو استشارك شخص في معاملة إنسان وأنت تعرف من هذا الإنسان أنه ليس أهلاً للمعاملة، وأنه مثلاً كذاب أو ما أشبه ذلك، وأردت أن تبين له ما فيه من عيب، فلا بأس فيه، وبينا دليل هذا في حديث فاطمة بنت قيس حين استشارت النبي فيمن خطبوها معاوية بن أبي سفيان وأبو جهم وأسامة بن زيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فضراب للنساء، انكحي أسامة، فهذا من باب النصيحة فلا بأس بها، وتضمنت هذه الأحاديث إعلان رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم الدماء والأموال والأعراض في حجة الوداع في أكبر مجتمع حصل بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الصحابة؛ لأن الذين حجوا معه قريب من مائة ألف، ومع ذلك أعلن عليه الصلاة والسلام وقال: إن أموالكم ودماءكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم قال: اللهم اشهد.
وكذلك أيضاً بينت هذه الأحاديث أن ذكرك أخاك بما يكره ولو بما(6/127)
يتعلق بخلقته كالطويل والقصير وأما أشبه ذلك، كما في حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت في صفية بنت حيي إحدى أمهات المؤمنين: حسبك من صفية كذا تعني أنها قصيرة، تقول للرسول صلى الله عليه وسلم: فقال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته يعني لو خلطت بماء البحر على كبره وسعته لمزجته، أي أثرت فيه وهي كلمة يسيرة جداً لكنها عظيمة، حيث إنها في ضرتها، وحيث إنها قد يحدث من هذه الكلمة أن يكره النبي صلى الله عليه وسلم صفية، فلعظمها صار لها هذا الأثر العظيم، كذلك أيضاً العقوبة العظيمة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم وقد أسري به، أنه قد مر بأقوام لهم أظافر من النحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: الذين يقعون في أعراض الناس يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم فالمهم أن الواجب على الإنسان الحذر من إطلاق اللسان، وألا يتكلم إلا بخير إن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، قال النبي صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت نسأل الله أن يحمينا وإياكم من سخطه وأن يعيننا وإياكم على شكره وحسن عبادته(6/128)
باب تحريم سماع الغيبة وأمر من سمع غيبة محرمة بردها، والإنكار على قائلها، فإن عجز أو لم يقبل منه، فارق المجلس إن أمكنه
قال تعالى: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه} وقال تعالى: {والذين هم عن اللغو معرضون} .
وقال تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} .
وقال تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}
1528 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من رد عن عرض أخيه، رد الله عن وجهه النار يوم القيامة رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
1529 - وعن عتبان بن مالك رضي الله عنه في حديثه الطويل المشهور الذي تقدم في باب الرجاء قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فقال: أين مالك بن الدخشم؟ فقال رجل: ذلك منافق لا يجب الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقل ذلك ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله، وإن الله قد(6/129)
حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله متفق عليه.
وعتبان بكسر العين على المشهور، وحكي ضمها، وبعدها تاء مثناة من فوق، ثم باء موحدة.
والدخشم بضم الدال وإسكان الخاء وضم الشين المعجمتين.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه (رياض الصاحين) باب تحريم سماع الغيبة، لما ذكر الله النصوص الواردة في تحريم الغيبة، لما بين مضارها ومفاسدها وآثامها أعقب ذلك بهذا الباب وهو تحريم سماع الغيبة، يعني أن الإنسان إذا سمع شخصًا يغتاب آخر فإنه يحرم عليه أن يستمع إلى ذلك بل ينهاه عن هذا ويحاول أن ينقله إلى حديث آخر، فإن هذا فيه أجر عظيم كما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، فإن أصر هذا الذي يغتاب الناس، إلا أن يبقى على غيبته وجب عليه أن يقوم عن المكان؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: وقد نزل عليكم في الكتب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذًا مثلهم فدل ذلك على أن الإنسان إذا استمع إلى المحرم، فهو مشارك لمن يفعل هذا المحرم بل الواجب أن يقوم، ثم ذكر آيات متعددة في بيان الإعراض عن اللغو، واللغو(6/130)
الكلام الذي لا فائدة فيه فإنه من اللغو، وعباد الرحمن قال الله تعالى في وصفهم: {وإذا مروا باللغو مروا كرامًا} يعني سالمين منه لا يلحقهم شيء منه لا يستمعون إليه ولا يصغون له، ثم ذكر حديث عتبان بن مالك في قضية مالك بن الدخشم وتكلم الرجل في عرضه عند النبي صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن ذلك وقال: ألم تر أنه يصلي يريد بذلك وجه الله وهذا يدل على أن الإنسان إذا لم يكن كذلك فإنه لا غيبة له، فالكافر مثلاً ليس محترمًا في الغيبة، لك أن تغتابه، إلا أن يكون له أقارب مسلمون يتأذون بذلك فلا تغتبه وإلا فلا غيبة له، أما الفاسق فقد سبق لنا أنه محترم إلا إذا كانت المصلحة تقتضي بيان فسقه فلا بأس أن يذكر بفسقه؛ لأن هذا من باب النصيحة.
والله الموفق
1530 - وعن كعب بن مالك رضي الله عنه في حديثه الطويل في قصة توبته وقد سبق في باب التوبة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه، والنظر في عطفيه.
فقال له معاذ بن جبل رضي الله عنه: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه.
عطفاه جانباه، وهو إشارة إلى إعجابه بنفسه.(6/131)
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله في كتابه (رياض الصاحين) في باب تحريم سماع الغيبة فيما نقله عن كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة توبته، وكان كعب من الذين تخلفوا عن غزوة تبوك بلا عذر وهم ثلاثة نفر: مرارة بن الربيع، والهلال بن أمية، وكعب بن مالك تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا عذر، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك جاءوه صلى الله عليه وسلم المعذرون يعتذرون ويقولون: والله إننا لا نستطيع ويحلفون على ذلك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل اعتذارهم ويترك سرائرهم إلى الله، أما كعب بن مالك وصاحباه فقد نطقوا بالحق وقالوا: تخلفنا بلا عذر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجرهم فهجرهم المسلمون، حتى إن الرجل منهم لا يسلم ولا يرد عليه أحد السلام حتى كان كعب رضي الله عنه يأتي فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم يقول فلا أدري أحرك شفتيه برد السلام أم لا، وبعد ثمانية وأربعين يومًا أمر النبي صلى الله عليه وسلم زوجاتهم أن ينفصلن عنهم، فذهبت النساء إلى أهليهن إلا أن هلالا ومرارة بن الربيع بقيت زوجاتهما عندهما لأنهما محتاجان إليهما، أما كعب فذهبت امرأته إلى أهلها وهذه القصة العجيبة العظيمة أنزل الله تعالى فيها آية من كتاب الله، يتلى ويثاب من تلاه على الحرف الواحد عشر حسنات، أي فضل يساوي هذا الفضل؟ أن يكون(6/132)
تاريخ إنسان في حياته إذا تلاه المسلمون كان لهم بكل حرف عشر حسنات، فقال الله تعالى وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم في تبوك كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً فسأل عن كعب فقال رجل من الناس: يا رسول الله، إنه شغله برداه والنظر في عطفيه، ولكن هذا الكلام الذي قاله هذا الرجل لا شك أنه من الغيبة وأنه ذكر كعب بما يكره، إلا أن الله وفق له من دافع عنه، وقال: إنه لا يعلم عنه إلا خيرًا فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فيستفاد من ذلك أن الواجب على الإنسان إذا سمع من يغتاب أحدًا أن يكف غيبته وأن يسعى في إسكاته، إما بالقوة إذا كان قادراً كأن يقول: اسكت، اتق الله، خاف الله وإما بالنصيحة المؤثرة، فإن لم يفعل فإنه يقوم ويترك المكان؛ لأن الإنسان إذا جلس في مجلس يغتاب فيه الجالسون أهل الخير والصلاح، فإنه يجب عليه أولاً أن يدافع، فإن لم يستطع فعليه أن يغادر وإلا كان شريكًا لهم في الإثم.
والله الموفق(6/133)
باب ما يباح من الغيبة اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه بها وهو ستة أسباب: - الأول: التظلم، فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية، أو قدرة على إنصافه من ظالمه، فيقول: ظلمني فلان بكذا.
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجوا قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا، فازجره عنه، ونحو ذلك، ويكون مقصوده التوصل إلى إزالة المنكر، فإن لم يقصد ذلك كان حرامًا.
الثالث: الاستفتاء: فيقول للمفتي: ظلمني أبي، أو أخي أو زوجي، أو فلان بكذا، فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص منه، وتحصيل حقي، ودفع الظلم؟ ونحو ذلك، فهذا جائز للحاجة، ولكن الأحوط والأفضل أن يقول: ما تقول في رجل أو شخص، أو زوج، كان من أمره كذا؟ فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين، ومع ذلك فالتعيين جائز كما سنذكره في حديث هند إن شاء الله تعالى.
الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم، وذلك من وجوه: منها جرح المجروحين من الرواة والشهود، وذلك جائز بإجماع(6/134)
المسلمين، بل واجب للحاجة.
ومنها المشاورة في مصاهرة إنسان، أو مشاركته، أو إيداعه، أو معاملته، أو غير ذلك، أو محاورته، ويجب على المشاور أن لا يخفي حاله، بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة.
ومنها إذا أراد متفقها يتردد إلى مبتدع، أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك، فعليه نصيحته ببيان حاله، بشرط أن يقصد النصيحة، وهذا مما يغلط فيه، وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد، ويلبس الشيطان عليه ذلك، ويخيل إليه أنه نصيحة فليتفطن لذلك.
ومنها أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها: إما بألا يكون صالحاً لها، وإما بأن يكون فاسقًا، أو مغفلاً، ونحو ذلك، فيجب ذكر ذلك لمن له عليه ولاية عامة ليزيله، ويولي من يصلح، أو يعلم ذلك منه ليعامله بمقتضى حاله، ولا يغتر به، وأن يسعى في أن يحثه على الاستقامة أو يستدل به.
الخامس: أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر، ومصادرة الناس، وأخذ المكس، وجباية الأموال ظلماً، وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يجاهر به، ويحرم ذكره بغيره، من العيوب، إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكرناه.
السادس: التعريف، فإذا كان الإنسان معروفًا بلقب الأعمش، والأعرج والأصم، والأعمى والأحول، وغيرهم جاز تعريفهم بذلك،(6/135)
ويحرم إطلاقه على جهة التنقيص، ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كان أولى.
فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء وأكثرها مجمع عليه.
[الشَّرْحُ]
هذا الباب ذكره المؤلف النووي رحمه الله تعالى في كتابه (رياض الصالحين) فيما يجوز من الغيبة وذكر لذلك ستة أسباب، وكلامه رحمه الله ليس بعده كلام؛ لأنه كله كلام جيد وصواب وله أدلة وسيذكرها إن شاء الله تعالى في هذا الباب، يذكر الأدلة وسنتكلم عليها في حينها إن شاء الله فنسأل الله أن يغفر للنووي رحمه الله وأن يجمعنا وإياكم في به جنات النعيم
1531 - عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ائذنوا له، بئس أخو العشيرة؟ متفق عليه.
احتج به البخاري في جواز غيبة أهل الفساد وأهل الريب.
1532 - وعنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أظن فلانًا وفلانًا(6/136)
يعرفان من ديننا شيئاً رواه البخاري.
قال الليث بن سعد أحد رواة هذا الحديث: هذان الرجلان كانا من المنافقين.
1533 - وعن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن أبا الجهم ومعاوية خطباني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما معاوية، فصعلوك لا مال له، وأما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه متفق عليه.
وفي رواية لمسلم: وأما أبو الجهم فضراب للنساء وهو تفسير لرواية: لا يضع العصا عن عاتقه وقيل: معناه: كثير الأسفار.
1534 - وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيه شدة، فقال عبد الله بن أبي: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بذلك، فأرسل إلى عبد الله بن أبي فاجتهد يمينه: ما فعل؟ فقالوا: كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع في نفسي مما قالوه شدة حتى أنزل الله تعالى تصديقي {إذا جاءك المنافقون} ثم دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم، ليستغفروا لهم فلووا رؤوسهم متفق عليه.(6/137)
[الشَّرْحُ]
تقدم أن النووي رحمه الله ذكر باباً في بيان ما يجوز من الغيبة وذكر لذلك أحاديث فمنها حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن عليه رجل، يعني ليدخل بيته فقال ائذنوا له، بئس أخو العشيرة وفي لفظ بئس ابن العشيرة وكان هذا الرجل من أهل الفساد والغي، فدل هذا على جواز غيبة من كان من أهل الفساد والغي وذلك من أجل أن يحذر الناس فساده حتى لا يغتروا فيه فإذا رأيت شخصًا ذا فساد وغي لكنه قد سحر الناس ببيانه وكلامه يأخذ الناس منه ويظنون أنه على خير، فإنه يجب عليك أن تبين أن هذا الرجل لا خير فيه وأن تثني عليه شرًا؛ لأجل ألا يغتر الناس به، كم من إنسان طليق اللسان فصيح البيان إذا رأيته يعجبك جسمه وإن يقول تسمع لقوله، ولكنه لا خير فيه، فالواجب بيان حاله، كذلك أيضاً ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة أيضاً قال ما أظن أن فلانًا وفلانًا يعرفان من دينناً شيء وكانا من المنافقين فأثنى عليهما شرًا وأنهما لا يعرفان من الدين شيئاً، لأن المنافق لا يعرف من دين الله شيئاً في قلبه وإن كان يعرف بأذنه، لكن لا يعرف بقلبه والعياذ بالله، فهو منافق يظهر أنه مسلم ولكنه كافر، قال الله تعالى: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون.(6/138)
وذكر أيضًا حديث فاطمة بنت قيس في المشورة أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته أنه خطبها ثلاثة من الرجال معاوية بن أبي سفيان، وأبي الجهم، وأسامة بن زيد، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أما معاوية فصعلوك لا مال له؛ لكنه رضي الله عنه بقي حتى صار خليفة للمسلمين؛ لكنه في ذلك الوقت فقير.
قال: أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فضراب للنساء.
وفي رواية: أنه لا يضع العصا عن عاتقه، وهما بمعنى واحد، يعني أنه سيئ العشرة مع النساء يضربهن والمرأة لا يجوز ضربها إلا لسبب بينه الله في قوله: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن} أما أن تكون تضرب امرأتك كلما خالفت أية مخالفة فهذا غلط ولا يحل لقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} لكن إذا خفت نشوزها وترفعها عليك وعدم قيامها بواجبك فاستعمل معها هذه الرتب: أولا عظها خوفها بالله، بين لها أن حق الزوج لا يجب تضيعه، فإن استقامت فهذا المطلوب وإلا فالرتبة الثانية اهجرها في المضجع، لا تنام معها أما الكلام فلا تهجرها، لكن لك رخصة أن تهجرها في الكلام ثلاثة أيام؛ لأنه لا يحل أن يهجر أخاه فوق ثلاثة يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهم الذي يبدأ بالسلام الرتبة الثالثة إذا لم يشري بها هذا فاضربوهن، لكن ضربًا غير مبرح، يعني(6/139)
ليس شديدًا، بل ضرب يحصل به التأديب فقط وفي لفظ أنه لا يضع العصا عن عاتقه وهما بمعنى واحد وقيل إن معنى قوله أنه لا يضع العصا عن عاتقه أنه كثير الأسفار، لأن صاحب السفر في ذلك الوقت، يسافر بالإبل ويحتاج العصا، والظاهر أن المعنى واحد يعني ضراب للنساء ولا يضع العصا عن عاتقه بمعنى واحد، لأن الروايات يفسر بعضها بعضًا، ثم قال أنكحي أسامة بن زيد بن الحارثة فنكحته فاغتطبت به ورأت فيه خيرًا، ففي هذا دليل على أن الإنسان إذا جاء يستشيرك في شخص فذكرت عيوبه فلا بأس؛ لأن هذا من باب النصيحة وليس من باب الفضيحة، وفرق بين من يغتاب الناس ليظهر مساوئهم ويكشف عوراتهم وبين إنسان يتكلم بالنصيحة.
أما الحديث الرابع فهو حديث زيد بن الأرقم رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر وكان معه المؤمنون والمنافقون فأصاب الناس شدة، فتكلم المنافقون وقالوا {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا} يعني: لا تعطوهم شيئاً من النفقة حتى يجوعوا ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوا، المؤمنون لا يمكن أن يتركوا النبي صلى الله عليه وسلم لو ماتوا جوعًا وظمأ ما تركوه، لكن هذا هي حال المنافقين الذين يلمزون النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقات إذا أعطوا رضوا وإذا لم يعطوا فإذا هم يسخطون، أما المؤمنون فلن يتركوا الرسول صلى الله عليه وسلم {لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا} حتى هنا للتعليل وليست للغاية لأجل أن ينفضوا عنه، ولكن كذبوا في ذلك وقالوا أيضًا(6/140)
{لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} ويعني بالأعز نفسه وقومه، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع ذلك زيد بن الأرقم رضي الله عنه فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بأن عبد الله بن أبي قال هذا الكلام، فأرس إليه النبي صلى الله عليه وسلم - أي عبد الله بن أبي -، فاجتهد يمينه أنه لم يقل هذا، يعني حلف وأقسم واشتد في القسم أنه ما قال ذلك؛ لأن المنافقين هذا دأبهم، يحلفون علي الكذب وهم يعلمون فأقسم أنه ما قال ذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم ويترك سريرتهم إلى الله، فلما بلغ ذلك زيد بن الأرقم اشتد عليه الأمر؛ لأن الرجل حلف وأقسم عند الرسول الله صلى الله عليه وسلم واجتهد يمينه في ذلك فاشتد هذا على زيد بن الأرقم، فقال: كذب زيد بن الأرقم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني أخبره بالكذب حتى أنزل الله تصديق زيد بن الأرقم في قوله: {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} وتأمل جواب الله عز وجل لقول عبد الله بن أبي [ليخرجن الأعز منها الأذل] حيث قال: {ولله العزة ولرسوله} ولم يقل إن الله هو الأعز لأنه لو قال هو الأعز لصار في ذلك دليل على أن المنافقين لهم العزة، وهم لا عزة لهم، بل قال {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} في هذه الآية دليل على أنه لا بأس أن الإنسان ينقل كلام المنافق إلى ولي(6/141)
الأمر حتى يتخذ فيه ما ينبغي اتخاذه، وكذلك ينقل كلام المفسد إلى ولي الأمر حتى لا يتمادى في إفساده، وإذا كان الإنسان يخشى من الكلام أن يحصل فيه فساد وجب عليه أن يبلغه إلى ولي الأمر حتى يقضي على الفساد قبل أن يستشفي، لا يقال: أخشى أن ولي الأمر يفعل بي أو يفعل فيه لا قد يفعل فيه هو الذي جنى على نفسه إذا كان يتكلم بكلام يخشى منه الفساد، فالواجب رفع الكلام إلى ولي الأمر، لكن لابد من التثبت وألا يقع الإنسان في حرج، في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام لما أنكر عبد الله بن أبي ما قيل عنه نزل الوحي بتصديق زيد بن الأرقم في وقتنا لا يوجد وحي يؤيد أو يفند فأنت إذًا تثبت وسمعت من بعض كلامًا يؤدي إلى الشر والفساد وجب عليك أن تبلغ به ولي الأمر حتى لا يستشفي الشر والفساد، فالمهم أن المؤلف رحمه الله ذكر مسائل وضوابط لما يجوز من الغيبة، ثم ذكر أدلة ذلك والله الموفق
1535 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قالت هند امرأة أبي سفيان للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه، وهو لا يعلم؟ قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف متفق عليه.(6/142)
وأما البخل بما يزيد فهذا حرام لا يجوز، ومن وقع عليه ذلك فله أن يتظلم إلى شخص يمكن أن يأخذ الحق له، فهذه هند تظلمت عند الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يقل لها لا تقولي رجل شحيح، أقرها على ذلك لأنها تطلب حقها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم خذي ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف فأذن لها أن تأخذ من ماله بغير علمه ما يكفيها ويكفي ولدها، ولكن بالمعروف، يعني لا تزيد على ذلك، فدل هذا على مسائل: أولاً: جواز غيبة الإنسان للتظلم منه، لكن بشرط أن يكون ذلك عند من يمكنه أخذ الحق لصاحبه، وأما إذا لم يكن كذلك فلا فائدة من التظلم، ومنها أنه يجب على الإنسان أن ينفق على أهله على زوجته وولده بالمعروف، حتى لو كانت الزوجة غنية، فإنه يجب على الزوج أن ينفق، ومن ذلك ما إذا كانت الزوجة تدرس، وقد شرط على الزوج تمكينها من تدريسها فإنه لا حق له فيما تأخذه من راتب لا نصف ولا أكثر ولا أقل، الراتب لها مادام قد شرط عليه عند العقد أنه لا يمنعها من التدريس فرضي بذلك، فليس له الحق أن يمنعها من التدريس وليس له الحق أن يأخذ من مكافأتها أي من راتبها شيئاً، هو لها، أما إذا لم يشترط عليه أن يمكنها من التدريس، ثم لما تزوج قال لا تدرسي، فهنا لهما أن يصطلحا على ما يشاءان، يعني مثلاً له أن يقول: أمكنك من التدريس بشرط أن يكون لي نصف الراتب أو ثلثاه أو ثلاثة أرباعه أو ربعه وما أشبه ذلك، على ما يتفقان عليه، وأما إذا شرط عليه أن تدرس وقبل فليس(6/143)
له الحق أن يمنعها وليس له الحق أن يأخذ من راتبها شيئاً ومن فوائد هذا الحديث أيضاً أنه يجوز لمن له النفقة على شخص وامتنع من عليه النفقة من بذل النفقة، أن يأخذ من ماله بقدر النفقة سواء علم أم لم يعلم، وسواء أذن أم لم يأذن فللمرأة مثلاً أن تأخذ من جيب زوجها ما يكفيها ويكفي أولادها، وكذلك أيضًا تأخذ من شنطته أو صندوقه ما يكفيها ويكفي أولادها سواء علم أم لم يعلم، فإن قال قائل: إذا كان لي حق على إنسان وجحد وأنكر وقدرت على أخذ شيء من ماله، فهل يجوز أن آخذ مقدار حقي من ماله؟ يعني مثلاً إنسان عنده لي مائة ريال وجحد قال: ما لك عندي شيء فهل إذا قدرت على شيء من ماله يجوز أن أخذ من ماله مائة ريال؟ الجواب لا، لا يجوز، والفرق بين هذا وبين النفقة أن النفقة لإنقاذ النفس وسببها ظاهر، كلنا يعرف أن هذه زوجة فلان وأن الزوجة لها نفقة، بخلاف الدين فإنه أمر خفي لا يقال عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: أدي الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك.
فهذا هو القول الراجح في هذه المسألة، ويعبر عنها عند العلماء بمسألة الظفر، يعني من ظفر بمال من له حق عليه هل يأخذ منه أم لا؟ والجواب بالتفصيل أنه إذا كان في مقابل النفقة الواجبة فلا بأس وأما إذا كان في مقابل دين واجب، فإنه لا يجوز لعموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تخن من خانك.
والله الموفق(6/144)
باب تحريم النميمة وهي نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد
قال الله تعالى: {هماز مشاء بنميم} وقال تعالى {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}
1536 - وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة نمام متفق عليه.
1537 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: مر بقبرين فقال: إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير: أما أحدهما، فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله متفق عليه، وهذا لفظ إحدى روايات البخاري.
قال العلماء: معنى: وما يعذبان في كبير أي كبير في زعمهما وقيل: كبير تركه عليهما.
[الشَّرْحُ]
سبق أن المؤلف النووي رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) ذكر بابًا مفيدًا في(6/145)
باب ما يجوز من الغيبة، وذكر من ذلك ستة مسائل، ذكر لها أدلة سبق الكلام عليها، ومن ذلك التظلم، يعني إذا تظلم إنسان عند ولي الأمر من شخص ظلمه، فإن ذلك لا بأس به، لأن حقه لن يتمكن منه إلا بذلك والدليل على هذا حديث هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، يعني بخيل، لا يعطيني ما يكفيني وولدي بالمعروف فوصفته بأنه شحيح، وهذا وصف ذم يكرهه الإنسان لكن لماذا قالت ذلك؟ تظلماً من أجل رفع الظلم عنها وذلك أن الواجب على الإنسان أن ينفق على زوجته وعلى أولاده بالمعروف لا وكس ولا شطط، ولا يقصر ولا يزيد كما قال الله تعالى: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا
1538 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة، القالة بين الناس.
رواه مسلم.
العضه: بفتح العين المهملة، وإسكان الضاد المعجمة، وبالهاء على وزن الوجه، وروي: العضة بكسر العين وفتح الضاد المعجمة على وزن العدة، وهي: الكذب والبهتان، وعلى الرواية الأولى: العضه مصدر، يقال: عضهه عضها، أي: رماه بالعضه.(6/146)
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه (رياض الصالحين) في باب تحريم النميمة، فيما نقله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة، القالة بين الناس.
هذا من أساليب التعليم الجيدة وهي أن يلقي المعلم السؤال على المخاطبين للتنبيه، حتى يستثير أفهامهم ويعطوا الكلام انتباهًا ألا أنبئكم ما العضه والنبأ والخبر في اللغة العربية معناها واحد.
والعضة: من القطع والتمزيق ومنه قوله تعالى: الذين جعلوا القرآن عضين يعني قطعًا وأجزاء، يؤمنون ببعضه ويكفرون ببعضه فما هي الأداة المفرقة للأمة الممزقة لهم، قال: هي النميمة: أن ينقل الإنسان كلام الناس بعضهم في بعض من أجل الإفساد بينهم، وهي من كبائر الذنوب، وقد كشف للنبي صلى الله عليه وسلم عن رجلين يعذبان في قبورهما، وأخبر أن أحدهما كان يمشي بالنميمة، وذلك أن بعض الناس والعياذ بالله يفتن فيكون شغوفًا بنقل الكلام، كلام الناس بعضهم لبعض، يتزين بها عند الناس، يأتي لفلان ويقول لفلان قال فيك كذا وكذا قد يكون صادقًا وقد يكون كاذبًا حتى إن كان صادقًا فإنه حرام، ومن كبائر الذنوب، وقد نهى الله تعالى أن يطاع مثل هذا الرجل قال تعالى: {ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم}(6/147)
وقال بعض أهل العلم: من نم إليك الحديث نمه منك، يعني من نقل كلام الناس إليك فإنه ينقل كلامك أنت، فاحذره ولا تطعه ولا تلفت إليه، وفي هذا دليل على حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم حيث يأتي بالأساليب التي يكون فيها انتباه المخاطب، ولاسيما إذا رأى الإنسان من المخاطب غفلة، فإنه ينبغي أن يأتي بالأسلوب الذي ينبهه، لأن المقصود من الخطاب هو الفهم والاستيعاب والحفظ، فيأتي الإنسان بالأساليب المفيدة في ذلك.
فإذا قال قائل: إذا كان الشخص ينقل كلام الإنسان في الإنسان نصيحة، مثل أن يرى شخصًا مغروراً بشخص يفضي إليه أسراره ويلازمه، والشخص هذا يفضي أسرار صاحبه الذي يفضي إليه أسراره ويخدعه، فهل له أن يتكلم فيه؟ فالجواب: نعم، له أن يتكلم فيه ويقول يا فلان احذر هذا الشخص فإنه ينقل كلامك ويقول فيك كذا وكذا.
لأن هذا من باب النصيحة ليس غرضه أن يفرق بين الناس ولكن غرضه أن يسدي النصيحة إلى صاحبه، والله تعالى يقول: {والله يعلم المفسد من المصلح} والله الموفق(6/148)
باب النهي عن نقل الحديث وكلام الناس إلى ولاة الأمور إذا لم تدع إليه حاجة كخوف مفسدة ونحوها
قال الله تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} .
وفي الباب الأحاديث السابقة في الباب قبله.
1539 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئاً، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر.
رواه أبو داود والترمذي.
:
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه: (رياض الصالحين) باب النهي عن نقل الحديث وكلام الناس إلى ولاة الأمور إذا لم تدع الحاجة إلى ذلك، يعني هذا الباب أراد المؤلف به رحمه الله ألا ينقل الناس إلى الولاة كلام الناس وأحوالهم إذا لم تدع الحاجة إلى ذلك، لأن نقل الكلام إلى ولاة الأمور إذا لم يكن هناك مصلحة يوجب إما العدوان على الشخص الذي نقل عنه الكلام، وأما أن ولاة الأمور يتصورون أشياء لا حقيقة لها وأن الناس يكرهونهم ويسبونهم وما أشبه ذلك فلهذا ينبغي ألا ينقل إلى ولاة الأمور الحديث، حديث الناس وكلام الناس إلا إذا دعت الحاجة(6/149)
والمصلحة إلى ذلك، فإذا دعت الحاجة أو المصلحة إلى ذلك فإنه ينقل كلام الناس إلى ولاة الأمور خوفًا من المفسدة، فمثلاً إذا كان أحد من الناس يتكلم في ولاة الأمور في المجالس، ويقول فيهم كذا وفيهم كذا ويسبهم، فإن الأولى ألا ينقل هذا الكلام إلى ولاة الأمور؛ لئلا تحصل المفسدة التي أشرت إليها، وهي العدوان على هذا الشخص وتصور ولاة الأمور أن الناس يكرهونهم، فيكرهون الناس ولا يأتون بالأمر الذي ينبغي أن يأتوا به من مصالح المسلمين، أما إذا دعت الحاجة إلى ذلك - إلى نقل كلام الناس إلى ولاة الأمور لدفع مفسدة أو حصول مصلحة - فإنه لابد من نقله إليهم، فإذا رأينا رجلاً يتكلم في ولاة الأمور بما فيهم من المعاصي والفسوق وما أشبه ذلك، وينشرها بين الناس، فإنه لابد أن تعلم ولاة الأمور بهذا؛ لأن هذا من النصيحة لهذا الشخص؛ لئلا يتمادى في طغيانه وهجومه على ولاة الأمور، ومن النصيحة لولاة الأمور أيضًا ألا يحمل الناس في قلوبهم على ولاة الأمور، وأما ترك المفسد يفسد ويتكلم بما شاء من غير ردع له ولا زجر فهذا خلاف النصيحة، بل فيه المفسدة العظيمة.
فالحاصل أن النووي رحمه الله ذكر في هذا الباب أنه لا ينبغي أن ينقل إلى ولاة الأمور كلام الناس وحديثهم ما لم تقتض المصلحة ذلك، فإن اقتضت المصلحة ذلك لكبح الشر والفساد والطغيان، فإنه يجب أن ينقل إلى ولاة الأمور بعد التثبت والتحقق من الأمر حتى تردع ولاة الأمور أهل الشر(6/150)
والفساد، وإلا فلو ترك الناس يتكلمون كما يشاءون لحصل في هذا مفسدة كبيرة.
ثم استدل المؤلف لهذا بآية وحديث، أما الآية فقوله تعالى: ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ومن التعاون على الإثم والعدوان أن ينقل الإنسان كلام الناس أو كلام شخص معين إلى ولاة الأمور بدون مصلحة تقتضي، فإن هذا قد يحصل به كما أشرنا عدوان من ولاة الأمور على الشخص بلا سبب شرعي وأما الحديث فهو حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يبلغني أحد عن أحد شيئاً، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر وهذا من حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا أحد ينقل إليه كلام الناس لكي لا يقع في قلبه شيء على هذا المتكلم، فيحب أن يخرج إليهم وهو سليم الصدر، ولهذا كثيرًا ما يكون الإنسان محباً لشخص يقدره ويرى أنه رجل كريم ورجل سليم، ثم إذا نقل إليه شيء عن هذا الرجل كرهه ونفر منه وصار يبغضه، لكن كما قلنا أولاً: إذا اقتضت المصلحة أن نتكلم فلابد أن نتكلم لكي لا ينتشر الشر والفساد وتحصل الفتن، والله الموفق(6/151)
باب ذم ذي الوجهين
قال الله تعالى: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطًا}
1540 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تجدون الناس معادن: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خيار الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية، وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه متفق عليه.
1541 - وعن محمد بن زيد أن ناساً قالوا لجده عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: إنا ندخل على سلاطيننا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم قال: كنا نعد هذا نفاقًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رواه البخاري.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) باب ذم ذي الوجهين: ذو الوجهين هو الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، كما يفعل المنافقون وإذا لقوا الذين(6/152)
آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون وهذا يوجد في كثير من الناس والعياذ بالله وهو شعبة من النفاق، تجده يأتي إليك يتملق ويثني عليك وربما يغلو في ذلك الثناء، ولكنه إذا كان من ورائك عقرك وذمك وشتمك وذكر فيك ما ليس فيك، فهذا والعياذ بالله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: تجدون شر الناس ذا الوجهين يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه وهذا من كبائر الذنوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف فاعله بأنه شر الناس، والواجب على الإنسان أن يكون صريحًا، لا يقول إلا ما في قلبه فإن كان خيرًا حمد عليه وإن كان سوى ذلك وجه إلى الخير، أما كونه يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، سواء كان فيما يتعلق بعبادته يظهر أنه عابد مؤمن تقي وهو بالعكس، أو فيما يتعلق بمعاملته مع الشخص؛ يظهر أنه ناصح له ويثني عليه ويمدحه ثم إذا غاب عنه عقره، فهذا لا يجوز.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله الآية الكريمة {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضي من القول وكان الله بما يعملون محيطًا} هذه الآية نزلت في قوم يخفون في أنفسهم ما لا يبدونه، يحدثون الناس بما ليس في قلوبهم، فإذا صاروا في الوحدة(6/153)
واجتمعوا في الليل أظهروا ما في نفوسهم والعياذ بالله الذي كانوا أخفوه عن الناس من قبل، فيقول الله عز وجل: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطًا} ، ومثل ذلك أيضًا من يعمل المعصية خفاءًا ولا يعملها أمام الناس حياءً منهم وخجلاً، وأما الله فلا يستحي منه ولا يخجل والعياذ بالله، وهذا يدخل في الآية الكريمة.
وأما من عمل المعصية وندم وتاب فإنه لا يجوز له أن يحدث الناس بما فعل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل أمتي معافى إلا المجاهرون.
والمجاهر هو الذي إذا فعل المعصية حدث بها، فالواجب على الإنسان أن يكون صريحًا، ظاهره كباطنه، وهو إذا كان صريحًا إن كان على خير ثبته أهل الخير عليه واستمر، وإن كان على خلاف ذلك بينوا له ما عليه من الشر حتى يرتدع، نسأل الله تعالى أن يجعل بواطننا خيرًا من ظواهرنا وأن يوفقنا وإياكم إلى ما يحب ويرضى، إنه على كل شيء قدير.(6/154)
باب تحريم الكذب
قال الله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً} وقال تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) باب تحريم الكذب، الكذب هو أن يخبر الإنسان بخلاف الواقع، فيقول: حصل كذا، وهو كاذب، أو قال فلان كذا، وهو كاذب وما أشبه ذلك، فهو الإخبار بخلاف الواقع.
واعلم أن الكذب أنواع: الأول: الكذب على الله ورسوله، وهذا أعظم أنواع الكذب، لقول الله تعالى فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين واللام في قوله {ليضل الناس بغير علم} اللام لام العاقبة وليست لام التعليل، فهي كقوله تعالى في موسى صلى الله عليه وسلم {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزنًا} وهم ما التقطوه لهذا، ولكن الله تعالى جعل العاقبة أن كان لهم عدوًا وحزنًا، وهكذا من افترى على الله كذبًا، فإنه بافترائه يضل الناس بغير علم.
والافتراء على الله نوعان: النوع الأول أن يقول: قال الله كذا، وهو يكذب، كاذب على الله، ما قال الله شيئًا.(6/155)
والنوع الثاني: أن يفسر كلام الله بغير ما أراد الله، لأن المقصود من الكلام معناه، فإذا قال: أراد الله بكذا كذا وكذا، فهو كاذب على الله، شاهد على الله بما لم يرده الله عز وجل، لكن الثاني إذا كان عن اجتهاد وأخطأ في تفسير الآية فإن الله تعالى يعفو عنه؛ لأن الله قال: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وقال: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} وأما إذا تعمد أن يفسر كلام الله بغير ما أراد الله، اتباعاً لهواه أو إرضاء لمصالح أو ما أشبه ذلك، فإنه كاذب على الله عز وجل، وهكذا من بعده الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول: قال رسول الله كذا، ولم يقله، لكن كذب عليه وكذلك أيضًا إذا فسر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بغير معناه فقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار المعنى أن من كذب على الرسول صلى الله عليه وسلم متعمدًا قد تبوأ مقعده من النار وسكن في مقعده من النار والعياذ بالله، فهذان النوعان من الكذب هما أشد أنواع الكذب: الكذب على الله والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأكثر الناس كذبًا على رسول الله هم الرافضة الشيعة، فإنه لا يوجد في طوائف أهل البدع أحد أكثر منهم كذبًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نص على هذا علماء مصطلح الحديث رحمهم الله، لما تكلموا على الحديث الموضوع قالوا: إن(6/156)
أكثر من يكذب على الرسول هم الرافضة الشيعة، وهذا شيء مشاهد ومعروف لمن تتبع كتبهم.
أما القسم الثاني من الكذب فهو الكذب على الناس، والكذب على الناس نوعان أيضًا: كذب يظهر الإنسان فيه أنه من أهل الخير والصلاح والتقى والإيمان وهو ليس كذلك، بل هو من أهل الكفر والطغيان والعياذ بالله، فهذا هو النفاق، النفاق الأكبر الذين قال الله فيهم: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} لكنهم يقولون بألسنتهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون، وشواهد ذلك في القرآن والسنة كثيرة، إنهم - أعني المنافقين أهل الكذب يكذبون على الناس في دعوى الإيمان وهم كاذبون، وانظر إلى قول الله تعالى في سورة (المنافقون) حيث صدر هذه السورة ببيان كذبهم حيث قال تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله} أكدوا هذه الجملة بكم مؤكد؟ بثلاثة مؤكدات، (نشهد) (إن) (اللام) ثلاثة مؤكدات، يؤكدون أنهم يشهدون أن محمدًا رسول الله، فقال الله تعالى: {والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} في قولهم (نشهد إنك لرسول الله) هذا أيضًا من أنواع الكذب، وهو أشد أنواع الكذب على الناس؛ لأن فاعله والعياذ بالله منافق.
والنوع الثالث: من الكذب هو الكذب في الحديث بين الناس، الجاري بين الناس يقول: قلت لفلان كذا وهو لم(6/157)
يقله، قال فلان كذا وهو لم يقله، جاء فلان وهو لم يأت وهكذا، هذا أيضاً محرم ومن علامات النفاق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب.
ثم ساق المؤلف رحمه الله الأدلة على تحريم الكذب منها قوله تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً} لا تقف أي لا تتبع ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً، وإذا كان هذا نهياً عما لم تحط به علمًا، فما بالك بما أحطت به علمًا وأخبرت بخلافه؟ يكون هذا أشد وأعظم، وبهذا نعرف أن الإنسان إذا تكلم بكلام فإما أن يكون قد أحاط به علمًا، فكلامه هذا مباح في الأصل ما لم يجر إلى مفسدة، الثاني أن يقفو ما يعلم أن الأمر بخلافه فهذا كذب واضح وصريح والثالث أن يقفو ما لم يحط به علمًا ولا يعلم أن الأمر بخلافه فهذا منهي عنه {ولا تقف ما ليس لك به علم} فينهى أن يتكلم الإنسان في حالين، في الحالة الأولى أن يعلم أن الأمر بخلاف ما يتكلم به، والحالة الثانية أن يتكلم في أمر لا يعلمه، هذا كله منهي عنه، أما إذا تكلم بما يعلم فهذا أمر لا بأس به.
وذكر الآية الأخرى {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} ، (من قول) نكرة في سياق ماذا؟ في سياق النفي، ومؤكد عمومها بمن {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} أي قول تقوله عندك رقيب عتيد يعني حاضر يراقب يكتب ما تقول {إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى يعني نسمع سرهم ونجواهم} {ورسلنا لديهم يكتبون} ما أعظم الأمر، كل كلمة تخرج منك تكتب وسوف تلقى ذلك يوم القيامة، كما قال تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشوراً اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا} أنت حسيب نفسك، قال بعض السلف: والله لقد أنصفك من جعلك حسيبًا على نفسك.
والحاصل أن الله يقول: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب(6/158)
عتيد} هذا الرقيب العتيد أي الحاضر يكتب كل شيء: كل قولك، سواء كان لك أو عليك أو من اللغو الذي ليس لك ولا عليك، ولما كان الإمام أحمد رحمه الله مريضًا يئن من مرضه، قيل له: إن فلانًا - وأظنه طاووسًا - يقول: إن الملك يكتب حتى أنين المريض، أنين المريض وهو يئن من شدة المرض يكتب عليه، أمسك رحمه الله - أعني الإمام أحمد - أمسك عن الأنين، وصار يتصبر ولا يئن؛ خوفًا من ماذا؟ من أن يكتب عليه، هؤلاء الذين يحفظون ألسنتهم وجوارحهم ويعرفون قدر الأمور، أمسك حتى عن الأنين، أما نحن نسأل الله أن يعاملنا وإياكم بالعفو،(6/159)
فإطلاق اللسان عندنا كثير، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت نسأل الله أن يعيننا وإياكم على أنفسنا، وأن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه من القول والعمل
1542 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
سبق لنا الكلام على الآيتين اللتين ذكرهما المؤلف رحمه الله في صدر هذا الباب، باب تحريم الكذب، ثم ذكر الأحاديث، منها حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا، وعليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا ففي هذا الحديث حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب فقال: إياكم والكذب يعني ابتعدوا عنه واجتنبوه، وهذا يعم الكذب في كل شيء، ولا يصح قول من قال: إن الكذب إذا لم يتضمن ضررًا على الغير(6/160)
فلا بأس به، فإن هذا قول باطل؛ لأن النصوص ليس فيها هذا القيد، النصوص تحرم الكذب مطلقاً، ثم بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الكذب يهدي إلى الفجور، يعني إذا كذب الرجل في حديثه فإنه لا يزال فيه الأمر حتى يصل به إلى الفجور والعياذ بالله، وهو الخروج عن الطاعة، والتمرد والعصيان، والفجور يهدي إلى النار، قال الله تعالى: كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدرك ما سجين كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين ثم قال: ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا والعياذ بالله أي من الكذابين، لأن الكذب - نسأل الله لنا ولكم السلامة منه ومن سائر الآثام - إذا اعتاده الإنسان، صار يكذب في كل شيء، وصدق عليه وصف المبالغة فكتب عند الله كذابًا، وأما الصدق فحث عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عليكم بالصدق، إذا تحدثتم فاصدقوا، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، قال الله تعالى: {كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون} فإذا صدق الإنسان وعود لسانه على الصدق، هداه إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، يعني يوصل إليها، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، والصديقية منزلة عالية، هي التي تلي منزلة النبوة، كما قال الله تعالى {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين(6/161)
والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً} .
واعلم أن الكذب يتضاعف جرمه بحسب ما يؤدي إليه؛ فالكذب في المعاملات أشد من الكذب في مجرد الإخبار، فإذا صار الرجل يكذب في بيعه وشرائه وأخذه وعطائه صار هذا أشد؛ لأنه إذا كذب في البيع والشراء تمحق بركة بيعه قال النبي صلى الله عليه وسلم: البيعان بالخيار فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما.
وما ترتب على الكذب في البيع والشراء من زيادة في الثمن أو زيادة في المبيع فإنه سحت والعياذ بالله؛ لأنه مبني على الكذب، والكذب باطل، وما بني على الباطل فهو باطل، وكذلك الكذب في وصف السلعة، يقول الإنسان مثلاً: هذه السلعة فيها كذا وكذا من الصفات المرغوبة وهو كاذب، هذا أيضًا من أكل المال بالباطل، ومن ذلك ما يفعله بائعو السيارات كما يقولون: يعطي الإنسان سيارته هذا الدلال وهو يدري أن فيها العيب الفلاني ثم يقول عند عرضها للبيع كل عيب فيها ولا يظهر العيب الحقيقي، فهذا حرام لا يجوز، إذا كان البائع يعلم العيب لكن كتمه وقال للمشتري: اصبر في كل عيب، هذا حرام إذا كان يعلم أن فيها عيبًا، أما إذا كان لا يعلم لكنه يخشى أن يكون فيها عيب لا يطلع عليه، فلا بأس أن يترك البراءة من كل عيب مشبوه والله الموفق(6/162)
1543 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر.
متفق عليه.
وقد سبق بيانه مع حديث أبي هريرة بنحوه في باب الوفاء بالعهد.
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله تعالى في باب تحريم الكذب في كتابه (رياض الصاحين) : عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:: أربع من كن فيه كان منافقاً خاصًا، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها.
قوله: أربع من كن فيه أي من اتصف بهن كان منافقًا خالصًا؛ لأنه أتى بجميع الأعمال التي يتصف بها المنافقون والعياذ بالله، والمراد بالنفاق هنا النفاق العملي الذي يكون عليه أهل النفاق العقدي، وليس نفاق الاعتقاد؛ لأن نفاق الاعتقاد نفاق كفر والعياذ بالله؛ وهو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، أما هؤلاء الذين يتصفون بهذه الصفات فإنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا حقيقيا، ولكنهم يستعملون هذه الصفات وفيها شيء من النفاق،(6/163)
أولا قال: (إذا اؤتمن خان)) إذا ائتمنه إنسان على شيء خانه فمثلا إذا أعطي وديعة وقيل له خذها احفظها، دراهم أو ساعة أو قلم أو متاع أو غير ذلك يكون فيها يستعملها لنفسه أو يتركها فلا يحفظها في مكانها أو يظفر بها من يتسلط عليه ويأخذها، المهم أنه لا يؤدي الأمانة فيها، كذلك إذا اؤتمن على حديث سري وقيل له: لا تخبر أحدا ذهب يخبر، قال لي فلان قال لي فلان، وبعض الناس والعياذ بالله يبتلى بحب الظهور والشهرة، إذا ائتمنه أحد من ولاة الأمور أو من كبراء القوم ووجهائهم ذهب يتحدث؛ قال لي الأمير كذا؛ قال لي الوزير كذا؛ قال لي الشيخ كذا؛ يتجمل عند الناس بأنه ممن يحادثه الكبراء والشرفاء وهذه من خيانة الأمانة والعياذ بالله، ومن ذلك أيضا الأمانات في الولايات يكون الإنسان وليا على يتيم على ماله وحضانته وتربيته فلا يقوم بالواجب؛ يهمل ماله وربما يستقرضه لنفسه ولا يدري هل يستطيع الوفاء فيما بعد أم لا؟ ولا يقربه بالتي هي أحسن، هذا أيضًا من خيانة الأمانة، ومن ذلك أيضًا أن الإنسان لا يقوم بواجب التربية في أهله وأولاده وقد ائتمنه الله عليهم فقال جل وعلا: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة ولم يجعل الله لك سلطاناً عليهم إلا ليسألك عنهم يوم القيامة حتى تتمنى أنك لم يكن بينك وبينهم صلة قال الله تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} ومن خيانة الأمانة أن يكون الإنسان إمامًا للناس يصلي بهم الجمعة(6/164)
والجماعات فلا يقوم بالواجب، تجده مرة يتقدم ومرة يتأخر ومرة يطيل بهم إطالة غير مشروعة ومرة لا يطمئن في صلاته ولا يهتم بمن وراءه، هذا من خيانة الأمانة، والمهم أن خيانة الأمانة تكون في جميع الأحوال في الأمانات وفي المعاملات وفي الأخلاق وفي كل شيء.
إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب هذا الشخص إذا حدث الناس في الحديث قال فلان أو حصل كذا أو لم يحصل يكذب، هذا من علامات النفاق، ومن الناس من يفتن بهذا الأمر فتجده يكذب على الناس، يمزح عليهم ليورطهم فإذا تورطوا قال: أمزح، سبحان الله تكذب على الناس تمزح عليم لتورطهم! ومن الناس من يبتلى بالكذب لأجل أن يضحك الحاضرين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ويل لمن حدث فكذب ليضحك به القوم، ويل له ثم ويل له وقد سبق أن أعظم الكذب الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم الكذب على العلماء؛ فإن العلماء إذا كذب عليهم إنسان في الشرع، بأن قال: قال فلان هذا حرام، أو هذا حلال، أو هذا واجب، وهو يكذب عليه صار هذا كاذبًا على الشرع؛ لأن العلماء هم الذين يمثلون الشرع وهم الذين يبينونه للناس، فإذا كذب الإنسان عليهم قالوا: إن فلاناً العالم قال كذا وقال كذا وهو كاذب فإنه يقرب ممن كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمهم أن من حدث فكذب فإنه فيه خصلة من خصال النفاق، أعاذنا الله(6/165)
وإياكم من ذلك
الثالثة: وإذا عاهد غدر يعني إذا أعطى عهدًا على أي شيء من الأشياء غدر به ونقض العهد، وهذا يشمل المعاهدة مع الكفار، والمعاهدة مع المسلم في بعض الأشياء ثم يغدر بذلك، فالمعاهدة مع الكفار إذا عاهدنا الكفار على ترك الحرب بيننا وبينهم مدة معينة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش حين عاهدهم في صلح الحديبية على ترك القتال لمدة عشر سنوات، فإذا عاهدنا هؤلاء المشركين فلنا معهم ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن ينقضوا العهد، فحينئذ يبطل العهد الذي بيننا وبينهم، كما قال الله تعالى: وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون كما فعلت قريش في العهد الذي بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية؛ فإنها لم تمض ثماني سنوات إلا ونقضت قريش من العهد حيث أعانوا حلفاءهم على حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم.
الحالة الثانية: أن يستقيموا على العهد، فحينئذ يجب علينا أن نستقيم على العهد وأن نبقى حتى تنتهي المدة؛ لقول الله تعالى: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين} الحالة الثالثة: أن نخشى أن ينقضوا العهد، يعني لم ينقضوه فعلاً ولم يظهر لنا استقامة تامة، فنخشى أن ينقضوا العهد، فهنا ننبذ إليهم العهد، ونقول لهم صراحة: إنه لا عهد بيننا وبينكم، دليل ذلك قول الله تعالى {وأما(6/166)
تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين} أما العهود التي بين المسلمين؛ بأن تعاهد شخصًا على أن تفعل كذا، أو لا تفعل، أو على أن تكتم سره، أو ما أشبه ذلك فيجب الوفاء به، يجب وجوبًا، واختلف العلماء رحمهم الله تعالى فيما إذا وعدت شخصًا موعدًا فهل يجوز أن تخلفه بلا ضرورة أو لا؟ مثل أن تقول: سآتيك غدًا، لدعوة، دعاك على غداء أو عشاء أو ما أشبه ذلك، فهل يجوز أن تخلف الموعد؟ من العلماء من يقول: إنك إذا أخلفت الموعد لا تأثم، ولكن الصحيح أنك تأثم، إلا لعذر شرعي، فإذا وعدت أخاك موعدًا يجب أن توفي به لأنك وعدته، وإخلاف الموعد من علامات ماذا؟ النفاق، فهل ترضى أن تكون منافقًا؟ كل واحد لا يرضى، فالصواب الذي دلت عليه السنة وجوب الوفاء بالوعد، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأن إخلافه من النفاق لكن إذا كان لك عذر، أو لم تعط موعدًا صريحًا بأن قلت لصاحبك: آتيك إن شاء الله تعالى إذا لم يكن لي عذر، فهنا إذا كان لك عذر فلا بأس، أنت في حل لأنك لم تعطه موعدًا صريحًا، وكذلك أيضًا إذا أخلفت لعذر، مثل أن يكون تمام الوعد يحتاج إلى سيارة، وخرجت وتعطلت السيارة ولم تتمكن من الوصول إليه في موعده فإن هذا عذر بلا شك تعذر به.
أما الخصلة الرابعة فهي: إذا خاصم فجر نسأل الله العافية، إذا وقعت خصومة بينه وبين غيره فجر، والفجور في الخصومة ينقسم إلى قسمين: الأول: أن يجحد ما كان عليه.(6/167)
والثاني: أن يدعي ما ليس له.
مثال الأول إنسان مطلوب لشخص بألف ريال، فأقام الطالب دعوى على المطلوب، وأنكر المطلوب، قال: ما عندي لك شيء، والطالب قد وثق منه ولم يشهد عليه، فهنا يقول القاضي للمطلوب: احلف وتبرأ ذمتك، فحلف المطلوب أنه ليس له عندي شيء، فهنا سوف يقضي الحاكم بأن هذا المدعى عليه المطلوب ليس عليه شيء، هذا فجور في الخصومة.
أما القسم الثاني: فأن يدعي ما ليس له، بأن يقول عند القاضي أنا أطالب هذا الرجل بمائة ريال فينكر المطلوب، فيقول الطالب: عندي بينة، ويأتي ببينة سوء يشهدون بأنه له عند فلان (المطلوب) مائة ريال، فالقاضي سوف يحكم بالبينة، فإذا حكم لهذا المدعي ببينة الزور، فإن هذا يعتبر ممن خاصم ففجر والعياذ بالله، فلهذا يجب التحرز في الخصومات من الكذب أو الالتواء أو المخادعة، لأن كل هذا من الفجور في الخصومة.
نسأل الله تعالى أن يطهر قلوبنا وقلوبكم من النفاق والشك والشرك والرياء إنه على كل شيء قدير
1543 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر متفق عليه.
وقد سبق بيانه مع حديث أبي هريرة بنحوه في باب الوفاء بالعهد.
[الشَّرْحُ]
سبق لنا الكلام على جملتين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب الخصلة
1544 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تحلم بحلم لم يره، كلف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، صب في أذنيه الآنك يوم القيامة، ومن صور(6/168)
صورة، عذب وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ رواه البخاري.
تحلم أي: قال أنه حلم في نومه ورأى كذا وكذا، وهو كاذب والآنك بالمد وضم النون وتخفيف الكاف: وهو الرصاص المذاب.
[الشَّرْحُ]
قال الحافظ النووي رحمه الله تعالى في كتابه (رياض الصالحين) في باب تحريم الكذب فيما نقله عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين وليس بعاقد يعني من كذب في الرؤيا قال: رأيت في المنام كذا وكذا وهو كاذب، فإنه يوم القيامة مكلف أن يعقد بين شعيرتين، والمعلوم أن الإنسان لو حاول مهما حاول أن يعقد بين شعيرتين فإنه لا يستطيع، ولكن لا يزال يعذب ويقال: لابد أن تعقد بينهما، وهذا وعيد يدل على أن التحلم بحلم لم يره الإنسان من كبائر الذنوب، وهذا يقع من بعض السفهاء، يتحدث ويقول،: رأيت البارحة كذا وكذا؛ لأجل أن يضحك الناس وهذا حرام عليه، وأشد من ذلك أن يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وقال لي كذا وكذا وما أشبه ذلك، فإنه أشد وأشد، لأنه كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما من تحلم بحلم رآه فهذا لا بأس به ولكن ينبغي للإنسان أن يعلم أن ما يراه الإنسان في منامه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم: يكون خيرًا ويستبشر به الإنسان ويفرح به الإنسان، فهذا لا يحدث به إلا من يحب، لأن الإنسان له حساد كثيرون، فإذا رأى رؤيا حسنة(6/169)
وحدث بها من لا يحب فإنه ربما يكيد له كيدًا، يحول بينه وبين هذا الخير الذي رآه، كما فعل إخوة يوسف صلى الله عليه وسلم فإن يوسف بن يعقوب صلى الله عليه وسلم وعلى أبيه قال لأبيه: يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين يعني رأيت هؤلاء أحد عشر كوكبًا يعني نجومًا والشمس والقمر كلها تسجد لي فقال له {يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدًا إن الشيطان للإنسان عدو مبين} فلا تخبر إنسانًا ليس من أحبائك وأصدقائك الذين لا يودون لك ما يودون لأنفسهم، لا تخبرهم بما ترى من رؤيا الخير.
القسم الثاني: رؤيا شر، هذا القسم الثاني مما يراه الإنسان في المنام، رؤيا شر تزعج وتخوف، هذا لا تخبر به أحدًا أبدًا لا صديقك ولا عدوك، وإذا قمت من منامك فاتفل عن يسارك ثلاثًا وقل: أعوذ بالله من شر الشيطان ومن شر ما رأيت.
وإن كنت تريد أن تواصل النوم فنم على الجنب الآخر، يعني لا على الجنب الذي رأيت فيه ما تكره فإنها لا تضر، فمن رأى ما يكره يعمل ما يلي: أولاً: إن استيقظ يتفل عن يساره ثلاث مرات ويقول: أعوذ بالله من شر الشيطان ومن شر ما رأيت.
إن أراد أن يواصل النوم ينام على الجنب الثاني إذا قام، فلا يخبر بها أحدًا؛ لأن ذلك لا يضره، فإذا فعل هذا فإنه لا يضره بإذن الله، وكان الصحابة يرون الرؤيا تمرضهم وتقلقهم فلما حدثهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث فعلوا ما أرشدهم إليه واستراحوا، وكثير من الناس مبتلى يبحث عن الشر لنفسه؛ يرى الرؤيا يكرهها ثم يحاول أن يقصها على الناس ليعبروها له، وهذا غلط إذا رأيت الرؤيا تكرهها فهذا عندك دواء من أحسن الأدوية بل هو(6/170)
أحسن الأدوية، علمك إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القسم الثالث: رؤيا أضغاث أحلام، ليس لها رأس ولا قدم، يرى الإنسان أشياء متناقضة ويرى أشياء غريبة، وهذه لا تحدث بها أحدًا ولا تهتم بها، وقد حدث رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا قال: يا رسول الله رأيت في المنام أن رجلاً قد قطع رأسي، فذهب الرأس شاردًا، فذهبت وراءه لاحقًا له.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحدث الناس بما يتلعب بك الشيطان في منامك.
وهذا من الشيطان يقطع رأسك ويشرد بها وأنت تلاحقه، هذا ما له أصل، فمثل هذه الأشياء لا تهتم بها ولا تحدث بها أحدًا، أما من رأى الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا رأى الرسول صلى الله عليه وسلم على الوصف المعروف الذي وصف السيرة النبوية، ورآه على هيئة حسنة فهذا يدل على خير لهذا الرائي وأنه قد تأسى به أسوة حسنة، وإن رآه على خلاف ذلك فليحاسب نفسه، فإذا رآه مثلاً أنه يحدث الرسول ولكن الرسول معرض عنه أو الرسول قد ولى وتركه ورآه على هيئة غير حسنة، يعني مثلاً من ثيابه أو ردائه أو إزاره أو مل شابه ذلك، فليحاسب نفسه، فإنه مقصر في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما المسألة الثانية: من تسمع قومًا وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة يعني الذي يتسمع إلى أناس وهم يكرهون أن يسمع فإنه يصب في أذنيه الآنك يوم القيامة.
قال العلماء: الآنك هو الرصاص المذاب والعياذ بالله، والرصاص(6/171)
المذاب بنار جهنم أعظم من نار الدنيا بتسع وستين مرة، وسواء كانوا يكرهون أن يسمع لغرض صحيح أو لغير غرض؛ لأن بعض الناس يكره أن يسمعه غيره ولو كان الكلام ما فيه خطأ ولا فيه سب، ولكن لا يريد أن أحدًا يسمعه، وهذا يقع فيه بعض الناس، تجده مثلاً إذا رأى اثنين يتكلمون يأخذ المصحف ويجلس قريبًا منهم ثم يبدأ يطالع المصحف كأنه يقرأ، وهو يستمع إليهم وهم يكرهون ذلك، هذا الرجل يصب في أذنيه الآنك يوم القيامة فيعذب هذا العذاب والعياذ بالله.
وأما الشطر الثاني من الحديث وهو التصوير فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله في درس قادم
1544 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تحلم بحلم لم يره، كلف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، صب في أذنيه الآنك يوم القيامة، ومن صور صورة، عذب وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ رواه البخاري.
تحلم أي: قال أنه حلم في نومه ورأى كذا وكذا، وهو كاذب والآنك بالمد وضم النون وتخفيف الكاف: وهو الرصاص المذاب.
1545 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: أفرى الفرى أن يري الرجل عينيه ما لم تريا رواه البخاري.
ومع ناه: يقول: رأيت فيما لم يره.
1546 - وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه: هل رأى أحد منكم من رؤيا؟ فيقص عليه من شاء الله أن يقص وإنه قال لنا ذات غداة: إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما قالا لي: انطلق،(6/172)
وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه، فيثلغ رأسه، فيتدهده الحجر هاهنا.
فيتبع الحجر فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه، فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى.
قال: قلت لهما سبحان الله، ما هذان؟ قالا لي: انطلق، فانطلقنا.
فأتينا على رجل مستلق لقفاه وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه.
ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه، فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى.
قال: قلت: سبحان الله، ما هذان.
قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا.
فأتينا على مثل التنور، فأحسب أنه قال: فإذا فيه لغط، وأصوات، فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضئوا، قلت ما هؤلاء؟ قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا.
فأتينا على نهر - حسبت أنه كان يقول: أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة، فيغفر له فاه، فيلقمه حجرًا، فينطلق فيسبح، ثم يرجع إليه، كلما(6/173)
رجع إليه، فغر فاه له، فألقمه حجرًا، قلت لهما: ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا.
فأتينا على رجل كريه المرآة، أو كأكره ما أنت راء رجلاً مرأى، فإذا هو عنده نار يحشها ويسعى حولها، قلت لهما: ما هذا؟ قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا.
فأتينا على روضة معتمة فيها من كل نور الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولاً في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان ما رأيتهم قط، قلت: ما هذا؟ وما هؤلاء؟ قالا لي: انطلق انطلق فانطلقنا.
فأتينا إلى دوحة عظيمة لم أر دوحة قط أعظم منها، ولا أحسن، قالا لي: ارق فيها، فارتقينا فيها، إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فأتينا باب المدينة فاستفتحنا، ففتح لنا، فدخلناها، فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطر منهم كأقبح ما أنت راء، قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، وإذا هو نهر معترض يجري كأن ماءه المحض في البياض، فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة.
قال: قالا لي: هذه جنة عدن، وهذا منزلك، فسما بصري صعدًا، فإذا قصر مثل الربابة البيضاء.
قالا لي: هذا منزلك.
قلت لهما: بارك الله فيكما، فذراني فأدخله.
قالا: أما الآن فلا، وأنت داخله.(6/174)
قلت لهما: فإني رأيت منذ الليلة عجبًا؟ فما هذا الذي رأيت؟ قالا لي: إنا سنخبرك.
أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة.
وأما الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق.
وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور، فإنهم الزناة والزواني.
وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر، ويلقم الحجارة، فإنه آكل الربا.
وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها ويسعى حولها فإنه مالك خازن جهنم.
وأما الرجل الطويل الذي في الروضة، فإنه إبراهيم، وأما الولدان الذين حوله، فكل مولود مات على الفطرة وفي رواية البرقاني: ولد على الفطرة.
فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأولاد المشركين وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم قوم خلطوا عملاً وآخر سيئاً تجاوز الله عنهم.
رواه البخاري.
وفي رواية له: رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض(6/175)
مقدسة ثم ذكره.
وقال: فانطلقنا إلى نقب مثل التنور، أعلاه ضيق وأسفله واسع، يتوقد تحته نارًا، فإذا ارتفعت ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، وإذا خمدت، رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة.
وفيها: حتى آتينا على نهر من دم، ولم يشك - فيه رجل قائم على وسط النهر، وعلى شط النهر رجل، وبين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج، رمى الرجل بحجر في فيه، فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج جعل يرمي في فيه بحجر، فيرجع كما كان.
وفيها: فصعدا بي الشجرة، فأدخلاني داراً لم أر قط أحسن منها، فيها رجال شيوخ وشباب.
وفيها: الذي رأيته يشق شدقه فكذاب، يحدث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به ما رأيت إلى يوم القيامة وفيها: الذي رأيته يشدخ رأسه فرجل علمه الله القرآن، فنام عنه بالليل، ولم يعمل فيه بالنهار، فيفعل به إلى يوم القيامة.
والدار الأولى التي دخلت دار عامة المؤمنين، وأما هذه الدار فدار الشهداء، وأنا جبريل، وهذا ميكائيل، فارفع رأسك، فرفعت رأسي، فإذا فوقي مثل السحاب، قالا: ذاك منزلك، قلت: دعاني ادخل منزلي، قالا: إنه بقي لك عمر لم تستكمله، فلو استكملته، أتيت منزلك رواه البخاري.
قوله: يثلغ رأسه وهو بالثاء المثلثة والغين المعجمة، أي: يشدخه(6/176)
ويشقه.
قوله: يتهدهده أي: يتدحرج، والكلوب بفتح الكاف، وضم اللام المشددة، وهو معروف.
قوله: فيشرشر أي: يقطع.
قوله: ضوضئوا وهو بضادين معجمتين، أي صاحوا.
قوله: فيغفر هو بالفاء والغين المعجمة، أي: يفتح.
قوله: المرآة هو بفتح الميم، أي: المنظر.
قوله: يحشها هو بفتح الياء وضم الحاء المهملة والشين المعجمة، أي: يوقدها، قوله روضة معتمة هو بضم الميم وإسكان العين وفتح التاء وتشديد الميم، أي: وافية النبات طويلته.
قوله: دوحة وهي بفتح الدال، وإسكان الواو وبالحاء المهملة: وهي الشجرة الكبيرة، قوله المحض هو بفتح الميم وإسكان الحاء المهملة وبالضاد المعجمة: وهو اللبن.
وقوله: فسما بصري أي: ارتفع.
وصعدا: بضم الصاد والعين: أي: مرتفعا.
والربابة: بفتح الراء وبالباء الموحدة مكررة، وهي السحابة.
[الشَّرْحُ]
سبق الكلام على أول حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، على جملتين منه، الجملة الأولى (من تحلم بحلم لم يره) ، والثانية (من استمع إلى قوم هم له كارهون) .
أما الثالثة فهو (من صور صورة فإنه يكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ) واعلم أن الصورة تنقسم إلى قسمين: صور مجسمة، بأن يصنع الإنسان تمثالاً على صورة(6/177)
إنسان أو حيوان، فهذا محرم، سواء أراده لغرض محرم أو لغرض مباح، مجرد هذا التصوير محرم، بل هو من كبائر الذنوب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المصورين وبين أن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله.
والقسم الثاني: الملون، يعني ليس له جسم بل هو بالتلوين، فهذا قد اختلف العلماء فيه فمنهم من أجاز وقال لا بأس به إلا إذا قصد به غرضا محرما مثل أن يقصد به التعظيم - تعظيم المصور - فإنه يخشى إذا طال بالناس زمن أن يعبدوه كما جرى لقوم نوح فيما يذكر أنهم صوروا صورة لرجال صالحين ثم عبدوها لما طال الزمن وقال بعض العلماء: إنه لا بأس به إذا كان ملونا واستدلوا بحديث زيد بن خالد وفيه: (إلا رقما في ثوب) قالوا: هذا يدل على أن هذا مستثنى فيدل على أن المحرم ما له روح فقط، ولكن الراجح الذي عليه جمهور العلماء أنه لا فرق بين المجسم وبين الملون الذي يكون بالرقم كله محرم؛ لأن الذي يرقم باليد صورة يحاول أن يكون مبدعا مشابها لخلق الله عز وجل فيدخل في العموم، وأما الصور التي تلتقط التقاطا بالآلة المعروفة، آلة التصوير الفوتوغرافية، فهذه من المعلوم أنها لم تكن معروفة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعروف في عهده إنما هو التصوير باليد الذي يضاهي به الإنسان خلق الله عز وجل أما هذه الآلة فغير معروفة، وليس الإنسان يصورها بيده ويخططها،(6/178)
يخطط الوجه مثلا، والعينين، والأنف، والشفتين، وما أشبه ذلك لكنه هو يلقي ضوء معينا تقدمت به معرفة الناس فتنطبع هذه الصورة في ورقة، وهو لم يحدث شيئا في الصورة لم يصورها إطلاقا وإنما التقطت هذه الصورة بواسطة الضوء فهذا لا شك أنه فيما نرى أنه لم يصور، غاية ما هنالك أن الصورة طبعت بالورقة، فكان الذي بالورقة هو خلق الله عز وجل يعني هذه الصورة هي الصورة التي خلقها الله، والدليل على ذلك أن الإنسان لو كتب كتابا بيده ثم صوره بالآلة، آلة التصوير، فإنها إذا طلعت الصورة لا يقال إن هذا هو كتابة الذي حرك الآلة وصور (الشخص القائم بالتصوير) بل يقال هذا كتابة الأول الذي خطه بيده، فهذا مثله، ولكن يبقى النظر لماذا صور الإنسان هذه الصور الفوتوغرافية، إذا كان لغرض محرم فهو حرام من باب تحريم الوسائل، كما لو اشترى الإنسان سلاحا في فتنة أو بيضا لقمار أو ما أشبه ذلك، يعني أن هذا مباح ولكن لغرض محرم فلا يجوز من باب تحريم الوسائل، أما إذا كان الغرض مباحا كتصوير لاستخراج رخصة السيارة أو البطاقة الشخصية وما أشبه ذلك فهذا لا بأس به، هذا هو الذي نراه في هذه المسألة، والناس ابتلوا بها الآن بلوى عظيمة وصارت منتشرة في كل شيء، ولكن يجب على الإنسان أن يعرف ويحقق ويميز بين ما حرمه الله ورسوله وبين ما لم يأت تحريمه، فلا نضيق على عباد الله ولا نوقعهم في محارم الله هذا إذا كان المصور له روح لقوله (كلف أن ينفخ فيها الروح) أما إذا كان المصور لا روح له، كتصوير الأشجار والشمس والقمر والنجوم والجبال(6/179)
والأنهار، فهذا لا بأس به لأنه ليس فيه روح، وقال بعض العلماء: ما كان ناميا كالشجر والزرع فإنه لا يجوز تصويره، لأنه جاء في الحديث فليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة وهذا نام فيشبه ما كان له روح لكن هذا خلاف قول جمهور العلماء، والصحيح أنه لا بأس به، أما ما يصنعه الإنسان فلا شك أنه يجوز تصويره كالقصور والسيارات وما أشبهها فصارت الآن الأقسام متعددة، ما يصنعه الإنسان بيده فهذا لا بأس من تصويره، مثل السيارات والقصور والأبواب وما أشبه ذلك وما هو خلق الله عز وجل وليس بنام لا ينمو كالشمس والقمر والنجوم والجبال والأقمار، فهذا أيضا لا بأس به وهذا محل اتفاق، وما كان من خلق الله وليس له روح ولكنه ينمو كالشجر والزرع وما أشبهه فجمهور العلماء على أنه لا بأس به، وذهب بعض العلماء ومنهم مجاهد بن جبر - تابعي مشهور - إلى أنه حرام والصحيح أنه لا بأس به، وأما ما فيه روح فهذا لا يجوز أن يصور، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المصورين وأما مسألة التقاط الصور فهذا لا نرى أنه داخل في التصوير إطلاقا، لأن الملتقط لم يحصل منه فعل يكون به التصوير ولكن يبقي النظر خلف أنه يلتقط هذه الصور لشيء محرم أو لا هذا هو محل التفصيل والله الموفق(6/180)
باب بيان ما يجوز من الكذب أعلم أن الكذب وإن كان أصله محرما، فيجوز في بعض الأحوال بشروط قد أوضحتها في كتاب الأذكار ومختصر ذلك أن الكلام وسيلة إلى المقاصد فكل مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه وإن لم يمكن تحصيله إلا بالكذب جاز الكذب ثم إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا كان الكذب مباحا وإن كان واجبا كان الكذب واجبا فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله أو أخذ ماله وأخفى ماله وسئل إنسان عنه وجب الكذب بإخفائه، وكذا لو كان عنده وديعة، وأراد ظالم أخذها وجب الكذب بإخفائها والأحوط في هذا كله أن يوري ومعنى التورية: أن يقصد بعبارته مقصودا صحيحا ليس هو كاذبا بالنسبة إليه وإن كان كاذبا في ظاهر اللفظ وبالنسبة إلى ما يفهمه المخاطب ولو ترك التورية وأطلق عبارة الكذب فليس بحرام في هذا الحال واستدل العلماء بجواز الكذب في هذا الحال بحديث أم كلثوم رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا متفق عليه.(6/181)
زاد مسلم في رواية: قالت أم كلثوم: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: تعني الحرب، والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها.
:
[الشَّرْحُ]
سبق لنا أن الكذب محرم وأن منه ما هو كبيرة من كبائر الذنوب كالكذب على الله ورسوله، ذكر المؤلف في هذا الباب أن الكذب يجوز أحيانا إذا كانت المصلحة كبيرة عظيمة، وأنه قد يجب الكذب إذا كان فيه دفع مضرة وظلم، مثال ذلك في دفع المضرة والظلم أن يكون شخص ظالم يريد أن يقتل شخصا معصوما، فيختفي هذا الشخص المعصوم عن الظالم، وأنت تعلم مكانه، فسألك هذا الظالم الذي يريد قتله بغير حق: أين فلان؟ هل فلان في هذا؟ فتقول: لا ليس فلان في هذا، وأنت تدري أنه فيه.
فهذا لا بأس به بل هو واجب لإنقاذ المعصوم من الهلكة فإن إنقاذ المعصوم من الهلكة واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ولكن الأفضل أن توري يعني تنوي معنى صحيحا ليس فيه كذب وإن كان ظاهر اللفظ أنه كذب فتقول مثلا إذا قال هذا الظالم فلان في هذا؟ تقول ليس في هذا وتشير إلى شيء معين ليس فيه كما يذكر أن الإمام أحمد(6/182)
رحمه الله جاءه رجل يسأل عن أحد التلاميذ: أين فلان، فقال الإمام أحمد: ليس فلان هاهنا وما يصنع فلان هاهنا ويلمس يده يعني ليس في يدي وما يصنع في يدي هذه تورية فإذا قيل مثلا إذا جاءك هذا الظالم الذي يريد أن يقتل هذا الشخص بغير حق، وقال هل فلان هاهنا تقول لا وتلمس يدك بيدك الأخرى يعني ليس في يدي أو إنسان ألح بشيء وأنت لا تريد أن تعطيه لأنه يفسد المال فتقول: والله ما بيدي شيء ويدك ليس فيها شيء ليس فيها دراهم ولا غير تقول: ليس في يدي شيء وأنت صادق وهو يفهم أنه ليس عندك شيء أو يكون عندك وديعة لشخص فيأتي إنسان ظالم ويقول أين وديعة فلان، يعني إنسان وضع عندك أمانة مثلا دراهم قال لك احفظها لي فجاء شخص ظالم يريد أن يأخذ هذه الدراهم جاء إليك قال أين الوديعة التي أعطاها لك فلان، أعطني إياها فقلت والله ما عندي له وديعة تأول فتنوي بقولك والله ما عندي له وديعة يعني والله إن الذي عندي له وديعة تجعل ما بمعنى الذي وأنت صادق الذي لفلان عندك وديعة لكن يفهم المخاطب أن ما نافية وأنه ليس له عندك وديعة فالحاصل أنه إذا كان هناك ظلم وأراد الإنسان أن يدفعه وكذب فهذا لا بأس به ولكن الأولي والأحسن أن يوري يعني ينوي معنى صحيحا ليس فيه كذب والمخاطب يظن أنه كذب وكذلك أيضا إذا كانت المصلحة كبيرة كالكذب في الحرب لا بأس به لأنه فيه مصلحة كبيرة مثل أن تأتي عيون العدو يعني جواسيسه يسألون يقولون مثلا هل الجيش كبير وهل معه عدة، وهل هو قوي، تقول: نعم(6/183)
الجيش كبير وعظيم وقوي ومعه عدة ولو كنت تعرف أن هذا لا بأس به لأن فيه مصلحة كبيرة وهي إلقاء الرعب في قلوب الأعداء وكذلك الإصلاح بين الناس يأتيك شخص قد ذكر له أن شخصا آخر يغتابه ويسبه فيأتي إليك ويقول سمعت أن فلانا قال في كذا وكذا، فتقول: أبدا ما قال فيك شيئا هذا لا بأس به لأن فيه إصلاحا بين الناس كذلك من المصلحة حديث الرجل زوجته وحديث المرأة زوجها فيها يوجب الألفة والمودة مثل أن يقول لها أنت عندي غالية وأنت أحب إلي من سائر النساء وما أشبه ذلك وإن كان كاذبا لكن من أجل إلقاء المودة والمصلحة تقتضي هذا فالمهم أن الكذب يجب إذا كان لإنقاذ معصوم من هلكة أو حماية مال معصومة من تلف ويباح إذا كان فيه مصلحة عظيمة ومع ذلك فمن الأولى أن يوري أي يجعل الكلام تورية حتى يسلم من الكذب والله الموفق(6/184)
باب الحث على التثبت فيما يقوله ويحكيه
قال الله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} وقال تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}
1547 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع رواه مسلم.
1548 - وعن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين رواه مسلم
1549 - وعن أسماء رضي الله عنها أن امرأة قالت: يا رسول الله إن لي ضرة فهل علي جناح إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور متفق عليه.
المتشبع: هو الذي يظهر الشبع وليس بشبعان، ومعناها هنا أنه يظهر أنه حصل له فضيلة وليست حاصلة ولابس ثوبي زور أي: ذي زور(6/185)
وهو الذي يزور على الناس بأن يتزي بزي أهل الزهد أو العلم أو الثروة ليغتر به الناس وليس هو بتلك الصفة وقيل غير ذلك والله أعلم:
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه (رياض الصالحين) باب التثبت فيما يقول وما يتكلم به - لما ذكر رحمه الله تحريم الكذب - والكذب أن يخبر الإنسان بما لم يكن على وجهه الصحيح أعقبه بهذا الباب، أن الإنسان يتثبت فيما ينقل ويتكلم به، لاسيما في زمن الأهواء وكثرة القيل والقال والتحدث بما كان أو لم يكن، ثم استدل لذلك بالآيات والأحاديث قال الله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم (لا تقف) يعني لا تتبع ما ليس لك به علم ولا تتكلم إلا بما تعلم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، قال تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} يعني إلا عنده رقيب أي مراقب يراقب ما تقول، عتيد حاضر فلا يغيب عنه، وهذا تحذير من أن يتكلم الإنسان بشيء لا يعلم عنه، لأنه بذلك آثم ثم ذكر في ذلك أحاديث: كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع يعني أن الإنسان إذا صار يحدث بكل ما سمع من غير تثبت وتأن، فإنه يكون عرضة للكذب، وهذا هو الواقع ولهذا يجيء إليك بعض الناس يقولون: صار كذا وكذا، ثم إذا بحثت وجدت أنه لم يكن، أو يأتي إليك ويقول: قال فلان كذا وكذا، فإذا بحثت(6/186)
وجدته لم يقل، وأعظم شيء أن يكون هذا فيما يتعلق بحكم الله وشريعته بأن يكذب على الله فيقول في القرآن برأيه ويفسر القرآن بغير ما أراد الله أو يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا.
وهو كاذب، أو ينقل حديثا يرى أنه كذب وهو لم يكذبه ولكن يقول: قال فلان كذا وكذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يرى أنه كذب فإنه يكون أحد الكاذبين كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ويزداد إثم التقول إذا تشبع الإنسان بما لم يعط، كما في حديث المرأة أنها يكون لها ضرة يعني زوجة أخرى مع زوجها فتقول إن زوجي أعطاني كذا وأعطاني كذا وهي كاذبة، لكن تريد أن تراغم (تغيظ) ضرتها وتفسدها على زوجها، فهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور أي كذب.
والحاصل أنه يجب على الإنسان أن يتثبت فيما يقول ويتثبت فيمن ينقل إليه الخبر، هل هو ثقة، أو غير ثقة كما قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} ولاسيما إذا كثرت الأهواء وصار الناس يتخبطون ويكثرون من القيل والقال بلا تثبت ولا بينة، فإنه يكون التثبت أشد وجوبا، حتى لا يقع الإنسان في المهلكة.
والله الموفق(6/187)
باب بيان تغليظ تحريم شهادة الزور
قال الله تعالى: {واجتنبوا قول الزور} ، وقال تعالى: {لا تقف ما ليس لك به علم} ، وقال تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} ، وقال تعالى: {إن ربك لبالمرصاد} ، وقال تعالى: {والذين لا يشهدون الزور}
1550 - وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله.
قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه (رياض الصالحين) باب تغليظ تحريم شهادة الزور، شهادة الزور أن يشهد بما يعلم أن الأمر بخلافة، أو يشهد بما لا يعلم أن الأمر بخلافه أو بوفاقه، أو يشهد بما يعلم أن الأمر على وفاقه لكنه على صفة غير الواقع، هذه ثلاثة أحوال وكلها حرام، لا يحل لإنسان أن يشهد إلا بما علم على الوجه الذي علمه، فإن شهد بما يعلم أن الأمر بخلافه مثل أن يشهد لفلان بأنه يطلب فلانا كذا وكذا وهو يعلم أنه كاذب، فإن هذا والعياذ بالله(6/188)
شهادة زور، ومثل أن يشهد لفلان أنه فقير يستحق الزكاة وهو يعلم أنه غني، ومثل ما يفعله بعض الناس عند الحكومة يشهد بأن فلانا له عائلة عدد أفرادها كذا وكذا وهو يعلم أنه كاذب والأمثلة على هذا كثيرة ويظن هذا المسكين الذي شهد بشهادة الزور يظن أنه نافع لأخيه أنه بار به والواقع أنه ظالم لنفسه وظالم لأخيه، أما كونه ظالما لنفسه فظاهر، لأنه آثم وأتى كبيرة من كبائر الذنوب، وأما كونه ظالما لأخيه فلأنه أعطاه ما لا يستحقه وجعله يأخذ المال بالباطل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: انصر أخاك ظالما أو مظلوما قالوا: يا رسول الله هذا المظلوم كيف ننصر الظالم، قال: تمنعه من الظلم فذلك نصره فهؤلاء الذين يشهدون بالزور والعياذ بالله يظنون أنهم ينفعون إخوانهم وهم يضرون أنفسهم وإخوانهم.
ثم استشهد المؤلف بآيات بعضها سبق قريبا وبعضها لم يسبق فقال: قول الله تعالى: فاجتنبوا الرجس من الاوثان واجتنبوا قول الزور وأول ما يدخل في قول الزور شهادة الزور، وقد جعل الله تعالى ذلك مع الرجس من الأوثان أي مع الشرك فدل هذا على عظم شهادة الزور، وقال الله تعالى: {والذين لا يشهدون الزور} يمدحهم وإذا كان هؤلاء مدحوا بعدم شهود الزور فأولى أن يمدحوا إذا لم يقولوا الزور، وإذا كان عدم شهادة الزور مدحا دل ذلك على أن شهادة الزور(6/189)
أو القول بالزور قدح وضرر.
ثم ذكر حديث أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر (ألا) أداة عرض استفتح بها النبي صلى الله عليه وسلم كلامة للتنبيه، تنبيه المخاطب إلى أمر ذي شأن، ولهذا قال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قالوا بلى يا رسول الله قال: الشرك بالله وهذا أعظم الظلم وأكبر الكبائر وأشد الذنوب عقوبة، لأن من يشرك بالله فإن الله قد حرم عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار.
والثاني عقوق الوالدين يعني قطع برهما، والوالدان هم الأب والأم، والواجب على الإنسان أن يبر بهما، وأن يخدمهما بقدر ما يستطيع وأن يطيعهما إلا ما فيه ضرر أو معصية لله عز وجل فإنه لا يطيعهما.
قال: وكان متكئا فجلس تعظيما لما سيقول قال: ألا وقول الزور وشهادة الزور وإنما عظم النبي صلى الله عليه وسلم أمرها لكثرة الوقوع فيها وعدم اهتمام الناس بها فأرى الناس أن أمرها عظيم، كان يحدث عن الشرك وعقوق الوالدين وهو متكئ، ثم جلس اهتماما بالأمر: ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها قال: حتى قلنا: ليته سكت.
وهذا دليل على عظم شهادة الزور وقول الزور وعلى الإنسان أن يتوب إلى الله عز وجل من هذا لأنه يتضمن كما قلت ظلم نفسه وظلم من شهد له.
والله الموفق(6/190)
باب تحريم لعن إنسان بعينه أو دابة
1551 - عن أبي زيد ثابت بن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه وهو من أهل بيعة الرضوان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا، فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة، وليس على رجل نذر فيما لا يملكه ولعن المؤمن كقتله متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب تحريم لعن المعين من آدمى أو دابة اللعن معناه: الطرد والإبعاد عن رحمة الله فإذا قلت: اللهم العن فلانا، فإنك تعني أن الله يبعده ويطرده عن رحمته والعياذ بالله.
ولهذا كان لعن المعين من كبائر الذنوب، يعني لا يجوز أن تلعن إنسانا بعينه، فتقول اللهم العن فلانا أو تقول لعنه الله عليك، أو ما أشبه ذلك حتى لو كان كافرا وهو حي فإنه لا يجوز أن تلعنه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صار يقول: اللهم العن فلانا، اللهم العن فلانا يعينهم قال الله له: ليس لك من الامر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ومن الناس من تأخذه الغيرة فيلعن الرجل المعين إذا كان كافرا وهذا لا يجوز، لأنك لا تدري لعل الله أن(6/191)
يهديه وكم من إنسان كان من أشد الناس عداوة للمسلمين والإسلام هداه الله وصار من خيار عباد الله المؤمنين، ونضرب لهذا مثلا: عمر بن الخطاب الرجل الثاني بعد أبي بكر في هذه الأمة، كان من ألد أعداء الإسلام ففتح الله عليه فأسلم.
خالد بن الوليد كان يقاتل المسلمين في أحد وهو من جملة من كر عليهم وداهمهم، عكرمة بن أبي جهل.
وغيرهم من كبار الصحابة الذين كانوا من أول ألد أعداء المسلمين فهداهم الله عز وجل.
ولهذا قال: {ليس لك من الامر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} أما إذا مات الإنسان على الكفر وعلمنا أنه مات كافرا فلا بأس أن نلعنه لأنه ميئوس من هدايته والعياذ بالله لأنه مات على الكفر.
ولكن ما الذي نستفيده من لعنه ربما يدخل هذا - أعني لعنه - في قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدموا ونحن نقول لهذا الرجل الذي يلعن الكافر أو الذي مات على الكفر نقول: إن لعنك إياه لا فائدة منه في الواقع، لأنه قد استحق الطرد والإبعاد عن رحمة الله، فليس من أهل رحمة الله أبدا، بل هو من أصحاب النار هم فيها خالدون وكذلك أيضا البهائم لا يجوز أن تلعن البهيمة: البعير، الحمار، بقرة، شاة، لا يجوز أن تلعنه، وسيأتي إن شاء الله في الأحاديث ما يبين حكم ذلك.
ثم ذكر المؤلف حديث أبي زيد ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من حلف علي يمين بملة غير الإسلام وهو فيها كاذب متعمدا فهم كما(6/192)
قال مثال ذلك إذا قال الإنسان: هو يهودي أو نصراني إن كان كذا وكذا وكان الأمر على خلاف ما يقول فإنه كما قال، يعني أنه يهودي أو نصراني - نسأل الله العافية - مثال هذا أخبرنا رجل جاء إلينا وقال: إنه قدم فلان أمس قلنا ما هو صحيح قال هو يهودي إن كان ما قدم فتبين أنه لم يقدم والرجل قال: هو يهودي متعمدا، فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كما قال عن نفسه أي أنه يصير يهوديا أو نصرانيا وهذا يدل على أن الحلف بمله غير الإسلام كاذبا متعمدا من كبائر الذنوب، فإن كان غير كاذب بأن كان صادقا فإنه لا يلحقه هذا الوعيد، لكننا نقول له إذا كنت حالفا فاحلف بالله كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: من كان حالفا فليحلف بالله أو ليسكت وكذلك إن كان قال ذلك غير متعمد بأن يظن أن الأمر كذلك، وتبين أن الأمر على خلاف ما اعتقد فإنه لا يدخل في هذا الوعيد، ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا حلف بالله على شيء معتقدا أنه كما حلف ثم تبين أنه على خلاف اعتقاده فإنه لا إثم عليه ولا كفارة عليه، مثال ذلك: لو قال: فلان سيقدم غدا متأكد يقول: إني متأكد والله ليقدمن غدا، قال ذلك بناء على ظنه ثم لم يقدم فلا كفارة عليه لأنه حلف على ظنه غير متعمد، ولذلك أقر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي قال: والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منه يعني ما بين لابتي المدينة أهل بيت أفقر منه، مع(6/193)
أن هذا الرجل لم يأت على كل البيوت يفتش فيها لكن حلف على غالب ظنه، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وسيأتي إن شاء الله بقية الكلام على الحديث
1551 - عن أبي زيد ثابت بن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه، وهو من أهل بيعة الرضوان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين بمله غير الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيء، عذب به يوم القيامة، وليس على رجل نذر فيما لا يملكه، ولعن المؤمن كقتله متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
سبق الكلام على أول هذا الحديث، حديث أبي زيد بن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه، وهو أن من حلف بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال: والثاني أن من قتل نفسه بشيء عذب به في جهنم يعني إذا قتل الإنسان نفسه بشيء فإنه يعذب به في جهنم رجل أكل سما ليموت فمات فإنه يتحسى هذا السم في جهنم خالدا مخلدا فيها والعياذ بالله صعد إلى السقف فأسقط نفسه حتى هلك فإنه يعذب بمثل ذلك في جهنم قتل نفسه بسكين فإنه يعذب بها في جهنم قتل نفسه بعصاة فإنه يعذب بها في جهنم قتل نفسه بقنابل فإنه يعذب بها في جهنم ومن ذلك فعل بعض الناس الذين ينتحرون يلبس الإنسان قنابل يحزمها على بطنه ثم يذهب إلي فئة من العدو ويطلقها فيكون هو أول من يموت هذا يعتبر قاتلا لنفسه ويعذب بما قتل به نفسه في جهنم والعياذ بالله وهؤلاء يطلقون على أنفسهم الفدائيين ولكنهم قتلوا أنفسهم فيعذبون في نار جهنم بما قتلوا به أنفسهم وليسوا بشهداء لأنهم فعلوا فعلا محرما والشهيد هو الذي يتقرب إلى الله تعالى بفعل ما أمره الله به لا بفعل ما نهاه عنه والله عز وجل يقول: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ويقول: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} لكننا نقول هؤلاء الذين(6/194)
نسمع عنهم يفعلون ذلك نرجو ألا يعذبوا لأنهم جاهلون متأولون لكنهم ليس لهم أجر وليسوا بشهداء لأنهم فعلوا ما لم يأذن به الله بل ما نهى الله عنه فإن قال قائل: أليس الصحابة يغامرون فيدخلون صف الأعداء من الروم وغير الروم، قلنا بلى لكن هل هذا قتل لأنفسهم، ليس بقتل صحيح أنهم على خطر لكن فيه احتمال النجاة ولهذا يدخلون صفوف الروم فيقتلون من شاء الله ثم يرجعون إلى الجيش وكذلك ما فعله البراء بن مالك رضي الله عنه في وقعة اليمامة فإنهم لما وصلوا إلى حائط مسيلمة الكذاب وجدوا الباب مغلقا ولم يتمكنوا من دخوله وكان البراء بن مالك رضي الله عنه أخا أنس بن مالك كان شجاعا فطلب من الجيش أن يلقوه من وراء الجدار ليفتح لهم الباب فألقوه من وراء الجدار من أجل أن يفتح لهم الباب ففعلوا حتى يدخلوا على مسيلمة الكذاب وفعلا فتح لهم الباب ونجا فلا يمكن أن نستدل بمثل هذه الوقائع على جواز الانتحار الذي يفعله هؤلاء من سلطان ولكن نقول نرجو من الله عز وجل أن لا يأخذهم بما صنعوا لأنهم صنعوا ذلك عن جهل وحسن نية فمن قتل نفسه بشيء فإنه يعذب به في نار جهنم واعلم أنه قد ورد فيمن قتل نفسه بشيء أنه يعذب به في جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا فذكر التأبيد فهل يعني ذلك أنه كافر ? لأنه لا يستحق الخلود المؤبد إلا الكفار الجواب: لا ليس بكافر ? بل يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدعى له بالمغفرة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قتل نفسه بمشاقص ? فقدم إلى(6/195)
الرسول صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه لكنه لم يصل عليه وقال صلوا عليه فصلوا عليه بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على أنه ليس بكافر وحينئذ لا يستحق الخلود المؤبد فما ذكر في الحديث من ذكر التأبيد وإن كانت اللفظة محفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم فالمراد شدة التهديد والتنفير من هذا العمل ? وإلا فليس بكافر(6/196)
الجملة الثالثة أن لعن المؤمن كقتله يعني إذا قلت للمؤمن: لعنك الله فكأنما قتلته لأن اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله ومن طرد وأبعد عن رحمة الله صار كالمقتول الذي عدم الحياة الدنيا فإن ذلك المطرود المبعد عن(6/198)
رحمة الله حرم حياة الآخرة والقتل يحرم به المقتول من الحياة الدنيا واعلم أن لعن المؤمن من كبائر الذنوب وأنه لا يحل وأن من لعن مؤمنا فإن اللعنة تذهب إلى الملعون إن كان أهلا لها فقد استحقها وإن لم يكن أهلا لها رجعت إلى قائلها - والعياذ بالله - فصار هو الملعون المطرود عن رحمة الله والله الموفق.
1552 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا.
رواه مسلم
1553 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة رواه مسلم:
[الشَّرْحُ]
سبق الكلام على أول حديث أبي زيد ثابت بن الضحاك رضي الله عنه وبقي فيه جملة تركناها وهي قول صلى الله عليه وسلم: ولا نذر على ابن آدم فيما لا يملك يعني الإنسان ليس عليه نذر فيما لا يملك فلو نذر قال لله علي نذر أن أتصدق بمال فلان - فهذا لغو ولا ينعقد النذر لأن مال فلان ليس ملكا له وليعلم أن النذر مكروه نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر وقال: إنه لا يأتي بخير ولا يرد قضاء وإنما يستخرج به من البخيل وكثير من الناس يكون عنده مريض أو يضيع له مال فينذر إن شفى الله مريضه أن يصوم أو يحج أو يتصدق أو يعتمر أو يفعل شيئا من الطاعات ثم إذا قدر الله الشفاء ذهب يسأل العلماء يريد أن يتخلص مما نذر وربما يكسل ويترك ما نذر وهذا خطر خطر عظيم إذا نذرت لله تعالى شيئا على شيء يحققه الله لك ثم تحقق فلم توف فإن هذا خطر عظيم يؤكده قوله تعالى: ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به فلم يتصدقوا {وتولوا وهم معرضون} فلم يكونوا من الصالحين {فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} يعني ألقى الله في قلوبهم النفاق إلى الموت والعياذ بالله وهذا وعيد شديد ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر لأن الإنسان يوجب على نفسه ما هو في غنى عنه وما هو في سعة منه وإذا أردت أن يشفي الله مريضك أو أن يرد مالك فاسأل الله: اللهم اشف مريضي اللهم رد علي مالي ليس هناك طريق يعني لم تنسد الطرق إلا بالنذر وعلى كل حال قال أهل العلم رحمهم الله: إن النذر أقسام: النذر الأول: نذر الطاعة أن ينذر الإنسان أن يصلي أو يصوم أو يتصدق أو يحج أو يعتمر فهذا يجب الوفاء به لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من نذر أن يطيع الله فليطعه وسواء كان معلقا على شرط أو غير معلق الثاني: نذر المعصية فهذا لا يجوز الوفاء به مثل أن ينذر الإنسان أن لا يكلم فلانا وفلانا من المؤمنين الذين لا يهجرون لكن صارت بينه وبينه عداوة يعني سوء تفاهم قال: لله علي نذر ما أكلم فلانا أو لله علي نذر ما أزور أخي قريبي أو ما أشبه ذلك هذه معصية حرام ولا يجوز الوفاء بهذا النذر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من نذر أن يعصي الله فلا يعصه ولكن ماذا يكون يجب عليه أن يكفر كفارة اليمين الثالث: ما يسمى عند العلماء بنذر اللجاج والغضب وهو الذي يقصد به الإنسان المنع أو الحث أو التصديق أو التكذيب مثل أن يقول لله علي نذر أن لا أفعل كذا وكذا يحملها على ذلك أنه يريد الامتناع ما أراد النذر لكن أراد معنى النذر فهذا يخير بين فعله إن كان فعلا أو تركه إن كان تركا وبين كفارة اليمين مثاله أن يقول لله علي نذر لا ألبس هذا الثوب نقول أنت الآن بالخيار إن شئت تلبسه وكفر كفارة اليمين وإن شئت لا تلبسه ولا كفارة عليك القسم الرابع النذر المطلق يعني ليس في شيء محدد قال الإنسان لله علي نذر فقط فهذا عليه كفارة يمين لقول النبي صلى الله عليه وسلم كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين والحاصل أنه لا ينبغي للإنسان أن ينذر الخير يأتي بدون نذر والقضاء لا يرد بالنذر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا يأتي بخير ولا يرد قضاء وكم من أناس الآن يسألون يقول مثلا بعضهم نذرت إن شفى الله مريضي لأصومن شهرين متتابعين نقول من حثك على هذا إن شفى الله مريضه لزمه أن يصوم شهرين متتابعين بعض الناس يقول نذرت إن شفى الله مريضي أن أذبح سبعا من الإبل أعوذ بالله إن شف الله مريضه لزمه أن يذبح سبعا من الإبل ويتصدق بها ولا يأكل منها شيئا نذر إن رد الله غائبه فإنه يذبح شاة ما الداعي لكن لو رد الله غائبه وجب عليه أن يذبح شاة ويتصدق بها ولا يأكل منها شيئا فاترك النذر لكن إذا نذرت طاعة وجب عليك أن تفي بما نذرت والله الموفق
1554 - وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضبه ولا بالنار رواه أبو داود والترمذي وقالا حديث حسن صحيح
1555 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء رواه الترمذي وقال حديث حسن.
1556 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها ثم تأخذ يمينا شمالا فإذا(6/199)
لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن فإن كان أهلا لذلك وإلا رجعت إلى قائلها رواه أبو داود
1557 - وعن عمران بن الحصين رضي الله عنهما قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذوا ما عليها ودعوها، فإنها ملعونة قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد رواه مسلم
1558 - وعن أبي برزة نضلة بن عبيد الأسلمي رضي الله عنه قال: بينما جارية على ناقة عليها بعض متاع القوم إذ بصرت بالنبي صلى الله عليه وسلم وتضايق بهم الجبل فقالت: حل اللهم العنها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة رواه مسلم قوله: حل بفتح الحاء المهملة، وإسكان اللام وهي كلمة لزجر الإبل واعلم أن هذا الحديث قد يستشكل معناه ولا إشكال فيه بل المراد النهي أن تصاحبهم تلك الناقة وليس فيه نهي عن بيعها وذبحها وركوبها(6/200)
في غير صحبة النبي صلى الله عليه وسلم بل كل ذلك وما سواه من التصرفات جائز لا منع منه إلا من مصاحبته صلى الله عليه وسلم بها لأن هذه التصرفات كلها كانت جائزة فمنع بعض منها فبقي الباقي على ما كان والله أعلم:
[الشَّرْحُ]
هذه أحاديث ساقها النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في التحذير من اللعن فمنها حديث سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضبه ولا بالنار يعني لا يلعن بعضكم بعضا بلعنة الله فيقول لصاحبه لعنك الله ولا بغضبه فيقول غضب الله عليك ولا بالنار فيقول أدخلك الله النار كل هذا حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قد يقال لمن لا يستحقه وكذلك أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا بالبذيء وهذا يدل على أن هذه الأمور نقص في الإيمان وأنها تسلب عن المؤمن حقيقة الإيمان وكمال الإيمان فلا يكون طعانا يطعن في الناس بأنسابهم أو بأعراضهم أو بشكلهم وهيئاتهم أو بآمالهم ولا باللعان الذي ليس له هم إلا اللعنة قل كلمة لعنك الله قل كذا لعنك الله لماذا تقول كذا أو يقول لأولاده: لعنكم الله هاتوا هذا أو ما أشبه ذلك فالمؤمن ليس باللعان ولا بالفاحش الذي يفحش في كلامه بصراخ أو نحو ذلك ولا بالبذيء الذي يعتدي على غيره فالمؤمن مؤمن(6/201)
مسالم ليس عنده فحش في قوله ولا في فعله ولا غير ذلك لأنه مؤمن وكذلك حديث اللعنة أن الإنسان إذا لعن شخصا أو شيئا من الأشياء صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء الأولى ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبواب الأرض دونها ثم تذهب يمينا وشمالا ثم ترجع إلى الذي لعن فإن كان أهلا لها فقد استحقها وإلا رجعت إلى قائلها وهذا وعيد شديد على من لعن من ليس أهلا للعن فإن اللعنة تتحول في السماء والأرض واليمين والشمال ثم ترجع في النهاية إلى قائلها إذا لم يكن الملعون أهلا لها ثم ذكر حديث عمران بن حصين امرأة كانت على بعير لها فضجرت منها وتعبت وسأمت ولعنتها قالت: لعنك الله فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر أن يأخذ ما عليها من الرحل والمتاع وتعرى يعني البعير ثم تصرف قال: فلقد رأيتها في الناس لا يتعرض لها أحد لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تصرف وهذا من باب التعزيز تعزيز هذه المرأة أن تلعن دابة لا تستحق اللعن ولهذا قال لا تصحبنا دابة ملعونة لأن هذه المرأة لعنتها والملعون لا ينبغي أن يستعمل فلذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها وتركها فيكون هذا تعذيرا للمرأة التي لعنت هذه الدابة وهي لا تستحق والله الموفق(6/202)
باب جواز لعن أصحاب المعاصي غير المعينين
قال الله تعالى: {ألا لعنة الله على الظالمين} وقال تعالى: {فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين} وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله الواصلة والمستوصلة وأنه قال لعن الله آكل الربا وأنه لعن المصورين وأنه قال لعن الله من غير منار الأرض أي حدودها وأنه قال: لعن الله السارق يسرق البيضة وأنة قال: لعن الله من لعن والديه ولعن الله من ذبح لغير الله وأنه قال: من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وأنه قال: اللهم العن رعلا وذكوان وعصية عصوا الله ورسوله وهذه ثلاث قبائل من العرب وأنه قال: لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وأنه لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال وجميع هذه الألفاظ في الصحيح بعضها في صحيحي البخاري ومسلم وبعضها في أحدهما وإنما قصدت الاختصار بالإشارة إليها وسأذكر معظمها في أبواب من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى:
[الشَّرْحُ]
لما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه (رياض الصالحين) تحريم لعن المعين وأنه لا يجوز أن تلعن شخصا معينا ولو كان كافرا مادام حيا لأنك لا تدري فلعل الله أن يهديه عز وجل فيعود إلى الإسلام إن كان مرتدا أو يسلم إن كان كافرا أصليا ذكر بعد ذلك رحمه الله بابا في جواز لعن أصحاب المعاصي غير المعينين لأن هناك فرقا بين المعين وبين العام فيجوز أن تلعن أصحاب المعاصي على سبيل العموم إذا كان ذلك لا يخص شخصا بعينة ثم استدل رحمه الله بآيات وأحاديث منها قول الله تعالى ألا لعنة الله على الظالمين وقوله {فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين} وعلى هذا فيجوز أن تقول: اللهم العن الظالمين على سبيل العموم ما هو شخص واحد معين فيشمل كل ظالم وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن(6/203)
الواصلة والمستوصلة وهذا في النساء الواصلة التي تصل الشعر بشعر آخر حتى يرى شعرها وكأنه طويل أو كأنه ثخين يعني منتشر والمستوصلة التي تطلب من يصل هذا فهاتان امرأتان ملعونتان على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة لكن لو رأيت امرأة معينة تصل امرأة أخرى معينة تطلب من يصل شعر رأسها فلا يجوز أن تلعن هذه المعينة لا يجوز مثل أننا نشهد لكل من قتل شهيدا أنه في الجنة كذا عموما لكن لو قتل الإنسان في المعركة في جهاد في سبيل الله لا نقول هذا الرجل شهيد بعلم أو نشهد أنه في الجنة لأن الشهادة في الجنة لها شأن آخر وكذلك لعن المعين له شأن آخر وضرب المؤلف رحمه الله أمثلة لذلك منها: لعن الله من غير منار الأرض يعني حدودها وذلك في الجيران إذا كان الإنسان مثلا له جار في الأرض فغير مراسم الحدود أدخل شيئا من أرض جاره إلى أرضه فهذا ملعون على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وهو مع كونه ملعونا والعياذ بالله سوف يكلف يوم القيامة بأن يحمل ما أدخل من أرض جاره يحمله على عنقه من سبع أرضين قال صلى الله عليه وسلم: من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه يوم القيامة من سبع أرضيين نسأل الله العافية ونعوذ بالله من الخزي والعار يأتي يوم القيامة بين العالم يحمل ما أدخله من أراضي غيره من سبع أرضيين وكذلك أيضا لعن النبي صلى الله عليه وسلم من لعن والديه إذا إنسان قال لوالده لأمه أو لأبيه لعنك الله أو لعنك الله أو عليك لعنة الله فإنه مستحق للعنة الله لأن الوالدين حقهما البر والإحسان ولين القول(6/204)
فإذا لعنهما والعياذ بالله استحق اللعنة قال النبي صلى الله عليه وسلم: لعن الله من لعن والديه فيجوز أن تقول اللهم العن من لعن والديه وكذلك المصورون فيمكن أن تقول اللهم العن كل مصور لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المصورين وهكذا الأحاديث التي ذكرها المؤلف فيفرق بين العام والخاص العام لا يخص أحدا بعينه والخاص هو أن يخص أحدا بعينه فتخصيص أحد بعينه باللعن هذا حرام ولا يجوز أما على سبيل العموم فلا بأس ويأتي إن شاء الله الكلام على بقية الأحاديث التي مثل بها المؤلف والله أعلم وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله الواصلة والمستوصلة وأنه قال: لعن الله آكل الربا وأنه لعن المصورين:
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث التي عقدها المؤلف رحمه الله لبيان جواز لعن أهل المعاصي غير المعينين وقد سبق في الباب الذي قبله أنه لا يجوز لعن المعين ولو كان كافرا أما غير المعين بأن يلعن الإنسان من اتصف بهذه الصفة فهذا لا بأس به فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن الواصلة والمستوصلة الواصلة هي التي تصل الشعر والمستوصلة هي التي تطلب من يصله يعني بأن المرأة يكون رأسها قصيرا وشعرها قليلا فتضيف إلى رأسها شيئا من الشعر لأجل أن يكون طويلا عندما يراه الناس وكثيفا فلعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك وبعض الأحاديث حتى ولو كان شعرها قليلا جدا فإنه لا يجوز لها ذلك ومن هذا ما يسمى بالباروكة فأن بعض علمائنا المحققين قالوا إن لبس(6/205)
الباروكة من الوصل وأن التي تلبس الباروكة ولو للتجمل ملعونة والعياذ بالله وهل يلحق بذلك ما يسمى بالعدسات الملونة التي تلبسها بعض النساء ربما يقال إنه يلحق بذلك لأن المرأة تضع شيئا يجمل عينها يجعل عينها كأنها عين إنسانة أخرى إما حمراء أو خضراء حتى سمعت بعضهم يقولون إنهم يجعلون عدسات لونها أخضر وبعضها أزرق وما أشبه ذلك فالاحتياط أن يقال إنها تلحق بذلك لأنه لا فرق بينها وبين الشعر فإن قال قائل هذه مثل الكحل لا تثبت قلنا وكذلك وصل الشعر لا يثبت ولهذا أخشى أن تكون هذه العدسات الملونة من جنس الوصل ثم إنه ثبت من الناحية الطبية أنها مضرة بالعين وإن كان ضررها لا يرى على المدى القصير لكن يرى على المدى الطويل قال: وثبت أنه لعن آكل الربا يعني وموكله لعن الرسول صلى الله عليه وسلم في الربا خمسة آكل وهو الذي يأخذ الربا(6/206)
وموكله وهو الذي يعطي الربا وشاهديه وهما اللذان يشهدان به وكاتبه الذي يكتب بين المرابين كل هؤلاء ملعونون على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم لكن لا يجوز إذا رأيت شخصا يبيع بالربا لا يجوز أن تقول لعنك الله بل تقول على سبيل العموم لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه لأن هناك فريقا بين التعيين وبين التعميم فالتعميم لا بأس به لكن التخصيص لا يجوز وكذلك ثبت عنه أنه لعن المصورين لكن ليس كل مصور بل المراد من صور ما به روح إذا صور الإنسان ما فيه روح كالآدمي وقرد وأسد وذئب وحشرات وما أشبه ذلك إذا صورها فإنه حرام عليه لا يجوز بل هو ملعون على لسان النبي صلى الله عليه وسلم فلك أن تقول اللهم العن المصورين لكن لا تقل العن فلانا ولو كان يصور لأنه مخصوص فالتعيين لا يجوز ثم إن الصور التي تحرم هي الصورة التي مثل التمثال يعني يصنع إنسان من العجين أو من الجبس أو من الجص أو غيرها من المواد يصنع شيئا على صورة إنسان أو حيوان فهذا حرام وأما الأشجار وشبهها فإنه لا بأس به على القول الراجح الذي عليه جمهور العلماء وأما ما يصنعه الإنسان فلا بأس به قطعا مثل أن يصور سيارة أو قطار أو ما أشبه ذلك واختلف العلماء رحمهم الله في التصوير الرقم يعني التصوير باللون على ورقة أو على خرقة أو ما أشبه ذلك من العلماء من قال لا بأس به واحتجوا بحديث زيد ين خالد الجهني وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة إلا(6/207)
رقما في ثوب فقالوا: إلا رقما في ثوب هذه الصورة التي ترسم باليد على ورقة أو على ثوب وما أشبه ذلك لكن الصحيح أنه لا يجوز حتى الرقم في الثوب أو في الورقة لا يجوز أن تصور صورة بيدك وأما الصورة بالآلة الفوتوغرافية الفورية فهذه ليست من التصوير في شيء ولا تدخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم كل مصور في النار لأنك لم تصور في الواقع فأنت لم تخط الوجه ولا العين ولا الأنف ولا الفم وإنما سلطت ضوء معينا إذا قابله جسم انطبع في الورق دون أن ترسم العين والأنف والشفاه وما أشبه هذا فليس هذا بتصوير وليس هذا بتخصيص للمصور بالآلة ويدل على ذلك دلالة واضحة يتبين بها الأمر أنك لو كتبت رسالة إلى إنسان بقلمك بيدك ثم أدخلتها في الآلة المصورة وخرجت الصور هل هي صورة الذي حرك الآلة أو هي صورة الكتاب الذي كتبه الأول؟ الجواب الثاني بلا شك ولهذا يمكن أن نحرك هذه الآلة آلة التصوير ويمكن أن يحركها رجل أعمى فليس هذا من فعله إنما يقال هذا الذي صور صورة فوتوغرافية: إن كانت لمقصد حرام صارت حراما من باب تحريم الوسائل وإن كانت لمقصد جائز فهي جائزة ولا يقال إن المصور في النار ولذلك يجب أن يفرق الشخص بين التصوير وبين استعمال التصوير كما فرق بين ذلك أهل العلم ففي عبارة زاد المستقنع، كتاب الفقه المعروف قال يحرم التصوير واستعماله ففرق بين التصوير واستعماله فنحن نقول هذه الصورة الفوتوغرافة لا تدخل في لفظ حديث التصوير لكن إذا صورها الإنسان ليستخدمها على وجه محرم صارت حراما من باب تحريم الوسائل هؤلاء ثلاثة لعنهم الرسول صلى الله عليه وسلم:
[الشَّرْحُ]
الأول: الواصلة والمستوصلة والثاني: آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبه والثالث: المصورون وسيأتي إن شاء الله بقية ما ذكره المؤلف رحمه الله ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله من غير منار الأرض أي حدودها وأنه قال: لعن الله السارق يسرق البيضة وأنه قال: لعن الله من لعن والديه:
[الشَّرْحُ]
هذا الباب عقده النووي رحمه الله في رياض الصالحين يبين به أن اللعن الذي ليس على معين لا بأس به وذكر أمثلة من ذلك سبق منها ثلاثة واليوم نأخذ ثلاثة أيضا منها أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من غير منار الأرض يعني حدودها مثل أن يكون الإنسان له جار فيأتي الإنسان فيدخل من أرض جاره على أرضه فيوسع أرضه ويضيق أرض جاره فهذا ملعون لعنه النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أن من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه الله به يوم القيامة من سبع(6/208)
أرضين وإذا كان هذا فيمن غير حدود الأرض يعني المراسيم فكيف بمن أخذ الأرض كلها واجتاحها والعياذ بالله فهو أولى باللعن والطرد عن رحمة الله كما يوجد أناس يعتدون على أراضي غيرهم يأخذونها بالباطل ويدعون أنها لهم وربما يأتون بشهود زور يشهدون لهم فيحكم لهم بذلك فيدخلون في اللعن ويوم القيامة يأتون بها مطوقين بها في أعناقهم نسأل الله العافية أمام عباد الله ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده والسارق هو الذي يأخذ المال بخفية من حرز مثله مثل أن يأتي بالليل أو في غفلة الناس فيفتح الأبواب ويسرق هذا السارق إذا سرق نصابا وهو ربع دينار أو ما يساويه من الدراهم أو المتاع فإنها تقطع يده يده اليمنى من مفصل الكف لقول الله تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكلا من الله والله عزيز حكيم ولا فرق بين أن يكون السارق شريفا أو وضيعا أو ذكرا أو أنثى لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع يد المرأة المخزومية التي كانت تستعير المتاع فتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع يدها فأهم قريشا ذلك وطلبوا من يشفع لها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فطلبوا من أسامة بن زيد أن يشفع برفع العقوبة عنها فاختطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنما أهلك من قبلكم أنهم(6/209)
كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها فأقسم عليه الصلاة والسلام أنه لو سرقت ابنته فاطمة أشرف النساء نسبا لقطع يدها ولكن هذا الحديث الذي أشار إليه النووي رحمه الله في رياض الصالحين يقول يسرق البيضة والبيضة لا تبلغ نصاب السرقة لأن نصاب السرقة ربع دينار فكيف قال يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده قال بعض العلماء إن المراد بالبيضة هنا بيضة الرأس الذي يجعلها الإنسان عند القتال على رأسه تقيه السهام وهي مثمنة تساوي ربع دينار أو أكثر والمراد بالحبل حبل السفن الذي تربط به في المرسى حتى لا تأخذها الأمواج وهو أيضا ذو قيمة وقال بعض العلماء المراد بالبيضة بيضة الدجاجة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلقها والبيضة عند الإطلاق لا يفهم منها إلا بيضة الدجاجة والحبل هو الحبل الذي يربط به الحطب وما أشبه ذلك ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: تقطع يده لأنه إذا اعتاد سرقة الصغير تجرأ على سرقة الغالي والمثمن فقطعت يده وهذا أقرب إلى الصواب أن السارق والعياذ بالله إذا سرق الشيء اليسير تجرأ فسرق الشيء الكبير فتقطع يده الثالث: قال إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من لعن والديه سواء كانت الأم أو الأب يقول لأبيه لعنة الله عليك أو لأمه ولكن الصحابة قالوا يا رسول(6/210)
الله أيلعن الرجل والديه هذا أمر لا يمكن قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه يعني يتنازع اثنان فيقول أحدهما للآخر لعن الله والديك فيقول الثاني بل أنت لعن الله والديك فلما كان هو السبب في أن يلعن الآخر والديه أعطى حكم من لعن والديه مباشرة فهذان الشخصان لعنهما الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن هل يمكن أن تأتي لشخص معين غير حدود الأرض تقول لعنك الله الجواب لا لا يجوز أن تلعنه وهو معين أو سمعت إنسانا يلعن والديه تقول لعنك الله لا يصح هذا حرام لكن تقول له اتق الله فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن من غير منار الأرض وتقول للثاني السارق اتق الله فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن السارق يسرق البيضة ويسرق الحبل وتقول للثالث اتق الله لا تلعن والديك ولا تكن سببا في لعنهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من لعن والديه أما أن تنص عليه فتقول لعنك الله أو أنت ملعون فهذا حرام ولا يجوز لأنه فرق بين العام وبين الخاص والله الموفق
ولعن الله من ذبح لغير الله وأنه قال: من أحدث فيها حدثا أو(6/211)
آوى محدثا فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين وأنه قال: اللهم العن رعلا وذكوان وعصية عصوا الله ورسوله وهذه ثلاث قبائل من العرب:
[الشَّرْحُ]
هؤلاء ثلاثة أنواع ممن يجوز لعنهم على سبيل العموم وقد سبق أنه لا يجوز لعن المعين ولو كان كافر لأنه لا يجوز أن تقول اللهم العن فلانا وإن كان كافر لكن على العموم وزدت أحاديث في أصناف متعددة سبق منها ما سبق ويلحق منها ما يلحق إن شاء الله ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: لعن الله من ذبح لغير الله لعن الله من ذبح لغير الله وذلك أن الذبح لغير الله شرك لأنه عبادة والعبادة إذا صرفها الإنسان لغير الله كان مشركا قال الله تعالى: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وقال تعالى: {فصل لربك وانحر} فأمر بالصلاة وأمر بالنحر وأن ذلك لله عز وجل فكما أن من صلى لغير الله فهو مشرك فمن ذبح لغير الله فهو مشرك وهذا إذا وقع الذبح عبادة وتقربا وتعظيما أما إذا وقع الذبح لغير الله على سبيل الإكرام كإكرام الضيف مثلا لو نزل بك ضيف فذبحت له ذبيحة من أجل أن تقدمها له ليأكلها فلا بأس بل هذا مما يؤمر به لقول النبي(6/212)
صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليكرم ضيقه وإذا كان من إكرام الضيف أن تذبح له ذبيحة إكراما لقدومه فهذا مما يؤمر به وتارة يذبح لغير الله يعني لقصد الأكل إنسان يريد أن يأكل لحما فذبح ذبيحة يريد بها الأكل هذا أيضا ليس بشرك هذا أمر عادي يأكل الإنسان طعاما لكن الشرك إذا ذبحه تعبدا وتقربا وتعظيما مثل ما يفعل بعض الناس لملوكهم أو رؤسائهم أو علمائهم إذا أقبل ذبحوا الذبيحة بوجهه إكراما وتعظيما هذا شرك أكبر مخرج من الملة وهذا مع كونه شركا حرم الله على فاعله الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار هو أيضا ملعون فاعله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: لعن الله من ذبح لغير الله ومن ذلك أيضا ما ذكره بقوله: من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين من أحدث فيها أي في المدينة حدثا أو آوى محدثا، والحدث هنا يراد به شيئا، الأول: البدعة فمن ابتدع فيها بدعة فقد أحدث فيها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة فمن أحدث فيها حدثا أي ابتدع في دين الله ما لم يشرعه الله في المدينة فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين يعني استحق أن يلعنه كل لاعن والعياذ بالله لأن المدينة مدينة السنة مدينة النبوة فكيف يحدث فيها حدث مضاد لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم والنوع الثاني من الحدث الفتنة أن يحدث فيها فتنة بين المسلمين سواء أدت إلى إراقة الدماء أو إلى ما دون ذلك من العداوة والبغضاء والتشتت فإن من أحدث هذا الحدث فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين أما من أحدث(6/213)
معصية عصى الله فيها في المدينة فإنه لا ينطبق عليه هذا الوعيد بل يقال إن السيئة في المدينة أعظم من السيئة فيما دونها ولكن صاحبها لا يستحق اللعن الذي يستحق اللعن هو الذي أحدث فيها واحدا من أمرين إما بدعة وإما فتنة هذا عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين الثالث اللهم العن رعلا وذكوان وعصية عصوا الله ورسوله هؤلاء قبائل من العرب حصل منهم عدوان على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فدعا عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم باللعنة اللهم العنهم ولم يلعن شخصا معينا بل لعن القبيلة كلها والمراد من حدث منهم هذا الحدث وهو الاعتداء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أظن أن من لم يفعل ذلك تلحقه هذه اللعنة لقول الله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} والله الموفق وأنه قال: لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وأنه لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال وجميع هذه الألفاظ في الصحيح بعضها في صحيحي البخاري ومسلم، وبعضها في أحدهما وإنما قصدت الاختصار بالإشارة إليها وسأذكر معظمها في أبوابها من هذا الكتاب إن شاء الله:(6/214)
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله بقية الأصناف التي يجوز الدعاء عليهم على سبيل العموم منها قوله صلى الله عليه وسلم: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد اليهود هم أتباع موسى والنصارى هم أتباع عيسى لكن بعد أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم وعرفوه ولم يؤمنوا به كان حكمهم سواء في أنهم مغضوب عليهم لأنهم تركوا الحق مع علمهم به والعياذ بالله وبين النبي صلى الله عليه وسلم سبب لعنه إياهم في قوله: اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يعني أنهم يبنون المساجد على قبور أنبيائهم ويصلون فيها فهذا من فعله فهو ملعون على لسان النبي صلى الله عليه وسلم إن كان من اليهود أو من النصارى أو ممن يدعي أنه مسلم فإنه ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا بني المسجد على القبر ولو صلى الإنسان فيه لله عز وجل لا لصاحب القبر فإن صلاته باطلة محرمة يجب عليه إعادتها وهذا المسجد الذي بني يجب هدمه ولا يجوز الصلاة فيه أما لو كان المسجد قائما ثم دفن به أحد من الصالحين أو من الأمراء أو من الوزراء أو من الرؤساء فإنه يجب أن ينبش القبر وأن يدفن في المكان الذي تدفن فيه الناس ولا يجوز إبقاؤه لأن المساجد لم تبن ليقبر فيها إنما بنيت للصلاة وذكر الله وقراءة القرآن وإذا شككنا هل بني المسجد أولا ودفن فيه الميت أم دفن الميت ثم بني عليه المسجد؟ فالاحتياط ألا يصلى فيه لله وأن يبتعد عنه لئلا يعرض صلاته للخطر فإن قال قائل ما الجواب عن هذا الحديث في قصة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه(6/215)
الآن في المسجد فالجواب أن يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفن في المسجد وإنما دفن في بيته ولم يبن عليه المسجد بل كان يمثل قائمة الأول ولكنهم احتاجوا لزيادته فزادوه من هذا الجانب أي من الجانب الذي يرتاده مستقبل القبلة وكأنهم والله أعلم في ذلك الوقت لم يتيسر لهم مكان سوى هذا فوسعوا من قبله فبقى القبر في مقصورة في البيت منفصلا عن المسجد بينه وبينه جدار ثم بعد أن شاء الله عز وجل أن يسلط رجلين يريدان أن يستخرجا بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحرقاه أو يجعلاه في متحف أو ما لا ندري وذلك أن أحد الخلفاء جاءه آت في الليل وقال له أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرجلين الأصغرين يعني في عيونهما صغرة فجاءه مرة ومرتين وثلاثة ففزع الخليفة ثم ارتحل من بلده إلى المدينة فزعا مسرعا فلما وصل المدينة أمر أن تصنع وليمة عظيمة طعام وقال لواليه على المدينة ادع لي جميع أهل المدينة فدعاهم وهذا الخليفة ينظر في الحاضرين فلم يجد الوصف الذي ذكر له في المنام ثم أمر أن يدعو مرة ثانية وثالثة ولم ير الرجلين فقال لواليه على المدينة لماذا لم تدع أهل المدينة؟ قال: كلهم دعوتهم لم يبق إلا رجلان غريبان في المسجد منذ جاءا وهما معتكفان في المسجد فقال: أحضرهما فجيء بهما على الوصف الذي قيل له في المنام فأمر أن يبحث عن حالهما فإذا هما في الليل ينقبان خندقا من أسفل الأرض وإذا هما قريبان من القبر فأمر بقتلهما ثم أمر أن يحفر القبر على جوانبه إلى أن وصل إلى الجبل ثم صبه بالرصاص وبنى عليه ثلاثة جدران فأصبح القبر منفردا تماما عن المسجد ليس في المسجد ولم يبن عليه المسجد فهذا هو الجواب عما(6/216)
يشك به أهل الشرك وأهل القبور من قبر النبي صلى الله عليه وسلم أما الصنف الأخير فقال المؤلف رحمه الله ولعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال والتشبه يكون بالأقوال والأفعال والهيئات واللباس فتجد الرجل يتشبه بالمرأة في صوتها يحكي صوت المرأة ويتكلم وكأنه امرأة هذا ملعون على لسان النبي صلى الله عليه وسلم يتشبه بالمرأة في لباسها يلبس الثياب الذي لا يلبسه إلا النساء ومن ذلك أن يضع الباروكة على رأسه كأنه امرأة ومن ذلك أيضا أن يلبس اللباس الخاص بالنساء في الساعات لأن النساء لهن ساعات خاصة وللرجال ساعات خاصة فيلبس الرجال ساعة المرأة وأما الهيئة فأن يضع المكياج ويتورك وإذا قام يمشي كأنه امرأة هذا أيضا ملعون على لسان النبي صلى الله عليه وسلم فالمهم أن تشبه الرجال بالمرأة من كبائر الذنوب وتشبه المرأة بالرجل كذلك من كبائر الذنوب بأن تتشبه به في القول أي في الكلام تتكلم كما يتكلم الرجال في ضخامة الصوت ونبراته أو تجعل رأسها كرأس الرجل تقصه حتى يرتفع عن الكتفين أو كذلك تلبس من الثياب والساعات لباس الرجل فكل هذا من كبائر الذنوب والمرأة إذا فعلت ذلك فإنها ملعونة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ولكن هل إذا رأينا رجلا معينا متشبها بامرأة هل نقول لعنك الله؟ لا ما نقول لعنك الله نعظه ونقول إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهين من الرجال بالنساء وكذلك المرأة لأن لعن المعين لا يجوز حتى لو كان كافرا فكيف إذا كان فاسقا؟ فإنه لا يجوز لعنه لكن تقول من تشبه من الرجال بالنساء فهو ملعون ومن تشبه من النساء بالرجال فهي ملعونة هكذا على سبيل العموم والله الموفق(6/217)
باب تحريم سب المسلم بغير حق
قال الله تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا}
1559 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر متفق عليه:
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه: رياض الصالحين باب تحريم سباب المسلم بغير حق سبه يعني عيبه ووصفه بما يكره لكن في حضوره أما إذا كان في غيبته فهو غيبة ثم ذكر المؤلف رحمه الله قول الله تعالى والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا الذين مبتدأ فقد احتملوا خبره المعنى أن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسب المؤمن والمؤمنة اللذين أوذيا فقد احتملوا بهتانا أي كذبا وإثما مبينا أي عقوبة والعياذ بالله وهذا يشمل كل أذية سواء كان في القول أو في الفعل وكلما كان الإنسان أحق بالإكرام كانت أذيته أعظم وأكبر إثما فأذية القريب ليست كأذية البعيد وأذية الجار ليست كأذية غير الجار وأذية من له حق عليك ليست كأذية من لا حق له عليك المهم أن الأذية تتفاوت(6/218)
أثمها وجرمها بحسب المؤذي والعجب أن كثيرا من المسلمين اليوم يؤذون جيرانهم بالمضايقات والاطلاع على عوراتهم وغير ذلك وهذا من أعظم ما يكون من الإثم قال النبي صلى الله عليه وسلم والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن - ثلاث مرات - قالوا من يا رسول الله؟ قال الذي لا يأمن جاره بوائقه يعني ظلمه وغشمه وقوله تعالى: {بغير ما اكتسبوا} يفهم منها أنه إذا أوذي المؤمن بما اكتسب فليس في ذلك بأس يعني لو آذيت إنسانا ردا على فعل له آذاك فأذيته فلا بأس أو آذى إنسانا لإقامة حد لله عز وجل أو آذى لأداء حق عليه أبى أن يقوم به فلا بأس بل قد أمر الله تعالى باللذين يأتيان الفاحشة فقال: {واللذان يأتيانها منكم فئاذوهما} فأمر بإيذائهما {تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} وهذا قبل أن يشرع قتل الفاعل والمفعول به في اللواط كان اللوطي في الأول لا يجلد ولا يقتل لكن يؤذى حتى يتوب ثم أمر الله تعالى بقتل الفاعل والمفعول به على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وأجمع الصحابة على ذلك ثم ذكر المؤلف حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر وهذا يدل على أن الفسق أهون من الكفر لأنه جعل السب فسوقا وجعل القتل كفرا المقاتلة جعلها كفرا فعلى هذا إذا سب المسلم أخاه صار هذا الساب فاسقا لا تقبل شهادته ولا يجعل له ولاية ولا على بنته لا يزوج ولا ابنته لأنه صار فاسقا ولا يصح أن يكون إماما للمسلمين، ولا(6/219)
يصح أن يكون مؤذنا هكذا قال كثير من العلماء رحمهم الله وفي بعض المسائل هذه خلاف لكن المهم أن من سب أخاه فإنه يفسق أما من قاتله فإنه يكفر إن استحل المقاتلة بغير حق فهو كافر كفرا مخرجا عن الملة وإن لم يستحلها ولكن لهوى في نفسه فإن يكون كافرا لكنه كفر لا يخرج من الملة والدليل على ذلك قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} فجعل الله الطائفتين المقتتلتين إخوة للطائفة المصلحة وهذا يدل على أنهما لا يخرجان من الإيمان لكنه كفر دون كفر والله الموفق
1560 - وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يرمي رجل رجلا بالفسق أو الكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك رواه البخاري
1561 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: المتسابان ما قالا فعلى البادي منهما حتى يعتدي المظلوم رواه مسلم(6/220)
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين في باب تحريم سباب المسلم بغير حق عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من دعى أخاه بكفر أو فسق عاد عليه ما لم يكن صاحبه كذلك يعني إذا قلت لإنسان أنت فاسق أو يا فاسق صرت أنت الفاسق إلا إذا كان هو كذلك وهكذا من كفر أحدا وقال أنت كافر أو يا كافر وليس كذلك صار القائل هو الكافر وفي هذا دليل على أن هذا من كبائر الذنوب لأن النبي صلى الله عليه وسلم توعد هذا القائل أن يكون هو الذي يتصف بهذه الصفة وعلى هذا فلا يحل للإنسان أن يقول لأخيه المؤمن يا فاسق أو يقول فلان فاسق إلا إذا كان كذلك وأراد أن يحذر منه فلا بأس وكذلك لا يقول له يا كافر أو يقول فلان كافر فإنه لا يحل له ذلك ما لم يكن هكذا وفيه التحذير من تكفير المسلمين بغير دليل شرعي خلافا لما يتجاسر به بعض الناس والعياذ بالله يكفر على أدنى شيء يقول هذا كفر وهذا فسق وما أشبه ذلك وأما الحديث الثاني فهو عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المتسابان ما قالا فعلى البادي منهما المتسابان مبتدأ ما مبتدأ ثاني فعلى البادي خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر المبتدأ الأول والمعنى أن المتسابان إذا تسابا وتشاتما بكلام سيئ فإن الإثم على البادي منهما ما قالا(6/221)
فعلى البادي منهما ما لم يعتد المظلوم فإن اعتدى صار عليه الإثم وفي هذا دليل على أنه يجوز للإنسان أن يسب صاحبه بمثل ما سبه به ولا يتعدي ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: لعن الله من لعن والديه قالوا: يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه فدل هذا على أن الإنسان إذا كان سببا للشر فإنه يناله من شره ما قال فعلى البادئ منه ما لم يعتد المظلوم فإن اعتدى فعليه وإن أخذ بحقه بدون زيادة فليس عليه شيء والله الموفق
1562 - وعنه قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب قال: اضربوه قال أبو هريرة فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه فلما انصرف قال بعض القوم أخزاك الله قال: لا تقولوا هذا لا تعينوا عليه الشيطان رواه البخاري
[الشَّرْحُ]
هذه بقية الأحاديث في باب تحريم سب المسلم بغير حق وقد سبق حديثان حديث ابن مسعود وحديث أبي هريرة رضي الله عنهما في هذا الموضوع أما الحديث الثالث فهو عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد شرب يعني قد شرب الخمر وذلك بعد أن نزل تحريمها والخمر كل ما أسكر فهو خمر سواء كان من العنب أو من التمر أو من الشعير أو من البر أو من غير ذلك كل ما أسكر فهو خمر قال النبي صلى الله عليه وسلم:(6/222)
كل مسكر خمر وكل مسكر حرام والإسكار هو تغطية العقل على وجه اللذة والطرب ليس مجرد تغطية العقل ولهذا البنج ليس مسكرا وإن كان يغطي العقل والمبنج لا يدري ماذا حصل له لكن الخمر نسأل الله العافية يجد الإنسان من السكر لذة وطربا ونشوى حتى يتصور أنه ملك من الملوك وأنه فوق الثريا وما أشبه ذلك كما قيل في هذا:
ونشربها فتتركنا ملوكا
وكما قال حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه لابن أخيه النبي صلى الله عليه وسلم حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكران فتكلم معه فقال له حمزة وهو سكران هل أنتم إلا عبيد أبي وهذه كلمة بشعة لكنه سكران والسكران لا يؤاخذ بما يقول وهذا قبل أن ينزل تحريم الخمر وكان الخمر على أربع مراحل: المرحلة الأولى إباحة أن الله أباحه للعباد إباحة طيبة فقال تعالى: ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا يعني تشربونه فتسكرون وتتجرون به فتحصلون رزقا المرحلة الثانية تعريض الله تعالى بتحريمه وقال تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} ولم ينه عنهما(6/223)
في هذه المرحلة الثانية المرحلة الثالثة قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} فنهى عن قربان الصلاة في حال السكر وهذا يقتضي أنه يباح شرب الخمر في غير أوقات الصلاة المرحلة الرابعة: التحريم البائن قال تعالى في سورة المائدة وهي من آخر ما نزل قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} فاجتنبه الناس لكن لما كانت النفوس تدعوا إليها إلى الخمر وشربها جعل لها رادع يردع الناس عن شربها وهو العقوبة ولم يقدر لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فعقوبة الشارب ليست حدا لكنها تعزير ولهذا جيء برجل شرب الخمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم اضربوه ولا قال أربعين ولا ثمانين ولا مائة ولا عشرة فقاموا يضربونه منه الضارب بثوبه ومنهم الضارب بيده ومنهم الضارب بنعله لكن ضربوه نحو أربعين جلدة فلما انصرفوا وانصرف الرجل قال رجل من القوم: أخزاه الله يعني أذله وفضحه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقل هكذا لا تدع عليه بالخزي رجل شرب مسكرا وجلد وتطهر بالجلد لا تعينوا عليه الشيطان فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يسبوه مع أنه شارب خمر إذا ما موقفنا من شارب الخمر موقفنا أن ندعوا له بالهداية قل اللهم اهده اللهم أصلحه اللهم أبعده عن هذا وما أشبه ذلك أما أن تدعوا عليه فإنك تعين عليه الشيطان وفي هذا دليل على أن الخمر محرم وأن عليه عقوبة(6/224)
لكن في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه انتشرت الفتوحات ودخل في دين الإسلام أناس جدد وكثر شرب الخمر في عهده وكان رضي الله عنه رجلا حازما ناهيك به فأراد أن يعاقب شارب الخمر بعقوبة تكون أشد وأردع إلا أنه رضي الله عنه لورعه وتحرزه جمع الصحابة أي جمع ذوي الرأي وليس المراد كل الصحابة لأن السوقة وعامة الناس لا يصلحون لمثل هذه الأمور ولا لأمور السياسة وليس لعامة الناس أن يلوكوا ألسنتهم بسياسة ولاة الأمور السياسة لها أناس والصحون والقدور لها أناس آخرون ولو أن السياسة صارت تلاك بين ألسن عامة الناس فسدت الدنيا لأن العامي ليس عنده علم وليس عنده عقل وليس عنده تفكير وعقله وفكره لا يتجاوز قدمه ويدل لهذا قول الله تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به} ونشروه قال تعالى: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} دل هذا على أن العامة ليسوا كأولي الأمر وأولي الرأي والمشورة فليس الكلام في السياسة من المجالات العامة ومن أراد أن تكون العامة مشاركة لولاة الأمور في سياستها وفي رأيها وفكرها فقد ضل ضلالا بعيدا وخرج عن هدي الصحابة وهدي الخلفاء الراشدين وهدي سلف الأمة فالمهم أن عمر بن الخطاب لحزمه جمع ذوي الرأي من الصحابة وقال لهم ما معناه (كثر شرب الخمر) وإذا قل الوازع الديني يجب أن يقوى الرادع السلطاني يعني إذا ضعف الأمر من الناحيتين الوازع الديني والرادع السلطاني فسدت الأمة فاستشارهم ماذا يصنع فقال عبد الرحمن بن عوف يا أمير المؤمنين أخف الحدود ثمانون جلدة ارفع العقوبة إلى ثمانين جلدة ويشير رضي الله عنه أعني عبد الرحمن إلى حد القذف فإن الله تعالى قال: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم(6/225)
ثمانين جلده} هذا أخف الحدود فرجع عمر رضي الله عنه عقوبة شارب الخمر إلى ثمانين وهذا كالنص الصريح على أن عقوبة شارب الخمر ليست حدا بل هي صريح لأنه قال: أخف الحدود ثمانين ووافقه الصحابة على هذا ولم يقل عمر رضي الله عنه: أنه ليس كذلك فرفعه عمر وجعل ذلك ثمانين جلدة من أجل أن يرتدع الناس وقد جاء في السنة أن شارب الخمر إذا شرب فجلد ثم شرب فجلد ثم شرب فجلد ثم شرب الرابعة فإنه يجب قتله هكذا جاء في السنة وأخذ بظاهره الظاهرية وقالوا شارب الخمر إذا جلد فإنه يقتل في الرابعة لأنه أصبح عنصرا فاسدا لم ينفع فيه الإصلاح والتقويم وقال جمهور العلماء لا يقتل بل يكرر عليه الجلد كلما شرب جلد وتوسط شيخ الإسلام رحمه الله فقال: إذا كثر شرب الخمر في الناس ولم ينته الناس بدون القتل فإنه يقتل في الرابعة وهذا قول وسط روعي فيه الجمع بين المصلحتين مصلحة ما يدل عليه بعض النصوص الصريحة لأن عمر لم يرفع العقوبة إلى القتل مع أنه يقول إن الناس كثر شربهم وبين هذا الحديث الذي اختلفت الناس في صحته وفي بقاء حكمه هل هو منسوخ أو غير منسوخ وهل هو صحيح أو غير صحيح فعلى كل حال فالذي اختاره شيخ الإسلام هو عين الصواب أنه إذا كثر شرب الناس والخمر ولم ينته الناس بدون قتل فإنه يقتل الشارب في الرابعة وليت ولاة الأمور يعملون هذا العمل ولو عملوا هذا العمل لحصل خير(6/226)
كثير واندرأ شر كثير وقل شرب الناس للخمر الذي بدأ ينتشر والعياذ بالله وفي بعض البلاد الإسلامية انتشر كانتشار الشراب المباح كعصير الليمون وعصير البرتقال وما أشبه ذلك وهذا لا شك أنه مظهر غير مظهر المسلمين وأنه استباحة له في الواقع كونه يصبح منشورا بين الناس يفتح الإنسان الثلاجة ويشرب الخمر والعياذ بالله هكذا كأنه استباحه وهذا ينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف فإن الناس الآن تقاسموا هذه الأشياء الأربعة منهم من انتشر في شعوبهم الزنا واللواط والعياذ بالله وصار عندهم مباحا يذكر لنا أنه في بعض البلاد إذا نزلت الطائرة وإذا في المطار فتيات وفتيان يقالون للنازل ما تريد؟ جميلة غير جميلة شابة غير شابة؟ الحر يعني الزنا أو اللواط وفي بعض البلاد الخمر منتشر يباع في الأسواق ويشرب ليلا ونهارا وكأنه شراب حلال وفي بعض البلاد ولاسيما في المتوفين من رعيتهم نجد الرجل كالمرأة يلبس الحرير واللين من الثياب وربما يلبس حلي الذهب قلادة خاتم أو ما أشبه ذلك والمعازف الآن حدث ولا حرج المعازف منتشرة في غالب بلاد الإسلام إن لم أقل في كل بلاد الإسلام فقد انتشرت والعياذ بالله المعازف بجميع أنواعها فنسأل الله السلامة والهداية وأن يصلح ولاة الأمور ورعاياهم إنه على كل شيء قدير(6/227)
1562 - وعنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال متفق عليه.
1563 - وعنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف الإمام النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب تحريم سباب المسلم بغير حق.
ساق أحاديث وقبلها آية، والحديث الأخير عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال المملوك هو العبد يملكه الإنسان، والمملوك كالسلعة يباع ويشترى ويوهب، ويرهن ويوقف إلا أن أحكام الله عز وجل هو والحر عل حد سواء في غير الأمور المالية.
والسيد مالك للرقيق لعينه يعني رقبته ولمنافعه، فإذا قذف عبده بأن قال للعبد: يا زاني أو يا لوطي، أو ما أشبه ذلك من كلمات القذف فإنه لن يحد في الدنيا؛ لأنه سيد، والعبد مملوك، لكن يقام عليه في دار عذابها أشد والعياذ بالله وهي الدار الآخرة يقام عليه الحد يوم القيامة وعلى هذا فيكون قذف المملوك من كبائر الذنوب لأنه رتب عليه عقوبة في الآخرة وكل شيء رتب عليه عقوبة في الآخرة فإنه يكون من كبائر الذنوب، كما قال أهل العلم رحمهم الله في حد الكبيرة.
وأما لو زنى المملوك حقيقة وقذفه سيده بذلك فإنه لا حد عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إلا أن يكون كذلك يعني كما قال ولكن(6/228)
متى يكون كما قال؟ يكون بأن يشهد عليه أربعة.
أربعة رجال عدول بأنه زنى ويصرحون بذكر حقيقة الوطء أو يقر هو بنفسه على نفسه فحينئذ يرتفع الحد عن السيد.
وأعلم أن الرقيق إذا زنى فإن عليه نصف حد الحر كما قال الله تبارك وتعالى: فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة يعني الإماء {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} والذي يتنصف من عذاب المحصنات هو الجلد فيكون على الرقيق إذا زنى خمسون جلدة فقط قال العلماء ويسقط عنه التغريب، لأن الزاني الحر إذا زنى وهو غير محصن فإنه يجلد مائة جلدة ويطرد عن البلد عاماً كاملا أما الرقيق فأنه يجلد خمسين جلدة ولا يغرب لأن التغريب إضرار بسيده فيكون من باب تحميل الإنسان ما لم يحتمله، وللسيد أن يقيم على عبده الحد إذا زنى لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها فأمر السيد أن يجلدها أما الحر فإنه لا يتولى جلده إلا الإمام أو نائبه حتى لو كان ابنك وزنى وهو بالغ عاقل فإنه لا يتولى إقامة الحد عليه إلا الإمام أو نائبه وكذلك لو زنى أخوك بعد بلوغه وهو عاقل فإنه لا يقيمه إلا الإمام أو نائبه أما السيد فيقيمه على عبده خاصة في الجلد وأما لو سرق العبد فالسرقة فيها قطع اليد ولا يتولى قطع اليد إلا الإمام أو نائبه ولهذا قال العلماء: إن السيد لا يقيم الحد على عبده إلا إذا كان الحد جلداً والله أعلم(6/229)
باب تحريم سب الأموات بغير حق أو مصلحة شرعية وهو التحذير من الاقتداء به في بدعته وفسقه، ونحو ذلك، وفيه الآية والأحاديث السابقة في الباب قبله.
1564 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا رواه البخاري:
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتاب (رياض الصالحين) : باب تحريم سب الأموات بغير حق أو مصلحة شرعية.
الأموات يعني الأموات من المسلمين، أما الكافر فلا حرمة له إلا إذا كان في سبه إيذاء للأحياء من أقاربه فلا يسب وأما إذا لم يكن هناك ضرر فإنه لا حرمة له وهذا هو معنى قول المؤلف رحمه الله: بغير حق لأننا لنا الحق أن نسب الأموات الكافرين الذين آذوا المسلمين وقاتلوهم ويحاولون أن يفسدوا عليهم دينهم.
أو مصلحة شرعية مثل أن يكون هذا الميت صاحب بدعة ينشرها بين الناس فهنا من المصلحة أن نسبه ونحذر منه ومن طريقته لئلا يغتر الناس به.(6/230)
ثم استدل على ذلك بحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تسبوا الأموات والأصل في النهي التحريم فلا نسب الأموات، ثم علل وقال: فإنهم أفضوا إلى ما قدموا.
وسبكم إياهم لا يغني شيئاً لأنهم أفضوا إلى ما قدموا حين انتقلوا إلى دار الجزاء من دار العمل فكل من مات فإنه أفضى إلى ما قدم والتحق بدار الجزاء وقامت قيامته أفضى وانقطع عمله ولم يبق له حظ من العمل إطلاقا إلا ما دلت السنة عليه مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعوا له وفي هذا دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يحفظ لسانه عما لا فائدة منه فإن هذا طريق أهل التقى فإن عباد الرحمن إذا مروا باللغو مروا كراماً.
وأما الزور فلا يشهدونه إطلاقا ولا يتكلمون إلا بالحق.
والله الموفق(6/231)
باب النهي عن الإيذاء
قال الله تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا}
1565 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه متفق عليه.
1566 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتي إليه رواه مسلم وهو بعض حديث طويل سبق في باب طاعة ولاة الأمور.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتاب (رياض الصالحين) : باب تحريم الإيذاء بغير حق.
الإيذاء يشمل الإيذاء بالقول والإيذاء بالفعل والإيذاء بالترك، أما الإيذاء بالقول فأن يسمع أخاه كلاماً يتأذى به وإن لم يضره، فإن ضره كان أشد إثماً(6/232)
والإيذاء بالفعل أن يضايقه في مكانه، في جلوسه، في طريقه، وما أشبه ذلك.
والإيذاء بالترك أن يترك شيئاً يحتار منه أخوه المسلم فيتأذى به وإن كان لابد كل هذا محرم وعليه هذا الوعيد الشديد وهو قول الله تعالى: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتناً وإثماً مبيناً احتملوا يعني تحملوا على أنفسهم البهتان وهو الكذب والإثم المبين وهو العقوبة العظيمة نسأل الله العافية.
وفي قول الله تعالى: {بغير ما اكتسبوا} دليل على أن لو أذي الإنسان باكتسابه أي على عمل حق أن يؤذي عليه فإنه لا بأس به كما في قوله تعالى: {واللذان يأتينها منكم فئاذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} وكان هذا في أول الأمر أن اللوطية والعياذ بالله يؤذي صاحبه حتى يتوب ثم بعد ذلك ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أجمع الصحابة على أن فاحشة اللواط يقتل فيها الفاعل والمفعول به ولكنهم اختلفوا كيف يقتل؟ فبعضهم قال: يرجم، وبعضهم قال: يلقى من أعلى شاهق في البلد ثم يلقى بالحجارة، وبعضهم قال: يحرق بالنار نسأل الله العافية.
فالمهم أن الإيذاء بحق لا بأس به ومن ذلك أن يكون الرجل يكره الحق ويكره الخير فتفعل الحق فيتأذى به فهنا تأذى بحق؛(6/233)
لأن بعض الناس والعياذ بالله يتأذى إذا رأى رجلا متمسكا بالسنة ثم ذكر حديثين أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه المسلم من سلم المسلمون من لسانه فلا يلعنهم ولا يسبهم ولا يشتمهم ولا يغتابهم ولا ينم فيهم، كل آفات اللسان المتعلقة بالخلق قد كفها فسلم الناس منه، وسلم المسلمون من يده أيضا لا يعتدي عليهم بضرب ولا سرقة ولا إفساد مال ولا غير ذلك، هذا هو المسلم وهذا ليس المراد بذلك أنه ليس هناك مسلم سواه ولكن المعنى أن هذا من الإسلام وإلا فإن المسلم من استسلم لله تعالى ظاهراً وباطناً لكن أحيانا يأتي مثل هذا التعبير من أجل الحث على هذا العمل وإن كان يوجد سواه.
والمهاجر: من هجر ما نهى الله عنه.
ومعلوم أن المهاجر من خرج من بلد الكفر إلى بلد الإسلام ليقيم دينه لكن تأتي الهجرة بمعنى آخر وهي أن يهجر الإنسان ما نهى الله عنه فلا يقول قولاً محرماً ولا يفعل فعلاً محرماً ولا يترك واجباً بل يقوم بالواجب ويدع المحرم، هذا المهاجر؛ لأنه هجر ما نهى الله عنه.
أما الحديث الثاني فهو قول النبي صلى الله عليه وسلم من أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته، وهو يؤمن بالله واليوم الأخر، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه فقوله: من أحب هذا الاستفهام للتشويق وإلا فكل واحد يحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة؛ لأن من زحزح عن النار وأدخل الجنة(6/234)
فقد فاز، فمن أحب ذلك فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر.
وبناء على هذا ينبغي للإنسان أن يكون دائما على ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر وتذكره، لأنه لا يدري متى يأتيه الموت فليكن دائما نصب عينيه الإيمان بالله واليوم الأخر فالإنسان إذا آمن بالله عز وجل وبمقتضى أسمائه وصفاته وآمن باليوم الأخر وما فيه من الثواب والعقاب فلابد أن يستقيم على دين الله وهذا حق الله أعني قوله: وهو يؤمن بالله واليوم الآخر أما حق الآدمي فقال: وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه فلا يؤذيهم؛ لأنه لا يحب أن يؤذوه ولا يعتدي عليهم لأنه لا يحب أن يعتدوا عليه، ولا يشتمهم لأنه لا يحب أن يشتموه وهلم جرا لا يغشهم في البيع والشراء وغير ذلك ولا يكذب عليهم لأنه لا يحب أن يفعل به ذلك وهذه قاعدة لو أن الناس مشوا عليها في التعامل فيما بينهم لنالوا خيراً كثيراً ويشبه هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه والله الموفق(6/235)
باب النهي عن التباغض والتقاطع والتدابر
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله تعالى في كتابه (رياض الصالحين) : باب النهي عن التباغض والتقاطع والتدابر.
التباغض بالقلوب، والتقاطع بالأفعال والأقوال أيضاً، والتدابر بالأفعال أيضا، أما التباغض بالقلوب فأن يبغض الإنسان أخاه المؤمن، وهذا أعني بغض المؤمن حرام، لأي شيء تبغضه؟ ! قد يقول أبغضه لأنه يعصي الله عز وجل فنقول: وإذا عصى الله لا تبغضه بغضاً مطلقاً الذي أبغضه بغضاً مطلقاً على حال هو الكافر لأنه ليس فيه خير، أما المؤمن وإن عصى وإن أصر على معصية يجب أن تحبه على ما معه من الإيمان وأن تكرهه على ما معه من الفسق والعصيان.
فإن قال إنسان: كيف يجتمع البغض والحب؟ قلنا: يجتمعان؛ لأن كل واحد منهم منصب على وجه لم يتفقا في محل واحد، أحبه لإيمانه، وأكرهه لفسوقه.
نظير ذلك المريض، يعطى دواء مراً رائحته كريهة فيحب هذا الدواء من وجه ويكرهه من وجه، يحبه لما فيه من الشفاء ويكره لطعمه أو رائحته أو ما أشبه ذلك، وكذلك المؤمن أنت وهو في أصل واحد وهو الإيمان لماذا تبغضه بغضاً مطلقاً أبغضه على ما معه من المعصية، لا بأس وأحبه على ما معه من الإيمان، وهذا يؤدي - أعني إذا أحببته لما معه من الإيمان وكرهته لما معه من الفسق - إلى أن تنصحه لأنك تثق أنه أخوك فتحبه وتؤدي له ما تؤدي لنفسك فتنصحه على ما تكره فيه من المعصية.
ومن ذلك السلام عليه، سلم عليه ولو كان عنده معصية إلا إذا علمت أنك إذا(6/236)
تركت السلام عليه اهتدى وصلحت أموره فهنا يكون الهجر دواء نافعاً.
وأما التقاطع وهو تقاطع الصلة بينك وبين أخيك، أخوك المؤمن له حق عليك أن تصله ولا يحل لك أن تقطعه لأنه أخوك حتى وإن كان عاصياً ولذلك تجد الإنسان يكرم جاره ولو كان جاره عاصياً يكرمه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره أكرمه ولو كان عاصياً ولكن انصحه، وكذلك بعض الناس يقاطع أقاربه لأنهم قطعوه أو لأنهم على معصية وهذا خطأ، صل أقاربك ولو كانوا عصاة، صلهم ولو كانوا يقاطعونك كما جاء رجل للرسول صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله إن لي رحماً أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عليهم وقال كلمة أخرى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن كان الأمر كما قلت فكأنما تسفهم المل.
يعني كأنما تدخل في قلوبهم الرماد أو التراب الحار، يعني فاستمر على صلتهم ولو كانوا يقطعونك ولو كانوا يسيئون إليك ولو كانوا يعتدون عليك، صلهم لأن من لا يصل إلا إذا وصل فليس بواصل بل هو مكافئ.
التدابر: أيضا لا يحل بين المؤمنين، لكن هل هو التدابر في القلوب أو التدابر في الأبدان أو هذا وهذا؟ إنه هذا وهذا، لا تدابروا في القلوب حتى لو وجدت من أخيك أنه أدبر عنك بقلبه فاقرب منه وأقبل عليه ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم(6/237)
لو طبقنا هذه التوجيهات الإلهية والنبوية لحصل لنا خير كثير لكن الشيطان يلعب بنا يقول كيف تصله وهو يقطعك؟ كيف تقبل عليه وهو يدبر عنك؟ اتركه، هذا ما فيه خير.
هذا من وحي الشيطان، أما الله عز وجل والنبي صلى الله عليه وسلم فإن نصوص الكتاب والسنة كلها تحرم التدابر، كذلك التدابر بالأبدان بعض الناس لا يهمه أن يصعر وجهه للناس وإن يعرض ربما يكون من كبريائه يتكلم معك ووجهه لجانب آخر نسأل الله العافية هذا لا يحل، بعض الناس أيضا كالبهائم تجدهم جلوسا في مكان واحد، يدير للثاني دبره وظهره، هذا ليس أدبا: لا أدبا شرعيا ولا أدبا عربيا ولا خلقا، تجلسون معا كل واحد يدابر الثاني، إن الله وصف أهل الجنة بأنهم على سرر متقابلين، التقابل صفة حميدة طيبة، والتدابر صفة ذميمة خبيثة، لكن بعض الناس همج ليس عندهم تربية إسلامية وتجدهم في المجالس متدابرين، هذا خطأ.
ومما يشبه هذا الفعل ما يفعله بعض الناس إذا سلم من الصلاة وهو في الصف تقدم وجعل الناس وراءه استقبلهم بدبره وفي ظني أنه يتخيل في تلك اللحظة أنه ذو عظمة وأن الناس وراءه لأني ما أظن أحداً يتقدم هذا التقدم إلا ويشعر - وإن كان من غير قصد - بالعظمة ولقد رأيتموني أنهي عنه إذا وجدت إنسانا تقدم أقول له: ارجع لأن هذا يشبه التدابر.
فإذا قال: ضاق علي المكان ولا أستطيع أن أبقى مفترشا.(6/238)
قلنا: يا أخي، الأمر واسع، والحمد لله، قم تقدم وكن على الجدار وافعل ما شئت أو تأخر، أما أن تتقدم على الناس وتكون بين أيديهم والناس وراءك هذا لا ينبغي.
هذه ثلاثة أشياء: الأول التباغض، والثاني التقاطع، والثالث التدابر، كل هذا منهي عنه.
قال الله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} وقال تعالى: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} وقال تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} :
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله في كتاب (رياض الصالحين) : باب النهي عن التباغض والتقاطع والتدابر وسبق معنا هذا ثم استدل المؤلف رحمه الله على ذلك بقول الله تعالى: إنما المؤمنون إخوة وهذه الآية في سياق ذكر الطائفتين تقتتلان فتصلح بينهما طائفة أخرى فقال تعالى {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} وسياق الآيات يقول الله عز وجل: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} يعني لو اقتتلت طائفتان من المسلمين، قبيلتان اقتتلتا فيما بينهما(6/239)
فأصلحوا بينهما والخطاب لمن له الأمر من المؤمنين الذين لم يقاتلوا فإن بغت إحداها على الأخرى وأبت أن تصالح فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله يعني كونوا مع الطائفة العادلة التي ليست باغية قاتلوا الباغية حتى تفيء إلى أمر الله، أي حتى ترجع إليه، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل أي فيما جرى بينهم من إتلاف أنفس أو أموال أو غير ذلك فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين، فيقال مثلا: كم قتلتم من نفس؟ لطائفة منهما، وللأخرى كذلك، ثم يعادل بينهما ويصلح بينهما.
كم أتلفتم من مال ويمضي فيعادل بينهما ويصلح بينهما.
ثم قال عز وجل: {فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} أي الذين يعدلون فيما ولاهم الله عليه إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم، المؤمنون كلهم إخوة حتى الطائفتين المقتتلتين هم إخوة للذين أصلحوا بينهما وفي هذه الآية رد صريح لقول الخوارج الذين يقولون: إن الإنسان إذا فعل الكبيرة صار كافرا؛ فإنه من أكبر الكبائر أن يقتتل المسلمون بينهم ومع ذلك قال الله في المقتتلين وفي التي أصلحت بينهما {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} فإذا كان الله تعالى أوجب الإصلاح بين المتقاتلين فكذلك أيضا بين المتعادين عداء دون قتل، يجب على الإنسان إذا علم أن بين اثنين عداوة وبغضاء وشحناء وتباعدا أن يحاول الإصلاح بينهما.
وفي هذه الحال يجوز أن(6/240)
يكذب للمصلحة فيقون مثلا لأحدهم: إن فلانا لم يفعل شيئا يضرك وما أشبه ذلك ويتأول شيئا آخر غير الذي أظهره لهذا الرجل حتى يتم الصلح بينهما، والصلح خير.
أما الآية الثانية فهي قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} يعني أنكم لو ارتدتم عن دينكم فإن ذلك لا يضر الله شيئا يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه لقيامهم بعبادته واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لأن من أقوى أسباب محبة الله للعبد أن يتبع الرسول كما قال الله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} فأنت إذا أحببت أن الله يحبك فأتبع الرسول الطريق بين واضح يقول الله عز وجل {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} وهذا هو وصف المؤمن حقا أنه بالنسبة لإخوانه المسلمين ذليل متواضع متهاون ومتسامح، أما على الكافرين فهم أعزة على الكافرين يعني أنهم أقوياء أمام الكافر لا يلينون له ولا يداهنونه ولا يوادنه، كل هذا بالنسبة للكافر حرام على المؤمن لا يجوز للمؤمن أن يواد الكافر، ولا يجوز له أن يذل له؛ لأن الله تعالى جعل له دينا يعلو على الأديان كلها بل يجب علينا أن نبغض الكفار وأن نعتبرهم أعداء لنا وأن نعلم أنهم لن يفعلوا بنا شيئا هو مصلحتنا إلا لينالوا ما هو أشد مما نتوقع من الإضرار بنا لأنهم أعداء، والعدو ماذا يريد أن يفعل بك؟ يريد أن يفعل بك كل سوء وإن تظاهر(6/241)
بأنه صديق أو بأنه ولي لك فهو كاذب، إنما يفعل لمصلحته لأنه لا أحد أصدق من الله عز وجل وهو يعلم ما في الصدور يقول الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} ويقول جلا وعلا: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} ويقول عز وجل: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} محال أن يرضوا عن المسلمين إلا إذا تهودوا أو تنصروا، ولهذا هم الآن يحاولون بكل ما يستطيعون أن يصدوا الناس عن دينهم تارة بالأخلاق السافلة، وتارة بالمجلات، وتارة بالدعاية الخبيثة، وتارة بالصراحة يدعون إلى الكفر كما قال عز وجل: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين} فيقول عز وجل في وصف هؤلاء: {أذلة على المؤمنين} وهذا هو الشاهد {أعزة على الكافرين} وقال تعالى في الآية الثالثة: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} هذا وصف الرسول صلى الله عليه وسلم (محمد رسول الله والذين معه) يعني أصحابه وصفهم أشداء على الكفار أقوياء على الكفار لا يلينوا لهم ولا يداهنونهم ولا يوالونهم ولا يوادونهم لكن فيما بينهم {رحماء بينهم} يرحم بعضهم(6/242)
بعضا، ويلين بعضهم لبعض، وهذا هو حال المؤمنين، ضد ذلك نقص في الإيمان من لا يرحم إخوانه المؤمنين فإن ذلك نقص في إيمانه وربما يحرم الرحمة، لأن من لا يرحم لا يرحم والعياذ بالله وأيضا مثل ذلك التباغض، احرص على أن تزيل كل سبب يكون سببا للبغضاء بينكم أنتم المسلمون كافة التباغض بعض الناس يبغض أخاه من أجل لعاعة من الدنيا، إما لأجل مال، أو من أجل أنه لا يقابله ببشاشة أو ما أشبه ذلك، هذا خطأ حاول أن تزيل البغضاء بينك وبين إخوانك بقدر المستطاع وحاول أن تبتعد عن كل شيء يثير العداوة والبغضاء لأنكم إخوة نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما فيه خير وصلاح
1567 - وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث متفق عليه.
:
[الشَّرْحُ]
لما ذكر المؤلف رحمه الله الآيات الدالة على تحريم التباغض والتقاطع والتدابر ذكر أحاديث منها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن(6/243)
النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تباغضوا، ولا تناجشوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا هذه أربعة أشياء نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم: الأول: التباغض نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لو وقع في قلبك بغض لإنسان فحاول أن ترفع هذا عن قلبك وانظر إلى محاسنه حتى تمحوا سيئاته وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا حيث قال: لا يفرك مؤمن مؤمنة يعني لا يبغض المؤمن المؤمنة يعني زوجته أو أخته أو أمه ولكن يراد الزوجة هنا لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقا رضي منها خلقاً آخر، وهذا من الموازنة بين الحسنات والسيئات، بعض الناس ينظر إلى السيئات والعياذ بالله فيحكم بها وينسى الحسنات، وبعض الناس ينظر للحسنات وينسى السيئات، والعدل أن يقارن الإنسان بين هذا وهذا، وأن يميل إلى الصفح والعفو والتجاوز؛ فإن الله تعالى يحب العافين عن الناس، فإذا وجدت في قلبك بغضاء لشخص فحاول أن تزيل هذه البغضاء وذكر نفسك بمحاسنه ربما يكون بينك وبينه سوء عشرة أو سوء معاملة لكنه رجل فاضل طيب محسن إلى الناس يحب الخير، تذكر هذه المحاسن حتى تكون المعاملة السيئة التي يعاملك بها مضمحلة منغمرة في جانب الحسنات.
كذلك أيضا لا تناجشوا، المناجشة: الزيادة في الثمن بغير إرادة الشراء، مثلا رأيت سلعة ينادي عليها في السوق، ثمنها مثلاً مائة ريال، وهو يريد شراءها فناجشت عليه وقلت: بمائة وعشرة، وأنت لا تريدها، ولكن تريد أن يزيد الثمن على المشتري هذا حرام عدوان.
أما لو كنت رأيت السلعة رخيصة بمائة(6/244)
وزدت مائة وعشرة وأنت من الأول ما عندك نية لشرائها لكن استرخصتها فزدت حتى بلغت الثمن الذي لا ترى فيه مصلحة لك ثم تركتها، هذا لا بأس به لكن إذا كان قصدك العدوان على المشتري وأن تنكد عليه وتزيد عليه الثمن فهذا هو النجش وكذلك لو زدت السلعة من أجل نفع البائع وهو لا يعرف المشتري، وليس بينه وبينه شيء، لكن يريد أن ينتفع البائع فزاد في الثمن وهو لا يريد الشراء وإنما يريد نفع البائع، فمثلا قيمة السلعة بمائة، فقال: بمائة وعشرة لا إضرارا بالمشتري لأنه لا يعرفه وليس بينه وبينه شيء لكن من أجل نفع البائع، هذا أيضا حرام لا يجوز وهو من المناجشة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك أيضا إذا أراد الأمرين يعني أراد أن ينفع البائع ويضر المشتري فهذا أيضا حرام وهو من النجش الذي حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولا تدابروا: سبق الكلام عليه.
ولا تقاطعوا: يعني لا يقطع أخ أخاه، بل يواصله بحسب العرف وبحسب السبب الداعي للصلة، لأن القريب تصله لقربه، الجار لجيرته، الصاحب لصحبته، وهكذا لا تقاطع أخاك، صله فإن الله تعالى يحب الواصلين الذين يصلون أرحامهم ولا يحل لأحد أن يهجر أخاه فوق ثلاث، الهجر من التقاطع، يعني يلقاه لا يسلم عليه هذا حرام حرام، إلا أن الشارع النبي صلى الله عليه وسلم رخص لك ثلاثة أيام لأن الإنسان ربما يكون في نفسه شيء لا يعفو على(6/245)
واحد يهجره له رخصة ثلاثة أيام بعد الأيام الثلاثة لا يجوز أن يلقاه فلا يسلم عليه إلا إذا كان على معصية إذا هجرناه تركها فنهجره للمصلحة وهذا كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا وتخلفوا عن غزوة تبوك وإلا فالأصل أن الهجر حرام، وأما قول بعض العلماء هو إطلاقهم أن المجاهر بالمعصية يهجر فهذا فيه نظر فصار عندنا الهجر إلى ثلاثة جائز، فوق الثلاث فهو حرام إلا للمصلحة والله الموفق
1568 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا رواه مسلم وفي رواية له: تعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين وذكر نحوه:
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث ذكره المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب تحريم التباغض والتقاطع والتدابر عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تفتح أبواب الجنة في كل يوم اثنين وخميس فيغفر لكل مسلم إلا رجلين بينهما(6/246)
شحناء فيقال: انظروا هؤلاء حتى يصطلحا فدل ذلك على أنه يجب على الإنسان أن يبادر بإزالة الشحناء والعداوة والبغضاء بينه وبين إخوانه حتى وإن رأى في نفسه غضاضة وثقلا في طلب إزالة الشحناء فليصبر وليحتسب لأن العاقبة في ذلك حميدة والإنسان إذا رأى ما في العمل من الخير والأجر والثواب سهل عليه، وكذلك إذا رأى الوعيد على تركه سهل عليه فعله، وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يذهب إلى الشخص ويقول: يجب أن نتصالح ونزيل ما بيننا من العداوة والبغضاء فبإمكانه أن يوسط رجلا ثقة يرضاه الطرفان ويذهب إليه ويقول إني أجد بينك وبين فلان كذا وكذا فلو اصطلحتم وأزلتم ما بينكم من العداوة والبغضاء فيكون هذا حسناً جيداً والله الموفق(6/247)
باب تحريم الحسد وهو تمني زوال النعمة عن صاحبها: سواء كانت نعمة دين أو دنيا.
قال الله تعالى: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} وفيه حديث أنس السابق في الباب قبله.
1569 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، أو قال: العشب رواه أبو داود.
:
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله تعالى في كتابه (رياض الصالحين) : باب تحريم الحسد.
الحسد: هو أن يكره الإنسان ما أنعم الله به على غيره من علم أو مال أو أهل أو جاه أو غير ذلك والحسد من كبائر الذنوب ومن سمات اليهود والعياذ بالله كما قال الله تعالى عنهم: ود كثير من أهل الكتاب أن يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم وقال تعالى: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} أي على ما أعطاهم من فضله {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما} وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الحسد وبين أنه يأكل الحسنات كما تأكل النار العشب أو قال: الحطب.
ثم إن الحسد فيه اعتراض على قضاء الله وقدره؛ لأن الحاسد لم يرض(6/248)
بقضاء الله وقدره يعني لم يرض أن الله أعطى هذا الرجل مالا أو أعطاه أهلا أو أعطاه علما ففيه اعتراض على قضاء الله وقدره.
ثم إن الحسد جمرة في القلب والعياذ بالله كلما أنعم الله على عبده نعمة احترق هذا القلب والعياذ بالله حيث أنعم الله تعالى على عباده فتجده دائما في نكد ودائما في قلق.
والحسد ربما يحصل منه بغي وعدوان على من آتاه الله من فضله، وربما يشوه سمعته عند الناس ويقول فيه كذا وكذا وهو كاذب أو صادق لكن يريد أن يحسد هذا الرجل على النعمة، فربما يحصل منه هذا العدوان على أخيه المسلم، ثم إن الحسد لا يرد نعمة الله على عبده مهما حسدت ومهما بغيت فإنك لن تمنع قدر الله على عباده، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله ابن عباس رضي الله عنهما: واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك وإلا فلن يضروك فالواجب على الإنسان إذا رأى من نفسه حسدا لأحد أن يتقي الله وأن يوبخ نفسه ويقول لها: كيف تحسدين الناس على ما آتاهم الله من فضله، كيف تكرهين نعمة الله على عباده، يقول أرأيت لو كانت هذه النعمة عندك أتحبين أن أحدا يحسدك عليها ويوبخها، يوبخ النفس، وكذلك يقول لها: أنت لو حسدت وكرهت ما أعطى الله من فضله فإن ذلك لن يضر المحسود، بل هو ضرر على الحاسد، وأشبه ذلك مما يوبخ به نفسه، حتى يدع ما به من الحسد وحينئذ يطمئن ويستريح ولا يتنكد، ولا يتكدر اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت وأصرف عنا سيئ الأخلاق، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت(6/249)
باب النهي عن التجسس والتسمع لكلام من يكره استماعه
قال الله تعالى: {ولا تجسسوا} وقال تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا}
1570 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم.
المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا ويشير إلى صدره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله، إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وفي رواية: لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا، وكونوا عباد الله إخوانا وفي رواية: لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا ولا تحاسدوا،(6/250)
وكونوا عباد الله إخوانا وفي رواية: لا تهاجروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض رواه مسلم: بكل هذه الروايات، وروى البخاري أكثرها.
:
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) : باب تحريم التجسس التجسس هو: أن يتتبع الإنسان أخاه ليطلع على عوراته سواء كان ذلك عن طريق مباشر، بأن يذهب هو بنفسه يتجسس لعله يجد عسرة أو عورة، أو كان عن طريق الآلات المستخدمة في حفظ الصوت، أو كان عن طريق الهاتف فكل شيء يوصل الإنسان إلى عورات أخيه مسالبه فإن ذلك من التجسس، وهو محرم، لأن الله سبحانه وتعالى قال: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا فنهى سبحانه وتعالى عن التجسس، ولما كان التجسس إذاء لأخيك المسلم، أردف المؤلف رحمه الله ما استشهد به من هذه الآية بقول الله تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} لأن التجسس أذية، يتأذى به المتجسس عليه، ويؤدي(6/251)
إلى البغضاء والعداوة ويؤدي إلى تكليف الإنسان نفسه ما لم يلزمه، فإنك تجد المتجسس والعياذ بالله، مرة هنا ومرة هنا، ومرة هنا، ومرة ينظر إلى هذا ومرة ينظر إلى هذا، فقد أتعب نفسه في أذية عباد الله، نسأل الله العافية، ومن ذلك أيضا أن يتجسس على البيوت، يعني من التجسس أن يتجسس على البيوت، يقف عند الباب ويستمع لما يقال في المجلس ثم يبني عليه الظن الكاذب، والتهم التي ليس لها أصل، ثم ذكر المؤلف حديث أبي هريرة في رواياته وأكثرها قد مر علينا لكن من أهم ما ذكر إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وهذا مطابق لقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن} لكن في هذه الآية قال الله تعالى: {اجتنبوا كثيرا من الظن} ولم يقل الظن كله؛ لأن الظن المبني على قرائن لا بأس به، فهو من طبيعة الإنسان أنه إذا وجد قرائن قوية توجب الظن الحسن أو غير الحسن، فإنه لابد أن يخضع لهذا القرائن، ولا بأس بذلك، لكن الظن المجرد هو الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنه أكذب الحديث، لأن الإنسان إذا ظن صارت نفسه تحدثه، تقول له فعل فلان كذا وهو يفعل كذا وهو يريد كذا وما أشبه ذلك، وهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيه إنه اكذب الحديث، وفيه أيضا مما لم يمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كونوا عباد الله إخوانا كما أمركم يعني أنه يجب على الإنسان أن يكون أخا لأخيه، بالمعنى المطابق للأخوة، لا يكن عدوا له، فإن بعض الناس إذا صار بينه وبين أخيه معاملة وساء الظن بينهما في هذه المعاملة اتخذوا عدوا، وهذا لا يجوز، الواجب أن الإنسان يكون أخا لأخيه، في المحبة والألفة وعدم التعرض له بالسوء(6/252)
والدفاع عن عرضه وغير ذلك من مقتضيات الأخوة المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يكذبه وهذا أيضا قد مر علينا سابقا وقال التقوى هاهنا يشير إلى صدره يعني في القلب، وإذا اتقى القلب اتقت الجوارح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا صلحت صلح الجسد كله يعني القلب، بعض الناس تنهاهم مثلا عن شيء من الأشياء، أعفي اللحية حرام عليك أنك تحلقها، فيقول لك التقوى هاهنا، أين التقوى؟ لو اتقى ما هاهنا لأتقى ما هاهنا، يعني لو اتقى القلب اتقت الجوارح، بعض الناس تنصحه في طول الثوب، تجد ثوبه إلى أسفل من كعبه، تنصحه في ذلك، فيقول لك التقوى هاهنا أين التقوى، لو كان عندك تقوى في قلبك، لاتقيت الله تعالى في قولك وفعلك، لأنه إذا صلحت صلح الجسد كله، لكن بعض الناس والعياذ بالله يجادل بالباطل كالكافرين، جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، ومع ذلك لا يخفى جدالهم بالباطل على من عنده بصيرة، يعرف أن هذا جدل ليس له أصل بل هو باطل، وهذا الحديث الذي ذكره المؤلف بألفاظه، ينبغي للإنسان أن(6/253)
يتخذه مسارا له ومنهجا يسير عليه ويبني عليه حياته فإنه جامع لكثير من مسائل الأخلاق التي إذا تجنبها الإنسان حصل على خير كثير والله الموفق
1571 - وعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم حديث صحيح.
رواه أبو داود بإسناد صحيح.
1572 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه أتى برجل فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرا، فقال: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء، نأخذ به حديث حسن صحيح.
رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث من الأحاديث التي يتبين فيها أن الإنسان لا يتجسس على إخوانه المسلمين ولا يتتبع عوراتهم بل ما ظهر منها فإنه يعامل من أظهرها بما يليق به، وما لم يظهر فلا يجوز التجسس ولا التحسس، كما في حديث معاوية رضي الله عنه، أن الإنسان إذا تتبع عورات المسلمين أهلكهم أو كاد أن(6/254)
يهلكهم، لأن كثيرا من الأمور تجري بين الإنسان وبين ربه، لا يعلمها إلا هو، فإذا لم يعلم بها أحد وبقى عليه ستر الله عز وجل، وتاب إلى ربه وأناب حسنت حاله ولم يطلع على عورته أحد، ولكن إذا كان الإنسان والعياذ بالله يتتبع عورات الناس، ماذا قال فلان وماذا فعل، وإذا ذكر له عورة مسلم، ذهب يتجسس، إما أن يصرح، وإما أن يلمح فيقول مثلا، قالوا إن فلانا قال كذا وكذا أو فعل كذا وكذا فينشر ما عنده عند الخلق والعياذ بالله، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في بيت أمه نسأل الله العافية جزاء وفاقا، مثل من تتبع عورات المسلمين ليفضحهم، يتتبع الله عز وجل عورته حتى يفضحه نسأل الله العافية ولا يغنيه جدران ولا ستور، وكذلك حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه أتى برجل تقطر لحيته خمرا، لكنه شربه مختفيا، ولكن هؤلاء القوم تجسسوا عليه حتى أخرجوا على هذه الحالة، فبين رضي الله عنه أن من أبدى لنا عورته أو عيبه أخذناه به، ومن استتر بستر الله فلا نؤاخذه، وهذا أيضا يدل على أنه لا يجوز التجسس(6/255)
باب النهي عن سوء الظن بالمسلمين من غير ضرورة
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم}
1573 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث متفق عليه.
وكذلك حديث أبي هريرة في الباب الذي يليه وقد سبق الكلام عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وكذلك الآية التي قبله يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم تكلمنا عليها فيما سبق.
والله الموفق(6/256)
باب تحريم احتقار المسلمين
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} وقال تعالى: {ويل لكل همزة لمزة} :
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب تحريم احتقار المسلم، احتقار المسلم ازدراؤه والسخرية به والاستهزاء به والحط من قدره وما أشبه ذلك، وهذا محرم لما فيه من العدوان على أخيك المسلم الذي يجب أن تحترمه وأن تكن له كل تقدير، لأنه أخوك والمؤمن أخو المؤمن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ثم استدل المؤلف رحمه الله بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن فوجه الله الخطاب إلى المؤمنين {يا أيها الذين آمنوا} وتوجيه الخطاب للمؤمن يدل على أن ما يتلى عليه فهو من مقتضيات الإيمان وأن فقده ومخالفته نقص في الإيمان، كما أن تصدير الحكم بالنداء يدل على الاهتمام به، لأن النداء يعني تنبيه المخاطب لما يلقي إليه، يقول: {لا يسخر قوم من قوم} وهم الرجال {ولا نساء من نساء} وهن النساء الآيات، والسخرية قد تكون(6/257)
في هيئته، يسخر من هيئة هذا الرجال، وقد يكون كذلك في خلقته، يسخر من خلقته قصرا أو طولا أو ضخامة أو نحافة أو ما أشبه ذلك ويكون كذلك سخرية بكلامه وتقليد كلامه، استهزاء وسخرية، كما يفعل بعض السفهاء، يقلد بعض القراء أو بعض العلماء، يقلد أصواتهم سخرية واستهزاء والعياذ بالله ويكون كذلك في المعاملة يسخر به في معاملته الناس وكذلك بالمشية، المهم إن كل شيء فيه سخرية في أخيك فإنه داخل في هذه الآية {لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن} وبين الله عز وجل أنه ربما يكون هؤلاء الذين سخروا منهم.
ربما يكونون خيرا منهم عند الله وعند عباد الله، ولهذا قال: {عسى أن يكونوا خيرا منهم} هذا في القوم {عسى أن يكن خيرا منهن} هذا في النساء {ولا تلمزوا أنفسكم} أي لا تعيبوها، وقول {أنفسكم} من المعلوم أن الإنسان لن يعيب نفسه، لكنه لما كان المؤمنون أخوة، صار أخوك كنفسك، فقوله: {ولا تلمزوا أنفسكم} يعني لا تلمزوا إخوانكم، لكنه عبر بالنفس ليتبين أن أخوك بمنزلة نفسك فكما أنك تكره أن تلمز نفسك، تكره أن تلمز أخاك {ولا تنابزوا بالألقاب} ينبز بعضكم بعضا باللقب، سخرية به، إما أن يكون مثلا يعزي إلى قبيلة فيها شيء من اللقب المكروه، فينسبه إليها أو قبيلة فيها شيء من اللقب المضحك فينسبه إليها وما أشبه ذلك مما يكون نبذا بالألقاب، {بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} يعني إنكم إن فعلتم ذلك كنتم من الفاسقين و {بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} فالإنسان إذا لمز أخاه أو سخر منه أو ما أشبه ذلك، فإنه يكون بذلك فاسقا وهذا يدل على أن السخرية(6/258)
من المؤمنين وأن لمزهم وأن منابزتهم بالألقاب كلها من كبائر الذنوب {ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} يعني من استمر على هذا ولم يتب إلى الله عز وجل فإنه ظالم، ثم ذكر المؤلف رحمه الله آية أخرى وهي {ويل لكل همزة لمزة} وويل هذه كلمة وعيد جاءت في القرآن في عدة مواضع، وكلها تفيد الوعيد والتهديد على من فعل هذا، {لكل همزة لمزة} أي يعيب غيره، تارة بالهمز وتارة باللمز، فاللمز باللسان، والهمز بالجوارح، فالهمزة اللمزة متوعد بهذا، بالويل والعياذ بالله، ثم ذكر المؤلف أحاديث يأتي الكلام عليها إن شاء الله
1574 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم رواه مسلم، وقد سبق قريبا بطوله.
1575 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنة، فقال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس رواه مسلم.
ومعنى بطر الحق: دفعه وغمطهم: احتقارهم، وقد سبق بيانه أوضح من هذا في باب الكبر.(6/259)
1576 - وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال رجل والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان إني قد غفرت له، وأحبطت عملك رواه مسلم.
:
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في بيان تحريم احتقار المسلم، وقد سبق الكلام على الآيتين اللتين ساقهما المؤلف رحمه الله أما هذه الأحاديث فهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم بحسب، حسب هنا بمعنى كافي، يعني يكفي المؤمن من الشر أن يحقر أخاه المسلم، وهذا تعظيم لاحتقار المسلم، وأنه شر عظيم، لو لم يأت الإنسان من الشر إلى هذا، لكان كافيا، فلا تحقرن أخاك المسلم، لا في خلقته ولا في ثيابه ولا في كلامه ولا في خلقه ولا غير ذلك، أخوك المسلم حقه عليك عظيم فعليك أن تحترمه وأن توقره، وأما احتقاره فإنه محرم، ولا يحل لك أن تحتقره، وكذلك حديث ابن مسعود وحديث جندب بن عبد الله رضي الله عنهما كلاهما يدل على تحريم احتقار المسلم، وأنه لا يحل له حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حدث بحديث ابن مسعود، أنه لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، قالوا يا رسول الله: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا ظن الصحابة رضي الله عنهم أن الإنسان إذا تلبس لباسا حسنا وانتعل نعلا حسنا،(6/260)
أن هذا من التعاظم والتعالي والتكبر، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن ليس الأمر كذلك قال: إن الله جميل يحب الجمال جميل بذاته جل وعلا وبأفعاله وبصفاته وكذلك يحب الجمال يعني يحب التجمل، وكلما كان الإنسان متجملا، كان ذلك أحب إلى الله إذا كان هذا التجمل مما يسعه، يعني ليس فقيرا يذهب يتكلف الثياب الجميلة أو النعل الجميلة، لكنه قد أنعم الله عليه وتجمل فإن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، وكذلك حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان وكان هذا الرجل عابدا معجبا بعمله محتقرا لأخيه، الذي رآه مفرطا، فأقسم أن الله لا يغفر له، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى على أن لا أغفر لفلان يعني من ذا الذي يحلف علي أن لا أغفر لفلان، والفضل بيد الله يأتيه من يشاء، إني قد غفرت له وأحبطت عملك أعوذ بالله، تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته أهلكته، لأنه قال ذلك معجبا بنفسه، محتقرا لأخيه فأقسم أن الله لا يغفر له، فغفر الله لهذا الرجل، لأن معاصيه دون الشرك، أو لأن الله تعالى من عليه فتاب، وأما الآخر فأحبط عمله لأنه أعجب بعمله والعياذ بالله وتألى على ربه وأقسم عليه أن لا يغفر لفلان، والله تعالى كامل السلطان، لا يتألى عليه أحد، ولكن إذا حسن ظن المرء بربه، وتألى على الله في أمر ليس فيه عدوان على الغير فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره والله الموفق(6/261)
باب النهي عن إظهار الشماتة بالمسلم
قال الله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} وقال تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة}
1577 - وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك رواه الترمزي وقال: حديث حسن.
وفي الباب حديث أبي هريرة السابق في باب التجسس: كل المسلم على المسلم حرام الحديث.
[الشَّرْحُ]
هذان بابان ذكرهما المؤلف رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) الأول في الشماتة، والثاني في الطعن في النسب.
أما الشماتة فهي: التعيير بالذنب أو بالعمل أو حادثة تقع على الإنسان أو ما أشبه ذلك، فيشيعها الإنسان ويبينها ويظهرها، وهذا محرم لأنه ينافي قول الله تعالى: إنما المؤمنون إخوة فإن الأخ لا يحب أن(6/262)
تظهر الشماتة في أخيه، وكذلك ينافي قوله تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} .
ثم ذكر المؤلف حديث واثلة بنت الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك يعني أن الإنسان إذا عير أخاه في شيء ربما يرحم الله هذا المعير ويشفى من هذا الشيء ويزول عنه ثم يبتلى به هذا الذي عيره، وهذا يقع كثيرا، ولهذا جاء في حديث آخر، في صحته نظر لكنه موافق لهذا الحديث: من عير أخاه بذنب لن يمت حتى يعمله فإياك وتعيير المسلمين والشماتة فيهم فربما يرتفع عنهم ما شمتهم به ويحل فيك.(6/263)
باب تحريم الطعن في الأنساب الثابتة في ظاهر الشرع
قال الله تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا}
1578 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت رواه مسلم.
أما الثاني: أي - الباب الثاني - هو الطعن في النسب فمعناه التعيير بالنسب أو أن ينفي نسبه، فمثلا يقول في التعيير: أنت من القبيلة الفلانية التي لا تدفع العدو ولا تحمي الفقير.
ويذكر فيها معايب، أو مثلا يقول: أنت تدعي أنك من آل فلان ولست منهم، أنت ما فيك خير هؤلاء، القبيلة ولو كنت منهم لكان فيك خير، أو ما أشبه ذلك.
ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اثنتان في(6/264)
الناس هما بهم كفر يعني خصلتان يفعلهما الناس وهم من خصال الكفر، الطعن في النسب، والثانية النياحة على الميت، النياحة على الميت أن يبكي عليه النساء أو الرجال أيضاً، لكن النساء أكثر، على شبه ما تنوح الحمامة، يعني: يأتين بالبكاء برنة معروفة، هذا حرام وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم النائحة والمستمعة ومن النياحة ما يفعله بعض الناس اليوم، يجتمعون في بيت الميت ويؤتى إليهم بالطعام أو يصنعون هم الطعام ويجتمعون عليه، فإن هذا محرم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة، وهؤلاء نواح، لحديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا نعد الاجتماع في بيت الميت وصنع الطعام من النياحة وهو صحابي جليل معروف، فالصحابة يرون أن هذا من الناحية، ولهذا ينهي أهل الميت إذا مات أن يفتحوا أبوابهم للعزاء، لأن ذلك منكر وبدعة، فالصحابة ما كانوا يفعلون ذلك، ثم هو فيه نوع من الاعتراض على قضاء الله وقدره، والواجب على الإنسان الرضا والتسليم وأن يبقي بابه مغلقا، ومن أراد أن(6/265)
يعزيه يجده في السوق أو في المسجد، بالنسبة للرجال.
وأما النساء فلا حاجة إلى فتح الباب لهن واجتماعهن، فالمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن النياحة من الكفر اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت ولا يغرنك يعني الناس، فإن الله يقول: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} وقال تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} فالمدار ما هو على عمل الناس وأن هذه عادة، المدار على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين وعمل الصحابة رضي الله عنهم، ما منهم أحد فتح بابه للمعزين أبدا، وما اجتمعوا على الأكل بل كانوا يعدون هذا من النياحة ويبتعدون عنه أشد البعد، لأن النياحة كما سمعتم كفر، يعني من خصال الكفر.
والثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة.
والله الموفق.(6/266)
باب النهي عن الغش والخداع
قال الله تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا}
1579 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من حمل علينا السلاح، فليس منا، ومن غشنا، فليس منا رواه مسلم.
وفي رواية له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللا، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال أصابته السماء يا رسول الله قال: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس، من غشنا فليس منا
1580 - وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تناجشوا متفق عليه.
1581 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن(6/267)
النجش متفق عليه.
1582 - وعنه قال: ذكر رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من بايعت، فقل لا خلابة متفق عليه.
الخلابة بخاء معجمة مكسورة، وباء موحدة: وهي الخديعة.
1583 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من خبب زوجة امرئ، أو مملوكه، فليس منا رواه أبو داود.
خبب بخاء معجمة، ثم باء موحدة مكررة: أي: أفسده وخدعه.(6/268)
باب تحريم الغدر
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} وقال تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا} :
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين: باب تحريم الغدر.
الغدر خيانة الإنسان في موضع الاستئمان.
بمعنى أن يأتمنك أحد في شيء ثم تغدر به، سواء أعطيته عهداً أم لم تعطه، وذلك لأن الذي ائتمنك: اعتمد عليك ووثق بك، فإذا خنته فقد غدرت به.
ثم استدل المؤلف على تحريم الغدر بوجوب الوفاء، لأن الشيء يعرف بضده، ووجوب الوفاء ساق له المؤلف رحمه الله آيتين، الآية الأولى قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود يعني ائتوا بها وافية شاملة على حسب العقد الذي اتفقت مع صاحبك عليه، وهذا يشمل كل العقود، يشمل عقود البيع، فإذا بعت شيئا على أخيك فالواجب عليك أن تفي بالعقد، إن كان بينكما شرط فأوفه، سواء كان عدميا أم وجوديا، فمثلا إذا بعت على أخيك بيتا واشترطت عليه أن تسكنه لمدة سنة فالواجب على المشتري أن يمكنك من هذا وألا يتعرض لك، لأنه شرط عليك أن يسكنه سنة، وهذا مقتضى العقد، بعت على أخيك شيئا واشترطت عليه أن يصبر بالعيب الذي فيه، يعني قلت:(6/269)
فيه عيب فاصبر به فيجب عليك أن توفي بذلك وأن لا ترده، وإذا رددته فلا حق لك، لكن يجب عليك من الأصل ألا ترده.
وهاهنا مسألة يتخذها بعض الناس والعياذ بالله وهي حرام يبيع الشيء ويعرف أن فيه عيبا، ثم يقول للمشتري، ترى ما بعت عليك إلا ما أمامك واصبر بجميع العيوب، وهذا ما يعرف عندهم في حارات السيارات حارات تحت المكرفون، تجد السمسار الذي هو الدلال، ينادي بأعلى صوته ويقول: ترى ما بعت عليك إلا الإطارات، ما بعت عليك إلا الكبوت، ما بعت عليك إلا كذا وكذا، وهو يعلم أن فيها العيب الفلاني لكن لا يذكره خداعا والعياذ بالله، لأنه لو ذكره لنقصت القيمة، فإذا لم يذكره صار المشتري مترددا، يحتمل فيها عيب، يحتمل ما فيها عيب، فيدفع ثمنا أكثر مما لو علم بالعيب المعين وهذا الذي باع على هذا الشرط، ولو التزم المشتري بذلك، إذا كان بها عيب حقيقة فإنه لا يبرأ منه يوم القيامة، سوف يطالب به ولا ينفع هذا الشرط، الواجب إذا علمت في السلعة عيبا أن تبين أن فيها العيب الفلاني، نعم لو فرض أن إنسانا اشترى سيارة وبقيت عنده يوما أو يومين، ولم يعلم بها عيب، ولم يشترط عليه عيب، ثم أراد أن يسلم منها قال بعت عليك هذا الذي أمامك، معيب أو سليم، ما علي منها، فهذا لا بأس به.
والمهم أن من علم العيب في السلعة يجب أن يبينه، ومن لم يعلم فله أن يشترط على المشتري أنه لا رد له، ولا يعود عليه بشيء، ولا بأس به.
من الوفاء بالعقود ما يحصل بين الزوجين عند العقد، تشترط المرأة شروطا أو يشترط الزوج شروطا فيجب على من يشترط عليه أن يوفي بالشرط، مثل أن تشترط عليه ألا تسكن مع أهله، فيجب عليه أن يوفي لأن(6/270)
بعض النساء لا ترغب في أن تسكن مع أهل الزوج لكونها سمعت عنهم أنهم نكد وأنهم أهل تشويش وأهل نميمة، فتقول شرطت ألا أسكن مع أهلك فيجب عليه أن يوفي بذلك، لأن الله قال: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} أو شرطت عليه ألا يخرجها من بيتها، مثلا هي ربة أولاد من زوج سابق، وتزوجها رجل جديد فقالت شرط ألا تخرجني من بيتي، فيجب عليه أن يوفي بهذا الشرط وألا ينكد عليها، لا يقول أنا ما أخرجتها من بيتها، ولكن ينكد عليها، حتى تمل وتتعب، هذا حرام؛ لأن الله قال: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} اشترطت عليه مهرا معينا، قالت: شرط أن تعطيني مهري مثلا عشرة آلاف يجب عليه أن يوفي، ولا يماطل لأنه مشروط عليه، ولكن لو اشترطت هي أو هو شرطا فاسدا فإنه لا يقبل، مثل لو اشترطت عليه، قالت: شرط أن تطلق زوجتك الأولى فهذا الشرط لا يقبل ولا يوفي به وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تسأل المرأة طلاق أختها لتدفع ما في إنائها أو قال: ما في صحفتها هذا الشرط محرم، لأنه عدوان على الغير فيكون باطلا ولا يجب الوفاء به، بل هو لا يجب الالتزام به أصلا لأنه شرط فاسد، أما لو اشترطت ألا يتزوج عليها وقبل فشرط صحيح، لأنه ما فيه عدوان على أحد، فيه منع الزوج من(6/271)
أمر يجوز له باختياره وهذا لا بأس به، لأن الزوج هو الذي أسقط حقه وهو ليس فيه عدوان على أحد، فإذا اشترطت ألا يتزوج عليها فتزوج فلها أن تفسخ النكاح، رضي أم أبى، لأنه خالف الشرط.
فالمهم أن الله أمر بالوفاء بالعقود في كل شيء، يجب أن تفي بالعقد في كل شيء وألا تخون ولا تعذر ولا تكتم عيبا ولا تدلس، ويأتي الكلام إن شاء الله على الآية الثانية.
والله أعلم
1584 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أربع من كن فيه، كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر متفق عليه.(6/272)
1585 - وعن ابن مسعود، وابن عمر، وأنس رضي الله عنهم قالوا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لكل غادر لواء يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان متفق عليه.
1586 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة يرفع له بقدر غدره، ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة رواه مسلم.
1587 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا، فاستوفي منه، ولم يعطه أجره رواه البخاري.
:
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف في كتابه (رياض الصالحين) : باب تحريم الغدر، وقد تقدم معناه والكلام على الآية الأولى مما صدر به المؤلف الباب وهي قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أما الآية الثانية فهي قول الله تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا} أمر الله أن يوفي بالعهد، يعني إذا عاهدت أحدا وقلت: عليك عهد الله ألا أفعل كذا أو ألا أخبر بما أخبرتني به أو ما أشبه ذلك، فإنه يجب عليك أن تفي بالعهد لأن العهد سوف تسأل عنه يوم القيامة، ولهذا قال: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا} أي: مسئولا عنه يوم القيامة، ثم ذكر أحاديث سبق لنا الكلام عليها، أي شرحها، وأعظمها أنه ينصب لكل غادر يوم القيامة لواء، اللواء ما يكون في الحرب مثل العلم يرفع لكل غادر لواء تحت استه والعياذ بالله، أي تحت مقعدته، ويرتفع هذا(6/273)
اللواء بقدر غدرته إن كانت كبيره صار كبيرا، وإن كانت صغيرة صار صغيرا، ويقال: هذه غدرة فلان بن فلان.
والعياذ بالله، وفي هذا الحديث دليل على أن الغدر من كبائر الذنوب، لأن فيه هذا الوعيد الشديد وفيه أيضا أن الناس يدعون يوم القيامة بآبائهم لا بأمهاتهم، وأن ما ذكر من أن الإنسان يوم القيامة يدعى باسم أمه فيقال يا فلان بن فلانة، فليست الحقيقة، بل إن الإنسان يدعى باسم أبيه كما يدعى به في الدنيا.
وفي الحديث الأخير أيضا التنبيه على مسألة يفعلها كثير من الناس اليوم، وهي أنهم يستأجرون الأجراء ولا يعطون لهم أجرا، هذا الذي يفعل يستأجر الأجير ولا يعطيه أجره يكون الله عز وجل خصمه يوم القيامة، كما قال تعالى في الحديث القدسي: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر يعني: عاهد بي ثم غدر والثاني رجل باع حرا فأكل ثمنه حتى لو كان ابنه أو أخاه الأصغر ثم باعه وأكل ثمنه يكون الله عز وجل خصمه يوم القيامة، والثالث هذا الرجل الذي استأجر أجيرا فاستوفى منه وقام الأجير بالعمل كاملا ثم لم يعطه أجرته ومن ذلك ما يفعله بعض الناس اليوم في العمال الذي يأتون بهم من الخارج، تجده يستأجره بأجرة معينة مثلا ستمائة ريال في الشهر، ثم إذا جاء به إلى هنا ماطل به وآذاه ولم يؤت له حقه، وربما يقول له تريد أن تبقى هنا بأربعمائة ريال وإلا سافرت، هذا والعياذ بالله يكون الله خصمه يوم القيامة، ويأخذ من حسناته ويعطيها هذا(6/274)
العامل، لأن قوله إما أن تعمل بأربعمائة وإلا سفرتك، هذا استأجره بستمائة ولم يعطه أجره، فيدخل في هذا الوعيد الشديد، وهؤلاء الذي يأتون بالعمال ولا يعطونهم أجورهم أو يأتون بهم وليس عندهم شغل، ولكن يتركونهم في الأسواق، ويقول اذهب وما حصلته فلي نصفه، أو مثلا يقول اذهب وعليك في الشهر ثلاثمائة ريال أو أربعمائة ريال، كل هذا حرام والعياذ بالله، ولا يحل لهم، وما أكلوه فإنه سحت، وكل جسد نبت من السحت فالنار أولى به، وهؤلاء الذين يأكلون أموال هؤلاء العمال المساكين، هؤلاء لا تقبل لهم دعوة والعياذ بالله، يدعون الله فلا يستجيب لهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب.
ومطعمه حرام وملبسه حرام، وغذي من حرام، فأنى يستجاب له وما يأكل هؤلاء من أجور هؤلاء العمال أو يظلمونهم به، فإنهم يأكلونه سحتا نسأل الله العافية.
فعلى الإنسان أن يتقي الله، أنا أعلم أنكم سوف تبلغون هذا إلى هؤلاء الظلمة والعياذ بالله، الذين عاقبهم الله عقوبة عاجلة والعياذ بالله ما هي العقوبة العاجلة؟ استمراء هذا العمل والاستمرار فيه والإصرار عليه، فإن الإصرار على الذنب عقوبة والعياذ بالله إذا لم يمن الله على الإنسان بالتوبة من الذنب فاعلم أن استمراره في هذا الذنب عقوبة من الله له، لأنه لا يزداد بهذا الذنب من الله إلا بعدا ولا تزداد سيئاته إلا كثرة، ولا يزداد إيمانه إلا نقصا.
فنسأل الله لنا ولهم الهداية والتوفيق.(6/275)
باب النهي عن المن بالعطية ونحوها
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} وقال تعالى: {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى}
1588 - وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات.
قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله، قال المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب رواه مسلم.
وفي رواية له: المسبل إزاره يعني: المسبل إزاره وثوبه أسفل من الكعبين للخيلاء.
:
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: باب تحريم المن بالعطاء والصدقة ونحوها.
وذلك أن الإنسان إذا أعطى أحدا من الناس عطاء، إن كان صدقة فقد أعطاها لله عز وجل وإن كان إحسانا فالإحسان مطلوب، فإذا كان كذلك فإنه لا يجوز للإنسان أن يمن بالعطية، فيقول: أنا أعطيتك كذا أنا أعطيتك كذا سواء(6/276)
قاله في مواجهته أو في غير مواجهته، مثل أن يقول بين الناس أعطيت فلانا كذا، وأعطيت فلانا كذا ليمن بذلك عليه، ثم استدل المؤلف لذلك بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فدل هذا على أن الإنسان إذا من فإن الصدقة تبطل ولا ثواب له فيها وهو من كبائر الذنوب، وقال تعالى: {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} ثم ذكر حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب.
المسبل: يعني الذي يجر إزاره أو قميصه أو مشلحته خيلاء وتبخترا، فهذا له هذا العقاب الشديد، لا يكلمه الله يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم.
والمنان: المنان بما أعطى إذا أعطى أحدا شيئا صار يمن به.
والمنفق لسلعته بالحلف الكاذب: يعني الذي يحلف على السلعة حلفا كاذبا لأجل أن تزيد قيمتها، هذا أيضا من الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم.
والله الموفق.(6/277)
باب النهي عن الافتخار والبغي
قال الله تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} وقال تعالى: {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم}
1589 - وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد رواه مسلم.
قال أهل اللغة: البغي: التعدي والاستطالة.
:
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين: باب النهي عن الافتخار والبغي.
الافتخار: أن يتمدح الإنسان في نفسه ويفتخر بما أعطاه الله تعالى من نعمة، سواء نعمة الوالد أو المال أو العلم أو الجاه أو قوة البدن، أو ما أشبه ذلك، المهم أن يتمدح الإنسان بما أنعم الله عليه فخرا وعلوا على الناس، وأما التحدث بنعمة الله على وجه إظهار نعمة الله على العبد، مع التواضع فإن هذا لا بأس به، لقول الله تعالى: وأما بنعمة ربك فحدث ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا سيد ولد أدم يوم القيامة(6/278)
ولا فخر.
فقال: ولا فخر يعني لا أفتخر بذلك وأزهو بنفسي، وأما البغي فهو العدوان على الغير، أن الإنسان يعتدي على غيره إما على ماله أو على بدنه أو على أهله أو على مقامه وما أشبه ذلك، فالعدوان أنواعه كثيرة، لكن يضمها كلها أنه انتهاك لحرمة أخيه المسلم، وهذا أيضا محرم.
ثم استدل المؤلف بقول الله سبحانه وتعالى: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} فنهى الله سبحانه وتعالى عباده أن يزكوا أنفسهم يعني أن يمدحوها افتخارا على الخلق، فيقول مثلا لصاحبه: أنا أعلم منك، أنا أكثر منك طاعة، أنا أكثر منك مالا.
وما أشبه ذلك، فهذا - نسأل الله العافية - تزكية للنفس ونوع من الافتخار ولا يعارضه قول الله تعالى: {قد أفلح من زكاها} وذلك أن التزكية المنهي عنها هي أن الإنسان يفتخر ويعلو ويزهو بما أعطاه الله تعالى من خير ومن عبادة ومن علم.
وأما: {قد أفلح من زكاها} فالمراد من سلك بها طريق الزكاة واجتنب طريق الردى، ولهذا قال: {وقد خاب من دساها} وهذه الآيات المتشابهات في القرآن يتخذ منها أهل الباطل حجة في التلبيس على الناس، يقول انظر إلى القرآن تارة يقول: {فلا تزكوا أنفسكم} وتارة يمدح من زكى نفسه، ولكن هؤلاء كما وصفهم الله تعالى هم الذي في قلوبهم زيغ والعياذ بالله، كما قال الله تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات(6/279)
هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} وإلا فالقرآن لا يمكن أبدا أن يكون فيه شيء متناقض، كما قال الله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} أما القرآن فلا اختلاف فيه، وقد أورد نافع بن الأزرق الخارجي المشهور عن ابن عباس رضي الله عنهما كثيرا من الآيات المتشابهات التي ظاهرها التعارض، وأجاب عنها رضي الله عنه في آيات متعددة ذكرها السيوطي في الإتقان في علوم القرآن.
ثم استدل على تحريم البغي بقول الله تعالى: {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق} السبيل: التبعة واللوم والمذمة على هؤلاء الذين يظلمون الناس في أموالهم أو أعراضهم أو في أنفسهم أو في أهليهم، هؤلاء هم الذين عليهم السبيل والتبعة {ويبغون في الأرض بغير الحق} يعني يعتدون بغير الحق، وإنما وصف الله البغي بغير حق، لأنه حقيقة ليس بحق، كل البغي فهو بغير الحق، فالقيد هنا ليس للاعتراض بل هو لبيان الواقع، وهو أن كل شيء من البغي فإنه بغير الحق، وهذا يرد في القرآن كثيرا، أن تجد قيدا يبين الواقع وليس قيدا يخرج ما سواه، مثل قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} فهنا ليس هناك رب لم يخلقنا ورب خلقنا بل هو لبيان الواقع أن الرب هو الذي خلقنا وهو(6/280)
الذي رزقنا، فالحاصل أن الله تعالى بين أن السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق، ثم ذكر حديث عياض بن حمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله أوحى إلي أن لا يبغي أحد على أحد هذا الشاهد من الحديث، وهذا يدل على أن البغي أمر عظيم، فيه عناية من الله سبحانه وتعالى يبين لعباده أنه لا يبغي أحد على أحد وأن الإنسان يتواضع لله عز وجل، ويتواضع في الحق.
والله الموفق.
1590 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلكهم رواه مسلم.
الرواية المشهورة: أهلكهم برفع الكاف، وروي بنصبها.
وهذا النهي لمن قال ذلك عجبا بنفسه، وتصاغرا للناس، وارتفاعا عليهم، فهذا هو الحرام، وأما من قالها لما يرى في الناس من نقص في أمر دينهم، وقالها تحزنا عليهم، وعلى الدين، فلا بأس به.
هكذا فسره العلماء وفصلوه، وممن قاله من الأئمة الأعلام: مالك بن أنس، والخطابي، والحميدي وآخرون، وقد أوضحته في كتاب الأذكار.(6/281)
باب تحريم الهجران بين المسلمين فوق ثلاثة أيام إلا لبدعة في المهجور، أو تظاهر بفسق، أو نحو ذلك
قال الله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} وقال تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}
1591 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخواناً.
ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث متفق عليه.
1592 - وعن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال: يلتقيان، فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام متفق عليه.
1593 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعرض الأعمال في كل اثنين وخميس، فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا، إلا امرئ كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا رواه مسلم.(6/283)
1594 - وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم رواه مسلم.
التحريش الإفساد وتغيير قلوبهم وتقاطعهم.
1595 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار.
رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري.
1596 - وعن أبي خراش حدرد بن أبي حدرد الأسلمي، ويقال السلمي الصحابي رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه رواه أبو داود بإسناد صحيح.(6/284)
باب النهي عن تناجي اثنين دون الثالث
قال الله تعالى: {إنما النجوى من الشيطان}
1589 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا كانوا ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون الثالث متفق عليه.
ورواه أبو داود وزاد: قال أبو صالح: قلت لابن عمر: فأربعة؟ قال: لا يضرك.
ورواه مالك في الموطأ: عن عبد الله بن دينار قال: كنت أنا وابن عمر عند دار خالد بن عقبة التي في السوق، فجاء رجل يريد أن يناجيه، وليس مع ابن عمر أحد غيري، فدعا ابن عمر رجلا آخر حتى كنا أربعة، فقال لي وللرجل الثالث الذي دعا: استأخرا شيئا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يتناجى اثنان دون واحد
1599 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس، من(6/288)
أجل أن ذلك يحزنه متفق عليه.
:
[الشَّرْحُ]
من الآداب التي حث عليها الإسلام ورغب فيها ما أشار إليه النووي رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين في باب النهي عن تناجي اثنين دون الثالث، واستدل لذلك بقوله تعالى: إنما النجوى من الشيطان يعني التناجي من الشيطان، وبين الله سبحانه وتعالى ماذا يريد الشيطان بهذه النجوى، قال: {ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله} وكانوا إذا مر بهم المسلمون يأخذ بعضهم إلى بعض في التناجي، يعني في الكلام السر، يتناجون فيما بينهم، لأجل أن يحزن المؤمنون ويقولون أن هؤلاء أرادوا بنا شرا أو ما أشبه ذلك؛ وذلك أن أعداء المؤمنين من المنافقين والكافرين يحرصون دائما على ما يحزنهم ويسوءهم؛ لأن هذا هو ما يريده الشيطان من أعداء الله، أي: يريد أن يحزن المؤمنين على كل حال، به وبأوليائه قال تعالى: {وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله} فمن توكل على الله واعتمد عليه فإنه لا يضره أحد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك فهم يتناجون فيما بينهم لإحزان المؤمنين.(6/289)
ثم ذكر حديثي ابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما في هذا المعنى، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يتناجى اثنان دون الثالث، يعني إذا كانوا ثلاثة فإنه لا يحل لاثنين أن يتناجيا دون الثالث، لأن الثالث يحزن، ويقول لماذا ما كلموني، هذا إذا أحسن بهما الظن، وربما يسيء بهما الظن، ولكن إذا أحسن بهما الظن قال لماذا أنا ليس لي قيمة؟ يتناجيان دوني؟ فلذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا، ولا شك أن هذا من الآداب.
فإن قال قائل: إذا كانت بيني وبين صاحبي مسألة لا أحب أن يطلع عليها أحد، مسألة خاصة؟ قلنا: افعل كما فعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ادع واحداً لتكونوا كم؟ أربعة، فيتناجى اثنان، واثنان يتكلمان فيما بينهما، كما كان ابن عمر يفعل رضي الله عنه، وكما دل عليه الحديث: حتى تختلطوا بالناس في حديث ابن مسعود، فإذا اختلطا بالناس زالت المشكلة، ومن ذلك من التناجي بين اثنين دون الثالث، إذا كانوا ثلاثة واثنين يجيدان لغة أجنبية والثالث لا يجيدها، فجعلا يتحدثان بلغتهما، والثالث يسمع ولا يفهم ما يقولان، هذا نفس الشيء، لأن ذلك يحزنه، لماذا تركاني وصارا يتحدثان وحدهما؟ أو ربما يسيء الظن بهما، مثل أن يتكلم واحد مع آخر باللغة الإنجليزية، والثالث لا يعرفها، فهذا كالمتناجيين إذ أن رفع الصوت لا يفيدهم شيئا، فينهى عن ذلك، فإذا قال قائل: إذا كان له حاجة في أخيه؟ قلنا: يفعل كما فعل ابن عمر، وإذا لم يمكن ولم يقابلهم أحد، فإنهما يستأذنان منه، يقولان له أتأذن لنا أن نتكلم؟ فإذا أذن لهم في ذلك فالحق لهم، وحينئذ لا يحزن ولا يهتم بالأمر.
والله الموفق(6/290)
باب النهي عن تعذيب العبد والدابة والمرأة والولد بغير سبب شرعي أو زائد على قدر الأدب
قال الله تعالى: {وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا}
1600 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها، إذ هي حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض متفق عليه.
خشاش الأرض بفتح الخاء المعجمة، وبالشين المعجمة المكررة: وهي هوامها وحشراتها.
1601 - وعنه أنه مر بفتيان من قريش قد نصبوا طيرا وهم يرمونه وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن(6/291)
من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا متفق عليه.
الغرض: بفتح الغين المعجمة، والراء وهو الهدف، والشيء الذي يرمى إليه.
1602 - وعن أنس رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصبر البهائم متفق عليه.
ومعناه: تحبس للقتل.
1603 - وعن أبي علي سويد بن مقرن رضي الله عنه، قال: لقد رأيتني سابع سبعة من بني مقرن مالنا خادم إلا واحدة لطمها أصغرنا فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعتقها.
رواه مسلم.
وفي رواية: سابع إخوة لي:
[الشَّرْحُ]
هذا الباب ذكره المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين النهي عن تعذيب الحيوان والولد والوالد ومن لك ولاية عليه، فإنه يحرم عليك أن تعذبه بضرب أو غيره إلا لسبب شرعي.(6/292)
ثم استشهد بقول الله تعالى: وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا هؤلاء كلهم أصحاب الحقوق {وبالوالدين إحسانا} وهم أعظم البشر حقا عليك، الأم والأب {وبذي القربى واليتامى والمساكين} القربى يعني الأقارب من قبل الأم أو من قبل الأب، واليتامى: الصغار الذي مات آباؤهم {والمساكين والجار ذي القربى} المساكين هم الفقراء، والجار ذي القربى: الجار القريب، والجار الجنب: الجار البعيد، والصاحب بالجنب، قيل: هي الزوجة وقيل: هو الصاحب في السفر {وابن السبيل} المسافر الذي انقطع به السفر {وما ملكت أيمانكم} هذا الشاهد، أي: ما ملكت أيمانكم من الأرقاء والبهائم، فإن الإنسان مأمور بالإحسان إليهم إن كان من بني آدم أرقاء يطعمهم مما يطعم ويكسوهم مما يكتسي وينزلهم المنازل اللائقة بهم ولا يكلفهم ما لا يطيقون، ثم ذكر حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، الهرة هي القطة، حبستها ولم تجعل عندها ماء ولم تجعل عندها طعاما حتى ماتت فدخلت النار بسبب هذه الهرة، وعذبت بها، والعياذ بالله، مع أنها هرة لا تساوي شيئا، لكنها أساءت إليها هذه الإساءة حبستها حتى ماتت جوعا.
وفهم من هذا الحديث أنها لو جعلت عندها طعاما وشرابا(6/293)
يكفي فإن ذلك لا بأس به.
ومن هذا الطيور التي تحبس في الأقفاص، إذا وضع عندها الطعام والشراب ولم يقصر عليها وحفظها من الحر والبرد فلا بأس، وأما إذا قصر وماتت بسبب تقصيره فإنه يعذب بها، والعياذ بالله، كما عذبت هذه المرأة في الهرة التي حبستها، فدل ذلك على أنه يجب على الإنسان أن يحرص على ما ملكت يمينه من البهائم، والآدميون أولى وأحرى لأنهم أحق بالإكرام.
أما الحديث الثاني أن ابن عمر رضي الله عنهما مر بفتيان بقريش وقد جعلوا طائرا يرمون عليه، أيهم أشد إصابة، فلما رأوا عبد الله بن عمر رضي الله عنه تفرقوا هربا منه، ثم قال: ما هذا؟ فأخبروه، فقال: لعن الله من فعل هذا لعن الله من فعل هذا وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا.
وهذا لأنه يتألم إذ أن هذا يضربه على جناحه، وهذا يضربه على صدره، وهذا يضربه على ظهره، وهذا على رأسه فيتأذى، فلهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا.
أما بعد ما مات فقد مات لا يحس بشيء.
وكذلك الحديث الذي بعده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقتل الحيوان صبرا، ومعناه أن يحبس ثم يقتل، فإن هذا لا يجوز، وذلك لأنه إذا حبس كان مقدورا على ذبحه وتزكيته فلا يحل أن يرمى، ورميه إيلاما له من وجه وإضاعة لماليته من وجه آخر.
والله الموفق
1604 - وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: كنت اضرب(6/294)
غلاما لي بالسوط، فسمعت صوتا من خلفي: اعلم أبا مسعود فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام فقلت: لا أضرب مملوكا بعده أبدا وفي رواية: فسقط السوط من يدي من هيبته وفي رواية: فقلت: يا رسول الله هو حر لوجه الله تعالى فقال: أما لو لم تفعل، للفحتك النار، أو لمستك النار.
رواه مسلم بهذه الروايات.
1605 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ضرب غلاما له حدا لم يأته، أو لطمه، فإن كفارته أن يعتقه رواه مسلم.
1606 - وعن هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنهما أنه مر بالشام على أناس من الأنباط، وقد أقيموا في الشمس، وصب على رؤوسهم الزيت، فقال: ما هذا؟ قيل: يعذبون في الخراج، وفي رواية: حبسوا في الجزية.
فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا فدخل على الأمير، فحدثه، فأمر بهم فخلوا.
رواه مسلم.(6/295)
الأنباط: الفلاحون من العجم.
1607 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا موسوم الوجه، فأنكر ذلك؟ فقال: والله لا أسمه إلا أقصى شيء من الوجه، وأمر بحماره، فكوي في جاعرتيه، فهو أول من كوى الجاعرتين رواه مسلم.
الجاعرتان: ناحيتا الوركين حول الدبر.
1608 - وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: مر عليه حمار قد وسم في وجهه فقال: لعن الله الذي وسمه رواه مسلم.
وفي رواية لمسلم أيضا: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه، وعن الوسم في الوجه.
:
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث التي ساقها النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب النهي عن تعذيب الحيوان والرقيق والولد وغيرهم ممن يؤدبهم الإنسان، وذلك أن المقصود بالتأديب هو الإصلاح وليس المقصود بالتأديب الإيلام والإيجاع،(6/296)
ولذلك لا يجوز للإنسان أن يضرب الولد ما دام يمكن أن يتأدب بدون الضرب، فإذا لم يتأت الأدب إلا بالضرب فله أن يضرب، وإذا ضرب فإنه يضرب ضربا غير مبرح، واذكروا قول الله عز وجل في النساء: واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فجعل الضرب في المرتبة الثالثة، والمقصود من الضرب هو التأديب لا أن يصل إلى حد الإيلام والإيجاع.
وذكر المؤلف أحاديث، منها حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه أنه كان يضرب غلاما له، فسمع صوتا من الخلف يقول: أبا مسعود ولم يفقه ما يقول من شدة الغضب، فإذا الذي يتكلم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا مسعود ألم تعلم أن الله أقدر عليك من قدرتك على هذا الغلام؟ يعني تذكر قدرة الله عز وجل، فإنه أقدر عليك من قدرتك على هذا الغلام، وإلى هذا يشير الله عز وجل في الآية التي ذكرناها {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا} فلما رأى أنه النبي صلى الله عليه وسلم وذكره بهذه الموعظة العظيمة أن الله أقدر عليه من قدرته على هذا العبد، سقطت العصا من يده هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أعتقه، أعتق العبد، وهذا من حسن فهمه رضي الله عنه لأن الله تعالى يقول: {إن الحسنات يذهبن السيئات} فبدلاً من أنه أساء إلى هذا العبد أحسن إليه بالعتق، لهذا أرشد النبي إلى هذا بأن من ضرب عبده أو لطمه فإن كفارة ذلك أن يعتقه، لأن الحسنات يذهبن السيئات.(6/297)
ثم ذكر حديث هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنه، في قصة المحبوسين في الخراج، المحبوسين في الخراج وهم الأنباط، وسموا أنباطا لأنهم يستنبطون الماء أي يستخرجونه، وهم فلاليح فلاحون في الشام عليهم خراج، وكأنهم لم يؤدوه، فعاقبهم الأمير هذه العقوبة العظيمة، جعلهم في الشمس في الحر الشديد وصب على رؤوسهم الزيت، لأن الزيت تشتد حرارته مع الشمس، وهذا عذاب عظيم مؤلم موجع، فدخل هشام رضي الله عنه إلى الأمير فأخبره ففك الأمير أسرهم وأطلقهم، وفي هذا دليل على حسن سيرة السلف رضي الله عنهم في مناصحة الحكام وأنهم يتقدمون إلى الحاكم وينصحونه، فإن اهتدى فهذا المطلوب، وإن لم يهتد برأت ذمة الناصح وصارت المسئولية على الحاكم لكن الحكام الذين يخافون الله عز وجل إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا، اتعظ هذا الحاكم وأمر بإطلاقهم، فدل هذا على أن التعذيب الذي يصل إلى هذا الحد أنه لا يجوز.
وكذلك أيضا من الأحاديث التي ذكرها المؤلف الوسم في الوجه، وسم الحيوانات في الوجه حرام من كبائر الذنوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا، والوسم هو عبارة عن كي يكوي الحيوان ليكون علامة، ولهذا هو مشتق من السمة، وهي العلامة، يتخذ أهل المواشي علامة لهم، كل قبيلة لها وسم معين إما شرطتان أو شرطة مربعة أو دائرة أو هلال، المهم أن كل قبيلة لها وسم معين، والوسم هذا يحفظ الماشية إذا وجدت ضالة يعني ضائعة عرف الناس أنها لهؤلاء القبيلة فذكروها لهم، وكذلك أيضا هي قرينة في مسألة الدعوى، لو أن إنسان وجد بهيمة عليها وسم في يد إنسان وادعى أنها له فإن هذه قرينة(6/298)
تدل على صدق دعواه ترجح بها دعوى المدعي، وهي من الأمور الثابتة بالسنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسم إبل الصدقة وكذلك الخلفاء من بعدهم، لكن الوسم لا يجوز أن يكون في الوجه، لأن الوجه لا يضرب ولا يوسم ولا يقطع، هو جمال البهيمة، أين يكون الوسم؟ في الرقبة، يكون في العضد، يكون في الفخذ، يكون في أي موضع من الجسم إلا الوجه، وفي هذا دليل على أن الإنسان إذا رأى شيئا مما يلعن فاعله فقال: اللهم العن من فعل هذا فلا إثم عليه، لو وجدنا بهيمة موسومة في الوجه وقلنا اللهم العن من وسمها فلا بأس، لكن ما نقول فلان ابن فلان، تقول اللهم العن من وسمها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ومثل ذلك إذا رأينا قذرا في الشارع يعني غائطا وجدناه في الشارع، لنا أن نقول: لعن الله من تغوط هاهنا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في المواني وقارعة الطريق والظل وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى وجعلنا هداة مهتدين من عبادة الصالحين المصلحين(6/299)
باب تحريم التعذيب بالنار في كل حيوان حتى النملة ونحوها
1609 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: إن وجدتم فلانا وفلانا لرجلين من قريش سماهما فأحرقوهما بالنار ثم قال صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما رواه البخاري.
1610 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة تعرش فجاء النبي صلى الله عليه وسلم: من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها ورأى قرية نمل قد حرقناها، فقال: من حرق هذه؟ قلنا: نحن.
قال: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار.
رواه أبو داود بإسناد صحيح.
قوله: قرية نمل معناه: موضع النمل مع النمل.
:
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: باب تحريم التعذيب بالنار، يعني أنه لا يحل لإنسان أن يعذب أحدا بالإحراق، لأنه يمكن التعذيب بدونه، ويمكن إقامة الحدود بدون ذلك، فيكون الإحراق زيادة تعذيب لا حاجة لها.(6/300)
ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجالا في سرية وقال: إذا وجدتم فلانا وفلانا لرجلين سماهما فأحرقوهما بالنار فاعتمد الصحابة ذلك امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم فلما أرادوا الخروج، قال كنت قلت: كذا وكذا ولكن لا يعذب بالنار إلا الله عز وجل فإن وجدتموهما فاقتلوهما فنسخ النبي صلى الله عليه وسلم أمره الأول بأمره الثاني، أمره الأول أن يحرقا وأمره الثاني أن يقتلا، فدل ذلك على أن الإنسان إذا استحق القتل فإنه لا يحرق بالنار وإنما يقتل قتلا عاديا حسب ما تقتضيه النصوص الشرعية.
وكذلك الحديث الذي رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم مضى لحاجته فوجد الصحابة حمرة، نوع من الطيور، معها ولداها، فأخذوا ولديها، فجعلت تعرش، يعني تحوم حولهم، كما هو العادة أن الطائر إذا أخذ أولاده جعل يعرض ويحوم ويصيح لفقد أولاده، لأن الله سبحانه وتعالى جعل في قلوب البهائم رحمة لأولادها، حتى أن البهيمة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، وهذا من حكمة الله عز وجل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلق ولديها لها، فأطلقوا ولديها، ثم مر بقرية نمل قد أحرقت فقال: من أحرق هذا؟ قالوا: نحن يا رسول الله.
قرية النمل يعني مجتمع النمل، جحورها، أحرقوها بالنار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار فنهى عن ذلك، وعلى هذا إذا كان عندك نمل فإنك لا تحرقها بالنار وإنما تضع شيئا يطردها مثل الجاز إذا صفيته على الحجر فإنها تنفر بإذن الله ولا ترجع، وإذا لم يمكن اتقاء شرها إلا بمبيد يقتلها نهائيا، أعني النمل، فلا بأس، لأن هذا دفع لأذاها، وإلا فالنمل مما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله، لكن إذا آذاك ولم يندفع إلا بالقتل فلا بأس بقتله(6/301)
باب تحريم مطل الغني بحق طلبه صاحبه
قال الله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} وقال تعالى: {فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته}
1611 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع.
متفق عليه.
معنى أتبع أحيل.
:
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين: باب تحريم مطل الغني، يعني في الحق الذي يجب عليه لغيره، والمطل هو التأخير، وهو ظلم، فإذا كان لك حق على إنسان حال وطلبته منه ولكنه صار يماطل فإن ذلك ظلم وحرام وعدوان، ومن ذلك ما يفعله الكفلاء لمكفوليهم، فإنهم والعياذ بالله يماطلونهم ويؤذونهم ولا يؤتوهم تجد هذا الفقير المسكين الذي ترك أهله وبلده لينال لقمة العيش، يبقي أربعة أشهر، خمسة أشهر وأكثر والكفيل يماطل به والعياذ بالله ويهدده بأنه إن تكلم سفره، ألا يعلم هؤلاء أن الله فوقهم وأن الله أعلى منهم وأنه ربما يسلط عليهم قبل أن يموتوا من يسومهم(6/302)
سوء العذاب، نسأل الله العافية، لأن هؤلاء مساكين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر يعني عاهد بالله ثم غدر والعياذ بالله ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره فهؤلاء خصماء الله يوم القيامة، نعوذ بالله من حالهم، ومكرهم ظلم، وكل ساعة بل كل لحظة تمر عليهم لا يوفون هذا حقه لا يزدادون من الله إلا بعدا، ولا يزدادون إلا ظلما، والعياذ بالله، والظلم ظلمات يوم القيامة.
ثم استدل بقوله تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ومن الأمانات ثمن المبيع، إذا باع عليك إنسان شيئا وبقي ثمنه في ذمتك فهو يشبه الأمانة، يجب أن تؤديها ولا يحل لك أن تماطل بها.
واستدل أيضا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مطل الغني ظلم، وإذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع فجمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين حسن القضاء وحسن الاقتضاء، أما حسن القضاء فقال: مطل الغني ظلم وهذا يتضمن الأمر بالمبادرة إلى إيتاء الحق وألا يتأخر فإن فعل فهو ظلام وما أكثر الذين يؤتي إليهم يطلب منهم الثمن أو الأجرة ويقول غدا بعد غد والدراهم عنده في الردج ولكن يلعب(6/303)
به الشيطان وكأنه إذا بقيت عنده تزيد وكأنها تنقص يعني ينقص صاحب الحق منها وعجبا لهؤلاء الذين سفهوا في عقولهم وضلوا في دينهم هل يظنون أنهم إذا ماطلوا يسقط عنهم الحق أو ينقص أبدا الحق باق سراء أعطاه اليوم أو بعد عشرة أيام أو بعد عشر سنين لكن الشيطان يلعب بهم وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: مطل الغني يدل على أن مطل الفقير ليس بظلم إذا كان الإنسان ليس عنده شيء وماطل فهذا ليس بظالم بل الظالم الذي يطلبه ولهذا إذا كان صاحبك فقيرا وجب عليك أن تنظره وألا تطلبه وألا تطالبه به لقول الله تعالى {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} فأوجب الله الانتظار إلى الميسرة وكثير من الناس يكون له الحق عند الفقير ويعلم أنه فقير ويطالبه ويشدد عليه ويرفع بشكواه إلى ولاة الأمور ويحبس على دينه وهو ليس بقادر هذا أيضا حرام وعدوان ويجب على القاضي إذا علم أن هذا فقير وطالبه من له الحق يجب عليه أن ينهر صاحب الحق وأن يوبخه وأن يصرفه لأنه ظالم فإن الله أمره بالانتظار {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} ولا يحل له أبدا أن يقول له أعطني حقي وهو يدري أنه فقير ولا يتعرض له وقوله: من أحيل على مليء فليتبع يعني إذا كان إنسان له حق على زيد وقال له زيد أنا أطلب عمرا مقدار حقي يعني مثلا زيد مطلوب 100 ريال وهو يطلب عمرا 100 ريال فقال أنا أحيلك على عمرو في 100 ريال فليس للطالب أن يقول(6/304)
لا أقبل لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: من أحيل على مليء فليتبع إلا إذا كان المحول عليه فقيرا أو مماطلا أو قريبا للشخص لا يستطيع أن يرافعه عند الحاكم المهم إذا وجد مانع فلا بأس أن يرفض الحوالة وأنا إذا لم يكن مانع فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يقبل الحوالة قال: فليتبع واختلف العلماء هل هذا على سبيل الوجوب أو أن هذا على سبيل الاستحباب فذهب الحنابلة رحمهم الله إلى أن هذا على سبيل الوجوب وأنه يجب على الطالب أن يتحول إن حول على إنسان مليء وقال أكثر العلماء إنه على سبيل الاستحباب لأن الإنسان لا يلزمه أن يتحول قد يقول صاحب الأول أهون وأيسر وأما الثاني فأهابه وأخاف منه وما أشبه ذلك لكن لا شك أن الأفضل أن يتحول إلا لمانع شرعي والله الموفق(6/305)
باب كراهية عودة الإنسان في هبة لم يسلمها إلى الموهوب له
1612 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه متفق عليه وفي رواية: مثل الذي يرجع في صدقته كمثل الكلب يقيئ ثم يعود في قيئه فيأكله وفي رواية العائد في هبته كالعائد في قيئه
1613 - وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده فأردت أن أشتريه وظننت أنه يبيعه(6/306)
برخص فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تشتره ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه متفق عليه قوله: حملت على فرس في سبيل الله معناه تصدقت به على بعض المجاهدين
[الشَّرْحُ]
هذا الباب ذكر المؤلف رحمه الله فيه ما يدل على تحريم الرجوع في الهبة يعني أنك إذا أعطيت إنسانا شيئا مجانا تبرعا من عندك فإنه لا يحل لك أن ترجع فيه سواء كان قليلا أم كثيرا لأن النبي صلى الله عليه وسلم شبه العائد في هبته بالكلب الكلب يقيء ما في بطنه ثم يعود فيأكله وهذا تشبيه قبيح شبه النبي صلى الله عليه وسلم العائد في هبته بهذا تقبيحا له وتنفيرا منه ولا فرق بين أن يكون الذي وهبته من أقاربك أو من الأباعد عندك فلو وهبت لأخيك شيئا ساعة أو قلما أو سيارة أو بيتا فإنه لا يحل لك أن ترجع فيه إلا أن ترضي لنفسك أن تكون كلبا ولا أحدا يرضي لنفسه أن يكون كلبا وكذلك الابن لو وهب لأبيه شيئا فإنه لا يرجع فيه كرجل غني له أب فقير فوهبه بيتا فإنه لا يجوز له أن يرجع في الهبة ولو كان أباه أما العكس لو أن الرجل وهب ابنه شيئا فلا بأس أن يرجع فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يحل لواهب أن يرجع فيما وهب إلا الوالد فيما يعطي ولده لأن الوالد له الحق أن يأخذ من(6/307)
مال ولده الذي لم يهبه له ما لم يضره ثم ذكر أيضا حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه حمل على فرس في سبيل الله يعني أعطى رجلا فرسا يقاتل عليه فأضاعه الرجل وأهمله فظن عمر رضي الله عنه أنه يبيعه برخص وأنه ليس قادرا على تحمل مؤونته فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تشتره ولو أعطاكه بدرهم لأنك أخرجته لله ولا يمكن للإنسان أن يشتري صدقته لأن ما أخرجه الإنسان لله لا يعود فيه ولهذا قال: العائد في صدقته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه فتركه عمر رضي الله عنه هذا إذا قبض الموهوب له الهبة أما قبل قبضها فهذا لا يحرم عليه أن يعود لكن يوفي بوعده كما لو قال شخص لآخر سوف أعطيك ساعة مثلا ولكنه لم يسلمها له فله أن يرجع لكن ينبغي أن يفي بوعده لأن الذي لا يفي بما وعد فيه خصلة من خصال النفاق ولا يجوز للإنسان أن يتحلى بخصال المنافقين والله الموفق(6/308)
باب تأكيد تحريم مال اليتيم
قال الله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا} وقال تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} وقال تعالى: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح}
1614 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات متفق عليه الموبقات المهلكات
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب تحريم أموال اليتامى اليتامى هم الذين مات آباؤهم قبل البلوغ سواء كانوا ذكورا أو إناثا وهؤلاء أعني اليتامى محل الرفق والعناية والرحمة والشفقة لأنهم كسرت قلوبهم بموت آبائهم وليس لهم عائل إلا الله عز وجل فكانوا محل الرفق والعناية(6/309)
ولهذا أوصى الله بهم في كتابه وحث على الرحمة بهم آيات كثيرة ولا يحل للإنسان أن يأكل أموال اليتامى ظلما لقول الله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ويوجد بعض الناس والعياذ بالله يموت أخوه ويكون له أولاد صغار فيتولى ماله ويتاخر به لنفسه والعياذ بالله ويتصرف فيه بغير حق وبغير مصلحة للأيتام وهؤلاء يستحقون هذا الوعيد أنهم يأكلون في بطونهم نارا نسأل الله العافية وقال تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} يعني لا تتعاملوا في أموال اليتامى إلا بالتي هي أحسن فإذا كان أمامك مشروعان تريد أن تشغل مال اليتيم في واحد منهما فانظر أيهما أقرب إلى المصلحة والربح والسلامة فافعل ولا يحل لك أن تفعل ما هو أسوأ لحظ نفسك أو لحظ قريب أو أشبه ذلك بل انظر للذي هو أحسن فإن أشكل عليك هل فيه مصلحة لليتيم أم لا فلا تتصرف أمسك الدراهم لأن الله قال {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} فإذا أشكل عليك فلا تفعل ولا يحل لك أن تقرض أحدا من مال اليتامى يعني جاء إنسان يقول سلفني مثلا 10000 ريال أو 100000 ريال وعندك مالا لليتيم لا يحل لك أن تقرضه لأنه قد يعجز عن الوفاء ولا مصلحة لليتيم في قرضة وإذا كان لا يجوز أن تقرضه غيرك فمن باب أولى أن تستقرضه أنت لنفسك وبعض أولياء اليتامى والعياذ بالله يتجرءون يستقرض مال اليتيم لنفسه ويتصرف فيه لنفسه والكسب له والربح له ومال اليتيم لا يستفيد والله بقول {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} فإذا رأيت(6/310)
أن هذا المشروع أحسن وساهمت فيه وقدر الله أن يخسر هذا المشروع فليس عليك شيء لأنك مجتهد والمجتهد لو أصاب له أجران وإن أخطأ فله أجر لكن تتعمد أن تترك ما هو أحسن لما دونه هذا حرام عليك وقال الله تبارك تعالى: {ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوا فإخوانكم} وهذه الآية وردت جوابا عن سؤال أورده الصحابة على الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا يا رسول الله نحن عندنا أموال اليتامى والبيت واحد والطعام واحد كيف نعمل إن جعلنا طعام هؤلاء في إناء خاص تعبنا وربما يفسد عليهم ماذا نعمل فقال الله عز وجل {إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم} يعني افعلوا ما هو الأصلح وخالطوهم اجعلوا القدر واحد والإناء واحد وما دمتم تريدون الإصلاح فالله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم وشق عليكم لكنه سبحانه وتعالى رحيم بالمؤمنين ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا السبع الموبقات السبع الموبقات المهلكات التي تهلك الدين والعياذ بالله قالوا وما هن يا رسول الله قال الشرك بالله وهذا أعظم الموبقات أن تشرك بالله عز وجل وهو خلقك وأنعم عليك في بطن أمك وبعد وضعك وفي حال صباك أنعم الله عليك بنعم كثيرة فتشرك به(6/311)
والعياذ بالله هذا أظلم الظلم أظلم الظلم أن تجعل لله ندا وهو خلقك وهذا أعظم الموبقات الإشراك بالله والإشراك بالله أنواع كثيرة منها أن يعظم الإنسان المخلوق كما يعظم الخالق وهذا موجود عند بعض الخدم الأحرار وغير الأحرار تجده يعظم رئيسه يعظمه ملكه يعظم وزيره أكثر من تعظيم الله والعياذ بالله هذا شرك عظيم تعظم مخلوقا مثلك أعظم من تعظيم الله ويدل لهذا أن أميره أو وزيره أو ملكه أو سيده إذا قال افعل كذا وقت الصلاة ترك الصلاة وفعل حتى لو خرج وقتها لا يبالي معناه أنه جعل تعظيم المخلوق أعظم من تعظيم الخالق ومن ذلك أيضا المحبة أن يحب أحدا من المخلوقين كمحبة الله أو أعظم تجده يداري هذا الإنسان ويطلب محبته أكثر من محبه الله وهذا يوجد والعياذ بالله في المفتونين بالعشق الذين فتنوا بالعشق سواء كان عشق نساء أو مردان تجد قلبه مملوء بمحبة غير الله أكثر من محبة الله وقد قال تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله} ومن ذلك وهو أمر خفي من ذلك الرياء فإنه من الشرك بالله يقوم الإنسان يصلي ويزين صلاته لأن فلانا يراه ينظر إليه يصوم ليقال إنه رجل عابد يصوم يتصدق ليقال إنه رجل كريم يتصدق هذا رياء وقد قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ومن ذلك أيضا من الشرك وهو خفي أيضا أن تأخذ الدنيا لب الإنسان وعقله تجد(6/312)
عقله وفكره وبدنه ونومه ويقظته كلها في الدنيا ماذا كسب اليوم وماذا خسر ولذلك تجده يتحيل على الدنيا بالحلال والحرام والكذب والخديعة لولاة الأمور ولا يبالي لأن الدنيا استعبدته والعياذ بالله والدليل على هذا الشرك قول النبي صلى الله عليه وسلم: تعس عبد الدينار هل تظنون أن هذا يسجد للدينار لا لكن الدينار ملك قلبه تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة يعني الثياب تعس عبد الخميلة يعني الفرش ما همه إلا تجميل ثيابه تجميل فراشه أكبر عنده من الصلاة وغيرها من عبادة الله إن أعطى رضي وإن لم يعط سخط إن أنعم الله عليه قال هذا الرب الكريم العظيم الجليل الذي يستحق كل شيء وإن لم يعط سخط والعياذ بالله {يعبد الله على حرف فإن أصابه خيرا اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة} يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس خسر انتكس انتكست عليه الأمور وأفسد الله عليه أمره وإذا شيك فلا انتقش يعني معناه أن الله يعسر عليه الأمور حتى الشوكة لا يقدر يطلعها من بدنه إذا شيك أي أصابته الشوكة فلا انتقش ثم قال في مقابل هذا طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله طوبى يعني الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة لهذا العبد لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه(6/313)
انظر الأول عبد خميصة وخميلة أما الثاني ما يبالي بنفسه أهم شيء عنده هو عبادة الله ورضا الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الساقة كان في الساقة يعني معناه أنه لا يبالي أية منزلة ينزلها إذا كانت فيها مصلحة الجهاد فإنه يكون فيها هذا هو الذي ربح الدنيا والآخرة فالحاصل أن من الناس من يشرك بالله وهو لا يعلم وأنت يا أخي إذا رأيت الدنيا قد ملأت قلبك وأنه ليس لك هم إلا هي تنام عليها وتستيقظ عليها فاعلم أن في قلبك شركا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: تعس عبد الدينار ويدل لهذا أنه يحرص على الحصول على المال سواء بالحلال أو بالحرام والذي يعبد الله حقا لا يمكن أن يأخذ المال بالحرام إطلاقا لأن الحرام فيه سخط الله والحلال فيه رضا الله عز وجل والإنسان الذي يعبد الله حقا يقول لا يمكن أن أخذ المال إلا بطريقة ولا أصرفه إلا بطريقة فالحاصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا السبع الموبقات قالوا وما هن قال: الشرك بالله وإن شاء الله يأتي بقية الكلام على بقية الحديث والله الموفق(6/314)
/0L2 باب تغليظ تحريم الربا
قال الله تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات} إلى قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا} وأما الأحاديث في الصحيح فهي مشهورة ومنها حديث أبي هريرة السابق في الباب قبله
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب تغليظ تحريم الربا الربا هو الزيادة أو التأخير لأنه إما زيادة في شيء على شيء وإما تأخير قبض وقد بين الله عز وجل في كتابه حكم الربا وذكر فيه من الوعيد وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم ذكر حكم الربا وما فيه من الوعيد وبين النبي صلى الله عليه وسلم أين يكون الربا وكيف يكون فذكر أن الربا يكون في ستة أصناف الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح هذه ستة أشياء هي التي فيها الربا(6/320)
إذا بعت شيئا بجنسه فلابد من أمرين التساوي والتقابض قبل التفرق بعت ذهبا بذهب لابد أن يكون سواء في الميزان وأن يكون القبض من الجانبين قبل التفرق بعت فضة بفضة لابد أن يكون سواء في الميزان وأن يكون القبض قبل التفرق من الجانبين بعت برا ببر لابد أن يكون سواء في المكيال وأن يكون القبض قبل التفرق من الجانبين بعت شعيرا بشعير لابد أن يكون سواء بالمكيال وأن يكون القبض قبل التفرق من الجانبين بعت تمرا بتمر لابد أن يكون سواء في المكيال وأن يكون القبض قبل التفرق من الجانبين بعت ملحا بملح لابد أن يكون سواء في المكيال وأن يكون القبض قبل التفرق هذا إذا بعت الشيء بجنسه من هذه الأصناف الستة وإن بعته بغير جنسه فلابد من التقابض قبل التفرق من الجانبين ولا يشترط التساوي فإذا بعت صاعا من البر بصاعين من الشعير فلا بأس لكن لابد من القبض قبل التفرق وإذا بغت صاعا من التمر بصاعين من الشعير فلا بأس لكن بشرط التقابض قبل التفرق وإذا بعت ذهبا بفضة فلا بأس بالزيادة أو النقص لكن لابد من القبض قبل التفرق هذه هي الأصناف الستة التي نص الرسول صلى الله عليه وسلم على جريان الربا فيها وكذلك ما كان بمعناها فإنه يكون له حكمها لأن هذه الشريعة الإسلامية لا تفرق بين شيئين متماثلين كما أنها لا تساوي بين شيئين مفترقين(6/321)
أما حكم الربا فإنه من السبع الموبقات من كبائر الذنوب والعياذ بالله ومن تعاطى الربا ففيه شبه من اليهود أخبث عباد الله لأن اليهود هم الذين يأكلون السحت ويأكلون الربا فمن تعامل بالربا من هذه الأمة فإن فيه شبها من اليهود نسأل الله العافية أما الوعيد عليه فقال الله عز وجل الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس هذا حكمه {لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} الشيطان يسلط على بني آدم نسأل الله السلامة إلا أن يمن الله عليه بالأذكار الشرعية التي تقيه من الشياطين مثل قراءة أية الكرسي في كل ليلة وغيرها مما هو معروف فالشيطان يسلط على بني آدم ويصرعه ويبقى الإنسان يبطش بيديه ويفرفش بيديه ورجليه ويتخبط هؤلاء أكلة الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس مجانين واختلف العلماء رحمهم الله هل المعنى لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا على هذا الوصف يعني يقومون من القبور كأنهم مجانين كأن يضربهم الشيطان بالمس أو المعنى لا يقومون للربا لأنهم يأكلون الربا وكأنهم مجانين من شدة طمعهم وجشعهم وشحهم لا يبالون فيكون هذا وصفا لهم في الدنيا والصحيح أن الآية إذا كانت تحتمل المعنيين فأنها تحمل عليهما جميعا يعني أنهم في الدنيا يتخبطون ويتصرفون تصرف الذي يتخبطه الشيطان من المس وفي الآخرة كذلك يقومون من قبورهم على هذا الوصف نسأل الله العافية(6/322)
ثم قال عز وجل مبينا أن هؤلاء قاسوا قياسا فاسدا فقالوا: {إنما البيع مثل الربا} لا فرق كما أنك تبيع للرجل مثلا شاة بمائة ريال تبيع عليه درهم بدرهمين أي فرق فيقولون {إنما البيع مثل الربا} وقياسهم هذا كقياس الشيطان حين أمره الله أن يسجد لآدم فقال {قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} فقابل النص بالقياس الفاسد هؤلاء أيضا قاسوا قياسا فاسدا فبين الله عز وجل أنه لا قياس مع الحكم الشرعي قال {وأحل الله البيع وحرم الربا} ولم يحل الله البيع ويحرم الربا إلا للفرق العظيم بينهما وأنهما ليسا سواء لكن من طمس الله قلبه رأى الباطل حقا والحق باطلا والعياذ بالله كما قال عز وجل فيمن طمس الله على قلبه {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} القرآن الكريم أساطير الأولين أعظم كلام وأبين كلام وأفصح كلام يقولون أساطير الأولين لماذا {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} إذا انطمس القلب والعياذ بالله رأى الباطل حقا ورأى الحق باطلا هؤلاء يقولون {إنما البيع مثل الربا} فقال الله {وأحل الله البيع وحرم الربا} ثم عرض الله عز وجل التوبة على هؤلاء الأكالين للربا كعادته جل وعلا يعرض التوبة على المذنبين لعلهم يتوبون إليه لأن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم براحلته كان رجل في البر معه راحلته عليها طعامه وشرابه(6/323)
فضاعت منه ضاع الطعام والشراب وهو في فلاة من الأرض ليس عنده أحد طلبها ولم يجدها فاضطجع تحت شجرة ميت ينتظر أن يقبض الله روحه فبينما هو كذلك إذا بخطام الناقة متعلق بالشجرة وهو بين الحياة والموت فأخذ بالخطام وقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك يريد أن يقول أنت ربي وأنا عبدك لكنه أخطأ من شدة الفرح قال النبي صلى الله عليه وسلم لله أشد فرحا بتوبة الإنسان من هذا الرجل براحلته مع أن هذا الفرح لا يمكن أن يدركه الإنسان الآن نحن لا نصف شدة هذا الفرح رجل مقبل على الموت فاقد ماله وطعامه وشرابه وناقته فإذا بها عنده لا يمكن أن يتصور إنسان شدة هذا الفرح فالله عز وجل أشد فرحا بتوبة العبد من هذا بناقته انظر ماذا قال هنا يقول جل وعلا {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف} الحمد لله يعنى الأكال للربا إذا جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف يغفر له كل ما سلف ولا يؤاخذ عليه وأمره إلى الله ولكن إذا جاءت الموعظة وله ربا في ذمم الناس وجب عليه أن يسقطه يجب أن يسقطه لأن الله قال {فله ما سلف} أما ما بقي فليس له ولهذا أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أعلن إعلانا إلى يوم القيامة قال ربا الجاهلية موضوع يعني الربا الذي كانوا يترابون به في الجاهلية موضوع مهدر يوجد أقارب للرسول يرابون في الجاهلية يجب عليهم إسقاط الربا أو لا يجب يجب ولهذا قال أول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب ما صلته بالعباس بن عبد المطلب العباس عمه أول(6/324)
ربا أضع ربا العباس هكذا الحكم هكذا السلطان أول ما يبدأ السلطان بأقاربه خلاف عادة الناس اليوم أقارب السلطان عندهم حماية دبلوماسية يفعلون ما يشاءون لكن في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام يقول أول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله تأكيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا نهى الناس عن شيء جمع أهله وأقاربه وقال نهيت الناس عن كذا وكذا وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم والله لا يبلغني عن أحد منكم أنه فعله لأضعفن عليه العقوبة يعاقبه مرة ولا مرتين مرتين لأن هؤلاء الأقارب يخالفون متسترين أو لائذين بقربهم من الحاكم فيقول هذا القرب من الحاكم يوجب أن تضاعف عليكم العقوبة الله أكبر وبذلك ملكوا مشارق الأرض ومغاربها ودانت لهم الأمم الأمم ما يفعلون هكذا القريب من السلطان ليس عليه شيء لكن الأمة الإسلامية والخلافة الإسلامية أول من يقام عليه تنفيذ هذه الأحكام في من؟ في أقارب الحاكم حتى لا يقال الرجل حكم لأجل أن يقي أقاربه عقوبة الظالمين الحاصل أن الله سبحانه وتعالى بمنه وكرمه ورحمته ولطفه يعرض التوبة على المذنبين {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف} نسأل الله أن يتوب علينا وعليكم وقال {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} القصة هذه في من في أصحاب الأخدود الذين حفروا حفرا في الأرض وأضرموا فيها النيران ومن كان مؤمن ألقوه في النار {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد}(6/325)
يقول الله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} يعرض عليهم التوبة وهم يحرقون أولياءه لكنه عز وجل يحب التوابين {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} نسأل الله أن يتوب علينا وعليكم يقول عز وجل {فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ} بعد أن تبين له الحكم {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} هذه عقوبتهم في الآخرة أما العقوبة في الدنيا {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا} يتلفه لكن التلف نوعان تلف حسي كأن يسلط على ماله آفة تفنيه إما أن يمرض ويحتاج إلى دواء ومعالجات أو يمرض أهله أو يسرق أو يحترق هذه عقوبة الدنيا {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا} عقوبة حسية أو محق معنوي المال عنده يكيس أكياسا لكنه كالفقير لا ينتفع به هل يقال إن هذا عنده مال أبدا هذا أسوأ حالا من الفقير لأن ماله عنده بالأكياس يدخره لورثته أما هو فلم ينتفع به وهذا نسميه محقا حسيا أم معنويا محقا معنويا {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا} نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الموعظة التي تحيي قلوبنا وتصلح أحوالنا انتهى
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} إلى قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب التغليظ يعني في أكل الربا وتحريمه وقد ذكر المؤلف فيه آيات من سورة البقرة وسبق الكلام عليها إلى قوله وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وقال {ويربي الصدقات} يربيها أي ينميها ويزيدها فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من تصدق بعدل تمرة من طيب ولا يقبل إلا الطيب فإن الله تعالى يأخذها بيمينه ويريبها كما يربي(6/326)
أحدكم فلوه يعني فرسه الصغير حتى تكون مثل الجبل وقال تعالى {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله} فالصدقات إحسان وعبادة لله إذا تصدق الإنسان بشيء من ماله فإن لله تعالى يضاعف له هذه الصدقة في ثوابها وأجرها وينزل البركة فيما بقي من ماله كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما نقصت صدقة من مال وإنما ذكر الله الصدقات بجانب الربا لأن الربا ظلم ظلم وأخذ للمال بالباطل والصدقات إحسان وخير فقارن هذا بهذا لأجل أن يتبين للإنسان الفرق بين المحسنين وبين الظالمين أكلة الربا ثم قال: {إن الذين أمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} حثا على الإيمان والعمل الصالح ثم قال عز وجل {يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين} اتقوا فأمر بتقوى الله ثم قال: {وذروا ما بقي من الربا} يعني اتركوه لا تأخذونه فخص بعد أن عم لأن تقوى الله تعم اجتناب كل محرم وفعل كل واجب ولما قال: {وذروا ما بقى من الربا} صار تخصيصا بعد تعميم {فإن لم تفعلوا} يعني وتدعوا ما بقي من الربا {فأذنوا بحرب من الله ورسوله} وفي قراءة {فآذنوا بحرب من الله ورسوله} والمعنى أعلنوا الحرب على الله ورسوله نسأل الله(6/327)
العافية {وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} إن تبتم عن أكل الربا فلكم رؤوس أموالكم أنت أعطيت مائة وعشرين إذا صدقت في التوبة لا تأخذ إلا مائة فقط لأن الله يقول فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون {وقد ابتلى بعض الناس بالقياس الفاسد مع النص فقال: إذا أودعت مالك في بنوك أجنبية في أمريكا في إنجلترا في فرنسا في أي بلد فإنك تأخذ الربا وتتصدق به سبحان الله يلطخ الإنسان يده بالدم والنجاسة ثم يذهب ويغسلها لماذا لا يتجنب النجاسة من الأول هذا قياس فاسد مقابل للنص وفاسد في الاعتبار أيضا إذا أعطوك فقل لا شرعنا يحرم علينا الربا يقول بعض الناس إذا لم تأخذ منهم فإنهم يصرفونها في الكنائس وحرب المسلمين نقول من قال هذا ممكن أن صاحب البنك يأخذ لنفسه يأخذ لقرابته يأخذ لمصالحه من يقول إنها تصرف في الكنائس ثم على فرض أنها صرفت في الكنائس هل دخلت في ملكك حتى يقال إنك أعنتهم لم تدخل في ملكك أصلا ولهذا لا يعطونك ربح مالك ربما يدخلون مالك في مالهم ويخسر وإنما يعطونك ربا واضحا محددا من الأصل فليس هو ربح مالك حتى تقول أعطيتهم شيئا من مالي ليستعينوا به على الحرام أبدا ثم على فرض أنه ربح مالك أو أن مالك ربح أكثر وأبيت أن تأخذه لأنه ربا وصرفوه في الكنائس وفي حرب المسلمين هل أنت أمرتهم بهذا أبدا(6/328)
اتق الله رأس مالك لا تظلم ولا تظلم أما أن تأخذه وتقول أتصدق به ما مثل هذا الإنسان إلا مثل من أخذ الغائط بيده وعصره ثم قال أين المال لأطهر يدي هذا غير صحيح ثم يقول من الذي يضمن أنه إذا جاءك مليون أو مليونان ربا أنك ستتصدق بها ربما يغلبك الشح فتقول والله مليونان أتصدق لا أتصدق أنتظر ثم تمضي بك الأيام وتموت وتدعها لغيرك ثم إذا فعلت ذلك صرت قدوة للناس يقولون فلان أخشى دخل ماله في البنك وأخذ الربا إذا ما فيه بأس ستكون قدوة ثم إننا إذا استمرأنا هذا الشيء وأخذنا الربا معناه أننا لن نحاول أن نوجد بنكا إسلاميا لأن إنشاء البنك الإسلامي ما هو سهل صعب وفيه موانع وأناس يحولون بين المسلمين وبينه فإذا استمرأ الناس هذا سهل عليهم قال نأخذ الربا وهين حتى يجيب الله بنك إسلامي لكن لو قلنا هذا حرام عليك حينئذ يضطر المسلمون إلى أن ينشئوا بنوكا إسلامية تكفيهم هذه البنوك الربوية والحاصل أن من قال خذ الربا وتصدق به فقد قابل النص بالقياس والله عز وجل وضح} فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون {وإذا كان عقد الربا الذي حصل في الجاهلية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وضعه الرسول مع أنه قبل الشريعة وأهل الجاهلية يتعارفون على أنه مباح ومع ذلك وضعه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ربا الجاهلية موضوع فكيف لمسلم يعرف أن الربا حرام ويقول لك آخذه وأتصدق به؟ فالحاصل من هذا مع الأسف اشتبهت مع بعض العلماء الذين يشار إليهم بالأصابع وظنوا أنه لا بأس به أن تأخذ هذا وتتصدق به ولو أمعنوا النظر وفكروا لعرفوا أنهم مخطئون ما حجتنا عند الله يوم القيامة} وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم {ما قال إلا أن تتعاملوا مع الكفار}(6/329)
وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون {ولم يقل إلا إذا تعاملتم مع الكفار فخذوا الربا فالحقيقة أننا نأسف أن يوجد بعض من يشار إليه يفتون بمثل هذا مع أنهم لو أمعنوا النظر ودققوا لوجدوا أنهم على خطأ أنا معي قال لي ربي لك رأس مالك لا تظلم ولا تظلم أقول سمعا لك يا ربي وطاعة آخذ رأس مالي والباقي ما علي منه دعهم يجعلونه فيما يريدون ثم هل هؤلاء ما بقي عليهم أن يعمروا الكنائس إلا بربح يأخذونه مني الكنائس معمرة وحرب المسلمين شعواء بدراهمك وبغير دراهمك هل المسألة متوقفة على دراهمك يأخذونها ويصرفونها في الكنائس أو في حرب المسلمين هذا إذا قدرنا أنهم صرفوها في ذلك لكن هذا وهم وتخيل يلبس بها الشيطان يقول إن تركتم هذا صرفوه في الكنائس وفي إرهاب المسلمين من قال هذا فعلى كل حال نحن بيننا وبين الناس كتاب الله} وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون {وإذا اتبعنا الشرع جعل الله لنا من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا أما إذا ذهبنا نقيس بعقولنا ونقول كالذين قالوا} إنما البيع مثل الربا {أو كالشيطان الذي قال} أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين {هذا غلط غلط عظيم فالمهم أن هذا يا إخواني شيء واضح ما يحتاج إلى اجتهاد} وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون {إذا كان معسرا وحل وقت الدين وليس عنده شيء ألا أضيف عليه شيئا بدل إنظاره أصبر عليه لمدة يقول ما أخالفك ما عندك شيء الآن لكن هذا الألف نجعلها ألف ومائة إلى سنة يقول لا أبصر الآية التي بعدها} وإن كان ذو عشرة فنظرة إلى مسرة {ما فيه حل الأجل على هذا الفقير وليس عنده ما يوفي به يجب عليك إنظاره} فنظرة إلى ميسرة {من الذي قال نظرة إلى ميسرة الله عز وجل هو الذي أعطاك المال ومن به عليك وأباح لك التصرف فيه وقال لك إذا كان المطلوب فقيرا فعليك أن تنظره تقوله ما أنظرك هيا إلى الحبس وإلا إضافة الربا أين الإيمان أين العبادة العبد حقا هو الذي يقول لله سمعا وطاعة(6/330)
أما الذي يعبد الدرهم والدينار وليس عنده إلا الدرهم والدينار من أي مصدر حصل فهذا عبد الدرهم والدينار وقد دعا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بالتعاسة والهلاك والانتكاس} وإن تبتم فلكم رءوس أمولكم لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة {ثم تأتي المرتبة العليا التي هي أفضل من الإنظار وهي} وأن تصدقوا خير لكم {إن كان معسرا وعرفت أنه معسر تصدقت عليه قلت يا فلان أنت معسر وقد أبرأتك من دينك هذا خير لك إذا كان خيرا لك فافعله خرجت من بطن أمك ومعك ألف كيس ذهب وألف ثوب وألف فضة وألف نعل صح هذا صحيح لا خرجت من بطن أمك ما معك شيء عريان ما عليك شيء من الذي أعدك وأمدك وأعطاك المال الله عز وجل قال لك افعل كذا قلت سمعا وطاعة} وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون {ثم ختم الآيات بقوله} واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون {اتقوا هذا اليوم اليوم العظيم الذي ترجعون فيه إلى الله عز وجل حفاة عراة غرلا} يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه {اتقوا هذا اليوم وتقوى هذا اليوم وتقوى شره وبلائه تكون بطاعة الله عز وجل نسأل الله أن يمن علينا وعليكم بالتقوى والبر والإحسان إنه على كل شيء قدير}
1614 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا(6/331)
السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات متفق عليه الموبقات المهلكات
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله فيما نقله من حديث أبي هريرة في باب تغليظ تحريم الربا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اجتنبوا السبع الموبقات فأبهمها اجتنبوا السبع الموبقات ولم يبينها لأول مرة لأجل أن يتشوف الناس إليها حتى ترد على أذهانهم وهم مستعدون لها ولهذا قالوا ما هن يا رسول الله قال الإشراك بالله وسبق لنا أن الإشراك بالله أنواع الثاني السحر والسحر عبارة عن عقد ورقى يعني قراءات مطلسمة في صور الشياطين وعفاريت الجن ينفث بها الساحر فيؤذي المسحور بمرض أو موت أو صرف أو عطف صرف يصرفه عن ما يريد عطف يعني يعطفه على ما لا يريد كما قال الله تعالى فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجته وهو من كبائر الذنوب والساحر يجب أن يقتل حدا سواء تاب أو لم يتب وذلك لعظم مضرته على الناس وشدة جرأته والعياذ بالله ولهذا جاء في الحديث حد الساحر ضربه بالسيف وفي رواية ضربه بالسيف ثم إن السحر منه ما يكون كفرا وهو أن يستعين بالشياطين والجن وهذا كفر لقول الله تبارك وتعالى في سورة البقرة {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} وهذا نص صريح بأن السحر كفر إذا كان متلقيا من الشياطين لأن الشياطين لا يمكن أن تخدم الإنسان إلا بشيء يكون شركا وقد سحر النبي صلى الله عليه وسلم سحره يهودي خبيث يقال له لبيد بن الأعصم وضع له سحرا في بئر في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر يعني النخلة الفحل لجمرته جف يسمى الكافور أو الكفرة هذا الخبيث وضع السحر للرسول صلى الله عليه وسلم في مشط المشط الذي يمشط به عادة مشاطة يعني ما سقط من الشعر عند المشط فوضعه في هذا البئر لكن لم يؤثر على النبي صلى الله عليه وسلم في أمر يتعلق بالرسالة أبدا لكن صار يخيل إليه أنه أتى أهله أو أنه فعل الشيء ولم يفعله حتى أنزل الله عز وجل سورتي {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} فرقاه بهما جبريل فشفي بإذن الله ثم استخرج السحر من هذه البئر وفله وأبطله وهذا دليل على خبث اليهود وأنهم من أشد الناس عداوة بل قال الله تعالى: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا} فبدأ اليهود قبل المشركين فهم أشد الناس عداوة للمسلمين ولهذا سحروا النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الله ولله الحمد أبطل سحرهم فصار السحر ينقسم إلى قسمين سحر كفر وهو الاستعانة بالأرواح الشيطانية وغير كفر وهو أن يكون بالعقد والأدوية والأخشاب وما أشبه ذلك أما حكم الساحر فإنه يجب أن يقتل بكل حال إن كان كافرا فلردته وإن كان سحره دون الكفر فلأذيته قال الله تعالى {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} الإشراك بالله والسحر والثالثة وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق والنفس التي حرم الله قتلها أربع نفوس المسلم الذمي المعاهد المستأمن هذه أربع نفوس محترمة لا يجوز قتلها المسلم فظاهر وأما الذمي فهو الذي يكون بيننا وفي بلدنا من أهل الكتاب أو غيرهم يدفع الجزية لنا ونحميه مما يؤذيه ونحترمه وإن كان على غير الإسلام وأما المعاهد فهو الذي بيننا وبينهم عهد وإن كانوا في بلادنا كما جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش في صلح الحديبية فإذا كان من المعاهدين حرم عليك أن تقتله وهو نفس معصومة وأما المستأمن فهو الذي يدخل لبلادنا بأمان نعطيه أمانا إما لكونه تاجرا يجلب تجارته ويشتري أو لأنه لا يريد أن يبحث عن الإسلام ويعرف الإسلام كما قال الله تعالى {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} أما الحربي الذي بيننا وبينه حرب وليس بيننا وبينه عهد ولا ذمة ولا أمان فهذا يحل قتله لأنه ليس بيننا وبينه عهد بل هو محارب لنا لو تمكن منا لقتل من يقتل من المسلمين فهذا لا عهد له ولا ذمة قوله صلى الله عليه وسلم التي حرم الله إلا بالحق يعني أن النفوس المحترمة قد يكون من الحق أن تقتل وهي محترمة مسلم أو ذمي أو معاهد أو مستأمن تقتل مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة فإذا زنى الإنسان وهو ثيب قد تزوج بنكاح صحيح وجامع زوجته ثم زنى بعد ذلك فإنه يرجم بالحجارة يوقف ويجتمع الناس عليه ويأخذون حجارة دون البالغة لا تكون كبيرة تقضي عليه بسرعة ولا صغيرة تشق عليه ثم يرجمونه ويتقون المقاتل يرجمونه على الظهر على البطن على الكتف على الفخذ حتى يموت كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالغامدية وماعز بن مالك وغيرهما الثاني النفس بالنفس إذا قتل الإنسان شخصا عمدا وتمت شروط القصاص فإنه يقتل ولو كان مسلما النفس بالنفس والثالث التارك لدينه المفارق للجماعة قيل إن هذا هو المرتد يعني بعد أن كان مسلما ترك الدين والعياذ بالله فارق جماعة المسلمين فهذا يقتل ويأتي إن شاء الله بقية الكلام عن الحديث
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى فيما نقله عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا السبع الموبقات قالوا وما هن يا رسول الله قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وسبق الكلام على هذه الثلاثة ثم قال وأكل الربا يعني أنه من الموبقات السبع والربا سبق الكلام على تعريفه في الباب الذي يليه والأشياء التي يجري فيها الربا وأن الربا من أكبر الكبائر التي دون الشرك وأكل مال اليتيم من السبع الموبقات واليتيم هو الذي مات أبوه قبل أن يبلغ فيتولى عليه الإنسان ويأكل ماله ينفقه على أهله أو يتجه به لنفسه أو ما أشبه ذلك هذا أيضا من السبع الموبقات نسأل الله العافية ولا فرق بين أن يكون اليتيم ذكرا أو أنثى وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف التولي عن صف القتال يوم الزحف يعني يوم يزحف المسلمون على الكفار فيأتي إنسان ويتولى فإن هذا من كبائر الذنوب من السبع الموبقات لأنه يتضمن مفسدتين المفسدة الأولى كسر قلوب المسلمين والمفسدة الثانية تقوية الكفار على المسلمين إذا انهزم بعضهم لا شك أنهم سوف يزدادون قوة على المسلمين يكون لهم بسبب ذلك نشاط لكن الله عز وجل استثنى في القرآن فقال تعالى ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله فمن تولى لهذين الأمرين متحيزا إلى فئة يعني بأن يقال إن الفئة الفلانية قد حصرها العدو وخطر عليها أن يكتسحها العدو فانصرف لإنقاذهم فهذا لا بأس به لأنه انتقل إلى ما هو أنفع والثاني المتحرف لقتال وهو المذكور أولا في الآية {إلا متحرفا لقتال} يعني مثلا انصرف لإصلاح سلاحه أو ارتداء دروعه أو ما أشبه ذلك من مصلحة القتال فهذا لا بأس به والسابع قذف المحصنات المؤمنات الغافلات يعني أن يقذف المرأة العفيفة المؤمنة فهذا من كبائر الذنوب بأن يقول لامرأة إنها زانية أنها قحبة وما أشبه ذلك هذا من كبائر الذنوب والقائل يجلد ثمانين جلدة ولا تقبل شهادته ويكون من الفاسقين لا من أهل العدل كما قال الله تبارك وتعالى {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} هذه أول عقوبة {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} هذه العقوبة الثانية {وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك} فإنه يرتفع عنهم الفسق ويكونون من أهل العدالة وقوله {قذف المحصنات الغافلات} مثلها أيضا قذف الغافل المحصن المؤمن يعني الرجل إذا قذف فإنه يجلد القاذف ثمانين جلدة كالذي يقذف المرأة هذه هي السبع الموبقات أعاذنا الله وإياكم منها وأجارنا وإياكم من الفتن إنه على كل شيء قدير
1615 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله رواه مسلم زاد الترمذي وغيره وشاهديه وكاتبه
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في باب التغليظ في تحريم الربا فيما نقله عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الله آكل الربا وموكله آكل الربا يعني الذي يأكله سواء استعمله في أكل أو لباس أو مركوب أو فراش أو مسكن أو غير ذلك المهم أنه أخذ الربا كما قال تعالى عن اليهود وأخذهم الربا وقد نهوا عنه فآكل الربا ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم والثاني موكله يعني الذي يعطي الربا مع أن معطي الربا مظلوم لأن آخذ الربا ظالم والمأخوذ منه الربا مظلوم ومع ذلك كان ملعونا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أعانه على(6/332)
الإثم والعدوان وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم انصر أخاك ظالما أو مظلوما قالوا يا رسول الله هذا المظلوم كيف ننصر الظالم قال تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه فإذا احتاج الإنسان إلى دراهم وذهب إلى البنك وأخذ منه عشرة آلاف بأحد عشر ألفا صار صاحب البنك ملعونا والآخذ ملعونا على لسان أشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم وما أقرب الإجابة فيمن لعنه الرسول صلى الله عليه وسلم واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله ويكون هذا الملعون مشاركا لإبليس في العقوبة لأن الله قال لإبليس {وإن عليك اللعنة} كذلك آكل الربا عليه اللعنة وموكله عليه اللعنة مطرود مبعد عن رحمة الله ثم هذا الذي يأكله يأكله سحتا وكل جسد نبت من السحت فالنار أولى به ثم إن هذا الربا الذي يدخل عليك ينزع الله به البركة من مالك وربما يوالي عليه النكبات حتى يلتف قال الله تعالى {وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله} وأما الذي أعطى الربا فإن وجه اللعنة في حقه أنه أعان على ذلك فإذا قال قائل هل الإنسان من توبة إذا كان يتعاطى الربا ثم من الله عليه واهتدى نقول نعم له توبة ومن الذي يحول بينه وبين توبة الله ولكن لابد من صدق التوبة وإخلاصها والندم على الذنب والعزم على ألا يعود(6/333)
ثم إن كان صاحب الربا الذي أخذ منه قد استفاد فإن الربا يأخذ من المرابي ويتصدق به أو يوضع في بيت المال وإن كان لم يستفد فإنه يعطي المطلوب لأنه إذا استفاد لا يمكن أن نجمع له بين الحق من الربا وبين انتفاعه نقول أنت حظك الانتفاع ولكن إذا كان لم ينتفع فإنه يعطي ما أخذ من الربا وذكر الترمذي وغيره في رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن شاهدي الربا وكاتبه مع أن الشاهدين والكاتب ليس لهما منفعة لكن أعانوا على تثبيت الربا الشاهدان والكاتب يثبت بهما الربا لأن الشاهدين يثبتان الحق والكاتب يوثقه ولهذا يكون هؤلاء الثلاثة الشاهدان والكاتب قد أعانوا على الإثم والعدوان فنالهم من ذلك نصيب فهؤلاء الخمسة كلهم ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله والشاهدين والكاتب خمسة وفي هذا الحديث دليل أن المعين على الإثم مشارك للفاعل وهو كذلك وهذا قد دل عليه القرآن قال الله تبارك وتعالى {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره} وإما ينسينك الشيطان {وجلست ناسيا} فلا تقعد بعد الذكرى {يعني بعد أن تفطن} مع القوم الظالمين {وقال عز وجل} وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم {فالمشارك لفاعل الإثم ولو بالجلوس يكون له مثل على ما صاحب الإثم} إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا {في هذا دليل على التحذير من الربا ووجوب البعد(6/334)
عنه والمسلمون ما ضرهم الذي ضرهم إلا بهذا الربا تجد الفقير المسكين يهون عليه أن يستدين بالربا لأنه لا يكلفه إلا زيادة الكمية والله أعلم بنيته قد يكون ليس بنيته أن يوفي عند حلول الأجل لكن يستسهل هذا ويستدين فتتراكم عليه الديون بدون ضرورة حتى إن بعض المساكين السفهاء الضعيف الإيمان يستدين من أجل أن يفرش درج العمارة هل هناك ضرورة لا ضرورة ولا حاجة أيضا عاش الناس أزمنة طويلة لا يفرشون الدرج ولم يضرهم ذلك شيئا يستدين من أجل أن أشياء ليست مهمة هل هناك ضرورة لا ضرورة لكن الشيطان يغريه ولم يعلم هذا المسكين أن الذي له الدين لا يرحمه إذا حل الأجل سوف يطالبه بالوفاء أو بالحبس أو بمضاعفة الربا عليه كما هو الواقع عند كثير من الذين لا يمتثلون قول الله} وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ {وغفل هذا المسكين عن كون نفسه إذا مات معلقة بدينه حتى يدفع عنه وغفل هذا المسكين عن كون النبي إذا قدمت إليه الجنازة وخطى يصلي عليها فسأل هل عليه دين قالوا نعم قال عليه وفاء قالوا لا قال صلوا على صاحبكم وترك الصلاة عليه مما يدل على عظم الدين وغفل هذا المسكين عن كون القتل في سبيل الله إذا قتل الإنسان في سبيل الله فالشهادة تكفر كل شيء إلا الدين لا تكفره ومع ذلك يقع في ذلك كثير من سفهائنا يستهين بالدين يكون عنده سيارة تساوي عشرين ألفا وقد مشت حاله كفته يقول لا ما يكفي أنا أشتري سياره بثمانين ألف وتقول ما معك شيء يقول آخذها بالتقسيط أو أتحيل على الربا كما يفعل بعض الناس يأتي المعرض يقول بكم السيارة الفلانية يقول له بكذا وكذا(6/335)
ويذهب إلى التاجر ويقول له اشتريها وبيعها علي أعوذ بالله حيل على رب العالمين مكر خداع} يخادعون الله وهو خادعهم {يعني هذا التاجر ما قصد السيارة قصد الزيادة ولهذا لو قيل للتاجر بعها عليه برأس مالك الذي اشتريتها به فما الفائدة ما أبيعه إلا بالربا بالزيادة يقول بعض الناس الذين يزين لهم الشيطان يقول احتج على الذي يقول هذا ما يجوز فنقول هذا كذب على الله رجل جاء محتاج سيارة هذا بعيد جدا ثم إن المسموع عن هؤلاء أنه إذا هون كتب اسمه في القائمة السوداء ما عاد يعامل مرة أخرى هذا كالإجبار على أن يبقى تحيل على رب العالمين ما يصلح والله لو سألنا هذا التاجر الذي أخذ السيارة من المعرض ثم باعها لهذا ماذا تقصد أتقصد الإحسان لهذا الرجل قال أبدا ولا بيني وبينه معرفة أقصد المائة مائة وعشرة هذا ما أقصده هذا هو الواقع كيف نتحايل على رب العالمين لو جاء هذا الرجل إلى البنك قال أعطني مائة ألف وعشرة وأشتري السيارة أهون من هذا الدين لأن الخداع أشد من الصريح المخادع ارتكب الإثم مع زيادته ماذا الخداع والصريح ارتكب الإثم وهو يعترف أنه إثم ويحاول أن يتوب عنه لأن نفسه لا ترضى عن هذا الشيء لكن المشكلة المخادع يرى أن هذا حلال ويستمرئ هذا الفعل ويقول ما فيه شيء اسأل نفسك لا تسأل أحدا الرسول قال الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس والبر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب وإن أفتاك الناس وأفتوك لا تسأل أحدا هل أنت اشتريت السيارة شراء حقيقيا تطلب به الربح كلا أبدا لولا أن هذا جاء ما اشتريتها إذا فالسيارة شراؤها مقصود أو غير مقصود غير مقصود المقصود بيده الدراهم لكن بدل ما يقول هذا بخمسين ألفا بستين ألفا مقسطة يقول اذهب عاينها وأنا أذهب إلى المعرض أشتريها بخمسين ألفا وأبيعها عليك بستين ألفا كل إنسان مجرد من الهوى يعرف أن هذا حرام ولا إشكال فيه وإن سألت الناس وأفتوك الذي يسألك يوم القيامة هو رب العالمين هو الذي يعلم ما في قلبك وإذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول لو احتجت سلعة من عند إنسان سيارة عند إنسان وأنت لا تجد دراهم وذهبت(6/336)
إلى الذي عنده السيارة تشتريها منه وهي تساوي الآن نقدي خمسين وقلت له بيعها لي بستين إلى سنة ثم أخذتها وبعتها يقول شيخ الإسلام هذا حرام ولا تحل وحيلة وهي من العينة التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم وقال إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالحرث وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه من قلوبكم حتى ترجعوا إلى دينكم وهذه الصلة فيها واضحة أما مسألة التوافر فالسلعة موجودة عند البائع لهذا ولغيره إن جاءه من اشتراه بنقد باعها بخمسين وإن جاءه من يشتريها مؤجلة بستين باعها لكن الإنسان ما له غرض في السلعة نهائيا ليس له إلا الربا ثم يستمرئ هذا الأمر ويقول هذا حلال فكر يوم القيامة ستلاقي ربك وحدك ما معك أحد لا مفتي ولا غير مفتي والله تعالى هو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور والحاصل أن الربا يجب الحذر منه ولهذا تبينا على ما قلت لما سهل الأمر عند الفقراء لما سهل عندهم هذا صار ما أسهل أن يقول للتاجر يا فلان أنا أبغي السيارة الفلانية قال اذهب واشتريها من المعرض وأنا أسدد القيمة للمعرض وأبيعها لك بالزيادة سهل الدين على الناس ولكن لو لم يجدوا من يسهل الأمر عليهم امتنعوا بعض الشيء وسلمت ذممهم واستراحوا نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية}(6/337)
باب تحريم الرياء
قال الله تعالى {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} وقال تعالى {لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} وقال تعالى {يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً}
[الشَّرْحُ]
قال الإمام النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب تحريم الرياء الرياء مصدر رآى يقال رآى يرائي رياء ومراءة كجاهد يجاهد جهادا ومجاهدة والمراد بالرياء هنا أن يتعبد الإنسان لربه عز وجل ولكن يحسن العبادة من أجل أن يراه الناس فيقولون ما أعبده ما أحسن عبادته وما أشبه ذلك فهو يريد من الناس أن يمدحوه في عبادته لا يريد أن يتقرب إليهم بالعبادة لأنه لو فعل هذا لكان شركا أكبر لكنه يريد أن يمدحوه في عبادة الله فيقولون فلان عابد فلان كثير الصوم فلان كثير الصدقة وما أشبه ذلك فهو لا يخلص لله في عمله لكن يريد أن يمدحه الناس على ذلك فهو يرائي الناس والرياء يسيره من الشرك الأصغر وكثيره من الشرك الأكبر ثم استدل المؤلف رحمه الله على تحريمه بآيات منها قول الله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء يعني ما أمر الناس إلا(6/338)
بهذا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين يصلون إخلاصا لله ويتصدقون إخلاصا لله ويصومون إخلاصا لله ويحجون إخلاصا لله ويساعدون الناس إخلاصا له إلى غير ذلك من الأعمال الصالحة نكون مخلصين لله في ذلك {وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ} يأتون بها مستقيمة على الوجه الأكمل {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} يعطونها مستحقها {وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} أي دين الملة القيمة والمخلص لله عز وجل لا يكون في قلبه رياء لأنه إنما يريد بعبادته وجه الله وثواب الله والدار الآخرة وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} يعني إذا أعطيت الفقير صدقة فلا تمن عليه وتبقى كل ساعة تقول أنا أعطيتك أنا فعلت لأن هذا يبطل الأجر والأذى تؤذيه تؤذي الفقير بأن تتسلط عليه وترى أنك فوقه وما أشبه ذلك هذا أيضا يبطل الأجر {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ} الشاهد هذا الشاهد من الآية هذه الجملة كالذي ينفق ماله رئاء الناس ليمدحوه ويقولوا ما أكثر صدقته وما أشبه ذلك {وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ} وقال الله تبارك وتعالى {يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً} وهذا من أوصاف المنافقين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ولا يقومون بنشاط ومحبة ولهف لها بل يقومون كسالى وأيضا لا يصلون إلا مراءاة للناس والعياذ بالله ولهذا أثقل الصلوات عليهم صلاة العشاء والفجر لأنه(6/339)
في ذلك الوقت ما في نور ولا يعرف الحاضر من غير الحاضر فكانت أثقل الصلوات عليهم صلاة العشاء وصلاة الفجر فهؤلاء المنافقون يراءون الناس يعني لا يأتون الصلاة إلا رياء ولا ينفقون إلا رياء ولا يخرجون في الجهاد إلا رياء فعلى هذا فإن من راءى من المسلمين فقد شابه المنافقين والعياذ بالله وقال تعالى {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} أي يراءون في أعمالهم يريدون أن يراهم الناس فيمدحوهم على عبادتهم فالرياء ذنب من الشرك وقد يكون شركا أكبر وهو من صفات النفاق أعاذنا الله وإياكم من النفاق والله الموفق
1616 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
لما ذكر المؤلف رحمه الله في رياض الصالحين الآيات التي تدل على تحريم الشرك ومنه الرياء ذكر الأحاديث فمنها حديث أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا(6/340)
أشرك فيه معي غيري تركته وشركه هذا الحديث يسمى عند العلماء حديث قدسي وهو الذي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه فيقول قال الله تعالى كذا لأن الأحاديث التي تروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم إما أن ينسبها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله فتسمى أحاديث قدسية وإما ألا ينسبها إلى الله فتسمى أحاديث نبوية هذا الحديث القدسي يقول الله تعالى فيه أنا أغنى الشركاء عن الشرك الشركاء كل محتاج إلى الآخر وكل محتاج إلى شركته ونصيبه وحصته لا يتنازل أحد للآخر عن نصيبه فمثلا دار بين اثنين كل منهما محتاج للآخر لو حصل في الدار خلل أو احتاجت إلى تعمير صار الشريك لابد أن يقول لشريكه الثاني أعطني أعطني نصيبي حتى نعمر البيت وصار كل إنسان متمسكا بنصيبه من هذا البيت أما الله تعالى فهو الغني عن كل شيء غني عن العالمين إذا عمل الإنسان عملا لله ولغير الله تركه الله لو صلى الإنسان لله وللناس لم يقبل الله صلاته لا يقال إنه يقبل نصفها ويترك نصفها أو يقبلها قبولا نصفيا لا لا يقبلها أبدا لو تصدق الإنسان بصدقة يرائي بها الناس فإنها لا تقبل منه لأن الله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك إذا عمل الإنسان عملا أشرك فيه مع الله غيره فإن الله لا يقبله منه وفي هذا دليل على أن الرياء إذا شارك العبادة فإنها لا تقبل فلو أن الإنسان صلى أول ما صلى وهو يرائي الناس لأجل أن يقولوا فلان ما شاء الله يتطوع يصلي ويكثر الصلاة فإنه لا حظ له في صلاته ولا يقبلها الله عز وجل حتى لو أطال ركوعها وسجودها وقيامها وقعودها(6/341)
وصار لا يتحرك وصارت عينه في موضع سجوده فهي غير مقبولة لماذا؟ لأنه أشرك مع الله غيره يصلي لله والناس، الله غني عن عبادته سبحانه وتعالى لا تقبل.
كذلك رجل تصدق صار يمشي على الفقراء ويعطيهم لكنه يرائي الناس من أجل أن يقولوا: فلان والله ما شاء الله رجل جواد كريم يتصدق فهذا أيضا لا يقبل منه وإن أنفد ماله كله لأن الله يقول أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عما أشرك فيه معي غيري تركته وشركه وعلى هذا فقس لكن إن طرأ الرياء على الإنسان يعني رجل مخلص شرع في الصلاة ثم صار في قلبه شيء من الرياء فهذا إن دافعه فلا يضره لأن الشيطان يأتي للإنسان في عبادته التي هو مخلص فيها من أجل أن يفسدها عليه بالرياء هذا لا يضر ولا ينبغي أن يكون ذليلا أمام ما يلقيه الشيطان من الرياء بل يجب أن يصمد وأن يستمر في عبادته لا يقول والله أنا صار معي رياء أخاف أن تبطل لا بل يستمر والشيطان إذا دحرته اندحر من شر الوسواس الخناس الذي يخنس ويولي مدبرا إذا رأى العزيمة فأنت أعزم ولا يهمك هذا لا يضرك أما إذا طرأ عليه الرياء بعد أن بدأ الصلاة مخلصا لله ثم طرأ عليه الرياء واستمر استمر على الرياء والعياذ بالله فإنها تبطل الصلاة كلها من أولها إلى أخرها لأنها أي الصلاة إذا بطل آخرها بطل أولها فالحذر الحذر من الرياء والحذر الحذر من ترك العبادة خوفا من الرياء لأن بعض الناس أيضا يأتيه الشيطان يقول له لا تقم تصلي لا تقرأ صار هذا رياء لا يكن عليك السكينة والوقار هذا رياء من أجل ماذا؟ من أجل أن يصده عن هذا العمل الصالح فعلينا ألا ندع للشيطان مجالا يفعل يقدم(6/342)
يصلي يكون عليه السكينة والوقار ولا يضرنا هذا وهو إذا كافح الشيطان ولم يبال به ففي النهاية يخنس يخنس الشيطان ويتراجع ويتقهقر فالإنسان في الحقيقة محاط بأمرين أمر قبل الإقدام على العبادة يثبطه الشيطان يقول لا تعمل هذا رياء ترى الناس يمدحونك وأمر ثاني بعد أن يشرع في العبادة يأتيه الشيطان أيضا فعليه أن يدحض الشيطان وأن يستعيذ بالله منه وأن يمض في سبيله وألا يفتر فإن قال قائل إذا فرغ الإنسان من العبادة وسمع الناس يثنون عليه وفرح بهذا هل يضره؟ فالجواب لا يضره لأن العبادة وقعت سليمة وكون الناس يثنون عليه هذا من عاجل بشرى المؤمن أن يكون محل الثناء من الناس لكن هذا بعد أن ينتهي من العبادة نهائيا سمع الناس يثنون عليه يقول الحمد لله الذي جعلني محل الثناء بالخير كذلك أيضا لو أن الإنسان فعل العبادة ولما انتهى منها سر بها فهل نقول هذا السرور إعجاب يبطل العمل؟ لا ما يضره لأن الإعجاب أن الإنسان إذا فرغ من العبادة أعجب بنفسه وأبلي على الله بها ومن على الله بها، هذا هو الذي يبطل عمله والعياذ بالله، لكن هذا الإنسان ما خطر على باله هذا، ولكن حمد الله وفرح أن الله وفقه إلى الخير، هذا لا يضره، ولهذا جاء في الحديث: من سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن جعلنا الله وإياكم منهم(6/343)
1617 - وعنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمته فعرفها قال فما علمت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم وعلمته وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار رواه مسلم جريء بفتح الجيم وكسر الراء وبالمد أي: شجاع حاذق
أما حديث أبي هريرة الثاني في ذكر أول من يقضي عليه يوم القيامة وهم ثلاثة أصناف: متعلم ومقاتل ومتصدق المتعلم تعلم العلم وعلم القرآن وعلم ثم إن الله سبحانه وتعالى(6/344)
أتي به إليه سبحانه وتعالى يوم القيامة فعرفه الله نعمته فعرفها وأقر واعترف فسأله ماذا صنعت يعني في شكر هذه النعمة، فقال: تعلمت العلم وقرأت القرآن فيك فقال الله له: كذبت، ولكن تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ ليس لله بل لأجل الرياء، ثم أمر به فسحب على وجهه في النار، وهذا دليل على أنه يجب على طالب العلم في طلب العلم أن يخلص نيته لله عز وجل وألا يبالي أقال الناس أنه عالم أو شيخ أو أستاذ أو مجتهد أو ما أشبه ذلك لا يهمه هذا الأمر، لا يهمه إلا رضا الله عز وجل حفظ الشريعة وتعليمها ورفع الجهل عن نفسه ورفع الجهل عن عباد الله حتى يكتب من الشهداء الذين مرتبتهم بعد مرتبة الصديقين.
{ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} وأما من تعلم لغير ذلك، ليقال إنه عالم وإنه مجتهد وإنه علامة وما أشبه لك من الألقاب فهذا عمله حابط والعياذ بالله، وهو أول من يقضى عليه ويسحب على وجهه في النار ويكذب يوم القيامة ويوبخ، أما الثاني فهو رجل مقاتل، قاتل في سبيل الله وقتل، فلما كان يوم القيامة أتي به إلى الرب عز وجل فعرفه نعمه فعرفها يعني النعم أنه سبحانه وتعالى مده وأعده ورزقه وقواه حتى وصل إلى هذه المرتبة إلى أن قاتل، ثم سئل ماذا صنعت فيها؟ فيها: قال يا رب قاتلت فيك، فيقال: كذبت، قاتلت من أجل أن يقال فلان شجاع جرئ وقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه في النار والعياذ بالله وهكذا أيضاً المقاتل في سبيل الله المقاتلون في سبيل الله لهم نوايا متعددة من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، كما(6/345)
قال النبي صلى الله عليه وسلم ومن قاتل وطنية ففي سبيل الطاغوت، ومن قاتل حمية على قومية فهو في سبيل الطاغوت ومن قاتل لينال دنيا فهو في سبيل الطاغوت، لأن الله يقول {الذين آمنوا يقاتل في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت} لكن لو قاتل الإنسان قومية أو وطنية، لا من أجل القومية ولا الوطنية، ولكن من أجل حماية وطنه المسلم أن يعتدي عليه الكفار فهذا في سبيل الله، لأن حماية بلاد المسلمين ثمرتها أن تكون كلمة الله هي العليا، وكذلك حماية المسلمين ثمرتها أن تكون كلمة الله هي العليا ولكن لو أن الإنسان قاتل ليقتل فقط في هذا القتال، هل يكون في سبيل الله؟ الجواب: لا، وهذا نية كثير من الشباب يذهبون لأجل أن يقتلوا ويقولوا نحن نقتل شهداء، فيقال لا، أنتم اذهبوا لتقاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا ولو بقيتم، لا تذهبون لأجل أن تقتلوا لكن لأجل أن تكون كلمة الله هي العليا وحينئذ إن قتلتم في هذا السبيل فأنتم في سبيل الله أما الثالث فرجل أنعم الله عليه بالمال وصار يتصدق ويعطي وينفق فإذا كان يوم القيامة أتي به إلى الله وعرفه نعمه فعرفها ثم سأله ماذا صنعت فيها؟ فيقول: تصدقت وفعلت وفعلت، فيقال: كذبت ولكنك فعلت ليقال فلان جواد يعني كريماً، وقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه في النار(6/346)
هذا أيضاً من الثلاثة الذين تسعر بهم النار يوم القيامة وفي هذا دليل على أنه يجب على الإنسان أن يخلص النية لله في جميع ما يبذله من مال أو بدن أو علم أو غيره، وأنه إذا فعل شيئاً مما يبتغي به وجه الله تعالى وصرفه إلى غير ذلك، فإنه آثم به والله الموفق.
1618 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن ناسا قالوا له إنا ندخل على سلاطيننا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم؟ قال ابن عمر رضي الله عنهما: كنا نعد هذا نفاقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البخاري.
[الشَّرْحُ]
نقل المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن أناسا جاءوا إليه وقالوا: إننا ندخل على سلاطيننا فنقول لهم قولاً ولكن إذا خرجنا من عندهم قلنا بخلافه فقال كنا نعد ذلك نفاقاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لأنهم حدثوا فكذبوا وخانوا ما نصحوا، فالواجب على من دخل على السلاطين من الأمراء والوزراء والرؤساء والملوك الواجب عليه أن يتكلم بالأمر على حقيقته يبين لهم الواقع سواء كان الناس على استقامة أو على اعوجاج أو على حق أو على باطل، ولا يجوز للإنسان أي إنسان أن(6/347)
يدخل على الأمير أو على الملك أو ما أشبه ذلك ثم يقول: الناس بخير الناس أحوالهم مستقيمة، الناس ملاؤا المساجد الناس عبدوا الله الناس اقتصادياتهم جيدة، الناس أمنهم جيد وما أشبه ذلك وهو كاذب هذا حرم خداع لولاة الأمور وخداع للأمة جمعاء لأن ولي الأمر ليس شمساً تدخل في كل مكان، بل الشمس لا تدخل كل مكان الحجر المغلقة ما تدخلها الشمس وولاة الأمور علمهم محدود سمعهم محدود بصرهم محدود إدراكهم محدود عقولهم محدود كغيرهم من البشر لا يمكن أن يعملوا بأحوال الناس كلها فإذا جاء مثل هذا الغاش الغادر الخائن وقال لهم إن الأمور كلها خير ورخاء وأمن وعبادة، وما أشبه ذلك، غرهم فظنوا أن الأمور هكذا ولم يتحركوا بإصلاح ما فسد، لأنهم يقال لهم إن كل شيء على ما يرام الواجب الصراحة ولا يمكن مداواة الجرح إلا بشقه بعد أن تشقه ويخرج الدم الخبث حينئذ تداويه، أما أن تلمه على شعث فهذا لا يجوز، لأن هذا غش وابن عمر يقول: هذا من النفاق وصدق فهو من النفاق، حدث فكذب وخانوا وما ائتمنوا، فالواجب البيان أما النفاق والمداهنة فهذه لا تجوز لذلك الواجب على كل إنسان أتى إلى شخص مسئول ولو عن عشرة طلاب، دعنا من المسئولين عن أمة كاملة الواجب أن يخبره بالواقع لا يقول والله الطلاب كلهم بخير كلهم حريصون كلهم كلمتهم واحدة كلهم على أدب طيب لا الواجب أن يبلغ بالحقيقة وينص على كل واحد بعينه إذا اقتضى الحال هذا، وذكر العيب لإزالة العيب سلامة ونصح، وليس من الغيبة في شيء(6/348)
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة، فاطمة بنت قيس قالت يا رسول الله خطبني ثلاثة أسامة بن زيد، ومعاوية بن سفيان وأبو جهم فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أما معاوية فصعلوك لا مال له يعني من أين ينفق عليك، ما عنده مال، وأما أبو جهم فضراب للنساء هذا مداح أم ذم ذم، انكحي أسامة بن زيد، لكن كيف الرسول يغتابهم، اغتابهم لأي شيء؟ نصح وإرشاد.
فإذا جئت مثلاً إلى أي إنسان تحته أناس وهو ولي عليهم تقول هذا فلان كذا وكذا وأنت صادق بار ليس بينك وبينه عداوة أو مشاحنة فأنت على خير ومأجور وناصح، ولا يمكن أن تستقيم الأمور إلا أن الإنسان يعطي عنها صورة واضحة، أما الكتمان فهذا لا يجوز وكذلك أيضاً في المدرسة مدير المدرسة أو عميد الكلية يجب إذا رأينا طالباً منحرفاً في أخلاقه أو سلوكه أو غيبة لولاة الأمور يجب أن تنصحه أولاً وإلا يجب أن ترفع أمره حتى يصلح حاله لأن مثل هذا جرثومة فاسدة يفسد الطلاب كلهم أو من قدر عليه منهم، ولا يقر وهو في هذه الحال الذي ليس له هم إلا الإفساد ديناً أو سلوكاً ومنهجاً، لأن هذا هو النصح كذلك أيضاً عندما نأتي أمير بلدة نرى في البلدة منكرات، نري فيها غشاً، نرى فيها تقصيراً من المسئولين الآخرين لا يجوز أن نعطي الأمير صورة على أن كل شيء تام، يجب أن نبين ونوضح.
صحيح أنه إذا أمكن أن تصلح الأمور قبل أن ترفع إلى الأمير فهذا حسن وطيب ولكن إذا علمنا أن المسألة ما هي صالحة وأننا لو ذهبنا إلى المسئول الذي تحت الأمير قال: إن شاء الله تعالى ابشروا(6/349)
كل شيء يتيسر ولكنه يماطل فلابد من إبلاغ من فوقه حتى يقوم باللازم فالحاصل من هذا الحديث أنه لابد من النصح، وبيان الأمور على ما هي عليه وأما أن تلقى الإنسان بوجه وإذا أدبرت عنه أدبرت، فهذا حرام ومن النفاق، ومن ذلك أيضاً مسألة أخص من هذا، يجيء إنسان شخصا يقول: ما شاء الله عليك، أنت رجل طيب حبيب وكريم، يثني عليك بلسان يملأ الجوف وقلبه حاقد، لكن يريد أن يأخذ ما عندك يعنى بعض الناس خبثاء يأخذ ما عنده والرجل سليم القلب يمكن أن يصغي إلى هذا الشخص إذا رأى أنه ناصح ثم إذا أدبر والعياذ بالله فإنه يكيل له الصاع مقلوباً فيتكلم في عرضه وسبه ويقول: هذا مقصر هذا ما لا دين له فعلى المسلم أن يتقي الله ربه وأن يتجنب المداهنة والكذب والغش وأن يكون صريحاً حتى يصلح الله على يديه والله الموفق
1619 - وعن جندب بن عبد الله بن سفيان رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: من سمع سمع الله به، ومن يرائي الله يرئي به متفق عليه ورواه مسلم أيضاً من رواية ابن عباس رضي الله عنهما سمع بتشديد الميم، ومعناه: أشهر عمله للناس رياء سمع الله به أي: فضحه يوم القيامة، ومعنى من راءى أي من أظهر للناس(6/350)
العمل الصالح ليعظم عندهم راءى الله به أي: أظهر سريرته على رؤوس الخلائق.
1620 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تعلم علما مما يبتغي به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة يعني ريحها رواه أبو داود بإسناد صحيح والأحاديث في الباب كثير مشهورة
[الشَّرْحُ]
نقل المؤلف رحمه ما بقي من أحاديث الرياء التي سبقت، عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به يعني من قال قولا يتعبد به الله ورفع صوته بذلك حتى يسمعه الناس ويقولون فلان كثير الذكر كثير القراءة وما أشبه ذلك فإن هذا قد سمع عباد الله يرائي بذلك نسأل الله العافية سمع الله به أي فضحه وكشف أمره وبين عيبه للناس وتبين لهم أنه مرائي والحديث لم يقيد هل هو في الدنيا أو في الآخرة فيمكن أن يسمع الله به في الدنيا فيكشف عيبه عند الناس ويمكن أن يكون ذلك في الآخرة وهو أشد والعياذ بالله وأخزى كما قال الله تعالى ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون وكذلك من راءى راءى الله به يعني من عمل عملا ليراه الناس ويمدحوه عليه فإن الله تعالى يرائي به ويبين عيبه للناس ويفضحه والعياذ بالله حتى يتبين أنه يرائي وفي هذا الحديث التحذير العظيم من الرياء وأن المرائي مهما كان ومهما اختفى لابد أن يتبين والعياذ بالله لأن الله تعالى تكفل بهذا من سمع سمع(6/351)
الله به ومن راءى راءى الله به.
وأما حديث أبي هريرة فهو فيمن طلب علما مما يبتغي به وجه الله وذلك هو العلم الشرعي علم الكتاب والسنة إذا طلب الإنسان علما من علم الكتاب والسنة لا يريد إلا أن ينال به عرض من الدنيا لم يجد عرف الجنة يعني ريحها وأن ريحها سيوجد من مسيرة كذا وكذا فمثلا لو أن إنسان تعلم علم العقائد لأجل أن يقال فلان جيد في العقيدة أو لأجل أن يوظف أو ما أشبه ذلك أو علم الفقه أو علم التفسير أو علم الحديث ليرائي به الناس فإنه لا يجد ريح الجنة والعياذ بالله يعني يحرم دخولها(6/352)
وأما العلوم التي ليست مما يبتغى بها وجه الله كعلوم الدنيا كعلم الحساب والهندسة والبناء لو تعلمه الإنسان يريد عرضا من الدنيا فلا شيء عليه لأن هذا العلم دنيوي يراد للدنيا والحديث الذي فيه الوعيد مقيد بالعلم الذي يبتغي به وجه الله فإن قال قائل كثير من الطلبة الآن يدرسون في الكليات يريدون الشهادة الشهادة العليا فيقال إنما الأعمال بالنيات إذا كان يريد بالشهادات العليا أن ينال الوظيفة والمرتبة فهذا أراد به عرضا من الدنيا وإن أراد بذلك أن يتبوأ مكانا لينفع الناس ليكون مدرسا ليكون مديرا ليكون موجها فهذا خير ولا بأس به لأن الناس أصبحوا الآن لا يقدرون الإنسان بعلمه وإنما يقدرونه بشهادته فإذا قال قائل مثلا لو أبقيت بدون شهادة مهما بلغت من العلم لن يجعلوني معلما لكني أتعلم وآخذ شهادة لأجل أن أكون معلما أنفع المسلمين فهذه نية طيبة وليس فيها شيء والله الموفق.(6/353)
باب ما يتوهم أنه رياء وليس رياء
1621 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت الرجل الذي يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه قال تلك عاجل بشرى المؤمن رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب ما يتوهم أنه رياء وليس هو رياء يعني ما يظنه الإنسان أنه رياء ولكن ليس برياء ثم ذكر حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يعمل العمل فيحمده الناس على ذلك فقال: تلك عاجل بشرى المؤمن أن الناس يثنون عليه وصورة المسألة التي في الحديث أن الرجل يعمل عملا صالحا لله لا يبالي أعلم به الناس أم لم يعلموا أرأوه أم لم يروه أسمعوه أم لم يسمعوه لكنه لله يعمل خالصا ثم إن الناس يحسدونه على ذلك يقولون فلان كثير الخير فلان كثير الطاعة فلان كثير الإحسان إلى الخلق وما أشبه ذلك فقال تلك عاجل بشرى المؤمن وهو الثناء عليه لأن الناس إذا أثنوا على الإنسان خيرا فهم شهداء الله في أرضه ولهذا لما مرت جنازة من عند النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أثنوا عليها خيرا قال وجبت ثم مرت أخرى فأثنوا عليها شرا قال وجبت فقالوا يا رسول الله ما(6/354)
وجبت قال أما الأول فوجبت له الجنة وأما الثاني فوجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض فهذا معنى قوله تلك عاجل بشرى المؤمن والفرق بين هذه وبين الرياء أن المرائي لا يعمل العمل إلا لأجل الناس ليراه الناس فيكون في نيته شرك شرك مع الله غيره وأما هذا فنيته خالصة لله عز وجل ولم يطرأ على باله أن يمدحه الناس أو يذموه لكن الناس يعلمون كما قال الشاعر
ومهما تكن عند امرء من خليقة ...
وإن خالها تخفى على الناس تعلمي
يعني أي شيء خلق عند الإنسان يقوم به وإن ظن أن الناس لا يعلمون فإنهم لابد أن يعلموه فإذا علموا بطاعته ومدحوه وأثنوا عليه فهذا ليس برياء هذا عاجل بشرى المؤمن حيث إن الناس أثنوا عليه خيرا ومن أثنى الناس عليه خيرا فحري بأن يكون من أهل الجنة أما المرائي والعياذ بالله فإنه إن صلى يريد من الناس أن يعلموا بذلك إن تكلم بخير أراد من الناس أن يسمعوه ليمدحوه على هذا والفرق بين هذا وبين ما ذكر في حديث أبي هريرة اليوم فرق عظيم نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من الرياء وأن يعيذنا من سوء الفتن إنه على كل شيء قدير.(6/355)
باب تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية والأمرد الحسن لغير حاجة شرعية
قال الله تعالى {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} وقال تعالى {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} وقال تعالى {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} وقال تعالى {إن ربك لبالمرصاد}
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية والأمرد الحسن لغير حاجة المرأة الأجنبية هي التي ليس بينك وبينها محرمية سواء أكانت قريبة أم بعيدة والأمرد هو الشاب الذي لم تنبت لحيته ولم يكن على شاربه شعر ثخين يعني أن شاربه أخضر ولحيته لم تنبت والحسن ضد القبيح النظر إلى المرأة الأجنبية محرم كما قال المؤلف رحمه الله وذلك لأن الله أمر بغض البصر فقال قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون فأمر بغض البصر وحفظ الفرج وهذا يدل على أن عدم غض البصر سبب لعدم حفظ الفرج وأن الإنسان إذا أطلق بصره تعلق قلبه بالنساء ثم لا يزال به النظر حتى يدنو من المرأة ويكلمها ويخاطبها ثم يعدها ثم تحصل الفاحشة(6/356)
والعياذ بالله ولهذا يقال إن النظر بريد الزنا يعني أنه يدعو إلى الزنا فأمر الله بغض البصر وقال عز وجل {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} خائنة الأعين أي مسارقتها النظر يعني أن تنظر على وجه الخفاء الذي لا يدركه(6/357)
الناس لكن الله يعلمه فهو يعلم خائنة الأعين ويعلم جل وعلى ما تخفي الصدور من النيات الحسنة والنيات السيئة بل هو يعلم ما توسوس به النفس وما يستقبل للمرء وقال الله تعالى {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} فالإنسان مسئول عن السمع ماذا سمع بأذنيه هل سمع قولا محرما أو استمع إلى امرأة أجنبية يتلذذ بصوتها وكذلك البصر وكذلك الفؤاد فالواجب على الإنسان حفظ نفسه أما المرأة التي ليست أجنبية والتي يحرم عليك نكاحها فالنظر إليها لا بأس به النظر إلى وجهها وإلى رأسها وإلى كفيها وذراعيها وساقيها وقدميها كل هذا لا بأس به إلا أن يخاف الإنسان الفتنة على نفسه فإن خاف الفتنة على نفسه فإنه لا ينظر ولا إلى محارمه فلو قدر أن للإنسان أختا من الرضاعة جميلة فهي محرم له أخته من الرضاعة كأخته من النسب لكن إذا خاف على نفسه الفتنة من النظر إليها وجب عليه غض بصره ووجب عليها أن تحتجب عنه أيضا لأن أصل وجوب الحجاب الخوف من الفتنة فإذا وجدت الفتنة فإنه لابد من ستر الوجه ولو عن المحارم وأما إذا لم تكن فتنة وكان الإنسان سليم القلب عفيفا فهذا يحرم عليه أن ينظر إلى غير محارمه مثلا لا ينظر إلى بنت عمه ولا بنت خاله وكذلك لا ينظر إلى أخت زوجته ولا ينظر إلى زوجة أخيه وهلم جرا المهم أن المحارم يجوز النظر إليهن ما لم يخش الفتنة أما غير المحارم فيحرم النظر إليهن مطلقا والله الموفق
1622 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه متفق عليه وهذا لفظ مسلم ورواية البخاري مختصرة.
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله في باب تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية والأمرد الحسن من غير حاجة شرعية بعد ذكر الآيات حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كتب على ابن آدم حظه من الزنا وهو مدرك ذلك لا محالة يعني أن الإنسان مدرك للزنا لا محالة إلا من عصمه الله ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أمثلة لذلك فالعين زناها النظر يعني أن الرجل إذا نظر إلى امرأة ولو لغير شهوة وهي ليست من محارمه فهذا نوع من الزنا وهو زنا العين والأذن زناها(6/358)
الاستماع يستمع الإنسان إلى كلام المرأة ويتلذذ به هذا زنا الأذن وكذلك اليد زناها البطش يعني العمل باليد من اللمس وما أشبه ذلك والرجل زناها الخطا يعني أن الإنسان يمشي إلى محل الفواحش مثلا أو يسمع إلى صوت امرأة فيمش إليه أو يرى امرأة فيمشي إليها هذا نوع من الزنا لكن زنا الرجل القلب يهوى ويميل إلى هذا الأمر أي التعلق بالنساء هذا زنا القلب والفرج يصدق ذلك أو يكذبه يعني أنه إذا زنى بالفرج والعياذ بالله فقد صدق زنا هذه الأعضاء وإن لم يزني بفرجه بل سلم وحفظ نفسه فإن هذا يكون تكذيبا لزنا هذه الأعضاء فدل ذلك على الحذر من التعلق بالنساء لا بأصواتهم ولا بالرؤية إليهن ولا بمسهن ولا بالسعي إليهن ولا بغواية القلب لهن كل ذلك من أنواع الزنا والعياذ بالله فليحذر الإنسان العاقل العفيف من أن يكون في هذه الأعضاء شيء يتعلق بالنساء والواجب على الإنسان إذا أحس من نفسه بهذا أن يبتعد لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم والنظر سهم مسموم من سهام إبليس قد ينظر المرء إلى امرأة ولا تتعلق نفسه بها أول مرة لكن في الثانية في الثالثة حتى يكون قلبه معلق بها والعياذ بالله ويصبح هيمان لا يذكر إلا هذه المرأة إن قام ذكرها وإن قعد ذكرها وإن نام ذكرها وإن استيقظ ذكرها فيحصل بهذا الشر والفتنة نسأل الله العافية والله الموفق(6/359)
1623 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إياكم والجلوس في الطرقات قالوا يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه قالوا وما حق الطريق يا رسول الله قال غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متفق عليه.
1624 - وعن أبي طلحة زيد بن سهل رضي الله عنه قال: كنا قعودا بالأفنية نتحدث فيها فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام علينا فقال ما لكم ولمجالس الصعدات فقلنا إنما قعدنا لغير ما بأس قعدنا نتذاكر ونتحدث قال إما لا فأدوا حقها غض البصر ورد السلام وحسن الكلام رواه مسلم.
الصعدات بضم الصاد والعين.
أي الطرقات
[الشَّرْحُ]
لما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين الآيات الدالة على وجوب غض البصر ذكر أحاديث منها حديث أبي سعيد الخدري وحديث زيد بن سهل أما الأول فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال إياكم والجلوس على(6/360)
الطرقات وهذا تحذير يعني احذروا الجلوس على الطرقات فقالوا يا رسول الله مجالسنا ما لنا منها بد وكانوا يجلسون على أفنية البيوت كما يفعل كثير من الناس اليوم يجلس في فناء بيته ويجتمع إليه جيرانه يتحدثون فيما جرى بينهم وفي مصالحهم في دين أو دنيا قال فإن أبيتم إلا ذلك فأعطوا الطريق حقه يعني إن أبيتم إلا أن تجلسوا وكان لابد من الجلوس فأعطوا الطريق حقه قالوا وما حقه يا رسول الله فذكر حقه عليه الصلاة والسلام غض البصر يعني أن تغضوا أبصاركم عن المارة ولا تحدقوا فيهم ولا تنظروا إليهم لأن بعض الناس يجلس على الطرقات وكلما مر إنسان صار يراقبه من حين أن يقبل إلى أن يدبر وهذا خلاف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فيغض البصر ولاسيما إذا مرت المرأة فإن الواجب غض البصر من وجهين من حيث أنها امرأة ومن حيث إن التركيز على المار يوجب أن يخجل ويتأذى بذلك الثاني كف الأذى ألا تؤذوا أحدا من المارة لا بقول ولا بفعل لا بقول تسمعونه إياه يتأذى به ولا بفعل بأن تضيقوا الطريق فتمدوا أرجلكم مثلا أو تضجعوا في الطريق أو ما أشبه ذلك والثالث رد السلام يعني إذا سلم أحد تردون عليه السلام على الوجه الواجب إذا قال السلام عليكم تقول عليكم السلام ولا يكفي أن تقول أهلا وسهلا أو مرحبا أو ما أشبه ذلك بل لابد من الرد الواجب وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها الرابع الأمر بالمعروف إذا رأيتم أحدا قد قصر في أمر مطلوب منه(6/361)
تأمرونه به والمعروف كل ما أمر به الشرع وكل ما عرفه الناس وأقروا به مما لا يكون حراما فإنه معروف فمثلا لو جلستم في الطريق ورأيتم امرأة كاشفة الوجه فهنا إنهائها عن هذا المنكر رأيتم إنسان مفرطا تقام الصلاة وهو لا يصلي وأنتم قد صليتم وهو لم يصلي تأمرونه أن يصلي مع الجماعة مثلا وهلم جرا تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر فهذه خمس حقوق على من جلسوا في الطرقات وكذلك الحديث الذي بعده يدل على ما دل عليه هذا والمقصود والشاهد من هذا قوله غض البصر والله الموفق
1625 - وعن جرير رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال اصرف بصرك رواه مسلم
1626 - وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم احتجبا منه فقلنا يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه رواه(6/362)
أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح
1627 - وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى فيما نقله في كتابه رياض الصالحين في باب تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية والأمرد الحسن بغير حاجة شرعية عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة قال اصرف بصرك نظر الفجأة هو الذي يفاجأ الإنسان مثل أن تمر به امرأة مفاجأة وتكون قد كشفت وجهها فقال النبي صلى الله عليه وسلم اصرف بصرك يعني أدره يمينا أو شمالا حتى لا تنظر فيستفاد من هذا الحديث تحريم نظر الرجل إلى المرأة لكن إذا حصل هذا فجأة فإنه يعفى عنه لأنه بغير اختيار من الإنسان وما كان بغير اختيار من الإنسان فإن الله قد عفى عنه وأما الحديث الثاني حديث أم سلمة أنها كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة فدخل عبد الله ابن أم مكتوم وكان رجل أعمى وكان ذلك بعد نزول الحجاب فأمرهما أن تحتجبا منه يعني قال لأم سلمة وميمونة احتجبا منه يعني من ابن أم مكتوم وهو أعمى فقالتا يا رسول الله إنه رجل أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا فقال: أفعمياوان أنتما احتجبا منه فأمرهما أن تحتجبا عن الرجل ولو كان أعمى لكن هذا الحديث ضعيف لأن الأحاديث الصحيحة كلها ترده فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال(6/363)
لفاطمة بنت قيس: اعتدي في بيت ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده وهذا الحديث في الصحيحين وأما هذا الحديث الذي ذكره المؤلف رحمه الله فقد قال الإمام أحمد إن رفعه خطأ يعني لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فلا يحرم على المرأة أن تنظر إلى الرجل ولو كان أجنبي بشرط ألا يكون نظرها بشهوة أو لتمتع يعني نظر عادي ولذلك نجد الرجال يمشون في الأسواق كاشفين وجوههم والنساء ينظرون إلى الوجوه وكذلك النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يحضرن إلى المسجد ولا يحتجب الرجال عنهن ولو كان الرجل لا يحل للمرأة أن تراه لوجب عليه أن يحتجب كما تحتجب المرأة عن الرجل فالصحيح أن المرأة لها أن تنظر من الرجل لكن بغير شهوة ولا استمتاع أو تلذذ وأما الرجل فيحرم عليه أن يرى المرأة كما مر علينا الآن وكما مر علينا فيما سبق وأما الحديث الأخير فحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تنظر المرأة إلى عورة المرأة ولا الرجل إلى عورة الرجل ولا يفضي الرجل إلى(6/364)
الرجل في الثوب الواحد فقوله صلى الله عليه وسلم لا تنظر المرأة إلى عورة المرأة هذا نهى للناظرة أن تنظر إلى عورة المنظورة يعني لو انكشفت عورة المرأة المنظورة بريح أو بقضاء حاجة أو ما أشبه ذلك فإنه لا يحل للأخرى أن تنظر إلى عورتها وهي ما بين السرة والركبة وكذلك الرجل لو انكشفت عورته بريح أو لغير هذا من الأسباب فلا يحل للرجل أن ينظر إلى عورة الرجل وهذا الحديث تشبث به بعض النساء فقلن إن المرأة لا يلزمها أن تستر من بدنها إلا ما بين السرة والركبة وهذا فهم خاطئ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص للمرأة أن تقتصر على ثوب يستر ما بين السرة والركبة وإنما هي المرأة الأخرى أن تنظر إلى عورة المرأة والفرق بين الأمرين ظاهر فالمرأة اللابسة يجب أن يكون لباسها ساترا وكان نساء الصحابة رضي الله عنهم يسترن ما بين كعب القدم إلى كف اليد كل هذا مستور لكن لو قدر أن امرأة انكشفت عورتها لحاجة أو انكشفت من ريح أو غير هذا فإن المرأة لا تنظر إلى ما بين السرة والركبة بالنسبة للأخرى وكذلك يقال للرجل لا ينظر الرجل إلى عورة(6/365)
الرجل وهي ما بين السرة والركبة وهذا بالنسبة للرجل يجوز له أن يكشف الصدر والكتف لأخيه بدليل أنه يجوز للإنسان الرجل أن يقتصر على الإزار كما في حديث الرجل الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوجه الواهبة امرأة جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قالت يا رسول الله وهبت نفسي لك فصعد فيها النظر وصوبه ولم تطب نفسه بها فسكت فجلست المرأة ثم قال رجل من القوم زوجنيها يا رسول الله قال ما معك من الصداق قال معي إزاري قال سهل راوي الحديث ليس له رداء ما عليه إلا إزار فقط فقال له الرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أعطيتها إزارك بقيت بلا إزار وإن أبقيته لك لم يكن لها مهر اطلب ابحث التمس ولو خاتما من حديد فذهب يلتمس فلم يجد ولو خاتما من حديد فإنه فقير فقال هل معك شيء من القرآن قال نعم سورة كذا وكذا قال زوجتكها بما معك من القرآن يعني علمها الذي معك من القرآن وهذا هو مهرها فالشاهد من هذا أن الرجل لا بأس أن يقتصر على لبس الإزار أما المرأة فلا يمكن أن تقتصر على لبس الإزار وليس هذا من عادة نساء الصحابة رضي الله عنهم والله الموفق.
سؤال وجوابه الخادمة التي في البيوت كغيرها يجب أن تستر وجهها وهي أشد خطرا لأنها لو كشفت وجهها وكانت شابة أو جميلة افتتن بها صاحب البيت وأولاده إذا كان له أولاد(6/366)
باب تحريم الخلوة بالأجنبية
قال الله تعالى {وإذا سألتموهن متاعا فاسئلوهن من وراء حجاب}
1628 - وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والدخول على النساء فقال رجل من الأنصار أفرأيت الحمو؟ قال الحمو الموت متفق عليه.
الحمو قريب الزوج كأخيه وابن أخيه وابن عمه
1629 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم متفق عليه
1630 - وعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم ما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم إلا وقف له يوم القيامة فيأخذ من حسناته ما شاء حتى يرضى ثم التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما ظنكم؟ رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية المرأة الأجنبية هي التي ليس بينك وبينها محرم مثل بنت العم بنت العمة بنت الخالة وما أشبه ذلك أو من لم يكن من أقاربك فالمراد بالأجنبية هنا من ليست لك بمحرم والخلوة بها حرام وما خلى رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان فما(6/367)
ظنكم بمن ثالثهما الشيطان إنا ظننا بذلك أنهما سيكونا عرضة للفتنة والعياذ بالله ثم ذكر قوله تعالى وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب يعني لا تدخلوا عليهن اسألوهن من وراء حجاب حتى لا تحصل الخلوة ثم ذكر حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إياكم والدخول على النساء يعني إياكم أحذر أن تدخلوا على النساء وهذا تحذير بالغ قالوا يا رسول الله أرأيت الحمو قال الحمو الموت الحمو يعني أقارب الزوج من أخيه عمه خاله هذا هو الحمو أما أبو الزوج وابن الزوج فهم من المحارم لكن حواشيه كأخيه وعمه وخاله فهؤلاء ليسوا من المحارم قال الحمو الموت وهذه كلمة من أبلغ ما يكون من التحذير يعني كما أن الإنسان يفر من الموت فيجب أن يفر من دخول أقاربه على زوجته وأهله بلا محرم وهذا يدل على التحذير الشديد ودخول أقارب الزوج على بيت الزوج أخطر من دخول الأجانب لأن هؤلاء يدخلون باعتبارهم أقارب فلا يستنكرهم أحد وإذا وقفوا عند الباب يستأذنون لم ينكر عليهم أحد لذلك كان حراما على الإنسان أن يمكن أخاه من الخلوة بزوجته وبعض الناس يتهاون في هذا الأمر تجد عنده زوجة وله أخ بالغ فيذهب الرجل إلى العمل ويترك زوجته وأخاه في البيت وحدهما وهذا حرام لا يجوز لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ولكن كيف الخلاص(6/368)
إذا كان البيت واحدا؟ يجب أن يجعل بابا بين محل الرجال ومحل النساء مغلقا مفتاحه معه يأخذه معه ثم يقول لأخيه هذا محلك ويقول لأهله هذا محلك ولا يجوز أن تبقى الأبواب مفتوحة لأنه قد يدخل عليها فيغويه الشيطان فيغتصبها وربما يغرها حتى توافق وتكون كأنها زوجة له يدخل عليها ويخرج ولا يبالي نسأل الله العافية ومن الخلوة الخلوة بالسائق يعني الإنسان عنده سائق وله امرأة أو بنت لا يحل له أن يجعل السائق مع المرأة أو البنت وحدها إلا مع ذي محرم لأن الخلوة في السيارة أقوى من الخلوة في البيت إذ أن الخلوة في السيارة يستطيع أن يتفاهم معها ثم يذهبان إلى أي مكان ويفعل بها الفاحشة من الذي يمنعه؟ لهذا حرام على الإنسان أن يمكن أهله من زوجة أو أخت أو بنت من أن تركب وحدها مع السائق ولو بقدر خمس خطوات أبدا لا يجوز فإن قال قائل لو كانت امرأة تدرس وأبوها مريض أو مشغول لا يتمكن وهي لابد أن تدرس قلنا لا من يقول لابد أن تدرس الدراسة التي تستلزم الوقوع في المحرم حرام يجب أن تبقى في بيتها والدراسة الحمد لله لها الشباب الذكور فيهم خير والمرأة إذا كان معها مبادئ تستطيع أن تراجع وتنتسب أما أن تذهب مع السائق وحدها فهذا حرام ويخشى أن يكون الذي يمكن أهله من ذلك يخشى أن ينطبق عليه شيء من وصف الديوث وهو الذي يقر أهله على الفاحشة لكن هذا لم يقر أهله على الفاحشة إنما يخشى أن يكون ذلك وسيلة والله الموفق(6/369)
باب تحريم تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال في لباس وحركة وغير ذلك
1631 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء.
وفي رواية: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال رواه البخاري.
1632 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل رواه أبو داود بإسناد صحيح
1633 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا رواه مسلم.(6/370)
معنى كاسيات أي من نعمة الله عاريات من شكرها وقيل معناه تستر بعض بدنها وتكشف بعضه إظهارا لجمالها ونحوه وقيل تلبس ثوبا رقيقا يصف لون بدنها ومعنى مائلات قيل عن طاعة الله تعالى وما يلزمهن حفظه مميلات أي يعلمن غيرهن فعلهن المذموم وقيل مائلات يمشين متبخترات مميلات لأكتافهن وقيل مائلات يمتشطن المشطة الميلاء وهي مشطة البغايا ومميلات يمشطن غيرهن تلك المشطة رؤوسهن كأسنمة البخت أي يكبرنها ويعظمنها بلف عمامة أو عصابة أو نحوه
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين: باب تحريم تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال وذلك أن الله سبحانه وتعالى خلق الذكور والإناث وجعل لكل منهما مزية الرجال يختلفون عن النساء في الخلقة والخلق والقوة والدين وغير ذلك والنساء كذلك يختلفن عن الرجال فمن حاول أن يجعل الرجال مثل النساء أو أن يجعل النساء مثل الرجال فقد حاد الله في قدره وشرعه لأن الله سبحانه وتعالى له حكمة فيما خلق وشرع ولهذا جاءت النصوص بالوعيد الشديد باللعن وهو الطرد والإبعاد عن رحمة الله لتشبه الرجل بالمرأة أو المرأة بالرجل فمن تشبه بالنساء فهو ملعون على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ومن تشبهت بالرجال فهي ملعونة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن(6/371)
المخنثين من الرجال وفي لفظ المتشبهين من الرجال بالنساء وهؤلاء هم المخنثون في هذا الحديث ولعن المترجلات من النساء يعني المتشبهات بالرجال واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله فإذا تشبه الرجل بالمرأة في لباسه ولا سيما إذا كان لباس محرما كالحرير والذهب أو تشبه بالمرأة في كلامها وصار بغير لسانه في الكلام حتى كأنما تتكلم امرأة أو تشبه بالمرأة في مشيتها أو في غير ذلك مما يختص بالمرأة فإنه ملعون على لسان أشرف الخلق ونحن نلعن من لعنه رسول الله فالمتشبه من الرجال بالنساء ملعون كذلك المرأة إذا تشبهت بالرجال فهي ملعونة لو صارت تتكلم كما يتكلم الرجل أو جعلت لها عمامة كما يلبس الرجل أو جعلت ثيابها كثياب الرجل ومن ذلك البنطلون فإن لباس البنطلون خاص بالرجال النساء عليهن أن يلبسن الثياب الساترة والبنطلون كما نعلم جميعا يكشف المرأة تتبين أفخاذها وسوقها يعني سيقانها وما أشبه ذلك فلهذا نقول لا يحل للمرأة أن تلبس البنطلون حتى عند زوجها لأن ليست العلة العورة العلة التشبه فإذا تشبهت المرأة بالرجال فهي ملعونة على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا أردف المؤلف رحمه الله حديث ابن عباس بحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس قال العلماء وهؤلاء هم الشرط الذين يضربون الناس بغير حق معهم سياط كأذناب البقر يعني سوط طويل وله ريشة يضربون بها الناس بغير حق أما بحق فإنه يضرب المعتدي الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي(6/372)
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ لا ترأفوا بهما اجلدوهما تماما لكن من ضرب الناس بغير حق فهو من أصناف أهل النار والعياذ بالله الثاني نساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا هؤلاء أيضا النساء كاسيات عاريات قيل كاسيات بثيابهن كسوة حسية عاريات من التقوى لأن الله تعالى قال {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ} وعلى هذا فيشمل هذا الحديث كل امرأة فاسقة فاجرة وإن كان عليها ثياب فضفاضة لأن المراد بالكسوة الكسوة الظاهرة كسوة الثياب عاريات من التقوى لأن العاري من التقوى لا شك أنه عار كما قال تعالى {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} وقيل كاسيات عاريات أي عليهن كسوة حسية لكن لا تستر إما لضيقها وإما لخفتها تكون رقيقة ما تستر وإما لقصرها كل هذا يقال للمرأة التي تلبس ذلك إنها كاسية عارية مميلة مائلة مميلة يعني تميل المشطة كما فسرها بعضهم بأنها المشطة المائلة التي تجعل المشطة على جانب فإن هذا من الميل لأنها مميلات بمشطتهن ولا سيما أن هذا الميل الذي جاءنا إنما وردنا من النساء الكفار وهذا والعياذ بالله ابتلى به بعض النساء فصارت تفرق ما بين الشعر من جانب(6/373)
واحد فتكون هذه مميلة أي قد أمالت مشطتها وقيل مميلات أي فاتنات غيرهن لما يخرجن به من التبرج والطيب وما أشبه ذلك فهن مميلات لغيرهن ولعل اللفظ يشمل المعنيين لأن القاعدة أن النص إذا كان يحتمل معنيين ولا مرجح لأحدهما فإنه يحمل عليهما جميعا وهنا لا مرجح ولا منافاة لاجتماع المعنيين فيكون شاملا لهذا وهذا وأما قوله مائلات فمعناه منحرفات عن الحق وعما يجب عليهن من الحياء والحشمة تجدها في السوق تمشي مشية الرجل بقوة وجلد حتى إن بعض الرجال لا يستطيع أن يمشي هذه المشية لكنها هي تمشي كأنها جندي من شدة مشيتها وضربها بالأرض وعدم مبالاتها كذلك أيضا تضحك إلى زميلتها معها تضحك وترفع صوتها على وجه يثير الفتنة وكذلك تقف على صاحب الدكان تماكثه في البيع والشراء وتضحك معه وربما تمد يدها إليه لأجل يضع عليها ساعة اليد وما أشبه ذلك من المفاسد والبلاء وهؤلاء مائلات لا شك أنهن مائلات عن الحق نسأل الله العافية رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة البخت نوع من الإبل لها سنام طويل ينضجع يمينا أو شمالا هذه ترفع شعر رأسها حتى يكون مائلا يمينا أو يسارا كأسنمة البخت المائلة وقال بعض العلماء بل هذه المرأة تضع على رأسها عمامة كعمامة الرجل حتى يرتفع الخمار ويكون كأنه سنام إبل من البخت وعلى كل حال فهذه تجمل رأسها بتجميل يفتن(6/374)
لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها نعوذ بالله يعني لا يدخلن الجنة ولا يقربنها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا من مسيرة سبعين عاما أو أكثر ومع ذلك لا تقرب هذه المرأة الجنة والعياذ بالله لأنها خرجت عن الصراط فهي كاسية عارية مميلة مائلة على رأسها ما يدعو إلى الفتنة والزينة وفي هذا دليل على تحريم هذا النوع من اللباس لأنه توعد عليه بالحرمان من الجنة وهذا يدل على أنه من الكبائر وكذلك المتشبهات من النساء بالرجال تشبههن من كبائر الذنوب وكذلك المتشبهون من الرجال بالنساء تشبههم من كبائر الذنوب وهنا مسألة تشكل على بعض النساء وعلى بعض الناس أيضا يفعل الإنسان ما فيه التشبه ويقول أنا ما نويت أنا لم أنو التشبه فيقال إن الشبه صورة غالبة متى وجدت حذر التشبه سواء بنية أو بغير نية فمتى ظهر أن هذا تشبه ويشبه الكافرات ويشبه الفاجرات والعاريات أو يشبه الرجال من المرأة أو المرأة من الرجل متى ظهر التشبه فهو حرام سواء كان بقصد أو بغير قصد لكن إذا كان بقصد فهو أشد وإن كان بغير قصد قلنا يجب عليك أن تغير ما تشبهت به حتى تبتعد عن التشبه وأما الحديث الأخير حديث أبي هريرة رواه أبو داود بإسناد حسن أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن تلبس المرأة لبسة الرجل والرجل لبسة المرأة هذا يؤيد ما قلنا فيما سبق أن التشبه يكون باللباس والمشية والهيئة وغير ذلك نسأل الله لكم ولنا السلامة وأن يحفظ ذكورنا وإناثنا مما فيه الفتنة والغلط سؤال وجوابه المميلون من الرجال ربما يكون أخبث يعني يوجد بعض الشبان ولا سيما إذا كان جميلا يميل لباسه ويتغنج حتى كأنه يدعو الناس إلى نفسه والعياذ بالله(6/375)
باب النهي عن التشبه بالشيطان والكفار
1634 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تأكلوا بالشمال فإن الشيطان يأكل ويشرب بشماله رواه مسلم
1635 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يأكلن أحدكم بشماله ولا يشربن بها فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف في كتابه رياض الصالحين باب تحريم التشبه بالشيطان والكفار الشيطان هو رأس الكفر كما قال الله تعالى وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ والكفار من بني آدم هم أعداء الله وأولياء الشيطان كما قال الله تعالى {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} والتشبه بالشيطان أو الكفار أن يعمل الإنسان أعمالهم أو يلبس لباسهم الخاص بهم أو يتزين بزيهم الخاص سواء قصد التشبه أو لم يقصده(6/376)
فإذا قيل هذا لباس الكفار حرم على المسلم أن يلبسه إذا قيل هذا الزي زي الكفار..
حرم على المسلم أن يتشبه بهم الشيطان كذلك لا يتشبه به في أعماله لكن الشيطان من عالم الغيب لا نعلم من أعماله إلا ما حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يأكلن أحدكم بشماله ولا يشربن بشماله فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله الشمال اليد اليسرى فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الأكل بها والشرب بها وعلل ذلك بأن هذا عمل الشيطان الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله وقد نهينا عن اتباعه كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} وهذا الحديث يدل على تحريم الأكل بالشمال وتحريم الشرب بالشمال وأن من أكل أو شرب بشماله فإنه مشابهة للشيطان الذي هو عدونا وعدو الله عز وجل وإنك لتعجب من قوم الآن بعد أن امتزجوا بالكفار وشاهدوهم يقلدون زعيمهم الشيطان في الأكل بالشمال والشرب بالشمال تعجب من هؤلاء القوم أن يأكلوا بشمالهم ويشربوا بشمالهم ويدع هدى النبي صلى الله عليه وسلم فيكونون متشبهين بالشيطان والكفار غير متأسين برسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفين لهديه وسننه ومن الناس من يأكل باليمين ويشرب باليمين ولكن إذا قدم له الشرب وهو يأكل شرب بالشمال وقال أخاف أن يتلطخ الإناء سبحان الله وإن تلطخ الإناء يتلطخ بنجاسة أو بطعام بطعام والطعام حلال وما على الإنسان إلا أن يغسل الكأس بعد الشرب ونحن الآن في الوقت الحاضر نشرب الكأس الباغ ويرمى(6/377)
لكن الشيطان يزين للإنسان سوء عمله فيراه حسنا وقد قال الله تعالى منكرا على هؤلاء {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} نسأل الله العافية فيحرم على الإنسان بأي حال من الأحوال أن يأكل أو يشرب بشماله إلا لضرورة إذا كانت اليد اليمنى شلاء أو مكسورة أو ليس لها أصابع أو ما أشبه ذلك من الضرورة فهذه ضرورة وما جعل الله علينا في الدين من حرج ورأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يأكل بشماله فنهاه وقال لا أستطيع أن آكل يعني باليمين فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لا استطعت فما رفع يده اليمنى إلى فمه بعد ذلك شلت لأنه كاذب عندما قال لا أستطيع لكن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عليه يدل على أن هذا أعني الأكل بالشمال حرام وإن كان هذا الرجل قد منعه الكبر لكن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عليه يدل على تحريم فعله وهو كذلك ومن هذا أيضا أي من مشابهة الشيطان الأخذ بالشمال والإعطاء بالشمال ومع الأسف أن كثيرا من الناس ومن طلبة العلم ومن أهل الخير والعبادة يأخذ بشماله ويعطي بشماله فمثلا يعطي شيئا بالشمال سبحان الله الذي يأخذ بالشمال ويعطي بالشمال مشابه للشيطان وهو خلاف المروءة وخلاف الأدب إذا أردت أن تعطي أحدا أعطه باليمين وإذا أردت أن تأخذ منه شيئا فخذ باليمين اللهم إلا إذا كانت اليمين مشغولة مثل أن تكون تحمل فيها شيئا ثقيلا لا يمكن أن تنقله إلى اليد اليسرى فلكل حال مقام لكن بدون سبب لا تعط بالشمال ولا تأخذ بالشمال إن كنت تريد هدى النبي صلى الله عليه وسلم نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية(6/378)
1636 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم متفق عليه المراد خضاب شعر اللحية والرأس الأبيض بصفرة أو حمرة وأما السواد فمنهي عنه كما سنذكر في الباب بعده إن شاء الله تعالى
باب نهي الرجل والمرأة عن خضاب شعرهما بسواد
1637 - عن جابر رضي الله عنه قال: أتي بأبي قحافة والد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم غيروا هذا واجتنبوا السواد رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين في باب تحريم التشبه بالشيطان والكفار عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم يعني اصبغوا وهذا يعني به صبغ البياض الشيب بدليل الحديث الذي في الباب الذي بعده أنه أتي بأبي قحافة والد أبي بكر رضي الله عنهما ورأسه ولحيته كالثغامة بياضا الثغامة نوع من النبات(6/379)
أبيض يسمى العرسج فقال النبي صلى الله عليه وسلم غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد ففي هذا دليل على أن الأفضل أن الإنسان يغير الشيب يصبغه لكن بغير الأسود إما بالأصفر كالحناء أو بالأصفر الممزوج بالكتم والكتم أسود فإذا مزج الأصفر بالأسود ظهر لون بني فيصبغ الإنسان بالبني أو بالأصفر كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولولا المشقة والمؤونة على بعض الناس لكان يفعل ذلك لكن في مراعاة ومراقبة ويخرج أسفل شعر أبيض وأعلاه مصبوغا وفي قوله جنبوه السواد دليل على أنه يمنع اللون الأسود لأن السواد يعني أنه يعيد الإنسان شابا فكان ذلك مضادة لفطرة الله عز وجل وسنته في خلقه وأما بقية الأصباغ فلا بأس بها إلا السواد لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه وإلا إذا كان صبغة مختصة بنساء الكفار فإنه لا يجوز لنساء المؤمنين أن يصبغوا بها لأنهم إن فعلوا ذلك تشبهوا بالكفار وهو منهي عنه والله الموفق(6/380)
باب النهي عن القزع وهو حلق بعض الرأس دون بعض وإباحة حلقه كله للرجل دون المرأة
1638 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع متفق عليه
1639 - وعنه رضي الله عنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيا قد حلق بعض شعر رأسه وترك بعضه فنهاهم عن ذلك وقال احلقوه كله أو اتركوه كله رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم
1640 - وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمهل آل جعفر رضي الله عنه ثلاثا ثم أتاهم فقال لا تبكوا على أخي بعد اليوم ثم قال ادعوا لي بني أخي فجيء بنا كأننا أفرخ فقال ادعوا لي الحلاق فأمره فحلق رؤوسنا رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم
1641 - وعن علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحلق(6/381)
المرأة رأسها رواه النسائي
[الشَّرْحُ]
هذا الباب ذكره المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في بيان حكم القزع ثم ذكر فيه أحاديث منها حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع والقزع أن يحلق بعض الرأس ويترك بعضه سواء كان من جانب واحد أو من كل الجوانب أو من فوق ومن يمين ومن شمال ومن وراء ومن أمام المهم أنه إذا حلق بعض الرأس وترك بعضه فهذا قزع وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ومنه قول أنس وما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة أي قطعة من السحاب وذكر حديث ابن عمر الآخر أن صبيا أتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد حلق بعض رأسه وترك بعضه قال احلقوه له أو اتركوه كله ثم ذكر حديث أولاد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه حين قتل شهيدا فأمهلهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ثم أتاهم وقال لا تبكوا على أخي بعد اليوم وإنما أمهلهم ثلاثا من أجل أن تطيب نفوسهم ويذهب ما في نفوسهم من الحزن والأسى ثم بعد الثلاث نهاهم أن يبكوا جعفرا وأتي بأولاده صغار فأمر بحلق رؤوسهم فحلقت رؤوسهم وذلك من أجل ألا تتوسخ لأن الصبيان كما هو معروف تتوسخ أبدانهم وشعورهم فمن أجل ذلك حلق(6/382)
رؤوسهم وهذا إذا كانوا ذكورا أما الإناث فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تحلق المرأة رأسها ولهذا إذا ولد المولود فإنه يحلق رأسه يوم السابع مع العقيقة إذا كان ذكرا أما الأنثى فلا يحلق رأسها وفي هذه الأحاديث دليل على أن اتخاذ الشعر ليس بسنة ومعنى اتخاذ الشعر أن الإنسان يبقي شعر رأسه حتى يكثر ويكون ضفرة أو لمة فهو عادة من العادات ولو كان سنة لقال النبي صلى الله عليه وسلم اتركوه لا تحلقوه في الصبي ولما حلق رؤوس أولاد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ولكنه أي اتخاذ الشعر عادة إذا اعتاده الناس فاتخذه وإن لم يعتده الناس فلا تتخذه وأما من ذهب إلى أنه سنة من أهل العلم فإن هذا اجتهاد منهم والصحيح أنه ليس بسنة وأننا لا نأمر الناس باتخاذ الشعر بل نقول إن اعتاده الناس وصار الناس يتخذون الشعر فاتخذه لئلا تشذ على العادة وإن كانوا لا يتخذونه كما هو معروف الآن في أهلنا فلا تتخذه ولهذا كان مشايخنا الكبار كالشيخ عبد الرحمن بن سعدي والشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبد العزيز بن باز وغيرهم من العلماء لا يتخذون الشعر لأنه ليس بسنة ولكنه عادة والله الموفق شعر البنات لا يحلق لا صغارا ولا كبارا إلا لحاجة مثل إن كانت الرأس فيها جروح يجب التداوي منها فلا بأس لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما احتاج إلى الحجامة وهو محرم حلقه واحتجم وهو محرم مع أن حلق رأس المحرم حرام لكن عند الحاجة هذا شيء آخر(6/383)
باب كراهية الاستنجاء باليمين ومس الفرج باليمين من غير عذر
1648 - عن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه ولا يستنج بيمينه ولا يتنفس في الإناء متفق عليه وفي الباب أحاديث كثيرة صحيحة
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب كراهة الاستنجاء باليمين الاستنجاء تطهير القبل والدبر من الحدث من البول أو الغائط ويكون بالاستجمار ويكون بالماء يعني يكون بالحجارة أو ما ينوب منابها من الخرق والخشب والتراب وغير ذلك أو بالماء ولكن الاستجمار بالحجارة له شروط ذكرها العلماء رحمهم الله وأما الماء فشرطه أن يزول أثر النجاسة وأثر النجاسة معلوم فإذا زال الأثر وعاد المحل كما كان فهذا هو الطهارة ثم ذكر المؤلف حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يستنجي أحدكم بيمينه يعني لا يمسك الذكر باليمين فيغسله لأن اليد اليمنى مكرمة ولهذا قال العلماء رحمهم الله اليمنى هي المقدمة إلا في مواضع(6/384)
الأذى فاليسرى تقدم للأذى واليمنى لما سواه وعلى هذا فيستنجي باليسار ويصب الماء باليمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستنجاء باليمين ثم قال عليه الصلاة والسلام ولا يتمسح من الخلاء بيمينه يعني كذلك بالأحجار إذا أراد أن يمسح محل الغائط فإنه لا يمسك الحجر بيمينه وإنما يمسكه باليسرى ولا يتنفس في الإناء يعني إذا شرب فالسنة أن يتنفس ثلاث مرات يشرب أولا ثم يقطع ثم يشرب ثانيا ثم يقطع ثم يشرب ثالثا هكذا هي السنة وهو أنفع للبدن وأنفع للمعدة لأن العطش التهاب في المعدة وحرارة فإذا جاءها الماء دفعة واحدة أثر عليها وإذا كان يمصه مصا ويتنفس ثلاثا فهو أهنأ وأبرأ وأمرأ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكن إذا تنفس لا يتنفس في الإناء يزيل فمه عن الإناء ثم يتنفس لأن التنفس بالإناء فيه ضرر على الشارب لأن النفس يكون صاعدا والماء يكون نازلا فيلتقيان فيحصل الشرق وفيه أيضا أذى لمن بعده لأنه يخرج مع نفسه أمراض التي يسمونها ميكروبات فتكون في الماء فتؤثر على من شرب من بعده فلذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يتنفس الإنسان في الإناء والله الموفق(6/385)
باب كراهة المشي في نعل واحدة أو خف واحد لغير عذر وكراهة لبس النعل والخف قائما لغير عذر
1649 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يمش أحدكم في نعل واحدة لينعلهما جميعا أو ليخلعهما جميعا وفي رواية أو ليحفهما جميعا متفق عليه
1650 - وعنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا انقطع شسع نعل أحدكم فلا يمش في الأخرى حتى يصلحها رواه مسلم
1651 - وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن ينتعل الرجل قائما رواه أبو داود بإسناد حسن
[الشَّرْحُ]
هذه أحاديث في النعل وكراهة أن ينتعل الإنسان برجل واحدة أو يلبس خفا برجل واحدة بل إما أن يحفيهما جميعا يعني لا يلبس في الرجلين(6/386)
شيئا وإما أن ينعلهما جميعا وليعلم أن لبس النعال من السنة والاحتفاء من السنة أيضا ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كثرة الإرفاه وأمر بالاحتفاء أحيانا فالسنة أن الإنسان يلبس النعال لا بأس لكن ينبغي أحيانا أن يمشي حافيا بين الناس ليظهر هذه السنة التي كان بعض الناس ينتقدها إذا رأى شخصا يمشي حافيا قال ما هذا هذا من الجهال وهذا غلط لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن كثرة الإرفاه ويأمر بالاحتفاء أحيانا فإذا لبست النعل فعند اللبس البس الرجل اليمنى وعند الخلع ابدأ باليسرى وكذلك أيضا إذا انتعلت وأردت دخول المسجد بنعليك فتفقدهما عند الدخول إن كان فيهما أذى أو قذر فامسحهما بالأرض حتى يزول ثم صلي بهما فإن هذا من السنة قال النبي صلى الله عليه وسلم خالفوا اليهود صلوا في نعالكم لأن اليهود لا يصلون في النعل فالسنة إذا أن يصلي بنعليه كما أن كثيرا من الناس يصلي في خفيه فلا فرق بين الخف والنعل لكن الناس تستنكر الخف لأنه سنة أميتت هذا إذا كانت المساجد مفروشة بما كانت تفرش به المساجد فيما سلف كانت المساجد فيما سلف تفرش بالحجارة بالحصباء أو الرمل أو نحو ذلك ولا يحصل أذى النعل أما الآن وقد فرشت بهذه الفرش فإن الناس لو دخلوا للوثوا المسجد تلويثا ظاهرا بينا لأن أكثر الناس لا يبالي لو كان في نعليه أذى أو قذر ولهذا رأى(6/387)
العلماء الآن أن الإنسان لا يدخل بنعليه في المسجد نظرا لأنها مفروشة بفرش تتلوث لو دخل الإنسان بنعليه وإذا أراد الإنسان أن يطبق السنة فليصل في بيته بنعليه التهجد أو الراتبة أو ما أشبه ذلك ويحصل بذلك امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله إن اليهود لا يصلون في نعالهم ثم إن الأحاديث حديث أبي هريرة نهى أن ينتعل الرجل بنعل واحد يعني إما أن يلبس النعلين جميعا وإما أن يخلعهما جميعا أما أن يلبس واحدة ويدع الأخرى فهذا قد نهى عنه ووجه ذلك والله أعلم أن هذا الدين الإسلامي جاء بالعدل حتى في اللباس لا تنعل إحدى الرجلين وتترك الأخرى لأن هذا فيه جور على الرجل الثانية التي لم تنعل فلذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المشي في نعل قال العلماء ولو لإصلاح الأخرى ولهذا جاء في حديث أبي هريرة الثاني إذا انقطع شسع نعل أحدكم فلا يلبسها حتى يصلح الأخرى ثم يلبسهما جميعا أما حديث جابر رضي الله عنه الذي رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن ينتعل الرجل قائما فهذا في نعل يحتاج إلى معالجة في إدخاله في الرجل لأن الإنسان لو انتعل قائما والنعل يحتاج إلى معالجة فربما يسقط إذا رفع رجله ليصلح النعل أما النعال المعروفة الآن فلا بأس أن ينتعل الإنسان وهو قائم ولا يدخل ذلك في النهي لأن نعالنا الموجودة يسهل خلعها ولبسها والله الموفق(6/388)
باب النهي عن ترك النار في البيت عند النوم ونحوه سواء كانت في سراج أو غيره
1652 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون متفق عليه.
1653 - وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: احترق بيت بالمدينة على أهله من الليل فلما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأنهم قال إن هذه النار عدو لكم فإذا نمتم فأطفئوها متفق عليه
1654 - وعن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: غطوا الإناء وأوكئوا السقاء وأغلقوا الأبواب وأطفئوا السراج فإن الشيطان لا يحل سقاء ولا يفتح بابا ولا يكشف إناء فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عودا ويذكر اسم الله فليفعل فإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيوتهم رواه مسلم الفويسقة الفأرة وتضرم تحرق(6/389)
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب النهي عن إبقاء النار ونحوها في البيت عند النوم ونحوه وذلك أن النار كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث عدو للإنسان فإذا أبقاها الإنسان ونام فربما تأتي الفويسقة يعني الفأرة فتنخسها ثم تشتعل كما هو الشأن فيما سبق كانت السرج من النار توقد في الزمان الأول توقد بالودك والزيت وشبهه ثم صار توقد بالجاز وكلها مواد سائلة فإذا جاءت الفأرة وعبثت بها انصب الذي في السراج على الأرض ثم اشتعلت النار وحصل الحريق ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإطفاء النار عند النوم لئلا يحصل هذا الحريق ولكن في الوقت الحاضر الوقود ليس يوقد كما كان فيما سبق فاليوم الكهرباء سالب وموجب يحصل بها إيقاد اللمبة مثلا فلو نام الإنسان وفي بيته لمبة موقدة التي يسمونها السهارية فلا بأس لأن العلة التي من أجلها نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إبقاء النار غير موجودة في الكهرباء في الوقت الحاضر نعم فيه أشياء تشبه ذلك كالدفايات هذه لا شك أنها على خطر ولا سيما إذا قربها الإنسان من فراشه فإنه ربما ينقلب أو ربما يمس هذه النار فلهذا ينهى أن تبقى هذه الدفايات موقدة إلا في مكان آمن بعيد عن الفراش لئلا يحصل الحريق وكذلك ينبغي للإنسان إذا نام أن يجافي الباب بمعنى يغلقه وكذلك ينبغي إذا أراد أن ينام أن يغطي الإناء ولو بوضع عود عليه لأن في ذلك حماية له من الشيطان والله الموفق(6/390)
باب النهي عن التكلف وهو فعل وقول ما لا مصلحة فيه بمشقة
قال الله تعالى {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}
1655 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهينا عن التكلف رواه البخاري
1656 - وعن مسروق قال: دخلنا على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم الله أعلم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} رواه البخاري
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب النهي عن التكلف التكلف معناه تكلف الشيء ومحاولة معرفته وإظهار الإنسان بمظهر العالم وليس كذلك ثم ذكر المؤلف قوله تعالى قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي لا أسألكم على ما جئت به من الوحي أجرا تعطونني إياه وإنما(6/391)
أدلكم على الخير وأدعوكم إلى الله عز وجل وهكذا الرسل عليهم الصلاة والسلام كلهم يقولون لأصحابهم {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أي من الشاقين عليكم أو القائلين بلا علم بل إنه عليه الصلاة والسلام كان يقول ويؤيده الله على قوله بإقراره عليه ثم حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال نهينا عن التكلف والناهي هو الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا قال الصحابي نهينا فإن هذا له حكم الرفع يعني كأنه قال نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعليه يكون هذا الناهي هو الرسول صلى الله عليه وسلم نهينا عن التكلف أن يتكلف الإنسان ما لا علم له به ويحاول أن يظهر بمظهر العالم العارف وليس كذلك ثم ذكر حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن الإنسان إذا سئل عما لا يعلم فلا يتكلم ويأتي بجواب لا يدري أهو صحيح أم لا ولكن لا يقول إلا ما علم به فإذا سئل عن شيء لا يعلمه فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول الإنسان لما لا يعلم الله أعلم ووصف هذا رضي الله عنه بالعلم لأن الذي يقول لا أعلم وهو لا يعلم هو العالم حقيقة هو الذي علم قدر نفسه وعلم منزلته وأنه جاهل فيقول لما لا يعرف الله أعلم ثم أن الإنسان إذا قال لما لا يعلم الله أعلم ولم يفت به يثق الناس به ويعلمون أن ما أفتى به فهو عن علم وما لم يعلمه يمسك عنه وأيضا إذا قال الإنسان لما لا يعلم الله أعلم عود نفسه الرضوخ للحق وعدم التصدر للفتوى وهذا خلافا لبعض الناس اليوم تجده يرى أن الفتوى ربح بضاعة فيفتي بعلم وبغير علم ويفتي بنصف علم ولهذا قال(6/392)
شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه الفتوى الحموية كانوا يقولون ما أفسد الدنيا والدين إلا أربعة نصف متكلم نصف فقيه نصف لغوي نصف طبيب أما المتكلم فإنه أفسد الأديان والعقائد لأن أهل الكلام الذين نالوا من الكلام شيئا ولم يصلوا إلى غايته اغتروا به وأما أهل الكلام الذين وصلوا إلى غايته فقد عرفوا حقيقته ورجعوا إلى الحق ونصف فقيه يفسد البلدان لأنه يقضي بغير الحق فيفسد البلدان فيعطي حق هذا لهذا وهذا لهذا ونصف نحوي لأنه يفسد اللسان لأنه يظن أنه أدرك قواعد اللغة العربية فيلحن فيفسد اللسان ونصف طبيب فيفسد الأبدان لأنه لا يعرف فربما يصف دواء يكون داء وربما لا يصف الدواء فيهلك المريض فالحاصل أنه لا يجوز للإنسان أن يفتي إلا حيث جازت له الفتوى وإن كان الله تعالى قد أراد أن يكون إماما للناس يفتيهم ويهديهم إلى صراط مستقيم فإنه سيكون وإن كان الله لم يرد ذلك فلن يفيده تجرأة في الفتوى..
ثم استدل ابن مسعود رضي الله عنه بقوله تعالى {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} والله الموفق(6/393)
باب تحريم النياحة على الميت ولطم الخد وشق الجيب ونتف الشعر وحلقه والدعاء بالويل والثبور
1657 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: الميت يعذب في قبره بما نيح عليه وفي رواية ما نيح عليه متفق عليه
1658 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية متفق عليه
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب تحريم النياحة على الميت النياحة هي البكاء البكاء على الميت برنة ينوح فيها كما تنوح الحمام والبكاء على الميت نوعان نوع اقتضته الطبيعة فهذا لا بأس به ولا يلام عليه العبد ومنه ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم حين رفع إليه صبي ونفسه تقعقع كأنه في شن فبكى عليه الصلاة والسلام رحمة بهذا الصبي الذي ينازعه الموت فقال له الأقرع بن(6/394)
حابس ما هذا إلا رحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء فبكاء النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الصبي ليس من أجل الحزن لكن رق ورحمة حيث أنه ينازع الموت وقال إنما يرحم الله من عباده الرحماء جعلنا الله وإياكم منهم ومن ذلك أيضا البكاء الذي تقتضيه الطبيعة حزنا على فراق المحبوب كما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم حين مات ابنه رضي الله عنه ابنه إبراهيم من مارية القبطية التي أهداها إليه ملك القبط جاءت منه بولد وترعرع الصبي وبلغ نحو ستة عشر شهرا يعني سنة وأربعة أشهر ثم توفاه الله عز وجل وسماه بإبراهيم الذي هو خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام ملة أبيكم إبراهيم سماه إبراهيم ولما بلغ ستة عشر شهرا تقريبا توفاه الله عز وجل فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فتوفي الطفل وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن له مرضعا في الجنة ترضعه هذا النوع من البكاء لا يضر لأنه شيء تقتضيه الطبيعة والجبلة ولا يدل على سخط الإنسان على ما قضاه الله وقدره أما النوع الثاني فهو البكاء الذي ينوح فيه الإنسان نياحا هذا البكاء يعذب به الميت في قبره والعياذ بالله يعني أنت تنوح وميتك يعذب في قبره بما يناح عليه ما دمت تنوح فالميت يعذب فتكون أنت المتسبب لعذابه في قبره والعياذ بالله ولهذا يخطئ بعض الناس نسأل الله العافية إذا مات له قريب ينوح يبكي هذا ما دام يفعل هكذا يعذب الميت في قبره بسبب بكائه عليه كما ثبت ذلك عن النبي(6/395)
صلى الله عليه وسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه فالواجب على الإنسان أن يتصبر ويحتسب الأجر عند الله ويعلم أن عظم الثواب من عظم المصاب وأنه كلما عظمت المصيبة كثر الثواب أما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم ليس منا من شق الجيوب وضرب الخدود ودعا بدعوى الجاهلية وهذا شيء يفعله الناس في الجاهلية إذا أصابتهم مصيبة شق جيبه أو جعل يلطم خده ينتف شعره أو يدعو بدعاء الجاهلية يا ويلاه يا ثبوراه يا انقطاع ظهراه وما أشبه ذلك فتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء لأن المؤمن مؤمن القلب بالله مؤمن بقضاء الله يعلم أنه لا يمكن أن تتغير الحال عما كان وأن هذا أمر قضي وانتهى كتب قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة جفت الأقلام وطويت الصحف لا يمكن أن تتغير الحال عما كان مهما كان إذا ما الفائدة من الجزع ما الفائدة من السخط ما هو إلا أمر أو وحي من الشيطان ليحرمك الأجر من جهة وليعذب به الميت من جهة أخرى فعليك يا أخي أن تتقي الله عز وجل وأن تصبر وتحتسب وأن تقول كما أثنى الله على من يقوله {وبشر الصابرين} من هم {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم ما من مسلم يصاب بمصيبة فيقول اللهم آجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها هكذا(6/396)
يجب على الإنسان أن يصبر ويحتسب الأجر ويعلم أن الحزن والبكاء بالنياحة لا يغني شيئا انتهى كل شيء لو أن أحدا سافر وأصيب بحادث هل يقول لو أني سافرت كنت سلمت ما هذا حصل؟ لا يمكن كما قال الله تعالى {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} قال الله تعالى {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} لا فرار من الموت إذا عليك أن تصبر وتحتسب وأن تقول إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها يؤجرك الله في مصيبتك ويخلف عليك خيرا منها وهذه قصة أم سلمة مات عنها زوجها أبو سلمة وهو من أحب الناس إليها فحزنت لفراقه وكانت قد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الإنسان إذا أصيب بمصيبة فقال: اللهم آجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها فقالت هذا قالت اللهم آجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها وتقول في نفسها من خير من أبي سلمة أبو سلمة زوجها يحبها وتحبه من يكون خيرا من أبي سلمة هي ما شكت في الخبر هي توقن أنه صدق لكن تقول من يكون هذا فما إن انتهت عدتها حتى خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فكان خيرا من أبي سلمة فأخلف الله لها خير من مصيبتها وصار النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يربي أولادها أولادها صاروا تحت الرسول صلى الله عليه وسلم(6/397)
وهذا أيضا نتيجة لقصة أخرى دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة رضي الله عنه وقد شخص بصره خرجت روحه فأغمض عينيه ثم قال إن الروح إذا قبضت تبعها البصر روحك إذا خرجت من جسدك البصر يشاهدها بإذن الله يشاهدها خارجة يتبعها فلما سمع أهل البيت ذلك عرفوا أن أبا سلمة قد مات فضجوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ثم قال اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين وأفسح له في قبره ونور له فيه واخلفه في عقبه في الغابرين دعوات خمس تزن الدنيا وما عليها اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين وأفسح له في قبره ونور له فيه واخلفه في عقبه إحدى هذه الدعوات عرفناها والباقي إن شاء الله مجاب الذي عرفناه أن النبي صلى الله عليه وسلم خلف أبا سلمة في عقبه فكان زوج امرأته وكان مربي أولاده يعني عاشوا في حجر الرسول صلى الله عليه وسلم والمهم أن على المرء أن يصبر عند المصائب أين كانت ويسترجع ويقول اللهم آجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها ولا بأس أن يبكي البكاء الطبيعي الذي ليس فيه نوح فإن هذا حصل من خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم والله الموفق(6/398)
1659 - وعن أبي بردة قال: وجع أبو موسى الأشعري رضي الله عنه فغشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله فأقبلت تصيح برنة فلم يستطع أن يرد عليها شيئا فلما أفاق قال أنا بريء ممن بريء منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء من الصالقة والحالقة والشاقة متفق عليه الصالقة التي ترفع صوتها بالنياحة والندب والحالقة التي تحلق رأسها عند المصيبة والشاقة التي تشق ثوبها
1660 - وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من نيح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة متفق عليه
1661 - وعن أم عطية نسيبة بضم النون وفتحها رضي الله عنها قالت: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البيعة أن لا ننوح متفق عليه
1662 - وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: أغمي على عبد(6/399)
الله بن رواحة رضي الله عنه فجعلت أخته تبكي وتقول واجبلاه واكذا واكذا تعدد عليه فقال حين أفاق ما قلت شيئا إلا قيل لي أنت كذلك رواه البخاري
1663 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: اشتكى سعد بن عبادة رضي الله عنه شكوى فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم فلما دخل عليه وجده في غشية فقال أقضي قالوا لا يا رسول الله فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بكوا قال ألا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم متفق عليه
1664 - وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب رواه مسلم
1665 - وعن أسيد بن أبي أسيد التابعي عن امرأة من المبايعات(6/400)
قالت: كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه أن لا نخمش وجها ولا ندعو ويلا ولا نشق جيبا وأن لا ننثر شعرا رواه أبو داود بإسناد حسن
1666 - وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول واجبلاه واسيداه أو نحو ذلك إلا وكل به ملكان يلهزانه أهكذا كنت؟ رواه الترمذي وقال حديث حسن اللهز الدفع بجمع اليد في الصدر
1667 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث التي ساقها النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين كلها تدل على تحريم النياحة والندب على الميت أما النياحة فهي البكاء برنة حتى يكون كنوح الحمام وأما الندب فهو أن يذكر محاسن الميت ويتأوه منها ويتوجع(6/401)
ذكر أحاديث منها حديث أبي موسى رضي الله عنه أنه غشي ورأسه في حجر بعض أهله فجعلت هذه المرأة التي هو بحجرها تبكي برنة يعني بنياحة فلما أفاق رضي الله عنه قال أنا بريء مما برئ منه النبي صلى الله عليه وسلم إن النبي صلى الله عليه وسلم بريء من الصالقة والحالقة والشاقة الصالقة من الصلق وهو رفع الصوت يعني بأن تصرخ وتعلي صوتها عند المصيبة فهذه برئ منها النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نشهد الله أننا بريئون من كل ما يتبرأ منه الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كل عمل تبرأ منه أما الحالقة فهي أنه جرت عادة النساء في الجاهلية أن المرأة إذا أصيبت بميت تحلق شعر رأسها كأنها غاضبة والرأس يتخذ زينة عند النساء وطوله وكثافته مرغوبة عند النساء لكن في وقتنا الحاضر لما انفتح الناس على نساء الكافرين أو من تشبه بهم صارت المرأة تحاول أن تقصر شعر رأسها حتى يكون كرأس الرجل والعياذ بالله أما الشاقة فهي التي تشق جيبها عند المصيبة وكذلك أيضا التي تنكش شعرها عند المصيبة كل فعل يدل على التضجر فإنه داخل في هذه البراءة التي تبرأ منها النبي صلى الله عليه وسلم وفي هذه الأحاديث أن النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تقام يوم القيامة من قبرها وعليها سربال من قطران ودرع من جرب السربال يعني الثوب والدرع ما كان لاصقا بالبدن والمعنى أن جلدها أجرب والعياذ بالله والجرب معروف هو عبارة عن حكة يتبرز منها الجلد وإذا كان جلدها من جرب وعليها سربال من قطران صار هذا أشد اشتعالا في النار(6/402)
والعياذ بالله لكن إذا تابت قبل موتها تاب الله عليها لأن من تاب من أي ذنب قبل أن يموت تاب الله عليه ومن جملة الأحاديث هذه أن النبي صلى الله عليه وسلم بكى لما رأى سعد بن عبادة رضي الله عنه قد غشي عليه فبكى من معه من الصحابة ثم قال صلى الله عليه وسلم ألا تسمعون ألا تسمعون الاستفهام هنا بمعنى الأمر أي اسمعوا اسمعوا إن الله لا يعذب ببكاء العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم يعني أن الله لا يعذب بالبكاء أو بالحزن لكن يعذب بالقول والصوت أو يرحم فمثلا إذا أصيب الإنسان مصيبة وقال إنا لله وإنا إليه راجعون مؤمنا بها قلبه مؤمنا بأن لله ملكا وتقديرا وتدبيرا وأننا راجعون إليه في أمورنا كلها وسنلاقيه يوم القيامة إذا آمن بهذا وقال ما في حديث أم سلمة رضي الله عنها اللهم آجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها فهذه يؤجر عليها الإنسان أما إذا جعل يقول واجبلاه واويلاه واثبوراه وما أشبه ذلك فإن هذا يعذب به والعياذ بالله ومعنى واجبلاه أن هذا الميت مثل الجبل ملجأ لي وقد فقدته فهو عبارة عن ندب مع مدح فالحاصل وخلاصة هذه الأحاديث أن البكاء الذي يأتي بمجرد الطبيعة لا بأس به وأما النوح والندب ولطم الخد وشق الثوب ونتف الشعر أو حلقه أو نفشه فكل هذا حرام وهو مما برئ منه النبي صلى الله عليه وسلم والله الموفق(6/403)
باب النهي عن إتيان الكهان والمنجمين والعراف وأصحاب الرمل والطوارق
1668 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أناس عن الكهان فقال ليسوا بشيء فقالوا يا رسول الله إنهم يحدثوننا أحيانا بشيء فيكون حقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه فيخلطون معها مائة كذبة متفق عليه وفي رواية للبخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضي في السماء فيسترق الشيطان السمع فيسمعه فيوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم قوله فيقرها هو بفتح الياء وضم القاف والراء أي يلقيها والعنان بفتح العين
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب تحريم إتيان الكهان والمنجمين ونحوهم(6/404)
الكهان جمع كاهن والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل فيقول مثلا كذا وكذا في يوم كذا وكذا أو يقول للإنسان ستكون سعيدا في اليوم الفلاني أو سيصيبك ...
حادث في اليوم الفلاني أو ما أشبه ذلك هؤلاء هم الكهان أما المنجمون فهم الذين يمتهنون علم النجوم يعني يتخذونه مهنة ولكن علم النجوم ينقسم إلى قسمين جائز ومحرم الكهان الكهان هم أناس من بني آدم لهم أولياء من الجن والجن أعطاهم الله قدرة عظيمة على الأشياء سرعة وقوة فهم يصعدون إلى السماء ولكل واحد منهم مقعد معين يسترقون السمع أي ما يسمعونه من الملائكة فيقضي الله تبارك وتعالى الأمر في السماء ثم يخطفون منه شيئا فينزلون إلى أوليائهم من البشر من بني آدم وهم الكهان ثم يضيف هذا الكاهن إلى هذا الذي سمعه من السماء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق مائة كذبة يعني يزيدون على ما سمعوا فيصادف أن هذه الكلمة المسموعة من السماء تقع كما سمعها الجني وقد ذكرت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الكهان فقال ليسوا بشيء لأن الكهان كثروا أبان عهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي وصارت الجن كما ذكر الله عنهم كنا نقعد منها يعني من السماء {مقاعد للسمع} فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم صار الجني إذا قعد بمقعده يستمع جاءه شهاب من نار فأحرقه {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال ليسوا بشيء يعني لا تعبأوا بهم ولا تأخذوا بكلامهم ولا يهمكم أمرهم قالوا يا رسول الله إنهم يقولون القول(6/405)
فيكون حقا فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الحق الذي يقع ممزوج بمائة كذبة وأن سببه أن الجني الذي له ولي من البشر يخطف الخبر من السماء ويوحيه إلى وليه من الإنس فيتحدث ثم يقع ما كان حقا وما كان باطلا ينسى عند الناس وكأنه لم يكن هؤلاء الكهان يجب علينا أن نكذبهم وألا نصدقهم ومن أتاهم وسألهم وصدقهم فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم يعني كفر بالقرآن ووجه كفره أن الله تعالى قال {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} فإذا ادعى هؤلاء علم الغيب وصدقهم الإنسان صار مضمون تصديقه إياهم تكذيب قول الله {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله} أما المنجمون فهم الذين يتعاطون علم النجوم وعلم النجوم قسمان قسم لا بأس به وهو ما يسمى بعلم التسيير يعني علم سير النجوم يستدل به على الفصول وعلى طول النهار وقصر النهار حاجة لا بأس بها ولا حرج بها لأن الناس يهتدون به لمصالحهم ومن ذلك علم جهات النجوم مثل القطب الشمالي معروف جهة الشمال الجدي معروف قرب القطب من ناحية الشمال يستدل به على القبلة وعلى الجهات قال الله تعالى {وعلامات} يعني الجبال {وبالنجم هم يهتدون} يهتدون في ظلمات البر والبحر إذا لم يكن سحاب يغطي النجوم اهتدوا بها(6/406)
ففي القصيم إذا أردت أن تستقبل القبلة اجعل القطب خلف أذنك اليمنى إذا جعلته خلف أذنك اليمنى فقد استقبلت القبلة وفي كل منطقة وجهة يحجيها فصار علم التسيير ما يتعلمه الإنسان للزمان والمكان للزمان مثل الفصول وقت الشتاء وقت الصيف المكان الجهات القسم الثاني علم التأثير مقابل علم التسيير علم التأثير أن يتخذ من علم النجوم سببا يدعي به أن ما حصل في الأرض فإنه من سبب النجم كالذين يقولون في الجاهلية مطرنا بنوء كذا وكذا هذا هو المحرم ولا يجوز اعتماده لأنه لا علاقة لما يحدث في الأرض فيما يحدث بالسماء السماء مستقلة فما حصل من أثر في السماء فإنه لا يؤثر على الأرض فالنجوم لا دخل لها في الحوادث بعض الناس والعياذ بالله يقول هذا الولد ولد في النوء الفلاني فسيكون سعيدا هذا الولد ولد في النوء الفلاني فسيكون شقيا من قال هذا ويسمونه الطالع أي طالع هذا الولد هذا هو المحرم الذي من صدق المنجم فيه فهو كمن صدق الكاهن والله الموفق
1669 - وعن صفية بنت أبي عبيد عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوما رواه مسلم(6/407)
1670 - وعن قبيصة بن المخارق رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: العيافة والطيرة والطرق من الجبت رواه أبو داود بإسناد حسن وقال الطرق هو الزجر أي زجر الطير وهو أن يتيمن أو يتشاءم بطيرانه فإن طار إلى جهة اليمين تيمن وإن طار إلى جهة اليسار تشاءم قال أبو داود والعيافة الخط قال الجوهري في الصحاح الجبت كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك
1671 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد رواه أبو داود بإسناد صحيح
1672 - وعن معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله إني حديث عهد بالجاهلية وقد جاء الله تعالى بالإسلام وإن منا رجالا يأتون الكهان قال فلا تأتهم قلت ومنا رجال يتطيرون قال ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدهم قلت ومنا رجال يخطون قال كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك رواه مسلم(6/408)
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف والآثار فيها دليل على ما سبق أنه يحرم أن يأتي الإنسان الكهان فيصدقهم كمن أتى عرافا فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوما مجرد ما يسأل العراف ومنه الكهان لا تقبل له صلاة أربعين يوما فإن صدقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم أما إذا أتى الكاهن ليبين كذبه وزيفه فهذا لا بأس به بل قد يكون أمرا محمودا كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع ابن صياد رجل كاهن أو ساحر كلمه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له ماذا خبأت لك يعني ما الذي أضمرت في نفسي قال الدخ وعجز أن يكمل الكلمة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أضمر في نفسه الدخان ولكنه عجز أن يدركها قال الدخ قال له النبي صلى الله عليه وسلم أخسأ فلن تعدوا قدرك وأما ما يتعلق بذلك..
أي بالتنجيم والكهانة فمنه التطير استعمال الطيور وكانوا في الجاهلية يستعملون الطيور يطيرونه من الأرض إن اتجه للأمام مضى في سفره وإن طار ثم رجع رجع من سفره وإن طار فذهب يمينا تيمن في سفره وقال هذا سفر طيب وخير وإن ذهب يسارا مضى في سفره لكن يعتقد أن السفر شاقا لماذا لأن الطير ذهب إلى الشمال والشمال غير مرغوبة هذه عادتهم والعياذ بالله الطيور لا تغني شيئا هذا كله أبطله النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يتعلق الإنسان بأحد سوى الله وأمر الإنسان إذا هم بأمر(6/409)
ولم يتبين له أن يستخير يصلي ركعتين من غير الفريضة ويقول الدعاء المعروف للاستخارة اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تعلم ولا أعلم وتقدر ولا أقدر وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ويسميه خير لي في ديني ودنياي وعاقبة أمري أو قال عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي وعاقبة أمري أو قال عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به حينئذ إذا قدر الله له شيئا بعد هذه الاستخارة فهو خير له يمضي ويتوكل على الله وإن صرف الله همته عنه فهذا يعني بأنه ليس بخير له وأما الاستقسام بالأزلام والطير وما أشبه ذلك فكله لا خير فيه
1673 - وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن متفق عليه
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث آخر حديث في هذا الباب باب النهي عن إتيان الكهان والمنجمين ونحوهم وهو النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي(6/410)
وحلوان الكاهن أما الكلب فمعروف واقتناؤه حرام لا يجوز للإنسان أن يقتني الكلب ويجعله عنده في بيته سواء بيت الطين أو المسلح أو الشعر إلا في ثلاث حالات 1 - كلب الحرث يعني الزرع 2 - وكلب الماشية يعني إنسان عنده غنم أو إبل أو بقر يتخذ الكلب ليحرسها 3 - كلب الصيد يصيد عليه الإنسان لأن الكلب إذا تعلم وصاد شيئا فإنه حلال فلو كان عند الإنسان كلب معلم وأرسله على أرنب مثلا ثم صادها وقتلها فهي حلال لأن الله تبارك وتعالى قال وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ فهذه الثلاثة كلب الحرث والماشية والصيد يجوز للإنسان أن يقتنيها وما عدا ذلك فاقتناؤه حرام والكلب أخبث الحيوانات في النجاسة لأن نجاسته مغلظة إذا شرب في الإناء يجب أن يغسل الإناء سبع مرات واحدة منها بالتراب والأفضل أن يكون التراب مع الأولى فهو الأحسن والأولى فإذا كان عند الإنسان كلب ولو كان كلب صيد أو ماشية أو زرع فإنه يحرم عليه بيعه وثمنه عليه حرام لكن إذا انتهى منه يعطيه أحدا يحتاج له ولا يحل له أن يبيعه لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب الثاني حلوان الكاهن الكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في(6/411)
المستقبل فيقول سيحصل كذا سيكون كذا سواء كان عاما أو خاصا كأن يقول لشخص معين سيصيبك كذا وكذا في يوم كذا وكذا الكهان كانوا في الجاهلية يأتي إليهم الناس فيأخذون منهم أجرا كثيرا فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن حلوان الكاهن لأن الكهانة حرام وما كان حراما فالتعويض عليه حرام الثالث مهر البغي يعني أجرة الزانية والعياذ بالله تكون امرأة تزني فيأتي إليها الأنجاس من بني آدم فيستأجرونها لمدة يوم أو يومين أو ثلاثة أو أكثر أو أقل ويعطونها عن ذلك عوضا هذا أيضا نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم لأن هذا العوض يكون في مقابلة حرام وإذا حرم الله شيئا حرم ثمنه وحرم أجرته فإذا قال قائل لو أن الكاهن قد تاب إلى الله وقد كسب مالا من الناس هل يرده عليهم نقول لا لا يرده عليهم لأن قد أخذوا عوضا فلا يجمع لهم بين العوض والمعوض ولكن يتصدق به تخلصا منه أو يجعله في بيت المال إن كان هناك بيت مال وكذلك يقال فيمن باع كلبا سواء كان كلب صيد أو حرث أو ماشية وأخذ ثمنه ثم هداه الله وتاب نقول لا ترد هذا الثمن إلى الذي أخذ الكلب فتجمع له بين العوض والمعوض ولكن تصدق به تخلصا منه أو اجعله في بيت المال وكذلك يقال في مهر البغي إذا تابت إلى الله ورجعت هل ترد ما أخذت من الزاني عليه أو لا لا ترده عليه بل تجعله في بيت المال أو تصدق به أو تنفقه في أي سبيل من سبل الخير(6/412)
باب النهي عن التطير فيه الأحاديث في الباب قبله
1674 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل قالوا وما الفأل قال كلمة طيبة متفق عليه
1675 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: لا عدوى ولا طيرة وإن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس متفق عليه
1676 - وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير رواه أبو داود بإسناد صحيح
1677 - وعن عروة بن عامر رضي الله عنه قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحسنها الفأل ولا ترد مسلما فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك حديث صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح(6/413)
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب التطير التطير هو التشاؤم بمرئي أو مسموع أو زمان أو مكان هذا هو التطير أن يتشاءم الإنسان في الشيء وإنما سمي تطيرا لأن العرب في الجاهلية يتشاءمون بالطيور فغلب الاسم على كل التشاؤم فمن العرب من يتشاءم بالطيور إذا زجر الطير أو أثاره حتى طار إن طار يسارا تشاءم وإن رجع إليه ألغى ما يريد الإقدام عليه وإن طار أمامه عزم على تنفيذ ما أراد وإن طار على يمينه قال هذا عمل ميمون مبارك فصاروا يتشاءمون بالطيور كذلك أيضا الطيور في الجو ربما يتشاءمون بها الغراب يتشاءم به والبومة يتشاءمون بها وبعض الطيور ومن العرب من يتشاءم بالزمان لقد شاع عندهم أن المرأة إذا تزوجت في شوال لم توفق ولا يحبها زوجها وهذا باطل فإن النبي صلى الله عليه وسلم عقد على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في شوال ودخل بها في شوال فكانت تقول أيكم أحظى عنده مني لأنهم يزعمون أن المرأة إذا تزوجت في هذا الشهر لم توفق في زواجها وهذا أيضا ما له تفسير ومنهم من يتشاءم بالسفر في يوم الأربعاء يقولون إذا سافر الإنسان في يوم الأربعاء لابد من حدوث حادث أو خسارة أو بلاء وهذا أيضا لا صحة له الأربعاء والخميس والثلاثاء وغير ذلك كلها واحد ومنهم من يتشاءم بشهر صفر صفر الذي بعد محرم ويقولون لو عمل فيه الإنسان أي(6/414)
عمل زواج أو ولد له فيه أو سافر فيه فإنه لا يوفق وهذا أيضا باطل ولا أثر بالشهر في تفاؤل ولا في تشاؤم ولهذا قال بعض الناس يقابل البدعة ببدعة يسمى صفر صفر الخير وهذا أيضا لا يجوز فصفر مثل محرم مثل ربيع الأول ومثل أي من الشهور لا فيه تشاؤم ولا تفاؤل ولا يجوز أن نداوي البدعة ببدعة وهذا كما يفعل بعض الناس في يوم عاشوراء يوم عاشوراء تتخذه الرافضة يوم حزن ويلطمون الخدود ويشقون الجيوب وينتفون الشعور وربما يجرحون أنفسهم بالخناجر وغيرها وعندهم أن الذي يموت في هذه الليلة يموت شهيدا والعياذ بالله وبعض الناس تقول في هذا اليوم الذي اتخذه الرافضة حزنا نحن نتخذه سرورا نطعم الطعام ونكسوا الأولاد وندخل الفرح في الصدور هذا أيضا غلط هذا من البدع والبدع لا ترد بالبدع لا يقتل البدعة إلا السنة استمسك بالسنة تمت البدعة ثم ذكر أحاديث في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التطير وقد ثبت عنه أنه قال لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل قالوا وما الفأل؟ قال الكلمة الطيبة فإن الكلمة الطيبة تدخل السرور على النفس وتشرح الصدر ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة الحديبية كانت قريش تراسله فأرسلوا إليه في النهاية سهيل بن عمرو فلما أقبل قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا سهيل بن عمرو وما أراه إلا قد سهل أمركم أو كلمة نحوها فتفاءل بالاسم فالتفاؤل خير لأنه(6/415)
يشرح الصدر ويفرح القلب وينشط اللسان ويعزم على الخير أما التشاؤم فإنه بخلاف ذلك ولكن إذا أصابك شيء من تشاؤم فأعرض عنه أعرض عن هذا الحزن وقل اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك يعني أن الأمر كله بيدك ولا إله غيرك وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان الشؤم في شيء فإنه في ثلاث في الدار والمرأة والفرس فالمعنى أن هذه الثلاثة هي أكثر ما يكون مرافقة للإنسان المرأة زوجه والدار بيته والفرس مركوبه وهذه الأشياء الثلاثة أحيانا يكون فيها شؤم أحيانا تدخل المرأة على الإنسان يتزوجها ولا يجد إلا النكد والتعب منها ومشاكلها أيضا ينزل الدار فيكون فيها شؤم يضيق صدره ولا يتسع ويمل منها أيضا الفرس والفرس الآن ليس مركوبنا ولكن مركوبنا السيارات بعض السيارات يكون فيها شؤم تكثر حوادثها وخرابها ويسأم الإنسان منها فإذا أصيب الإنسان بمثل هذا فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ويقل اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك فيزيل الله ما في نفسه من الشؤم والله الموفق(6/416)
باب تحريم تصوير الحيوان في بساط أو حجر أو ثوب أو درهم أو مخدة دينار أو وسادة وغير ذلك وتحريم اتخاذ الصور في حائط وسقف ونحوها..
والأمر بإتلاف الصورة
1678 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم متفق عليه
1679 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم تلون وجهه وقال يا عائشة أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله قالت فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين متفق عليه القرام بكسر القاف هو الستر والسهوة بفتح السين المهملة وهي الصفة تكون بين يدي البيت وقيل هي الطاق النافذ في الحائط
1680 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولك كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس فيعذبه(6/417)
في جهنم قال ابن عباس فإن كنت لابد فاعلا فاصنع الشجر وما لا روح فيه متفق عليه
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتاب رياض الصالحين باب ما جاء في المصورين يعني من الوعيد الشديد وذكر رحمه الله تعالى حديث ابن عمر وعائشة وابن عباس رضي الله عنهم والتصوير ينقسم إلى قسمين قسم متفق على تحريمه وهو أن يصور ما فيه روح على وجه تمثال من خشب أو حجر أو طين أو جبس أو ما أشبه ذلك فهذا إذا صوره على صورة حيوان أو إنسان أو أسد أو أرنب أو قرد أو غير ذلك فهذا حرام بالاتفاق وفاعله ملعون على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ويعذب يوم القيامة فيقال له أحيي ما خلقت وفي حديث ابن عباس قال كل مصور في النار..
..
فإن كنت لابد فاعلا فاصنع الشجر وما لا روح فيه والقسم الثاني تصوير ما لا روح فيه مثل الأشجار والشمس والقمر والنجوم والأنهار والجبال وما أشبهها هذه جائزة لكن ما كان ينمو كالنبات فمن العلماء من لم يجزه كمجهاد رحمه الله من التابعين المشهورين قال كل ما ينمو فإنه لا يجوز أن يصور ولو كان لا روح له لأنه في الحديث(6/418)
الصحيح أن الله قال: فليخلقوا حبة وليخلقوا شعيرة أو ليخلقوا ذرة ولكن الذي عليه جمهور العلماء أن الذي لا روح فيه لا بأس أن يصوره سواء كان مما ينمو كالأشجار أو مما لا ينمو كالشمس والبحار والقمر والأنهار وما أشبهها القسم الثالث تصوير ما فيه روح لكن بالتلوين والرسم فهذا قد اختلف فيه العلماء فمنهم من يقول إنه جائز لما رواه البخاري من حديث زيد بن خالد - أظن - قال إلا رقما في ثوب فاستثنى الرقم لأن الرقم لا يماثل ما خلق الله عز وجل إذ إن ما خلق الله عز وجل جسم ملموس وأما هذا فهو مجرد رقم وتلوين فيجوز ولو باليد ولكن جمهور العلماء على أنه لا يجوز وهو الصحيح أنه لا يجوز التصوير لا بالتمثال ولا بالرقم ما دام المصور من الأشياء التي بها روح ولم يحدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ما حدث في زماننا هذا من الصور الفوتوغرافية وهل تدخل في النهي أو لا تدخل وإذا تأملت النص وجدت أنها لا تدخل لأن الذي يصور صورة فوتوغرافية لا يصور في الواقع غاية ما هنالك أنه يلقي هذا الضوء الشديد على جسم أمامه فيلتقط صورته في لحظة والمصور لابد أن يعاني من التصوير(6/419)
ويخطط العين الرأس الأنف والأذن وما أشبه ذلك فلابد أن يكون منه عمل أما هذا فإنها في لحظة تلتقطها وكأنها تنقل الصورة التي صورها الله لتجعلها في هذا الكارت وهذا القول هو الراجح وعلماء العصر مختلفون في هذا هل يدخل هذا في اللعن والنهي أو لا والصحيح أنه لا يدخل لأنه لا علاج من المرء فيه وليس بمصور ولو أنه أراد أن يصور لبقي في هذه الصورة مدة ربع ساعة أو أكثر لكن هذا يتم في لحظة ونظيره تماما أن الإنسان لو كتب رسالة إلى أخيه ثم جاء هذا المكتوب إليه وأدخلها في آلة التصوير وخرجت صورة الرسالة فهل هذا الذي صورها هل هو رسم الكلمات والحروف لا وإنما الصورة لما فيها من الضوء العظيم حسب صناعتها طبعت هذا ولا أحد من الناس يقول إن هذه الحروف التي انطبعت في هذه الورقة أنها كتابة الذي صدر بالآية ...
أبدا ولهذا يصور الإنسان هذا في الظلمة ويصوره الأعمى أيضا الأعمى لو علمته صور الكتاب فمن تأمل النص وتأمل الحكمة من ذلك عرف أن المراد من أراد أن يضاهي خلق الله ويبدع في تصويره وتخطيطه وكأنه خالق هذا الذي يشمله النهي واللعن أما هذا فهو التقاط صورة فقط ولكن يبقى النظر ما هو الغرض الذي من أجله صورت هذه الصورة يعني إذا فهمنا أنها مباح وأنها لا تكن تصويرا يبقى أن ننظر فيها كما ننظر في أي مباح من المباحات لأي غرض صنعت أو لأي غرض صورت لأن المباح يختلف حكمه بحسب ما قصد به ولهذا لو أراد الإنسان أن يسافر في رمضان من أجل أن يفطر قلنا حرام عليه مع أن السفر في الأصل مباح حلال ولو أراد الإنسان أن يشتري بندقية ليقتل بها(6/420)
مسلما أو يعتدي على مال مسلم قلنا هذا البيع حرام مع أن البيع في الأصل مباح فينظر إلى هذا التصوير ماذا قصد به قد يقصد الإنسان بهذا التصوير قصدا سيئا يصور امرأة ليتمتع بالنظر إليها وهي ليست زوجته كل ما مضى زمن أخرجها من محفظته أو ممن يسمونه الألبوم وجعل ينظر إليها ليتلذذ بذلك وهو حرام لا إشكال فيه يصور أمردا جميلا من أجل أن يتمتع بالرؤية إليه زمنا بعد زمن هذا أيضا حرام يصور عظماء من الأمراء أو السلاطين أو العلماء من أجل أن يعظمهم ويعلقهم عنده في البيت تعظما لهم في البيت هذا أيضا حرام يصور عبادا قانتين لله من أجل أن يجعلهم في بيته تبركا بهم هذا أيضا حرام ولا يجوز يصور للذكرى هذا أيضا حرام ولا يجوز لأنه إضاعة للوقت وأي فائدة لك أن تذكر هذا المصور حينا بعد حين وأشد من ذلك أن بعض الناس يموت له الميت وللميت صورة فيبقيها عنده وهذا لا يجوز إذا مات الميت فأحرق صورته لأجل أن لا تذهب تتذكر هذا الميت كل ما أردت أن تتذكره فيتجدد الحزن وربما تعتقد فيه اعتقادا باطلا فبمجرد أن يموت تحرق لا فائدة منها اللهم إلا أن يكون الإنسان يخشى أن يحتاج إليها في إثبات معاشات تقاعد عند الدولة أو ما أشبه ذلك فهذا يكون معذورا أما إذا لم يكن هناك سبب فواجب إحراقها وأما إذا قصد في التصوير الفوتوغرافي إذا قصد به إثبات الشخصية أو إثبات وقائع من الواقع لغرض صحيح فهذا لا بأس به مثل أن تندب لجنة لعمل ما ندبتها الحكومة وأرادوا أن يثبتوا أنهم قاموا بهذا العمل فصوروا عملهم فلا بأس به لأنه(6/421)
غرض صحيح لمصلحة وكذلك لو أراد إنسان شهد مشهدا يحب أن الناس يطلعون عليه استعطافا واستدرارا لأموالهم كالنظر مثلا إلى قوم جياع عراة مجروحين من الأعداء وما أشبه ذلك ليعرضهم على الناس ليستعطفهم عليهم هذا أيضا غرض صحيح لا بأس منه وخلاصة القول أن التصوير باليد ولو كان بالتلوين والتخطيط حرام على القول الراجح وأما التصوير بالآلة الفوتوغرافية فليس بتصوير أصلا حتى نقول أنه جائز ونحن يجب علينا أن نتأمل أولا بدلالة النص ثم في الحكم الذي يقتضيه النص وإذا تأملنا وجدنا أن هذا ليس بتصوير ولا يدخل في النهي ولا في اللعن ولكن يبقى مباحا ثم ينظر في الغرض الذي من أجله يصور إن كان غرضا مباحا فالتصوير مباح وإن كان غرضا محرما فهو محرم والله الموفق
1681 - وعنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ متفق عليه
1682 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله(6/422)
صلى الله عليه وسلم يقولك إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون متفق عليه
1683 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة متفق عليه
1684 - وعن أبي طلحة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة متفق عليه
1685 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل أن يأتيه فراث عليه حتى اشتد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فلقيه جبريل فشكا إليه فقال إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة رواه البخاري راث أبطأ وهو بالثاء المثلثة
1686 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في ساعة أن يأتيه فجاءت تلك الساعة ولم يأته قالت وكان بيده عصا فطرحها من يده وهو يقول ما يخلف الله وعده ولا(6/423)
رسله ثم التفت فإذا جرو كلب تحت سريره فقال متى دخل هذا الكلب فقلت والله ما دريت به فأمر به فأخرج فجاءه جبريل عليه السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدتني فجلست لك ولم تأتني فقال منعني الكلب الذي كان في بيتك إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة رواه مسلم
1687 - وعن أبي التياح حيان بن حصين قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف في كتابه رياض الصالحين كلها تدل على أن التصوير من كبائر الذنوب لأن فيها وعيدا شديدا باللعنة لعن الله المصورين وهو الطرد والإبعاد عن رحمة الله وبأنه يكلف يوم القيامة يلزم على أن ينفخ الروح فيما صور وليس بنافخ ومعلوم أنه إذا كان ليس بنافخ وهو مستحيل فإنه يستحيل أن يرفع عنه العذاب إلا أن يشاء الله ومنها أن المصورين من أظلم الظالمين يقول الله تعالى ومن أظلم ممن(6/424)
ذهب يخلق كخلقي يعني لا أحد أظلم منه فليخلقوا حبة أو ليخلقوا ذرة أو ليخلقوا شعيرة يعني إن كانوا صادقين يريدون أن يضاهوا خلق الله فليخلقوا حبة من طعام ولتكن من البر لو اجتمع أهل الأرض كلهم بل وأهل السماء على أن يخلقوا حبة من حنطة فإنهم لا يستطيعون حتى لو صنعوا من العجين شيئا على صورة الحبة تماما فإنهم لا يستطيعون أن تكون حبة لو أنهم بذروها في الأرض ما نبتت لأنها ليست حبة فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يخلق الحبة أو الشعيرة أو الذرة وهو ما يضرب به المثل في القلة فما فوقها من باب أعظم وأولى وهذا دليل على أن هذا التصوير محرم أما اتخاذ الصور وإدخالها البيوت فهو أيضا محرم لأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة ولا كلب وما ظنك ببيت لا تدخله الملائكة؟ إنه بيت سوء فإذا كان في البيت صورة أو به كلب فإن الملائكة لا تدخله لكن استثنى من الصور ما دعت الضرورة إليه مثل الصورة في الدرهم في الدينار مثل ما يوجد الآن في دراهمنا يوجد بها صور الملوك وهذا يخاطب به من وضع هذه الصورة أما عامة الناس فلا يخاطبون ماذا يصنعون يلقون دراهمهم ونفقاتهم لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ولكن الملائكة لا تمتنع من دخول البيت الذي به الدراهم ولو كان فيه صورة وكان في الأول النقود فيها صورة أعظم من الصورة الموجودة الآن لأن الصورة الموجودة الآن ما هي إلا تلوين وقد عرفتم فيما سبق أن العلماء مختلفون في صورة التلوين هل هي تدخل في الوعيد أم لا لكن(6/425)
فيما سبق الصورة تمثال بمعنى أنها ملموسة الريال الفرنسي فيه صورة ملك من ملوك أوربا فيه أيضا صورة طيور الجنيه الإفرنجي فيه أيضا صورة رئيس من رؤساء بريطانيا فيه أيضا صورة فرس ركبه خيال تلمس باليد فهي كالمجسمة لكن العلماء رحمهم الله لم ينهوا عن ذلك لأن هذا أمر ضروري لا يستطيع الناس أن يتخلصوا منه لأنهم لا يمكن أن يلقوا بدراهمهم في الأرض فهذا ضرورة ومن ذلك أيضا البطاقة وحاوية النقود كل هذا مما دعت الضرورة إليه أو الحاجة الملحة ولَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وما جعل الله علينا في الدين من حرج هذه أيضا لا تمنع دخول الملائكة الثالث ما لا يحترم أي ما يمتهن ويداس بالأرجل كالصور التي تكون في الفرش أو المخدة فهذه أيضا لا تمنع دخول الملائكة لأنها مباحة عند أكثر أهل العلم ولكن التنزه عنها أولى وأحسن لأنها فيها خلاف بعض الأئمة يقول إنها داخلة في التحريم ولو امتهنت وبعضهم يقول لا وهم الأكثر فمثلا لو كان عند الإنسان بطانية فيها صورة أسد وجعلها تحته يفترشها فلا شيء عليه أما إذا تخطاها فلا لأنه إذا تخطاها ما يوجد فيها امتهان الرابع الصور التي للصبيان الصور التي للصبيان يلعبون بها أيضا مما يرخص فيه ولا تمتنع الملائكة من دخول البيت الذي فيه هذه الصور لأن عائشة رضي الله عنها كان لها صورة تلعب بها في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينه عن ذلك لكن ينبغي أن لا تستعمل الصور البلاستيكية لأن الصور البلاستيكية صورة تامة فيها حتى رمش العين حتى إنهم يضعون خرزة تكون عينا لها تتقلب بعضها يخطو خطوات بعضها يصوت هذه يخشى أن تكون داخلة في النهي وأن الملائكة لا تدخل البيت الذي هي فيه أما الصور الأخيرة التي بدءوا يستعملونها والحمد لله فهي صورة كأنها(6/426)
ظل ليس لها وجه وليس لها عين وليس لها أنف وليس لها فم غاية الأمر أنها لها يدان ورجلان ورأس ممدود ولا فيها صورة هذه إن شاء الله ليس فيها شيء ولا تمتنع الملائكة من دخول البيت التي هي فيه وتستغني بها الطفلة عن غيرها والواجب على من شاهد صورة محرمة أن يطمسها لقول علي رضي الله عنه لأبي التياح الأسدي ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته القبر المشرف يعني القبر المتميز عن القبور سواء كان بارتفاعه أو بارتفاع النصائب التي عليه يعني الأحجار التي عليه ولهذا يجب الحذر مما يفعله بعض الناس الآن يصبون صبة وربما كتبوا عليها آيات من القرآن أو ما أشبه ذلك هذه لا يجوز إقرارها لأنها من القبور المشرفة ومن رآها جزاه الله خيرا فليحفر لها وينزلها ويجعل الكتابة في الأسفل حتى تندفن بالتراب لأن القبور المشرفة هذه ربما يغالى بها في المستقبل بل تكون القبور كلها على وتيرة واحدة ليس فيها شيء يدل على التعظيم لأن البلاء كل البلاء بلاء الشرك من تعظيم القبور نسأل الله أن يحمينا وإياكم إنه على كل شيء قدير أما الجرائد التي فيها الصور إن كنت اشتريتها من أجل الصور فهي حرام أما من أجل الكلام الذي فيها فلا بأس(6/427)
باب تحريم اتخاذ الكلب إلا لصيد أو ماشية أو زرع
1688 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان متفق عليه وفي رواية قيراط
1689 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمسك كلبا فإنه ينقص من عمله كل يوم قيراط إلا كلب حرث أو ماشية متفق عليه وفي رواية لمسلم: من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب تحريم اتخاذ الكلب إلا لحرث أو صيد أو ماشية الكلب معلوم وهو ذو ألوان متعددة لكن يختص الأسود منه بأنه(6/428)
شيطان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل ما بال الكلب الأحمر من الأبيض من الأسود؟ قال الكلب الأسود شيطان والكلب الأسود إذا مر بين يدي المصلي قطع صلاته ووجب عليه أن يستأنفها من جديد وكذلك إذا مر بين المصلي وسترته فإنه يقطع الصلاة ويستأنفها من جديد والكلب الأسود لا يحل صيده عند أكثر العلماء حتى لو كان معلما وأرسله صاحبه وسمى عليه فإنه لا يحل صيده لأنه شيطان وإذا كان الكفار من بني آدم لا يحل صيدهم ما عدا اليهود والنصارى فكذلك هذا الشيطان الكلب لا يصح صيده وأما غيره من الكلاب ذات الألوان المتعددة فإنها لا تبطل الصلاة ويباح صيدها بالشروط المعروفة عند العلماء وأما اتخاذ الكلب وكون الإنسان يقتنيه فإن هذا حرام بل هو من كبائر الذنوب والعياذ بالله لأن الذي يقتني الكلب إلا ما استثنى ينقص من أجره كل يوم قيراطان وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من تبع الجنازة حتى تدفن فله قيراطان قيل وما القيراطان؟ قال مثل الجبلين العظيمين أصغرهما مثل أحد فالذي يتخذ الكلب بدون ما استثنى ينقص كل يوم من أجره مثل جبلي أحد قيراط بل قيراطان وهذا يدل على أن اتخاذ الكلاب من كبائر الذنوب إلا ما استثنى الصيد والحرث والماشية فالصيد هو الكلب المعلم الذي يصيد به الإنسان فهذا يحل صيده إذا كان معلما بحيث يسترسل إذا أرسل ويقف إذا زجر وإذا أمسك لم يأكل وأن يسمي الله عند إرساله فهذا صيده حلال والإنسان يقتنيه لحاجة ومصلحة(6/429)
كذلك الحرث يتخذ الإنسان كلبا يحمي زرعه لئلا تأكله الماشية فتفسده والثالث الماشية يتخذ الإنسان كلبا لماشيته سواء كان من الإبل أو الغنم أو البقر لأنه يحميها من الذئاب ويحميها من اللصوص إذ إنه إذا رأى من يستنكره نبح فانتبه صاحبه وكذلك لو فرض أن الإنسان يحتاج إلى حفظ مال كإنسان في مكان ناء وليس حوله رجال أمن فيتخذ الكلب فهذا لا بأس به لأن هذا حماية مال كالحرث وما عدا ذلك فإنه حرام ومن حكمة الله عز وجل أن الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات يقال إن الكفار من اليهود والنصارى والشيوعيين في الشرق والغرب كل واحد له كلب والعياذ بالله يتخذه معه وإذا اشترى اللحم أعطاه اللحم الجيد وأكل هو اللحم الرديء وكل يوم ينظفه بالصابون والمنظفات الأخرى مع أنه لو نظفه بماء البحار كلها وصابون العالم كله ما طهر لأنه نجاسته عينية والنجاسة العينية لا تطهر إلا بتلفها وزوالها بالكلية لكن هذه من حكمة الله حكمة الله عز وجل أن يألف هؤلاء الخبثاء ما كان خبيثا كما أنهم يألفون أيضا وحي الشيطان لأن كفرهم هذا من وحي الشيطان ومن أمر الشيطان فإن الشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر ويأمر بالكفر والضلال فهم عبيد للشيطان وعبيد للأهواء وهم أيضا خبثاء يألفون الخبائث نسأل الله لنا ولهم الهداية المهم أن اتخاذ الكلب بلا سبب شرعي كبيرة من كبائر الذنوب ثم إن نجاسة الكلب أخبث النجاسات أخبث نجاسة في الحيوان نجاسة الكلب لأنه إذا ولغ في الإناء لا يطهر الإناء إلا إذا غسل سبع مرات إحداها بالتراب غيره من النجاسات إذا زالت عين النجاسة طهر المحل أما هو فلابد من غسلها سبع مرات إحداها بالتراب والله الموفق(6/430)
باب كراهية تعليق الجرس في البعير وغيره من الدواب وكراهية استصحاب الكلب والجرس في السفر
1690 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصحب الملائكة رفقة فيها كل أو جرس رواه مسلم
1691 - وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الجرس من مزامير الشيطان رواه مسلم رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب كراهية تعليق الجرس على الدواب وشبهها وكراهة استصحاب الكلب والجرس في السفر ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه والجرس معلوم وهو هذا الذي يعلق على الدواب ويكون له رنة معينة تجلب النشوى والطرب والتمتع بصوته فهذا نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه بالتحذير منه حيث أخبر أن الملائكة لا تصحب رفقة فيها جرس لأنه مع مشي الدواب وهملجتها يكون له شيء من العزف والموسيقى ومن المعلوم أن المعازف حرام(6/431)
وأما استصحاب الكلب فقد سبق أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب إلا الكلاب المستثناة كلب الحرث والماشية والصيد فهذا لا بأس به وأما ما يكون في المنبهات من الساعات وشبهها فلا يدخل في النهي لأنه لا يعلق على البهائم وإنما هو مؤقت بوقت معين للتنبيه وكذلك ما يكون عند الأبواب يستأذن به فإن بعض الأبواب يكون عندها جرس لاستئذان هذا أيضا لا بأس به ولا يدخل في النهي لأنه ليس معلقا على بهيمة وشبهها ولا يحصل به الطرب الذي يكون مما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ويوجد في بعض التليفونات عند الانتظار إذا رننت عليه ولم يكن حاضرا قال انتظر ثم تسمع موسيقى هذا هو الحرام لأن الموسيقى من آلات العزف وهي محرمة لكن إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يتصل بمن يريد إلا بهذا فالإثم على من وضعه إلا أنه ينبغي لمن سمعه أن ينصح صاحب التليفون ويقول افصل هذا الجرس واجعله يقول انتظر ويسكت حتى يكلمك المطلوب وأما ما يجعل في الانتظار في الهاتف من قراءة القرآن أحيانا إذا اتصلت سمعت آيات من القرآن ثم يقول انتظر ثم تسمع آيات من القرآن فهذا فيه ابتذال لكلام الله عز وجل حيث يجعل كأداة يعلم بها الانتظار القرآن نزل لما هو أشرف من هذا وأعظم نزل لإصلاح القلوب والأعمال ما نزل(6/432)
ليجعل وسيلة للانتظار في الهاتف وغيره ثم إنه قد يتصل عليك إنسان لا يعظم القرآن ولا يهتم به ويثقل عليه أن يسمع شيئا من كتاب الله ثم قد يأذن عليك نصراني أو كافر أو يهودي فيسمع هذا القرآن فيظنه أغنية لأنه لا يعرفه قد لا يكون عربيا أيضا فلا شك أن هذا ابتذال للقرآن وأن من وضع القرآن من أجل الانتظار ينصح ويقال له اتق الله كلام الله أشرف من أن يجعل أداة للانتظار أما إذا جعل في هذا الانتظار حكمة مأثورة أو حديثا مأثورا عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا لا بأس به مثل أن يجعل من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه دع ما يريبك إلى ما لا يريبك من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه اتبع الحسنة السيئة تمحوها خالط الناس بخلق حسن وما أشبه ذلك من الأشياء النافعة أو مثلا من الحكم إذا لم يكن إلا الأسنة مركب فما حيلة المضطر إلا ركوبها المهم الحكم واسعة كثيرة أما أن يجعل كلام رب العالمين الذي نزل لإصلاح القلوب والأعمال والأفراد والشعوب يجعل آلة للانتظار على التليفون؟ ؟ سبحان الله القرآن اشرف من أن يكون كذلك والله الهادي إلى الصراط المستقيم(6/433)
باب كراهة ركوب الجلالة وهي البعير أو الناقة التي تأكل العذرة فإن أكلت علفا طاهرا فطاب لحمها زالت الكراهة
1692 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها رواه أبو داود بإسناد صحيح
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب النهي عن ركوب الجلالة الجلالة هي التي تأكل الجلة أي العذرة يعني تأكل نجاسة الآدمي وروث الحمير وما أشبه ذلك والعادة أنها إذا كانت تأكل هذا أن يتلوث شيء من بدنها أو قدمها أو ما أشبه ذلك فلهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ركوبها وكذلك أكل لحمها ينهي عنه لو كانت دجاجة مخلاة تأكل العذرة والنجاسات وتتغذى بها فإنها تكون جلالة ويكره أكل لحمها إما كراهة تنزيه أو كراهة تحريم وأما إذا كانت تأكل الطيب والقبيح وأكثر علفها الطيب فإنها ليست جلالة بل هي مباحة ولا بأس ومن هذا ما يفعله بعض أرباب الدواجن يعطونها(6/434)
من الدم المسفوح لكنه ليس أكثر غذائها بل أكثر غذائها الطيب إلا أنهم يعطونها هذا من أجل تقويتها أو تنميتها فلا تحرم بهذا ولا تكره لأنه إذا كان الأكثر هو الطيب فالحكم للأكثر هذه هي الجلالة فالنهي فيها عن الركوب للتنزيه وأما عن الأكل فهو إما كراهة تنزيه وإما كراهة تحريم على خلاف بين العلماء في ذلك ولكن بشرط أن يكون أكثر علفها الشيء النجس أما إذا كان أقل من الطيب فلا بأس بها والله الموفق(6/435)
باب النهي عن البصاق في المسجد والأمر بإزالته منه إذا وجد فيه والأمر بتنزيه المسجد عن الأقذار
1693 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها متفق عليه والمراد بدفنها إذا كان المسجد ترابا أو رملا ونحوه فيواريها تحت ترابه قال أبو المحاسن الروياني في كتابه البحر وقيل المراد بدفنها إخراجها من المسجد أما إذا كان المسجد مبلطا أو مجصصا فدلكها عليه بمداسه أو بغيره كما يفعله كثير من الجهال فليس ذلك بدفن بل زيادة في الخطيئة وتكثير للقذر في المسجد وعلى من فعل ذلك أن يمسحه بعد ذلك بثوبه أو بيده أو غيره أو يغسله
1694 - وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في جدار القبلة مخاطا أو بزاقا أو نخامة فحكه متفق عليه
1695 - وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله تعالى وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
هذا الباب عقده المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين ليبين به وجوب تنزيه المساجد عن الأذى والقذر والنخامة والبصاق وما أشبه ذلك ثم ذكر حديث(6/436)
أنس وعائشة رضي الله عنهما حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال البصاق في المسجد خطيئة يعني إثما وكفارتها دفنها يعني إذا وقعت من الإنسان فإنه يدفنها ففي قوله صلى الله عليه وسلم البصاق في المسجد خطيئة دليل على تحريم البصاق في المسجد أن يبصق الإنسان نخامة أو أن يتنخع في المسجد وما أشبه ذلك فهو خطيئة بسببين السبب الثاني أنه إيذاء للمصلين قد يسجد المصلي عليه وهو لا يشعر به وقد يتقزز إذا رآه وتتكره نفسه لذلك فيتأذى بهذا والسبب الأول أن فيه إهانة لبيوت الله عز وجل الذي أمر تعالى أن ترفع ويذكر فيها اسمه فلا يجوز للإنسان أن يبصق في المسجد لكن لو فرض أنه فعل فكفارتها دفنها إن كانت في الأرض وكفارتها حكها إن كانت على الجدار ونحوه لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة أو بصاقا أو بزاقا في قبة المسجد فحكه فصارت كفارة ذلك إن كانت على الأرض ففي دفنه إن كانت على الجدار فحكها حتى تزول أما مساجدنا الآن فكما ترون مفروشة كفارة ذلك أن يمسحها بمنديل حتى تزول لكننا نقول أصلا لا يحل لك أن تتنخم في المسجد لكن إن وقع فهذه كفارته ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى البصاق(6/437)
فحكه فدل ذلك على أن الإنسان إن رأى أذى أو قذرا في المسجد فإنه يزيله أما حديث أنس الثاني فهو في قصة الأعرابي الذي جاء إلى المسجد فبال في جهة منه جاهلا لأن الأعراب لا يعرفون غالبهم فزجره الناس فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن زجره فلما قضى بوله قال صلى الله عليه وسلم للصحابة أريقوا على بوله سجلا من ماء ثم دعى الأعرابي وقال إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى والقذر إنما هي للصلاة والقرآن والذكر فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى والقذر فعلى المؤمن أن يحترم بيوت الله فلا يلق فيها الأذى ولا القذر ولا يرفع الصوت فيها وإنما يكون متأدبا لأن المساجد بيوت الله ومأوى الملائكة والله الموفق(6/438)
باب كراهية الخصومة في المسجد ورفع الصوت فيه ونشد الضالة والبيع والشراء والإجارة ونحوها من المعاملات
1696 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا رواه مسلم
1697 - وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم من ينشد ضالة فقولوا لا ردها الله عليك رواه الترمذي وقال حديث حسن
1698 - وعن بريدة رضي الله عنه أن رجلا نشد في المسجد فقال من دعا إلي الجمل الأحمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له رواه مسلم
1699 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشراء والبيع في المسجد وأن تنشد فيه ضالة أو(6/439)
ينشد فيه شعر رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن
1700 - وعن السائب بن يزيد الصحابي رضي الله عنه قال: كنت في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال اذهب فأتني بهذين فجئته بهما فقال من أين أنتما فقالا من أهل الطائف فقال لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البخاري
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب كراهة رفع الأصوات في المساجد وإنشاد الضالة والبيع والشراء ونحو ذلك المساجد أضافها الله تعالى إلى نفسه فقال تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وأضافها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه في قوله صلى الله عليه وسلم لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبين الله سبحانه وتعالى أن هذه المساجد بيوت يذكر فيها اسم الله عز وجل أذن الله أن ترفع وأنها محل التسبيح {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ}(6/440)
والمساجد بما أن الله أضافها إلى نفسه وأضافها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه وأذن الله أن ترفع لها حرمة ولها أحكام واحترام وتعظيم ومن ذلك أنه لا يحل للجنب أن يمكث فيه إلا بوضوء لأن الجنب قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لا تدخل الملائكة بيتا فيه جنب مادام على جنابته فالملائكة لا تدخل بيته وكذلك في المسجد إذا كان جنبا وبقى فيه يؤذي الملائكة لأنه يمنعهم من دخوله أو يتأذون إذا دخلوا ولهذا نقول من عليه جنابة فلا يدخل المسجد إلا أن يتوضأ واستثنينا الوضوء لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا ينامون في المسجد فتصيب أحدهم الجنابة فيقوم ويتوضأ ويرجع فينام وهذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقد أقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك ومنها أي من أحكام المساجد أن الإنسان إذا دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين لا يجلس حتى يصلي ركعتين في أي وقت دخل في الصباح في المساء في الليل في النهار عند طلوع الشمس عند غروبها في أي وقت لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا دخل أحدكم المسجد يجلس حتى يصلي ركعتين حتى إنه كان صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة فدخل رجل فجلس فقطع النبي صلى الله عليه وسلم خطبته وقال له هل صليت قال لا قال قم فصل ركعتين وتجوز(6/441)
فيهما يعني أسرع من أجل أن يستمع إلى الخطبة وقد أخذ بعض العلماء من هذا الحديث أن تحية المسجد بالركعتين واجبة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر هذا الرجل أن يصلي ركعتين ويشتغل بهما عن سماع الخطبة وسماع الخطبة واجب ولا يشتغل عن واجب إلا بما هو أوجب منه فلهذا ذهب بعض العلماء إلى أن الإنسان إذا دخل المسجد وهو على وضوء فجلس ولم يصل فهو آثم ونحن نقول هو عاص للرسول صلى الله عليه وسلم لا شك أنه إذا دخل وجلس وهو على وضوء فإنه عاص للرسول صلى الله عليه وسلم لقوله لا يجلس حتى يصلي ركعتين ومن أحكام المساجد أنه لا يجوز بها البيع والشراء سواء كان قليلا أو كثيرا لا تبيع شيئا بقرش واحد فإن ذلك حرام عليك والبيع فاسد لا ينتقل فيه الثمن للبائع ولا المبيع للمشتري ويجب أن يرد كل واحد منهما للآخر ما أخذ منه سواء قل أو كثر حتى لو قال يا فلان عندك الحاجة الفلانية قال نعم قال أرسلي منها كذا وكذا إن قال له عندك رز قال نعم قال أرسل لنا منه كيسا وهو في المسجد فهذا حرام لأن هذا بيع وشراء فالبيع والشراء في المسجد بأي حال من الأحوال لا يجوز لو كانت معه عشرة ريالات وقال لآخر معي عشرة أعطني بها ورقة ذات خمس يعني ورقتين(6/442)
فهذا لا يجوز لكن بعض العلماء قال يجوز إذا كان هناك حاجة مثل أن يقف عليك فقير يشحذ وليس معك إلا عشرة ريالات فقلت هذه عشرة أعطني تسعة لكي تتصدق عليه بريال بعض العلماء رخص في هذا لأن هذا صدقة لا يتوصل إليها إلا بهذا العمل ولا قصد كل منهما البيع والشراء فالبيع والشراء في المسجد حرام هذا بالنسبة للبائع والمشتري لكن بالنسبة للذي يسمع إنسانا يبيع ويشتري ماذا عليه قال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا له لا أربح الله تجارتك ادعوا عليه بأن الله يخسره ولا يربحه بأن الله لا يربح تجارته ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال فيه فإن المساجد لم تبن لهذا يحتمل أن هذه الكلمة يضيفها القائل إلى قوله ويحتمل أنها تعليل للحكم من النبي صلى الله عليه وسلم وأنها لا تقال لكن إذا كان في قولك إياها تطييب لقلبه فهذا قولها حسن يعني تقول لا أربح الله تجارتك فإن المساجد لم تبن لهذا يعني للبيع والشراء ما بنيت للبيع والشراء بنيت للصلاة والذكر وقراءة القرآن وطلب العلم وما أشبه هذا فإذا كان في قولك إن المساجد لم تبن لهذا تطييب لقلبه فقلها حتى لا يغضب عليك أنا إذا دعوت عليك فقد دعوت عليك لأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم مطاع كأمر الله {وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} فأقول لا أربح الله تجارتك فإن المساجد لم تبن لهذا حتى يطيب قلبه كذلك أيضا إنشاد الضالة يجيء رجل ويقول ضاع مني كذا مثل محفظة الدراهم(6/443)
فهذا حرام لا يجوز حتى وإن غلب على أمرك أنه سرق في المسجد لا تقل هذا كيف أتوصل إلى هذا اجلس عند باب المسجد خارج المسجد وقل جزاكم الله خيرا ضاع مني كذا ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعتم من ينشد ضالة في المسجد فقولوا لا ردها الله عليك ندعو عليه بأن الله لا يردها عليه ولا يعثر عليها لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقول من دعا إلى الجمل الفلاني قال النبي صلى الله عليه وسلم لا وجدت لا وجدت بمعنى لا رده الله عليك فدعى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يجد جمله لماذا لأن المساجد لم تبن لهذا فإن أراد الإنسان أن ينشد ضالة لصاحبها يعني ليس ضائعا منه بل شيئا وجده في المسجد وجد المفاتيح قال من يريد هذه المفاتيح فهل هذا نشد ضالة يعني طلبها أو نشد عن صاحبها نشد عن صاحبها هذا أجازه بعض العلماء وقال لا بأس به لأن هذا إحسان وبعض العلماء كرهه وقال حتى هذه الحال يكره ولكن إذا كان يريد أن يتمم إحسانه يجلس عند باب المسجد ويقول من ضاع له المفتاح من ضاع له نقود من ضاع له كذا وكذا فالمهم أن المساجد يا إخواني يجب أن تحترم ولما سمع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رجلين يرفعان أصواتهما في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة دعاهما وقال من أين أنتما كأنه(6/444)
استغرب ما رآه أنهما غريبان قالا من أهل الطائف قال لو كنتما من أهل هذا البلد لأوجعتكما يعني أوجعتكما ضربا يعني ضربتكما حتى يوجعكما الضرب ترفعان أصواتكما في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهذا إنكار من عمر لكن هل قوله في مسجد النبي يعني احترام المسجد نفسه أو جميع المساجد الظاهر أن جميع المساجد مثل المسجد النبوي لأن هذا الاحترام احترام للمسجد من حيث هو مسجد وأما إنشاد الأشعار في المسجد الذي وردت الأحاديث النهي عنه والمراد بذلك الأشعار اللغو أو التي لا خير فيها أما الأشعار التي بها الخير فإنها جائزة كان حسان بن ثابت رضي الله عنه ينشد الشعر في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ولما سمعه ذات يوم عمر بن الخطاب كأنه أنكر عليه قال قد كنت أنشد في هذا المسجد وفيه من هو خير منك يعني بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فالأشعار إن كان فيها خير ومصلحة فلا بأس بها كالأشعار التي تشجع على الطاعة وعلى الجهاد في سبيل الله إذا كان هناك جهاد وما أشبه ذلك فهذه تنشد وأما أشعار لا خير فيها فلا تنشد في المسجد والله أعلى وأعلم تنبيه إذا احتلم الإنسان وهو نائم في المسجد كفاه الوضوء لكن يغتسل إذا أراد أن يصلي(6/445)
باب نهي من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا أو غيره مما له رائحة كريهة عن دخول المسجد قبل زوال رائحته إلا لضرورة
1701 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أكل من هذه الشجرة - يعني الثوم - فلا يقربن مسجدنا متفق عليه وفي رواية لمسلم مساجدنا
1702 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا ولا يصلين معنا متفق عليه
1703 - وعن جابر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا أو فليعتزل مسجدنا متفق عليه وفي رواية لمسلم من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم(6/446)
1704 - وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب يوم الجمعة فقال في خطبته ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين ما أراهما إلا خبيثتين البصل والثوم لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع فمن أكلهما فليمتهما طبخا رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
هذا الباب الذي ذكره المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين هو من الأحكام التي تتعلق بالمساجد وهو نهي من أكل بصلا أو ثوما أو كراثا أو نحوه فلا يقرب المسجد ولا يدخل المسجد حتى يذهب ريحه ثم ذكر أحاديث منها حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب الناس يوم الجمعة فقال إنكم تأكلون من هاتين الشجرتين البصل والثوم وما أراهما أو ما أراهما إلا خبيثتين في الرائحة وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل أحد وقد أكل منهما أمر به فأخرج إلى البقيع والبقيع قريب من المسجد كما هو معروف قريب من المسجد النبوي لكن يبعده إلى البقيع تعذيرا له وإلا فيكفي أن يخرجه من باب المسجد لكن من أجل التعذير كان يخرجه إلى هذا المكان الذي هو بعيد نوعا ما ولكن عمر رضي الله عنه قال من أكلهما - يعني من أراد أن يأكلهما - فليمتهما طبخا - يعني فليطبخهما - فإنه إذا طبخهما راحت الرائحة وحصلت الفائدة(6/447)
يستفاد من هذا الحديث أن البصل والثوم ليسا حراما يجوز للإنسان أن يأكلهما لكن إذا أكلهما فلا يدخل المسجد ولا يصلي مع جماعة ولا يحضر درس علم لأن الملائكة تتأذى منه برائحته الخبيثة وكذلك قال العلماء من كان به رائحة أسنان أو بخر في الفم أو رائحة كريهة أو ما أشبه ذلك فإنه لا يقرب المسجد حتى يزيل هذه الرائحة لأن العلة قائمة وهي تأذي الملائكة بالروائح الكريهة فإن قال قائل لو أن الإنسان استعمل شيئا تذهب به الرائحة فهل يجوز أن يدخل نقول نعم يجوز إذا أكل ما يذهب الرائحة إذهابا كاملا ولا صار يخرج من المعدة رائحة فلا بأس لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما فإن قال إنسان هل يجوز للإنسان أن يأكلهما لئلا يحضر المسجد قلنا لا حرام لا يجوز للإنسان أن يتوصل إلى إسقاط الفرض بأي سبب كان لكن لو أكلهما لأنه يشتهيهما فإننا نقول الأكل مباح ولكن لا تقرب المسجد حتى تزول رائحتهما والله الموفق(6/448)
باب كراهية الاحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب لأنه يجلب النوم فيفوت استماع الخطبة ويخاف انتقاض الوضوء
1705 - عن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب رواه أبو داود والترمذي وقالا حديث حسن
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى باب النهي عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب الحبوة أن يضم الإنسان فخديه إلى بطنه وساقيه إلى فخديه ويربط نفسه بسير أو عمامة أو نحوها وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها والإمام يخطب يوم الجمعة لسببين الأول أنه ربما تكون هذه الحبوة سببا لجلب النوم إليه فينام عن سماع الخطبة والثاني أنه ربما لو تحرك لبدت عورته لأن غالب لباس الناس فيما سبق الأزر والأردية ولو تحرك أو انقلب لبدت عورته وأما إذا أمن ذلك فإنه لا بأس بها لأن النهي إذا كان لعلة معقولة فزالت العلة فإنه يزول النهي(6/449)
باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وأراد أن يضحي عن أخذ شيء من شعره أو أظافره حتى يضحي
1706 - عن أم سلمة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي رواه مسلم
أما الباب الذي بعده فهو نهي من أراد أن يضحي أن يأخذ من شعره أو ظفره شيئا حتى يضحي وذلك فيه هذا الحديث عن أم سلمة رضي الله عنها وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا هل هلال ذي الحجة ولأحدكم ذبح فلا يأخذه من شعره ولا من ظفره شيئا يعني حتى يضحي فإذا دخل العشر من ذي الحجة وأن تريد أن تضحي أضحية عن نفسك أو عن غيرك من مالك فلا تأخذ شيئا من شعرك لا من الإبط ولا من العانة ولا من الشارب ولا من الرأس حتى تضحي وكذلك لا تأخذن شيئا من الظفر ظفر القدم أو ظفر اليد حتى تضحي وزاد غير مسلم ولا من بشرته - يعني من جلده - لا يأخذ شيئا حتى يضحي وذلك احترام للأضحية ولأجل أن ينال غير المحرمين ما ناله المحرمون من احترام الشعور لأن الإنسان إذا حج أو أعتمر فإنه لا يحلق رأسه حتى يبلغ الهدي محله فأراد الله عز وجل أن يجعل لعباده الذين لم يحجوا ويعتمروا نصيبا من شعائر النسك والله أعلم(6/450)
باب النهي عن الحلف بمخلوق كالنبي صلى الله عليه وسلم والكعبة والملائكة والحياة والروح ونعمة السلطان وتربة فلان وهي من أشدها نهيا
1707 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى ينهاكم أن تخلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت متفق عليه وفي رواية في الصحيح فمن كان حالفا فلا يحلف إلا بالله أو ليسكت
1708 - وعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم رواه مسلم الطواغي جمع طاغية وهي الأصنام ومنه الحديث هذه طاغية دوس أي: صنمهم ومعبودهم وروي في غير مسلم بالطواغيت جمع طاغوت وهو الشيطان والصنم
1709 - وعن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من حلف(6/451)
بالأمانة فليس منا حديث صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح
1710 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف فقال إني بريء من الإسلام فإن كان كاذبا فهو كما قال وإن كان صادقا فلن يرجع إلى الإسلام سالما رواه أبو داود
1711 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رجلا يقول لا والكعبة فقال ابن عمر لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك رواه الترمذي وقال حديث حسن وفسر بعض العلماء قوله كفر أو أشرك على التغليظ كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الرياء شرك
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى باب النهي عن الحلف الحلف معناه تأكيد الشيء بذكر معظم والإنسان لا يحلف بشيء إلا لأنه عظيم في نفسه فكأنه يقول بقدر عظمة هذا المحلوف به أني صادق ولهذا كان الحلف بالله عز وجل احلف بالله أو بصفة من صفاته أو بأي اسم من(6/452)
أسمائه قال الله تعالى وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وقال الله تعالى {أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءَ الْحُسْنَى} فإذا حلفت بالرحمن أو بالرحيم أو بالسميع ...
أو أي اسم من أسماء الله فهذا جائز وحروف القسم ثلاثة الواو والباء والتاء الواو مثل والله لأفعلن كذا والباء مثل بالله لأفعلن كذا والتاء تالله لأفعلن كذا قال الله تعالى {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} {يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} وقال تعالى {تَاللهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ} وقال تعالى {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} فهذه حروف القسم والقسم بغير الله كفر أو شرك ثم قد يكون كفرا أكبر وقد يكون كفرا أصغر وكذلك قد يكون شركا أكبر وقد يكون شركا أصغر فإذا اعتقد الحالف في شيء أن هذا الشيء له من العظمة مثل ما لله فإن هذا شرك أكبر وإن اعتقد أن له عظمة دون عظمة الله فهو شرك أصغر لأنه وسيلة للأكبر وكانوا في الجاهلية قد اعتادوا أن يحلفوا بآبائهم فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه وقال لا تحلفوا بآبائكم يعني ولا بإخوانكم ولا بأجدادكم ولا برؤسائكم لكن خص الآباء بالذكر لأن هذا هو المعتاد عندهم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليسكت يعني إما ليحلف بالله أو لا يحلف أما أن يحلف بغير الله فلا ومن ذلك الحلف بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم أشرف البشر وسيد البشر لو قلت والنبي محمد كنت مشركا أو كافرا الحلف بجبريل لو قلت وجبريل وميكائيل وإسرافيل ومالك خازن النار أو غير هؤلاء فهذا شرك لو قلت والشمس والقمر والليل والنهار تحلف بها فهذا شرك إما أكبر وإما أصغر على حسب ما قسمنا وتحلف أيضا بصفة من صفات الله مثل وعزة الله لأفعلن وحكمة الله لأفعلن كذا وكذا لا بأس به أما الحلف بغير الله فهو كما قلت كفر أو شرك إما أكبر وإما أصغر ثم ذكر المؤلف الحديث أن من قال هو بريء من دين الإسلام إن كان كذا وأن الإنسان لا يحل له أن يقول هذا وأنه إن قال هذا فإن كان كاذبا فهو كما قال يعني أنه بريء من الإسلام والعياذ بالله وإن كان صادقا فلن يرجع إلى الإسلام سالما يعني لابد أن يأثم أو يكفر ومثله قول القائل هو يهودي إن حصل كذا وكذا هو نصراني إن حصل كذا وكذا هذا يقال له إن ذلك محرم عليك لأنك إن كنت كاذبا فأنت كما قلت يهودي أو نصراني وإن كنت صادقا فلن ترجع إلى الإسلام سالما مثال ذلك قال رجل إن فلانا قدم اليوم وصل اليوم وكان مسافرا فقال له صاحبه لا ما وصل قال الأول هو يهودي إن كان لم يقدم فإن كان كاذبا وأنه لم يقدم يعني كاذبا فإنه يكن يهوديا لأنه قال هو يهودي إن كان لم يقدم وهو كاذب فيكون بذلك يهوديا وإن كان صادقا أنه قدم فإنه لن يرجع إلى الإسلام سالما كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم المهم إنك إذا أردت أن تحلف فاحلف بالله بأي اسم من أسماء الله أو بأي صفة من صفات الله قد يقول قائل أليس الله تعالى أقسم بالمخلوقات قال {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} وقال {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} وقال {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} نقول إن الله تعالى له أن يحلف بما شاء من خلقه فهو إذا حلف بشيء كان ذلك دليلا على عظمة الله لأن عظم المخلوق يدل على عظم الخالق والله تعالى لا يحلف بشيء إلا بشيء عظيم وعظم المخلوق من عظم الخالق ولله أن يحلف بما شاء من خلقه ولا أحد يحجر على الله يفعل ما يريد عز وجل فإن قال القائل نسمع بعض الناس تقول أقسم بآيات الله هل هذا حلف بغير الله وهل هذا كفر أو شرك نقول ماذا يريد بآيات الله إن أراد بآيات الله الشمس والقمر والليل والنهار فهذا حلف بغير الله فيكون مشركا أو كافرا لأن الله يقول {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} فإذا قال أنا أريد بآيات الله التي حلفت بها هذه الأشياء قلنا هذا حلف بغير الله فيكون مشركا أو كافرا وإن قال أريد بآيات الله القرآن لأن القرآن آيات الله عز وجل فهذا ليس بمشرك لماذا لأن القرآن الكريم كلام الله وكلام الله تعالى من صفاته فإذا قال أقسم بآيات الله أقصد بذلك القرآن قلنا هذا قسم صحيح وليس فيه شيء وفي ظني أن العوام إذا قال أقسم بآيات الله في ظني أنهم يريدون القرآن فإذا كانوا يريدون القرآن فليس حراما ولكن إن كانوا يردون الآيات التي هي الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار وما أشبه ذلك هذا شرك أو كفر والله الموفق(6/453)
باب تغليظ اليمين الكاذبة عمدا
1712 - عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان قال ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} إلى آخر الآية متفق عليه
1713 - وعن أبي أمامة إياس بن ثعلبة الحارثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال له رجل وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله قال وإن كان قضيبا من أراك رواه مسلم
1714 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس رواه البخاري(6/454)
وفي رواية له أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر قال: الإشراك بالله قال ثم ماذا قال اليمين الغموس قلت وما اليمين الغموس قال الذي يقتطع مال امرئ مسلم يعني بيمين هو فيها كاذب
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب تغليظ اليمين الكاذبة التي يقتطع بها مال امرئ مسلم وذلك أن الإنسان يجب عليه إذا حلف بالله أن يكون صادقا سواء حلف على أمر يتعلق به أو على أمر يتعلق بغيره فإن حلف على يمين وهو فيها كاذب فإن كان يقتطع بها مال امرئ مسلم ولو يسيرا فإنه يلقى الله يوم القيامة وهو عليه غضبان مثال ذلك إنسان ادعى عليه شخص قال أنا أعطيتك ألف ريال قال لا ليس لك عندي شيء والمدعي ليس عنده بينة فقال القاضي للمنكر احلف أنه ليس له عندك شيء فحلف فقال والله ما له عندي شيء القاضي سيحكم بأنه لا حق له عليه لأن البينة على من أدعى واليمين على من أنكر(6/455)
فهذا الرجل الذي حلف وهو كاذب يلقى الله وهو عليه غضبان والعياذ بالله ويحرم الله عليه الجنة ويدخله النار نسأل الله العافية حتى قالوا يا رسول الله وإن كان شيء يسيرا قال: وإن كان قضيبا من أراك قضيب ما يملأ اليد من علف أو أعواد أو ما أشبه ذلك يعني حتى ولو كان كذلك أو إن القضيب هو العود الواحد من الأراك يعني من المساويك حتى لو أن الإنسان حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم ولو عودا من أراك فإنه يحصل على هذا الوعيد الشديد والعياذ بالله وأما ما يتعلق بنفسه مثل أن يقال له إنك فعلت كذا فقال والله ما فعلت وهو كاذب فهذا إذا كان كاذبا فإنه لا يستحق هذا الوعيد لكنه والعياذ بالله آثم جمع بين الكذب وبين الحلف بالله عز وجل كاذبا فتتضاعف عليه العقوبة فعلى المسلم أن يكون محترما لله عز وجل معظما له لا يكثر اليمين وإذا حلف فليكن صادقا حتى يكون بارا بيمينه نسأل الله لنا ولكم التوفيق(6/456)
باب ندب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها أن يفعل ذلك المحلوف عليه ثم يكفر عن يمينه
1715 - عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك متفق عليه
1716 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير رواه مسلم
1717 - وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين ثم أرى خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير متفق عليه
1718 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن يلج أحدكم في يمينه في أهله آثم له عند الله تعالى من أن يعطي كفارته التي فرض الله عليه متفق عليه قوله يلج بفتح اللام وتشديد الجيم أي يتمادى فيها ولا يكفر وقوله آثم بالثاء المثلثة أي أكثر إثما
[الشَّرْحُ]
هذا الباب عقده المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين يقول باب ندب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها أن يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير(6/457)
وذلك أن الإنسان إذا حلف على شيء فالأفضل ألا يحنث في يمينه أن يبقى على ما حلف عليه لكن إذا حلف على ترك واجب وجب عليه أن يحنث ويكفر مثل أن قال والله لا أصلي اليوم في جماعة هذا حرام عليه صلاة الجماعة واجبة وهذا ربما يقع ربما يقول مثلا أبوه له يا ولد روح صلي يقول والله اليوم ما أصلي مع جماعة عنادا لكم هكذا يقول بعض السفهاء فإذا حلف قلنا هذا لا يجوز لازم تصلي مع جماعة وتكفر عن يمينك وإذا حلف فقال والله لا أكلم ابن عمي لسوء تفاهم بينهما مثلا هذا أيضا حرام لأنه قطيعة رحم وهجر لأخيه فيقال كلمه وكفر عن يمينك وإذا قال عندما أمره أبوه مثلا أن يصلي نافلة الظهر قال والله ما أصليها عنادا لك نقول هذا الأفضل أن يصلي ويكفر عن يمينه ولكن ليس بواجب لأن نافلة الظهر ما هي واجبة فالحاصل أن الإنسان إذا حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير وهو بالخيار إن شاء فعل ثم كفر أو إن شاء كفر ثم فعل وذكر المؤلف أحاديث منها حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم أما فعله فقال: والله إن شاء الله إني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير فثبت بذلك أي بالسنة القولية والفعلية أن الإنسان إذا حلف على شيء ورأى غيره خيرا منه فإنه يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير أما إذا لم يكن كذلك فالأفضل أن يبقى على يمينه وألا يحنث لقول الله تعالى واحفظوا أيمانكم والله الموفق(6/458)
باب العفو عن لغو اليمين وأنه لا كفارة فيه وهو ما يجري على اللسان بغير قصد اليمين كقوله على العادة لا والله
قال الله تعالى {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُّؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}
1719 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أنزلت هذه الآية {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} في قول الرجل لا والله وبلى والله رواه البخاري
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب العفو عن لغو اليمين لغو اليمين هي اليمين التي يقولها الإنسان على لسانه لا يقصدها بقلبه وقد عفا الله تعالى عن ذلك لأنه يحصل كثيرا أن يقول الإنسان لا والله ما أنا ذاهب لا والله ما أنا فاعل وما أشبه ذلك فلما كثر هذا في ألسن الناس عفا الله(6/459)
عنه قال الله تعالى لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ فسرته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بأنه قول الرجل لا والله وبلى والله في عرض الحديث ولا قصد اليمين هذا لا يؤاخذ به لا يأثم به ولا يحنث فيه ولا تجب فيه الكفارة أما إذا عقد الإنسان اليمين عقدا جازما قال والله لا أفعل كذا والله لأفعلن كذا ولم يفعل لزمته الكفارة وهي عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم بدأ الله تعالى بالإطعام لأنه أهون الثلاثة قال {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فإن لم يجد فإنه يصوم ثلاثة أيام متتابعة لا يفطر بينها وهذا من سعة رحمة الله تعالى أن هذا الأيمان التي تتكرر على الألسن ولا يقصدها الحالف ليس فيها إثم وليس فيها كفارة لأن ذلك يقع كثيرا ولكن مع ذلك يقول الله عز وجل {واحفظوا أيمانكم} يعني لا تكثروا من الأيمان ولا تتركوا الكفارة إذا حنثتم فيها بل احفظوها لأن اليمين أمرها عظيم ولهذا سمى الله تعالى مخالفتها حنثا بل سماها النبي صلى الله عليه وسلم حنثا لأنه لولا رحمة الله لكان الإنسان إذا حلف لزمه أن يوفي ولكن من نعمة الله أنه يسر أن الإنسان له أن يخالف ما حلف عليه إذا لم يكن إثما والله الموفق الإطعام كيلو للنفر الواحد من الأرز يكفي بزيادة(6/460)
باب كراهة الحلف في البيع وإن كان صادقا
1720 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب متفق عليه
1721 - وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إياكم وكثرة الحلف في البيع فإنه ينفق ثم يمحق رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب كراهة الحلف في البيع وإن كان صادقا يعني معنى هذا أن الإنسان يكره أن يحلف عند البيع والشراء ولو كان صادقا فمثلا يكره أن يقول والله لقد اشتريتها بمائة ولو كان صادقا فإن كان كاذبا صار ظلما على ظلم والعياذ بالله لو قال والله لقد اشتريتها بمائة ولم يشترها إلا بثمانين صار أشد لأنه يكون بذلك كاذبا حالفا في البيع وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأخبر كما في حديث أبي هريرة أنه منفقة للسلعة ممحقة للكسب يعني أنها وإن زادت السلعة بالحلف فإن الله ينزع بركتها ويمحق كسبها لأن هذا الكسب مبني على(6/461)
معصية الرسول صلى الله عليه وسلم ومعصية الرسول معصية لله وكثير من الناس يبتلى في هذا الأمر تجده مثلا يقول للزبون والله إنه طيب والله إني اشتريته بكذا وكذا سواء كان صادقا أو كاذبا فهو منهي عنه بيع واشتري بلا يمين إذا أردت أن الله يبارك لك في كسبك وكذلك حديث أبي قتادة فيه التحذير عن الحلف في البيع إياكم والحلف في البيع فإنه ينفق السلعة ويمحق البركة والحديثان معناهما واحد كلاهما يدل على أن الإنسان ينهى عن الحلف في البيع وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يكثر الحلف أو لا لكن لما كان الإنسان البائع والمشتري دائما يحلف دائما يبيع ويشتري حمله بعض العلماء على الكثرة كثرة الحلف عند البيع والشراء فالإنسان إذا أراد الله له الرزق أتاه بدون يمين نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الرزق الحلال(6/462)
باب كراهة أن يسأل الإنسان بوجه الله عز وجل غير الجنة وكراهة منع من سأل بالله تعالى وتشفع به
1722 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسأل بوجه الله إلا الجنة رواه أبو داود
1723 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سأل بالله فأعطوه ومن دعاكم فأجيبوه ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه به فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي بأسانيد الصحيحين
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى باب كراهة أن يسأل الإنسان بوجه الله غير الجنة وجه الله تعالى وصفه الله تعالى بأنه ذو الجلال والإكرام قال تعالى كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام كل من على البسيطة فإنه فان زائل لكن يبقى وجه الله عز وجل {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} ولهذا قال بعض العلماء ينبغي أن يصل قوله {ويبقى وجه ربك} بما قبله حتى يتبين كمال الله عز وجل وأنه يستحيل عليه الفناء بل هو الباقي الذي لا يزول فوجه الله تعالى عظيم وأعظم ما يسأله المرء الجنة قال الله تعالى {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} نسأل الله أن يجعلنا منهم هذا الفوز الأعظم الذي لا يدانيه أي فوز {فمن زحزح عن النار(6/463)
وأدخل الجنة فقد فاز} نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم فلما كانت الجنة أعظم مسئول يعني مسئول به يعني أعظم ما يسأله الإنسان هو الجنة صار لا يسأل بوجه الله إلا الجنة فلا تسأل بوجه الله شيء من أمور الدنيا لا تقبل الله أني أسألك بوجهك أن تعطيني بيتا أسكنه أو سيارة أركبها أو ما أشبه ذلك لأن وجه الله أعظم من أن يسأل به شيء من الدنيا الدنيا كلها دنيئة كلها فانية كلها لا خير فيها إلا ما يقرب إلى الله عز وجل وإلا فهي خسارة قال تعالى {والعصر إن الإنسان لفي خسر} العصر يعني الدهر وهو الدنيا أقسم بالعصر أن كل إنسان في خسر لا يستفيد من عصره إلا من جمع هذه الصفات الأربع {إلا الذين آمنوا} واحد {وعملوا الصالحات} اثنين {وتواصوا بالحق} ثالث يعني أوصى بعضهم بعضا بالحق والرابع {وتواصوا بالصبر} أي بالصبر على الحق والدعوة إليه والصبر على أقدار الله وغير ذلك فالمهم لا تسأل بوجه الله إلا الجنة وكذلك ما يقرب إلى الجنة، فلك أن تسأل بوجه الله النجاة من النار اللهم إن أسألك بوجهك أن تنجني من النار لأنه إذا نجا الإنسان من النار لابد أن يدخل الجنة ما في ثلاثة دور ما في إلا داران فقط دار الكفار وهي النار أعاذنا الله وإياكم منها ودار المؤمنين المتقين وهي الجنة فإذا قلت أسألك بوجهك أن تجيرني من النار فلا بأس(6/464)
لأن الله متى أجارك من النار أدخلك الجنة وهذا الحديث إسناده ضعيف ولكن معناه صحيح لا ينبغي أن تسأل بوجه الله العظيم إلا بشيء عظيم أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من استعاذ بالله فأعيذوه يعني معناه إذا قال أحد لك أعوذ بالله منك فأعذه وأتركه كما فعلت امرأة تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم فلما دنا منها قالت أعوذ بالله منك جاهلة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد عذتي بمعاذ إلحقي بأهلك وتركها لأنها استعاذت بالله منه فإذا استعاذ أحد بالله منك فأعذه إلا إذا استعاذ عن حق واجب فإن الله لا يعيذه لو أنه كان مطلوبا لك فسألته حقك قلت أعطني حقي فقال أعوذ بالله منك فهنا لا تعذه لأن الله تعالى لا يعيذ عاصيا لكن إذا كان الأمر ليس محرما فاستعاذ بالله منك فأعذه تعظيما لله عز وجل ومن سأل بالله فأعطه لو سألك سائل فقال أسألك بالله أن تعطيني كذا وكذا أعطه إلا إذا سألك شيئا محرما فلا تعطه مثلا أن يسألك يقول لك أسألك بالله أن تخبرني ماذا تصنع مع أهلك مثلا هذا لا يجوز أن تخبره بل وجهه وأنصحه وقل هذا تدخل فيما لا يعنيك وقد قال(6/465)
النبي صلى الله عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه وكذلك لو سأل محرما ولو سألك بالله لا تعطه لو قال أسألك بالله أن تعطيني كذا وكذا ليشتري به دخانا فلا تعطه لأنه سألك ليستعين به على شيء محرم فالمهم أن من سألك بالله فأعطه ما لم يكن على شيء محرم وكذلك ما لم يكن عليك ضرر فإن كان عليك ضرر فلا تعطه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ضرر ولا ضرار ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه يعني إذا صنع إليك أحد معروفا إما بمعونة في شيء أو باستخدامك إياه في شيء من الأشياء أو غير ذلك فكافئه أعطه ما تظن أنه يكافئ معروفه فإن لم تجد ما تكافئه أو كان ممن لا يحسن مكافأته كالملك والوزير والرئيس وما أشبه ذلك فأدعو له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه ومن دعاكم فأجيبوه من دعاك إلى بيته إلى وليمة قليلة أو كثيرة فأجبه لكن هذا مشروط بما إذا لم يكن عليك ضرر فإن كان عليك ضرر فلا تجبه أو كان هذا الرجل ممن يهجر فلا تجبه أيضا أو كان هذا الرجل في ماله حرام ورأيت أنه من المصلحة ألا تجيبه لعله يقلع عن الحرام فلا تجبه أما في وليمة العرس فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من لم يجب فقد عصى الله ورسوله إذا دعاك الزوج لوليمة العرس فأجبه ما لم يكن عليك ضرر أو يكن هناك منكر فإن كان عليك ضرر فلا يلزمك إجابته وإن كان هناك منكر فإن كنت تستطع أن تغيره فأجب وغير وإلا فلا تجب والله الموفق(6/466)
باب كراهة سب الحمى
1726 - عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب أو أم المسيب فقال ما لك يا أم السائب أو يا أم المسيب تزفزفين؟ قالت الحمى لا بارك الله فيها فقال لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد رواه مسلم تزفزفين أي تتحركين حركة سريعة ومعناه ترتعد وهو بضم التاء وبالزاي المكررة والفاء المكررة وروي أيضا بالراء المكررة والقافين
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين: باب كراهة سب الحمى الحمى هي السخونة وهي نوع من الأمراض وهي أنواع متعددة ولكنها تكون بقدر الله عز وجل فهو الذي يقدرها وقوعا ويرفعها سبحانه وتعالى وكل شيء من أفعال الله فإنه لا يجوز للإنسان أن يسبه لأن سبه سبا لخالقه جل وعلا ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر وهنا حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم المسيب أو(6/467)
أم السائب وهي تزفزف من الحمى يعني نفسها قد ثار من الحمى فقال ما لك تزفزفين؟ قالت الحمى لا بارك الله فيها فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سبها وعلى المرء إذا أصيب أن يصبر ويحتسب الأجر على الله عز وجل وأخبر أنها تذهب بالخطايا كما يذهب الكير بخبث الحديد فإن الحديد إذا صهر على النار ذهب خبثه وبقي صافيا كذلك الحمى تفعل في الإنسان كذلك ولها أدوية علاجية منها الماء البارد فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الحمى من فيح جهنم وأمرنا أن نطفئها بالماء البارد ولهذا أقر الأطباء في الوقت الحاضر بأن من أفضل علاج الحمى البرودة حتى إنهم يجعلون الإنسان إذا أصابته الحمى حول المكيفات الباردة التي لا تضره أن يجعلوا خرقة مبلولة بالماء يغطونه بها يغطون المريض لأن الحمى بإذن الله حرارة كما هو معروف وهذا الماء يبردها ويطردها وهو شيء أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو حق المهم أن الإنسان يصبر ويحتسب على كل الأمراض لا يسبها(6/468)
باب النهي عن سب الريح وبيان ما يقال عند هبوبها
1727 - عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الريح فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح
1728 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الريح من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها وسلوا الله خيرها واستعيذوا بالله من شرها رواه أبو داود بإسناد حسن قوله صلى الله عليه وسلم من روح الله هو بفتح الراء أي رحمته بعباده
1729 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به رواه مسلم(6/469)
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين: باب النهي عن سب الريح وسبق فيما مضى النهي عن سب الحمى الرياح من آيات الله عز وجل من آيات الله تعالى في تصريفها وفي إرسالها وفي كيفيتها إذ لا يقدر أحد على أن يصرف هذه الرياح إلا خالقها عز وجل كما قال الله تبارك وتعالى إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون وقال الله تبارك وتعالى {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته} وقال تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ} والآيات في هذه كثيرة هذه الريح التي خلقها الله عز وجل وصرفها تنقسم إلى قسمين قسم ريح عادية لا تخيف لا يسن لها ذكر معين وريح أخرى عاصفة هذه تخيف لأن عادا عذبهم الله تعالى بالريح العقيم والعياذ بالله فإذا عصفت الريح فإنه لا يجوز لك أن تسبها لأن الريح إنما أرسلها الله عز وجل فسبك إياها سب لله تبارك وتعالى ولكن قل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إني أسألك خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به وبهذا الدعاء يحصل لك خيرها ويزول عنك شرها(6/470)
أسألك خير هذه الريح لأن هذه الريح قد تكون عاصفة شديدة تقلع الأبواب وتجث الأشجار وتهدم الديار وخير ما فيها ما فيها أي ما تحمله من أمور قد تكون نافعة وقد تكون ضارة وخير ما أرسلت به لأنها تارة ترسل بالخير وتارة ترسل بالشر فتسأل الله خير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به فإذا استعاذ الإنسان من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به وسأل الله خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به كفاه الله شرها واعلم أن لا يجوز للإنسان أن يتعلق بالريح في حصول المطر والغيث والصحو وما أشبه ذلك لأن هذا من جنس الاستسقاء بالأنواء الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم كثير من الناس يعلق رجاءه بالريح الجنوبي يقول إذا هب الجنوب حصل الغيث وتجد قلبه متعلقا بها وهذا لا يجوز لأنها قد تهب ريح الجنوب كثيرا ولا يأتي أمطار ولا غيوم وقد يكون بالعكس تأتي الأمطار والغيوم من الريح الشمالي فالأمر كله بيد الله عز وجل فعليك أن تعلق قلبك بربك تبارك وتعالى وألا تسب ما خلقه من الرياح واسأل الله خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به واستعذ بالله من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به والله الموفق(6/471)
باب كراهة سب الديك
1730 - عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة رواه أبو داود بإسناد صحيح
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين: باب النهي عن سب الديك والديك هو الذكر من الدجاج وله صوت يؤذن فيوقظ النائم وبعضها يؤذن على الأوقات عند أوقات الصلوات وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من سمع صوت الديك أن يسأل الله من فضله إذا سمعت صوت الديك فقل أسأل الله من فضله فإنها رأت ملكا وبعض الديكة يكون أذانه على دخول الوقت أو قرب دخول الوقت فيوقظ الناس للصلاة فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سبه لهذه المزية التي تميز بها كما نهي عن قتل النملة لأنها كانت دلت أخواتها على النجاة من سليمان عليه الصلاة السلام وهذا من تمام عدل الله عز وجل أن بعض الحيوانات التي يكون فيها مصلحة للعباد(6/472)
يكون لها مزية وفضل على غيرها سب الديك قد يقع من بعض الناس بفزع من صوته وهو نائم فيسبه ويشتمه وهذا منهي عنه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تسبوا الديك وفي هذا الحديث دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يتخذ ما يوقظه للصلاة وذلك مثل الساعات المنبهة فإن الإنسان ينبغي له أن يقتني من هذه الساعات حتى تنبهه للصلاة في الوقت الذي يدرك فيه الصلاة وكثير من الناس يتهاون في هذا الأمر ينام معتمدا على أنه سيقوم في الوقت الذي يريده ولكن يغلبه النوم فإذا علمت من نفسك هذا فاجعل لنفسك منبها ينبهك للصلاة لأن ما لا يتم المأمور إلا به فهو مأمور به وأنت مثاب على هذا(6/473)
باب النهي عن قول الإنسان مطرنا بنوء كذا
1731 - عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب متفق عليه والسماء هنا المطر
وأما الباب الثاني وهو تحريم قول الإنسان مطرنا بنوء كذا وكذا وهو أيضا عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية والحديبية غزوة مشهورة معروفة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة معتمرا ومعه الإبل الهدى فلما وصل إلى الحديبية وهى أرض بين الحل والحرم منعته قريش أن يدخل مكة وجرى بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ما هو معروف من المصالحة لكن في إحدى الليالي صلى بهم النبي(6/474)
صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح على إثر مطر فلما أنصرف من صلاته أقبل عليهم وقال هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم وإنما ألقى عليهم هذا السؤال من أجل أن ينتبهوا لأن إلقاء الأسئلة يوجب الانتباه قالوا الله ورسوله أعلم وهكذا كل إنسان يجب عليه إذا سئل عما لا يعلم أن يقول الله ورسوله أعلم في الأمور الشرعية أما الأمور الكونية القدرية فهذا لا يقول ورسوله أعلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب كما مثلا لو قال قائل أتظن المطر ينزل غدا تقول الله أعلم ولا تقل الله ورسوله أعلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم مثل هذه الأمور لكن لو قال لك هل هذا حرام أم حلال تقول الله ورسوله أعلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم عنده علم الشريعة المهم أنهم قالوا الله ورسوله أعلم وهذا من الأدب قال قال يعني أن الله قال عز وجل أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي يعني في تلك الليلة قال الله عز وجل فيما أوحاه إلى نبيه أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب والباء هنا للسببية يعني معناه أنك إذا أضفت المطر إلى النوء فقلت هذا النجم نجم بركة وخير يأتي بالمطر فهذا حرام عليك كفر بالله عز وجل وإضافة للشيء إلى سببه من نسيان المسبب وهو الله عز وجل وأما إذا قلت مطرنا بفضل الله ورحمته في هذا النوء، فلا بأس لأن(6/475)
هذا اعتراف منك بأن المطر بفضل الله ولكنه صار في هذا بالنوء كثير من العامة عندنا يقولون مطرنا بالفصل مطرنا كذا وكذا ...
وليسوا يقصدون بهذا السببية وإنما يقصدون الظرفية أي أن المطر صار في هذا الوقت وهذا لا بأس به وأما إذا جعل الباء للسببية فهذا هو الذي كفر بالله وإيمان بالكواكب ثم إن اعتقد أن الكوكب هو الذي يأتي بالمطر فهذا كفر أكبر مخرج عن الملة وإن اعتقد أن الكوكب سبب وأن الخالق هو الله عز وجل فهذا كفر بنعمة الله وليس كفرا مخرجا عن الملة وفي هذا الحديث نعرف أنه ينبغي للإنسان إذا جاء المطر أن يقول مطرنا بفضل الله ورحمته والله الموفق(6/476)
باب تحريم قوله لمسلم يا كافر
1732 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه متفق عليه
1733 - وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه متفق عليه حار رجع
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين: باب تحريم قوله لمسلم يا كافر المسلم والكافر حكمهما إلى الله عز وجل فالذي يحكم بالكفر هو الله والذي يحكم بالإسلام هو الله كما أن الذي يحلل ويحرم هو الله عز وجل فليس لنا أن نحلل ما حرم الله ولا أن نحرم ما أحل الله ولا أن نكفر من ليس بكافر في حكم الله ولا أن نقول هذا مسلم وليس مسلما عند الله ومسألة التكفير مسألة خطيرة جدا فتح بها أبواب شر كبيرة على الأمة(6/477)
الإسلامية فإن أول من انتحل هذه النحلة الخبيثة وهي تكفير المسلمين هم الخوارج الخوارج الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية وأنهم يقرأون القرآن لا يتجاوز حناجرهم وأنهم يصلون ويتصدقون ويقرأون القرآن حتى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الصحابة يحقر أحدهم صلاته عند صلاة هؤلاء لكنهم والعياذ بالله كفروا المسلمين واستحلوا دماءهم وأموالهم ونساءهم نسأل الله العافية ومازال هذا الحكم موجودا إلى يومنا هذا فإن هناك شعبة ضالة مبتدعة خبيثة تكفر من لم يكفره الله ورسوله بأهوائهم هذا كافر هذا مبتدع هذا فاسق وما أشبه ذلك وماذا حصل من هؤلاء الخوارج المارقين من الإسلام حصل منهم أنهم اجتمعوا مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو الخليفة الراشد الرابع من الخلفاء الراشدين اجتمعوا معه على حرب أهل الشام واتفقوا على ذلك وجرت بينهم حروب عظيمة ودماء كثيرة ثم اصطلح علي رضي الله عنه مع أهل الشام وتصالحوا حقنا لدماء المسلمين فقالت الخوارج لعلي بن أبي طالب أنت كافر لماذا تصالحهم كفرت كما كفروا فخرجوا عليه وقاتلوه لكن صارت العاقبة والحمد لله له قتلهم قتل عاد وإرم وقضى عليهم جميعا لكن مازال فيهم ما زال هذا المذهب الخبيث موجودا في المسلمين يبيحوا دماء المسلمين مع احترامها وأموالهم مع احترامها ونساءهم مع احترام الأعراض فيقولون(6/478)
مثلا من زنى فهو كافر ومن سرق فهو كافر ومن شرب الخمر فهو كافر كل ذنب من كبائر الذنوب فهو عندهم كفر والعياذ بالله يخرج من الملة فهؤلاء الذين يكفرون المسلمين لا شك أنهم هم الكفار لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الرجل إذا قال لأخيه يا كافر فإنه يبوء بها أحدهما لابد إن كان كما قال كافر فهو كافر وإلا كان الكافر هو القائل والعياذ بالله ولهذا يجب أن ينزه الإنسان لسانه وقلبه عن تكفير المسلمين لا يتكلم فيقول هذا كافر ولا يعتقد في قلبه أن هذا كافر لمجرد الهوى الحكم بالتكفير ليس لزيد ولا لعمرو بل هو لله ورسوله من كفره الله ورسوله فهو كافر وإن قلنا إنه مسلم ومن لم يكفره الله ورسوله فهو مسلم وإن قال من قال إنه كافر لذلك نقول لمن قال لمسلم يا كافر أو يا عدو الله وإن كان المخاطب كما قال فهو كافر وعدو لله وإن لم يكن كذلك فالقائل هو الكافر العدو لله والعياذ بالله وعلى هذا فيكون هذا القول من كبائر الذنوب إذا لم يكن الذي قيل فيه أهلا لها ولهذا جزم المؤلف رحمه الله في تحريم هذا أي في تحريم القول للمسلم يا كافر أو يا عدو الله نسأل الله تعالى أن يحمي قلوبنا ويكفنا من الكلام ما يغضبه ويضرنا إنه على كل شيء قدير(6/479)
باب النهي عن الفحش وبذاءة اللسان
1734 - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء رواه الترمذي وقال حديث حسن
1735 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان الفحش في شيء إلا شأنه وما كان الحياء في شيء إلا زانه رواه الترمذي وقال حديث حسن(6/480)
باب كراهة التقعير في الكلام والتشدق فيه وتكلف الفصاحة واستعمال ودقائق اللغة في مخاطبة العوام ونحوهم
1736 - عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هلك المتنطعون قالها ثلاثة رواه مسلم المتنطعون المبالغون في الأمور
1737 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تخلل البقرة رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن
1738 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون(6/481)
والمتفيهقون رواه الترمذي وقال حديث حسن وقد سبق شرحه في باب حسن الخلق
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث كلها تتعلق بما ينطق به الإنسان وذلك أنه ينبغي بل يجب على الإنسان ألا يتكلم إلا بخير لقول النبي صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت والخير قد يكون خيرا لذاته وقد يكون خيرا لغيره فمن الخير لذاته أن يتكلم الإنسان بالقرآن بالذكر بالأمر بالمعروف بالنهي عن المنكر وما أشبه ذلك وأما الخير لغيره أن يتكلم الإنسان بما ليس في ذاته أجر لكنه يريد أن يبسط إخوانه ويزيل عنهم الوحشة ويؤلف قلوبهم هذا من الخير حتى الكلام العام إذا قصد الإنسان في ذلك ما ذكرنا كان هذا من الخير ضد ذلك من كان بذيء اللسان والعياذ بالله طعانا لعانا طعانا يعني يطعن في الأنساب ويعيب الناس ولعانا يكثر لعنهم وسبهم نسأل الله العافية فقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن مثل هذا فقال ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا بالبذيء فالمؤمن رفيق هين لين كلامه سهل(6/482)
ومن ذلك أيضا من آفات اللسان التقعر في الكلام والتشدق حتى يتكلم الإنسان بملء شدقيه وحتى يتكلم عند العامة في غرائب اللغة العربية إما رياء ليقول الناس ما أعلمه باللغة العربية أو لغير ذلك فالإنسان ينبغي أن يكون كلامه ككلام الناس الكلام الذي يفهم حتى وإن كان بالعامية مادام يخاطب العوام أما إذا كان يخاطب طلبة علم وفي مجلس التعلم فهنا ينبغي أن يكون كلامه بما يقدر عليه من اللغة العربية وفي الباب الثاني الذي ذكره المؤلف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون المتنطع هو المتقعر في الكلام الذي يتنطع بكلامه أو بقوله أو بفعله أو برأيه أو بغير ذلك مما يعده الناس خروجا عن المألوف وكل هذا من الآداب الحسنة التي جاء بها الإسلام والحمد لله رب العالمين(6/483)
باب كراهة قوله خبثت نفسي
1739 - عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يقولن أحدكم خبثت نفسي ولكن ليقل لقست نفسي متفق عليه قال العلماء معنى خبثت أي غثيت وهو معنى لقست ولكن كره لفظ الخبث(6/484)
باب كراهة تسمية العنب كرما
1740 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسموا العنب الكرم فإن الكرم المسلم متفق عليه وهذا لفظ مسلم وفي رواية فإنما الكرم قلب المؤمن وفي رواية للبخاري ومسلم يقولون الكرم إنما قلب المؤمن
1741 - وعن وائل بن حجر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تقولوا الكرم ولكن قولوا العنب والحبلة رواه مسلم الحبلة بفتح الحاء والباء ويقال أيضا بإسكان الباء
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين: باب كراهة قول الرجل خبثت نفسي خبثت نفسي يعني لقست ومعنى لقست غثيت أحيانا يصيب الإنسان كتمة يسميها الناس كتمة فتضيق عليه الدنيا بدون أن يعرف سببا لذلك فيقول خبثت نفسي وخبثت يعني صارت خبيثة وهذه كلمة(6/485)
مكروهة ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول الرجل خبثت نفسي ولكن يقول لقست ولقست بمعنى خبثت ولكنها في اللفظ تخالفها فهي أهون منها وأيسر وفي هذا الحديث دليل على اجتناب الألفاظ المكروهة وإبدالها بألفاظ غير مكروهة وإن كان المعنى واحدا لأن اللفظ قد يكون سببا للمعنى قد يقول خبثت نفسي بمعنى غثيت والخبث الغثيان ويأتي في باله أنه من الخبث الذي هو ضد الطيب والنفوس الخبيثة هي نفوس الكفرة والعياذ بالله لقول الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ولقوله تعالى {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ} ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد دخول الخلاء ليبول أو يتغوط يقول أعوذ بالله من الخبث والخبائث يعني الشياطين والشر فالمهم أن الإنسان يكره له أن يطلق ألفاظا مكروة على معاني صحيحة بل يبدلها بألفاظ محبوبة للنفوس وأما الباب الثاني فهو النهي عن تسمية العنب كرما والكرم كما قال(6/486)
النبي صلى الله عليه وسلم هو المؤمن أو قلب المؤمن لأنه مأخوذ من الكرم والكرم هو وصف محبوب يوصف به المؤمن ولاسيما إذا كان جوادا باذلا للخير بجاهه أو بماله أو علمه فإنه أحق بهذا الوصف من العنب وإنما يقال الحبلة أو يقال العنب وأما أن تسميه كرما فهذا لا وهذا والله أعلم له سبب وهو أن هذا العنب قد يتخذ شرابا خبيثا محرما لأن العنب ربما يتخذ منه الخمر نسأل الله العافية يعصر ويخمر فيكون خمرا خبيثا لهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمى العنب كرما وما يوجد في بعض الكتب المؤلفة في الزراعة ونحوها يقال شجر الكرم أو الكروم أو نحو ذلك داخل في هذا النهي فلا ينبغي أن يسمي العنب أو أشجار العنب بالكرم أو بالكروم بل يقال الأعناب والعنب والحبلة وما أشبه ذلك والله الموفق(6/487)
باب النهي عن وصف محاسن المرأة لرجل إلا أن يحتاج إلى ذلك لغرض شرعي كنكاحها ونحوه
1742 - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تباشر المرأة المرأة فتصفها لزوجها كأنه ينظر إليها متفق عليه
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله: باب النهي عن وصف محاسن المرأة لرجل إلا لأمر شرعي كنكاحها يعني أنه لا يجوز للإنسان أن يصف امرأة لرجل فيقول صفتها كذا كالطول والحسن والبياض وما أشبه ذلك إلا إذا كان هناك موجب شرعي مثل أن يكون هذا الرجل يريد أن يتزوجها فيصفها له أخوها مثلا من أجل أن يقدم أو يتزك لأن هذا لا بأس به كما أنه يجوز للخاطب إذا خطب امرأة أن ينظر إليها من أجل أن يكون هذا أدعى لقبوله أو رفضه ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم المرأة أن تصف المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها وهذا كما أنه محرم فهو من جهة الزوجة ضرر عليها وذلك لأنه إذا وصفت المرأة لزوجها فربما يرغب فيها ويتزوجها عليها ويقع بينهما مشاكل كما هي العادة(6/488)
ولا يعني هذا أن الإنسان يدع التعدد تعدد الزوجات خوفا من ذلك لأن التعدد مشروع إذا قدر الإنسان على ذلك في بدنه وماله وعدله فإنه يشرع له أن يكثر الزوجات ليكثر النسل وتكثر الأمة الإسلامية لكن إذا كان يخشى ألا يعدل فقد قال الله تعالى فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعدلوا والحاصل أنه لا يجوز للإنسان أن يصف المرأة لرجل أجنبي منها إلا إذا كان هناك موجب شرعي ومن ذلك ما يفعله بعض السفهاء بحيث يفتخر عند أصحابه وزملائه يقول امرأتي جميلة يعني يفتخر بجمال زوجته امرأتي جميلة ووجها كذا وعينها كذا وفمها كذا وما أشبه ذلك فإن هذا من المحرم لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه والله الموفق(6/489)
باب كراهة قول الإنسان في الدعاء اللهم اغفر لي إن شئت بل يجزم بالطلب
1743 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ليعزم المسألة فإنه لا مكره له متفق عليه وفي رواية لمسلم ولكن ليغرم وليعظم الرغبة فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه
1744 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له متفق عليه
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين: باب كراهة قول الإنسان اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت من المعلوم أن الإنسان لا ملجأ له إلا الله عز وجل في طلب الخير(6/490)
ودفع الشر وإذا كان الله تعالى هو المقصود وهو الذي يريده العباد ويلجأون إليه ويعتمدون عليه فإنه لا ينبغي للإنسان أن يقول اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت بل هذا حرام لأن قول القائل إن شئت كأنه يقول إن شئت اغفر لي وإلا ما يهمني كأنه يقول أنا في غنى عنك كما تقول لصاحبك إن شئت فزرني يعني وإن شئت فلا تزرني فأنا لست في حاجة إليك ولهذا كان قول القائل اللهم اغفر لي إن شئت حراما فقول المؤلف كراهة قول الإنسان اللهم اغفر لي إن شئت يعني كراهة التحريم وكذلك لا يقول اللهم ارحمني إن شئت بل يعزم لأنه يسأل جوادا كريما غنيا حميدا عز وجل ولأنه مفتقر إلى الله فليكن عازما في الدعاء يقول اللهم اغفر لي اللهم ارحمني بدون إن شئت وكذلك لا يقول اغفر لي إن شاء الله أو يقول الإنسان غفر الله لك إن شاء الله هداك الله إن شاء الله كل هذا لا يقال وإنما يجزم الإنسان ويعزم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأن فيه محظورين الأول قال وليعزم المسألة فإن الله لا مكره له يعني الله عز وجل إن غفر لك فمشيئته أو رحمك فمشيئته لا أحد يكرهه على ذلك فهو يفعل ما يشاء ويختار عز وجل لا مكره له حتى تقول إن شئت كذلك أيضا يقول الإنسان إن شئت كأنه يتعاظم الشيء فيقول إن شئت فأت به وإن شئت فلا تأت والله تعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه مهما عظم الشيء فإن الله تعالى غني كريم يعطي الكثير عز وجل ويترك القليل(6/491)
والحاصل أنه لا يحل لك أن تقول اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت اللهم أدخلني الجنة إن شئت اللهم ارزقني أولادا إن شئت اللهم ارزقني زوجة صالحة إن شئت كل هذا لا يجوز اعزم المسألة ولا تقل فيها المشيئة ومن ذلك أيضا ما يقوله بعض الناس وأظنهم من الصوفية اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه فإن هذا حرام كيف لا تسأل الله رد القضاء وهل يرد القضاء إلا الدعاء كما جاء في الحديث لا يرد القضاء إلا الدعاء وكأنك إذا قلت اللهم لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه كأنك تقول يا ربي عذبني ولكن ارفق بي يا رب أهلك أحبابي ولكن ارفق وما أشبه ذلك كل هذه الأدعية يجب على الإنسان أن يتوخى فيها ما جاء في الكتاب والسنة وما كان بمعنى ذلك نقول بناء على حسن نغمة هذا الدعاء وسجعه فهذا لا يجوز فصار عندنا الآن مسألتان الأولى لا يقل اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت اللهم ارزقني إن شئت اللهم اهدني إن شئت قل الدعاء ولا تقل إن شئت والثانية لا تقل اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه ولكن قل اللهم ارفق بي اللهم اكفني الشر وما أشبه ذلك وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم لمن وجده مريضا لا بأس طهور إن شاء فهذا من باب الرجاء وهو خبر يعني أرجو أن يكون هذا طهورا وأيضا لم يكن بلفظ المخاطبة ما قال إن شئت قال إن شاء الله واللفظ بغير المخاطبة أهون وقعا من اللفظ الذي يأتي بالمخاطبة والله أعلم(6/492)
باب كراهة قول ما شاء الله وشاء فلان
1745 - عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان رواه أبو داود بإسناد صحيح
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين: باب كراهة قول الإنسان ما شاء الله وشاء فلان والكراهة هنا يراد بها التحريم يعني أنك إذا تقول ما شاء الله وشاء فلان أو ما شاء الله وشئت أو ما أشبه ذلك وذلك أن الواو تقتضي التسوية إذا قلت ما شاء الله وشاء فلان كأنك جعلت فلانا مساويا لله عز وجل في المشيئة والله تعالى وحده له المشيئة التامة يفعل ما يشاء الله ولكن أرشد النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى عن ذلك أرشد إلى قول مباح فقال ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان لأن ثم تقتضي الترتيب بمهلة يعني أن مشيئة الله فوق مشيئة فلان وكذلك قول ما شاء الله وشئت فإن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت قال أجعلتني لله ندا ينكر عليه بل قل ما شاء(6/493)
الله وحده فهاهنا مراتب المرتبة الأولى أن يقول ما شاء الله وحده وهذه كلمة فيها تفويض الأمر إلى الله واتفق عليها المسلمون كل المسلمين يقولون ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن الثانية يقول ما شاء الله ثم شاء فلان فهذه جائزة أجازها النبي صلى الله عليه وسلم وأرشد إليها الثالثة أن يقول ما شاء الله وشاء فلان فهذه محرمة ولا تجوز وذلك لأن الإنسان جعل المخلوق مساوي للخالق عز وجل في المشيئة الرابعة أن يقول ما شاء الله فشاء فلان بالفاء فهذه محل نظر لأن الترتيب فيها وارد بمعنى أنك إذا قلت فشاء فالفاء تدل على الترتيب لكنها ليس كـ ثم لأن ثم تدل على الترتيب بمهلة وهذه تدل على الترتيب بتعقيب ولهذا فهي محل نظر ولهذا لم يرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم وفي هذا الحديث دليل على أن الإنسان إذا ذكر للناس شيئا لا يجوز فليبين لهم ما هو جائز لأنه قال لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان وهكذا ينبغي لمعلم الناس إذا ذكر لهم(6/494)
الأبواب الممنوعة فليفتح لهم الأبواب الجائزة حتى يخرج الناس من هذا إلى هذا بعض الناس يذكر الأشياء الممنوعة يقول هذا حرام هذا حرام ولا يبين لهم الأبواب الجائزة وهذا سد للأبواب أمامهم دون فتح للأبواب وانظر إلى لوط عليه الصلاة والسلام قال لقومه أتأتون الذكران من العالمين بعده {وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم} نهاهم عن الممنوع وأرشدهم إلى الجائز وهكذا النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان بل انظر إلى قول الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا} فنهاهم عن كلمة راعنا وأرشدهم إلى الكلمة الجائزة {وقولوا انظرنا} ولما جيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر تمر طيب فقال أكل تمر خيبر هكذا قالوا لا لكننا نشتري الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بثلاثة قال لا بع التمر الرديء بالدراهم ثم اشتري بالدراهم تمراً طيبا(6/495)
باب كراهة الحديث بعد العشاء الآخرة المراد به الحديث الذي يكون مباحا في غير هذا الوقت وفعله وتركه سواء فأما الحديث المحرم أو المكروه في غير هذا الوقت فهو في هذا الوقت أشد تحريما وكراهة وأما الحديث في الخير كمذاكرة العلم وحكايات الصالحين ومكارم الأخلاق والحديث مع الضيف ومع طالب حاجة ونحو ذلك فلا كراهة فيه بل هو مستحب وكذا الحديث لعذر وعارض لا كراهة فيه وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على كل ما ذكرته
1746 - عن أبي برزة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها متفق عليه
1747 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلى العشاء في آخر حياته فلما سلم قال أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مئة سنة لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض اليوم أحد متفق عليه
1748 - وعن أنس رضي الله عنه أنهم انتظروا النبي صلى الله عليه وسلم فجاءهم(6/496)
قريبا من شطر الليل فصلى بهم يعني العشاء قال ثم خطبنا فقال ألا إن الناس قد صلوا ثم رقدوا وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة رواه البخاري
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين: باب كراهة الحديث بعد صلاة العشاء الآخرة ثم ذكر رحمه الله أن الحديث ينقسم إلى ثلاثة أقسام قسم مكروه محرم وقسم مندوب إليه وقسم مباح أما المكروه والمحرم فإنه يزداد كراهة وتحريما إذا كان بعد صلاة العشاء وأما المباح فهو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه بعد العشاء وأما المندوب فإنه مندوب ولا يضر ولو كان بعد صلاة العشاء فأما الأول فمثل الحديث في الغيبة والنميمة وقول الزور والاستماع إلى اللهو والغناء ومشاهدة ما لا يحل مشاهدته فهذا حرام في كل وقت وحين ويزداد إثما إذا كان بعد العشاء الآخرة لأنه في وقت يكره فيه الكلام المباح فكيف بالمحرم والمكروه والقسم الثاني الكلام اللغو الذي ليس حراما ولا مكروها ولا مندوبا وهو أكثر كلام الناس فهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه بعد صلاة العشاء وذلك لأنه إذا تحدث الإنسان بعد صلاة العشاء يطول به المجلس ثم يتأخر نومه فيكسل عن قيام الليل وعن صلاة الفجر وما أدى إلى تهاون في الأمر المشروع فإنه يكون مكروها(6/497)
وأما المندوب فهو التشاغل بالعلم مطالعة أو حفظا أو مذاكرة والحديث مع الضيف ليؤنسه ويكرمه بحديثه والحديث مع الأهل لتأليف قلوبهم وما أشبه ذلك وكذلك الحديث العارض الذي ليس دائما كل هذا لا يضره بل أنه مستحب إذا كان المقصود به حصول خير ثم ذكر المؤلف أحاديث حديث أبي برزة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها وذلك لأن النوم قبل العشاء يؤدي إلى الكسل إذا قام ليصلي وربما استغرق به النوم حتى أخر الصلاة عن وقتها فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره النوم قبل صلاة العشاء من أجل أن يكون الإنسان نشيطا وأما النعاس فهذا ليس باختيار الإنسان ولا يضره والشاهد من هذا الحديث قوله والحديث بعدها فإن الحديث بعد العشاء كرهه النبي صلى الله عليه وسلم وأما إذا كان في خير فإنه لا بأس به ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه بعد صلاة العشاء وينصحهم ويبين لهم عليه الصلاة والسلام فهذا لا بأس به والله الموفق(6/498)
باب تحريم امتناع المرأة من فراش زوجها إذا دعاها ولم يكن لها عذر شرعي
1749 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح متفق عليه وفي رواية حتى ترجع(6/499)
باب تحريم صوم المرأة تطوعا وزوجها حاضر إلا بإذنه
1750 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه متفق عليه
[الشَّرْحُ]
هذان البابان ذكرهما النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في بيان ما يجب على المسلم لأخيه والله سبحانه وتعالى أوصى بالجار ذي القرب والجار الجنب والصاحب بالجنب والصاحب بالجنب قيل إنه الزوج وقيل الصاحب بالجنب يعني في السفر فذكر الحديث الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح أو قال حتى ترجع وذلك أن الواجب عليها إذا دعاها الرجل إلى حاجته أن تجيبه إلا إذا كان هناك عذر شرعي كما لو كانت مريضة لا تستطيع معاشرته إياها أو كان عليها عذر يمنعها من الحضور إلى فراشه فهذا لا بأس وإلا فإنه يجب عليها أن تحضر وأن تجيبه وإذا كان هذا في حق الزوج على الزوجة فكذلك ينبغي للزوج إذا رأى من أهله أنهم يريدون التمتع فإنه ينبغي أن يجيبهم ليعاشرها كما تعاشره فإن الله تعالى قال وعاشروهن بالمعروف وأما الثاني فإنه لا يجوز للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه المسألة الأولى الصيام والصيام نوعان نوع واجب فلها أن تصوم بغير إذن زوجها ونوع تطوع فلا تصوم إذا كان شاهدا إلا بإذنه أما إذا(6/500)
كان غائبا فهي حرة لكن إذا كان شاهدا فلا تصم لأنه ربما يدعوها إلى حاجته وهي صائمة فيقع في حرج وتقع هي كذلك في حرج أما إذا كان في صوم الواجب كما لو كان عليها أيام من رمضان ولم يبق على رمضان الثاني إلا بمقدار ما عليها فهنا يجب عليها أن تصوم سواء إذن أم لم يأذن فمثلا إذا كانت المرأة عليها من رمضان عشرة أيام ولم يبق على رمضان الثاني إلا عشرة أيام فهنا تصوم سواء أذن أم لم يأذن بل لو منعها من الصوم فلها أن تصوم لأن هذا واجب أما إذا كان عليها عشرة أيام من رمضان وقد بقى على رمضان الثاني شهر أو شهران أو أكثر فله أن يمنعها من الصوم ولا يحل لها أن تصوم إلا بإذنه وذلك أن الوقت واسع وإذا كان واسعا فلا ينبغي لها أن تضيق على زوجها وإذا أذن لها وسامحها ووافق فإن كان الصوم واجبا حرم عليه أن يفسده بالجماع لأنه أذن فيه وقد شرعت في صوم الواجب فليلزمها إتمامه وإن كان تطوعا فله أن يجامعها فيه ولو فسد الصوم لأن التطوع لا يلزم إتمامه لكن لو قالت أنت أذنت لي وهذا وعد منك بأنك لا تفسد صومي وجب عليه الوفاء وحرم عليه أن يفسد صومها لقول الله تعالى {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا} وأما قوله ولا تأذن في بيته إلا بإذنه يعني لا تدخل أحدا إلى البيت إلا بإذنه فإن منعها أن تدخل أحدا معينا قال فلان لا يدخل علي حرم عليها أن تدخله بيته لأن البيت له وأما إذا كان رجلا واسع الصدر لا يهمه أن يدخل إلى أهله أحد فلا يلزمها أن تستأذنه لكل واحد والله الموفق(6/501)
باب تحريم رفع المأموم رأسه من الركوع أو السجود قبل الإمام
1751 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار أو يجعل الله صورته صورة حمار متفق عليه
[الشَّرْحُ]
هذه أفعال بين النبي صلى الله عليه وسلم حكمها فيما ساقه المؤلف من الأحاديث في كتابه رياض الصالحين فالأول تحريم رفع المأموم رأسه قبل إمامه في الركوع والسجود وذلك أن المأموم مأمور بأن يتابع الإمام فلا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه ولا يوافقه ولكن يتابعه فأما سبقه أي التقدم عليه فإن كان في تكبيرة الإحرام لم تنعقد الصلاة يعني لو كبر في الإحرام قبل أن يكبر إمامه ولو كان ناسيا أو ساهيا فإن صلاته لا تنعقد وعليه أن يعيدها وإن كان في الركوع أو السجود يعني سبق الإمام في الركوع والسجود وهو متعمد يعلم أن ذلك حرام فصلاته باطلة تبطل صلاته لأنه فعل فعلا محرما في الصلاة فبطلت صلاته كما لو تكلم وأما الموافقة فإن يشرع من الإمام إذا شرع في الشيء مثلا يركع مع ركوع الإمام يسجد مع سجوده يقوم مع قيامه فهذا إن كان في تكبيرة(6/502)
الإحرام لم تنعقد صلاته وإن كان في غيرها فهو منهي عنه قال بعضهم مكروه وقال بعضهم حرام وأما المسابقة بأن يأتي بالشيء قبل الإمام فسبق أنه في تكبيرة الإحرام لا تنعقد الصلاة أما في الركوع والسجود فقد حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في الرفع منهما فقال أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو يجعل صورته صورة حمار وهذا وعيد يخشى أن الإنسان إذا رفع رأسه من الركوع قبل إمامه أو من السجود قبل إمامه أن يجعل الله صورته صورة حمار والعياذ بالله أو يحول رأسه إلى رأس حمار وإنما اختار النبي صلى الله عليه وسلم الحمار دون سائر البهائم لأن الحمار أبلد ما يكون من البهائم أبلد البهائم الحمار ولهذا مثل به اليهود الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها فقال: كمثل الحمار يحمل أسفارا وهذا يدل على تحريم سبق الإمام في الرفع من الركوع والرفع من السجود وكذلك السبق إلى الركوع أو السجود حرام على المأموم وأما التأخر عن الإمام كما يفعله بعض الناس إذا سجد وقام الإمام من السجود تجده يبقى ساجدا يزعم أنه يدعو الله وأنه في خير ودعاء نقول نعم أنت في خير ودعاء لو كنت وحدك أما وأنت مع الإمام فإن تأخرك عن الإمام مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم فإذا ركع فاركعوا والفاء تدل على الترتيب والتعقيب فالمشروع للإنسان أن يبادر وألا يتأخر ويأتي الكلام عن الحديثين إن شاء الله تعالى(6/503)
باب كراهة وضع اليد على الخاصرة في الصلاة
1752 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخصر في الصلاة متفق عليه(6/504)
باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام ونفسه تتوق إليه أو مع مدافعة الأخبثين وهما البول والغائط
1753 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
قول المؤلف باب كراهة أن يصلي الرجل ويده على خاصرته الخاصرة ما بين الحقو وأسفل الأضلاع وذلك أن الإنسان مأمور إذا كان في صلاته أن يضع يده اليمنى على ذراعه اليسرى أو على الرسغ أي ما بين الكف والذراع ويرفعهما على صدره هذه هي السنة يفعل ذلك في القيام قبل الركوع وبعد الركوع وأما وضعها على الخاصرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك ولها صورتان الصورة الأولى أن يضع اليد اليسرى أو اليمنى على الخاصرة والثانية أن يضع اليد اليمنى على اليسرى كما يفعله بعض الناس ويدعي أنه يفعل هذا يجعل اليدين على القلب وهذا غلط الشرع ليس له(6/505)
مدخل في العقل الشرع يتلقى من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يضم يده اليمنى على اليسرى ثم يجعلها على الخاصرة بل هذا داخل في النهي وهذا النهي للكراهة كما قال المؤلف رحمه الله ثم ذكر المؤلف في الباب الثاني باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يشتهيه أو حال مدافعة الأخبثين فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان يعني إذا قدم الطعام للإنسان وهو يشتهيه فإنه لا يصلي حتى يقضي حاجته منه حتى ولو سمع الناس يصلون في المسجد فله أن يبقى ويأكل حتى يشبع فقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يسمع قراءة الإمام يصلي وهو يتعشى ولا يقوم حتى يفرغ وذلك لأن الإنسان إذا دخل في الصلاة وهو مشغول القلب فإنه لا يطمئن في صلاته ولا يخشع فيها يكون قلبه عند طعامه والإنسان ينبغي له أن يصلي وقد فرغ من كل شيء فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب ولكنه لا ينبغي أن يجعل ذلك عادة له بحيث لا يقدم عشاءه أو غداءه إلا عند إقامة الصلاة الثاني لا يصلي وهو يدافعه الأخبثان البول والغائط فإن هذا أيضا يذهب الخشوع لأنه لا يدري الإنسان أيدافع البول والغائط الذي حصره(6/506)
أم يقبل على صلاته ولأن حبس البول أو الغائط يضر البدن فإن الله سبحانه وتعالى جعل البول والغائط أمكنه متى امتلأت فلابد من إخراجها فكون الإنسان يحبس ذلك ضرر عليه فإذا قال قائل لو ذهبت أقضي الحاجة فاتتني الصلاة مع الجماعة قلنا لا بأس اذهب واقض حاجتك ولو فاتتك الصلاة ولو قال إذا ضاق الوقت وهو حصران في بول أو غائط هل يقضي حاجته ثم يصلي في ولو فات الوقت أو يصلي في الوقت ولو كان مشغول القلب ففي هذه خلاف بين العلماء ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إلى أنه يقضي حاجته ولو خرج الوقت لأن هذا ضرورة وفيه ضرر على بدنه لو حبسه وقال أكثر العلماء لا يخرج الوقت من أجل ذلك بل يصلي ويخفف ولعله لا يتضرر بذلك(6/507)
باب النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة
1754 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك حتى قال لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم رواه البخاري
[الشَّرْحُ]
روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يرفع الرجل بصره إلى السماء فقال ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة يعني ما شأنهم لماذا يرفعون أبصارهم إلى السماء لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم وهذا وعيد يدل على أنه يحرم على الإنسان أن يرفع بصره إلى السماء وهو يصلي وقد رأيت بعض الناس إذا رفع من الركوع قال سمع الله لمن حمده رفع بصره ووجهه وهذا حرام عليه حتى إن بعض العلماء رحمهم الله قال إن فعل بطلت صلاته لأنه ارتكب منهيا عنه نهيا خاصا في الصلاة والقاعدة الشرعية أن من ارتكب شيئا منهيا عنه في العبادة بخصوصه فإن عبادته تبطل ثم إن هؤلاء عللوا بعلة ثانية وقالوا إن هذا سوء أدب مع الله والمطلوب من المرء وهو يصلي أن يخشع ويطأطأ رأسه وقالوا أيضا في التعليل إن الإنسان مأمور بأن يستقبل القبلة بجميع بدنه فإذا رفع بصره إلى(6/508)
السماء صار وجهه إلى السماء لا إلى القبلة فتبطل صلاته فالمسألة على خطر ولهذا اشتد قول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك حتى قال لينتهن أو لتخطفن أبصارهم فإذا قال قائل إذا أين أضع بصري قلنا ضع بصرك حيث كان سجودك إلا في حال رفع السبابة في الدعاء في التشهد فانظر إلى السبابة لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين رفعها لا يتجاوز بصره إشارته واستثنى بعض العلماء رحمهم الله من ذلك النظر إلى الإمام ليقتدي به لاسيما إذا كان الإنسان لا يسمع ولا يمكن إقتداؤه بإمامه إلا بالنظر فإنه ينظر إليه لأن الصحابة كانوا يفعلون ذلك وقد صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر وجعل يصلي علليه وقال فعلت ذلك لتأتموا بي ولتعلموا صلاتكم ولا يمكن أن يحصل تعليم الصلاة إلا وهم ينظرون إليه ولهذا كانوا يحكون اضطراب لحيته في الصلاة السرية مما يدل على أنهم كانوا ينظرون إلى إمامهم واستثنى بعض العلماء إذا كان الإنسان في المسجد الحرام والكعبة أمامه فإنه يجعل بصره إلى الكعبة ولكن هذا الاستثناء ضعيف الصحيح أنه لا ينظر إلى الكعبة حال الصلاة لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه يوجب التشويش حيث ينظر إلى الناس يطوفون ويذهبون ويجيئون ثم إن قول بعضهم إن النظر إلى الكعبة عبادة خطأ ليس بصحيح لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلم حديث صحيح ولا ضعيف أن النظر إلى الكعبة عبادة(6/509)
باب كراهة الالتفاف في الصلاة لغير عذر
1755 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفاف في الصلاة فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد رواه البخاري
1756 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إياك والالتفات في الصلاة فإن الالتفات في الصلاة هلكة فإن كان لابد ففي التطوع لا في الفريضة رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين: باب كراهة الالتفات في الصلاة من غير حاجة الإنسان إذا قام يصلي فإنه بين يدي الله عز وجل فلا ينبغي له أن يلتفت لا بقلبه ولا بوجهه إلى غير الله سبحانه وتعالى أما الالتفات في القلب فهو أن الإنسان يفكر في غير ما يتعلق بالصلاة مثل الهواجس التي تعتري كثيرا من المصلين فإن هذا التفات في القلب وهو أشد إخلالا للصلاة من الالتفات بالبدن لأنه ينقص من الصلاة حتى إن الإنسان يتصرف من صلاته ما كتب له إلا عشرها أو أقل حسب حضور قلبه(6/510)
وأما الالتفات بالوجه فهو أن يلتفت الإنسان بلي عنقه يلوي عنقه يمينا أو شمالا وذلك لأن الإنسان مأمور في صلاته أن يكون وجهه تلقاء القبلة لا يميل يمينا ولا شمالا فإن فعل فقد سألت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الالتفات في الصلاة فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد والاختلاس أخذ الشيء بخفية يعني أن الشيطان يتسلط على الإنسان في صلاته فيؤدي إلى أن يتلفت يمينا أو شمالا لأجل أن ينقص أجره فإن الله سبحانه وتعالى مقبل على العبد بوجهه فإذا أعرض الإنسان عن ربه فإنه يوشك أن يعرض الله عنه ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة كما في حديث أنس بن مالك وقال إن الالتفات في الصلاة هلكة ولكن إذا كان هناك حاجة فلا بأس كما لو سمعت صوت حيوان يريد أن يعدو عليك والتفت فلا بأس أو إنسانا في حاجة مهمة والتفت فلا بأس بشرط أن يكون الالتفات بالرأس فقط وأما الالتفات بالبدن فإنه يبطل الصلاة لأنه انحراف عن القبلة ومن شروط الصلاة استقبال القبلة يوجد بعض الناس لا يلتفت بلى العنق ولكن يلتفت بالبصر تجده يجعل بصره يحوم يمينا وشمالا إن قام أحد نظر إليه وإن تحرك نظر إليه وهذا لا شك ينقص أجر الصلاة فعلى الإنسان أن يكون بصره تلقاء وجهه أن ينظر إلى محل سجوده ولا ينظر يمينا ولا شمالا والله الموفق(6/511)
باب كراهة شروع المأموم في نافلة بعد شروع المؤذن في إقامة الصلاة سواء كانت النافلة سنة تلك الصلاة أو غيرها
1759 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله: باب كراهة شروع المأموم في نافلة بعد أن تقام الفريضة يعني أنه إذا أقيمت الصلاة فإنه لا يشرع المأموم في نافلة سواء كانت هذه النافلة تحية مسجد أو تطوعا مطلقا أو راتبة تلك الصلاة مثل أن تحضر لصلاة الفجر وتقام الصلاة فلا يجوز أن تصلي سنة الفجر لأنه أقيمت الصلاة ودليل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة فقوله لا صلاة عام يشمل أي صلاة كانت حتى لو كان على الإنسان فريضة فائتة نسيها ولم يذكرها إلا حين أقيمت الصلاة فإنه لا يصليها ولكن يدخل مع الإمام بنية تلك(6/512)
الفريضة التي فاتته ولا ينفرد عن الناس فمثلا إذا أقيمت صلاة العصر ودخلت المسجد وأنت لم تصل الظهر فلا تصلي الظهر لأنه أقيمت صلاة العصر لكن ادخل معهم بنية الظهر ثم إذا فرغت من صلاتك فصل العصر ولكن إذا أقيمت وأنت قد شرعت في النافلة فهل تكملها أو تخرج منها في هذا للعلماء قولان القول الأول أنه إذا أقيمت الصلاة وأنت قد شرعت في النافلة فاقطعها ولا تكملها مطلقا والقول الثاني كملها ولو فاتتك ركعة أو ركعتان أو كل الصلاة إلا مقدار تكبيرة الإحرام قبل السلام والصحيح أن نقول إذا أقيمت الصلاة وأنت في نافلة فإن كنت في الركعة الأولى فاقطعها وإن كنت في الركعة الثانية فأتمها خفيفة وهذا هو الصحيح الذي يمكن أن تجتمع فيه الأدلة(6/513)
باب كراهة تخصيص يوم الجمعة بصيام أو ليلته بصلاة من بين الليالي
1760 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم رواه مسلم
1761 - وعنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو بعده متفق عليه
1762 - وعن محمد بن عباد قال: سألت جابرا رضي الله عنه أنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم الجمعة قال نعم متفق عليه
1763 - وعن أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال أصمت أمس(6/514)
قالت لا قال تريدين أن تصومي غدا قالت لا قال فأفطري رواه البخاري
أما صوم يوم الجمعة فقد عقد المؤلف له بابا وهو كراهة تخصيص يوم الجمعة بصيام وليلتها بقيام يوم الجمعة هو عيد الأسبوع ويتكرر في كل سبعة أيام يوما وهو الثامن ولما كان عيدا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صومه لكنه ليس نهي تحريم لأنه يتكرر كل عام أكثر من خمسين مرة وأما النهي عن صوم العيدين عيد الأضحى والفطر فهو نهي تحريم لأنه لا يتكرر في السنة إلا مرة واحدة عيد الفطر مرة وعيد الأضحى مرة أما الجمعة فيتكرر ولهذا كان النهي عنه أخص كان نهي كراهة وتزول الكراهة إذا ضممت إليه يوما قبله أو يوما بعده ولهذا جاءت أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تخصوا يوم الجمعة بصيام ولا ليلتها بقيام لكن إذا لم يكن تخصيصا بأن كان الإنسان يقوم كل ليلة فلا بأس أن يقوم ليلة الجمعة أو كان يصوم يوما ويفطر يوما فصادف يوم الجمعة يوم صومه فلا بأس أن يصومه وكذلك لو صادف يوم الجمعة يوم عرفة أو يوم عاشوراء فلا بأس(6/515)
أن يصومه لأن هذا الصيام ليس تخصيصا ليوم الجمعة ولكنه تخصيص لليوم الذي صادف يوم الجمعة فإذا كان يوم الجمعة يوم عرفة فصمه ولا تبالي وإن لم تكن صائما قبله وإذا صادف يوم عاشوراء فصم ولا تبالي لكن يوم عاشوراء ينبغي أن نخالف اليهود فيه فنصوم يوما قبله أو يوما بعده ولهذا قال في الحديث الآخر إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده أو إلا أن يكون في صوم يصومه الإنسان وفي حديث جويرية بنت الحارث رضي الله عنها أم المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها وهي صائمة في يوم الجمعة أتريدين أن تصومي غدا؟ قالت لا قال أصمت أمس قالت لا قال فأفطري فيه دليل على أن يوم الجمعة إذا صمت يوما قبله أو يوما بعده فلا بأس وفي قوله أتصومين غدا دليل على جواز صوم يوم السبت في النفل وأنه لا بأس به ولا كراهة إذا ضمت إليه الجمعة وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث أنه قال لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم ولو أن يأخذ أحدكم لحاء عنب فيضمه أو كما قال عليه الصلاة والسلام لكن هذا الحديث اختلف العلماء فيه فمنهم من قال إنه ضعيف لا يعمل به وقال ذلك شيخنا المحدث عبد العزيز بن باز قال هذا حديث النهي عن صوم يوم السبت ضعيف شاذ لا يعمل به ومنهم من قال إنه منسوخ ومنهم من قال إن(6/516)
النهي إنما هو عن إفراده فقط وأما إذا صيم يوم الجمعة أو يوم الأحد فلا كراهة وإلى هذا ذهب الإمام أحمد رحمه الله وعلى كل حال لو صامه فإنه لا إثم عليه ولكن الأفضل ألا يصومه إلا مضموما إليه يوم الجمعة أو يوم الأحد وحديث جويرية في صحيح البخاري وحديث محمد بن عباد في صحيح مسلم وكلاهما يدل على أن صوم يوم السبت ليس محرما وإنه يجوز إذا صام يوم الجمعة وهذا نعرف أنه ينبغي للإنسان ألا يكون إمعة يقلد غيره كلما ذكر غيره شيئا قلده دون نظر في الأدلة وجمع بينهما لأن بعض العلماء ينظر إلى ظاهر الإسناد فيحكم بصحة الحديث دون النظر إلى متنه والنظر إلى المتن أمر مهم لأن خطأ الواحد من الناقلين أهون من الخطأ المخالف لقواعد الشريعة والمخالف للأحاديث الصحيحة الصريحة الواضحة التي هي أقوى سندا وأشد متنا لهذا ينبغي لطالب العلم ولاسيما طالب الحديث المعتني به أن يتفطن له وألا يحكم بصحة الحديث بمجرد ظاهر الإسناد بل لابد من أن ينظر في المتن هل يخالف القواعد المعلومة من الشريعة هل يخالف الأحاديث التي رواها الثقات الأثبات في الحديث فليحكم بشذوذه ولا يقبله لأنه كما قلت لكم فخطأ واحد في النقل أهون من خطأ الأئمة الأثبات أو خطأ القواعد الشرعية المرعية في الشريعة على كل حال صوم يوم السبت تطوعا ليس حراما لكن ينبغي ألا يصومه إلا أن يصوم معه يوما قبله أو يوما بعده والله الموفق(6/517)
باب تحريم الوصال في الصوم وهو أن يصوم يومين أو أكثر ولا يأكل ولا يشرب بينهما
1764 - عن أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال متفق عليه
1765 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال قالوا إنك تواصل قال إني لست مثلكم إني أطعم وأسقى متفق عليه وهذا لفظ البخاري
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين: باب تحريم الوصال في الصوم ومعنى الوصال أن يقرن الإنسان بين يومين في الصيام فلا يفطر بينهما والله سبحانه وتعالى قد حدد الصيام في قوله فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ قال {ثم أتموا الصيام إلى الليل} فحدد الله ابتداء الصيام وانتهاءه وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر هذا هو المشروع(6/518)
أن الإنسان يبادر بالفطور ولا يتأخر ولا يحل له أن يواصل بين يومين لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وقال أيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر فأذن صلى الله عليه وسلم بالمواصلة إلى السحر يعني وليتسحر في آخر الليل وبهذا تبين أن للصائم ثلاث حالات الحالة الأولى أن يبادر بالإفطار بعد غروب الشمس وهذه هي السنة والأفضل والأكمل والحالة الثانية أن يتأخر إلى السحر وهذا جائز لكنه خلاف الأولى والحالة الثالثة ألا يفطر بين يومين بل يواصل وهذه حرام على ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله وهذا هو الأقرب لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال فواصلوا رضي الله عنهم ظنا منهم أنه إنما نهى عنه من أجل الرفق بهم والشفقة عليهم وقالوا نحن نتحمل فواصلوا فتركهم ثم واصلوا وواصلوا حتى هل الشهر شهر شوال فقال لو تأخر الهلال لزدتكم كالمنكر لهم عليه الصلاة والسلام وهذا يدل على التحريم وذهب بعض العلماء إلى كراهة الوصال دون التحريم لأن العلة التي هي الإرفاق بالإنسان والإنسان أمير نفسه لكن الأقرب أن الوصال في نهي النبي صلى الله عليه وسلم واصل بهم يوما ويوما ويوما حتى رؤي الهلال وقال لو تأخر لزدتكم وما يفعله بعض السلف كما يروى عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه كان يواصل خمسة عشر يوما لا يفطر بينهما فهذا اجتهاد منه وتأويل ولكن الصواب ما دلت عليه السنة(6/519)
باب تحريم الجلوس على قبر
1766 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر رواه مسلم(6/520)
باب النهي عن تجصيص القبور والبناء عليها
1767 - عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه رواه مسلم
ثم ذكر المؤلف رحمه الله باب تحريم الجلوس على القبر لأن القبر فيه إنسان مسلم محترم وجلوسك عليه إهانة له ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جسده خير له من أن يجلس على القبر وهذا يدل على التحريم وأنه لا يجوز للإنسان أن يجلس على قبر المسلم وإذا أراد أن يجلس فليجلس من وراء القبر يجعل القبر خلف ظهره أو عن يمينه أو عن شماله وأما إن يجلس عليه فهذا حرام ومثل ذلك الغلو في القبر ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يبنى عليه وأن يكتب عليه لأن تجصيصه يعني تفخيمه وتعظيمه يؤدي إلى الشرك به وكذلك البناء عليه فالتجصيص حرام والبناء أشد حرمة والكتابة عليه فيها تفصيل(6/521)
الكتابة التي لا يرد بها إلا إثبات الاسم للدلالة على القبر فهذه لا بأس بها وأما الكتابة التي تشبه ما كانوا يفعلونه في الجاهلية يكتب اسم الشخص ويكتب الثناء عليه وأنه فعل كذا وكذا وغيره من المديح أو تكتب الأبيات..
فهذا حرام ومن هذا ما يفعله بعض الجهال أنه يكتب على الحجر الموضوع على القبر سورة الفاتحة مثلا..
أو غيرها من الآيات فكل هذا حرام وعلى من رآه في المقبرة أن يزيل هذا الحجر لأن هذا من المنكر الذي يجب تغييره والله الموفق(6/522)
باب تغليظ تحريم إباق العبد من سيده
1768 - عن جرير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما عبد أبق فقد برئت منه الذمة رواه مسلم
1769 - وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة رواه مسلم وفي رواية فقد كفر
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين: باب تغليظ تحريم إباق العبد العبد يعني المملوك وإباقه هربه من سيده وذلك أن العبد مملوك للسيد في ذاته ومنافعه فإذا هرب فقد فوت على سيده ذلك وقد ورد الوعيد في هذا بأنه يكون كافرا وأن الذمة بريئة منه وأنه لا تقبل صلاته فهذه ثلاث عقوبات والعياذ بالله الأولى أنه برئت منه الذمة كما في حديث جرير رضي الله عنه الثانية أنه كافر ولكنه ليس كفرا مخرجا عن الملة الثالثة أنه لا تقبل صلاته فالعبد إذا أبق وهرب من سيده ثم صلى(6/523)
فلا صلاة له واختلف العلماء رحمهم الله هل صلاته غير مقبولة لا الفريضة ولا النافلة أو أنها النافلة فقط فمن العلماء من قال صلاة الفريضة مقبولة لأن زمنها مستثنى شرعا ولأنه سوف يصلي سواء كان عند سيده أو أبقا منه ومنهم من قال إن الحديث عام ولا يمتنع أن يعاقب بذلك ويكون المراد بنفي القبول بالنسبة للنوافل نفي الصحة وبالنسبة للفرائض نفي الإثابة وهذا جمع حسن(6/524)
باب تحريم الشفاعة في الحدود
قال الله تعالى {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}
1770 - وعن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتشفع في حد من حدود الله تعالى ثم قام فاختطب ثم قال إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها متفق عليه وفي رواية فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتشفع في حد من حدود الله قال أسامة استغفر لي يا رسول الله قال ثم أمر بتلك المرأة فقطعت يدها(6/525)
أما الباب الثاني فهو تحريم الشفاعة في الحد أي في العقوبة المقدرة شرعا واعلم أن العقوبات على الذنوب تنقسم إلى قسمين عقوبات أخروية هذه أمرها إلى الله وقال الله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فكل ذنب سوى الشرك فإنه قابل أن يغفره الله عز وجل بفضله ورحمته وأما العقوبة الدنيوية فهي أقسام كثيرة منها أقسام معينة محددة في الشريعة فهذه لا يجوز تعديها فمثلا السارق تقطع يده ولا يجوز أن تقطع رجله مع يده ولا أن تقلع عينه ولا أن تفجر أذنه لا يجوز أن يتعدى فيها ما حده الله ورسوله وهو قطع اليد كذلك أيضا الزنا إذا كان الزاني لم يتزوج من قبل فحده مائة جلدة وتغريب عام أي طرده من البلد إلى بلد آخر لمدة سنة هذا أيضا لا تجوز الزيادة فيه ولا النقص منه لأنه حد من الحدود ومثل المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادا هؤلاء جزاؤهم أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض هناك عقوبات أخرى غير مقدرة هذه يرجع إلى رأي الحاكم يعني القاضي الشرعي أو من له تنظيم وتقنين العقوبات هذه أمرها واسع تارة تكون العقوبة بالمال يغرم الإنسان مالا وتارة تكون العقوبة بالعزل عن منصبه وتارة تكون بالحبس وتارة تكون بالتشهير بأن(6/526)
يعلن اسمه ومخالفته بين الناس وتارة تكون بالتقويم من المجلس حسب ما تقتضيه المصلحة والتأديب وتارة تكون بالجلد فأما العقوبات المحددة فإنه إذا بلغت السلطان فلا يجوز لأحد أن يشفع فيها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع له لعن طرد وإبعاد عن رحمة الله وقال من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره والعياذ بالله وإن لم تصل إلى الحاكم فهنا قد يجوز الشفاعة والتوسط مثل لو أن أحد رأى شخصا يزني وشاهده وعنده أربع شهود على ذلك ورأى أن من المصلحة أن يستتاب هذا الرجل فإذا تاب ستر عليه فلا بأس أما بعد أن تبلغ السلطان فلا يجوز ثم ذكر المؤلف حديث عائشة رضي الله عنها في باب تحريم الشفاعة في الحدود في قصة المرأة المخزومية
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله باب تحريم الشفاعة في الحدود والحدود هي العقوبات التي قدرها الله ورسوله على فاعل المعصية فمنها حد الزنا ومنها حد القذف وحد السرقة وحد الحرابة وأما القتل بالردة فليس من الحدود لأن المرتد إذا تاب ولو بعد أن رفع إلى السلطان فإنه يسقط عنه القتل لكن هذه الحدود لابد منها ولا تسقط إلا إذا تاب الإنسان قبل أن يقدر عليه لقول الله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم(6/527)
وذكر المؤلف حديث عائشة رضي الله عنها أن امرأة من بني مخزوم سرقت وقد بينت السرقة بأنها تستعير المتاع وتجحده يعني تأتي إلى الناس وتقول أعرني القدر أعرني الدلو فيعيرونها إحسانا إليهم ثم تجحد العارية وتقول ما أعرتموني فجعل النبي صلى الله عليه وسلم جحد العارية في منزلة السرقة لأن السارق يدخل البيوت في خفية ويأخذ وهذه سرقت أموال الناس في خفية أخذتها منهم على أنها عارية وأنها إحسان من أهلها أي من أهل الأموال ثم تجحد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع يدها وكانت من بني مخزوم من أشرف قبائل قريش فأهمهم ذلك أي لحقهم الهم في هذا كيف تقطع يد المخزومية فطلبوا من يشفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد ولم يذكروا أبا بكر ولا عمر ولا عثمان ولا من هو أعلى قدرا من أسامة بن زيد فإما أن يكونوا قد حاولوا ذلك ولم يفلحوا وإما أن يكونوا من الأصل علموا أنهم لن يشفعوا في حد من حدود الله المهم أنهم طلبوا من أسامة بن زيد رضي الله عنه وأسامة هو أسامة بن زيد بن حارثة وزيد بن حارثة كان عبدا مملوكا وهبته خديجة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه وكان يحبه ويحب ابنه أسامة تكلم أسامة مع النبي في شأن المرأة لعله يرفع عنها القطع فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغير لونه وقال له منكرا عليه أتشفع في حد من حدود الله يعني ما كان ينبغي أن تشفع في حد من حدود الله(6/528)
ثم قام فاختطب أي خطب خطبة بليغة لأن اختطب أبلغ من خطب لزيادة الهمزة والتاء وقد قال علماء اللغة العربية إن زيادة المبني تدل على زيادة المعنى يعني زيادة الحروف في الكلمة تدل على زيادة معناها المهم أن قوله اختطب يعني خطب خطبة بلغية ثم قال إنما أهلك من كان قبلكم يعني من الأمم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليهم الحد أهلكهم يعني بذنوبهم بالعذاب والعقوبات إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد فصارت إقامتهم لحدود الله على حسب أهوائهم وفي هذا دليل على أن من سبقنا كانوا يسرقون وأن السرقة كبيرة فيهم بين الغني والفقير والشريف والضعيف ثم أقسم عليه الصلاة والسلام وهو البار الصادق بدون قسم أقسم قال وايم الله أي أحلف بالله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها اللهم صلي وسلم عليه هكذا العدالة وهكذا تنفذ حكم الله لا اتباع الهوى أقسم بأن فاطمة بنت محمد وهي أشرف من المخزومية حسبا ونسبا لأنها رضي الله عنها سيدة نساء أهل الجنة أقسم أنها لو سرقت لقطع يدها وفي قوله لقطعت يدها قولان القول الأول أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه يباشر القطع وهذا أبلغ(6/529)
الثاني أنه يأمر من يقطع يدها وأيا كان فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يدرأ الحد عن أحد لشرفه ومكانته أبدا الحد حق الله عز وجل وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع يد المرأة المخزومية فقطعت وهي امرأة من أشراف قريش ومع ذلك لم يسقط عنها الحد وهكذا يجب على ولاة الأمر أن يكون الناس عندهم سواء في إقامة الحدود وألا يحابوا أحدا لقربه أو لغناه أو لشرفه في قبيلته أو غير ذلك الحد لله عز وجل تجب إقامته لله عز وجل انظر إلى قوله تعالى {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} ومن الرأفة الشفاعة لهم لا تشفع لأحد في حد أقمه ولا ترفق به ولا ترحمه ولا تقل هذا شريف هذا ضعيف هذا أبو أولاد أبدا لا يهمك يعني لو زنى إنسان وهو محصن وثبت عليه الحد وله أولاد صغار وزوجات سوف يكن أرمل بعده والأولاد أيتاما بعده لا تبالي بهذا أقم الحد عليه ارجمه حتى يموت ولا تقل هذا له أولاد صغار وزوجات لا يهمك هذا أقم الحد على كل من أتى بمعصية توجب الحد ولما كانت الأمة الإسلامية على هذه العدالة وعدم المبالاة وأنها لا تأخذها في الله لومة لائم كان لها العزة والقوة والنصر المبين ولما تخلت الأمة الإسلامية عن إقامة حدود الله وصارت المحسوبيات والوساطات تعمل عملها في إسقاط حدود الله عز وجل تدهورت الأمة الإسلامية إلى الحد الذي ترونه الآن، فنسأل الله تعالى أن يعيد للأمة الإسلامية مجدها وتمسكها بدينها إنه على كل شيء قدير(6/530)
باب النهي عن التغوط في طريق الناس وظلهم وموارد الماء ونحوها
قال الله تعالى {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا}
1771 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا اللاعنين قالوا وما اللاعنان قال الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم رواه مسلم(6/531)
باب النهي عن البول ونحوه في الماء الراكد
1772 - عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الماء الراكد رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين: باب تحريم التغوط في طريق الناس أو ظلهم أو نحو ذلك التغوط يعني إخراج البراز من الدبر ومثله التبول فلا يجوز للإنسان أن يتبول أو يتغوط في طريق الناس أو في ظلهم يعني المكان الذي يستظلون به وكذلك مشمسهم في الشتاء وكذلك مجالسهم فإن هذا من أذية المؤمنين وقد قال الله تعالى والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات} بالقول أو بالفعل فالأذية بالقول مثل التعيير والتوبيخ والسب وما أشبه وبالفعل مثل أن يتبول في طريقه أو يتغوط أو ما أشبه ذلك وقوله {بغير ما اكتسبوا} يعني لا إذا كان السبب في ذلك هم الذين أذوا يعني أنهم تعرضوا لما حل بهم فهذا جنايتهم بأيديهم ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اتقوا(6/532)
اللاعنين قالوا وما اللاعنان قال الذين يتخلى في طريق الناس أو ظلهم اللاعن اسم فاعل من اللعن وسمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لاعنا لأنه سبب في اللعن فالذي يتخلى في طريق الناس أو يتخلى في ظلهم ملعون والعياذ بالله وأيضا من رأى بولا أو غائطا في طريق الناس أو ظلهم فله أن يقول اللهم اللعن من فعل هذا لأنه هو الذي عرض نفسه لذلك وكذلك أيضا لا يجوز البول في الماء الراكد ونحوه لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك كما في حديث جابر الذي رواه مسلم فلا يجوز للإنسان أن يبول في الماء الراكد مثل الغدير أو شبهه أما الماء الجاري فالجاري يمشي ولا يتأثر إلا إذا كان جاريا نحو ساقية وتحته أناس يتطهرون في هذا الماء أو يشربون منه فهذا لا يجوز لأنه يؤذي من تحته والله الموفق(6/533)
باب كراهة تفضيل الوالد بعض أولاده على بعض في الهبة
1773 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل ولدك نحلته مثل هذا فقال لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرجعه وفي رواية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفعلت هذا بولدك كلهم قال لا قال اتقوا الله واعدلوا في أولادكم فرجع أبي فرد تلك الصدقة وفي رواية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بشير ألك ولد سوى هذا قال نعم قال أكلهم وهبت له مثل هذا قال لا قال فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور وفي رواية لا تشهدني على جور وفي رواية أشهد على هذا غيري ثم قال أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء قال بلى قال فلا إذا متفق عليه(6/534)
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين: باب تحريم تفضيل بعض الأولاد على بعض في العطية الأولاد يشمل الذكور والإناث والمراد بالعطية التبرع المحض ليس النفقة يعطي كل إنسان ما يحتاج قليلا كان أو كثيرا فإذا قدر أن أحدهم يطلب العلم ويحتاج إلى كتب والآخر ليس كذلك فأعطى الأول ما يحتاج إليه من الكتب فلا بأس وكذلك لو كان أحدهم يحتاج إلى ثياب والآخر لا يحتاج فيعطي من يحتاج إلى الثياب وكذلك لو مرض فاحتاج إلى دراهم وإلى دواء فأعطاه فلا بأس وكذلك لو بلغ أحدهم سن الزواج فزوجه فإنه يزوجه ولا بأس المهم ما كان لدفع الحاجة فالتسوية فيه أن يعطي كل إنسان ما يحتاجه أما إذا كان تبرعا محضا فلابد من التعديل بينهم واختلف العلماء هل التعديل أن يعطي الذكر والأنثى سواء فإذا أعطى الذكر مائة أعطى الأنثى مائة أم أن التعديل أن يعطيهم كما أعطاهم الله عز وجل في الميراث يعني للذكر مثل حظ الأنثيين فإذا أعطى الذكر مائة أعطى الأنثى خمسين وهذا القول هو الراجح لأنه لا قسمة أعدل من قسمة الله عز وجل فإذا أعطى كل واحد ما يحتاجه ثم تبرع تبرعا محضا فنقول إذا أعطيت الأنثى درهما فأعط الذكر درهمين هذا هو التعديل فإن فعل يعني فضل بعض الأولاد على بعض فإنه يجب عليه أن يرد ما فضله به فإذا(6/535)
أعطى أحدهم مائة ولم يعط الآخرين وجب عليه أن يرد المائة أي يستردها أو يعطي الآخرين مثلما أعطى الأول أو يستحلهم بشرط أن يحللوه عن رضا وقناعة لا عن حياء وخجل فصار طريق العدل فيمن فضل بعض أولاده عن بعض له طرق ثلاثة فالعدل له طرق ثلاثة الأول أن يرد ما فضله به الثاني أن يعطي الآخرين مثله للذكر مثل حظ الأنثيين الثالث أن يستحلهم بشرط أن يحللوه عن قناعة ورضا لا عن خجل وحياء ثم ذكر المؤلف حديث النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه نحلة غلاما وفي رواية حائطا بستانا ولعله أعطاه البستان والغلام من أجل أن يعمل في البستان فقالت أمه عمرة بنت رواحة رضي الله عنها وهي فقيهة لا أرضى أن تعطي ابني هذا دون إخوانه حتى تشهد النبي صلى الله عليه وسلم فذهب إلى النبي يشهده على ذلك فقال النبي له ألك بنون قال نعم قال أعطيتهم مثل ما أعطيت النعمان قال لا قال رد يعني رد ما أعطيت ثم قال أشهد على هذا غيري وهذا تبرؤ منه وليس إباحة له على أن يشهد على ذلك بل(6/536)
هو تبرؤ منه ولهذا قال أشهد على هذا غيري فإني لا أشهد على جور ثم قال أتريد أن يكونوا إليك في البر سواء قال نعم يا رسول الله قال إذا سوي بينهم لأنك إذا فضلت أحدهم على الآخر صار في نفس المفضل عليه شيء وصار لا يبر والده ثم قال اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم فأمر عليه الصلاة والسلام أن نعدل بين الأولاد في العطية حتى لو تعطي أحدهم عشرة ريالات فأعط الآخر مثله لا تقل هذا شيء زهيد ما يساوي شيئا أبدا ولو ريال واحد ...
لا أعطهم كما أعطيت الثاني حتى كان السلف الصالح رضي الله عنهم إذا قبلوا أحد الأولاد قبل الثاني من شدة العدل بينهم وكذلك أيضا في النظر إليهم لا تنظر إلى هذا نظرة غضب وإلى هذا نظرة رضا لا اعدل بينهم حتى في المواجهة وطلاقة الوجه إلا أن يفعل أحدهم ما يغضب فهذا له شأن أما بدون سبب اجعلهم سواء ولا تفضل أحدا على أحد وهنا مسألة وهي أن بعض الناس يزوج أولاده الكبار وله أولاد صغار فيوصي لهم بعد موته بمقدار المهر وهذا حرام ولا يحل لأن هؤلاء إنما أعطيته لحاجتهم حاجة لا يماثلهم إخوانهم الآخرون الصغار فلا يحل لك أن توصي لهم بشيء وإذا أوصى فالوصية باطلة ترد في التركة ويرثونها على قدر ميراثهم كذلك أيضا بعض الناس يكون ولده يشتغل معه في تجارته في فلاحته(6/537)
فيعطيه بريرة على إخوانه وهذا أيضا لا يجوز لأن الولد إن كان قد تبرع بعمله مع أبيه فهذا بر وثوابه في الآخرة أعظم من ثوابه في الدنيا وإن كان لا يريد ذلك يريد أن يشتغل لأبيه بأجر فليفرض له أجره مثلا لك كل شهر كذا وكذا كما يعطي الأجنبي أو يقول لك سهم من الربح وأما أن يخصه من بين أولاده مع أن الولد قد تبرع بعمله وجعل ذلك من البر فلا يجوز له ذلك وإن أعطى أحدهم لكونه طالب علم يحفظ القرآن فإن قال للآخرين من طلب منكم العلم أعطيته مثل أخيه أو من حفظ القرآن أعطيته مثل أخيه فطلب بعضهم وترك بعض فهؤلاء هم الذين تركوا الأمر بأنفسهم فلا حق لهم وأما إذا كان خص هذا دون أن يفتح الباب لإخوانه فهذا لا يجوز وعلم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم أن غير الأولاد من الأقارب لا يجب العدل بينهم فلك أن تعطي بعض إخوانك أكثر من الآخرين أو تعطيهم وتحرم الآخرين لأن النص إنما ورد في الأولاد فقط وأما قول بعض العلماء رحمهم الله إنه يجب عليه التعديل بين جميع الورثة بقدر ميراثهم فهذا قول لا دليل عليه التعديل إنما يجب بين الأولاد فقط والله الموفق(6/538)
باب تحريم إحداد المرأة على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام
1774 - عن زينب بنت أبي سلمة رضي الله عنهما قالت: دخلت على أم حبيبة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أبوها أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه فدعت بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها ثم قالت والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا قالت زينب ثم دخلت على زينب بنت جحش رضي الله عنها حين توفي أخوها فدعت بطيب فمست منه ثم قالت أما والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا متفق عليه قال رحمه الله تعالى باب تحريم إحداد المرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرا(6/539)
الإحداد معناه ترك الزينة والطيب ونحوه مما يعد بهجة وسرورا وترفها وهو حرام وكانوا في الجاهلية إذا مات الإنسان وهو حبيب إليهم امتنعوا عن الطيب والتجمل وما أشبه ذلك إلى مدة حسب ما يقدرونها بأنفسهم فبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي رواه عنه زوجتاه أم حبيبة وزينب بنت جحش رضي الله عنهما أنه لا يجوز الإحداد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج فرخص النبي صلى الله عليه وسلم في هذا في الإحداد لمدة ثلاثة أيام ولا يجوز أكثر من ذلك مثاله رجل مات ابنه فحزن عليه فالواجب الصبر والاحتساب وأن تجري الأمور على ما هي عليه يخرج إلى دكانه إذا كان صاحب دكان وإلى فلاحته إذا كان صاحب فلاحة وإلى مكتبه إذا كان موظفا وإلى مدرسته إذا كان معلما أو طالبا المهم ألا تتأثر أعماله بشيء هذا هو المشروع وهذا هو السنة وهذا هو الأوفق وهذا هو الأرفق بالشخص ألا يحد على أحد حتى على ابنه وأبيه وأمه وأخيه لا يحد عليهم الأمر لله عز وجل له الملك وله الحمد فهو المالك وهو المحمود على كل حال فلا حاجة إلى تحد اصبر واحتسب لا تقل لا تحزن كل إنسان له قلب حي سيحزن لكن نقول اصبر واحتسب وكأن شيئا لم يكن لا تخرب شيئا من أمور دنياك هذا هو الأفضل والأوفق والأرفق والأحسن لكن لما كانت النفوس قد لا تطيق هذا لاسيما مع عظم المصاب(6/540)
رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الإحداد لمدة ثلاثة أيام فقط يعني لا بأس مثلا أن الإنسان إذا مات له صديق أو قريب وحزن حزنا شديدا لا يستطيع أن يقابل الناس لا بأس أن يبقى في بيته لمدة ثلاثة أيام فأقل ولكن لابد من صلاة الجماعة هذا لا بأس به وكذلك بالنسبة للنساء لو مات ابنها أو أبوها أو أخوها أو أحد ممن تأثرت بهم تأثرا بالغا فلا حرج عليها أن تحد لمدة ثلاثة أيام فأقل أما ما زاد فلا يجوز لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث إلا على زوج فالزوج له حق عظيم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها لكن السجود لا يكون إلا لرب العالمين الخالق عز وجل المهم أن الزوجة تحد أربعة أشهر وعشرا هذا إذا كانت غير حامل أما الحامل فتحد إلى وضع الحمل فقط زاد أو نقص فعلى هذا إذا مات عن زوجة زوجها فالمرأة تحد أربعة أشهر وعشرة أيام لقول الله تعالى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} حتى لو كان ما دخل عليها لو عقد عليها وهي في المدينة وهو في مكة ومات فإنها تحد عليه وإن لم يدخل عليها مادام العقد صحيحا وإذا كانت حاملا فإلى وضع الحمل حتى لو وضعت قبل أن يغسل الزوج انتهت العدة وانتهى الإحداد يعني مثلا امرأة توفي زوجها وهي في الطلق فلما خرجت روحه خرج الحمل يعني ما بين خروج روح زوجها وخروج حملها إلا دقائق معلومة فالآن انتهت العدة وانتهى(6/541)
الإحداد فلها أن تتزوج يمكن شرعا أن تتزوج قبل أن يدفن هذا الزوج لأنها وضعت الحمل وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن فهذه انتهت عدتها والإحداد تبع العدة ولكن ما هو الإحداد الإحداد أن تجتنب المرأة الأشياء التالية أولا لباس الزينة لا تلبس ثوبا يعد ثوب زينة أما الثياب العادية فلها أن تلبسها بأي لون كان أصفر أحمر أخضر ...
أي شيء إنما الذي يعد زينة بحيث يقال إن هذه المرأة تزينت وتجملت فإنه لا يحل لها أن تلبسه وهي محادة على الزوج الثاني الطيب بجميع أنواعه دهنا أو بخورا أو شما أو غير ذلك لا تتطيب إطلاقا إلا إذا طهرت من الحيض فإنها تأخذ شيئا يسيرا من الطيب تتطيب به أي تطيب محل الخبث حتى لا يكون لها رائحة الثالث الحلي بجميع أنواعه لا تلبس الحلي لا في القدمين ولا في الكفين ولا في الرقبة ولا في الأذنين ولا على الصدر أي نوع من أنواع الحلي ما تلبسه حتى لو كانت تلبس سنا من ذهب فإنها تخلعه إذا لم يكن عليها مضرة فإن كان عليها مضرة فلتحرص على أن تخفيه بأن تقلل الضحك حتى لا تظهر السن ويتبين للناس الرابع ألا تخرج من البيت أبدا إلا للضرورة أو حاجة لضرورة في الليل أو حاجة بالنهار وأما بدون حاجة ولا ضرورة فلا يجوز أن تخرج من بيتها الذي مات زوجها وهي فيه فهي يجب عليها أن تبقى في البيت فلا تخرج إذا قالت أريد أن أخرج إلى جيراني استأنس عندهم في النهار وأول الليل وأرجع إلى بيتي نقول لا جيرانك يأتون إليك أما أنت لا تذهبي تبقين في البيت الذي مات زوجك وأنت فيه فإذا قدرنا أنها سافرت مع(6/542)
زوجها إلى بلد للعلاج ومات زوجها بالبلد الذي هو غير بلدها نقول ارجعي إلى بلدك لأن هذا ليس مسكنك في الأصل الخامس التجميل والتكحل بالكحل وما أشبه ذلك حتى لو فرضنا أن عينها فيها مرض فلا تتكحل إلا بصبر أو شبهه مما لا لون له تفعله بالليل وتمسحه بالنهار هذا إن احتاجت وإلا فلا ولهذا جاءت امرأة إلى النبي وقالت يا رسول الله إن ابنتي مات زوجها وقد اشتكت عينها يعني توجعها أفنكحلها قال لا مع أنها توجعها عينها فقال لا حتى قال ابن حزم رحمه الله لو فقدت عينها فإنها لا تكحلها بأي حال من الأحوال لأن النبي سئل عن هذه المريضة في عينها فأبى أن يرخص لهم في الكحل وكذلك التحمير والتجميل وما أشبه ذلك أما الصابون الذي ليس فيه طيب فلا بأس وكذلك تنظيف الرأس وكذلك تنظيف الجلد وما اشتهر عند العوام أن المرأة تغتسل من الجمعة إلى الجمعة يعني حمادة المحادة فهذا لا أصل له كذلك أيضا ما اشتهر عندهم أنها في الليل لا تخرج إلى الحوش بل تكون تحت السقف فهذا لا صحة له تخرج إلى ما شاءت كذلك ما اشتهر في العامية المحضة يقولون إن القمر رجل له عيون وأنف وفم فلا تخرج المرأة للقمر لأن القمر رجل يطلع عليها هذا غلط ما بصحيح تخرج في الليالي المقمرة وفي كل شيء لكن لا تخرج من البيت كذلك أيضا ما اشتهر عند العوام أنها لا تكلم أحد إلا من محارمها وهذا غلط أيضا تكلم من شاءت تكلم من يستأذن عند الباب وإلى من يتكلم في التليفون تكلمهم لا بأس تكلم من يدخل البيت من أقارب الزوج وأقاربها الذين ليسوا من محارمها تكلمهم ولا حرج ولا حرج يعني هي في الكلام كغيرها من النساء لا يحرم عليها الكلام لكنها كما قال الله عز وجل {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} والله الموفق(6/543)
باب تحريم بيع الحاضر للبادي وتلقي الركبان والبيع على بيع أخيه والخطبة على خطبته إلا أن يأذن أو يرد
1775 - عن أنس رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد وإن كان أخاه لأبيه وأمه متفق عليه
1776 - وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتلقوا السلع حتى يهبط بها إلى الأسواق متفق عليه
1777 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تتلقوا الركبان ولا يبع حاضر لباد فقال له طاووس ما لا يبع حاضر لباد قال لا يكون له سمسارا متفق عليه
[الشَّرْحُ]
هذه أمور ثلاثة عقد لها المؤلف رحمه الله تعالى باب في كتاب الصالحين منها أن يبيع حاضر لباد ومنها تلقي الركبان ومنها البيع على بيع أخيه أما بيع الحاضر للبادي فهو أن يأتي إنسان قادم من البادية بغنمه أو إبله أو سمنه أو لبنه أو أقطه ليبيعه في السوق فيأتي الإنسان إليه وهو من أهل البلد(6/544)
ويقول يا فلان أنا أبيع لك هذا لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض دع البدوي يبيع ربما يريد أن يبيع برخص لأنه يريد أن يرجع إلى أهله وأيضا إذا باع البدوي فالعادة أن الحضري ينقده الثمن ولا يؤخره لأنه يعرف أنه صاحب بادية أن يرجع فيكون بذلك فائدة للبائع وهو البدوي ينقد له الثمن وفائدة للمشتري وهو أن الغالب أن البدوي يبيع برخص لأنه عجل لا ينتظر الزيادة ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد واستدل العلماء رحمهم الله تعالى بالعلة على أنه إذا جاء البادي إلى الحاضر وقال يا فلان بع هذه السلعة لي فإنه لا بأس بذلك لأن البادي الآن يعلم أنه إذا باعه الحضري فهو غالبا أكثر ثمنا ولا يهمه أن يبقى يوما أو يومين من أجل أن يأخذ الثمن ولكن ظاهر الحديث العموم وأن الحاضر لا يبيع للبادي وأنه إذا جاء إليه قال يا فلان خذ سلعتي بعها يقول لا بعها أنت كذلك أيضا استنبط العلماء رحمهم الله من هذه العلة دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض أنه إذا كان السعر واحدا سواء باع الحاضر أو البادي فإنه لا بأس أن يبيع الحاضر للبادي لأن السعر لن يتغير ومثال ذلك أن تكون الدولة قد قررت سعرا معينا لهذا النوع لا يزيد ولا ينقص فهذا لا فرق بين أن يبيعه الحاضر أو البادي ليس للحاضر(6/545)
مكسب وفائدة في ذلك فقالوا إذا كان السعر معلوما فإنه لا بأس أن يبيع الحاضر للبادي واستبط بعض العلماء من العلة أنه لابد أن تكون السلعة هذه للناس بها حاجة يعني مما تتعلق به حوائج الناس وأما الشيء الذي لا يحتاجه الناس إلا نادرا فلا باس لكن هذا الاستنباط ضعيف والصواب أنه لا فرق بين السلعة التي يحتاجها الناس والسلعة التي لا يحتاجونها إلا نادرا الأمر الثاني تلقي الركبان وذلك لأنهم كانوا فيما سبق يعرفون أن البادية تأتي بالسلع مثلا في أول النهار يوم الجمعة فتجد بعض الناس يخرج من البلد إلى قريب منه ثم يتلقى الركبان ويشتري منهم قبل أن يصلوا إلى السوق فيقطع الرزق على أهل البلد الذين ينظرون الركبان وكذلك يغبن المتلقين بأن يغبن الركبان فيحصل بتلقي الركبان مضرتان الأولى على أهل البلد الذين ينظرون قدوم الركبان من أجل أن يشتروا منهم برخص الثانية الضرر على الركبان لأن هذا الذي تلقاهم سيغبنهم ويشتري منهم بأقل من السوق ولم يصلوا إلى السوق حتى يعرفوا السعر ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فمن تلقى فاشترى منه فأتي السوق فهو بالخيار يعني أن الجالب إذا تلقاه الإنسان خارج البلد واشترى منه ثم دخل البلد ووجد أنه مغبون فله أن يرد البيع لأنه قد غر وغبن ...(6/546)
المسألة الثالثة يبيع المسلم على بيع أخيه وهي أيضا حرام وخطبته على خطبته حرام بيعه على بيعه أن يقول من اشترى سلعة بعشرة أنا أبيع مثلها بثمانية حرام لأن المشتري سوف يحاول أن يفسخ العقد من أجل أن يأخذ السلعة برخص وكذلك الخطبة على خطبة أخيه فمثلا لو سمعت أن فلانا خطب من أناس ابنتهم فذهبت وخطبت ابنتهم هذه فهذا حرام إلا إذا أذن الخاطب بمعنى أنك ذهبت إلى الخاطب وقلت يا فلان سمعت أنك خطبت فلانة وأنا لي بها حاجة أتأذن لي إذا قال نعم لا بأس الحق له أو يرد أي يرده أهل البنت عرفت أن فلان خطب من هؤلاء الجماعة وردوه فلا بأس أن تخطب لأنهم ردوه ليس له علاقة بالمرأة الآن فأما إذا سمعت أن فلانا خطب من جماعة ولكنك لم تتأكد هل ردوه أم لا فإنه لا يحل لك أن تخطب لأنه قد يكونون على وشك أن يقبلوا فإذا خطبت منهم رفضوا فيكون في ذلك حرمان لهذا الخاطب من حقه في المخطوبة والله الموفق(6/547)
باب النهي عن إضاعة المال في غير وجوهه التي أذن الشرع فيها
1781 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا فيرضى لكم أن تعبده ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال رواه مسلم وتقدم شرحه
1782 - وعنه وراد كاتب المغيرة بن شعبة قال: أملى علي المغيرة بن شعبة في كتاب إلى معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد وكتب إليه أنه كان ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال وكان ينهى عن عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات متفق عليه وسبق شرحه
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى باب النهي عن إضاعة المال في غير(6/548)
ما أذن لله فيه المال جعله الله عز وجل قياما للناس تقوم به مصالح دينهم ودنياهم كما قال تعالى وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا ولهذا حرم الاعتداء عليه وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم ورتب سبحانه وتعالى تقسيم المال في مواضع كثيرة بنفسه جل وعلا قال {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ} وقال {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} وقال تعالى {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} وغيرها من آيات المواريث كل هذا يدل على عناية الشرع بالمال وأنه أمر مهم ولهذا كان كثير من الدول الآن إنما تقوى باقتصادها ونماء مالها وغناها فالمال أمر مهم فلا يجوز للإنسان أن يضيعه في غير فائدة وإضاعته في غير فائدة أنواع متعددة منها الإسراف في بذله فإن الإسراف محرم حتى في المآكل والمشرب والملابس والمراكب والمنازل متى تجاوز الإنسان الحد فإنه آثم لقوله تعالى {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} فمجاوزة الحد إسراف وهي محرمة وعرضة لأن يكره الله تعالى فاعلها وإذا قلنا إن الإسراف مجاوزة الحد تبين لنا أن إنفاق المال يختلف فالغني مثلا قد يؤسس بيته أو يشتري سيارة أو يلبس الثياب التي لا(6/549)
تعد من حقه إسرافا لأنه لم يتجاوز بها حد الغنى لكن لو أن فقيرا فعل مثل فعله قلنا إن هذا إسراف وإنه حرام ولهذا يغلط كثير من الناس الآن من الفقراء ومتوسطي الحال أن يلحقوا أنفسهم بالأغنياء هذا غلط وخطأ والإنسان كما قال العوام يمد رجله على قدر لحافه إذا كان اللحاف واسعا مد رجليك كلها وإذا كان ضيقا فكف رجليك أما أن تكون فقيرا وتريد أن تساوي الأغنياء في مأكلك ومشربك وملبسك ومنكحك ومركوبك ومسكنك فهذا من السفه وهو حرام أيضا لا يحل للإنسان وقد غلط بعض الناس أكثر من هذا فذهب يستدين ويرهق نفسه بدين من أجل أن يؤسس بيته كما أسس جاره الغني بيته وهذا غلط أيضا هذا مما حرم الله الإسراف هو مجاوزة الحد لأن الله لا يحب المسرفين وقد امتدح الله عباده الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكانوا بين ذلك قواما ومن الإسراف تعدد الملابس بدون حاجة كثير من النساء الآن كلما ظهر شكل من أشكال اللباس ذهبت تشتريه حتى تملأ بيتها من الثياب بدون حاجة لكن ظهر شيء يختلف عن الأول بشيء بسيط تقول خلاص لا ألبسه وألبس الثوب الجديد ثم بعض النساء يلعب بعقول بعض الرجال فتجد المرأة هي التي توجه الرجل وتقول اشتري كذا اشتري كذا فصارت القوامة الآن للنساء على الرجال إلا من شاء الله والرجل يجب أن يكون رجلا يمنع زوجته من الإسراف سواء من مالها أو من ماله ومما لا يجوز بذل المال فيه أن يبذله في محرم كهؤلاء الذين يشترون الدخان ...
بالمال فإن هذا حرام عليه وهو مما نهى الله عنه لأنه إضاعة للمال واضحة يبذل الإنسان ماله في شيء يحرقه لأن الدخان لا يشرب إلا إذا أحرق فكأنما الرجل أحرق الدراهم وأتلفها في أمر يضره أيضا ليته يسلم(6/550)
من ضرره ولهذا اتفق الأطباء الآن على أنه ضار وأنه يجب على الإنسان أن يتجنبه حتى الدول الكافرة الآن الراقية الفاهمة تجدهم يمنعون الدخان ولا يمكن أن يشرب الدخان أما في المجالس العامة فممنوع قطعا وأما في المجالس الخاصة فممنوع أيضا إلا إذا استأذنوا أهل المجلس فأذنوا وإلا فيمنع لأنه ضار للشارب وللحاضر حتى إنهم يمنعون من شرب الدخان فوق الأجواء كما حدثني قائدوا الطائرات أنهم إذا دخلوا حدود بعض البلاد الكافرة امتنعوا من التدخين كل من الطائرة لا يدخن لا من أجل الدين لكن لأنه مضر واحتراما لأجوائهم فيا أسفا أن يكون هذا من الكفار وأما من المسلمين اليوم فلا تجد الرجل لا يبالي بالناس يخرج السيجارة ويشربها ولا يبالي بأحد وهذا حرام عليه أولا لنفسه والثاني لأذية المؤمنين الناس يتأذون بهذا وقد قال تعالى {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} فهو يؤذيهم والدخان الذي يكون بينهم يدخل أيضا إلى أجوافهم ويتضررون به هذا أيضا من الحرام يحرم على الإنسان أن يشتري شيئا يشربه من الدخان وهو بذلك آثم ومصر على معصية وتسقط عدالته بذلك وترتفع ولايته عن من له ولاية عليه حتى إن كثيرا من العلماء يقول إنه لا يزوج ابنته إذا كان يشرب الدخان ابنته لا يزوجها لماذا لأنه خرج عن العدالة إلى الفسق والفاسق لا ولاية له فالمسألة خطيرة من إضاعة المال أيضا أن يصرفه الإنسان في شيء لا فائدة منه في ألعاب وما أشبه ذلك ومن هذه الألعاب النارية(6/551)
قيل وقال معناه أن يشتغل الإنسان بالكلام بنقله قال فلان وقيل كذا وقيل كذا كما يوجد في كثير من المسرفين الآن الذين يعمرون مجالسهم بقولهم ماذا قيل اليوم وقال فلان وماذا تقول في فلان وما أشبه ذلك من الكلام الذي يضيع به الوقت كما نهى عن إضاعة المال الذي جعله الله قياما للناس نهى عن إضاعة الوقت أيضا فإضاعة الوقت في قيل وقال وكثرة السؤال هذا لا شك أشد ضررا على الإنسان من إضاعة المال إضاعة المال ربما يخلف لكن إضاعة الوقت لا يمكن أن تخلف الوقت يذهب ولا يرجع لهذا يجب على الإنسان أن يتجنب الخوض في القيل والقال وما تقول في فلان وما أشبه ذلك كذلك كثرة السؤال وكثرة السؤال يحتمل أن يراد به سؤال الخلق يعني لا تسأل الناس لا تكثر من السؤال والسؤال إن كان سؤال مال فإنه حرام بل لا يزال الإنسان يسأل ويسأل حتى يأتي يوم القيامة وما في وجهه مذعة لحم والعياذ بالله ويحتمل أن يراد به كثرة السؤال عن أحوال الناس بدون حاجة وبدون فائدة ماذا تقول في فلان هل هو غني فقير متعلم أم جاهل وما أشبه ذلك ويحتمل أن يراد به كثرة السؤال عن العلم الذي لا يحتاج إليه الإنسان ولاسيما في عهد النبوة لأنه يخشى أن يسأل الإنسان عن شيء لم يحرم فيحرم من أجل مسألته أو عن شيء لم يجب فيوجب من أجل مسألته ولكن الأخير هذا يقيد بما إذا لم يحتاج الإنسان إلى السؤال فإن كان يحتاج إلى ذلك كطالب العلم الذي يسأل ويستفهم فإنه لا بأس أن يسأل ويستفهم ويزيل(6/552)
اللبس عن نفسه وكان عليه الصلاة والسلام ينهى عن عقوق الأمهات يعني قطع الأمهات عن حقوقهن والأم لها حق عظيم على الولد من ذكر أو أنثى حتى أنها أحق من الأب سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أحق بصحبتي قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال ثم أبوك فالأم لها حق كبير عظيم لأنها حملت ولدها كرها ووضعته كرها وأرضعته كرها وأتعب ليلها ونهارها فلها حق عظيم وكذلك عقوق الأباء وهو أيضا من كبائر الذنوب لكن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عقوق الأمهات لأنه أشد وكان ينهى عن عقوق الأمهات وعن وأد البنات وأد البنات هو أن من عادة الجاهلية الحمقاء أن الإنسان إذا ولد له بنت دفنها والعياذ بالله وهي حية {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} يعني يختفي عن الناس من سوء ما بشر به {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} أي يبقيها مع الإهانة وعدم المبالاة بها {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} أي يدفنه وهو حي حتى إن بعضهم والعياذ بالله كان يحفر حفرة لابنته فطار شيء من الغبار على لحيته وهو يريد أن يدفنها فنفضت لحيته عن التراب ودفنها والعياذ بالله إلى هذا الحد يعني قلوب أغلظ من الحجارة حتى البهائم لا تفعل بأولادها هكذا(6/553)
وهؤلاء والعياذ بالله يفعلون هذا يحفر لها ليدفنها وهي تنظف لحيته من التراب ثم يدفنها والعياذ بالله وكان بعضهم يحفر لابنته فإذا أحست به قامت تتوسل به يا أبت فيمسكها ويطرحها حتى يدفنها نعوذ بالله مع ما في كفالة البنات من الأجر العظيم ما من إنسان يكفل ثلاث بنات يحسن إليهن إلا كن حجابا له من النار قالوا وابنتين يا رسول الله قال وابنتين قالوا وواحدة قال وواحدة وكان الإمام أحمد رحمه الله إذا قيل له ولد لك بنت قال ولدت الإناث للأنبياء ولدت الإناث للأنبياء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يولد لهم بنات فهذا أشرف الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم له أربع بنات وله ثلاثة أولاد والذين بلغوا منهم الحلم هم البنات وأما الأولاد البنون فماتوا صغار أكبرهم إبراهيم توفي وله ستة عشر شهرا سنة وأربعة أشهر رضيع وكان له مرضع في الجنة لإبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وأما البنات الأربع فثلاث منهن متن في حياته عليه الصلاة والسلام وهن زينب ورقية وأم كلثوم والرابعة فاطمة ماتت بعده بأشهر فالحاصل أن البنات إذا من الله على الإنسان بهن وكفلهن وأحسن إليهن كن له حجابا من النار ومنع وهات أي وينهى عن منع وهات وهذا كناية عن الشح والبخل منع يعني يمنع ولا يعطي ولا يجد بالمال ولا بالنفس وهات يترك فهو والعياذ بالله بخيل شحيح لا يشفع ولا ينفع والله الموفق(6/554)
باب النهي عن الإشارة إلى مسلم بسلاح ونحوه سواء أكان جادا أو مازحا والنهي عن تعاطي السيف مسلولا
1783 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار متفق عليه وفي رواية لمسلم قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى ينزع وإن كان أخاه لأبيه وأمه قوله صلى الله عليه وسلم ينزع ضبط بالعين المهملة مع كسر الزاي وبالغين المعجمة مع فتحها ومعناهما متقارب، معناه بالمهملة يرمي، وبالمعجمة أيضا يرمي ويفسد، وأصل النزع: الطعن والفساد.
1784 - وعن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعاطى السيف مسلولا.
رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن.(6/555)
[الشَّرْحُ]
قال رحمه الله تعالى باب: النهي عن الإشارة بحديدة أو نحوها يعني: على أخيه سواء جادا أو هزلا، والنهي عن تعاطي السيف مسلولا.
هاتان مسألتان: المسألة الأولى: أن يشير إلى أحد بسلاح أو حديدة أو حجر أو ما أشبه ذلك كأنه يريد أن يرميه به، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، لأنه ربما يشيرها هكذا كأنه يريد أن يرميه بالحجر أو بالحديدة أو نحوها فينزع الشيطان في يده وتنطلق من يده، فيقع في حفرة من النار، والعياذ بالله.
وكذلك أيضا ما يفعله بعض السفهاء، يأتي بالسيارة مسرعا نحو شخص واقف أو جالس أو مضطجع يلعب عليه ثم يحركها بسرعة إذا قرب منه حتى لا يدهسه هذا أيضا ينهى عنه، كالإشارة بالحديدة لأنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فلا يتحكم في السيارة وحينئذ يقع في حفرة من النار، ومن ذلك أن يشري الكلب به، يكون الإنسان عنده كلب ويأتي إنسان آخر إليه زائرا أو نحو ذلك، فيشري الكلب به يعني يغريه به، فإنه ربما ينطلق الكلب ويأكل هذا الرجل، أو يجرحه ولا يتمكن من فضه بعد ذلك.
فالمهم أن جميع أسباب الهلاك ينهى الإنسان أن يفعلها سواء أكان جادا أم هزلا، كما دل على ذلك حديث أبي هريرة.(6/556)
أما تعاطي السيف مسلولا فمثله أيضا ينهى عنه، لأنه ربما إذا مد يده لأخذ السيف وهو مسلول ربما تضطرب يد الإنسان فتنقطع يد الآخر.
وكذلك السكين ونحوها لا تتعاطها وهي موجهه إلى صاحبك، إذا أردت أن تعطيه السكين فأمسك بالسكين من عندك، واجعل المقبض نحو صاحبك لئلا تقع في المحظور، يعني ريشة السكين إذا أردت أن تعطيها لصاحبك فاجعلها مما يليك، واجعل المقبض مما يلي صاحبك حتى لا يقع في زلة يد فتنجرح يده.
ومن ذلك أيضا إذا كان معك عصى وأنت تمشي بين الناس فلا تحمله عرضا لأنك إذا حملته عرضا ربما يتعثر به من وراءك أو من أمامك ولكن أمسكه نصبا واقفا أو أن تتعكز عليه تمسكه واقفا حتى لا تؤذي من وراءك ومن أمامك كل هذا من باب الآداب الحميدة التي ينبغي للإنسان أن يسلكها في حياته حتى لا يقع في أمر يؤذي الناس أو يضرهم والله الموفق(6/557)
باب كراهة الخروج من المسجد بعد الأذان إلا بعذر حتى يصلي المكتوبة
1785 - عن أبي الشعثاء قال: كنا قعودا مع أبي هريرة رضي الله عنه في المسجد فأذن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد فقال أبو هريرة أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى باب كراهة الخروج من المسجد بعد الأذان حتى يؤدي الصلاة المكتوبة وذلك أن المؤذن إذا أذن فإنه يقول للناس حي على الصلاة يعني اقبلوا إليها والخروج من المسجد بعد ذلك معصية فإنه يقال أقبل ولكنه يدبر ثم ذكر حديث أبي الشعثاء أنهم كانوا قعودا مع أبي هريرة رضي الله عنه فقام رجل يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى إذا خرج من المسجد قال أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم وإنما أتبعه بصره لينظر هل هو يمشي ليكون في جهة أخرى من المسجد أم ماذا يريد فلما خرج(6/558)
تبين له أنه أراد الخروج من المسجد قال أما هذا فقد عصى أبا القاسم يعني بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا قال الصحابي لقد عصى أبا القاسم فهو في حكم المرفوع يعني كأنه يقول فقد نهى عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم واستدل العلماء بهذا الحديث على أنه يحرم الخروج من المسجد بعد الأذان لمن تلزمه الصلاة إلا لعذر فمن العذر أن يكون حاقنا يعني يحتاج إلى بول أو حاقدا يحتاج إلى غائط أو معه ريح محتبسة يحتاج إلى أن ينقض الوضوء أو أصابه مرض يحتاج إلى أن يخرج معه أو كان إماما لمسجد آخر أو مؤذنا في مسجد آخر وأما إذا خرج من هذا المسجد ليصلي في مسجد آخر فهذا فيه توقف قد يقول قائل فالحديث عام وقد يقول قائل إن الحديث فيمن خرج لئلا يصلي مع جماعة وأما من خرج من مسجد ليصلي في آخر فهذا لم يفر من صلاة الجماعة ولكنه أراد أن يصلي في مسجد آخر وعلى كل لا ينبغي أن يخرج حتى وإن كان يريد أن يصلي في مسجد آخر إلا لسبب شرعي مثل أن يكون في المسجد الثاني جنازة يريد أن يصلي عليها أو يكون المسجد الثاني أحسن قراءة من المسجد الذي هو فيه أو ما أشبه ذلك من الأسباب الشرعية فهنا نقول لا بأس أن يخرج والله الموفق(6/559)
باب كراهة رد الريحان لغير عذر
1786 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: من عرض عليه ريحان فلا يرده فإنه خفيف المحمل طيب الريح رواه مسلم
1787 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرد الطيب رواه البخاري
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى باب كراهة رد الريحان الريحان نوع من الطيب وهو كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم خفيف المحمل طيب الريح وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدم رده وبين المؤلف رحمه الله فيما ساقه من حديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرد الطيب والطيب لا شك أنه يفتح النفس ويشرح الصدر ويوسع القلب ويسر الجليس ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الطيب حتى قال حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة فينبغي للإنسان أن يستعمل(6/560)
الطيب دائما لأنه علامة على طيب العبد فإن الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات والله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإذا أهدى إليك الطيب فلا ترده لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرد الطيب ولاسيما إذا كان كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم في الريحان إذا كان خفيف المحمل طيب الريح لأنه لا يضرك شيء لكن لو خفت أن هذا الذي أهدي إليك الطيب سيتكلم في المجالس أو أن يمن عليك في المستقبل ويقول أنا أهديت إليك كذا وهذا جزائي ويريد منك أن يستخدمك بما أهدي إليك فهنا لا تقبل الهدية لأن هذا يبطل أجره وثوابه بالمن والأذى أما إذا كان لا يضرك منه شيء فإن الأفضل أن لا ترده والله الموفق(6/561)
باب كراهة المدح في الوجه لمن خيف عليه مفسدة من إعجاب ونحوه وجوازه لمن أمن ذلك في حقه
1788 - عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يثني على رجل ويطريه في المدحة فقال أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل متفق عليه والإطراء المبالغة في المدح
1789 - وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم ويحك قطعت عنق صاحبك يقوله مرارا إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك وحسيبه الله ولا يزكي على الله أحد متفق عليه
1790 - وعن همام بن الحارث عن المقداد رضي الله عنه أن رجلا جعل يمدح عثمان رضي الله عنه فعمد المقداد فجثا على ركبتيه فجعل يحثو في وجهه الحصباء فقال له عثمان ما شأنك فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب رواه مسلم(6/562)
فهذه الأحاديث في النهي وجاء في الإباحة أحاديث كثيرة صحيحة قال العلماء وطريق الجمع بين الأحاديث أن يقال إن كان الممدوح عنده كمال إيمان ويقين ورياضة نفس ومعرفة تامة بحيث لا يفتتن ولا يغتر بذلك ولا تلعب به نفسه فليس بحرام ولا مكروه وإن خيف عليه شيء من هذه الأمور كره مدحه في وجهه كراهة شديدة وعلى هذا التفصيل تنزل الأحاديث المختلفة في ذلك ومما جاء في الإباحة قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه أرجو أن تكون منهم أي من الذين يدعون من جميع أبواب الجنة لدخولها وفي الحديث الآخر لست منهم أي لست من الذين يسبلون أزرهم خيلاء وقال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه ما رآك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك والأحاديث في الإباحة كثيرة وقد ذكرت جملة من أطرافها في كتاب الأذكار
[الشَّرْحُ]
نقل المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في بيان مدح الإنسان هل ينبغي للإنسان أن يمدح أخاه بما هو فيه أو لا وهذا له أحوال الحال الأولى أن يكون في مدحه خير وتشجيع له على الأوصاف(6/563)
الحميدة والأخلاق الفاضلة فهذا لا بأس به لأنه تشجيع تشجيع لصاحبه فإذا رأيت من رجل الكرم والشجاعة وبذل النفس والإحسان إلى الغير فذكرته بما هو فيه أمامه من أجل أن تشجعه وتثبته حتى يستمر على ما هو عليه فهذا حسن وهو داخل في قوله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى والثاني أن تمدحه لتبين فضله بين الناس وينتشر ويحترمه الناس كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أما أبي بكر فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث ذات يوم قال من أصبح منكم صائما فقال أبو بكر أنا فقال من تبع منكم جنازة قال أبو بكر أنا فقال من عاد اليوم مريضا فقال أبو بكر أنا وذكر أشياء فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما اجتمعن في امرأ إلا دخل الجنة وكذلك لما حدث أنه من جر ثوبه خيلاء لن ينظر الله إليه قال أبو بكر يا رسول الله إن أحد شقي إزاري يسترخي علي إلا أن أتعاهده فقال أنك لست ممن يصنع ذلك خيلاء وقال لعمر إن الشيطان ما سلكت فجا إلا سلك فجا غير فجك يعني إذا سلكت طريقا فإن الشيطان يهرب منه ويذهب إلى طريق آخر كل هذا لبيان فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما هذا لا بأس به الثالث أن يمدح غيره ويغلو في إطرائه ويصفه بما لا يستحق فهذا محرم وهو كذب وخداع مثل أن يذكر رجلا أميرا أو وزيرا أو ما أشبه ذلك(6/564)
ويطريه ويصفه بما ليس فيه من الصفات الحميدة فهذا حرام عليك وهو أيضا ضرر على الممدوح الرابع أن يمدحه بما هو فيه لكن يخشى أن الإنسان الممدوح يغتر بنفسه ويزهو بنفسه ويترفع على غيره فهذا أيضا محرم لا يجوز وذكر المؤلف أحاديث في ذلك أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم آخر فأثنى عليه فقال ويحك قطعت عنق صاحبك يعني كأنك ذبحته بسبب مدحك إياه لأن ذلك يوجب أن هذا الممدوح يترفع ويتعالى وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحثى التراب في وجوه المداحين يعني إن كان هذا الإنسان معروفا ما جلس مجلسا أمام أحد له جاه وشرف إلا امتدحه هذا مداح والمداح غير المادح؛ المادح هو الذي يسمع منه مرة بعد أخرى لكن المداح كلما جلس عند إنسان كبيرا أو أميرا أو قاضيا أو عالم أو ما أشبه ذلك قام يمدحه هذا حقه أن يحثي في وجهه التراب لأن رجلا امتدح عثمان رضي الله عنه فقام المقداد وأخذ الحصباء ونفضها في وجه المداح فسأله عثمان لما فعل ذلك قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب وعلى كل حال فالذي ينبغي للإنسان ألا يتكلم إلا بخير لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت والله الموفق(6/565)
باب كراهة الخروج من بلد وقع فيها الوباء فرارا منه وكراهة القدوم عليه
قال تعالى {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة}
وقال تعالى {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}
1791 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام قال ابن عباس فقال لي عمر ادع لي المهاجرين الأولين فدعوتهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا فقال بعضهم خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه وقال بعضهم معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء فقال ارتفعوا عني ثم قال ادع لي الأنصار فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم فقال ارتفعوا عني ثم قال ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم فلم يختلف عليه منهم رجلان فقالوا نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء فنادى عمر رضي الله عنه في الناس إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه فقال أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أفرارا من قدر الله فقال عمر رضي الله عنه لو غيرك قالها يا أبا عبيدة وكان عمر يكره خلافه نعم نفر من قدر الله إلى قدر(6/566)
الله أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله قال فجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان متغيبا في بعض حاجته فقال إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه فحمد الله تعالى عمر رضي الله عنه وانصرف متفق عليه والعدوة جانب الوادي
1792 - وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها متفق عليه
[الشَّرْحُ]
هذا الباب باب عظيم عقده المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين وهو كراهة أن يقدم الإنسان على أرض نزل فيها البلاء وأن يخرج منها بعد نزول البلاء فرارا منه يعني إذا سمعت بوباء نازل في أرض فلا تقدم عليها وإذا وقع وأنت فيها فلا تخرج منها فرارا منه(6/567)
ثم استدل المؤلف رحمه الله بقول الله أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة إشارة إلى قوله لا تخرجوا منها والله يقول {أينما تكونوا} وفي أي مكان وفي أي زمان {ولو كنتم في بروج مشيدة} يعني محصنة مطوية مليفة بالشيد يعني بالجص محكمة متقنة فإن الموت سوف يأتيكم {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة} وفي آية أخرى أعظم من هذا وأبلغ {قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم} تفر منه وهو لا يلحقك بل يلاقيك ويقابلك فلا فرار من الموت فكيف تخرج من أرض نزل فيها الوباء فرارا من الموت إنك لو فعلت فليس لك فرار من قدر الله عز وجل واقرأ قول الله تعالى {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم} هؤلاء ألوف كثيرة مؤلفة نزل الوباء بأرض فخرجوا خوفا من الموت فأراهم الله عز وجل الآية وأنه بكل شيء محيط وأنه مدرك ما أراد لا محالة فقال الله لهم {موتوا} قال ذلك قولا كونيا قدريا فماتوا لأن الله إذا أراد شيئا قال له كن فيكون ماتوا وهم ألوف ثم أحياهم الله والله على كل شيء قدير لكن أراهم الله عز وجل أنه لا فرار من قدر الله عز وجل لا فرار ثم استدل المؤلف على كون الإنسان لا يقدم على أرض فيها الوباء بقول الله تعالى {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} أي لا تفعلوا الشيء الذي يكون فيه هلاككم ثم استدل أيضا بالأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين خرج من المدينة(6/568)
إلى الشام فذكر له الطاعون وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القدوم إلى أرض فيها الطاعون والطاعون وباء فتاك والعياذ بالله قال بعض أهل العلم إنه نوع خاص من الوباء وأنه عبارة عن جروح وتقرحات في البدن تصيب الإنسان وتجري جريان السيل حتى تقضي عليه وقيل إن الطاعون وخز في البطن يصيب الإنسان فيموت وقيل إن الطاعون اسم لكل وباء عام ينتشر بسرعة كالكوليرا وغيرها وهذا أقرب فإن هذا إن لم يكن داخلا في اللفظ فهو داخل في المعنى كل وباء عام ينتشر بسرعة فإنه لا يجوز للإنسان أن يقدم على البلد الذي حل فيها هذا الوباء وإذا وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا منها لأنكم تخرجون منها فرارا من قدر الله لو فررتم فإنكم مدركون لا محالة ولهذا قال لا تخرجون منها فرارا منه أما خروج الإنسان منها لا فرارا منه ولكن لأنه أتى إلى هذا البلد لحاجة ثم انقضت حاجته وأراد أن يرجع إلى بلده فلا بأس وفي الكلام على هذا الحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنه أنه كان مع عمر حين خرج إلى الشام وذلك والله أعلم لفتح بيت المقدس فلما كان في أثناء الطريق أتاه أمراء الأجناد يخبرونه أنه وقع في الشام طاعون والطاعون والعياذ بالله وباء فتاك سريع الانتشار فتوقف عمر وأمر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن يدعو له المهاجرين فدعاهم وشاورهم فاختلفوا فمنهم من قال لا ترجع عما أتيت إليه ومنهم من قال ارجع ثم قال ارتفعوا عني ثم أمر عبد الله بن عباس أن يجمع الأنصار فجمعهم(6/569)
واختلفوا كاختلاف المهاجرين ثم قال ارتفعوا عني ثم أمره أن يدعو مشيخة مهاجرة الفتح يعني كبار المهاجرين فدعاهم فلم يختلف عليه اثنان وقالوا ارجع فنادى في الناس إني مصبح على ظهر يعني راجع فقال أبو عبيدة بن الجراح الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم أمين هذه الأمة قال يا أمير المؤمنين أفرارا من قدر الله يعني ترجع بالناس تفر من قدر الله قال لو غيرك قالها يا أبا عبيدة وكان يكره مخالفته يعني لو أن غيرك قد قالها لكان أهون أما أنت فكيف تقول هذا ثم ضرب له مثلا مقنعا قال أرأيت لو كان لك إبل فهبطت بها واديا له عدوتان يعني شعبتين إحداهما مخصبة والثانية مجدبة فإن رعيتها في المخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيتها في المجدبة رعيتها بقدر الله ومعلوم أنك سوف تختار المخصبة على المجدبة وبين ما هم كذلك إذ جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان قد تغيب في حاجة له فقال إن عندي من ذلك علما يعني عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم تلا عليهم الحديث إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه فوافق هذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله عمر على موافقته الصواب ففي هذا الحديث فوائد منها أن الخليفة يتولى الغزو بنفسه إذا دعت الحاجة إلى ذلك ومنها حسن سياسة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فإنه على ما عنده من الدين والعلم والعقل وإصابة الصواب لم يفت في هذا الأمر إلا بعد المشاورة والمراجعة(6/570)
ومنها أنه ينبغي أن يبدأ بالأفضل فالأفضل في المشاورة الأفضل في علمه وفي رأيه وفي لطفه يبدأ بالأفضل فالأفضل فإذا أشير عليه انتهى الموضوع ما حاجة لأن يأتي بالآخرين وإلا أتى بالآخرين الذين هم دونهم ومنها أن المشاورة من سمات المؤمنين كما قال الله تبارك وتعالى {وأمرهم شورى بينهم} فينبغي لمن ولاه الله أمرا وتردد في شيء من الأشياء ولم يتبين له الصواب أن يشاور غيره من ذوي العقل والدين والتجربة وكذلك إذا كان الأمر عاما يعم الناس كلهم فإنه ينبغي أن يشاور حتى يصدر عن رأي الجميع ومنها أنه يجوز للواحد من الرعية أن يراجع الإمام لكن بحضرته لأن أبا عبيدة راجع عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكن بحضرته وبشرط أن يكون المراجع ممن له علم ودين وعقل ليس ممن عنده غيرة عاصفة وعاطفة هوجاء فإن هذا لا يتكلم إنما يتكلم العقلاء هم الذين يتكلمون مع ولاة الأمور ولكن لا يتكلمون من وراء ولي الأمر بل يتكلمون من بين يديه حتى يحصل النقاش والإقناع ومنها ضرب الأمثال فإن ضرب الأمثال يقرب المعاني للإنسان وذلك أن عمر رضي الله عنه ضرب مثلا لأبي عبيدة إنسان هبط واديا ومعه إبل وله شعبتان إحداهما مخصبة فيها الأشجار وفيها الحشيش وفيها كل شيء ينفع الإبل والثانية مجدبة بيضاء فمن المعلوم أن الإنسان لن يختار المجدبة سوف يختار المخصبة فاختياره للمخصبة بقدر الله عز وجل وعدوله عن المجدبة بقدر الله عز وجل ومنها الرد على القدرية المعتزلة الذين يقولون إن الإنسان مستقل(6/571)
بعمله لا علاقة لله به والعياذ بالله ولهذا سموا مجوس هذه الأمة لأنهم يشبهون المجوس ولكن الإنسان يفعل الفعل بقدر الله عز وجل ومنها أنه قد يخفى العلم الشرعي على كبراء الناس ويعلمه من دونهم فإنه لا شك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعلم بكثير من عبد الرحمن بن عوف وكذلك كثير ممن معه عندهم من العلم ما ليس عند عبد الرحمن بن عوف لكن قد يكون عند الصغير من العلم ما ليس عند الكبير كما حصل هذا ومنها حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في أن الإنسان لا يقدم على ما فيه الهلكة والضرر لأن الله تعالى قال {ولا تقتلوا أنفسكم} وقال {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} فلا يجوز للإنسان أن يخاطر في أمر يخشى منه الهلاك وإن كان كل شيء بقدر لكن الأسباب لها أثرها ومنها أنه إذا وقع الوباء في الأرض فإنه لا يجوز للإنسان أن يخرج منها فرارا منه وأما إذا خرج لحاجة فلا بأس ومنها أنه لا بأس أن يستعمل الإنسان من الأدوية والحبوب والإبر ما يمنع الوباء لأن ذلك من الوقاية قبل نزول البلاء ولا بأس بها كما أن الإنسان إذا نزل به وباء وعالجه فلا حرج عليه فكذلك إذا أخذ وقاية منه فلا حرج عليه ولا يعد ذلك من نقص التوكل بل هذا من التوكل لأن فعل الأسباب الواقية من الهلاك والعذاب أمر مطلوب والذي يتوكل أو يدعي أنه متوكل ولا يأخذ بالأسباب ليس بمتوكل في الحقيقة بل إنه طاعن في حكمة الله عز وجل لأن حكمة الله تأبى أن يكون الشيء إلا بالسبب الذي قدره الله تعالى له والله الموفق(6/572)
باب التغليظ في تحريم السحر
قال الله تعالى {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر}
1793 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات متفق عليه
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه (رياض الصالحين) باب تغليظ تحريم السحر، السحر هو عبارة عن عقد وقراءات ونفثات يتوصل بها الساحر إلى الإضرار بالمسحور فمنه ما يقتل ومنه ما يمرض ومنه ما يذهب العقل ومنه ما يوجب العقد يعني تعلق الإنسان بغيره تعلقا شديدا ومنه ما يوجب الصرف يعني انصرافه عن غيره انصرافا كاملا فهو أنواع والعياذ بالله لكن كله محرم وقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن سحر وسحر له ومنه ما يوصل إلى الكفر فإذا كان الساحر يتوصل إلى سحره بالأرواح الشيطانية يتقرب إليها ويتعبد لها حتى تطيعه فهذا كفر لا شك فيه وأما إذا لم يكن كذلك فإنه أذية ومحرم ومن كبائر الذنوب ويجب على ولي الأمر أن يقتل الساحر قتلا بدون توبة بمعنى أن يقتله قتلا وإن تاب لأنه إن تاب فأمره إلى الله عز وجل وإن لم فأمره إلى الله لكننا نقتله درءا لمضرته ومفسدته وأما إذا لم يتب فهو من أهل النار إذا كان سحره مكفرا لأن السحر والعياذ بالله من أعظم الفساد في الأرض ومن أعظم الشرور لأنه يأتي الإنسان من غير أن يحترز منه ولكن هناك شيء يحميك منه بإذن الله عز وجل(6/573)
وهي قراءة الأوراد الشرعية مثل آية الكرسي قل هو الله أحد قل أعوذ برب الفلق قل أعوذ برب الناس وما أشبه ذلك مما جاء في الآيات والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا أكبر واق يقي الإنسان من السحر ثم ذكر المؤلف رحمه الله قول الله تعالى وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا أول الآية قوله {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان} أي ما تتبعه على ملك سليمان وهو أن الشياطين علمت الناس السحر {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} سليمان عليه الصلاة والسلام ما كفر ولم يخلف سحرا وإنما خلف علم النبوة فإنه كان أحد الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} وفي هذا دليل على أن السحر تعلمه من الشياطين كفر ولهذا قلنا قبل قليل إذا استعان الإنسان على سحره بالشياطين كان كافرا {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} وهذان ملكان بعثهما الله عز وجل إلى أرض بابل لكثرة السحرة فيها يعلمون الناس السحر ولكنهما ينصحان الناس {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} أرسلهما الله عز وجل يعلمان الناس السحر وهنا قد يسأل الإنسان كيف يرسل الله تعالى ملكين والملائكة كرام مكرمون عند الله عز وجل كيف يرسلهم يعلمون الناس السحر(6/574)
فيقال هذا فتنة من الله عز وجل ولهذا إذا علما الناس قالا {إنما نحن فتنة فلا تكفر} ينصحون الناس لكن الله عز وجل ابتلى الناس بهذا فجعلوا يتعلمون من الملكين يتعلمون منهما ما يسمى بالعقد والصرف وهو من أشد أنواع السحر {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه} يأتي الساحر إلى رجل قد حسنت الحال بينه وبين أهله وقد طابت لهما الحياة فيفرق بين الرجل وزوجته والعياذ بالله تأخذ تصيح إذا قرب إليها وتبكي وتنفر منه وإذا أبعد عنها بكت على فراقه والعياذ بالله فيضرها من الناحيتين من ناحية الاجتماع ومن ناحية الافتراق وكذلك الزوج تجده في شوق عظيم لأهله فإذا أتى إلى أهله ضاق بهم ذرعا وضاق صدره وتمنى أن يموت والعياذ بالله هذا من السحر العظيم قال الله تعالى {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} سبحان الله العظيم من بيده ملكوت السماوات والأرض الله عز وجل هؤلاء السحرة والشياطين مهما اجتمعوا على أمر يريدون أن يضروك به والله تعالى لا يضرك فإنهم لن يضروك {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} تأمل هذا التركيب فإن الجملة هنا اسمية {وما هم بضارين به من أحد} والاسمية تفيد الثبوت والاستغراق ثم إن النفي مؤكد بالباء {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} يعني لا يمكن أبدا أن يضروا أحدا بسحرهم إلا بإذن الله إذا أذن الله بذلك قدرا فالله على كل شيء قدير وإذا شاء عز وجل منع منع كل شر لأنه هو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض وهو خالق الأسباب ومانع الأسباب وهو على كل شيء قدير {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون} أي هؤلاء الناس الذي أرسل إليهم الملكان {ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم} يعني ما فيه الضرر المحض الذي لا نفع فيه إطلاقا ولهذا قال {ما يضرهم ولا ينفعهم} هو ضرر محض في الدين والدنيا والعاقبة الوخيمة وكذلك الظلم الذي يحصل على المسحور(6/575)
فإنه سوف يقضي له بحقه يوم القيامة لن يهمله الله عز وجل {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق} أكد الله هذه الجملة بالقسم واللام وقد أي لقد علم هؤلاء الذين يتعلمون السحر أن الذي يتعلمه ما له في الآخرة من خلاق علموا من أين من قول الملكين {إنما نحن فتنة فلا تكفر} قد علموا وبان لهم الأمر ولكنهم والعياذ بالله اختاروا ذلك ولهذا قال {لمن اشتراه} والشراء إنما يكون عن رغبة وطمع في المبيع ولهذا سمى الله تعالى تعلمه اشتراء {ما له في الآخرة من خلاق} أي ما له نصيب في الآخرة وليس أحد من الناس ليس له نصيب في الآخرة على وجه الإطلاق إلا الكافر المؤمن له نصيب في الآخرة إما أن يدخل الجنة بلا حساب وإما أن يعذب على قدر ذنبه ثم يكون مآله الجنة لكن الكافر ليس له في الآخرة من خلاق أي من نصيب {ولبئس ما شروا به أنفسهم} شروا هنا بمعنى باعوا يعني أن الله ذم هذا الذي اختاروه وباعوا أنفسهم من أجله {لو كانوا يعلمون} يعني لو كانوا ذوي العلم لعلموا أن هذا شر محض والخلاصة أن السحر من كبائر الذنوب وقد يؤدي إلى الكفر وأن عقوبة الساحر أن يقتل سواء كفر بسحره أم لم يكفر لقول النبي صلى الله عليه وسلم حد الساحر ضربه بالسيف وفي لفظ ضربة بالسيف نسأل الله تعالى أن يقي المسلمين شرهم وأن يرد كيدهم في نحورهم وأن يعيننا وإياكم على تعلم الأوراد(6/576)
الشرعية التي يحتمي بها المرء من أعدائه من الشياطين والأنس والله الموفق
1793 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن؟ قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات متفق عليه
[الشَّرْحُ]
تقدم الكلام على أول هذا الحديث وعلى قوله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وذكرنا أن النفوس المحرمة أربعة أنواع المسلم والذمي والمعاهد والمستأمن وأنه لا يجوز قتل واحد منهم إلا بالحق وتكلمنا أيضا عن العهد بين المسلمين وبين الكفار وبينا أنه جائز إذا دعت الحاجة إليه أو المصلحة وأن العلماء اختلفوا رحمهم الله هل يجوز العهد أكثر من عشر سنوات أو لا وهل يجوز العهد المطلق أو لا وذكرنا أنه أي العهد ثلاثة أقسام:(6/577)
عهد مؤبد وهذا لا يجوز وعهد مطلق وهذا جائز على القول الراجح وعهد مؤقت وهذا جائز ثم اختلف القائلون به هل يجوز أن يزيد على عشر سنوات أو لا والصحيح أنه جائز لأنه للحاجة ثم قال وأكل الربا أكل الربا أيضا من الموبقات قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقد ورد من الوعيد على أكل الربا ما لم يرد مثله على أي ذنب سوى الشرك فهو عظيم والعياذ بالله حتى إن الله قال في كتابه يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون فبين الله عز وجل أنه إذا لم يترك الإنسان الربا فإنه معلن للحرب على الله ورسوله {فأذنوا بحرب من الله ورسوله} وأنه إذا تاب فإنه يحرم عليه أن يأخذ أكثر من ماله {فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} وقد استحسن بعض الناس بعقولهم استحسانا مخالفا لشرع الله عز وجل فقالوا إن الإنسان إذا أودع بل إذا جعل أمواله عند أهل الربا فإنه يجوز أن يأخذ الربا ثم يتصدق به تخلصا منه وهذا القول مخالف للقرآن الكريم لأن الله عز وجل يقول {وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} يقولون في وجه استحسانهم إننا لو تركناه للبنوك لكانوا يستعينون به على بناء الكنائس وإعانة الكفار على قتال المسلمين وما أشبه ذلك من الأقوال التي يصادمون بها النص ونقول لهم أولا إن هذا الربح ليس داخلا في ملكه حتى نقول إنه تبرع للبنك به فهو من الأصل لم يدخل في ملكه ماله الذي أودعه عند البنك ربما يشتري به الحاجات أو يدخل في مشروعات ويخسر فهذه الزيادة ليست نماء ملكه بل هي زيادة محضة يسلمها البنك لمن أعطى هذا المال وثانيا من يقول إنهم يستعينون بها يجعلونها في الكنائس والأسلحة ضد المسلمين من قال هذا وثالثا أننا لو قلنا بذلك فهل إذا أخذنا منهم سوف يمسكون عن قتال المسلمين وعن إضلالهم عن دينهم رابعا إذا قلنا بذلك ثم قلنا خذها وتصدق بها فمعنى ذلك أننا قلنا له تلطخ بالنجاسة ثم حاول أن تغسل يدك منها إذا ما الفائدة أن تأخذها ثم تتصدق بها لا فائدة اتركها من الأصل تسلم منها ثم إننا إذا قلنا بذلك فأخذها الإنسان فهل يضمن لنفسه أن يقوي نفسه على التصدق بها ولا سيما إذا كانت كثيرة قد يأخذها بهذه النية ثم تغلبه نفسه فلا يتصدق بها ويأكلها سواء حصل ذلك في أول مرة أو في ثاني مرة أو في ثالث مرة وأيضا إذا قلنا خذها وتصدق بها فأخذها أمام الناس فمن الذي يعلم الناس أنه تصدق بها الناس لا يدرون وربما اتخذوا من فعله هذا قدوة وفعلوا مثل فعله وأكلوا الربا وأيضا فإننا إذا قلنا بذلك استمرينا الدخول في الربا وسهل علينا وصرنا نأخذه لكن إذا قلنا بالمنع سلمنا من الربا من وجه واضطررنا إلى أن نجد سبيلا إلى معاملات شرعية لا تخالف الدين بإنشاء البنوك الإسلامية التي ليست فيها ربا والمهم أن أول شيء نرد به على هذا القول المستحسن وليس بحسن هو أنه مصادم للنص {وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} ولا استحسان للعقول مع وجود النص وكل شيء تستحسنه بعقلك وهو مخالف للنص فهو ليس بحسن بل هو سيئ وعاقبته سيئة ولا تنظر إلى الشيء المستعجل انظر إلى العاقبة والعاقبة في كل ما خالف الشرع لا شك أنها عاقبة سيئة لأن الله يقول {إن العاقبة للمتقين} وهذا يدل على أنه من ليس بمتقي فليس له عاقبة محمودة ولا حسنة ولا يغرنك التحسين المبني على الوهم عليك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا تتجاوزهما إن شئت البركة والخير وأن ينمو جسدك على طاعة الله عز وجل المهم أن أكل الربا من الموبقات والربا يكون في أصناف ستة بينها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير(6/578)
بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد وغالب الربا الآن بين الناس النوعان الأولان الذهب والفضة لأن الأطعمة التبادل فيها قليل والربا فيها أيضا قليل لكن الأكثر في الأموال والعلماء رحمهم الله لما ظهرت هذه الأوراق النقدية التي هي بدل عن الذهب والفضة اختلفوا فيها اختلافا عظيما حتى بلغ الخلاف إلى أكثر من ستة أقوال كل يقول برأي وأقرب الأقوال فيها أنه يجوز فيها ربا الفضل ولا يجوز ربا النسيئة بمعنى أنه يجوز فيها ربا الفضل دون ربا النسيئة إذا اختلفت الأجناس وعلى ذلك فيجوز أن أعطيك عشرة ريالات بالورق وأخذ منك تسعة ريالات بالحديد وما أشبه ذلك لأن الصفة مختلفة وقد جاء في الحديث إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم والقيمة وإن كانت متفقة حسب النظام وتقرير الحكومة لكن الكلام على الحقيقة الذاتية نجد أن الحديد يختلف عن القرطاس حتى في القيمة يختلف يعني لو فرضنا أن قطعة من حديد وورقة من الشارع أردت أن تساوي بينهما لم يكن بينهما سواء بل بينهما فرق فالجنس مختلف والقيمة مختلفة ولولا أن الحكومة جعلت هذه بمنزلة هذه في القيمة فما صارت مساوية لها في القيمة وعلى هذا تكون داخلة تحت قول الرسول(6/579)
صلى الله عليه وسلم فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ثم إن الربا أصناف كثيرة بعضها أقبح من بعض أعظمه وأشده هو أن يأكل الربا أضعافا مضاعفة بحيث إذا حل الدين على الفقير وليس عنده مال يقول له أنذرك لمدة سنة وأزيدك أزيد الدين عليك مثل أن يحل دينه وهو عشر آلاف وليس عنده شيء فيقول أنذرك إلى سنة ونجعله أحد عشر ألفا هذا حرام ولا يجوز سواء جعل ذلك صريحا أو بحيلة بأن قال اشتر مني السلعة بأحد عشر ألفا وبعها علي بعشرة آلاف حتى يكون في ذمته إحد عشر ألفا يتحيل على محارم الله والعياذ بالله والحيلة على محارم الله أقبح من إتيان المحرم صريحا ولهذا تجد الذين يتحيلون على الربا ينطبق عليهم قول الله تعالى {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} فإذا هذه الآية فيها للعلماء قولان الأول أنهم يقومون لأكل الربا وأخذه كالمجانين يعني في تصرفهم في الدنيا يتصرف تصرف المجنون الطائش يريد هذا المكسب الحرام نجد هؤلاء الذي يتحيلون على الربا يتصرفون تصرف المجانين بكل لهف وبكل شغف وبكل وسيلة وفي كل يوم لهم حيلة والقول الثاني في الآية أنهم يقومون من قبورهم يوم القيامة كالذي يقوم مصروعا من الجن نسأل الله العافية أمام العالم وشاهد ومشهود(6/580)
فعلى كل حال الربا محرم سواء كان صريحا أو كان عن طريق المكر والخداع وما كان عن طريق المكر والخداع فهو أشد إثما وأقرب إلى قسوة القلب والعياذ بالله {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} ولهذا تجدهم يفعلون هذه الحيل ويرون أنها حلال وأنه لا بأس بها ولا يكادون يقلعون عنها لكن من فعل المحرم على وجهه الصريح خجل من الله وعرف أنه في معصية وربما ييسر الله له الأمر ويمن عليه بالتوبة وأكل مال اليتيم أيضا من الموبقات واليتيم هو الذي مات أبوه قبل بلوغه واليتيم مسكين بمعنى أنه لا يستطيع الدفاع عن نفسه فيأتي من يسلط على ماله ويأكله هذا أيضا من الموبقات والتولي يوم الزحف يعني القتال مع الكفار إذا تقابل المسلمون والكفار فإن المتولي يكون قد فعل موبقا من موبقات الذنوب والعياذ بالله إلا فيما ذكر الله عز وجل {إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة} وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات يعني أن يرمي الإنسان المرأة الغافلة المؤمنة بالزنا فيقول إنها زنت هذا أيضا من موبقات الذنوب ومثلها أيضا الرجل المحصن قذفه من كبائر الذنوب والله الموفق(6/581)
باب النهي عن المسافرة بالمصحف إلى بلاد الكفار إذا خيف وقوعه بأيدي العدو
1794 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
هذان البابان ذكرهما المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين الأول في تحريم السفر بالمصحف إلى بلاد العدو يعني أنه لا يجوز للإنسان أن يسافر بالمصحف إلى بلاد الكفار وذلك لأنه يخشى أن يقع في أيديهم فيستهينوا به ويذلوه والقرآن أشرف وأعظم من أن يكون في يدي العدو ولهذا ذكر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو وهذا كما قال المؤلف رحمه الله إذا خيف عليه أما إذا لم يخف عليه كما في وقتنا الحاضر فلا بأس فيجوز للإنسان إذا سافر في تجارة أو دراسة في بلد الكفار أن يذهب معه المصحف ولا حرج عليه ولكن يجب أن يعلم أن السفر إلى بلاد الكفار للإقامة في دراسة أو شبهها أي مدة طويلة لا يجوز بشروط ثلاثة الشرط الأول أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات وذلك(6/582)
لأن الكفار أعداء يريدون أن يصدوا الناس عن دين الله فإذا قدم إليهم الشاب الساذج الذي ليس عنده علم أوردوا عليه من الشبهات والشكوك ما يخرجه عن دينه من حيث لا يشعر فمن ليس عنده علم يدفع به الشبهات فإنه لا يحل له أن يذهب إلى بلاد الكفار مهما كان الأمر اللهم إلا للضرورة القصوى كالعلاج يكون معه من يصاحبه ويقيه من شر الناس الشرط الثاني أن يكون عنده دين يحميه من الشبهات وذلك لأن بلاد الكفر بلاد كفر ليس فيها مانع لا من وازع ديني ولا من وازع سلطاني الناس أحرار كما يقولون وهم أحرار في الهوى لكنهم عبيد للهوى في الواقع فإذا لم يكن عنده دين يحميه عن الشهوات فإنه يهلك لأنه سيجد النساء الكاسيات العاريات ويجد الخمور ويجد الشرور فإذا لم يكن عنده دين سقط في الهاوية والشرط الثالث أن يكون هناك ضرورة بأن يسافر لعلم لا يوجد في بلده ويحتاج الناس إليه فهذا لا بأس به فإذا تمت الشروط الثلاثة جاز للإنسان أن يسافر إلى أرض العدو وإلا فإنه لا يحل له هذا كان سيقيم مدة أما رجل سيذهب لتجارة ويشتري ويرجع فهذا أهون(6/583)
باب تحريم استعمال إناء الذهب وإناء الفضة في الأكل والشرب والطهارة وسائر وجوه الاستعمال
1795 - عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم متفق عليه وفي رواية لمسلم: إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب
1796 - وعن حذيفة رضي الله عنه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج والشرب في آنية الذهب والفضة وقال: هن لهم في الدنيا وهي لكم في الآخرة متفق عليه وفي رواية في الصحيحين عن حذيفة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها.(6/584)
1797 - وعن أنس بن سيرين قال: كنت مع أنس بن مالك رضي الله عنه عند نفر من المجوس فجيء بفالودج على إناء من فضة فلم يأكله فقيل له حوله فحوله على إناء من خلنج وجيء به فأكله رواه البيهقي بإسناد حسن.
أما الباب الثاني فهو الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة الذهب والفضة كلاهما معدن مما خلقه الله عز وجل في الأرض وخلقه لنا كما قال تعالى هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا فلنا أن ننتفع بالذهب والفضة على ما أردنا إلا ما جاء الشرع بتحريمه والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة وأخبر أنها للكفار في الدنيا ولنا في الآخرة وأخبر أن الذي يأكل ويشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نا جهنم والعياذ بالله والجرجرة هي صوت الماء إذا جرى في الحلق فهذا الرجل والعياذ بالله يسقى من نار جهنم نسأل الله العافية حتى يجرجر الصوت في بطنه كما جرجر في الدنيا وهذا يدل على أن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة من كبائر الذنوب وأنه لا يحل للمؤمن أن يفعل ذلك أما استعمال الذهب والفضة في غير ذلك فهذا موضع خلاف بين العلماء جمهور العلماء يقول لا يجوز أن يستعمل أواني الذهب والفضة في غير(6/585)
الأكل والشرب كما أنه لا يجوز في الأكل والشرب فلا يجوز أن تجعلهما مستودعا للدواء أو مستودعا للدراهم أو للدنانير أو ما أشبه ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل والشرب فيهما وما سوى ذلك فهو مثله ومن العلماء من أباح ذلك وقال إننا نقتصر على ما جاءنا به النص والباقي ليس حراما لأن الأصل الحل ولهذا كانت أم سلمة رضي الله عنها وهي ممن روى حديث النهي عن الأكل والشرب في آنية الفضة كانت عندها جلجل من فضة وعاء البيبسي وشبهه جلجل من فضة جعلت فيه شعرات من شعرات النبي صلى الله عليه وسلم يستشفي الناس بها إذا مرض الإنسان أتوا إليها وجعلت في هذا الجلجل ماء وراجته في الشعر وشربه المريض فيشفى بإذن الله فهي رضي الله عنها تستعمل الفضة في غير الأكل والشرب وهذا أقرب إلى الصواب أن استعمال الذهب والفضة في غير الأكل والشرب جائز لكن الورع تركه احتياطا لموافقة جمهور العلماء والله الموفق(6/586)
باب تحريم لبس الرجل ثوبا مزعفرا
1798 - عن أنس رضي الله عنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل متفق عليه.
1799 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال: أمك أمرتك بهذا؟ قلت اغسلهما قال بل احرقهما وفي رواية فقال إن هذا من ثياب الكفار فلا تلبسها رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) بابين الباب الأول نهي الرجل أن يلبس الثوب المزعفر يعني الذي صبغ بالعصفر وهو نوع من النبات يشبه الزعفران وذكر فيه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عليه ثوبين معصفرين أو ثوبا معصفرا فقال أمك أمرتك بهذا يعني ينكر عليه فدل ذلك على أنه يكره أو يحرم على الرجل أن يلبس مثل هذه الثياب الصفراء التي تميل إلى الحمرة قليلا وكذلك الثوب الأحمر نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبسه وأخبر أن هذا من لباس الكفار وإذا كان لباس الكفار فإنا قد نهينا أن نتشبه بهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم من تشبه بقوم فهو منهم(6/587)
باب النهي عن صمت يوم إلى الليل
1800 - عن علي رضي الله عنه قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل رواه أبو داود بإسناد حسن قال الخطابي في تفسير هذا الحديث كان من نسك الجاهلية الصمات فنهوا في الإسلام عن ذلك وأمروا بالذكر والحديث بالخير.
1801 - وعن قيس بن أبي حازم قال: دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على امرأة من أحمس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم فقال ما لها لا تتكلم فقالوا حجت مصمتة فقال لها تكلمي فإن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية فتكلمت رواه البخاري.
وأما الباب الثاني فهو الصمت إلى الليل وكانوا في الجاهلية(6/588)
يدينون لله عز وجل بالصمت إلى الليل يعني أن الإنسان يقوم من نومه في الليل ويسكت ولا يتكلم حتى تغيب الشمس فنهى المسلمون عن ذلك لأن هذا يؤدي إلى ترك التسبيح والتهليل والتحميد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقراءة القرآن وغير ذلك وأيضا هو من فعل الجاهلية فلذلك نهي عنه فلا يجوز للإنسان أن يصمت إلى الليل يعني يصمت ولا يتكلم إلى الليل وإذا قدر أن أحدا نذر هذا فإنه لا يفي بنذره فليحل النذر ويكفر كفارة يمين وإذا تكلم الإنسان فلا يتكلم إلا بخير لقول النبي صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت والله الموفق(6/589)
باب تحريم انتساب الإنسان إلى غير أبيه وتوليه إلى غير مواليه
1802 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام متفق عليه.
1803 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كفر متفق عليه.
1804 - وعن يزيد شريك بن طارق قال: رأيت عليا رضي الله عنه على المنبر يخطب فسمعته يقول لا والله ما عندنا من كتاب نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة فنشرها فإذا فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات وفيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة حرام ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل(6/590)
الله منه يوم القيامة صرف ولا عدلا ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا متفق عليه ذمة المسلمين أي عهدهم وأمانتهم وأخفره نقض عهده والصرف التوبة وقيل الحلة والعدل الفداء.
1805 - وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار ومن دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه متفق عليه وهذا لفظ رواية مسلم.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب تحريم انتساب الإنسان إلى غير أبيه أو توليه غير مواليه ذكر رحمه الله شيئين كلاهما لحمة يلتحم الناس بعضهم ببعض به ويدنو بعضهم من بعض الأول: النسب(6/591)
والثاني الولاء وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم الولاء لحمة كلحمة النسب أما النسب فإن الإنسان يجب عليه أن ينتسب إلى أهله أبيه جده جد أبيه..
وما أشبه ذلك ولا يحل له أن ينتسب إلى غير أبيه وهو يعلم أنه ليس بأبيه فمثلا إذا كان أبوه من القبيلة الفلانية ورأى أن هذه القبيلة فيها نقص عن القبيلة الأخرى فانتمى إلى قبيلة ثانية أعلى حسبا لأجل أن يزيل عن نفسه عيب قبيلته فإن هذا والعياذ بالله ملعون عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا وأما إذا انتمى الإنسان إلى جده وأبي جده وهو مشهور ومعروف دون أن ينتفي من أبيه فلا بأس بهذا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم أنا ابن عبد المطلب أنا النبي ولا كذب مع أنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب فعبد المطلب جده ولكنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك في غزوة حنين لأن عبد المطلب أشهر من أبيه عبد الله وهو عند قريش في المكانة العليا فلهذا قال أنا ابن عبد المطلب لكنه من المعلوم أنه محمد بن عبد الله ولم ينتف من أبيه وكذلك أيضا الناس ينتسبون إلى اسم القبيلة فيقول مثلا أحمد بن تيمية وما أشبه ذلك مما ينتسب إلى القبيلة لكن المهم الذي عليه الوعيد هو الذي ينتمي إلى غير أبيه لأنه غير راض بحسبه ونسبه فيريد أن يرفع نفسه ويدفع خسيسته بالانتماء(6/592)
إلى غير أبيه فهذا هو الذي عليه اللعنة والعياذ بالله يوجد والعياذ بالله من يفعل ذلك للدنيا ينتسبون إلى أعمامهم دون آبائهم للدنيا مثل ما يوجد الآن أناس لديهم جنسيتان ينتسب إلى عمه أو إلى خاله أو ما أشبه ذلك لينال بذلك شيئا من الدنيا هذا أيضا حرام عليه ولا يحل عليه ذلك والواجب على من كان كذلك أن يعدل تبعيته وجنسيته وكذلك بطاقته ولا يبقيها على ما هي عليه ومن اتقى الله جعل له من أمره يسرا ورزقه من حيث لا يحتسب والله الموفق أما حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أعلن على المنبر وهو يخطب الناس أنه ليس عندهم شيء خصهم به الرسول صلى الله عليه وسلم إلا كتاب الله وهذا عام لكل أحد والمراد بكتاب الله ما يقرأه المسلمون اليوم من أولهم إلى آخرهم صغارا وكبارا لم يزد فيه أحد ولم ينقص منه أحد وفي هذا رد على الرافضة الشيعة الذين يدعون أن القرآن الكريم قد حذف منه ثلثه وحذفت منه سورة الولاية وما أشبه ذلك فخرجوا عن إجماع المسلمين ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا وفي قسم أمير المؤمنين رضي الله عنه وهو الخليفة الرابع وهو البار الصادق بدون قسم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخصهم بشيء دليل على كذب الرافضة الشيعة الذين يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم عهد بالخلافة إلى علي بن أبي طالب وأن أبا بكر وعمر ظالمون معتدون كافرون منافقون هكذا(6/593)
والعياذ بالله يصفون خير هذه الأمة بهذه الأوصاف نسأل الله العافية ونسأل الله أن يجازيهم بما يستحقون به من عدله إنه على كل شيء قدير فعلي بن أبي طالب إن كانوا صادقين في محبته وولايته وأنهم يتولونه وأنهم شيعته فليصدقوه بهذا اليمين الذي أقسم به على المنبر وهو يخطب الناس معلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خصهم بشيء أبدا إلا كتاب الله الذي يقرؤه المسلمون صغارا وكبارا إلى يومنا هذا والحمد لله ثم نشرها وقرأ فيها شيئا من أسنان الإبل في الزكاة والثياب والجراحات ولم تبين في هذا الحديث ولكنها بينت في مواضع أخرى وذكر فيها أن المدينة حرام ما بين عير إلى ثور فالمدينة لها حرم كحرم مكة لكنه دون حرم مكة في الأوكدية والفضيلة لأن حرم مكة لا يمكن لمؤمن يتم إيمانه إلا أن يقصده حاجا ومعتمرا بخلاف حرم المدينة ثم إن المحرمات في المدينة أخف من المحرمات في مكة ولهذا يجب في حرم مكة في قتل الصيد الجزاء ولا يجب هذا في حرم المدينة وليس هذا موضوع ذكر الفروق بين الحرمين فهي حوالي ستة أو سبعة فروق معروفة وما بين عير إلى ثور معروف أيضا فإن هذا الحرم مساحته بريد في بريد يعني أربعة فراسخ في أربعة فراسخ هذا الحرم يقول النبي صلى الله عليه وسلم من أحدث فيه حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين أحدث حدثا في أي شيء في العقيدة في المنهج في السلوك مخالفا للمسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وكذلك من آوى محدثا يعني أدخله المدينة وهو يعلم أنه صاحب حدث فآواه ونصره وأدخله في منزله وتستر عليه وما أشبه ذلك هذا يكون أيضا مشاركا له في الإثم عليه لعنة الله(6/594)
والملائكة والناس أجمعين الجملة الثانية أن ذمة المسلمين واحدة يعني عهدهم واحد إذا عاهد أحد من المسلمين ممن لهم ولايات العهد وخفر ذمة أحد فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فمثلا إذا دخل كافر إلى البلد في أمان وعهد ممن لهم ولاية العهد أو غيرهم ممن له الأمان ثم خفره أحد استحق اللعنة من الله والملائكة والناس أجمعين لو أن كافرا دخل بأمان وآواه رجل مؤمن آمن كافرا وقال له ادخل وأنت في أماني جواري رجل عادي من المؤمنين ثم جاء إنسان وقتل هذا الكافر وقال هذا كافر لابد أن نقتله رغم أمانه من المسلم فعلى القاتل لعنة الله والملائكة والناس أجمعين نسأل الله العافية كيف إذا دخل بأمان من ولى الأمر على أنه مؤتمن وفي جوار وأمان الدولة ثم يأتي إنسان فيقتله هذا عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وفي هذا دليل على حماية الدين الإسلامي لمن دخل بأمانه وجواره وأن الدين الإسلامي لا يعرف الغدر والاغتيال والجرائم الدين الإسلامي دين صريح ما فيه إلا الصراحة إنسان أمنه مسلمون لابد أن يكون آمنا ولا آمنين الفائدة لابد أن يكون آمنا وبهذا نعرف غلط من يغدرون بالذمم ويخونون ويغتالون أناسا لهم عهد وأمان وأن هؤلاء مستحقون لما أعلنه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين والعياذ بالله نعم الحربي الذي يدخل بدون أمان لم يعطه أحد من المسلمين الأمان(6/595)
ويدخل مستخفيا ليكون جاسوسا للعدو أو مفسدا في الأرض هذا يقتل لأنه لا أمان له أما إنسان دخل بأمان من الدولة أو أمان من أي طرف من المسلمين فيخفر فهذا لا يقتل فهو نفس محترمة معصومة من غدر بها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وبهذا نعرف خطأ ما نسمعه في بعض البلاد من الاعتداء على الآمنين الذين لهم عهد من الدولة تجدهم آمنين بعهد من الدولة ثم يأتي إنسان باسم الإسلام فيغدر لا فالإسلام لا يعرف الغدر يقول الله عز وجل {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} ويقول الله عز وجل {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة} العهد شيء عظيم والغدر به فظيع والعياذ بالله ليس من الإسلام في شيء لكن بعض الجهال يظنون أن يخفوا غيرتهم بما لا يطابق الكتاب والسنة وهذا خطأ المؤمن مقيد بما جاء به الشرع وليس الإسلام بالهوى {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن} لكن الطرق معروفة مبينة واضحة والله أعلم(6/596)
باب التحذير من ارتكاب ما نهى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه
قال الله تعالى {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} وقال تعالى {ويحذركم الله نفسه} وقال تعالى {إن بطش ربك لشديد} وقال تعالى {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} .
1806 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى يغار وغيرة الله أن يأتي المرء ما حرم الله عليه متفق عليه
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب التحذير من الوقوع فيما نهى الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم عنه يعني أن الإنسان يجب أن يكون حذرا من الوقوع في المحرمات ولا(6/597)
يتهاون ولا يغلبه الأمن من مكر الله عز وجل فإن بعض الناس يغره الشيطان يقول افعل المعصية واستغفر الله افعل المعصية ورحمة الله تعالى سبقت غضبه افعل المعصية فقد قال الله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء إلى غير ذلك من الأماني الكاذبة التي يغر بها الشيطان بني آدم {وما يعدهم الشيطان إلا غرورا} فالواجب الحذر مما نهى الله ورسوله عنه ثم استدل المؤلف رحمة الله بآيات من كتاب الله منها قول الله تعالى {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} {فليحذر الذي يخالفون عن أمره} أي عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى يخالفون عنه يخرجون عنه ولا يبالون به ويرتكبونه ليحذروا {أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} فتنة في قلوبهم والعياذ بالله يلقي في قلوبهم الفتنة من الشك فيما يجب اليقين فيه أو الشهوة فيما يحرم تناوله ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله أتدري ما الفتنة يعني في قوله تعالى {أن تصيبهم فتنة} الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك والعياذ بالله فاحذر الفتنة احذر المخالفة عن أمر الله ورسوله أن يصيبك فتنة {أو يصيبهم عذاب أليم} أي عذاب مؤلم إما في الدنيا وإما في الآخرة وقال الله تعالى {يحذركم الله نفسه} يعني احذروا الله عز وجل فإنه شديد العقاب كما قال تعالى {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن(6/598)
عذابي هو العذاب الأليم} وقال تعالى {اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم} فبدأ بالعقاب وثنى بالمغفرة لئلا يغلب الأمن من مكر الله والإنسان إذا أمن من مكر الله أصابه البلاء والعذاب ولهذا قال الله تبارك وتعالى {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} الآمن من مكر الله هو المغالي وإنه يعمل ما يشاء من المعاصي ولا يخافه لكنه في الحقيقة خاسر لأن مآله العذاب والنكال نسأل الله العافية وقال تبارك وتعالى {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله إن الله ليملي للظالم يعني يمهله ويدعه يظلم نفسه حتى إذا أخذه لم يفلته وتلا قوله تعالى {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} فالحذر الحذر من التهاون بمعصية الله عز وجل حتى إن من أهل العلم من قال إن الرجل إذا فعل المعصية متهاونا بها ولو كانت صغيرة صارت كبيرة والعياذ بالله لما قام في قلبه من التهاون بها(6/599)
نسأل الله أن يؤمنا وإياكم من أسباب عقابه وغضبه
[الشَّرْحُ]
سبق لنا الكلام على أنه لا يجوز للإنسان أن يغتر في إمهال الله تعالى له وأن يرتكب المعاصي بناء على أن الله لن يعالجه بالعقوبة وأن هذا من باب الأمن من مكر الله عز وجل وذكرنا أن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وتلا قول الله تعالى كذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد وكثير من الناس يتهاون في هذا الأمر يعصي الله فينهى عن ذلك ويترك الواجب فيؤمر بفعله ويقول {إن الله غفور رحيم} {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وأنا لم أشرك بالله فيقال له إن الذي قال ذلك هو الذي قال {اعلموا أن الله شديد العقاب} وقال {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم} ولا يجوز لك أن تغتر بإمهال الله لك ربما يمهل الله العبد على معاصيه ويستدرجه من حيث لا يعلم حتى إذا أخذه أخذه أخذ عزيز مقتدر والعياذ بالله فإياك أن تتهاون راقب الله عز وجل واعلم أن لكل داء دواء فإذا مسك طائف من الشيطان تذكر واتعظ وأقبل على الله وتب إلى الله عز وجل وكن كمن قال الله فيهم {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}(6/600)
والتوبة لابد فيها من شروط خمسة: 1 - الإخلاص لله عز وجل بألا يحمل الإنسان على التوبة مراعاة أحد من الخلق ولا أن ينال بذلك جاها أو رئاسة بل يخلص النية لله عز وجل خوفا من عقابه ورجاء لثوابه.
2 - الندم على ما فعل من الذنب بحيث لا يتساوى عنده الذنب وعدمه بل يندم على ما حصل منه ويتحسر في نفسه ويقول ليتني لم أفعل هذا لكنه يخضع لقضاء الله وقدره ويتوب إلى الله عز وجل.
3 - الإقلاع عن الذنب بترك المعصية إن كان الذنب معصية أو فعل الواجب إن كان الذنب بترك الواجب يمكن تداركه فأما أن يصر على الذنب ويرجو التوبة فهذا خطأ وهذا من الأماني الكاذبة بعض الناس يقول أستغفر الله وأتوب إليه من الغيبة وهو يغتاب الناس يقول أستغفر الله من الربا وهو يأكل الربا يقول أستغفر الله وأتوب إليه من حقوق الناس وهو يأكل حقوق الناس يماطل في الحق الذي عليه مع قدرته على وفائه وغير ذلك من الأمور التي يكذب بها الإنسان على نفسه في أنه تائب وهو لم يتب وإذا كان الذنب حقا لآدمي فلابد أن يوصله إليه أخذ مالا من شخص سرق منه مالا وجاء يسأل يقول إنه تاب نقول رد المال إلى صاحبه أما بدون أن ترده إلى صاحبه فالتوبة لم تتم كذلك توبته من أكل لحم الناس يغتاب شخصا يسبه في(6/601)
المجالس وقال إنه تاب إلى الله نقول له اذهب واطلب منه أن يحلك حتى تنفعك التوبة وإنما قيدنا هذا بما إذا كان قد علم أنك قد اغتبته وإلا فلا حاجة أن تخبره أثن عليه بالخير في المجالس التي كنت تسبه فيها ثم استغفر الله له.
4 - العزم على ألا يعود يعني لا يتوب إلى الله وهو عازم على أن يعود متى سنحت الفرصة فإن هذه ليست توبة بل يجب أن يعزم على ألا يعود إلى الذنب.
5 - أن تكون التوبة في وقت القبول وذلك بأن يتوب قبل أن يحضره الموت أو قبل أن تطلع الشمس من مغربها فإن لم يتب إلا إذا حضره الموت فإن التوبة لا تنفع.
ومن هذا نعرف أن التوبة واجبة على الفور بدون تأخير لأن الإنسان لا يدري متى يفاجأ بالموت فيجب عليه أن يكون مستعدا نسأل الله تعالى أن يتوب علينا وعليكم وأن يتوفانا على الإيمان.(6/602)
باب ما يقوله ويفعله من ارتكب منهيا عنه
قال الله تعالى {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله} وقال تعالى {إن الذي اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} وقال تعالى {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين} وقال تعالى {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}
1807 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب ما يقوله ويفعله من فعل محرما وذلك أن الإنسان ليس معصوما من الذنب لابد لكل إنسان من ذنوب كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كل بني آدم خطاء وخير الخطائين(6/603)
التوابون وقال صلى الله عليه وسلم لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ثم جاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم فلابد للإنسان من ذنب ولكن ماذا يصنع يجب عليه إذا أذنب ذنبا أن يرجع إلى الله ويتوب إليه ويندم ويستغفر حتى ينمحي عنه ذلك الذنب قال الله تعالى وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله يعني إذا نزغك الشيطان وألقى في قلبك الزيع والمعصية فاستعذ بالله فإذا هممت بمعصية سواء كانت فيما يتعلق بحق الله أو فيما يتعلق بحق المخلوق فقل {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} فإذا قلت ذلك بإخلاص فإن الله يعينك ويعيذك من الشيطان الرجيم ويعصمك منه وقال الله تعالى {إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} أي وقع في قلوبهم زيغ وعملوا عملا سيئا تذكروا اعتبروا {فإذا هم مبصرون} فيعرفون أنهم في غي وحينئذ يستغفرون الله تعالى كما قال في الآية الأخرى التي ساقها المؤلف رحمه الله في أوصاف المتقين {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله} {إذا فعلوا فاحشة} يعني سيئة عظيمة أو ظلموا أنفسهم بما(6/604)
دون ذلك ذكروا الله بقلوبهم وألسنتهم {فاستغفروا لذنوبهم} سألوا الله تعالى أن يغفر لهم {ومن يغفر الذنوب إلا الله} يعني لا أحد يغفر الذنوب إلا الله لو اجتمع أهل الأرض كلهم وأهل السماوات كلهم على أن يرفعوا عنك ذنبا واحدا ما استطاعوا أبدا كل الخلق لو أرادوا أن يمحوا عنك ذنبا واحدا ما استطاعوا لا يغفر الذنوب إلا الله {ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} يعني لم يستمروا في معصيتهم وذنوبهم وهم يعلمون أنهم على ذنب أما لو أنهم فعلوا ذنبا وأصروا عليه وهم لا يعلمون أنه ذنب فإن الله تعالى لا يؤاخذهم لقوله تعالى {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} {أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين} يعني هؤلاء الذين يتصفون بهذه الصفات هذا جزاؤهم عند الله وقال الله تعالى {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} توبوا إلى الله هذه ذكرها الله تعالى بعد الأمر بغض البصر وعدم إبداء الزينة من النساء قال بعد ذلك {وتوبوا إلى الله جميعا} والتوبة إلى الله تعالى هي الرجوع إليه عز وجل من معصيته إلى طاعته ومن الإشراك به إلى توحيده ومن البدعة إلى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرجع الإنسان إلى ربه فيندم على ما فعل ويعزم على ألا يعود ويستغفر الله عز(6/605)
وجل وقوله {لعلكم تفلحون} أي لأجل أن تفلحوا والفلاح هو الفوز بالمطلوب والنحاة من المرهوب والتوبة واجبة من كل ذنب لا تتهاون في الذنوب لا تقل هذا سهل يغفره الله لأنه ربما تتراكم الذنوب على القلب والعياذ بالله فيصبح مظلما وينسد عليه باب الخير كما قال الله تعالى {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} تب إلى الله من كل ذنب وفي الحديث الذي ساقه المؤلف عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله اللات: صنم يعبده الجاهلون في الجاهلية وكذلك العزى كما قال تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} كانوا يحلفون بهما كما يحلفون بالله فيقولون واللات أو والعزى فإذا قال الإنسان واللات والعزى فهذا الشيء يداوى بماذا؟ بالإخلاص إذا حلف بغير الله فليقل لا إله إلا الله شرك يداوى بالإخلاص ولهذا قال فليقل لا إله إلا الله ليداوي الشيء بضده يداوي ومن قال تعال أقامرك فليتصدق هذا أيضا من دواء الشيء بضده المقامرة المخالفة على عوض التي يسمونها الناس الرهن أراهنك أن هذا كذا وكذا ويتراهنون على دراهم أو ما أشبه ذلك فمن قال هذا فقد قال قولا حراما فعليه أن يتوب ومن توبته أن يتصدق بدل ما يتوصوا أن يأخذه بهذه المقامرة فيكون هذا من باب دواء الشيء بضده وكذلك أيضا يقال من فرط في واجب فإن دواءه أن يتوب إلى الله ويكثر من العمل الصالح حتى يكون دواء لذلك نسأل الله تعالى أن يتوب علينا وعليكم ويوفقنا لما يحبه ويرضاه
باب ما يقوله ويفعله من ارتكب منهيا عنه
قال الله تعالى {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله} وقال تعالى {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} وقال تعالى {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين}(6/606)
باب المنثورات والملح
باب: أحاديث الدجال وأشراط الساعة وغيرها
1808 - عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال ما شأنكم؟ قلنا يا رسول الله ذكرت الدجال الغداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال غير الدجال أخوفني عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فكل امريئ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم إنه شاب قطط عينه طافية كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله فاثبتوا قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض قال أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم قلنا يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم قال لا اقدروا له قدره قلنا يا رسول الله وما إسراعه في الأرض قال كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرى وأسبغه ضروعا وأمده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم(6/607)
فيردون عليه قوله فيصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك فبينما هو كذلك إذ بعث الله تعالى المسيح ابن مريم صلى الله عليه وسلم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي إلى حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله ثم يأتي عيسى صلى الله عليه وسلم قوما قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله تعالى إلى عيسى صلى الله عليه وسلم أني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء ويحصر نبي الله عيسى صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبي الله عيسى صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم إلى الله تعالى فيرسل الله تعالى عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ثم يهبط نبي الله عيسى صلى الله عليه وسلم(6/608)
وأصحابه رضي الله عنهم إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم إلى الله تعالى فيرسل الله تعالى طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ثم يرسل الله عز وجل مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة ثم يقال للأرض أنبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر لتكفي من الناس واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث الله تعالى ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة رواه مسلم قوله خلة بين الشام والعراق أي طريقا بينهما وقوله عاث بالعين المهملة والثاء المثلثة والعيث أشد الفساد والذرى بضم الذال المعجمة وهو أعالي الأسنمة وهو جمع ذروة بضم الذال وكسرها واليعاسيب ذكور النحل وجزلتين أي قطعتين والغرض الهدف الذي يرمى إليه بالنشاب أي يرميه رمية كرمي النشاب إلى الهدف والمهرودة بالدال المهملة المعجمة وهي الثوب المصبوغ قوله لا(6/609)
يدان أي لا طاقة والنغف دود وفرسى جمع فريس وهو القتيل والزلفة بفتح الزاي واللام والقاف وروي الزلفة بضم الزاي وإسكان اللام وبالفاء وهي المرآة والعصابة الجماعة والرسل بكسر الراء اللبن واللقحة اللبون والفئام بكسر الفاء وبعدها همزة الجماعة والفخذ من الناس دون القبيلة
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين كتاب المنثورات والملح المنثورات يعني أنها من أبواب متفرقة ليست من باب واحد والملح جمع ملحة وهي ما يستملح ويستعذب ثم ذكر الباب الأول باب الدجال وأشراط الساعة الدجال مبالغة من الدجل وهو الكذب والدجال يعني كثير الكذب الذي لا يتصف إلا بالكذب وأما أشراط الساعة فهي علامات قربها كما قال الله تعالى فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها يعني علاماتها القريبة ثم ذكر حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه الطويل وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال ذات غداة يعني ذات صبح في يوم من الأيام فخفض فيه ورفع يعني أنه تكلم بكلام طويل حتى ظنوا أنه في طائفة(6/610)
النخل يعني ظنوا أنه ذكر في المدينة وأنه قد جاء ولكن الأمر لم يكن كذلك ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم عرف ذلك فيهم فسألهم فقالوا إنك ذكرت الدجال الغداة وخفضت فيه ورفعت فظننا أنه في النخل فقال غير الدجال أخوفني عليكم يعني أخاف عليكم شيئا أشد من الدجال ومن ذلك الرياء حيث ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فسئل عنه فقال الرياء أن الإنسان يرائي في عباداته يصلي لأجل الناس يتصدق لأجل الناس يحسن الخلق لأجل الناس..
فهذا رياء والعياذ بالله والمرائي حابط عمله والرياء من صفات المنافقين كما قال الله تبارك وتعالى {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا} واعلم أيها المرائي أن الله سيفضحك عن قرب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال من راءى راءى الله به يعني أظهر مراءاته وعيوبه عند الناس ومن سمع سمع الله به ثم قال صلى الله عليه وسلم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم يعني لو خرج الدجال وأنا موجود فأنا أكفيكم إياه وإن يخرج يعني وليس فيهم فامرؤ حجيج نفسه يعني كل إنسان يحاج عن نفسه والله خليفتي على كل مؤمن فاستخلف ربه عز وجل أن يكون مؤيدا للمؤمنين واقيا لهم من فتن الدجال الذي ليس بين خلق آدم وقيام الساعة فتنة أشد منها نسأل الله أن يقينا وإياكم فتنته والله الموفق تابع الحديث السابق.(6/611)
روى المؤلف رحمه الله تعالى عند سياق حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه في كتابه رياض الصالحين قال عند سياق هذا الحديث في ذكر الدجال إنه شاب قطط عينه طافية شاب من بني آدم قطط يعني مجتمع الخلق عينه طافية يعني أنه لا يبصر بها كأنه عنبة طافية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فهو أعور خبيث لكن الله عز وجل يرسله فتنة للناس فيأتي إليهم يدعوهم ويدعي أنه رب وقد مكن الله له فكان يأتي القوم يدعوهم فيستجيبون له ويؤمنون به فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت يشاهدون ذلك بأعينهم يقول أيتها السماء أمطري فتمطر أيتها الأرض أنبتي فتنبت لكن ليس بقدرته وقوته بل بإرادة الله عز وجل لكن الله مكن له ابتلاء وامتحانا فيصبحون تروح عليهم سارحتهم يعني الغنم والإبل أكثر ما يكون ذروعا وأوفر ما تكون ذرى وأمدها خواصر تمتلئ بطونها وتمتلئ ضروعها ويكون عليها الشحم ويأتي القوم فيدعوهم فلا يستجيبون له يردونه فينصرف فيصبحون ممحلين ليس لهم من أموالهم شيء الأرض خربت والسماء لا تمطر والمال يمور ولكن هؤلاء هم الذين لهم الأجر والثواب وعاقبتهم حميدة أما الأولون الذين آمنوا به وأمطرت السماء وأنبتت الأرض فهم خاسرون وإن ظنوا أنهم رابحون ويأتي إلى الخربة أرض خربة ما بها بناء وما بها أناس فيقول أيتها الأرض أخرجي كنوزك فتخرج كنوزها وما بها من معادن من ذهب وفضة وغير ذلك فتتبعه كيعاسيب النحل ثم إنه يبقى في الأرض أربعين يوما اليوم الأول طوله طول سنة كم شهرا إثنا عشر شهرا 360 يوما هذا اليوم الأول يوم والثاني مقداره شهر 30 يوما والثالث مقداره جمعة يعني أسبوعا وباقي الأيام وهي سبعة وثلاثون(6/612)
يوما كالأيام المعتادة ولكن الله عز وجل نبه الصحابة قالوا يا رسول الله هذا اليوم الذي كسنة تكفينا فيه صلاة واحدة فيكون عليهم في اليوم كم خمس صلوات قال لهم لا اقدروا له قدره يعني صلوا صلاة السنة كاملة في يوم واحد وهذا مما يؤخذ به يقال إنسان وجب عليه صلاة سنة كاملة في يوم واحد وأيضا يؤخذ به من جهة أخرى وجبت زكاة ماله في يوم واحد وأيضا فيقال يصوم رمضان بعض يوم يعني جزءا من اثني عشر جزءا من هذا اليوم نقول هذا يوم الدجال وسبحان الله الحكيم الذي أكمل لنا الدين قبل أن يموت سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم أنطق الله الصحابة أن يسألوا عن هذا اليوم هل تكفي فيه صلاة واحدة أم لا يوجد الآن في الأرض من يومهم ستة أشهر وليلهم ستة أشهر عند المدار القطبي ستة أشهر والشمس عليهم وستة أخرى والشمس لا يرونها فكيف يصلي هؤلاء يصلون صلاة يوم وليل فقط أو يقدرون لها قدرها نقول يقدرون لها قدرها كيوم الدجال تماما اليوم الثاني من أيام الدجال كشهر كيف تكون فيه الصلاة..
يصلون صلاة شهر واليوم الثالث يصلون صلاة أسبوع واليوم الرابع وما بقي كالعادي ثم سأله الصحابة رضي الله عنهم عن سيره في الأرض هل هو كالسير المعتاد كسير الإبل أو سير الأرجل قال يسير كالغيث اجتذبته الريح والله أعلم كيف كان إسراعه هل يحدث الله له آلات طائرات أو غيرها ما تدري لكنه هذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكون كالغيث سنة وشهر وأربعة وأربعون يوما ثم ينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فيقتله والله الموفق تابع الحديث السابق ساق المؤلف رحمه الله في باب المنثورات والملح وأشرطة الساعة وغيرها حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه الذي حدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء من أشرطة الساعة ومنها الدجال وسبق أن الدجال هو ذو الدجل والكذب والتمويه والتغرير وأنه كافر وأنه يخرج خلة بين الشام والعراق يعني يخرج من طريق بين الشام والعراق من قبل إيران ويتبعه من يهود أصفهان سبعون ألفا وكأنهم والله أعلم يجتمعون هناك ليتبعوا الدجال لأن اليهود أهل دجل وكذب وغدر وخيانة لا يؤمنون وسبق أنه يأتي القوم ويدعوهم من أجابوه منهم حصل لهم القسط والرخاء ومن عصاه حصل لهم عكس وذلك ...
أنت ثم ذكر من فتنته أنه يأتيه شاب ممتلئ شبابا من(6/613)
المسلمين فيقول له أشهد أنك الدجال الذي أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيقطعه نصفين بالسيف، ويجعل واحدة بعيدة عن الأخرى، ثم يدعوه بعد أن قطعه - يا فلان فيجتمع النصفين ببعضهم البعض ويقوم ويقبل على الدجال يتهلل وجهه وكأنه لم يفعل شيئا، ثم يقول له: والله أشهد أنك أنت المسيح الدجال، والله ما ازددت فيك إلا بصيرة فيقتله للمرة الثانية ويقطعه نصفين ثم يدعوه فيأتي ووجهه يتهلل، ثم يأتي الثالثة فيعجز أن يقتله، هكذا من فتنة الدجال والإنسان إذا رأى هذا يغتر بلا شك، ثم إن الله تعالى ينزل عيسى ابن مريم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يداه على أجنحة ملكين، لأن الملائكة أولو أجنحة، ينزلان به من السماء، لأن عيسى الآن حي في السماء، ينزل عند قيام الساعة ليقتل الدجال ينزل، وكأنه والله أعلم قد اغتسل بماء طيب، إذا طأطأ رأسه قطر ماء، وإذا رفعه تحدر منه مثل الجمان، فيحتمل أن هذا ماء ويحتمل أنه عرق والله أعلم، ثم إنه يطلبه أي يطلب الدجال الخبيث الماكر الأعور فلا يحل لكافر يجد ريح عيسى إلا مات - سبحان الله _ نفس عيسى يقتل الكافر ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه وهذا أيضا من آيات الله يعني أنفاسنا نحن لا تعدو إلا شبرا أو نحوه لكن نفس عيسى ينتهي حيث ينتهي طرفه ومعنى ذلك أنه يقتل أناسا كثيرين من الكفار لأن هذا النفس يطير في الهواء ولا يحل لكافر يجد نفسه إلا مات ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق هكذا وصفه النبي صلى الله عليه وسلم وهي لابد أن توجد عند نزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فيبلغ الدجال فيدركه عند باب اللد واللد الآن في فلسطين استعمرها اليهود عليهم لعائن الله إلى يوم القيامة اسعتمروها يدرك عيسى(6/614)
المسيح الدجال فيقتله هناك وبهذا انتهى المسيح الدجال وبقي المسيح رسول الله عيسى صلى الله عليه وسلم والله الموفق ثم يأتي عيسى ابن مريم قوما قد عصمهم الله عز وجل من فتنة الدجال فيمسح على وجوههم ويبشرهم بمنازلهم في الجنة فبينما هم كذلك يعني على حالهم إذا يوحي الله عز وجل إلى عيسى أني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم وهؤلاء العباد ليسوا عباد دين بل عباد قدر {إن كل من في السماوات والأرض إلا أتي الرحمن عبدا} هؤلاء العباد هم يأجوج ومأجوج من كل حدب ينسلون أي من كل مكان مرتفع ينسلون لأن الشعاب والأودية لا تسعهم فتجدهم يصعدون الجبال لينزلوا إلى الأرض من كثرتهم هؤلاء من بني آدم ليسوا جنا ولا جنسا ثالثا بل هم من بني آدم ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى يقول يوم القيامة يا آدم فيقول لبيك وسعديك فيقول الله له أخرج من ذريتك بعثا إلى النار أو قال بعث النار قال يا رب وما بعث النار قال من كل ألف تسعمائة وتسع وتسعين من بني آدم كل هؤلاء في النار إلا واحدا في الألف من بني آدم من أهل الجنة فكبر ذلك على الصحابة وعظم عليهم وقالوا يا رسول الله أينا ذلك الواحد قال لهم صلى الله عليه وسلم أبشروا فإنك في أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج منكم واحد من يأجوج ومأجوج ألفا فاستبشر الصحابة بذلك ثم قال إني لأرجو أن تكونوا ربع(6/615)
أهل الجنة فكبر الصحابة فرحا بنعمة الله عز وجل ثم قال أرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة فكبروا وفرحوا ثم قال أرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة وهذه الثالثة عندي فيها شك لكن قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة مائة وعشرون صفا منهم ثمانون من هذه الأمة المهم أن يأجوج ومأجوج من بني آدم شكلهم شكل بني آدم لا يختلفون عنهم أما ما ورد في بعض الآثار أن منهم القصير المفرط في القصر والطويل في الطول وأن بعضهم يفترش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى كل هذا لا صحة له هم من بني آدم ومثلهم لكنهم أمم عظيمة كما قال تعالى {وهم من كل حدب ينسلون} أي من كل مرتفع لأن الأرض السهلة لا تسعهم من كثرتهم {ينسلون} أي يسرعون كأنهم مسلطون على بني آدم فيقول عز وجل لعيسى إني قد بعثت عبادا لا يدان لأحد بقتالهم يعني ما لأحد على قتالهم من قوة فحرز عبادي إلى الطور يعني احترزوا فيه والطور جبل معروف فيصعد عيسى صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى الطور ويحضرون فيه حتى إنهم يلحقهم من الجوع وشدة المؤنة ما يكون رأس الثور أحب إلى أحدهم من كذا وكذا من الدنانير وحينئذ يرغب عيسى وقومه إلى الله عز وجل يدعون الله تعالى أن يصرف عنهم هذه الأمم التي حاصرتهم في هذا الجبل فيرسل الله تعالى النغف وهو عبارة عن دودة في أعناقهم فيصبحون فرسى جمع فريسة يعني موتى كنفس واحدة كل(6/616)
هذه الأمم التي لا يحصيها إلا الله تموت في ليلة واحدة لأن الأمر بيد الله عز وجل هذا النغف من حين ما يدخل في أعناقهم يموتون على الفور ثم ينزل عيسى ابن مريم وقومه إلى الأرض وإذا الأرض مملوءة من هذه الجثث نتنا ورائحة خبيثة فيرغب عيسى وقومه إلى الله عز وجل أن يفكهم من هذا فيرسل الله تعالى طيورا كأعناق البخت يعني مثل أعناق الإبل طيورا كبيرة قوية تأخذ الواحد منهم وتلقيه في البحر ومعنى هذا أنها طيور عظيمة لا يعلم عددها إلا الله عز وجل كل هذا بقدرة الله سبحانه وتعالى لأن أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون لا تستغرب لا تقل من أين جاءت الطيور وكيف توالدت والله على كل شيء قدير هذه الطيور مثل أعناق الإبل تحمل الواحد وتلقيه في البحر ولا يبقى فيهم أحد..
...
لكن كما تعلمون لابد أن يبقى في الأرض شيء من القذر والأذى والرائحة بعد هذه الجثث فيرسل الله تعالى مطرا عظيما يغسل الأرض لا يكن منه مدر ولا وبر كل الأرض تمتلئ ماء حتى تكون كالزلقة تنظف تنظيفا تاما بإذن الله عز وجل ويأمر الله الأرض أن تخرج بركاتها وثمراتها فيكون فيها الثمرات العظيمة والخير والبركة حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي فئاما من الناس ومن البقر تكفي القبيلة من الناس ومن الغنم تكفي الفخذ من الناس وهي واحدة لكن الله ينزل فيها البركة فتكفي أمما وتكثر الخيرات والبركات وكل هذا يدل على عظمة وقدرة الله عز وجل {فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا} بدلا من حصرتهم في الطور لا يجدون شيئا إذا بالأرض تنبت وتنزل فيها البركة والثمار ...
وغير ذلك كل هذا بأمر الله عز وجل والله الموفق(6/617)
1809 - وعن ربعي بن حراش قال: انطلقت مع أبي مسعود الأنصاري إلى حذيفة بن اليمان رضي الله عنهم فقال له أبو مسعود حدثني ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدجال قال إن الدجال يخرج وإن معه ماء ونارا فأما الذي يراه الناس ماء فنار تحرق وأما الذي يراه الناس نارا فماء بارد عذب فمن أدركه منكم فليقع في الذي يراه نارا فإنه ماء عذب طيب فقال أبو مسعود وأنا قد سمعته متفق عليه.
1810 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما فيبعث الله تعالى عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فيطلبه فيهلكه ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ثم يرسل الله عز وجل ريحا باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا فيتمثل لهم الشيطان فيقول ألا تستجيبون فيقولون فما تأمرنا فيأمرهم بعبادة الأوثان وهم في ذلك دار رزقهم حسن عيشهم ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا وأول(6/618)
من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق ويصعق الناس حوله ثم يرسل الله أو قال ينزل الله مطرا كأنه الطل أو الظل فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ثم يقال يا أيها الناس هلم إلى ربكم {وقوفهم إنهم مسؤولون} ثم يقال أخرجوا بعث النار فيقال من كم فيقال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فذلك يوم يجعل الولدان شيبا وذلك يوم يكشف عن ساق رواه مسلم الليت صفحة العنق ومعناه يضع صفحة عنقه ويرفع صفحته الأخرى.
1811 - وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة وليس نقب من أنقابهما إلا عليه الملائكة صافين تحرسهما فينزل بالسبخة فترجف المدينة ثلاث رجفات يخرج الله منها كل كافر ومنافق رواه مسلم.
1812 - وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يتبع الدجال(6/619)
من يهود أصبهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة رواه مسلم.
1813 - وعن أم شريك رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لينفرن الناس من الدجال في الجبال رواه مسلم.
1814 - وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال رواه مسلم.
1815 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يخرج الدجال فيتوجه قبله رجل من المؤمنين فيتلقاه المسالح مسالح الدجال فيقولون له إلى أين تعمد فيقول أعمد إلى هذا الذي خرج فيقولون له أو ما تؤمن بربنا فيقول ما بربنا خفاء فيقولون اقتلوه فيقول بعضهم لبعض أليس قد نهاكم ربكم أن تقتلوا أحد دونه فينطلقون به إلى الدجال فإذا رآه المؤمن قال يا أيها الناس إن هذا الدجال الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر الدجال به فيشبح فيقول خذوه وشجوه فيوسع ظهره وبطنه ضربا فيقول أوما تؤمن بي فيقول أنت المسيح الكذاب فيؤمر به فيؤشر بالمنشار من مفرقه(6/620)
حتى يفرق بين رجليه ثم يمشي الدجال بين القطعتين ثم يقول له قم فيستوي قائما ثم يقول له أتؤمن بي فيقول ما ازددت فيك إلا بصيرة ثم يقول يا أيها الناس إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس فيأخذه الدجال ليذبحه فيجعل الله ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسا فلا يستطيع إليه سبيلا فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار وإنما ألقي في الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين رواه مسلم وروى البخاري بعضه بمعناه المسالح هم الخفراء والطلائع.
1816 - وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: ما سأل أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدجال أكثر مما سألته وإنه قال لي ما يضرك قلت إنهم يقولون إن معه جبل خبز ونهر ماء قال هو أهون على الله من ذلك متفق عليه.
1817 - وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب ألا إنه أعور وإن ربكم عز وجل(6/621)
ليس بأعور مكتوب بين عينيه ك ف ر متفق عليه.
1818 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أحدثكم حديثا عن الدجال ما حدث به نبي قومه إنه أعور وإنه يجيء معه بمثال الجنة والنار فالتي يقول إنها الجنة هي النار متفق عليه.
1819 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال بين ظهراني الناس فقال إن الله ليس بأعور ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث الكثيرة التي ساقها المؤلف رحمه الله تعالى في بيان الدجال هي جديرة بأن تساق وتذكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما بين خلق آدم(6/622)
وقيام الساعة أمر أكبر من الدجال ولذلك ما من نبي من الأنبياء إلا أنذر قومه به مع أنه لا يأتي إلا في آخر الزمان والله عز وجل يعلم أن محمدا خاتم الأنبياء ومع ذلك أنذر به الأنبياء السابقون والحكمة من هذا التنويه بفتنته وبيانها وأنها عظيمة وإن كان لن يأتي إلا في آخر الدنيا ففتنته عظيمة وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الدجال يدخل كل بلد يدعو الناس والعياذ بالله لعبادته إلا مكة والمدينة فإنه لا يدخلهما لأن عليهما الملائكة على كل باب منهما يذودون عنهما عن مكة والمدينة وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتبعه من يهود أصفهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة وهو نوع رفيع من الثياب المعنى أنه يتبعه من أصفهان وهي معروفة من مدن إيران يتبعه منها سبعون ألفا وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعور وأن الرب عز وجل ليس بأعور لأن العور نقص والله عز وجل منزه عن كل نقص واستدل أهل السنة والجماعة من هذا الحديث على أن ربنا جل وعلا له عينان لكنهما لا تشبهان أعين المخلوقين لقوله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وذكر أيضا في هذه الأحاديث أن رجلا شابا مسلما يخرج إذا سمع به ليبين للناس كذبه فيتلقاه حرس الدجال المتسلحون ويقولون أين تريد يقول أريد هذا الرجل الذي خرج فيأخذونه ويقولون أتؤمن بربنا فيقول لا إنه الدجال فيريدون أن يقتلوه ولكن بعضهم يقول لبعض أليس قد قال ربنا لا تقتلوا أحدا دوني فيتركونه ثم يأتون به(6/623)
إلى الدجال فيشهد هذا الرجل المسلم أنه هو الدجال الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فيغضب عليه ويأمر بالمنشار فينشر من رأسه إلى ما بين رجليه يعني شقه طولا ويجعل كل فرقة منه في جانب روية الغرر كما جاء في الحديث السابق ويمشي بينهما ثم يدعوه فيخرج ويقوم يتهلل وهو يقول والله ما ازددت فيك إلا بصيرة يفعل هذا مرتين أو ثلاثة ثم يريد أن يقتله ويعجز يجعل الله تعالى هذا الرجل حديدا لا يستطيع أن يقتله وهذا إما يكون حديدا حقا والله على كل شيء قدير وإما أن يكون صلبا لا تنفذ فيه السيوف هذه كلها صفات الدجال ومنها أيضا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن معه نارا وجنة ولكن ناره جنة وجنته نار ولما سأل أبو هريرة رضي الله عنه إنهم يقولون إن معه جبلا من خبز قال إنه أهون على الله من ذلك يعني حتى لو كان معه هذا الشيء فإنه أهون على الله من ذلك أو أن المعنى أنه لا يكون معه هذا لكنه مموه.
وعلى كل حال فإننا نؤمن أنه سيكون في آخر الزمان رجل يخرج يسمى الدجال من أوصافه ما ذكر في هذا الباب وغيره ونستعيذ بالله منه في كل صلاة كل صلاة أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير أن نستعيذ بالله من عذاب جهنم وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال منه ومن فتنة المحيا والممات ومن عذاب القبر ومن عذاب النار.
1820 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا(6/624)
تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود متفق عليه
1821 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل بالقبر فيتمرغ عليه ويقول يا ليتني مكان صاحب هذا القبر وليس به الدين وما به إلا البلاء متفق عليه
1822 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب يقتتل عليه فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون فيقول كل رجل منهم لعلي أن أكون أنا أنجو وفي رواية يوشك أن يحسر الفرات عن كنز من ذهب فمن حضره فلا يأخذ منه شيئا متفق عليه(6/625)
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين فيما ذكره من أشراط الساعة ما نقله عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه لا تقوم الساعة حتى يقتتل المسلمون واليهود المسلمون بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم هم أتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأما قبل ذلك فالمسلم من اتبع الشريعة القائمة فقوم موسى في عهد موسى مسلمون والنصارى في عهد عيسى مسلمون ومن آمن من قوم نوح مسلمون وهكذا كل من كان مؤمنا برسول قائمة رسالته فهو مسلم لكن بعد بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ليس مسلما إلا من آمن به صلى الله عليه وسلم وإلا فلا يخفاكم أن الحواريين قالوا نحن أنصار الله وأن ملكة سبأ قالت إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين وغير ذلك مما هو معروف اليهود هم اتباع موسى سموا بذلك نسبة إلى جدهم يهوذا فهم ينتسبون إليه لكن مع التعريب صاروا يهود بالدال وهي أمة ملعونة غدارة خوانة مكارة واصفة لربها بالعيب والنقص قالوا أي اليهود يد الله مغلولة وقالوا {إن الله فقير} وقالوا إن الله تعب حين خلق السماوات والأرض فاستراح يوم السبت..
إلى غير ذلك مما وصفوا الله تعالى به بالنقائص والعيوب أما الرسل فحدث ولا حرج كفروا بالرسل وقتلوهم بغير حق وقتلوا المسيح عيسى ابن مريم بزعمهم {وما قتلوه وما صلبوه} فهم(6/626)
أخبث أمة من الأمم وهم قوم خونة غدارة لا يوفون بعهد ولا ذمة ولا يؤتمنون على شيء قبل يوم القيامة يقاتلون المسلمين وتأمل كلمة المسلمين يقتتل المسلمون واليهود فينصر المسلمون عليهم نصرا عزيزا حتى إن اليهودي يختبئ بالحجر وبالشجر فيقول الشجر والحجر فينطق بأمر الله الذي أنطق كل شيء فيقولان يا مسلم هذا يهودي تحتي فاقتله أحجار تنطق وأشجار لماذا لأن القتال بين المسلمين وبين اليهود أما بين العرب واليهود فهذا الله أعلم من ينتصر لأن الذي يقاتل اليهود من أجل العروبة فقد قاتل حمية وعصبية ليس لله عز وجل ولا يمكن أن ينتصر ما دام قتاله من أجل العروبة لا من أجل الدين والإسلام إلا أن يشاء الله لكن إذا قاتلناهم - أي اليهود - من أجل الإسلام ونحن على الإسلام حقيقة فإننا غالبون بإذن الله حتى الأحجار والأشجار تتكلم لصالحنا وضد اليهود أما ما دامت المسألة عصبية وعروبة وما أشبه ذلك فلا ضمان للنصر أبدا ولهذا لا يمكن أن يقوم للعرب قائمة على هذا الأساس أي أساس العروبة والدليل على هذا الواقع فقد طحنوا وخبزوا عليها ولم تستفد شيئا بل بالعكس صارت النكبات العظيمة من اليهود على العرب شيئا عظيما احتلوا ديارهم وحاصروهم وآذوهم لكن لو كان القتال من أجل الإسلام وباسم المسلمين ما قامت لليهود قائمة لكن من جهل العرب صاروا يقاتلون اليهود(6/627)
من أجل العروبة ولذلك لم ينصروا عليهم حتى الآن الانتصار على اليهود حقيقة في الإسلام لا غيب ولن تقوم الساعة حتى يحصل ما أخبر به الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون وينتصرون عليهم ويظهرون عليهم وينادي الحجر والشجر الذي ليس من عادته أن ينطق يا مسلم هذا يهودي فاقتله كذلك أيضا من أشراط الساعة والذي لابد أن يكون أن الفرات وهو النهر المعروف في شرقي أقصى الجزيرة يحسر عن ذهب جبل من ذهب أو كنز من ذهب تحسر بمعنى أن الذهب يخرج جبلا والذهب معروف
رأيت الناس قد ذهبوا ...
إلى من عنده ذهب
فالذهب يسلب العقول سوف يحسر هذا الماء النهر الجاري عن جبل من ذهب سبحان الله كل إنسان يقاتل غيره ويقول لعلي أنا الذي أنجو ويقاتل من أجل أن يحصل على الذهب..
البترول لأجل أن يحصل على البترول وصاروا يسمونه الذهب الأسود فالله أعلم بما أراد رسول الله لكننا إلى الآن لا نعرف الذهب إلا أنه ذلك المعدن الأصفر المعروف فنبقى على ما هو عليه ووراءنا أجيال فالدنيا لم تنته بعد حتى نوقف الحديث على الواقع الذي نحن فيه بل ننتظر ما أخبر به الصادق المصدوق ولابد أن يقع ويقتتل الناس عليه وهذا من أشراط الساعة لكنه لم يأت بعد والله الموفق(6/628)
1823 - وعنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يتركون المدينة على خير ما كانت لا يغشاها إلا العوافي يريد عوافي السباع والطير وآخر من يحشر راعيان من مزينة يريدان المدينة ينعقان بغنمها فيجدانها وحوشا حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرا على وجوههما متفق عليه
1824 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يكون خليفة من خلفائكم في آخر الزمان يحثو المال ولا يعده رواه مسلم
1825 - وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب فلا يجد أحدا يأخذها منه ويرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يلذن به من قلة الرجال وكثرة النساء رواه مسلم
1826 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اشترى رجل من رجل عقارا فوجد الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب(6/629)
فقال له الذي اشترى العقار خذ ذهبك إنما اشتريت منك الأرض ولم أشتر الذهب وقال الذي له الأرض إنما بعتك الأرض وما فيها فتحاكما إلى رجل فقال الذي تحاكما إليه ألكما ولد قال أحدهما لي غلام وقال الآخر لي جارية قال أنكحا الغلام الجارية وأنفقا على أنفسهما منه وتصدقا متفق عليه
1827 - وعنه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت لصاحبتها إنما ذهب بابنك وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك فتحاكما إلى داود صلى الله عليه وسلم فقضي به للكبرى فخرجتا على سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم فأخبرتاه فقال ائتوني بالسكين أشقه بينهما فقالت الصغرى لا تفعل رحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى متفق عليه
[الشَّرْحُ]
في هذا الباب الذي عقده النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في المنثورات والملح تقدم ما تقدم من ذكر الدجال ويأجوج ومأجوج وذكر أحاديث في هذا المجلس تدل على أن المدينة النبوية زادها الله تشريفا وتعظيما أنه يخرج عنها(6/630)
أهلها ولا يبقى فيها إلا العوافي أي السباع والطيور ليس فيها أحد لكن هذا لم يأت بعد ولكن هذا لم يأت بعد ولكن ما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فسوف يقع لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى ومنها كثرة المال حيث أخبر صلى الله عليه وسلم أنه يقوم في آخر الزمان خليفة يحثو المال ولا يعده يعني أنه ينفق إنفاقا بلا عدد لكثرة الأموال ومنها أيضا حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهذا ليس من أشراط الساعة لكن من الملح أن رجلا اشترى من رجل أرضا فوجد فيها جرة من ذهب فذهب المشتري إلى البائع وقال خذ هذا فإنما اشتريت أرضا ولم أشتر الذهب فقال البائع أنا بعت الأرض وما فيها هذا يدل على ورعهما فكل واحد ورع يقول ليس لي هذا المال فتحاكما إلى رجل فقال لأحدهما ألك ابن قال نعم وقال للثاني ألك جارية قال نعم فقال زوجا الابن بالجارية واجعلا هذا الذهب للمهر والنفقة ففعلا ففي هذا دليل على أنه يوجد من الناس من هو ورع إلى هذا الحد أما حكم هذه المسألة فقال العلماء رحمهم الله إن الإنسان إذا باع أرضا على شخص ووجد المشتري فيها شيئا مدفونا فيها من ذهب أو غيره فإنه لا يملكه بملك الأرض ولكنه للبائع وإذا كان البائع اشتراها من آخر فهي للأول لأن هذا المدفون ليس من الأرض بخلاف المعادن لو اشترى أرضا ووجد فيها معدنا من ذهب أو فضة أو حديد أو غيره فإنه يتبع الأرض هذا من الملح(6/631)
ومنها أيضا حديث أبي هريرة في قصة امرأتين خرجتا بابنين لهما فأكل الذئب ابن واحدة منهما وبقي ابن الأخرى فقالت كل واحدة منهما إنه لي فتحاكما إلى داود عليه السلام فقضى به للكبرى اجتهادا منه لأن الكبرى ربما تكون قد توقفت عن الإنجاب أما الصغرى شابة وربما تنجب غيره في المستقبل ثم خرجتا منه إلى سليمان ابنه فأخبرتاه بالخبر فدعا بالسكين وقال أشقه بينكما نصفين أما الكبرى فرحبت وأما الصغرى فأبت وقالت هو ابنها أدركتها الشفقة لأنه ابنها حقيقة هو للصغرى وليس للكبرى ولكن الكبرى لن تبال لأنه ابن غير هام لا يهمها أن يذهب كما ذهب ولدها الذي أكله الذئب لأنه ليس ولدها لكن الصغرى أدركتها الرحمة فقالت هو بنيها يا نبي الله فقضى به للصغرى بأي بينة القرينة لأن كونها ترحم هذا الولد وتقول هو للكبرى ويبقى حيا وإن كان سيكون عند غيرها لكن بقاؤه حيا ولو كان عند غيرها أهون من شقه نصفين فقضى به للصغرى أخذ العلماء من هذا الحديث العمل بالقرائن وأنه يجوز للقاضي أن يحكم بالقرائن إذا كانت قوية ومن ذلك ما حصل بين امرأة العزيز ويوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام فمن المعلوم أن يوسف حبس في السجن وكان صلى الله عليه وسلم جميلا جدا حتى إنه أعطى نصف الحسن فامرأة العزيز وهي امرأة ملكة لها حسب ولها منزلة لكن عجزت أن تملك نفسها حتى مكرت به وكادت له وأدخلته في البيت وغلقت الأبواب ودعته إلى نفسها والعياذ بالله ولكنه(6/632)
عصمه الله عز وجل فلحقته وأمكست بثوبه وانشق الثوب من الخلف ووجدا سيدها لدى الباب وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم هذا حصل قبل السجن {قال هي راودتني عن نفسي} وهذا قبل أن يسجن ليس عنده بينة والمرأة قد لحقته وهو يريد الخروج ومن يصدق سوف يكون المصدق في هذه الحال امرأة العزيز لأنها ذات حسب وزوجة الملك فلا يمكن أن تذل نفسها للخادم ولكن {قال هي راودتني عن نفسي} فحكم حاكم من أهل البيت قال انظروا إلى قميصه ثوبه إن كان قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين لأنه إذا كان من قبل يعني أنه الطالب المراود وأرادت التخلص منه فمزقت ثوبه وإن كان من دبر فهو قد هرب منها ولحقته {فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم} وصار الصادق يوسف وليس معه بينة تشهد ولكن هناك قرينة وهذا لا شك أنه قاعدة جليلة للقاضي ولمن جعل حكما بين الناس..
والله الموفق(6/633)
1828 - وعن مرداس الأسلمي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يذهب الصالحون الأول فالأول وتبقى حثالة كحثالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله بالا رواه البخاري
1829 - وعن رفاعة بن رافع الزرقي رضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال ما تعدون أهل بدر فيكم قال من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها قال وكذلك من شهد بدرا من الملائكة رواه البخاري
1830 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أنزل الله تعالى بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم متفق عليه
[الشَّرْحُ]
هذه أيضا من الأحاديث التي ذكرها النووي في آخر كتابه رياض الصالحين من الملح منها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يذهب الصالحون الأول فالأول ثم يبقى حثالة كحثالة الشعير أو التمر لا يبالي الله بهم بالا يعني لا يبالي بهم ولا يرحمهم ولا ينزل عليهم الرحمة فالصالحون يذهبون الأول وهذا الحديث يشبه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه حين جاء الناس إليه يشكونه ما وجدوا من الحجاج بن يوسف الثقفي(6/634)
فأخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يأتي على الناس زمان إلا وما بعده شر منه حتى تلقوا ربكم فهذا الحديث يشبه الحديث الذي أشرنا إليه ولذلك تجد الناس يتردون كل عام عن العام الذي قبله يذهب الصالحون الأول فالأول فيما سبق تجد الناس يتهجدون في الليل يصومون في النهار يتصدقون من أقواتهم يؤثرون على أنفسهم في اليوم تجد الناس تغيروا من سنة إلى أخرى إلى أردى من قبل سهروا في الليل على غير طاعة الله ونوم في النهار أو لهو أو بيع وشراء يشتمل على الغش والكذب والخيانة والعياذ بالله فالناس إلى أردأ لكن مع ذلك في الناس خير لا شك يوجد أناس ولله الحمد على دين الله مستقيمين على ما يبدو لكن العبرة بالعموم والشمول ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الثالث الذي رواه البخاري أنه إذا أنزل بهم العذاب شمل الجميع كما قال تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب لكنهم يبعثون يوم القيامة على نياتهم كل على ما هو عليه ولذلك يجب الحذر من أن يكون الإنسان من الحثالة التي كحثالة الشعير أو التمر وأن يحرص على أن يستقيم على أمر الله حتى لو كان الناس قد هلكوا فإنهم إن أصيبوا بالعذاب فإنه يبعث كل إنسان على نيته(6/635)
كذلك أيضا من الملح أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له ما تعدون أهل بدر فيكم قال النبي صلى الله عليه وسلم من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها قال وكذلك الملائكة الذين قاتلوا في بدر بدر اسم مكان بين مكة والمدينة معروف كان فيه وقعة بين المسلمين والمشركين سببها أن أبا سفيان صخر بن حرب كان رئيسا في أهل مكة وكان قدم من الشام بميرة عير فيها طعام لأهل مكة فلما سمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أنه قادم إلى مكة أخبر أصحابه بذلك وكان أهل مكة قد أخرجوا المسلمين من ديارهم وأموالهم واستباحوها فكان للمؤمنين أن يستبيحوا أموال الكفار جزاء وفاقا فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ليخرجوا إلى هذه العير فقط فخرج معه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا يعني ما بين العشرة إلى العشرين يعني مائة وعشرون أو ثلاثمائة وعشرون ليس معهم سلاح ما معهم إلا سبعون بعيرا يتعاقبونها وفرسان فقط لأنهم لم يخرجوا لقتال وإنهم خرجوا للعير يأخذونها ويرجعون أبو سفيان كان رجلا محنكا ذكيا أرسل إلى أهل مكة وقال لهم أنقذوا عيركم محمد وأصحابه سيخرجون إلينا ليأخذوها ثم سلك طريق البحر بعيدا عن المدينة وقريش لما سمعت بهذا أخذتها حمية الجاهلية فاستنفروا ونفروا جميعا بكبرائهم وعظمائهم لحكمة أرادها الله عز وجل فلما خرجوا ظاهر مكة جاءهم الخبر أن أبا سفيان سلم ونجا لأنه سلك طريق البحر بعيدا عن المدينة ولم يدركه الرسول وأصحابه فتشاوروا فيما بينهم قالوا مادامت العير نجت فنرجع إلى مكة وما لنا والحروب فقال كبراؤهم كأبي جهل وغيره والله ما نرجع إلى مكة أبدا حتى نصل إلى بدر وهي نقطة المفرق بين(6/636)
مكة والمدينة والشام ننحر الجزور ونشرب الخمور نعوذ بالله وتعزف علينا القيان فرحا وطربا وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدا أعوذ بالله خرجوا كما قال الله عز وجل {خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس} فصمموا على أن يقابلوا الرسول صلى الله عليه وسلم ويلتقوا في بدر كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا وقريش تسعمائة رجلا لكن قريشا مستعدة للحرب بعتادها وقوتها والرسول صلى الله عليه وسلم ما استعد ولكن الله عز وجل جمع بينهما على غير ميعاد لينفذ ما حكم وأراد عز وجل فالتقوا وفي هذا يقول الله عز وجل {إذ يريكهم الله في منامك قليلا} فقد رآهم الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام قليلا ليتشجع على لقائهم {ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم} سبحان الله هم يرون الصحابة قليلين والصحابة يرونهم قليلين حتى يتحفز كل واحد لمقابلة الآخر فالتقوا وحدثت معركة وقتل من أهل مكة سبعون وأسر سبعون وقتل من المسلمين سبعون رجلا سبحان الله {وتلك الأيام نداولها بين الناس} المهم أنه حدثت الواقعة وقاتلوا قتالا شديدا وقتل صناديد قريش ومنهم السبعة أو الثمانية الذين ألقوا سلا الجزور على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد تحت الكعبة في هذه القصة المشهورة والتي دعا فيها الرسول عليهم قائلا اللهم عليك بقريش اللهم عليكم بقريش اللهم عليك بفلان وفلان وعددهم فقتلوا في بدر ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بهؤلاء الصناديد الكبراء وألقوا في قليب بئر منتنة خبيثة وبقى الرسول صلى الله عليه وسلم منصورا مظفرا في ذلك(6/637)
المكان ثلاثة أيام وكان من عادته إذا قاتل قوما وانتصر عليهم أن يبقى في العرسة ثلاثة أيام..
إلى آخر ما هو مشهور عن تلك القصة المهم أن الذين قاتلوا في بدر وهم ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا هم من أفضل المسلمين أتدرون ماذا قال لهم ربهم عز وجل قال {اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم} كل ذنب يفعله واحد من أهل بدر مهما كان عظمه فهو مغفور له لكنهم لم يكفروا وحصل هذا تطبيقا فإن أحدهم لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب إلى قريش في غزوة الفتح أرسل حاطب وهو ممن حضروا معه بدرا امرأة معها كتاب إلى قريش قال لهم إن الرسول صلى الله عليه وسلم سيغزوكم فانتبهوا فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فأرسل رجلين أحدهما علي بن أبي طالب إلى هذه المرأة وأدركوها في روضة خاء وأمسكوا بها وقالوا لها إلى أين قالت إلى مكة وماذا معك قالت لا شيء قالوا لها إما أن تعطينا ما معك وإلا كشفنا عنك فأخرجته لهم وإذا هو كتاب من حاطب بن بلتعة رضي الله عنه وهو ممن شهد بدرا فجاءوا به للرسول صلى الله عليه وسلم وعرضوه عليه فدعاه قائلا ما هذا يا حاطب كيف تخون كيف ترسل إلى قريش بأخبارنا وهذا يسمى عند الناس جاسوسا اعتذر بعذر قال عمر أو غيره من الصحابة يا رسول الله أنا أضرب عنقه فإنه قد خان الله ورسوله قال صلى الله عليه وسلم أما علمت أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فوقعت هذه الفعلة القبيحة الشنيعة(6/638)
وقعت موقع مغفرة لماذا لأن الرجل من أهل بدر فهم رضي الله عنهم وجمعنا وإياكم معهم في جنات النعيم فالذي منع الرسول أن يقتل هذا الرجل أنه شهد بدرا وعلى هذا إذا وجدنا جاسوسا من المسلمين يخبر الكفار بأخبارنا وجب قتله حتى لو قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وجب قتله بدون استثناء لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمنعه من قتل حاطب إلا كونه من أهل بدر وهي مزية لن تحصل إلى يوم القيامة وقد استدل العلماء رحمهم الله بهذا الحديث على أن الجاسوس يقتل سواء أكان مسلما أم كافرا على كل حال لأنه يفضي بأخبارنا إلى أعدائنا والله الموافق
1831 - وعن جابر رضي الله عنه قال: كان جذع يقوم إليه النبي صلى الله عليه وسلم يعني في الخطبة فلما وضع المنبر سمعنا للجذع مثل صوت العشار حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه فسكن وفي رواية: فلما كان يوم الجمعة قعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق وفي رواية: فصاحت صياح الصبي فنزل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذها فضمها إليه فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت حتى استقرت قال(6/639)
بكت على ما كانت تسمع من الذكر رواه البخاري
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث المنثورة التي ذكرها المؤلف رحمه الله في آخر كتابه رياض الصالحين حديث جابر وفيه آية من آيات الله عز وجل وآية لرسوله صلى الله عليه وسلم واعلم أن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا آتاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر لأنه لو أرسل رسولا بدون آية تدل على أنه رسول الله ما صدقه أحد ولكان للناس عذر في رد قوله ولكن الله تعالى بحكمته ورحمته ما أرسل رسولا إلا آتاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر الآيات يعني العلامات التي تدل على صدقه وآيات النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة ومن أراد الاستزادة منها فعليه بكتابين أحدهما الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح فقد ذكر رحمه الله شيخ الإسلام في هذا الكتاب في آخره من آيات النبي صلى الله عليه وسلم الكونية والشرعية ما لم يحصل لغيره رحمه الله رحمة واسعة والثاني البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله فآيات الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة منها ما ذكره جابر كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى جزع نخلة فلما صنعت له امرأة من الأنصار منبرا يخطب عليه فإذا بالجزع يحن حنان العشار وأحيانا يبكي بكاء الصبي لفقد النبي صلى الله عليه وسلم الله أكبر جماد..
جزع..
يبكي لفقد الرسول صلى الله عليه وسلم(6/640)
والآن قمم عظيمة فقدت لا يبكي لها أحد أعاننا الله وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته نزل النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يسكته كما تسكت الأم صبيا وهو جماد فسكت الجزع فكان في هذا آتيان 1 _ صياح الجزع لما فقد النبي صلى الله عليه وسلم 2_ سكوت الجزع لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم يسكته ونظيرها آية وقعت لموسى عليه السلام فقد آذاه بنو إسرائيل أذية عظيمة كما قال الله عز وجل يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا من جملة ما قالوا فيه إنه آذر يعني كبير الخصيتين وهو عيب وكان صلى الله عليه وسلم يستتر إذا اغتسل وكانوا هم يغتسلون عراة فقالوا إن موسى لا يستتر إلا لما فيه من عيب فأراد الله عز وجل أن يريهم أنه لا عيب فيه بغير اختيار موسى نزل يغتسل مرة ووضع ثوبه على حجر فلما كان يغتسل هرب الحجر ذهب يسعى يشتد فلحقه موسى يقول ثوبي حجر ثوبي حجر يعني أعطني ثوبي يا حجر والحجر سائر حتى وصل إلى ملأ من بني إسرائيل فشاهدوا موسى بلا عيب والحمد لله ثم وقف الحجر فجعل موسى يضربه لأنه فعل فعل ما يفعله العاقل فاستحق أن يؤدبه بالضرب مثل ذلك ما تفعله الأمهات بأولادها الصغار إذا عثر الطفل أو ضربه شيء جعلت تضرب ما أعثره لأجل أن تسكت الصبي وتطيب خاطره المهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينزل يسكت الجزع فسكت وهذه من آيات الله عز وجل والله أعلم(6/641)
1832 - وعن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها حديث حسن رواه الدارقطني وغيره
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث من أحاديث الملح المنثورة التي ذكرها النووي رحمه الله في آخر كتابه رياض الصالحين عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم فلا تبحثوا عنها هذه ثلاث جمل بينها النبي صلى الله عليه وسلم وبين حكمها أولا فرض الله فرائض وأعظم فرائض الله على عباده التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ففي شهادة أن لا إله إلا الله توحيد الله بالعبادة وألا يعبد أحد سواه وفي شهادة أن محمدا رسول الله توحيد النبي صلى الله عليه وسلم بالمتابعة بحيث لا يتابع أحد سواه هذه أفرض الفرائض ثم الصلوات والزكاة والصوم والحج وبر الوالدين وصلة الرحم وحسن الجوار والصدق والنصيحة ...
أشياء كثيرة فرضها الله تعالى على عباده منها فرائض عينية على كل واحد ومنها فرائض كفاية إذا قام بها من يكفي سقط عن الباقين فالصلوات الخمس فرض عين لابد على كل مسلم أن يقوم بها والصلاة على الجنازة(6/642)
فرض كفاية إذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين وحد حدودا فلا تعتدوها في الفرائض قال لا تضيعوها ولكن احرصوا عليها وقوموا بها على الوجه المطلوب وحد حدودا فلا تعتدوها يعني جعل للأشياء حدا معينا فالصلوات الخمسة مثلا لها حد وهي أوقاتها الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله بعد فيء الزوال العصر من هذا الوقت إلى غروب الشمس والمغرب من غروب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر العشاء من مغيب الشفق الأحمر إلى نصف الليل الفجر من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس هذه حدود الصوم له حد من طلوع الفجر إلى غروب الشمس الحج له حد أشهر معلومات في أماكن معينة إلخ حد حدودا فلا تعتدوها يعني لا تتجاوزوها قال تعالى ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه {ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} وسكت عن أشياء رحمة لكم فلا تبحثوا عنها سكت عن أشياء لم يوجبها علينا ولم يحرمها ولو شاء لأوجب علينا ما شاء وحرم ما شاء لكنه سكت عن أشياء لولا رحمته لألزمنا بها وأضرب لكم مثلا بالصلوات الخمس فأول ما فرضها الله على العباد خمسين صلاة في اليوم والليلة ثم إن الله تعالى عفا وصارت خمسا في العمل خمسين في الثواب وأشياء كثيرة عفا الله عنها ولو شاء لألزمنا بها وفي قوله وسكت عن أشياء دليل على ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من أن الله يتكلم بصوت مسموع لأن السكوت ضد الكلام وهو(6/643)
جل وعلا يتكلم بما شاء متى شاء كيف شاء لا نعلم كيف يتكلم ولا متى ولا بماذا يتكلم لكن نؤمن بأنه إذا أراد شيئا قال له كن فيكون ولهذا لا تحصى كلمات الله عز وجل قال الله تعالى {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام} يعني لو كانت جميع أشجار الأرض أقلاما يكتب بها {والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} وقال عز وجل {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا}
1833 - وعن عبد الله بن أبي أوفي رضي الله عنهما قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد وفي رواية نأكل معه الجراد متفق عليه
1834 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين متفق عليه(6/644)
ثم ذكر حديث عبد الله بن أوفى رضي الله عنه قال غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد معه الجراد معروف وهو من الحلال يأكله الإنسان حيا وميتا قال النبي صلى الله عليه وسلم أحلت لنا ميتتان ودمان الميتتان الجراد والحوت ولهذا لا يحتاج إلى تزكية وهو صيد فإن كان في مكة حرم على الإنسان أن يصيده وأن يطيره من مكانه ويجب على من رأى من يصيده بالحرم أن يزجره ويمنعه لأنه صيد محرم لا يجوز صيده في مكة ولا أن تطيره وغيرها من الطيور وفي هذا دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم يستدلون بإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم يعني إن فعلوا شيئا وأقرهم عليه فهو حلال وهو كذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يستطيع منعهم ولكن ما دام سكت دل ذلك على الجواز أما حديث أبي هريرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين اللدغ هو لدغ الحية المؤمن كيس فطن محترز لا يلدغ من جحر مرتين بمعنى أنه إذا حدث له شيء من أي عمل يكون فإنه لا يعود إليه لأنه يحاذر وإذا لدغ من جحر تركه وعرف أنه لا فائدة منه فالمؤمن(6/645)
لا يلدغ من جحر مرتين لأنه حاذر فطن كيس فدل ذلك على أن الإنسان ينبغي له أن يكون فطنا وألا يعود لشيء أصابه منه ضرر بل يكون مؤمنا لأن هذا من كمال الإيمان والله الموفق
المنثورات والملح (القسم الثاني)
1835 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل ورجل بايع رجلا سلعة بعد العصر فحلف بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو على غير ذلك ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها وفي وإن لم يعطه منها لم يف متفق عليه
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث ذكرها المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين كلها عن أبي هريرة رضي الله عنه أن ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ثلاثة يعني ثلاثة أصناف ليس المقصود ثلاثة رجال وإنما قد يكونون أمما عظيمة اتصفوا بهذه الأوصاف أولهم رجل على فضل ماء في فلاة يمنعه ابن السبيل يعني إنسان عنده ماء من مزرعة أو بئر أو غير ذلك في أرض فلاة خالية من السكان يمر الناس(6/646)
من عنده ليشربوا فيمنعهم والعياذ بالله هذا لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم وما بالك بحال رجل هذا حاله لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم يوم القيامة والثاني رجل باع سلعة بعد العصر فحلف للمشتري أنه أعطى كذا وكذا وهو كاذب فاشتراها المشتري بناء على ما قاله البائع أنه صدق والأمر ليس كذلك فهذا أيضا لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم وذكر النبي صلى الله عليه وسلم العصر لأن أفضل أوقات النهار ما بعد صلاة العصر وإلا فلو حلف الإنسان على سلعة في غير هذا الوقت أيضا فإنه لا يكلمه الله ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم ففي حديث أبي ذر الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قالها ثلاثا فقال أبو ذر من هم يا رسول الله خابوا وخسروا قال المسبل يعني الذي يسبل ثوبه ينزله على الكعب حتى يجره على الأرض والثاني المنان الذي يمن على الناس إذا أعطاهم مالا أو علمهم أو أحسن إليهم بشيء جعل يمن عليهم والعياذ بالله والثالث المنفق سلعته بالحلف الكاذب يعني الذي يحلف وهو كاذب ليزيد ثمن السلعة فدل ذلك على أن ذكر وقت العصر في حديث أبي هريرة إنما هو لشدة العذاب والوعيد وإلا فكل من حلف على سلعة وهو كاذب من أجل أن يزيد ثمنها فإنه لا يكلمه الله ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم(6/647)
والثالث في حديث أبي هريرة رجل بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا إن أعطاه وفى له بالبيعة وإن لم يعطه لم يف بالبيعة هذا أيضا من الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم وذلك أن بيعة الإمام واجبة يجب على كل مسلم أن يكون له إمام سواء كان إماما عاما كما كان في عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من الخلفاء أو إماما في منطقته كما هو الحال الآن ومنذ أزمنة بعيدة من زمن الأئمة الأربعة ومن بعدهم والمسلمون متفرقون كل جهة لها إمام وكل إمام مسموع له ومطاع بإجماع المسلمين لم يقل أحد من المسلمين إنه لا تجب الطاعة إلا إذا كان الخليفة واحدا لجميع بلاد الإسلام ولا يمكن أن يقول أحد بذلك لأنه لو قيل بهذا ما بقى للمسلمين الآن إمام ولا أمير ولمات الناس كلهم ميتة جاهلية لأن الإنسان إذا مات وليس له إمام فإنه يموت ميتة جاهلية يحشر مع أهل الجهل والعياذ بالله الذين كانوا قبل الرسالات فالإمام في مكان وفي كل منطقة بحسبها(6/648)
فهذا الرجل بايع الإمام لكنه بايعه للدنيا لا للدين ولا لطاعة رب العالمين إن أعطاه من المال وفى وإن منعه لم يف فيكون هذا الرجل والعياذ بالله متبعا لهواه غير متبع لهداه ولا طاعة مولاه بل هو بنى بيعته على الهوى قد يقول قائل مثلا نحن لم نبايع الإمام فليس كل واحد بايعه فيقال هذه شبهة شيطانية باطلة هل الصحابة رضي الله عنهم حين بايعوا أبا بكر هل كل واحد منهم بايع حتى العجوز في بيتها واليافع في سوقه أبدا المبايعة لأهل الحل والعقد ومتى بايعوا ثبتت الولاية على كل أهل هذه البلاد شاء أم أبى ولا أظن أحدا من المسلمين بل ولا من العقلاء يقول إنه لابد أن يبايع كل إنسان ولو في جحر بيته ولو عجوزا أو شيخا كبيرا أو صبيا صغيرا ما قال أحد بهذا حتى الذين يدعون الديمقراطية في البلاد الغربية وغيرها لا يفعلون هذا وهم كاذبون حتى انتخاباتهم كلها مبنية على التزوير والكذب ولا يبالون أبدا إلا بأهوائهم فقط الدين الإسلامي متى اتفق أهل الحل والعقد على مبايعة الإمام فهو الإمام شاء الناس أم أبوا فالأمر كله لأهل الحل والعقد ولو جعل الأمر لعامة الناس حتى للصغار والكبار والعجائز والشيوخ وحتى من ليس له رأي ويحتاج أن يولى عليه ما بقى للناس إمام لأنهم لابد أن يختلفوا(6/649)
المهم هذه ثلاثة أشياء إذا صارت في الإنسان فإن الله لا يكلمه يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم وفي هذا الحديث دليل على ثبوت كلام الله عز وجل كما هو مذهب أهل السنة والجماعة أن الله يتكلم كما شاء وبما شاء ومتى شاء لا أحد يعجزه ولا يمتنع عليه شيء إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون {وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا} فقوله لا يكلمهم الله دليل على أنه يكلم غيرهم وهو كذلك وفيه أن الله ينظر نظرين الأول العام فإنه لا يخفى على نظره شيء جل وعلا يرى كل شيء والثاني الخاص وهو نظر الرحمة وهو المعنى في الحديث فإن الله لا ينظر إليهم نظر رحمة وفيه أيضا دليل على أن الله هو المزكي للعباد كما قال الله تعالى {ولكن الله يزكي من يشاء} فالمزكي للأمور وللأشخاص وللأعمال هو رب العالمين عز وجل فاسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن زكاه ربه إنه على كل شيء قدير(6/650)
1836 - وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال بين النفختين أربعون قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما قال أبيت قالوا أربعون سنة قال أبيت قالوا أربعون شهرا قال أبيت ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب الذنب فيه يركب الخلق ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل متفق عليه
1837 - وعنه قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال متى الساعة فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث فقال بعض القوم سمع ما قال فكره ما قال وقال بعضهم بل لم يسمع حتى إذا قضى حديثه قال أين السائل عن الساعة قال ها أنا يا رسول الله قال إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال كيف إضاعتها قال إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة رواه البخاري
1838 - وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يصلون لكم فإن أصابوا فلكم وإن أخطئوا فلكم وعليهم رواه البخاري
1839 - وعنه رضي الله عنه {كنتم خير أمة أخرجت للناس} قال: خير الناس للناس يأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في(6/651)
الإسلام
1840 - وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال عجب الله عز وجل من قوم يدخلون الجنة في السلاسل رواهما البخاري معناها يؤسرون ويقيدون ثم يسلمون فيدخلون الجنة
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث من الملح والمنثورات وسبق الكلام عن الكثير منها فهذه أحاديث أربعة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول بين النفختين أربعون يعني النفخ في الصور والصور موكل به ملك من الملائكة يسمى إسرافيل هذا الصور ينفخ فيه أول مرة فيفزع الناس لهوله وشدته ثم يصعقون كلهم أي يموتون كما قال الله تعالى ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين وقال تعالى {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} فالنفخة الأولى يكون بها الفرع والصعق يعني الموت والفناء والنفخة الثانية يكون فيها القيام {فإذا هم قيام ينظرون} قيام من قبورهم ينظرون ماذا حدث وذلك أن الله تعالى يرسل عليهم قبل ذلك مطرا غليظا كمني الرجال ثم ينبتون في قبورهم كما ينبت حمى السيل يعني حبة(6/652)
تنبت في الأرض ثم تخرج وهم كذلك ينبتون ثم ينفخ في الصور النفخة الثانية فيخرج من هذا الصور كل نفوس العالم بإذن الله وتذهب كل نفس إلى جسدها الذي كانت تعمره في الدنيا لا تخطئه..
سبحان الله بينهما أربعون قيل لأبي هريرة أربعون يوما قال أبيت يعني لا يدري قالوا أربعون سنة قال أبيت قالوا أربعون شهرا قال أبيت قال النبي صلى الله عليه وسلم بينهما أربعون فنقول كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم والله أعلم المهم أن هذا هو النفخ في الصور ثم يقوم الناس إلى يوم الحساب لرب العالمين فيحاسبهم كل يحاسب بذنبه وحسابه عز وجل دائر ما بين الفضل والعدل لا ظلم فيه لأن المحاسبة إما ظلم أو عدل أو فضل وحسابه عز وجل دائر ما بين الفضل والعدل قال الله عز وجل {فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعلمون} أما الحديث الثاني حديث الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال متى الساعة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث إلى أصحابه فمضى في حديثه لم يحب أن يقطعه صلى الله عليه وسلم وكأنه والله أعلم حديث متواصل فقال قوم سمع ما قال فكرهه والإنسان إذا كره سؤال السائل فلا حرج عليه ألا يجيبه حتى ولو سمعه لأنه قد يكون السائل ليس عنده حكمة فيسأل سؤالا غير مناسب فللمجيب أن يدعه ولا يجيب وقال آخرون لعله لم يسمعه فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم حديثه قال أين السائل قال أنا يا رسول الله(6/653)
قال إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة يعني إذا فسد الناس وكانت الأمور تسند إلى غير أهلها الفتوى تسند للجاهل والإمارة تسند للسفيه والإدارة تسند لمن لا علم عنده بالإدارة ...
وهكذا والخلاصة أنه إذا فسد الناس فانتظر الساعة لأن الساعة تقوم على شرار الخلق ففي هذا التحذير من تضييع الأمانة وأنه يجب أن يولي المناصب الأهل فالأهل لأن هذا مقتضى الأمانة أما الحديث الثالث فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هناك أئمة يعني أمراء يصلون لكم فإن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساءوا فلكم وعليهم وهذا وإن كان في الأمراء يشمل أيضا أئمة المساجد يصلون لكم فإن أحسنوا في الصلاة وأتوا بها على ما ينبغي فذلك لكم ولهم وإن أساءوا فلكم وعليهم يعني ليس عليكم أنتم من إساءتهم من شيء وفي هذا إشارة إلى أنه يجب الصبر على ولاة الأمر وإن أساءوا في الصلاة وإن لم يصلوها على وقتها فإن الواجب ألا نشذ عنهم وأن نؤخر الصلاة كما يؤخرون وحينئذ يكون تأخيرنا للصلاة عن أول وقتها يكون تأخيرا بعذر لأجل موافقة الجماعة وعدم الشذوذ ويكون بالنسبة لنا كأننا صلينا في أول الوقت وفي هذا إشارة إلى أن الشذوذ عن الناس وعن ولاة الأمور والبعد عنهم وإثارة الناس عليهم ونشر مساوئهم كل هذا مجانب للدين الإسلامي فالدين(6/654)
يأمر بالخير والعدل وينهى عن الشر والفساد حتى إن الله قال {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء} إذا ذكرت سيئة فاذكر الحسنة أما أن تسعد بذكر السيئات وتجحد الحسنات فهذا جور وظلم والله عز وجل لا يحب الظلم {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} أي لا يحملكم بغض قوم على عدم العدل بل اعدلوا هو أقرب للتقوى فهؤلاء الذين يصلون ويؤخرون الصلاة عن وقتها نصلي معهم ويكون لنا الأجر وإن كان التأخير فيه وزر فعلى المؤخرين أما الحديث الرابع لأبي هريرة عجب الله لقوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل وفسره المؤلف رحمه الله بأنهم قوم من الكفار يؤسرون ثم يسلمون فيكون هذا الأسر سببا في إسلامهم ودخولهم الجنة والله الموفق
1841 - وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها رواه مسلم
1842 - وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه من قوله: قال لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته..
رواه مسلم هكذا(6/655)
ورواه البرقاني في صحيحه عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فيها باض الشيطان وفرخ
1843 - وعن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال قلت: لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله غفر الله لك قال ولك قال عاصم فقلت له استغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم ولك ثم تلا هذه الآية {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} رواه مسلم
1844 - وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت رواه البخاري
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث من الأحاديث المنثورة التي ذكرها النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين منها حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أحب البقاع إلى الله مساجدها وأبغض البقاع إلى الله أسواقها أو قال البلاد فالمساجد مساجد الله عز وجل ولهذا أضافها الله إلى نفسه فقال ومن أظلم ممن منع(6/656)
مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وقال تعالى {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإتياء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار} فالمساجد أحب البقاع إلى الله لأنها محل ذكره وعبادته وقراءة شرعه وغير ذلك من مصالح الدنيا والدين ولهذا كان بذل المال فيها من أفضل أنواع البذل والبذل فيها من الصدقة الجارية وهي أفضل من أن يجعل الإنسان ماله في أضحية أو عشاء أو ما أشبه ذلك فإذا جعل ماله في بناء المساجد وعمارتها كان ذلك أفضل لأن المساجد صدقة جارية باقية عامة كل المسلمين ينتفعون بها المصلون والدارسون والمتعلمون والمعلمون والذين آواهم البرد أو الحر إلى المساجد إلى غير ذلك أما الأسواق فإنما مأوى الشياطين فيها باض الشيطان وفرخ والعياذ بالله ونصب رايته وخيمته لأن أسواق البيع والشراء الغالب فيها إلا ما شاء الله الكذب والغش والخيانة والحلف وما أشبه ذلك فلهذا كانت أبغض البلاد إلى الله عز وجل وفي هذا الحديث إثبات الحب والبغض لله عز وجل أي أن الله يحب ويبغض ومن أصول أهل السنة والجماعة أننا نؤمن بذلك ونقول إن الله تعالى يحب ويبغض وهو سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال وأنه لا يحب إلا ما فيه الخير والصلاح ولا يبغض إلا الشر والخبائث وينبغي أيضا كما جاء في حديث سلمان ألا يكون أول من يدخلها ولا آخر من يخرج منها لأنها أبغض البلاد إلى الله ويحصل فيها اختلاط بين الرجال والنساء والنظرات المحرمة والكلام المحرم وما أشبه ذلك(6/657)
أما حديث عبد الله بن سرجس رضي الله عنه فهو أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر له فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم قال استغفر لي يا رسول الله فأجابه وفي هذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس كغيره أي يسأل منه الدعاء أن إنسانا يقول له يا رسول الله استغفر لي وهذا في حياته أما بعد موته فلا يجوز فمن سأل الرسول أن يستغفر له بعد وفاته فهو مشرك كافر أما في حياته فلا بأس وقد أمر الله نبيه أن {يستغفر لذنبه وللمؤمنين والمؤمنات} فقال واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والمغفرة هي أن الله تعالى يستر العبد ولا يطلع الناس على ذنبه ويعفو عنه ويتجاوز عنه لأنها مأخوذة من الستر والوقاية وهو المغفرة
1845 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء متفق عليه
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث من الأحاديث المنثورة التي ذكرها النووي رحمه الله في آخر كتابه رياض الصالحين منها حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أول ما يقض بين الناس يوم القيامة في الدماء وذلك أن الله تعالى يفصل يوم القيامة بين العباد ويحكم بينهم أما فيما بينهم وبين الله فحكمه دائر بين العدل والفضل إما أن(6/658)
يجازي بالعدل وإما بالفضل وأما فيما بين الناس بعضهم مع بعض فيجازي بالعدل فكل إنسان منهم يعطى حقه بدون نقص ولا زيادة فأول ما يحاسب عليه العبد من حقوق الله الصلاة فإن كان أحسنها فقد أفلح وأنجح وإن كان قد ضيعها فهو لما سواها أضيع لأن من ضيع الصلاة فلا آمر له بالمعروف ولا ناهي له عن المنكر كما قال تعالى اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر أما فيما بين العباد فأول ما يقضي بينهم في الدماء القتل ثم الأموال والأعراض والقتل تارة يكون بحق وتارة يكون بغير حق والمقصود بذلك القتل بغير حق فهذا هو أول ما يقض فيه بين الناس يوم القيامة وفي هذا الحديث إثبات القضاء يوم القيامة وأنه حق وأنه لابد أن يعطي كل مظلوم مظلمته لكن هاهنا مسألة وهي يأتي إنسان إلى شخص يكون قد ظلمه بغيبة أو قذف أو ما أشبه ذلك ثم يطلب منه السماح بعد أن تاب إلى الله وندم فيقول لصاحب الحق اسمح لي أنا مذنب وأنا الآن أستغفر الله وأتوب إليه فاسمح لي ويعتذر ولكن صاحب الحق لا يقبل فهنا نقول إذا علم الله من العبد صحة التوبة فإن الله تعالى يتحمل عنه حق هذا الآدمي الذي أبى أن يسامحه ومثل ذلك أيضا المال لو أن إنسانا كان بينك وبينه مشاجرة وجحدت ماله(6/659)
وكان في ذمتك له مال لكنك جحدته ثم بعد ذلك تبت إلى الله وأقررت به وذهبت إليه وقلت يا فلان أنا جحدتك حقك في الأول والآن أنا تائب إلى الله ونادم خذ مالك ولكنه قال بيني وبينك يوم القيامة فهنا نقول إذا علم الله من نيتك أنك صادق في التوبة فإن الله يتحمل عنك الإثم يعني يرضي صاحبك لكن تصدق بهذا المال عنه حتى تبرأ ذمتك منه فمثلا إذا كان حقه مائة ريال ثم جئت إليه بعد أن ندمت واستغفرت وقلت له خذ هذه الدراهم مائة ريال قال لا أريدها من عملك الصالح يوم القيامة وأبى فحينئذ نقول إذا علم الله من نيتك أنك صادق فإنك لا تأثم ويزول عنك الإثم لكن هذه المائة تصدق بها عن صاحبك تخلصا منها
1846 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم رواه مسلم
1847 - وعنها رضي الله عنها قالت: كان خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم القرآن رواه مسلم في جملة حديث طويل(6/660)
1848 - وعنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقلت يا رسول الله أكراهية الموت فكلنا نكره الموت قال ليس كذلك ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه رواه مسلم
أما الحديث الثاني فحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن بدء الخلق فذكر صلى الله عليه وسلم أن الملائكة خلقوا من النور ولذلك كانوا كلهم خيرا لا يعصون الله ولا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون فالملائكة خلقوا من نور أما الشياطين الجن فقال إنهم خلقوا من نار وفي هذا دليل على أن الجن هم ذرية الشيطان الأكبر الذي أبى أن يسجد لآدم وقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين فالجن كلهم مخلوقون من النار ولهذا كثير منهم الطيش والعبث والعدوان على كل من يستطيعون العدوان عليه لكن اقرأ آية الكرسي في ليلك فلا يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك الشيطان حتى تصبح وخلق آدم مما ذكر لكم يعني خلق من طين من تراب من(6/661)
صلصال كالفخار لأن التراب صار طينا ثم صار فخارا فخلق منه آدم عليه الصلاة والسلام ولهذا قال الله تعالى {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} وحديثها الثاني رضي الله عنها قالت كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم القرآن يعني أنه يتخلق بأخلاق القرآن ما أمر به القرآن قام به وما نهى عنه القرآن اجتنبه سواء كان ذلك في عبادات الله أو في معاملة عباد الله فخلق النبي صلى الله عليه وسلم القرآن وفي هذا إشارة من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أننا إذا أردنا أن نتخلق بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم فعلينا أن نتخلق بالقرآن لأن هذا هو أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم حديثها الثالث رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقالت عائشة رضي الله عنها أكراهية الموت يا رسول الله فكلنا يكره الموت قال ليس كذلك فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا أحب لقاء الله أحب الله لقاءه وذلك أن المؤمن يؤمن بما أعد الله للمؤمنين في الجنة من الثواب الجزيل والعطاء العميم الواسع فيحب ذلك وترخص عليه الدنيا ولا يهتم بها لأنه سوف ينتقل إلى خير منها فحينئذ يحب لقاء الله ولاسيما عند الموت إذا بشر بالرضوان والرحمة فإنه يحب لقاء الله عز وجل ويتشوق إليه فيحب الله لقاءه أما الكافر والعياذ بالله فإنه إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله فكره الله لقاءه ولهذا جاء في حديث المحتضر أن نفس الكافر إذا بشرت بالغضب والسخط تفرقت في جسده وأبت أن تخرج ولهذا تنزع النفس(6/662)
روح الكافر من جسده كما ينزع الشعر من السفود المبلول بمعنى أنه يكره على أن تخرج روحه وذلك لأنه يبشر والعياذ بالله بالشر ولهذا قال الله تعالى {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم} فهم شحيحون بأنفسهم والعياذ بالله لا يريدون أن تخرج ولكن الملائكة تقول أخرجوا أنفسكم فإذا بشرت تفرقت في الجسد فينتزعها الملائكة كما ينتزع السفود من الصوف المبلول والعياذ بالله حتى تخرج المهم أن المؤمن يحب لقاء الله لأنه يحب الله عز وجل يحب ثوابه يحب جنته يحب النعيم فهو يحب لقاء الله ولاسيما عند الموت فيحب الله لقاءه اللهم اجعلنا ممن يحب لقاءك يا رب العالمين وأحسن لنا الختام إنك على كل شيء قدير
1849 - وعن أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت لأنقلب فقام معي ليقلبني فمر رجلان من الأنصار رضي الله عنهما فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال صلى الله عليه وسلم على رسلكما إنها صفية بنت حيي فقالا سبحان الله يا رسول الله فقال إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن(6/663)
يقذف في قلوبكما شرا أو قال شيئا متفق عليه
[الشَّرْحُ]
هذان الحديثان ذكرهما المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين الأول حديث صفية بنت حيي رضي الله عنها أم المؤمنين كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفا في المسجد في رمضان ولا اعتكاف إلا في رمضان لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتكف في غير رمضان إلا سنة واحدة فاتته العشر في رمضان فقضاها في شوال وما عدا ذلك فلم يشرع لأمته صلى الله عليه وسلم أن يعتكفوا في غير رمضان وإنما كان الاعتكاف من أجل تحرى ليلة القدر فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأول من رمضان رجاء ليلة القدر ثم الأوسط ثم قيل له إنها في العشر الأواخر فواظب على الاعتكاف في العشر الأواخر وأما حديث عمر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أنه نذر أي عمر أن يعتكف ليلة أو ليلتين في المسجد الحرام فقال أوف بنذرك فهذا لا يدل على أن الاعتكاف مشروع وإنما يدل على وفاء النذر بالاعتكاف وأنه ليس بمعصية لو أوفى بنذره فيه لكن السنة أن الاعتكاف يكون في رمضان فقط وفي العشر الأواخر منه فقط اعتكف صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر والاعتكاف هو لزوم المسجد في طاعة الله ليتفرغ الإنسان للعبادة وليس لغير ذلك(6/664)
جاءته صفية وهو معتكف لتتحدث إليه وهي امرأته ولا بأس للإنسان أن يتحدث إليه أهله وهو معتكف فذلك من الألفة والمحبة والمودة ثم قامت إلى بيتها وكان النبي صلى الله عليه وسلم خير الناس بأهله كما قال صلى الله عليه وسلم خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي فقام معها يشيعها إلى بيته فإذا برجلين من الأنصار يمران فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم خجلا واستحييا فأسرعا في مشيهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم على رسلكما يعني لا تسرعا إنها صفية بنت حيي لئلا يظنا أنها امرأة جاءت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل محل السكن وإيواء البيوت فقالا سبحان الله تعجبا أن يقول الرسول هذا الكلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فيصل إلى قلبه وإلى عروقه كما أن الدم يسير في جميع البدن كذلك الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ومجرى هذا اسم مكان أي في مكان جريان الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا أو قال شيئا ففي هذا الحديث دليل على فوائد 1_ حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم في معاملته أهله 2_ ومنها جواز زيارة المرأة زوجها في الاعتكاف وأن ذلك لا يبطل الاعتكاف حتى لو فرض أنه تلذذ بالنظر إليها وما أشبه ذلك فإنه لا يضر لأن الله إنما نهى عن مباشرة النساء في الاعتكاف(6/665)
3_ ومنها أنه ينبغي للإنسان أن يشيع أهله إذا انقلبوا من عنده إذا كان ذلك ليلا أو في وقت يخاف فيه عليهم 4_ ومنها أنه ينبغي للإنسان أن يزيل أسباب الوساوس من القلوب فمثلا إذا خشي أن أحدا يظن به شرا فإنه يجب عليه أن يزيل ذلك عنه ويخبره بالواقع حتى لا يحدث في قلبه شيء 5_ ومنها أنه إذا حدث للإنسان ما يتعجب منه فليقل سبحان الله كما قال ذلك الأنصاريان وأقرهما النبي صلى الله عليه وسلم 6_ ومنها شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ودرء الشر عنهم أما الحديث الثاني عن العباس رضي الله عنه فهو في قصة حنين وحنين هي اسم مكان غزا به النبي صلى الله عليه وسلم ثقيفا وكان الصحابة رضي الله عنهم قد فتحوا مكة في رمضان في السنة الثامنة من الهجرة ومعهم عشرة آلاف من خارج مكة وألفان من أهل مكة فالجميع اثنا عشر ألفا فجعل بعضهم يقول لبعض لن نغلب اليوم من قلة أعجبوا بكثرتهم ولكن الله تعالى أراهم أن النصر من عند الله وأن الكثرة والقوة لا تحولان بين قضاء الله وقدره قابلوا ثقيفا وكانت ثقيف ثلاثة آلاف وخمسمائة نفر والمسلمون اثنا عشر ألفا ومعهم الرسول صلى الله عليه وسلم فكمنت لهم ثقيف في وادي حنين ومعلوم أنه إذا كمنوا لهم ثم تقدم بعضهم وتأخر آخرون سوف تحدث الهزيمة انهزم الصحابة رضي الله عنهم وولوا ولم يبق مع الرسول صلى الله عليه وسلم من اثني عشر ألفا إلا نحو مائة رجل كما قال الله تعالى ثم وليتم مدبرين ولكن محمدا صلى الله عليه وسلم الذي أعطاه الله تعالى الشجاعة العظيمة والإقدام في موضع الإقدام جعل يركض بغلته نحو العدو وهو يقول صلى الله عليه وسلم أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب يعلمهم عليه الصلاة والسلام وأمر العباس رضي الله عنه وكان رجلا جهوري الصوت أمره أن ينادي الصحابة ليرجعوا فجعل ينادي يا أصحاب السمرة ...
يا أصحاب السمرة يا أصحاب السمرة أقبلوا..
هلموا والسمرة هي الشجرة التي بايع الصحابة عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية على ألا يفروا وهم فروا الآن فقال يا أصحاب السمرة يذكرهم بهذه المبايعة وهذه السمرة شجرة بايع النبي صلى الله عليه وسلم تحتها الصحابة على ألا يفروا أبدا وفيها يقول الله تعالى {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} فأخبر الله تعالى أنه رضى عنهم وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة بشرى عظيمة أنهم لا يدخلون النار لا قليلا ولا كثيرا المهم أن العباس دعاهم بهذا يا أصحاب السمرة قالوا لبيك..
لبيك وأقبلوا كأنهم البقر على أولادها الصغار يعني مسرعين جدا فقاتلوا العدو وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم حصيات رمى بها وجوه القوم وقال انهزموا ورب محمد وصار الأمر كذلك انهزمت ثقيف وغنم منها النبي صلى الله عليه وسلم غنائم كثيرة كثيرة جدا ما بين إبل وغنم وأحوال فالحاصل أن هذا الحديث من آيات الله عز وجل حيث نصر الله المؤمنين بعد أن أراهم قوته وأن الأمر أمره جل وعلا ليس بالكثرة ولا بالقوة ولا بالعزيمة ولكن النصر من عند الله عز وجل قال الله تعالى {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء} وفي هذا الحديث من الفوائد 1_ قوة شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم حيث تقدم إلى العدو بقوله وفعله أما فعله فإنه جعل يركض بغلته التي هو راكب عليها نحو العدو وأما قوله فإعلانه بصوته الرخيم أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب 2_ ومنها أنه يجب على الإنسان ألا يعجب بقوته ولا بكثرته ولا بعلمه ولا بماله ولا بذكائه ولا بعقله والغالب أن الإنسان إذا أعجب فإنه يهزم بإذن الله إن أعجب بكثرته هزم وإن أعجب بعلمه ضل وإن أعجب بعقله تاه لا تعجب بنفسك ولا بأي قوة من قواتك بل استعن بالله عز وجل وفوض الأمر إليه حتى يتم لك ما تريد 3_ ومنها جواز ركوب البغلة والبغل متولد من بين الحمار والفرس ينزو الحمار على الأنثى من الخيل فتلد البغل وهو نجس وحرام لكنه طاهر في ظاهره كالهرة طاهرة ولكن بولها وعذرتها نجسة وكذلك البغل فعرقه طاهر ومسه حال ركوبه طاهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم ركبه وهو يعرق وقد يكون المطر ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحترز منه فدل ذلك على أنه طاهر وهو القول الراجح 4_ ومنها أنه ينبغي للإنسان أن ينادي الناس بما يشجعهم لأن العباس لم يقل يا أيها المؤمنون يا أيها الصحابة بل قال يا أصحاب السمرة لأن هذا يشجعهم ويذكرهم بالبيعة التي بايعوا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم 5_ ومنها أن الله تعالى قد ينصر الفئة القليلة ولو على باطل على الفئة الكثيرة ولو على حق الفئة القليلة هنا من الكفار ثلاثة آلاف وخمسمائة الفئة الكثيرة الصحابة رضي الله عنهم ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كن يستفاد من هذا فائدة أيضا أن العاقبة للمتقين حتى لو هزم المسلمون بكثرتهم فإن العاقبة لهم لأن الله تعالى يقول {فاصبر إن العاقبة للمتقين} والله الموفق
1850 - وعن أبي الفضل العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نفارقه ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء فلما التقى المسلمون والمشركون ولى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عباس ناد أصحاب السمرة قال العباس وكان رجلا صيتا فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السمرة فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها فقالوا يا لبيك يا(6/666)
لبيك فاقتتلوا هم والكفار والدعوة في الأنصار يقولون يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال هذا حين حمي الوطيس ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال انهزموا ورب محمد فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فمازلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا رواه مسلم الوطيس التنور ومعناه اشتدت الحرب وقوله حدهم هو بالحاء المهملة أي بأسهم(6/667)
1851 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى {يا أيها الرسل كلوا من الطبيات واعملوا صالحا} وقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طبيات ما رزقناكم} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك رواه مسلم
1852 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم(6/670)
شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر رواه مسلم العائل الفقير
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في آخر كتابه رياض الصالحين من الأحاديث المنثورة ما نقله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم وحسن بلاغته وبيانه أنه يذكر أحيانا الأشياء مفصلة محددة حتى يسهل حفظها وفهمها أحيانا يقول ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة وأحيانا يقول اثنتان من أمتي ...
وأحيانا يقول سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله وأشباه ذلك كثيرة لأن الشيء إذا فصل وحدد في العدد صار أضبط للإنسان وأقرب إلى الفهم ولا ينسى ثلاثة يعني ثلاثة أصناف وليس المراد ثلاثة أفراد بل ثلاثة أصناف من الناس لا يكلمهم الله يوم القيامة تكليم رضا وإلا فإنه عز وجل يتكلم تكليم غضب حتى يكلم أهل النار لما قالوا ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال لهم {اخسئوا فيها ولا تكلمون}(6/671)
لكن المراد كلام الرحمة والرضا فهؤلاء الثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم أي نظر رحمة وإشفاق وإكرام وعزة بل يذلهم عز وجل ولا يزكيهم أي لا يجعل لهم زكاء بل هم في شقاء دائم والعياذ بالله الأول شيخ زان يعني كبير السن زان هذا والعياذ بالله زناه أشد من زنا الشاب لأن دواعي الشهوة فيه قليلة على عكس الشاب فدواعي الشهوة فيه قوية قد تغلبه على ما في قلبه من كراهة الزنا وبغضه لكن الشيخ ميت الشهوة فإذا زنا الشيخ والعياذ بالله وهو الكبير دل ذلك على فساد طويته وأنه يحب الزنا لأنه زنا لا لقوة شهوة عنده الثاني ملك كذاب الملك هو حاكم له السلطة إذا قال فعل ولهذا قال ابن المواردي في لاميته المشهورة
جانب السلطان واحذر بطشه ...
لا تخاصم من إذا قال فعل
السلطان يقول وينفذ ويفعل ولا حاجة له إلى الكذب وإنما عامة الرعية ربما يحتاج الواحد منهم إلى الكذب لينقذ نفسه لكن السلطان الملك ليس له حاجة إلى الكذب فإذا كذب فهو من الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم والعياذ بالله الثالث عائل مستكبر عائل يعني فقير سبحان الله فقير ويستكبر على الناس الغني ربما يستكبر لغناه كما قال عز وجل {كلا(6/672)
إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} لكن الفقير ليس له سبب يستكبر به على الناس فإذا استكبر دل ذلك على خبثه وخبث طويته وأنه رجل طبع على الكبرياء والعياذ بالله
1853 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة رواه مسلم
1854 - وعنه قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال خلق الله التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الإثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم صلى الله عليه وسلم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل رواه مسلم
أما الحديث الثاني عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال سيحون وجيحون والنيل والفرات كل من أنهار الجنة هذه أربعة أنهار في الدنيا وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها من أنهار(6/673)
الجنة فقال بعض أهل العلم إنها من أنهار الجنة حقيقة لكنها لما نزلت إلى الدنيا غلب عليها طابع أنهار الدنيا وصارت من أنهار الدنيا لأن أنهار الآخرة أربعة أنهار الجنة أربعة فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى وهذه الأنهار الأربعة في الجنة لا نعلم كيفيتها ولا طعمها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الجنة عن ربه عز وجل في الحديث القدسي أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لكن سيحون وجيحون والنيل والفرات معلومة وهي تأسن تتغير مع طول المدة فللعلماء فيها تأويلات 1 - أنها من أنهار الجنة حقيقة لكن لما نزلت إلى الأرض صار لها حكم أنهار الدنيا 2 - أنها ليست من أنهار الجنة حقيقة لكنها أطيب الأنهار وأفضلها فذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوصف لها من باب رفع شأنها والثناء عليها والله أعلم بما أراد رسوله صلى الله عليه وسلم أما الحديث الثالث خلق الله التربة يوم السبت إلى آخر الحديث..
فهذا الحديث رواه الإمام مسلم رحمه الله وقد أنكره العلماء عليه فهو حديث ليس بصحيح ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يخالف القرآن(6/674)
الكريم وكل ما خالف القرآن الكريم فهو باطل لأن الذين رووا نقلة بشر يخطئون ويصيبون والقرآن ليس فيه خطأ كله صواب منقول بالتواتر فما خالفه من أي حديث كان فإنه يحكم بأنه غير صحيح وإن رواه من رواه لأن الرواة هؤلاء لا يتلقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة لكن بواسطة الإسناد حدثنا فلان عن فلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء قد يخطئون لكن القرآن ليس فيه خطأ فهذا الحديث مما أنكره أهل العلم رحمهم الله على الإمام مسلم ولا غرابة في ذلك لأن الإنسان بشر مسلم وغير مسلم كلهم بشر يخطئون ويصيبون فعلى هذا لا حاجة أن نتكلم عليه ما دام ضعيفا فقد كفيناه والله الموفق
1855 - وعن أبي سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية رواه البخاري
1856 - وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم واجتهد فأخطأ فله أجر متفق عليه(6/675)
1857 - وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء متفق عليه
1857 - وعنها رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من مات وعليه صوم صام عنه وليه متفق عليه
[الشَّرْحُ]
والمختار جواز الصوم عمن مات وعليه صوم لهذا الحديث والمراد بالولي القريب وارثا كان أو غير وارث هذه الأحاديث التي ذكرها النووي رحمه الله في آخر كتابه رياض الصالحين فمنها حديث خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه انقطع في يده تسعة أسياف في غزوة مؤتة ولم يبق معه إلا صفيحة يمانية خالد بن الوليد رضي الله عنه من أشجع الناس ولكن هو كان في غزوة أحد في جيش قريش المشركين وهو ممن كروا على الصحابة رضي الله عنهم من خلف جبل أحد وقاتلوا الصحابة وقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم هو وعكرمة بن أبي جهل ثم من الله عليهما بالإسلام فكانا من قواد المسلمين(6/676)
وفي قصتهما دليل على كمال قدرة الله عز وجل وأنه بيده أزمة الأمور وأنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء فكم من ضال هداه الله وكم من مهتد أضله الله والعياذ بالله وانظر إلى حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها يعني الرجل يعمل حتى لا يبقى على أجله إلا ذراع أي مدة قريبة ثم يموت فيسبق عليه الكتاب وأما الحديث الثاني حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر المراد بالحاكم هنا القاضي والظاهر أن المفتى مثله يعني أن الإنسان إذا اجتهد في طلب الحق وتبين له شيء من الحق ثم أفتى به أو حكم به فهو على خير إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد ولا يضيع الله تبارك وتعالى أجر من أحسن عملا فدل ذلك على أن الإنسان إذا اجتهد وتحرى الحق وبذل وسعه في ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يثيبه على هذا إن أصاب فله أجران الأجر الأول على إصابة الحق والثاني على اجتهاده وإن أخطأ فله أجر واحد وهو الاجتهاد وبذل الوسع والطاقة في طلب الحق(6/677)
وأما الحديث الثالث حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من مات وعليه صيام صام عنه وليه يعني إذا مات الإنسان وعليه صيام فإنه يصوم عنه وليه سواء كان نذرا أو واجبا في أصل الشرع فإذا قدر أن رجلا أفطر في رمضان لأنه مسافر ثم تهاون بعد رمضان ولم يقض لأنه يجوز أن يؤخر القضاء إلى شعبان ولكنه مات قبل القضاء فإن وليه أي وارثه يصوم عنه من أم أو أب أو ابن أو بنت أو زوجة وهذا ليس على سبيل الوجوب بل الاستحباب فإن لم يصم وليه أطعم عنه عن كل يوم مسكينا وكذلك لو كان عليه كفارة ومات قبل أن يؤديها مع تمكنه منها فإنه يصوم عنه وليه وكذلك لو نذر أن يصوم ثلاثة أيام ومات قبل أن يصوم فإنه يصوم عنه وليه فإن لم يفعل فإنه يطعم عن كل يوم مسكينا وأما حديث عائشة رضي الله عنها وهو الحديث الرابع فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء الحمى هي المرض الذي يصيب الإنسان بالحرارة في جسمه هذه من فيح جهنم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أما كيف وصل فيح جهنم إلى بدن الإنسان فهذا أمره إلى الله ولا نعرفه ما ندري لكن نقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء يعني صبوا على المريض ماء يبرده وهذا من أسباب الشفاء لمن أصيب بالحمى وقد شهد الطب الحديث بذلك فكان من جملة علاجات الحمى أنهم يأمرون أي الأطباء المريض أن يتحمم بالماء وكلما كان أبرد على وجه لا مضرة فيه فهو أحسن وبذلك تزول(6/678)
الحمى بإذن الله والله الموفق
1859 - وعن عوف بن مالك بن الطفيل أن عائشة رضي الله عنها حدثت أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة رضي الله تعالى عنها والله لتنتهين عائشة أو لأحجرن عليها قالت أهو قال هذا قالوا نعم قالت هو لله علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبدا فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة فقالت لا والله لا أشفع فيه أبدا ولا أتحنث إلى نذري فلما طال ذلك على ابن الزبير كلم المسور بن محزمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وقال لهما أنشدكما الله لما أدخلتماني على عائشة رضي الله عنها فإنها لا يحل لها أن تنذر قطيعتي فأقبل به المسور وعبد الرحمن حتى استأذنا على عائشة فقالا السلام عليك ورحمة الله وبركاته أندخل قالت عائشة ادخلوا قالوا كلنا قالت نعم ادخلوا كلكم ولا تعلم أن معهما ابن الزبير فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجاب فاعتنق عائشة رضي الله عنها وطفق يناشدها ويبكي وطفق المسور وعبد الرحمن يناشدانها إلا كلمته وقبلت منه ويقولان إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عما قد علمت من الهجرة ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج طفقت تذكرهما وتبكي وتقول إني نذرت والنذر شديد فلم يزالا بها حتى كلمت ابن(6/679)
الزبير وأعتقت في نذرها أربعين رقبة وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى تبل دموعها خمارها رواه البخاري
[الشَّرْحُ]
هذان حديثان عظيمان فيهما فوائد ذكرهما المؤلف رحمه الله في آخر كتابه رياض الصالحين في الأحاديث المنثورة الحديث الأول حديث عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين وأفضل زوجاته بعد موته وكانت من كانت في العلم والعبادة والرأي والتدبير وكان عبد الله بن الزبير وهو ابن أختها أسماء بنت أبي بكر سمع عنها أنها تبرعت وأعطت عطايا كثيرة فاستكثر ذلك منها وقال لئن لم تنته لأحجرن علها وهذه كلمة شديدة بالنسبة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لأنها خالته وعندها من الرأي والعلم والحلم والحكمة ما لا ينبغي أن يقال فيها ذلك القول والحجر عليها يعني منعها من التصرف في مالها أو التبرع الكبير من مالها فسمعت بذلك وأخبرت به أخبرها بذلك الواشون الذين يشون بين الناس ويفسدون بينهم بالنميمة والعياذ بالله والنميمة من كبائر الذنوب وقد حذر الله من النمام وإن حلف فقال ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم ومر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة على قبرين من قبور المسلمين فقال إنهما ليعذبان في قبورهما وما يعذبان في كبير يعني لا يعذبان في أمر(6/680)
شاق وأمر صعب بل يسهل بالنسبة للقيام به لا بالنسبة لعظمه عند الله أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول يعني لا يستنجي استنجاء تاما وإذا أصاب البول ثوبه أو بدنه لا يبالي به وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة يأتي للناس فيخبر بما قال البعض في البعض الآخر من أجل أن يفرق بينهم والعياذ بالله فالنميمة من كبائر الذنوب يعذب عليها النمام في قبره ولا يدخل الجنة نمام نسأل الله العافية المهم أن هذه الكلمة وصلت إلى عائشة فنذرت رضي الله عنها ألا تكلمه أبدا وذلك لشدة ما حصل لها من الانفعال على ابن أختها وهجرته ومن المعلوم أن هجر أم المؤمنين رضي الله عنها لابن أختها سيكون شديدا عليه فحاول أن يسترضيها ولكنها صممت لأنها ترى أن النذر شديد فاستشفع إليها برجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلا حيلة بأم المؤمنين لكنها حيلة حسنة لأنها أدت إلى مطلوب حسن وهو الإصلاح بين الناس والكذب في الإصلاح بين الناس باللسان جائز فكيف بالأفعال استأذنا على عائشة رضي الله عنها فسلما عليها وهذه هي السنة عند الاستئذان أنك إذا قرعت الباب على شخص تقول السلام عليكم ثم استأذناها في الدخول فقالا ندخل قالت نعم قالوا كلنا قالت كلكم ولم تعلم أن عبد الله بن الزبير معهما لكنها لم تقل هل معكم(6/681)
عبد الله بن الزبير فلم تستفصل وأتت بقول عام ادخلوا كلكم فدخلوا فلما دخلوا عليها وإذا عليها الحجاب حجاب أمهات المؤمنين وهو عبارة عن ستر تستتر به أمهات المؤمنين لا يراهن الناس وهو غير الحجاب الذي يكون لعامة النساء لأن الحجاب الذي لعامة النساء هو تغطية الوجه والبدن ولكن هذا حجاب يكون حاجبا وحائلا بين أمهات المؤمنين والناس فلما دخلا البيت دخل عبد الله بن الزبير الحجاب لأنه ابن أختها فهي من محارمه فأكب عليها يقبلها ويبكي ويناشدها الله عز وجل ويحذرها من القطيعة ويبين لها أن هذا لا يجوز لكنها قالت النذر شديد ثم إن الرجلين أقنعاها بالعدول عما صممت عليه من الهجر وذكراها بحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يحل للمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث حتى اقتنعت وبكت وكلمت عبد الله بن الزبير ولكن هذا الأمر أهمها شديدا فكانت كلما ذكرته بكت رضي الله عنها لأنه شديد وهذا قاعدة في كل إنسان يخاف الله كل من كان بالله أعرف كان منه أخوف كلما ذكرت هذا النذر وأنها انتهكته بكت رضي الله عنها ومع هذا أعتقت أربعين عبدا من أجل هذا النذر ليعتق الله تعالى رقبتها من النار وفي هذا دليل على شدة إيمان أمهات المؤمنين وحرصهن على العتق من النار والبراءة من عذاب الكفار ففي هذا الحديث دليل على فوائد 1_ أن الإنسان لا يحل له أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام ولاسيما إذا كان قريبا وأنه يجب عليه أن يحنث ويكفر لقول النبي صلى الله عليه وسلم من حلف(6/682)
على يمين فرأى خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير والله عز وجل غفور رحيم بالنسبة لليمين إذا كفرت عن يمينك وأتيت الذي هو خير كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم 2_ فضيلة الإصلاح بين الناس ومعلوم أن الإصلاح بين الناس من أفضل الأعمال قال الله تعالى {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما} 3_ جواز الحيل إذا لم تصل إلى شيء محرم لأن عائشة رضي الله عنها تحيل عليها الرجلان في الدخول عليها ومعهما عبد الله بن الزبير 4_ رقة قلوب الصحابة وسرعة بكائهم رضي الله عنهم من خشية الله عز وجل وهذا دليل على لين القلب وخشيته لله وكما كان قلب الإنسان أقسى كان من البكاء أبعد والعياذ بالله ولذلك نرى الناس لما كانوا أقرب للآخرة من اليوم نجد فيهم الخشوع والبكاء وقيام الليل واللجوء إلى الله والصدقة وفعل الخير لكن لما قست القلوب صارت المواعظ تمر عليها مرور الماء على الصفا لا تنتفع به إطلاقا نسأل الله لنا ولكم العافية(6/683)
1860 - وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى قتلى أحد فصلى عليهم بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع إلى المنبر فقال إني بين أيديكم فرط وأنا شهيد عليكم وإن موعدكم الحوض وإني لأنظر إليه من مقامي هذا وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها قال فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه وفي رواية ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم قال عقبة فكان آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وفي رواية قال إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها والمراد بالصلاة على قتلى أحد الدعاء لهم لا الصلاة المعروفة(6/684)
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث ذكره المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في آخر أبوابه في الأحاديث المنثورة عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فصلى على الشهداء هناك أي دعا لهم وليس المراد الصلاة المعروفة كما قال المؤلف رحمه الله لأن صلاة الجنازة المعروفة إنما تكون قبل الدفن لا بعده إلا من فاته الصلاة عليه قبل الدفن يصلي عليه بعده لكن هذه الصلاة الدعاء كما في قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم يعني ادع لهم ثم صعد المنبر صلى الله عليه وسلم وخطب الناس كالمودع وأخبر أنه يرى حوضه ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وأطيب من المسك رائحة وآنيته كنجوم السماء في الكثرة والنور هذا الحوض يرده الناس وهم عطاش من طول المقام يوم القيامة ويشرب منه المؤمنون جعلنا الله وإياكم ممن يشربون منه بمنه وكرمه ويذاد عنه الكافرون فمن شرب من شريعته في الدنيا واهتدى بسنته واتبع آثاره فليبشر أنه سيشرب من حوضه يوم القيامة ومن لم يكن كذلك حرم إياه والعياذ بالله كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول إنه ينظر إلى حوضه الآن كشف له عنه في الدنيا كما كشف عنه حين رأى الجنة والنار في صلاة الكسوف وهذه أمور غيبية لا نعرف كيف كذلك ولكن الله ورسوله أعلم المهم علينا أن نؤمن ونصدق فهذا الحوض يرده الناس يوم القيامة ويشربون منه إلا من طغى(6/685)
واستكبر والعياذ بالله وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا يخشى على أمته الشرك لأن البلاد ولله الحمد فتحت وصار أهلها إلى التوحيد ولم يقع في قلب النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقع الشرك بعد ذلك لكن لا يفهم من هذا أي من كونه لا يخاف الشرك على أمته ألا يقع فإن الشرك وقع الآن فهو موجود الآن من المسلمين من يقول إنه مسلم وهو يطوف بالقبور ويسأل المقبورين ويذبح لهم وينذر لهم فهو موجود والرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل إنكم لن تشركوا حتى نقول إن ما وقع ليس بشرك لأن الرسول نفى أن يكون الشرك وهو لا ينطق عن الهوى لكن قال إني لا أخاف وهذا بناء على وقوع الدعوة في عهده صلى الله عليه وسلم وبيان التوحيد وتمسك الناس به لكن لا يلزم من هذا أن يستمر ذلك إلى يوم القيامة ويدل لهذا أنه صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى تعبد فئام من أمته الأوثان أي جماعات كبيرة ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الساعة لا يخشى على أمته الشرك لكن خشي شيئا آخر الناس أسرع إليه وهو أن تفتح الدنيا على الأمة فيتنافسوها ويتقاتلوا عليها فتهلكهم كما أهلكت من قبلهم وهذا هو الذي وقع الآن فقد فتحت الدنيا وجاءتنا من كل جانب وصار فيها ما لا يخطر على البال مما سبق ولو أن أحدا حدث به لم يصدق لكن وقع فصار الناس الآن يتنافسون فيها ويتقاتلون عليها فأهلكتهم كما أهلكت من كان قبلهم والذين لم يقاتلوا(6/686)
عليها صارت قلوبهم للدنيا والعياذ بالله الدنيا همهم في المنام واليقظة والقعود والقيام والليل والنهار حتى أصبح المثل المشهور واقعا على كثير من الناس وهو الحلال ما حل باليد من حرام أو حلال وحتى صدق فيهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي على الناس زمان لا يبالي الرجل أخذ المال من حلال أو حرام والعياذ بالله أصبح الناس الآن يتقاتلون على الدنيا - على الدنيا - والعجب أن الإنسان يسعى وراء الدنيا التي خلقت له فيكون كأنه هو الذي خلق لها والعياذ بالله يخدمها خدمة عظيمة يرهق فيها بدنه وعقله وفكره وراحته والأنس بأهله ثم ماذا قد يفقدها في لحظة يخرج من بيته ولا يرجع إليه ينام على فراشه ولا يستيقظ وهذا مشاهد والعجب أن هذه الآيات نشاهدها نشاهد من عقد على امرأة ولم يدخل عليها ...
مات مع شدة شوقه إليها وبعد أمله ولكن حال دونه المنون نجد أناسا معهم بطاقات دعوة زواجهم ثم يموتون وهي في سياراتهم إذن فما فائدة الدنيا وهي إلى هذا الحد في الغرور لذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو الرحيم بالمؤمنين الرءوف بهم الشفيق عليهم إنما يخشى علينا أن تفتح الدنيا فنتنافس فيها وهذا هو الواقع فاحذر يا أخي لا تغرنك الحياة الدنيا ولا يغرنك بالله الغرور أنت(6/687)
إن وسع الله عليك الرزق وشكرته فهو خير لك وإن ضيق عليك وشكرت فهو خير لك أما أن تجعل الدنيا أكبر همك ومبلغ علمك فهذا خسار في الدنيا والآخرة أعاذنا الله وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن
1861 - وعن أبي زيد عمرو بن أخطب الأنصاري رضي الله عنه قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطب حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر حتى غربت الشمس فأخبرنا ما كان وما هو كائن فأعلمنا أحفظنا رواه مسلم
1862 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه رواه البخاري
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث من الأحاديث التي ذكرها المؤلف في كتابه (رياض الصالحين) من الأحاديث المنثورة التي لا تختص بباب دون باب فمنها هذا الحديث الدال على أن النبي صلى الله عليه وسلم أخطب الناس وأن الله(6/688)
تعالى أعطاه قوة لم يعطها أحدا غيره فقد صلى الفجر صلى الله عليه وسلم ذات يوم وصعد المنبر وخطب الناس حتى أذن الظهر ثم نزل فصلى الظهر ثم عاد فصعد المنبر وخطب حتى أذن العصر فنزل وصلى العصر ثم صعد المنبر فخطب حتى غابت الشمس يعني يوما كاملا من صلاة الفجر إلى غروب الشمس وهو صلى الله عليه وسلم يخطب ولم يذكر أنه خرج إلى البيت ليتغدى أو نحو ذلك فإما أن يكون صائما وإما أن يكون قد انشغل بما هو أهم وكذلك أيضا لم يذكر أنه صلى راتبة الظهر فيكون هنا اشتغل عن الراتبة بما هو أهم لأن موعظة الناس وتعليم الناس أهم من الراتبة فإن دار الأمر بين أداء الراتبة والتعليم فالتعليم أفضل قال وأخبرنا بما كان وما يكون يعني مما أطلعه الله عليه وليس يعلم الغيب إلا من أطلعه الله عليه فقط فأعلمه الله عز وجل في ذلك اليوم شيئا من علوم الغيب الماضية ومن الغيوب المستقبلة وأخبر بها صلى الله عليه وسلم فأعلمنا أحفظنا يعني منا من علم وحفظ وبقى ذلك في ذهنه ومنا من لم يحفظ ففي هذا دليل على قوة النبي صلى الله عليه وسلم ونشاطه وحرصه على إبلاغ الرسالة حتى قام يوما كاملا وأما الحديث الثاني فهو حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه النذر هو أن يلزم الإنسان نفسه شيئا لله عز وجل مثل أن يقول لله علي نذر أن أقوم أن أصوم أن أصلي أن أقرأ القرآن أن أتصدق..
..
ألخ والنذر إما حرام وإما مكروه فبعض العلماء(6/689)
يرى أن النذر حرام وأنه لا يحل للإنسان أن ينذر لأنه يكلف نفسه ما هو في غنى عنه وكم من إنسان نذر ولم يوف وكم من إنسان نذر وتعب في الوفاء وكم من إنسان نذر وذهب إلى أبواب العلماء يستفتيهم لعله يجد رخصة المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر واختلف علماء المسلمين في هذا النهي فمنهم من قال إنه للتحريم ومنهم من قال إنه للكراهة ولكن إذا نذر أن يطيع الله وجب عليه أن يطيع الله وجوبا فإذا قال لله علي نذر أن أصوم كل يوم اثنين من كل أسبوع وجب عليه ذلك ولا يحل له أن يخلف إلا لعذر كمرض ونحوه وإذا نذر أن يصلي كل يوم ركعتي الضحى وجب عليه أن يصلي ركعتين ...
إلخ مع أنه كان في حل من ذلك إن شاء صام وإن شاء لم يصم وإن شاء صلى وإن شاء لم يصل ...
إلخ في غير فرائض الله فهو في حل وسعة فيذهب فيضيق على نفسه والعجب أن بعض الناس نسأل الله لنا ولهم الهداية إذا كان مريضا قال لله علي نذر إن عافاني الله لأفعلن كذا وكذا سبحان الله الله لا يعافيك إلا إذا أعطيت الشرط ولهذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فقال إن النذر لا يرد قضاء إذا أراد الله أمرا سواء نذرت أو لم تنذر سيتم وقال إنه لا يأتي بخير وصدق صلى الله عليه وسلم النذر ما فيه خير وأعلم أنك إذا نذرت على شرط فلم توف إذا حصل الشرط فإنك(6/690)
مهدد بأمر عظيم مهدد بنفاق يجعله الله في قلبك حتى تموت قال الله عز وجل ومنهم من عاهد الله لئن ءاتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين عاهدوا الله إن أعطانا مالا لنتصدق منه ونقوم بطاعة الله {فلما ءاتاهم من فضله} وتم لهم مطلوبهم {بخلوا به وتولوا} ما وفوا بما عاهدوا الله عليه {فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه} نفاق دائم لا يوفقون إلى التوبة منه ولا تنسلخ قلوبهم منه بل يبقى في قلوبهم إلى أن يموتوا والعياذ بالله على النفاق فالمهم يا أخي المسلم احذر النذر وحذر إخوانك المسلمين وقل للمريض إن أراد الله لك شفاء شفاك بدون نذر وقل للتلميذ إن أراد الله أن تنجح نجحت بدون نذر وقل لمن ضاع منه شيء إن أراد الله آتاك به من غير نذر واصدق الله في نفسك إذا حصل ذلك الشيء فحينئذ أشكر الله تصدق بما شئت صم صل أما أن تنذر وكأن الله عز وجل لا يأتي إلا إذا شرط له شرط نسأل الله العافية ولهذا فالقول بالتحريم قول قوي وإليه مال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أما من نذر أن يعصى الله فلا يعصه ولو نذر أن يشرب الخمر مثلا حرم عليه شربها ولا يحل له أن يشرب الخمر بالنذر لا يقول أنا نذرت وأوفي بنذري نقول لا وفاء لنذر في معصية الله لو نذر أن يعتدي على شخص لا يحل أن يعتدي عليه ولو نذر لو(6/691)
نذر أن يغتاب شخصا فلا يحل له أن يغتابه ولو نذر أن يقاطع قريبه لم يحل له أن يقاطع قريبه لو نذر أن يعق والديه لم يحل له أن يعق والديه لأن ذلك معصية ومن نذر أن يعصي الله فلا يعص ولكن ماذا يفعل قال أهل العلم إنه لا يعصى الله ويكفر كفارة يمين يطعم عشرة مساكين أو يكسوهم أو يعتق رقبة فإن لم يجد صام ثلاثة أيام متتابعة لحديث ورد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم
1863 - وعن أم شريك رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها بقتل الأوزاغ وقال كان ينفخ على إبراهيم متفق عليه
أما الحديث الثالث فهو قتل الوزغ والوزغ سام أبرص هذا الذي يأتي في البيوت يبيض ويفرخ ويؤذي الناس أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وكان عند عائشة رضي الله عنها رمح بها تتبع الأوزاغ وتقتلها وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من قتله في أول مرة فله كذا وكذا من الأجر وفي الثانية أقل وفي الثالثة أقل ...
كل ذلك تحريضا للمسلمين على المبادرة لقتله وأن يكون قتله بقوة ليموت في أول مرة وسماه النبي صلى الله عليه وسلم فاسقا وأخبر أنه كان ينفخ النار على إبراهيم والعياذ بالله حين ألقاه أعداؤه في النار جعل هذا الخبيث الوزغ ينفخ النار على إبراهيم من أجل أن يشتد لهبها مما يدل على عدواته التامة لأهل التوحيد والإخلاص ولذلك ينبغي للإنسان أن يتتبع الأوزاغ في بيته في السوق في المسجد ويقتلها والله الموفق
1864 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل وزغة في أول ضربة فله كذا وكذا حسنة ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة دون الأولى وإن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة وفي رواية من قتل وزغا في أول ضربة كتب له مائة حسنة وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك رواه مسلم(6/692)
قال أهل اللغة الوزغ العظام من سام أبرص(6/693)
1865 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال رجل لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على سارق فقال اللهم لك الحمد لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على زانية فقال اللهم لك الحمد على زانية لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد غني فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني فقال اللهم لك الحمد على سارق وعلى زانية وعلى غني فأتي فقيل له أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته وأما الزانية فلعلها تستعف عن زناها وأما الغني فلعله أن يعتبر فينفق مما آتاه الله رواه البخاري بلفظه ومسلم بمعناه
[الشَّرْحُ]
أما حديث أبي هريرة الثاني فهو في قصة الرجل الذي خرج ليتصدق ومعروف أن الصدقة على الفقراء والمساكين فوقعت صدقته في يد سارق فأصبح الناس يتحدثون تصدق الليلة على سارق والسارق ينبغي أن يعاقب لا أن يعطى وينمى ماله فقال هذا الرجل المتصدق الحمد لله حمد الله لأن الله تعالى محمود على كل حال وكان من هدى النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أصابه ما(6/694)
يسره قال الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وإذا أصابه خلاف ذلك قال الحمد لله على كل حال هذا هدى النبي صلى الله عليه وسلم وأما ما يقوله بعض الناس الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه فهذه عبارة لا ينبغي أن تقال لأن كلمة على مكروه تنبئ عن كراهتك لهذا الشيء وأن هذا فيه نوع من الجزع ولكن قل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله على كل حال والإنسان لا شك في أنه في هذه الدنيا يوما يأتيه ما يسره ويوما يأتيه ما لا يسره فإن الدنيا ليست باقية على حال وليست صافية من كل وجه بل صفوها مشوب بالكدر نسأل الله أن يكتب لنا ولكم بها نصيبا للأخرة لكن إذا أتاك ما يسرك فقل الحمد لله الذي بنعمتة تتم الصالحات وما يسوؤك فقل الحمد لله على كل حال ثم إنه خرج هذا الرجل فقال لأتصدقن الليلة فوقعت صدقته في يد زانية امرأة بغى تمكن الناس من الزنا بها فأصبح الناس يتحدثون تصدق الليلة على زانية وهذا شيء لا يقبله العقل ولا الفطرة فقال الحمد لله ثم قال لأتصدقن الليلة وكأنه رأى أن صدقته الأولى والثانية لم تقبل فتصدق فوقعت في يد غني والغني ليس من أهل الصدقة بل من أهل الهدية والهبة وما أشبه ذلك فأصبح الناس يتحدثون تصدق الليلة على غني فقال الحمد لله(6/695)
على سارق وزانية وغني وقد كان يريد أن تقع صدقته في يد فقير متعفف نزيه لكن كان أمر الله قدرا مقدورا فقيل له إن صدقتك قد قبلت لأنه مخلص قد نوى خيرا لكنه لم يتيسر له وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن إذا حكم الحاكم فاجتهد فأخطأ فله أجر هذا مجتهد ولم يتيسر له ما يريد فقيل له أما صدقتك فقد قبلت وأما السارق فلعله أن يستعف عن السرقة ربما يقول هذا مال يكفيني وما البغي فلعلها أن تستعف عن الزنا لأنها ربما كانت تزني والعياذ بالله ابتغاء المال وقد حصل لها ما يكفها عن الزنا وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما آتاه الله هكذا النية الطيبة يحصل بها الثمرات الطيبة وكل هذا الذي ذكر متوقع وربما يكون يستعف السارق عن السرقة والبغي عن الزنا والغني يعتبر ففي هذا الحديث دليل على أن الإنسان إذا نوى الخير وسعى فيه وأخطأ فإنه يكتب له ولا يضره ولهذا قال العلماء رحمهم الله إذا أعطى زكاته من يظنه من أهل الزكاة فتبين أنه ليس من أهلها فإنها تجزئة مثلا رأيت رجلا عليه ثياب رثة تحسبه فقيرا فأعطيته الزكاة ثم تحدث الناس أنه غني عنده أموال كثيرة فهل تجزئك الزكاة الجواب نعم تجزئه الزكاة لأنه قيل لهذا الرجل أما صدقتك فقد قبلت وكذلك إذا أعطيتها غيره ممن ظننته مستحقا ولم يكن كذلك فإنها تجزئك والله الموفق(6/696)
1866 - وعنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوة فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة وقال أنا سيد الناس يوم القيامة هل تدرون مم ذاك يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فينظرهم الناظر ويسمعهم الداعي وتدنو منهم الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب مالا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس ألا ترون إلى ما أنتم فيه إلى ما بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم فيقول بعض الناس لبعض أبوكم آدم ويأتونه فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك وأسكنك الجنة ألا تشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا فقال إن ربي غضب غضبا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقولون يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سماك الله عبدا شكورا ألا ترى إلى ما نحن فيه ألا ترى إلى ما بلغنا ألا تشفع لنا إلى ربك فيقول إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقولون يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل(6/697)
الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول لهم إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني كنت كذبت ثلاث كذبات نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى فيقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالاته وبكلامه على الناس اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قد قتلت نفسا لم أومر بقتلها نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ولم يذكر ذنبا نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم وفي رواية فيأتوني فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ثم(6/698)
يقال يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول أمتي يا رب أمتي يا رب فيقال يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ثم قال والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى متفق عليه
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث الطويل الذي ساقه المؤلف رحمه الله في آخر كتابه (رياض الصالحين) عن أبي هريرة رضي الله عنه أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة فقدمت إليه الذراع فنهس منها نهسة وكانت تعجبه الذراع يعني ذراع الشاة وكانت تعجب النبي صلى الله عليه وسلم لأن لحمها أطيب ما في الجسم من لحم لين وسريع الهضم ومفيد وكانت تعجب النبي صلى الله عليه وسلم فنهس منها نهسة ثم حدثهم هذا الحديث العجيب الطويل فقال أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم وأشرف بني الإنسان عند الله تبارك وتعالى أتدرون مم ذاك قالوا لا يا رسول الله فساق لهم بيان شرفه وفضله صلى الله عليه وسلم على جميع بني(6/699)