الإنسان يؤتى إليه بالأدلة من الكتاب والسنة، ويُقال: هذا كتاب الله، هذه سنة رسول الله، ولكنه لا يقبل؛ بل يستمر على رأيه، فهذا ردٌّ الحق والعياذ بالله.
وكثيرٌ من الناس ينتصر لنفسه، فإذا قال قولاً لا يمكن أن يتزحزح عنه، ولو رأى الصواب في خلافه، ولكن هذا خلاف العقل وخلاف الشرع.
والواجب أن يرجع الإنسان للحق حيثما وجده، حتى لو خالف قوله فليرجع إليه، فإن هذا أعز له عند الله، وأعز له عند الناس، وأسلم لذمته وأبرأ ولا يضره.
فلا تظن أنك إذا رجعت عن قولك إلى الصواب أن ذلك يضع منزلتك عند الناس؛ بل هذا يرفع منزلتك، ويعرف الناس أنك لا تتبع إلى الحق، أما الذي يعاند ويبقى على ما هو عليه ويرد الحق، فهذا متكبر والعياذ بالله.
وهذا الثاني يقع من بعض الناس والعياذ بالله حتى من طلبة العلم، يتبين له بعد المناقشة وجه الصواب وأن الصواب خلاف ما قاله بالأمس، ولكنه يبقى على رأيه، يملي عليه الشيطان أنه إذا رجع استهان الناس به، وقالوا هذا إنسان إمعه كل يوم له قول، وهذا لا يضر إذا رجعت إلى الصواب، فليكن قولك اليوم خلاف قولك بالأمس، فالأئمة الأجلة كان لهم في المسألة الواحدة أقوال متعددة.
وها هو الإمام أحمد رحمه الله إمام أهل السنة، وأرفع الأئمة من حيث اتباع الدليل وسعة الاطلاع، نجد أن له في المسألة الواحدة في بعض(3/537)
الأحيان أكثر من أربعة أقوال، لماذا؟ لأنه إذا تبين له الدليل رجع إليه، وهكذا شأن كل إنسان منصف عليه أن يتبع الدليل حيثما كان.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله آيات تتعلق بهذا الباب بيّن فيها رحمة الله أنها كلها تدل على ذم الكبر، وآخرها الآيات المتعلقة بقارون.
وقارون رجل من بني إسرائيل من قوم موسى، أعطاه الله سبحانه وتعالى مالاً كثيراً، حتى إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة، أي: مفاتيح الخزائن تثقل وتشق على العصبة، أي الجماعة من الرجال أولي القوة لكثرتها.
(إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) فإن هذا الرجل بطر والعياذ بالله وتكبّر، ولما ذكر بآيات الله ردها واستكبر (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) ، فأنكر فضل الله عليه، وقال أنا أخذته بيدي وعندي علم أدركت به هذا المال.
وكانت النتيجة أن الله خسف به وبداره الأرض، وزال هو وأملاكه، (فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا) (القصص: 82، 81) . فتأمل نتيجة الكبر والعياذ بالله والعجب والاعتداد بالنفس، وكيف كان عاقبة ذلك من الهلاك والدمار.
ثم ذكر المؤلف عدة آيات منها قوله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(3/538)
الآخرة هي آخر دور بني آدم؛ لأن ابن آدم له أربعة دور كلها تنتهي بالآخرة.
الدار الآولى: في بطن أمه.
الدار الثانية: إذا خرج من بطن أمه إلى دار الدنيا.
الدار الثالثة: البرزخ؛ ما بين موته وقيام الساعة.
والدار الرابعة: الدار الآخرة. وهي النهاية، وهي القرار، هذه الدار قال الله تعالى عنها: (نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً) (القصص: 83) ، لا يريدون التعالي على الحق، ولا التعالي على الخلق، وإنما هم متواضعون، وإذا نفى الله عنهم إرادة العلو والفساد، فهو من باب أولى ألا يكون منهم علو ولا فساد، فهم لا يعلون في الأرض، ولا يفسدون، ولا يكون منهم علو ولا فساد، فهم لا يعلون في الأرض، ولا يفسدون، ولا يريدون ذلك؛ لأن الناس ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
1- قسم علا وفسد وأفسد، فهذا اجتمع في حقه الإرادة والفعل.
2- وقسم لم يرد الفساد ولا العلو فقد انتفى عنه الأمران.
3- وقسم ثالث يريد العلو والفساد ولكن لا يقدر عليه. فهدا الثالث بين الأول والثاني، لكن عليه الوزر؛ لأنه أراد السوء، فالدار الآخرة إنما تكون (لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ) أي تعالياً على الحق أو على الخلق (وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) .
فإن قال قائل: ما هو الفساد في الأرض؟ فالجواب أن الفساد في الأرض ليس هدم المنازل ولا إحراق الزروع، بل الفساد في الأرض بالمعاصي، كما قال أهل العلم رحمهم الله في قوله تعالى: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا) (الأعراف: 56) ، أي لا تعصوا الله؛ لأن المعاصي(3/539)
سبب للفساد.
قال الله تبارك وتعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف: 96) ، فلم يفتح الله عليهم بركات من السماء ولا من الأرض، فالفساد في الأرض يكون بالمعاصي نسأل الله العافية.
وقال الله تبارك وتعالى: (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحا) (لقمان: 18) ، يعنيلا تمش مرحاً مستكبراً متبختراً متعاظماً في نفسك وفي الآية الثانية قال: (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) (الاسراء: 37) ، يعني مهما كنت فأنت لا تقدر أن تنزل في الأرض ولا تتباهى حتى تساوي الجبال؛ بل إنك أنت أنت. أنت ابن آدم حقير ضعيف، فكيف تمشي في الأرض مرحاً.
وقال تعالى: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان: 18) .
تصعير الخد للناس: أن يعرض الإنسان عن الناس، فتجده والعياذ بالله مستكبراً لاوياً عنقه، تحدثه وهو يحدثك وقد صد عنك، وصعّر خده.
(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحا) يعني لا تمش تبختراً وتعاظماً وتكبراً (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان: 18) ، المختال في هيئته، والفخور بلسانه وقوله، فهو بهيئته مختال؛ في ثيابه، في ملابسه، في مظهره، في مشيته، فخور بقوله ولسانه، والله تعالى لا يحب هذا، إنما يحب المتواضع الغني الخفي التقي, هذا هو الذي يحبه الله عزّ وجلَّ. نسأل الله تعالى أن يهدينا وإياكم لأحسن الأخلاق والأعمال وأن يجنبنا سيئات(3/540)
الأخلاق والأعمال إنه جواد كريم.
* * *
1/612- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة نم كبر" فقال رجلٌ: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة؟ قال: ((إن الله جميل يحبٌ الجمال. الكبر بطر الحق وغمط الناسِ)) رواه مسلم.
2/613- وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنهُ أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال: ((كل بيمينك)) . قال: لا أستطيع! قال: ((لا استطعت)) ما منعه إلا الكبر. قال: فما رفعها على فيه. رواهُ مسلم.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب تحريم الكبر والعجب، عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) . وهذا الحديث من أحاديث الوعيد التي يطلقها الرسول صلى الله عليه وسلم تنفيراً عن الشيء، وإن كانت تحتاج إلى تفصيل حسب الأدلة الشرعية.
فالذي في قلبه كبر، إما أن يكون كبراً عن الحق وكراهة له، فهذا كافر(3/541)
مخلداً في النار ولا يدخل الجنة؛ لقول الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) (محمد: 9) ، ولا يحبط العمل إلا بالكفر كما قال تعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة: 217) .
وأما إذا كان كبراً على الخلق وتعاظماً على الخلق، لكنه لم يستكبر عن عبادة الله، فهذا لا يدخل الجنة دخولاً كاملاً مطلقاً لم يسبق بعذاب؛ بل لابد من عذاب على ما حصل من كبره وعلوائه على الخلق ثم إذا طهر دخل الجنة.
ولما حدث النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث قال رجل: يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. يعني فهل هذا من الكبر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جميل يحب الجمال)) جميل في ذاته، جميل في أفعاله، جميل في صفاته، كل ما يصدر عن الله عزّ وجلّ فإنه جميل وليس بقبيح؛ بل حسن، تستحسنه العقول السليمة، وتستسيغه النفوس.
وقوله: ((يحب الجمال)) أي يحب التجمل يعني أنه يحب أن يتجمل الإنسان في ثيابه، وفي نعله، وفي بدنه، وفي جميع شؤونه؛ لأن التجمل يجذب القلوب إلى الإنسان، ويحببه إلى الناس، بخلاف التشوه الذي يكون فيه الإنسان قبيحاً في شعره أو في ثوبه أو في لباسه، فلهذا قال: ((إن الله جميل يحب الجمال)) أي يحب أن يتجمل الإنسان.
أما الجمال الخلقي الذي منّ الله عزّ وجلّ، فهذا إلى الله سبحانه وتعالى، ليس للإنسان فيه حيلة، وليس له فيه كسب، وإنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم(3/542)
ما للإنسان فيه كسب وهو التجمل.
أما الحديث الثاني فهو حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن رجلاً أكل عند النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليسرى، فقال: ((كل بيمينك)) قال: لا أستطيع. ما منعه إلا الكبر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا استطعت" لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عرف أنه متكبر، فقال: " لا استطعت" أي دعا عليه بأن الله تعالى يصيبه بأمر لا يستطيع معه رفع يده اليمنى إلى فمه، فلما قال ((لا استطعت)) أجاب الله دعوته فلم يرفعها إلى فمه بعد ذلك، صارت والعياذ بالله قائمة كالعصا، لا يستطيع رفعها؛ لأنه استكبر على دين الله عزّ وجلّ.
وفي هذا دليلٌ على وجوب الأكل باليمين والشرب باليمين، وأن الأكل باليسار حرام، يأثم عليه الإنسان، وكذلك الشرب باليسار حرام، يأثم عليه الإنسان؛ لأنه إذا فعل ذلك أي أكل بشماله أو شرب بشماله شابه الشيطان وأولياء الشيطان، قال النبي صلى عليه الصلاة والسلام: " لا يأكل أحدكم بشماله ولا يشرب بشماله فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله)) .
وإذا نظرنا الآن إلى الكفار، وجدنا أنهم يأكلون بيسارهم ويشربون بيسارهم، وعلى هذا فالذي يأكل بشماله أو يشرب بشماله متشبه بالشيطان وأولياء الشيطان.
ويجب على من رآه أن ينكر عليه، لكن بالتي هي أحسن، أما أن يُعرض إذا كان يخشى أن يخجل صاحبه أو أن يستنكف ويستكبر، يُعرض(3/543)
فيقول: من الناس من يأكل بشماله أو يشرب بشماله، وهذا حرام ولا يجوز.
أو إذا كان معه طالب علم سأل طالب العلم وقال له: ما تقول فيمن يأكل بالشمال ويشرب بالشمال، حتى ينتبه الآخر، فإن انتبه فهذا المطلوب، وإن لم ينتبه قيل له- ولو سراً-: لا تأكل بشمالك ولا تشرب بشمالك، حتى يعلم دين الله تعالى وشرعه.
يوجد بعض المترفين يأكل باليمين ويشرب باليمين، إلا إذا شرب وهو يأكل فإنه يشرب بالشمال، يدعي أنه لو شرب باليمين لوث الكأس، فيُقال له: المسألة ليست هينة، وليست على سبيل الاستحباب حتى تقول الأمر هين، بل أنت إذا شربت بالشمال فأنت عاصٍ لأنه محرم، والمحرم لا يجوز إلا للضرورة، ولا ضرورة للشرب بالشمال خوفاً من أن يتلوث الكأس بالطعام.
ثم إنه يمكن أن يتلوث، يمكن أن تمسكه بين الإبهام والسبابة من أسفله وحينئذٍ لا يتلوث، والإنسان الذي يريد الخير والحق يسهل عليه فعله، أما المعاند أوالمترف أو الذي يقلد أعداء الله من الشيطان وأوليائه، فهذا له شأن آخر، والله الموفق.
* * *
3/614-وعن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((ألا أخبركم بأهل النار، كل عُتُل جواظٍ مُستكبرٍ)) متفق عليه. وتقدم(3/544)
شرحُه في باب ضعفة المسلمين.
4/615- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهُ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((احتجت الجنة والنار، فقالت النارُ: فيَّ الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: فيَّ ضعفاء الناس ومساكينهم فقضى الله بينهما: إنك الجنة رحمتى، أرحم بك من أشاء، وإنك النار عذابي، أعذب بك من أشاءُ، ولكليكما عليّ ملؤها)) رواهُ مسلم.
5/616- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزارهُ بطراً" متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
هذه أحاديث ساقها المؤلف النووي رحمه الله في كتاب رياض الصالحين في باب تحريم الكبر والعجب، وقد سبق لنا الكلام على الآيات الواردة في هذا، وكذلك الكلام على الأحاديث التي ذكرها المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الباب.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بأهل النار)) ، وهذا من الأسلوب الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمله، أن يورد الكلام على(3/545)
صيغة الاستفهام، من أجل أن ينتبه المخاطب ويعي ما يقول، فهو يقول ((ألا أخبركم)) ، الكل سيقول نعم أخبرنا يا رسول الله. قال: ((كل عتلًّ جواظٍ مستكبر)) .
العتل: معناها الشديد الغليظ، ومنه العتلة التي تحفر بها الأرض، فإنها شديدة غليظة، فالعتل هو الشديد الغليظ، والعياذ بالله.
الجواظ: يعني أنه فيه زيادة من سوء الأخلاق.
والمستكبر- وهذا هو الشاهد-: هو الذي عنده كِبر والعياذ بالله وغطرسة، وكِبر على الحق، وكِبر على الخلق، فهو لا يلين للحق أبداً، ولا يرحم الخلق والعياذ بالله.
هؤلاء هم أهل النار، أما أهل الجنة فهم الضعفاء المساكين الذين ليس عندهم ما يستكبرون به؛ بل هم دائماً متواضعون ليس عندهم كبرياء ولا غلظة؛ لأن المال أحياناً يفسد صاحبه، ويحمله على أن يستكبر على الخلق ويردّ الحق، كما قال تعالى: (كَلَّا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى) (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق: 7، 6) .
وكذلك أيضاً ذكر حديث احتجاج النار والجنة؛ احتجت النار والجنة، فقالت النار: إن أهلها هم الجبارون المتكبرون، وقالت الجنة: إن أهلها هم الضعفاء والمساكين، فاحتجت كل واحدة منها على الأخرى.
فحكم الله بينهما عزّ وجلّ، وقال في الجنة ((أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء)) وقال للنار ((أنت عذابي أعذب بك من أشاء)) فصارت النار دار(3/546)
العذاب والعياذ بالله، والجنة دار الرحمة، فهي رحمة الله ويسكنها الرحماء من عباده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ((وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)) .
وقال: ((ولكل منكما عليّ ملؤها)) فوعد الله عزّ وجلّ النار ملأها، ووعد الجنة ملأها، وهو لا يخلف الميعاد عزّ وجلّ.
ولكن أتدرون ماذا تكون العاقبة؟ تكون العاقبة- كما ثبتت بها الأحاديث الصحيحة- أن النار لا يزال يلقى فيها، وهي تقول كما قال تعالى (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) (قّ: 30) ، يعني تطلب الزيادة؛ لأنها لم تمتليء، فيضع الرب عزّ وجلّ عليها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض أي ينضم بعضها إلى بعض وتقول ((قط قط)) أي حسبي، حسبي، لا أريد زيادة فصارت النار تملأ بهذه الطريقة.
أما الجنة: فإن الجنة (عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ) (آل عمران: 133) ويسكنها أولياء الله، جعلني الله وإياكم منهم، ويسكنها أهلها، ويبقى فيها فضل؛ يعني مكان ليس فيه أحد، فينشىء الله لها أقواماً فيدخلهم الجنة برحمته.
وهذه هي النتيجة؛ امتلأت النار بعدل الله عزّ وجلّ، وأمتلأت الجنة(3/547)
بفضل الله ورحمته.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديثاً في الإنسان المسبل، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا ينظر الله إلى من جرّ ثوبه خُيلاء)) وهذه مسألة خطيرة وذلك أن الرجل منهي عن أن ينزل ثوبه أو سرواله أو مشلحه أو إزاره عن الكعب، لابد أن يكون من الكعب فما فوق، فمن نزل عن الكعب؛ فإن فعله هذا من الكبائر والعياذ بالله.
لأنه إن نزل كبراً وخيلاء فإنه لا ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا يكلمه، ولا يزكيه، وله عذابٌ أليم، وإن كان نزل لغير ذلك كأن يكون طويلاً ولم يلاحظه، فإنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار)) .
فكانت العقوبة حاصلة على كل حال فيما نزل عن الكعبين، لكن إن كان بطراً وخيلاء فالعقوبة أعظم؛ لا يكلم الله صاحبه يوم القيامة، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه، وله عذابٌ إليم، وإن كان غير خيلاء، فإنه يعذب بالنار والعياذ بالله.
فإذا قال قائل: ما هي السنة؟ قلنا: من الكعب إلى نصف الساق هذه هي السنة، نصف الساق سنة، وما دونه سنة، وما كان إلى الكعبين فهو سنة؛ لأن هذا هو لبس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنهم كانوا لا يتجاوز لباسهم الكعبين، ولكن يكون إلى نصف الساق أو يرتفع قليلاً، وما بين(3/548)
ذلك كله من السنة، والله الموفق.
6/617- عن أبي هريرة رضي الله عنهُ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان وملك كذابٌ، وعائلٌ مستكبرٌ)) رواه مسلم.
7/618- وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله عز وجل: العز إزاري، والكبرياءُ ردائي، فمن ينازعني عذبته" رواه مسلم.
8/619- وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما رجلٌ يمشي في حلة تعجبه نفسُه، مُرجلٌ رأسه، يختال في مشيته إذ خسف الله به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)) متفق عليه.
((مرجل رأسهُ)) أي: ممشطه ((يتجلجل)) بالجيمين، أي: يغوصُ وينزل.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث ساقها النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب تحريم الكبر والإعجاب، فذكر عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم)) ثلاثة: يعني ثلاثة أصناف، وليس المراد ثلاثة رجال، بل قد يكون(3/549)
آلاف الناس، لكن المراد ثلاثة أصناف. وهكذا كلما جاءت كلمة ثلاثة أو سبعة أو ما أشبه ذلك فالمراد أصنافاً لا أفراداً.
فهؤلاء الثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم.
الأول: شيخ زانٍ: شيخ يعني رجلاً كبيراً مسناً، زانٍ يعني أنه زنى، فهذا لا يكلمه الله يوم القيامة، ولا ينظر اليه، ولا يزكيه، وله عذاب اليم، وذلك لأن الشيخ إذا زنى فليس هناك شهوة تجبره على أن يفعل هذا الفعل.
فالشاب قد يكون عنده شهوة ويعجز أن يملك نفسه، لكن الشيخ قد بردت شهوته وزالت أو نقصت كثيراً، فكونه يزني هذا يدل على أنه- والعياذ بالله- سيءٌ للغاية؛ لأنه فعل الفاحشة من غير سبب قوي يدفعه إليها.
والزنى كله فاحشة سواء من الشاب أو من الشيخ، لكنه من الشيخ أشد وأعظم والعياذ بالله، إلا أن هذا الحديث مقيدٌ بما ثبت في الصحيحين أن من أتى شيئاً من هذه القاذورات، وأقيم عليه الحد في الدنيا، فإن الله تعالى لا يجمع عليه عقوبتين بل يزول عنه ذلك، ويكون الحد تطهيراً له.
الثاني: ملك كذَّاب: وكذاب هذه صيغة مبالغة أي كثير الكذب،(3/550)
وذلك لأن الملك لا يحتاج أن يكذب، كلمته هي العليا بين الناس، فلا حاجة إلى أن يكذب، فإذا كذب صار يعدُ الناس ولكن لا يوفي، يقول سأفعل كذا ولكن لا يفعل، سأترك كذا ولكن لا يترك، ويحدث الناس يلعب بعقولهم ويكذب عليهم، فهذا والعياذ بالله داخل في هذا الوعيد، لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.
والكذب حرامٌ من الملك وغير الملك، لكنه من الملك أعظم وأشد؛ لأنه لا حاجة إلى أن يكذب، كلمته بين الناس هي العليا فيجب عليه أن يكون صريحاً، إذا كان يريد الشيء، يقول نعم يوافق عليه ويفعل، وإذا كان لا يريده، يقول لا يرفضه ولا يفعل، الواحد من الرعية قد يحتاج إلى الكذب فيكذب، ولكن الملك لا يحتاج.
والكذب حرام، ومن صفات المنافقين والعياذ بالله، فإن المنافق إذا حدث كذب، ولا يجوز لأحد أن يكذب مطلقاً، وقول بعض العامة: إن الكذب إذا كان لا يقطع مُحلاًّ من حلاله فلا بأس به، هذه قاعدة شيطانية، ليس لها أساس من الصحة ولا من الدين، والصواب أن الكذب حرامٌ بكل حال.
الثالث: عائل مستكبر: وهذا هو الشاهد من الحديث، عائل يعني فقيراً، مستكبر يعني يتكبر على الناس والعياذ بالله، فإن هذا العائل الفقير ليس عنده ما يوجب الكبر، والغني ربما يخدعه غناه ويغرّه؛ فيتكبر على عباد الله، أو يتكبر عن الحق، لكن الفقير حشف وسوء كيلة، ما دام فقيراً فكيف يستكبر؟! فالعائل المستكبر هذا لا يكلمه الله يوم القيامة، ولا ينظر(3/551)
إليه، ولا يزكيه وله عذاب أليم.
والكبر حرامٌ من الغني ومن الفقير، لكنه من الفقير أشد، ولهذا تجد الناس إذا رأوا غنياً متواضعاً استغربوا ذلك منه، واستعظموا ذلك منه، ورأوا أن هذا الغني في غاية ما يكون من الخلق النبيل، لكن لو يجدون فقيراً متواضعاً لكان من سائر الناس؛ لأن الفقر يوجب للإنسان أن يتواضع؛ لأنه لأي شيء يستكبر؟! فإذا جاء إنسان والعياذ بالله عائل فقير يستكبر على الخلق، أو يستكبر عن الحق، فليس هناك ما يوجب الكبرياء في حقه فيكون والعياذ بالله داخلاً في الحديث.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله فيما ساقه من الأدلة على تحريم الكبر والإعجاب، وأنه من كبائر الذنوب، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((العز إزاري والكبرياء ردائى فمن ينازعني عذبته)) .
هذا من الأحاديث القدسية التي يرويها النبي صلى الله عيه وسلم عن الله، وهي ليست في مرتبة القرآن، فالقرآن له أحكام تخصه، منها أنه معجزٌ للبشر عن أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور منه، أو بسورة أو بحديث مثله، وأنه لا يجوز للجنب أن يقرأ القرآن، وأن الصلاة تصح إذا قرأ المصلى من القرآن؛ بل تجب القراءة بالفاتحة، أما الأحاديث القدسية فليست كذلك.
ثم القرآن محفوظ لا يزاد فيه ولا ينقص، ولا ينقل بالمعنى، وليس(3/552)
فيه شيء ضعيف، أما الأحاديث القدسية فإنها تروى بالمعنى، وفيها أحاديث ضعيفة، وفيها أحاديث مكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم ليست بصحيحة وهو كثير، فالمهم أنه ليس في منزلة القرآن إلا أنه يُقال إن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه.
فالله تعالى يقول: ((العز إزاري والكبرياء ردائي)) وهذا من الأحاديث التي تمر كما جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتعرض لمعناها بتحريف أو تكييف، وإنما يُقال هكذا قال الله تعالى فيما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فمن نازع الله في عزته وأراد أن يتخذ سلطاناً كسلطان الله، أو نازع الله في كبريائه وتكبر على عباد الله، فإن الله يعذبه، يعذبه على ما صنع ونازع الله تعالى فيما يختص به.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي هريرة الآخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((بينما رجل يمشي في حلة، تعجبه نفسه، مرجلٌ رأسه، يختال في مشيته)) أي عنده من الخيلاء والكبرياء والغطرسة ما عنده " إذ خسف الله به" أي خسف به الأرض ((فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)) يعني انهارت به الأرض وانغمس فيها واندفن، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة؛ لأنه والعياذ بالله لما صار عنده هذا الكبرياء وهذا التيه وهذا الإعجاب خسف به.
وهذا نظير قارون الذي ذكره المؤلف رحمه الله في صدر الباب، فإن قارون خرج على قومه في زينته (قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ(3/553)
وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ) (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) (القصص: 79-81) .
وقوله: " يتجلجل في الأرض" يحتمل أنه يتجلجل وهو حي حياة دنيوية، فيبقى هكذا معذباً إلى يوم القيامة، معذباً وهو في جوف الأرض وهو حي، فيتعذب كما يتعذب الأحياء، ويحتمل أنه لما اندفن مات، كما هي سنة الله عزّ وجلّ، مات ولكن مع ذلك يتجلجل في الأرض وهو ميت، فيكون تجلجله هذا تجلجلاً برزخياً لا تُعلم كيفيته، والله أعلم. المهم أن هذا جزاؤه والعياذ بالله.
وفي هذا وما قبله وما يأتي بعده دليلٌ على تحريم الكبر وتحريم الإعجاب، وأن الإنسان يجب عليه أن يعرف قدر نفسه وينزلها منزلتها، والله الموفق.
* * *
9/620- وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يُكتبَ في الجبارين، فيصيبهُ ما أصابهم)) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
" يذهب بنفسه: أي: يرتفع ويتكبر.(3/554)
[الشَّرْحُ]
في هذا الحديث الأخير في هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم حذّر الإنسان من أن يعجب بنفسه، فلا يزال في نفسه يترفع ويتعاظم حتى يكتب من الجبارين، فيصيبه ما أصابهم.
والجبارون والعياذ بالله، لو لم يكن من عقوبتهم إلا قول الله تبارك وتعالى: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (غافر: 35) ، والعياذ بالله؛ لكان عظيماً. فالجبار والعياذ بالله يُطبع على قلبه، حتى لا يصل إليه الخير، ولا ينتهي عن الشر.
وخلاصة هذا الباب أنه يدور على شيئين:
الأول: تحريم الكبر، وأنه من كبائر الذنوب.
والثاني: تحريم الإعجاب، إعجاب الإنسان بنفسه، فإنه أيضاً من المحرمات، وربما يكون سبباً لحبوط العمل إذا أعجب الإنسان بعبادته، أو قراءته القرآن، أو غير ذلك، ربما يحبط أجره وهو لا يعلم.(3/555)
73- باب حُسن الخُلق
قال الله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4) ، وقال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) (آل عمران: 134) .
1/621- وعن أنس رضي الله عنهُ قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً) . متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
قال الحافظ النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب حسن الخلق، يعني باب الحث عليه، وفضيلته، وبيان من اتصف به من عباد الله، وحسن الخلق يكون مع الله ويكون مع عباد الله.
أما حسن الخلق مع الله: فهو الرضا بحكمه شرعاً وقدراً، وتلقي ذلك بالانشراح وعدم التضجر، وعدم الأسى والحزن، فإذا قدر الله على المسلم شيئاً يكرهه رضي بذلك واستسلم وصبر، وقال بلسانه وقلبه: رضيت بالله رباّ، وإذا حكم الله عليه بحكم شرعي؛ رضي واستسلم، وانقاد لشريعة الله عزّ وجلّ بصدر منشرح ونفس مطمئنة، فهذا حسن الخلق مع الله عزّ وجلّ.
أما مع الخَلق فيحسن الخُلق معهم بما قاله بعض العلماء: كف الأذى، وبذل الندى، وطلاقه الوجه، وهذا حسن الخلق.(3/556)
كف الأذى بألا يؤذي الناس لا بلسانه ولا بجوارحه، وبذل الندى يعني العطاء، يبذل العطاء من مال وعلم وجاه وغير ذلك، وطلاقة الوجه بأن يلاقي الناس بوجه منطلق، ليس بعبوس، ولا مصعّرٍ خده، وهذا هو حسن الخلق.
ولا شك أن الذي يفعل هذا؛ فكيف الأذى ويبذل الندى ويجعل وجه منطلقاً؛ لا شكل أنه سيصبر على أذى الناس أيضاً، فإن الصبر على أذى الناس لا شك أنه من حسن الخُلق، فإن من الناس من يؤذي أخاه، وربما يعتدي عليه بما يضرّه؛ بأكل ماله، أو جحد حق له، أو ما أشبه ذلك، فيصبر ويحتسب الأجر من الله سبحانه وتعالى، والعاقبة للمتقين، وهذا كله من حسن الخلق مع الناس.
ثم صدّر المؤلف رحمه الله تعالى هذا الباب بقوله تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4) ، وهذا معطوف على جواب القسم (نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) (القلم: 1-4) . إنك: يعني يا محمد، لعلى خلق عظيم لم يتخلق أحد بمثله، في كل شيء؛ خلق مع الله، خلق مع عباد الله، في الشجاعة والكرم وحسن المعاملة وفي كل شيء، وكان عليه الصلاة والسلام خلقه القرآن يتأدب بآدابه؛ يمتثل أوامره ويجتنبُ نواهيه.
ثم ساق المؤلف جزءاً من آية آل عمران في قوله: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) (آل عمران134) ، وهذه من صفات المتقين الذين أعد الله لهم الجنة، كما قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ(3/557)
رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: 133-134) .
(وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) يعني الذين يكظمون غضبهم، إذا غضب، ملك نفسه وكظم غيظه، ولم يتعد على أحدٍ بموجب هذا الغضب.
(َ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاس) إذا أساءوا إليهم، (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فإن هذا من الإحسان أن تعفو عمّن ظلمك، ولكن العفو له محل؛ إن كان المعتدي أهلاً للعفو فالعفو محمود، وإن لم يكن أهلاً للعفو؛ فإن العفو ليس بمحمود؛ لأن الله تعالى قال في كتابه: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه) (الشورى: 40) .
فلو أن رجلاً اعتدى عليك بضربك، أو أخذ مالك، أو إهانتك، أو ما أشبه ذلك، فهل الأفضل أن تعفو عنه أم لا؟
نقول في هذا تفصيل: إن كان الرجل شريراً، سيئاً، إذا عفوت عنه ازداد في الاعتداء عليك وعلى غيرك، فلا تعفُ عنه، خذ حقك منه بيدك، إلا أن تكون تحت ولاية شرعية فترفع الأمر إلى من له الولاية الشرعية، وإلا فتأخذه بيدك ما لم يترتب على ذلك ضرر أكبر.
والحاصل أهه إذا كان الرجل المعتدى سيئاً شريراً هذا ليس أهلاً للعفو فلا تعفُ عنه، بل الأفضل أن تأخذ بحقك؛ لأن الله يقول: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ) ، والعفو في مثل هذه الحال ليس بإصلاح.(3/558)
والنفس ربما تأمرك أن تأخذ بحقك، ولكن كما قلت إذا كان الإنسان أهلاً للعفو فالأفضل أن تعفو عنه وإلا فلا.
* * *
2/622- وعنه رضي الله عنه قال: ما مسستُ ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممتُ رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فلما قال لي قط: أف، ولا قال لشيء فعلتهُ: لم فعلتهُ؟ ولا لشيءٍ لم أفعلهُ: ألا فعلت كذا؟. متفق عليه.
3/623-وعن الصعب بن جثامة رضي الله عنه قال: أهديتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً، فردهُ على، فلما رأى ما في وجهي قال: ((إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم)) متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف الحافظ النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب حسن الخلق ما نقله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان أنس بن مالك رضي الله عنه قد خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين؛(3/559)
جاءت به أمه حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فقالت: يا رسول الله، هذا أنس ابن مالك يخدمك، فقبل عليه الصلاة والسلام أن يخدمه لله، ودعا له أن يبارك الله له في ماله وولده، فبارك الله له في ماله وولده، حتى قيل إنه كان له بستان يثمر في السنة مرتين، من بركة المال الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم به، أما أولاده فبلغوا مائة وعشرين ولداً، أولاده من صلبه، كل هذا ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول إنه ما مس ديباجاً ولا حريراً ألين من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت يده صلى الله عليه وسلم لينة إذا مسها الإنسان فإذا هي لينة.
وكما ألان الله يده فقد ألان الله سبحانه وتعالى قلبه، قال الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُم) ْ يعني صرت ليناً لهم (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (آل عمران: 159) .
وكذلك أيضاً رائحته صلى الله عليه وسلم، ما شم طيباً قط أحسن من رائحة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام طيب الريح كثير استعمال الطيب، قال: ((حُبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة)) هو نفسه طيب صلى الله عليه وسلم، حتى كان الناس يتبادرون إلى أخذ عرقه صلى الله عليه وسلم من حسنه وطيبه، ويتبركون بعرق؛ لأن من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم أننا نتبرك بعرقه وبريقه وبثيابه، أما غير الرسول فلا يتبرك بعرقه ولا بثيابه ولا بِريقه.(3/560)
يقول: ولقد خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أفّ قط، يعني ما تضجر منه أبداً، عشر سنوات يخدمه ما تضجر منه، والواحد منا إذا خدمه أحد أو صاحبه أحد لمدة أسبوع أو نحوه لابد أن يجد منه تضجراً، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم عشر سنوات وهذا الرجل يخدمه، ومع ذلك ما قال له أفّ قط.
ولا قال لشيءٍ فعلت لما فعلت كذا؟ حتى الأشياء التي يفعلها أنس اجتهاداً منه ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤنبه أو يوبخه أو يقول لما فعلت كذا، مع أنه خادم، وكذلك ما قال لشيء لم أفعله لم لم تفعل كذا وكذا؟ فكان عليه الصلاة والسلام يعامله بما أرشده الله سبحانه وتعالى إليه في قوله: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف: 199) .
والعفو ما عفا من أخلاق الناس وما تيسر، يعني خذ من الناس ما تيسر، ولا تريد أن يكون الناس لك على ما تريد في كل شيء، من أراد أن يكون الناس له على ما يريد في كل شيء فاته كل شيء، ولكن خذ ما تيسر، عامل الناس بما إن جاءك قبلت وإن فاتك لم تغضب، ولهذا قال: ما قال لشيء لم أفعله لِمَ لَم تفعل كذا وكذا، وهذا من حسن خلقه عليه الصلاة والسلام.
ومن حسن خلقه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يُداهن الناس في دين الله، ولا يفوته أن يطيب قلوبهم، فالصعب بن جثامة رضي الله عنه مرّ به النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم محرم، وكان الصعب بن جثامة عداءً رامياً، عداء: يعني سبوقاً، رامياً: يعني يجيد الرمي.(3/561)
فلما نزل به النبي صلى الله عليه وسلم ضيفاً رأى أنه لا أحد أكرم ضيفاً منه، فذهب يصيد للرسول صلى الله عليه وسلم صيداً، فصاد له حماراً وحشياً وكان في الجزيرة العربية في ذلك الوقت كثيرٌ من الصيد، لكنها قلت صاد له حماراً وحشياً وجاء به إليه فرده النبي صلى الله عليه وسلم فَصَعُبَ ذلك على الصعب؛ كيف يرد النبي صلى الله عليه وسلم هديته؟ فتغير وجهه، فلما رأى ما في وجهه طيب قلبه وقال: ((إنا لم نرده عليك إلا أنا حُرم)) يعنى محرمون، والمحرم لا يأكل من الصيد الذي صيد من أجله.
فلو أن محرماً مر بك وأنت في بلدك وهو محرم وصدت له صيداً أو ذبحت له صيداً عندك، فإنه لا يحل له أن يأكل منه، وذلك لأنه ممنوع من أكل ما صيد من أجله، أما إذا لم تصده من أجله، فالصحيح أنه حلال له إذا لم تصده لأجله.
ولهذا أكل النبي صلى الله عليه وسلم من الصيد الذي صاده أبو قتادة رضي الله عنه؛ لأن أبا قتادة لم يصده من أجل الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا أحسن ما قيل في هذه المسألة، إنه إذا صيد الصيد من أجل المحرم كان حراماً عليه، وإن صاده الإنسان لنفسه وأطعم منه المحرم فلا بأس.
قال بعض العلماء: إن المحرم لا يأكل من الصيد مطلقاً؛ صيد من أجله أم لم يصد، قالوا لأن حديث الصعب بن جثامة متأخر عن حديث أبي قتادة، فإن حديث أبي قتادة كان في غزوة الحديبية في السنة السادسة، وحديث الصعب بن جثامة في حجة الوداع في السنة العاشرة، ويؤخذ بالأخر فالآخر.(3/562)
ولكن القاعدة الأصولية الحديثية تأبى هذا القول؛ لأنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع، فإذا أمكن الجمع فلا نسخ، والجمع هنا ممكن، وهو أن يقال: إن صيدَ لأجل المُحرم فحرام، وإن صاده الإنسان لنفسه وأطعم منه المحرم فلا بأس.
ويؤيد هذا حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صيد البر حلالٌ ما لم تصيدوه أو يصد لكم)) ، وهذا تفصيل واضح؛ ما لم تصيدوه أو يصد لكم.
والحاصل أن هذا الحديث؛ حديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه فيه فائدتان عظيمتان.
الأولي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يداهن أحداً في دين الله، وإلا قبل الهدية من الصعب، وسكت إرضاءً له ومداهنة له، لكنه عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يفعل هذا.
الثانية: أنه ينبغي للإنسان أن يجبر خاطر أخيه إذا فعل معه ما لا يحب، ويبين له السبب؛ لأجل أن تطيب نفسه، ويطمئن نفسه، ويطمئن قلبه، فإن هذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ والله الموفق.
* * *(3/563)
4/624- وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: ((البر حُسنُ الخُلق، والإثمُ ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناسُ)) رواه مسلم.
5/625- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً. وكان يقولُ: " إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً: متفق عليه.
6/626- وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من شيءٍ أثقلُ في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلقِ، وإن الله يبغضُ الفاحش البذي)) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
(البذي) : هو الذي يتكلم بالفحش، ورديء الكلامِ.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث ساقها النووي رحمه الله في باب حسن الخلق من كتاب رياض الصالحين، وقد سبق شيء من هذه الأحاديث.
أما حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البر حسن الخلق) ، وقد تقدم شرح هذه الجملة، وبينا أن حسن الخلق يحصل(3/564)
فيه الخير الكثير؛ لأن البر هو الخير الكثير.
وأما الإثم فقال هو: (ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) يعني بما حاك في النفس، يعني لم تطمئن إليه النفس، بل ترددت فيه، وكرهت أن يطلع عليه الناس.
ولكن هذا خطاب للمؤمن، أما الفاسق فإن الإثم لا يحيك في صدره، ولا يهمه أن يطلع عليه الناس؛ بل يجاهر به ولا يبالى، لكن المؤمن لكون الله سبحانه وتعالى قد أعطاه نوراً في قلبه، إذا هم بالإثم حاك في صدره، وتردد فيه، وكره أن يطلع عليه الناس، فهذا الميزان إنما هو في حق المؤمنين.
أما الفاسقون فإنهم لا يهمهم أن يطلع الناس على آثامهم، ولا تحيك الآثام في صدورهم؛ بل يفعلوها والعياذ بالله بانطلاق وانشراح؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (فاطر: 8) .
فقد يزين للإنسان سوء العمل فينشرح له صدره، مثل ما نرى من أهل الفسق الذين يشربون الخمر، وتنشرح صدورهم له، والذين يتعاملون بالربا وتنشرح صدورهم لذلك، والذين يتعودون العهر والزنا وتنشرح صدورهم لذلك، ولا يبالون بهذا؛ بل ربما إذا فعلوا ذلك سراً ذهبوا يشيعونه ويعلنونه، مثل ما يوجد من بعض الفساق إذا ذهبوا إلى البلاد الخارجية الماجنة الفاجرة ورجعوا، قاموا يتحدثون فعلت كذا وفعلت كذا، يعني أنهم زنوا بكذا وزنوا بكذا والعياذ بالله- وشربوا الخمر وما أشبه ذلك.(3/565)
وفي هذه الأحاديث بيان صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، يعني أنه صلى الله عليه وسلم بعيد عن الفحش طبعاً وكسباً، فلم يكن فاحشاً في نفسه ولا في غريزته؛ بل هو لين سهل، ولم يكن متفحشاً أي متطبعأً بالفحشاء؛ بل كان صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عن الفحش في مقاله وفي فعاله صلى الله عليه وسلم.
وفيه أيضاً الحث على حسن الخلق، وأنه من أثقل ما يكون في الميزان يوم القيامة، وهذا من باب الترغيب فيه، فعليك يا أخي المسلم أن تحسن خلقك مع الله عزّ وجلّ؛ في تلقي أحكامه الكونية والشرعية، بصدر منشرح منقاد راضٍ مستسلم، وكذلك مع عباد الله فإن الله تعالي يحب المحسنين، والله الموفق.
* * *
7/627- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: تقوى الله وحسنُ الخلقِ" وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: " الفمُ والفرجُ".
رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
8/628- وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم"
رواه الترمذي وقال: حديث حسنٌ صحيحٌ(3/566)
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في بيان فضل حسن الخلق، ذكرها النووي - رحمه الله- في رياض الصالحين في باب حسن الخلق، ومنها عن أبي هريرة رضي اله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: ما أكثر ما يدخل الجنة؟ يعني ما هو الشيء الذي يكون سبباً لدخول الجنة كثيراً؟ فقال: (تقوى الله وحسن الخلق) .
تقوى الله تعالى، وهذه كلمة جامعة لفعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه هذه هي التقوى، أن تفعل ما أمرك الله به وأن تدع ما نهاك عنه؛ لأن التقوى مأخوذة من الوقاية، وهي أن يتخذ الإنسان ما يقيه من عذاب الله، ولا شيء يقي من عذاب الله إلا فعل الأوامر واجتناب النواهي.
وأكثر ما يدخل الناس النار الفم والفرج. الفم يعني بذلك قول اللسان فإن الإنسان قد يقول كلمة لا يُلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً، والعياذ بالله أي سبعين سنة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: (أفلا أخبرك بملاك ذلك كله؟) قلت بلى يا رسول الله، فأخذ بلسان نفسه وقال: (كف عليك هذا) قلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ يعني هل نؤاخذ بالكلام؟ قال (ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم-. أو قال: " على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم) .(3/567)
ولما كان عمل اللسان سهلاً صار إطلاقه سهلاً؛ لأن الكلام لا يتعب به الإنسان، ليس كعمل اليد، وعمل الرجل، وعمل العين يتعب فيه الإنسان. فعلم اللسان لا يتعب في الإنسان، فتجده يتكلم كثيراً بأشياء تضره؛ كالغيبة، والنميمة، واللعن، والسب، والشتم، وهو لا يشعر بذلك، فيكتسب بهذا آثاماً كثيرة.
أما الفرج فالمراد به الزنا، وأخبث منه اللواط، فإن ذلك أيضاً تدعو النفس إليه كثيراً- ولا سيما من الشباب- فتهوي بالإنسان وتدرِّجه حتى يقع في الفاحشة وهو لا يعلم.
ولهذا سدَّ النبي صلى الله عليه وسلم كل باب يكون سبباً لهذه الفاحشة، فمنع من خلو الرجل بالمرأة، ومنع المرأة من كشف وجهها أمام الرجال الأجانب، ونهى المرأة أن تخضع بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، إلى غير ذلك من السياج المنيع الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم حائلاً دون فعل هذه الفاحشة، لأن هذه الفاحشة تدعو إليها النفس، فهذا أكثر ما يدخل الناس النار: أعمال اللسان وأعمال الفرج، نسأل الله الحماية.
ثم ذكر أيضاً من فضائل حسن الخلق أن أحسن الناس أخلاقاً هم أكمل الناس إيماناً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) وفي هذا دليلٌ على أن الإيمان يتفاوت، وأن الناس يختلفون فيه، فبعضهم في الإيمان أكمل من بعض بناء على الأعمال، وكلما كان الإنسان أحسن خلقاً كان أكمل إيماناً، وهذا حثٌ واضحٌ على أن الإنسان ينبغي له أن يكون حسن الخلق بقدر ما يستطيع.(3/568)
قال: (وخياركم خياركم لنسائهم) المراد خيركم خيركم لأهله كما جاء ذلك في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) فينبغي للإنسان أن يكون مع أهله خير صاحب وخير محب وخير مُربًّ؛ لأن الأهل أحق بحسن خلقك من غيرهم. أبدا بالأقرب فالأقرب.
على العكس من ذلك حال بعض الناس اليوم وقبل اليوم؛ تجده مع الناس حسن الخلق، لكن مع أهله سيء الخلق والعياذ بالله، وهذا خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والصواب أن تكون مع أهلك حسن الخلق ومع غيرهم أيضاً، لكن هم أولى بحسن الخلق من غيرهم.
ولهذا لما سئلت عائشة: ماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان في مهنة أهله. أي يساعدهم على مهمات البيت، حتى أنه صلى الله عليه وسلم كان يحلب الشاة لأهله، ويخصف نعله، ويرقع ثوبه، وهكذا ينبغي للإنسان مع أهله أن يكون من خير الأصحاب لهم.
* * *
9/629- وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن المؤمن ليدركُ بحسن خُلقه درجة الصائم القائم) رواه أبو داود.(3/569)
10/630- وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربضِ الجنةِ لمن ترك المراء، وإن كان مُحقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب، وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) حديث صحيح، رواه أبو داود بإسناد صحيح.
الزعيم: الضامنُ.
11/631- وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أحبكم إلى، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحسانكم أخلاقاً وإن أبغضكم إلى، وأبعدكم مني يوم القيامة، الثرثارُون والمتشدقون والمتفيهقون" قالوا: يا رسول الله قد علمنا (الثرثارُون والمتُشدقون) فما المُتفيهقُون؟ قال: (المتكبرون) رواه الترمذي وقال: حديث حسنٌ.
(الثرثارُ) : هو كثيرُ الكلامِ تكلفاً. (والمُتشدقُ) : المتطاولُ على الناس بكلامه، ويتكلم بملء فيه تفاصحاً وتعظيماً لكلامه؛ والمتفيهقُ أصلهُ من الفهق وهو الامتلاءُ، وهو الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسعُ فيه، ويغربُ به تكبراً وارتفاعاً، وإظهاراً للفضيلة على غيره.
وروى الترمذي عن عبد الله بن المبارك رحمه الله في تفسير حُسن الخُلقِ قال: هُو طلاقةُ الوجه، وبذلُ المعروف. وكف الأذى.(3/570)
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله أحاديث متعددة في بيان حسن الخلق، وأن من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاسنهم أخلاقاً، فكلما كنت أحسن خلقاً؛ كنت أقرب إلى الله ورسوله من غيرك، وأبعد الناس منزلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون.
الثرثارون الذين يكثرون الكلام ويأخذون المجالس عن الناس، فإذا جلس في المجلس أخذ الكلام عن غيره، وصار كأن لم يكن في المجلس إلا هو؛ يتكلم ولا يدع غيره يتكلم، وهذا لا شك أنه نوع من الكبرياء.
لكن لو فرضنا أن أهل المجلس فوضوه وقالوا أعطنا نصحية، أعطنا موعظة فتكلم فلا حرج، إنما الكلام العادي كونك تملك المجلس ولا تدع أحداً يتكلم، حتى إن بعض الناس يحب أن يتكلم لكن لا يستطيع أن يتكلم، يخشي من مقاطعة هذا الرجل الذي ملك المجلس بكلامه.
كذلك أيضاً المتشدقون، والمتشدق هو الذي يتكلم بملء شدقيه، تجده يتكلم وكأنه أفصح العرب تكبيراً وتبختراً، ومن ذلك من يتكلم باللغة العربية أمام العامة، فإن العامة لا يعرفون اللغة العربية، لو تكلمت بينهم باللغة العربية لعدّوا ذلك من باب التشدق في الكلام والتنطع، أما إذا كنت تدرس لطلبة فينبغي أن تتكلم باللغة العربية، لأجل أن تمرّنهم على اللغة العربية وعلى النطق بها، أما العامة الذين لا يعرفون فلا ينبغي أن تتكلم بينهم باللغة العربية، بل تكلم معهم بلغتهم التي يعرفون، ولا تغرب في الكلمات، يعني لا تأتي بكلمات غريبة تُشكِل عليهم، فإن ذلك من(3/571)
التشدق في الكلام.
أما المتفيهقون فقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمتكبرين، المتكبر الذي يتكبر على الناس ويتفيهق، وإذا قام يمشي كأنه يمشي على روق من تكبره وغطرسته، فإن هذا لا شك خلق ذميم، ويجب على الإنسان أن يحذر منه؛ لأن الإنسان بشر فينبغي أن يعرف قدر نفسه، حتى لو أنعم الله عليه بمال، أو أنعم الله عليه بعلم، أو أنعم الله عليه بجاه، فينبغي أن يتواضع، وتواضع هؤلاء الذين أنعم الله عليهم بالمال والعلم والجاه افضل من تواضع غيرهم، ممن لا يكون كذلك.
ولهذا جاء في الحديث من الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم: (عائل مستكبر) لأن العائل لا داعي لاستكباره، والعائل هو الفقير، فهؤلاء الذين منَّ الله عليهم بالعلم والمال والجاه كلما تواضعوا؛ صاروا أفضل ممن تواضع من غيرهم الذين لم يمنّ الله عليهم بذلك.
فينبغي لكل من أعطاه الله نعمة أن يزداد شكراً لله، وتواضعاً للحق وتواضعاً للخلق، وفقني الله وإياكم لأحاسن الأخلاق والأعمال، وجنبنا وإياكم سيئات الأخلاق والأعمال إنه جواد كريم.(3/572)
74- باب الحلم والأناة والرفق
قال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: 134) .
وقال تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف: 199) .
وقال تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت: 35) .
وقال تعالى: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى: 43) .
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: باب الحلم، والأناة، والرفق.
هذه ثلاثة أمور متقاربة: الحلم، والأناة، والرفق.
أما الحلم: فهو أن يملك الإنسان نفسه عند الغضب، إذا حصل غضب وهو قادر فإنه يحلم، ولا يعاقب، ولا يعاجل بالعقوبة.
وأما الأناة فهو التأني في الأمور، وعدم العجلة، وألا يأخذ الإنسان الأمور بظاهرها فيتعجل، ويحكم على الشيء قبل أن يتأنى فيه وينظر.
وأما الرفق فهو معاملة الناس بالرق والهون، حتى وإن استحقوا ما يستحقون من العقوبة والنكال فإنه يرفق بهم.
ولكن هذا فيما إذا كان الإنسان الذي يرفق به محلاً للرفق، أما إذا لم(3/573)
يكن محلاً للرفق فإن الله سبحانه وتعالى قال: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور: 2) .
ثم ساق المؤلف أيات. قال في الأية الأولى قول الله تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: 134) ، هذه من جملة الأوصاف التي يتصف بها المتقون الذين أعدت لهم الجنة: أنهم يكظمون إذا غضبوا.
وفي قوله: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) دليلٌ على أنهم يشق عليهم ذلك، لكنهم يغلبون أنفسهم فيكظمون غيظهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس الشديد بالصرعة)) الصرعة: يعني الذي يصرع الناس إذا صارعوه: ((وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) . أما قوله تعالى: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) فقد سبق الكلام عليه، وبيان التفصيل فيمن يستحق العفو ومن لا يتسحق، فالإنسان الشرير الذي لا يزداد بالعفو عنه إلا سواءاً وشراسة ومعاندة هذا لا يعفى عنه.
والإنسان الذي هو أهل للعفو. ينبغي للإنسان أن يعفوعنه؛ لأن الله يقول (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: 40) .
وأما الأية الثانية فهي قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ(3/574)
الْجَاهِلِينَ) (لأعراف: 199) ، قال خذ العفو ولم يقل أعف ولا أفعل العفو، بل قال: (خُذِ الْعَفْوَ) والمراد بالعفو هنا ما عفا وسهل من الناس؛ لأن الناس يعامل بعضهم بعضاً، فمن أراد من الناس أن يعاملوه على الوجه الذي يحب وعلى الوجه الأكمل؛ فهذا شيء يصعب عليه ويشق عليه ويتعب وراء الناس.
وأما من استرشد بهذه الأية، وأخذ ما عفا من الناس وما سهل، فما جاء منهم قبله، وما أضاعوه من حقه تركه، إلا إذا انتهكت محارم الله، فإن هذا هو الذي أرشد الله إليه؛ أن نأخذ العفو، فخذ ما تيسر من أخلاق الناس معاملتهم لك، والباقي أنت صاحب الفضل فيه إذا تركته.
(وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) يعني: مُر بما يتعارفه الناس ويعرفه الشرع من أمور الخير، ولا تسكت عن الأمر بالخير إذا كان الناس أخلوا به فيما بينك وبينهم أفعل ما تشاء في حقك، لكن الشيء المعروف ينبغي أن تأمر به.
(وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين) المراد بالجاهل هنا ليس هو الذي لا يعلم الحكم؛ بل الجاهل السفيه في التصرف، كما قال الله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ) أي بسفاهة (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِم) (النساء: 17) .
فالجاهلون هنا هم السفهاء الذين يجهلون حقوق الغير، ويفرطون فيها، فأعرض عنهم ولا تبال بهم، وأنت إذا أعرضت عنهم ولم بتبال بهم فإنهم سوف يملون يوتعبون، ثم بعد ذلك يرجعون إلى صوابهم، ولكن إذا عاندتهم أو خاصمتهم أو أردت منهم أن يعطوك حقك كاملاً، فإنهم ربما بسفههم يعاندون ولا يأتون بالذي تريد.(3/575)
فهذه ثلاثة أوامر من الله عزّ وجلَّ فيها الخير لو أننا سرنا عليها: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الاعراف: 199) .
قوله تعالى: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى: 43) .
صبر: يعني على الأذي، وغفر: يعني تجاوز عنه إذا وقع به، إن ذلك لمن عزم الأمور: أي لمن معزومات الأمور، أي من الأمور التي تدل على عزم الرجل، وعلى حزمه، وعلى أنه قادر على نفسه مسيطر عليها، وذلك لأن الناس ينقسمون إلى أقسام بالنسبة لسيطرتهم على أنفسهم.
فمن الناس من لا يستطيع أن يسيطر على نفسه أبداً، ومن الناس من يستطيع لكن بمشقة شديدة، ومن الناس من يستطيع لكن بسهولة، يكون قد جلبه الله عزّ وجلَّ على مكارم الأخلاق، فيسهل عليه الصبر والغفران.
فالذي يصبر على أذى الناس ويتحمل ويحتسب الأجر من الله ويغفر لهم، هذا هو الذي صنع هذه المعزومة من الأمور أي من الشؤون، وهذا حث واضح على أنه ينبغي للإنسان أن يصبر ويغفر، وقد سبق لنا التفصيل في مسألة العفو عن الجناة والمعتدين، وأنه لا يمدح مطلقاً ولا يذم مطلقاً، يل ينظر إلى الإصلاح.
* * *
1/632- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: ((إن فيك خصلتين يُحبهما الله: الحلمُ والأناةُ)) رواهُ مسلم.
2/633- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله رفيقٌ(3/576)
يحبٌ الرفق في الأمر كله" متفق عليه.
3/634- وعنها رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف ومالا يعطي على ما سواه)) رواه مسلم.
4/635- وعنها رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانهُ، ولا ينزعُ من شيءٍ إلا شانهُ" رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف - رحمه الله- هنا في سياق الأحاديث ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس، قال له: " إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة".
الحلم: عندما يثار الإنسان ويجنى عليه ويعتدى عليه يحلم، لكنه ليس كالحمار لا يبالي بما فعل به، يتأثر لكن يكون حليماً لا يتعجل بالعقوبة، حتى إذا صارت العقوبة خيراً من العفو أخذ بالعقوبة.
والأناة: التأني في الأمور وعدم التسرع، وما أكثر ما يهلك الإنسان ويزل بسبب التعجل في الأمور، وسواء في نقل الأخبار، أو في الحكم على ما سمع، أو في غير ذلك.
فمن الناس مثلاً من يتخطف الأخبار بمجرد ما يسمع الخبر يحدِّث به(3/577)
وينقله، وقد جاء في الحديث ((كفي بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)) .
ومن الناس من يتسرع في الحكم، سمع عن شخص شيئاً من الأشياء، ويتأكد أنه قاله أو أنه فعله ثم يتسرع في الحكم عليه، أنه أخطأ أو ضلّ أو ما أشبه ذلك، وهذا غلط، التأني في الأمور، كله خير.
ثم ذكر المؤلف أحاديث عائشة رضي الله عنها الثلاثة في باب الرفق، وأن الرفق محبوب إلى الله عزّ وجلَّ، وأنه ما كان في شيءٍ إلا زانه، ولا نزع من شيءٍ إلا شانه، ففيه الحثّ على أن يكون الإنسان رفيقاً في جميع شؤونه، رفيقاً في معاملة أهله، وفي معاملة إخوانه، وفي معاملة أصدقائه، وفي معاملة عامة الناس يرفق بهم، فإن الله عزّ وجلَّ رفيقٌ يحب الرفق.
ولهذا فإن الإنسان إذا عامل الناس بالرفق يجد لذة وانشراحاً، وإذا عاملهم بالشدة والعنف ندم، ثم قال ليتني لم أفعل، لكن بعد أن يفوت الأوان، أما إذا عاملهم بالرفق واللين والأناة انشرح صدره، ولم يندم على شيء فعله.
وفق الله الجميع لما فيه الخير والصلاح وحسن الأخلاق والآداب.
* * *
5/636- وعن أبي هريرة رضي الله عنهُ قال: قال: بال أعرابيٌ في المسجد، فقام الناسُ إليه ليقعوا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوهُ وأريقُوا على بوله سجلاً من ماءٍ، أو ذنوباً من ماءٍ، فإنما بُعثتم ميسرين ولم تبعثوا مُعسرين)) رواه البخاري.(3/578)
"السجل" بفتح السين المهملة وإسكان الجيم: وهي الدلو المُمتلئة ماءً، وكذلك الذنوبُ.
[الشَّرْحُ]
ساق المؤلف رحمه الله في باب الحلم والأناة والرفق في كتابه رياض الصالحين، حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن أعرابياً بال في المسجد.
أعرابي: يعني بدوي؛ والبدوي في الغالب لا يعرف أحكام الشرع؛ لأنه يعيش في البادية في إبله أو في غنمه، وليس له علم بشريعة الله، كما قال الله تعالى: (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) (التوبة: 97) ، يعني أقرب ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، لأنهم في باديتهم بعيدون عن الناس وعن العلم والشرع.
هذا الأعرابي دخل المسجد واحتاج إلى أن يبول، فبال في طائفة المسجد، أي تنحى وبال في المسجد، فهمّ الناس به أن يقعوا فيه وزجروه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لهم: ((دعوه)) دعوه يقضي بوله، ((وأريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)) فتركه الناس.
فلما قضى بوله صبّوا عليه ذنوباً من الماء، يعني دلواً من الماء، فطهر المحل، وزال المحذور، ثم دعا بالأعرابي وقال له: " إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى أو القذر، وإنما هي للصلاة وقراءة القرآن، والتكبير" أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.(3/579)
ففي هذا الحديث فوائد كثيرة:
منها: العذر بالجهل، وأن الإنسان الجاهل لا يعامل كما يعامل العالم؛ لأن العالم معاند، والجاهل متطلع للعلم فيعذر بجهله، ولهذا عذره النبي صلى الله عليه وسلم ورفق به.
ومنها: أن الشرع يقتضي دفع أعلى المفسدتين بأدناهما، يعني إذا كان هناك مفسدتان ولابد من ارتكاب أحدهما؛ فإن يرتكب الأسهل.
فهنا أمامنا مفسدتان:
الأولى: استمرار هذا الأعرابي في بوله، وهذه مفسدة.
والثانية: إقامته من بوله، وهذه مفسدة أيضاً، لكن هذه أكبر؛ لأن هذه يترتب عليها.
أولاً: الضرر على هذا البائل؛ لأن البائل إذا منع البول المتهيىء للخروج ففي ذلك ضرر، فربما تتأثر مجاري البول ومسالك البول.
ثانياً: أنه إذا قام فإما أن يقطع رافعاً ثوبه؛ لئلا تصيبه قطرات البول، وحينئذٍ تكون القطرات منتشرة في المكان، وربما تأتي على أفخاذه ويبقى مكشوف العورة أمام الناس وفي المسجد، وإما أن يدلي ثوبه، وحينئذٍ يتلوث الثوب ويتلوث البدن وهذه أيضاً مفسدة.
فلهذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل يبول حتى انتهى، ثم أمر بأن يصب عليه ذنوباً من ماء.
وعلى هذا فيكون لدينا قاعدة: إذا اجتمعت مفسدتان لابد من ارتكاب إحداهما، فإنه يرتكب الأسهل والأخف، دفعاً للأعلى، كما إنه(3/580)
إذا اجتمعت مصالح ولا يمكن فعل جميعها، فإنه يؤخذ بالأعلى فالأعلى، ففي المصالح يقدم الأعلى، وفي المفاسد يقدم الأسهل والأدنى.
ومن فوائد هذا الحديث: وجوب تطهير المسجد وأنه فرض كفاية؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أريقوا على بوله سجلاً من ماء)) فيجب على من رأى نجاسة في المسجد أن يطهرها بنفسه، أو يبلغ من هو معني بالمسجد ومسؤول عنه حتى يقوم بتطهيرها.
ومنها: اشتراط طهارة مكان المصّلي، فالمصلّي يجب عليه أن يطهر ثوبه وبدنه ومكان صلاته، لابد من ذلك سواءً كانت أرضاً أو فراشاً أو غير ذلك، المهم أنه لابد من طهارة مكان المصلي.
ومنها: أن الأرض يكفي في تطهيرها أن يصب على النجاسة ماء مرة واحدة، فإذا عمرت بالماء طهرت، لكن إن كانت النجاسة ذات جرم كالغائط والروث وما أشبهها؛ فلابد من زوال هذا الجرم، وبعدها يطهر المحل بصب ماءٍ عليه.
ومنها: أنه لابد من الماء في تطهير النجاسة؛ لقوله:: ((أريقوا على بوله سجلاً من ماء)) وأن النجاسة لا تطهر بغير الماء، وهذا ما عليه أكثر العلماء.
والصحيح أن النجاسة تطهر بكل ما يزيلها من ماء أو بنزين، أو غيره، وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصب الماء على مكان البول؛ لأنه أسرع في تطهير المكان، وإلا فمن الممكن أن يبقى المكان لا يصب عليه الماء، ثم مع الرياح والشمس تزول النجاسة ويطهر، لكن هذا أسرع وأسهل.(3/581)
ومن المعلوم أنه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لا توجد هذه المزيلات الكيماوية أو البترولية، فلذلك كانوا يعتمدون في إزالة النجاسة على الماء، ولكن متى زالت النجاسة طهر المحل بأي مزيل كان؛ لأن النجاسة عين خبيثة نجسة، متى زالت عاد المحل إلى طهارته بأي شيءٍ كان.
ولهذا يطهر البول والغائط بالأحجار؛ يستجمر الإنسان بالحجر ثلاث مرات مع الإنقاء ويكفي.
وثوب المرأة الذي تجره إذا مر بالنجاسة ثم مر بعد ذلك بأرض طاهرة طهرته، وكان من عادة النساء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أن المرأة إذا خرجت واتخذت ثوباً ضافياً يستر قدميها، وينجر من ورائها إلى شبر أو شبرين أن ذراع، ولكن لا يزيد على ذراع. هذا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، عهد النساء الطاهرات في الزمن الطاهر، فما بالك اليوم؟!
لكن مع الأسف أن المسلمين اليوم لا ينظرون إلى من سلف من هذه الأمة، ولكنهم ينظرون إلى من تأخر من هذه الأمة؛ إلى الخلف الذين قال الله فيهم: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (مريم: 59) .
أصبحنا ننظر الآن إلى من خلف بل ننظر إلى ما دون ذلك؛ ننظر إلى أعدائنا؛ إلى اليهود والنصارى والمجوس والوثنيين وما أشبه ذلك، فنقتدي بهم في مثل هذه الألبسة، فترى النساء الآن كلما جاءت المجلة التي يسمونها البردة، ذهبن ينظرن إليها، ثم تذهب المرأة وتفعل مثل ما فعلوا.
وأقول: يجب على أولياء الأمور أن يمنعوا من تداول هذه المجلات،(3/582)
وهذه البردات بين أيدي النساء؛ لأن المرأة ضعيفة؛ ضعيفة العقل وضعيفة الدين كما وصفها بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)) فتغتر وتنخدع بهذه المظاهر.
وكثيرٌ من الرجال مع الأسف الشديد هم رجال في ثياب رجال وإلا فهم نساء، التدبير للنساء عليهم، وهن القوامات عليهم، عكس ما أمر الله: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) (النساء: 34) ، لكن أصبح الآن في كثير من الناس النساء قوامات على الرجال، هي التي تدبر الرجل، وهي التي تلبس ما شاءت، وتفعل ما شاءت، ولا تبالي بزوجها ولا بوليها.
فالواجب على الأولياء أن يمنعوا من تداول هذه المجلات التي تأتينا بهذه الأزياء البعيدة عن الزي الإسلامي، فالنساء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خرجن إلى السوق لبسن ثياباً طويلة حتى لا تبدو أقدامهن.
وأما في البيوت فكما يقول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: المرأة في بيتها في عهد الرسول عليها لباس يستر من كف اليد إلى كعب الرجل، وهي في البيت، ليس عندها إلا النساء أو رجال محارم، ومع ذلك تتستر من الكف إلى الكعب، كلها متسترة.
وبهذا نعرف فساد تصور من تصور قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا تنظر المرأة إلى عورة المرأة، أن المرأة يجوز لها أن تقتصر في لباسها على لباسٍ يستر ما(3/583)
بين السرة والركبة، يردن أن تخرج المرأة كاشفة كل بدنها إلا ما بين السرة والركبة، فمن قال هذا؟!
إن الرسول صلى الله عليه وسلم يخاطب الناظرة لا اللابسة يقول: ((لا تنظر المرأة إلى عورة المرأة)) ، يعني ربما تكون اللابسة قد كشفت ثوبها لقضاء حاجة من بول أو غائط، فيقول لا تنظر لعورتها، لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم للمرأة أن تلبس ما يستر ما بين السرة والركبة فقط، من توهّم هذا فإنه من وحي الشيطان، ولننطر كيف كانت النساء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تلبس الثياب.
لذلك يجب أن نصَّحح هذا المفهوم الذي تدندن به كل امرأة ليس عندها فهم، وليس عندها نظر لمن سبق، نقول لها: هل تظنين أن الشرع الإسلامي يبيح للمرأة أن تخرج بين النساء ليس عليها إلا سروال قصير يستر ما بين السرة والركبة، فمن قال إن هذا هو الشرع الإسلامي؟ ومن قال إن هذا هو معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تنظر المرأة إلى عورة المرأة)) من قال هذا؟!
والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((ولا الرجل إلى عورة الرجل)) ومع ذلك كان الرجال في عهده يلبسون رداءً وإزاراً، ويلبسون قميصاً، ولا يلبسون إزاراً فقط.
حتى أن الرجل الفقير الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوجه المرأة التي وهبت نفسها للرسول ولم يردها، قال: زوجنيها، قال: ((ما معك من صداق)) قال: إزاري، لأنه فقير، كيف يكون الإزار مهراً للمرأة إن(3/584)
أعطيتها أياه بقيت بلا إزار، وإن بقي عليك بقيت بلا مهر؟! ارجع فالتمس ولو خاتماً من حديد ولكنه لم يجد. فلم يكونوا - وهم الرجال- يقتصرون على ما بين السرة والركبة أبداً.
والحاصل أن العلم يحتاج إلى فقه، ويحتاج إلى نظر في حال الصحابة رضي الله عنهم؛ كيف فهموا النصوص فنطبقها، حتى دول الغرب الكافرة الآن أكثرهم يلبس ما يستر الصدر والفخذين، ولم يفهم أحد من هذا الحديث أن المعنى للمرأة ان تبقى مكشوفة البدن إلا ما بين السرة والركبة، ما فهم هذا أحدٌ أبداً.
فالحاصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل ذيل المرأة - أي طرف ثوبها الذي يمشي على الأرض- إذا التقى بنجاسة ثم مرت على أرض طاهرة فإن الطاهر يطهره، فدل ذلك على أن النجاسة تطهر بكل ما يزيلها من ماء وغيره.
ومن فوائد حديث الأعرابي: حسن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعليمه، ورفقه، وأن هذا هو الذي ينبغي لنا إذا دعونا إلى الله، أو أمرنا بمعروف، أو نهينا عن منكر أن نرفق؛ لأن الرفق يحصل به الخير، والعنف يحصل به الشر، ربما إذا عنفت أن يحصل من قبيلك ما يسمونه برد الفعل ولا يقبل منك شيئاً، يرد الشرع من أجلك، لكن إذا رفقت وتأنيت فهذا هو الأقرب إلى الإجابة.
ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل هذه الأمة مبعوثة، فقال: ((فإنما بعثتم)) مع أن المبعوث هو، لكن أمته يجب أن تقوم مقامه في الدعوة إلى دينه(3/585)
صلى الله عليه وسلم، وأن يكون الإنسان كأنه المبعوث وكأنه الرسول في تبليغ الشرع، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ليبلغ الشاهد منكم الغائب)) فنحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم علينا أن نبلغ شرعه إلى جميع الناس، ولهذا قال: ((إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)) .
وفي هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما كلم الأعرابي بهذا اللطف واللين، وقال إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيءٌ من الأذى والقذر، قال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، انظر كيف انشرح صدره بكلام محمد صلى الله عليه وسلم.
أما الجماعة من الصحابة رضي الله عنهم لما أغضبوه وانتهروه- وهو أعرابي لا يعرف- رأى أن الجنة والرحمة تكون له ولمحمد، وغيرهما لا يرحمون، وليته قال اللهم ارحمني ومحمداً وسكت، بل قال ولا ترحم معنا أحداً، فتحجر الرحمة، لكنه جاهل، والجاهل له حكمه.
فالحاصل أن الإنسان ينبغي له أن يرفق في الدعوة، وفي الأمر، وفي النهي. وجربوا وانظروا أيهما أصلح، ونحن نعلم علم اليقين أن الاصلح هو الرفق؛ لأن هذا هو الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أتبعه في هديه صلى الله عليه وسلم، والله الموفق.
* * *(3/586)
6/637- وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يسروا ولا تُعسروا، وبشروا ولا تنفروا)) متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث ذكره النووي رحمه الله في باب الحلم والرفق والأناة في كتابه رياض الصالحين، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)) .
هذه أربع جمل: الأولى قوله: ((يسروا)) يعني اسلكوا ما فيه اليسر والسهولة سواء كان فيما يتعلق بأعمالكم أو معاملاتكم مع غيركم، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم من هديه أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه.
فاختر الأيسر لك في كل أحوالك، في العبادات، في المعاملات مع الناس، في كل شيء؛ لأن اليسر هو الذي يريده الله عزّ وجلّ منا، ويريده بنا: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185) .
فمثلاً إذا كان لك طريقان إلى المسجد؛ أحدهما صعب فيه حصى وأحجار وأشواك والثاني سهل، فالأفضل أن تسلك الأسهل، وإذا كان هناك ماءان وأنت في الشتاء، وكان أحدهما بارد يؤلمك والثاني ساخن(3/587)
ترتاح له، فالأفضل أن تستعمل الساخن، لأنه أيسر وأسهل، وإذا كان يمكن أن تحج على سيارة أو تحج على بعير والسيارة أسهل، فالحج على السيارة أفضل.
فالمهم أنه كل ما كان أيسر فهو أفضل ما لم يكن إثماً؛ لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: كان الرسول صلى الله عليه وسلم ما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً.
أما إذا كان فعل العبادة لا يتأتى إلا بمشقة، وهذه المشقة لا تسقطها عنك ففعلتها على مشقة، فهذا أجر يزداد لك، فإن إسباغ الوضوء على المكاره مما يرفع الله به الدرجات ويكفر به الخطأيا، لكن كون الإنسان يذهب إلى الأصعب مع إمكان الأسهل هذا خلاف الآفضل، فالأفضل اتباع الأسهل في كل شيء.
وانظر إلى الصوم، قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)) ، وفي حديث آخر ((وأخروا السحور)) لماذا؟ لأن تأخير السحور أقوى على الصوم مما لو تقدم، والمبادرة بالفطر أسهل وأيسر على النفس لا سيما مع طول النهار وشدة الظمأ.
فهذا وغيره من الشواهد يدل على أن الأيسر أفضل، فأنت يسِّر على(3/588)
نفسك.
كذلك أيضاً في مزاولة الأعمال إذا رأيت أنك إذا سلكت هذا العمل فهو أسهل وأقرب ويحصل به المقصود؛ فلا تتعب نفسك في أعمال أخرى أكثر من اللازم وأنت لا تحتاج إليها؛ فافعل ما هو أسهل في كل شيء، وهذه قاعدة: أن اتباع الأسهل والأيسر هو الأرفق بالنفس والأفضل عند الله.
((ولا تعسروا)) يعني لا تسلكوا طرق العسر لا في عبادتكم، ولا في معاملاتكم، ولا في غير ذلك، فإن هذا منهي عنه فلا تعسر، ولهذا لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً واقفاً في الشمس، سأل عنه، قالوا يا رسول الله، هو صائم؛ نذر أن يصوم ويقف في الشمس، فنهاه وقال له لا تقف في الشمس؛ لأن هذا فيه عسر على الإنسان ومشقة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لا تعسر.
الجملة الثانية قال: ((وبشروا)) بشروا يعني اجعلوا طريقكم دائماً البشارة، بشروا أنفسكم وبشروا غيركم، يعني إذا عملت عملاً فاستبشر وبشر نفسك، فإذا عملت عملاً صالحاً فبشر نفسك بأنه سيقبل منك إذا اتقيت الله فيه، لأن الله يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة: 27) ، وإذا دعوت الله فبشر نفسك أن الله يستجيب لك؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم) (غافر: 60) .
ولهذا قال بعض السلف من وفق للدعاء فليبشر بالإجابة؛ لأن الله قال: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم) (غافر: 60) ، فأنت بشِّر نفسك(3/589)
في كل عمل.
وهذا يؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره الطيرة ويعجبه الفأل؛ لأن الإنسان إذا تفاءل نشط واستبشر وحصل له خير، وإذا تشاءم فإنه يتحسر، وتضيق نفسه، ولا يقدم على العمل، ويعمل وكأنه مكره، فأنت بشر نفسك، كذلك بشر غيرك، فإذا جاءك إنسان، قال فعلت كذا وفعلت كذا وهو خائف فبشره، وأدخل عليه السرور.
لا سيما في عيادة المريض؛ فإذا عدت مريضاً فقل له أبشر بالخير، وأنت على خير، ودوام الحال من المحال، والإنسان عليه أن يصبر ويحتسب ويؤجر على ذلك، وما أشبه ذلك، وبشره قائلاً: أنت اليوم وجهك طيب، وما أشبه ذلك؛ لأنك بهذا تدخل عليه السرور، وتبشره، فاجعل طريقك هكذا فيما تعامل به نفسك وفيما تعامل به غيرك، الزم البشارة، وأدخل السرور على نفسك، وأدخل السرور على غيرك، فهذا هو الخير.
((ولا تنفروا)) يعني لا تنفروا الناس عن الأعمال الصالحة، ولا تنفروهم عن الطرق السليمة؛ بل شجعوهم عليها، حتى في العبادات لا تنفروهم.
ومن ذلك أن يطيل الإمام بالجماعة أكثر من السنة، فإن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان إذا صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء، ذهب إلى قومه فصلى بهم تلك الصلاة، فدخل يوماً من الأيام في الصلاة، فشرع في سورةٍ طويلة، فانصرف رجلٌ وصلى وحده، فقيل نافق فلان، فذهب الرجل(3/590)
للنبي صلى الله عليه وسلم ثم إن معاذاً أتى إلى رسول الله عليه الله عليه وسلم، فقال له: ((أفتان أنت يا معاذ)) .
وكذلك الرجل الآخر قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن منكم منفرين فأيكم أمَّ الناس فليخفف)) .
فالتنفير لا ينبغي؛ فلا تنفر الناس بل لِنْ لهم، حتى في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ لا تدعُهم إلى الله دعوة منفر، لا تقل إذا رأيت إنساناً على خطأ: يا فلان أنت خالفت، أنت عصيت، أنت فيك. إلى آخر، هذا ينفرهم، ويزيدهم في التمادي في المعصية، ولكن ادعهم بهونٍ ولين حتى يألفك ويألف ما تدعو إليه، وبذلك تمتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((بشروا ولا تنفروا)) .
فخذ هذا الحديث أيها الأخ، خذه رأس مالٍ لك ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)) سر إلى الله عزّ وجلّ على هذا الأصل، وعلى هذا الطريق، وسر مع عباد الله على ذلك تجد الخير كله، والله الموفق.
* * *(3/591)
7/638- وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من يحرم الرفق يحرم الخير كُله)) رواه مسلم.
8/639- وعن أبي هريرة رضي الله عنهُ أن رجلاٌ قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني: قال: ((لا تغضب)) فردد مراراً: قال: ((لا تغضب)) رواه البخاري.
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله حديثاً فيه الأمر بالرفق والحث عليه، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من يحرم الرفق يحرم الخير كله)) يعني أن الإنسان إذا حرم الرفق في الأمور فيما يتصرف فيه لنفسه، وفيما يتصرف فيه مع غيره، فإنه يحرم الخير كله أي فيما تصرف فيه، فإذا تصرف الإنسان بالعنف والشدة فإنه يحرم الخير فيما فعل
وهذا شيء مجرب ومشاهد أن الإنسان إذا صار يتعامل بالعنف والشدة؛ فإنه يحرم الخير ولا ينال الخير، وإذا كان يتعامل بالرفق والحلم والأناة وسعة الصدر؛ حصل على خيرٍ كثير، وعلى هذا فينبغي للإنسان الذي يريد الخير أن يكون دائماً رفيقاً حتى ينال الخير.
إما حديث أبي هريرة؛ فهو أن رجلاً قال يا رسول الله، أوصنى، قال ((لا تغضب)) فردد مراراً وهو يقول: أوصنى، فقال: ((لا تغضب)) والمعنى لا تكن سريع الغصب يستثيرك كل شيء؛ بل كل شيء؛ بل كن مطمئناً(3/592)
متأنياً؛ لأن الغضب جمرة يلقيها الشيطان في قلب الإنسان حتى يغلي القلب، ولهذا تنتفخ الأوداج؛ عروق الدم، وتحمر العين، ثم ينفعل الإنسان حتى يفعل شيئاً يندم عليه.
وإنما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل ألا يغضب دون أن يوصيه بتقوى الله أو بالصلاة أو بالصيام أو ما أشبه ذلك؛ لأن حال هذا الرجل تقتضي ذلك، ولهذا أوصى غيره بغير هذا الشيء؛ أوصى؟ أبا هريرة أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وأن يوتر قبل أن ينام، وأوصى أبا الدرداء بمثل ذلك، أما هذا فأوصاه ألا يغضب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم من حاله أنه غضوب كثير الغضب، فلذلك قال لا تغضب.
والغضب يحمل الإنسان على أن يقول كلمة الكفر، على أن يطلق زوجته، على أن يضرب أمه، على أن يعق أباه، كما هو مشاهد ومعلوم، ثم تجد الإنسان من حين أن يتصرف يبرد ثم يندم ندماً عظيماً، وما أكثر الذين يسألون: غضبت علي زوجتي فطلقت، غضبت عليها فطلقتها بالثلاثة، غضبت علي فلانة فحرمت عليه، وما أشبه ذلك، فأنت لا تغضب. لا تغضب، فإن الغضب لا شك أنه يؤثر على الإنسان حتى يتصرف تصرف المجانين.
ولهذا قال بعض العلماء: إن الإنسان إذا غضب غضباً شديداً حتى لا يدري ما يقول؛ فإنه لا عبرة بقوله، ولا أثر لقوله؛ إن كان طلاقاً فإن امرأته لا تطلق، وإن كان دعاءً فإنه لا يستجاب؛ لأنه يتكلم بدون عقل وبدون تصور. نسأل الله لنا ولكم العافية والسلامة.(3/593)
9/640- وعن أبي يعلى شداد بن أوسٍ رضي الله عنهُ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدُكم شفرته، وليرح ذبيحتهُ)) رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي -رحمه الله تعالى- في كتابه رياض الصالحين في باب الحِِلم والرفق والأناة في سياق الأحاديث الواردة في ذلك، نقل عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)) .
كتبه على كل شي: يعني في كل شيء كتب الإحسان في كل شيء، يعني أن الله عزّ وجلّ شرع الإحسان في كل شيء، حتى في القتل، وحتى في الذبح، وفي غير ذلك من الأمور. عليك أن تكون محسناً لما تقوم به.
((فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)) . وذلك لأن إزهاق النفوس يكون بالقتل أحياناً، وبالذبح أحياناً.
فالذبح والنحر يكون فيما يحل أي: فيما يؤكل، ويكون النحر للإبل، والذبح فيما سواها، والنحر يكون في أسفل الرقبة مما يلي الصدر، والذبح يكون في أعلى الرقبة مما يلي الرأس، ولابد في الذبح والنحر من قطع الودجين، وهما العرقان الغليظان اللذان يجري منهما الدم ويتوزع(3/594)
على بقية البدن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا)) "
ولا ينهر الدمَ إلا قطعُ الودجين، فالشرط في حل المذكى أو المنحور أن يقطع الودجان، أما الحلقوم الذي هو مجرى النفس، والمريء الذي هو مجرى الطعام، فقطعهما أكمل في الذبح والنحر، ولكن لي ذلك بشرط.
وأما القتل فيكون فيما لا يحل أكله، فيما أمر بقتله، وفيما أبيح قتله، ومما أمر بقتله الفأر كذلك العقرب، وكذلك الحية، وكذلك الكلب العقور، فتقتل هذه الأشياء، وكذلك كل مؤذٍ فإنه يقتل.
وعند العلماء قاعدة تقول: ما آذى طبعاً قتل شرعاً، يعني ما كان طبيعته الأذى فإنه يقتل شرعاً، وما لم يؤذ طبعاً ولكن صار منه أذية فلك قتله، لكن هذا الأخير مقيد، فلو آذاك النمل في البيت، وصار يحفر البيت ويفسده فلك قتله وإن كان منهياً عنه في الأصل، لكن إذا آذاك فلك قتله، وكذلك غيره مما لا يؤذي طبعاً ولكن تعرض منه الأذية فاقتله إذا لم يندفع إلا بالقتل. فمثلاً إذا أردت أن تقتل فأرة وقتلها مستحب فأحسن القتلة، أقتلها بما يزهق روحها حالاً، ولا تؤذها، ومن أذيتها ما يفعله بعض الناس حيث(3/595)
يضع لها شيئاً شيئاً لاصقاً تلتصق به، ثم يدعها تموت جوعاً وعطشاً، وهذا لا يجوز، فإذا وضعت هذا اللاصق؛ فلابد أن تكرر مراجعته ومراقبته، حتى إذا وجدت شيئاً لاصقاً قتلته.
أما أن تترك هذا اللاصق يومين أو ثلاثة وتقع فيه الفارة وتموت عطشاً أو جوعاً، فإنه يخشى عليك أن تدخل النار بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دخلت النارَ امرأةٌ في هرة حبستها حتى ماتت لا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض)) .
المهم أن ما يشرع قتله فاقتله بأقرب ما يكون من إهلاكه وإتلافه، ومن ذلك الوزغ الذي يسمى السام الأبرص، ويسمى البرصي أيضاً، اقتله واحرص على أن تقتله بأن يموت في أول مرة، فهو أفضل وأعظم أجراً وأيسر له، وكذلك بقية الأشياء التي تقتل.
ومن ذلك من يقتل قصاصاً، لكن الذي يقتل قصاصاً فإنه يفعل به كما فعل في المقتول، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليه قضية امرأة أتاها يهودي، وكان معها حلي، فقتلها وأخذ الحلي، لكن كيف قتلها، وضع رأسها على حجر وقتلها بالحجر الثاني، فرض رأسها بين حجرين. فأُتي إليها وفيها رمق من حياة، فقيل لها من قتلك؟ فلان، فلان، فلان، حتى ذكروا اليهودي فأشارت برأسها أن نعم، فأخذوا اليهودي(3/596)
فاعترف، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرضّ رأسه بين حجرين، فوُضع رأسه على حجر ثم ضرب بالحجر الثاني حتى مات؛ لأن هذا قصاص، والله عزّ وجلّ يقول: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة: 194) .
لكن لو وجب قتله بالحرابة، يعني أنه صار يقطع الطريق على الناس، يأخذ الأموال، ويقتل الناس، فهذا يقتل، لكن يقتل بالسيف إلا إذا كان قد مثل بمن قتله فيمثل به حسب ما فعل، يفعل به كما فعل.
فإن قال قائل: ما تقولون في الرجل إذا زنا وهو محصن فإنه يرجم بالحصى، أي بالحجر الصغير حتى يموت، وهذا يؤلمه ويؤذيه قبل أن يموت فهل يعارض ذلك هذا الحديث؟
فالجواب لا. لا يعارضه؛ لأنه يحمل على أحد أمرين:
الأول: إما أن يراد بإحسان القتلة ما وافق الشرع، وحينئذٍ يكون الرجم من إحسان القتلة؛ لأنه موافق للشرع.
والثاني: إما أن يُقال هذا مستثنى دلت عليه السنة؛ بل دل عليه القرآن الذي نسخ لفظه وبقي حكمه، ودل عليه صريح السنة.
فالزاني المحصن الذي تزوج وجامع زوجته، إذا زنا والعياذ بالله فإنه يؤتى به، وتؤخذ حجارة صغيرة أقل من البيضة ومثل التمرة تقريباً أو أكبر قليلاً يضرب ويرجم حتى يموت، ويتقى المَقاتل يعني لا يضرب في موضع يموت به سريعاً؛ بل يضرب علي ظهره وبطنه وما أشبه ذلك حتى يموت؛ لأن هذا هو الواجب.
والحكمة من هذا أن البدن الذي تلذذ بالشهوة المحرمة، عمَّت(3/597)
الشهوة جميع بدنه، فمن الحكمة أن تعم العقوبة جميع بدنه، وهذا من حكمة الله عزّ وجلّ.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وليحد أحدكم شفرته)) ، اللام هنا للأمر، ويحد: يعني يجعلها حديدة سريعة القطع، والشفرة السكين.
يعني إذا أردت أن تذبح فاذبح بسكين مشحوذة أي مسنونة، بحيث يكون ذلك أقرب إلى القطع بدون ألم.
((وليرح ذبيحته)) هذا أمر زائد على شحذ الشفرة، وذلك بأن يقطع بقوة، يضع السكين على الرقبة ثم يجرها بقوة، حتى يكون ذلك أسرع من كونه يجرها مرتين أو ثلاث، وبعض الناس يوفقه الله من مرة واحدة حتى يقطع الودجين والحلقوم والمريء؛ لأنه يأخذ السكين بقوة، وتكون السكين جيدة مشحوذة، فليسهل على الذبيحة أو المنحورة الموت.
ومن إراحة الذبيحة أن تضع رجلك على رقبتها، وتمسك الرأس باليد اليسرى وتذبح باليمنى، وحينئذٍ تكون مضجعة على الجنب الأيسر، ودع القوائم اليدين والرجلين وخلِّها تتحرك بسهولة؛ لأنك إذا أمسكت بها فإن هذا ضغط عليها، وإذا تركتها تتحرك بيدها ورجليها كان هذا أيسر لها، وفيه أيضاً فائدة وهي تفريغ الدم بهذه الحركة؛ لأنه مع الحركة والاضطراب يتفرغ الدم أكثر، وكلما تفرغ فهو أحسن.
وأما ما يفعله بعض العامة من أنه يأخذ بيدها اليسرى ويلويها على عنقها، ثم يبرك على قوائمها الثلاث رجل ويمسك بها حتى لا تتحرك أبداً؛ فهذا خلاف السنة، السنة أنك تضع الرجل على الرقبة ثم تدع القوائم(3/598)
تتحرك؛ لأن ذلك أيسر لها وأشد فراغاً أو تفريغاً للدم.
فالشاهد من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)) فإن هذا من الرفق.
ولننتبه إذا قتل الإنسان بحدٍّ، يعني قتل وهو زانٍ أو قتل قصاصاً، فإنه يصلى عليه، ويدعى له بالرحمة والعفو مثل سائر المسلمين، لعل الله أن يعفو عنه ويرحمه.
أما من قُتل كافراً مرتدّاً فإنه لا يدعى له بالرحمة، ولا يغسل. مثل أن يقتل إنسان لا يصلى، فإنه يقتل مرتداً كافراً، هذا لا يغسل ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يدفن مع المسلمين، ولا يدعى له بالرحمة، ومن دعا له بالرحمة فإنه آثم متبع غير سبيل المؤمنين؛ لقول الله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (التوبة: 113) .(3/599)
75- باب العفو والإعراض عن الجاهلين
قال الله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف: 199) . وقال تعالى: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر: 85)
وقال تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور: 22) .
وقال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: 134) .
وقال تعالى: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى: 43) .
والآيات في الباب كثيرة معلومة.
1/643- وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحُدٍ؟ قال: ((لقد لقيتُ من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلالٍ، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلتني، فنظرتُ فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمُرهُ بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم على ثم قال: يا محمدُ إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي(3/600)
إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت: إن شئت اطبقتُ عليهم الأخشبين" فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً)) متفق عليه.
((الأخشبان)) : الجبلان المُحيطان بمكة. والأخشبُ: هو الجبل الغليظ.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين: باب العفو والإعراض عن الجاهلين. ثم ساق آياتٍ تكلمنا عليها سابقاً في أبواب سبقت.
ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل مر عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ لأن يوم أحد كان شديداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويوم أحد كان غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم حين تجمعت قريش لغزوه، لينتقموا من النبي صلى الله عليه وسلم فيما حصل من قتل زعمائهم في بدر؛ لأنه قتل في بدر- وهي في السنة الثانية من الهجرة- من زعمائهم أناس لهم شرفٌ وجاه في قريش.
وفي شوال من السنة التي تليها، وهي الثالثة من الهجرة، اجتمعت قريش فجاءوا إلى المدينة ليغزوا النبي صلى الله عليه وسلم، ولما سمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم،(3/601)
استشار أصحابه هل يخرج إليهم، أو يبقى بالمدينة؛ فإذا دخلوا المدينة قاتلهم؟ فأشار عليه الشبان والذين لم يحضروا بدراً أشاروا عليه أن يخرج إليهم، فخرج إليهم صلى الله عليه وسلم في نحو ألف مقاتل.
إلا أنه انخذل نحو ثلث الجيش؛ لأنهم كانوا منافقين والعياذ بالله، وقالوا: لو نعلم قتالاً لاتبعناك، فبقي النبي صلى الله عليه وسلم في نحو سبعمائة نفر، ورتبهم الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن ترتيب في سفح جبل أحد، وحصل القتال، وانهزم المشركون في أول النهار، وبدأ المسلمون يجمعون الغنائم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل على ثغر الجبل خمسين رجلاً رامياً يحمون ظهور المسلمين، ولما رأى هؤلاء الرماة أن المسلمين هزموا المشركين وصاروا يجمعون الغنائم، قالوا لننزل من هذا الجبل حتى نساعد المسلمين على جمع الغنائم، ظنوا هكذا، فذكرهم أميرهم عبد الله بن جبير ذكرهم ما قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وضعهم في هذا المكان قال لا تبرحوا مكانكم، ولا تتعدوه سواء لنا أو علينا، لكنهم - عفا الله عنهم- تعجَّلوا ونزل أكثرهم.
فلما رأى فرسان قريش أن المكان - مكان الرماة- خالياً كروا على المسلمين من الخلف، ومنهم خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل اللذان أسلما فيما بعد وصارا فارسين من فوارس المسلمين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فدخلوا على المسلمين من خلفهم واختلطوا بهم، واستشهد من المسلمين سبعون رجلاً، على رأسهم أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد(3/602)
المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ويجله.
وحدث للنبي صلى الله عليه وسلم ما حدث؛ ضربوا وجهه وشجوه وصار الدم ينزف على وجهه، وفاطمة رضي الله عنها تغسله، تغسل الدم حتى إذا لم يتوقف أحرقت حصيراً يعني خصافاً من سعف النخل، ودرته عليه حتى وقت، وكسروا رباعيته صلى الله عليه وسلم، وحصل من البلاء ما حصل.
حصل بلاء عظيمٌ قال الله تعالى فيه: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 166، 165) .
فما دام الأمر بإذنه فهو خير، وحدث في هذا ما حدث من الشدة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، وحملوا الشهداء إلى المدينة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يردوا إلى مصارعهم إلى المكان الذي استشهدوا فيه ودفنوا هناك؛ ليخرجوا يوم القيامة من هذا المكان الذي استشهدوا فيه رضي الله عنهم وأرضاهم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لما سألته: هل مر عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: نعم، وذكر لها قصة ذهابه إلى الطائف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسل لما دعا قريشاً في مكة، ولم يستجيبوا له خرج إلى الطائف؛ ليبلغ كلام الله عزّ وجلّ، ودعا أهل الطائف لكن كانوا أسفه من أهل مكة، حيث اجتمعوا هم وسفهاؤهم، وصاروا صفين متقابلين في طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وجعلوا يرمونه بالحجارة، يرمونه بالحصى حتى أدموا عقبه صلى الله عليه وسلم وخرج مغموماً مهموماً.(3/603)
ولم يفق صلى الله عليه وسلم إلا وهو في قرن الثعالب، فأظلّته غمامة فرفع رأسه، فإذا في هذه الغمامة جبريل عليه السلام، وقال له: هذا ملك الجبال يقرؤك السلام فسلم عليه وقال: إن ربي أرسلني إليك، فإن شئت إن أطبق عليهم - يعني - الجبلين- فعلت.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لحلمه وبُعد نظره وتأنيه في الأمر قال: لا؛ لأنه لو أطبق عليهم الجبلين هلكوا، فقال: ((لا، وإني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً)) .
وهذا الذي حدث؛ فإن الله تعالى قد أخر من أصلاب هؤلاء المشركين الذين آذوا الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأذية العظيمة أخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً.
فهذا يبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم حدث له أشد مما حدث له في أحد، وحدث له أنواع من الأذى لكنه صابر.
ومن أعظم ما كان أنه كان ذات يوم ساجداً تحت الكعبة، يصلي لله- والمسجد الحرام لو يجد الإنسان قاتل أبيه فيه ما قتله-، وكان ساجداً، فقال بعض السفهاء من قريش والمعتدين منهم: أذهبوا إلى جزور آل فلان فأتوا بسلاها فضعوه على محمد وهو ساجد، فذهبوا وأتوا بسلا الجزور- الناقة -، والرسول صلى الله عليه وسلم ساجدٌ تحت الكعبة، فوضعوه على ظهره، إهانة له وإغاظة له.
فبقي الرسول صلى الله عليه وسلم ساجداً حتى جاءت بنته فاطمة رضي الله عنها وألقت السلا عن ظهره، فقام من السجود، ولما سلم رفع يديه يدعو الله تعالى(3/604)
على هؤلاء الملأ من قريش. فالشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يؤذى أشد الأذى، ومع ذلك يعفو ويصفح ويتأنى ويترجى، فبلغه الله- ولله الحمد- مراده وحصل له النصر المبين المؤزر.
وهكذا ينبغي للإنسان أن يصبر على الأذى، لا سيما إذا أوذي في الله، فإنه يصبر ويحتسب وينتظر الفرج، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، ((واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)) " والله أعلم.
* * *
2/644-عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده، ولا امرأة ولا خادماً، إلا أن يُجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيءٌ قط فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيءٌ من محارم الله تعالى، فينتقم لله تعالى. رواه مسلم.
3/645- وعن أنس رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه بردٌ نجرانيٌّ غليظٌ الحاشية، فأدركه أعرابيٌّ فجبذهُ بردائه جبذةٌ شديدة، فنظرتُ إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشيةُ البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمدُ مر لي من مال الله الذي عندك. فالتفت إليه، فضحك، ثم أمر له بعطاء متفقٌ عليه.(3/605)
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث ساقها النووي رحمه الله في باب العفو والإعراض عن الجاهلين، منها حيث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ضرب أحداً لا خادماً ولا غيره بيده إلا أن يجاهد في سبيل الله، وهذا من كرمه صلى الله عليه وسلم؛ أنه لا يضرب أحداً على شيءٍ من حقوقه هو الخاصة به؛ لأن له أن يعفو عن حقه، وله أن يأخذ بحقه.
ولكن إذا انتهكت محارم الله؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لا يرضى بذلك، ويكون أشد ما يكون أخذاً بها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يقرّ أحداً على ما يغضب الله سبحانه وتعالى، وهكذا ينبغي للإنسان أن يحرص على أخذ العفو، وما عفي من أحوال الناس وأخلاقهم ويعرض عنهم، إلا إذا انتهكت محارم الله، فإنه لا يقر أحداً على ذلك.
ومن الأحاديث التي ساقها قصة هذا الأعرابي، الذي لحق النبي صلى الله عليه وسلم وعليه جبة نجرانية غليظة الحاشية، فجبذه، يعني: جذبه جذباً شديداً، حتى أثرت حاشية الجبة في عنق الرسول صلى الله عليه وسلم من شدة الجذب، فالتفت فإذا هو أعرابي يطلب منه عطاءً، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وأمر له بعطاء.
فانظر إلى هذا الخلق الرفيع؛ لم يوبِّخه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يضربه، ولم يكهر في وجهه، ولم يعبس؛ بل ضحك صلى الله عليه وسل ومع هذا أمر له بعطاء، ونحن لو أن أحداً فعل بنا هذا الفعل ما أقررناه عليه؛ بل لقاتلناه، وأما الرسول(3/606)
صلى الله عليه وسلم الذي قال الله فيه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4) ، فإنه التفت إليه وضحك إليه، وأعطاه العطاء.
وهكذا ينبغي للإنسان أن يكون ذا سعة، وإذا اشتد الناس أن يسترخي هو.
وسئل معاوية رضي الله عنه بم سُست الناس؟ ؛ وذلك لأن معاوية معروف بالسياية والحكمة، فقال: أجعل بيني وبي الناس شعرة؛ إن جذبوها تبعتهم، وإن جذبتها تبعوني لكن لا تنقطع.
ومعنى كلامه أنه سهل الانقياد؛ لأن الشعرة إذا جعلتها بينك وبين صاحبك إذا جذبها أدنى جذب انقطعت، لكن من حسن سياسته رضي الله عنه أنه كان يسوس الناس بهذه السياسية؛ إذا رأهم مقبلين استقبلهم، وإذا رأهم مدبرين تبعهم حتى يتمكن منهم.
فهكذا ينبغي للإنسان أن يكون دائماً في سياسته رفيقاً حليماً، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم هكذا، نسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم حسن الآداب والأخلاق.
4/646- وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: كأني أنظرُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء، صلواتُ الله وسلامهُ عليهم، ضربهُ قومهُ فأدموهُ، وهو يمسحُ الدمَ عن وجههِ، ويقولُ: ((اللهمَّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمُون)) متفق عليه.(3/607)
5/647- وعن أبي هُريرة رضي الله عنهُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديدُ الذي يملكُ نفسهُ عند الغضب)) متفقٌ عليه.
[الشَّرْحُ]
ومن الأحاديث التي نقلها النووي رحمه الله في رياض الصالحين، في باب العفو والإعراض عن الجاهلين هذا الحديث، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء؛ ضربه قومه حتى أدموا وجه، فجعل يمسح الدم عن وجهه، ويقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) .
وهذا من حلم الأنبياء وصبرهم على أذى قومهم، وكم نال الأنبياء من أذى قومهم؟! قال الله تعالى (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا) (الأنعام: 34) فهذا النبي صلى الله عليه وسلم ضربه قومه حتى أدموا وجهه يقول: " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" وكأن هؤلاء القوم كانوا مسلمين، لكن حصل منهم مغاضبة مع نبيهم ففعلوا هذا معه، فدعا لهم بالمغفرة، إذ لو كانوا غير مسلمين لكان يدعوا لهم بالهداية، فيقول اللهم اهد قومي، لكن هذا الظاهر أنهم كانوا مسلمين.
والحق حقه؛ فله أن يسامح وأن يتنازل عنه، ولهذا كان القول الراجح(3/608)
فيمن سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم ثم تاب أن توبته تقبل، ولكنه يقتل، وأما من سب الله ثم تاب فإن توبته تقبل ولا يقتل، وليس هذا يعني أن سب الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم من سبّ الله، بل سبّ الله أعظم، لكن الله قد أخبرنا أنه يعفو عن حقه لمن تاب منه، فهذا الرجل تاب فعلمنا أن الله تعالى قد عفا عنه.
أما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو قد مات، فإذا سبَّه أحد فقد امتهن حقه، فإذا تاب فإن الله يتوب عليه ويغفر له كفره الذي كفره بسبب سبِّه، ولكن حق الرسول باقٍ فيقتل.
ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس الشديد بالصرعة)) يعني ليس القوي الصرعة الذي يصرع الناس إذا صارعهم، والمصارعة معروفة وهي من الرياضة النبوية المباحة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم صارع ركانة بن يزيد، وكان هذا الرجل لا يصرعه أحد، فصارعه النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا الصرعة هو الذي إذا صارع الناس صرعهم، وليس هذا هو الشديد حقيقة، لكن الشديد الذي يصرع غضبه، إذا غضب غلب غضبه، ولهذا قال: ((وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) هذا هو الشديد.
وذلك لأن الغضب جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم فيفور دمه، فإن كان قوياً ملك نفسه، وإن كان ضعيفاً غلبه الغضب، وحيئنذٍ ربما يتكلم بكلام يندم عليه، أو يفعل فعلاً يندم عليه.
ولهذا قال رجلٌ للرسول صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: ((لا تغضب)) قال: أوصني، قال: ((لا تغضب)) ، ردد مراراً(3/609)
وهو يقول: ((لا تغضب)) ؛ لأن الغضب ينتج عنه أحياناً مفاسد عظيمة؛ ربما سب الإنسان نفسه، أو سب دينه، أو سب ربه، أو طلق زوجته، أو كسر إناءه، أو أحرق ثيابه، وكثيرٌ من الوقائع تصدر من بعض الناس إذا غضبوا، كأنما صدرت من المجنون.
ولهذا كان القول الراجح أن الإنسان إذا غضب حتى لا يملك نفسه، ثم طلَّق زوجته، فإنها لا تطلق؛ لأن هذا حصل عن غلبته ليس عن اختيار، والطلاق عن الغلبة لا يقع كطلاق المكره، الله الموفق.(3/610)
76- باب احتمال الأذى
قال الله تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: 134) .
وقال تعالى: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى: 43) .
وفي الباب: الأحاديث السابقة في الباب قبله.
1/648- وعن أبي هُريرة رضي الهُ عنهُ أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعُوني، وأحسن إليهم ويُسيئون إليّ، وأحلمُ عنهم ويجهلون عليّ! فقال: " ((لئن كُنتَ كما قلتَ فكأنما تُسفهم المل، ولا يزالُ معك من الله تعالى ظهيرٌ عليهم ما دُمتَ على ذلك)) رواه مسلم. وقد سبق شرحه في ((باب صلة الأرحام)) .
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: باب الصبر على الأذى الأذى: هو ما يتأذى به الإنسان من قول أو عمل أو غير ذلك، والأذى إما أن يكون في أمر ديني أو أمر دنيوي، فإذا كان في أمرٍ ديني بمعنى أن الرجل يؤذى من أجل دينه، كان في هذا الصبر على الأذى أسوة بالرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ لأن الله يقول: (لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ(3/611)
فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا) (الأنعام: 34) ، أوذوا حتى أتاهم نصر الله عزّ وجلّ.
والإنسان إذا كان معه دين، وكان معه أمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر فلابد أن يؤذى، ولكن عليه بالصبر، وإذا صبر؛ فالعاقبة للمتقينن، وقد يُبتلى المرء على قدر دينه، فيسلط الله عليه من يؤذيه امتحاناً واختباراً، كما قال الله تعالى: (َمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) (العنكبوت: 10) ، يعني إذا أوذي في الله من جهة دينه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ودعوته للخير، جعل هذه الفتنة كالعذاب، فنكص على عقبيه والعياذ بالله.
وهذا كقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج: 11) .
يعني أن بعض الناس يعبد الله على طرف، وليس عنده عبادة متمكنة، فإن أصابه خير ولم يأته فتنة ولا أذية استمر، مشى وأطمأن، وإن أصابته فتنة من شبهه أو أذية أو ما أشبه ذلك؛ انقلب ذلك؛ انقلب على وجهه- والعياذ بالله- خسر الدنيا والآخرة.
فالواجب الصبر على الأذى في ذات الله عزّ وجلَّ.
وأما الأذى فيما يتعلق بأمور الدنيا ومعاملة الناس؛ فأنت بالخيار إن شئت فاصبر، وإن شئت فخذ بحقك، والصبر أفضل، إلا إذا كان في الصبر عدوان واستمرار في العدوان، فالأخذ بحقك أولى.(3/612)
ولنفرض أن لك جاراً يؤذيك؛ بأصوات مزعجة، أو دق الجدار، أو إيقاف السيارة أمام بيتك، أو ما أشبه ذلك، فالحق إذاً لك، وهو لو يؤذك في ذات الله، فإن شئت فاصبر وتحمل وانتظر الفرج، والله سبحانه وتعالى يجعل لك نصيراً عليه، وإن شئت فخذ بحقك؛ لقول الله تعالى: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) (الشورى: 41) ، ولكن الصبر أفضل ما لم يحصل بذلك زيادة عدوان من المعتدي، فحينئذٍ الأفضل أن يأخذ بحقه ليردعه عن ظلمه.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله آيتين سبق الكلام عليهما؛ قوله تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: 134) .، وقوله (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى: 43) .
ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه في رجلٍ قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلىَّ، وأحلم عليهم ويجهلون عليَّ، يعني: فماذا أصنع؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال لك من الله تعالى ظهيرٌ عليهم ما دمت على ذلك)) يعني ناصر، فينصرك الله عليهم ولو في المستقبل.
لأن هؤلاء القرابة والعياذ بالله يصلهم قريبهم لكن يقطعونه، ويحسن إليهم فيسيئون إليه، ويحلم عليهم ويعفو ويصفح ولكن يجهلون عليه ويزدادون، فهؤلاء قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فكأنما تسفهم المل)) ، المل: الرماد الحار، وتسفهم: يعني تلقمهم إياه في أفواههم، وهو كناية عن أن هذا الرجل منتصر عليهم.(3/613)
وليس الواصل لرحمه من يكافئ من وصله، ولكن الواصل حقيقة هو الذي إذا قطعت رحمه وصلها، هذا هو الواصل حقاً، فعلى الإنسان أن يصبر ويحتسب على أذية أقاربه وجيرانه وأصحابه وغيرهم، فلا يزال له من الله ظهيرٌ عليهم، وهو الرابح، وهم الخاسرون، وفقنا الله وإياكم لما فيه الخير والصلاح في الدنيا والآخرة.(3/614)
77- باب الغضب إذا انتهكت حرمات الشّرع والانتصار لدين الله تعالى
قال الله تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِِ) (الحج: 30) وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7)
وفي الباب أحاديث منها.
1/649- وعن أبي مسعودٍ عُقبة بن عمرو البدري رضي الله عنهُ قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخرُ عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا! فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ؛ فقال: ((يا أيها الناس: إن منك منفرين، فأيكم أم الناس فليتجوز؛ فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة)) متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
قال الحافظ النووي رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين، باب الغضب إذا انتهكت حرمات الشرع، والانتصار لدين الله.
والغضب له عدة أسباب؛ منها أن ينتصر الإنسان لنفسه؛ يفعل أحدٌ معه ما يغضبه فيغضب لينتصر لنفسه، وهذا الغضب منهيٌّ عنه؛ لأن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال له: أوصني، قال: ((لا تغضب)) فردد مراراً يقول:(3/615)
أوصني، وهو يقول: ((لا تغضب)) .
والثاني من أساب الغضب: الغضب لله عز وجلّ، بأن يرى الإنسان شخصاً ينتهك حرمات الله فيغضب غيرة لدين الله، وحمية لدين الله، فإن هذا محمود ويُثاب الإنسان عليه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان هذا من سنته، ولأنه داخل في قوله تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) (الحج: 30) ، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: 32) ، فتعظيم شعائر الله وتعظيم حرمات الله أن يجدها الإنسان عظيمة، وأن يجد امتهانها عظيماً فيغضب ويثأر لذلك، حتى يفعل ما أُمر به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك.
ثم ذكر المؤلف آية ثانية، وهي قوله تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7) ، والمراد بنصر الله نصر دينه، فإن الله سبحانه وتعالى بنفسه لا يحتاج إلى نصر، هو غني عمن سواه، لكن النصر هنا نصر دين الله، بحماية الدين، والذب عنه، والغيظ عند انتهاكه، وغير ذلك من أسباب نصر الشريعة.
ومن هذا الجهاد في سبيل الله القتال؛ لتكون كلمة الله هي العليا، هذا من نصر الله، وقد وعد الله سبحانه وتعالى من ينصره بهذين الأمرين: (يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) ينصركم على من عاداكم، ويثبت أقدامكم على دينه حتى لا تزالّوا، فتأمل الآن إذا نصرنا الله مرة؛ أثابنا مرتين؛ (ينْصُرْكُمْ(3/616)
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) . ثم قال بعدها: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) (محمد: 8) ، يعني أن الكافرين أمام المؤمنين الذين ينصرون الله لهم التعس، وهو الخسران والذل والهوان، وأضل أعمالهم يعني يكون تدبيرهم تدميراً عليهم، وتكون أعمالهم ضالة لا تنفعه ولا ينتفعون بها.
ثم ذكر حديث عقبة بن عمرو البدري رضي الله عنه، أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح- الفجر- من أجل فلان مما يطيل بنا، وكان هذا الإمام يطيل بهم إطالة أكثر من السنة، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: فما رأيته غضب في موعظةٍ قط أشد مما غضب يومئذٍ.
وقال" ((يا أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أمَّ الناس فليتجوز)) منفرين: يعني ينفرون الناس عن دين الله، وهذا الرجل لم يقل للناس لا تصلوا صلاة الفجر، لكنه نفرهم بفعله؛ بالتطويل الذي هو خارجٌ عن السنة، فنفر الناس، وفي هذا إشارة إلى أن كلَّ شيء ينفر الناس عن دينهم- ولو لم يتكلم الإنسان بالتنفير؛ فإنه يدخل في التنفير عن دين الله.
ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يداري في الأمور الشرعية، فيترك ما هو حسن لدرء ما هو أشد منه فتنة وضرراً، فإنه صلى الله عليه وسلم هم أن يبني الكعبة على قواعد إبراهيم، ولكن خاف من الفتنة فترك ذلك، وكان يصوم في السفر فإذا رأى أصحابه صائمين- وقد شق عليهم الصوم- أفطر ليسهل عليهم.
فكون الإنسان يحرص على أن يقبل الناس دين الله بطمأنينة ورضى وإقبال بدون محذور شرعي؛ فإن هذا هو الذي كان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم.(3/617)
والشاهد من هذا الحديث غضب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الفعل الذي فعله هذا الإمام، وفيه أيضاً إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغضب عند الموعظة لانتهاك حرمات الله، وقد قال جابر رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يوم الجمعة؛ احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((فأيكم أم الناس فليتجوز)) يعني فليخفف الصلاة، على حسب ما جاءت به السنة.
((فأن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة)) أي في المأمومين ضعيف البينة، وضعيف القوة، وفيهم مريض، وفيهم ذو حاجة؛ قد وعد أحداً يذهب إليه، أو ينتظر أحداً، أو ما أشبه ذلك، فلا يجوز للإمام أن يثقل بالناس أكثر مما جاءت به السنة.
وأما صلاته بالناس بحسب ما جاءت به السنة فليفعل، غضب من غضب، ورضي من رضي، والذي لا ترضيه السنة فلا أرضاه الله، السنة تتبع ولكن ما زاد عليها فلا.
والأئمة في هذه الحال، أو في هذه المسألة ينقسمون إلى ثلاثة أٌقسام:
قسم مُفرّط، يسرع سرعة تمنع المأمومين فعل ما يسن، وهذا مخطئ، وآثم ولم يؤد الأمانة التي عليه.
وقسم مُفرِط إي زائد، يثقل بالناس وكأنه يصلي لنفسه، فتجده يثقل(3/618)
بالقراءة، والركوع، والسجود، والقيام بعد الركوع، والجلوس بين السجدتين، وهذا أيضاً مخطئ ظالمٌ لنفسه.
والثالث: يصلي بهم كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا خير الأقسام، وهو الذي قام بالأمانة على الوجه الأكمل، والله الموفق.
* * *
2/650- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفرٍ وقد سترتُ سهوة لي بقرامٍ فيه تماثيلُ، فلما رآهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هتكه وتلون وجهه وقال: ((يا عائشةُ: أشدُّ الناس عذاباً ((السهوةُ)) : كالصُّفة تكون بين يدي البيت. و ((القِرام)) بكسر القاف: ستر رقيق، و ((هتكه)) أفسد الصورة التي فيه.
3/651- وعنها رضي الله عنها أن قريشاً أهمهم شأنُ المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامةُ بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكلمه أسامةُ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حد من حُدودِ الله تعالى؟! " ثم قام فاختطب ثم قال: ((إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهمُ الشريف تركوهُ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد! وايم الله، لو أن فاطمة بنت مُحمدٍ سرقت لقطعتُ يدها)) متفقٌ عليه.(3/619)
[الشَّرْحُ]
نقل المؤلف النووي - رحمه الله- في كتابه رياض الصالحين في باب الغضب إذا انتهك شرع الله- وسبق لنا الكلام على الآيات التي صدر بها المؤلف هذا الباب، وأما الأحاديث فمنها حديث عائشة رضي الله عنها؛ والأول أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم من سفر فوجدها قد سترت سهوةً لها بقرامٍ فيه تماثيل، يعني فيه صورة، فهتكه النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر ((أن أشد الناس عذاباً الذين يضاهون بخلق الله)) يعني المصورين، فهم أشد الناس عذاباً، لأنهم أرادوا أن يضاهوا الله سبحانه وتعالى في خلقه، وفي تصويره.
وكانوا فيما سبق يصورون باليد؛ لأنه ليس عندهم آلات وأجهزة تلتقط الصور بدون عمل يدوي، فكانوا يخططون بأيديهم، فيأتي الحاذق منهم ويصور صورة بيده على أنها كالذي صوره ويتقنها لتشابه صورة الله، ليُقال: ما أشد مهارة هذا الرجل، وما أعرفه، كيف استطاع أن يقلد خلق الله عزّ وجلَّ؟
فهم يريدون بذلك أن يشاركون الله سبحانه وتعالى في تصويره، وهو سبحانه وتعالى لا شريك له: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ) (آل عمران: 6) ، (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) (غافر: 64) .
فهتكه: يعني مزقه عليه الصلاة والسلام.(3/620)
وفي هذا دليلٌ على مشروعية تمزيق الصور التي تصور باليد؛ لأنه يضاهي بها خلق الله عزّ وجلّ، وإقرار المنكر كفعل المنكر، وفيه العضب إلذا انتهكت حرمات الله عزّ وجلّ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غضب وهتكه.
وأما في الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها في قصة المخزومية وهي امرأة من بني مخزوم كانت تستعير المتاع فتجحده، يعني تأتي للناس تقول: أعرني قدراً، أعرني إناءً، أعرني كذا، فإذا أعاروها جحدت وقالت: لم آخذ منكم شيئاً، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع يدها؛ لأن هذا نوع من السرقة.
وكانت هذه المرأة من بني مخزوم، من قبيلة من أشرف قبائل العرب ذات الأهمية والشأن، فأهم قريشاً شأنُها، وقالوا كيف تُقطع يد مخزومية، ثم طلبوا شفيعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أسامة بن زيد حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم. حِبّه يعني محبوبه، يعني أنه يحبه.
وأسامة هو ابن زيد بن حارثة، وزيد بن حارثة كان عبداً وهبته خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه، وأسامة أبنه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبهما، وقالوا: ليس إلا أسامة بن زيد، فتقدم أسامة بن زيد رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشفع، فأنكر عليه وقال: ((أتشفع في حدّ من حدود الله؟)) .
ثم قام فأختطب، فخطب الناس وقال لهم عليه الصلاة والسلام: ((إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله- يعني أقسم بالله - لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) .(3/621)
والشاهد من هذا أن الرسول عليه الصلاة والسلام غضب لشفاعة أسامة بن زيد في حدّ من حدود الله. فالغضب لله عزّ وجلّ محمود، وأما الغضب للانتقام وحظ النفس فإنه مذموم، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم حين طلب أحد الصحابة أن يوصيه، فقال: ((لا تغضب)) ، قال: أوصني، قال: ((لا تغضب)) ، قال: أوصني، قال: ((لا تغضب")) فالفرق بين الغضبين ظاهر.
الغضب لله ولشرائع الله محمود، وهو من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ودليل على غيرة الإنسان وعلى محبته لإقامة شريعة الله، أما الغضب للنفس فينبغي للإنسان أن يكتمه وأن يحلم، وإذا أصابه الغضب فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا كان قائماً فليجلس، وإن كان جالساً فليضطجع كل هذا مما يخفف عنه الغضب والله الموفق.
* * *
4/652- وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نُخامة في القبلة، فشق ذلك عليه حتى رُئي في وجهه، فقام فحكه بيده فقال: ((إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنهُ يناجي ربهُ، وإن ربه بينهُ وبين القبلةِ فلا يبزقن أحدكم قبل القبلة، ولكن عن يساره، أو تحت قدمه، ثُم أخذ طرف ردائه فبصق فيه، ثم رد بعضهُ على بعضٍ فقال: ((أو يفعل هكذا)) متفقٌ عليه.(3/622)
والأمرُ بالبُصاقِ عن يساره أو تحت قدمه هو فيما إذا كان في غير المسجد، فأما في المسجد فلا يبصقُ إلا في ثوبه.
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث الذي ذكره النووي رحمه الله في رياض الصالحين في باب الغضب إذا انتهك شرع الله عزّ وجلّ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة، أي: في قبلة المسجد، فغضب عليه الصلاة والسلام وحكها بيده وقال: ((إن أحدكم يناجي ربه)) يعني إذا كان يصلي فإنه يناجي الله يعني يخاطبه، والله عزّ وجلّ يرد عليه.
فقد ثبت في الصحيح أن العبد إذا قال: الحمد لله رب العالمين، أجابه الله فقال: ((حمدني عبدي)) ، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: ((أثنى على عبدي)) ، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: ((مجدني عبدي)) وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي نصفين"، فإذا قال: أهدنا الصراط المستقيم، قال: ((هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)) .
فأنت تناجي الله عزّ وجلّ بكلامه، وتدعوه سبحانه وتعالى، وتسبحه؟، وتمجده، وتعظمه. فهو سبحانه وتعالى أمامك بينك وبين القبلة، وإن كان سبحانه وتعالى في السماء فوق عرشه، فإنه أمامك؛ لأنه محيط بكل شيء و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: 11) .(3/623)
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر منع التنخم أمام القبلة يعني في قبلة الإنسان ذكر الشيء المباح؛ لأن هذا هو الهدي، وهذه هي الحكمة، أنك إذا ذكرت للناس ما هو ممنوع أن تذكر لهم ما هو جائز حتى لا تسد الأبواب عليهم. فأمر الإنسان أن يبصق عن يساره، أو تحت قدمه، أو في ثوبه ويحك بعضه ببعض؛ ثلاثة أمور: إما تحت قدمه يبصق ويطؤ عليها، وإما عن يساره، وهذا والذي قلبه متعذر إذا كان الإنسان في المسجد؛ لأنه يلوثه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((البصاقُ في المسجد خطيئة")) ، وإما في ثوبه، فيبصق في ثوبه ويحك بعضه ببعض.
وفي هذا الحديث دليلٌ على أن النخامة ليست نجسة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يبصق المصلي تحت قدمه أو في ثوبه، ولو كانت نجسة ما أذن له أن يبصق في ثوبه، وفيه التعليم بالفعل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ِ ((أو يقول هكذا، وبصق في ثوبه وحك بعضه ببعض)) وفيه أيضاً إطلاق القول على الفعل في قوله: ((أو يقول هكذا)) وهو يريد الفعل.
وفيه أيضاً: أن الإنسان لا حرج عليه أن يبصق أمام الناس، ولا سيما إذا كان للتعليم.
وفيه أن من المروءة ألاَّ يرى في ثوبك شيء يستقذره الناس- لأنه حكَّ بعضها ببعض- لئلا تبقى صورتها في ثوبك فإذا رآها الناس تأذوا منه(3/624)
وكرهوه. فالإنسان ينبغي أن يكون نظيفاً في مظهره وفي ثيابه وفي غير ثيابه، حتى لا يتقزر الناس مما يشاهدونه منه.
والشاهد من هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم تأثر وعُرف في وجهه الكراهية لما رأى النخامة في قبلة المسجد، والله الموفق.(3/625)
78- باب أمر وُلاة الأمور بالرفق برعاياهم ونصيحتهم والشفقة عليهم والنهي عن غشهم والتشديد عليهم وإهمال مصالحهم والغفلة عنهم وعن حوائجهم
قال الله تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء: 215) .
وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90) .
1/653- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته والإمام راعي ومسؤول عن رعيته، والرجلُ راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته)) متفق عليه.
2/654- وعن أبي يعلى معقلِ بن يسارٍ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيتةً، يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة)) متفق عليه.(3/626)
وفي رواية: ((فلم يحُطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة)) . وفي رواية لمسلم: ((ما من أمير يلي أمور المسلمين، ثم لا يجهد لهم، وينصح لهم، إلا لم يدخل معهم الجنة)) .
[الشَّرْحُ]
هذا الباب الذي عقده المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين هو باب عظيم مهم يُخاطب به ولاة الأمور ويخاطب به الرعية، ولكل منهم على الآخر حق يجب مراعاته.
أما ولاة الأمور فيجب عليهم الرفق بالرعية، والإحسان إليهم، واتباع مصالحهم، وتوليه من هو أهل للولاية، ودفع الشر عنهم؛ وغير ذلك من مصالحهم؛ لأنهم مسؤولون عنهم أمام الله عزَّ وجلَّ.
وأما الرعية فالواجب عليهم السمع والطاعة في غير المعصية، والنصح للولاة، وعد التشويش عليهم، وعدم إثارة الناس عليهم، وطي مساوئهم، وبيان محاسنهم؛ لأن المساوئ يمكن أن ينصح فيها الولاة سراً بدون أن تُنشر على الناس؛ لأن نشر مساوئ ولاة الأمور أمام الناس لا يُستفاد منه؛ بل لا يزيد الأمر إلا شدة؛ فتحمل صدور الناس البغضاء والكراهية لولاة الأمور.(3/627)
وإذا كره الناس ولاة الأمور وأبغضوهم وتمردوا عليهم، ورأوا أمرهم بالخير أمراً بالشر، ولم يسكتوا عن مساوئهم، وحصل بذلك إيغار الصدور والشر والفساد.
والأمة إذا تفرقت وتمزقت حصلت الفتنة بينها ووقعت، مثل ما حصل في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه ن حين بدأ الناس يتكلمون فيه، فأوغروا الصدور عليه، وحشدوا الناس ضده، وحصل ما حصل من الفتن والشرور إلى يومنا هذا.
فولاة الأمور لهم حق وعليهم حق.
ثم استدل المؤلف رحمه الله تعالى بآيات من كتاب الله فقال: وقول الله تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يعني لا تتعالى عليهم، ولا ترتفع في الجو؛ بل اخفض الجناح، حتى وإن كنت تستطيع أن تطير في الجو فاخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين.
وأما من خالفك وعصاك فأقم عليه العقوبة اللائقة به؛ لأن الله تعالى لم يقل اخفض جناحك لكل أحد، بل قال: لمن اتبعك من المؤمنين.
وأما المتمردون والعصاة فقد قال الله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة: 34، 33) ، وقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ(3/628)
وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90) .
إن الله يأمر بهذه الأمور الثلاثة:
بالعدل: وهو واجب، فيجب على الإنسان أن يقيم العدل في نفسه، وفي أهله، وفيمن استرعاه الله عليهم.
فالعدل في نفسه بألا يثقل عليها في غير ما أمر الله، وأن يراعيها حتى في أمر الخير، فلا يثقل على نفسه أو يحملها فوق ما تطيقه. ولهذا لما قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أصوم ولا أفطر، وأصلي ولا أنام، دعاه النبي عليه الصلاة والسلام ونهاه عن ذلك وقال: ((إن لنفسك عليك حقاً، ولربك حقاً، ولأهلك عليك حقاً؛ فأعط كل ذي حقٍّ حقه)) .
وكذلك يأمر بالعدل كذلك في أهل الإنسان، فمن كان له زوجتان وجب عليه العدل بينهما، " ومن كان له امرأتان فمال إلى إحداهما؛ جاء يوم القيامة وشقه مائل".
وعليك العدل بين الأولاد؛ فإذا أعطيت أحدهم ريالاً؛ فأعط الآخر مثله، وإذا أعطيت الولد ريالين، فأعط البنت ريالاً، وإذا أعطيت الابن(3/629)
ريالاً؛ فأعط البنت نصف ريالٍ.
حتى إن السلف- رحمهم الله- كانوا يعدلون بين الأولاد في القُبل؛ يعني إذا حبَّ الولد الصغير وأخوه عنده، حبَّ الولد الثاني؛ لئلا يجحف معهم في التقبيل.
وكذلك أيضاً في الكلام، يجب أن تعدل بينهم، فلا تتكلم مع أحدهم بكلام خشن ومع الآخر بكلام لين.
وكذلك يجب العدل فيمن ولاَّك الله عليهم، فلا تحابِ قريبك لأنه قريبك، ولا الغني لأنه غني، ولا الفقير لأنه فقير، ولا الصديق لأنه صديق، لا تحابِ أحداً فالناس سواء.
حتى إن العلماء رحمهم الله قالوا: يجب العدل بين الخصمين إذا دخلا على القاضي؛ في لفظه ولحظه وكلامه ومجلسه ودخولهما عليه. لا تنظر لهذا نظرة غضب ولهذا نظرة رضا، لا تلن الكلام لهذا والثاني بعكسه. لا تقل لأحدكم كيف أنت؟ كيف أهلك؟ كيف أولادك؟ والثاني لا تقول له مثله، بل اعدل بينهما حتى في هذا.
وكذلك في المجلس لا تجعل أحدهما يجلس على اليمين قريباً منك والثاني تجعله بعيداً عنك؛ بل اجعلها أمامك على حدٍّ سواء.
حتى المؤمن والكافر إذا تخاصما عند القاضي، يجب أن يعدل بينهما في الكلام والنظر والجلوس، فلا يقل للمسلم تعال بجانبي والكافر يبعده؛ بل يجعلهما يجلسان جميعاً أمامه، فالعدل واجب في كل الأمور.
أما الإحسان فهو فضل زائد على العدل، ومع ذلك أمر الله به، لكن(3/630)
أمره بالعدل واجب، وأمره بالإحسان سنة وتطوع.
(وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى) يعني إعطاء ذي القربي، أي القريب حقه. فإن القريب له حق؛ حق الصلة، فمن وصل رحمه وصله الله، ومن قطع رحمه قطعه الله.
(وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ينهي عن الفحشاء: الفحشاء هي كل ما يُستفحش من الذنوب؛ كعقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، والزنا، ونكاح المحارم، وغير ذلك مما يُستفحش شرعاً وعرفاً، والمنكر: هو ما يُنكر، وهو دون الفحشاء كعامة المعاصي. َوالبغي: تجاوز الحد، وهو الاعتداء على الخلق بأخذ أموالهم، والاعتداء على دمائهم وأعراضهم، كل هذا يدخل في البغي.
وبيَّن الله عزّ وجلّ أنه أمر ونهي ليعظنا ويصلح أحوالنا، ولهذا قال: (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) .
وسبق لنا الكلام على حديث ((كلكم راع ومسؤول عن رعيته)) ، وأما حديث معقل بن يسار الذي ذكره المؤلف، فإن فيه التحذير من غش الرعية، وأنه ما من عبد يسترعيه الله على رعيته ثم يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة، وأنه إذا لم يحطهم بنصيحته فإنه لا يدخل معهم الجنة.
وهذا يدل على أنه يجب على ولاة الأمور مسؤولون عن الصغيرة والكبيرة، وعليهم أن ينصحوا لمن ولاهم الله عليهم، وأن يبذلوا لهم(3/631)
النصيحة، وأهمها النصيحة في دين الله، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير.
ومنها أيضاً: من النصيحة لهم أن يسلك بهم الطرق التي فيها صلاحهم في معادهم ومعاشهم، فيمنع عنهم كل ما يضرهم في دينهم ودنياهم، يمنع عنهم الأفكار السيئة، والأخلاق السافلة، وما يؤدى إلى ذلك من المجلات والصحف وغيرها؛ ولهذا يجب على ولي الأمر في البيت وهو الرجل في بيته أن يمنع من وجود هذه الأشياء في بيته؛ الصحف السيئة الفاسدة، الأفكار المنحرفة، الأخلاق السافلة.
وكذلك على ولي الأمر العام يجب عليه أن يمنع هذه الأشياء؛ وذلك لأن هذه الأشياء إذا شاعت بين الناس؛ صار المجتمع مجتمعاً بهيمياً؛ لا يهمه إلا إشباع البطن وشهوة الفرج، وتحل الفوضى، ويزول الأمن، ويكون الشر والفساد، فإذا منع ولي الأمر ما يفسد الخلق سواء كان ولي الأمر صغيراً أو كبيراً، حصل بهذا الخير الكثير.
لو أن كل واحد منا في بيته منع أهله من اقتناء هذه الصحف والمجلات الخليعة الفاسدة، ومن مشاهدة التمثيليات الفاسدة، والمسلسلات الخبيثة، لصلح الناس؛ لأن الناس هم أفراد الشعب؛ أنت في بيتك، والثاني في بيته، والثالث في بيته، وهكذا إذا صلحوا صلح كل شيء. نسأل الله تعالى أن يصلح ولاة أمورنا أن يرزقهم البطانة الصالحة.(3/632)
3/655- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً، فرفُق به)) رواه مسلم.
4/656- وعن أبي هُريرة رضي الله عنهُ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كُلما هلك نبي خلفهُ نبيٌّ، وإنهُ لا نبيَّ بعدي، وسيكون بعدي خُلفاء فيكثُرون)) قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: ((أوفوا ببيعة الأول فالأول، ثم أعطوهم حقهم، واسألوا الله الذي لكم، فإن الله سائلهم عما استرعاهُم)) متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف الحافظ النووي في رياض الصالحين في باب أمر ولاة الأمور بالرفق واللين، ورعاية مصالح من استرعاهم الله عليهم. قال في سياق الأحاديث ما نقله عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي هذا يقول: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه)) .
وهذا دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم على من تولى أمور المسلمين الخاصة والعامة؛ حتى الإنسان يتولى أمر بيته، وحتى مدير المدرسة يتولى أمر(3/633)
المدرسة، وحتى المدرس يتولى أمر الفصل، وحتى الإمام يتولى أمر المسجد.
ولهذا قال: ((من ولي من أمر أمتي شيئاً)) . ((وشيئاً)) نكرة في سياق الشرط، وقد ذكر علماء الأصول أن النكرة في سياق الشرط تفيد العموم؛ أي شيء يكون، ((فرفق بهم فارفق به)) ، ولكن ما معنى الرفق؟
قد يظن بعض الناس أن معنى الرفق أن تأتي للناس على ما يشتهون ويريدون، وليس الأمر كذلك؛ بل الرفق أن تسير بالناس حسن أمر الله ورسوله، ولكن تسلك أقرب الطرق وأرفق الطرق الناس، ولا تشق عليهم في شيء ليس عليه أمر الله ورسوله، فإن شققت عليهم في شيء ليس عليه أمر الله ورسوله؛ فإنك تدخل في الطرف الثاني من الحديث؛ وهو الدعاء أن الله يشقق عليك والعياذ بالله.
يشق عليه إما بآفات في بدنه، أو في قلبه، أو في صدره، أو في أهله، أو في غير ذلك؛ لأن الحديث مطلق ((فاشقق عليه)) بأي شيء يكون، وربما لا تظهر للناس المشقة، وقد يكون في قلبه نار تلظى والناس لا يعلمون، لكن نحن نعلم أنه إذا شق على الأمة بما لم ينزل به الله سلطاناً؛ فإنه مستحق لهذه الدعوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الحديث الثاني فإن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر بأن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء؛ أي تُبعث فيهم الأنبياء فيصلحون من أحوالهم، " وإنه لا نبي بعدي" فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين بالنص والإجماع كما قال الله تعالى (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ(3/634)
رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) (الأحزاب: 40) .
ولهذا من ادَّعى النبوة بعده؛ فهو كافر مرتد يجب قتله، ومن صدّق من ادعى النبوة بعده؛ فهو كاذب مرتد يجب قتله إلا أن يتوب، فالنبي عليه الصلاة والسلام هو خاتم الأنبياء، ولكن جعل الله له خلفاء؛ خلفاء في العلم، وخلفاء في السلطة، والمراد بالخلفاء في هذا الحديث: خلفاء السلطة.
ولهذا قال: ((سيكون خلفاء ويكثرون)) قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ يعني: من نفي ببيعته؟ قال: ((الأول فالأول)) فإذا بايعوا الخليفة وجب عليهم أن يبقوا على بيعتهم، وأن ينبذوا كلّ من أراد الخلافة وهو حي، وأن يعينوا الخليفة الأول على من أراد الخلافة في حياته، لأن كل من نازع السلطان في سلطانه؛ فإنه يجب أن يُقاتل؛ حتى تكون الأمة واحدة، فإن الناس لو تركوا فوضى، وصار كل من لا يريد هذا السلطان يذهب ويتخذ له حزباً يقاتل به السلطان؛ فسدت الأمور.
وفي آخر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حمل هؤلاء الخلفاء ما عليهم، وأمرنا نحن أن نوفي لهم بحقهم، ونسأل الله الذي لنا، لا نقل هؤلاء ظلموا هؤلاء جاروا، هؤلاء لم يقوموا بالعدل، ثم ننابذهم ولا نطيعهم فيما أمرنا الله به، لا، هذا لا يجوز، يجب أن نوفي لهم بالحق، وأن نسأل الله الحق الذي لنا، كالإنسان الذي له قريب إذا قطعك فصِله، وأسأل الله الذي لك، أما أن تقول لا أصلُ إلا من وصلني، أو لا أطيع من السلطان إلا من لا يظلم ولا يستأثر بالمال ولا غيره، فهذا خطأ، قم أنت بما يجب عليك، واسأل(3/635)
الله الذي لك.
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((تسوسهم الأنبياء)) دليلٌ على أن دين الله- وهو دين الإسلام في كل مكان وفي كل زمان- هو السياسة الحقيقية النافعة، وليست السياسة التي يفرضها أعداء الإسلام من الكفار.
السياسة حقيقة ما جاء في شرع الله، ولهذا نقول إن الإسلام شريعة وسياسة، ومن فرق بين السياسة والشريعة فقد ضلّ؛ ففي الإسلام سياسة الخلق مع الله، وبيان العبادات، وسياسة الإنسان مع أهله، ومع جيرانه، ومع أقاربه، ومع أصحابه، ومع تلاميذه، ومع معلميه، ومع كل أحد؛ كل له سياسة تخصه، سياسة مع الأعداء الكفار، ما بين حربيين ومعاهدين ومستأمنين وذميين.
وكل طائفة قد بيّن الإسلام حقوقهم، وأمر أن نسلك بهم كما يجب، فمثلاً الحربيون نحاربهم، ودماؤهم حلال لنا، وأموالهم حلال لنا، وأراضيهم حلال لنا.
والمستأمنون يجب أن نؤمنهم، كما قال الله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (التوبة: 6) .
والمعاهدون يجب أن نوفي لهم بعهدهم، ثم إما أن نطمئن إليهم، أو نخاف منهم، أو ينقضوا العهد.
ثلاث حالات كلها مبينة في القرآن؛ فإن اطمأننا إليهم وجب أن نفي لهم بعهدهم، وإن خفناهم فقد قال الله تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (لأنفال: 58) ، قل لهم: ليس(3/636)
بيننا عهدٌ إذا خفت منهم، ولا تنقض العهد بدون أن تخبرهم.
والثالث هم الذين نقضوا العهد (فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (التوبة: 12) ، إذا نقضوا العهد فلا إيمان لهم ولا عهد لهم، فالمهم أن الدين دين الله وأن الدين سياسة: سياسة شرعية، سياسة اجتماعية، سياسة مع الأجانب، ومع المسالمين، ومع كل أحد.
ومن فصل الدين عن السياسة فقد ضل؛ وهو بين أمرين:
إما جاهل بالدين ولا يعرف، ويظن أن الدين عبادات بين الإنسان وربه، وحقوق شخصية وما أشبه ذلك؛ يطن أن هذا هو الدين فقط.
أو أنه قد بهره الكفرة وما هم عليه من القوة المادية، فظن أنهم هم المصيبون.
وأما من عرف الإسلام حق المعرفة عرف أنه شريعة وسياسة، والله الموفق.
5/657- وعن عائذ بن عمرو رضي الله عنه أنهُ دخل على عُبيد الله بن زياد، فقال له: أي بُني، إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن شر الرعاء الحُطمة)) فإياك أن تكون منهم. متفق عليه.
6/658- وعن أبي مريم الآزدي رضي الله عنه، أنه قال لمعاوية رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: ((من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين،(3/637)
فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم؛ احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة)) فجعل معاوية رجلاً على حوائج الناس. رواه أبو داود والترمذي.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في بيان ما يجب على الرعاة لرعيتهم من الحقوق، من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن شر الرعاء الحطمة)) الرعاء: جمع راعٍ.
الحطمة: الذي يحطم الناس ويشق عليهم ويؤذيهم، فهذا شر الرعاء. وإذا كان هذا شر الرعاء؛ فإن خير الرعاء اللين السهل، الذي يصل إلى مقصوده بدون عنف. فيُستفاد من هذا الحديث فائدتان:
الفائدة الأولى: أنه لا يجوز للإنسان الذي ولاّه الله تعالى على أمر من أمور المسلمين أن يكون عنيفاً عليهم؛ بل يكون رفيقاً بهم.
الفائدة الثانية: وجوب الرفق بمن ولاه الله عليهم بحيث يرفق بهم في قضاء حوائجهم وغير ذلك، مع كونه يستعمل الحزم والقوة والنشاط، يعني لا يكون ليناً مع ضعف، ولكن ليناً بحزم وقوة ونشاط.
وأما الحديث الثاني: ففيه التحذير من اتخاذ الإنسان الذي يوليه الله تعالى أمراً من أمور المسلمين حاجباً يحول دون خلتهم وفقرهم(3/638)
وحاجتهم، وأن من فعل ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يحول بينه وبين حاجته وخلته وفقره.
لما حُدث معاوية رضي الله عنه بهذا الحديث؛ اتخذ رجلاً لحوائج الناس يستقبل الناس وينظر ما حوائجهم، ثم يرفعها إلى معاوية رضي الله عنه بعد أن كان أميراً للمؤمنين.
وهكذا أيضاً، له نوع من الولاية وحاجة الناس إليه؛ فإنه لا ينبغي أن يحتجب دون حوائجهم، ولكن له أن يرتب أموره بحيث يجعل لهؤلاء وقتاً ولهؤلاء وقتاً، حتى لا تنفرط عليه الأمور، الله الموفق.(3/639)
79- باب الوالي العادل
قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90) وقال تعالى: (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات: 9)
1/659- وعن أبي هُريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله تعالى، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجلٌ دعته امرأة ذات منصب وجمالٍ، فقال: إني أخافُ الله، ورجلٌ تصدق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينهُ، ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)) متفقٌ عليه.
2/660- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور الذين يعدلون في حُكمهم وأهليهم وما ولُوا" رواه مسلم.(3/640)
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله تعالى في كتاب رياض الصالحين في باب الوالي العادل. والوالي هو الذي يتولى أمراً من أمور المسلمين الخاصة أو العامة، حتى الرجل في أهل بيته يُعتبر والياً عليهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم ((الرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته)) والعدل واجب حتى في معاملة الإنسان نفسه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن لنفسك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزورك- أي الزائر - عليك حقاً فأعط كل ذي حقّ حقه)) .
فالعدل واجبٌ في كل شيء، لكنه في حق ولاة الأمور أوكد وأولى وأعظم؛ لأن خلاف العدل إذا وقع من ولاة الأمور؛ حصلت الفوضى والكراهة لولي الأمر حيث لم يعدل.
ولكن موقفنا نحو الإمام الوالي الذي لم يعدل أو ليس بعادل أن نصبر؛ نصبر على ظلمه، وعلى جوره، وعلى استئثاره، حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى الأنصار رضي الله عنهم وقال لهم" ((إنكم ستلقون بعدي أثرة)) يعني استئثاراً عليكم ((فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)) ؛ ذلك لأن منازعة ولي الأمر يحصل بها الشر والفساد الذي هو أعظم من جوره(3/641)
وظلمه، ومعلوم أن العقل والشرع ينهى عن ارتكاب أشد الضررين، ويأمر بارتكاب أخف الضررين إذا كان لابد من ارتكاب أحدهما.
ثم ساق المؤلف رحمه الله آيات وأحاديث منها قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ) العدل واجب والإحسان فضل وزيادة فهو سنة, وحسبته أن يذكر قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء: 59) وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء: 58) .
فالعدل من الوالي ألا يفرق بين الناس، ولا يجور على أحد، ولا يحابي غنياً لغناه، ولا قريباً لقرابته، ولا فقيراً لفقره، ولكن يحكم بالعدل، حتى إن العلماء رحمهم الله قالوا: يجب على القاضي أن يستعمل العدل مع الخصمين، ولو كان أحدهما كافراً؛ يعني لو دخل كافر ومسلم على القاضي؛ فإن الواجب أن يعدل بينهما في الجلوس والكلام والملاحظة بالعين وغير ذلك؛ لأن المقام مقام حكم يجب فيه العدل، وإن كان بعض الجهال يقول: لا، قدّم المسلم. نقول: لا يجوز أن نقدم المسلم؛ لأن المقام مقام محاكمة ومعادلة، فلا بد من العدل في كل شيء.
ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) سبعة يظلهم الله، وليس هذا على سبيل الحصر، هناك أناس آخرون يظلهم الله غير هؤلاء، وقد جمعهم الحافظ ابن حجر في شرح البخاري فزادوا على العشرين.(3/642)
لكن الرسول عليه الصلاة والسلام يتحدث أحياناً بما يناسب المقام، فتجده يقول سبعة، ثلاثة، أربعة، أو ما أشبه ذلك، مع أن هناك أشياء أخرى لم يذكرها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أفصح الخلق وأقواهم بلاغة فيتحدث بما يناسب المقام.
وقوله: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذلك يوم القيامة؛ لأنه في يوم القيامة ليس هناك شجر، ولا بناء، ولا جبال، ولا ثياب، ولا غير ذلك، حتى الناس يحشرون حفاة عراة غرلاً ليس هناك ظل إلا ظل الله، أي ظل يخلقه الله عز وجل يظلل من يظلهم الله تعالى في ذلك اليوم؛ لأنه ليس هناك ظل بناء، ولا ظل شجر، ولا ظل ثياب، ولا ظل مصنوعات أبداً، ليس هناك إلا الظل الذي ييسره الله تعالى للإنسان، يخلق جل وعلا ظلاً من عنده، والله أعمل بكيفيته، ويظلل الإنسان.
الأول: إمام عادل: بدأ بالإمام العادل الذي يعدل بين الناس، وأهم عدل في الإمام أن يحكم بني الناس بشريعة الله؛ لأن شريعة الله هي العدل، وأما من حكم بالقوانين الوضعية المخالفة للشريعة؛ فهو من أشد الولاة جوراً- والعياذ بالله- وأبعد الناس من أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ لأنه ليس من العدل أن تحكم بين عباد الله بشريعة غير شريعة الله، من جعل لك هذا؟ احكم بين الناس بشريعة ربهم عزّ وجلّ، فأعظم ما يدخل في ذلك أن يحكم الإمام بشريعة الله.
ومن ذلك أن يقتص الحق حتى من نفسه ومن أقرب الناس إليه؛ لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ) (النساء: 135) .(3/643)
ومن ذلك أيضاً ألا يفرق بين قريبه وغيره، فتجده إذا كان الحق على القريب تهاون في تنفيذه وجعل يسوف ويؤخر، وإذا كان لقريبه على غيره بادر فاقتص منه. فإن هذا ليس من العدل. والعدل في ولي الأمر له فروع كثيرة وأنواع كثيرة لا يتسع المقام الآن لذكرها، فنسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين لأئمة عادلين يحكمون فيهم بكتاب الله وبشريعته التي اختارها لعباده.
َأما الثاني فهو ((شاب نشأ في طاعة الله)) ، الشاب صغير السن الذي نشأ في طاعة الله واستمر على ذلك، هذا أيضاً ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ لأنه ليس له صبوة، والغالب أن الشاب يكون لهم صبوة وميل وانحراف، ولكن إذا كان هذا الشاب نشأ في طاعة الله، ولم يكن له ميل ولا انحراف واستمر على هذا؛ فإن الله تعالى يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
والثالث: ((رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه)) رجلان تحابا في الله، يعني ليس بينهما صلة من نسب أو غيره، ولكن تحابا في الله. كل واحد منهم رأى أن صاحبه ذو عبادة وطاعة لله عز وجل، وقيام بما يجب لأهله ولمن له حق عليه، فرآه على هذه الحال فأحبه.
" اجتمعا عليه وتفرقا عليه" يعني اجتمعا عليه في الدنيا، وبقيا على ذلك إلى أن ماتا فتفرقا على ذلك؛ هذان أيضاً ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
والرابع: ((رجلٌ قلبه معلق بالمساجد)) يعني أنه يألف الصلاة ويحبها(3/644)
وكلما فرغ من صلاة إذا هو يتطلع إلى صلاة أخرى، فالمساجد أماكن السجود، سواء بُنيت للصلاة فينا أم لا، المهم أنه دائماً يرغب الصلاة قلبه معلق بها؛ كلما فرغ من صلاة تطلع للصلاة الأخرى.
وهذا يدل على قوة صلته بالله عزّ وجلّ؛ لأن الصلاة صلى بين العبد وبين ربه، فإذا أحبها الإنسان وألفها فهذا يعني أنه يحب الصلة التي بينه وبين الله، فيكون ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
والخامس: ((رجلٌ دعته امرأة ذات منصب وجمال)) يعني دعته لنفسها لفجر بها، ولكنه كان قوي العفة، طاهر العرض ((قال إني أخاف الله)) فهو رجل ذو شهوة، والدعوة التي دعته إليها هذه المرأة توجب أن يفعل؛ لأنها هي التي طلبته، والمكان خال ليس فيه أحد، ولكن منعه من ذلك خوف الله عز وجلّ. قال إني أخاف الله، لم يقل: أخشى أن يطلع علينا أحد، ولم يقل إنه لا رغبة له في الجماع، ولكن قال ((إني أخاف الله)) فهذا يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله لكمال عفته.
والسادس: ((رجلٌ تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) تصدق بصدقة مخلصاً بذلك لله عزّ وجلّ، حتى انه لو كان أحداً على يساره ما علم بذلك من شدة الإخفاء فهذا عنده كمال الإخلاص، فيظله الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وهذا ما لم يكون إظهار الصدقة فيه مصلحة وخير، فإذا كان في إظهار الصدقة مصلحة وخير كان إظهارها أولى، لكن إذا لم يكن فيه مصلحة فالإسرار أولى.
والسابع: ((رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)) ذكر الله خالياً في مكان(3/645)
لا يطلع عليه أحد، خالياً قلبه من التعلق بالدنيا، فخشع من ذلك وفاضت عيناه. هؤلاء السبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، قد توجد صفتان فأكثر في شخص واحد، وقد لا يوجد في الإنسان إلا صفة واحدة وهي كافية.
ثم ذكر المؤلف حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ((المقسطون على منابر من نور يوم القيامة، الذين يعدلون في أهليهم وما ولوا)) يعني أن المقسطين العادلين في أهليهم وفيمن ولاهم الله عليه، يكونون على منابر من نور يوم القيامة على يمين الله عزّ وجلّ.
وهذا دليلٌ على فضل العدل في الأهل، وكذلك في الأولاد، وكذلك أيضاً في كل من ولاك الله عليه، اعدل حتى تكون على منبر من نور عن يمين الله عز وجل يوم القيامة، والله الموفق.
* * *
3/661- وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم!)) قال: قلنا: أي رسول الله، أفلا ننابذهم؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)) رواه مسلم.
قوله: ((تُصلونَ عليهم)) : تدعُون لهم.(3/646)
4/662- وعن عياض بن حمارٍ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أهل الجنة ثلاثةٌ: ذُو سلطان مقسط موفق، ورجلٌ رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم وعفيف متعفف ذو عيال)) رواهُ مسلم.
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب فضل الإمام العادل: عن عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم)) .
الأئمة: يعني ولاة الأمور، سواء كان الإمام الكبير في البلد وهو السلطان الأعلى أو كان من دونه.
هؤلاء الأئمة الذين هم ولاة أمورنا، ينقسمون إلى قسمين: قسم نحبهم ويحبوننا، فتجدنا ناصحين لهم وهم ناصحون لنا، ولذلك نحبهم، لأنهم يقومون بما أوجب الله عليهم من النصيحة لمن ولاهم الله عليه، ومعلوم أن من قام بواجب النصيحة فإن الله تعالى يحبه، ثم يحبه أهل الأرض.
فهؤلاء الأئمة الذين قاموا بما يجب عليهم محبوبون لدى رعيتهم.
وقوله: ((ويصلون عليكم، وتصلون عليهم)) الصلاة هنا بمعنى الدعاء، يعني تدعون لهم ويدعون لكم، تدعون لهم بأن الله يهديهم ويصلح(3/647)
بطانتهم، ويوفقهم للعدل إلى غير ذلك من الدعاء الذي يدعى به للسطان، وهم يدعون لكم: اللهم أصلح رعيتنا، اللهم اجعلهم قائمين بأمرك، وما اشبه ذلك.
أما شرار الأئمة: فهم ((الذين تبغضونهم ويبغضونكم)) تكرهونهم؛ لأنهم لم يقوموا بما يجب عليهم من النصيحة للرعية، وإعطاء الحقوق إلى أهلها، وإذا فعلو ذلك فإن الناس يبغضونهم، فتحصل البغضاء من هؤلاء وهؤلاء؛ تحصل البغضاء من الرعية للرعاة؛ لأنهم لم يقوموا بواجبهم، ثم تحصل البغضاء من الرعاة للرعية؛ لأن الرعية إذا أبغضت الوالي؛ تمردت عليه وكرهته، ولم تطع أوامره ولم تتجنب ما نهى عنه، وحينئذ ((تلعنونهم ويلعنونكم)) والعياذ بالله؛ يعني يسبونكم وتسبونهم، أو يدعون عليكم باللعنة وتدعون عليهم باللعنة.
إذاً الأئمة ينقسمون إلى قسمين: قسم وفقوا وقاموا بما يجب عليهم فأحبهم الناس وأحبوا الناس، وصار كل واحد منهم يدعو للآخر. وقسم آخر بالعكس شرار الأئمة، يبغضون الناس والناس يبغضونهم، ويسبون الناس والناس يسبونهم.
أما حديث عياض بن حمار رضي الله عنه فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط موفق)) وهذا هو الشاهد؛ يعني صاحب سلطان، والسلطان يعم السلطة العليا وما دونها.
((مقسط)) أي عادل بين من ولاه الله عليه.
((موفق)) أي مهتدٍ لما فيه التوفيق والصلاح، وقد هُدي إلى ما فيه(3/648)
الخير، فهذا من أصحاب الجنة.
وقد سبق أن الإمام العادل ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وهذا هو الشاهد من هذا الحديث ((ذو سلطان مقسط موفق، ورجلٌ رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم)) رجل رحيم يرحم عباد الله، يرحم الفقراء، يرحم العجزة، يرحم الصغار، يرحم كل من يستحق الرحمة.
((رقيق القلب)) ليس قلبه قاسياً ((لكل ذي قربى ومسلم)) ، وأما للكفار فإنه غليظ عليهم.
هذا أيضاً من أهل الجنة، أن يكون هذا الإنسان رقيق القلب يعني فيه لين، وفيه شفقة على كل ذي قربى ومسلم.
والثالث ((رجل عفيف متعفف ذو عيال)) يعني أنه فقير ولكنه متعفف، لا يسأل الناس شيئاً، يحسبه الجاهل غنياً من التعفف.
((ذو عيال)) يعني أنه مع فقره عنده عائلة، فتجده صابراً محتسباً يكد على نفسه، ربما يأخذ الحبل يحتطب ويأكل منه، أو يأخذ المخلب يحتش فيأكل منه، المهم أنه عفيف متعفف ذو عيال، ولكنه صابر على البلاء، صابر على عياله، فهذا من أهل الجنة. نسأل الله أن يجعل لنا ولكم من هؤلاء نصيباًن والله الموفق.(3/649)
80- باب وجوب طاعة ولاة الأمر في غير معصية وتحريم طاعتهم في المعصية
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء: 59) .
1/663- وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((على المرء المسلم السمعُ والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصيةٍ فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) متفقٌ عليه.
2/664- وعنه رضي الله عنه قال: كنا إذا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمعِ والطاعةِ يقول لنا: ((فيما استطعتم)) متفقٌ عليه.
3/665- وعنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من خلع يدا من طاعةٍ؛ لقي الله يوم القيامة ولا حُجة لهُ، ومن مات وليس في عُنقه بيعةٌ مات ميتة جاهلية)) رواه مسلم.
وفي رواية له: ((ومن مات وهو مفارقٌ للجماعة فإنه يموت ميتة جاهلية)) ((الميتة)) بكسر الميم.(3/650)
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتاب رياض الصالحين: باب وجوب طاعة ولاة الأمور في غير معصية وتحريم طاعتهم في معصية الله
ثم استدل لذلك بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) .
ولاة الأمور، ذكر أهل العلم أنهم قسمان: العلماء والأمراء.
أما العلماء فهم ولاة أمور المسلمين في بيان الشرع، وتعليم الشرع، وهداية الخلق إلى الحق، فهم ولاة أمور في هذا الجانب، وأما الأمراء فهم ولاة الأمور في ضبط الأمن وحماية الشريعة وإلزام الناس بها، فصار لهم وجهة لهؤلاء وجهة.
والأصل: العلماء؛ لأن العلماء هم الذين يبينون الشرع ويقولون للأمراء هذا شرع الله فاعملوا به، ويلزمُ الأمراءُ بذلك، لكن الأمراء إذا علموا الشرع ولا طريق لهم إلى علم الشرع إلا عن طريق العلماء؛ نفذوه على الخلق.
والعلماء يؤثرون على من في قلبه إيمان ودين؛ لأن الذي في قلبه إيمان ودين ينصاع للعلماء ويأخذ بتوجيهاتهم وأمرهم.
والأمراء ينصاع لهم من خاف من سطوتهم وكان عنده ضعف إيمان، يخاف من الأمير أكثر مما يخاف من العالم، أو يخاف بعضهم أكثر مما يخاف من الله والعياذ بالله.
فلذلك كان لابد للأمة الإسلامية من علماء وأمراء، وكان واجباً على(3/651)
الأمة الإسلامية أن يطيعوا العلماء وأن يطيعوا الأمراء، ولكن طاعة هؤلاء وهؤلاء تابعة لطاعة الله؛ لقوله تعالى:: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ولم يقل أطيعوا أولي الأمر منكم؛ لأن طاعة ولاة الأمر تابعة لا مستقلة، أما طاعة الله ورسوله فيهي مستقلة، ولهذا أعاد فيها الفعل فقال: أطيعوا وأطيعوا، أما طاعة ولاة الأمور فإنها تابعة ليست مستقلة.
وعلى هذا فإذا أمر ولاة الأمور بمعصية الله؛ فإنه لا سمع لهم ولا طاعة؛ لأن ولاة الأمور فوقهم ولي الأمر الأعلى جل وعلا وهو الله، فإذا أمروا بمخالفته فلا سمع لهم ولا طاعة
أما الأحاديث التي ذكرها المؤلف رحمه الله؛ فمنها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) .
قوله ((على المرء)) هذه كلمة تدل على الوجوب، وأنه يجب على المرء المسلم بمقتضى إسلامه أن يسمع ويطيع لولاة الأمور فيما أحب وفيما كره، حتى لو أمر بشيء يكرهه؛ فإنه يجب عليه أن يقوم به ولو كان يرى خلافه، ولو كان يكره أن ينفذه. فالواجب عليه أن ينفذ، إلا إذا أمر بمعصية الله، فإذا أمر بمعصية الله فطاعة الله تعالى فوق كل طاعة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وفي هذا دليلٌ على بطلان مسلك من يقول: لا نطيع ولاة الأمور إلا فيما أمرنا الله به، يعني إذا أمرونا أن نصلي صلينا، إذا أمرونا أن نزكي(3/652)
زكينا. أما إذا أمرونا بشيء ليس فيه أمر شرعي؛ فإنه لا يجب علينا طاعتهم؛ لأننا لو وجبت علينا طاعتهم لكانوا مشرعين، فإن هذه نظرة باطلة مخالفة للقرآن والسنة؛ لأننا لو قلنا: إننا لا نطيعهم إلا فيما أمرنا الله به لم يكن بينهم وبين غيرهم فرق، كل إنسان يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر فإنه يطاع.
ثم نقول: بل نحن قد أمرنا بطاعتهم فيما لم يأمرنا الله عز وجلّ؛ إذا لم يكن ذلك منهياً عنه أو محرماً، فإننا نطيعهم حتى في التنظيم إذا نظموا شيئاً من الأعمال، يجب علينا أن نطيعهم؛ وذلك أن بطاعتهم يكون امتثال أمر الله عزّ وجلّ، وامتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفظ الأمن، والبعد عن التمرد على ولاة الأمور، وعن التفرق، فإذا قلنا لا نطيعهم إلا في شيء أمرنا به؛ فهذا معناه أنه لا طاعة لهم.
يأتي بعض الأنظمة: مثلاً تنظم فيها الحكومة شيئاً نظاماً لا يخالف الشرع، لكن لم يأتِ به الشرع بعينه، فيأتي بعض الناس ويقول: لا نطيع في هذا، فيقال: بل يجب عليك أن تطيع، فإن عصيت فإنك آثم مستحق لعقوبة الله، ومستحق لعقوبة ولاة الأمور.
وعلى ولاة الأمور أن يعزروا مثل هؤلاء الذين يعصون أوامرهم التي يلزمهم أن يقوموا بها؛ لأنهم إذا عصوا أوامر ولاة الأمور - وقد أمر الله تعالى بطاعتهم فيها- فهذا معصية لله. وكل إنسان يعص الله فإنه مستحق التعزيز يعني التأديب بما يراه ولي الأمر.
ومن ذلك مثلاً أنظمة المرور؛ أنظمة المرور هذه مما نظمه ولي(3/653)
الأمر، وليس فيها معصية، فإذا خالفها الإنسان فهو عاصٍ وآثم، مثلاً السير على اليسار، والسير على اليمين، والسير في الاتجاه الفلاني، وفي السير يجب أن يقف إذا كانت الإشارة حمراء وما أشبه ذلك، كل هذا يجب أن ينفذ وجوباً، فمثلاً إذا كانت الإشارة حمراء؛ وجب عليك الوقوف. لا تقل: ما أمرنا اله بذلك، ولاة الأمور نظموا لك هذا التنظيم وقالوا التزم به، فإذا تجاوزت فإنك عاص آثم؛ لأنك قلت لربك لا سمع ولا طاعة والعياذ بالله.
فإن الله يقول:: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) كذلك أيضاً في التقاطع، معروف أن الذي في الخط العام هو الذي له الحق أن يتجاوز، إذا كنت أنت في خط فرعي ووجدت إنساناً مقبلاً من الخط العام فلا تتجاوز؛ لأن النظام يقتضي منع ذلك.
وهكذا أيضاً الأنظمة في الإمارة، والأنظمة في القضاء، وكل الأنظمة التي لا تخالف الشرع؛ فإنه يجب علينا أن نطيع ولاة الأمور فيها، وإلا أصبحت المسألة فوضى، وكل إنسان له رأي، وكل إنسان يحكم بما يريد، وأصبح ولاة الأمور لا قيمة لهم، بل هم أمراء بلا أمر، وقضاة بلا قضاء.
فالواجب على الإنسان أن يمتثل لأمر ولاة الأمور إلا فيما كان فيه معصية الله. فلو قالوا لنا مثلاً: لا تخرجوا إلى المساجد لا تصلوا الجمعة، لا تصلوا الجمعة والجماعة، قلنا لهم: لا سمع ولا طاعة. ولو قالوا: اظلموا الناس في شيء قلنا: لا سمع ولا طاعة. كل شيء أمر الله به أو(3/654)
نهى عنه فإنه لا سمع ولا طاعة لهم فيه أبداً.
كذلك لو قالوا مثلاً: احلقوا اللحى- مثل بعض الدول يأمرون رعيهتم بحلق اللحى ولا سيما جنودهم الذين عندهم- لو قالوا: احلقوا اللحى قلنا: لا سمع لكم ولا طاعة. وهم آثمون في قولهم لجنودهم مثلاً: احلقوا اللحى، وهم بذلك آثمون مضادون لله ورسوله، منابذون لله ورسوله.
كذلك لو قالوا مثلاً: انزلوا ثيابكم إلى أسفل من الكعبين، فإننا نقول: لا، لا سمع ولا طاعة؛ لأن هذا مما حرمه الله وتوعد عليه، فإذا أمرتمونا بمعصية فإننا لا نسمع لكم ولا نطيع؛ لأن لنا ولكم ربا حكمه فوق حكمنا وحكمكم.
إذاًَ أوامر ولاة الأمور تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يأمروا بما أمر الله به، فهنا تجب طاعتهم لوجهين:
الوجه الأول: أنه مما أمر الله به.
والوجه الثاني: أنه مما أمروا به كغيرهم من الناس؛ إذا أمرك شخص بالمعروف وهو واجب، فالواجب عليك أن تقوم به.
الثاني: أن يأمروا بمعصية الله، فهنا لا سمع لهم ولا طاعة مهما كان، وأنت إذا نالك عذاب منهم بسبب هذا فسيُعاقبون عليهم هم يوم القيامة.
الوجه الأول: لحق الله؛ لأن أمرهم بمعصية الله منابذة لله عزّ وجلّ لوجهين.
الوجه الثاني: لحقك أنت؛ لأنهم اعتدوا عليك، وأنت وهم كلكم(3/655)
عبيد الله، ولا يحل لكم أن تعصوا الله.
الثالث: إذا أمروا بشيء ليس فيه أمر ولا نهي، فيجب عليك أن تطيعهم وجوباً، فإن لم تفعل فأنت آثم، ولهم الحق أن يعزروك وأن يؤدبوك بما يرون من تعزير وتأديب؛ لأنك خالفت أمر الله في طاعتهم، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام ((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) .
ثم أشد من ذلك من لا يعتقد للإمام بيعة؛ من يقول: أنا ما بايعت الإمام، ولا له بيعة علىّ؛ لأن مضمون هذا الكلام أنه لا سمع له ولا طاعة له ولا ولاية، وهذا أيضاً من الأمر المنكر العظيم؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أن من مات من غير بيعة وليس له إمام؛ فإنه يموت ميتة جاهلية، يعني ليست ميتة إسلامية؛ بل ميتة أهل الجهل والعياذ بالله، وسيجد جزاءه عند الله عزّ وجل.
فالواجب أن يعتقد الإنسان أن له إماماً، وأن له أميراً يدين له بالطاعة في غير معصية الله، فإذا قال مثلاً: أنا لن أبايع، قلنا: البيعة لا تكون في رعاع الناس وعوام الناس، إنما تكون لأهل الحل والعقد.
ولهذا نقول: هل بايع كل الناس أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً؟ هل بايعهم كل الناس حتى الأطفال والعجوز والمرأة في خدرها؟ أبداً لم يبايعوهم. ولم يأت أهل مكة يبايعون أبا بكر، ولا أهل الطائف ولا غيرهم، إنما بايعه أهل الحل والعقد في المدينة، وتمت البيعة بذلك.
وليست البيعة لازمة لكل واحد من الناس أن يجيء يبايع، ولا يمكن(3/656)
لعوام الناس، ورعاع الناس تابعون لأهل الحل والعقد، فإذا تمت البيعة من أهل الحل والعقد؛ صار المُبايع إماماً، وصار ولي أمر تجب طاعته في غير معصية الله، فمن مات وهو يعتقد أنه ليس له ولي أمر، وأنه ليست له بيعة، فإنه يموت ميتة جاهلية. نسأل الله العافية والحماية، والله الموفق.
4/666- وعن أنس رضي الله عنهُ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اسمعوا واطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي، كان رأسه زبيبة)) رواه البخاري.
5/667- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليك السمع والطاعةُ في عسرِك ويُسرك ومنشطك ومكرهك وأثرهٍ عليك)) رواهُ مسلم.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في سياق الأحاديث الواردة في وجوب طاعة ولاة الأمور.
قال فيما نقله عن أنس بن مالك رضي اله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استُعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)) .
اسمعوا وأطيعوا: يعني الزموا السمع والطاعة، السمع لمن؟ لولاة الأمور، حتى لو استعمل عليكم عبدٌ حبشٌّي.
والنبي صلى الله عليه وسلم هنا يخاطب العرب يقول: ولو استعمل عليكم عبد(3/657)
حبشي غيرعربي؛ عبد حبشي أصلاً وفرعاً وخلقة، كأن رأسه زبيبة؛ لأن شعر الحبشة ليس كشعر العرب؛ فالحبشة يكون في رؤوسهم حلق كأنها الزبيب، وهذا من باب المبالغة في كون هذا العامل عبداً حبشياً أصلاً وفرعاً، هذا يشمل قوله: ((وإن استُعمل)) فيشمل الأمير الذي هو أمير السلطان، وكذلك السلطان.
فلو فُرض أن سلطاناً غلب الناس واستولى وسيطر وليس من العرب؛ بل كان عبداً حبشياً فإن علينا أن نسمع ونطيع؛ لأن العلة واحدة وهي أنه إن لم نسمع ونطع حصلت الفوضى، وزال النظام، وزال الأمن، وحل الخوف. فالمهم أن علينا أن نسمع ونطيع لولاة أمورنا إلا إذا أمروا بمعصية.
وكذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرةٍ عليك)) السمع والطاعة لولاة الأمور في المنشط والمكره في المنشط: يعني في الأمر الذي إذا أمرك به نشطت عليه، لأنه يوافق هواك، وفي المكره: في الأمر الذي أمروك به لم تكن نشيطاً فيه؟؛ لأنك تكرهه، اسمع في هذا وهذا، وفي العسر واليسر، حتى إن كنت غنياً فأمروك فاسمع ولا تستكبر لأنك غني، وإذا كنت فقيراً فاسمع ولا تقل لا أسمع وهم أغنياء وأنا فقير.
اسمع وأطع في أي حال من الأحوال، حتى في الأثرة؛ يعني إذا استأثر ولاة الأمور على الشعب، فعليهم أيضاً السمع والطاعة في غير معصية الله عزَّ وجلَّ.(3/658)
فلو أن ولاة الأمور سكنوا القصور الفخمة، ركبوا السيارات المريحة، ولبسوا أحسن الثياب، وتزوجوا وصار عندهم الإماء، وتنعموا في الدنيا أكبر تنعم، والناس سواهم في بؤس وشقاء وجوع، فعليهم السمع والطاعة؛ لأننا لنا شيء والولاة لهم شيء آخر.
فنحن علينا السمع والطاعة، وعلى الولاة النصح لنا، وأن يسيروا بنا على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لا نقول إذا استأثروا علينا وكانت لهم القصور الفخمة، والسيارات المريحة، والثياب الجميلة، وما أشبه ذلك، لا نقول: والله لا يمكن أن نسمع وهم في قصورهم وسياراتهم ونحن في بؤس وحاجة، والواحد منا لا يجد السكن وما أشبه ذلك. هذا حرامٌ علينا، يجب أن نسمع ونطيع حتى في حال الأثرة.
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه للأنصار رضي الله عنهم: ((إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)) يقول للأنصار ذلك منذ ألف وأربعمائة سنة: ستلقون بعدي أثرة من ذاك الوقت والولاة يستأثرون على الرعية، ومع هذا يقول: ((اصبروا حتى تقلوني على الحوض)) . فليس استئثار ولاة الأمور بما يستأثرون به مانعاً من السمع والطاعة لهم، الواجب السمع والطاعة في كل ما أمروا به ما لم يأمروا بمعصية وقد سبق لنا أن ولاة الأمور ينقسم إلى ثلاثة أقسام:(3/659)
الأول: ما أمر الله به فهذا يجب طاعتهم فيه لوجهين: لأمر الله به، ولأمرهم به.
والثاني: ما حرم الله فلا يجوز السمع والطاعة لهم حتى لو أمروه.
والثالث: ما ليس فيه أمر ولا نهي من الله فتجب علينا طاعتهم فيه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمنع من طاعتهم إلا إذا أمروا المعصية.
نسأل الله أن يصلحنا جميعاً رعية ورعاة وأن يهب لنا منه رحمه إنه هو الوهاب.
* * *
6/668- وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جشره، إذا نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة. فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه لم يكن نبيٌ قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمتهُ على خير ما يعلمهُ لهم، وينذرهم شر ما يعلمهُ لهم، وإن أمتك هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصبُ آخرها بلاءٌ وأمورُ تنكرونها وتجيءُ فتنٌ يرقق بعضها بعضاً، وتجيء الفتنةُ فيقول المؤمن: هذه مهلكتي: ثم تنكشفُ؛ وتجيءُ الفتنةُ فيقول المؤمنُ: هذه هذهِ، فمن أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيتُه وهو يؤمن بالله واليوم الأخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه.
ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليُطعهُ إن استطاع؛ فإن(3/660)
جاء آخرُ ينازعه، فاضربوا عنق الآخر)) رواهُ مسلم.
قوُله: ((ينتضل)) أي: يُسابق بالرمي بالنبل والنشاب ((والجشر)) بفتح الجيم والشين المعجمة وبالراء: وهي الدواب التي ترعى وتبيتُ مكانها. وقوله: ((يرقق بعضها بعضا)) أي: يُصير بعضها رقيقاً، أي خفيفاً لعظم ما بعدهُ، فالثاني يرققُ الأول، وقيل: معناهُ: يشوق بعضها إلى بعض بتحسينها وتسويلها، وقيل: يشبهُ بعضها بعضاً.
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث الذي ذكره المؤلف رحمه الله في كتاب رياض الصالحين في باب وجوب طاعة ولاة الأمور. وعن ابن عمرو رضي الله عنهما قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلاً، فنزل الناس فتفرقوا، منهم من كان يصلح خباءه، ومنهم من ينتضلُ، ومنهم من هو في جشرِه. كعادة أن الناس إذا نزلوا وهم سفر كلٌّ يشتغل بما يرى أنه لابد من الاشتغال فيه.
فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الصلاة جامعة، وهذا النداء يُنادى به لصلاة الكسوف، وينادى به إذا أراد الإمام أو الأمير أن يجتمع بالناس، بدلاً من أن يقول: يا أيها الناس هلمّوا إلى المكان الفلاني، يقول: الصلاة جامعة حتى يجتمع الناس.
فاجتمع الناس؟، فخطبهم النبي عليه الصلاة والسلام، وأخبرهم أنه ما(3/661)
نبي بعثه الله إلا دلَّ أمته على خير ما يعلمه لهم، وأنذرهم عن شر ما يعلمه لهم؛ كلٌّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كان منهم النصيحة لأقوامهم، يعلمونهم الخير ويدلونهم عليه ويحثونهم عليه، ويبينون الشر ويحذرونهم منه.
وهكذا يجب على أهل العلم وطلبة العلم أن يبينوا للناس الخير ويحثوهم عليه، ويبينوا الشر ويحذروهم منه؛ لأن علماء هذا الأمة ورثة الأنبياء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بعده نبي، ختمت النبوة به، فلم يبق إلا العلماء الذي يتلقون شرعه ودينه، فيجب عليهم ما يحب على الأنبياء من بيان الخير والحث عليه ودلالة الناس إليه، وبيان الشر والتحذير منه.
ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة- يعني أمة محمد- جعل الله عافيتها في أولها، يعني أن أول الأمة في عافية ليس فيها فتن، ففي عهد النبي عليه الصلاة والسلام لم تكن هناك فتن، وكذلك في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وحين قتل عمر رضي الله عنه قتله غلام المغيرة؛ غلام يُقال له أبو لؤلؤة، وهو مجوسي خبيث، كان في قلبه غل على أمير المؤمنين عمر، فلما تقدم لصلاة الصبح ضربه بخنجر له رأسان، وقيل إنه كان مسموماً، فضربه حتى قدَّ بطنه رضي الله عنه، وحُمل فبقي ثلاثة أيام ثم مات رضي الله عنه.
ثم إن هذا الرجل الخبيث هرب، فلحقه الناس فقتل ثلاثة عشر رجلاً؛ لأن الخنجر الذي معه مقبضه في الوسط وله رأسان، فهو يضرب الناس(3/662)
يميناً وشمالاً، حتى ألقى عليه أحد الصحابة بساطاً فغمه فقتل نفسه والعياذ بالله.
ومن هذا الوقت بدأت الفتنة ترفع رأسها، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أنه تأتي فتن يرقق بعضها بعضاً، أي أن بعضها يجعل ما قبله رقيقاً وسهلاً، لأن الثانية أعظم من الأولى، كل واحدة أعظم من الأخرى فترقق ما قبلها، ولهذا قال: ((يرقق بعضها بعضاً)) فتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، لأنه يستعظمها عند بداية إتيانها فيقول: من هنا نهلك.
ثم تأتي الأخرى فترقق الأولى وتكون الأولى سهلة بالنسبة إليها، فيقول المؤمن: هذه هذه، يعني هذه التي فيها البلاء كل البلاء، ولكن نسأل الله أن ((أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)) .
ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: " فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر" نسأل الله أن يميتنا وإياكم على ذلك؛ من كان يحب أن يزحزح عن الناس ويدخل الجنة- وكلنا يحب أن يزحزح عن النار ينجو منها ويدخل الجنة- فلتأته منيته وهو يؤمن(3/663)
بالله واليوم الآخر.
((وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه)) يعني يعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به، فينصح للناس كما ينصح لنفسه، ويكره للناس ما يكره لنفسه، فيكون هذا قائماً بحق الله، مؤمناً بالله واليوم الآخر، وقائماً بحق الناس، لا يعامل الناس إلا بما يحب أن يعاملوه به، فلا يكذب عليهم، ولا يغشهم، ولا يخدعهم، ولا يحب لهم الشر، يعني يعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به، فإذا جاء يسأل مثلاً هل هذا حرام أم حلال؟ قلنا له: هل تحب أن يعاملك الناس بهذا؟ إذا قال: لا قلنا له: اتركه سواء كان حلالاً أم حراماً
ما دمت لا تحب أن يعاملك الناس به فلا تعامل الناس به، واجعل هذا ميزاناً بينك وبين الناس في معاملتهم؛ لا تأت الناس إلا ما تحب أن يؤتى إليك؛ فتعاملهم باللطف كما تحب أن يعاملوك باللطف واللين، بحسن الكلام، بحسن المنطق، بالبيان باليسر كما تحب أن يفعلوا بك هذا، هذا الذي يزحزح عن النار ويدخل الجنة. نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم منهم.
* * *
7/669- وعن أبي هنيدة وائل بن حجر رضي الله عنه قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله "، ارأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم، ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فأَعرضَ عنه، ثم سأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عليهم ما حُملوا، وعليكم ما حملتم)) رواهُ(3/664)
مسلم.
8/670- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه وسلم ((إنها ستكون بعدي أثرةٌ، وأمور تنكرونها!)) قالوا: يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: " تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم)) متفق عليه.
10/672- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كره من أميره شيئاً فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتةً جاهلية)) متفقٌ عليه.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف في كتابه رياض الصالحين في باب ((طاعة ولي الأمر)) فيها دليلٌ على أمور:
أولاً: حديث وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن أمراء يسألون حقهم الذي لهم، ويمنعون الحق الذي عليهم؛ سُئل عن هؤلاء الأمراء ماذا نصنع معهم؟ ، والأمراء هنا يشمل الأمراء الذين هم دون السلطان الأعظم، ويشمل السلطان الأعظم أيضاً لأنه أمير، وما من أمير إلا فوقه أمير حتى(3/665)
ينتهي الحكم إلى الله عزّ وجلّ.
سُئل عن هؤلاء الأمراء، أمراء يطلبون حقهم من السمع والطاعة لهم، ومساعدتهم في الجهاد، ومساعدتهم في الأمور التي يحتاجون إلى المساعدة فيها، ولكنهم يمنعون الحق الذي عليهم؛ لا يؤدون إلى الناس حقهم، ويظلمونهم ويستأثرون عليهم، فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنه، كأنه عليه الصلاة والسلام كره هذه المسائل، وكره أن يفتح هذا الباب، ولكن أعاد السائل عليه ذلك.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نؤدي لهم حقهم، وأن عليهم ما حُملوا وعلينا ما حُملنا، فنحن حُملنا السمع والطاعة، وهم حُمِّلوا أن يحكموا فينا بالعدل وألا يظلموا أحداً، وأن يقيموا حدود الله على عباده الله، وأن يقيموا شريعة الله في أرض الله، وأن يجاهدوا أعداء الله، هذا الذي يجب عليهم، فإن قاموا به؛ فهذا هو المطلوب، وإن لم يقوموا به فإننا لا نقول لهم: أنتم لم تؤدوا الحق الذي عليهم فلا نؤدي حقكم الذي لكم، هذا حرام، يجب أن نؤدي الحق الذي علينا، فنسمع ونطيع، ونخرج معهم في الجهاد، ونصلي وراءهم في الجمع والأعياد وغير ذلك، ونسأل الله الحق الذي لنا.
وهذا الذي دلّ عليه هذا الحديث وما أقره المؤلف رحمه الله هو مذهب أهل السنة والجماعة، مذهب السلف الصالح؛ السمع والطاعة للأمراء وعدم عصيانهم فيما تجب طاعتهم فيه، وعدم إثارة الضغائن عليهم، وعدم إثارة الأحقاد عليهم، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة.(3/666)
حتى أن الإمام أحمد رحمه الله يضربه السلطان، يضربه ويجره بالبغال، يُضرب بالسياط حتى يغمى عليه في الأسواق، وهو إمام أهل السنة رحمه الله ورضي عنه، ومع ذلك يدعو للسلطان ويسميه أمير المؤمنين، حتى إنهم منعوه ذات يوم، قالوا له لا تحدث الناس، فسمع وأطاع ولم يحدث الناس جهراً، بدأ يخرج يميناً وشمالاً ثم يأتيه أصحابه يحدثهم بالحديث.
كل هذا من أجل ألا ينابذ السلطان؛ لأنه سبق لنا أنهم قالوا: يا رسول الله أفلا ننابذهم؟ لما قال: ((خير أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وشر أئمتكم الذي تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم)) قالوا: أفلا ننابذهم. قال " لا ما أقاموا فيكم الصلاة". مرتين فما داموا يصلون فإننا لا ننابذهم، بل نسمع ونطيع ونقوم بالحق الذي علينا وهم عليهم ما حُمّلوا.
وفي آخر الأحاديث قال النبي صلى الله عليه وسلم ((من رأى من أميره شيئاً يكره فليصبر)) ليصبر وليتحمل ولا ينابذه ولا يتكلم ((فإن من خرج عن الجماعة مات ميتة جاهلية)) يعني ليس ميتة الإسلام والعياذ بالله.
وهذا يحتمل معنيين:
الأول: يحتمل أنه يموت ميتة جاهلية بمعنى أنه يزاغ قلبه والعياذ بالله، حتى تكون هذه المعصية سبباً لردته.(3/667)
الثاني: ويحتمل المعنى الآخر أنه يموت ميتة جاهلية؛ لأن أهل الجاهلية ليس لهم إمام وليس لهم أمير؛ بل لهم رؤساء وزعماء لكن ليس لهم ولاية كولاية الإسلام، فيكون هذا مات ميتة جاهلية.
والحاصل أن الواجب أن نسمع ونطيع لولاة الأمر إلا في حال واحدة فإننا لا نطيعهم؛ إذا أمرونا بمعصية الخالق فإننا لا نطيعهم. لو قالوا: احلقوا لحاكم قلنا: لا سمع ولا طاعة، ولو قالوا: نزلوا ثيابكم أو سراويلكم إلى أسفل الكعبين، قلنا لا سمع ولا طاعة؛ لأن هذه معصية. لو قالوا لا تقيموا الصلاة جماعة، قلنا لا سمع ولا طاعة. لو قالوا: لا تصوموا رمضان، قلنا: لا سمع ولا طاعة، كل معصية لا نطيعهم فيها مهما كان أما إذا أمروا بشيء ليس معصية وجب علينا أن نطيع.
ثانياً: لا يجوز لنا أن ننابذ ولاة الأمور.
ثالثاً: لا يجوز لنا أن نتكلم بين العامة فيما يثير الضغائن على ولاة الأمور، وفيما يسبب البغضاء لهم؛ لأن في هذا مفسدة كبيرة. قد يتراءى للإنسان أن هذه غيرة، وأن هذا صدع بالحق؛ والصدع بالحق لا يكون من وراء حجاب، الصدع بالحق أن يكون ولي الأمر أمامك وتقول له: أنت فعلت كذا وهذا لا يجوز، تركت هذا، وهذا واجب.
أما أن تتحدث من وراء حجاب في سب ولي الأمر والتشهير به، فهذا ليس من الصدع بالحق؛ بل هذا من الفساد، هذا مما يوجب إيغار الصدور وكراهة ولاة الأمور والتمرد عليهم، وربما يفضي إلى ما هو أكبر إلى الخروج عليهم ونبذ بيعتهم والعياذ بالله.(3/668)
وكل هذه أمور يجب أن نتفطن لها، ويجب أن نسير فيها على ما سار عليه أهل السنة والجماعة، من أراد أن يعرف ذلك فليقرأ كتب السنة المؤلفة في هذا؛ يجد كيف يعظم أئمة أهل العلم من هذه الأمة، كيف يعظمون ولاة الأمور، وكيف يقومون بما أمر به الرسول عليه الصلاة والسلام من ترك المنابذة، ومن السمع والطاعة في غير المعصية.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في آخر كتاب العقيدة الواسطية- وهي عقيدة مختصرة ولكن حجمها كبير جداً في المعنى- ذكر أن من هدي أهل السنة والجماعة وطريقتهم، أنهم يدينون بالولاء لولاة الأمور، وأنهم يرون إقامة الحج والجهاد والأعياد والجمع مع الأمراء، أبراراً كانوا أو فجاراً، حتى لو كان ولي الأمر فاجراً فإن أهل السنة والجماعة يرون إقامة الجهاد معه وإقامة الحج وإقامة الجمع وإقامة الأعياد.
إلا إذا رأينا كفراً بواحاً صريحاً عندنا فيه من الله برهانٌ والعياذ بالله فهنا يجب علينا ما استطعنا أن نزيل هذا الحاكم، وأن نستبدله بخير منه، أما مجرد المعاصي والاستئثار وغيرها؛ فإن أهل السنة والجماعة يرون أن ولي الأمر له الولاية حتى مع هذه الأمور كلها، وأن له السمع والطاعة، وأنه لا تجوز منابذته ولا إيغار الصدور عليه، ولا غير ذلك مما يكون فسادة أعظم وأعظم.
والشر ليس يُدفع بالشر؛ ادفع بالشر الخير، أما أن تدفع الشر بشر، فإن كان مثله فلا فائدة، وإن كان أشر منه كما هو الغالب في مثل هذه(3/669)
الأمور، فإن ذلك مفسدة كبيرة. نسأل الله أن يهدي ولاة أمورنا وأن يهدي رعيتنا لما يلزمها، وأن يوفق كلاًّ منهم لقيام بما يجب عليه.
* * *
9/671- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني)) متفقٌ عليه.
11/673- وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((من أهان السلطان أهانهُ اللهُ)) رواه الترمذي. وقال: حديثٌ حسنٌ.
وفي الباب أحاديث كثيرة في الصحيح، وقد سبق بعضها في أبواب.
[الشَّرْحُ]
هذان الحديثان بقية باب وجوب طاعة ولاة الأمور في غير معصية الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني"
ففي هذا الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم أن طاعته من طاعة الله. قال الله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه) (النساء: 80) والنبي عليه الصلاة(3/670)
والسلام لا يأمر إلا بالوحي؛ إلا بالشرع الذي شرعه الله تعالى له ولأمته، فإذا أمر بشيء؛ فهو شرع الله سبحانه وتعالى، فمن أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله.
الأمير إذا أطاعه الإنسان فقد أطاع الرسول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في أكثر من حديث، وأمر بطاعة ولي الأمر، وقال: ((وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك)) ووقال: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)) . وقال: " على المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه".
والأحاديث في هذا كثيرة، فقد أمر بطاعة ولي الأمر، فإذا أطعت ولي الأمر فقد أطعت الرسول عليه الصلاة والسلام، وإذا أطعت الرسول فقد أطعت الله.
وهذا الحديث وما سبقه وما لم يذكره المؤلف كلها تدل على وجوب طاعة ولاة الأمور إلا في معصية الله، لما في طاعتهم من الخير والأمن والاستقرار وعدم الفوضى وعدم اتباع الهوى. أما إذا عصي ولاة الأمور في أمر تلزم طاعتهم فيه؛ فإنه تحصل الفوضى، ويحصل إعجاب كل ذي رأي برأيه، ويزول الأمن، وتفسد(3/671)
الأمور، وتكثر الفتن، فلهذا يجب علينا نحن أن نسمع ونطيع لولاة أمورنا إلا إذا أمرونا بمعصية؛ فإذا أمرونا بمعصية الله فربنا وربهم الله له الحكم، ولا نطيعهم فيها؛ بل نقول لهم: أنتم يجب عليكم أن تتجنبوا معصية الله، فكيف تأمروننا بها؟ فلا نسمع لكم ولا نطيع.
وقد سبق لنا أن قلنا: إن ما أمر به ولاة الأمور ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يكون الله قد أمر به، مثل أن يأمرونا بإقامة الجماعة في المساجد، وأن يأمرونا بفعل الخير وترك المنكر، وما أشبه ذلك، فهذا واجب من وجهين: أولاً: أنه واجب أصلاً. الثاني: أنه أمر به ولاة الأمور.
القسم الثاني: أن يأمرونا بمعصية الله، فهذا لا يجوز لنا طاعتهم فيها مهما كان، مثل أن يقولوا: لا تصلوا جماعة، أحلقوا لِحاكم، أنزلوا ثيابكم إلى أسفل، اظلموا المسلمين بأخذ المال أو الضرب أو ما أشبه ذلك، فهذا أمرٌ لا يطاع ولا يحل لنا طاعتهم فيه، لكن علينا أن نناصحهم وأن نقول: اتقوا الله، هذا أمر لا يجوز، لا يحل لكم أن تأمروا عباد الله بعصية الله.
القسم الثالث: أن يأمرونا بأمر ليس فيه أمر من الله ورسوله بذاته، وليس فيه نهي بذاته، فيجب علينا طاعتهم فيه؛ كالأنظمة التي يستنونها وهي لا تخالف الشرع، فإن الواجب علينا طاعتهم فيهما واتباع هذه الأنظمة وهذا التقسيم، فإذا فعل الناس ذلك؛ فإنهم سيجدون الأمن والاستقرار والراحة والطمأنينة، ويحبون ولاة أمورهم، ويحبهم ولاة(3/672)
أمورهم.
ثم ذكر المؤلف آخر حديث في هذا الباب؛ حديث أبي بكرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((من أهان السلطان أهانه الله)) وإهانة السلطان لها عدة صورة:
منها: أن يسخر بأوامر السلطان، فإذا أمر بشيء قال: انظروا ماذا يقول؟
ومنها: إذا فعل السلطان شيئاً لا يراه هذا الإنسان. قال: انظروا، انظروا ماذا يفعل؟ يريد أن يهون أمر السلطان على الناس؛ لأنه إذا هون أمر السلطان على الناس استهانوا به، ولم يمتثلوا أمره، ولم يجتنبوا نهيه.
ولهذا فإن الذي يهين السلطان بنشر معايبه بين الناس وذمه والتشنيع عليه والتشهير به يكون عرضة لأن يهينه الله عزّ وجلّ؛ لأنه إذا أهان السلطان بمثل هذه الأمور؛ تمرد الناس عليه فعصوه، وحينئذٍ يكون هذا سبب شر فيهينه الله عزّ وجلّ.
فإن أهانه في الدنيا فقد أدرك عقوبته، وإن لم يهنه في الدنيا فإنه يستحق أن يهان في الآخرة والعياذ بالله؛ لأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم حق: ((من أهان السلطان أهانه الله)) ، ومن أعان السلطان أعانه الله؛ لأنه أعان على خير وعلى بر، فإذا بينت للناس ما يجب عليهم للسطان وأعنتهم على طاعته في غير معصية فهذا خيرٌ كثيرٌ، بشرط أن يكون إعانة على البر والتقوى وعلى الخير، نسأل الله لنا ولكم الحماية عما يغضب وجها، والتوفيق لما يحبه ويرضاه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * *(3/673)
انتهى المجلد الثالث بحمد الله وتوفيقه
ويليه المجلد الرابع إن شاء الله تعالى
وأوله، باب النهي عن سؤال الإمارة(3/674)
باب النهي عن سؤال الإمارة واختيار ترك الولايات إذا لم يتعين عليه أو تدع حاجة إليه
قال الله تعالى: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين}
674 - وعن أبي سعيد عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك متفق عليه
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب النهي عن طلب الإمارة وترك الولايات إلا من حاجة أو مصلحة الإمارة معناها التآمر على الناس والاستيلاء عليهم وهي كبرى(4/5)
وصغرى أما الكبرى: فهي التي تكون إمارة عامة على كل المسلمين كإمارة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكإمارة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وغيرهم من الخلفاء هذه إمارة عامة سلطة عامة وإمارة خاصة دون ذلك تكون إمارة على منطقة من المناطق تشتمل على قرى ومدن أو إمارة أخص من ذلك على قرية واحدة أو مدينة واحدة وكلها ينهى الإنسان أن يطلب فيها أن يكون أميرا كما سيأتي في حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه ثم صدر المؤلف رحمه الله تعالى هذا الباب بقول الله تعالى تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين يعني الجنة {نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض} وطلب الإمارة ربما يكون قصد الطالب للإمارة أن يعلو على الناس ويملك رقابهم ويأمر وينهي فيكون قصده سيئا فلا يكون له حظ من الآخرة والعياذ بالله ولهذا نهى عن طلب الإمارة.
وقوله {ولا فسادا} أي فسادا في الأرض بقطع الطريق وسرقة أموال الناس والاعتداء على أعراضهم وغير ذلك من(4/6)
الفساد {والعاقبة للمتقين} عاقبة الأمر للمتقين فإما أن تظهر هذا العاقبة في الدنيا وإما أن تكون في الآخرة فالمتقون هم الذين لهم العاقبة سواء في الدنيا أو في الآخرة أو في الدنيا والآخرة.
ثم ساق المؤلف رحمه الله حديث عبد الرحمن بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له يا عبد الرحمن بن سمرة ناداه باسمه واسم أبيه من أجل أن ينتبه لما يلقي إليه لأن الموضوع ليس بالهين لا تسأل الإمارة يعني لا تطلب أن تكون أميرا فإنك إن أعطيتها عن مسألة يعني بسبب سؤالك وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها والمعين هو الله فإذا أعطيتها بطلب منك وكلك الله إليها وتخلى الله عنك والعياذ بالله وفشلت فيها ولم تنجح ولم تفلح وإن أعطيتها عن غير مسألة بل الناس هم الذين اختاروك وهم الذين طلبوك فإن الله تعالى يعينك عليها يعني فاقبلها وخذها وهذا يشبه المال فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعمر ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك(4/7)
ولهذا ينبغي للإنسان الموفق ألا يسأل من الوظائف فإن رقي بدون مسألة فهذا هو الأحسن وله أن يقبل حينئذ أما أن يطلب ويلح فإنه يخشى أن يكون داخلا في هذا الحديث فالورع والاحتياط أن يطلب شيئا من ترقية أو انتداب أو غير ذلك إن أعطيت فخذ وإن لم تعط فالأحسن والأروع والأتقى ألا تطالب فكل الدنيا ليست بشيء وإذا رزقك الله رزقا كفافا لا فتنة فيه فهو خير من مال كثير تفتن فيه نسأل الله السلامة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير يعني إذا حلفت ألا تفعل شيئا ثم تبين لك أن الخير في فعله فكفر عن يمينك وافعله وإذا حلفت أن تفعل شيئا ثم بدا لك أن الخير في تركه فاتركه وكفر عن يمينك وإنما قال له النبي ذلك لأنه إذا كان الإنسان أميرا فحلف على شيء فربما تملى عليه أنفة الإمارة ألا يتحول عن حلفه ولكن ينبغي وإن كان أميرا إذا حلف على شيء ورأى الخير في تركه أن(4/8)
يتركه أو حلف ألا يفعل شيئا ورأى الخير في فعله أن يفعله وهذا شامل الأمير وغيره إذا حلفت على شيء ورأيت أن الخير في خلافة فكفر عن يمينك وافعل الخير مثال ذلك رجل حلف ألا يزور قريبه لأنه صار بينه وبينه شيء فقال والله لا أزورك فهذا حلف على قطع الرحم وصلة الرحم خير من القطيعة فنقول يجب عليك أن تكفر عن يمينك وأن تزور قريبك لأن هذا من الصلة والصلة واجبة مثال آخر: رجل حلف ألا يكلم أخاه المسلم ويهجره نقول هذا غلط كفر عن يمينك وكلمه وهكذا كل شيء تحلف عليه ويكون الخير بخلاف ما حلفت فكفر عن يمينك وافعل الخير وهذه قاعدة في كل الأيمان ولكن الذي ينبغي للإنسان ألا يتسرع في الحلف فإن كثيرا من الناس يتسرعون في الحلف أو في الطلاق أو ما أشبه ذلك ويندمون بعد ذلك فنقول لا تتعجل ولا تتسرع إذا كنت عازما على الشيء فافعله أو اتركه بدون يمين وبدون طلاق ثم إن ابتليت بكثرة الحلف فاقرن حلفك بقولك إن شاء الله فإنك إن حلفت وقلت إن شاء الله فأنت في حل حتى لو خالفت ما حلفت عليه فإنه لا يضر(4/9)
فلو قلت والله إن شاء الله لا أفعل هذا الشيء ثم فعلته فليس عليك شيء لأن من قال في يمينه إن شاء الله فلا حنث عليه والله الموفق
675 - وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم رواه مسلم
676 - وعنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني فضرب بيده على منكبي ثم قال يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدي الذي عليه فيه رواه مسلم(4/10)
[الشَّرْحُ]
ذكر الحافظ النووي رحمه الله في باب النهي عن سؤال الإمارة ما نقله عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إنك امرؤ ضعيف وإني أحب لك ما أحب & لنفسي فلا تأمرن على اثنين ولا تولين على مال يتيم هذه أربع جمل بين الرسول عليه الصلاة والسلام لأبي ذر فيها ما بين الأولى: قال له: إنك امرؤ ضعيف وهذا القول إذا كان مصارحة أمام الإنسان فلا شك أنه ثقيل على النفس وأنه قد يؤثر فيك أن يقال لك إنك امرؤ ضعيف لكن الأمانة تقتضي هذا أن يصرح للإنسان بوصفه الذي هو عليه إن قويا فقوى وإن ضعيفا فضعيف هذا هو النصح إنك امرؤ ضعيف ولا حرج على الإنسان إذا قال لشخص مثلا إن فيك كذا وكذا من باب النصيحة لا من باب السب والتعيير فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: إنك امرؤ ضعيف الثانية: قال: وإني أحب لك ما أحبه لنفسي وهذا من حسن خلق النبي عليه الصلاة والسلام لما كانت الجملة الأولى فيها شيء من الجرح قال وإني أحب لك ما أحب لنفسي يعني لم أقل لك ذلك إلا أني أحب لك ما أحب لنفسي(4/11)
الثالثة: فلا تأمرن على اثنين يعني لا تكن أميرا على اثنين وما زاد فهو من باب أولي والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه أن يكون أميرا لأنه ضعيف والإمارة تحتاج إلى إنسان قوي أمين قوي بحيث تكون له سلطة وكلمة حادة وإذا قال فعل لا يكون ضعيفا أمام الناس لأن الناس إذا استضعفوا الشخص لم يبق له حرمة عندهم وتجرأ عليه لكع بن لكع وصار الإنسان ليس بشيء لكن إذا كان قويا حادا في ذات الله لا يتجاوز حدود الله عز وجل ولا يقصر عن السلطة التي جعلها الله له فهذا هو الأمير حقيقة الرابعة لا تولين مال يتيم واليتيم هو الذي مات أبوه قبل أن يبلغ فنهاه الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتولى على مال اليتيم لأن مال اليتيم يحتاج إلى عناية ويحتاج إلى رعاية إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا وأبو ذر ضعيف لا يستطيع أن يرعى هذا المال حق رعايته فلهذا قال ولا تولين مال يتيم يعني لا تكن وليا عليه دعه لغيرك ففي هذا دليل على أنه يشترط للإمارة أن يكون الإنسان قويا وأن يكون أمينا لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال إنها أمانة(4/12)
فإذا كان قويا أمينا فهذه هي الصفات التي يستحق بها أن يكون أميرا فإن كان قويا غير أمين أو أمينا غير قوي أو ضعيفا غير أمين فهذه الأحوال الثلاثة لا ينبغي أن يكون صاحبها أميرا ولكن يجب أن نعلم أن الأشياء تتقيد بقدر الحاجة فإذا لم نجد إلا أميرا ضعيفا أو أميرا غير أمين وكان لا يوجد في الساحة أحد تنطبق عليه الأوصاف كاملة فإنه يولى الأمثل فالأمثل ولا تترك الأمور بلا إمارة لأن الناس محتاجون إلى أمير ومحتاجون إلى قاض ومحتاجون إلى من يتولى أمورهم فإن أمكن وجود من تتم فيه الشروط فهذا هو الواجب وإن لم يوجد فإنه يولى الأمثل فالأمثل لقول الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وتختلف الأنظار فيما إذا كان لدينا رجلان أحدهما أمين غير قوي والثاني قوي غير أمين كل منهما معيب من وجه لكن في باب الإمارة يفضل القوي وإن كان فيه ضعف في الأمانة لأن القوي ربما يكون أمينا لكن الضعيف الذي طبيعته الضعف فإن الطبع لا يتغير ولا يتحول غالبا فإذا كان أمامنا رجلان أحدهما ضعيف ولكنه أمين والثاني قوي لكنه ضعيف في الأمانة فإننا نؤمر القوي لأن هذا أنفع للناس فالناس يحتاجون إلى سلطة وإلى قوة وإذا لم تكن قوة ولا سيما مع ضعف الدين ضاعت الأمور(4/13)
باب حث السلطان والقاضي وغيرهما من ولاة الأمور على اتخاذ وزير صالح وتحذيرهم من قرناء السوء والقبول منهم
قال الله تعالى: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين}
678 - عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه والمعصوم من عصم الله رواه البخاري
679 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أراد الله بالأمير خيرا جعل له وزير صدق إن نسى ذكره وإن ذكر أعانه وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسى لم يذكره وإن ذكر لم يعنه رواه أبو داود بإسناد جيد على شرط مسلم(4/14)
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين (باب حث القاضي والسلطان وغيرهما من ولاة الأمور على اتخاذ وزير صالح والتحذير من قرناء السوء) ثم ذكر المؤلف قول الله تعالى الأخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ الأخلاء جمع خليل والخليل هو الذي أحبك وتحبه حبا عظيما حتى يتخلل حبه جميع البدن وفي ذلك يقول الشاعر
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمى الخليل خليلا
فإذا صدق الود واشتد فإن أعلى أنواع المحبة هي الخلة ولهذا اتخذ الله إبراهيم خليلا واتخذ محمدا صلى الله عليه وسلم خليلا ولا نعلم أنه اتخذ خليلا من خلقه إلا هذين النبيين إبراهيم ومحمدا صلى الله عليهما وسلم ولهذا نقول من قال إن إبراهيم خليل الله وموسى كليم الله ومحمدا حبيب الله فقد هضم محمدا صلى الله عليه وسلم حقه لأنه إذا جعله حبيب الله فقط فقد نزل رتبته بل هو عليه الصلاة والسلام أعلى من الحبيب فالله تعالى يحب المؤمنين ويحب المقسطين ويحب المتقين فمحبته أوسع لكن الخلة لا تحصل لكل واحد(4/15)
فهؤلاء المساكين الجهال يقولون محمد حبيب الله وإبراهيم خليل الله سبحان الله يقولون ذلك مع أنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا} وقال عليه الصلاة والسلام: لو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر ومع هذا سئل أي الرجال أحب إليك قال: أبو بكر ففرق بين الخلة والمحبة الخلة أعظم من المحبة فالأخلاء في الدنيا والأصدقاء في الدنيا هم على صداقتهم لكنهم في الآخرة أعداء قال تعالى: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} فإن المتقين محبتهم في الله والرجلان إذا تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه كانا من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله جعلنا الله منهم ويدل على أن الأخلاء سيكونون أعداء إلا المتقين قوله تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ(4/16)
أُخْتَهَا} وقال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} قال ابن العباس رضي الله عنهما تقطعت بهم المحبة فكانت المحبة بينهما في الدنيا وفي الآخرة تتلاشى وتتقطع.
ثم إنه يجب أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى يبتلي العبد فتارة ييسره لأخلاء صدق يدعونه للخير يأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر ويعينونه على ما يعجز عنه وتارة يبتلي بقوم خلاف ذلك ولهذا جاء في الحديث المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل وقال عليه الصلاة والسلام مثل الجليس الصالح كحامل المسك إما أن يبيعك أي يبيع مسكا وإما أن يحذيك أي يعطيك مجانا وإما أن تجد منه رائحة طيبة أما الجليس السوء والعياذ بالله فإنه كنافخ الكير إما أن يحرق ثيابك بما يتطاير عليك من شرر النار وإما أن تجد منه رائحة كريهة(4/17)
وفي حديث عائشة الذي ساقه المؤلف رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أراد الله بأمير خيرا جعل له وزير صدق إن نسى ذكره وإن ذكر أعانه وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسى لم يذكره وإن ذكر لم يعنه وكذلك أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الله ما بعث من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كان له بطانتان بطانة خير تأمره بالخير وتحثه عليه وبطانة سوء تدله على السوء وتأمره به قال والمعصوم من عصمه الله وهذا شيء مشاهد تجد الأمراء بعضهم يكون صالحا في نفسه حريصا على الخير لكن يقيض الله له قرناء سوء والعياذ بالله فيصدونه عما يريد من الخير ويزينون له السوء ويبغضونه لعباد الله وتجد بعض الأمراء يكون في نفسه غير الصالح لكن عنده بطانة خير تدله على الخير وتحثه عليه وتدله على ما يوجب المحبة بينه وبين رعيته حتى يستقيم وتصلح حاله والمعصوم من عصمه الله إذا كان هذا في الأمراء ففتش نفسك أنت فأنت بنفسك إذا رأيت من أصحابك أنهم يدلونك على الخير ويعينونك عليه وإذا نسيت ذكروك وإذا جهلت علموك فاستمسك بحجزهم وعض عليهم بالنواجذ(4/18)
وإذا رأيت من أصحابك من هو مهمل في حقك ولا يبالي هل هلكت أم بقيت بل ربما يسعى لهلاكك فاحذره فإنه السم الناقع والعياذ بالله لا تقرب هؤلاء بل ابتعد عنهم فر منهم فرارك من الأسد والإنسان الموفق هو الذي لا يكون بليدا كالحجر بل & يكون ذكيا كالزجاجة فإنها صلبة ولكن يرى ما وراءها من صفاء فيكون عنده قوة وصلابة لكن عنده يقظة بحيث يعرف وكأنما يرى بالغيب ما ينفعه مما يضره فيحرص على ما ينفعه ويتجنب ما يضره نسأل الله لنا وللمسلمين التوفيق(4/19)
باب النهي عن تولية الإمارة والقضاء وغيرهما من الولايات لمن سألها أو حرص عليها فعرض بها
680 - عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي فقال أحدهما يا رسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل وقال الآخر مثل ذلك فقال إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله أو أحدا حرص عليه متفق عليه
[الشَّرْحُ]
هذا الباب الذي ذكره النووي رحمه الله في رياض الصالحين (النهي عن تولية من طلب الإمارة أو حرص عليها) وقد سبق في حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها كذلك أيضا لا ينبغي لولي الأمر إذا سأله أحد أن يؤمره على بلد أو على قطعة من الأرض فيها بادية أو ما أشبه ذلك أن يؤمره حتى وإن كان(4/20)
الطالب أهلا لذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي موسى الذي ذكره المصنف لما سأله الرجلان أن يؤمرهما على بعض ما ولاه الله عليه قال إنا والله لا نوالى هذا الأمر أحدا سأله أو واحدا حرص عليه يعني لا نولي أحدا سأل أن يتآمر على شيء وحرص عليه وذلك لأن الذي يطلب أو يحرص على ذلك ربما يكون غرضه بهذا أن يجعل لنفسه سلطة لا أن يصلح الخلق فلما كان قد يتهم بهذه التهمة منع النبي صلى الله عليه وسلم أن يولى من طلب الإمارة وقال إنا والله لا نولى هذا الأمر أحدا سأله أو أحدا حرص عليه وكذلك أيضا لو أن أحدا سأل القضاء فقال لولي الأمر في القضاء كوزير العدل مثلا ولني القضاء في البلد الفلاني فإنه لا يولى وأما من طلب النقل من بلد إلى بلد أو ما أشبه ذلك فلا يدخل في هذا الحديث لأنه قد تولى من قبل ولكنه طلب أن يكون في محل آخر إلا إذا علمنا أن نيته وقصده هي السلطة علي أهل هذه البلدة فإننا نمنعه فالأعمال بالنيات فإن قال قائل كيف تجيبون عن قول يوسف عليه الصلاة والسلام للعزيز & اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ فإننا نجيب بأحد جوابين(4/21)
أولا: إما أن يقال إن الشرع من قبلنا إذا خالفه شرعنا فالعمدة على شرعنا بناء على القاعدة المعروفة عند الأصوليين شرع من قبلنا ما لم يرد شرعنا بخلافة وقد ورد شرعنا بخلافه أننا لا نولى الأمر أحدا طلب الولاية عليه ثانيا أو يقال إن يوسف عليه الصلاة والسلام رأى أن المال ضائع وأنه يفرط فيه ويلعب فيه فأراد أن ينقذ البلاد من هذا التلاعب ومثل هذا يكون الغرض منه إزالة سوء التدبير وسوء العمل ويكون هذا لا بأس به فمثلا إذا رأينا أميرا في ناحية لكنه قد أضاع الإمرة وأفسد الخلق فللصالح لهذا الأمر إذا لم يجد أحدا غيره أن يطلب من ولي الأمر أن يوليه على هذه الناحية فيقول له ولني هذه البلدة لأجل دفع الشر الذي فيها ويكون هذا لا بأس به متفقا مع القواعد.
ويحضرني في هذا حديث عثمان بن أبي العاص أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم اجعلني إمام قومي يعني في الصلاة فقال أنت إمامهم فولي الأمر ينظر ما هو السبب في أن هذا الرجل طلب أن يكون أميرا أو طلب أن يكون قاضيا أنبأنا أو طلب أن يكون إماما ثم يعمل بما يرى أن فيه المصلحة(4/22)
كتاب الأدب
باب الحياء وفضله والحث على التخلق به
681 - عن ابن عمر رضي الله عنه أن: رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه فإن الحياء من الإيمان متفق عليه
682 - وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحياء لا يأتي إلا بخير متفق عليه وفي رواية لمسلم: الحياء خير كله أو قال: الحياء كله خير
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين (كتاب الأدب) (باب الحياء وفضله والحث عليه) الأدب: الأخلاق التي يتأدب بها الإنسان، وله أنواع كثيرة(4/23)
منها: الكرم والشجاعة وطيب النفس وانشراح الصدر وطلاقة الوجه وغير ذلك كثير فالأدب هو عبارة عن أخلاق يتخلق بها الإنسان يمدح عليها ومنها الحياء والحياء صفة في النفس تحمل الإنسان على فعل ما يجمل ويزين، وترك ما يدنس ويشين، فتجده إذا فعل شيئا يخالف المروءة استحيا من الناس، وإذا فعل شيئا محرما استحيا من الله عز وجل وإذا ترك واجبا استحيا من الله وإذا ترك ما ينبغي فعله استحيا من الناس فالحياء من الإيمان، ولهذا ذكر ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل من الأنصار يعظ أخاه في الحياء يعني أنه يحثه عليه ويرغبه فيه فبين النبي عليه الصلاة والسلام أن الحياء من الإيمان وقال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان(4/24)
وإذا كان عند الإنسان حياء وجدته يمشي مشيا مستقيما ليس بالعجلة التي يذم عليها وليس بالتماوت الذي يذم عليه أيضا كذلك إذا تكلم تجده لا يتكلم إلا بالخير وبكلام طيب وبأدب وبأسلوب رفيع ما يقدر عليه وإذا لم يكن حييا فإنه يفعل ما شاء كما جاء في حديث الصحيح إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت وكان النبي صلى الله عليه وسلم اشد حياء من العذراء في خدرها العذراء المرأة التي لم تتزوج وعادتها أن تكون حيية فالرسول عليه الصلاة والسلام أشد حياء من العذراء في خدرها ولكنه لا يستحي من الحق يتكلم بالحق ويصدع به لا يبالي بأحد فأما ما لا تضع به الحقوق فإنه صلى الله عليه وسلم كان أحيى الناس فعليك يا أخي باستعمال الحياء والأدب والتخلق بالأخلاق الطيبة التي تمدح بها بين الناس(4/25)
683 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان متفق عليه.
البضع بكسر الباء ويجوز فتحها وهو من الثلاثة إلى العشرة والشعبة القطعة والخصلة والإماطة الإزالة ووالأذى ما يؤذي كحجر وشوك وطين ورماد وقذر ونحو ذلك
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى فيما نقله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة شك من الراوي هل قال النبي صلى الله عليه وسلم بضع وسبعون أو قال بضع وستون فأفضلها وفي لفظ فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان وهذا هو الشاهد لهذا الباب باب الحياء وفضله وفي هذا الحديث: بين الرسول عليه الصلاة والسلام أن الإيمان(4/26)
شعب كثيرة بضع وستون أو بضع وسبعون ولم يبينها الرسول عليه الصلاة والسلام لأجل أن يجتهد الإنسان بنفسه ويتتبع نصوص الكتاب والسنة حتى يجمع هذه الشعب ويعمل بها وهذا كثير أي أنه يكون في القرآن والسنة أشياء مبهمة يبهمها الله ورسوله من أجل امتحان الخلق ليتبين الحريص من غير الحريص فمثلا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان أو في السبع الأواخر من رمضان لكن لا تعلم في أي ليلة هي من أجل أن يحرص الناس على العمل في كل الليالي رجاء هذه الليلة ولو علمت بعينها لاجتهد الناس في هذه الليلة وكسلوا عن بقية الليالي ومن ذلك ساعة الإجابة في يوم الجمعة فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله إلا أعطاه إياه هذه أيضا مبهمة من أجل أن يحرص الناس على التحري والعمل كذلك في كل ليلة ساعة إجابة لا يوافقها أحد يدعو الله سبحانه وتعالى إلا استجاب له كذلك أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: أن لله تسعة وتسعون(4/27)
اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة ولم يعدها والحديث الوارد في سردها حديث ضعيف لا تقوم به حجة وعلى هذا فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم هنا الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة ترك تعيينها من أجل أن نحرص نحن على تتبعها في الكتاب والسنة حتى نجمع هذه الشعب ثم نقوم بالعمل بها وهذا من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم التي أتاه الله تعالي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه الشعب أفضلها أو أعلاها قول لا إله إلا الله هذه الكلمة العظيمة لو وزنت السماوات السبع والأرضين السبع وجميع المخلوقات لرجحت بهن لأنها أعظم كلمة وهي كلمة التوحيد التي إذا قالها الإنسان صار مسلما وإذا استكبر عنها صار كافرا فهي الحد الفاصل بين الإيمان والكفر ولذلك كانت أعلى شعب الإيمان وأفضلها لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله عز وجل فكل المعبودات من دون الله باطلة إلا الله وحده لا شريك له فهو الحق كما قال الله تبارك وتعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ(4/28)
والإيمان بهذا التوحيد العظيم بأنه لا معبود بحق إلا الله يتضمن الإيمان بأنه لا خالق إلا الله ولا رازق إلا الله ولا مدبر للخلق إلا الله ولا يملك الضر والنفع إلا الله ويتضمن كذلك الإيمان بأسماء الله وصفاته إذ لا يعبد إلا من علم أنه أهل للعبادة ولا أهل للعبادة سوى الخالق عز وجل لهذا كانت هذه الكلمة أعلى شعب الإيمان وأفضلها ومن ختم له بها في الحياة الدنيا فإنه يكون من أهل الجنة فإن من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة نسأل الله أن يختم لنا بها إنه على كل شيء قدير أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها يعني الشيء الهين إماطة الأذى عن الطريق الأذى: ما يؤذي المارة من شوك أو خرق أو خشب أو حجر أو غير ذلك فإماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان وهذا يدل على سعة الإيمان وأنه يشمل الأعمال كلها والحياء شعبة من الإيمان الحياء انكسار يكون في القلب وخجل لفعل ما لا يستحسنه الناس والحياء من الله والحياء من الخلق من الإيمان فالحياء من الله يوجب للعبد أن يقوم بطاعة الله وأن ينتهي عما نهى الله والحياء من الناس(4/29)
يوجب للعبد أن يستعمل المروءة وأن يفعل ما يجمله ويزينه عند الناس ويتجنب ما يدنسه ويشينه فالحياء كله من الإيمان وسئل النبي عليه الصلاة والسلام عن الإيمان قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره فإذا جمعت هذا الحديث بذاك الحديث الآخر تبين لك أن الإيمان كما ذهب إليه السنة والجماعة يشمل العقيدة ويشمل القول ويشمل الفعل فيشمل عمل القلب عقيدة القلب وعمل القلب وقول اللسان وعمل الجوارح لا إله إلا الله هي قول اللسان إماطة الذي عن الطريق عمل الجوارح الحياء عمل القلب الإيمان بملائكته وكتبه اعتقاد القلب فالإيمان عند أهل السنة والجماعة يتضمن كل هذه الأربعة اعتقاد القلب وعمل القلب وقول اللسان وعمل الجوارح وأدلة ذلك من الكتاب والسنة كثيرة في هذا الحديث: حث على إماطة الأذى عن الطريق لأنه إذا كان من الإيمان فافعله يزدد إيمانك ويكمل فإذا وجدت(4/30)
أذى في الطريق حجرا أو زجاجا أو شوكا أو غير ذلك فأزله فإن ذلك من الإيمان حتى السيارة إذا جعلتها في وسط الطريق وضيقت على الناس فقد وضعت الأذى في طرق الناس وإزالة ذلك من الإيمان وإذا كان إماطة الأذى عن الطريق من الإيمان فوضع الأذى في الطريق من الخسران والعياذ بالله ومن نقص الإيمان ولذلك يجب أن يكون الإنسان حيى القلب يشعر بشعور الناس تجد بعض الناس الآن يوقف السيارة في أي مكان بالطول أو بالعرض ما يهتم المكان ضيق أو المكان واسع ما يبالي ليست هذه خصال المؤمن، المؤمن هو الذي يكون حيى القلب يشعر بشعور الناس يحب للناس ما يحب لنفسه كيف تأتي مثلا وتوقف سيارتك في عرض الطريق ولا تبالي بتضييق الطريق على الناس؟ أحيانا يسدون الطريق يقفون عند باب مسجد جامع ويكون الطريق ضيقا فإذا خرج الناس يوم الجمعة ضيقوا عليهم وهذا غلط فإماطة الأذى عن الطريق صدقة فعلى هذا ينبغي للإنسان أن يقوم بإماطة الأذى عن الطريق وإذا كان لا يستطيع كما لو كانت أحجارا كبيرة أو أكواما من الرمل أو ما أشبه ذلك فليبلغ المسئولين ليبلغ البلدية مثلا لأنها(4/31)
المسئولة عن هذا يبلغها حتى يكون ممن تعانوا على البر والتقوى الحياء شعبة من الإيمان فإذا كان الإنسان حييا لا يتكلم بما يدنسه عند الناس ولا يفعل ما يدنسه عند الناس بل تجده وقورا ساكنا مطمئنا فهذا من علامة الإيمان والله الموفق
684 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه متفق عليه
[الشَّرْحُ]
ثم ذكر النووي رحمه الله في باب الحياء وفضله فيما نقله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أشد حياء من العذراء في خدرها(4/32)
العذراء: هي المرأة التي لم تتزوج وهي أشد النساء حياء لأنها لم تتزوج ولم تعاشر الرجال فتجدها حيية في خدرها فرسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء منها ولكنه صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يكره عرف ذلك في وجهه يتغير وجهه لكن يستحي عليه الصلاة والسلام وهكذا ينبغي للمؤمن أن يكون حييا لا يتخبط ولا يفعل ما يخجل ولا يفعل ما ينتقد عليه ولكن إذا سمع ما يكره أو رأى ما يكره فإنه يتأثر وليس من الرجولة أن لا تتأثر بشيء لأن الذي لا يتأثر بشيء هو البليد الذي لا يحس لكن تتأثر ويمنعك الحياء أن تفعل ما ينكر أو أن تقول ما ينكر ثم إن الحياء لا يجوز أن يمنع الإنسان من السؤال عن دينه فيما يجب عليه لأن ترك السؤال عن الدين فيما يجب ليس حياء ولكنه خور فالله سبحانه وتعالى لا يستحي من الحق قالت عائشة رضي الله عنها نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين فكانت المرأة تأتي تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشيء الذي يستحي من ذكره الرجال فلابد أن يسال الإنسان عن دينه ولا يستحي(4/33)
ولهذا لما جاء ماعز بن مالك رضي الله عنه إلى النبي عليه الصلاة والسلام جاء يقر بالزنى يقول إنه زنى فأعرض عنه النبي عليه الصلاة والسلام ثم جاء ثانية وقال إنه زنى فأعرض عنه ثم جاء ثالثة وقال إنه زنى فاعرض عنه النبي عليه الصلاة والسلام يريد أن يتوب فيتوب الله عليه فلما جاء الرابعة ناقشة النبي عليه الصلاة والسلام قال: أبك جنون قال لا يا رسول الله قال أتدرى ما الزنى؟ قال: نعم الزنا أن يأتي الرجل من المرأة حراما ما يأتي الرجل من زوجته حلالا فقال له: أنكتها لا يكني بل صرح هنا مع أن هذا مما يستحي منه لكن الحق لا يستحي منه قال له: أنكتها قال: نعم قال حتى غاب ذاك منك في ذلك منها كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟ قال نعم فهذا شيء يستحي منه لكن في باب الحق لا تستحي جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله فقالت يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي(4/34)
احتلمت؟ قال: نعم إذا & هي رأت الماء هذا السؤال ربما يخجل منه الرجل أن يسأله ولا سيما في المجلس لكن أم سليم لم يمنعها الحياء من أن تعرف دينها وتتفقه فيه وعلى هذا فالحياء الذي يمنع من السؤال عما يجب السؤال عنه حياء مذموم ولا ينبغي أن نسميه حياء بل نقول إن هذا خور وجبن وهو من الشيطان فاسأل عن دينك ولا تستح & أما الأشياء التي لا تتعلق بالأمور الواجبة فالحياء خير من عدم الحياء إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ومما يجانب الحياء ما يفعله بعض الناس الآن في الأسواق من الكلام البذيء السيئ أو الأفعال السيئة أو ما أشبه ذلك فلذلك يجب على الإنسان أن يكون حييا إلا في أمر يجب عليه معرفته فلا يستحي من الحق(4/35)
باب حفظ السر
قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}
685 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يقضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
قال الإمام النووي رحمه الله (باب حفظ السر) والسر هو ما يقع خفية بينك وبين صاحبك ولا يحل لك أن تفشي هذا السر أو أن تبينه لأحد سواء قال لك لا تبينه لأحد أو علم بالقرينة الفعلية أنه لا يحب أن يطلع عليه أحد أو علم بالقرينة الحالية أنه لا يحب أن يطلع عليه أحد.
مثال الأول: اللفظ أن يحدثك بحديث ثم يقول لا تخبر أحدا هو معك أمانة ومثال الثاني: القرينة الفعلية أن يحدثك وهو في حال تحديثه إياك يلتفت(4/36)
يخشى أن يكون أحد يسمع لأن معنى التفاته أنه لا يحب أن يطلع عليه أحد ومثال الثالث: القرينة الحالية أن يكون هذا الذي حدثك به أو أخبرك به من الأمور التي يستحي من ذكرها أو يخشى من ذكرها أو ما أشبه ذلك فلا يحل لك أن تبين وتفشي هذا السر ثم استدل المؤلف رحمه الله لذلك بقوله تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً يعني إذا عاهدتم على شيء بلسان الحال أو بلسان المقال فإنه يجب عليكم أن توفوا بالعهد ومن العهود الشروط التي تقع بين الناس في الشراء والإجارة والاستئجار والرهن وغير ذلك فإن هذه الشروط من العهد وكذلك ما يجرى بين المسلمين والكفار من العهد فإنه يجب على المسلمين أن يوفوا به والمعاهدين من الكفار بين الله في سورة التوبة أنهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام قسم: لا يزالون يوفون بالعهد فهؤلاء يجب أن نوفي بعهدهم.
وقسم ثان: نقضوا العهد فهؤلاء لا عهد بيننا وبينهم لأنهم نقضوا العهد قال الله تعالى: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}(4/37)
وقسم ثالث لم ينقضوا العهد ولم يتبين لنا أنهم سيستمرون في الوفاء به بل نخاف منهم أن يخونوا وينقضوا العهد فهؤلاء قال الله فيهم {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} & يعني قل لهم لا عهد بيننا وبينكم حتى يكون الأمر صريحا فالمهم أن جميع ما يشترط بين الناس فإنه من المعهود ومن ذلك التزام الموظفين بأداء عملهم فإن الموظف قد التزم بالشروط التي تشترطها الحكومة على الموظفين من الحضور في أول الدوام وعدم الخروج إلا بعد انتهاء الدوام والنصح في العمل وما أشبه ذلك مما هو معروف في ديوان الخدمة فالواجب الوفاء بهذه العهود وإلا فاترك الوظيفة وكن حرا فيما تعمل لأن الوظيفة لم تلزم بها بل أنت الذي أتيت وتوظفت فيجب أن تلتزم بما تقتضيه شروط هذه الوظيفة من كل شيء وإلا فدعها وكن حرا فيما تريد ولا أحد يحاسبك إلا الله عز وجل ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من أشر الناس منزلة يوم القيامة أشر هذه لغة قليلة لأن اللغة الكثيرة حذف الهمزة فخير وشر الأكثر فيهما في اللغة حذف الهمزة لا يقال أخير ولا أشر إلا قيلا وإنما يقال خير وشر قال(4/38)
الله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} وقال تعالى: {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا} حذف الهمزة في خير وشر لكن يأتي ذكرها أحيانا بناء على الأصل.
فهنا إن من أشر الناس منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه يعني بذلك الزوجة فيصبح ينشر سرها أو هي أيضا تصبح تنشر سره فيقول فعلت في امرأتي البارحة كذا وفعلت كذا والعياذ بالله فالغائب كأنه يشاهد كأنه بينهما في الفراش والعياذ بالله يخبره بالشيء السر الذي لا تحب الزوجة أن يطلع عليه أحد أو الزوجة كذلك تخبر النساء بأن زوجها يفعل بها كذا وكذا وكل هذا حرام ولا يحل وهو من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة فالواجب أن الأمور السرية في البيوت وفي الفرش وفي غيرها تحفظ وألا يطلع عليها أحدا أبدا فإن من حفظ سر أخيه حفظ الله سره فالجزاء من جنس العمل(4/39)
688 - وعن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان فسلم علينا فبعثني في حاجة فأبطأت على أمي فلما جئت قالت ما حبسك فقلت بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة قالت ما حاجته؟ قلت إنها سر قالت لا تخبرن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا قال أنس: والله لو حدثت به أحدا لحدثتك به يا ثابت.
رواه مسلم وروى البخاري بعضه مختصرا
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في باب حفظ السر فيما نقله عن ثابت عن أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو يلعب مع الصبيان فسلم عليهم يعني سلم على الصبيان وهم يلعبون لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس خلقا فكان يمر بالصبيان فيسلم عليهم ثم دعا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرسله في حاجة فأبطأ على أمه وأمه هي أم سليم امرأة أبي طلحة فلما جاء إليها سألته ما الذي أبطأ بك قال بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة يعني أرسلني بها قالت ما حاجته قال ما كنت لأخبر بسر رسول الله(4/40)
صلى الله عليه وسلم فقالت لا تخبرن أحدا بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أنس لثابت وكان ملازما له لو كنت مخبرا أحدا بذلك & لأخبرتك به أي بالحاجة التي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم بها ففي هذا الحديث فوائد أولا: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه الجم وأنه على شرفه ومكانته وجاهه عند الله وعند خلقه يتواضع حتى يسلم على الصبيان وهم يلعبون في السوق ومن منا يفعل ذلك إلا من شاء الله ثانيا: من فوائد هذا الحديث أنه يسن للإنسان أن يسلم على من مر به ولو كان من الصبيان لأن السلام دعاء تدعو لأخيك به تقول السلام عليك ورده دعاء لك يقول عليك السلام ولأنك إذا سلمت على الصبيان عودتهم التربية الحسنة حتى ينشئوا عليها ويعيشوا عليها ويكون لك أجر في كل ما اهتدوا بل فيه فكل شيء يهتدي فيه بك الناس من أمور الخير لك فيه أجر ثالثا: جواز إرسال الصبي بالحاجة لكن بشرط أن يكون مأمونا أما إذا كان غير مأمون بأن يكون الصبي كثير اللعب ولا يهتم بالحوائج فلا تعتمد عليه رابعا: ما ذكره الفقهاء رحمهم الله أن الصبي إذا جاءك(4/41)
بحاجة وقال هذه من أبي هذه من أمي وما أشبه ذلك فلك أن تقبلها وإن كان هو بنفسه لا يملك أن يتبرع من ماله بشيء لكن إذا جاءك على أنه مرسل وقال هذا من أبي جاءك مثلا بتمر جاءك ببطيخ جاءك بثوب بأي شيء إذا جاءك فاقبله ولا تقل هذا صبى ربما سرقها ربما كذا ربما كذا أخذا بالظاهر.
خامسا: مراعاة الوالدة والأهل وأن الإنسان إذا أراد أن يقضي حاجة وخاف أن يبطئ عليهم أن يخبرهم إذا لم تفت الحاجة بذلك يعني إذا خرجت من أهلك فينبغي أن تقول خرجت للجهة الفلانية حتى يطمئنوا ولا تنشغل خواطرهم والإنسان لا يدري ربما يذهب إلى الجهة الفلانية ويصاب بحادث أو مرض أو غيره فإذا لم يكن معلوما بقى أمره مشكلا عند أهله فينبغي إذا أردت أن تذهب إلى شيء غير معتاد أن تخبرهم بوجهتك أما الشيء المعتاد مثل الخروج إلى المسجد وما أشبهه فلا بأس مثلا إذا أردت أن تذهب إلى بلدك قلت لهم اليوم أذهب إلى المكان الفلاني أو تريد أن تذهب في نزهة فأخبرهم حتى يطمئنوا سادسا أنه لا يجوز للإنسان أن(4/42)
يبدى سر شخص حتى لأمه وأبيه فلو أن إنسانا أرسلك في حاجة ثم قال لك أبوك ما الذي أرسلك به لا تخبره ولو كان أباك أو قالت أمك ما الذي أرسلك به لا تخبرها ولو كانت أمك لأن هذا من أسرار الناس ولا يجوز إبداؤها لأحد سابعا: حسن تربية أم سليم لابنها حيث قالت لا تخبرن أحدا بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما قالت له ذلك مع أنه لم يخبرها ولم يخبر غيرها تأييدا له وتثبيتا له وإقامة للعذر له لأنه أبى أن يخبرها بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لا تخبرن به أحدا كأنها تقول أنا أوافقك على هذا فاستمسك به ثامنا: إظهار محبة أنس لثابت لأنه ملازم له ولهذا تجده يروى عنه كثيرا ولهذا قال له لو كنت مخبرا أحدا لأخبرتك هذا يدل على المحبة بين أنس وبين تلميذه ثابت وهكذا أيضا ينبغي أن تكون المودة بين التلاميذ ومعلمهم متبادلة لأنه إذا لم يكن بين التلميذ والمعلم مودة فإن التلميذ لا يقبل كل ما قاله معلمه كذلك المعلم لا ينشط لتعليم تلميذه ولا يهتم به كثيرا فإذا صارت المودة بينهم متبادلة حصل بهذا خيرا كثيرا(4/43)
باب الوفاء بالعهد وإنجاز الوعد
قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ}
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى (باب الوفاء بالعهد وإنجاز الوعد) العهد: ما يعاهد الإنسان به غيره وهو نوعان عهد مع الله عز وجل فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا فقد أخذ الله العهد على عباده جميعا أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا لأنه ربهم وخالقهم(4/44)
وعهد مع عباد الله ومنه العهود التي تقع بين الناس بين الإنسان وبين أخيه المسلم بين المسلمين وبين الكفار وغير ذلك من العهود المعروفة فقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعهد فقال عز وجل: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} يعني أن الوفاء بالعهد مسئول عنه الإنسان يوم القيامة يسأل عن عهده هل وفي به أم لا وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} يعني ولا تخلفوا العهد وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} والإنسان إذا عاهد ولم يف فقد قال ما لا يفعل فمثلا لو قلت لشخص عاهدتك ألا أخبر بالسر الذي بيني وبينك أو عاهدتك ألا أخبر بما صنعت في كذا وكذا ثم نقضت وأخبرت فهذا من القول بما لا يفعل: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} وقوله: {كبر مقتا عند الله} يعني كبر بغضا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون فإن الله يبغض هذا الشيء ويحب الموفين بالعهد إذا عاهدوا(4/45)
689 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان متفق عليه.
زاد في رواية لمسلم: وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم
690 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر متفق عليه
691 - وعن جابر رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: لو قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا فلم يجيء مال البحرين حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم فلما جاء مال البحرين أمر أبو بكر رضي الله عنه فنادى من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأتنا فأتيته وقلت له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لي كذا فحثى لى حثية فعددتها فإذا هي خمسمائة فقال لي خذ مثيلها متفق عليه.(4/46)
[الشَّرْحُ]
نقل المؤلف - رحمه الله في باب الوفاء بالعهد وإنجاز الوعد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: آية المنافق ثلاث آيته يعني علامته ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان يعني أن هذه من علامات المنافقين إذا رأيت الرجل يكذب وإذا حدث ويخلف إذا وعد ويخون إذا أؤتمن فهذه من علامات المنافقين لأن أصل المنافق مبني على التورية والستر يستر الخبيث ويظهر الطيب يستر الكفر ويظهر الإيمان.
والكاذب كذلك يخبر بخلاف الواقع والواعد الذي يعد ويخلف كذلك وكذلك الذي يخون إذا أؤتمن فهذه علامات النفاق والعياذ بالله.
وفي هذا التحذير من الكذب وأنه من علامات المنافقين فلا يجوز للإنسان أن يكذب لكن إن اضطر إلى التورية وهي التأويل فلا بأس مثل أن يسأله أحد عن أمر لا يحب أن يطلع عليه غيره فيحدث بشيء خلاف الواقع لكن يتأول فهذا لا بأس به وأما إخلاف الوعد فحرام يجب الوفاء بالوعد سواء وعدته(4/47)
مالا أو وعدته إعانة تعينه في شيء أو أي أمر من الأمور إذا وعدت فيجب عليك أن تفي بالوعد وفي هذا ينبغي للإنسان أن يحدد المواعيد ويضبطها فإذا قال لأحد إخوانه أواعدك في المكان الفلاني فليحدد الساعة الفلانية حتى إذا تأخر الموعود وانصرف الواعد يكون له عذر حتى لا يربطه في المكان كثيرا وقد اشتهر عند بعض السفهاء أنهم يقولون أنا واعدك ولا أخلفك وعدي إنجليزي يظنون أن الذين يوفون بالوعد هم الإنجليز ولكن الوعد الذي يوفى به هو وعد المؤمن ولهذا ينبغي لك أن تقول إذا وعدت أحدا وأردت أن تؤكد إنه وعد مؤمن حتى لا يخلفه لأنه لا يخلف الوعد إلا المنافق.
وإذا أؤتمن خان يعني إذا ائتمنه الناس على أموالهم أو على أسرارهم أو على أولادهم أو على أي شيء من هذه الأشياء فإنه يخون والعياذ بالله فهذه أيضا من علامات النفاق وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ففيه أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها المراد به أن هذه الأربع لا تجتمع إلا في المنافق الخالص وإن كان المؤمن قد يحصل له واحدة(4/48)
منها لكنه لا يكون منافقا خالصا بل يكون فيه خصلة من نفاق حتى يدعها وهذه الأربع هي: إذا أؤتمن خان إذا حدث كذب وسبق الكلام على هاتين الجملتين والثالثة: قال ك إذا عاهد غدر وهو قريب من قوله فيما سبق إذا وعد أخلف أي إذا عاهد أحدا غدر به ولم يف بالعهد الذي عاهده عليه.
والرابعة: إذا خاصم فجر والخصومة: هي المخاصمة عند القاضي ونحوه فإذا خاصم فجر والفجور في الخصومة على نوعين أحدهما: أن يدعي ما ليس له والثاني: أن ينكر ما يجب عليه مثال الأول: ادعى شخص على آخر فقال عند القاضي أنا أطلب من هذا الرجل ألف ريال وهو كاذب وحلف على هذه الدعوى وأتى بشاهد زور فحكم له القاضي فهذا خاصم ففجر لأنه ادعى ما ليس له وحلف عليه مثال الثاني: أن يكون عند شخص ألف ريال فيأتيه صاحب(4/49)
الحق فيقول: أوفني حقي فيقول ليس لك عندي شيء فإذا اختصما عند القاضي ولم يكن للمدعى بينة حلف هذا المنكر الكاذب في إنكاره أنه ليس في ذمته له شيء فيحكم القاضي ببراءته فهذه خصومه فجور والعياذ بالله وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من حلف على يمين صبر ليقتطع بها حق امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان نعوذ بالله وهذه الخصال الأربع إذا اجتمعت في المرء كان منافقا خالصا لأنه استوفى خصال النفاق والعياذ بالله وإذا كان فيه واحدة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها وفي هذا الحديث: دليل على التحذير البليغ من هذه الصفات الأربع: الخيانة في الأمانة، والكذب في الحديث، والغدر بالعهد، والفجور في الخصومة وفيه أيضا دليل على أن الإنسان قد يجتمع فيه خصال إيمان وخصال نفاق لقوله كان فيه خصلة من النفاق هذا مذهب أهل السنة والجماعة أن الإنسان يكون فيه خصلة نفاق وخصلة(4/50)
فسوق وخصلة عدالة وخصلة عداوة وخصلة ولاية يعني أن الإنسان ليس بالضرورة أن يكون كافرا خالصا أو مؤمنا خالصا بل قد يكون فيه خصال من الكفر وهو مؤمن وخصال من الإيمان ثم ذكر حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو قد جاء مال البحرين لأعطيتك هكذا وهكذا وهكذا مال البحرين يعني مال الإحساء وما جاورها كلها تسمى البحرين في ذلك العهد يقول لو قد جاء لأعطيتك هكذا وهكذا وهكذا: يقول بيديه عليه الصلاة والسلام وهذا وعد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله أن يعطيه من مال البحرين هكذا وهكذا وهكذا.
فلما توفي الرسول عليه الصلاة والسلام قبل أن يأتي مال البحرين وكان الخليفة أبا بكر الصديق رضي الله عنه بإجماع الصحابة بايعوه كلهم على أنه هو الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء مال البحرين في خلافة أبي بكر فقال رضي الله عنه من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أو دين عدة: يعني وعد أو دين يعني على الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه ربما يكون الرسول اشترى من أحد شيئا فلزمه دين أو وعد أحدا شيئا وفعلا توفي الرسول عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند رجل يهودي(4/51)
في المدينة بثلاثين صاعا من شعير اشتراها لأهله عليه الصلاة والسلام فهو صلى الله عليه وسلم ليس عنده مال ولم يبعث جابيا للمال ولا يبقى عنده المال إلا بمقدار ما يفرقه على المسلمين فالمهم أن أبا بكر نادى: من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأتنا فجاء جابر رضي الله عنه إلى أبي بكر وقال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لو جاء مال البحرين لأعطيتك هكذا وهكذا وهكذا فقال خذ فأخذ بيديه فعدها فإذا هي خمسمائة فقال خذ مثيلها لأن الرسول قال هكذا وهكذا وهكذا ثلاث مرات فأعطاه أبو بكر رضي الله عنه العدة التي وعده إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي هذا الحديث من الفوائد: جواز تخصيص بعض المسلمين بشيء من بيت المال لأن النبي صلى الله عليه وسلم خصص جابرا ولكن بشرط ألا يكون ذلك لمجرد الهوى بل للمصلحة العامة أو الخاصة وفيه دليل على كرم النبي صلى الله عليه وسلم حيث يحثو المال حثيا ولا يعده عدا لأنه قال بيديه وهذا يدل على الكرم وأن المال لا يساوي عنده شيئا صلوات الله وسلامه عليه بخلاف الذي جمع مالا(4/52)
وعدده يعدد الهلل قبل الريالات من حرصه على المال.
وفي هذا دليل أيضا على النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب لأنه وعد وتوفى قبل أن يفي بالوعد لأن المال لم يأت وفيه أيضا دليل على فضيلة أبي بكر رضي الله عنه لمبايعة الصحابة له.
وفيه دليل أيضا على قبول دعوى المدعى إذا لم يكن له منازع يرد دعواه وكان هذا المدعى ثقة أما إذا كان له منازع فإن البينة على المدعى واليمين على من أنكر وفي هذه القصة لا منازع لجابر رضي الله عنه لأن أبا بكر هو المسئول عن بيت المال وقد عرض على الناس من كان له عدة أو دين فليأتنا فجاء جابر ولم يقل له أبو بكر أين البينة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم وعدك ما طلب منه البينة لأنه واثق به ولا منازع له وفيه دليل أيضا على اعتبار الشيء بنظيره وأن الإنسان إذا وزن شيئا في إناء وكان وزنه مثلا مائة كيلو فله أن يملأ هذا الإناء مرة ثانية بشيء آخر ويعتبره مائة كيلو إذا تساوى الموزون في الخفة والثقيل لأن أبا بكر رضي الله عنه لما عد الحثية الأولى اعتبر الحثية الثانية والثالثة بمثلها في العدد(4/53)
فإذا فرضنا أن شخصا وجب عليه خمسمائة صاع مثلا ثم كان في إناء عشرة أصواع وأراد أن تعتبر الباقي بهذا الإناء فإن ذلك لا بأس به لأنه إذا تساوى الشيء فإنه لا بأس أن تعتبر هذا الاعتبار لفعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه والله الموفق(4/54)
باب المحافظة على ما اعتاده من الخير
قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} وقال تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} والأنكاث جمع نكث وهو الغزل المنقوض وقال تعالى: {وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} وقال تعالى: {فما رعوها حق رعايتها}
692 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل متفق عليه
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله تعالى (باب المحافظة على ما اعتاده من الخير) يعني أن الإنسان إذا اعتاد فعل الخير فينبغي أن يداوم عليه فمثلا إذا اعتاد(4/55)
ألا يدع الرواتب يعني الصلوات النوافل التي تتبع الصلوات الخمس فليحافظ على ذلك وإذا كان يقوم الليل فليحافظ على ذلك وإذا كان يصلى ركعتين من الضحى فليحافظ على ذلك وكل شيء من الخير إذا اعتاده فإنه ينبغي أن يحافظ عليه وكان من هدى النبي صلى الله عليه وسلم أن عمله ديمة يعني يداوم عليه فكان إذا عمل عملا أثبته ولم يغيره وذلك لأن الإنسان إذا اعتاد الخير وعمل به ثم تركه فإن هذا يؤدي إلى الرغبة عن الخير لأن الرجوع بعد الإقدام شر من عدم الإقدام فلو أنك لم تفعل الخير ابتداء لكان أهون مما إذا فعلته ثم تركته وهذا شيء مشاهد مجرب وذكر المؤلف رحمه الله عدة آيات من القرآن كلها تدل على أن الإنسان ينبغي أن يحافظ على ما اعتاده من الخير فمن ذلك قوله تعالى: وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا يعني لا تكونوا كالمرأة الغازلة التي تغزل الصوف ثم إذا غزلته وأتقنته نقضته أنكاثا ومزقته بل دوموا على ما أنتم عليه ومن ذلك قوله تعالى: {وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: أنهم يعملون العمل الصالح لكن طال عليهم الأمد فقست قلوبهم وتركوا العلم فلا تكونوا مثلهم(4/56)
وأما الأحاديث التي ذكرها المؤلف فمنها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل كلمة فلان يكني بها عن الإنسان البشر الرجل والمرأة يقال لها فلانة وهذه الكلمة يحتمل أنها من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وأن الرسول لم يذكر اسمه لعبد الله بن عمرو سترا عليه لأن المقصود القضية دون صاحبها ويحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم عينه لكن أبهمه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه وأيا كان فالمهم العمل.
والقضية أن رجلا كان يقوم من الليل فلم يثبته ولم يداوم عليه مع أن قيام الليل في الأصل سنة فلو لم يفعله الإنسان لم يلم عليه يعني لو لم يقم من الليل ما لامه ولا قال له: لماذا لم تقم من الليل؟ لأنه سنة لكن كونه يقوم ثم يرجع ويترك هذا هو الذي يلام عليه ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل ومن ذلك وهو أهم وأعظم أن يبدأ الإنسان بطلب العلم الشرعي ثم إذا فتح الله عليه بما فتح تركه فإن هذا كفر نعمة أنعمها الله عليه فإذا بدأت بطلب العلم فاستمر إلا أن يشغلك عنه شيء على وجه الضرورة وإلا فداوم لأن طلب العلم فرض(4/57)
كفاية كل من طلب العلم من طلب العلم فإن الله تعالى يثيبه على ثواب الفرض وثواب الفرض أعظم من ثواب النافلة كما جاء في الحديث الصحيح أن الله تعالى قال: ما تقرب إلا عبدي بشيء أحب إلى ما افترضته عليه فطلب العلم فرض كفاية إذا قام به الإنسان قام بفرض عن عموم الأمة وقد يكون فرض عين فيما إذا احتاج الإنسان إليه في نفسه كمن أراد أن يصلى فلا بد أن يتعلم أحكام الصلاة ومن كان عنده مال فلابد أن يتعلم أحكام الزكاة والبائع والمشتري لابد أن يتعلما أحكام البيع والشراء ومن أراد أن يحج فلابد أن يتعلم أحكام الحج هذا فرض عين أما بقية العلوم فهي فرض كفاية فإذا شرع الإنسان في طلب العلم فلا يرجع وإنما يستمر إلا أن يصده عن ذلك شيء ضروري فهذا شيء آخر ولهذا كان المنافقون هم الذين إذا بدأوا بالعمل تركوه في غزوة أحد خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم نحو ألف رجل وكان ثلثهم تقريبا من المنافقين فرجعوا من الطريق وقالوا: {لو نعلم قتالا لا تبعناكم} قال الله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ}(4/58)
فالحاصل أنه ينبغي للمسلم إذا من الله عليه بعمل مما يتعبد به لله من عبادات خاصة كالصلاة أو عبادات متعدية للغير كطلب العلم ألا يتقاعس وألا يتأخر ليستمر على ذلك فإن ذلك من هدى النبي صلى الله عليه وسلم ومن إرشاده بقوله: يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل والله الموفق(4/59)
باب استحباب طيب الكلام وطلاقة الوجه عند اللقاء
قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} وقال تعالى: {ولو كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}
693 - عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة متفق عليه
694 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والكلمة الطيبة صدقة متفق عليه وهو بعض حديث تقدم بطوله
695 - وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخالك بوجه طلق رواه مسلم(4/60)
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (باب استحباب طيب الكلام وطلاقة الوجه عند اللقاء) يعني: إذا لاقى الإنسان أخاه، فإنه ينبغي له أن يلاقيه بالبشر وطلاقة الوجه & وحسن المنطق لأن هذا من خلق النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعد هذا تنزلا من الإنسان ولكنه رفعة وأجر له عند الله عز وجل واتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان دائم البشر كثير التبسم صلوات الله وسلامه عليه فالإنسان ينبغي له أن يلقى أخاه بوجه طلق وبكلمة طيبة لينال بذلك الأجر والمحبة واللفة والبعد عن التكبر والترفع على عباد الله ثم ذكر المؤلف آيات منها: قوله تعالى: واخفض جناحك للمؤمنين اخفض جناحك يعني لن وتواضع للمؤمنين لأن المؤمن أهل لأن يتواضع له أما الكفار فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فالذي يتلقى بالبشر وطلاقة الوجه هو المؤمن أما الكافر فإن(4/61)
كان يرجى إسلامه إذا عاملناه بطلاقة الوجه والبشر فإننا نعامله بذلك رجاء إسلامه وانتفاعه بهذا اللقاء وأما إذا كان هذا التواضع وطلاقة الوجه لا يزيده إلا تعاليا على المسلم وترفعا عليه فإنه لا يقابل بذلك ثم إن طلاقة الوجه توجب سرور صاحبك لأنه يفرق بين شخص يلقاك بوجه معبس وشخص يلقاك بوجه منطلق لهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لأبي ذر: لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق فهذا من المعروف لأنه يدخل السرور على أخيك ويشرح صدره ثم إذا قرن ذلك بالكلمة الطيبة حصل بذلك مصلحتان: طلاقة الوجه والكلمة الطيبة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: اتقوا النار ولو بشق تمرة يعني: اجعلوا بينكم وبين النار وقاية ولو بشق تمرة يعني: ولو أن تصدقوا بنصف تمرة فإن ذلك يقيكم من النار إذا قلبها الله عز وجل فإن لم يجد فبكلمة طيبة كلمة طيبة مثل أن تقول له: كيف أنت؟ كيف حالك؟ كيف إخوانك؟ كيف أهلك؟ وما أشبه ذلك لأن هذه من الكلمات الطيبة التي تدخل السرور على صاحبك كل(4/62)
كلمة طيبة فهي صدقة لك عند الله وأجر وثواب وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام البر حسن الخلق وقال: أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا(4/63)
باب استحباب بيان الكلام وإيضاحه للمخاطب وتكريره ليفهم إذا لم يفهم إلا بذلك
696 - وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثا رواه البخاري
697 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما فصلا يفهمه كل من يسمعه رواه أبو داود
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله تعالى: (باب استحباب بيان الكلام وإيضاحه للمخاطب وتكريره ليفهم إذا لم يفهم إلا بذلك) والمعنى أنه ينبغي للإنسان إذا تكلم وخاطب الناس أن يكلمهم بكلام بين لا يستعجل في إلقاء الكلمات، ولا يدغم شيئا في شيء ويكون حقه الإظهار بل يكون كلامه فصلا بينا واضحا حتى يفهم المخاطب بدون مشقة وبدون كلفة(4/64)
فبعض الناس تجده في الكلام ويأكل الكلام حتى إن الإنسان يحتاج إلى أن يقول له: ماذا تقول؟ فهذا خلاف السنة فالسنة أن يكون الكلام بينا واضحا يفهمه المخاطب وليس من الواجب أن يكون خطابك باللغة الفصحى.
فعليك أن تخاطب الناس بلسانهم وليكن بينا واضحا كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه فقوله: حتى تفهم عنه يدل على أنها إذا فهمت بدون تكرار فإنه لا يكررها وهذا هو الواقع فإن الرسول عليه الصلاة والسلام نسمع عنه أحاديث كثيرة يقولها في خطبة وفي المجتمعات ولا يكرر ذلك لكن إذا لم يفهم الإنسان بأن كان لا يعرف المعنى جيدا فكرر عليه حتى يفهم أو كان سمعه ثقيلا لا يسمع أو كان هناك ضجة حوله لا يسمع فهنا يستحب أن تكرر حتى يفهم عنك وكان صلى الله عليه وسلم إذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثا معناه أنه كان لا يكرر أكثر من ثلاث يسلم مرة فإذا لم يجب سلم الثانية فإذا لم يجب سلم الثالثة فإذا لم يجب تركه(4/65)
وكذلك في الاستئذان كان صلى الله عليه وسلم يستأذن ثلاثا يعني إذا جاء للإنسان يستأذن في الدخول على بيته يدق عليه الباب ثلاث مرات فإذا لم يجب انصرف فهذه سنته عليه الصلاة والسلام أن يكرر الأمور ثلاثا ثم ينتهي.
وهل مثل ذلك إذا دق جرس الهاتف ثلاث مرات؟ يحتمل أن يكون من هذا الباب، وأنك إذا اتصلت بإنسان ودق الجرس ثلاث مرات وأنت تسمعه وهو لم يجبك، فأنت في حل إذا وضعت سماعة الهاتف ويحتمل أن يقال: إن الهاتف له حكم آخر وأنك تبقى حتى تيأس من أهل البيت لأنهم ربما لا يكونون حول الهاتف عند اتصالك فربما يكونون في طرف المكان ويحتاجون إلى خطوات كثيرة حتى يصلوا إلى الهاتف فلذلك قلنا باحتمال الأمرين ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كلامه فصلا يعني مفصلا لا يدخل الحروف بعضها على بعض ولا الكلمات بعضها على بعض حتى لو شاء العاد أن يحصيه(4/66)
لأحصاه من شدة تأنيه صلى الله عليه وسلم في الكلام وهكذا ينبغي للإنسان أن لا يكون كلامه متداخلا بحيث يخفي على السامع لأن المقصود من الكلام هو إفهام المخاطب وكلما كان أقرب إلى الإفهام كان أولى وأحسن ثم إنه ينبغي للإنسان إذا استعمل هذه الطريقة يعني إذا جعل كلامه فصلا بينا واضحا وكرره ثلاث مرات لمن لم يفهم ينبغي أن يستشعر في هذا أنه متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يحصل له بذلك الأجر وإفهام أخيه المسلم وهكذا جميع السنن اجعل على بالك أنك متبع فيها لرسول صلى الله عليه وسلم حتى يتحقق لك الاتباع(4/67)
باب إصغاء الجليس لحديث جليسه الذي ليس بحرام واستنصات العالم والواعظ حاضري مجلسه
698 - عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: استنصت الناس ثم قال: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض متفق عليه
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف النووي رحمه الله تعالى هذا الباب في إصغاء الإنسان إلى جليسه إذا لم يكن يتكلم بشيء محرم، واستنصات العالم والمعلم الناس يعني ليستمعوا إلى كلامه، وقد سبق لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم سلم ثلاثا والمراد أنه لم يسمع المسلم عليه سلم ثلاثا، فإنه يسلم أول مرة، فإذا لم يجب سلم ثانية، فإذا لم يجب سلم الثالثة، فإذا لم يجب تركه أما إذا رد المسلم عليه من أول مرة فإنه لا يعيد السلام مرة ثانية أما هذا الباب ففيه أنه ينبغي للإنسان أن يكون حسن الإصغاء إلى كلام جليسه إذا لم يكن يتكلم بمحرم(4/68)
وحسن الإصغاء يكون بالقول وبالفعل أما القول: فبألا يتكلم إذا كان جليسه يتكلم، فيحصل بذلك التشويش بأن يكون الكلام كلاما واحدا حتى ينتفع الناس جميعا بما يتكلم به بعضهم وأما الإصغاء بالفعل: فينبغي إذا كان الإنسان يحدثك أن تقبل إليه بوجهك وألا تلتفت يمينا وشمالا، لأنك إذا التفت يمينا وشمالا وهو يحدثك نسبك إلى الكبرياء، وقد قال الله تعالى: وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا فينبغي أن تصغي إليه وأن تقابله بوجهك حتى يعرف أنك قد أحسست به، وأنك قد اهتممت بكلامه، إلا إذا كان يتكلم بشيء محرم، كغيبة، أو كلام لغو، أو ما أشبه ذلك من الأشياء المحرمة، فإنك لا تصغي إليه، بل انهه عن ذلك الشيء.
فإن استمر يتكلم بالكلام المحرم، ولم يضع إلى قولك وإلى نصحك، فالواجب عليك أن تقوم من مكانك وأن تفارقه، لأن الله يقول: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}(4/69)
ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في حجة الوداع: استنصت الناس يعني: سكتهم حتى يستمعوا لما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض يضرب هنا بالرفع، ولا يجوز جزمها على أنها جواب النهي، بل هي بالرفع لأنها حال، يعني لا ترجعوا بعدي كفارا حال كونكم يضرب بعضكم رقاب بعض، وفي هذا دليل على أن قتال المؤمنين بعضهم كفر، وقد أيد هذا الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر لكنه كفر لا يخرج من الملة، والدليل على أنه لا يخرج من الملة قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}(4/70)
باب الوعظ والاقتصاد فيه
قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}
699 - وعن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: كان ابن مسعود رضي الله عنه يذكرنا في كل خميس مرة، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، فقال أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم وإني أتخولكم بالموعظة، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا متفق عليه.
يتخولنا: يتعهدنا.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه اله تعالى: (باب الوعظ والاقتصاد فيه) وذلك لعدم إدخال الملل والسآمة على الناس فيما يعظ به الوعظ: هو ذكر الأحكام الشرعية مقرونة بالترغيب أو الترهيب، كأن نقول للإنسان مثلا إنه يجب عليك كذا وكذا فاتق الله، وقم بما أوجب الله عليك وما أشبه ذلك.(4/71)
وأعظم واعظ هو كتاب الله عز وجل فإن الله يقول:.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين فأعظم ما يوعظ به كتاب الله عز وجل، لأنه جامع بين الترغيب والترهيب، وذكر الجنة والنار، والمتقين والفجار، فهو أعظم كتاب يوعظ به.
ولكن إنما يكون كذلك لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} أما من قست قلوبهم والعياذ بالله فقد قال الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُون} وهكذا المؤمن كلما قرأ من كتاب الله ازداد إيمانا بالله واستبشر بما جعل الله في قلبه من النور من هذا الكتاب العظيم {.
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} نعوذ بالله من ذلك فينبغي لإنسان أن يعظ الناس بالقرآن وبالسنة، وبكلام الأئمة، وبكل ما يلين القلوب ويوجهها إلى الله عز وجل ثم ذكر المؤلف رحمه الله أن ينبغي الاقتصاد في الموعظة،(4/72)
فلا تكثر على الناس فتملهم، وتكره إليهم القرآن والسنة وكلام أهل العلم، لأن النفوس إذا ملت كلت، وتعبت وسئمت وكرهت الحق وإن كان حقا ولهذا كان أحكم الواعظين من الخلق محمد صلى الله عليه وسلم يتخول الناس بالموعظة، ما يكثر عليهم لئلا يملوا ويسأموا ويكرهوا ما يقال من الحق ثم صدر المؤلف هذا الباب بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ادع إلى سبيل ربك: يعني إلى دين الله، لأن سبيل الله هو دين الله حيث أنه يوصل إلى الله تعالى، فمن سلك هذا الدين أوصله إلى الله سبحانه وتعالي، ولأن هذا الدين وضعه الله عز وجل وشرعه لعباده، ولهذا أضيف إليه فقيل: سبيل الله {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي بثلاثة أمور: أولا: الحكمة: وذلك بأن تنزل الأمور منازلها، في الوقت المناسب، والكلام المناسب، والقول المناسب، لأن بعض الأماكن لا تنبغي فيها الموعظة وبعض الأزمنة لا تنبغي فيها الموعظة وكذلك بعض الأشخاص لا ينبغي أن تعظهم في حال من الأحوال بل تنتظر حتى يكون مهيئا لقبول الموعظة ولهذا قال:(4/73)
{بالحكمة} قال العلماء: الحكمة: وضع الأشياء في مواضعها ثانيا: الموعظة الحسنة: يعني: اجعل دعوتك مقرونة بموعظة حسنة، موعظة تلين القلب وترققه وتوجهه إلى الله بشرط أن تكون حسنة، إن كان الترغيب فيها أولى فبالترغيب وإن كان الترهيب والتخويف فيها أولى فبالترهيب والتخويف وكذلك تكون حسنة من حيث الأسلوب والصياغة وكذلك تكون حسنة من حيث الإقناع بحيث تأتي بموعظة تكون فيها أدلة مقنعة أدلة شرعية وأدلة عقلية تسند الشرعية لأن بعض الناس يقنع بالأدلة الشرعية كالمؤمنين الخلص، فإن الله يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} ومن الناس من لا يكتفي بالأدلة الشرعية بل يحتاج أن تنسد الأدلة الشرعية عنده بأدلة عقلية، ولهذا يستدل الله سبحانه وتعالى في آيات كثيرة بالأدلة العقلية على ما أوحاه إلى نبيه من الأدلة الشرعية انظر مثلا إلى البعث بعد الموت، فالبعث بعد الموت أنكره الكفار وقالوا: من يحيى العظام وهي رميم؟ كيف يموت الإنسان وتأكل الأرض عظامه ولحمه وجلده، ثم يبعث؟ فأجاب الله:(4/74)
{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} من الذي خلق هذه العظام أول مرة هو الله وإعادة الخلق أهون من ابتدائه: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} {أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى} هذه أدلة عقلية الاستدلال بالمبدأ على المعاد وكذلك يستدل الله سبحانه وتعالى على إمكان البعث بإحياء الأرض بعد موتها فإن الله تعالى ينزل المطر على أرض هامدة قاحلة، ليس فيها حياة ولا نبات فتصبح الأرض مخضرة بهذا المطر من الذي أحيا هذا النبات إلا الله؟ فالذي أحيا هذا النبات بعد يبسه وموته قادر على إحياء الموتى ولابد من حياة أخرى لأنه ليس من الحكمة أن الله ينشئ هذا الخلق ويمدهم بالنعم والرزق وينزل عليهم الكتب، ويرسل إليهم الرسل، ويشرع الجهاد لأعدائه ثم تكون المسألة مجرد دنيا تروح، فهذا لا يمكن، وهذا خلاف الحكمة، بل لابد من حياة أخرى هي الحياة الحقيقية كما قال تعالى: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} الحياة الحقيقية هي حياة الآخرة: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار} ثم قال: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} يعني: إذا وعظت موعظة(4/75)
حسنة وصار الإنسان يجادل ولم يقبل فجادله ولا تنسحب لكن جادل بالتي هي أحسن من حيث الأسلوب، ومن حيث العرض، ومن حيث الإقناع، إذا استدل عليك بدليل فحاول إبطال دليله، فإذا كان إبطال دليله يطول فانتقل إلى دليل آخر، ولا تأخذ في الجدال معه، بل انتقل إلى دليل آخر لا يستطيع مجادلتك فيه.
انظر إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما حاجة الرجل في الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} يعني وأنت لا تستطيع أن تحيى وتميت {قال أنا أحيي وأميت} كيف يحيى ويميت هذا المجادل المعاند؟ كان يؤتي بالرجل المستحق للقتل فيقول: لا تقتلوه ويؤتي بالرجل لا يستحق القتل فيقول: اقتلوه فجعل هذه التمويه إحياء وإماتة فقال إبراهيم: {فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} ولم يجادله على قوله: أنا أحيى وأميت، وإلا لو جادله لقال أنت لم تحي ولم تمت حقيقة وإنما تفعل سبب الموت فيموت وهو القتل وترفع موجب القتل فلا يقتل لكنه عدل عن هذا إلى شيء لا يستطيع الخصم أن يتحرك معه أو أن ينطق قال: {فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} فلم يستطع ردا ولهذا قال: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي(4/76)
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فالحاصل أن الله يقول: {وجادلهم بالتي هي أحسن} وفهم من الآية أن من لا يستطيع المجادلة بالتي هي أحسن فلا يجادل، لأنه قد يأتي إنسان مؤمن حقا وليس عنده إشكال لما معه من الإيمان لكن يجادله ألد خصم فيعجز عن مقاومته ففي هذه الحال لا تجادل لأنك إن جادلت لن تجادل بالتي هي أحسن اتركه إلى وقت آخر أو إلى أن يأتي أحد أقوى منك في المجادلة فيجادله
700 - وعن أبي اليقظان عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته، مئنة فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا في الخطبة رواه مسلم مئنة بميم مفتوحة ثم همزة مكسورة ثم نون مشددة أي علامة دالة على فقهه
701 - وعن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله(4/77)
فرماني القوم بأبصارهم فقلت واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قلبه ولا بعده أحسن تعليما منه فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن أنبأنا وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله، إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام وإن منا رجالا يأتون الكهان؟ قال: فلا تأتهم قلت ومنا رجال يتطيرون؟ قال: ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف النووي رحمه الله تعالى في (باب الوعظ والاقتصاد فيه وعدم إدخال الملل والسآمة على الناس فيما يعظ به) وسبق الكلام عن الآية التي ذكرها المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الباب وهي قوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ثم ذكر المؤلف أحاديث منها: حديث عمار بن ياسر أن النبي(4/78)
صلى الله عليه وسلم قال: إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه يعني: صلاة الجمعة فصلاة الجمعة لها خطبتان قبلها: فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: وإن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه وهذا وإن كان ظاهرا في خطبة الجمعة فهو عام أيضا حتى في الخطب العارضة لا ينبغي للإنسان أن يطيل على الناس كلما قصر كان أحسن لوجهين الوجه الأول: ألا يمل الناس الوجه الثاني: أن يستوعبوا ما قال لأن الكلام إذا طال ضيع بعضه بعضا فإذا كان قصيرا مهضوما مستوعبا انتفع به وكذلك لا يلحقهم الملل وأما طول الصلاة فالمراد أن تكون كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ليست طويلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على معاذ إطالته في صلاة العشاء وأنكر على الرجل الآخر إطالته في صلاة الفجر وقال: أيها الناس إن منكم منفرين فالمراد بطول الصلاة هنا الطول الموفق لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا إذا كان الإنسان إماما أما إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء(4/79)
ولا أحد يمنعه لأنه يعامل نفسه بنفسه ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة أطيلوها كما ورد وأقصروا الخطبة لكن لابد من خطبة تثير المشاعر ويحصل بها الموعظة والانتفاع.
ثم ذكر المؤلف حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه أنه بينما كان مع النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إذ عطس رجل من القوم فقال الحمد لله فقال له معاوية يرحمك الله لأنك إذا سمعت العاطس يحمد الله بعد عطاسه وجب عليك أن تشمته فتقول يرحمك الله حتى ولو كنت تقرأ أو تطالع أو تراجع أما في الصلاة فلا يجوز لأن الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ولهذا أنكر الناس بأعينهم على معاوية فرموه بأبصارهم فقال واثكل أمياه ماذا صنعت؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم يسكتونه فسكت ومضى في صلاته فلما انصرف من الصلاة دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما أحسن تعليما منه لا قبله ولا بعده والله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني وإنما خاطبه بلطف وقال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن أو كما قال عليه الصلاة والسلام(4/80)
فهذه موعظة قصيرة مفيدة انتفع بها معاوية ونقلها إلى من بعده وفي هذا الحديث دليل على أنه لا بأس أن يلتفت المصلى أو ينظر إذا كان ذلك لمصلحة أو حاجة، وإلا فالأفضل أن يكون نظره إلى موضع سجوده وفي حال الجلوس يكون نظرة إلى موضع إشارته لأن الجالس في التشهد أو بين السجدتين يرفع إصبعه قليلا ويشير بها عند الدعاء، فيكون نظره إلى موضع إشارته، وأما في حال القيام والركوع فينظر إلى موضع سجوده وقال بعض العلماء ينظر تلقاء وجهه، والأمر في هذا واسع، إن شاء نظر إلى موضع سجوده، وإن شاء نظر تلقاء وجهه، لكن إذا حصلت حاجة والتفت فإن ذلك لا بأس به وفيه أيضا: أن العمل اليسير في الصلاة لا يضر لأن الصحابة جعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك، إلا أنه صلى الله عليه وسلم قال في حديث آخر: إذا نابكم شيء فليسبح الرجال ولتصفق النساء(4/81)
وفيه دليل: على أن الكلام في الصلاة لا يجوز وأنه مبطل لها، إلا إذا كان الإنسان جاهلا أو ناسيا أو غافلا، فمثلا لو أن أحدا سلم عليك وأنت تصلي أو دق الباب وأن تصلي فقلت غافلا ادخل أو قلت: وعليكم السلام ناسيا أو غافلا، فصلاتك صحيحة لأن الله لا يؤاخذ الإنسان بالجهل أو النسيان أو بالغفلة {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} ومن فوائد الحديث: حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يعلم بالرفق واللين وهذا هديه صلى الله عليه وسلم وهو أسوة أمته فالذي ينبغي للإنسان أن ينزل الناس منازلهم فالمعاند المكابر يخاطب بخطاب يليق به والجاهل الملتمس للعلم يخاطب بخطاب يليق به ومن فوائد هذا الحديث: أن الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين وإنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن أو كما قال عليه الصلاة والسلام، والصلاة كما نعلم فيها قراءة قرآن وفيها تكبير وفيها تسبيح وفيها دعاء وفيها تشهد وفي الحديث: الثناء على الوعظ إذا كانت عظته جيدة وليس عنده عنف وهذا يشجع أهل الوعظ على أن يلتزموا بهذه الطريقة التي التزم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/82)
وفي سياق حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه أنه قال: قلت: يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية وإن الله تعالى قد جاء بالإسلام قال هذا الكلام ليبين حاله من قبل وحاله من بعد وليتحدث بنعمة الله عليه حيث كانوا في جاهلية لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا إلا ما جرت به العادات بينهم وجاءنا الله بهذا الإسلام بالنور المبين والفرقان العظيم فبين الحق من الباطل وبين النافع من الضار وبين الإيمان من الكفر والتوحيد من الشرك إلى غير ذلك مما من الله به على هذه الأمة بالإسلام ثم قال رضي الله عنه وإن منا رجالا يأتون الكهان قال فلا تأتهم الكهان كانوا رجالا تنزل عليهم شياطين الجن بما يسمعون من خبر السماء ثم يحدثون الناس بما أخبرت به الشياطين ويضيفون إلى الخبر الحق أشياء كثيرة من الكذب فإذا صدقوا في واحد من مائة اتخذهم الناس حكاما ولهذا يأتون إليهم ويتحاكمون إليهم فالكاهن عبارة عن رجل يأتيه الشيطان يخبره بما سمع من خبر السماء ويضيف إلى هذا الخبر أشياء كثيرة من الكذب يأتيهم(4/83)
الناس فيسألونهم ما حالنا؟ ما مستقبلنا؟ يسألونهم عن أمور مستقبلة عامة أو خاصة فيخبرونهم بما وسمعوا من أخبار الشياطين قال النبي صلى الله عليه وسلم: فلا تأتهم كلمة واحدة لا تأت الكهان وهل تظن أن معاوية أو غيره من الصحابة إذا قال لهم الرسول عليه الصلاة والسلام لا تفعلوا أن يفعلوا؟ لا، لا نظن ذلك فإنهم ليسوا كحال كثير من الناس اليوم يكرر عليه النهي ولكنه لا ينتهي أو يتأول ويقول: النهي للكراهة أو النهي للأدب أو لخلاف الأولي أو ما أشبه ذلك ثم اعلم أن الكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل وإذا أتاه الإنسان فله ثلاث حالات: الحلة الأولى: أن يأتيه يسأله ولا يصدقه فثبت في صحيح مسلم أن من فعل هذا لا تقبل له صلاة أربعين يوما الحالة الثانية: أن يأتيه يسأله ويصدقه فهذا كافر لقوله صلى الله عليه وسلم: من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ووجه كفره أن تصديقه إياه يتضمن تكذيب قول الله جل وعلا: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ} لأن الكاهن(4/84)
يخبر عن الغيب في المستقبل فإذا صدقته فمضمونه أنك تكذب هذه الآية فيكون ذلك كفرا الحالة الثالثة: أن يسأل الكاهن ليكذبه وإنما يسأله اختبارا فهذا لا بأس به وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم ابن صياد عما أضمر له فقال له: الدخ يعني: الدخان فقال له النبي عليه الصلاة والسلام اخسأ فلن تعدو قدرك فإذا سأله ليفضحه ويكشف كذبه وحاله للناس فإن هذا لا بأس به بل إن هذا يكون محمودا مطلوبا لما في ذلك من إبطال الباطل ثم سأل معاوية رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤالا آخر قال ومنا رجال يتطيرون؟ قال: ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم والتطير: هو التشاؤم بالأشياء وكان العرب يتشاءمون أكثر ما يتشاءمون في الطيور فإذا طار يمينا فله حال وإن طار يسارا فله حال وإن اتجه أماما فله حال أو رجع فله حال حسب اصطلاحات العرب وخرافاتهم(4/85)
فكانوا يتطيرون فيجعلون الطيور هي التي تمضيهم أو تردهم إذا كان الطير مثلا عن اليسار قال هذا نذير سوء فلا أسافر إذا طار يمينا قال هذا سفر مبارك حيث اليمين من اليمن والبركة وهكذا اصطلاحات عندهم فكانوا يتشاءمون أكثر ما يتشاءمون في الطيور وربما تشاءموا من الأيام وربما تشاءموا من الشهور وربما تشاءموا فيما يصنعون من الأصوات وربما تشاءموا حتى من الأشخاص حتى إنه يوجد الآن أناس إذا خرج أحدهم من بيته ثم لاقاة شخص قبيح المنظر قال هذا اليوم سوء وتشاءم وإذا لقي رجلا جميل الوجه قال: هذا اليوم خير فتفاءل & فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هذا شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم والإنسان إذا ركن إلى التطير تنغصت عليه حاله وربما يصنع الجني ما يكره ليبقى دائما في غم وهم ولكن لا تشاءم وكان العرب يتشاءمون من شهر شوال في النكاح يقولون الذي يتزوج في شهر شوال لا يوفق في زواجه هكذا كانوا يقولون فكانت عائشة رضي الله عنها تقول: تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم في شوال عقد عليها(4/86)
في شوال ودخل بها في شوال فتقول أيكم أحظى إليه مني؟ لا شك أن عائشة أحب النساء إليه بعد أن تزوجها ومع ذلك عقد عليها في شوال ودخل عليها في شوال والعرب لجهلهم وسخافتهم يقولون: الذي يتزوج في شوال لا يوفق ونحن الآن نشاهد أناسا يتزوجون في شوال ولا يكون فيهم إلا الخير فالمهم أنه يجب عليك أن تمحو من قلبك التطير والتشاؤم وكن دائما متفائلا واجعل الدنيا أمامك واسعة واجعل الطريق أمامك دائما مفتوحا فإن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يكره الطيرة ويعجبه الفأل الحسن فاجعل نفسك دائما في تفاؤل والذي يريده الله سيكون لكن كن مسروا فرحا فالدنيا أمامك واسعة والطريق مفتوح ودائما كن في تفاؤل ودائما كن واسع الصدر فهذا هو الخير أما التشاؤم والانقباض وأن يجعل الإنسان باله في كل شيء فإن الدنيا ستضيق عليه(4/87)
فمن محاسن الإسلام أنه ألغى الطيرة وأثبت الفأل لأن الفأل خير والطيرة شر(4/88)
باب الوقار والسكينة
قال الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا}
703 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا قط ضاحكا حتى ترى منه لهواته وإنما كان يتبسم متفق عليه اللهوات جمع لهاة: وهي اللحمة التي في أقصى سقف الفم
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى (باب الوقار والسكينة) والوقار: هو هيئة يتصف بها العبد يكون وقورا بحيث إذا رآه من رآه يحترمه ويعظمه والسكينة هي عدم الحركة الكثيرة وعدم الطيش بل يكون ساكنا في قلبه وفي جوارحه وفي مقاله ولاشك أن هذين الوصفين الوقار والسكينة من خير الخصال(4/89)
التي يمن الله بها على العبد لأن ضد ذلك أن يكون الإنسان لا شخصية له ولا هيبة له وليس وقورا ذا هيبة بل هو مهين قد وضع نفسه ونزلها وكذلك السكينة ضدها أن يكون الإنسان كثير الحركات كثير التلفت لا يرى عليه أثر سكينة قلبه ولا قوله ولا فعله فإذا من الله على العبد بذلك فإنه ينال بذلك خلقين كريمين وضد ذلك أيضا العجلة أن يكون الإنسان عجولا لا يتحرى ولا يتأنى ليس له هم إلا القيل والقال اللذان نهى عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان ينهى عن القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال فإذا كان الإنسان ليس متأنيا ولا متثبتا في الأمور حصل منه زلل كثير وأصبح الناس لا يثقون في قوله وصار عند الناس من القوم الذين يرد حديثهم ولا ينتفع به ثم استشهد المؤلف بقول الله تبارك وتعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا(4/90)
{وعباد الرحمن} : الذين من الله عليهم بالرحمة ووفقهم للخير هم الذين يمشون على الأرض هونا يعني إذا رأيت أحدهم رأيت رجلا في مشيته وقار بدون أن يعجل عجلة تقبح {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} : يعني قالوا قولا يسلمون به من شرهم وليس المعنى أهم يلقون السلام، بل المعنى أنه إذا خاطبه الجاهل قال قولا يسلم به من شره، إما أن يدافعه بالتي هي أحسن، وإما أن يسكت إذا رأى السكوت خيرا المهم أنه يقول قولا يسلم به، لأن الجاهل أمره مشكل، إن خاصمته أو جادلته فربما يبدر منه كلام سيئ عليك، وربما يبدر منه كلام سيئ على ما تدعو إليه من الخير فيسب الدين وما أشبه ذلك والعياذ بالله فمن توفيق عباد الرحمن أنهم إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما يعني قالوا قولا يسلمون به ولا يحصل لهم به إثم، وكذلك من أوصافهم ما ذكره في آخر الآيات {والذين لا يشهدون الزور} يعني لا يشهدون القول الكذب ولا الفعل القبيح {وإذا مروا باللغو} أي: الذي ليس فيه خير ولا شر {مروا كراما} أي سالمين منه(4/91)
وذلك أن الأشياء إما خير وإما شر وإما لغو فالشر لا يشهدونه واللغو يسلمون منه ويمرون به كراما والخير يرتعون فيه ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستجمع قط ضاحكا تبدو منه لهواته يعني ليس يضحك ضحكا فاحشا بقهقهة يفتح فمه حتى تبدو لهاته ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يبتسم أو يضحك حتى تبدو نواجذه أو تبدو أنيابه وهذا من وقار النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا تجد الرجل كثير الكركرة الذي إذا ضحك قهقه وفتح فاه يكون هينا عند الناس وضيعا عندهم ليس له وقار وأما الذي يكثر التبسم في محله فإنه محبوبا تنشرح برؤيته الصدور وتطمئن به القلوب(4/92)
باب الندب إلى إتيان الصلاة والعلم ونحوهما من العبادات بالسكينة والوقار
قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}
704 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا متفق عليه زاد مسلم في رواية له: فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في الصلاة
705 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه دفع مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وراءه زجرا شديدا وضربا وصوتا للإبل فأشار بسوطه إليهم وقال: أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر(4/93)
ليس بالإيضاع رواه البخاري وروى مسلم بعضه البر: الطاعة والإيضاع بضاد معجمة قلبها ياء وهمزة مكسورة وهو الإسراع
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى (باب الندب إلى آتيان الصلاة والعلم ونحوهما من العبادات بالسكينة والوقار) الصلاة من المعلوم أنها آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين وهي من أعظم شعائر الله والإنسان إذا أقبل إلى الصلاة فإنما يقبل إلى الوقوف بين يدي الله عز وجل ومن المعلوم أن الإنسان إذا أتى إلى شخص من بني آدم يعظمه فإنه يأتي إليه بأدب وسكينة ووقار، فكيف إذا أتى ليقف بين يدي الله عز وجل؟ ولهذا ينبغي للإنسان أن تأتي إلى الصلاة في سكينة كما سيأتي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه ثم استدل المؤلف رحمه الله تعالى لهذا الباب بقوله تعالى: ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب(4/94)
الذي يعظم شعائر الله فيرى أنها عظيمة في قلبه ويقوم بما ينبغي لها من التعظيم بجوارحه فإن هذا من تقوى القلوب علامة على صلاح نيته وتقوى قلبه وإذا اتقى القلب اتقت الجوارح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب فعليك بتعظيم شعائر الله فإن ذلك تقوى لقلبك وأيضا يكون خيرا لك عند الله عز وجل: {ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه} ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون يعني إذا سمعتم الإقامة من خارج المسجد وهذا يدل على أن الإقامة تسمع من خارج المسجد وهو الظاهر وقد جاء في الحديث أن بلالا قال للنبي صلى الله عليه وسلم لا تسبقني بآمين مما يدل على أنه يقيم في مكان يسمعه الناس فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: ائتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة تمشون مشيا عاديا وعليكم السكينة(4/95)
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: وأنتم تمشون دليل على أنه يمشي مشيا معتادا وأنه لا يقارب الخطى كما استحبه بعض أهل العلم وأما قول النبي عليه الصلاة والسلام: لم يخط خطوة إلا رفع الله بها درجة يعني أنه يقارب الخطي لكن يمشي مشية المعتاد بدون إسراع فإذا أتى الإنسان على هذا الوجه فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا إلا أن أهل العلم قالوا إذا خشي فوات الركعة يعني فوات الركوع فلا باس أن يسرع قليلا سرعة لا تكون سرعة قبيحة فإنه لا بأس بذلك لا ينبغي أن تكون سرعة تقبح يكون لها جلبة وصوت يستفاد من هذا الحديث فوائد منها تعظيم شأن الصلاة وأن الإنسان ينبغي أن يأتي إليها بأدب وخشوع وسكينة ووقار ومنها: أنه لا بأس أن تسمع الإقامة من خارج المسجد وعلى هذا فإذا أقام المؤذن في مكبر الصوت ليسمع من كان خارج المسجد فلا بأس وإن كان بعض الناس قد اعترض على هذا إذا وقال إنه إذا أقام من(4/96)
خارج المسجد تكاسل الناس وصاروا لا يحضرون إلا إذا سمعوا الإقامة وربما تفوتهم الركعة الأولى أو يفوتهم أكثر حسب قربهم من المسجد أو بعدهم منه ولكن ما دام قد حدث مثله في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وأن الإقامة كانت تسمع من الخارج فإننا نرى أنه لا بأس بذلك لكن الشيء الذي يخشى منه الإثم ما يفعله بعض الناس فينقل الصلاة نفسها عبر مكبر الصوت من المنارة فإن هذا يشوش على من حوله لاسيما في صلاة الليل الجهرية يشوش على أصل البيوت ويشوش على المساجد القريبة حتى إننا سمعنا بعض الناس إذا سمع مكبر الصوت من مسجد قريب وكان الإمام حسن الصوت والقراءة صار المأموم الذي في هذا المسجد يتابع بقلبه الإمام في المسجد الثاني حتى سمعنا أن بعضهم أمن على قراءة إمام المسجد الثاني لما قال إمام المسجد الثاني {ولا الضالين} قال هؤلاء: آمين وهذا ليس ببعيد لأن القلب إذا انشغل بشيء أعرض عن غيره فإذا كانوا يتابعون قراءة المسجد المجاور وكانت قراءة الإمام جيدة في الصوت والأداء فإن القلب قد يلهى عن الإمام الذي بين يديه وقد ثبت في موطأ الإمام مالك رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة وأصحابه في المسجد يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال(4/97)
عليه الصلاة والسلام: إن المصلي يناجي ربه فلينظر بم يناجيه به ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن وعند أبي داود ألا كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة فجعل هذا أذية ونهى عنه والواقع شاهد بذلك ولهذا نرى أن الذين يفعلون هذا يؤدون الصلاة عبر مكبر الصوت نرى أنهم إذا كانوا يؤذون من حولهم فإنهم آثمون فإذا كان هذا العمل يكون فيه الإنسان إما آثما وإما سالما فلا شك أن تركه أولى وهو في الحقيقة لا فائدة منه لأن الإنسان لا يصلي إلى من هم خارج المسجد إنما يصلى لأهل المسجد أما الذين في الخارج فلا عليك منهم ثم إن هذا العمل فيه مفسدة أخرى وهي أن بعض الناس يتكاسل عن آتيان المسجد للصلاة ما دام أنه يسمع صوت قراءة الإمام فيتكاسل وكلما أراد أن يقوم ثبطه الشيطان وقال له انتظر الركعة الثانية: انتظر الثالثة، اجلس حتى لا يبقى إلا ركعة فيحرم بذلك من الخير لهذا نوصى إخواننا لاسيما الأئمة ألا يفعلوا هذا وأن تسلم ذممهم ويسلم إخوانهم من أذيتهم حتى في البيوت أيضا ربما بعض الناس يكون قد صلى ويجب أن ينام ويرتاح قد(4/98)
يكون مريضا فيزعجه هذا الصوت وقد يكون المسجد قريبا من السطوح في أيام القيظ وفيه الصبيان فيفزعهم صوت المكبر فالحاصل أن هذه المسالة ابتلى بها بعض الناس نسأل الله أن يعافينا وصاروا يؤذون من بجوارهم من المساجد أو البيوت في أمر لا فائدة منه ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا أن الإنسان يكبر تكبيرة الإحرام ثم يدخل مع الإمام على الحال التي فيها فإذا جئت والإمام راكع فكبر تكبيرة الإحرام وأنت معتدل ثم اركع وبذلك تدرك الركعة وإذا أتيت وهو قائم من الركوع فكبر وادخل معه واسجد معه ولا تحسب هذه الركعة لأن الإنسان إذا لم يدرك ركوع الإمام فاتته الركعة وإذا أتيت وهو ساجد فكبر للإحرام وأنت قائم ثم اسجد ولا تنتظر حتى يقوم وإذا أتيت وهو جالس فكبر وأنت قائم واجلس أي حال أدركت الإمام عليها فاصنع كما يصنع الإمام وإذا أتيت وهو في التشهد الأخير نظرت إن كان معك جماعة في مثل حالك فلا تدخل معه لأنك لا تدرك صلاة الجماعة بإدراك التشهد لا تدرك الجماعة إلا إذا أدركت ركعة كاملة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة(4/99)
وإذا لم يكن معك جماعة أولا يمكنك أن تدرك مسجدا آخر فادخل معه ولو في التشهد ولا تحسب هذا شيئا لأنه فاتك الركوع وفي قوله صلى الله عليه وسلم: فأتموا دليل على أن المسبوق إذا قام يقضي فإنه يقضى آخر صلاته لا أولها فإذا أدرك الركعتين الأخيرتين من الظهر مثلا وقام يقضي فإن الركعتين اللتين يقضيهما هما آخر صلاته فلا يزيد على الفاتحة لأن السنة في الركعتين الأخيرتين أن لا يزيد عن الفاتحة وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي ذكره المؤلف أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع من عرفة فسمع وراءه جلبة وضربا وزجرا للإبل وأصواتا للإبل لأنهم كانوا في الجاهلية إذا دفعوا من عرفة أسرعوا إسراعا عظيما يبادرون النهار قبل أن يظلم الجو فكانوا يضربون الإبل ضربا شديدا فأومأ النبي صلى الله عليه وسلم إليهم بسوطه وقال: أيها الناس عليكم بالسكينة يعني الطمأنينة والهدوء فإن البر ليس بالإيضاع يعني أن البر والخير ليس بالإيضاع أي ليس بالإسراع والإيضاع نوع من السير سريع ففي هذا دليل على أن الإنسان لا ينبغي له أن يسرع إذا تقدم إلى أماكن العبادة لأن الذين يدفعون من عرفة يتجهون إلى مزدلفة إلى عبادة(4/100)
وبهذا يتم المؤلف رحمه الله ما ترجم به من الندب إلى إتيان الصلاة ومجالس العلم وغيرها من العبادة بسكينة ووقار فإذا أتيت إلى مجالس العلم والخير فكن ساكنا وقورا مهيبا حتى لا يستهان بك أمام الناس ويكون تعظيمك لهذه المجالس من تعظيم الله عز وجل(4/101)
باب إكرام الضيف
قال الله تعالي: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون} وقال تعالى: {وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد قال المؤلف رحمه الله: (باب إكرام الضيف) والضيف: هو الذي ينزل بك مسافرا لأجل أن تتلقاه بالإيواء والطعام والشراب وما يحتج إليه والضيافة خلق فاضل قديم منذ عهد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام إن لم يكن قبل ذلك وسيذكر المؤلف إن شاء الله أحاديث متعددة حول إكرام الضيف وأن إكرامه من الإيمان بالله واليوم الآخر ولكنه رحمه الله كعادته يبدأ بالآيات الكريمة لأن القرآن مقدم على السنة فهو كلام الله والحديث كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلامهما حق(4/102)
يجب تصديقه إن كان خبرا وامتثاله إن كان طلبا فذكر قول الله تعالى:} هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين {هل أتاك؟ الاستفهام هنا للتشويق من أجل أن ينتبه المخاطب والخطاب في قوله:} هل أتاك {إما للرسول صلى الله عليه وسلم وإما له وللأمة أي لكل من يصح خطابه} هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما {وهؤلاء الضيف ملائكة أرسلهم الله عز وجل إلى إبراهيم ثم إلى لوط وقوله:} المكرمين {يعني الذين أكرمهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام:} إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام {قال العلماء إن قولهم سلاما يعني نسلم سلاما وإن قوله سلام يعني عليكم سلام والثانية أبلغ من الأولي لأن المشروع لمن حيى بتحية أن يحيى بأحسن منها أو بمثلها كما قال الله تعالى:} وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها {وإنما كانت الثانية أبلغ من الأولى لأن الأولى جملة فعلية والثانية جملة اسمية تفيد الثبوت والاستمرار ثم قال:} قوم منكرون {ولم يقل أنتم قوم لأن أنتم صريح في الخطاب وهذا قد يكون مستبشعا عند بعض الناس فكان من(4/103)
حسن معاملته لضيفه أن قال:} قوم منكرون {وقوم لو أخذناها هكذا لكان يمكن أن يكون التقدير هم قوم أو أنتم قوم أو هؤلاء قوم ليست في الصراحة كقوله أنتم قوم فلهذا حذف المبتدأ وصارت:} قوم منكرون {ومعنى كونهم منكرين أنه لا يعرفهم لأنه أول مرة يلتقي بهم} فراغ إلى أهله {وكان عليه السلام كريما ومعنى راغ: أي ذهب بسرعة وخفية} إلى أهله {أي إلى بيته} فجاء بعجل سمين {جاء بعجل، وهي صغار البقر، لأن لحمه خفيف ولذيذ وكونه سمينا يكون أحلى للحمه وأطيب، وفي الآية الأخرى أنه جاء بعجل حينئذ، أي محنوذ يعني مشوي لم يخرج من طعمه شيء وهذا ألذ ما يكون من اللحم} فقربه إليهم {ولم يضعه بعيدا عنهم فيقول: تقدموا إلى الطعام، ولكن هو الذي قربه لئلا يكون عليهم عناء ومشقة ومع ذلك لم يقل كلوا هكذا بصيغه الأمر ولكن قال:} ألا تأكلون {وهذا عرض وليس بأمر وهو أيضا من حسن معاملته لضيوفه ثم إن هؤلاء الضيوف ذهبوا إلى لوط بصورة شبان مرد ذوي جمال وفتنة وكان قوم لوط والعياذ بالله قد ابتلوا بداء اللواط وهو إتيان الذكر الذكر، فلما ذهبوا إلى لوط انطلق بعضهم إلى بعض(4/104)
يخبر بعضهم بعضا ويقولون جاء إلى لوط مردان شبان ذوو جمال فجاءوا} يهرعون إليه {أي يسرعون} ومن قبل كانوا يعملون السيئات {يعني كانوا يعملون الفاحشة وهي اللواط} قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي {قال بعض العلماء} هؤلاء بناتي {يشير إلى بنات القوم ما هن بناته من صلبه ولكنه يعني بذلك بنات قومه لأن النبي لقومه بمنزله الأب لهم كأنه يقول عندكم النساء وهذا كقوله في آية أخرى:} أَتَأْتُونَ الذِّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ {يعني من النساء} بل أنتم قوم عادون {المهم أنه عليه الصلاة والسلام قال لهم:} فاتقوا الله ولا تخزون {وقوله} وهؤلاء بناتي هن أطهر لكم {هذا من باب التفضيل الذي ليس في الجانب المفضل عليه منه شيء لأن إتيان الذكور ليس فيه طهارة كله خبث وخبائث كما قال تعالى:} ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث {لكن هن أطهر لكم لأن فروج النساء تحل بالعقد}(4/105)
فَاتَّقُوا اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ {ولكن لم يكن منهم رجل رشيد والعياذ بالله} قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ {يعني تعلم أننا نريد هؤلاء الشباب الذين جاءوا إليك} قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ {فقالت الرسل} يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ {ثم أرشدوه إلى أن يسري بأهله ويدع البلدة وفي سورة القمر قال تعالى:} كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِّنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ {قيل إن الملائكة صفقوهم على وجوههم فعميت أبصارهم وقيل إن الله أعمى أبصارهم في نفس الحال وعلى أي حال فإن قوله:} ولا تخزون في ضيفي {يدل على أن الضيوف كانوا مكرمين عند لوط كما هم مكرمون عنه إبراهيم عليه الصلاة والسلام والحاصل أنك إذا نزل بك ضيف فإنه يجب عليك أن تضيفه يوما وليلة ولكن لا تفعل كما يفعل السفهاء تذهب وتتكلف(4/106)
وتصنع وليمة كبيرة ترمى معظمها حتى إنا نسمع عن بعض الناس أنه إذا نزل به الضيف ذهب صاحب البيت من أجل أن يذبح له ذبيحة فيقول الضيف لا تذبح على الطلاق ما تذبح فيقول الثاني على الطلاق أن أذبح هذا غلط ومنكر فلا حاجة إلى اليمين في ذلك إما أن تذبح وإما أن لا تذبح وإذا اضطررت إلى اليمين فليس هناك حاجة إلى اليمين بالطلاق لأن الحلف بالطلاق أمره ليس بالهين فالأئمة الأربعة: مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وجمهور أتباعهم يرون أن الحلف بالطلاق طلاق إذا حنث فيه الإنسان يعني إذا قلت علي الطلاق ما تفعلين كذا ففعلت طلقت زوجتك ولو أردت اليمين هذا مذهب جمهور الأمة وجميع الأئمة المتبوعين من هذه الأمة إذا المسألة خطيرة وتهاون الناس بهذه المسألة غلط كبير ما أسرع أن يقول الإنسان على الطلاق أن أفعل على الطلاق ما أفعل أو امرأتي طالق إن فعلت أو امرأتي طالق إن لم أفعل وهذا غلط عظيم كيف تقول هذا الكلام وأكثر الأئمة يرون أنك إذا حنثت طلقت امرأتك}(4/107)
706 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت متفق عليه
707 - وعن أبى شريح خويلد بن عمرو الخزاعي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته قالوا وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يومه وليلته والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة متفق عليه وفي رواية لمسلم: لا يحل لمسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه قالوا يا رسول الله وكيف يؤثمه قال: يقيم عنده ولا شيء له يقريه به(4/108)
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله في باب الضيافة وإكرام الضيف الأحاديث التي تدل على إكرام الضيف وقراه ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه وهذا من باب الحث والإغراء على إكرام الضيف يعني أن إكرام الضيف من علامة الإيمان بالله واليوم الآخر ومن تمام الإيمان بالله واليوم الآخر وذلك أن الذي يكرم ضيفه يثيبه الله تعالى يوم القيامة وربما أثابه يوم القيامة وفي الدنيا، كما قال الله تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ فيثيبه الله في الدنيا بالخلف وفي الآخرة بالثواب ولهذا قال: من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليكرم ضيفه وإكرام الضيف يختلف بحسب أحوال الضيف فمن الناس من هو من أشراف القوم ووجهاء القوم فيكرم بما يليق به ومن الناس من هو من سقط القوم فيكرم بما يليق به ومنهم من هو دون ذلك فالمهم أن النبي عليه الصلاة والسلام أطلق الإكرام فيشمل كل الإكرام فمن الناس إذا نزل بك ضيفا لا يرضيه أن تأتي له بطعام عليه دجاجتان وما أشبه ذلك يحتاج إلى أن تأتي بطعام(4/109)
عليه ذبيحة ويكون من إكرامه أيضا أن تدعو جيرانك وما أشبه ذلك ومن الناس من هو دون ذلك المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقيد الإكرام بشيء بل أطلق فيكون راجعا إلى ما يعده الناس إكراما قال: ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه وفي حديث آخر فليكرم جاره فليصل رحمه الرحم هم الأقارب وكلما كان القريب إليك أقرب كان حقه أوجب فعلى المرء أن يصل رحمه ولم يبين النبي صلى الله عليه وسلم بماذا يصله؟ فيرجع أيضا إلى العرف فمن الأقارب من تصله بالزيارة والإكرام البدني ومن الأقارب من تصله بإعطاء المال لحاجته لذلك ومن الأقارب من تكرمه بالطعام والكسوة كل بحسب حاله المهم أكرم أقاربك بما يعد إكراما فمثلا إذا كان قريبك غنيا كريما فهذا لا يمكن أن ترسل إليه طبقا من طعام إنما تكرمه بالزيارة والكلام اللين وما أشبه ذلك أما إذا كان قريبك فقيرا فطبق الطعام أحب إليه من غيره فترسل له طبقا من الطعام أما إذا كان قريبك يحتاج إلى المال فلأفضل أن ترسل إليه المال وهلم جرا فكل إنسان يكرم بما يليق بحاله الثالث: قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو(4/110)
ليصمت ويا ليتنا نسير على ذلك في حياتنا من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت وقد يكون نفس الكلام خيرا وقد يكون الخير في المقصود منه فمثلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم مسالة من مسائل العلم والدين الكلام هنا خير في نفسه والكلام الآخر الذي ليس في نفسه خير من حيث هو لكن تتكلم به من أجل أن تدخل الإنس على مجالسك وأن تنشرح صدره هذا أيضا خير وإن كان نفس الكلام ليس مما يتقرب به إلى الله لكنه ليس إثما وتقصد بذلك أو توسع صدر جليسك وأن تدخل عليه الأنس والسرور فهذا أيضا من الخير وعلم من هذا أن من لم يقل الخير فإن إيمانه بالله واليوم الآخر يكون ناقصا فكيف بمن يقول الشر؟ وكيف بمن أصبح يأكل لحوم الناس والعياذ بالله ويسعى بينهم بالنميمة ويكذب ويغش؟ بل كيف من أصبح يؤلب على أهل العلم ويسب أهل العلم ويذمهم بأمرهم فيه أقرب إلى الصواب مما يظن؟ فإن هذا أعظم وأعظم لأن الكلام في أهل العلم ليس كالكلام في عامة الناس الكلام في عامة الناس ربما يجرح الرجل نفسه، لكن الكلام في أهل العلم جرح في العلماء وجرح فيما يحملونه من الشريعة، لأن(4/111)
الناس لن يثقوا بهم إذا كثر القول فيهم والخوض فيهم، ولهذا يجب عند كثرة الكلام وخوض الناس في أمر من الأمور أن يحرص الإنسان على كف لسانه، وعدم الكلام إلا فيما كانت مصلحته ظاهرة، حتى لو سئل فإنه يقول: نسأل الله الهداية، نسأل الله أن يهدي الجميع أما أن يتكلم ويطلق لسانه في أمور ليس لها أصل البتة فهذا من عدم الإيمان بالله واليوم الآخر ولا يكفر الإنسان بهذا لكن إيمانه يكون ناقصا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت وكما قيل: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب وقيل أيضا في الحكمة: الصمت حكمة وقليل فاعله وقيل أيضا من صمت نجا ومن تكلم فإنه على خطر فلذلك الزم الصمت في شيء ترى أنه خير فحينئذ تكلم فالخير مطلوب(4/112)
باب استحباب التبشير والتهنئة بالخير
قال الله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وقال تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} وقال تعالى: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} وقال تعالى: {فبشرناه بغلام حليم} وقال تعالى: {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى} وقال تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} وقال تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} وقال تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ} والآيات في الباب كثيرة معلومة
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (باب استحباب التبشير والتهنئة بالخير) والبشارة تكون في الأمور التي تسر وسميت بذلك لأن الإنسان كان إذا بشر بما يسره ظهر أثر ذلك في وجهه وفي بشرته وقد تكون البشارة(4/113)
فيما يسوء مثل قوله تعالى: فبشرهم بعذاب أليم والبشارة فيما يسر تكون فيما يسر في الآخرة، وفيما يسر في الدنيا، أما البشارة فيما يسر في الآخرة فكثيرة، ذكرها الله في القرآن في مواضع كثيرة مثل قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ} وقوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ} وقوله: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} وقال الله تعالى: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} هذا كله فيما يتعلق بأمور الآخرة ومن الأمور التي تبشر بالخير في أمور الآخرة: الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له، مثل أن يرى إنسان رؤيا فيقال له في المنام مثلا: بشر فلانا بأنه من أهل الجنة فبشره هذه بشرى كذلك أيضا الإنسان إذا رأى من نفسه أنه ينقاد للخير والعمل الصالح ويرغب فيه ويحبه وأنه يكره الشر فهذه أيضا بشرى لأن الله تعالى قال: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} وأما البشارة فيما يتعلق بأمر الدنيا فمثل قوله تعالى عن إبراهيم(4/114)
الخليل: {إنا نبشرك بغلام عليم} وفي آية أخرى: {فبشرناه بغلام حليم} والذي بشر به في الآية الأولى غير الذي بشر به في الآية الثانية التي فيها: إنا نبشرك بغلام عليم هذا إسحاق والتي فيها: فبشرناه بغلام حليم، هذا إسماعيل، عليهما السلام إسحاق أبو بني إسرائيل لأن ابنه يعقوب ويعقوب هو إسرائيل الذي من ذريته موسى وعيسى عليهم السلام وأكثر الأنبياء المذكورين في القرآن كلهم من ذرية إسرائيل أما التي ذكر الله فيها فبشرناه بغلام حليم وهي التي في سورة الصافات فهذا إسماعيل أبو العرب وليس في ذريته رسول إلا رسول واحد ولكنه ختم جميع الرسالات وبعث إلى الناس كافة من بعثته إلى يوم القيامة وغيره من الأنبياء كان يبعث إلى قومه خاصة هذا الرسول الذي من بني إسماعيل هو محمد صلوات الله وسلامه عليه وكذلك قال الله تعالى عن امرأة إبراهيم: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} هذا أيضا بشارة للأنثى فالحاصل أن البشارة تكون في أمور الآخرة وفي أمور الدنيا وينبغي للإنسان أن يكون متفائلا مستبشرا بالخير، وألا يرى الدنيا(4/115)
أمامه كالحة مظلمة فيستحسر ويقنط وينبغي للإنسان أيضا إذا حصل له خير أن يهنئ به وأن يبشر به إذا كان مستقبلا يهنئ به بالخير إذا وقع ويبشر بالخير في المستقبل بشر أخاك السرور عليه حتى لو رأيت مثلا إنسانا مغتما قد ضاقت عليه الدنيا وتكالبت عليه الأمور فقل له أبشر: بالفرج لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسر هذا كلام الرسول عليه الصلاة والسلام ما ينطق عن الهوى فإذا رأيت أخاك مكروبا فقل له أبشر فالفرج قريب وإذا رايته في عسر فقل له اليسر القريب وكما قال ابن عباس رضي الله عنهما: لن يغلب عسر يسرين في سورة ألم نشرح لك صدرك {فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا} العسر ذكر مرتين واليسر ذكر مرتين لكن حقيقة الأمر أن العسر لم يذكر إلا مرة واحدة واليسر ذكر مرتين لماذا؟ قال العلماء إذا تكررت الكلمة معرفة بأل فهي واحدة وإذا تكررت غير معرفة بأل فهي اثنان العسر كرر مرتين لكن بأل فيكون العسر الثاني هو الأول اليسر كرر مرتين لكن بدون أل فيكون اليسر الثاني غير اليسر الأول(4/116)
ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما لن يغلب عسر يسرين يقال إن الحجاج بن يوسف الثقفي وهو رجل معروف نسأل الله أن يعفو عنه رجل ظالم يقتل الناس بغير حق تكلم عنده أحد الناس وقال له كلمة استنكرها الحجاج وكان الحجاج جيدا في اللغة العربية فهو الذي شكل القرآن وهذه من حسناته وإن كان له سيئات كثيرة قال له الحجاج ليس هذا في اللغة العربية فعلة ما تأتي في اللغة العربية قال هكذا سمعت من الأعراب وكان يأخذون اللغة من الأعراب لأن الأعراب في البادية ليسوا في المدن والمدن دخل فيها الفرس والروم الذين أسلموا فتغير اللسان فقال الحجاج: اذهب عند الأعراب وائتني بشاهد من كلام العرب ما يدل على أن فعلة موجودة في اللغة العربية ولك كذا وكذا يوم فإن لم تأتني فأنا أضرب عنقك ذهب الرجل مكروبا والحجاج ينفذ ما يقول وذهب يطلب من الأعراب فسمع أعرابيا يقول(4/117)
ربما تكره النفوس من الأمر ... له فرجة كحل العقال
ففرج بها فرحا عظيما وجاء بها إلى الحجاج فبينما هو في الطريق قيل له إن الحجاج قد مات فقال والله ما أدري هل أنا أشد فرحا بهذه الكلمة التي وجدتها عند الأعرابي أو بموت هذا الرجل فالحاصل أن الإنسان ينبغي له أن يدخل السرور والبشرى على إخوانه حتى يفرحوا وينشطوا ويؤملوا وينتظروا الفرج نسأل الله أن يجعلنا والمسلمين ممن له البشرى في الحياة الدنيا والآخرة
708 - عن أبي إبراهيم ويقال أبو محمد ويقال أبو معاوية عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر خديجة رضي الله عنها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب متفق عليه القصب هنا: اللؤلؤ المجوف والصخب: الصياح، واللغط والنصب: التعب(4/118)
709 - وعن أبي موسى الشعري رضي الله عنه أنه توضأ في بيته ثم خرج فقال لألزمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأكونن معه يومي هذا فجاء المسجد، فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا وجه هاهنا قال فخرجت على آثره أسأل عنه حتى دخل بئر أريس فجلست عند الباب حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته وتوضأ فقمت إليه فإذا هو قد جلس على بئر أريس وتوسط قفها وكشف عن ساقه ودلاهما في البئر فسلمت عليه ثم انصرفت فجلست عند الباب فقلت لأكونن بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم فجاء أبو بكر رضي الله عنه فدفع الباب فقلت من هذا؟ فقال: أبو بكر فقلت: على رسلك ثم ذهبت فقلت يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة فأقبلت حتى قلت لأبي بكر ادخل ورسول الله يبشرك بالجنة فدخل أبو بكر حتى جلس عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم معه في القف ودلى رجليه في البئر كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكشف عن ساقيه ثم رجعت وجلست وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني فقلت إن يرد بفلان يريد أخاه خيرا يأت به فإذا إنسان يحرك الباب فقلت: من هذا؟ فقال عمر بن الخطاب فقلت: على رسلك ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه وقلت: هذا عمر يستأذن؟ فقال: ائذن له وبشره بالجنة فجئت عمر فقلت: أذن أدخل ويبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة فدخل فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في(4/119)
القف عن يساره ودلى رجليه في البئر ثم رجعت فجلست فقلت إن يرد الله بفلان خيرا يعني أخاه يأت به فجاء إنسان فحرك الباب فقلت من هذا؟ فقال عثمان بن عفان فقلت: على رسلك وجئت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: ائذن له وبشره بالجنة مع بلوي تصيبه فجئت فقلت ادخل ويبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة مع بلوى تصيبك فدخل فجد القف قد ملئ فجلس وجاههم من الشق الآخر قال سعيد بن المسيب: فأولتها قبورهم.
متفق عليه وزاد في رواية وأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ الباب وفيها: أن عثمان حين بشره حمد الله تعالى ثم قال: الله المستعان.
قوله: وجه بفتح الواو وتشديد الجيم، أي: توجه وقوله: بئر أريس هو بفتح الهمزة وكسر الراء وبعدها ياء مثناه من تحت ساكنة ثم سين مهملة وهو مصروف ومنهم من منع صرفه القفبضم القاف وتشديد الفاء: هو المبني حول البئر قوله على رسلك بكسر الراء على المشهور وقيل بفتحها أي: ارفق
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله في باب استحباب التبشير بالخير(4/120)
والتهنئة به آيات سبق الكلام عليها، وبينا أن البشارة قد تكون بخير في الدنيا وقد تكون في الآخرة ثم ذكر حديثين حديث أبي إبراهيم عبد الله بن أبي أوفي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر خديجة رضي الله عنها ببيت في الجنة وكذلك حديث أبي موسى الأشعري وسيأتي إن شاء الله فقد بشر صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنه ببيت في الجنة من قصب ليس فيه صخب ولا نصب ولكن القصب الذي بني منه قصر خديجة في الجنة ليس كالقصب الذي في الدنيا الاسم هو الاسم والحقيقة غير الحقيقة كما أنه في الجنة نخل ورمان وفاكهة ولحم طير وغير ذلك لكن التشابه في الاسم فقط فالاسم هة الاسم والحقيقة غير الحقيقة وهذا باب يجب على الإنسان أن يتفطن له فإن أمور الغيب التي لها نظير في الدنيا لا تماثل نظيرها في الآخرة فمثلا في صفات الله عز وجل، لله عز وجل وجه كريم، موصوف بالجلال والإكرام، ونحن أيضا لنا وجه، الأمر لا يختلف في الاسم لكن قال تعالى: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فوجهه يليق بجلاله وعظمته ولا يمكن الإحاطة به لا وصفا ولا تصورا في الذهن ولا نطفا باللسان فهو أعظم وأجل من أن تحيط به الأوصاف وهكذا بقية صفاته عز وجل(4/121)
اسمها يوافق الاسم الذي نتصف به ولكن الحقيقة غير الحقيقة كذلك أيضا الجنة فيها عسل وماء وخمر ولحم ونساء وفاكهة ورمان وغير ذلك لكن ليست كالذي في الدنيا لأن الله سبحانه وتعالى قال في القرآن الكريم: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} ول كانت مثل ما في الدنيا لكنا نعلمها لكنها ليست مثلها ولا قريبا منها وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله أنه قال أعدت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذان سمعت ولا خطر على قلب بشر نسأل الله أن يجعلنا والمسلمين ممن أعد الله لهم ذلك فخديجة رضي الله عنها بشرها النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل هو الذي أخبر الرسول الله صلى الله عليه وسلم بشرها ببيت في الجنة من قصب ولكن ليس القصب الذي في الجنة مثل القصب الذي في الدنيا ثم قال: ليس فيه صخب ولا نصب والصخب: أي الأصوات المزعجة الشديدة أهل الجنة كلهم أهل ليس عندهم(4/122)
صخب ولا نصب ولا كلام لغو كما قال تعالى: {لا لغو فيها ولا تأثيم} {تحيتهم فيها سلام} فكلامهم طيب لأنهم جوار الطيب جل وعلا فهم طيبون في جنات عدن مساكن طيبة عند الطيب جل وعلا كما أن قلوبهم في الدنيا طيبة وأفعالهم طيبة لأن الله لا يقبل إلا الطيب وأفعالهم مقبولة فهم كذلك في الآخرة فقصر خديجة ليس فيه صخب وليس فيه نصب، وليس فيه تعب، لا يحتاج إلى كنس القمامة ولا غيره بل كله طيب وهذه بشارة لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وأم المؤمنين خديجة هي أول امرأة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو صلى الله عليه وسلم ابن خمس وعشرين سنة ولها أربعون سنة من زوج سابق قبله وولدت له بناته الأربع وأولاده الثلاثة أو الاثنان ولم يتزوج عليها أحدا حتى ماتت رضي الله عنها وكانت امرأة عاقلة ذكية حكيمة لها مآثر طيبة معروفة يجدها من يراجع ترجمتها في كتب التاريخ وكانت تسامى عائشة رضي الله عنها يعني أنها هي عائشة أفضل نساء الرسول عليه الصلاة والسلام وأحب نسائه إليه واختلف العلماء أيهما أفضل فقيل: عائشة وقيل: خديجة(4/123)
والصحيح أن لكل واحدة منهما مزية تختص بها، لا تشاركها فيها الأخرى فلعائشة رضي الله عنها في آخر الرسالة وبعد موت الرسول عليه الصلاة والسلام من نشر الرسالة والعلم والشريعة ما ليس لخديجة وخديجة لها في أول الرسالة ومناصرة الني صلى الله عليه وسلم ومعاضدته ما ليس لعائشة فلكل واحدة منهما مزية أما الفضيلة الكبرى فكفى لهما فخرا أنهما أحب نساء النبي صلى الله عليه وسلم إليه ويكفى هذا وأما الفضائل فكل واحدة لها فضيلة(4/124)
ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه في يوم من الأيام توضأ في بيته وخرج يطلب النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: لألزمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومي هذا ألزمن عني أكون معه ذاهبا وآتيا وفي هذا: دليل على أن الإنسان ينبغي إذا خرج من بيته أن يكون متوضئا لأجل أن يكون مستعدا للصلاة وهو خارج البيت فإذا جاء وقت الصلاة وهو في مكان لا يوجد فيه ماء كان على طهارة وصلي وإذا حضرت جنازة صلى عليها وهو خارج البيت أو على الأقل يكون على طهر، لأن كون الإنسان على طهور أفضل من أن يكون على غير طهر وربما أيضا يحصل له الموت في هذا الوقت فيكون على طهر فالإنسان يحرص ما استطاع أن يكون على طهر لا سيما إذا خرج من بيته فخرج رضي الله عنه يطلب النبي صلى الله عليه وسلم فأتى المسجد لأن الرسول عليه الصلاة والسلام إما في المسجد وإما في بيته في مهنة أهله وإما في مصالح أصحابه عليه الصلاة والسلام فلم يجده في المسجد فسأل عنه فقالوا وجه هاهنا وأشاروا إلى ناحية أريس وهي بئر(4/126)
حول قباء فخرج أبو موسى في إثره حتى وصل إلى البئر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم هنالك فلزم الباب رضي الله عنه فقضى النبي صلى الله عليه وسلم حاجته وتوضأ ثم جلس على قف البئر يعني على حافته ودلى رجليه وكشف عن ساقيه والظاهر والله أعلم أنه كان في ذلك الوقت في حر وهذا البئر فيه ماء والماء قريب وحوله الأشجار والنخل والظلال وعادة أن الإنسان إذا حصل له مثل ذلك فعل مثل هذا الفعل فيكشف عن ساقيه ليبرد جسمه وتأتيه من برودة الماء الذي في البئر وفي هذا الظل فجلس عليه الصلاة والسلام متوسطا للقف أي حافة البئر ودلى رجليه وكشف عن ساقيه وكان أبو موسى على الباب يحفظ باب البئر فاستأذن أبو بكر رضي الله عنه لكنه لم يأذن له أبو موسى حتى يستشير النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا أبو بكر يستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة فأذن له وقال له يبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ويا لها من بشارة يبشره بالجنة ثم يأذن له أن يدخل ليكون مع الرسول صلى الله عليه وسلم فدخل ووجد النبي صلى الله عليه وسلم متوسطا القف فجلس عن يمينه لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن في كل شيء فجلس أبو بكر عن يمينه(4/127)
وضع مثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم دلى رجليه في البئر وكشف عن ساقيه كراهة أن يخالف النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الجلسة وإلا فليس من المشروع أن يجلس الإنسان على بئر ويدلي رجليه ويكشف عن ساقيه لكنه لا يجب أن يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم على غير الهيئة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس عليها فقال أبو موسى وكان قد ترك أخاه يتوضأ ويلحقه إن يرد الله به خيرا يأت به وإذا جاءا واستأذن فقد حصل له أن يبشر بالحنة ولكن استأذن الرجل الثاني فجاء أبو موسى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال هذا عمر قال: ائذن له وبشره بالجنة فأذن له وقال له يبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة فدخل فوجد النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر على القف فجلس عن يسار الرسول عليه الصلاة والسلام والبئر ضيقة ليست واسعة كثرا فهؤلاء الثلاثة كانوا في جانب واحد ثم استأذن عثمان وصنع أبو موسى مثل ما صنع من الاستئذان فقال النبي صلى الله عليه وسلم ائذن له وبشره بالجنة مع بلوى تصيبه فأذن له وقال يبشرك الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة مع بلوى تصيبك فاجتمع في حقه نعمة وبلوى فدخل(4/128)
فوجد القف قد امتلأ لأنه ليس واسعا كثيرا فذهب إلى الناحية الأخرى تجاههم وجلس فيها ودلى رجليه وكشف عن ساقيه أولها سعيد بن المسيب أحد كبار التابعين على أنها قبور هؤلاء لأن قبور الثلاثة كانت في مكان واحد فالنبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر كلهم كانوا في حجرة واحدة دفنوا جميعا في مكان واحد وكانوا في الدنيا يذهبون جميعا ويرجعون جميعا ودائما يقول النبي صلى الله عليه وسلم ذهبت أنا وأبو بكر وعمر وجئت أنا وأبو بكر وعمر فهما صاحباه ووزيراه ويم القيامة يخرجون من قبورهم جميعا فجلس عثمان رضي الله عنه تجاههم وبشره صلى الله عليه وسلم بالجنة مع بلوى تصيبه وهذه البلوى هي ما حصل له رضي الله عنه من اختلاف الناس عليه وخروجهم عليه وقتلهم إياه في بيته رضي الله عنه حيث دخلوا عليه في بيته وقتلوه وهو يقرا القرآن وكتاب الله بين يديه ويذكر بعد المؤرخين أن قطرة من الدم نزلت على قوله تعالى {فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} والله أعلم لكن على كل حال هو رضي الله عنه كان معروفا بكثرة(4/129)
القراءة والتهجد فدخل عيه أولئك المعتدون الظالمون فقتلوه فقتل شهيدا وبذلك تحقق قول الرسول عليه الصلاة والسلام حينما صعد على جبل أحد وهو جبل معروف كبير في المدينة هو وأبو بكر وعمر وعثمان وارتج بهم الجبل وهذا من آيات الله ليس هو ارتجاج نقمة وخسف لكنه ارتجاج فرح فلما ارتج بهم الجبل قال له النبي صلى الله عليه وسلم اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان فالنبي هو عليه الصلاة والسلام والصديق أبو بكر، والشهيدان: عمر وعثمان وكلاهما رضي الله عنهما قتل شهيدا أما عمر فقتل وهو متقدم لصلاة الفجر بالمسلمين قتل في المحراب وأما عثمان فقتل وهو يتجهد في بيته في صلاة الليل فرضى الله عنهما وألحقنا وصالح المسلمين بهما في دار النعيم المقيم فهذه القصة فيها بشارة لأبي بكر وعمر وعثمان ولذلك ذكرها المصنف رحمه الله في هذا الباب فرضى اله عنهم جميعا وجعلنا والمسلمين ممن يحشرون في زمرة محمد صلى الله عليه وسلم(4/130)
710 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا قعودا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو بكر وعمر رضي الله عنه في نفر فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع دوننا وفزعنا فقمنا فكنت أول من فزع فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت حائطا للأنصار لبني النجار فدرت به هل أجد له بابا فلم أجد فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجه والربيع الجدول الصغير فاحتفرت فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبو هريرة؟ فقلت نعم يا رسول الله قال ما شأنك قلت كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا فخشينا أن تقتطع دوننا ففزعنا فكنت أول من فزع فأتيت هذا الحائط فاحتفرت كما يحتفر الثعلب وهؤلاء الناس ورائي قال: يا أبا هريرة وأعطاني نعليه فقال اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة وذكر الحديث بطوله رواه مسلم الربيع النهر الصغير وهو الجدول بفتح الجيم كما فسره في الحديث وقوله: احتفزت روى بالراء وبالزاي ومعناه بالزاي تضامنت وتصاغرت حتى أمكنني الدخول(4/131)
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث الذي نقله المؤلف في باب التبشير والتهنئة بالخير فيه أيضا البشارة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالسا في أصحابه في نفر منهم ومعه أبو بكر وعمر فقام النبي صلى الله عليه وسلم ثم أبطأ عليهم فخشوا أن يكون أحد من الناس اقتطعه دونهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم مطلوب من جهة المنافقين ومن جهة غيرهم من أعداء الدين فقام الصحابة رضي الله عنهم فزعين فكان أول من فزع أبو هريرة رضي الله عنه حتى أتى حائطا لبني النجار فجعل يطوف به لعله يجد بابا فلم يجد ولعله أراد بابا مفتوحا فلم يجد لأنه من المعلوم أن الحيطان لابد أن يكون لها أبواب ولكن لعله أن يكون وجد بابا مغلقا ولكنه وجد فتحة صغيرة في الجدار فضم جسمه حتى دخل فوجد النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أبو هريرة قال نعم فأعطاه نعليه عليه الصلاة والسلام وقال له اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا به قلبه فبشره بالجنة فخرج أبو هريرة رضي الله عنه ومعه نعلا رسول الله(4/132)
صلى الله عليه وسلم وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه النعلين أمارة وعلامة أنه صادق لأن هذه بشارة عظيمة أن من شهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه دخل الجنة لأن الذي يقول هذه الكلمة مستيقنا بها قلبه لابد أن يقوم بأوامر الله ويجتنب نواهي الله لأنه يقول لا معبود بحق إلا الله وإذا كان تلك الكلمة العظيمة فإنه لابد أن يعبد الله عز وجل وحده لا شريك له أما من قالها بلسانه ولم يوقن بها قلبه والعياذ بالله فإنها لا تنفعه فهاهم المنافقون يشهدون أن لا إله إلا الله لكنهم لا يذكرون الله إلا قليلا ويقومون ويصلون لكنهم يصلون صلاة المنافقين فالصلاة ثقيلة عليهم وأثقلها صلاة العشاء والفجر ويأتون للرسول عليه الصلاة والسلام يقولون نشهد إنك لرسول الله ويؤكدون هذا ولكن الله يقول: وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ لم تستقين قلوبهم بلا إله إلا الله ولا بمحمد رسول الله ولهذا لم تنفعهم أما من استيقن بها قلبه هو الذي يبشر بذلك ولكن لا يمكن أن يوجد إنسان صادق يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويترك الفرائض ولهذا لا يكون هذا الحديث دليلا على أن تارك الصلاة لا يكفر لا ليس فيه دلالة لأن تارك الصلاة(4/133)
يكفر ولو قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لأنه يقولها من غير يقين: إذ كيف يقولها من يقين ويترك الصلاة ويحافظ على تركها والعياذ بالله؟ ولكن قد يرد على القلب وساوس من الشيطان في الله عز وجل وهذه الوساوس لا تضر المؤمن شيئا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذا صريح الإيمان ليس معنى ذلك أن الوساوس نفسها صريح الإيمان لكن الوساوس دليل على خالص الإيمان لأن الشيطان يأتي إلى القلب الخالص الصريح الخالي من الشك ويوقع عليه الوساوس لعله يشك أو لعله يفسد إيمانه فيأتي الشيطان إلى القلب العامر بالإيمان فإذا دافعه الإنسان وقال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وأخذ الله عز وجل ويمجده وأعرض عن هذا الوساوس زالت عنه والشيطان لا يأتي إلى قلب خراب ليفسده لأن القلب الخراب خراب ويذكر أن ابن مسعود أو ابن عباس رضي الله عنهما جاء إليه(4/134)
ناس يقولون نحن لا نوسوس في الصلاة فقال ابن عباس أو ابن مسعود وما يصنع الشيطان بقلب خراب؟ معنى هذا أن قلوبهم خربة والقلوب الخربة لا يأتي الشيطان لها لأنها انتهت إلى ما يريده الشيطان إنما يأتي الشيطان للقلوب السليمة المخلصة من أجل أن يلقى عليها الوساوس والشكوك فدع عنك هذه الوساوس والشكوك والتجئ إلى ربك وقل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد هو الأول والآخر والظاهر والباطن فسيزول عنك ذلك بإذن الله ففي هذا الحديث بشارة بالخير وهو أن من شهد أن لا إله إلا الله موقنا بها قلبه فليبشر بالجنة
711 - وعن ابن شماسة قال: حضرنا عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو في سياقة الموت فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار فجعل ابنه يقول يا أبتاه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ فأقبل بوجهه فقال إن أفضل ما نعد شهادة لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إني قد كنت على(4/135)
أطباق ثلاث لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني ولا أحب إلي من أن أكون قد استمكنت منه فقتله فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت ابسط يمينك فلأبايعك فبسط يمينه فقبضت يدي فقال مالك يا عمرو؟ قلت: أردت أن أشترط قال: تشترط ماذا؟ قلت أن يغفر لي قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ وما كان أحد أحب إلى من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أن املأ عيني منه إجلالا به ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها؟ فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شنا ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر ما أرجع به رسل ربي رواه مسلم قوله: شنوا روي بالشين المعجمة وبالمهملة أي: صبوة قليلا قليلا والله سبحانه أعلم(4/136)
[الشَّرْحُ]
ثم ذكر المؤلف رحمه الله في سياق الأحاديث الواردة في التبشير والتهنئة بالخير حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه تلك القصة العظيمة أنه حضره بعض أصحابه وهو في سياق الموت فبكى بكاء شديدا وحول وجهه نحو الجدار رضي الله عنه وهو في سياق الموت سيفارق الدنيا فقال له ابنه: علام تبكى وقد بشرك النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة؟ فقال: يا بني إني كنت على أطباق ثلاث، أطباق يعني أحوال ومنه قوله تعالى: لتركبن طبقا عن طبق يعني حالا بعد حال ثم ذكر هذه الأطباق الثلاث أنه كان يبغض النبي صلى الله عليه وسلم بغضا شديدا وأنه لم يكن على وجه الأرض أحد يبغضه كما كان يبغضه هو وأنه يود أنه لو تمكن منه فقتله وهذا أشد ما يكون من الكفر حتى ألقى الله الإسلام في قلبه فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: ابسط يدك فلأبايعك على الإسلام وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا فمد يده ولكن عمرو بن العاص كف يده، ليس استكبارا ولكن استثباتا لما سيذكره فقال له: مالك قال: يا رسول الله إني أشترط يعني على الإسلام قال: ماذا تشترط أن يغفر لي(4/137)
هذا أكبر همه رضي الله عنه يشترط أن الله يغفر له ظن أن الله لن يغفر له لما كان له من سابقه في محاربة الدين فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قلبه وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله ثلاثة أشياء أما الإسلام فإنه يهدم ما كان قبله بنص الكتاب العزيز قال الله عز وجل: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأوَّلِينَ} والهجرة: إذا هاجر الإنسان من بلده التي يعيش فيها وهي بلد كفر هدمت ما قبلها والحج يهدم ما قبله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه فبايع رضي الله عنه وأحب النبي صلى الله عليه وسلم حبا شديدا حتى كان أحب الناس إليه وحتى أنه لا يستطيع أن يحد النظر فيه جلالا له عليه الصلاة والسلام سبحان مقلب القلوب بالأمس كان يبغضه بغضا شديدا حتى يتمنى أنه يقدر عليه فيقتله والآن ما يستطيع أن يرفع طرفه إليه إجلالا له ولا يستطيع أن يصفه لأنه لا يحيط به(4/138)
حيث إنه لم يدركه إدراكا جيدا مهابة له صلى الله عليه وسلم يقول رضي الله عنه إنه لو مات على الطبق الأول لكان من أهل النار يقول ولو مت على تلك الحال يعني الطبق الثاني لرجوت أن أكون من أهل الجنة انظر الاحتياط فقد جزم أنه لو مات على الحال الأولى لكان من أهل النار أما الحال الثانية فإنه لشدة خوفه قال لو مت على هذا الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة ولم يقل لكنت من أهل الجنة لأن الشهادة بالجنة أمرها صعب نسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهلها ثم إنه بعد ذلك تولى أمورا رضي الله عنه تولى إمارات وقيادات وحصل ما حصل في قصة حرب معاوية وغيره وكان عمرو بن العاص معروفا أنه من أدهى العرب وأذكى العرب فيقول أخشى من هذا الذي حدث به بعد الطبق الأوسط أن يكون أحاط بعمله ثم أوصى رضي الله عنه أنه إذا مات لا تتبعه نائحة والنائحة هي المرأة التي تنوح على الميت وتبكي عليه بكاء يشبه نوح الحمام وأمر رضي الله عنه إذا دفنوه أن يبقوا عند قبره قدر ما تنحر جذور ويقسم لحمها حتى يراجع رسل ربه وهم الملائكة الذين يأتون إلى الميت إذا دفن إذا دفن الميت فإنه يأتيه ملكان ويجلسانه(4/139)
في قبره ويسألانه ثلاثة أسئلة يقولان من ربك وما دينك ومن نبيك أما المؤمن الذي ثبته الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة جعلنا الله منهم بمنه وكرمه فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمدا صلى الله عليه وسلم يثبته الله في هذا المقام الضنك أما المنافق والعياذ بالله أو المرتاب الذي عنده الشك فيقول هاها لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته لأن الإيمان ما دخل إلى قلبه ولا وقر في قلبه فهو يسمع ويقول لكن نسأل الله العافية لم يلج الإيمان قلبه فيضرب بمرزبة والمرزبة هي المطرقة العظيمة من الحديد يضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ولو سمعها الإنسان لصعق ولو يسمع الناس من يعذب في قبره لصعقوا لأنه يصيح صيحة لا نظير لها في الدنيا لأن الصياح في الدنيا مهما كان لا يموت منه أحد لكن هذه صيحة عظيمة ليس لها نظير فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق فأمر عمرو بن العاص رضي الله عنه أهله أن يقيموا عليه قدر ما(4/140)
تنحر الجزور ويقسم لحمها ليستأنس بهم وهذا يدل على أن الميت يحس بأهله وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا من دفنه قرع النعال الخفي يسمعه الميت إذا انصرفوا من دفنه وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حسن أنه كان إذا دفن الميت وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل فيستحب إذا دفن الميت أن يقف الإنسان على قبره ويقول: اللهم ثبته، اللهم ثبته، اللهم ثبته، اللهم اغفر له اللهم اغفر له اللهم اغفر له لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم سلم ثلاثا وإذا دعا ثلاثا نسأل الله تعالى أن تثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة المهم أن ابن عمرو بن العاص قال له: بشرك النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وهذا من باب البشارة بالخير والتهنئة به(4/141)
باب وداع الصاحب ووصيته عند فراقه لسفر وغيره والدعاء له وطلب الدعاء منه
قال الله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون &} وأما الأحاديث
712 - فمنها حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه الذي سبق في باب إكرام أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيبا فحمد الله واثني عليه ووعظ وذكر ثم قال: أما بعد ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي رواه مسلم وقد سبق بطوله(4/142)
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله تعالى: (باب وداع الصاحب ووصيته عند فراقه لسفر وغيره والدعاء له وطلب الدعاء منه) وذلك أن الإنسان إذا سافر فينبغي لذويه وأقاربه وأصحابه أن يودعوه وأن يوصوه بتقوى الله عز وجل فإن الله تعالى يقول: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشا أو سرية وأمر عليهم أميرا قال له: أوصيك بتقوى الله ومن معك من المسلمين خيرا وذلك أن الإنسان يحتاج إلى من يساعده ويعينه على طاعة ربه لا سيما عند السفر لأن السفر محل الشغل والتقصير لاسيما فيما سبق من الزمان لما كانت الأسفار بعيدة على المطايا وعلى الأقدام فالناس يحتاجون إلى وصية وإلى تثبيت وإلى إعانة ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى الآيات الواردة في ذلك فذكر قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} وهذه الوصية هو قول الله عز وجل(4/143)
في إبراهيم: {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} ولم يتردد فاسلم لله وانقاد له {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب} يعني: وصى بهذه الوصية وهي أن يسلموا لله عز وجل ظاهرا وباطنا فلإسلام الظاهر يكون بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت والإسلام الباطن يكون بالإيمان بالله وملائكته وكتبه إلى آخره {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب} يعني أن إبراهيم ويعقوب كلا منهما وصى بها بنيه قائلا: {إن الله اصطفى لكم الدين} أي اختاره لكم {فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} المعنى استدينوا الإسلام واثبتوا عليه إلى الممات ولا ترتدوا عنه {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا} وهذا غاية التوحيد وهو من نصح يعقوب عليه السلام لبنيه حيث أراد أن يعرف حالهم قبل أن يفارق الدنيا {مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} أما إبراهيم فهو أبوه يعني جده وإسحاق أبوه من صلبة وأما إسماعيل فهو عمه لكن أطلق عليه لفظ الآباء من باب التغليب لأن(4/144)
العم صنو الأب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه يعني شريكه في الأصل والجذر والصنو هو عبارة عن النخلتين يكون أصلهما واحدا وهما قرينتان وقوله: {إلها واحدا} من باب التوكيد {ونحن له مسلمون} فهذه الوصية ينبغي للإنسان أن يوصى بها من أراد سفرا وأن يوصى بها أهله وأن يتعاهدهم عليها لأنها هي التي عليها بناء كل شيء فلا دين بدون إخلاص ولا عبادة بدون إخلاص ولا اتباع بدون إخلاص كل شيء مبناه على الإخلاص لله عز وجل
713 - وعن أبي سليمان مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا فظن أنا قد اشتقنا أهلنا فسألنا عمن من أهلنا فأخبرناه فقال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم وصلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا كذا في حين(4/145)
كذا فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم متفق عليه زاد البخاري في رواية له: وصلوا كما رأيتموني أصلى قوله: رحيما رفيقا روي بفاء وقاف، وروي بقافين
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف النووي رحمه الله تعالى في باب توديع الصاحب والمسافر ما نقله عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون وهذا في عام الوفود في السنة التاسعة من الهجرة وكانوا شبابا فأقاموا عند النبي صلى الله عليه وسلم عشرين ليلة جاءوا من أجل أن يتفقهوا في دين الله قال مالك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا فظن أنا قد اشتقنا أهلنا يعني اشتقنا إليهم فسألنا عمن تركنا من أهلنا فأخبرناه فقال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم وصلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم زاد البخاري وصلوا كما رأيتموني أصلي(4/146)
فهذا الحديث فيه فوائد: منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مشهورا بالرحمة والرفق فكان أرحم الناس بالناس وكان أرفق الناس بالناس عليه الصلاة والسلام رحيما رفيقا حتى إن الجارية من أهل المدينة البنت الصغيرة كانت تمسك بيده ليذهب معها ليقضي حاجتها وحتى العجوز كذلك فكان عليه الصلاة والسلام أرحم الناس بالناس وأرفق الناس بالناس.
ومنها: أن الإنسان ينبغي له أن يكون شعوره شعور الآخرين لا يكون أنانيا إذا تمت له الأمور نسى من سواه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مقيما في أهله مستريح البال مطمئن القلب مرتاح النفس لكن هؤلاء الناس الشببة الذين جاءوا يتعلمون الدين كانت الفطرة والعادة والطبيعة أن الإنسان يشتاق إلى أهله فلما رأى أنهم اشتاقوا إلى أهلهم وسألهم من خلفوا وراءهم واخبروه أمرهم أن يرجعوا إلى أهليهم فينبغي عليك أن تشعر بشعور الآخرين وأن تجعل نفسك مكانهم حتى تعاملهم بما تحب أن تعامل به نفسك ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يقيم في أهله ما أمكنه ولا ينبغي أن يتغرب عنهم ولا أن يبتعد عنهم حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر المسافر إذا سافر وقضى حاجته أن يرجع إلى أهله لأن(4/147)
بقاء الإنسان في أهله فيه خير كثير فيه الألفة والمودة والمحبة والتربية ومراعاة أحوالهم والتأديب والتوجيه لهم فلهذا كان الذي ينبغي للإنسان ألا يفارق أهله إلا عند الحاجة ومتى انتهت حاجته رجع إليهم ومن فوائد الحديث: أن الإنسان مأمور بأن يعلم أهله ولهذا قال: ارجعوا إلى أهليكم وعلموهم يعلمونهم ما تعلموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فالإنسان ينبغي له أن يعلم أهله ما يحتاجون إليه إما أن يجعل جلسة خاصة لهم أو إذا جلسوا على الطعام أو على الشراب أو في انتظار النوم أو ما أشبه ذلك يعلمهم ومن فوائد الحديث أيضا أن الإنسان لا يقتصر على التعليم فقط قال: علموهم ومروهم فيعلمهم ويأمرهم وأهم ما يأمر به: الصلاة وقد نص الرسول عليه الصلاة السلام عليها فقال: مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر فلابد من تعليم الأهل ولابد من أمرهم وتأديبهم وتوجيههم ومن فوائدة الحديث: وجوب الأذان وأنه فرض كفاية، لقوله: إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم(4/148)
ومنها: أنه لا يصح الأذان قبل الوقت فلو أذن الإنسان قبل الوقت ولو بتكبيرة واحدة من الأذان، فإن آذانه لا يصح ويجب عليه أن يعيده بعد دخول الصلاة، لقوله إذا حضرت الصلاة والصلاة لا تحضر إلا إذا دخل وقتها وبهذا نعرف أن قول الرسول عليه الصلاة والسلام لأبي محذورة إذا أذنت بالأول من الصبح فقل الصلاة خير من النوم مرتين المراد به الأذان الذي يكون بعد دخول الوقت لأنه قال الأول لصلاة الصبح خلافا لما فهمه بعض الناس من أن المراد بذلك الأذان الذي يكون قبل الفجر لأن الأذان الذي يكون قبل الفجر ليس أذانا لصلاة الفجر فقد بين الرسول عليه الصلاة والسلام أن الأذان الذي يكون قبل الفجر هو لإيقاظ النائم وإرجاع القائم فقال: إن بلالا يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فبين في هذا الحديث أن الأذان الذي يكون(4/149)
آخر الليل والذي يسميه الناس الأذان الأول ليس للفجر وليس للصلاة لأن الأذان للصلاة لا يكون إلا بعد دخول وقتها: إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وقد بين الرسول عليه الصلاة والسلام أن هذا الأذان ليس لصلاة الفجر بقوله ليرجع قائمكم يعني ليرده ليتسحر ويوقظ نائمكم ليتسحر ومن فوائد هذا الحديث: وجوب صلاة الجماعة لقوله: وليؤمكم أكبركم واللام هنا للأمر فصلاة الجماعة واجبة ومن فوائد الحديث: أن صلاة الجماعة واجبة على المسافرين كما هي واجبة على المقيمين لأن هؤلاء وفد سيرجعون إلى أهليهم فهم مسافرون وأمرهم مع ذلك بالصلاة جماعة وعلى هذا كان الإنسان في البلد وهو مسافر فإنه يجب عليه أن يحضر الجماعة في المساجد بعض العامة إذا قلت له: صل قال: أنا مسافر والمسافر ما عليه صلاة جماعة هذا خطأ يجب عليك أن تصلي مع الجماعة في المساجد ولو كنت مسافرا فأنت وأهل البلد سواء قال النبي عليه الصلاة والسلام لرجل: أتسمع النداء؟ قال: نعم قال: فأجب(4/150)
ومن فوائد هذا الحديث: تقديم الكبير في الإمامة لقوله: وليؤمكم أكبركم وهذا لا ينافي قوله عليه الصلاة والسلام: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله لأن هؤلاء الشباب وكلهم وفدوا في وقت واحد والظاهر أنه ليس بينهم فرق بين في قراءة القرآن وأنهم متقاربون ليس بعضهم أقرأ من بعض ولهذا قال: وليؤمكم أكبركم لأنهم متساوون في القراءة أو متقاربون فإذا تساووا في القراءة والسنة والهجرة فإنه يرجع إلى الأكبر سنا وفيه أيضا اعتبار الكبر في السن وأن الكبير في السن مقدم على غيره إذا لم يكن لغيره ميزة يفضل بها هذا الكبير في السن ومن فوائده أيضا: أنه ينبغي للإنسان أن يوجه الناس لكل أمر وإن كان يظن أنه معلوم، ولهذا قال: صلوا صلاة كذا في حين كذا مع أنهم قد صلوا مع النبي عليه الصلاة والسلام وصلوا معه عشرين ليلة وهم يعلمون ذلك لكن من أجل التنبيه قال: صلوا الظهر مثلا في صلوا العصر في وقت كذا صلوا المغرب في وقت كذا صلوا العشاء في وقت كذا، صلوا الفجر في وقت كذا(4/151)
ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم الناس بالقول وبالفعل فعلم الذي صلى بغير طمأنينة بالقول قال: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع إلى آخره أما هؤلاء فقال لهم: صلوا كما رأيتموني أصلي وهذا تعليم بالفعل وكما فعل عليه الصلاة والسلام حينما صنع له المنبر فصعد عليه وجعل يصلي بالناس وهو على المنبر فيركع وهو على المنبر فإذا أراد السجود نزل من المنبر وهو مستقبل القبلة ثم سجد وقال لما سلم: إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي ومن فوائد هذا الحديث: أنه على الإنسان أن يعرف كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيقرأ من كتب العلم التي كتبها من يوثق في عمله كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ينفذ أمر الرسول في قوله: صلوا كما رأيتموني أصلي(4/152)
714 - وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن وقال: لا تنسانا يا أخي من دعائك فقال كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا وفي رواية قال: أشركنا يا أخي في دعائك رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح
715 - وعن سالم بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يقول للرجل إذا أراد سفرا ادن مني حتى أودعك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعنا فيقول: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح
716 - وعن عبد الله بن يزيد الخطمي الصحابي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يودع الجيش يقول: استودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم حديث صحيح رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح
717 - وعن أنس رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أريد سفرا فزودني فقال: زودك الله التقوى(4/153)
قال: زدني قال: وغفر ذنبك قال: زدني، قال: ويسر لك الخير حيثما كنت رواه الترمذي وقال حديث حسن
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث ذكرها النووي رحمه الله في هذا الباب فيما يستحب من وداع الصاحب والدعاء له وطلب الدعاء منه فذكر حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أراد أن يعتمر فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فأذن له.
وقال: لا تنسنا يا أخي من دعائك وفي رواية: أشركنا يا أخي في دعائك وذكر أن الترمذي أخرجه وقال إنه حسن صحيح ولكن الحقيقة أنه ضعيف وأنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وطلب الدعاء من الغير ينقسم إلى أقسام: القسم الأول: أن يطلب من الغير الدعاء لصالح المسلمين جميعا أي شيء عام فهذا لا بأس به، وقد دخل رجل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا فأنشأ الله سحابة فانتشرت وتوسعت وأمطرت ولم ينزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر إلا والمطر يتحادر من لحيته، وبقي(4/154)
المطر أسبوعا كاملا وفي الجمعة الثانية دخل رجل آخر أو الأول فقال: يا رسول الله غرق المال وتهدم البناء فادع الله يمسكها عنا فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم حوالينا ولا علينا وجعل يشير إلى النواحي فما يشير إلى ناحية إلا انفرجت وتمايز السحاب حتى خرج الناس يمشون في الشمس فإذا طلبت من شخص صالح مرجو الإجابة شيئا عاما للمسلمين فهذا لا بأس به لأنك لم تسأل لنفسك مثال ذلك: لو أن رجلا جاء إليك يطلب منك الشفاعة لتغيث رجلا ملهوفا أو تقضى عنه دينه أو ترفع الظلم عن رجل ضعيف من المسلمين فإن هذا لا بأس به لأن المصلحة لغيره القسم الثاني: أن يطلب الدعاء من الرجل الصالح من أجل أن ينتفع الرجل بهذا الدعاء ولا يهمه هو أن ينتفع لكن يحب من هذا الرجل الذي طلب منه الدعاء أن يلجأ إلى الله وان يسأل الله عز وجل وأن يعلق قلبه بالله وأن يعلم أن الله سبحانه وتعالى سميع الدعاء المهم أن يكون قصده مصلحة هذا الرجل فهذا لا بأس به أيضا لأنك لم تسأله لمحض نفعك ولكن لنفعه هو فأنت تريد أن يزداد هذا الرجل الصالح خيرا بدعاء الله عز(4/155)
وجل وأن يتقرب إلى الله بالدعاء وأن يحصل على الأجر والثواب القسم الثالث: أن يطلب الدعاء من الغير لمصلحة نفسه هو فهذا أجازه بعض العلماء وقال لا بأس أن تطلب من الرجل الصالح أن يدعو لك لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال لا ينبغي إذا كان قصدك مصلحة نفسك فقط لأن هذا قد يدخل في المسألة المذمومة لأن النبي صلى الله عليه وسلم بايع أصحابه ألا يسألوا الناس شيئا وكذلك لأنه ربما يعتمد هذا السائل الذي سأل غيره أن يدعو له ربما يعتمد على دعاء هذا الغير وينسى أن يدعو هو لنفسه فيقول: أنا قلت لفلان وهو رجل صالح ادع الله لي وإذا استجاب الله هذا الدعاء فهو كاف فيعتمد على غيره وكذلك لأنه ربما يلحق المسئول غرور في نفسه وأنه رجل صالح يطمع الناس إلى دعائه فيحصل في هذا شر على المسئول وعلى كل حال فإن هذا القسم الثالث مختلف فيه فمن العلماء من قال: لا بأس أن تقول للرجل الصالح يا فلان ادع الله لي ومنهم من قال لا ينبغي والأحسن ألا تقول ذلك لأنه ربما يمن عليك بهذا وربما تذل أمامه بسؤالك ثم إنه من الذي يحول بينك(4/156)
وبين ربك ادع الله بنفسك لا أحد يحول بينك وبين الله لماذا تذهب تفتقر إلى غيرك وتقول: ادع الله لي وأنت ليس بينك وبين ربك واسطة؟ قال الله تعالى: وقال ربكم ادعوني استجب لكم وقال: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان}(4/157)
باب الاستخارة والمشاورة
قال الله تعالى: {وشاورهم في الأمر} وقال تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} أي يتشاورون بينهم فيه
718 - عن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني استخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به قال: ويسمى حاجته رواه البخاري
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله: (باب(4/158)
الاستخارة والمشاورة) والاستخارة مع الله، والمشاورة مع أهل الرأي والصلاح وذلك أن الإنسان عنده قصور أو تقصير والإنسان خلق ضعيفا فقد تشكل عليه الأمور وقد يتردد فيها فماذا يصنع؟ لنفرض أنه هم بسفر وتردد هل هو خير أم شر أو هم أن يشتري سيارة أو بيتا أو أن يصاهر رجلا يتزوج ابنته أو ما أشبه ذلك ولكنه متردد فماذا يصنع؟ نقول: له طريقتان: الطريق الأول: استخارة رب العالمين عز وجل الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون الطريق الثاني: استشارة أهل الري والصلاح والأمانة واستدل المؤلف رحمه الله على المشاورة بآيتين من كتاب الله هما قوله تعالى: وشاوروهم في الأمر وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} وكان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أسد الناس رأيا وأصوبهم صوابا يستشير أصحابه في بعض الأمور التي تشكل عليه وكذلك خلفاؤه من بعده كانوا يستشيرون أهل الري والصلاح ولا بد من هذين الشرطين فيمن تستشيره أن يكون ذا رأى(4/159)
وخبرة في الأمور وتأن وتجربة وعدم تسرع وأن يكون صالحا في دينه لأن من ليس بصالح في دينه ليس بأمين حتى وإن كان ذكيا وعاقلا ومحنكا في الأمور إذا لم يكن صالحا في دينه فلا خير فيه وليس أهلا لأن يكون من أهل المشورة لأنه إذا كان غير صالح في دينه فإنه ربما يخون والعياذ بالله ويشير بما فيه الضرر أو يشير بما لا خير فيه فيحصل بذلك من الشر والفساد ما الله به عليم ولنفرض أنه رجل من أهل الفسق والمجون والفجور فلا يجوز أن تستشيره لأن هذا يوقعك في هلاك كذلك ولو كان رجلا صالحا دينا أمينا لكنه مغفل ما يعرف الأمور أو متسرع لا خبرة له فهذا أيضا لا تحرص على استشارته لأنه ربما إذا كان مغفلا لا يدري عن الأمور يأخذ الأمور بظواهرها ولا يعرف شيئا مما وراء الظواهر وكذلك إذا كان متسرعا فإنه ربما يحمله التسرع على أن يشير عليك بما لا خير فيه فلابد من أن يكون ذا خبرة وذا رأي وصلاح في الدين وقال الله تبارك تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} يعني أمرهم المشترك الذي هو للجميع كالجهاد مثلا فإنه شورى بينهم فإذا أراد ولى الأمر أن يجاهد أو أن يفعل شيئا عاما للمسلمين فإنه يشاورهم(4/160)
ولكن كيف تكون المشورة المشورة تكون إذا حدث له أمر يتردد فيه جمع الإمام من يرى أنهم أهل للمشورة برأيهم وصلاحهم واستشارهم أما الاستخارة فهي مع الله عز وجل يستخير الإنسان ربه إذا هم بأمر وهو لا يدري عاقبته ولا يدري مستقبله فعليه بالاستخارة والاستخارة معناها طلب خير الأمرين وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بأن يصلي الإنسان ركعتين من غير الفريضة في غير وقت النهي إلا في أمر يخشى فواته قبل خروج وقت النهي فلا بأس أن يستخير ولو في وقت النهي أما ما كان فيه الأمر واسعا فلا يجوز أن يستخير وقت النهي فلا يستخير بعد صلاة العصر وكذلك بعد الفجر حتى ترتفع الشمس مقدار رمح وكذلك عند زوالها حتى تزول لا يستخير إلا في أمر قد يفوت عليه يصلي ركعتين من غير الفريضة ثم يسلم وإذا سلم قال: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كان هذا الأمر ويسميه(4/161)
خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: عاجل أمري وآجله يعني إما أن تقول هذا أو هذا فاقدره لي ويسره لي وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم ارضني به وينتهي ثم بعد ذلك إن انشرح صدره بأحد الأمرين بالأقدام أو الإحجام فهذا المطلوب يأخذ بما ينشرح به صدره فإن لم ينشرح صدره لشيء وبقى مترددا أعاد الاستخارة مرة ثانية وثالثة ثم بعد ذلك المشورة إذا لم يتبين له شيء بعد الاستخارة فإنه يشاور أهل الرأي والصلاح ثم ما أشير عليه به فهو الخير إن شاء الله، لأن الله تعالى قد لا يجعل في قلبه بالاستخارة ميلا إلى شيء معين حتى يستشير فيجعل الله تعالى ميل قلبه بعد المشورة وقد اختلف العلماء هل المقدم المشورة أو الاستخارة؟ والصحيح أن المقدم الاستخارة فقدم أولا الاستخارة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا هم أحدكم بالأمر فليصل ركعتين..
إلى آخره ثم إذا كررتها ثلاث مرات ولم يتبين لك الأمر فاستشر ثم ما أشير عليك به فخذ به وإنما قلنا: إنه يستخير ثلاث مرات لأن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه(4/162)
إذا دعا دعا ثلاثا والاستخارة دعاء وقد لا يتبين للإنسان خير الأمرين من أول مرة بل قد يتبين في أول مرة أو في الثانية أو في الثالثة وإذا لم يتبين فليستشر(4/163)
باب استحباب الذهاب إلى العيد وعيادة المريض والحج والغزو والجنازة ونحوها من طريق الرجوع من طريق آخر لتكثير مواضع العبادة
719 - عن جابر رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق رواه البخاري قوله: خالف الطريق يعني ذهب في طريق ورجع في طريق آخر
720 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج من طريق الشجرة ويدخل من طريق المعرس وإذا دخل مكة دخل من الثنية العليا ويخرج من الثنية السفلى متفق عليه
[الشَّرْحُ]
ثم ذكر النووي رحمه الله (باب استحباب مخالفة الطريق في العيد والجمعة وغيرها من العبادات)(4/164)
ومعنى مخالفة الطريق: أن يذهب إلى العبادة من طريق ويرجع من الطريق الآخر فمثلا يذهب من الجانب الأيمن ويرجع من الجانب الأيسر وهذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العيدين كما رواه جابر رضي الله عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق يعني خرج من طريق ورجع من طريق آخر واختلف العلماء لم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك؟ فقيل: ليشهد له الطريقان يوم القيامة لأن الأرض يوم القيامة تشهد على ما عمل فيها من خير وشر كما قال الله تبارك وتعالى: يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها تشهد الأرض فتقول عمل على فلان كذا وعمل على فلان كذا فإذا ذهب من طريق ورجع من آخر شهد له الطريقان يوم القيامة بأنه أدى صلاة العيد وقيل من أجل إظهار الشعيرة شعيرة العيد حتى تكتظ الأسواق هنا وهناك ومعلوم أن الناس لا يخرجون كلهم من طريق واحد ويرجعون من طريق واحد تجد هذا يخرج من هذا الطريق وهذا من هذا هذا من هذا فإذا انتشر الناس في طرق المدينة صار في هذا إظهار لهذه الشعيرة لأن صلاة العيد من شعائر الدين والدليل(4/165)
على ذلك أن الناس يؤمرون بالخروج إلى الصحراء إظهارا لذلك وإعلانا له وبعضهم قال إنما خالف الطريق من أجل المساكين الذين يكونون في الأسواق قد يكون في هذا الطريق ما ليس في هذا الطريق من المساكن فيتصدق على هؤلاء وهؤلاء ولكن الأقرب والله أعلم أنه من أجل إظهار تلك الشعيرة حتى تظهر شعيرة صلاة العيد بالخروج إليها من جميع سكك البلد ثم اختلفت العلماء رحمهم الله هل يلحق في ذلك صلاة الجمعة؟ لأن صلاة الجمعة صلاة العيد قالوا: تلحق بصلاة العيدين، فيأتي إلى الجمعة من طريق ويرجع من طريق آخر ثم توسع بعض العلماء وقالوا: يشرع ذلك أيضا في الصلوات الخمس فيأتي مثلا في صلاة الظهر من طريق ويرجع من طريق آخر وهكذا صلاة العصر وبقية الصلوات قالوا: لأن ذلك حضور إلى الصلاة فيقاس على صلاة العيد وتوسع آخرون فقالوا تشرع مخالفة الطريق في كل تعبد كل عبادة تذهب إليها فاذهب إليها من طريق وارجع منها من طريق آخر حتى عيادة المريض فإذا عدت مريضا فاذهب إليه من(4/166)
طريق وارجع من طريق آخر وكذلك إذا شيعت جنازة فاذهب من طريق وارجع من طريق آخر وكل هذه الأقيسة الثلاثة كلها ضعيفة، لا قياس لصلاة الجمعة على العيدين ولا بقية الصلوات على العيدين ولا المشي في العبادة على العيدين وذلك لأن العبادات ليس فيها قياس ولأن هذه الأشياء كانت في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كان في عهده الجمعة والصلوات الخمس وعيادة المريض وتشيع الجنائز ولم يحفظ عنه أن كان صلى الله عليه وسلم يخالف الطريق في هذا والشيء إذا وجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يسن فيه شيئا فالسنة ترك ذلك أما في الحج فإن الرسول صلى الله عليه وسلم خالف الطريق في دخوله إلى مكة دخل من أعلاها وخرج من أسفلها وكذلك في ذهابه إلى عرفه ذهب من طريق ورجع من طريق آخر واختلف العلماء أيضا في هذه المسألة هل كان النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك على سبيل التعبد أو لأنه أسهل لدخوله وخروجه؟ لأنه كان الأسهل لدخوله أن يدخل من الأعلى ولخروجه أن يخرج من الأسفل فمن من العلماء قال بالأول قال: إنه تدخل من أعلاها(4/167)
أي أعلى مكة وتخرج من أسفلها وسنة أن تأتي عرفة من طريق وترجع من طريق آخر ومنهم من قال: إن هذا حسب تيسر الطريق، فاسلك المتيسر سواء من الأعلى أو من الأسفل وعلى كل حال إن تيسر لك أن تدخل من أعلاها وتخرج من أسفلها فهذا طيب فإن كان ذلك عبادة فقد أدركته وإن لم يكن عبادة لم يكن عليك ضرر فيه وإن لم يتيسر كما هو الواقع في وقتنا الحاضر حيث إن الطرق قد وجهت توجيها واحدا ولا يمكن للإنسان أن يخالف فلأمر والحمد لله واسع(4/168)
باب استحباب تقديم اليمين في كل ما هو من باب التكريم كالوضوء والغسل والتيمم ولبس الثوب والنعل والخف والسراويل ودخول المسجد والسواك والاكتحال وتقليم الأظافر وقص الشارب ونتف الإبط وحلق الرأس والسلام من الصلاة والأكل والشرب والمصافحة واستلام الحجر الأسود والخروج من الخلاء والأخذ والعطاء وغير ذلك مما هو في معناه ويستحب تقديم اليسار في ضد ذلك كالامتخاط والبصاق عن اليسار ودخول الخلاء والخروج من المسجد وخلع الخف والنعل والسراويل والثوب والاستنجاء وفعل المستقذرات وأشباه ذلك
قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ} وقال تعالى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى (باب استحباب تقديم اليمين في كل ما هو من باب التكريم) والعكس بالعكس فيما يقصد به الإهانة فإنه يبدأ باليد اليسرى وقد ذكر المؤلف رحمه الله تعالى أشياء متعددة مثل(4/169)
الوضوء والغسل والتيمم ولبس الثوب فالوضوء يبتدئ فيه الإنسان باليمين يبتدئ باليد اليمنى قبل اليد اليسرى وبالرجل اليمنى قبل الرجل اليسرى هذا إذا كانا عضوين متميزين أما إذا كان عضوا واحدا كالوجه مثلا فإننا لا نقول ابدأ بيمين الوجه قبل يساره بل يغسل الوجه مرة واحدة كما جاءت به السنة نعم لو فرض أن الإنسان لا يستطيع أن يغسل وجهه إلا بيد واحدة فهنا يبدأ باليمين بما يقال: يبدأ من اليمين وربما يقال: يبدأ من الأعلى وكذلك مسح الأذنين لا تمسح الأذن اليمنى قبل اليسرى بل يمسحان جميعا إلا إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يمسح بيديه جميعا فيبدأ باليمنى قبل اليسرى وكذلك في الغسل إذا أراد الإنسان أن يغتسل من الجنابة فإنه يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يفيض الماء على رأسه ثلاث مرات حتى يروي ثم يغسل سائر جسده ويبدأ بالشق الأيمن منه قبل الأيسر لقول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي كن يغسلن ابنته قال: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها(4/170)
فإذا كنت تحت الصنبور وهو يصيب على رأسك وأنت تريد أن تغتسل فإذا غسلت رأسك وأرويته فابدأ بغسل الجانب الأيمن من الجسد قبل الأيسر هذا هو السنة كذلك في التيمم ولكن التيمم جاءت السنة أن الإنسان يمسح وجهه بيديه جميعا ثم يمسح كل واحدة بالأخرى فلا يظهر فيها التيامن لأن التيمم في عضوين فقط في الوجه والكفين وإذا كان في الوجه والكفين فالوجه يمسح مرة واحدة والكفان يمسح بعضهما ببعض كذلك لبس الثوب والنعل والخف والسراويل كل هذه يبدأ فيها باليمين إذا أردت أن تلبس الثوب فأدخل اليد اليمنى في كمها قبل اليد اليسرى في السراويل أدخل الرجل اليمنى في كمها قبل أن تدخل الرجل اليسرى في النعل إذا أردت أن تلبس النعل ابدأ بالرجل اليمنى أدخلها في النعل قبل اليسرى كذلك في الخف والجوارب ابدأ بالرجل اليمنى قبل الرجل اليسرى هذه هي السنة كما جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك دخول المسجد تبدأ بالرجل اليمنى قبل الرجل اليسرى تقصد ذلك فإذا أقبلت على المسجد فانتبه حتى تكون رجلك اليمنى هي الداخلة الأولى(4/171)
كذلك أيضا السواك إذا أراد الإنسان يتسوك فيبدأ بالجانب الأيمن قبل الأيسر وكذلك الاكتحال إذا أراد أن يكتحل يبدأ بالعين اليمنى قبل اليسرى كذلك تقليم الأظفار يبدأ بالأيمن قبل الأيسر فيبدأ مثلا في اليمنى بالخنصر ثم البنصر ثم الواسطى ثم السبابة ثم الإبهام وفي اليد اليسرى يبدأ بتقليم الإبهام ثم السبابة ثم الوسطى ثم البنصر ثم الخنصر ويبدأ أيضا بالقدم اليمنى في تقليم أظافرها قبل القدم اليسرى كذلك في قص الشارب ابدأ بالجانب الأيمن منه قبل الأيسر كذلك نتف الإبط وحلق الرأس نتف الإبط سنة فإذا أردت أن تنتف الآباط يعني تنتف الشعر فابدأ بالإبط الأيمن قبل الأيسر وكذلك في حلق الرأس ابدأ بالجانب الأيمن من الرأس قبل الأيسر وكذلك أيضا السلام من الصلاة يلتفت الإنسان عن يمينه قبل أن يلتفت عن يساره وكذلك الأكل والشرب فيأكل بيمينه ويشرب بيمينه ولا يجوز أن يأكل باليسرى أو يشرب باليسرى لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك(4/172)
وقال: إن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله فإذا رأيت رجلين أحدهما يأكل باليمين ويشرب باليمين والثاني يأكل بالشمال ويشرب بالشمال فالأول على هدى النبي صلى الله عليه وسلم والثاني على هدى الشيطان وهل يرضى أحد من الناس أن يتبع هدى الشيطان ويعرض عن هدى محمد صلى الله عليه وسلم لا أحد يريد ذلك أبدا لكن الشيطان يزين للناس الأكل بالشمال والشرب بالشمال وربما بعض الناس يظن أن هذا تقدم وحضارة لأن الغربيين الكفرة يقدمون اليسار عن اليمين ولهذا يجب علي الإنسان أن يأكل باليمين وأن يشرب باليمين إلا للضرورة ويجب علينا أيضا أن نعلم أولادنا الصغار أن يأكلوا باليمين ويشربوا باليمين كذلك المصافحة يصافح باليمين ولا يصافح باليسار فإن مد إليك يده اليسرى للمصافحة فلا تصافحه اهجره لأنه خالف السنة إلا إذا كانت اليد اليمنى شلاء لا يستطيع أن يحركها فهذا عذر كذلك استلام الحجر الأسود باليمين وكذلك إذا لم يستطع الإنسان مسحه فإنه يشير إليه ويكون ذلك باليد اليمنى وكذلك استلام الركن اليماني يكون باليمين ونحن نرى الآن بعض الطائفتين يمسح الحجر الأسود باليسرى أو يشير إليه باليسرى أو يشير إليه باليدين جميعا أما الركن اليماني فإن استطعت أن تستلمه يعني تمسحه باليد فافعل وإلا فلا تشر إليه لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أشار إليه(4/173)
والغالب أن هذا جهل منهم فإذا رأيت أحدا يمسح الركن اليماني أو الحجر الأسود باليد اليسرى فنبهه أن هذا ليس من الإكرام فليس من إكرام بيت الله أن تمسح الركن اليماني أو الحجر الأسود باليد اليسرى بل امسحهما باليد اليمنى كذلك الخروج من الخلاء يعني إذا دخلت الحمام لقضاء الحاجة من بول أو غائط ثم خرجت فقدم الرجل اليمنى لأن خارج الخلاء أحق بالتكريم من الخلاء فإذا خرجت فابدأ بالرجل اليمنى كذلك الأخذ والإعطاء وغير ذلك الأخذ والإعطاء يعني إذا أردت أن تناول صاحبك شيئا فناوله باليمين وإذا أردت أن تأخذ شيئا يناولك إياه فخذه باليمين هذه أخلاق الإسلام لكن بعض الناس يناولك باليسار ويأخذ منك باليسار ظنا منه أن هذا هو التقدم لأن الكفرة يأخذون باليسار ويعطون باليسار وسبحان الله العظيم أصحاب الشمال لهم الشمال لأن الكفرة أصحاب الشمال والمؤمنون هم أصحاب اليمين ولهذا تجد الكافر دائما يفضل اليسار لأنه أهل اليسار(4/174)
وأهل الشمال فهو من أهل اليسار في الدنيا وفي الآخرة والعياذ بالله إذا كل هذه الأمور ابدأ فيها باليمين وكذلك غيرهما مما يشمله التكريم كل شيء للتكريم فإنه يبدأ فيه باليمين لأن اليمين أكرم وأفضل أما اليسار فبالعكس ثم ذكر المؤلف أشياء مما يقدم فيها اليسار، كالامتخاط والبصاق فإنه يكون باليسار الامتخاط: يعني إذا استنثر الإنسان ليخرج ما في أنفه من الأذى فإنه يكون باليد اليسرى وكذلك لو أراد أن يمسح المخاط فإنه يكون باليد اليسرى وكذلك عند دخول الخلاء يقدم الرجل اليسرى وأما الخروج منه فقد سبق أنه يقدم الرجل اليمنى وكذلك إذا خرج من المسجد فإنه يقدم الرجل اليسرى وكذلك إذا أراد أن يخلع النعل أو أن يخلع الخف أو أن يخلع الثوب أو أن يخلع السراويل فإنه يبدأ بإخراج الرجل اليسرى وتكون اليمنى هي الأولى عند اللبس كذلك الاستنجاء يكون باليد اليسرى وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن(4/175)
يستنجئ الرجل بيمينه لأن اليمين محل الإكرام ويؤكل بها ويشرب بها فينبغي إبعادها عن القاذورات وكذلك كل شيء مستقذر فإنه يكون باليد اليسرى وأما اليمنى فهي لما يكون فيه الإكرام ولغيره مما إكرام فيه ولا إهانة فاليسرى تكون الأذى واليمنى لما سواها واعلم أن الناس حينما ظهرت الساعات التي تتعلق باليد صاروا يلبسونها باليد اليسار من أجل أن تبقى اليد اليمنى طليقه ليس فيها ساعة يتأذى بها الإنسان عند الحركة لأن حركة اليمنى أكثر من حركة اليسرى ويحتاج الإنسان لحركة اليمنى أكثر فكانوا يجعلونها في اليد اليسرى لأن ذلك أسهل ولأن اليد اليمنى هي التي يكون فيها العمل غالبا فربما تتعرض الساعة لشيء يضرها ولذلك جعلوها باليسار وقد ظن بعض الناس أن الأفضل جعلها في اليمين بناء على تقديم اليد اليمنى ولكن هذا ظن ليس مبنيا على صواب لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتختم بيمينه ويتختم أحيانا بيساره وربما كان تختمه بيساره أفضل ليسهل أخذ الخاتم باليد اليمنى(4/176)
والساعة أقرب ما تكون للخاتم فلا تفضل فيها اليمنى على اليسرى ولا اليسرى على اليمنى الأمر في هذا واسع وإن شئت جعلتها باليمين وإن شئت جعلتها باليسار كل هذا لا حرج فيه ثم ذكر المؤلف آيتين من كتاب الله هما قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ وهذا يكون يوم القيامة فإن الناس يؤتون كتبهم أي كتب أعمالهم التي كتب فيها عمل الإنسان إما باليمين وإما بالشمال {من أوتي كتابه بيمينه} جعلنا الله منهم فإنه يأخذه فرحا مسرورا يقول للناس: انظروا إلى {اقرءوا كتابيه} كما نشاهد الآن الطالب إذا أخذ ورقة النجاح صار يريها أصدقاءه وأقاربه فرحا بها {وأما من أوتي كتابه بشماله} فإنه على العكس من ذلك يتمنى أنه لم يؤت الكتاب فضلا عن أن يطلع عليه غيره والآية الأخرى التي ذكرها المؤلف فهي قوله تعالى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} فذكر اله سبحانه أن الناس يكونون يوم القيامة ثلاثة أقسام: أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون فالسابقون هم المقربون وأصحاب الميمنة ناجون وأصحاب المشأمة هالكون فهم يوم القيامة ثلاثة أصناف(4/177)
وهم كذلك عند خروج الروح من البدن ثلاثة أصناف ذكر الله في سورة الواقعة أحوالهم يوم القيامة وذكر في آخرها أحوالهم عند الاختصار فقال: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِن لاَ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} والمقربون هم السابقون الذين يسبقون إلى الخيرات في كل نوع من أنواع الخير {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} وهؤلاء هم أصحاب المشأمة والعياذ بالله فهم المكذبون الضالون أعاذنا الله من حالهم وأشار المؤلف رحمه الله في هاتين إلى أن أهل اليمين للفضائل الدائمة في الدنيا وفي الآخرة ويأتي إن شاء الله بقية الكلام على هذا(4/178)
721 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في شأنه في ظهوره وترجله وتنعله متفق عليه
722 - وعنها قالت: كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى حديث صحيح رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح
[الشَّرْحُ]
نقل المؤلف رحمه الله تعالى في باب استحباب تقديم اليمن فيما من شأنه التكريم عن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن في شأنه كله في شأنه كله أي: في جميع أحواله يعجبه يعني يسره ويستحسن البداءة باليمين في كل شيء في طهوره وترجله وتنعله في طهوره يعني إذا تطهر يبدأ باليمين فيبدأ بغسل اليد اليمنى قبل اليسرى وبغسل الرجل اليمنى قبل اليسرى وأما الأذنان فإنهما عضو واحد داخلان في الرأس فيمسح بهما جميعا إلا إذا كان لا يستطيع أن يمسح إلا بيد واحدة فهنا يبدأ بالأذان اليمنى للضرورة(4/179)
قالت وترجله والترجل يعني تسريح الشعر ومشطه ودهنه وكان الرسول صلى الله عليه وسلم كعادة الناس في ذلك الوقت لا يأخذ رأسه إلا في حج أو عمرة لكن أحيانا يأخذ منه وأحيانا يبقيه فأحيانا يكون إلى شحمه أذنيه وأحيانا ينزل حتى يضرب على منكبيه فكان صلى الله عليه وسلم يتعاهده بالتنظيف والتسريح والدهن حتى نظيفا لا يكون فيه الغبار ولا القمل ولا غير ذلك مما يستقذر وكذلك أيضا يعجبه التيمن في تنعله أي إذا لبس النعل فإنه يبدأ باليمين قبل اليسار وإذا خلع يبدأ باليسار قبل اليمين وكذلك الثوب إذا لبسه بإدخال الكم اليمين قبل اليسار وكذلك السروال يبدأ بإدخال الرجل اليمنى قبل اليسرى والعكس في الخلع وفي الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها أنها بينت ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل فيه اليمين ويستعمل فيه اليسار فذكرت أن الذي يستعمل فيه اليسار ما كان فيه أذى كالاستنجاء والاستجمار والاستنشاق والاستنثار وما أشبه ذلك كل ما فيه أذى فإنه تقدم فيه اليسرى وما سوى ذلك فإنه تقدم فيه اليمنى تكريما لها لأن الأيمن أفضل من الأيسر كما سبق(4/180)
723 - وعن أم عطية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهن في غسل ابنته زينب رضي الله عنها ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها متفق عليه
724 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمنى وإذا نزع فليبدأ بالشمال لتكن اليمنى أولهما تنعل وآخرهما تنزع متفق عليه
725 - وعن حفصة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه ويجعل يساره لما سوى ذلك رواه أبو داود وغيره
726 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا لبستم وإذا توضأتم فابدؤوا بأيامنكم حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح
727 - وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى مني:(4/181)
فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلاق خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس متفق عليه وفي رواية: لما رمى الجمرة ونحر نسكه وحلق ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه ثم دعا أبا طلحة الأنصاري رضي الله عنه فأعطاه إياه ثم ناوله الشق الأيسر فقال: احلق فحلقه فأعطاه أبا طلحة فقال: اقسمه بين الناس
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في بيان استحباب البداءة باليمين فيما طريقه التكريم وتقديم اليسار فيما طريقه الأذى والقذر كالاستنجاء والاستجمار وما أشبه ذلك فذكر المؤلف حديثا عن أم عطية رضي الله عنها من نساء الأنصار وكان لها أعمال جليلة منها أنها كانت تغسل الأموات من النساء فلما ماتت زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم وحضرن ليغسلنها فقال لهن النبي صلى الله عليه وسلم ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها وكيفية تغسيل الميت بأن تخلع ثيابه بعد أن توضع على(4/182)
عورته ما يسترها ثم يضع الغاسل خرقة على يده فينجيه يعني يغسل فرجه القبل والدبر حتى ينظفه ثم بعد ذلك يزيل هذه الخرقة ويغسل كفيه كما يتوضأ الإنسان في العادة ثم يأخذ خرقة مبلولة بالماء فينظف أسنانه وفمه وينظف منخريه بدلا عن المضمضة والاستنشاق ولا يدخل الماء في فمه ولا في أنفه لأنه إذا فعل ذلك نزل الماء إلى جوفه وربما يخرج فيؤذيهم عند التغسيل ثم بعد هذا يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح رأسه ويغسل رجليه وضوءا كاملا ثم بعد ذلك يغسل رأسه برغوة السدر بعد أن يكون قد أعد ماء فيه سدر مطحون يضربه بيده حتى يكون له رغوة فيأخذ الرغوة ويغسل بها رأس الميت ثم يغسل ببقية السدر بقية البدن على أن المرأة لا يغسلها إلا نساء حتى أبوها لا يغسلها ولا ابنها ولا أحد من محارمها إلا النساء أو الزوج والرجل لا يغسله إلا رجل لا تغسله أمه ولا بنته ولا أحد من النساء إلا زوجته فالزوج يغسل زوجته والزوجة تغسل زوجها وما سوى ذلك لا يغسل الذكر الأنثى ولا الأنثى الذكر حضرت النساء لتغسيل زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: ابدأن بميامنها يعني بالأيمن قبل الأيسر اليد اليمنى قبل اليسرى(4/183)
والرجل اليمنى قبل اليسرى والشق الأيمن قبل الشق الأيسر ومواضع الوضوء منها ففعلن ذلك وجعلن رأسها ثلاثة قرون يعني ثلاث جدايل الجانب الأيمن قرن والأيسر قرن ووسط الرأس قرن وألقينه خلفها ثم أعطاهن النبي صلى الله عليه وسلم حقوه يعني إزاره وقال: أشعرنها إياه يعني الففنه على جسدها مباشرة تبركا بإزار النبي صلى الله عليه وسلم ففعلن ذلك والشاهد من هذا قوله ابدأن بميامنها ثم ذكر المؤلف أحاديث فيها معنى ما تقدم كحديثي أبي هريرة رضي الله عنه في لبس الثوب والنعل والوضوء وكذلك حديث حفصة رضي الله عنها ثم ذكر حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة حلق النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فإن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع لما بات بمزدلفة وصلى الفجر وجلس يدعو حتى أسفر جدا ودفع قبل أن تطلع الشمس ووصل إلى جمرة العقبة وقد ارتفع النهار وصار للشمس حرارة فرمى الجمرة وذلك يوم العيد وذهب صلى الله عليه وسلم إلى منزله فدعا بالحلاق فحلق رأسه وأشار صلى الله عليه وسلم إلى الشق الأيمن فبدأ الحلاق بالشق الأيمن وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعفي شعر الرأس فكان شعر رأسه كثيرا فبدأ بالشق الأيمن فحلقه ثم(4/184)
دعا أبا طلحة رضي الله عنه الأنصاري وأعطاه شعر الشق الأيمن كله ثم حلق بقية الرأس ودعا أبا طلحة وأعطاه إياه وقال: اقسمه بين الناس فقسمه فمن الناس من ناله شعرة واحدة ومنهم من ناله شعرتان ومنهم من ناله أكثر حسب ما تيسر وذلك لأجل التبرك بهذا الشعر الكريم شعر النبي صلى الله عليه وسلم وكون أبا طلحة خصه الرسول بالجنب الأيمن كله يدل على أن من الناس من يختص بخصيصة يخص الله بها وإن كان في الصحابة من هو أفضل منه فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وكثير من الصحابة أفضل من أبي طلحة لكن فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء وكان الصحابة يتبركون بشعر النبي صلى الله عليه وسلم وبثيابه وبعرقه لكن غيره لا يتبرك بشعره ولا بثيابه ولا بعرقه وكان عند أم سلمة رضي الله عنها إحدى زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم شعرات من شعر الرسول صلى الله عليه وسلم وضعتها في جلجل يعني طابوق من الفضة وجعلته من الفضة تكريما لشعر الرسول صلى الله عليه وسلم فكان الناس إذا مرض عندهم مريض جاءوا إليها فصبت على الشعر ماء وحركته به ثم أعطته المريض فيشفى بإذن الله ببركة شعر النبي صلى الله عليه وسلم ولكن هذا ليس لغير النبي صلى الله عليه وسلم فإن الصحابة لم يتبركوا بشعر أبي بكر وهو أفضل الأمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بشعر عمر(4/185)
ولا غيره من الصحابة وكذلك من دونهم لا يتبرك بشعره ولا بعرقه ولا بثيابه إنما ذلك خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم والشاهد من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى الحلاق أن يبدأ بالجانب الأيمن فإذا حججت وأردت أن تحلق أو تقصر فابدأ بالجانب الأيمن وكذلك لو حلقت حلقا عاديا فابدأ بالجانب الأيمن(4/186)
كتاب أدب الطعام
باب التسمية في أوله والحمد في آخره
728 - عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك متفق عليه
729 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى فإن نسى أن يذكر اسم الله تعالى في أوله فليقل: بسم الله أوله وآخره رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله (كتاب أدب الطعام) فالطعام ما يطعمه الإنسان أي ما يتذوق طعمه ويكون شرابا ويكون أكلا والدليل على أن الشراب يسمى طعما أو طعاما قوله تبارك وتعالى: فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ثم قال: (باب التسمية في أوله والحمد في آخره) ثم ذكر حديث(4/187)
عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه وكان ربيب النبي صلى الله عليه وسلم يعني ابن زوجته أم سلمة فإنه قدم النبي صلى الله عليه وسلم طعام وكان غلاما صغيرا فجعلت يده تطيش في الصحفة من هنا ومن هنا وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدع مجالا يحتاج إلى التعليم إلا علم حتى الصغار فقال له: سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك فهذه ثلاثة آداب في الأكل علمها النبي صلى الله عليه وسلم هذا الغلام أولا: قال: سم الله يعني قل: بسم الله ولا حرج أن يزيد الإنسان الرحمن الرحيم لأن هذين الاسمين أثنى الله بهما على نفسه في البسملة في القرآن الكريم بسم الله الرحمن الرحيم فإن قال بسم الله الرحمن الرحيم فلا حرج وإن اقتصر على بسم الله كفى والتسمية على الأكل واجبة إذا تركها الإنسان فإنه يأثم ويشاركه الشيطان في أكله ولا أحد يرضى أن يشاركه عدوه في أكله فلا أحد يرضى أن يشاركه الشيطان في أكله فإذا لم تقل: بسم الله فإن الشيطان يشاركك فيه فإن نسيت أن تسمى في أوله وذكرت في أثنائه فقل: بسم الله أوله وآخره كما أرشد إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي روته عائشة وأخرجه أبو داود والترمذي(4/188)
ثانيا: قال: كل بيمينك والأكل باليمين واجب ومن أكل بشماله فهو آثم عاص للرسول صلى الله عليه وسلم ومن عصى الرسول فقد عصى الله ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ثالثا: كل مما يليك يعني إذا كان معك مشارك فكل من الذي يليك لا تأكل من جهته، ومن الذي يليه فإن هذا سوء أدب قال العلماء: إلا أن يكون الطعام أنواعا مثل أن يكون فيه قرع وباذنجان ولحم وغيره فلا بأس أن تتخطى يدك إلى هذا النوع أو ذاك كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من الصحفة يأكلها والدباء يعني القرع وكذلك لو كنت تأكل وحدك فلا حرج أن تأكل من الطرف الآخر لأنك لا تؤذي أحدا في ذلك لكن لا تأكل من أعلى الصحفة لأن البركة تنزل في أعلاها ولكن كل من الجوانب وفي هذا الحديث: دليل على أنه ينبغي لنا أن نعلم الصبيان والغلمان آداب الأكل والشرب وكذلك آداب النوم فضلا عن الأمور الأخرى كالصلاة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر(4/189)
730 - وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم ولا عشاء وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله تعالى في سياق أدب الطعام عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لأصحابه لا مبيت لكم ولا عشاء ذلك لأن الإنسان ذكر الله وذكر الله تعالى عند دخول البيت أن يقول: بسم الله ولجنا وبسم الله خرجنا وعلى الله ربنا توكلنا اللهم إني أسألك خير المولج وأسألك خير المخرج هذا الذكر عند دخول المنزل سواء في الليل أو في النهار وأما الذكر عند العشاء فأن يقول بسم الله(4/190)
فإذا ذكر الله عند دخوله البيت وذكر الله عند أكله عند العشاء قال الشيطان لأصحابه لا مبيت لكم ولا عشاء لأن هذا البيت وهذا العشاء حمى بذكر الله عز وجل حماه الله تعالى من الشياطين وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء أي أن الشيطان يشاركه المبيت والطعام لعدم التحصن بذكر الله وفي هذا: حث على أن الإنسان ينبغي له إذا دخل بيته أن يذكر اسم الله والذكر الوارد في ذلك بسم الله ولجنا وبسم الله خرجنا وعلى الله ربنا توكلنا اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج ثم يستاك لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته فأول ما يبدأ به السواك ثم يسلم على أهله أما عند العشاء فيقول: بسم الله وبذلك يحترز من الشيطان الرجيم مبيتا وعشاء فإن ذكر اسم الله عند الدخول دون العشاء شاركه الشيطان في عشائه وإن ذكر اسم الله عند العشاء دون الدخول شاركه الشيطان في المبيت دون العشاء وإن ذكر اسم الله عند الدخول وعند العشاء فإن الشيطان لا يكون له مبيت ولا عشاء(4/191)
731 - وعن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا إذا حضرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع يده وإنا حضرنا معه طعاما فجاءت جارية كأنها تدفع فذهبت لتضع يدها في الطعام فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها ثم جاء أعرابي كأنما يدفع فأخذ بيده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله تعالى عليه وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها فأخذت بيدها فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يديهما ثم ذكر اسم الله تعالى وأكل رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله في باب أدب الطعام ما نقله عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال كنا إذا حضرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع يده وذلك لكمال احترامهم للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يضعون أيديهم في الطعام حتى يضع يده فحضر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم طعاما تقدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بدءوا جاءت جارية يعني طفلة صغيرة كأنما تدفع دفعا يعني كأنها(4/192)
تركض فأرادت أن تضع يدها في الطعام بدون أن تسمى فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم بيدها ثم جاء أعرابي كذلك كأنما يدفع دفعا فجاء يده في الطعام فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم بيده ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الأعرابي وهذه الجارية جاء بهما الشيطان لأجل أن يستحل الطعام بهما إذا أكلا بدون تسمية وهما قد يكونان معذورين لجهلهما هذه لصغرها وهذا أعرابي لكن الشيطان أتى بهما من أجل أنهما إذا أكلا بدون تسمية شارك في الطعام ثم أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أن يد الشيطان مع أيديهما في يد النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث يدل على فوائد: منها: احترام الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأدبهم معه.
ومنها: أنه ينبغي إذا كان هناك كبير على الطعام أل يتقدم أحد قبل أكله بل يؤثرون الكبير بالأكل أولا لأن التقدم بين يدي الكبير غير مناسب وينافى الأدب ومنها: أن الشيطان يأمر الإنسان ويحثه ويزجره على فعل ما لا ينبغي وقد جاء في القرآن الكريم: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ(4/193)
وَالْمُنْكَرِ} فدل هذا على أن الشيطان له إمرة على بني آدم والمعصوم من عصمه الله ومنها: أن الإنسان إذا أتى في أثناء الطعام فليسم ولا يقل سمى الأولون قبلي ولكن إذا كانوا جميعا وبدؤوا بالطعام جميعا فهل يكفى تسمية الواحد؟ والجواب: إن كان الواحد سمى سرا فإن تسميته لا تكفى لأن الآخرين لم يسمعوها وإن سمى جهرا ونوى عن الجميع فقد يقال إنها تكفي وقد يقال الأفضل أن يسمي كل إنسان لنفسه وهذا أكمل وأحسن.
ومن فوائد هذا الحديث: أن للشيطان يدا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمسك بيده ومنها أيضا: أن هذا الحديث آية من آيات الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أعلمه الله تعالى بما حصل في هذه القصة وان الشيطان دفع الأعرابي والجارية وأنه أمسك بأيديهم أي بأيدي الثلاثة بيده الكريمة صلوات الله وسلامه عليه ومنها: أنها إذا جاء أحد يريد أن يأكل ولم تسمعه سمى فأمسك بيده حتى يسمي لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمسك بأيديهم ولم يقل سميا بل(4/194)
أمسك بأيديهم حتى يكون في ذلك ذكرى لهم يذكرون هذه القصة ولا ينسون التسمية في المستقبل ومن فوائد هذا الحديث: تأكد التسمية عند الأكل والصحيح أن التسمية عند الأكل واجبة وأن الإنسان إذا لم يسم فهو عاص لله عز وجل وراض بأن يشاركه في طعامه أعدى عدو له وهو الشيطان فلذلك كانت التسمية واجبة فإن نسيت التسمية في أوله وذكرت في أثنائه فقل بسم الله أوله وآخره
732 - وعن أمية بن مخشي الصحابي رضي الله عنه قال: كان رسول صلى الله عليه وسلم جالسا ورجل يأكل فلم يسم الله حتى لم يبق من طعامه لقمة فلما رفعها إلى فيه قال: بسم الله أوله وآخره فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ما زال الشيطان يأكل معه فلما ذكر اسم الله استقاء ما في بطنه رواه أبو داود والنسائي
733 - وعن عائشة رضي الله عنه قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/195)
يأكل طعاما في ستة من أصحابه فجاء أعرابي فأكله بلقمتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما إنه لو سمى لكفاكم رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح
734 - وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مستغنى عنه ربنا رواه البخاري
735 - وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أكل طعاما فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث ساقها المؤلف رحمه الله في (كتاب أدب الطعام (وفيها دلالة على أمور: منها: أن الإنسان إذا لم يسم الله على طعامه فإن الشيطان يأكل معه لحديث أمية بن مخشى أن رجلا أكل طعاما فلم يسم فلما(4/196)
بقى لقمة واحدة تذكر فسمى الله تعالى فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر أن الشيطان كان يأكل معه فلما ذكر الله قاء الشيطان ما أكله وهذه من نعمة الله سبحانه وتعالى أن الشيطان يحرم أن يأكل معنا إذا سمينا في أول الطعام وكذلك إذا سمينا في آخره وقلنا بسم الله أوله وآخره فإن ما أكله يتقيؤه فيحرم إياه وفي الحديث دليل على أن الشيطان يأكل لأنه أكل من هذا الطعام فالشيطان يأكل ويشرب ويشارك الآكل والشارب إذا لم يسم الله تعالى على آكله وشربه وكذلك ذكر حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل في سنة نفر من أصحابه فجاء أعرابي فدخل معهم فأكل الباقي بلقمتين هذا كأنه جائع والله أعلم فجاء منهما في الأكل فأكل الباقي بلقمتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه لو سمى لكفاكم لكنه لم يسم فأكل الباقي كله بلقمتين ولم يكفه وهذا يدل على أن الإنسان إذا لم يسم نزعت البركة من طعامه لأن الشيطان يأكل معه فيكون الطعام الذي يظن أنه يكفيه لا يكفيه لأن البركة تنزع منه وبقية الأحاديث فيها دليل على أن الإنسان ينبغي له إذا أكل أكلا أن يحمد الله سبحانه وتعالى وأن يقول: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة ومعنى ذلك أنه لولا أن الله تعالى يسر لك هذا الطعام ما(4/197)
حصل لك كما قال تعالى: أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ فالإنسان لولا أن الله ييسر له الطعام من حين أن يبذر ثم ينبت ثم يحصد ثم يحضر إليه ثم يطحن ثم يعجن ثم يطبخ ثم ييسر الله له الأكل ما تيسر له ذلك ولهذا قال بعض العلماء إن الطعام لا يصل إلى الإنسان ويقدم إليه إلا وقد سبق ذلك نحو مائة نعمة من الله لهذا الطعام ولكننا أكثر الأحيان في غفلة عن هذا نسأل الله أن يطعمنا وجميع المسلمين الطعام الحلال وأن يرزقنا شكر نعمته إنه على كل شيء قدير وفي حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه حث النبي صلى الله عليه وسلم على قول: الحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغى عنه ربنا أي إننا لا نستغني عن الله عز وجل ولا أحد يكفينا دونه فهو سبحانه حسبنا وهو رازقنا جل وعلا(4/198)
باب لا يعيب الطعام واستحباب مدحه
736 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما قط إن اشتهاه أكله وإن كرهه تركه متفق عليه
737 - وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سال أهله الأدم فقالوا: ما عندنا إلا خل فدعا به فجعل يأكل ويقول: نعم الأدم الخل نعم الأدم الخل رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (باب لا يعيب الطعام واستحباب مدحه) والطعام: ما يطعمه من مأكول ومشروب والذي ينبغي للإنسان إذا قدم له الطعام أن يعرف قدر نعمة الله سبحانه وتعالى بتيسيره وأن يشكره على ذلك وألا يعيبه إن كان يشتهيه وطابت به نفسه فليأكله وإلا فلا يأكله ولا يتكلم فيه بقدح أو بعيب ودليل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعاما قط يعني لم يعب أبدا فيما مضى طعاما ولكنه إن(4/199)
اشتهاه أكله وإلا تركه ولا يعيبه مثال ذلك رجل قدم له تمر وكان التمر رديئا فلا يقل هذا تمر رديء بل يقال له إن اشتهيته فكل وإلا فلا تأكله أم أن تعيبه وهو نعمة أنعم الله بها عليك ويسرها لك فهذا لا يليق كذلك إذا صنع طعام فقدم إليه ولكنه لم يعجبه فلا يعيبه ويقال له إن كان هذا الطبخ قد ساغ لك فكل وإلا فاتركه وأما في مدح الطعام والثناء عليه فذكر حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهله الأدم فقالوا: ما عندنا شيء إلا الخل والخل عبارة عن ماء يوضع فيه التمر حتى يكون حلوا فجيء إليه بالخل يأتدم به يعني يغط فيه الخبز ويأكله ويقول: نعم الأدم الخل نعم الأدم الخل وهذا ثناء على الطعام لأن الخل وإن كان شرابا يشرب لكن الشراب يسمى طعاما قال الله تعالى: فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي وإنما سمى طعاما لأن له طعما يطعم(4/200)
وهذا أيضا من هدى النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أعجبه الطعام أثنى عليه وكذلك مثلا لو أثنيت على الخبر قلت نعم الخبز خبز فلان أو ما أشبه ذلك فهذا أيضا من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم(4/201)
باب ما يقوله من حضر الطعام وهو صائم إذا لم يفطر
738 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دعي أحدكم فليجب فإن كان صائما فليصل وإن كان مفطرا فليطعم رواه مسلم قال العلماء: معنى فليصل فليدع ومعنى فليطعم فليأكل
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (باب ما يقوله من حضر الطعام وهو صائم إذا لم يفطر) ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيمن دعي إلي الطعام وهو صائم قال: فإن كان صائما فليصل وإن كان منفطرا فليطعم فليصل: يعني فليدعو لأن الصلاة هنا المراد بها الدعاء كما هو في اللغة العربية أن الصلاة هي الدعاء أما في الشرع فالصلاة هي العبادة المعروفة إلا إذا دل الدليل علي أن المراد بها الدعاء فهو علي ما دل عليه الدليل(4/202)
فالإنسان إذا دعي إلى الطعام وحضر فلا يكفي الحضور بل يأكل لأن الرجل الذي دعاك لم يصنع الطعام إلا ليؤكل فقد تكلف لك وصنع طعاما أكثر من طعام أهله ودعاك إليه فإذا قلنا لا حرج عليك إن تركت الأكل لزم من هذا أن يبقى طعامه لم يؤكل فمثلا لو دعا عشرة وصنع لهم طعاما وقلنا إن الواجب الحضور دون الأكل ثم قاموا ولم يأكلوا لصار في ذلك مفسدة لماله ومضيعة لماله وصار في قلبه على الحاضرين شيء لماذا لم يأكلوا طعامي؟ فتقول إذا دعاك داع فالسنة أن تجيبه إلا إذا كان الداعي هو الزوج في وليمة العرس فإن الواجب أن تجيبه إلى دعوته ولا يحل لك أن تمنع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من لم يجب فقد عصى الله ورسوله يعني دعوة الوليمة أما غيرها من الدعوات فأنت بالخيار مثل ذلك لو أن إنسانا دعاك في طعام لأنه قدم من سفر أو(4/203)
لأنه دعا أصحابه أو ما أشبه ذلك فأنت بالخيار إن شئت فأجب وإن شئت فلا تجب لكن الأفضل أن تجيب وهذا الذي عليه جمهور العلماء وقال بعض العلماء يجب أن تجيب في دعوة الطعام في العرس وغيره إلا لسبب شرعي فإذا حضرت فإن كنت مفطرا فكل وإن كنت صائما فادع لصاحب الطعام وأخبره بأنك صائم حتى لا يكون في قلبه شيء وإن رأيت أنك إذا أفطرت وأكلت صار أطيب لقلبه فأفطر إلا أن يكون الصوم صوم فريضة فلا تفطر فتبين الآن أن المسألة ثلاثة أحوال: أولا: إذا دعاك وأنت مفطر فكل ثانيا: إذا دعاك وأنت صائم صوم فريضة فلا تأكل ولا تفطر ثالثا: إذا دعاك وأنت صائم صوم نقل فأنت بالخيار إن شئت فأفطر وكل وإن شئت فلا تأكل واخبره بأنك صائم واتبع ما هو الأصلح إذا رأيت أن من الخير أن تفطر فأفطر وكل وإلا فلزوم الصيام أولى أما البطاقات فلا تجب الإجابة فيها إلا إذا علمت أن الرجل أرسل إليك البطاقة بدعوة حقيقية لأن كثيرا من البطاقات ترسل إلى(4/204)
الناس من باب المجاملة ولا يهمه حضرت أم لم تحضر لكن إذا علمت أنه يهمه أن تحضر لكونه قريبا لك أو صديقا لك فأجب(4/205)
باب ما يقوله من دعي إلي طعام فتبعه غيره
739 - عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: دعا رجل النبي صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه له خامس خمسة فتبعهم رجل فلما بلغ الباب قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا تبعنا فإن شئت أن تأذن له وإن شئت رجع قال: بل آذن له يا رسول الله متفق عليه
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في (كتاب أدب الطعام) : (باب ما يقوله من دعي إلى الطعام فتبعه غيره) ثم ذكر حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه أن رجلا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعام خامس خمسة يعني حدد العدد بأنهم خمسة فتبعهم رجل فكانوا ستة فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم منزل الداعي استأذن للرجل السادس قال صلى الله عليه وسلم إن هذا تبعنا فإن شئت أن تأذن له وإن شئت رجع ففي هذا دليل على فوائد أولا: أنه يجوز للإنسان إذا دعا قوما أن يحدد العدد ولا حرج في ذلك وبعض الناس يقول: إنه إذا حدد العدد فإنه بخيل(4/206)
ولكن يقال قد يكون الإنسان قليل ذات اليد يحتاج أن يحدد لأجل أن يصنع الطعام الذي لا يزيد عن كفايتهم ولا سيما في مكان يكون فيه عامة الناس فقراء أما الأغنياء فالحمد لله لا يحددون وفيه أيضا: دليل على جواز اتباع الرجل للمدعوين لعله يحصل علي طعام لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع هذا الرجل من اتباعهم بل استأذن له ولأنه ورد أيضا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه حين تبع النبي صلى الله عليه وسلم من أجل أن يشبع بطنه وفيه أيضا: دليل على أنه إذا جاء مع الإنسان من لم يدع فإنه يستأذن له خصوصا إذا كنت تظن أن صاحب البيت دعاك لغرض خاص لا يجب أن يطلع عليه أحد فحينئذ لابد أن تستأذن وفيه أيضا: دليل على أنه لا حرج علي صاحب البيت إذا لم يأذن للذي تبع المدعو لأنه لو كان في ذلك حرج ما استأذنه النبي صلى الله عليه وسلم فلما استأذنه دل على أنه بالخيار إن شاء أذن وإن شاء قال ارجع وذلك أن الإنسان إذا استأذن علي شخص فصاحب البيت بالخيار إن شاء أذن له وإن شاء قال ارجع وقد قال الله تعالى: وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ فلا يكن في صدرك حرج ولا في نفسك ضيق إذا استأذنت علي(4/207)
شخص وقال ارجع أنا الآن مشغول خلافا لبعض الناس إذا استأذن على إنسان وقال له: ارجع أنا مشغول صار في قلبه شيء وهذا غلط لأن الناس لهم حاجات خاصة في بيوتهم وقد يكون ذلك لهم تعلقات بأناس آخرين أهم فإذا استأذنت علي شخص في البيت وقال لك الآن عندي شغل فارجع وارجع بكل راحة وبكل طمأنينة لأن هذا هو الشرع(4/208)
باب الأكل مما يليه ووعظه وتأديبه من يسيء أكله
740 - عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما قال: كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا غلام سم الله تعالى وكل بيمينك وكل مما يليك متفق عليه قوله: تطيش بكسر الطاء وبعدها ياء مثناه من تحت معناه تتحرك وتمتد إلى نواحي الصحفة
741 - وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن رجلا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال: كل بيمينك قال: لا أستطيع قال: لا استطعت ما منعه إلا الكبر فما رفعها إلى فيه رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في (كتاب أدب الطعام) : (باب الأكل مما يليه ووعظه وتأديبه من يسيء أكله)(4/209)
وقد سبق لنا الكلام على أن الكل باليمين والشرب باليمين واجب وأنه يحرم على الإنسان أن يأكل بشماله أو يشرب بشماله وأن من أكل بشماله أو شرب بشماله فإنه عاص وآثم عاص لله ورسوله وآثم ومشابه للشيطان ولأولياء الشيطان من الكفار والواجب على المسلم أن يأكل باليمين إلا لعذر كما لو كانت اليمين مشلولة أو ما أشبه ذلك فاتقوا الله ما استطعتم ولهذا ذكر المؤلف حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل يأكل بشماله: كل بيمينك قال: لا أستطيع قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا استطعت يعني دعا عليه أن يعجز أن يرفع يده اليمنى إلى فمه لأنه ما منعه إلا الكبر والعياذ بالله فدعا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يرفعها بعد ذلك إلى فمه ويحتمل قوله ما منعه إلا الكبر يعني إلا التكبير عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ويحتمل أنه ما منعه إلا الكبر يعني ما منعه أن يأكل بيمينه إلا الكبر وأيا كان فإن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عليه بهذه الدعوة التي أوجبت أن تنشل يده حتى لا ترفع إلى فمه دليل علي أن الأكل بالشمال حرام وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يأكل بشماله ويشرب(4/210)
بشماله فأنت الآن أمامك هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي الشيطان فهل تأخذ بهدي الرسول أو بهدي الشيطان؟ وكل مؤمن يقول آخذ بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم يأكل بيمينه وأمر بالأكل باليمين ويشرب بيمينه وأمر بالشرب باليمين والشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله فاختر أي الطريقين شئت ولهذا كان أولياء الشيطان من اليهود والنصارى والمشركين لا يعرفون الأكل إلا بالشمال ولا الشرب إلا بالشمال لأنهم أولياء الشيطان تولاهم الشيطان والعياذ بالله واستحوذ عليهم فإياك أن تكون مثلهم وبعض الناس إذا كان يأكل وأراد أن يشرب يمسك الكأس باليسار ويشرب وهذا لا يجوز لأن الحرام لا يباح إلا للضرورة وهذا ليس له ضرورة يستطيع أن يمسك الكأس من أسفله باليد اليمنى فغالب كئوس الناس اليوم إما من البلاستك يشرب بها ثم ترمي ولا تغسل أو من الحديد أو الزجاج فيمكن غسلها حتى لو تلطخت ولكن لا يجوز للإنسان أن يأكل بشماله أو يشرب بشماله فإن فعل فهو عاص لله ورسوله عاص للرسول لأنه نهى عن(4/211)
ذلك وعاص لله لأن معصية الرسول معصية لله قال الله تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله وقال: {ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا} والرسول ما يتكلم من عند نفسه بل يتكلم لأنه رسول رب العالمين سبحانه وتعالى وذكر المؤلف رحمه الله حديث عمر بن أبي سلمة ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن أبي سلمة بن أم سلمة وأم سلمة مات عنها زوجها أبو سلمة رضي الله عنه وكانت تحبه حبا عظيما وهو ابن عمها وحضر النبي صلى الله عليه وسلم وفاته ودخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقد شخص بصره أي انفتح انفتح انفتاحا كبيرا فقال صلى الله عليه وسلم: إن الروح إذا قبض تبعه البصر لأن الروح بإذن الله جسم لطيف خفيف يخرج من البدن ولا يمكن أن نشاهده بل يشاهده الميت فيشاهد نفسه خرجت من جسده قال: إن الروح إذا قبضت تبعها البصر فضج ناس من أهله لما سمعوا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم عرفوا أنه مات فضجوا كعادة الناس لأنه في الجاهلية إذا مات الميت دعوا بالويل والثبور(4/212)
واثبوراه واويلاه وما أشبه ذلك فقال صلى الله عليه وسلم لا تدعوا علي أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون علي ما تقولون ثم أغمض النبي صلى الله عليه وسلم بصره يعني رد أجفانه بعضها إلى بعض لئلا تبقى عيناه مفتوحين وهكذا ينبغي أن يغمض الميت إذا مات لأنه إذا برد ما تستطيع أن تغمض عينيه فما دام حارا فأغمض عينيه وقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبة في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وافسح له في قبره ونور له فيه يا لها من دعوات كلنا يتمناها اللهم اغفر لأبي سلمة يعني ذنوبه وارفع درجته في المهديين أي في جنات النعيم جعلنا الله من أهلها: وافسح له في قبره أي وسع له في قبره ونور له فيه لأن القبر ظلمة إلا من نوره الله عليه نور الله قبورنا واخلفه في عقبة يعني كن خليفته في عقبه وكانت أم سلمة رضي الله عنها قد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا أصيب بمصيبة فقال: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها فقالت ذلك لما مات زوجها وابن عمها وأحب الناس إليها(4/213)
ثم جعلت تفكر تقول في نفسها من خير من أبي سلمة فهي مؤمنة بأن الله سيخلف لها خيرا منه لكن تقول من خير من أبي سلمة؟ فما أن انتهت عدتها من وفاة زوجها حتى خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فكان النبي صلى الله عليه وسلم خيرا لها من أبي سلمة بلا شك ثم إن الله استجاب دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال في أبي سلمة: اخلفه في عقبه خلفه الله في عقبة وجعل خليفة أبيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نعم الخليفة خلف أبا سلمة في أهله وفي أولاده وكان منهم عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه وكان صغيرا غلاما جلس مع الرسول صلى الله عليه وسلم يأكل فجعلت يده تطيش في الصحفة صبي صغير ما تعلم تروح يده يمينا ويسارا يأكل مما يليه ومن وسط الصحفة ومن الجانب الآخر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا غلام سم الله يعني قل بسم الله عند الأكل وكل بيمينك وكل مما يليك فعلم الرسول هذا الغلام ثلاث سنن: سم الله والتسمية على الأكل واجبة وكل بيمينك والأكل باليمين واجب وكل مما يليك تأدبا مع صاحبك لأن من سوء الأدب أن تأكل من حافة صاحبك فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنن في أكله(4/214)
واحدة وهذه من بركات النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله فيه بركة فيعلم في كل مناسبة وكذلك ينبغي لطالب العلم وغير طالب العلم كل من علم سنة ينبغي أن يبينها في كل مناسبة ولا تقل أنا لست بعالم نعم لست بعالم لكن عندك علم قال النبي صلى الله عليه وسلم بلغوا عني ولو آية فينبغي للإنسان في مثل هذه الأمور أن ينتهز الفرص كلما سمحت الفرصة لنشر السنة فانشرها يكن لك أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة(4/215)
باب النهي عن القران بين تمرتين ونحوهما إذا أكل جماعة إلا بإذن رفقته
742 - عن جبلة بن سحيم قال: أصابنا عام سنة مع ابن الزبير فرزقنا تمرا وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يمر بنا ونحن نأكل فيقول: لا تقارنوا فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقران ثم يقول: إلا أن يستأذن الرجل أخاه متفق عليه(4/216)
باب ما يقوله ويفعله من يأكل ولا يشبع
743 - عن وحشي بن حرب رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع؟ قال: فلعلكم تفترقون قالوا: نعم قال فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه رواه أبو داود
[الشَّرْحُ]
هذان بابان ذكرهما النووي رحمه الله في (كتاب أدب الطعام) أما أولهما: فهو في النهي عن القرآن بين التمرتين ونحوهما مما يؤكل أفرادا إذا كان مع جماعة إلا بإذن أصحابه فمثلا الشيء الذي جرت العادة أن يؤكل واحدة واحدة كالتمر إذا كان معك جماعة فلا تأكل تمرتين جميعا لأن هذا يضر بإخوانك الذين معك فلا تأكل أكثر منهم إلا إذا استأذنت وقلت تأذنون لي أن آكل تمرتين في آن واحد فإن أدنوا لك فلا بأس وكذلك ما جاء في العادة بأنه يؤكل أفرادا كبعض الفواكه الصغيرة التي يلتقطها الناس حبة حبة ويأكلونها فإن الإنسان لا(4/217)
يجمع بين اثنتين إلا بإذن صاحبه الذي صاحبه الذي معه مخافة أن يأكل أكثر مما يأكل صاحبه أما إذا كان الإنسان وحده فلا بأس أن يأكل التمرتين جميعا أو الحبتين مما يؤكل أفرادا جميعا لأنه لا يضر بذلك أحدا إلا أن يخشى على نفسه من الشرق أو الغصص فإن العامة يقولون من كب اللقمة غص فإذا كان يخشى أنه لو أكل تمرتين جميعا أو حبتين جميعا مما يؤكل أفرادا أن يغص فلا يفعل لأن ذلك يضر بنفسه والنفس أمانة عندك لا يحل لك أن تفعل ما يؤذيها أو يضرها ثم ذكر المؤلف ما رواه ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهي عن القران يعني أن يقرن الإنسان بين تمرتين إلا أن يستأذن من كان معه فلا بأس أما الباب الثاني: فهو في الذي يأكل ولا يشبع ولذلك أسباب منها: أنه يسمى الله على الطعام فإن الإنسان إذا لم يسم الله علي الطعام أكل الشيطان معه ونزعت البركة من طعامه ومنها: أن يأكل من أعلى الصحفة فإن ذلك أيضا مما ينزع البركة من الصحفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهي أن يأكل الإنسان من أعلى الصحفة فإن فيه البركة فيأكل من الجوانب(4/218)
ومنها: التفرق على الطعام فإن ذلك من أسباب نزع البركة لأن التفرق يستلزم أن كل واحد يجعل له إناء خاص فيتفرق الطعام وتنزع بركته وذلك لأنك لو جعلت لكل إنسان طعاما في صحن واحد أو في إناء واحد لتفرق الطعام لكن إذا جعلته كله في إناء واحد اجتمعوا عليه وصار في القليل بركة وهذا يدل على أنه ينبغي للجماعة أن يكون طعامهم في إناء واحد ولو كانوا عشرة أو خمسة يكون طعامهم في صحن واحد بحسبهم فإن ذلك من أسباب نزول البركة والتفرق من أسباب نزع البركة(4/219)
باب الأمر بالأكل من جانب القصعة والنهي عن الأكل من وسطها وفيه: قوله صلى الله عليه وسلم وكل مما يليك متفق عليه كما سبق
744 - عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: البركة تنزل وسط الطعام فكلوا من حافتيه ولا تأكلوا من وسطه رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح
745 - وعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم قصعة يقال لها: الغراء يحملها أربعة رجال فلما أضحوا وسجدوا الضحى أتى بتلك القصعة يعني وقد ثرد فيها فالتفوا عليها فلما كثروا جثا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أعرابي: ما هذه الجلسة؟ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله جعلني عبدا كريما ولم يجعلني جبارا عنيدا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوا من حواليها ودعوا ذروتها يبارك فيها رواه أبو داود بإسناد جيد ذروتها أعلاها: بكسر الذال وضمها(4/220)
[الشَّرْحُ]
هذا الباب الذي عقد المؤلف رحمه الله في (كتاب أدب الطعام) يفيد ما أشرنا إليه فيما سبق وهو أنه ينبغي للناس أن يأكلوا من حواف القصعة يعني من جوانبها لا من وسطها ولا من أعلاها ففي حديث عبد الله بن عباس وعبد الله بن بسر رضي الله عنهما ما يدل على ذلك وان الإنسان إذا قدم إليه الطعام فلا يأكل من أعلاه بل يأكل من الجانب وإذا كان معه جماعة فليأكل مما يليه ولا يأكل مما يلي غيره وقوله صلى الله عليه وسلم: إن البركة تتنزل في وسط الطعام يدل على أن الإنسان إذا أكل من أعلاه أي من الوسط نزعت البركة من الطعام قال أهل العلم: إلا إذا كان الطعام أنواعا وكان نوع منه في الوسط وأراد أن يأخذ منه شيئا فلا بأس مثل أن يوضع اللحم في وسط الصحفة فإنه لا بأس أن تأكل من اللحم ولو كان في وسطها لأنه ليس له نظير في جوانبها فلا حرج كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتتبع الدباء يلتقطها من الصحفة كلها والدباء هي القرع وفي حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه دليل على استحباب ركعتي الضحى لقوله فلما سجدوا الضحى أي لما صلوا صلاة(4/221)
الضحى وصلاة الضحى سنة ووقتها من ارتفاع الشمس قدر رمح يعني من ربع ساعة من طلوع الشمس إلي قبيل الزوال يعني إلى أن يبقى على الظهر عشر دقائق كل هذا وقت لها وهي سنة ينبغي للإنسان أن يحافظ عليها لأنها تغني عن الصدقات التي تصبح على كل عضو من أعضاء البدن كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يصبح على كل سلامي من الناس صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس يعني كل عضو من أعضائك عليك به صدقة كل يوم لكن ليست صدقة مال فقط بل التسبيح صدقة والتكبير صدقة والتهليل صدقة وقراءة القرآن صدقة والأمر بالمعروف صدقة والنهي عن المنكر صدقة ومعونة الرجل على متاعه صدقة والكلمة الطيبة صدقه وإتيان الرجل زوجته صدقه كل شيء يتقرب به العبد إلى الله فهو صدقة ويجزئ عن ذلك وركعتان يركعهما من الضحى وهذا يدل على أن سنة الضحى سنة في كل يوم وفيه أيضا دليل على أن الإنسان عند الأكل متكئا وإنما يأكل مستوفزا يعني جاث على ركبته حتى لا يكثر من الأكل(4/222)
لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الإكثار من الأكل ما ملأ ابن آدم وعاء من بطنه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه هذا هو الأكل النافع الطبيعي وإذا جعت فكل فالأمر ليس مقصورا على ساعات معينة ولو قال قائل: إن الإنسان لو اقتصر على ثلث وثلث وثلث قد يجوع قبل أن يأتي وقت العشاء نقول إذا جعت فكل لكن كونك تأكل هذا الخفيف يكون أسهل للهضم واسهل للمعدة وإذا اشتهيت فكل وهذا من الطب النبوي لكن لا بأس بالشبع أحيانا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أبا هريرة رضي الله عنه حينما سقاه اللبن وقال: اشرب اشرب اشرب حتى قال: والله لا أجد له مساغا يعني لا أجد له مكانا فاقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وإنما الذي ينبغي أن يكون الأكثر في أكلك كما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم ثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس(4/223)
باب كراهية الكل متكئا
746 - عن أبي جحيفة وهب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا آكل متكئا رواه البخاري قال الخطابي: المتكيء هنا هو الجالس معتمدا على وطاء تحته قال وأراد أنه لا يقعد على الوطاء والوسائد كفعل من يريد الإكثار من الطعام بل يقعد مستوفزا لا مستوطئا ويأكل بلغة هذا كلام الخطابي وأشار غيره إلى أن المتكئ هو المائل على جنبه والله أعلم
747 - وعن أنس رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مقعيا يأكل تمرا رواه مسلم المقعي هو الذي يلصق أليتيه بالأرض وينصب ساقيه
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في (كتاب أدب الطعام) : (باب كراهية الأكل متكئا) الأكل ينقسم بالنسبة للجلوس له إلى قسمين: قسم منهي عنه من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو أن يأكل الإنسان متكئا إما على اليد(4/224)
اليمنى أو على اليد اليسرى وذلك لأن الاتكاء يدل على غطرسة وكبرياء وهذا معنى نفسي ولأنه إذا أكل متكئا يتضرر حيث يكون مجرى الطعام متمايلا ليس مستقيما فلا يكون على طبيعته فربما حصل في مجارى الطعام أضرار من ذلك ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي جحيفة عبد الله بن وهب السواري رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا آكل متكئا ويعني ليس من هديي أن آكل متكئا وذلك للسببين اللذين ذكرناهما: سبب معنوي يكون بالنفس وهو الكبرياء وسبب حسى يتعلق بالبدن وهو الضرر الذي ينتج عن الأكل على هذا الوجه وذكر المؤلف حديث أنس أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأكل تمرا مقعيا والإقعاء أن ينصب قدميه ويجلس على عقبيه هذا هو الإقعاء وإنما أكل النبي صلى الله عليه وسلم كذلك لئلا يستقر في الجلسة فيأكل أكلا كثيرا لأن الغالب أن الإنسان إذ كان مقعيا لا يكون مطمئنا في الجلوس فلا يأكل كثيرا وإذا كان غير مطمئن فلن يأكل كثيرا وإذا كان مطمئنا فإنه يأكل كثيرا هذا هو الغالب وربما يأكل الإنسان كثيرا وهو غير مطمئن وربما يأكل قليلا وهو مطمئن لكن من أسباب تقليل الأكل ألا يستقر الإنسان في جلسته وألا يكون مطمئنا الطمأنينة(4/225)
الكاملة والحاصل أن عندنا جلستين: الجلسة الأولى الاتكاء، وهذه ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكل متكئا وكل أنواع الجلوس الباقية جائزة ولكن أحسن ما يكون ألا تجلس جلسة الإنسان المطمئن المستقر لئلا يكون ذلك سببا لإكثار الطعام وإكثار الطعام لا ينبغي والأفضل أن يجعل الإنسان ثلثا للأكل وثلثا للشراب وثلثا للنفس هذا أصح ما يكون في الغذاء فإن تيسر فهذا هو المطلوب ولا بأس أن يشبع الإنسان أحيانا(4/226)
باب استحباب الأكل بثلاثة أصابع واستحباب لعق الأصابع وكراهة مسحها قبل لعقها واستحباب لعق القصعة وأخذ اللقمة التي تسقط منه وأكلها وجواز مسحها بعد اللعق بالساعد والقدم وغيرها
748 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أكل أحدكم طعاما فلا يمسح أصابعه حتى يلعقها أو يلعقها متفق عليه
749 - وعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع فإذا فرغ لعقها رواه مسلم
750 - وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال: إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة رواه مسلم(4/227)
751 - وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان من أذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة رواه مسلم
752 - وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه فإذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان فإذا فرغ فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة رواه مسلم
753 - وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل طعاما لعق أصابعه الثلاث وقال: إذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها وليمط عنها الأذى وليأكلها ولا بدعها للشيطان وأمرنا أن نسلت القصعة وقال: إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة رواه مسلم
754 - وعن سعيد بن الحارث أنه سأل جابرا(4/228)
رضي الله عنه عن الوضوء مما مست النار فقال لا قد كنا زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نجد مثل ذلك الطعام إلا قليلا فإذا نحن وجدناه لم يكن لنا مناديل إلا أكفنا وسواعدنا وأقدامنا ثم نصلي ولا نتوضأ رواه البخاري
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف رحمه الله في (كتاب آداب الطعام) تضمنت مسائل متعددة المسألة الأولي: أنه ينبغي للإنسان أن يأكل بثلاثة أصابع الواسطى والسبابة والإبهام لأن ذلك أدل على عدم الشره وأدل على التواضع ولكن هذا في الطعام الذي يكفي فيه ثلاثة أصابع أما الطعام الذي لا يكفى فيه ثلاثة أصابع مثل الأرز فلا بأس بأن تأكل بأكثر لكن الشيء الذي تكفى فيه الأصابع الثلاثة يقتصر عليها فإن هذا سنة النبي صلى الله عليه وسلم المسألة الثانية: أنه ينبغي للإنسان إذا انتهى من الطعام أن يلعق أصابعه قبل أن يمسحها بالمنديل كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم يلعقها هو أو يلعقها غيره أما كونه هو يلعقها فالأمر ظاهر وكونه يلعقها(4/229)
غيره هذا أيضا ممكن فإنه إذا كانت المحبة بين الرجل وزوجته محبة قوية يسهل عليه جدا أن تلعق أصابعه أو أن يلعق أصابعها فهذا ممكن وقول بعض الناس: إن هذا لا يمكن أن يقوله النبي عليه الصلاة والسلام لأنه كيف يلعق الإنسان أصابع غيره؟ نقول إن النبي عليه الصلاة والسلام لا يقول إلا حقا ولا يمكن أن يقول شيئا لا يمكن فالأمر في هذا ممكن جدا وكذلك الأولاد الصغار أحيانا الإنسان يحبهم ويلعق أصابعهم بعد الطعام هذا شيء ممكن فالسنة أن تلعقها أو تلعقها غيرك والأمر الحمد لله واسع ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم فليلعقها غيره حتى نقول هذا إجبارا للناس على شيء يشق عليهم العقها أنت أو ألعقها غيرك وقال النبي عليه الصلاة والسلام إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة قد يكون البركة ونفع الطعام الكثير بهذا الجزء الذي تلعقه من أصابعك حتى إنه ذكر لي بعض الناس عن بعض الأطباء أن الأنامل بإذن الله تفرز إفرازات عند الطعام تعين على هضم الطعام في المعدة وهذه من الحكمة ولكننا نفعلها سنة إن حصلت لنا هذه الفائدة(4/230)
الطيبة حصلت وإن لم تحصل فلا يهمنا الذي يهمنا امتثال أمر النبي عليه الصلاة والسلام المسألة الثالثة: أنه ينبغي للإنسان أن يلعق الصحن أو القدر أو الإناء الذي فيه الطعام إذا انتهيت فالحس حافته كما أمر بهذا النبي عليه الصلاة والسلام فإنك لا تدري في أي طعامك البركة ومع الأسف أن الناس يتفرقون عن الطعام بدون تنفيذ هذه السنة فتجد حافات الآنية عليها الطعام كما هي والسبب في هذا الجهل بالسنة ولو أن طلبة العلم إذا أكلوا مع العامة وجهوهم إلى هذه السنة وغيرها من سنن الأكل والشرب لانتشرت هذه السنن لكن نسأل الله أن يعاملنا بعفوه فنحن نتجاوز كثيرا ونتهاون في الأمر وهذا خلاف الدعوة إلى الحق المسألة الرابعة: أن الإنسان إذا سقطت منه اللقمة فلا يتركها بل يأخذها وإذا كان فيها أذى يمسحه لا يأكل الأذى لأن الإنسان ليس مجبرا أن يأكل شيئا لا يشتهيه يمسح الأذى كأن يكون فيها عود أو تراب أو ما أشبه ذلك امسحه ثم كلها لماذا؟ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ولا يدعها للشيطان لأن الشيطان يحضر ابن آدم في كل شئونه إن أراد أن يأكل حضره وإن أراد أن يشرب حضره وإن أراد أن يأتي أهله حضره حتى(4/231)
يشاركه كما في الآية الكريمة وشاركهم في الأموال والأولاد فهو يشارك أهل الغفلة فإذا قلت وأنت تأكل: بسم الله منعته من الأكل، ما يقدر على الكل معك وقد سميت على الطعام أبدا إذا لم تقل بسم الله أكل معك فإذا قلت: الله بسم فإن الشيطان يترقب اللقمة إذا سقطت بالأرض فإن رفعتها أنت فهي لك وإن تركتها أكلها هو فصار إذا لم يشاركك في الطعام شاركك فيما يسقط من الطعام ولهذا فضيق عليه في ذلك أيضا فإذا سقطت اللقمة أو التمرة أو ما أشبه ذلك في الأرض فخذها وإذا كان علق بها أذى من تراب أو عيدان أو ما أشبه ذلك فأزل ذلك الأذى ثم كلها ولا تدعها للشيطان المسألة الخامسة: الوضوء من الطعام المطبوخ الذي مسته النار كالخبز والأرز والجريش وغيرها هل يتوضأ الإنسان إذا أكله أم لا؟ قال بعض العلماء إنه يجب على من أكل شيئا مطبوخا على النار أن يتوضأ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالضوء مما مست النار ولكن الصحيح أنه لا يجب كما في حديث جابر في صحيح البخاري الذي أورده المؤلف رحمه الله فالصحيح أنه لا يجب بل هو سنة يعني الأفضل أن يتوضأ حتى ولو كنت على وضوء إذا أكلت(4/232)
شيئا مطبوخا على النار فالأفضل أن نتوضأ لكنه ليس بواجب لأن آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار يعني عدم الالتزام به ويدل لهذا أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل نتوضأ من لحوم الإبل قال: نعم؟ قال: نتوضأ من لحوم الغنم قال: إن شئت لأن لحم الإبل إذا أكله الإنسان انتقض وضوءه لو كان على وضوء فلابد أن نتوضأ ولكن ما يجب غسل الفرج لأنه ما بال ولا تغوط إنما يجب الوضوء سواء كان اللحم نيئا أو مطبوخا وسواء أكلت الهبر أو الكبد أو القلب أو الكرش أو الأمعاء أي شيء تأكله من البعير فإنه يجب عليك أن تتوضأ لأنه كله ناقض للوضوء أما غيره فإذا أكلته مطبوخا فالأفضل أن تتوضأ ولا يجب عليك ذلك هذه من الآداب والحقيقة أن هذا الكتاب رياض الصالحين كتاب جامع نافع ويصدق عليه أنه رياض الصالحين ففيه من كل زوج بهيج فيه أشياء كثيرة من مسائل العلم ومسائل الآداب لا تكاد تجدها في غيره(4/233)
باب أدب الشرب واستحباب النفس ثلاثا خارج الإناء وكراهة التنفس في الإناء واستحباب إدارة الإناء على الأيمن فالأيمن بعد المبتدئ
757 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الشراب ثلاثا متفق عليه يعني يتنفس خارج الإناء
758 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تشربوا واحدا كشرب البعير ولكن أشربوا مثنى وثلاث وسموا إذا أنتم شربتم واحمدوا إذا أنتم رفعتم رواه الترمذي وقال حديث حسن
759 - وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتنفس في الإناء متفق عليه(4/234)
يعني: يتنفس في نفس الإناء
760 - وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بلبن قد شيب بماء وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر رضي الله عنه فشرب ثم أعطى الأعرابي وقال: الأيمن فالأيمن متفق عليه
761 - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره أشياخ فقال للغلام أتأذن لي أن أعطى هؤلاء فقال الغلام لا والله لا أوثر بنصيبي منك أحدا فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده متفق عليه قوله: تله أي: وضعه وهذا الغلام هو ابن عباس رضي الله عنهما
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (باب أدب الشرب واستحباب النفس ثلاثا خارج(4/235)
الإناء وكراهة التنفس في الإناء واستحباب إدارة الإناء على الأيمن فالأيمن بعد المبتدئ) وقد بين المؤلف في الباب السابق ما يتعلق بالطعام فقد سبق جمل كثيرة من آداب الأكل ولله سبحانه وتعالى على عباده نعم لا تحصى كما قال الله تعالى: وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا فالأكل والشرب من نعم الله سبحانه وتعالى: ولا يعرف قدر هذه النعمة إلا من حرمها نسأل الله ألا يحرمنا إياها فمن حرمها وذاق الجوع وذاق العطش عرف نعمة الله تعالى بالأكل والشرب وهذه إحدى الحكم من الصيام أن الإنسان يمسك عن الأكل والشرب حتى يعرف قدر نعمة الله عليه بتيسير الأكل والشرب وللشرب آداب منها أن يسمى الله عز وجل إذا شرب فيقول عند الشرب: بسم الله ومنها أن يتنفس في الشرب ثلاثا لقول أنس بن مالك رضى الله عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا شرب تنفس في الشراب ثلاثا كيف يتنفس في الشراب ثلاثا؟ يعني يشرب ثم يفصل الإناء عن فمه ثم يشرب الثالثة ولا يتنفس في الإناء لحديث أبي قتادة(4/236)
رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى أن يتنفس الإنسان في الإناء والحكمة من ذلك أن النفس في الإناء مستقذر على من يشرب من بعده وربما تخرج من النفس أمراض في المعدة أو في المريء أو في الفم فتلتصق بالإناء وربما يشرق إذا تنفس في الإناء فلهذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتنفس الإنسان في الإناء بل يتنفس ثلاثة أنفاس كل نفس يبعد فيه الإناء عن فمه وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن هذا أهنأ وأبرأ وأمرأ أهنأ لأنه يشرب بمهلة وأبرأ: يعني أبرأ من العطش، وأسلم من المرض.
وأمرأ: أسهل في النزول إلى الأمعاء ووجه ذلك أن العطش عبارة عن حرارة المعدة لقلة الماء أو لغير ذلك وأحيانا يكون المرض فإذا جاءها الماء دفعة واحدة ربما يضر فإذا راسله الإنسان عليها مراسلة كان هذا أبرأ في إزالة العطش وفي السلامة من المرض ولأثر الذي يحصل بورود الماء على المعدة دفعة واحدة ولهذا ينبغي أيضا إذا شرب أن لا يعب الماء عبا وإنما يمصه مصا لا يعبه عبا فيأخذ جرعات كبيرة بل يمصه مصا حتى يأتي المعدة شيئا فشيئا فيمصه في النفس الأول ثم يطلق الإناء ثم يمصه في النفس الثاني ثم يطلق الإناء ثم في النفس الثالث هذه(4/237)
هي السنة وأما التناول يعني بمن يبدأ في إعطاء الإناء إذا أراد أن يعطي الشراب أحدا؟ مثال ذلك: رجل دخل ومعه شراب شاي أو قهوة بمن يبدأ نقول: إذا كان أحد من الناس قد طلب الشراب فقال هات الماء مثلا فإنه يبدأ به هو الأول وإذا لم يكن أحد طلبه فإنه يبدأ بالأكبر ثم الأكبر يناوله من على يمينه وإذا كان لكل واحد إناء كالكئوس مثلا فليبدأ بالأكبر ثم يعطي الذي عن يساره لأن الذي عن يساره هو الذي عن يمين الصاب والصاب هو الذي سيناول فيبدأ بمن على يمينه والذي على يمين الصاب هو الذي على يسار الشارب لأن الصاب مستقبل للشارب فيكون من على يسار الشارب هو الذي على يمين الصاب مثال ذلك مثلا: إنسان طلب الماء فجيء إليه بالماء فشرب منه وأراد أن يناوله أحدا بعده إن كان الذي جاء بالشراب واقفا على رأسه يقول: أعطني الإناء إذا فرغت فيعطيه إياه وإن لم يكن فإنه إذا انتهى يعطيه للذي على يمينه سواء كان صغيرا أو كبيرا شريفا أو وضيعا والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بلبن قد شيب بماء فشرب وعلى يمينه(4/238)
رجل من الأعراب وعلى يساره أبو بكر وعمر فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم ناوله الأعرابي فقال عمر للأعرابي هذا أبو بكر يريد من الأعرابي أن يكرم أبا بكر ويقول خذه يا أبا بكر لأن أبا بكر مشهور معروف بين الصحابة أنه أخص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالنبي ولكن الأعرابي أخذ الإناء فشرب فهنا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم فضل المفضول على الفاضل لأن أبا بكر أفضل من الأعرابي لكن فضله عليه لأنه عن يمينه وقال: الأيمن فالأيمن والقصة الثانية: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بشراب فشرب منه وعلى يمينه غلام وعلى يساره الأشياخ الكبار فلما شرب قال للذي على يمينه وهو الغلام أتأذن لي أن أعطي هؤلاء يعني الأشياخ فقال والله يا رسول الله ما أنا بالذي أوثر بنصيبي عليك أحدا يعني ما أوثرهم على أنا أحب أن أشرب فضلتك فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده يعني أعطاه الإناء في يده فهذا دليل على أنه إذا كان الذي على اليمين أصغر سنا فإنه يفضل على الذي على اليسار ولو كان أكبر سنا والأول يدل على أنه كان الذي على اليمين أقل قدرا فإنه يعطي ويقدم على الذي هو أعظم قدرا إذا كان على اليسار لقول الرسول: الأيمنون الأيمنون(4/239)
الأيمنون ألا فيمنوا ألا فيمنوا ألا فيمنوا هكذا جاء الحديث لكن هذا فمن إذا شرب يريد أن يناول من على يمينه أو على يساره أما ما يفعله الناس اليوم يأتي الرجل بالإبريق ويدخل المجلس فهنا يبدأ بالأكبر لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كانوا يبدءون به فيعطونه أولا ولأنه لما أراد أن يناول عليه الصلاة والسلام المسواك أحد الرجلين اللذين وقفا قيل له: كبر كبر وقد ورد في ذلك أيضا أحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنك إذا دخلت المجلس تبدأ بالأكبر لا بمن على يمين(4/240)
باب كراهة الشرب من فم القربة ونحوها وبيان أنه كراهة تنزيه لا تحريم
762 - عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية يعني أن تكسر أفواها ويشرب منها متفق عليه
763 - وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشرب من في السقاء أو القربة متفق عليه
764 - وعن أم ثابت كبشة بنت ثابت أخت حسان بن ثابت رضى الله عنه وعنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب في قربة معلقة قائما فقمت إلى فيها فقطعته رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وإنما قطعتها لتحفظ موضع فم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتبرك به وتصونه عن الابتذال وهذا الحديث محمول على بيان الجواز(4/241)
والحديثان السابقان لبيان الأفضل والأكمل والله أعلم
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (باب كراهة الشرب من فم القربة ونحوها وبيان أنه كراهة تنزيه لا تحريم) من آداب الشرب ألا يشرب الإنسان من فم القربة أو السقاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك والحكمة من هذا أن المياه فيما سبق ليست بتلك المياه النظيفة فإذا صارت في القربة أو في السقاء فإنه يكون فيها أشياء مؤذية عيدان أو حشرات أو غير ذلك مما هو معروف لمن كانوا يستعملون هذا من قبل فلهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم: عن اختناث الأسقية يعني أن الإنسان يكسر أفواهها هكذا ثم شرب وذكر أن رجلا شرب مرة هكذا فخرجت حية من القربة وهذا لاشك أنه على خطر إما أن تلدغه أو تؤذيه لهذا ينهي عن الشرب من فم القربة وليس من ذلك الشرب من الصنبور أو من الجرار التي يخزن فيها الماء لأن هذه معلومة ونظيفة فهو كالشرب من الأواني لكن إذا كان هناك حاجة فلا بأس أن يشرب الإنسان من فم القربة مثل أن يكون محتاجا إلى الماء وليس عنده إناء فإنه يشرب من في القربة وعلى هذا فيكون النهي عن ذلك كما قال المؤلف رحمه الله للكراهة وليس للتحريم ويستفاد من الحديث الأخير: أنه يجوز أن يشرب الإنسان قائما إذا دعت الحاجة إلى ذلك مع أن النبي صلى الله عليه وسلم وعلي آله(4/242)
وسلم نهي عن الشرب قائما لكن إذا كان هناك حاجة فلا بأس كما في هذه الحالة القربة معلقة والمعلقة تكون عالية عن القاعد وليس عنده إناء فشرب النبي صلى الله عليه وسلم من هذه القربة المعلقة قائما وفي الحديث أيضا: دليل على جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم وهو كذلك وقد كان الصحابة يتبركون بعرق النبي صلى الله عليه وسلم ويتبركون بريقه ويتبركون بثيابه ويتبركون بشعره أما غيره صلى الله عليه وسلم فإنه لا يتبرك بشيء من هذا منه فلا يتبرك بثياب الإنسان ولا بشعره ولا بأظفاره ولا بشيء من متعلقاته إلا النبي صلى الله عليه وعلى أله وسلم(4/243)
باب كراهة النفخ في الشراب
765 - عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب فقال رجل: القذاة أراها في الإناء؟ فقال: أهرقها قال: فإني لا أروي من نفس واحد؟ قال: فأبن القدح إذا عن فيك رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح
766 - وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في آداب الطعام والشراب: (باب كراهة النفخ في الشراب) ثم ذكر حديثين فيهما النهي عن النفخ في الشراب وذلك لأن الإنسان إذا نفخ ربما يحصل من الهواء الذي يخرج منه أشياء مؤذية أو ضارة كمرض ونحوه فلهذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النفخ فيه فسأله(4/244)
الرجل قال: يا رسول الله القذاة يعني تكون في الشراب يعني مثل العود الصغير أو ما أشبه ذلك فينفخه الإنسان من أجل أن يخرج فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهرقها يعني صب الماء الذي فيه القذاة ولا تنفخ فيه ثم سأله: أنه لا يروي بنفس واحد فقال: أبن الإناء عن نفسك المعنى أنه يشرب ويحتاج إلى تنفس فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين الإناء عن فمه يعني يفصله ثم يتنفس ثم يعود فيشرب إلا أن بعض العلماء استثنى من ذلك ما دعت الحاجة إليه كم لو كان الشراب حارا ويحتاج إلى السرعة فرخص في هذا بعض العلماء ولكن الأولى ألا ينفخ حتى لو كان حارا إذا كان حارا وعنده إناء آخر فإنه يصبه في الإناء ثم يعيده مرة ثانية حتى يبرد وفي هذا: دليل أن الشريعة الإسلامية كاملة من جميع الوجوه كل شيء قد علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال أبو ذر: لقد توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحه في السماء إلا ذكر لنا منه علما حتى الطيور في السماء لنا منها علم بتعليم الله ورسوله إيانا وقال رجل من المشركين لسلمان الفارسي رضى الله عنه(4/245)
علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة يعني حتى الجلوس على قضاء الحاجة لبول أو غائط قال: أجل وذكر ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ألا نستقبل القبلة بغائط ولا بول، وألا نستنجي باليمين، وألا نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وألا نستنجي برجيع أو عظم فالمهم أن شريعتنا ولله الحمد كاملة من كل وجه، ليس فيها نقص ولا تحتاج إلى أحد يكملها وفيه رد على السفهاء الذين يزعمون أن الشريعة الإسلامية إنما تنظم العبادة بين الله وبين الخلق فقط وأما المعاملات بين الناس بعضهم بعضا فإن الشريعة لا تعتني بها فيقال لهؤلاء تبا لكم وسفها لعقولكم أطول آية في كتاب الله العزيز كلها في المداينة في التعامل بين الناس وهل بعد هذا من اعتناء وما أكثر الآيات في القرآن الكريم في تنظيم المال وإصلاحه وما أشبه ذلك وكذلك في السنة فالشريعة الإسلامية ولله الحمد كاملة من كل وجه(4/246)
باب بيان جواز الشرب قائما وبيان أن الأكمل والأفضل الشرب قاعدا فيه حديث كبشة السابق
767 - وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: سقيت النبي صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم متفق عليه
768 - وعن النزال بن سبرة رضى الله عنه قال: أتى علي رضى الله عنه باب الرحبة فشرب قائما وقال إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت رواه البخاري
769 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح
770 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضى الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائما وقاعدا رواه الترمذي وقال:(4/247)
حديث حسن صحيح
771 - وعن أنس رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يشرب الرجل قائما قال قتادة: فقلنا لأنس: فالأكل؟ قال: ذلك أشر أو أخبث رواه مسلم وفي رواية له أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائما
772 - وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: لا يشربن أحد منكم قائما فمن نسى فليستقيء رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى (باب بيان جواز الشرب قائما وبيان أن الأكمل والأفضل الشرب قاعدا) فالأفضل في الأكل والشرب أن يكون الإنسان قاعدا لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا يأكل وهو قائم ولا يشرب وهو قائم أما الشرب وهو قائم فإنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذلك وسئل أنس بن مالك عن الأكل قال: ذاك أشر وأخبث يعني معناه أنه إذا نهى عن الشرب قائما فالأكل قائما من باب أولى لكن في حديث ابن عمر الذي أخرجه الترمذي وصححه قال:(4/248)
كنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم نأكل ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام فهذا يدل على أن النهي ليس للتحريم ولكنه لترك الأولى بمعنى أن الأحسن والأكمل أن يشرب الإنسان وهو قاعد وأن يأكل وهو قاعد ولمكن لا بأس أن يشرب وهو قائم وأن يأكل وهو قائم والدليل على ذلك حديث عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال: سقيت النبي صلى الله عليه وعلى آله من زمزم فشرب وهو قائم زمزم هي عين الماء التي حول الكعبة وسببها أن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ترك هاجر أم إسماعيل وابنها إسماعيل في مكة وليس فيها أحد ليس فيها سكان وليس فيها كعبة وليس فيها أحد بل وليس فيها زروع هي واد غير ذي زرع وجعل عندهما وعاء من تمر وسقاء من ماء وانصرف لأن الله أمره أن يبقيهما هنالك فلما انصرف لحقته هاجر وقالت له: كيف تذهب وتتركنا هل أمرك الله بذلك؟ قال نعم قالت إذا كان الله أمرك بذلك فإنه لن يضيعنا وهذا يدل على كمال إيمان هاجر رضى الله عنها وقصتها هذه نظير قصة أم موسى بن عمران كان فرعون مسلطا على بني إسرائيل يقتل أبنائهم ويبقى نساءهم إذلالا لهم وقد قيل أن المنجمين قالوا له إنه سيظهر من بني إسرائيل رجل يكون(4/249)
هلاكك على يده فصار يقتل أبناءهم فخافت أم موسى عليه فأوحى الله إليها وحي إلهام لا وحي بنوة أنها إذا خافت عليه تجعله في تابوت صندوق من الخشب وتلقيه في البحر وهذا شيء شديد على النفس أن تضع ولدها في تابوت وتلقيه في البحر لكنها مؤمنة واثقة بوعد الله عز وجل ففعلت جعلته في التابوت وألقته في البحر فرآه جند فرعون فأخذوه ليقتلوه فلما رأته زوجة فرعون ألقى الله محبته في قلبها وقالت: قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ واضطربت أم موسى أصبح فؤادها فارغا يعني ما كأن شيئا وراءه قد فر قلبها على ولدها مع إيمانها بالله ولمن الله عز وجل بقدرته جعل هذه الابن كلما عرضت عليه امرأة ليرضعها أبي أن يرضعها لا يرضى أن يرضع من أي امرأة فإذا أخت موسى قد أرسلتها والدته تنظر ماذا حدث له فرأت الناس يبحثون عن مرضع لهذا الصبي فقالت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} فرده الله إلى أمه قبل أن يرضع من أي امرأة ما رضع من أحد سوى أمه مع أنها قد ألقته في البحر لكن رده الله عليها(4/250)
فهاجر رضى الله عنها لما قال لها إبراهيم: إن الله أمرني بهذا قالت إذا لا يضيعنا ثم بقيت هي وطفلها في هذا المكان الذي ليس فيه أحد من بني آدم وجعلت تأكل من التمر وتشرب من الماء وتدر اللبن على الولد ويرضع حتى نفذ التمر والماء وجاعت الأم ومعلوم أن الأم إذا جاعت لا يكون فيها لبن وجعل الطفل يصيح ويبكي فبحثت بما ألهمها الله عن أقرب جبل لها تصعد عليه لعلها تسمع صوتا أو ترى أحدا فوجد أقرب مكان إليها الصفا والمشاهد الآن أن أقرب جبل للكعبة هو الصفا فصعدت عليه وتسمعت فما وجدت أحدا فنزلت وقالت: أذهب إلى الجهة الثانية وأقرب جبل إليها في الجهة الثانية وهو المروة فصعدت على المروة تسمع فلم تجد أحدا وكان بين الصفا والمروة شعيب واد مجرى سيل ومعروف أن الشعيب يكون نازلا عن الأرض فكانت إذا نزلت في الشعيب ركضت ركضا عظيما تركض من أجل أن تسمع الولد وتلتفت إليه وتراه فعلت هذا سبع مرات فلما أكملت سبع مرات إذا هي تسمع شيئا فقالت أغث إن كان عندك غواث سمعت حسا وإذا هو جبريل أمره به عز وجل أن ينزل إلى الأرض فيضرب بعقبه أو بجناحه مكان زمزم فضربه(4/251)
مرة واحدة فخرج هذا الماء ينبع فجعلت تحوطه تحجر عليه خافت أن يسيح في الأرض وينقص وشربت من الماء وإذا الماء يكفي عن الطعام والشراب وهو ماء فجعلت تشرب من هذا الماء وترضع الولد وفرج الله عز وجل عنها وكان حولها أناس ولكنهم كانوا بعيدين عنها من جرهم قبيلة من العرب كانوا حولها فرأوا الطيور تهوى إلى هذا المكان مكان زمزم الذي فيه الماء والطير يري من بعيد فقالوا ما خبرنا أن هنا ماء حتى تأوي الطيور إليه لكنهم قالوا لا يمكن للطيور أن تأوي إلا إلى الماء فتبعوا هذه الطيور حتى وصلوا إلى المكان وإذا المكان عين تنبع فنزلوا حول المرأة وأنست بهم وكبر إسماعيل وتزوج منهم بعد مدة جاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام فدخل على أهل إسماعيل وعلى هاجر وسأل زوجة إسماعيل كيف حالكم؟ فشكت الحال وتضجرت فقال لها إذا جاء زوجك فقولي له يغير عتبة بابه فجاء إسماعيل وأخبرته الذي حصل قال: هل جاءكم أحد؟ قالت: نعم جاء شيخ صفته كذا وكذا وإنه قال: أقريئه السلام وقولي له يغير عتبة بابه ماذا يريد إبراهيم بهذه الكلمة؟ يريد أن يطلقها لأن المرأة شكاية شكت زوجها يعني أن ما عندهم إلا كل بؤس(4/252)
فقال: هذا أبي وأنت العتبة فالحقي بأهلك
ثم تزوج غيرها ثم جاء إبراهيم مرة أخرى بعد أن غاب عنه مدة ودخل على بيت ابنه إسماعيل ووجد الزوجة فسألها عن حالهم فأثنت على حالهم وقالت: نحن بخير وأثنت علي الحال فقال أقرئي زوجك مني السلام وقولي له يمسك بعتبة بابه فلما جاء إسماعيل كأنه سأل هل جاء أحد؟ قالت: نعم جاءنا شيخ صفته كذا وكذا وانه يقرئك السلام ويقول يمسك عتبة بابه قال: ذاك أبي وأنت عتبة الباب وأمرني أن أمسكك فالحاصل أن زمزم ماء مبارك طعام وطعم وشفاء سقم وماء زمزم لما شرب له إن شربته لعطش رويت وإن شربته لجوع شبعت حتى إن بعض العلماء أخذ من عموم هذا الحديث أن الإنسان إذا كان مريضا وشربه للشفاء شفى وإذا كان كثير النسيان وشربه للحفظ صار حفظا وإذا شربه لأي غرض ينفعه فعلى كل حال هذا الماء ماء مبارك(4/253)
فالحاصل أن الأكمل والأفضل أن يشرب الإنسان وهو قاعد ويجوز الشرب قائما وقد شرب علي بن أبي طالب رضى الله عنه قائما وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت فدل ذلك على أن الشرب قائما لا بأس به لكن الأفضل أن يشرب قاعدا بقي أن يقال إذا كانت البرادة في المسجد ودخل الإنسان المسجد فهل يجلس ويشرب أو يشرب قائما؟ لأنه إن جلس خالف قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين وإن شرب قائما ترك الأفضل فنقول الأفضل أن(4/254)
يشرب قائما لأن الجلوس قبل صلاة الركعتين حرام عند بعض العلماء بخلاف الشرب قائما فهو أهون وعلى هذا فيشرب قائما ثم يذهب ويصلي تحية المسجد(4/255)
باب استحباب كون ساقي القوم أخرهم شربا
773 - عن أبي قتادة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ساقي القوم آخرهم شربا رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتاب أدب الطعام: (باب استحباب كون ساقي القوم أخرهم شربا) يعني الذي يسقي القوم ماء أو لبنا أو قهوة أو شايا ينبغي أن يكون هو آخرهم شربا من أجل أن يكون مؤثرا على نفسه ومن أجل أن يكون النقص إن كان على نفس الساقي وهذا لاشك أنه أحسن امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأخذا بأدب النبي صلى الله عليه وسلم لكنه إذا كان لا يشتهي أن يشرب فليس بلازم أن يشرب بعدهم إن شاء شرب وإن شاء لا يشرب المهم أن يكون هو الأخير إذا أن يشرب لما في ذلك من الإيثار وامتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يخدم إخوانه بسقيهم وإذا كان صاحب البيت فليقدم(4/256)
إليهم الشراب أو الأكل كما فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ فصاحب البيت يقرب الأكل ويناول الشراب ويكون هو آخر القوم ثم هل الأفضل أن ينصرف ولا يشاركهم في الطعام سواء كان غداء أو عشاء أو فطور أو الأفضل أن ينصرف ولا يشاركهم؟ هذا يرجع إلى عادة الناس فإذا كانت مشاركته أطيب لقلوب الضيوف وأكثر إنياسا فليأكل معهم وإذا كان الأمر بالعكس وجرت العادة أنه لا يأكل الإنسان مع ضيوفه فلا يأكل وإن فهذا أمر يرجع إلى العرف إن كان العرف أن من إكرام الضيف ألا تأكل معه وأن تجعله حرا يأكل ما شاء فلا تأكل وإن كان الأمر بالعكس فكل ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ولم يبين نوع الإكرام فيرجع في ذلك إلى ما جرى به عرف الناس(4/257)
باب جواز الشرب من جميع الأواني الطاهرة غير الذهب والفضة وجواز الكرع وهو الشرب بالفم من النهر وغيره بغير إناء ولا يد وتحريم استعمال إناء الذهب والفضة في الشرب والأكل والطهارة وسائر وجوه الاستعمال
774 - عن أنس رضى الله عنه قال: حضرت الصلاة فقام من كان قريب الدار إلى أهله وبقى قوم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخضب من حجارة فصغر المخضب أن يبسط فيه كفه فتوضأ القوم كلهم قالوا كم كنتم؟ قال: ثمانين وزيادة متفق عليه هذه رواية البخاري وفي رواية له ولمسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بإناء من ماء فأتى بقدح رحراح فيه شيء من ماء فوضع أصابعه فيه قال أنس: فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه فحزرت من توضأ ما بين السبعين إلى الثمانين
775 - وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: أتانا النبي صلى الله عليه وسلم فأخرجنا له ماء في تور من صفر فتوضأ رواه البخاري(4/258)
الصفر بضم الصاد ويجوز كسرها وهو النحاس والتور كالقدح وهو بالتاء المثناه من فوق
776 - وعن جابر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي رجل من الأنصار ومعه صاحب له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كان عندك ماء بات هذه الليلة في شنة وإلا كرعنا رواه البخاري الشن: القربة
777 - وعن حذيفة رضى الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج والشرب في آنية الذهب والفضة وقال: هي لهم في الدنيا، وهي لكم في الآخرة متفق عليه
778 - وعن أم سلمة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم متفق عليه وفي رواية لمسلم: إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب(4/259)
وفي رواية له: من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه نارا من جهنم
[الشَّرْحُ]
هذا الباب عقده المؤلف رحمه الله في كتابه لبيان حكم الأواني واستعمالها في الشرب ليعلم أن هناك قاعدة نافعة وهي أن الأصل في كل ما خلق الله في الأرض أنه حلال فالأصل أن حكمه الحل إلا ما قام الدليل على تحريمه ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا كل ما في الأرض فهو لنا حلال من حيوان وأشجار وأحجار وكل شيء كل الذي في الأرض حلال أحله الله لنا إلا ما قام الدليل على تحريمه وبناء على هذه القاعدة العظيمة التي بينها الله لنا في كتابه فإن كل من ادعى أن هذا حرام فعليه الدليل إذا قال مثلا: إن هذا الحيوان حرام نقول: هات الدليل وإلا فالأصل أنه حلال إذا قال: هذه الآنية حرام قلنا: هات الدليل وإلا فالأصل أنها حلال إذا قال: هذا الشجر حرام قلنا: هات الدليل وإلا فالأصل أنه حلال لأن الذي يقول: إنه حلال معه أصل من الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} وقال عز وجل(4/260)
{وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه} فهذا هو الأصل ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (باب جواز الشرب من جميع الآنية) من خشب أو حجر أو غير ذلك إلا الذهب والفضة فإن الذهب والفضة لايجوز فيهما الأكل ولا الشرب ودليل هذا حديث حذيفة بن اليمان وأم سلمة رضى الله عنها أما حديث حذيفة بن اليمان فقد صرح رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة وكذلك حديث أم سلمة وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحكمة من ذلك فقال: هي لهم في الدنيا يعني الكفار وهي لكم في الآخرة فالكفار في الآخرة في نار جهنم والعياذ بالله إذا استغاثوا وهلكوا من العطش فقد قال الله تعالى: {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} يؤتي إليهم بالماء كالمهل وهو كرديء الزيت المحمي والعياذ بالله إذا قربوه إلى وجوههم ليشربوا منه فإنه يشوي وجوههم {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} والعياذ بالله لكن أهل الجنة جعلنا الله منهم {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} يسقون بآنية الذهب(4/261)
والفضة ولذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الأكل والشرب فيهما لأنهما آنية الجنة ونهي عن لبس الحرير للرجال لأن الحرير للمؤمنين في الجنة والرجال لا يليق بهم لبس الحرير في الدنيا وكذلك النساء لولا أن الله تعالى رخص لهن في لباس الحرير من أجل مصلحتهن ومصلحة أزواجهن حتى تتجمل المرأة لزوجها فيحص بذلك مصلحة للجميع ولولا هذا لكان الحرير حراما على النساء كما هو حرام على الرجال لأنه لباس أهل الجنة فالحاصل أن جميع الأواني من زجاج وخزف وخشب وأحجار وغير ذلك الأصل فيها الحل حتى لو كانت من أغلى المعادن فإنها حلال إلا الذهب والفضة والعلة في ذلك ليس كما قال بعض الفقهاء: إنها الخيلاء وكسر قلوب الفقراء وما أشبه ذلك لأنه لو كان هكذا لكان كل إناء يكسر قلوب الفقراء يحرم فيه الأكل والشرب لكن العلة بينها الرسول عليه الصلاة والسلام: هي لهم في الدنيا وهي لكم في الآخرة وهذا خاص بآنية الذهب والفضة ولو أن الإنسان شرب في آنية من معدن أغلى من الذهب والفضة لم يكن هذا حراما إذا لم يصل إلى حد السرف ولكن لو أكل أو شرب في الذهب والفضة كان ذلك حراما لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن(4/262)
ذلك وبين السبب وفي حديث أم سلمة: دليل على أن الأكل في آنية الذهب والفضة من كبائر الذنوب لأن النبي صلى الله عليه وسلم توعد على ذلك بأن من فعله: فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم الجرجرة صوت الطعام والشراب وهو ينحدر في البلعوم فإذا أكل أو شرب في إناء الذهب والفضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم وهذا يدل على أنه من كبائر الذنوب لأن فيه الوعيد وكل ذنب فيه وعيد فإنه من كبائر الذنوب والمطلي بالذهب والفضة قال العلماء: إنه كالخالص لا يجوز أن يؤكل فيه ولا أن يشرب فيه(4/263)
كتاب اللباس
باب استحباب الثوب الأبيض وجواز الأحمر والأخضر والأصفر والأسود وجوازه من قطن وكتان وشعر وصوف وغيرها إلا الحرير
قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُّوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله: (كتاب اللباس) وهذا من أحسن الترتيب فإن الأكل والشرب لباس الباطن والثياب لباس الظاهر قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى فقال: {ألا تجوع فيها ولا تعرى} لأن الجوع عرى الباطن فخلو البطن من الطعام عري لها {ولا تعرى} من لباس الظاهر {وأنك لا تظمأ فيها} هذا حرارة الباطن {ولا تضحي} هذا حرارة الظاهر، ولهذا أشكل على بعض الناس قال: لماذا لم يقل إن لك ألا تجوع فيها ولا تظمأ وأنك لا تعرى فيها ولا تضحي؟ ولكن من تفطن للمعنى الذي أشرنا إليه تبين له بلاغة القرآن {ألا تجوع فيها} هذا(4/264)
انتفاء العري في الباطن {ولا تعرى} انتفاؤه في الظاهر {لا تظمأ} هذا انتفاء الحرارة في الباطن {ولا تضحي} يعني لا تتعرض للشمس الحارة فيه انتفاء للحرارة في الظاهر كذلك المؤلف رحمه الله بدأ بآداب الأكل ثم بآداب الشرب ثم اللباس الذي هو كسوة الظاهر وافتتح هذا الكتاب بقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُّوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} فذكر الله تعالى نوعين من اللباس: نوعا ظاهرا ونوعا باطنا أو نوعا حسيا ونوعا معنويا وذكر أن الحسي قسمان: قسم ضروري تواري به العورة، وقسم كمالي وهو الريش لباس الزينة والله سبحانه وتعالى من حكمته أن جعل بني آدم محتاجين للباس لمواراة السوءة يعني لتغطية السوءة حتى يتستر الإنسان وكما أنه محتاج للباس يواري سوءته الحسية فهو محتاج للباس يواري سوءته المعنوية وهي المعاصي وهذا من حكمة الله تعالى ولهذا نجد غالب المخلوقات سوي الآدمي لها ما يستر جلدها من شعر أو صوف أو وبر أو ريش لأنها ليست بحاجة إلى أن تتذكر العري المعنوي بخلاف بني آدم فإنهم محتاجون إلي أن يتذكروا العورة المعنوية وهي عورة الذنوب حمانا الله منها(4/265)
{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُّوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} أي عوراتكم {وريشا} أي ثاب زينة وجمال زائدة عن اللباس الضروري {ولباس التقوى} هذا هو اللباس المعنوي {ذلك خير} أي خير من اللباس الظاهر سواء كان مما هو ضروري كالذي يواري السوءة أم من الكمالي وإذا كان لباس التقوى خيرا من لباس الظاهر فيجب على الإنسان أن يفكر حيث تجدنا نحرص على نظافة اللباس الظاهر فالإنسان إذا أصاب ثوبه بقعة أو وسخ هب يغسلها بالماء والصابون وبما يقدر عليه من المنظف لكن لباس التقوى كثير من الناس لا يهتم به يتنظف أو يتسخ لا يهتم به مع أن هذا كما قال الله عز وجل هو الخير وهو إشارة إلى أنه يحب الاعتناء بلباس التقوى أكثر مما يجب الاعتناء بلباس البدن الظاهر الحسي لأن لباس التقوى أهم وهنا قال: {ذلك خير} ولم يقل: ولباس التقوى هو خير لأن اسم إشارة وجيء بها للبعيد إشارة إلي علو مرتبة هذا اللباس كما قال تعالى: {آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه} ولم يقل هذا الكتاب إشارة إلى علو مرتبة القرآن كذلك قوله {ذلك خير} إشارة إلى علو مرتبة لباس التقوى(4/266)
فينبغي للإنسان أن يعتني بهذا اللباس بأن يتقي الله عز وجل وأن يفكر دائما في سيئاته ومعاصيه وتنظيف السيئات والمعاصي أسهل من تنظيف الثياب الظاهرة الثياب الظاهرة تحتاج إلى عمل وتعب وأجرة وتحضير ماء ومنظف لكن الأمر سهل جدا {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} بالاستغفار والتوبة يمحي كل ما سلف نسأل الله تعالى أن يتوب علينا بمنه وكرمه
وقال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ}
779 - وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح(4/267)
780 - وعن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البسوا البياض فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم رواه النسائي والحاكم وقال حديث صحيح
781 - وعن البراء رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوعا ولقد رأيته في حلة حمراء ما رأيت شيئا قط أحسن منه متفق عليه
[الشَّرْحُ]
وذكر المؤلف رحمه الله آية أخرى وهي قوله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ السرابيل: هي الدروع يعني مثل لباسنا هذا يسمى سرابيل: القمص والدروع وشبهها {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} أما السرابيل التي تقينا البأس فهي سرابيل الحديد الدروع من الحديد كانوا في السابق يلبسونها عند الحرب والقتال لأنها تقي الإنسان السهام الواردة إليه فإنها عبارة عن حلق(4/268)
من حديد منسوج كما قال الله تعالى وهو يعلم داود: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} فيصفون هذه الدروع بأنها إذا لبسها الإنسان وجاءته السهام أو الرماح أو السيوف ضربت على هذا الحديث ورقته الشر أما قوله: {سرابيل تقيكم الحر} فهي الثياب من القطن وشبهها تقي الحر وقد يقول قائل: لماذا لم يقل تقيكم البرد؟ أجاب العلماء عن ذلك بأن هذا على تقدير شيء محذوف أي تقيكم الحر وتقيكم البرد لكنه ذكر الحر لأن السورة مكية نزلت في مكة وأهل مكة ليس عندهم برد فذكر الله منته عليهم بهذه السرابيل التي تقي الحر وقيل: إنه ليس في الآية شيء محذوف وأن الدروع التي تقي البأس تقي الإنسان حر السهام ونحوها والسرابيل الخفيفة تقي الحر الجوي وذلك أن الإنسان في الجو الحار لو لم يكن عليه سرابيل تقيه الحر للفحه الحر واسود جلده وتأذي وجف ولكن الله سبحانه وتعالى جعل السرابيل التي تقي الحر من نعمته تبارك وتعالى ثم ذكر حديث ابن عباس رضى الله عنهما وحديث سمرة في أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على لبس الثياب البيض وقال إنها من خير ثيابكم وقال: كفنوا فيها موتاكم وصدق النبي عليه الصلاة(4/269)
والسلام فإن الثوب الأبيض خير من غيره من جهة الإضاءة والنور ومن جهة أنه إذا اتساخ أدنى اتساخ ظهر فيه فبادر الإنسان إلى غسله أما الثياب الأخرى فربما تتراكم فيها الأوساخ والإنسان لا يشعر بها ولا يغسلها وإذا غسلها فلا يدري هل تنظف أم لا؟ فلهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام إنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم وهو شامل للبس الثياب البيض القمص والأزر والسراويل كلها ينبغي أن تكون من البياض فإنه أفضل ولكن لو أنه لبس من لون آخر فلا بأس بشرط ألا يكون مما يختص لبسه بالنساء فإن كان مما يختص لبسه بالنساء فإنه لا يجوز أن يلبسه الرجل لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعن المتشبهين من الرجال بالنساء وكذلك بشرط ألا يكون أحمر لأن الأحمر قد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان أحمر خالصا فإن كان أحمر وفيه أبيض فلا بأس وعلى هذا يحمل الحديث الثالث الذي ذكره المؤلف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مربوعا وأنه كان عليه حلة حمراء هذه الحلة الحمراء ليس معناها أنها كلها حمراء لكن معناها أن أعلامها حمر مثل ما تقول الشماغ أحمر وليس هو كله أحمر بل فيه بياض كثير لكن(4/270)
نقطه ووشمه الذي فيه أحمر كذلك الحلة الحمراء يعني أن أعلامها حمر أما أن يلبس الرجل أحمرا خالصا ليس فيه شيء من البياض فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك
782 - وعن أبي جحيفة وهب بن عبد الله رضى الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم فخرج بلال بوضوئه فمن ناضح ونائل فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وعلية حلة حمراء كأني أنظر إلى بياض ساقيه فتوضأ وأذن بلال فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا يقول يمينا وشمالا حي على الصلاة حي على الفلاح ثم ركزت له عنزة فتقدم فصلى يمر بين يديه الكلب والحمار لا يمنع متفق عليه العنزة بفتح النون نحو العكازة
783 - وعن أبي رمثة رفاعة التيمي رضى الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان أخضران رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح
784 - وعن جابر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل يوم(4/271)
فتح مكة وعليه عمامة سوداء رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث ذكرها النووي رحمه الله في رياض الصالحين في (كتاب اللباس) وقد سبق ذكر شيء من هذه الأحاديث وهنا حديث وهب بن عبد الله السوائي أبي جحيفة رضى الله عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في قبة له حمراء من أدم أو من أدم ولكن الصواب من أدم وذلك في الأبطح في حجة الوداع فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة في حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة قدمها ضحى يوم الأحد الرابع من ذي الحجة ونزل إلى المسجد الحرام فطاف وسعى ثم خرج إلى الأبطح فنزل فيه إلى اليوم الثامن وكان في هذه القبة التي ضربت له عليه الصلاة والسلام يقول فخرج يعني حين زالت الشمس فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وعليه حلة حمراء كأني أنظر إلى بياض ساقيه وهذه الحلة حمراء يعني أن أعلامها حمر ليست سودا ولا خضرا لأن الأحمر الخالص قد ثبت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لبسه فتحمل هذه على أن المراد أن أعلامها يعني خطوطها ونقشها حمر خرج بلال رضى الله عنه بوضوء النبي عليه الصلاة والسلام(4/272)
يعني بما بقي من مائه الذي توضأ به فجعل الناس يأخذون منه من ناضح ونائل يعني بعضهم أخذ كثيرا وبعضهم أخذ قليلا يتبركون بفضل وضوئه وآله فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من هذه القبة وأذن بلال ثم ركزت العنزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والعنزة رمح في طرفه زج يعني رمح في طرفه حديدة محددة كان النبي صلى الله عليه وسلم يصحبها معه في السفر ركزت العنزة من أجل أن يصلي إليها لأن الإنسان إذا كان في السفر فإنه ينبغي أن يصلي إلى شيء قائم كعصا يركزها في الأرض أو ما أشبه ذلك يقول فتقدم فصلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين وهذا يدل على جواز الجمع للمسافر وإن كان نازلا لكن الأفضل ألا يجمع إلا من حاجة كما لو كان سائرا يمشي أو كان نازلا ولكن يحتاج إلى راحة فيجمع جمع تأخيرا أو جمع تقديم وإلا فالأفضل للنازل ألا يجمع ثم ذكر وهب بن عبد الله السوائي أو جحيفة كيف كان أذان بلال يقول جعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا يعني يمينا وشمالا يقول حي على الصلاة حي على الفلاح واختلف العلماء رحمهم الله: هل يقول حي على الصلاة على اليمين حي علي الصلاة على اليسار ثم حي على الفلاح علي(4/273)
اليمين حي علي الفلاح على اليسار أم أنه يجعل حي على الصلاة كلها على اليمين وحي على الفلاح كلها على اليسار والأمر في هذا واسع وإن فعل هذا أو هذا فكله على خير ولا بأس به ثم ذكر حديثين آخرين أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عليه لباس أخضر والثاني: كان عليه عمامة سوداء وهذا يدل أيضا على جواز لباس الأخضر ولباس الأسود
785 - وعن أبي سعيد عمرو بن حريث رضى الله عنه قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه رواه مسلم وفي رواية له: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس وعليه عمامة سوداء
786 - وعن عائشة رضى الله عنها قالت: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة متفق عليه السحولية بفتح السين وضمها وضم الحاء المهملتين: ثياب(4/274)
تنسب إلى سحول قرية باليمين والكرسف القطن
787 - وعنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط مرحل منه شعر أسود رواه مسلم المرط بكسر الميم: وهو كساء والمرحل بالحاء المهملة: هو الذي فيه صورة رحال الإبل، وهي الأكوار
788 - وعن المغيرة بن شعبة رضى الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في مسير فقال لي: أمعك ماء؟ قلت نعم فنزل عن راحلته فمشى حتى توارى في سواد الليل ثم جاء فأفرغت عليه من الإداوة فغسل وجهه وعليه جبة من صوف فلم يستطيع أن يخرج ذراعيه منها حتى أخرجهما من أسفل الجبة فغسل ذراعيه ومسح برأسه ثم أهويت لأنزع خفيه فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ومسح عليهما متفق عليه وفي رواية وعليه جبة شامية ضيقه الكمين وفي رواية: أن هذه القصة كانت في غزوة تبوك
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف رحمه الله في (كتاب اللباس)(4/275)
فيها الإشارة كما سبق إلى أنه يجوز للإنسان أن يلبس ما شاء من الثياب البيض والسود والخضر والصفر والحمر إلا أن الأحمر الخالص قد ثبت فيه النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا بأس الأحمر الخالص إلا مشوبا بلون آخر وفي حديث عمرو بن حريث أنه رأى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعليه عمامة سوداء وسبق أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء فهو يدل على جواز لبس العمامة السوداء وكذلك الشماغ الذي نقشه أسود أو أخضر أو أحمر كل هذا جائز وفيه: دليل على جواز لبس العمامة وأن من الأفضل أن يجعل الإنسان لها ذؤابة وأن يرخي طرفها من خلف كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم والعمامة التي ليس لها ذؤابة تسمى العمامة الصماء لأنه ليس لها طرف مرخي وكلاهما جائز وكلاهما أيضا يجوز المسح عليه على القول الراجح وفي حديث عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة ففيه دليل على أن الأفضل أن يكفن الأموات في الثياب البيض وهذا إن تيسر لكن لو فرض أنه لم يتيسر فيكفن الميت في مثل ما يلبسه الحي من أي لون كان إلا الأحمر الخالص(4/276)
وفي حديث عائشة دليل على أن الميت لا يجعل عليه قميص ولا عمامة وإنما توضع القطع واحدة فوق الأخرى ثم يوضع عليها الميت ثم تلف القطع العليا عليه ثم الوسطى ثم السفلي ثم تثني من عند رأسه ومن عند الرجلين وتربط وتحزم حتى يدخل الميت القبر فإذا أدخل القبر فإنها تفك الحزائم قال العلماء: تفك الحزائم لأن الميت إذا مات ينتفخ فإذا انتفخ وقد ربط فربما يتفجر، فتفك الحزائم من أجل ألا يتفجر وفي حديث المغيرة بن شعبة رضى الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وعل آله وسلم في غزوة تبوك نزل من بعيره وأخذ الإداوة والإداوة إناء يوضع فيه الماء فأخذ الإداوة عليه الصلاة والسلام وانطلق حتى توارى في سواد الليل لأنه عليه الصلاة والسلام أشد الناس حياء، فلا يحب أن يراه أحد وهو جالس علي قضاء حاجته وإن لم تر عورته وهذا من كمال الأدب، أنك إذا أردت أن تقضي حاجتك فابعد عن الناس حتى تتوارى عنهم لا من أجل ألا يروا عورتك لأن ستر العورة واجب ولا يجوز أن تتكشف أمام الناس لكن هذا فوق ذلك يعني الأفضل ألا يرى الإنسان وهو على حاجته وهذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم لأن هديه أكمل الهدى ثم أراد أن يتوضأ وكان عليه جبة من صوف ضيقة الأكمام(4/277)
لبسها عليه الصلاة والسلام لأن الوقت كان باردا لأن تبوك قريبة من الشام باردة فلذلك كان عليه هذه الجبة عليه الصلاة والسلام فلما توضأ وغسل وجهه وأراد أن يخرج ذراعيه من الكم وكان ضيقا صفيقا فلم تستطع يده أن نخرج فأخرجها من أسفل وغسلها عليه الصلاة والسلام ولما أراد أن يغسل قدميه أهوي المغيرة بن شعبة لينزع خفيه قياسا على أن الرسول لم يمسح على الكمين لما كان ضيقين وإنما أخرج يده من أسفل حتى غسلها فظن المغيرة بن شعبة أن الخفين مثل ذلك وأنها تنزع من أجل غسل الرجل غسل الرجل ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما وقوله: أدخلتهما طاهرتين أي لبستهما على طهارة فمسح عليهما ففي هذا الحديث عدة فوائد: منها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يناله ما ينال البشر من الأمور الطبيعية يبرد كما يبرد الناس ويحتر كما يحتر الناس ولهذا رآه مرة معاوية وقد فك أزرار القميص لأنه والله أعلم كان محترا ففك الأزرار فظن معاوية رضى الله عنه أن هذا من السنة وهو ليس من السنن المطلقة لكن من السنة إذا كان فيه تخفيف على البدن لأن(4/278)
كل ما يخفف عن البدن فهو خير فإذا كان الإنسان محترا وأراد أن يفتح الأزرار الأعلى والذي يليه فلا بأس ويكون هذا من السنة أما بدون سبب فإنه ليس من السنة لأنه لو كان من السنة لكان وضع الأزرار عبثا لا فائدة منه والدين الإسلامي ليس فيه شيء عبث فكله جد ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا حرج على الإنسان أن يتوقى ما يؤذيه من حر أو برد كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بل الأفضل للإنسان أن يتوقى ما يؤذيه لأن هذا من تمام الرعاية للنفس حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: الكل إذا خفت أن يؤذيك صار حراما عليك الأكل الذي هو الغذاء إذا خفت أن يؤذيك إما بكثرته وإما بكونك أكلت قريبا فتخشى أن تتأذى بالأكل الجديد فإنه يحرم عليك بمعنى أنك تأثم إذا أكلته لأن الإنسان يجب أن يرعى نفسه حق الرعاية ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز أن يمسح على حائل سوى الخفين أو العمامة فلو كان على الإنسان ثوب ضيق الأكمام ولا تحرج اليد إلا بصعوبة وقال: أمسح على هذا الثوب كما أمسح على الخف قلنا: هذا لا يجوز لابد أن تحرج يدك حتى تغسلها حتى لو فرض أنها لم تخرج إلا بشق الكم فإنه يشق حتى يؤدي الإنسان ما(4/279)
فرض الله عليه من غسل اليد فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ومن فوائد الحديث: بيان جهل بعض الناس الذين يظنون أن ما يسمى بالمانيكير مثل الخفين إذا وضعته المرأة على طهارة تغسلها يوما وليلة وهذا خطأ ليس بصحيح فالمانيكير يجب أن يزال عند الوضوء حتى يصل الماء إلى الأظافر وأطراف الأصابع ومن فوائد هذا الحديث: جواز استخدام الأحرار لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان المغيرة يخدمه ولكن لاشك أن خدمة الرسول صلى الله عليه وسلم شرف كل يفخر بخدمة الرسول عليه الصلاة والسلام وكان للنبي صلى الله عليه وسلم خدم من الأحرار كعبد الله بن مسعود رضى الله عنه وأنس بن مالك وغيرهما فالمغيرة كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم ومن فوائد الحديث: جواز إعانة المتوضئ على وضوءه يعني تصب عليه أو تقرب له الإناء وما أشبه ذلك وكذلك لو فرض أنه يستطيع أن يغسل أعضاءه فاغسلها أنت فلو فرض أن في يده كسرا أو شلالا أو ما أشبه ذلك فلا حرج أن تغسل أعضاءه أنت ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان إذا كان لابسا خفين أو جوارب على طهارة فإنه يمسح عليهما وأن المسح أفضل من(4/280)
أن يخلعهما ويغسل قدميه لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: دعهما أي اتركهما لا تخلعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما ومن فوائد هذا الحديث: ما ذهب إليه بعض العلماء من أن المسح على الخفين يكون مرة واحدة على القدمين إذ أن المغيرة لم يذكر أنه بدأ باليمني قبل اليسرى فاستنبط بعض العلماء من ذلك أن المسح على الخفين يكون باليدين جميعا مرة واحدة ولكن لا حرج أن الإنسان يفعل هذا أو يمسح على الرجل اليمنى قبل اليسرى لأن المسح بدل عن الغسل والغسل تقدم فيه اليمنى على اليسرى والبدل له حكم المبدل فإن فعل الإنسان هذا أو هذا فلا حرج والأمر في هذا واسع ومن فوائد الحديث: أنه لايجوز المسح على الخفين أو الجوربين إلا إذا كان لبسهما على طهارة فإن لبسهما على غير طهارة وجب عليه أن يخلعهما عند الوضوء ويغسل قدميه ومنه فوائد أخرى(4/281)
باب استحباب القميص
789 - عن أم سلمة رضى الله عنها قالت: كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القميص رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن(4/282)
باب صفة طول القميص والكم والإزرار وطرف العمامة وتحريم إسبال شيء من ذلك على سبيل الخيلاء وكراهته من غير خيلاء
790 - عن أسماء بنت يزيد الأنصارية رضى الله عنها قالت: كان كم قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرسغ رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن
791 - وعن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقال له أبو بكر: يا رسول الله إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك لست ممن يفعله خيلاء رواه البخاري، وروي مسلم بعضه
792 - وعن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا متفق عليه
793 - وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أسفل الكعبين من الإزار(4/283)
ففي النار رواه البخاري
794 - وعن أبي ذر رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب رواه مسلم وفي رواية له: المسبل إزاره
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث التي ذكرها النووي رحمه الله في (كتاب اللباس) فيها أحاديث تدل على أن أحب الثياب إلى رسول الله القميص وذلك أن القميص أستر من الإزار والرداء وكانوا في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام يلبسون الإزار والرداء أحيانا يلبسون القميص وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يحب القميص لأنه أستر ولأنه قطعة واحدة يلبسها الإنسان مرة واحدة فهي أسهل من أن يلبس الإزار أولا الرداء ثانيا ولكن مع ذلك لو كنت في بلد يعتادون لباس الأزر والأردية ولبست مثلهم فلا حرج والمهم ألا تخالف لباس أهل بلدك فتقع في(4/284)
الشهرة وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لباس الشهرة وفي هذه الأحاديث أيضا دليل على أن كم القميص يكون إلى الرسغ والرسغ هو الوسط بين الكوع والكرسوع لأن الإنسان له مرفق وهو المفصل الذي بين العضد والذراع وله كوع كرسوع ورسغ فالكوع هو طرف الذراع مما يلي الكف من جهة الإبهام والكرسوع: طرف عظم الذراع مما يلي الكف من جهة الخنصر وأما الرسغ فهو ما بينهما وعلي هذا قول الناظم:
وعظم يلي الإبهام كوع وما يلي ...
الخنصر الكرسوع والرسغ ما وسط
وعظم يلي إبهام رجل ملقب ببوع ...
فخذ بالعلم واحذر من الغلط
والعوام إذا أرادوا ضرب المثل بالإنسان الأبله قالوا هذا رجل لا يعرف كوعه من كرسوعه وأكثر الناس يظنون أن الكوع: هو المرفق الذي إليه منتهى الوضوء ولكن ليس كذلك فما عند مفصل الكف من الذراع مما يلي الخنصر هو الكرسوع وما يلي الإبهام فهو الكوع وما بينهما فهو الرسغ والنبي عليه الصلاة والسلام كان قميصه إلى الرسغ ثم ذكر المؤلف حديث ابن عمر وحديث أبي هريرة رضي الله(4/285)
عنهما في إسبال الثياب وإسبال الثياب يقع على وجهين الوجه الأول: أن يجر الثوب خيلاء الوجه الثاني: أن ينزل الثوب أسفل من الكعبين من غير خيلاء أما الأول: وهو الذي يجر ثوبه خيلاء فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له أربع عقوبات والعياذ بالله: لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه يعني نظر رحمة ولا يزكيه وله عذاب أليم أربع عقوبات بها المرء إذا جر ثوبه خيلاء ولما سمع أبو بكر بهذا الحديث قال: رسول الله إن أحد شقي إزاري يسترخي علي إلا أن أتعاهده يعني فهل يشملني هذا الوعيد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنك لست ممن يضع هذا خيلاء فزكاه النبي عليه الصلاة والسلام بأنه لا يصنع هذا خيلاء وإنما العقوبة على من فعله خيلاء أما من لم يفعله خيلاء فعقوبته أهون ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ما أسفل من الكعبين ففي النار ولم يذكر إلا عقوبة واحدة ثم هذه العقوبة أيضا لا تعم البدن كله إنما تختص بما فيه المخالفة وهو ما نزل من الكعب فإذا نزل ثوب الإنسان أو مشلحه أو سرواله إلى أسفل من الكعب فإنه(4/286)
يعاقب على هذا النازل بالنار ولا يشمل النار كل الجسد إنما يكوي بالنار والعياذ بالله بقدر ما نزل ولا تستغرب أن يكون العذاب على بعض البدن الذي حصلت فيه المخالفة فإنه ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أصحابه توضؤا ولم يسبغوا الوضوء فنادى بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار فهنا جعل العقوبة على الأعقاب يعني العراقيب التي لم يسبغوا وضوءها فالعقاب بالنار يكون عاما كأن يحرق الإنسان كله بالنار والعياذ بالله ويكون في بعض البدن الذي حصلت فيه المخالفة ولا غرابة في ذلك وبهذا نعرف قول النووي رحمه الله بتحريم الإسبال خيلاء وكراهيته لغير الخيلاء والصحيح أنه حرام سواء أكان لخيلاء أم لغير خيلاء بل الصحيح أنه من كبائر الذنوب لأن كبائر الذنوب كل ذنب جعل الله عليه عقوبة خاصة به وهذا عليه عقوبة خاصة ففيه الوعيد بالنار إذا كان لغير الخيلاء وفيه وعيد بالعقوبات الأربع إذا كان خيلاء لا يكلمه الله يوم القيامة(4/287)
ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم وختم المؤلف بحديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قرأها ثلاث مرات وإنما فعل النبي عليه الصلاة والسلام هذا من أجل أن ينتبه الإنسان لأن اللفظ إذا جاء مجملا ولا سيما مع التكرار ينتبه له الإنسان حتى إذا جاءه التفصيل والبيان ورد على نفس متشوقة تطلب البيان فقال أبو ذر يا رسول الله خابوا وخسروا من هؤلاء؟ قال: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب الأول المسبل: يعني الذي يجر ثوبه خيلاء والثاني المنان: الذي يمن بما أعطى، إذا أحسن إلى أحد بشيء جعل يمن عليه: فعلت بك كذا وفعلت بك كذا والمن من كبائر الذنوب، لأن عليه هذا الوعيد، وهو مبطل الأجر لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى والثالث المنفق سلعته بالحلف الكاذب: يعني الذي يحلف وهو كاذب ليزيد ثمن السلعة فيقول: والله لقد اشتريتها بعشرة وهو لم يشترها إلا بثمانية أو يقول: أعطيت فيها عشرة وهو لم(4/288)
يعط فيها إلا ثمانية فيحلف على هذا فهذا ممن يستحق هذه العقوبات الأربع لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم نسأل الله العافية
796 - وعن أبي جري جابر بن سليم رضي الله عنه قال: رأيت رجلا يصدر الناس عن رأيه لا يقول شيئا إلا صدروا عنه قلت من هذا؟ قالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: عليك السلام يا رسول الله مرتين قال: لا تقل عليك السلام، عليك السلام تحية الموتى قل السلام عليك قال: قلت: أنت رسول الله؟ قال: أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك وإذا أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك وإذا كنت بأرض قفر أو فلاة فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك قلت: اعهد لي قال: لا تسبن أحدا قال فما سببت بعده حرا ولا عبدا ولا بعيرا ولا شاة ولا تحقرن من المعروف شيئا وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك، إن ذلك من المعروف وارفع إزارك إلى نصف الساق فإن أبيت فإلي الكعبين وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه فإنما وبال ذلك عليه رواه أبو داود والترمذي فإسناد(4/289)
صحيح وقال الترمذي: حديث حسن صحيح
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله في رياض الصالحين في (كتاب اللباس) عن جابر بن سليم رضي الله عنه أنه قدم المدينة فرأى رجلا يصدر الناس عن رأيه لا يقول شيئا إلا صدورا عنه يعني أنهم يأخذون بما يقول وبما يوجه لأنه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسأل من هذا؟ لأنه رجل لا يعرف النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: رسول الله فجاء إليه فقال: أنت رسول الله؟ قال: نعم ولكنه قال: عليك السلام فقدم الخبر فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا تقل عليك السلام عليك السلام تحية الموتى ولكن قل السلام عليك ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: عليك السلام تحية الموتى يعني أنهم كانوا في الجاهلية يسلمون على الأموات هكذا كما قال الشاعر
عليك سلام الله قيس بن عامر ... ورحمته ما شاء أن يترحم
فكانوا في الجاهلية إذا اسلموا على الأموات يقولون عليك(4/290)
السلام لكن الإسلام نسخ هذا وصار السلام يقال لمن ابتدئ به السلام عليك حتى الموتى كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخرج إليهم إلى المقبرة يسلم فيقول السلام عليكم دار قوم مؤمنين ولا يقول: عليكم السلام وفي قوله عليه الصلاة والسلام: قل السلام عليك دليل على أن الإنسان إذا سلم على الواحد يقول: السلام عليك وهكذا جاء أيضا في حديث الرجل الذي يسمى المسيء في صلاته أنه جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك بالإفراد وهذا هو الأفضل وقال بعض العلماء: تقول السلام عليكم، تريد بذلك أن تسلم على الإنسان الذي سلمت عليه ومن معه من الملائكة ولكن الذي وردت به السنة أولى واحسن أن تقول: السلام عليك إلا إذا كانوا جماعة فإنك تسلم عليهم بلفظ السلام عليكم ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين له أنه رسول رب العالمين الذي يكشف الضر ويجلب النفع فإذا ضاعت البعير في فلاة من الأرض فدعوت الله سبحانه وتعالى ردها عليك يقول: وإذا أصابك سنة يعني جدبا في الأرض وعدم نبات فدعوت الله كشفه عنك أنبت الأرض لك وكذلك إذا أصابك الضر فدعوت الله كشفه(4/291)
عنك كما قال الله تعالى: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ فبين له أنه أي الرب عز وجل يجلب لعباده الخير وأنه إذا دعاه عبده لم يخب وهكذا كل دعاء تدعو به ربك فإنك لا تخيب لو لم يأتك من هذا إلا أن الدعاء عبادة تؤجر عليه الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة لكفى وإذا لم يكن هناك موانع تمنع إجابة الدعاء فإن الله تعالى إما أن يعطيك ما سألت وتراه رأي العين تدعو الله بالشيء فيحصل وإما أن يكشف عنك من الضر ما هو أعظم وإما أن يدخر ذلك لك عنده وإلا فلن يخيب من دعا الله عز وجل أبدا ولكن إياك أن تستبطئ الإجابة فتقول دعوت ودعوت فلم يستجب لي فإن الشيطان قد يلقي في قلبك هذا ويقول: كم دعوت الله من مرة وما جاءك مطلوب؟ ثم يقنطك من رحمة الله والعياذ بالله وهذه من كبائر الذنوب القنوط من رحمة الله من كبائر الذنوب ولا تقنط من رحمة الله ولو تأخرت إجابة الدعاء فأنت لا تدري ما هو الخير؟ ما أمرك الله تعالى بالدعاء إلا وهو يريد أن يستجيب لك كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(4/292)
لكنك تستعجل انتظر وألح على الله بالدعاء فربما أن الله عز وجل يؤخر إجابتك لأجل أن تكثر من الدعاء فتزداد حسناتك وتعرف قدر نفسك وتعرف قدر حاجتك إلى الله عز وجل فهذا خير فإياك أن تستعجل وألح على الله في الدعاء والله سبحانه وتعالى يحب الملحين في الدعاء المبالغين فيه لأن الإنسان يدعو من إليه المنتهى عز وجل من بيده ملكوت كل شيء وسواء كان ذلك في صلاتك أو في خلواتك ادع الله بما شئت حتى وأنت تصلي ادع الله بما شئت لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما السجود فأكثروا فيه من الدعاء وقال حين ذكر التشهد ثم ليتخذ من الدعاء ما شاء الله فليس للإنسان أحد سوى الله فليلجأ إليه في كل دقيقة وجليل حتى إنه جاء في الحديث ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأل شسع نعله إذا انقطع شراك النعل أدني شيء يسأله الله عز وجل لأن السؤال عبادة والتجاء إلى الله عز(4/293)
وجل وإنابة إليه وارتباط به سبحانه وتعالى يكون قلبك دائما مع الله سبحانه وتعالى فأكثر من الدعاء ثم إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر جابر بن سليم ألا يحقرن من المعروف شيئا كل معروف افعله سواء كان قولا أو فعلا أو جاها أو أي شيء لا تحقر شيئا من المعروف فإن المعروف من الإحسان والله سبحانه وتعالى يحب المحسنين فلو ساعدت إنسانا على تحميل متاعه في السيارة فهذا معروف لو أدنيت له شيئا يحتاج إليه فهذا من المعروف لو أعطيته القلم يكتب به فهذا من المعروف لو أعطيته حافظة من أجل أن يحفظ بها شيئا من الأشياء فهذا من المعروف أحسن فإن الله يحب المحسنين واعلم أن هناك قاعدة إذا ذكرها الإنسان سهل عليه الإحسان وهي ما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام من قوله: ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته وما ظنك إذا كان الله في حاجتك؟ هل تتعثر الأمور؟ الجواب: لا إذا كان الله في حاجتك يساعدك على حاجتك ويعينك عليها فلا شك أنها سوف تسهل فأنت كلما(4/294)
كنت في حاجة أخيك كان الله في حاجتك فأكثر من المعروف أكثر من الإحسان ولا تحقرن شيئا ولو كان قليلا قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة أي لا تحقر ولو هذا الشيء القليل ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر بن سليم: وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك إن ذلك من المعروف لما قال: لا تحقرن من المعروف شيئا بين أن من المعروف أن تلقي أخاك بوجه طلق لا معبس ولا مكفهر بل يكون منبسطا وذلك لأن هذا يدخل السرور على أخيك وكل أدخل السرور على أخيك فإنه معروف وإحسان والله يحب المحسنين وهذا لا شك أنه خير إلا أنه في بعض الأحيان قد يكون المرء الذي يخاطبك من المصلحة ألا تلقاه بوجه منبسط كأن يكون قد فعل شيئا لا يحمد عليه فلا تلقه بوجه منبسط تعزيزا له لأجل أن يرتدع ويتأدب ولكل مقام مقال ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يرفع إزاره إلي نصف الساق فإن أبي فإلى الكعبين وهذا يدل على أن رفع الإزار إلى نصف الساق أفضل ولكن لا حرج أن ينزل إلى الكعبين وذلك لأن هذا من باب(4/295)
الرخصة وليس بلازم أن يرفع الإنسان إزاره إلي نصف الساق أو يرى أن ذلك حتم عليه وأن الذي لا يرفع قد خالف السنة لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: فإن أبيت إلى الكعبين ولم يقل فإن أبيت فعليك كذا وكذا من الوعيد فدل ذلك على أن الأمر في هذا واسع وقد مر علينا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن أحد شقي إزاري يسترخي علي إلا أن أتعاهده وقلنا إن هذا يدل على أن إزار أبي بكر رضي الله عنه كان نازلا عن نصف الساق وأن هذا لا بأس به فلا ينبغي للإنسان أن يشدد على نفسه أو على الناس بحيث يرى أنه لزام عليه أن يجعل سرواله أو ثوابه أو (مشلحه) إلى نصف الساق فالأمر في هذا واسع هو سنة ولكن مع ذلك الأمر فيه واسع ولله الحمد بترخيص النبي صلى الله عليه وسلم ثم حذر النبي صلى الله عليه وسلم جابر بن سليم من المخيلة يعني أن يختال في مشيته أو ثوبه أو عمامته أو (مشلحه) أو كلامه أو أي شيء يفعله خيلاء فإن الله لا يحب ذلك {إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} فالإنسان ينبغي له أن يكون متواضعا دائما في لباسه ومشيته وهيئته وكل أحواله لأن من تواضع لله رفعه الله فهذه الآداب التي علمها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمته ينبغي للإنسان أن(4/296)
يتأدب بها لأنه يحصل على أمرين أولا: امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى: {ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار} ثانيا: التحلي بحسن الخلق من خلال التأدب بهذه الآداب الراقية التي لا يستطيع أحد من البشر أن يوجه الناس إلى آداب مثلها أبدا لأن الآداب التي جاء بها الشرع هي خير الآداب ثم إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فإنما وبال ذلك عليه وذلك أن الإنسان ينبغي له أن يعفو ويصفح ولا يجعل كل كلمة يسمعها مقياسا له في الحكم على الناس تغاض عن الشيء واعف واصفح فإن الله تعالى يحب العافين عن الناس ويثيبهم على ذلك وأنت إذا عيرته أو سببته بما تعلم فيه طال النزاع وربما حصل بذلك العداوة والبغضاء فإذا كففت وسكت هدأت الأمور وهذا شيء مجرب أن الإنسان إذا ساب أحدا قد سبه طال السباب بينهما وحصل تفرق وتباغض وإذا سكت فإنه قد يكون أنفع كما قال الله تبارك وتعالى في وصف عباد الرحمن {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا} يعني قالوا قولا يسلمون به إما(4/297)
أن يقولوا مثلا: جزاك الله خيرا أعرض عن هذا اترك الكلام وما أشبه ذلك وال الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} {خذ العفو} يعني ما عفى وسهل من أخلاق الناس ولا ترد من الناس أن يكونوا على أكمل حال بالنسبة لك الناس ليسوا على هواك لكن خذ منهم ما عفى وما سهل وما صعب فلا تطلبه ولهذا قال: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} الجاهل إذا سابك أو شتمك أو ما أشبه ذلك فأعرض عنه فإن هذا هو الخير وهو المصلحة والمنفعة
797 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما رجل يصلي مسبل إزاره قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فتوضأ فذهب وتوضأ ثم جاء، فقال اذهب وتوضأ فقال له رجل: يا رسول الله مالك أمرته أن يتوضأ ثم سكت عنه؟ قال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره وإن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم(4/298)
[الشَّرْحُ]
في الأحاديث السابقة بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه ولا يكلمه يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم وأن ما أسفل من الكعبين ففي النار وبينا أن هذا من كبائر الذنوب وأنه لا يحل للإنسان أن يلبس ثوبا نازلا عن الكعب وأما ما كان على حذاء الكعب يعني على وزن الكعب فلا بأس به وكذلك ما ارتفع إلى نصف الساق فما بين نصف الساق إلى الكعب كله من الألبسة المرخص فيها والإنسان في حل وفي سعة إذا لبس إزارا أو سروالا أو قميصا أو (مشلحا) يكون فيما بين ذلك وأما ما نزل عن الكعب فحرام بكل حال بل هو من كبائر الذنوب ثم اختلف العلماء رحمهم الله فيما لو صلى الإنسان وهو مسبل يعني قد نزل ثوبه أو سرواله أو إزاره أو (مشلحه) الذي يستر ولا يشف اختلف في هذا أهل العلم هل تصح صلاته أو لا تصح؟ فمن العلماء من قال إنها لا تصح صلاته لأنه لبس ثوبا محرما والله سبحانه وتعالى إنما أباح لنا أن نلبس ما أحل لنا فإن قوله: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ(4/299)
يعني ثيابكم يريد بها ما أباح لنا وما أحله لنا وأما ما حرمه علينا فلسنا مأمورين به بل نحن منهيون عنه واستدل الذين يقولون: إن الله لا يقبل صلاته إذا أسبل بهذا الحديث الذي ذكره المؤلف عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى مسبلا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب فتوضأ فذهب فتوضأ ثم رجع فقال: اذهب فتوضأ ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله مالك أمرته أن يتوضأ؟ قال: إنه يصلي وهو مسبل إزاره وإن الله لا يقبل صلاة مسبل وهذا نص صريح في أن الله لا يقبل صلاة المسبل يعني فتكون صلاته فاسدة ويلزم بإعادتها والمؤلف يقول رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم ولكن هذا فيه نظر فإن الحديث ضعيف لا يصح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والصحيح من أقوال العلماء أن صلاة المسبل صحيحة ولكنه آثم ومثل ذلك أيضا من لبس ثوبا محرما عليه كثوب سرقه الإنسان فصلى به أو ثوب فيه تصاوير فيه صليب مثلا أو فيه صور حيوان فكل هذا يحرم لبسه في الصلاة وفي خارج الصلاة فإذا صلى الإنسان في مثل هذا فالصلاة صحيحة لكنه آثم بلبسه هذا هو القول الراجح في هذه المسألة لأن النهي هنا ليس نهيا خاصا بالصلاة فلبس الثوب المحرم عام في الصلاة وغيرها فلا(4/300)
يختص بها فلا يبطلها هذه هي القاعدة التي أخذ بها جمهور العلماء رحمهم الله وهي القاعدة الصحيحة وهذا الحديث لو صح لكان فاصلا للنزاع لكنه ضعيف فمن ضعفه قال صلاة المسبل صحيحة ومن صححه قال صلاة المسبل غير صحيحة وعلى كل حال فإن الإنسان يجب عليه أن يتقي الله عز وجل وألا يتخذ من نعمته وسيلة لغضبه والعياذ بالله فإن من بارز الله بالعصيان وقيل له: إن الثواب النازل عن الكعب حرام ومن كبائر الذنوب ولكنه لم يبال بهذا فهذا استعان بنعمة الله على معصية الله نسأل الله العافية
798 - وعن قيس بن بشر التغلبي قال أخبرني أبي وكان جليسا لأبي الدرداء قال كان بدمشق رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له سهل ابن الحنظلية وكان رجلا متوحدا قلما يجالس الناس إنما هو صلاة فإذا فرغ هو تسبيح وتكبير حتى يأتي أهله فمر بنا ونحن عند أبي الدرداء فقال له أبو الدرداء كلمة تنفعنا ولا تضرك قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فقدمت فجاء رجل منهم فجلس في المجلس الذي يجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل إلى جنبه لو رأيتنا حين التقينا نحن(4/301)
والعدو فحمل فلان فطعن فقال: خذها مني وأنا الغلام الغفاري كيف ترى في قوله؟ قال: ما أراه إلا قد بطل أجره فسمع بذلك آخر فقال: ما أرى بذلك بأسا، فتنازعا حتى سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سبحان الله؟ لا بأس أن يؤجر ويحمد فرأيت أبا الدرداء سر بذلك وجعل يرفع رأسه إليه ويقول: أأنت سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: نعم فما زال يعيد عليه حتى إني لأقول ليبركن على ركبتيه قال فمر بنا يوما آخر فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك قال قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: المنفق على الخيل كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها ثم مر بنا يوما آخر فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل خريم الأسدي لولا طول جمته وإسبال إزاره فبلغ ذلك خريما فعجل فأخذ شفرة فقطع بها جمته إلى أذنيه ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه ثم مر بنا يوما آخر فقال له أبو الدرداء كلمة تنفعنا ولا تضرك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنكم قادمون على إخوانكم فأصلحوا رحالكم وأصلحوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش(4/302)
رواه أبو داود بإسناد حسن إلا قيس بن بشر فاختلفوا في توثيقه وتضعيفه وقد روي له مسلم
[الشَّرْحُ]
في هذا الحديث الذي ذكره المؤلف في قصة ابن الحنظلة رضي الله عنه عبر وفوائد حيث كان رجلا يحب التفرد ما هو إلا صلاة ثم تسبيح ثم في شأن أهله يعني أنه لا يحب أن يذهب عمره سدي مع الناس في القيل والقال والكلام الفارغ الذي ليس فيه فائدة يصلي ويسبح ويكون في أهله فمر ذات يوم بأبي الدرداء رضي الله عنه وهو جالس مع أصحابه فقال له أبو الدرداء رضي الله عنه كلمة تنفعنا ولا تضرك يعني أعطنا كلمة أو قل لنا كلمة تنفعنا ولا تضرك فذكر ابن الحنظلية أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث سرية ثم قدمت السرية والسرية يعني الجيش القليل أقل من أربعمائة نفر، يذهبون يقاتلون الكفار إذا لم يسلموا فقدموا إلى النبي عليه الصلاة والسلام فجلس أحدهم في المكان الذي يجلس فيه الرسول عليه الصلاة والسلام، وجعل يتحدث عن السرية وما صنعته وذكر رجلا راميا يرمي ويقول: خذها وأنا الغلام الغفاري يفتخر(4/303)
والحرب لا بأس أن الإنسان يفتخر فيها أمام العدو ولهذا جاز للإنسان في مقابلة الأعداء أن يمشي الخيلاء وأن يتبختر في مشيته وأن يضع على عمامته ريش النعام وما أشبه ذلك مما يعد مفخرة لأن هذا يغيظ الأعداء وكل شيء يغيظ الكفار فلك فيه أجر عند الله حتى الكلام الذي يغيظ الكافر ويذله هو عز لك عند الله عز وجل وأجر هذا الغلام الغفاري كان يفتخر ويقول خذها يعني خذ الرمية وأنا الغلام الغفاري فقال بعض الحاضرين بطل أجره لأنه افتخر إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وهذا صحيح أن الله لا يحب كل مختال فخور إلا في الحرب فقال الآخر لا بأس في ذلك فصار بينهم كلام فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهم يتنازعون فقال: سبحان الله يعني تنزيها لله عز وجل عن كل عيب ونقص لأن الله تعالى كامل الصفات من كل وجه ليس في علمه قصور ولا في قدرته قصور ولا في حكمته قصور ولا في عزته قصور كل صفاته جل وعلا كاملة من جميع الوجوه قال: سبحان الله يعني كيف تتنازعون في هذا؟ لا بأس أن يحمد ويؤجر يعني يجمع الله له بين خيري الدين والدنيا يحمد بأنه رجل شجاع رام وأنه يؤجر عند الله عز وجل فلا بأس في هذا(4/304)
وكان عامر بن الأكوع رضي الله عنه لما لحق القوم في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع فلا بأس أن يفتخر الإنسان في حال الحرب بنفسه وقوته وعشيرته وما أشبه ذلك ومر ابن الحنظلية بأبي الدرداء يوما آخر فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك يعني كلمة تنفعنا ولا تضرك فأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المنفق على الخيل كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها لأن الخيل في ذلك الوقت هي المركوب الذي يركب به في الجهاد في سبيل الله والمنفق عليها كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها فيكون الإنفاق على الخيل من الصدقات لأنها تستعمل في الجهاد في سبيل الله ثم مر به مرة آخرى فقال: كلمة تنفعنا ولا تضرك فأخبره أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أثنى على رجل إلا أنه قال: لولا طول جمته وإسبال إزاره الجمة: الشعر يعني أنه عنده شيء من الخيلاء هذا الرجل قد أطال شعره وأطال ثوبه، فسمع الرجل بذلك فقص جمته حتى صارت إلى كتفه وقصر ثوبه(4/305)
وفي هذا: دليل على أن طول الجمة يعني الشعر للرجال من المخيلة وأن الشعر للرجل لا يتجاوز الكتف أو شحمة الأذن أو ما أشبه ذلك لأن الذي يحتاج إلى التجمل بالرأس هي المرأة فإن المرأة هي التي تحتاج إلى التجمل وفي هذا إشارة إلى أن الرجل لا يجوز لهم أن يتشبهوا بالنساء في الشعر أو غير الشعر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال والله سبحانه وتعالى جعل الذكور جنسا والإناث جنسا وأحل لكل واحد منهما ما يناسبه فلا يجوز أن يلحق الرجال بالنساء ولا أعلم أن أحدا من المسلمين ألحق النساء بالرجال في كل شيء لكن الكفار الذين انتكسوا ونكس الله فطرتهم وطبيعتهم هم اللذين يقدمون النساء ويقولون لابد أن تشارك المرأة الرجل حتى لا يحصل فرق ولا شك أن هذا خلاف الفطرة التي جبل الله عليها الخلق وخلاف الشريعة التي جاءت بها الرسل فالنساء لهن خصائص والرجال لهم خصائص ثم إن الرجل سمع ذلك فقص جمته وفيه دليل على امتثال(4/306)
الصحابة رضي الله عنهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم واسترشادهم بإرشاده وأنهم كانوا يتسابقون إلي تنفيذ ما يقول وهذا علامة الإيمان أما المتباطئ في تنفيذ أمر الله ورسوله، فإن فيه شبها من المنافقين الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، تجده مثلا يخبر عن حكم الله ورسوله في شيء، ثم يتباطأ ويتثاقل وكأنما وضع رأسه صخرة والعياذ بالله ثم يذهب إلى كل عالم لعله يجد رخصة مع أن العلماء قالوا إن تتبع الرخص من الفسق والعياذ بالله والمتتبع للرخص فاسق حتى إن بعضهم قال: إن من تتبع الرخص فقد تزندق أي صار زنديقا فعلى الإنسان إذا بلغه أمر الله ورسوله من شخص يثق به في علمه وفي دينه ألا يتردد، وأقول في علمه ودينه لأن من الناس من هو دين ملتزم متق لكن ليس عنده علم، تجده يحفظ حديثا من أحاديث الرسول ثم يقوم يتكلم في الناس وكأنه إمام من الأئمة، وهذا يجب الحذر منه ومن فتاواه، لأنه قد يخطئ كثيرا لقلة علمه ومن الناس من يكون عنده علم واسع لكن له هوى والعياذ بالله، يفتي الناس بما يرضى الناس لا بما يرضي الله، وهذا يسمى عالم الأمة.
فالعلماء ثلاثة أقسام: عالم دولة، وعالم أمة.(4/307)
أما عالم الملة: فهو الذي ينشر دين الإسلام، ويفتي بدين الإسلام عن علم، ولا يبالي بما دل عليه الشرع أوافق أهواء الناس أم لم يوافق.
وأما عالم الدولة: فهو الذي ينظر ماذا تريد الدولة فيفتي بما تريد الدولة، ولو كان في ذلك تحريف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما عالم الأمة: فهو الذي ينظر ماذا يرضى الناس، إذا رأى الناس على شيء أفتي بما يرضيهم، ثم يحاول أن يحرف نصوص الكتاب والسنة من أجل موافقة أهواء الناس نسأل الله أن يجعلنا من علماء الملة العاملين بها فالمهم أن الإنسان يجب عليه ألا يغرر بدينه وألا يغتر، بل يكون مطمئنا حتى يجد من يثق به في علمه ودينه ويأخذ دينه منه كما قال أحد السلف: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
فهذا العلم دين وطريق إلى الله عز وجل، ثم إن هؤلاء المغرمين بالكفار، وتقليدهم والعياذ بالله تجدهم يقلدون الكفار في الملابس، فإذا جاءت هذه المجلات التي يسمونها البردة وغيرها اشتروها مباشرة وذهبوا بها إلى أهل البيت، وقالوا: انظروا إلى هذه الملابس، فتجد صورا خليعة وألبسه مخالفة للشريعة، والنساء(4/308)
لقصرهن نظرا ونقصهن عقلا ودينا، إذا رأت شيئا يعجبها يمليه عليها هواها قالت لزوجها: أريد مثل هذا، أو ذهبت بنفسها إلى الخياط ليصنع لها مثل هذه الألبسة الفاضحة فيصبح الشعب المسلم في زيه كزي الشعب الكافر والعياذ بالله، وهذه مسألة خطيرة قال صلى الله عليه وسلم: من تشبه بقوم فهو منهم ومن ذلك الآن ما تفعله النساء برؤوسهن، كان النساء إلى عهد قريب تفرح المرأة إذا طال شعرها، والخاطب إذا خطب امرأة كان يسأل عن شعرها أطويل هو أم قصير؟ أما الآن فصار الأمر بالعكس المرأة تقص رأسها حتى يكون قريبا من رأس الرجل أو مثل رأس الرجل نسأل الله العافية.
ثم بدأن أيضا بستعملن ما يسمى بالخنفسة، تجد المرأة تقص سوالف رأسها مقدم الرأس والباقي يبقى مقصرا مشرفا، كل هذا تقليد، كل هذا بسبب الغفلة من الرجال عن النساء، والواجب أن تكون رجلا في بيتك، رجلا بمعنى الكلمة في تكون كأنك خشبة عند أهلك.
إذا رأيت أهلك مقصرين في واجب لله عز وجل مرهم به، وإذا كان الشرع يجيز لك أن تضرب فاضرب، إذا رأيتهم يخالفون الشرع في شيء من الأمور الأخرى فألزمهم بالشرع، لأنك مسئول أعطاك النبي صلى الله عليه وسلم إمارة على أهلك الرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته ما نصبك فلان وفلان ما نصبك أمير البلد ولا الوزير ولا الملك ولا غيره نصبك محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.(4/309)
فأنت أمير في بيتك الرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته، ولم يقل: راع وسكت، ولو كان كذلك لهان الأمر لكن قال: ومسئول عن رعيته فانظر ماذا يكون جوابك إذا وقفت يوم القيامة بين يدي الله فعلينا أن ننتبه إلى هذه الأمور قبل أن يجترفنا السيل الجرار الذي لا يبقى ولا يذر والعياذ بالله ثم تنقلب عاداتنا وأحوالنا كأحوال النصارى ثم ذكر في بقية الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى أن يخرج الرجل على وجه يرضي قال: إنكم قادمون على إخوانكم يعني فاصلحوا أحوالكم واصلحوا ثيابكم لأنه من المعروف فيما سبق أن المسافر تكون ثيابه رثة ويكون شعره شعثا ويكون عليه الغبار، ليس الأمر كاليوم فاليوم تسافر بالطائرات نظيفة ونزيهة وليس فيها شيء لكن فيما سبق كان الأمر على العكس من هذا فأمرهم أن يصلحوا أحوالهم يعني الشعر الشعث(4/310)
يرجل ويصلح وكذلك يتنظف الإنسان ويلبس الثياب التي ليست ثياب سفر حتى لقي الناس دون أن يشمئزوا منه.
وفي هذا: إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يلاحظ نفسه في هذه الأمور ولا يكون غافلا حتى جمال الثياب فإنه لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة خردل من كبر قالوا: يا رسول الله كلنا يجب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله جميل يحب الجمال يعني يحب التجمل، ليكن ثوبك حسنا ونعلك حسنا وهيئتك حسنة إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس بطر الحق يعني رد الحق أن الإنسان يستكبر عن الحق يقال: هذا حق فيعرض والعياذ بالله وغمط الناس: احتقارهم وازدراؤهم وألا يراهم شيئا قال رجل لابنه يا بني كيف ترى الناس؟ قال: أراهم ملوكا قال هم يرونك كذلك وقال آخر لابنه: كيف ترى الناس قال: لا أراهم شيئا قال: هم كذلك يرونك يعني إذا رأيت الناس ملوكا فهم يجعلونك ملكا وإذا لم ترهم شيئا لا تكون أنت شيئا عندهم فالناس ينظرون إليك بقدر ما تنظر إليهم(4/311)
799 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إزارة المسلم إلى نصف الساق، ولا حرج أو لا جناح فيما بينه وبين الكعبين فما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، ومن جر إزاره بطرا لم ينظر الله إليه رواه أبو داود بإسناد صحيح
800 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إزارى استرخاء فقال: يا عبد الله ارفع إزارك فرفعته ثم قال: زد فزدت، فما زلت أتحراها بعد فقال بعض القوم: إلى أين؟ فقال: إلى أنصاف الساقين رواه مسلم.
801 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقالت أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهن، قال: يرخين شبرا قالت: إذن تنكشف أقدامهن قال: فيرخينه ذراعا لا يزدن رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.(4/312)
[الشَّرْحُ]
هذه أحاديث ثلاثة ساقها النووي رحمه الله في رياض الصالحين في (كتاب اللباس) منها: حديث أبي سعيد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إزارة المسلم إلى نصف الساق، ولا جناح، أو قال: لا حرج فيما بينه وبين الكعبين، وما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، ومن جر إزاره بطرا لم ينظر الله إليه فقسم النبي صلى الله عليه وسلم طول القميص إلى أربعة أقسام: القسم الأول: السنة إلى نصف الساق.
والقسم الثاني: الرخصة: وهو ما نزل من نصف الساق إلى الكعب والقسم الثالث: كبيرة من كبائر الذنوب وهو ما نزل عن الكعبين ولكنه لم يكن بطرا القسم الرابع: من جر ثوبه خيلاء أو بطرا وهو أشد من الذي قبله فصارت الأقسام أربعة: قسم هو السنة وقسم جائز وقسم محرم بل من كبائر الذنوب لكنه دون الذي بعده، والقسم الرابع من جره خيلاء، فإن الله تعالى لا ينظر إليه وفي هذا: دليل على أن من أنزل ثوبه إزارا أو قميصا أو سروالا(4/313)
أو (مشلحا) إلى أسفل من الكعبين فإنه قد أتى كبيرة من كبائر الذنوب سواء فعل ذلك خيلاء أو لغير الخيلاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق في هذا الحديث بين ما كان خيلاء وما لم يكن كذلك فالذي جعله خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة وإذا ضممنا هذا الحديث إلى حديث أبي ذر السابق قلنا: لا ينظر الله إليه ولا يكلمه، ولا يزكيه، وله عذاب أليم.
أما ما دون الكعبين، فإنه يعاقب عليه بالنار فقط، ولكن لا تحصل له العقوبات الأربع ثم ذكر حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمره أن يرفع إزاره، فرفعه ثم قال: زد ثم قال: زد: حتى قال رجل: إلى أين يا رسول الله؟ قال: إلى أنصاف الساقين يعني الزيادة إلى فوق لا تتجاوز نصف الساق من فوق، لكنها من نصف الساق إلى الكعب كل هذا جائز، وكلما ارتفع نصف الساق فهو أفضل.
وأما حيث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للنساء أن يرخين ذيولهن يعني أسفل ثيابهن إلى شبر، فقالت: إذا تنكشف أقدامهن، فقال عليه الصلاة والسلام: فيرخينه ذراعا لا يزدن لأن المرأة قدمها عورة، فإذا برز للناس ورأوه فإن ذلك قد(4/314)
يكون فيه فتنة فإذا نزلت ثوبها وجعلت تمشي سترت قدمها وفي هذا: دليل على وجوب تغطية الوجه، لأنه إذا كانت القدم يجب سترها مع أن الفتنة فيها أقل من الفتنة في الوجه فستر الوجه من باب أولى، ولا يمكن للشريعة التي نزلت من لدن حكيم خبير أن تقول للنساء يغطين أقدامهن ولا يغطين وجوههن، لأن هذا تناقض، بل هذا إعطاء للحكم في شيء وحجب الحكم عن شيء أولى منه، وهذا لا يتصور في الشريعة العادلة هي الميزان، ولهذا جانب الصواب من قال من العلماء إنه يجب أن تستر القدمان ولا يجب أن يستر الوجه والعينان، هذا لا يمكن أبدا، والصواب الذي لا شك فيه عندنا فيه، أنه لا يحل للمرأة أن تكشف وجهها إلا لزوجها أو محارمها(4/315)
باب استحباب ترك الترفع في اللباس تواضعا قد سبق في باب فضل الجوع وخشونة العيش تتعلق بهذا الباب
802 - وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ترك اللباس تواضعا لله، وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخبره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها رواه الترمذي وقال: حديث حسن(4/316)
باب استحباب التوسط في اللباس ولا يقتصر على ما يزري به لغير حاجة ولا مقصود شرعي
803 - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده رواه الترمذي وقال: حديث حسن
[الشَّرْحُ]
عقد المؤلف رحمه الله في (كتاب اللباس) هذين البابين الباب الأول: في استحباب ترك رفيع الثياب تواضعا لله عز وجل والثاني: في التوسط في اللباس.
أما الأول: فعن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: من ترك اللباس يعني اللباس الجميل الطيب تواضعا لله عز وجل وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها وهذا يعني أن الإنسان إذا كان بين أناس متوسطي الحال لا يستطيعون اللباس الرفيع فتواضع وصار يلبس مثلهم، لئلا(4/317)
تنكسر قلوبهم، ولئلا يفخر عليهم، فإنه ينال هذا الأجر العظيم أما إذا كان بين أناس قد أنعم عليهم ويلبسون الثياب الرفيعة لكنها غير محرمة، فإن الأفضل أن يلبس مثلهم لأن الله تعالى جميل يحب الجمال ولاشك أن الإنسان إذا كان بين أناس رفيعي الحال يلبسون الثياب الجميلة ولبس دونهم فإن هذا يعد لباس شهرة فالإنسان ينظر ما تقتضيه الحال فإذا كان ترك رفيع الثياب تواضعا لله ومواساة لمن كان حوله من الناس فإن له هذا الأجر العظيم أما إذا كان بين أناس قد أغناهم الله ويلبسون الثياب الرفيعة فإنه يلبس مثلهم ثم ذكر المؤلف رحمه الله الاقتصاد في اللباس وأن الإنسان يقتصد في جميع أحواله في لباسه وطعامه وشرابه لكن لا يجحد النعمة فإن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده إذا أنعم على عبده نعمة فإنه يحب أن يري أثر هذه النعمة عليه فإن كانت مالا فإنه يحب سبحانه وتعالى أن يرى أثر هذا المال على من أنعم الله عليه به بالإنفاق والصدقات والمشاركة في الإحسان والثياب الجميلة اللائقة به وغير ذلك وإذا أنعم الله على عبده بعلم فإنه يحب أن يرى أثر هذه النعمة عليه بالعمل بهذا العلم في العبادة وحسن المعاملة ونشر(4/318)
الدعوة وتعليم الناس وغير ذلك وكلما أنعم الله عليك نعمة فأر الله تعالى أثر هذه النعمة عليك فإن هذا من شكر النعمة وأما من أنعم الله عليه بالمال وصار لا يرى عليه أثر النعمة يخرج إلى الناس بلباس رث وكأنه أفقر عباد الله فهذا في الحقيقة قد جحد نعمة الله عليه كيف ينعم الله عليك بالمال والخير وتخرج إلى الناس بثياب كلباس الفقراء أو أقل وكذلك ينعم الله عليك بالمال ثم تمسك ولا تنفق لا فيما أوجب الله عليك ولا فيما ندب لك أن تنفق فيه ينعم الله عليك بالعلم فلا يرى أثر هذه النعمة عليك لا بزيادة عبادة أو خشوع أو حسن معاملة ولا بتعليم الناس ونشر العلم كل هذا النوع من كتمان النعمة التي ينعم الله بها على العبد والإنسان كلما أنعم الله عليه بنعمة فإنه ينبغي أن يظهر أثر هذه النعمة عليه حتى لا يجحد نعمة الله(4/319)
باب تحريم لباس الحرير على الرجال وتحريم جلوسهم عليه واستنادهم إليه وجواز لبسه للنساء
804 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلبسوا الحرير فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة متفق عليه
805 - وعنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما يلبس الحرير من لا خلاق له متفق عليه وفي رواية للبخاري: من لا خلاق له في الآخرة قوله: من لا خلاق له أي: لا نصيب له.
806 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة متفق عليه
807 - وعن علي رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا فجعله في يمينه وذهبا فجعله في(4/320)
شماله ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي رواه أبو داود بإسناد حسن
808 - وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح
809 - وعن حذيفة رضي الله عنه قال: نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها وعن لبس الحرير والديباج وأن تجلس عليه رواه البخاري
[الشَّرْحُ]
(باب تحريم الحرير على الرجال وافتراشه والاستناد إليه) هذه ثلاثة أمور: لباس الحرير وافتراشه والاستناد إليه وقد جزم المؤلف بأن هذا حرام على الرجال وذلك للأحاديث التي أوردها عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأنس بن مالك وأبي موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم وكلها تدل على تحريم لباس الذهب وعلى تحريم لباس الحرير(4/321)
للرجال وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة يعني إذا لبس الرجل حريرا في الدنيا فإنه لا يلبسه في الآخرة وهذا وعيد يدل على أن لباس الحرير للرجال من كبائر الذنوب لأن فيه الوعيد في الآخرة وكل ذنب فيه وعيد الآخرة فهو كبيرة من كبائر الذنوب عند أهل العلم، ولا فرق بين أن يكون قميصا أو سراويل أو غترة أو طاقية أو غير ذلك مما يلبس كل هذا حرام على الرجال إذا كان من الحرير ولا يجوز للرجال أن يلبسوا شيئا من الحرير لا قليلا ولا كثيرا وفي حديث على النبي صلى الله عليه وسلم أخذ ذهبا وحريرا بيديه وقال: هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم والحكمة في ذلك أن المرأة محتاجة إلى التجمل لزوجها فأبيح لهذا الذهب والحرير وأما الرجل فليس في حاجة إلى ذلك فهذا حرم عليه لبس الذهب والحرير وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه: إنما يلبسه من لا خلاق له في الآخرة يعني من لا نصيب له في الآخرة ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن الإنسان إذا لبس الحرير في الدنيا فإنه لا يدخل الجنة والعياذ بالله لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لا خلاق له في الآخرة أي لا نصيب له(4/322)
وقال أيضا: من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وهذا يعني أنه لا يدخل الجنة ولكن قال بعض العلماء: إنه يدخلها ولكن لا يتمتع بلباس الحرير مع أن أهل الجنة لباسهم فيها حرير وإنما يلبس شيئا آخر وهذا ما لم يتب فإن تاب من ذنوبه فإن التائب من الذنب يغفر الله له ذنبه كما قال تعالى قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وهذا في الحرير الطبيعي الذي يخرج من دود القز وأما الحرير الصناعي فليس حراما لكن لا ينبغي للرجل أن يلبسه لما فيه من الميوعة والتنزل بحال الرجل الذي ينبغي أن يكون فيها خشنا يلبس ثياب الرجولة لا ثياب النعومة لكن الفائدة من قولنا: إن الحرير الصناعي ليس حراما يعني لو لبس طاقية من الحرير الصناعي أو سروالا لا يرى فهذا لا بأس به وأما القميص والغترة فلا ينبغي وإن كان حلالا لا ينبغي أن يلبسه الرجل لما فيه من الميوعة والتدني ولأن الجاهل إذا رآه يظنه حريرا طبيعيا فيظن أن ذلك سائغ للرجل وربما يقتدي به السلامة أسلم للإنسان وكذلك الذهب فإنه محرم على الرجال حلال للنساء لأنهن(4/323)
يحتجن إلى التجمل لأزواجهن وأما الدبلة من الذهب فهي حرام على الرجل لاشك وأما المرأة فإن قارن ذلك عقيدة كاعتقادها أنها تحببها إلى زوجها فهي حرام وإن كان بدون عقيدة فهي خاتم من الخواتم(4/324)
باب جواز لبس الحرير لمن به حكة
810 - عن أنس رضي الله عنه قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما في لبس الحرير لحكة بهما.
متفق عليه(4/325)
باب النهي عن افتراش جلود النمور والركوب عليها
811 - عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تركبوا الخز ولا النمار حديث حسن رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن
812 - عن أبي المليح عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع رواه أبو داود، والترمذي والنسائي بأسانيد صحاح.(4/326)
باب ما يقول إذا لبس ثوبا جديدا
813 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا استجد ثوبا سماه عمامة أو قميصا أو رداء يقول: اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه أسألك خيره وخير ما صنع له وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن
[الشَّرْحُ]
هذه الأبواب التي ذكرها المؤلف هي آخر أبواب كتاب رياض الصالحين فالباب الأول: جواز لبس الحرير لمن به حكة وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي الرجال عن لبس الحرير وقال: إنما يلبسه من لا خلاق له وقال: من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة لكن إذا دعت الحاجة إلى ذلك فإنه لا بأس به مثل أن يكون في الإنسان حكة يعني حساسية واحتاج إلى لبس الحرير فإنه(4/327)
يلبسه ويكون مما يلي الجسد لأن الحرير لين وناعم وبارد يناسب الحكة فيطفؤها ولهذا رخص النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف والزبير أن يلبسا الحرير من حكة كانت بهما كذلك أيضا إذا كان الحرير أربعة أصابع فأقل يعني عرضه أربعة أصابع فأقل فإنه لا بأس به لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رخص في ذلك يعني مثلا لو كان إنسان عنده جبة وفي فتحتها خيوط من الحرير أو تطريز من الحرير لا يتجاوز أربعة أصابع فإن ذلك لا بأس به وكذلك إذا كان الثوب مختلطا بين الحرير والقطن أو بين الحرير والصوف وكان الأكثر الصوف أو القطن يعني أكثر من الحرير فإنه لا بأس به فهذه ثلاثة أمور الأمر الرابع: إذا كان الحرب يعني التقى الصفان بين المسلمين والكفار فلا بأس أن يلبس الإنسان ثياب الحرير لأن ذلك يغيظ الكفار وكل شيء يغيظ الكفار فإنه مطلوب فهذه أربعة أشياء تستثنى: الأول: إذا كان لحاجة كالحكة ويكون مما يلي الجسد والحكمة في ذلك واضحة الثاني: إذا كان أربعة أصابع فأقل والثالث: إذا كان مختلطا والأكثر ظهورا سوى الحرير(4/328)
والرابع: في الحرب من أجل إغاظة الكفار فهذه المواضع الأربعة لا بأس فيها من الحرير أما الباب الثاني: فهو لباس جلود النمار والنمار جمع نمر وهو حيوان معروف فلا يجوز للإنسان أن يلبس فروا من جلود النمار وكذلك لا يجوز الإنسان أن يلبس فروا من جلود السباع كما يدل عليه الحديث الآخر لأن جلود السباع نجسة كل السباع نجسة وأخبثها الكلب لأن نجاسة الكلب مغلظة لا يكفي فيها إلا الغسل سبع مرات إحداها بالتراب أما ما سواه من السباع فهو نجس، لكن ليس بهذه الغلظة وعلى كل حال فجلود الذئاب وجلود النمور وأي جلود أخرى حرام كجلد الأسد مثلا يحرم لبسها وكذلك ويحرم افتراشها لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهي عن ذلك يعنى لو جعلتها مقاعد تجلس عليها فإن ذلك حرام أما جلود الضأن وجلود ما تحله الزكاة، فلا بأس أن يفترشها الإنسان ولا بأس أن يلبسها أيضا لأنها طاهرة والطاهر لا بأس باستعماله.
وأما الباب الثالث: فهو ما يقوله الإنسان إذا لبس ثوبا جديدا ولا شك أن الإنسان لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولا(4/329)
شك أن ما نأكله ونشربه ونلبسه من نعمة الله عز وجل وأنه هو الذي خلقه لنا ولولا أن الله يسره ما تيسر لو شاء تعالى لفقد المال من بين أيدينا فلم نستطيع أن نحصل شيئا ولو شاء الله لوجد المال بيننا لكن لا نجد شيئا نطعمه أو نلبسه ونشربه قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَّأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَّعِينٍ فكل ما بنا من نعمة الله وحده ومن ذلك اللباس فإذا من الله عليك بلباس جديد قميص أو سروال أو غترة أو مشلح أو نحوها ولبستها فقل: اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه وتسميه باسمه اللهم لك الحمد أنت كسوتني هذا القميص أنت كسوتني هذا السروال أنت كسوتني هذه الغترة أنت كسوتني هذه الطاقية أنت كسوتني هذا المشلح أي شيء تلبسه وهو جديد فاحمد الله قل: اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه أسألك خيره وخير ما صنع له وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له فربما يكون هذا سبب شر عليك ربما تأكل النار طرفه ثم تتقد حتى تشمل هذا اللباس وتقضي عليك أنت أيضا ربما تكون فيه أشياء سامة ما تعلم عنها شيئا فالمهم أنك تقول: اللهم إني أعوذ بك من شره وشر ما صنع له لأنه قد يصنع ويكون سببا للشر كأن يحمل صاحبه على الكبر والترفع على الناس أو قد يكون سببا للفتنة وهي من أعظم الشر والفساد كتلك الألبسة التي تتفنن النساء في صنعها مضاهاة لغيرهن(4/330)
من نساء الغرب الكافرات(4/331)
كتاب آداب النوم
باب آداب النوم والاضطجاع والقعود والمجلس والجليس والرؤيا
814 - عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نام على شقه الأيمن، ثم قال: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت رواه البخاري بهذا اللفظ في كتاب الأدب من صحيحه
815 - وعنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اظطجع على شقك الأيمن وقل ...
وذكر نحوه وفيه واجعلهن آخر ما تقول متفق عليه
[الشَّرْحُ]
عقد المؤلف رحمه الله كتابا في آداب النوم والجلوس والجليس وغير ذلك مما يحتاج إليه الإنسان في(4/332)
حياته وهذا يدل على أن هذا الكتاب أعني رياض الصالحين كتاب شامل عام ينبغي لكل مسلم أن يقتنيه وأن يقرأه وأن يفهم ما فيه فذكر المؤلف رحمه الله آداب النوم والنوم من آيات الله عز وجل الدالة على كمال قدرته وحكمته قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ وهو نعمة من الله تعالى على العبد لأنه يستريح فيه من تعب سابق وينشط فيه لعمل لاحق فهو ينفع الإنسان فيما مضى وفيما يستقبل وهو من كمال الحياة الدنيا وذلك لأن الدنيا ناقصة فتكمل بالنوم لأجل الراحة لكنه نقص من وجه آخر بالنسبة للقيوم عز وجل وهو الله فإن الله تعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم} لكمال حياته فهو لا يحتاج إلى النوم ولا يحتاج إلى شيء وهو الغني الحميد عز وجل لكن الإنسان في هذه الحياة الدنيا بشر ناقص يحتاج إلى تكميل والنوم عبارة عن أن الله سبحانه وتعالى يقبض النفس حين النوم لكنه ليس القبض التام الذي تحصل به المفارقة التامة ولذلك تجد الإنسان حيا ميتا في الحقيقة لا يحس بما عنده لا يسمع قولا ولا يبصر شخصا ولا يشم رائحة ولكن(4/333)
لم تخرج نفسه من بدنه الخروج الكامل قال الله تعالى: {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} وهذه الوفاة الكبرى: {والتي لم تمت في منامها} يتوفاها في منامها {فيمسك التي قضى عليها الموت} وهي الأولى {ويرسل الآخرى} وهي النائمة يعني يطلقها {إلى أجل مسمى} لأن كل شيء عند الله تعالى وبمقدار وكل شيء عنده بأجل مسمى كل فعله جل وعلا حكمة في غاية الإتقان فهذا النوم من آيات الله عز وجل تأتي القوم مثلا في حجرة أو في سطح أو في بر وهم نيام كأنهم جثث موتى لا يشعرون بشيء ثم هؤلاء القوم يبعثهم الله عز وجل قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} ثم إن الإنسان يعتبر بالنوم اعتبارا آخر وهو إحياء الأموات بعد الموت فإن القادر على رد الروح حتى يصحو الإنسان ويستيقظ ويعمل عمله في الدنيا قادر على أن يبعث الأموات من قبورهم وهو على كل شيء قدير ومن آداب النوم: أن ينام الإنسان على الشق الأيمن لأن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره فالبراء بن عازب رضي الله عنه روى أن النبي(4/334)
صلى الله عليه وسلم كان يضطجع على شقه الأيمن والنبي صلى الله عليه وسلم أمر البراء بن عازب أن ينام على شقه الأيمن هذا هو الأفضل سواء كانت القبلة خلفك أو أمامك أو عن يمينك أو عن شمالك النوم على الأيمن هو المهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم به بعض الناس اعتاد أن ينام على الجنب الأيسر ولو نام على الأيمن ربما لا يأتيه النوم لكن عليه أن يعود نفسه لأن المسألة ليست بالأمر الهين ثبتت من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره فأنت إذا نمت على الجنب الأيمن تشعر بأنك متبع الرسول عليه الصلاة والسلام حيث كان ينام على جنبيه الأيمن وممتثل لأمره حيث أمر به عليه الصلاة والسلام فعود نفسك وجاهدها على ذلك يوما أو يومين أو أسبوعا حتى تستطيع النوم وأنت ممتثل لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
ومن السنن أيضا إذا تيسر أن تضع يدك اليمنى تحت خدك الأيمن لأن هذا ثبت من فعل الرسول عليه الصلاة والسلام فإن تيسر لك ذلك فهو جيد وأفضل وإن لم يتيسر فليس هو بالتأكيد كمثل النوم على الجنب الأيمن ومن ذلك أيضا أن تقول هذا الذكر الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم وأمر به اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا(4/335)
منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت واجعل هذا آخر ما تقول يعني بعد الأذكار الأخرى مثل اللهم بك وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فاغفر لها وارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين وما أشبه ذلك المهم اجعل هذا الذكر الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم البراء بن عازب آخر ما تقول وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم البراء بن عازب أن يعيد عليه هذا الذكر فأعاده لكن قال وبرسولك الذي أرسلت فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لا قل وبنبيك الذي أرسلت ولا تقل وبرسولك قال أهل العلم: وذلك لأن الرسول يطلق على الرسول البشري والرسول الملكي جبريل كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} والنبي للنبي البشري وأنت إذا قلت نبيك الذي أرسلت جمعت بين الشهادة للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالنبوة والرسالة فكان هذا اللفظ أولى من قولك وبرسولك الذي أرسلت لأنك لو قلت(4/336)
وبرسولك الذي أرسلت يمكن أن يكون جبريل لأن جبريل رسول أرسله الله إلى الأنبياء بالوحي فينبغي عليكم أن تحفظوا هذا الذكر وأن تقولوه إذا اضطجعتم على فرشكم وأن تجعلوه آخر ما تقولون امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم واتباعا لسنته وهديه هذه من آداب النوم ومن حكمة الله عز وجل ورحمته أنك لا تكاد تجد فعلا للإنسان إلا وجدته مقرونا بذكر اللباس له ذكر، الأكل له ذكر، الشرب له ذكر، النوم له ذكر، حتى جماع الرجل لامرأته له ذكر كل شيء له ذكر وذلك من أجل ألا يغفل الإنسان عن ذكر الله يكون ذكر الله على قلبه دائما وعلى لسانه دائما وهذه من نعمة الله التي نسأل الله تعالى أن يرزقنا شكرها وأن يعيننا عليها
816 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى من الليل إحدى عشرة ركعة فإذا طلع الفجر صلى ركعتين حفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يجيء المؤذن فيؤذنه متفق عليه(4/337)
817 - وعن حذيفة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده ثم يقول: اللهم باسمك أموت وأحيا وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور رواه البخاري
[الشَّرْحُ]
هذه من الأحاديث التي ساقها النووي رحمه الله في (كتاب آداب النوم) وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر البراء بن عازب أن يضطجع على جنبه الأيمن وأن يقول: اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك إلى آخر الحديث وبينا أن السنة والأفضل أن ينام الإنسان على جنبه الأيمن وفي حديث حذيفة رضي الله عنه أنه ينبغي أن يضع الإنسان يده تحت خده ومعلوم أنها اليد اليمنى تكون تحت الخد الأيمن وهذا ليس على سبيل الوجوب ولكن على سبيل الأفضلية فإن تيسر لك هذا وإلا فالأمر واسع ولله الحمد فكان النبي صلى الله عليه وسلم يضع يده تحت خده ويقول: باسمك اللهم أموت وأحيا يعني أنني أموت وأحيا بإرادة الله عز وجل والمراد(4/338)
بالموت هنا والله أعلم موت النوم لأن النوم يسمى وفاة أو أنه الموت الأكبر الذي هو مفارقة الروح للبدن ويكون كقوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وإذا قام قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور وهذا يؤيد أن المراد بالموت في قوله: باسمك اللهم أموت وأحيا يعني موت النوم وهو الموت الأصغر أما حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة وهذا أكثر ما كان يصلي إما إحدى عشرة وإما ثلاثة عشر وقد ينقص عن ذلك حسب ما تكون حاله عليه الصلاة والسلام من النشاط وعدم النشاط ثم كان إذا طلع الفجر صلى ركعتين خفيفتين وهما سنة الفجر فإن السنة أن يخففها فيقرأ في الأولى: {قل يا أيها الكافرون} وفي الثانية {قل هو الله أحد} أو في الأولى {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} إلى آخر الآية في سورة البقرة وفي الثانية {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} في آل عمران والمهم أن يخففهما فيخفف الركوع والسجود والقيام والقعود(4/339)
لكن بشرط ألا يخل بالطمأنينة لأنه لو أخل بالطمأنينة لفسدت ثم يضطجع على جنبه الأيمن عليه الصلاة والسلام بعد أن يصلي الركعتين سنة الفجر يضطجع على الجنب الأيمن حتى يؤذنه المؤذن يعني حتى يعلمه بأن وقت الإقامة قد جاء فيخرج ويصلي ففي هذا الحديث فوائد: منها: أن من نعمة الله عز وجل أن أطلعنا على ما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعلمه في السر في الليل بواسطة زوجاته رضي الله عنهن وهذا من الحكمة في كثرة تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه مات عن تسع نسوة ومن فوائد ذلك أن كل امرأة منهن تأتي بسنة لا يطلع عليها إلا هي ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في الليل إحدى عشرة ركعة وكان يطيل القيام عليه الصلاة والسلام وكان يقوم إذا انتصف الليل وأحيانا بعد ذلك حسب نشاطه وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام من نصف الليل ينام في آخر الليل كما قالت عائشة رضي الله عنها في حديث آخر وإلا صلى إلى الفجر إذا تأخر فإذا طلع الفجر صلى ركعتين ثم اضطجع على جنبه الأيمن وفيه دليل على أنه يسن تخفيف ركعتي الفجر كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام وفيه أن الأفضل للإمام ألا يحضر إلى(4/340)
المسجد إلا عند إقامة الصلاة وان يجعل صلاة الرواتب في بيته كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل أما المأموم فإنه يتقدم لكن الإمام لما كان ينتظر ولا ينتظر كانت السنة أن يتأخر في بيته حتى يصلي النوافل المشروعة ثم يأتي وفيه دليل على استحباب الاضطجاع على الجنب الأيمن بعد سنة الفجر لمن تطوع في بيته كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام واختلف العلماء رحمهم الله في هذه الضجعة: منهم من قال إنها سنة بكل حال ومنهم من قال إنها ليست بسنة إلا إذا كان الإنسان صاحب صلاة في آخر الليل فإنه يضطجع ليعطي بدنه شيئا من الراحة ومنهم من شدد فيها حتى جعلها بعض العلماء من شروط صلاة الفجر وقال من لم يضطجع بعد السنة فلا صلاة له لكن هذا قول شاذ وإنما ذكرناه لنبين لكم أن بعض العلماء يأتون بأقوال شاذة بعيدة عن الصواب والصواب أنها سنة لمن كان له تهجد من الليل وصلاة وطول قيام فهذا يضطجع حتى يؤذن بالصلاة وهذا في حق الإمام ظاهر أما المأموم فإنه ربما لو اضطجع يقيمون الصلاة فيفوته شيء منها وهو لا يشعر لأن المأموم ينتظر ولا ينتظر لكن الإمام هو الذي(4/341)
ينتظره الناس فإذا اضطجع بعد سنة الفجر في بيته فإن هذا من السنة إذا كان ممن يجتهد في التهجد أما من لا يقوم إلا متأخرا أو لا يقوم إلا مع أذان الفجر فهذا لا حاجة إلى أن يضطجع بعد سنة الفجر
818 - وعن يعيش بن طخفة الغفاري رضي الله عنهما قال: قال أبي: بينما أنا مضطجع في المسجد على بطني إذا رجل يحركني برجله فقال إن هذه ضجعة يبغضها الله قال فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود بإسناد صحيح
819 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قعد مقعدا لم يذكر الله تعالى فيه كانت عليه من الله تعالى ترة ومن اضطجع مضطجعا لا يذكر الله تعالى فيه كانت عليه من الله ترة رواه أبو داود بإسناد حسن الترة بكسر التاء المثناه من فوق وهي النقص وقيل التبعة(4/342)
[الشَّرْحُ]
هذه بقية الأحاديث الواردة في آداب النوم والاضطجاع ذكر فيها المؤلف حديث يعيش بن طخفة الغفاري أنه قال: حدثني أبي أنه كان نائما في المسجد على بطنه فإذا رجل يركضه برجله ويقول إن هذه ضجعة يبغضها الله عز وجل فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي هذا الحديث دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن ينام على بطنه لاسيما في الأماكن التي يغشاها الناس لأن الناس إذا رأوه على هذا الحال فهي رؤية مكروهة لكن إذا كان في الإنسان وجع في بطنه وأراد أن ينام على هذه الكيفية لأنه أريح له فإن هذا لا بأس به لأن هذه حاجة وفي هذا دليل على جواز ركض الإنسان بالرجل يعني نخسه برجله لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فعل ذلك وهو أشد الناس تواضعا ولا يعد هذا من الكبر اللهم إلا أن يكون في قلب الإنسان شيء من كبر فهذا شيء آخر لكن مجرد أن تركض الرجل برجلك لا يعتبر هذا كبرا إلا أنه ينبغي مراعاة الأحوال إذا كنت تخشى أن الرجل الذي تركضه برجلك يرى أنك مستهين به وأنك محتقر له فلا تفعل لأن الشيء المباح إذا ترتب عليه محظور فإنه يمنع(4/343)
ثم ذكر حديث أبي هريرة في الرجل يجلس مجلسا لا يذكر الله فيه أو يضطجع مضطجعا لا يذكر الله فيه كان عليه من الله ترة والترة يعني الخسارة أن تجلس مجلسا لا تذكر الله فيه فهذا خسارة لأنك لم تربح فيه وفيه دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يكثر من ذكر الله قائما وقاعدا وعلى جنبه وكذلك إذا اضطجعت مضطجعا لم تذكر اسم الله فيه فإنه يكون عليك من الله ترة أي خسارة فأكثر من ذكر الله دائما وأبدا كن كمن قال الله تعالى فيهم: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ لتكون ممتثلا لقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أعاننا الله على ذكره وشكره وحسن عبادته(4/344)
باب جواز الاستلقاء على القفا ووضع إحدى الرجلين على الأخرى إذا لم يخف انكشاف العورة وجواز القعود متربعا ومحتبيا
820 - عن عبد الله بن يزيد رضي الله عنهما أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقيا في المسجد واضعا إحدى رجليه على الأخرى متفق عليه
821 - وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء حديث صحيح رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة
822 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة: محتبيا بيديه هكذا ووصف بيديه الاحتباء وهو القرفصاء رواه البخاري
823 - وعن قيلة بنت مخرمة رضي الله عنها قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد القرفصاء فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشع في الجلسة(4/345)
أرعدت من الفرق رواه أبو داود والترمذي
824 - وعن الشريد بن سويد رضي الله عنه قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس هكذا وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت على إلية يدي فقال أتقعد قعدة المغضوب عليهم رواه أبو داود بإسناد صحيح
[الشَّرْحُ]
هذا الباب الذي عقده النووي رحمه الله في بيان النوم على الظهر وقد سبق أن الأفضل لمن أراد أن ينام على الجنب الأيمن وسبق أن النوم على البطن لا ينبغي إلا لحاجة وبقي النوم على الظهر وهو لا بأس به شرط أن يأمن انكشاف العورة فإن كان يخشى من انكشاف عورته بحيث يرفع إحدى رجليه فيرتفع الإزار وليس عليه سراويل فإنه لا ينبغي لكن إذا أمن انكشاف العورة فإن ذلك لا بأس به وبقي شيء رابع وهو النوم على الجنب الأيسر فهذا أيضا لا(4/346)
بأس به فالنوم على الظهر لا بأس به والنوم على الجنب الأيسر لا بأس به والنوم على الجنب الأيمن أفضل والنوم منبطحا لا يبنبغي إلى لحاجة أما القعود فإن جميع القعود لا بأس بها فلا بأس أن يقعد الإنسان متربعا ولا بأس أن يجلس وهو محتبي القرفصاء يعني يقيم فخذيه وساقيه ويجعل يديه مضمومتين على الساقين هذا أيضا لا بأس به لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قعد هذه القعدة ولا يكره من الجلوس إلا ما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قعدة المغضوب عليهم بأن يجعل يده اليسرى من خلف ظهره ويجعل بطن الكف على الأرض ويتكئ عليها فإن هذه القعدة وصفها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأنها قعدة المغضوب عليهم أما وضع اليدين كلتيهما من وراء ظهره واتكأ عليهما فلا بأس ولو وضع اليد اليمنى فلا بأس إنما التي وصفها النبي عليه الصلاة والسلام بأنها قعدة المغضوب عليهم أن يجعل اليد اليسرى من خلف ظهره ويجعل باطنها أي أليتها على الأرض ويتكئ عليها فهذه هي التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها قعدة المغضوب عليهم(4/347)
باب أداب المجلس والجليس
825 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقين أحدكم رجلا من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن توسعوا وتفسحوا وكان ابن عمر إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس فيه متفق عليه
826 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قام أحدكم من مجلس ثم رجع إليه فهو أحق به رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في (باب آداب المجلس والجليس) هذا الباب عقده المؤلف رحمه الله لبيان الآداب التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان في مجالسه ومع جليسه وقد ذكر الله تعالى في كتابه شيئا من آداب المجالس(4/348)
فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ والشريعة الإسلامية شريعة شاملة لكل ما يحتاج الناس إليه في دينهم ودنياهم قال الله تبارك وتعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} وقال أبو ذر رضي الله عنه لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وما طائر يقلب جناحه في السماء إلا ذكر لنا منه علما ولهذا تجد الشريعة بينت مسائل الدين الهامة الكبيرة كالتوحيد وما يتصل به من العقيدة والصلاة والزكاة والصيام والحج وما كان دون ذلك من آداب النوم والأكل والشرب والمجالس ثم ذكر المؤلف حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يقيمن أحدكم رجلا من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن توسعوا وتفسحوا يعني إذا دخلت مكانا ووجدت المكان ممتلئا فلا تقل يا فلان قم ثم تجلس في مكانه ولكن إذا كنت لابد أن تجلس فقل تفسحوا توسعوا فإن الله تعالى يوسع لهم {.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا(4/349)
يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ} أما أن تقيم الرجل وتجلس مكانه فإن هذا لا يجوز حتى في مجالس الصلاة لو رأيت إنسانا في الصف الأول فإنه لا يحل لك أن تقول له قم ثم تجلس في مكانه حتى لو كان صبيا لكنه يصلي فإنه لا يحل لك أن تقيمه من مكانه وتصلى فيه لأن الحديث عام والصبي لابد أن يصلي مع الناس ويكون في مكانه الذي يكون فيه وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم ليلني منكم أولا الأحلام والنهي فهو أمر للبالغين العقلاء أن يتقدموا حتى يلوا الرسول عليه الصلاة والسلام وليس نهيا أن يكون الصغار قريبين منه ولو كان أراد ذلك لقال صلى الله عليه وسلم لا يلني إلا أولو الأحلام والنهي أما إذا أمر أن يليه أولو الأحلام والنهي فالمعنى أنه يحثهم على التقدم حتى يكونا وراء النبي صلى الله عليه وسلم يلونه ويفهمون عنه شريعته وينقلونها إلى الناس وكان ابن عمر رضي الله عنهما من ورعه إذا قم أحد له وقال له اجلس في مكاني لا يجلس فيه كل هذا من الورع يخشى أن هذا الذي قام قال خجلا وحياء من ابن عمر ومعلوم أن الذي يهدى(4/350)
إليك أو يعطيك شيئا خجلا وحياء أنك لا تقبل منه لأن هذا كالمكره ولهذا قال العلماء رحمهم الله يحرم قبول الهدية إذا علمت أنه أهداك حياء أو خجلا ومن ذلك أيضا إذا مررت ببيت وفيه صاحبه وقال تفضل وأنت تعرف أنه إنما قال ذلك حياء وخجلا فلا تدخل عليه لأن هذا يكون كالمكره هذا من آداب الجلوس التي شرعها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ألا يقيم الرجل أخاه من مجلسه ثم يجلس فيه
827 - وعن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: كنا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم جلس أحدنا حيث ينتهي رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن
828 - وعن أبي عبد الله سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع(4/351)
من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلى ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى رواه البخاري
[الشَّرْحُ]
هذان الحديثان نقلهما النووي رحمه الله في (باب آداب المجلس والجليس) فمن آداب المجلس أن الإنسان إذا دخل على جماعة يجلس حيث ينتهي به المجلس هكذا كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل الصحابة إذا أتوا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم يعني لا يتقدم إلى صدر المجلس إلا إذا آثره أحد بمكانه أو كان قد ترك له مكان في صدر المجلس فلا بأس وأما أن يشق المجلس وكأنه يقول للناس ابتعدوا وأجلس أنا في صدر المجلس فهذا خلاف هدى النبي صلى الله عليه وسلم وهدى أصحابه رضي الله عنهم وهو يدل على أن الإنسان عنده شيء من الكبرياء والإعجاب بالنفس ثم إن كان الرجل صاحب خير وتذكير وعلم فإن مكانه الذي هو فيه سيكون هو صدر المجلس فسوف يتجه الناس إليه إن تكلم أو يسألونه إذا أرادوا سؤاله ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام(4/352)
إذا دخل المجلس جلس حيث ينتهي به ثم يكون المكان الذي هو فيه الرسول صلى الله عليه وسلم هو صدر المجلس هكذا أيضا ينبغي للإنسان إذا دخل المجلس ورأى الناس قد بقوا في أماكنهم فليجلس حيث ينتهي به المجلس ثم إن كان من عامة الناس فهذا مكانه وإن كان من خاصة الناس فإن الناس سوف يتجهون إليه ويكون مكانه هو صدر المجلس كذلك أيضا من آداب المجلس ألا يفرق بين اثنين يعني لا يجلس بينهما فيضيق عليهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يتطهر في بيته يوم الجمعة ويدهن ويأخذ من طيب أهله ثم يأتي إلى الجمعة ولا يفرق بين اثنين ويصلي ما كتب له حتى يحضر الإمام فإنه يغفر لهما بين الجمعة والجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام فدل ذلك على أنه يجب على الإنسان في يوم الجمعة أن يتطهر والمراد بذلك الاغتسال لأن غسل الجمعة واجب ويأثم من لم يغتسل إلا لضرورة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: غسل الجمعة واجب على كل محتلم يعني على كل بالغ فكل بالغ يأتي إلى الجمعة فإنه(4/353)
يجب عليه أن يغتسل إلا أن يخاف ضررا أو لا يجد ماء كما لو مر مثلا بقرية وهو مسافر وأراد أن يصلي الجمعة معهم ولم يجد مكانا يغتسل فيه فهذا يسقط عنه لقوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وكذلك أيضا مما يسن في هذا اليوم أن يدهن وذلك إذا كان له شعر رأس فإنه يدهن رأسه ويصلحه حتى يكون على أجمل حال ومن ذلك أيضا أن يلبس أحسن ثيابه ومن ذلك أيضا أن يتسوك يخصها بسواك الجمعة وليس السواك العادي ولهذا لو أن الإنسان استعمل يوم الجمعة الفرشاة التي تطهر الفم لكان هذا حسنا وجيدا ومن ذلك أن يتقدم إلى المسجد فإن من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ومن أتى بعد دخول الإمام فليس له أجر التقدم ولكن له أجر الجمعة لكن أجر التقدم حرم منه وكثير من الناس نسأل الله لنا ولهم الهداية ليس لهم شغل في الجمعة ومع ذلك تجده يقعد في بيته أو في سوقه بدون أي(4/354)
حاجة وبدون أي سبب ولكن الشيطان يثبطه من أجل أن يفوت عليه هذا الأجر العظيم فبادر من حين تطلع الشمس واغتسل وتنظيف والبس أحسن الثياب وتطيب وتقدم إلى المسجد وصل ما شاء الله واقرأ القرآن إلى أن يحضر الإمام وكذلك أيضا من آداب الجمعة ألا يفرق بين اثنين يعني لا تأتي بين اثنين تدخل بينهما وتضيق عليهما أما لو كان هناك فرجة فهذا ليس بتفريق لأن هذين الاثنين هما اللذان تفرقا لكن أن تجد اثنين متراصين ليس بينهما مكان لجالس ثم تجلس بينهما هذا من الإيذاء وقد رأي النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يتخطى الرقاب يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له اجلس فقد آذيت كل هذه من آداب الحضور إلى الجمعة
829 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما رواه(4/355)
أبو داود والترمذي وقال حديث حسن وفي رواية لأبي داود لا يجلس بين رجلين إلا بإذنهما
830 - وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من جلس وسط الحلقة رواه أبو داود بإسناد حسن وروى الترمذي عن أبي مجلز: أن رجلا قعد وسط حلقة فقال حذيفة ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم أو لعن الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم من جلس وسط الحلقة قال الترمذي: حديث حسن صحيح
831 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خير المجالس أوسعها رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري
832 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه(4/356)
ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح
[الشَّرْحُ]
ومن آداب المجالس ما ذكره المؤلف عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما يعني إذا جاءت ووجدت شخصين جلس أحدهما إلى جنب الآخر فلا يفرق بينهما إلا إذا أذنا لك في هذا إما إذنا باللسان يعني إذا قال أحدهما تعال اجلس هنا أو بالفعل بأن يتفرق بعضهما عن بعض إشارة إلى أنك تجلس بينهما وإلا فلا تفرق بينهما لأن هذا من سوء الأدب إن قلت تفسح ومن الأذية إن جلست وضيق عليهما ومن الآداب أيضا أن يجلس الإنسان حيث انتهى به المجلس كما سبق فلا يجوز للإنسان أن يجلس وسط الحلقة يعني إذا رأيت جماعة متحلقين سواء كانوا متحلقين على من يعلمهم أو على من يتكلم معهم المهم إذا كانوا حلقة فلا يجلس في وسط(4/357)
الحلقة وذلك لأنك تحول بينهم وبين من معهم ثم إنهم لا يرضون في الغالب أن يجلس أحد في الحلقة يتقدم عليهم فيكون في ذلك عدوان عليهم وعلى حقوقهم إلا إذا أذنوا لك بأن وقفت مثلا وكان المكان ضيقا وقالوا تفضل اجلس هنا فلا حرج أما بدون إذن فإن حذيفة بن اليمان أخبر بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لعن من جلس في وسط الحلقة كذلك أيضا من آداب المجالس: أن الإنسان إذا جلس مجلسا فكثر فيه لغطه فإنه يكفره أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك قبل أن يقوم من مجلسه فإذا قال ذلك فإن هذا يمحو ما كان منه من لغط وعليه فيستحب أن يختم المجلس الذي كثر فيه اللغط بهذا الدعاء: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ومما ينبغي في المجالس أيضا أن تكون واسعة فإن سعة المجالس من خير المجالس كما قال صلى الله عليه وسلم: خير المجالس أوسعها لأنها إذا كانت واسعة حملت أناسا كثيرين وصار فيها انشراح وسعة صدر وهذا على حسب الحال قد يكون بعض الناس حجر بيته ضيقة لكن إذا أمكنت السعة فهو أحسن لأنه يحمل أناسا كثيرين ولأنه أشرح للصدر(4/358)
833 - وعن أبي برزة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بآخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك فقال رجل يا رسول الله إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى؟ قال: ذلك كفارة لما يكون في المجلس رواه أبو داود رواه الحاكم أبو عبد الله في المستدرك من رواية عائشة رضي الله عنها وقال صحيح الإسناد
[الشَّرْحُ]
سبق أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذاك وفي حديث أبي برزة الذي وصله المؤلف بالحديث السابق دليل على أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يفعله وبين أن هذا كفارة المجلس وقلما يجلس الإنسان مجلسا إلا ويحصل له فيه شيء من اللغط أو من اللغو أو من ضياع الوقت فيحسن أن يقول ذلك كلما قام من مجلسه سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت(4/359)
أستغفرك وأتوب إليك حتى يكون كفارة للمجلس أما الحديث الآخر عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قلما يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات: اللهم اقسم لنا من خشيتك وذكر تمام الحديث فهذا سيأتي الكلام عليه إن شاء الله في موضع آخر والمقصود بهذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في أكثر أحيانه ولكن هل هو في كل مجلس حتى مجالس الوعظ ومجالس الذكر؟ في هذا نظر وابن عمر رضي الله عنهما لا يتابع النبي صلى الله عليه وسلم في كل مجلس بل قد يفوته بعض المجالس فإن قال الإنسان هذا الذكر في أثناء المجلس أو في أوله أو في آخره حصل بذلك السنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها
834 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات: اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن ليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في(4/360)
ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا رواه الترمذي وقال حيث حسن
[الشَّرْحُ]
نقل الإمام النووي رحمه الله في (باب آداب المجلس والجليس) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قلما يقوم من مجلس إلا ويقول: اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك اقسم بمعنى قدر والخشية هي الخوف المقرون بالعلم لقول الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ وقوله: ما تحول به بيننا وبين معصيتك لأن الإنسان كلما خشي الله عز وجل منعته خشيته من الله أن ينتهك محارم الله ولهذا قال: ما تحول به بيننا وبين معصيتك ثم قال: ومن طاعتك يعني واقسم لنا من طاعتك ما تبلغنا به جنتك فإن الجنة طريقها طاعة الله عز وجل فإذا وفق العبد لخشية الله واجتناب محارمه والقيام بطاعته نجا من النار بخوفه ودخل الجنة بطاعته ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا واليقين هو(4/361)
أعلى درجات الإيمان لأنه إيمان لا شك معه ولا تردد تتيقن ما غاب عنك كما تشاهد ما حضر بين يديك فإذا كان عند الإنسان تام بما أخبر الله تعالى به من أمور الغيب فيما يتعلق بالله عز وجل أو بأسمائه أو صفاته أو اليوم الآخر أو غير ذلك وصار ما أخبر الله به من الغيب عنده بمنزلة المشاهد فهذا هو كمال اليقين وقوله ما تهون به علينا مصائب الدنيا لأن الدنيا فيها مصائب كثيرة لكن هذه المصائب إذا كان عند الإنسان يقين أنه يكفر بها من سيئاته ويرفع بها من درجاته إذا صبر واحتسب الأجر من الله هانت عليه المصائب وسهلت عليه المحن مهما عظمت سواء كانت في بدنه أو في أهله أو في ماله ما دام عنده اليقين التام فإنها تهون عليه المصائب ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا تسأل الله تعالى أن يمتعك بهذه الحواس السمع والبصر والقوة ما دمت حيا لأن الإنسان إذا متع بهذه الحواس حصل على خير كثير وإذا افتقد هذه الحواس فاته خير كثير لكن لا يلام عليه إذا كان لا يقدر عليها واجعله الوارث منا يعني اجعل تمتعنا بهذه الأمور السمع والبصر والقوة الوارث منا يعني اجعله يمتد إلى آخر حياتنا حتى(4/362)
يبقى بعدنا ويكون كالوارث لنا وهو كيانه عن استمرار هذه القوات إلى الموت واجعل ثأرنا على من ظلمنا يعني اجعلنا نستأثر ويكون لنا الأثرة على من ظلمنا بحيث تقتص لنا منه إما بأشياء تصيبه في الدنيا أو في الآخرة ولا حرج على الإنسان أن يدعو على ظالمه بقدر ظلمه وإذا دعا على ظالم بقدر ما ظلمه فهذا إنصاف والله سبحانه وتعالى يستجيب دعوة المظلوم قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمعاذ وقد بعثه إلى اليمن وبين له ما يدعوهم إليه فقال: فإن أجابوك لذلك أي للصدقة من أموالهم فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب لأن الله تعالى حكم عدل ينتقم من المظالم إذا رفع المظلوم الشكوى إليه فإذا رفع المظلوم الشكوى إلى الله انتقم الله من الظالم لكن لا يتجاوز في دعائه فيدعو بأكثر من مظلمته لأنه إذا دعا بأكثر من مظلمته صار هو الظالم وانصرنا على من عادانا وأكبر عدو لنا من عادانا في دين الله(4/363)
من اليهود والنصارى والمشركين البوذيين والملحدين والمنافقين وغيرهم هؤلاء هم أعداؤنا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} وقال الله في المنافقين: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} فتسأل الله تعالى أن ينصرك على من عاداك وينصرك على اليهود والنصارى والمشركين والبوذيين وجميع أصناف الكفرة والله سبحانه وتعالى هو الناصر {بَلِ اللهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا المصائب في الحقيقة تكون في مال الإنسان بأن يحترق ماله أو يسرق أو يتلف فهذه مصيبة وتكون أيضا في أهل الإنسان فيمرض أهله أو يموتون وتكون في العقل بأن يصاب هو أو أهله بالجنون نسأل الله العافية وتكون في كل ما من شأنه أن يصاب به الإنسان لكن أعظم مصيبة هي مصيبة الدين نسأل الله أن يثبتنا على دينه الحق فإذا أصيب الإنسان بدينه والعياذ بالله فهذه أعظم مصيبة(4/364)
والمصائب في الدين مثل المصائب في البدن هناك مصائب خفيفة في البدن كالزكام والصداع اليسير وما أشبه ذلك وهناك مصائب في الدين خفيفة كشيء من المعاصي وهناك مصائب في الدين مهلكة مثل الكفر والشرك والشك وما أشبه ذلك هذه مهلكة مثل الموت للبدن فأنت تسأل الله ألا يجعل مصيبتك في دينك أما المصائب التي دون الدين فإنها سهلة فإن المصاب من حرم الثواب نسأل الله العافية ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا فلا تجعل الدنيا أكبر همنا بل اجعل الآخرة أكبر همنا ولا ننسى نصيبنا من الدنيا فلابد للإنسان من الدنيا لكن لا تكون الدنيا أكبر همه ولا مبلغ علمه بل يسأل الله أن يجعل مبلغ علمه علم الآخرة أما علم الدنيا وما يتعلق بها فهذه مهما كانت فإنها ستزول يعني لو كان الإنسان عالما في الطب عالما في الفلك عالما في الجغرافيا عالما في أي شيء من علوم الدنيا فهي علوم تزول وتفنى فالكلام على علم الشرع علم الآخرة فهذا هو المهم ولا تسلط علينا من لا يرحمنا لا تسلط علينا أحدا من خلقك لا يرحمنا يعني وكذلك من يرحمنا لا تسلط علينا أحدا لكن(4/365)
الذي يرحمك لا ينالك منه السوء أما الذي ينالك منه السوء هو أن يسلط الله عليك من لا يرحمك نسأل الله ألا يسلط علينا من لا يرحمنا فكان الرسول عليه الصلاة والسلام إذا جلس مجلسا يقول هذا الذكر لكنه ليس بلازم كما سبق أن قلنا وإنما المقصود أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك كثيرا
835 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان لهم حسرة رواه أبو داود بإسناد صحيح
836 - وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله تعالى فيه ولم يصلوا على نبيهم فيه إلا كان عليهم ترة فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم رواه الترمذي وقال حديث حسن
837 - وعنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قعد مقعدا لم يذكر الله تعالى فيه كانت عليه من الله ترة ومن اضطجع(4/366)
مضطجعا لا يذكر الله تعالى فيه كانت عليه من الله ترة رواه أبو داود وقد سبق قريبا وشرحنا الترة فيه
[الشَّرْحُ]
هذه ثلاثة أحاديث في بيان آداب المجلس وكلها تدل على أنه ينبغي للإنسان إذا جلس مجلسا أن يغتنم ذكر الله عز وجل والصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث إنها تدل على أنه ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا كان عليهم من الله ترة يعني قطيعة وخسارة إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم ويتحقق ذكر الله عز وجل في المجالس بصور عديدة فمثلا إذا تحدث أحد الأشخاص في المجلس عن آية من آيات الله عز وجل فإن هذا من ذكر الله مثل أن يقول نحن في هذه الأيام في دفء كأننا في الربع وهذا من آيات الله لأننا في الشتاء وفي أشد ما يكون من أيام الشتاء بردا ومع ذلك فكأننا في الصيف فهذا من آيات الله ويقول مثلا لو اجتمع الخلق على أن يدفئوا هذا الجو في هذه الأيام التي جرت العادة أن تكون باردة ما استطاعوا إلى ذلك(4/367)
سبيلا وما أشبه ذلك أو مثلا يذكر حالة من أحوال النبي عليه الصلاة والسلام مثل أن يقول كان النبي عليه الصلاة والسلام أخشى الناس لله وأتقاهم لله فيذكر عليه الصلاة والسلام ثم يصلي عليه والحاضرون يكونون إذا استمعوا إليه مثله في الآجر هكذا يكون ذكر الله عز وجل والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن شاء الله من الأصل إذا جلس قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله لا إله إلا الله وما أشبه ذلك المهم أن الإنسان العاقل يستطيع أن يعرف كيف يذكر الله ويصلي على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا المجلس ومن ذلك أيضا أنه إذا انتهى المجلس وأراد أن يقوم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وفي هذه الأحاديث الثلاثة دليل على أنه ينبغي للإنسان ألا يفوت عليه مجلسا ولا مضطجعا إلا يذكر الله حتى يكون ممن قال الله فيهم: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ(4/368)
باب الرؤيا وما يتعلق بها
قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}
838 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا: وما المبشرات؟ قال الرؤيا الصالحة رواه البخاري
839 - وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة متفق عليه وفي رواية: أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا
840 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أو كأنما رآني في اليقظة لا يتمثل الشيطان بي متفق عليه(4/369)
841 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله تعالى فليحمد الله عليها وليحدث بها وفي رواية فلا يحدث بها إلا من يحب وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره متفق عليه
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله في (باب الرؤيا وما يتعلق بها) الرؤيا يعني رؤيا المنام فالإنسان إذا نام فإن الله تعالى يتوفى روحه لكنها وفاة صغرى كما قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى وقال الله تعالى: {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} وهذه الوفاة الصغرى تذهب فيها الروح إلى حيث يشاء الله ولهذا كان من أذكار المنام أن نقوم: اللهم بك وضعت حنبي وبك أرفعه فإن أمسكت روحي فاغفر لها وارحمها وإن أرسلها(4/370)
فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ثم إن الروح في هذه الحال ترى منامات ومرائي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: رؤيا محبوبة ورؤيا مكروهة ورؤيا عبارة عن أشياء ليس لها معنى وليس لها هدف قد تكون من تلاعب الشيطان وقد تكون من حديث النفس وقد تكون من أسباب أخرى القسم الأول الرؤيا الصالحة الحسنة وهي إذا رأى الإنسان ما يحب فهذه من الله عز وجل وهي نعمة الله على الإنسان أن يريه ما يحب لأنه إذا رأى ما يحب نشط وفرح وصار هذا من البشرى فمن عاجل بشرى المؤمن الرؤيا الصالحة يراها أو ترى له ولهذا قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لم يبق من النبوة إلا المبشرات الرؤيا الصالحة يراها الإنسان أو ترى له هذه بشرى وخير وهي من الله عز وجل القسم الثاني: الرؤيا المكروهة وهي من الشيطان حيث يضرب الشيطان للإنسان أمثالا في منامه يزعجه بها لمن دواءها أن يستعيذ بالله من شر الشيطان ومن شر ما رأى ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره ولا يحرص على أن تعبر لأن بعض الناس إذا رأى(4/371)
ما يكره حرص على أن تعبر وذهب إلى العابرين أو يطالع في الكتب لينظر ما هذه الرؤيا المكروهة ولكنها إذا عبرت فإنها تقع على الوجه المكروه وإذا استعاذ الإنسان من شر الشيطان ومن شر ما رأى ولم يحدث بها أحدا فإنها لا تضره مهما كانت وهذا دواء سهل أن الإنسان يتصبر ويكتهما ويستعيذ بها من شر الشيطان ومن شرها حتى لا تقع أما القسم الثالث وهو الذي ليس له هدف معين فهذا أحيانا يكون من حديث النفس حين يكون الإنسان متعلقا قلبه بشيء من الأشياء يفكر فيه وينشغل به ثم يراه في المنام أو أحيانا يلعب به الشيطان في منامه يريه أشياء ليس لها معنى كما ذكر رجل للنبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله رأيت في المنام أن رأسي قد قطع وذهب رأسي يركض وأنا أسعى وراءه فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا تحدث الناس بتلعب الشيطان بك في منامك فهذا ليس له معنى رأسي يقطع ويركض الرأس وهذا يركض بجسده وراءه هذا ليس له معنى(4/372)
المهم أن هذه هي أقسام الرؤيا وإذا ضرب للإنسان مثل بأبيه أو أمه أو أخيه أو عمه أو غير ذلك فقد يكون هذا هو الواقع وقد يكون من الشيطان يتمثل الشيطان للنفس بصورة هذا الإنسان ويراه النائم إلا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإن الإنسان إذا رأى النبي على هذا الوصف المعروف فإنه قد رآه حقا لأن الشيطان لا يتمثل بالنبي صلى الله عليه وسلم أبدا ولا يجرؤ فإذا رأى الإنسان شخصا ووقع في نفسه أنه النبي صلى الله عليه وسلم فليبحث عن أوصاف هذا الذي رأى هل تطابق أوصاف النبي عليه الصلاة والسلام فهو هو وإن لم تطابق فليس النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هذه أوهام من الشيطان أوقع في نفس النائم أن هذا هو الرسول صلى الله عليه وسلم وليس هو الرسول ولذلك دائما يأتي أحد يقول رأيت الرسول عليه الصلاة والسلام وقال كذا وفعل كذا ثم إذا وصفه إذا أوصافه لا تطابق أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه في منامه وقع عليه أنه النبي لكن إذا تحدث عن أوصافة فإذا هو ليس النبي صلى الله عليه وسلم وصافه فنجزم أن هذا ليس هو الرسول صلى الله عليه وسلم أما لو وصف لنا رآه وانطبقت أوصافه على النبي لله فهو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولكن يجب أن نعمل أنه لا يمكن أن يحدثه النبي صلى الله عليه وسلم بشيء يخالف شريعته يعني لو جاء إنسان وقال رأيت الرسول(4/373)
وقال لي كذا وأوصاني بكذا فإن كان يخالف الشريعة فهو كذب ويكون الكذب ممن تحدث به إذا انطبقت أوصاف من رآه على أوصاف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
842 - وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: الرؤيا الصالحة وفي رواية الرؤيا الحسنة من الله والحلم من الشيطان فمكن رأى شيئا يكرهه فلينفث عن شماله ثلاثا وليتعوذ من الشيطان فإنها لا تضره متفق عليه النفث نفخ لطيف لا ريق معه
843 - وعن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأي حدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا وليستعيذ بالله من الشيطان ثلاثا وليتحول عن جنبه الذي كان عليه رواه مسلم
844 - وعن أبي الأسقع واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من أعظم الفرى أن يدعى الرجل إلى غير أبيه أو يرى عينه ما لم تر أو يقول على رسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقل رواه(4/374)
البخاري
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث فيما يتعلق بالرؤيا وسبق شيء من ذلك وقد بينا أن الرؤيا ثلاثة أقسام: القسم الأول: رؤيا حسنة صالحة فهذه من الله عز وجل وذكرنا فيما يسر وأنها من عاجل بشري المؤمن القسم الثاني: الحلم وهذا من الشيطان والغالب أنه يكون فيما يكره الإنسان أي أن الشيطان يرى الإنسان حتى يفزع ويتكدر ويحزن وربما يمرض لأن الشيطان عدو للإنسان يحب ما يسوء الإنسان وما يحزنه قال الله تعالى إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فالحلم هو هذا الذي يراه الإنسان في منامه يكرهه ويزعجه ولكن من نعمة الله عز وجل وجعل أن جعل لكل داء دواء ودواء الحلم فيما يلي: أولا أن يبصق الإنسان على يساره ثلاث مرات ويستعيذ بالله(4/375)
من شر الشيطان ثلاث مرات ومن شر ما رأى يقول أعوذ بالله من شر الشيطان ومن شر ما رأيت ثلاث مرات ويتحول إلى الجانب الثاني فإذا كان على جنبه الأيسر يتحول إلى الأيمن وإذا كان على الأيمن يتحول إلى الأيسر ثانيا وإذا لم ينفع هذا يعني لو أنه تحول عن جنبه الأول إلى الثاني ثم عادت هذه الرؤيا التي يكرهها فليقم ويتوضأ ويصلي ولا يخبر بها أحدا فلا يقول رأيت ورأيت ولا يذهب إلى الناس يعبرونها ولا يذهب إلى أحد يفسرها فإنها لا تضره أبدا حتى وكأنها ما وقعت وفي هذا راحة له وبعض الناس إذا رأى شيئا يكرهه ذهب يتلمس من يفسر له هذه الرؤيا ونحن نقول له لا تفعل ذلك وكان الصحابة رضي الله عنهم يرون الرؤيا يكرهونها فلما حدثهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهذا الحديث استراحوا فصار الإنسان إذا رأى الرؤيا التي يكرهها بصق عن يساره ثلاث مرات واستعاذ من شرها وشر الشيطان ولم يحدث بها أحدا ثم لا تضره وكأنه ما رآها أما القسم الثالث فهو الحلم الذي يكون من حديث النفس حيث يكون الإنسان متعلقا بشيء من الأشياء دائما فهذا ربما يراه(4/376)
في المنام وهذا أيضا لا حكم ولا أثر له وينبغي للإنسان إذا رأى رؤيا تسره وهي الرؤيا الصالحة أن يؤولها على خير ما يقع في نفسه لأن الرؤيا إذا عبرت بإذن الله فإنها تقع ثم إن من المهم ألا نعتمد على ما يوجد في بعض الكتب ككتاب الأحلام لابن سيرين وما أشبهها فإن ذلك خطأ وذلك لأن الرؤيا تختلف بحسب الرائي وبحسب الزمان وبحسب المكان وبحسب الأحوال يعني ربما يرى الشخص رؤيا فنفسرها له بتفسير ويرى آخر رؤيا هي نفس الرؤيا فنفسرها له بتفسير آخر غير الأول وذلك لأن هذا رأى ما يليق وهذا رأى ما يليق به أو لأن الحال تقتضي أن نفسر هذه الرؤيا بهذا التفسير فالمهم ألا يرجع الإنسان إلى الكتب المؤلفة في تفسير الأحلام لأن الأحلام والرؤى تختلف ويذكر أن رجلا رأى رؤيا ففسرت له بتفسير ثم رأى آخر نفس الرؤيا ففسرت بتفسير آخر فسئل الذي فسرهما في ذلك فقال لأن هذا يليق به ذلك التفسير لما رأى وهذا يليق به ذلك التفسير لما رأى كل إنسان يفسر له بما يليق به ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد قبل الواقعة أو في أثنائها(4/377)
رأى في المنام أن في سيفه ثلمة ورأى بقرا تنحر ففسرها بأنه يقتل أحد من أهل بيته وأنه يقتل نفر من أصحابه فالثلمة هي أنه يقتل أحد من أهل بيته لأن الإنسان يحتمي بقبيلته ويحتمي بسيفه فلما صار في السيف ثلمة فمعنى ذلك أنه سيكون ثلمة في أهل بيته ووقع كذلك فقد استشهد حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أما البقر التي تنحر فالذين قتلوا من الصحابة رضي الله عنهم في أحد نحو سبعين رجلا وإنما رآه بقرا لأن البقر فيها منافع كثيرة فهي أنفع ما يكون من بهيمة الأنعام للحرث وللسمن وللنماء وللبن وفيها مصالح كثيرة والصحابة رضي الله عنهم كلهم خير ففيهم خير كثير لهذه الأمة ولو لم يكن من خيرهم إلا أن الله سبحانه وتعالى وفقهم لحمل الشريعة إلى الأمة لكان ذلك يكفيهم إذ أنه لا طريق لنا إلى شريعة الله إلا بواسطة الصحابة رضي الله عنهم(4/378)
كتاب السلام
/0L2 باب فضل السلام والأمر بإفشائه
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} وقال تعالى {فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة} وقال تعالى {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} وقال تعالى {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام}(4/379)
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين كتاب السلام والسلام يريد به التحية التي شرعها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته والسلام بمعنى الدعاء بالسلامة من كل آفة، فإذا قلت لشخص: السلام عليك فهذا يعني أنك تدعو له بأن الله يسلمه من كل آفة: يسلمه من المرض من الجنون، يسلمه من شر الناس، يسلمه من المعاصي وأمراض القلوب، يسلمه من النار فهو لفظ عام معناه الدعاء للمسلم عليه بالسلامة من كل آفة.
وكان الصحابة رضي الله عنهم من محبتهم لله عز وجل كانوا يقولون في صلاتهم السلام على الله من عباده السلام على جبريل السلام على فلان وفلان فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا السلام على الله، السلام على عباده وقال إن الله هو السلام يعني السالم من كل عيب ونقص جل وعلا فلا حاجة أن تثنوا عليه بالدعاء بأن يسلم نفسه ثم قال لهم قولوا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنكم إذا قلتم ذلك سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض(4/380)
ولا أدري هل نحن نستحضر هذا إذا قلنا في الصلاة: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين؟ لا أدري هل نحن نستحضر أننا نسلم على أنفسنا، السلام علينا وعلى كل عبد صالح في السماء والأرض يعني نسلم على الأنبياء نسلم على الصحابة نسلم على التابعين لهم بإحسان، نسلم على أصحاب الأنبياء كالحواريين أصحاب عيسى والذين اختارهم موسى عليه الصلاة والسلام سبعين رجلا وغير ذلك هل نحن نستحضر أننا نسلم على جبريل وعلى ميكائيل وعلى إسرافيل وعلى مالك خازن النار وعلى خازن الجنة وعلى جميع الملائكة لا أدري هل نحن نستحضر هذا أم لا؟ إن كنا لا نستحضر فيجب أن نستحضر ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إنكم إذا قلتم ذلك سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض.
والسلام مشروع بين المسلمين، مأمور بإفشائه قال النبي صلى الله عليه وسلم والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم يعني أظهروه أعلنوه وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إن إفشاء السلام بين الناس من أسباب المحبة، ولذلك إذا لاقاك رجل ولم يسلم عليك كرهته وإذا(4/381)
سلم عليك أحببته وإن لم يكن بينك وبينه معرفة ولهذا كان من حسن الإسلام أن تفشي السلام أن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله آيات من كتاب الله منها: 1 - أن السلام من سنن الرسل والملائكة أيضا، فهؤلاء الملائكة الذين جاءوا إبراهيم عليه الصلاة والسلام إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام ذكر علماء النحو أن إجابة إبراهيم أكمل من سلام الملائكة لأن الملائكة قالوا سلاما بالنصب وهو مصدر منصوب لفعل محذوف والتقدير نسلم سلاما؟ فالجملة فعلية وهي لا تدل على الدوام والثبوت أما رد إبراهيم فقال: سلام أي عليكم سلام فهي جملة اسمية تدل على الثبوت فرده أكمل ولهذا يعتبر رد إبراهيم عليه الصلاة والسلام من الرد الأكمل الذي قال الله عز وجل فيه {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} فتبين من هذا أن السلام من سنن الرسل السابقين وأنه أيضا من عمل الملائكة المقربين.
2 - ثم ذكر المؤلف أيضا آيات تدل على ذلك {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون}(4/382)
فإذا أردت أن تدخل بيتا لا تدخل إذا لم يكن بيتك حتى تستأنس وتسلم ما معنى الأنس يعني حتى لا يكون في قلبك وحشة لأن الإنسان إذا دخل بيت غيره بدون استئذان استوحش، وإذا دخل باستئذان فهو مستأنس وفي قراءة أخرى تستأذنوا لكن السبعية {حتى تستأنسوا} وهي أعم لأن قوله {تستأنسوا} يشمل ما إذا استأنس الإنسان بإذن من صاحب البيت أو استأنس الإنسان بإذن سابق.
مثلا قال له: ائتني الساعة الرابعة والنصف وتجد الباب مفتوحا فإذا جئت في الموعد ووجدت الباب مفتوحا فلا حاجة لأن أستأذن لأبي الآن مستأنس أم مستوحش؟ مستأنس لأن عندي إذنا مسبقا فقراءة حتى تستأنسوا هي الصحيحة يعني هي أشمل من قراءة حتى تستأذنوا وأيضا هي السبعية.
وقوله: {وتسلموا على أهلها} أيضا تسلم على أهل البيت السلام عليكم أأدخل؟ وإذا دخلت بيتك فلا حاجة للاستئذان لأنه بيتك ولكن تسلم على أهلك وابدأ بالسواك قبل السلام على أهلك فإذا وصلت أهلك قل: السلام عليكم هذه هي السنة التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3 - قوله تعالى {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ(4/383)
دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون} {هل أتاك} مثل هذه الصيغة يراد بها التشويق يعني أن الله عز وجل ذكرها بصيغة الاستفهام تشويقا للمخاطب ومن المعلوم أن الإنسان يقول لم يأتني لأنها ماض وقد سبق الكلام عن هذه الآية أيضا أما قوله {قوم منكرون} يعني أنتم قوم منكرون أيس لا أعرفكم وليس المعنى أنه من المنكر الذي هو الحرام لكنه من المنكر الذي هو غير معروف يعني أنا لا أعرفكم 4 - قوله تعالى {فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون} {فسلموا على أنفسكم} يعني على من فيها وجعلهم من أنفسهم لأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا فهو كقوله تعالى {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم} فالمعنى إذن سلموا على من فيها لأنكم أنتم وإياهم نفس واحدة(4/384)
والنفس قد تطلق على الغريب كما ذكرنا {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} وكذلك قوله تعالى {ولا تلمزوا أنفسكم} يعني لا يلمز بعضكم بعضا وليس المعنى أن الإنسان يلمز نفسه المهم أنك إذا دخلت بيتا فسلم على من فيه قل: السلام عليكم وهم يجب عليهم أن يردوا السلام وقد سبق أن السنة إذا دخلت بيتك أن أول ما تبدأ به أن تتسوك ثم تسلم على أهل البيت {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا} فأمر الله سبحانه وتعالى إذا حيينا بتحية أن نحيي بأحسن منها أو نردها يعني نرد مثلها فمثلا إذا قال لك إنسان (السلام عليك) فقل (عليك السلام) ولا تنقص وإذا قال (السلام عليك ورحمة الله) فقل (عليك السلام ورحمة الله) وإذا قال (السلام عليك ورحمة الله وبركاته) فقل (عليك السلام ورحمة الله وبركاته) وجوبا لأن الله قال {أو ردوها} وإذا قال (السلام عليك) فقلت (وعليك السلام ورحمة الله) فهذا أحسن من الأول وأفضل لكنه ليس بواجب الواجب أن ترد عليه بمثل ما سلم عليك(4/385)
وقوله سبحانه {بأحسن منها} يشمل الأحسن نوعا والأحسن كما والأحسن كيفية فمثلا إذا قال السلام عليك فقلت أهلا ومرحبا بأبي فلان حياك الله وبياك تفضل فهذا لا يجزئ ولو قلته ألف مرة لن ينفع وكنت آثما لأنك لم ترد بأحسن ولا بالمثل فهو عندما قال السلام عليك يدعو لك بالسلام مع التحية فإذا قلت أهلا ومرحبا فهذه تحية بلا دعاء فلابد أن تقول أحسن منها نوعا أحسن منها كما أو مثلها وإذا قال: السلام عليك ورحمة الله فقلت عليك السلام فهذا لا يجوز لأنك ما رددت بأحسن ولا بالمثل لابد أن تقول كما قال كذلك أحسن منها كيفية فإذا سلم عليك بصوت واضح مرتفع لا ترد عليه بطرف أنفك ومن ذلك أيضا: إذا سلم عليك وقد أقبل إليك بوجهه فسلمت عليه معرضا عنه مصعرا خدك له فهذا أيضا نقص لم تردها ولم ترد بأحسن منها وظاهر هذه الآية الكريمة أنه لو حياك رجل من الكفار قال السلام عليك بعبارة واضحة فقلت وعليك السلام فلا بأس بها لأنك رددت بالمثل وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم عليكم أهل الكتاب(4/386)
فقولوا وعليكم يعني لا تقولوا وعليكم السلام فإنه بين سبب ذلك في نفس الحديث فقال إن اليهود إذا سلموا يقولون السلام عليكم يعني يدعون عليكم بالموت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا وعليكم أي وعليك أنت أيضا السام فيفهم من هذا الحديث أنهم لو قالوا السلام عليكم فإننا نقول وعليكم السلام ولا بأس لأن الله قال {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} والله الموفق
845 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف متفق عليه(4/387)
[الشَّرْحُ]
سبق الكلام على الآيات التي ذكرها المؤلف رحمه الله في هذا الباب ثم ذكر الأحاديث ومنها: 1 - حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الإسلام خير؟ والصحابة رضي الله عنهم إذا سألوا الرسول في مثل هذه الأسئلة لا يريدون مجرد العلم وإنما يريدون العمل فإذا قال الإسلام كذا وكذا فعلوه وتسابقوا إليه وهكذا ينبغي للسائل الذي يسأل العالم ويستفتيه أن ينوي بقلبه أنه إذا دله على الخير فعله كما كان دأب الصحابة لا يريد أن ينظر ماذا عند العالم فقط فقال النبي صلى الله عليه وسلم تطعم الطعام يعني من احتاج إليه وأول من يلزمك إطعام هم عائلتك وإطعامهم صدقة وصلة وأفضل من إطعام الأباعد لأن إطعام أهلك قيام بواجب وإطعام الأباعد قيام بمستحب والواجب أحب إلى الله من المستحب كما في الحديث القدسي ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت(4/388)
عليه وبعض الناس ينفق على أهله ما ينفق ولكنه لا يشعر بأنه يتقرب إلى الله بهذا الإنفاق ولو جاءه مسكين وأعطاه ريالا واحدا يشعر بأنه متقرب إلى الله بهذه الصدقة ولكن الصدقة الواجبة على الأهل أفضل وأكثر أجرا فإذا أطعمت الطعام لأهلك فهذا من خير الإسلام وتقرأ السلام وهذا هو الشاهد وتقرأ السلام يعني تقول السلام عليك ويسمى قراءة السلام وإلقاء السلام على من عرفت ومن لم تعرف لا يكن سلامك سلام معرفة بل يكن سلامك سلام مثوبة وإلفة لأن المسلم يثاب على سلامة ويحصل بسلامه التأليف كما قال النبي عليه الصلاة والسلام والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم أما من لا يسلم إلا سلام معرفة فسوف يفوته خير كثير لأنه ربما مر به العشرات لا يعرف منهم إلا واحدا أما من يسلم سلام مثوبة وإلفة فهو يسلم على من عرف ومن لم يعرف إلا إذا كان الذي مررت به كافرا فلا تسلم عليه لأن النبي(4/389)
صلى الله عليه وسلم قال لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام وغيرهم أخبث منهم مثل السيخ والمشركين والشيوعيين ومن شابههم فلا تقرأ عليهم السلام ولا تسلم عليهم وكذلك الفاسق المعلن بفسقه إذا كان في ترك السلام عليه مصلحة وهو أنك إذا لم تسلم عليه تاب من فسقه ورجع إلى الله أما إذا لم يكن هناك مصلحة وأن الأمر بالنسبة له سيان سلمت أو لم تسلم وكان عدم سلامك عليه يجعل في قلبه عداوة عليك ويستمر في باطله ولا يقبل منك النصيحة فسلم عليه مما سبق نجد أن الناس صاروا ثلاثة أقسام 1 - القسم الأول الفاسق المعلن بفسقه فهذا سلم عليه إلا إذا كان في هجره مصلحة 2 - القسم الثاني الكافر لا تسلم عليه لكن إن سلم عليك رد عليه 3 - القسم الثالث إنسان مسلم لا تعلم عليه فسقا فسلم عليه واحرص على أن تكون أنت البادئ بالسلام لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبدأ من لقيه بالسلام وهو أشرف الخلق وقال عليه الصلاة والسلام لا يحل للمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض(4/390)
هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام وهكذا الحديث الذي معنا خير الإسلام أن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف والله الموفق
864 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما خلق الله آدم صلى الله عليه وسلم قال اذهب فسلم على أولئك نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله متفق عليه
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب فضل السلام والأمر بإفشائه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الله لما خلق آدم قال له: اذهب إلى هؤلاء النفر من الملائكة وهم جلوس فسلم عليهم وانظر ماذا يحيونك به فإنها تحيتك وتحية(4/391)
ذريتك فذهب آدم امتثالا لأمر الله فسلم على الملائكة الجلوس السلام عليكم قالوا السلام عليك ورحمة الله فزادوا: ورحمة الله ففي هذا الحديث دليل على أن هذه الخليفة البشرية كانت من العدم وأنها لم تكن شيئا مذكورا من قبل كما قال الله تبارك وتعالى أهل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا فهذه البشرية لم تكن شيئا مذكورا من قبل فخلفها الله وأوجدها لحكمة عظيمة ولهذا لما قالت الملائكة لله عز وجل حين أخبرهما أنه جاعل في الأرض خليفة قالوا {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون} خلق الله هذه البشرية وجعل منهم الأنبياء والرسل والصديقين والشهداء والصالحين 2 - أن الملائكة أجسام وليست أرواحا بلا أجسام لأنهم جلوس والجالس يعني أنه جسم وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح قد سد الأفق والله سبحانه وتعالى قال {جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة} فالملائكة أجسام ولكن الله عز وجل حجبهم عنا جعلهم عالما غيبيا كما أن الجن أجسام ولكن الله عز وجل حجبهم فجعلهم عالما غيبيا وقد تظهر(4/392)
الملائكة في صورة إنسان كما جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة بصورة دحية الكلبي ومرة بصورة رجل غريب لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه الصحابة وعليه ثياب بيض شعره أسود وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأشراطها ومن فوائد هذا الحديث 3 - أن السنة في السلام (السلام عليك) إذا كان المسلم عليه واحدا وإذا كانوا جماعة تقول (السلام عليكم) لأن الواحد يخاطب بخطاب الواحد والجماعة تخاطب بخطاب الجماعة 4 - أن السلام متلقن من الملائكة بأمر الله حيث قال سبحانه وتعالى إنها تحيتك وتحية ذريتك لكن في قولهم في الرد (السلام عليك ورحمة الله) إشكال وهو أن المعروف في الرد أن يقدم الخبر فيقال عليك السلام والرد على ذلك نقول إما أن هذا يعلمونه التحية الابتدائية أو أن الشريعة وردت بخلاف ذلك أي بتقديم الخبر 5 - أن الأفضل في رد السلام أن يزيد الإنسان ورحمة الله لأن الملائكة زادوا والله سبحانه وتعالى قال {فحيوا بأحسن منها} فبدأ بالأحسن {أو ردوها} إذا لم تردوا الأحسن(4/393)
847 - وعن أبي عمارة البراء بن عازب رضي الله عنهما قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع بعيادة المريض واتباع الجنائز وتشميت العاطس ونصر الضعيف وعون المظلوم وإفشاء السلام وإبرار المقسم متفق عليه هذا لفظ إحدي روايات البخاري
848 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم رواه مسلم
849 - وعن أبي يوسف عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح
850 - وعن الطفيل بن أبي بن كعب أنه كان يأتي عبد الله بن عمر فيغدو معه إلى صاحب بيعة ولا مسكين ولا(4/394)
أحد إلا سلم عليه قال الطفيل فجئت عبد الله بن عمر يوما فاستتبعني إلى السوق فقلت له ما تصنع بالسوق وأنت لا تقف على البيع ولا تسأل عن السلع ولا تسوم بها ولا تجلس في مجالس السوق وأقول: اجلس بنا ههنا نتحدث فقال يا أبا بطن وكان الطفيل ذا بطن إنما تغدو من أجل السلام نسلم على من لقيناه رواه مالك في الموطأ بإسناد صحيح
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في باب فضل السلام وإفشائه سبق الكلام عليها حديث البراء وأبي هريرة وعبد الله بن سلام كلها سبق الكلام عليها فلا حاجة إلى إعادة الكلام أما حديث الطفيل بن أبي بن كعب فإنه ذكر له قصة مع عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه استتبعه يعني عبد الله بن عمر يوما إلى السوق فجعل عبد الله بن عمر يسلم على كل أحد على صاحب الدكان وعلى كل من مر به ممن عرف وممن لا يعرف فجاءه ذات يوم فقال له: اذهب بنا إلى السوق فقال له ماذا تصنع في السوق فأنت لا تشتري شيئا ولا تبيع شيئا اجلس بنا نتحدث فقال إنما أذهب إلى السوق من أجل السلام على الناس لأن الإنسان إذا سلم وأفشى السلام(4/395)
وأظهره كان هذا سببا لدخول الجنة كما في حديث أبي هريرة لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم ولأن الإنسان إذا سلم على أخيه فقال السلام عليكم أو السلام عليك إذا كان واحدا فإنه يكتب له بذلك عشر حسنات فإذا سلم على عشرة أشخاص كتب له بذلك مائة حسنة وهذا خير من البيع والشراء فكان عبد الله بن عمر يدخل السوق من أجل المسلم عليهم لأنه في بيته لا يأتيه أحد وإذا أتاه أتاه أقل بكثير ممن يوجد في السوق لكن من في السوق يمر عليهم ويسلم عليهم وفي هذا دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يمل من كثرة السلام لو قابلت مائة شخص فيما بينك وبين المسجد مثلا فسلم إذا سلمت على مائة شخص تحصل على ألف حسنة هذه نعمة كبيرة وفي هذا أيضا دليل على حرص السلف الصالح على كسب الحسنات ولأنهم لا يفرطون فيها بخلاف وقتنا الحاضر تجد الإنسان يفرط في حسنات كثيرة وابن عمر رضي الله عنهما من أحرص الناس إلى المبادرة إلى فعل الخير لما حدثه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من تبع الجنازة حتى يصلى عليها كتب له(4/396)
قيراط ومن شهدها حتى تدفن كتب له قيراطان قيل وما القيراطان يا رسول الله قال مثل الجبلين العظيمين أصغرهما مثل أحد ولما حدث ابن عمر بهذا الحديث قال والله لقد فرطنا في قراريط كثرة ثم صار لا تحصل جنازة إلا تبعها رضي الله عنه وهكذا السلف الصالح إذا علموا ما في الأعمال من الخير والثواب بادروا إليها وحرصوا عليها فالذي ينبغي للمؤمن أن يكون حريصا على فعل الخير كلما بأن له خصلة خير فليبادر إليها نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المتسابقين إلى الخيرات إنه على كل شيء قدير أما قوله يا أبا بطن فإن الطفيل كان كبير البطن وهذا من باب المداعبة وليس قصده أن يعيره بأنه كبير البطن لكن يداعبه مثل قول الرسول لأبي هريرة يا أبا هر(4/397)
باب كيفية السلام يستحب أن يقول المبتدي بالسلام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فيأتي بضمير الجمع وإن كان المسلم عليه واحدا ويقول المجيب وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته فيأتي بواو العطف في قوله وعليكم
851 - عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليكم فرد عليه ثم جلس فقال النبي صلى الله عليه وسلم عشر ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله فرد عليه فجلس فقال عشرون ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فرد عليه فجلس فقال ثلاثون رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن
852 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا جبريل يقرأ عليك السلام قالت قلت وعليه السلام ورحمة الله وبركاته متفق عليه وهكذا وقع في بعض روايات الصحيحين(4/398)
وبركاته وفي بعضها بحذفها وزيادة الثقة مقبولة
853 - وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثا رواه البخاري وهذا محمول على ما إذا كان الجمع كثيرا
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب كيفية السلام يعني كيف يسلم ماذا يقول إذا سلم وماذا يقول إذا رد وذكر المؤلف رحمه الله أنه يستحب أن يقول السلام عليكم ورحمة الله وإن كان المسلم عليه واحدا ثم استدل بحديث عمران بن حصين رضي الله عنهما قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليكم فرد عليه ثم جلس فقال النبي صلى الله عليه وسلم عشر ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله فرد عليه فجلس فقال عشرون ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فرد عليه فجلس فقال ثلاثون فقال للأول عشر حسنات والثاني عشرون وللثالث ثلاثون لأن كل واحد منهم زاد وهذه مسألة اختلف فيها العلماء هل إذا سلم على واحد(4/399)
يقول السلام عليك أم عليكم؟ والصحيح أن يقول السلام عليك هكذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث المسيء في صلاته أنه قال السلام عليك وأما ما استدل به المؤلف من حديث عمران فليس فيه دلالة لأن الرجل دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه جماعة فسلم على الجميع فإذا كانوا جماعة فقل السلام عليكم وإذا كان واحدا فقل السلام عليك وإن زدت ورحمة الله فهو خير وإن زدت وبركاته فهو خير لأن كل كلمة فيها عشر حسنات وإن اقتصرت على السلام عليك فهو كاف ويقول الراد وعليكم السلام ثم إن كان المسلم لم يزد على قول السلام عليك كفي وإن كان المسلم قد قال السلام عليك ورحمة الله فعلى الراد أن يقول السلام عليك ورحمة الله لقوله تعالى وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها يعني ردوا مثلها وقال يستحب أن يقول وعليكم بزيادة الواو وهذا حسن لأنه إذا قال وعليكم صار واضحا أنه معطوف على الجملة التي سلم بها المسلم وإن حذفها فلا بأس لأن إبراهيم عليه السلام لم يأت بالواو في رده السلام على الملائكة {فقالوا سلاما قال سلام} ولم يأت بالواو فإن أتى بالواو فحسن وإن تركها فلا بأس(4/400)
ثم إنه من السنة إذا نقل السلام من شخص إلى شخص أن يقول عليه السلام وإن قال عليك وعليه السلام أو عليه وعليك السلام فحسن لأن هذا الذي نقل السلام محسن فتكافئه بالدعاء له فإذا قال شخص لآخر سلم لي على فلان ثم نقل الوصية وقال فلان يسلم عليك فإنه يقول عليه وعليك السلام أو يقول عليه السلام ويقتصر لأن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ عائشة أن جبريل يقرأ عليها السلام فقالت عليه السلام فدل ذلك على أنه إذا نقل السلام إليك أحد من شخص تقول عليه السلام ولكن هل يجب عليك أن تنقل الوصية إذا قال سلم لي على فلان أم لا يجب فصل العلماء فقالوا إن التزمت له بذلك وجب عليك لأن الله يقول {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} وأنت الآن تحملت هذا أما إذا قال سلم لي على فلان وسكت أو قلت له مثلا إذا تذكرت أو ما أشبه ذلك فهذا لا يلزم إلا إذا ذكرت وقد التزمت له أن تسلم عليه إذ ذكرت لكن الأحسن ألا يكلف الإنسان أحدا بهذا لأنه ربما يشق عليه ولكن يقول سلم لي على من سأل عني هذا طيب أما أن يحمله فإن هذا لا ينفع لأنه قد يستحي منك فيقول نعم أنقل(4/401)
سلامك ثم ينسى أو تطول المدة أو ما أشبه ذلك ثم ذكر حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم تكلم ثلاثا وإذا سلم سلم ثلاثا لكنه يتكلم ثلاثا إذا لم تفهم الكلمة عنه أما إذا فهمت فلا يكرر فإذا فهمت الكلمة فلا حاجة لكن لو لم تفهم لكون المخاطب ثقيل السمع أو لكثرة الضجة حوله أو ما أشبه ذلك فليعد مرتين فإن لم تكف فثلاث يعني وبعد الثلاث لا يجوز كما أنه إذا استأذن للدخول في البيت ثلاث مرات ولم يؤذن له انصرف وكذلك هنا إذا تكلم ثلاث مرات ولم يكلمه أو لم يفهم يتركه كذلك إذا سلمت ولم يسمع المسلم عليه أعد مرة ثانية وثالثة وهكذا إذا سلمت ورد عليك ردا لا يجزئ كما لو قلت السلام عليك قال أهلا ومرحبا أعد السلام قل السلام عليك إذا قال أهلا مرحبا أعد السلام قل السلام عليك ثلاث مرات فإن لم ينفع فاتركه ولكن نبهه بأن قول القائل في الإجابة أهلا ومرحبا لا يكفي لابد أن يقول عليك السلام إذا قيل السلام عليك والله الموفق
854 - وعن المقداد رضي الله عنه في حديثه الطويل قل كنا نرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه من اللبن فيجيء من الليل فيسلم تسليما لا يوقظ نائما ويسمع اليقظان فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فسلم كما كان يسلم(4/402)
رواه مسلم
855 - عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في المسجد يوما وعصبة من النساء قعود فألوي بيده بالتسليم رواه الترمذي وقال حديث حسن وهذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين اللفظ والإشارة ويؤيده أن في رواية أبي داود فسلم علينا
856 - وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام رواه أبو داود بإسناد جيد ورواه الترمذي بنحوه وقال حديث حسن وقد ذكر بعده(4/403)
باب آداب السلام
857 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير متفق عليه وفي رواية البخاري والصغير على الكبير
858 - وعن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام رواه أبو داود بإسناد جيد ورواه الترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه قيل يا رسول الله الرجلان يلتقيان أيهما يبدأ بالسلام قال أولاهما بالله تعالى قال الترمذي حديث حسن
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في شيء من آداب السلام ذكرها النووي رحمه الله في رياض الصالحين في آداب السلام سبق الكلام على(4/407)
بعضها ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه من الذي يسلم فنقول أولا: خير الناس من يبدأ الناس بالسلام وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق يبدأ من لقيه بالسلام فاحرص على أن تكون أنت الذي تسلم قبل صاحبك ولو كان أصغر منك لأن خير الناس من يبدؤهم بالسلام وأولى الناس بالله من يبدؤهم بالسلام فهل تحب أن تكون أولى الناس عند الله كلنا يحب ذلك إذن فابدأ الناس بالسلام ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الراكب يسلم على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير والصغير على الكبير وذلك لأن الراكب يكون متعلقا فيسلم على الماشي والماشي متعليا على القاعد فيسلم عليه والقليل يسلم على الكثير لأن الكثير لهم حق على القليل والصغير يسلم على الكبير لأن الكبير له حق على الصغير ولكن لو قدر أن القليلين في غفلة ولم يسلموا فليسلم الكثيرون ولو قدر أن الصغير في غفلة فليسلم الكبير ولا تترك السنة وهذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ليس معناه أنه لو سلم الكبير على الصغير كان حراما ولكن المعنى الأولى أن الصغير يسلم(4/408)
على الكبير فإنه لم يسلم فليسلم الكبير حتى إذا بادرت بالسلام كما قلنا من قبل كان أفضل وأولى الناس بالله من يبدؤهم بالسلام(4/409)
باب استحباب إعادة السلام على من تكرر لقاؤه على قرب بأن دخل ثم خرج في الحال أو حال بينهما شجرة ونحوها
859 - عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث المسيء صلاته أنه جاء فصلى ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فرد عليه السلام فقال ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم حتى فعل ذلك ثلاث مرات متفق عليه
860 - وعنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه رواه أبو داود(4/410)
باب استحباب السلام إذا دخل بيته
قال الله تعالى: {فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة}
861 - وعن أنس رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح
[الشَّرْحُ]
هذان البابان من آداب السلام ذكرهما النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين أن الإنسان إذا سلم على أخيه ثم خرج ورجع عن قرب أو عن بعد من باب أولى فإنه يعيد السلام مثلا إنسان عنده ضيوف في البيت فدخل إلى البيت يأتي لهم بماء أو طعام أو نحو ذلك فإنه إذا رجع يسلم وهذه من نعمة الله أنه يسن السلام وتكراره كلما غاب الإنسان عن أخيه سواء غيبة طويلة أو قصيرة فإن الله شرع لنا أن يسلم بعضنا على بعض لأن السلام عبادة(4/411)
وأجر كلما ازددنا منه ازددنا عبادة لله وازداد أجرنا وثوابنا عند الله ولولا أن الله شرع هذا لكان تكرار السلام على هذا الوجه من البدعة لكن من نعمة الله أنك إذا غبت عن أخيك ورجعت ولو عن قرب فإنك تسلم عليه حال بينكما شجرة أو حجر كبير بحيث تغيب عنه فإذا لقيته فسلم عليه ثم استدل المعلق رحمه الله بحديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة الرجل الذي دخل المسجد فصلى صلاة لا يطمئن فيها ينقرها نقرا ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام وقال ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع الرجل وصلى لكن كصلاته الأولى بدون طمأنينة ثم رجع فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام وقال ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاث مرات والرجل يصلي صلاة لا يعرف غيرها لأنه جاهل ثم قال والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني وهذا من حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم جعله يتردد يصلي هذه الصلاة التي لا تجزئ من أجل أن يشتاق إلى العلم ويتشوف إليه فيرد العلم على قلبه وهو منفتح له محتاج إليه ومعروف أن الشيء إذا جاء على الحاجة يكون أقبل للنفس انظر الآن تعطي الفقير(4/412)
عشرة ريالات وهو محتاج يفرح بها فرحا شديدا ويكون لها منزلة لكن لو أعطيتها غنيا لا تهمه الحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم رد هذا الرجل من أجل أن يتشوق إلى العلم وينفتح قلبه له فقال صلى الله عليه وسلم إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ولكن الفاتحة لابد منها لدلالة نصوص أخرى عليها ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تطمئن قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا هذه ركعة تامة ثم افعل ذلك في صلاتك كلها علمه الرسول صلى الله عليه وسلم فتعلم ومشى فاستدل المؤلف بهذا الحديث على أن الإنسان إذا رجع إلى أخيه ولو من قرب فليسلم عليه مثلا أنت في المسجد ثم انصرفت لتجديد الوضوء أو إحضار كتاب أو ما أشبه ذلك ثم رجعت فسلم وهذا خير فكل سلام بعشر حسنات ثم ذكر المؤلف رحمه الله أنه من السنة إذا دخل الإنسان بيته أن يسلم واستدل بقوله تعالى فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة إذا دخلت بيتك فسلم لكن أول ما تدخل تبدأ به السواك ثم سلم على أهلك وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك رضي الله عنه وهو خادمه قال يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم تكن بركة عليك وعلى أهلك ولهذا قال الله تعالى {مباركة طيبة}(4/413)
فإذا دخلت البيت فسلم على من فيه سواء أهلك أو زملاؤك أو ما أشبه ذلك فهذا من السنة(4/414)
باب السلام على الصبيان
862 - عن أنس رضي الله عنه أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله متفق عليه(4/415)
باب سلام الرجل على زوجته والمرأة من محارمه وعلى أجنبية وأجنبيات لا يخاف الفتنة بهن وسلامهن بهذا الشرط
863 - عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: كانت فينا امرأة وفي رواية كانت لنا عجوز تأخذ من أصول السلق فتطرحه في القدر وتكركر حبات من شعير فإذا صلينا الجمعة وانصرفنا نسلم عليها فتقدمه إلينا رواه البخاري قوله تكركر أي تطحن
864 - وعن أم هانئ فاختة بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وهو يغتسل وفاطمة تستره بثوب فسلمت وذكرت الحديث رواه مسلم
865 - وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة فسلم علينا رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن وهذا لفظ أبي داود ولفظ الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في المسجد يوما وعصبة من النساء قعود فألوى بيده بالتسليم
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف في كتابه رياض الصالحين في آداب السلام باب السلام على الصبيان يعني الصغار من سن التمييز إلى سن الثانية عشرة ونحوها(4/416)
وقد جرت عادة الكثير من الناس ألا يسلم على الصبيان استخفافا بهم ولكن هذا خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يسلم على الصغير والكبير فهذا أنس بن مالك رضي الله عنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله أي كان يسلم على الصبيان وللسلام على الصبيان أكثر من فائدة 1 - اتباع السنة: سنة النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر 2 - التواضع: حتى لا يذم الإنسان بنفسه ويشمخ بأنفه ويعلو برأسه يتواضع ويسلم على الصبيان وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه 3 - تعويد الصبيان لمحاسن الأخلاق لأن الصبيان إذا رأوا الرجل يمر بهم ويسلم عليهم تعودوا ذلك واعتادوا هذه السنة المباركة الطيبة 4 - أن هذا يجلب المودة للصبي يعني أن الصبي يحب(4/417)
الذي يسلم عليه ويفرح لذلك وربما لا ينساها أبدا لأن الصبي لا ينسى ما مر به فهذه من فوائد السلام على الصبيان فينبغي لنا إذا مررنا على صبيان يلعبون في السوق أو جالسين يبيعون شيئا أو ما أشبه ذلك أن نسلم عليهم لهذه الفوائد التي ذكرناها أما السلام على النساء فالسلام على المحارم من النساء والزوجات سنة والمحارم يعني التي لا يحل لك أن تتزوج بها تسلم عليها ولا حرج في ذلك تسلم على زوجتك أختك عمتك بنت أخيك بنت أختك ولا حرج في هذا أما الأجانب فلا تسلم عليهن اللهم إلا العجائز الكبيرات إذا كنت آمنا على نفسك من الفتنة وأما إذا خفت الفتنة فلا تسلم ولهذا جرت عادة الناس اليوم أن الإنسان لا يسلم على المرأة إذا لاقاها في السوق وهذا هو الصواب ولكن لو أتيت بيتك ووجدت فيه نساء من معارفك وسلمت فلا بأس ولا حرج بشرط أمن الفتنة وكذلك المرأة تسلم على الرجل بشرط أمن الفتنة وذكر المؤلف رحمه الله حديث المرأة التي كانت تأخذ من أصول السلق وهو نوع من الشجر وأصوله طيبة تصلح إداما فتأخذ من هذه الأصول وتلقيها في الماء وتغليها على النار(4/418)
وتكركر عليها حبات من شعير فإذا خرج الصحابة من شاء منهم جاء إليها يسلم عليها ويأكل من هذا السلق ويفرحون به لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا أغنياء إلا بعد فتح الله عليهم كما قال تعالى {ومغانم كثيرة يأخذنها} وقال {وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها} فكثرت الأموال بعد الفتوح أما قبل ذلك فإن غالبية الصحابة فقراء(4/419)
/0L2 باب تحريم ابتدائنا الكافر بالسلام وكيفية الرد عليهم واستحباب السلام على أهل مجلس فيهم مسلمون وكفار/0
866 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه رواه مسلم
867 - وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم متفق عليه
868 - وعن أسامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم عليه متفق عليه(4/420)
[الشَّرْحُ]
هذا الباب ذكره المؤلف في كتابه رياض الصالحين في حكم السلام على الكفار الخلص وعلى الكفار المختلطين بالمسلمين وقد سبق الكلام في السلام على المسلمين الخلص وأنه سنة مؤكدة أما السلام على الكفار فإنه لا يحل لنا أن نبدأهم بالسلام يعني لا يجوز للإنسان إذا مر بالكافر أو دخل عليه أن يقول السلام عليك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وذلك لأن تسليمنا عليهم فيه نوع من الذل لهم ونوع من الإكرام لهم لأن التحية والسلام إكرام والكافر ليس أهلا للإكرام بل الكافر حقه منا أن نغيظه وأن نذله وأن نهينه لأن الله سبحانه وتعالى قال محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا قال {أشداء على الكفار} يعني أقوياء عليهم أعزة عليهم {تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فأزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار..
..
} هذا الشاهد وقال تعالى في سورة التوبة {ولا(4/421)
يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح} وابتداؤنا إياهم بالسلام إكرام لهم وإعزاز لهم والمؤمن ينبغي أن يكون عزيزا على الكافرين قال الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} فهم لهم العزة على الكافرين يعني يرى المسلم أنه أعز من الكافر وأن له العزة عليه ولهذا لما كثرت العمالة النصرانية بيننا اليوم ذهبت الغيرة من القلوب وكأن النصراني أو اليهودي أو البوذي أو الوثني كأنه لا يخالفنا إلا كما يخالف المالكي الحنبلي والشافعي أو ما أشبه ذلك عند بعض الناس يظنون أن اختلافنا مع أهل الكفر كاختلاف المذاهب الأربعة في الإسلام نسأل الله العافية وهذا لاشك أنه من موت القلوب فلا يحل للإنسان أبدا أن يعز الكافر والمشروع أن نعمل كل ما فيه غيظ لهم ولكن يجب علينا أن نفي لهم بالعهد الذي بيننا وبينهم إذا كان بيننا وبينهم عهد فمثلا عمال ولو كانوا نصارى أولا نقول لا تأتي بعمال نصارى في الجزيرة العربية لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب وأمر فقال أخرجوا اليهود(4/422)
والنصارى من جزيرة العرب وقال وهو في مرض موته أخرجوا المشركين من جزيرة العرب فلا تأت بكافر وأنت يمكنك أن تأتي بمسلم وأما ما يعتقده من أمات الله قلبه والعياذ بالله أو نقول أزاغ الله قلبه يقول أنا آتي بعمال كفار لأنهم لا يصلون فلو صلوا لنقص العمل وحتى لا يصوموا ومن ثم فلا ينقص العمل وحتى لا يذهبوا لعمرة أو حج ومن ثم فلا ينقص العمل فهذا والعياذ بالله ممن اختار الدنيا على الآخرة نسأل الله العافية فالحاصل أنه لا يجوز أن نبدأ أي كافر بالسلام لا يهودي ولا نصراني ولا بوذي ولا وثني فأي إنسان على غير الإسلام لا يجوز أن نبدأه بالسلام قال صلى الله عليه وسلم وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه يعني لا نوسع لهم الطريق لو كان جماعة مسلمون وجماعة كفار تلاقوا في الطريق لا يفسح المسلمون لهم المجال ولو تفرقوا في الطريق لأنك إذا أفسحت الطريق لهم يعد هذا(4/423)
إكراما..
أو ما أشبه ذلك لماذا نعاملهم هذه المعاملة لأنهم أعداء لله قبل كل شيء وأعداء لنا قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق} هم أعداء الله أولا قبل كل شيء وثانيا أعداء لنا وأفعالهم بالمسلمين سابقا ولاحقا وإلى اليوم تدل على ذلك وعلى شدة عداوتهم للمسلمين فلا يجوز أن نسلم عليهم ولكن إذا سلموا ماذا نقول قال النبي علي الصلاة والسلام إذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم فقط لا تزد على هذا لماذا لأنهم في عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسلمون على المسلمين سلام خبيث يقولون السام عليكم يعني الموت فهم من يسمعهم يظن أنهم يقولون السلام عليكم وهم يقولون السام عليكم يعني الموت فانظر إلى العداوة حتى في التحية لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا وعليكم فقط فإن كانوا قد قالوا السام فعليهم وإن كانوا قد قالوا السلام فعليهم وهذا من العدل لأن الله قال {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها}(4/424)
هذا عدل ولذا قال بعض العلماء إذا قال الكافر السلام عليك باللام الواضحة فقل عليك السلام لأنه زال الأمر الذي بنى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم قوله قولوا وعليكم كما في حديث ابن عمر في البخاري انهم يقولون السام عليكم فإذا سلموا فقولوا وعليكم وهذه علة واضحة لأن السبب أننا نقول وعليكم لأنهم يقولون السام عليكم أما إذا قالوا السلام صراحة فنقول وعليكم السلام لأن أقوم الناس بالعدل هم المسلمون والحمد لله فإذا قالوا السلام عليكم نقول وعليكم السلام وإن قالوا أهلا وسهلا فقل أهلا وسهلا وإن قالوا مرحبا فقل مرحبا فنعطيهم مثل ما يعطوننا لكن قد أشكل على بعض الناس الآن أننا ابتلينا بقوم من الكفار يكونون رؤساء في بعض الشركات فيدخل المسلم على مكتب الرئيس رئيس الشركة وهو يهودي أو نصراني فماذا يقول نقول يسلم ويقول السلام فقط وينوي بذلك أنه السلام عليه هو على المسلم لأنك إذا حذفت المتعلق فلا يدري لمن هذا السلام وهذا إذا خفت من شره أما إذا لم تخف من شره وأنه رجل لا يبالي سلمت أم لم تسلم فادخل لقضاء مصلحتك منه بدون سلام(4/425)
لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام لكن إذا خفت من شره فنقول السلام فقط واختلف العلماء رحمهم الله هل يجوز أن نبدأهم بغير السلام مثل مرحبا أهلا وسهلا ...
فمنهم من قال لا بأس به تأليفا لاسيما إن خاف منه أو لم يأمن شره ومنهم من قال لا لأن ذلك فيه تعظيم له والإنسان في هذه الحال مرحبا أهلا وما أشبه ذلك ينظر ما تقتضيه الحاجة أو المصلحة ثم ذكر المؤلف حديث إذا مر الإنسان بجمع فيه مسلمون وكفار هل يترك السلام لأن فيهم كفارا أم يسلم لأن فيه مسلمين اجتمع الآن سببان مبيح وحاظر المبيح وهم المسلمون والحاظر المانع وهم الكفار لكن هنا يمكن تشذير الحكم وإلا فالقاعدة الشرعية أنه إذا اجتمع مبيح وحاظر وتعذر انفكاك أحدهما عن الآخر فإنه يغلب جانب الحاظر أي المنع لكن هنا يمكن من الانفكاك تسلم وتنوي على المسلمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم مر بمجلس فيه أخلاط من المشركين واليهود وفيهم مسلمون فسلم عليهم والله الموفق(4/426)
ختم المؤلف رحمه الله كتاب السلام وآدابه بهذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه في الرجل إذا جاء إلى المجلس ثم قام منه ومن المعلوم أن الإنسان إذا دخل على قوم فإنه يسلم عليهم كما سبق والسلام سنة مؤكدة ورده فرض عين على من سلم عليه وإذا كانوا جماعة فهو فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين لكن إذا كانوا جماعة وكان من المعلوم أن المسلم يريد بالقصد الأول واحدا منهم وجب على هذا الواحد أن يرد مثلا لو كانوا طلبة ومعهم معلمهم والذي دخل وسلم يريد بالقصد الأول نفس المعلم فإنه يجب على المعلم أن يرد ولا يكفي رد الجماعة كالطلبة مثلا وكذلك لو كان أمير مع رجاله وشرطته فدخل إنسان وسلم فإنه من المعلوم أن المقصود بالقصد الأول هو الأمير فيجب عليه أن يرد أما إذا كانوا جماعة متساوين ولم يعلم أن واحدا منهم هو المقصود بالقصد الأول فإنه إذا رد أحدهم السلام كفي لأن رد السلام فرض كفاية(4/427)
/0L2 باب استحباب السلام إذا قام عن المجلس وفارق جلساءه أو جليسه
869 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم فإذا أراد أن يقوم فليسلم فليست الأولى بأحق من الآخرة رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن ففي هذا الحديث أن الرجل إذا دخل على المجلس فإنه يسلم فإذا أراد أن ينصرف وقام وفارق المجلس فإنه يسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك وقال ليست الأولى بأحق من الثانية يعني كما أنك إذا دخلت تسلم كذلك إذا فارقت فسلم ولهذا إذا دخل الإنسان المسجد سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وإذا خرج سلم عليه أيضا وإذا دخل مكة لعمرة أو حج بدأ بالطواف وإذا فارق مكة وخرج ختم بالطواف لأن الطواف تحية مكة لمن دخل بحج أو عمرة وكذلك وداع مكة لمن أتى بحج أو عمرة ثم سافر وهذا من(4/428)
كمال الشريعة أنها جعلت المبتدي والمنتهي على حد سواء في مثل هذه الأمور والشريعة كما نعلم جميعا من لدن حكيم خبير كما قال تعالى {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} فتجدها كلها متناسقة متصاحبة ليس فيها تناقض ولا تفريط حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى أن يمشى الرجل بنعل واحد ولو لإصلاح الأخرى لماذا؟ لأنك إذا خصصت إحدى قدميك بالنعل صار ذلك جورا وعدم عدل فهكذا نرى أن الشريعة الإسلامية جاءت بالعدل في كل شيء {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} والله الموفق(4/429)
/0L2 باب الاستئذان وآدابه
قال الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} وقال تعالى {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم}
870 - وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع متفق عليه
871 - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل الاستئذان من أجل البصر متفق عليه
872 - وعن ربعي بن حراش قال حدثنا رجل من بني عامر أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت فقال أألج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخادمه أخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقل له قل السلام عليكم أأدخل فسمعه الرجل فقال السلام عليكم أأدخل(4/430)
فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل رواه أبو داود بإسناد صحيح
873 - عن كلدة بن الحنبل رضي الله عنه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه ولم أسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أرجع فقل السلام عليكم أأدخل رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب الاستئذان وآدابه والاستئذان يعني طلب الإذن أن تطلب من صاحب البيت أن يأذن لك في الدخول فإن أذن لك فادخل وإن لم يأذن لك فلا تدخل حتى لو قال لك بصراحة ارجع فارجع كما قال الله تعالى وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم وأنت يا صاحب البيت لا تستح أن تقول ارجع وأنت أيها المستأذن لا تغضب عليه إذا قال: لك أرجع لأن الإنسان قد يكون في حاجة وقد يكون غير مستعد لاستقبال الناس فلا يمكن أن تلجئه وتحرجه وإذا رجعت بعد أن قال لك: ارجع فإن الله يقول ذلك هو أزكى لك {فارجعوا هو أزكى لكم} أي أزكى لقلوبكم وأطهر(4/431)
وذكر المؤلف رحمه الله آيتين من كتاب الله الآية الأولى وقد سبق الكلام عليها وهي قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا} وقلنا إن معنى الاستئناس يعني أن تستأذنوا أو أن تعلموا علم اليقين أن صاحبكم مستعد لدخولكم ومن ذلك إذا واعدك الإنسان قال لك مثلا ائتني بعد صلاة الظهر فإذا وجدت الباب مفتوحا فهو أذن فأنت إذا أتيت لا حاجة لأن تستأذن لأن صاحب البيت قال لك ائتني في الموعد المحدد فإذا وجدت الباب مفتوحا فهذا إذن فالإذن لا فرق بين أن يكون سابقا أو لاحقا مادام قد علمت أن الرجل لم يفتح بابه إلا من أجل أن تدخل وبينك وبينه موعد فادخل ولكن لا بأس بل الأولى بلا شك أن تسلم عند الدخول لو لم يكن في ذلك إلا أن تحصل أجر السلام وثوابه والدعاء من أخيك حيث يقول لك وعليك السلام أما الآية الثانية فهي قوله تعالى {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم} إذا بلغوا الحلم يعني بلغوا بالإنزال لكن كني عنه بالحلم لأن الغالب أن الإنسان لا يخرج منه المني أول ما يخرج إلا بالاحتلام(4/432)
وإن كان بعض الناس يبلغ بدون احتلام لكن الغالب أنه يحتلم فإذا بلغ الطفل الحلم فإنه لا يدخل البيت إلا باستئذان أما قبل ذلك فأمره هين لكن هناك ثلاث عورات لابد من الاستئذان فيها {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات} 1 - الأولى من قبل صلاة الفجر 2 - والثانية حين تضعون ثيابكم من الظهيرة 3 - والثالثة ومن بعد صلاة العشاء هذه الأوقات لابد منها أن نستأذن حتى الصغار لابد وأن يستأذنوا لأن الإنسان في هذه الأوقات الثلاثة قد يكون متهيئا للنوم وعليه ثياب لا يحب أن يطلع عليه أحد فلذلك لابد من الاستئذان في هذه الساعات الثلاث وأما بالنسبة للنظر نظر الطفل للمرأة فليس مقيدا بالبلوغ بل هو مقيد بما إذا عرف من الطفل أنه ينظر إلى المرأة نظر شهوة فإذا علم ولو لم يكن له إلا عشر سنوات فإنه يجب عليها أن تحتجب عنه لأن الله قال {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن} يعني أزواجهن إلى(4/433)
أن قال {أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء} قال العلماء الذين لم يظهروا على عورات النساء يعني ليس لهم غرض في النساء ولا يسري على بالهم المرأة بعض الأطفال من حين ما يتم له عشر سنوات وهو ينظر إلى النساء نظر شهوة وهذا يختلف كما قلت قد يكون هذا الطفل يجلس مع قوم أكثر حديثهم في النساء فهذا تتربى فيه الشهوة الجنسية من البداية وقد يكون عند قوم ليس همهم إلا الدرس وحفظ القرآن وما أشبه ذلك ولا يسري على بالهم هذا الشيء فلا تنمو فيه هذه الغريزة على كل حال فإذا عرفنا أن الطفل يطلع على عورة المرأة ويتكلم في النساء وأشبهت نظراته نظرة الإنسان المشتهي فإنه يجب على المرأة أن تحتجب عنه ولو لم يكن له إلا عشر سنين مع أن العلماء رحمهم الله يقولون يمكن لمن تم له عشر سنين أن يأتي له أولاد يعني وعنده (11) سنة فلا تستغرب إذا جاء له ولد إذا تزوج وجامع زوجه فلا تستغرب ويذكر أن عمرو بن العاص ليس بينه وبين ابنه عبد الله إلا إحدى عشرة سنة وقال الشافعي رحمه الله رأيت جدة لها إحدى وعشرون سنة عندنا الآن تبلغ الواحد والعشرين وما تزوجت حتى الآن لأن المرأة يمكن أن تبلغ تحيض ولها تسع سنوات فإذا قدرنا أنها تزوجت ولها تسع سنوات يعني(4/434)
في العاشرة وحملت في أول سنة وأتت ببنت ثم إن البنت لما تم لها تسع سنوات تزوجت في العاشرة كم هكذا (20) سنة يأتيها ولد في الحادي والعشرين فتكون جدته أم البنت والشافعي رحمه الله صدوق يقول رأيت جدة لها إحدى وعشرون سنة والحاصل أنه إذا بلغ الطفل الحلم فلا يدخل البيت إلا باستئذان وإذا اطلع على عورات النساء وصار يتكلم فيهن وينظر إليهن بشهوة فإنه يجب أن تستتر عنه المرأة ولم لو يتم له إلا عشر سنوات والله الموفق(4/435)
/0L2 باب استحباب تشميت العاطس إذا حمد الله تعالى وكراهية تشميتة إذا لم يحمد الله تعالى وبيان آداب التشميت والعطاس والتثاؤب
878 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب فإذا عطس أحدكم وحمد الله تعالى كان حقا على كل مسلم سمعه أن يقول له يرحمك الله وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان رواه البخاري
879 - وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله وليقل له أخوه أو صاحبه يرحمك الله فإذا قال له يرحمك الله فليقل يهديكم الله ويصلح بالكم رواه البخاري
880 - وعن أبي موسى رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه فإن لم يحمد الله فلا تشمتوه رواه مسلم(4/436)
881 - وعن أنس رضي الله عنه قال عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر فقال الذي لم يشمته عطس فلان فشمته وعطست فلم تشمتني فقال هذا حمد الله وإنك لم تحمد الله متفق عليه
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتاب رياض الصالحين باب استحباب تشميت العاطس إذا حمد الله تعالى وبيان آداب العاطس والتثاؤب العطاس من الله عز وجل يحبه الله كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله يحب العطاس والسبب في ذلك أن العطاس يدل على النشاط والخفة ولهذا تجد الإنسان إذا عطس نشط والله سبحانه وتعالى يحب الإنسان النشيط الجاد وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير(4/437)
والعطاس يدل على الخفة والنشاط فلهذا كان محبوبا إلى الله وكان مشروعا للإنسان إذا عطس أن يقول الحمد لله لأنها نعمة أعطيها فليحمد الله عليها فيقول (الحمد لله) إذا عطس سواء أكان في الصلاة أو خارج الصلاة في أي مكان كان إلا أن العلماء رحمهم الله يقولون إذا عطس وهو في الخلاء فلا يقول بلسانه (الحمد لله) ولكن يحمد بقلبه لأنهم يقولون رحمهم الله إن الإنسان لا يذكر الله في الخلاء فإذا عطس الإنسان وحمد الله كان حقا على كل من سمعه أن يقول له (يرحمك الله) فيدعو له بالرحمة جزاء له على حمده لله عز وجل فإنه لما حمد الله كان من جزائه أن إخوانه يدعون له بالرحمة وقوله كان حقا على كل من سمعه ظاهره أنه يجب على كل السامعين بأعيانهم ويؤيده قوله في الحديث الآخر إذا عطس فحمد الله فشمتوه وذهب بعض العلماء إلى أن تشميت العاطس فرض كفاية يعني إذا قال واحد من الجماعة يرحمك(4/438)
الله كفي لكن الاحتياط أن يشمته أي يدعو له بالرحمة كل من سمعه كما جاء في الحديث وأما التثاؤب فإنه من الشيطان ولهذا كان الله يكرهه لماذا لأن التثاؤب يدل على الكسل ولهذا يكثر التثاؤب فيمن كان فيه نوم ولأجل أنه يدل على الكسل كان الله يكرهه ولكن إذا تثاءب فالأولى أن يرده أي يرد التثاؤب يكظمه ويتصبر قال العلماء وإذا أردت أن تكظمه فعض على شفتك السفلى وليس عضا شديدا فتنقطع ولكن لأجل أن تضمها حتى لا ينفتح الفم فالمهم أن تكظم سواء بهذه الطريقة أو غيرها فإن عجزت عن الكظم فضع يدك على فمك وما ذكره بعض العلماء رحمهم الله أنك تضع ظهرها على الفم فلا أصل له وإنما تضع بطنها تسد الفم والسبب في ذلك أن الإنسان إذا تثاءب ضحك الشيطان منه لأنه أي الشيطان يعرف أن هذا يدل على كسله وعلى فتوره والشيطان يحب من بني آدم أن يكون كسولا فتورا أعاذنا الله وإياكم منه ويكره الإنسان النشيط الجاد الذي يكون دائما في حزم وقوة ونشاط فإذا جاءك التثاؤب فإن استطعت أن تكظمه وتمنعه فهذا هو السنة وهذا هو الأفضل وإن لم تقدر فضع يدك على فمك(4/439)
ولكن هل تقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؟ لا لأن ذلك لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام فالنبي صلى الله عليه وسلم علمنا ماذا نفعل عند التثاؤب ولم يقل قولوا كذا وإنما قال اكظموا أو ردوا باليد ولم يقل قولوا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أما ما اشتهر عند بعض الناس أن الإنسان إذا تثاءب يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فهذا لا أصل له والعبادات مبنية على الشرع لا على الهوى لكن قد يقول بعض الناس أليس الله يقول وأما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن التثاؤب من الشيطان فهذا نزغ؟ نقول لا فقد فهمت الآية خطأ فالمراد من الآية {إما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله أنه هو السميع العليم} يعني الأمر بالمعاصي أو بترك الواجبات فهذا نزغ الشيطان كما قال تعالى فيه إنه ينزغ بين الناس فهذا نزغه أمر بالمعاصي والتضليل عن الواجبات فإن أحسست بذلك فقل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أما التثاؤب فليس فيه إلا سنة فعلية فقط وهي الكظم ما استطعت فإن لم تقدر فضع يدك على فمك ومن آداب العطاس: أنه ينبغي للإنسان إذا عطس أن يضع ثوبه على وجهه قال أهل العلم وفي ذلك حكمتان الحكمة الأولى: أنه قد يخرج مع هذا العطاس أمراض تنتشر(4/440)
على من حوله الحكمة الثانية: أنه قد يخرج من أنفه شيء مستقذر تتقزز النفوس منه فإذا غطى وجهه صار ذلك خيرا ولكن لا تفعل ما يفعله بعض الناس بأن تضع يدك على أنفك فهذا خطأ لأن هذا يحد من خروج الريح التي تخرج من الفم عند العطاس وربما يكون في ذلك ضرر عليك وفي هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف دليل على أن من عطس ولم يقل الحمد لله فإنه لا يقال له يرحمك الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم عطس عنده رجلان أحدهما قال له النبي صلى الله عليه وسلم يرحمك الله والثاني لم يقل له ذلك فقال الثاني يا رسول الله عطس فلان فقلت له يرحمك الله وعطست فلم تقل لي ذلك قال أي الرسول هذا حمد الله وإنك لم تحمد الله وعلى هذا إذا عطس إنسان ولم يحمد الله فلا تقل له يرحمك الله ولكن هل نذكره فنقول له قل الحمد لله لا الحديث هذا يدل على أنك لا تذكره فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث إذا عطس ولم يحمد الله فذكروه بل قال (لا تشمتوه) فنحن لا نقل احمد الله(4/441)
ولكن فيما بعد علينا أن نخبره أن الإنسان إذا عطس عليه أن يقول (الحمد لله) ويكون ذلك من باب التعليم ولابد أن يكون حمد العاطس مسموعا كما أن العاطس إذا قيل له يرحمك الله يقول (يهديكم الله ويصلح بالكم) أي يصلح شأنكم فتدعو له بالهداية وإصلاح الشأن ويقول بعض العامة (يهدينا أو يهديكم الله) وهذا خلاف المشروع المشروع أن يقول يهديكم الله ويصلح بالكم كما بينا والله الموفق(4/442)
/0L2 باب استحباب المصافحة عند اللقاء وبشاشة الوجه وتقبيل يد الرجل الصالح وتقبيل ولده شفقة ومعانقة القادم من سفر وكراهية الانحناء
885 - عن أبي الخطاب قتادة قال قلت لأنس أكانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم رواه البخاري
886 - وعن أنس رضي الله عنه قال لما جاء أهل اليمن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاءكم أهل اليمن وهم أول من جاء بالصافحة رواه أبو داود بإسناد صحيح
887 - وعن البراء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا رواه أبو داود
888 - وعن أنس رضي الله عنه قال قال رجل يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له قال لا قال أفيلتزمه ويقبله قال لا قال قيأخذ بيده ويصافحه قال نعم رواه(4/445)
الترمذي وقال حديث حسن
[الشَّرْحُ]
هذا الباب عقده المؤلف النووي رحمه الله في كتاب رياض الصالحين بآداب السلام والاستئذان وما يتعلق بذلك فمنها: المصافحة هل يسن للرجل إذا لقي أخاه أن يصافحه والجواب نعم يسن له ذلك لأن هذا من آداب الصحابة رضي الله عنهم كما سأل قتادة أنس بن مالك رضي الله عنه هل كانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم ويصافحه باليد اليمنى وإذا حصل ذلك فإنه يغفر لهما قبل أن يفترقا وهذا يدل على فضيلة المصافحة إذا لاقاه وهذا إذا كان لاقاه ليتحدث معه أو ما أشبه ذلك أما مجرد الملاقاه في السوق فما كان هذا من هدي الصحابة يعني إذا مررت بالناس في السوق يكفي أن يسلم عليهم وإذا كنت تقف إليه دائما وتتحدث إليه بشيء فصافحه ثم ينبغي أن نعرف أن بعض الناس إذا سلم من الصلاة إذا كانت فرضا صافح أخاه وأحيانا يقول(4/446)
له تقبل الله أو قبول ...
قبول وهذا من البدع فما كان الصحابة يفعلون هذا وإنما يكفي أن يسلم المصلي عن يمينه وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله وأما الانحناء عند الملاقاة أو المعانقة والالتزام فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك أننحني قال لا قال السائل أيلتزمه ويعانقه قال لا فإذا لاقاه فإنه لا يلتزم أي لا يضمه إليه ولا يعانقه ولا ينحني له والانحناء أشد وأعظم لأن فيه نوعا من الخضوع لغير الله عز وجل بمثل ما يفعل لله في الركوع فهو منهي عنه ولكنه يصافحه وهذا كاف إلا إذا كان هناك سبب فإن المعانقة أو التقبيل لا بأس به كأن كان قادما من سفر أو نحو ذلك فإن قال قائل كيف يكون قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينحني له مع قول الله تعالى في إخوة يوسف لما دخلوا عليه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا فالجواب عن هذا أنه في شريعة سابقة وشريعتنا الإسلامية قد نسخته ومنعت منه فلا يجوز لأحد أن يسجد لأحد وإن لم يرد بذلك العبادة أو ينحني فإن الانحناء منع منه الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قابلك أحد يجهل هذا الأمر وانحنى لك(4/447)
فانصحه وأرشده قل له هذا ممنوع لا تنحن ولا تخضع إلا لله وحده وتقبيل اليد لا بأس به إذا كان الرجل أهلا لذلك والله الموفق
889 - وعن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال قال يهودي لصاحبه اذهب بنا إلى هذا النبي فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات بينات فذكر الحديث إلى قوله فقبلا يده ورجله وقالا نشهد أنك نبي رواه الترمذي وغيره بأسانيد صحيحة
890 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قصة قال فيها فدنونا من النبي صلى الله عليه وسلم فقبلنا يده رواه أبو داود
891 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فأتاه فقرع الباب فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم يجر ثوبه فاعتنقه وقبله رواه الترمذي وقال حديث حسن
892 - وعن أبي ذر رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/448)
لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث ذكرها الإمام النووي رحمه الله في رياض الصالحين في آداب المصافحة والمعانقة وما يتعلق بذلك منها حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه أن رجلا يهوديا قل لصاحبه اذهب بنا إلى هذا الرجل يعني النبي صلى الله عليه وسلم فذهبا إليه وأخبراه وذكر النبي صلى الله عليه وسلم تسع آيات فقيلا يده ورجله وقالا نشهد أنك نبي واليهود كانوا في المدينة وكان أصلهم من مصر من بني إسرائيل ثم انتقلوا إلى الشام إلى الأرض المقدسة التي قال لهم نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم وكانوا يقرءون في التوراة أنه سيبعث نبي في آخر الزمان وأنه سيكون من مكة ومهاجره المدينة فهاجر كثير منهم من الشام إلى المدينة ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم ليتبعوه لأنه قد نوه عن فضله صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل فقد قال الله تعالى {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا(4/449)
عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} وكانوا إذا جرى بينهم وبين المشركين شيء يستفتحون على الذين كفروا يقولون سيبعث نبي ونتبعه ونستفتح به ونغلبكم كما قال تعالى {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} ثم إنهم صاروا ثلاث قبائل أي اليهود في المدينة بنو قينقاع وبنو النضر وبنو قريظة وعاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وكلهم نقضوا العهد فطردوا منها آخرهم بنو قريظة قتل منهم نحو سبعمائة نفر لما خانوا العهد في يوم الأحزاب وانتقلوا إلى خيبر وفتحها النبي صلى الله عليه وسلم وأبقاهم فيها لأنهم أصحاب مزارع يعرفون الحرث والزرع والصحابة مشتغلون عن ذلك بما هو أهم فعاملهم النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم تبقون في محلكم خيبر على أن لكم نصف الثمر والزرع وللمسلمين نصفهما ونقركم في ذلك ما شاء الله وبقوا في عهد(4/450)
الرسول صلى الله عليه وسلم في خيبر وفي عهد أبي بكر ولما تولى عمر حصل منهم خيانة كما هي طبيعتهم التي عرفوا بها من الخيانة والغدر فأجلاهم عمر رضي الله عنه من خيبر في السنة السادسة عشرة إلى أذرعات في الشام هذا أصل وجود اليهود في الجزيرة العربية كانوا ينتظرون بعث النبي صلى الله عليه وسلم ليتبعوه ولكنهم لما رأوه عين اليقين كفروا ولعلهم كانوا في أول الأمر يظنون أنه من بني إسرائيل هكذا قال بعض العلماء ولكن لما تبين أنه من بني إسماعيل حسدوهم أي بني إسماعيل وكفروا ولكن لا يتبين لي هذا لأن الله يقول {يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} فهم يعرفون أنه من العرب من بني إسماعيل لكن والعياذ بالله فرق بين علم اليقين وعين اليقين هم كانوا بالأول يظنون أنه إذا بعث يتبعونه بسهولة لكنهم حسدوه والعياذ بالله المهم أن هذين الرجلين قبلا يد النبي صلى الله عليه وسلم ورجله فأقرهما على ذلك وفي هذا جواز تقبيل اليد والرجل للإنسان الكبير الشرف والعلم كذلك تقبيل اليد والرجل من الأب والأم وما أشبه ذلك لأن لهما حقا وهذا من التواضع وذكر المؤلف أيضا حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال أتينا(4/451)
النبي صلى الله عليه وسلم فقبلنا يده وأقرهما النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وتقبيل اليد كتقبيل الرأس ليس بينهما فرق لكن عجبا أن الناس الآن يستنكرون تقبيل اليد أكثر من استنكارهم تقبيل الرأس وهو لا فرق بينهما لكن الذي ينتقد من بعض الناس أنه إذا سلم عليه أحد مد يده إليه وكأنه يقول قبل يدي فهذا هو الذي يستنكر ويقال للإنسان عندئذ لا تفعل أما من يقبل يدك تكريما وتعظيما أو رأسك أو جبهتك فهذا لا بأس به إلا أن هذا لا يكون في كل مرة يلقاك لأنه سبق أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك إذا لاقى الرجل أخاه أينحني له؟ قال لا قال أيقبله ويعانقه قال لا قال أيصافحه؟ قال نعم لكن إذا كان لسبب فلا بأس للغائب ولهذا يذكر المؤلف رحمه الله حديث عائشة في قدوم زيد بن حارثة حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم واستأذن فقام الرسول صلى الله عليه وسلم إليه يجر ثوبه وزيد بن حارثة مولى الرسول صلى الله عليه وسلم أي كان عبدا مملوكا للرسول صلى الله عليه وسلم أهدته إليه خديجة رضي الله عنها فأعتقه ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحبه ويحب ابنه أسامة ولهذا يسمى أسامة الحب بن الحب فهو محبوب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وابنه أسامة كذلك المهم(4/452)
أن الرسول قام يجر ثوبه فعانقه وقبله لأن زيدا رضي الله عنه كان قادما من سفر فإذا كان عند القدوم من السفر فهذا لا بأس به أما كلما لاقاك يقبلك فهذا نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك أيضا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان لا يحقر من المعروف شيئا يعني المعروف والإحسان إلى الناس لا تحقر شيئا منه أبدا وتقول هذا قليل حتى ولو أعطيته قلما أو شيئا قليل القيمة ماديا فلا تحقر شيئا فإن هذا يذكر الإنسان ولو بعد حين يقول هذا الرجل أهداني سنة كذا وكذا فكل شيء يجلب المودة والمحبة بين الناس لا تحقره ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق إلى هذا الحد تلقى أخاك بوجه طليق يعني غير عبوس لكن أحيانا يغلبنا عدم التوسع في هذا الأمر لسبب أو لآخر فقد يكون هناك أسباب خفية يكون الإنسان مثلا متأثرا بها والناس لا يعلمون فلا يحصل أن يلقى الإنسان الناس دائما بوجه طليق إنما عليك المحاولة أن تلقاهم بوجه طليق منشرح لأن هذا من المعروف وسبب للمودة والمحبة والدين الإسلامي دين المحبة والوفاء والأخوة كما قال(4/453)
تعالى {واذكروا نعمة الله عليكم إذا كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} نسأل الله أن يهدينا وإياكم إلى أحسن الأخلاق والأعمال فلا يهدي إلى أحسنها إلا هو وأن يصرف عنا سيئ الأخلاق والأعمال فلا يصرف عنا سيئها إلا هو
893 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قبل النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال الأقرع بن حابس إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لا يرحم لا يرحم متفق عليه
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث ذكره النووي رحمه الله فيما يتعلق(4/454)
بالمعانقة والتقبيل وما أشبه ذلك ومن ذلك تقبيل الصغار رحمه بهم وشفقة وإحسانا وتوددا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما والحسن هو ابن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم جده من قبل أمه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحسن ويحب الحسين ويقول إنهما سيدا شباب أهل الجنة لكن الحسن أفضل من الحسين ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم إن ابني هذا سيد وسوف يصلح الله به بين فئتين من المسلمين ولذلك لما استشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين قتله الخارجي كان الذي تولى الخلافة بعده الحسن ابنه الأكبر والأفضل ولكنه لما رأى أن منازعته لمعاوية الخلافة سيحصل فيها سفك دماء وقتل وضرر عظيم تنازل رضي الله عنه عن الخلافة لمعاوية تنازلا تاما درأ للفتنة وائتلافا للأمة فأصلح الله به بين الأمة وصار بهذا له منقبة عظيمة حيث تنازل عما هو أحق به لمعاوية رضي الله عنه درأ للفتنة كان ذات يوم عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده الأقرع بن حابس من سادات بني تميم فقبل النبي صلى الله عليه وسلم(4/455)
الحسن فكأن هذا الرجل الأقرع الجافي كأنه استغرب كيف تقبل هذا الطفل فقال إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم من لا يرحم لا يرحم يعني من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل والعياذ بالله ولا يوفقه لرحمة فدل ذلك على جواز تقبيل الأولاد الصغار رحمة وشفقة سواء كانوا من أبنائك أو من أولاد أبنائك وبناتك أو من الأجانب لأن هذا يوجب الرحمة وأن لديك قلبا يرحم الصغار وكلما كان الإنسان بعباد الله أرحم كان إلى رحمة الله أقرب حتى إن الله عز وجل غفر لامرأة بغي زانية غفر لها حين رحمت كلبا يأكل الثري من العطش فنزلت وأخذت بخفها ماء وسقته فغفر الله لها مع أنها سقت ورحمت كلبا ولكن إذا جعل الله في قلب الإنسان رحمة لهؤلاء الضعفاء فذلك دليل على أنه سوف يرحم بإذن الله عز وجل نسأل الله أن يرحمنا وإياكم فقال النبي صلى الله عليه وسلم من لا يرحم لا يرحم فدل ذلك على أنه ينبغي للإنسان أن يجعل قلبه لينا عطوفا رحيما خلاف ما يفعله بعض(4/456)
السفهاء من الناس حتى إنه إذا دخل الصبي عليه وهو في المقهى انتهره ونهزه فهذا خطأ وها هو النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا وأكرمهم أدبا جاء يوم من الأيام وهو ساجد يصلي بالناس فأتي الحسن بن علي بن أبي طالب فركب عليه وهو ساجد كما يفعل الصبيان وتأخر في السجود فكأن الصحابة تعجبوا من ذلك فقال إن ابني ارتحلني يعني جعلني راحلة له وإني أحببت ألا أقوم حتى يقضي نهمته هذه من الرحمة وفي يوم آخر كانت أمامة بنت زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم كانت صغيرة فخرج بها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فتقدم يصلي بالناس وهو حامل هذه الطفلة إذا سجد وضعها على الأرض وإذا قام حملها كل هذا رحمة بها وعطف وإلا فقد كان من الممكن أن يقول لعائشة أو غيرها من نسائه (خذي البنت) لكنها رحمة ربما إنها تعلقت بجدها صلى الله عليه وسلم فأراد أن يطيب نفسها وفي(4/457)
يوم من الأيام كان يخطب الناس وكان على الحسن والحسين ثوبان لعلهما جديدان وكان فيهما طول فجعل يمشيان ويتعثران فنزل من على المنبر وحملهما بين يديه صلى الله عليه وسلم وقال صدق الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة وقال إنه رآهما يتعثران فما طابت نفسه حتى نزل فحملهما المهم أنه ينبغي لنا أن نعود أنفسنا على رحمة الصبيان وعلى رحمة كل من يحتاج الرحمة من اليتامى والفقراء والعاجزين وغيرهم وأن نجعل في قلوبنا رحمة ليكون ذلك سببا لرحمة الله إيانا لأننا أيضا محتاجون إلى الرحمة ورحمتنا لعباد الله سبب لرحمة الله لنا نسأل الله أن يعمنا وإياكم برحمته(4/458)
كتاب عيادة المريض وتشييع الميت
الصلاة على الميت وحضور دفنه والمكث عند قبره بعد دفنه
894 - عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وإبرار المقسم ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإفشاء السلام متفق عليه
[الشَّرْحُ]
سبق لنا في رياض الصالحين لمؤلفه النووي رحمه الله عدة أبواب مفيدة وكلها تتعلق بالأحياء ثم ذكر رحمه الله في هذا الباب حكم عيادة المريض وتشييع الجنائز عيادة المريض ذهب بعض العلماء إلى أنها فرض كفاية فإذا لم يقم بها أحد فإنه يجب على من علم بحال المريض أن يعوده لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ذلك من حقوق المسلم على أخيه ولا يليق(4/459)
بالمسلمين أن يعلموا أن أخاهم مريض ولا يعوده أحد منهم لأن هذا قطيعة وأي قطيعة وهذا القول هو الراجح أن عيادة المرضى فرض كفاية ومن المعلوم أن غالب المرضى يعودهم أقاربهم وأصحابهم وتحصل بذلك الكفاية لكن لو علمنا أن أحدا أجنبيا في البلد مريض وليس معروفا وقد علمت أنه لم يعده أحد فإن الواجب عليك أن تعوده لأن ذلك من حقوق المسلمين بعضهم على بعض والمستحب لمن عاد المريض أن يسأل عن حاله كيف أنت وعن عبادته كيف تتوضأ كيف تصلي وعن معاملاته هل لك حقوق على الناس أو هل للناس حقوق عليك ثم إذا قال نعم قل له أوص بما عليك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ولا تلحف عليه في المسألة ولاسيما إذا كان مرضه شديدا لأنه ربما يضجر ويتعب ولا تطل الجلوس عنده لأنه ربما يمل لأن حال المريض غير حال الصحيح فربما يمل ويحب أن تقوم عنه ليأتي إليه أهله وما أشبه ذلك ولكن إذا رأيت أن المريض مستأنس(4/460)
بك ويفرح أن تبقي وأن تطيل الجلوس عنده فهذا خير ولا بأس به وهذا ربما يكون سببا في شفائه لأن من أسباب الشفاء إدخال السرور على المريض ومن أسباب دوام المرض وزيادته إدخال الغم عليه فمثلا إذا جئت مريضا وقلت له أنت اليوم أحسن من أمس حتى وإن لم يكن أحسن من جهة المرض لكن تقول أحسن من أمس لأنك زدت خيرا ما بين أمس واليوم صليت خمس صلوات استغفرت هللت كذلك زاد أجرك بالمرض وذلك حتى يدخل عليه السرور ولا تقل له أنت أمس أحسن من اليوم فذا خطأ حتى ولو كان الأمر كذلك لأنه إن لم يضر لن ينفع كذلك إذا كان المريض ممن يحب القصص وهي حق وليست كذبا قصص حقيقية ليست مكذوبة وكان ذلك مدعاة لإدخال السرور عليه فهذا أيضا طيب لأن من المهم إدخال السرور على المريض وإذا أردت أن تقوم واستأذنت تقوم أتأذن لي فإن هذا أيضا مما يسره لأنه ربما يود أن تبقي فلا يأذن لك(4/461)
ثم احرص غاية الحرص على أن توجهه إلى فعل الخير في هذا المرض وقول الخير في هذا المرض فتقول قد يقدر الله المرض على الإنسان فيكون خيرا له فيتفرغ للذكر ولقراءة القرآن وما أشبه ذلك لعله ينتبه ويكون لك أجر السبب
895 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حق المسلم على المسلم خمس رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس متفق عليه
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين كتاب عيادة المريض وتشييع الجنازة يقال عيادة وزيارة وتشييع الزيارة للصحيح إذا زرت أخا لك في الله في بيته في مكانه فهذه زيارة والعيادة للمريض لأن الإنسان يعيدها ويكررها مادام(4/462)
أخوه مريضا وتشييع الجنازة اتباعها ثم ذكر المؤلف حديث البراء بن عازب وقد سبق الكلام على أكثره والشاهد منه قوله وعيادة المريض فهي أمر أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهي فرض كفاية إذا قام بها البعض سقط عن الباقين وإذا لم يقم بها أحد وجب على من علم أن يعوده ثم إن المراد بالمريض الذي يعاد هو الذي انقطع في بيته ولا يخرج وأما المريض مرضا خفيفا لا يعوقه عن الخروج ومصاحبة الناس فإنه لا يعاد لكن يسأل عن حاله إذا علم به الإنسان وللعيادة آداب كثيرة منها 1 - أن ينوي الإنسان بها امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها 2 - أن ينوي الإحسان إلى أخيه بعيادته فإن المريض إذا عاده أخوه وجد في ذلك راحة عظيمة وانشراح صدر 3 - أن يستغل الفرصة في توجيه المريض إلى ما ينفعه فيأمره بالتوبة والاستغفار والخروج من حقوق الناس 4 - أنه ربما يكون على المريض إشكالات في طهارته أو صلاته أو ما أشبه ذلك فإذا كان العائد طالب علم انتفع به المريض لأنه لابد أن يخبره عما ينبغي أن يقوم به من طهارة وصلاة(4/463)
أو يسأله المريض 5 - أن الإنسان ينظر للمصلحة في إطالة البقاء عند المريض أو عدمها وهذا القول هو القول الصحيح وذهب بعض العلماء إلى أنه ينبغي تخفيف العيادة وألا يثقل على المريض لكن الصحيح أن الإنسان ينظر للمصلحة إذا رأى أن المريض مستأنس منبسط منشرح الصدر وأنه يجب بقاءه فليتأن لما في ذلك من إدخال السرو عليه وإن رأى أن المريض يرغب أن يقوم الناس عنه حتى يأتيه أهله ويصلحوا حاله فإنه يقوم ولا يتأخر 6 - أن يتذكر الإنسان نعمة الله عليه بالعافية فإن الإنسان لا يعرف قدر نعمة الله عليه إلا إذا رأى من ابتلي بفقدها كما قيل وبضدها تتميز الأشياء فتحمد الله سبحانه وتعالى على العافية وتسأله أن يديم عليك النعمة 7 - ومنها ما يرجى من دعاء المريض للعائد ودعاء المريض حري بالإجابة لأن الله سبحانه وتعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله والمريض من أشد الناس ضعفا في النفس ولاسيما إذا طال به المرض وثقل فيرجى إجابة دعوة هذا المريض(4/464)
وهناك فوائد أكثر مما ذكرنا لذلك ينبغي للإنسان أن يحرص على عيادة المرضى لما في ذلك من الأجر الكثير والثواب العظيم
896 - وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي رواه مسلم(4/465)
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث ذكره النووي رحمه الله في رياض الصالحين باب عيادة المريض وتشييع الميت عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال كيف أعودك وأنت رب العالمين يعني وأنت لست بحاجة إلي حتى أعودك قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما إنك لو عدته لوجدتني عنده هذا الحديث ليس فيه إشكال في قوله تعالى مرضت فلم تعدني لأن الله تعالى يستحيل عليه المرض لأن المرض صفة نقص والله سبحانه وتعالى منزة عن كل نقص قال الله تبارك وتعالى سبحان ربك رب العزة عما يصفون لكن المراد بالمرض مرض عبد من عباده الصالحين وأولياء الله سبحانه وتعالى هم خاصته ولهذا جاء في الحديث الصحيح القدسي أيضا من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب يعني من يعادي أولياء الله محارب لله عز وجل مع أنه وإن كان لم يعاد الله على زعمه لكنه عادى أولياءه وحاربهم كذلك إذا مرض عبد من عباد الله الصالحين فإن الله سبحانه وتعالى يكون عنده(4/466)
ولهذا قال أما إنك لو عدته لوجدتني عنده ولم يقل لوجدت ذلك عندي كما قال في الطعام والشراب بل قال لوجدتني عنده وهذا يدل على قرب المريض من الله عز وجل ولهذا قال العلماء إن المريض حري بإجابة الدعاء إذا دعا لشخص أو دعا على شخص وفي هذا دليل على استحباب عيادة المريض وأن الله سبحانه وتعالى عند المريض وعند من عاده لقوله لوجدتني عنده وقد سبق لنا كيف تكون عيادة المريض وما ينبغي أن يقوله له العائد يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني يعني طلبت منك طعاما فلم تطعمني ومعلوم أن الله تعالى لا يطلب الطعام لنفسه لقول الله تبارك وتعالى {وهو يطعم ولا يطعم} فهو غني عن كل شيء لا يحتاج لطعام ولا شراب لكن جاع عبد من عباد الله فعلم به شخص فلم يطعمه قال الله تعالى أما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي يعني لوجدت ثوابه عندي مدخرا لك الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وفي هذا دليل على استحباب إطعام الجائع وأنا الإنسان إذا أطعم الجائع وجد ذلك عند الله يا ابن آدم استسقيتك أي طلبت منك أن تسقيني فلم تسقيني قال كيف أسقيك وأنت رب العالمين يعني لست في حاجة إلى(4/467)
طعام ولا شراب قال أما علمت أن عبدي فلانا ظمئ أو استسقاك فلم تسقه أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي ففيه أيضا دليل على فضيلة إسقاء من طلب منك السقيا وأنك تجد ذلك عند الله مدخرا الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة والشاهد من هذا الحديث الجملة الأولى منه وهي قوله مرضت فلم تعدني ففيه دليل على استحباب عيادة المريض والله الموفق
897 - وعن أبي موسى رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عودوا المريض وأطعموا الجائع وفكوا العاني رواه البخاري العاني الأسير(4/468)
898 - وعن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع قيل يا رسول الله وما خرفة الجنة قال جناها رواه مسلم جناها أي واجتني من الثمر
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله في كتاب رياض الصالحين في باب عيادة المريض وتشييع الميت عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فكوا العاني يعني الأسير وأطعموا الجائع وعودوا المريض هذه ثلاثة أشياء أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم أولا عيادة المريض وقد سبق أنها فرض كفاية يجب على المسلمين أن يعودوا مرضاهم فإذا لم يقم أحد بذلك وجب على من علم بالمريض أن يعوده لأن ذلك من حق المسلم على إخوانه ثانيا أطعموا الجائع فإذا وجدنا إنسانا جائعا وجب علينا جميعا أن نطعمه وإطعامه فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين فإن لم يقم به أحد تعين على من علم بحاله أن يطعمه وكذلك أيضا كسوة العاري وهو فرض كفاية(4/469)
ثالثا قوله فكوا العاني يعني الأسير فكوا الأسير الذي عند الكفار من الأسر فإذا اختطف الكفار رجلا مسلما وجب علينا أن نفك أسره وكذلك لو أسروه في حرب بينهم وبين المسلمين فإنه يجب علينا أن نفك أسره وفك أسره فرض كفاية أيضا ثم ذكر حديث ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا عاد المسلم أخاه المسلم يعني في مرضه فإنه لا يزال في خرفة الجنة قيل وما خرفة الجنة؟ قال جناها يعني أنه يجني من ثمار الجنة مدة دوامه جالسا عند هذا المريض وقد سبق أن الجلوس عند المريض يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص وفي هذا الحديث الثاني دليل على فضل عيادة المريض من يحب أن يعترف من ثمار الجنة هذا من أسبابها والله الموفق(4/470)
899 - وعن علي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من مسلم يعود مسلما غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح وكان له خريف في الجنة رواه الترمذي وقال حديث حسن الخريف التمر المخروف أي المجتني
900 - وعن أنس رضي الله عنه قال كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقعد عند رأسه فقال له أسلم فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال أطع أبا القاسم فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول الحمد لله الذي أنقذه من النار رواه البخاري
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله في كتاب رياض الصالحين في باب عيادة المريض وتشييع الميت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما من مسلم يعود مريضا غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي وكذلك إن عادة في المساء صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح وكان في خريف الجنة(4/471)
هذا الحديث له شاهد مما سبق أن الإنسان إذا عاد أخاه المريض فهو في خرفة الجنة أي في جناها وأما استغفار الملائكة له ففيه نظر لأن فضل الله واسع لكن من قواعد الحديث الضعيف عند العلماء كثرة الثواب في عمل يسير جدا لكننا نقول إنه مادام قد ثبت أصل مشروعية عيادة المريض فإن ذكر الفضائل إذا لم يكن الضعف شديدا مما يساعد على فعل ما رغب فيه وينشط الإنسان ويرجو الإنسان ثواب ذلك إن كان هذا الحديث ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم حصل للإنسان ما دل عليه وإن لم يكن ثابتا فإنه لا يزيده إلا رغبة في الخير وعلى كل حال فهو يدل على فضيلة عيادة المريض وأنه إذا كان في الصباح فله هذا الأجر وإذا كان في المساء فله هذا الأجر أما حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن غلاما يهوديا كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض الغلام فعاده النبي صلى الله عليه وسلم وجلس عند رأسه وقال له أسلم فنظر إلى أبيه يعني كأنه يستشيره فقال له أبوه وهو يهودي أطع أبا القاسم لأن اليهودي يعلم أنه حق فقال لابنه أطع أبا القاسم فأسلم هذا الغلام فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول الحمد لله الذي أنقذه من النار ففي هذا الحديث عدة فوائد منها(4/472)
1 - جواز استخدام اليهودي يعني يجعلهم خدما عنده وهذا بشرط أن يأمن من مكره لأن اليهود أصحاب مكر وخديعة وخيانة لا يكادون يوفون بعهد ولا يؤدون أمانة لكن إذا أمنه فلا بأس من أن يستخدمه 2 - جواز عيادة المريض اليهودي لأن النبي صلى الله عليه وسلم عاد هذا الغلام ولكن يحتمل أن تكون عيادة النبي صلى الله عليه وسلم له كانت من أجل خدمته إياه وأن هذا من باب المكافأة وعلى هذا لا يكون الحكم لكل يهودي أن تعوده ويحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم عادة ليعرض عليه الإسلام فتكون عيادة المريض اليهودي أو غيره من الكفار مستحبة إذا كان الإنسان يريد أن يعرض عليهم الإسلام فينقذهم الله به من النار وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم يعني إذا هدى الله بك رجلا من الكفر خير لك من الإبل الحمر التي هي أغلى أنواع الإبل عند العرب(4/473)
3 - ينبغي على من عاد المريض أن يرشده إلى الحق ويرغبه فيه فإذا كان يعلم أنه أي المريض صاحب تقصير قال له (يا فلان استغفر الله تب إليه) فأحسن ما تهدي للمريض هو أن تنفعه في دينه أما الحكاوي والقصص فلها وقت آخر ...
4 - الأب قد يؤثر ابنه في الخير وهو لا يفعله فهذا اليهودي أشار على ابنه أن يطيع أبا القاسم ويسلم ولكنه هو لم يسلم فالأب قد يحب لابنه الخير وهو محروم منه والعياذ بالله 5 - فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حق ودليل ذلك أن اليهودي قال لابنه أطع أبا القاسم والحق ما شهدت به الأعداء ومعلوم أن اليهود والنصارى يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم قال الله تعالى الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإنما كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم لأن الله قال(4/474)
{الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} معروف مشهور باسمه العلم عليه السلام {الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} هم يعرفون هذا لكن الحسد والعياذ بالله والاستكبار منعهم من الإيمان به {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق} نسأل الله السلامة وعلى هذا فإذا مرض إنسان كافر فلك أن تعوده إذا رجوت في عيادته خيرا بأن تعرض عليه الإسلام لعله يسلم فهؤلاء العمال الذين عندنا الآن من الكفار وهم كثيرون لا ينبغي أن نتركهم هكذا وأنا نجعلهم في منزلة البهائم يعلمون لنا دون أن ندلهم على الحق فهم لهم حق علينا واجب أن ندعوهم للإسلام ونبين لهم الحق ونرغبهم فيه حتى يسلموا أما أن يكون عندنا هذا العدد الهائل من النصارى والبوذيين وغيرهم ثم لا نجد من يسلم منهم إلا واحدا بعد واحد بعد عدة أيام فهو دليل على ضعف الدعوة عندنا وأننا لم نحاول أن ندعوهم للإسلام وهذا لاشك تقصير منا وإلا فإن العامل جاء(4/475)
يتكفف الناس في الواقع يريد لقمة العيش فليش عنده دافع الاستكبار فلو أننا دعوناه باللين ورغبناه لحصلنا خيرا كثيرا واهتدى على أيدينا أناس كثيرون ولكننا في غفلة عن هذه الدعوة إلى الحق والذي ينبغي لنا أن ننتهز الفرص في هذه الأمور والله الموفق(4/476)
باب ما يدعى به للمريض
901 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه أو كانت به قرحة أو جرح قال النبي صلى الله عليه وسلم بأصبعه هكذا ووضع سفيان بن عيينة الراوي سبابته بالأرض ثم رفعها وقال بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى به سقيمنا بإذن ربنا متفق عليه
902 - وعنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعود بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول اللهم رب الناس أذهب البأس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما متفق عليه
[الشَّرْحُ]
لما ذكر المؤلف النووي رحمه الله في كتاب رياض الصالحين ما يدل على استحباب عيادة المريض ذكر ما يدعى له به وما يفعل به فذكر حديثين عن عائشة رضي الله عنها.
الأول: أنه إذا كان في الإنسان المريض جرح أو قرحة أو نحو ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يبل إصبعه ثم يمسح بها الأرض فيأخذ من(4/477)
التراب بهذا البلل ثم يمسح به الجرح ويقول: تربة أرضنا بريقه بعضنا يشفى به مريضنا بإذن ربنا وهذا يدل على أنه ينبغي للإنسان أن يداوي الجرح بمثل ذلك ووجه ذلك أن التراب طهور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم جعلت تربتها لنا طهورا وريق المؤمن طاهر أيضا فيجتمع الطهوران مع قوة التوكل على الله عز وجل والثقة به فيشفى بها المريض ولكن لابد من أمرين 1 - قوة اليقين في هذا الداعي بأن الله سبحانه وتعالى سوف يشفي هذا المريض بهذه الرقية 2 - قبول المريض لهذا وإيمانه بأنه سينفع أما إذا كانت المسألة على وجه التجربة فإن ذلك لا ينفعه لأنه لابد من اليقين أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم حق ولابد أن يكون المحل قابلا وهو المريض لابد أن يكون مؤمنا بفائدة ذلك وإلا فلا فائدة لأن الذين في قلوبهم مرض لا تزيدهم الآيات إلا رجسا إلى رجسهم والعياذ بالله أما الحديث الثاني فإنه كان إذا عاد بعض أهله يقول اللهم رب الناس أذهب البأس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا(4/478)
شفاؤك شفاء لا يغادر سقما ويمسح بيده اليمنى أي يمسح المريض ويقرأ عليه هذا الدعاء اللهم رب الناس فيتوسل إلى الله عز وجل بربوبيته العامة فهو الرب سبحانه وتعالى الخالق المالك المدبر لجميع الأمور فأنت أيها المريض تقول خلقني الله عز وجل ولا بأس بي ثم قدر علي المرض والذي قدر علي المريض بعد الصحة قادر على أن يشفيني أذهب البأس يعني المرض الذي حل بهذا المريض.
اشف أنت الشافي والشفاء إزالة المرض وبرء المريض فيقال اشف ولا يقال أشف لأن الثانية - أشف - بمعنى أهلك وأما الأولى اشف فمعناها البرء من السقم ولهذا يقال اللهم اشف فلانا ولا تشفه فالكلمتان عند العامة يظن أن معناهما واحد ولكن بينهما هذا الفرق العظيم اشفه أي أبرئه من المرض أما أشفه أهلكه الشافي هو الله عز وجل لأنه الذي يشفي المرض وما يصنع من الأدوية أو يقرأ من الرقى فما هو إلا سبب قد ينفع وقد لا ينفع فالله هو المسبب عز وجل ولهذا ربما يمرض رجلان بمرض واحد ويداويان بدواء واحد وعلى(4/479)
وصفة واحدة فيموت هذا ويسلم ذاك لأن الأمر كله بيده الله عز وجل فهو الشافعي وما يصنع من أدوية أو يقال من رقى فهو سبب ونحن مأمورون بذلك السبب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم تداووا ولا تتداووا بالحرام وقال ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء وقوله لا شفاء إلا شفاؤك صدق & رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا شفاء إلا شفاء الله فشفاء الله لا شفاء غيره وشفاء المخلوقين ليس إلا سببا والشافي هو الله فليس الطبيب وليس الدواء هما اللذان يشفيان بل الطبيب سبب والدواء سبب وإنما الشافي هو الله.
وقوله شفاء لا يغادر سقما يعني شفاء كاملا لا يبقي سقما أي لا يبقي مرضا.
فينبغي للإنسان إذا عاد المريض أن يمسحه بيده اليمنى ويقول هذا الدعاء والله الموفق(4/480)
904 - وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اللهم اشف سعدا اللهم اشف سعدا اللهم اشف سعدا رواه مسلم
905 - وعن أبي عبد الله عثمان بن العاص رضي الله عنه أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا يجده في جسده فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ضع يدك على الذي يألم من جسدك وقل بسم الله ثلاثا وقل سبع مرات أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر رواه مسلم.
906 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من عاد مريضا لم يحضره أجله فقال عنده سبع مرات أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن وقال الحاكم حديث صحيح على شرط البخاري.(4/481)
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث مما يقال عند المريض إذا عاده الإنسان ذكرها النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين.
حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم عاده في مرضه فقال اللهم اشف سعدا اللهم اشف سعدا اللهم اشف سعدا ثلاث مرات ففي هذا الحديث دليل على أن من السنة أن يعود الإنسان المريض المسلم وفيه أيضا حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ومعاملته لأصحابه فإنه كان صلى الله عليه وسلم يعود مرضاهم ويدعو لهم وفيه أنه يستحب أن يدعى بهذا الدعاء اللهم اشف فلانا وتسميه ثلاث مرات فإن هذا مما يكون سببا في شفاء المريض وفيه أيضا دليل على أن الإنسان يكرر الدعاء لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دعا يدعو ثلاثا وإذا سلم ولم يفهم عنه سلم ثلاثا وتكرار الدعاء ثلاثا من الأمور المشروعة كما كان صلى الله عليه وسلم في الصلاة يقول رب اغفر لي رب اغفر لي رب اغفر لي يكرر هكذا أيضا الدعاء للمريض ثم ذكر المؤلف حديث عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله(4/482)
عثمان أنه يشكو من مرض في جسده فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا الدعاء بسم الله ثلاثا ويضع يده على موضع الألم ثم يقول أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر يقولها سبع مرات فهذا من أسباب الشفاء أيضا فينبغي للإنسان إذا أحس بألم أن يضع يده على هذا الألم ويقول بسم الله ثلاثا أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر يقولها سبع مرات إذا قاله موقنا بذلك مؤمنا به وأنه سوف يستفيد من هذا فإنه يسكن الألم بإذن الله عز وجل وهذا أبلغ من الدواء الحسي كالأقراص والشراب والحقن لأنك تستعيذ بمن بيده ملكوت السماوات والأرض الذي أنزل هذا المرض هو الذي يجيرك منه كذلك أيضا حديث ابن عباس أن الإنسان إذا زار مريضا لم يحضر أجله أي ليس الذي فيه مرض الموت فقال أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك سبع مرات إلا شفاه الله من هذا المرض هذا إذا لم يحضر الأجل أما إذا حضر الأجل فلا ينفع الدواء ولا القراءة لأن الله تعالى قال ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون والله الموفق(4/483)
907 - وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده وكان إذا دخل على من يعوده قال لا بأس طهور إن شاء الله رواه البخاري
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث الذي ذكره النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب ما يدعى به للمريض.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده وكان إذا دخل على مريض يعوده قال لا بأس طهور إن شاء الله.
لا بأس يعني لا شدة عليك ولا أذى طهور يعني هذا طهور إن شاء الله وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن شاء الله لأن هذه جملة خبرية وليست جملة دعائية لأن الدعاء ينبغي للإنسان أن يجزم به ولا يقل إن شئت ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول الرجل اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت لا تقل هذا لأن الله لا مكره له إن شاء غفر لك وإن شاء لم يغفر ولم يرحم فلا يقال إن شئت إلا لمن له مكره أو لمن يستعظم العطاء(4/484)
فإذا سألت الله فلا تقل إن شئت.
أما قول إن شاء الله في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا بأس طهور إن شاء الله فهذا لأنه خبر وتفاؤل فيقول لا بأس كأنه ينفي أن يكون به بأس ثم يقول إن شاء الله لأن الأمر كله بمشيئة الله عز وجل فيؤخذ من هذا الحديث أنه ينبغي لمن عاد المريض إذا دخل عليه أن يقول لا بأس طهور عن شاء الله
908 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد اشتكيت قال نعم قال بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله اشتكيت يعني هل أنت مريض قال نعم فقال بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد(4/485)
الله يشفيك بسم الله أرقيك هذا دعاء من جبريل أشرف الرسل للنبي صلى الله عليه وسلم أشرف الرسل لكن جبريل أشرف الرسل الملكيين وأما محمد صلى الله عليه وسلم فأشرف الرسل البشريين يقول له اشتكيت قال نعم وفي هذا دليل على أنه لا بأس أن يقول المريض للناس إني مريض إذا سألوه وأن هذا ليس من باب الشكوى، الشكوى أن تشتكي الخالق للمخلوق تقول أنا أمرضني الله بكذا وكذا تشكو الرب للخلق هذا لا يجوز ولهذا قال يعقوب إنما أشكو بثي وحزني إلى الله لكن إذا أخبر المريض بمرضه على سبيل الإخبار لا الشكوى فلا بأس ولهذا بعض العامة يقول إخبار لا شكوى وهذا طيب.
وفيه أيضا دليل على أنه ينبغي أن نقرأ على المريض بهذه الرقية بسم الله أرقيك يعني أقرأ عليك من كل شيء يؤذيك من مرض حزن هم أو غم ...
إلخ من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك من شر كل نفس من النفوس البشرية أو نفوس الجن أو غير ذلك أو عين حاسد أي ما يسمونه الناس بالعين وذلك أن الحاسد والعياذ بالله الذي يكره أن ينعم على عباده بنعمه نفسه خبيثة شريرة وهذه النفس الخبيثة الشريرة قد ينطلق منها ما(4/486)
يصيب المحسود ولهذا قال تعالى {ومن شر حاسد إذا حسد} ويكون المحسود مهموما بسبب هذه العين ولهذا قال أو عين حاسد الله يشفيك أي يبرئه ويزيل سقمه بسم الله أرقيك فبدأ بالبسملة في أول الدعاء وفي آخره فإذا دعا الإنسان بما جاء في السنة فهذا خير لأن كل ما جاء في السنة فإن مراعاته أفضل وإذا لم يعرف هذا الدعاء فادع بالمناسب شفاك الله عافاك الله أسأل الله لك الشفاء أسال الله لك العافية وما أشبه ذلك.
وفي هذا الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كغيره من البشر يصيبه المرض وفيه أيضا أن القراءة على المريض لا تنافي كمال التوكل بخلاف الذي يطلب من الناس أن يقرءوا عليه ففيه شيء من نقص التوكل لأنه سأل الخلق واعتمد على سؤالهم لكن إذا جاء إنسان يقرأ عليه ولم تمنعه فإن ذلك لا شيء فيه ولا يعد نقصا في التوكل ولهذا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على غيره وقرئ عليه أيضا فذلك لا ينافي كمال التوكل إذا كان بغير سؤال.
والله الموفق.(4/487)
909 - وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من قال لا إله إلا الله والله أكبر صدقه ربه فقال لا إله إلا أنا وأنا أكبر وإذا قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له قال يقول لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي وإذا قال لا إله إلا الله له الملك وله الحمد قال لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد وإذا قال لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله قال لا إله إلا أنا ولا حول ولا قوة إلا بي & وكان يقول من قالها في مرضه ثم مات لم تطعمه النار رواه الترمذي وقال حديث حسن
[الشَّرْحُ]
هذا آخر حديث نقله النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب ما يدعى به للمريض وقد سبقت الأحاديث فيما يدعو به العائد للمريض أما هذا فهو يدعو به المريض نفسه إذا قال هذا الذي ذكره أبو هريرة وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الله سبحانه وتعالى يصدق العبد إذا قال الله أكبر لا إله إلا الله قال الله إنه لا إله إلا أنا وأنا أكبر وإذا قال الله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله كذلك يصدقه الله فمن قال هذا لا إله(4/488)
إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم مات مع بقية الذكر فإنه لا تطعمه النار أي يكون ذلك من أسباب تحريم الإنسان على النار فينبغي للإنسان أن يحفظ هذا الذكر وأنا يكثر منه في حال مرضه حتى يختم له بالخير إن شاء الله تعالى والله الموفق(4/489)
باب استحباب سؤال أهل المريض عن حاله
910 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه فقال الناس يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أصبح بحمد الله بارئا رواه البخاري
[الشَّرْحُ]
بعد ما ذكر المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين كثيرا من آداب عيادة المريض يتحدث عن بيان سؤال أهل المريض عن حاله وأن & ذلك من الأمور التي جاءت بها السنة حيث ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه وكان علي بن أبي طالب صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه وأفضل أهل البيت فهو الخليفة الرابع في هذه الأمة ولما خلفه النبي صلى الله عليه وسلم على أهله في غزوة تبوك ورأى أنه تأثر من ذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم أما(4/490)
ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى لأن موسى خلف هارون على أهله قال اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين قال له النبي صلى الله عليه وسلم أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي خرج من عند الرسول صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندما مرض يعدل بين نسائه التسع إلا سودة بنت زمعة فإنها وهبت يومها لعائشة فلما اشتد به المرض صار يقول أين أنا غدا أين أنا غدا يريد يوم عائشة فأذن له رضي الله عنهن أن يمرض في بيت عائشة وظل عندها رضي الله عنها حتى توفي فسئل علي رضي الله عنه كيف أصبح النبي صلى الله عليه وسلم قال أصبح بحمد الله بارئا ففيه دليل على أنه إذا لم يمكن الوصول إلي المريض فإنه يسأل عنه من يراه من(4/491)
أقاربه أو غيرهم ليطمئن الإنسان وفي وقتنا الحالي حصل ولله الحمد الاتصال بالهاتف فإن الإنسان إذا لم يتمكن من الذهاب إلى المريض بنفسه فهذا الهاتف يدخل على البيوت بدون استئذان لهذا نقول إذا لم تتمكن من عيادة المريض بنفسك فإنك تتصل بالهاتف وتسأل عن حاله ويكتب لك بذلك الأجر إن شاء الله تعالى والله الموفق(4/492)
باب ما يقوله من أيس من حياته
911 - عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو مستند إلي يقول اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى متفق عليه.
وعنها قالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالموت عنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول اللهم أعني على غمرات الموت وسكرات الموت رواه الترمذي
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب ما يقوله من أيس من حياته.
اليأس من الحياة لا يعلم إلا إذا حضر الموت أما قبل ذلك فإنه مهما اشتد المرض فإن الإنسان لا ييأس وكم من إنسان اشتد به المرض حتى جمع أهله ماء تغسيله وحنوطه وكفنه ثم شفاه الله(4/493)
وعافاه وكم من إنسان أشرف على الموت في أرض مفازة ليس عنده ماء ولا طعام فأنجاه الله عز وجل ومن ذلك ما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم براحلته حين أضلها يعني ضيعها وعليها طعامه وشرابه وطلبها فلم يجدها، فاضطجع تحت شجرة ينتظر الموت أيس منها وما بقي عليه إلا أن يموت فبينما هو كذلك إذا بخطام ناقته متعلقا بالشجرة رد الله عليه ضالته حتى جاءت هذه الشجرة ترعاها فارتطم خطامها بها فأخذها الرجل وقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك يريد أن يقول أنت ربي وأنا عبدك لكنه من شدة الفرح أخطأ فهذا الرجل أيس من حياته باعتبار صاحب الحال لأنه فقد طعامه وشرابه لكن اليأس الحقيقي هو ما إذا حضر الإنسان الموت وصار في النزع فحينئذ لا يمكن أن يحيى قال الله تعالى فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون بلغت يعني الروح الحلقوم يعني الحلق وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون الملائكة أقرب إلى الإنسان من حلقومه عند احتضاره {فلولا إن كنتم(4/494)
غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين} من يستطيع هل أحد يمكن أن يرد روحه بعد أن بلغت الحلقوم أبدا أبداً إذا ييأس الإنسان من حياته إذا عاين الموت فماذا يقول تقول عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى هكذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عند موته وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر! من هم الرفيق الأعلى؟ هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون وحسن أولئك رفيقا هكذا كان الرسول يقول عند موته وكان عنده إناء فيه ماء وقد أتي من شدة الموت وسكراته ما لم يؤت أحد لأنه صلى الله عليه وسلم يمرض مرض رجلين شدد عليه المرض شدد عليه النزع لماذا من أجل أن ينال أعلى درجات الصبر لأن الصبر يحتاج إلى شيء يصبر عليه فكأن الله قد اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يكون مرضه شديدا ونزعه شديدا حتى ينال أعلى درجات الصابرين صلى الله عليه وسلم.
فكان صلى الله عليه وسلم يضع يده في الإناء الذي فيه الماء ويمسح بذلك وجهه ويقول(4/495)
اللهم أعني على سكرات الموت أو قال على سكرات الموت أي أعني عليها حتى أتحمل وأصبر وأتروى ولا يزيغ عقلي وحتى يختم لي بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لأن المقام مقام عظيم مقام هول وشده إذا لم يعنك الله عز وجل ويصبرك فأنت على خطر ولهذا كان يقول اللهم أعني على غمرات الموت وفي رواية أخرى يقول لا إله إلا الله إن للموت سكرات وصدق النبي صلى الله عليه وسلم {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد} نسأل الله أن يعيننا وإياكم على غمرات الموت وأن يحسن لنا ولكم الخاتمة ويتوفانا على الإيمان والتوحيد وأن يتوفانا وهو راض عنا إنه على كل شيء قدير(4/496)
باب استحباب وصية أهل المريض ومن يخدمه بالإحسان إليه واحتماله والصبر على ما يشق من أمره وكذا بالوصية بمن قرب سبب موته بحد أو قصاص ونحوهما
913 - عن عمران بن الحصين رضي الله عنهما أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا فقالت يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليها فقال أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها ففعل فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فشدت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب استحباب وصية أهل المريض بالصبر وتحمله وغير ذلك يعني أنه ينبغي للإنسان أن يحسن إلى المريض ويتحمله ويصبر على ما يجد منه من كلام قاس لأن المريض نفسه ضيقة والدينا عليه قد ضاقت فربما يحصل منه كلام أو تضجر أو ما أشبه ذلك فليصبر الإنسان على هذا وليحتسب الأجر من الله سبحانه وتعالى فإنه يثاب على(4/497)
إحسانه لهذا المريض ويثاب على تحمله المشقة منه والأذى ولاسيما إذا كان هذا الذي يتولاه الإنسان قد وجد سبب موته أو سبب قتله كما ذكر في حديث عمران بن الحصين رضي الله عنه أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا حامل فقالت يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي تريد من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقيم عليها الحد وهو الرجم لأنها محصنة فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وليها وقال له أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن وضعت الحمل ثم أمرها أن تنتظر حتى تفطم الصبي فلما فطمته جاءت فأقام عليها الحد وأمر أن تشد عليها ثيابها أي تحزم وتربط لئلا تضطرب عند رجمها فتبدو سوءتها أي عورتها ثم أمر بها فرجمت وصلى عليها.
ففي هذا دليل على أنه يوصي أهل الميت ومن يتولاه بالإحسان إليه والرفق به وغير ما ذكر مما يناسب حاله كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفي هذا الحديث دليل على أنه لا يشترط في الإقرار بالزنا أن يتكرر أربع مرات وأن الزاني إذا أقر ولو مرة واحدة وهو عاقل لا اشتباه في حاله فإنه يؤخذ بإقراره ويقام عليه الحد وفيه أيضا دليل على أنه يشترط في إقامة الحد ألا يتعدى الضرر إلى غير المحدود لأنها لو(4/498)
رجمت لمات الذي في بطنها وهو ليس منه جناية ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تنتظر حتى تضع مولودها وتفطمه وفي هذا دليل على أن المرأة لا يحفر لها في الرجم ولكن تربط عليها ثيابها تم تلقى عليها الحجارة حجارة لا صغيرة ولا كبيرة حتى تموت وإنما كان الحد هكذا لأن الشهوة المحرمة شملت جميع البدن فناسب أن يذوق جميع البدن ألم العقوبة وهذا من حكمة الله عز وجل.
وفي هذا دليل على أن الحدود إذا أقيمت فإن صاحبها يبرأ منها ويخلص منها ويطهر منها ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها فصلى عليها وصلى الناس أيضا(4/499)
باب جواز قول المريض أنا وجع أو شديد الوجع أو موعوك ونحو ذلك وبيان أنه لا كراهة في ذلك إذا لم يكن على سبيل التسخط وإظهار الجزع
914 - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فمسسته فقلت إنك لتوعك وعكا شديدا فقال أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم متفق عليه
915 - وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم عودني من وجع اشتد بي فقلت بلغ بي ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنتي وذكر الحديث متفق عليه
916 - وعن القاسم بن محمد قال قالت عائشة رضي الله عنها وارأساه فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أنا وارأساه وذكر الحديث رواه البخاري(4/500)
[الشَّرْحُ]
قال الحافظ النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين فيما يتعلق بالمريض أنه يجوز أن يخبر عما فيه من المرض وشدته بشرط أن يكون ذلك إخبارا لا شكوى أي أنه يقصد بهذا الإخبار وليست الشكوى والتسخط من قدر الله وقضائه ثم استدل بحديث ابن مسعود وحديث سعد بن أبي وقاص وحديث عائشة رضي الله عنهم كلها أحاديث تدل على أنه لا بأس أن يخبر الرجل المريض بأنه مريض أو شديد الوجع أو ما أشبه ذلك فحديث ابن عباس يذكر أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك أي فيه شدة فمد يده فقال له إنك لتوعك يا رسول الله قال أجل إنني لأوعك كما يوعك الرجلان منكم أي يشدد عليه صلى الله عليه وسلم في المرض وذلك من أجل أن ينال أعلى درجات الصبر صلى الله عليه وسلم فإن أنواع الصبر ثانية في حقه على الوجه الأعلى فقد صبر على أمر الله وصبر عن معاصي الله وصبر على أقدار الله المؤلمة صلى الله عليه وسلم صبر على أمر الله حين بلغ رسالة ربه مع شدة الإيذاء له حتى كان يؤذى في وسط البيت الحرام وهو صابر محتسب حتى إنه خرج إلى أهل الطائف ودعاهم إلى الله عز وجل ولكنهم استهزءوا به وسخروا منه وجعلوا يرمونه بالحجارة(4/501)
حتى أدموا عقبه فلم يفق إلا وهو في قرن الثعالب ثم جاءه ملك الجبال يستأذنه أن يطبق علهم الأخشبين فقال لا إني أستأني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا فهذا صبر على أمر الله وصبر صلى الله عليه وسلم عنة معصية الله فكان أخشى الناس لله وأتقاهم له وصبر على أقدار الله فكم أوذي في الجهاد في سبيل الله وفي غير ذلك وكم حصل له من أمراض وهو صابر محتسب لينال بذلك درجة الصابرين فلنا فيه أسوة فالإنسان يجب عليه أن يصبر على أقدار الله المؤلمة كما صبر الرسول صلى الله عليه وسلم يصبر ويحتسب ويعلم أنه ما من شيء يصيبه إلا كفر الله به عنه خطيئة حتى الشوكة يشاكها ثم إذا احتسب الأجر عند الله ونوى بذلك أن يكون هذا الصبر لنيل رفعة درجات له حصل له هذا فينال بالمصائب مرتبتين عظمتين: 1 - مرتبة الصابرين على قضاء الله وقدره.(4/502)
2 - ينال من رفعة الدرجات مع الاحتساب ما يناله من الثواب.
وأما حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فهو أنه مرض في مكة وكان من المهاجرين وكانوا يكرهون أن يموت الإنسان في بلده الذي هاجر منه لأنه ترك البلد لله فيكره أن يموت فيها وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم وحسن رعايته وخلقه أنه يعود المرضي من أصحابه فعاده فقال له سعد رضي الله عنه يا رسول الله إني ذو وجع وجع شديد وإني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي أي لا يرثه من الذرية إلا بنت وإلا فله عصبة أفأتصدق بثلثي مالي قال لا قال بالنصف قال لا قال بالثلث قال الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس والغالب من الناس اليوم وقبل اليوم أنهم يوصون بالثلث مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الثلث كثير وهذا يدل على أنه لا يجب أن يوصى الإنسان بالثلث ولكن أخذ الناس ذلك عادة وأصبحوا يوصون بالثلث ولهذا قال حبر هذه الأمة الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يفقهه الله في(4/503)
الدين ويعلمه التأويل لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع س.
يعني لكان أحسن لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال الثلث، والثلث كثير والناس الآن يقولون اكتب ثلثا وثلثين وما أشبه ذلك وهذا غير محبوب للنبي صلى الله عليه وسلم غض من الثلث إلى الربع وغض من الربع إلى الخمس وهو أفضل لأن أبا بكر رضي الله عنه أفقه هذه الأمة والخليفة الأول بعد نبيها أوصى بالخمس وقال رضيت بما رضي الله به لأن الله يقول واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول مع هذا نجد الذين يوصون بالثلث لا يوصون على الوجه المشروع بل يوصون بأشياء مفضولة وغيرها أفضل منها يوصى وأحيانا يحيف في الوصية حيث يوصى للأولاد ويدع البنات أو يوصي بأشياء تؤدي بالنزاع بين الموصى لهم في المستقبل ولو أن الناس إذا أرادوا أن يوصوا أوصوا بما هو نفع عام كبناء المساجد والمدارس وشراء الكتب النافعة وما أشبه ذلك مما ينفذ في حينه ويجري أجره ويسلم الورثة أو الموصى لهم من التنازع لكان خيرا(4/504)
والذي يجب على أهل العلم الذين يكتبون الوصايا أن يفقهوا أولا في دين الله وأن يحملوا الناس على ما هو أفضل وأولى لأن العامي الذي جاء يطلب منك أن تكتب ويقول لك اكتب وصيتي قد ائتمنك فكونه يكون كاتب أمة أي لا يهمه إلا ما يرضي الناس فقط فهذا خطأ احملوا الناس على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم حتى ولو كان على خلاف عاداتهم فهذا العامي المسكين ما أراد إلا الخير ولا يدري فعليك أن تدله وتخبره بالخير الذي ينفعه في قبره بعد موته أما الحديث الثالث فهو عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت يا رسول الله وارأساه تشكو من رأسها فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أنا(4/505)
وارأساه فهذا اجتمع فيه سنتان إقرارية وقولية أما الإقرارية فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عائشة عندما قالت وارأساه وأما القولية فهو نفسه قال وارأساه وعليه فإن الإنسان إذا قال وا رأساه وا بطناه..
أو ما أشبه ذلك فلا حرج بشرط ألا يقصد بذلك أن يشكو الخالق إلى المخلوق بل يقصد التوجع مما قضاه الله عليه فإذا كان مجرد خبر فهذا لا بأس به ولاسيما إذا كان يذكر هذا عند من يريد أن يعالجه لأنه خبر مجرد ليس المراد به الاعتراض والتسخط على قضاء الله وقدره نسأل الله لنا ولكم الشفاء من كل داء وأن يجعل هذا قوة لنا على طاعته إنه على كل شيء قدير(4/506)
باب تلقين المختصر لا إله إلا الله
917 - عن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة رواه أبو داود والحاكم وقال صحيح الإسناد
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب تلقين المحتضر قوله لا إله إلا الله.
المحتضر هو الذي حضرت الملائكة لقبض روحه والله سبحانه وتعالى قد وكل بالإنسان ملائكة يحفظونه في حال حياته وبعد مماته قال الله تعالى له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله وقال الله تبارك وتعالى {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} والإنسان إذا حضر أجله نزل إليه ملائكة يقبضون روحه من يد ملك الموت(4/507)
فإن ملك الموت يتولى قبضها من البدن والملائكة معهم كفن وحنوط من الجنة إذا كان من المؤمنين جعلنا الله وإياكم منهم وأما إذا كان من الكافرين فملائكة العذاب معهم كفن من النار وحنوط من النار نعوذ بالله من ذلك فإذا احتضر الإنسان وعلمنا أنه في النزع وأنه ميت فإننا نلقنه لا إله إلا الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لقنوا موتاكم لا إله إلا الله قال العلماء فيلقنه برفق لا يأمره لا يقل قل لا إله إلا الله لأنه ربما إذا قال له قل لا إله إلا الله وهو في هذه الحال قد ضاق صدره وقد ضاقت عليه الدنيا فيقول لا لأنك ما تتصور ضيق الصدر في هذه الحالة إلا إذا كنت في هذه الحالة نسأل الله أن يشرح صدورنا وإياكم عند لقائه فتذكر الله عنده تقول لا إله إلا الله ترفع صوتك بهذا ليسمع فربما يمن الله عليه فيستحضر أنك تلقنه فيقول لا إله إلا الله فإذا قال لا إله إلا الله وكانت آخر كلامه من الدنيا دخل الجنة كما في حديث معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه قال من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة قال أهل العلم فإذا قال لا إله إلا الله فليسكت ولا(4/508)
يقل شيئا فإن عاد المحتضر نفسه وتحدث في شيء مثل اسقوني أعطوني ماء أو أي شيء آخر فليعد التلقين ولكن إذا كان الإنسان والعياذ بالله كافرا مرتدا فهذا ربما نقول له بالأمر: قل لا إله إلا الله فإن من الله عليه وقالها فبها ونعمت وإن لم يقل فهو كافر لذلك لما حضرت أبا طالب الوفاة وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم وأعمام النبي صلى الله عليه وسلم الذين أدركوا الرسالة أربعة اثنان أسلما حمزة والعباس أحدهما أفضل من الآخر حمزة أفضل من العباس واثنان ماتا على الكفر أحدهما أقبح كفرا من الآخر أبو طالب والد علي وأبو لهب والعياذ بالله من أشد الناس إيذاء للرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا أنزل الله في ذمه سورة كاملة يقرأها الناس في الصلوات في الفرائض والنوافل {تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد} ولكن أبا طالب رغم كفره كان به حب على الرسول صلى الله عليه وسلم وحنان وشفقة ومدافعة وثناء عليه إلا أنه والعياذ بالله حيل بينه وبين الإسلام فعندما حضرته الوفاة وكان النبي صلى الله عليه وسلم عنده وعنده رجلان من قريش(4/509)
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ولكن كان هذان الرجلان جليسي سوء قالا أترغب عن ملة عبد المطلب وكأنهما والله أعلم رأياه هم أن يقول لا إله إلا الله فقالا له أترغب عن ملة عبد المطلب فلما قالا ذلك أخذته العزة بالإثم فقال هو على ملة عبد المطلب وكان آخر كلمة منه كلمة الشرك والعياذ بالله ثم مات يقول الرسول صلى الله عليه وسلم إنه شفع له عند الله فخفف عنه العذاب فكان في ضحضاح من النار قد غاص به وعليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه والعياذ بالله ودماغه أبعد شيء عن قدميه فإذا كان يغلي كالقدر فيه الماء تحته النار فما بالك بما هو أدنى من رأسه إلى قدميه لكان أشد قال النبي صلى الله عليه وسلم ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار والشاهد من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا عم قل لا إله إلا الله ولم يذكر الله عنده فقط بل قال قل لا إله إلا الله فهذا من أفضل وأجل ما يكون هدية للمرء(4/510)
إذا لقنه أخوه عند الموت قول لا إله إلا الله فهذه تساوي الدنيا كلها فإذا حضرت أحدا وهو يحتضر فاحرص على تلقينه لا إله إلا الله امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وإحسانا لهذا الشخص وربما يلقنك الله سبحانه وتعالى عند موتك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه ختم الله لنا ولكم بالشهادة(4/511)
باب ما يقوله بعد تغميض الميت
919 - عن أم سلمة رضي الله عنها قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال إن الروح إذا قبض تبعه البصر فضج ناس من أهله فقال لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ثم قال اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغامرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وافسح له في قبره ونور له فيه رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب ما يقال عند تغميض الميت.
يعني أن الإنسان إذا حضر الميت فإن الميت في الغالب يشخص بصره ينفتح باتساع يشاهد الروح إذا خرجت من البدن لأن الروح إذا خرجت من البدن لها جسم لكنه جسم لا يراه الناس لا يراه إلا الميت والملائكة فقط وتأخذها دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه(4/512)
يعود المرضى فدخل عليه وقد شق بصره يعني اتسع وانفتح فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه مات فقال إن الروح إذا قبض أتبعه البصر فضج ناس من أهله أي من أهل الميت عندما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا الكلام فعرفوا أن الرجل قد مات فضجوا كعادة الناس فقال صلى الله عليه وسلم لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون وكانوا في الجاهلية إذا حصل مثل هذا يدعون على أنفسهم بالويل والثبور والعياذ بالله يقولون يا ويلاه يا ثبوراه وما أشبه ذلك فقال لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ففي هذه الحالة ينبغي للإنسان أن يدعو لنفسه بالخير ويقول ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها بعد قوله أنا لله وإنا إليه راجعون لأن كل مصيبة تقول إنا لله وإنا إليه راجعون وفي مصيبة الموت اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها وكذلك غيرها وقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث فسمعته أم سلمة زوج أبي سلمة فلما مات زوجها وكان من أحب الناس إليها دعت بهذا الدعاء(4/513)
وقالت في نفسها من خير من أبي سلمة لأنها مؤمنة بهذا الكلام فلما انقضت عدتها خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فكان خيرا من أبي سلمة ولا شك المهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أغمض عيني أبي سلمة ثم قال اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين ونور له في قبره وافسح له فيه واخلفه في عقبه خمس كلمات تساوي الدنيا كلها: اللهم اغفر لأبي سلمة يعني اغفر له ذنوبه فلا تعاقبه عليها وسامحه واعف عنه ارفع درجته في المهديين في الجنة لأن أصحاب الجنة مهديون كلهم افسح له في قبره يعني وسع له فيه فإن القبر بالنسبة لمنازل الدنيا ضيق بحسب الحس لكنه يفسح للمؤمن حتى يكون كمد البصر ويكون روضة من رياض الجنة.
نور له فيه والقبر مظلم بحسب الحس لا فيه نور النهار ولا نور السراج وغيره.
اخلفه في عقبه يعني كن خليفة له في ذريته فهذه الدعوات الخمس منها شيء علمناه ومنها شيء رجوناه الذي(4/514)
علمناه أن الله سبحانه وتعالى خلفه في عقبه لأن زوجته تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وأولاده صاروا ربائب للنبي صلى الله عليه وسلم وتربوا في بيته وأما الأربعة الباقية فإننا نرجو الله أن يكون قد قبل دعوة نبيه في هذا الرجل الصالح.
وفي هذا الحديث دليل على مسائل: 1 - أنه ينبغي للإنسان إذا أصيب بمصيبة ألا يدعو لنفسه إلا بالخير.
2 - أنه ينبغي لمن حضر الميت إذا خرجت روحه وانفتح بصره أن يغمضه مادام حارا لأنه إذا برد وعيناه شاخصتان بقيتا شاخصتين قال العلماء وينبغي أيضا أن يلين مفاصلة قبل أن تبرد وتشكل وذلك بأن يرد ذراعه إلى عضده وعضده إلى صدره ثم يمد يده ويرد الساق إلى الفخذ والفخذ إلى البطن ثم يمدها عدة مرات حتى تلين ليسهل تغسيله وتكفينه.
3 - الدلالة على أن الروح شيء يرى لأنها جسم ولكنه ليس كأجسامنا هذا فأجسامنا غليظة لكن الروح جسم ليس بالغليظ بل هو جسم لطيف يجري من ابن آدم مجرى الدم وليس مخلوقا من طين بل من(4/515)
مادة الله أعلم بها ولهذا قال الله تعالى ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.
4 - ينبغي لمن حضر الميت وأغمضه أن يدعو له وإذا دعا بهذه الدعوات العظيمة التي دعا بها الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي سلمة كان خيرا وإن لم يعرفها دعا بما شاء 5 - الملائكة يؤمنون على الدعاء في هذه الحالة فينبغي لأهل الميت أن يدعوا بالخير(4/516)
باب ما يقال عند الميت وما يقوله من مات له ميت
920 - عن أم سلمة رضي الله عنها قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال إن الروح إذا قبض تبعه البصر فضج ناس من أهله فقال لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ثم قال اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وافسح له في قبره ونور له فيه رواه مسلم
921 - وعنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا أجره الله تعالى في مصيبته(4/517)
وأخلف له خيرا منها قالت فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخلف الله لي خيرا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رواه مسلم
922 - وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته قبضتم ولد عبدي فيقولون نعم فيقول قبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول فماذا قال عبدي فيقولون حمدك واسترجع فيقول الله تعالى ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد رواه الترمذي وقال حديث حسن.
923 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة رواه البخاري
924 - وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال أرسلت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم إليه تدعوه وتخبره أن صبيا لها أو ابنا في الموت فقال للرسول ارجع إليها فأخبرها أن لله تعالى ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب وذكر تمام(4/518)
الحديث متفق عليه
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث ذكرها النووي رحمه الله في رياض الصالحين فيما يقال عند الموت يعني إذا مات للإنسان أحد فماذا يقول وقد سبقت لنا الإشارة إلى حديثين صدر بهما المؤلف هذا الباب وهما لأم سلمة رضي الله عنها حين مات زوجها فقالت إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها فأخلف الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم.
أما الأحاديث الثلاثة الباقية فهي فيمن مات له ولد فحمد الله واسترجع وصبر فإن الله سبحانه وتعالى يعوضه بذلك الجنة كما في الحديث إن الله تعالى إذا قبضت الملائكة نفس ولده فإن الله يقول للملائكة قبضتم ولد عبدي فيقولون نعم وهو يعلم عز وجل لكن يقول هذا ليظهر فضل هذا العبد وأنه حمد الله واسترجع عند هذه المصيبة العظيمة فيقول قبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول ماذا قال قالوا حمدك واسترجع يعني قال الحمد لله إنا لله وإنا إليه(4/519)
راجعون والحمد عند المصائب مما يدل على صبر الإنسان على قضائه وقدره وأنه صبر فأثنى على الله بصبره على هذه المصيبة وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابه ما يكره قال الحمد لله على كل حال وإذا أصابه ما يسره قال الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات فإذا حصل لك ما يسرك فقل الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وإذا حصل العكس فقال الحمد لله على كل حال وكذلك أخبر سبحانه وتعالى فيما رواه عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما من إنسان يقبض الله له ولده فيصبر ويحتسب إلا عوضه الله به الجنة وكذلك أيضا ما أخرجه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى ما لعبدي المؤمن جزاء إذا قبضت صفيه واحتسب إلا الجنة صفيه يعني من اصطفاه واختاره من ولد وزوجة أو غيرهما أما الحديث الأخير فهو في قصة لإحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم كان لها صبي في سياق الموت فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرسول الذي أرسلته إليه قل لها إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب(4/520)
فينبغي للإنسان في تعزية أخيه أن يقول له هذه الكلمات فهي أحسن ما يعزى به إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى اصبر واحتسب والله الموفق(4/521)
باب جواز البكاء على الميت بغير ندب ولا نياحة أما النياحة فحرام وسيأتي فيها باب في كتاب النهي إن شاء الله تعالى وأما البكاء فجاءت أحاديث كثيرة بالنهي عنه وأن الميت يعذب ببكاء أهله وهي متأولة ومحمولة على من أوصى به والنهي إنما هو عن البكاء الذي فيه ندب أو نياحة والدليل على جواز البكاء بغير ندب ولا نياحة أحاديث كثيرة منها(4/522)
927 - وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه إبراهيم رضي الله عنه وهو يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف وأنت يا رسول الله فقال يا ابن عوف إنها رحمة ثم أتبعها بأخرى فقال إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون رواه البخاري وروى مسلم بعضه.
والأحاديث في الباب كثيرة في الصحيح مشهورة والله أعلم
[الشَّرْحُ]
سبق لنا الكلام على الأحاديث الثلاثة الماضية التي ذكرها النووي رحمه الله في رياض الصالحين في باب جواز البكاء على(4/524)
الميت من غير ندب ولا نياحة ثم ذكر حديثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بكى حين رأى طفلين في النزع أما الأول فهو ابن ابنته رفع إليه وهو في سياق الموت فذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة بهذا الصبي لأنه يراه ينازعه الموت فرق له وبكى صلى الله عليه وسلم وهو أرحم الخلق بالخلق فقال له سعد بن عبادة ما هذا يا رسول الله يعني كيف تبكي فقال صلى الله عليه وسلم هذه رحمة يعني أني رحمت هذا الصبي الذي ينازع نفسه فرققت له وإنما يرحم الله من عبادة الرحماء كلما كان الإنسان بعباد الله أرحم كان أقرب من رحمة الله ولهذا ينبغي لك أن تعود نفسك على الرحمة والرقة للأطفال والحيوان وغير ذلك ممن هو أهل للرحمة حتى تكون أهلا لرحمة الله عز وجل إنما يرحم الله من عباده الرحماء وفي هذا دليل على جواز البكاء على الميت لأن النبي صلى الله عليه وسلم بكى وقال هذه رحمة وفيها دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يتعرض لرحمة الله عز وجل بكل وسيلة إن رحمت الله قريب من المحسنين وفي قوله صلى الله عليه وسلم إنما يرحم الله من عباده الرحماء إشارة إلى أن جزاء الله من جنس العمل فلما كان هذا الإنسان راحما لعباد الله كان الله تعالى راحما له لأن الله تعالى في حاجة العبد إذا كان العبد في حاجة أخيه من كان في حاجة(4/525)
أخيه كان الله في حاجته أما الحديث الثاني حديث أنس بن مالك رضي الله عنه فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليه ابنه إبراهيم رضي الله عنه وهذا الولد ليس من زوجته خديجة بل من مارية التي أهداها & له ملك القبط فسراها النبي صلى الله عليه وسلم أي وطئها بملك اليمين فأتت له بهذا الولد وبقى ستة عشر شهرا ومات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليه وهو يجود بنفسه أي ينازعه الموت وأشرف مال عند الإنسان نفسه وهذا المحتضر كأنما يسلمها للملائكة يجود بها فذرفت عيناه صلى الله عليه وسلم فقيل له ما هذا يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ثم قالها مرة أخرى العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون ثم توفي الولد وله ستة عشر شهرا فدل ذلك على الإنسان لا حرج عليه إذا بكى رحمة بالميت وحزنا على فراقه فإن الرسول هنا قال إنه محزون على فراق ابنه.
وفيه أيضا دليل على جواز إخبار الإنسان عن نفسه بأنه محزون من هذه(4/526)
المصيبة لأنه قال القلب يحزن وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون وفيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يموت له الولد ويتألم لذلك وأنه يلحقه ما يلحق البشر فكان له من الأولاد سبعة ثلاثة ذكور وأربع بنات وأشهر الذكور هو إبراهيم رضي الله عنه أما الإناث فأفضلهن فاطمة وهي مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزينب امرأة أبي العاص بن الربيع وأم كلثوم ورقية كانتا مع عثمان بن عفان لما ماتت إحداهما زوجه النبي صلى الله عليه وسلم الثانية ولم يزوج الرسول صلى الله عليه وسلم أحدا من صحابته ابنتين إلا عثمان فتميز عثمان رضي الله عنه بأن الرسول زوجه ابنتيه لكن بعد أن ماتت الأولى زوج الثانية.
أما أولاده فهم القاسم وعبد الله وإبراهيم لكن الذي اشتهر وبقي مدة هو إبراهيم وكل هؤلاء من خديجة رضي الله عنها إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية ولم يبق أحد من أولاده لا ذكورهم ولا إناثهم بعد موته إلا فاطمة فقد ماتوا جميعا في حياته وهذا من حكمة الله عز وجل فإنه لا أحد يستطيع أن يدفع الموت ولو كان أعظم الناس جاها عند الله حتى النبي صلى الله عليه وسلم(4/527)
باب الكف عما يرى من الميت من مكروه
928 - عن أبي رافع أسلم مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من غسل ميتا فكتم عليه غفر الله له أربعين مرة رواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب من ستر على الميت ما رآه من مكروه ثم ذكر حديث مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل الغاسل إذا ستر على الميت ما يرى من مكروه والذي يرى من الميت من المكروهات نوعان: النوع الأول ما يتعلق بحاله النوع الثاني ما يتعلق بجسده الأول لو رأى مثلا أن الميت تغير وجهه واسود وقبح فهذا والعياذ بالله دليل على سوء خاتمته نسأل الله العافية فلا يحل له أن يقول للناس إني رأيت هذا الرجل على هذه الصفة لأن هذا(4/528)
كشف لعيوبه والرجل قدم على ربه وسوف يجازيه بما يستحق من عدل أو فضل إن كان عمل خيرا فالله يجزيه الحسنة بعشرة أمثالها وإن كان غير ذلك وجزاء سيئة سيئة مثلها الثاني ما يتعلق بجسده كأن يرى بجسده عيبا كأن يرى برصا أو سوادا خلقيا أو غير ذلك مما يكره الإنسان أن يطلع عليه غيره فهذا أيضا لا يجوز له أن يكشفه للناس ويقول رأيت فيه كذا وكذا برصا في بطنه في ظهره وما أشبه ذلك ولهذا قال العلماء رحمهم الله يجب على الغاسل أن يستر ما رآه إن لم يكن حسنة أما إذا رأى خيرا بالميت واستنارة بوجهه أو رآه يتبسم فهذا خير وليخبر به الناس لأنه يجعل الناس يثنون عليه خيرا ولا بأس به ولا يعد هذا من الرياء أو ما أشبه ذلك فإن هذا يعد من عاجل بشرى المؤمن لأن المؤمن قد يكون له مبشرات ومن هذه مثلا أنه يرى بعد موته على حالة حسنة وكذلك يرى الرؤيا الحسنة لنفسه أو يراها له غيره كل هذه من المبشرات التي تبشر بالخير.
ولهذا قال العلماء رحمهم الله يكره لغير المعين في غسله أن يحضر غسله(4/529)
حتى ولو كان قريبا له لأنه ربما يرى ما يكره فيكون في ذلك إساءة إلى الميت والله الموفق(4/530)
باب الصلاة على الميت وتشييعه وحضور دفنه وكراهة اتباع النساء الجنائز
929 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان قيل وما القيراطان قال مثل الجبلين العظيمين متفق عليه
930 - وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا وكان معه حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط رواه البخاري
931 - وعن أم عطية رضي الله عنها قالت نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا متفق عليه ومعناه ولم يشدد في النهي كما يشدد في المحرمات(4/531)
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب تشييع الجنازة والصلاة على الميت وتشييعه وحضور دفنه يعني استحباب ذلك للرجال وكراهته للنساء.
الجنازة بالفتح اسم للميت والجنازة بالكسر اسم للنعش الذي عليه الميت ثم ذكر المؤلف حديث أبي هريرة الأول والثاني وحديث أم عطية وليعلم أن تشييع الجنائز من حقوق المسلمين على إخوانهم قال العلماء وإذا خرج مع الجنازة فينبغي أن يكون متخشعا متفكرا في مآله وأنه كما أنه الآن يتبع جنازة هذا الرجل فسوف يأتي اليوم الذي يتبع الناس فيه جنازته فكما حمل هذا فهو أيضا سيحمل
كل ابن أنثى ولو طالت سلامتك ...
يوما على آلة حدباء محمول
فيفكر في أمره وأنه مهما طالت به الدنيا فسوف يحمل كما حمل هذا ويشيع كما شيع هذا ولهذا قالوا لا ينبغي لتابع الجنازة أن يتحدث في شيء من أمور الدنيا بل يفكر في نفسه وإذا كان معه أحد يكلمه فليذكره بمآل كل حي حتى يكون تشييع(4/532)
الجنازة تشييعا وعبرة أي قضاء لحق المسلم وعبره للمشيع ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديثي أبي هريرة وفيهما أن من تبع الجنازة من بيتها حتى يصلى عليها ثم تدفن فله قيراطان فسئل عن القيراطين قال مثل الجبلين العظيمين وفي رواية لمسلم أصغرهما مثل جبل أحد ولما حدث ابن عمر بهذا الحديث قال لقد فرطنا في قراريط كثيرة يعني ما كنا نخرج مع الجنائز وفرطنا في هذه القراريط الكثيرة فصار يخرج بعد ذلك مع الجنائز رضي الله عنه فإذا شهدت الجنازة حتى يصلى عليها فلك قيراط وإن استمررت معها حتى تدفن فلك قيراطان لكن في رواية البخاري اشترط أن يكون ذلك إيمانا واحتسابا يعني إيمانا بالله وتصديقا بوعده واحتسابا لثوابه وليس قصدك المجاملة لأهل الميت لأن المجاملة لأهل الميت ثواب عاجل في الدنيا فقط وقد يؤجر الإنسان على مجاملة إخوانه لكن الأجر الذي هو قيراطان فهو لمن تبعها إيمانا واحتسابا وإيمانا بالله وثقة إما النساء فقالت أم عطية رضي الله عنها نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا لفظ نهينا إذا قاله صحابي أو قالته صحابية(4/533)
فالمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي له الأمر والنهي.
فإذا قال الصحابي أو الصحابية نهينا فالمعنى نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذ بعض العلماء من هذا الحديث أن اتباع النساء للجنائز مكروه لأنها قالت نهينا ولم يعزم علينا وقال بعض العلماء بل اتباع النساء للجنائز محرم لثبوت النهي وقول أم عطية ولم يعزم علينا.
هذا تفقه منها رضي الله عنها ولا ندري هل الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي نهاهن ولم يعزم عليهن أم هي التي فهمت أنه لم يعزم على النساء بترك اتباع الجنائز.
والصحيح أن اتباع المرأة للجنازة حرام وأنه لا يجوز للمرأة أن تتبع الجنازة لأنها إذا تبعتها فهي لا شك ضعيفة فربما تصيح وتولول وتضرب الخد وتنتف الشعر وتمزق الثوب لا تصبر المرأة وأيضا ربما يحصل اختلاط بين الرجال والنساء في تشييع الجنازة فيحصل بذلك فتنة وتزول الحكمة من اتباع الجنائز بحيث يكون الرجال أو الأراذل من الرجال يكون ليس لهم هم إلا ملاحقة هؤلاء النساء أو التمتع بالنظر إليهن فالواجب منع النساء من اتباع الجنائز فهو حرام ولا يجوز كما أن زيارة المرأة للمقابر حرام لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج والله الموفق(4/534)
باب استحباب تكثير المصلين على الجنازة وجعل صفوفهم ثلاثة فأكثر
932 - عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه رواه مسلم
933 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه رواه مسلم
934 - وعن مرثد بن عبد الله اليزني قال كان مالك بن هبيرة رضي الله عنه إذا صلى على الجنازة فتقال الناس عليها جزأهم عليها ثلاثة أجزاء ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله باب استحباب تكثير المصلين على(4/536)
الميت ثم ذكر المؤلف رحمه الله ثلاثة أحاديث حديث عائشة وحديث عبد الله بن عباس وحديث مالك بن هبيرة رضي الله عنهم وكلها تدل على أنه كلما كثر الجمع على الميت كان ذلك أفضل وأرجى للشفاعة ففي حديث عائشة أنه من صلى عليه طائفة من الناس يبلغون مائة يشفعون له إلا شفعهم الله فيه ومعلوم أن المصلين على الجنازة يشفعون إلى الله عز وجل لهذا الميت فهم يسألون من الله له المغفرة والرحمة والدعاء للميت في الجنازة من أوجب ما يكون في الصلاة بل هو ركن من أركان الصلاة لا تصح صلاة الجنازة إلا به إلا المسبوق وحديث ابن عباس يدل على أنه من قام على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه أي قبل شفاعتهم فيه وهذه بشرى للمؤمن إذا كثر المصلون على جنازته فشفعوا له عند الله أن الله تعالى يشفعهم فيه.
أما حديث مالك بن هبيرة ففيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب يعني وجبت له الجنة وهذه الأحاديث كلها تدل على أنه كلما كثر الجمع كان أفضل ولهذا نجد أن بعض الناس إذا صلى على جنازة في مسجد نبه أهل المساجد الأخرى ليحضروا إليه حتى يكثر الجمع فينبغي للإمام إذا رأى(4/537)
الناس الذين جاءوا ليشهدوا صلاة الجنازة قد فاتهم شيء من صلاة الفريضة ألا يتعجل بالصلاة على الميت حتى ينتهي الذين يقضون صلاتهم ليشاركوا الحاضرين في الصلاة على الميت فيكون ذلك أكثر للجمع وربما تكون دعوة واحد منهم هي المستجابة وكون بعض الناس بعدما يسلم يقوم ويصلي على الجنازة وخلفه صف أو أكثر فهذا وإن كان جائزا لكن الأفضل أن ينتظر حتى يتم الناس صلاتهم ويصلون على الجنازة وهذا لا يفوت شيئا كثيرا غاية ما هنالك عشر دقائق على الأكثر ...
والله الموفق(4/538)
باب ما يقرأ في صلاة الجنازة
[الشَّرْحُ]
يكبر أربع تكبيرات يتعوذ بعد الأولى ثم يقرأ فاتحة الكتاب ثم يكبر الثانية ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول اللهم صل على محمد وعلى آل محمد والأفضل أن يتممه بقوله كما صليت على إبراهيم..
إلى قوله إنك حميد مجيد ولا يفعل ما يفعله كثير من العوام من قراءتهم إن الله وملائكته يصلون على النبي الآية فإنه لا تصح صلاته إذا اقتصر عليه ثم يكبر الثالثة ويدعو للميت وللمسلمين بما سنذكره من الأحاديث إن شاء الله تعالى ثم يكبر الرابعة ويدعو ومن أحسنه اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله والمختار أنه يطول الدعاء في الرابعة خلاف ما يعتاده أكثر الناس لحديث ابن أبي أوفي الذي سنذكر إن شاء الله تعالى فأما الأدعية المأثورة بعد التكبيرة الثالثة فمنها
935 - عن أبي عبد الرحمن عوف بن مالك رضي الله عنه قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب ما يدعى به للميت صلاة الجنازة تشتمل على قراءة الفاتحة ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم الدعاء فيبدأ أولا بالفاتحة لأنها ثناء على الله عز وجل ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو أحق الناس أن يقدم حتى على النفس ثم بعد ذلك الدعاء العام اللهم اغفر لحينا وميتنا ثم(4/539)
الدعاء الخاص للميت اللهم اغفر له وارحمه وهذا الترتيب كالترتيب في التشهد حيث نبدأ أولا التحيات لله وهو الثناء على الله ثم السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ثم السلام على الإنسان وعلى عباد الله الصالحين وهذا أيضا الدعاء للميت كذلك مرتب لكن نبدأ بالعام قبل الخاص بخلاف التشهد فإنه يبدأ بالخاص قبل العام لأن التشهد تدعو لنفسك السلام علينا والنفس مقدمة على الغير إلا على النبي صلى الله عليه وسلم المهم أن صلاة الجنازة يكبر الإنسان التكبيرة الأولى ثم يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم يقرأ الفاتحة كاملة ثم يكبر التكبيرة الثانية فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وأحسن ما يصلى به عليه ما علمه أمته اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ثم يكبر الثالثة فيدعو لعامة المسلمين اللهم اغفر(4/540)
لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا ثم يدعو للميت الدعاء الخاص ومنه ما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة فحفظ من دعائه اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله يعني ضيافته يعني أكرمه في ضيافته لأن الميت في ضيافة الله عز وجل إذا انتقل من هذه الدنيا إلى قبره فهو إما أن يكون في قبره معذبا أو منعما ويقول وأوسع مدخله ويجوز مدخله يعني أوسع قبره لأنه يدخل فيه واغسله بالماء والثلج والبرد واغسله يعني طهره من الذنوب بالماء والثلج والبرد ذكر الثلج والبرد لأنه بارد وذكر الماء لأن به النظافة والذنوب أجارنا الله وإياكم منها عقوبتها حارة فناسب أن يقرن مع الماء الثلج فيحصل بالماء التنظيف ويحصل بالثلج والبرد التبريد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس يعني نظفه تنظيفا كاملا من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ وذكر الثوب الأبيض لأنه هو الذي يظهر فيه أدنى دنسة فإذا كان الثوب الأبيض نقيا فمعناه أنه ليس به دنس(4/541)
إطلاقا بخلاف الثوب الأسود والأحمر والأخضر وما أشبه ذلك فإنه ليس كالأبيض تبين به الدنسة بيانا واضحا اللهم أبدله دارا خيرا من داره لأنه انتقل من دار الدنيا إلى دار البرزخ ودار الدنيا كما نعلم دار محن وأذى وكدر فيقول أبدله دارا خيرا من داره ليكون منعما في قبره وأهلا خيرا من أهله أهله ذووه كأمه وخالته وبناته وأبيه وابنه وما أشبه ذلك وزوجا خيرا من زوجه يعني زوجة خيرا من زوجته وذلك بالحور العين وكذلك بزوجته في الدنيا لأن الإنسان إذا تزوج امرأة في الدنيا وماتت على الإيمان فإنها تكون زوجته في الآخرة فإن قال قائل كيف تكون خيرا من زوجتي وهي واحدة في الدنيا نقول خيرا منها في الصفات والجمال وغير ذلك وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار كل هذا دعاء يدعو به الإنسان للميت وينبغي أن يخلص الإنسان للميت في هذا الدعاء فإن كان كانت امرأة فإنه يقول اللهم اغفر لها وارحمها وعافها واعف عنها..
يعني بضمير المؤنث فإن كان لا يدري هل هي ذكر أم أثنى فإنه مخير إن شاء قال اللهم اغفر له يعني لهذا الشخص والمرأة تسمى شخصا أو إن شاء قال اغفر لها أي لهذه الجنازة والجنازة تطلق على الرجل وعلى المرأة وإن كان يعلم أنه ذكر(4/542)
ذكره وإن كان يعلم أنها أنثى أنثها وإن كان لا يدري جاز أن يذكره وجاز أن يؤنثه فإن ذكره فالمعنى اغفر له أي لهذا الشخص الذي بين أيدينا وإن قال اغفر لها أي لهذه الجنازة، والجنازة تطلق على الرجل والمرأة والله الموفق
936 - عن أبي هريرة وأبي قتادة وأبي إبراهيم الأشهلي عن أبيه وأبوه صحابي رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على جنازة فقال اللهم اغفر لحينا وميتنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا وشاهدنا وغائبنا اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده رواه الترمذي من رواية أبي هريرة والأشهلي ورواه أبو داود من رواية أبي هريرة وأبي قتادة قال الحاكم حديث أبي هريرة صحيح على شرط البخاري ومسلم قال الترمذي قال البخاري أصح روايات هذا الحديث رواية الأشهلي قال البخاري وأصح شيء في هذا الباب حديث عوف بن مالك(4/543)
937 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذ صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء رواه أبو داود
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث فيما يدعى به في الصلاة على الميت وقد سبق حديث عوف بن مالك رضي الله عنه في الدعاء الخاص للميت أما هذا الدعاء الذي ذكره المؤلف رحمه الله فهو الدعاء العام يقول المصلي على الميت اللهم اغفر لحينا وميتنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا وشاهدنا وغائبنا وهذه الجمل تغني عنها جملة واحدة لو قال اللهم اغفر لحينا وميتنا شمل الجميع لكن مقام الدعاء ينبغي فيه البسط والتفصيل لأن الدعاء كل جملة منه عباده لله عز وجل وإذا كررته ازددت بذلك ثوابا فقوله حينا وميتنا يشمل الحي الحاضر والميت القديم والميت في عصره وصغيرنا وكبيرنا كذلك أيضا يشمل الصغير والكبير.
الحي والميت وذكر الصغير مع أن الصغير لا ذنب له من باب التبعية وإلا فإن الصغير ليس له ذنب حتى تسأل له المغفرة وذكرنا وأنثانا مثلها عامة وشاهدنا وغائبنا الحاضر والمسافر(4/544)
مثلا اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته فتوفه على الإيمان الحياة ذكر معها الإسلام وهو الاستسلام الظاهر وأما الموت قال توفنا على الإيمان لأن الإيمان أفضل ومحله القلب والمدار على ما في القلب عند الموت وفي يوم القيامة اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده لا تحرمنا أجره يعني بالصلاة عليه لأن الإنسان يؤجر بالصلاة على الميت كما سبق أن من شهدها حتى يصلى عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان كذلك أيضا أجر آخر للمصاب بهذا الميت الذي حزن لفراقه يؤجر أيضا على صبره على المصيبة ولا تفتنا بعده يعني لا تضلنا عن ديننا بعده لأن الحي لا تؤمن عليه الفتنة مادام الإنسان لم يخرج روحه فإنه عرضة لأن يفتن في دينه والعياذ بالله ولهذا قال لا تفتنا بعده فينبغي للإنسان أن يدعو بهذا الدعاء اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا دعوتم للميت فأخلصوا له الدعاء بالمعنى أنك تدعو بحضور قلب وإلحاح على الله لأخيك الميت لأنه محتاج لك والله الموفق(4/545)
باب الإسراع بالجنازة
941 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم متفق عليه.
وفي رواية لمسلم فخير تقدمونها عليه
942 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت قدموني وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها يا ويلها أين تذهبون بها يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمع الإنسان لصعق رواه البخاري
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف في كتابه رياض الصالحين باب الإسراع في الجنازة الإسراع في الجنازة يشمل الإسراع في تجهيزها والإسراع في تشييعها والإسراع في دفنها وذلك أن(4/546)
الميت إذا مات فإما أن يكون صالحا وإما أن يكون سوى ذلك فإن كان صالحا فإن حبسه حيلولة بينه وبين ما أعده له الله من النعيم في قبره لأنه ينتقل من الدنيا إلى خير منها وإلى أفضل لأنه حين احتضاره ومنازعته الموت يبشر يقال لروحه أبشري برحمة من الله ورضوان فيشتاق لهذه البشرى فيجب أن يتعجل وأن يعجل به فإذا حبس كان في هذا شيء من الجناية عليه والحيلولة بينه وبين ما أعده الله له من النعيم وإن كان غير صالح والعياذ بالله فإنه لا ينبغي أن يكون بيننا وينبغي أن نسارع بالتخلص منه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم أسرعوا بالجنازة أسرعوا بها في تجهيزها وتشييعها ودفنها لا تؤخروها فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه يعني خير مما انتقلت منه تقدمونها إليه لأنها تقدم جعلنا الله وإياكم منهم إلى رحمة الله ونعيم وسرور ونور فتقدمونها إلى خير وإن تك سوى ذلك يعني ليست صالحة فشر تضعونه عن رقابكم تسلمون منه لأنه ما لا خير فيه لا خير في بقائه إذا يستفاد من هذا الحديث أنه يسن الإسراع بالجنازة وألا تؤخر وما يفعله بعض الناس اليوم إذا مات الميت قالوا انتظروا حتى يقدم أهله من كل فج وبعضهم ربما كان في أوربا(4/547)
أو في أمريكا وربما طال ذلك يوما أو يومين فهذا جناية على الميت وعصيان لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أسرعوا بالجنازة أهله إذا جاءوا وقد دفن يصلون على قبره الأمر واسع والحمد لله وهو إذا تأخر دفنه حتى يأتوا ماذا ينفعه من ذلك إنه لا ينفعه إلا الدعاء له بالصلاة عليه وهذا حاصل إذا صلوا عليه في قبره ولا وجه لهذا الحبس إطلاقا فإن قال قائل أليس النبي صلى الله عليه وسلم مات يوم الاثنين ولم يدفن إلا ليلة الأربعاء قلنا بلى لكن الصحابة رضي الله عنهم أرادوا ألا يدفنوا الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يقيموا خليفة على عباد الله بعده لئلا تخلو الأرض عن خليفة لله فيها ولهذا لما تمت مبايعة أبي بكر رضي الله عنه دفنوا النبي صلى الله عليه وسلم وهذه علة ظاهرة واضحة.
وقوله صلى الله عليه وسلم إن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تك سوى ذلك ...
يستفاد منه أنه ينبغي أن يعبر عن الألفاظ السيئة بما يدل عليها بدون سوء لأن قسيم الصالحة الفاسدة ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عدل عن كلمة فاسدة إلى قوله وإن تك سوى ذلك وهذا من باب التأدب في اللفظ وإلا فالمعنى واحد والتأدب في اللفظ له شأن عجيب انظر إلى قوله تعالى عن الجن وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا لما أرادوا الخير أضافوه إلى(4/548)
الله {أم أراد بهم ربهم رشدا} وفي الشر قالوا {أشر أريد} وما قالوا شر أراده الله مع أن الله مريد للخير والشر لكن الشر الذي يريده الله ليس شرا في فعله بل في مفعولاته أما فعله عز وجل فلا شك أنه خير لكن يقدر الشر للخير لحكمة يريدها عز وجل.
المهم أنه ينبغي للإنسان أن يتأدب في صياغة الألفاظ من غير إخلال بالمعنى ويذكر أن ملكا من الملوك رأى رؤيا وهي أن أسنانه قد سقطت واهتم لذلك فجمع الذين يعبرون الرؤيا أي يفسرونها فقال له واحد إن حاشيتك تموت وأهلك معهم ففزع الملك ولم يعجبه هذا التفسير فأمر بالرجل فجلد ثم دعا آخر وقال له ما أرى قال إن الملك يكون أطول أهله عمرا المعنى واحد فأكرمه وأجازه فالألفاظ لها تأثير ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم.
ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن الرجل إذا مات وحملت جنازته فإن كانت صالحة قالت قدموني قدموني تقول ذلك بصوت مسموع يسمعه كل شيء إلا الإنسان لا يسمعه(4/549)
نعمة من الله عز وجل لأننا لو سمعنا ما يقوله الأموات على نعوشهم لانزعجنا لكن الله أخفاه عنا لكن تسمعه الدواب يسمعه كل شيء تقول قدموني قدموني إلى أي شيء يقدمونها لما أعده الله لها من النعيم الذي بشرت به عند الاحتضار وإن لم تكن صالحة قالت يا ويلها أين تذهبون بها نعوذ بالله تدعو بالويل لأنها ستقدم نسأل الله العافية إلى عذاب في القبر يضيق عليها القبر حتى تختلف الأضلاع ويفتح لها باب إلى النار نسأل الله العافية ولا أحد من الأحياء البشر يعلم ويشعر بذلك ومن نعمة الله سبحانه وتعالى أن أخفاه علينا ولو علمنا بذلك ما تدافنا أبدا لكن الله يخفيه وهذا يدل على أن من حق الميت علينا أن نبادر به ولذلك قال أهل العلم يسن الإسراع في تجهيز الميت إلا إذا مات بغتة فإنه ينتظر حتى يتيقن أنه مات لأنه يحتمل أن يكون غشية وأنه حي فينتظر حتى يتيقن أنه مات ثم نبادر به والله الموفق(4/550)
باب تعجيل قضاء الدين عن الميت والمبادرة إلى تجهيزه إلا أن يموت فجأة فيترك حتى يتيقن موته
943 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضي عنه رواه الترمذي وقال حديث حسن
944 - وعن حصين بن وحوح رضي الله عنه أن طلحة بن البراء بن عازب رضي الله عنهما مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا به فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله رواه أبو داود
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب تعجيل قضاء الدين عن الميت وإسراع تجهيزه إلا أن يموت فجأة فينتظر حتى يتيقن موته(4/551)
وذلك يدل على أن الإنسان إذا مات فإنه يجب على أهله أن يبادروا بقضاء دينه إذا كان عليه دين ولا يجوز لهم أن يؤخروا ذلك لأن المال الذي ورثوه من ماله ليس لهم فيه حق إلا إذا انتهى الدين يعني الورثة ليس لهم حق في شيء من التركة حتى يقضي الدين ولهذا قال الله تعالى في آيات المواريث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار ليس للورثة حق أن يأخذوا شيئا من التركة حتى يقضوا دين الميت ويجب عليهم المبادرة في قضاء الدين إلا إذا كان مؤجلا فإنه يطلب من أهل الدين أن ينظروا فإن أبوا فإنه يعجل لهم وإلا إذا وثق الورثة برهن أو كفيل وقد تهاون الناس في قضاء الدين عن الأموات فتجد الميت يموت وعليه الدين فيلعب الورثة بالتركة ويؤخرون قضاء الدين يكون مثلا عليه مئات الآلاف وترك عقارات كثيرة فيقول الورثة لا نبيع العقارات بل ننتظر حتى تزيد العقارات تم نبيع وهذا حرام الواجب أن يبادروا حتى ولو باعوا الشيء بنصف الثمن لأن المال ليس لهم بل هو للميت ومن ذلك إذا كان الإنسان قد اقترض من صندوق التنمية العقارية ولم يدفع أقساطا تجد الورثة يلعبون ولا يوفون صندوق التنمية وربما يسول(4/552)
لهم الشيطان أن يرفعوا إلى الحكومة طلب العفو عنه ثم يقولون ننتظر متى جاء الرد فربما يأتي بالرفض وربما يعفى عنه لكن لا يعلم فلا يحل لهم ذلك والواجب أن يبادروا بقضاء الدين عن الميت أما إذا كان الميت قد أوفى ما عليه من أقساط في حياته وبقي البيت مرهونا لصندوق التنمية فإن الميت يبرأ بذلك ولا يلحقه شيء وبعض الناس من أهل الورع إذا مات الميت وقد اقترض من صندوق التنمية وقد أوفى بجميع الأقساط التي حلت عليه في حياته يظنون أن الميت تتعلق روحه بهذا الدين وليس الأمر كذلك مادام هناك رهن فالميت بريء منه ويدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وعليه دين لرجل من اليهود وقد أعطاه درعه رهنا فهل تقول أن نفس الرسول صلى الله عليه وسلم معلقة بالدين لا لأنه قد رهنه شيئا يمكنه الاستيفاء به منه.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه يعني أن نفسه وهو في قبره معلقة بالدين كأنها والله أعلم تتألم من تأخير الدين ولا تفرح بنعيم ولا تنبسط لأن عليه دينا ومن ثم قلنا إنه يجب على الورثة أن يبادروا بقضاء الدين أما الحديث الثاني فقد تقدم الكلام عليه وهو أن(4/553)
يسن الإسراع في الجنازة ولهذا قال لا ينبغي لجيفة مسلم أن يحبس بين ظهراني أهلها لكن لو حبست لساعة أو ساعتين لانتظار كثرة الجمع كما لو مات في أول النهار مثلا يوم جمعة وقالوا ننتظر للصلاة لكثرة الجمع فهذا لا بأس به إن شاء الله وهو تأخير لا يضر والله الموفق(4/554)
باب الموعظة عند القبر
945 - عن علي رضي الله عنه قال كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس وجعل ينكت بمخصرته ثم قال: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعدة من النار ومقعده من الجنة فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له وذكر تمام الحديث متفق عليه
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب الموعظة عند القبر والموعظة هي تذكر الناس بما يلي قلوبهم إما بترغيب في خير وإما بترهيب من شر هذه هي الموعظة وأعظم واعظ وأفضله وأصلحه للقلب هو القرآن الكريم كما قال الله تعالى يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين فالقرآن لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد هو أعظم واعظ لكن قلوب أكثر(4/555)
الناس لا تتعظ بالقرآن لأنها فيها قسوة وقد قال الله تعالى فيمن إذا تتلى عليه الآيات {قال أساطير الأولين} والعياذ بالله قال الله تعالى {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} يعني ختم عليها ما كانوا يكسبون من الأعمال السيئة حتى لا يشعروا بالقرآن كما يشعر به المتقون الذين من الله عليهم نسأل الله أن يمن علينا وعليكم ولكن مع ذلك قد يأتي إنسان أعطاه الله بيانا وفصاحة وعلما فيعظ الناس ويذكرهم ويلين من قلوبهم ما لا تلين به إذا تلي عليها القرآن وهذا شيء مشاهد مجرب كنا في جنازة ببقيع الغرقد المعروف الآن بالمدينة والغرقد نوع من الشجر معروف وسمي بقيع الغرقد لكثرة وجود هذا النوع من الشجر به وكان مدفن أهل المدينة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد قالها ثلاثا فكانوا في جنازة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقعد وقعد الناس حوله لأن كل الناس يحبون أن يكونوا جلساء للنبي صلى الله عليه وسلم جلسوا حوله وفي يده مخصرة(4/556)
يعني عود فنكس رأسه وجعل ينكت بالعود كالمهموم صلى الله عليه وسلم ثم قال ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار كل إنسان من بني آدم مكتوب مقعده من الجنة إن كان من أهل الجنة ومقعده من النار إن كان من أهل النار وذلك قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من السعداء لما قال هذا الكلام قالوا يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب يعني مادام الأمر مكتوبا فما حاجة العمل فقال لا تدعوا العمل فالجنة لا تأتي إلا بعمل والنار لا تأتي إلا بعمل فلا يدخل النار إلا من عمل بعمل أهل النار ولا يدخل الجنة إلا من عمل بعمل أهل الجنة قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم تلا قوله تعالى {وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى}(4/557)
قال اعمل لا تتكل على الكتاب، الكتاب أمر مجهول ما ندري ما فيه لكن من عمل خيرا فهو بشرى أنه من أهل الخير ومن عمل سوى ذلك فهذا إنذار قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له فأنت يا أخي إذا رأيت الله قد يسر لك عمل أهل السعادة فأبشر أنك من أهل السعادة وإذا رأيت نفسك أنك تنقاد للصلاة للزكاة لفعل الخير عندك تقوى من الله عز وجل فاعلم واستبشر أنك من أهل السعادة لأن الله قال {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى} وإن رأيت العكس رأيت نفسك تنشرح بفعل السيئات والعياذ بالله وتضيق ذرعا بفعل الطاعات فأحذر أنقذ نفسك وتب إلى الله عز وجل حتى ييسر الله لك واعلم أنك إذا أقبلت على الله أقبل الله عليك حتى إذا أذنبت مهما أذنبت قال الله تعالى {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا} وعلى هذا فإذا جاء الإنسان إلى المقبرة وجلس الناس حوله فهنا يحسن أن يعظهم بما يناسب بمثل هذا الحديث أو حديث عبد الرحمن بن مرة حين جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وانتهى إلى جنازة رجل من الأنصار ووجدهم يحفرون القبر ولم يتموا حفره فجلس(4/558)
وجلسوا حوله كأن على رءوسهم الطير احتراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلالا لهذا المجلس وهيبة فجعل يحدثهم أن الإنسان إذا جاءه الموت نزلت إليه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب وجعل يحدثهم بحديث طويل يعظهم به هذه هي الموعظة عند القبر أما أن يقوم القائم عند القبر يتكلم كأنه يخطب فهذا لم يكن من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم ليس من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإنسان يقف بين الناس يتكلم كأنه يخطب هذا ليس من السنة، السنة أن تفعل كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم فقط إذا كان الناس جلوسا ولم يدفن الميت فاجلس في انتظار دفنه وتحدث حديث المجالس حديثا عاديا بعض الناس أخذ من هذه الترجمة ترجمة النووي رحمه الله وقد ترجم بمثلها قبله البخاري في صحيحة باب الموعظة عند القبر أخذ من هذا أن يكون خطيبا في الناس يخطب الناس برفع صوت ويا عباد الله وما أشبه ذلك من الكلمات التي تقال في الخطب وهذا فهم خاطئ غير صحيح(4/559)
الموعظة عند القبر تقيد بما جاء في السنة فقط لئلا تتخذ المقابر منابر فالمواعظ هادئة يكون الإنسان فيها جالسا ويبدو عليه أثر الحزن والتفكر وما أشبه ذلك لا أثر الشجاعة وكأنه ينذر الجيش يقول صبحكم ومساكم لكن فضل الله يؤتيه من يشاء فبعض الناس يفهم شيئا من النصوص فهما غير مراد بها والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم(4/560)
باب الدعاء للميت بعد دفنه والقعود عند قبره ساعة للدعاء له والاستغفار والقراءة
946 - عن أبي عمرو وقيل أبو عبد الله وقيل أبو ليلى عثمان بن عفان رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل رواه أبو داود
947 - وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قل إذا دفنتموني فأقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأعلم ماذا أراجع به رسل ربي رواه مسلم وقد سبق بطوله
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب الوقوف بعد دفن الميت والدعاء له(4/561)
والاستغفار له وذلك أن الميت إذا دفن فإنه يأتيه ملكان يسألان عن ربه ودينه ونبيه فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه يعني عنده وقال استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل فيسن للإنسان إذا فرغ الناس من دفن الميت أن يقف عنده ويقول اللهم اغفر له ثلاث مرات اللهم ثبته ثلاثا لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان غالب أحيانه إذا دعا دعا ثلاثا ثم ينصرف ولا يجلس بعد ذلك لا للذكر ولا للقراءة ولا للاستغفار هكذا جاءت به السنة أما ما ذكره رحمه الله عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه أمر أهله أن يقيموا عنده إذا دفنوه قدر ما تنحر جزور قال لعلي أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي يعني الملائكة فهذا اجتهاد منه رضي الله عنه لكنه اجتهاد لا نوافقه عليه لأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هدي غيره ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقف أو يجلس عند القبر بعد الدفن قدر ما تنحر الجزور ويقسم لحمها ولم يأمر أصحابه بذلك غاية ما هنالك أنه أمرهم أن يقفوا على القبر ويستغفروا لصاحبه ويسألوا له التثبيت(4/562)
فقط هذا هو السنة ثم ينصرف الناس وأما القراءة عند القبر فالأصح أنها مكروهة وأنه يكره للإنسان أن يذهب إلى القبر ثم يقف أو يجلس عنده ويقرأ لأن هذا من البدع وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كل بدعة ضلالة وأقل أحوالها أن تكون مكروهة والله الموفق(4/563)
باب الصدقة عن الميت والدعاء له
قال الله تعالى {والذي جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان}
948 - وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن أمي افتلتت نفسها وأراها لو تكلمت تصدقت فهل لها من أجر إن تصدقت عنها قال نعم متفق عليه
949 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف في رياض الصالحين باب الصدقة عن الميت والدعاء له ثم ساق قول الله تعالى والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم.(4/564)
{والذين جاءوا من بعدهم} أي من بعد الصنفين السابقين وهم المهاجرون والأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم لأن هذه الأمة ثلاثة أقسام: مهاجرون أنصار ومن جاءوا من بعدهم وقد جمع الله ذلك في آيتين في القرآن منها قوله تعالى {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} وكذلك في سورة الحشر {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} فإذا رأيت الرجل يترحم على الصحابة ويستغفر لهم ويحبهم فاعلم أنه منهم أي يحشر معهم وإذا رأيت الرجل يسب الصحابة ولا يترحم عليهم ولا يستغفر لهم فإنهم بريئون منه وهو بريء منهم وليس له حظ في هذه الأمة لأن الصحابة هم الواسطة بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين بلغوا شريعة الله عن رسول الله، والرسول صلى الله عليه وسلم(4/565)
هو الواسطة التي بيننا وبين ربنا الذي بلغنا كلام ربنا فإذا طعن أحد في الواسطة التي بيننا وبين رسول الله فهو طعن في الشريعة كلها وخاصة الطعن في أبي بكر وعمر لأنهما أفضل اتباع الرسل على الإطلاق ليس في أتباع موسى ولا إبراهيم ولا عيسى ولا محمد أفضل من أبي بكر وعمر فمن طعن فيهما فإنه ليس في قلبه شيء من الإيمان والعياذ بالله وكذلك من سب الصحابة وقدح فيهم فإنه قدح في دين الله عز وجل ولهذا قال {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} ثم استدل بحديث عائشة رضي الله عنها أن رجلا قال يا رسول الله إن أمي افتلتت نفسها يعني ماتت ولو تكلمت لتصدقت أفأتصدق عنها قال نعم فدل ذلك على جواز الصدقة على الميت فتنوي إذا أردت أن تتصدق أن هذه عن أمك عن أبيك عن أخيك عن أختك عن أي إنسان مسلم ميت فإن ذلك ينفعه.
وأما الدعاء للميت ففي حديث أبي هريرة إذا مات الإنسان(4/566)
انقطع عمله لأن دار العمل هي دار الدنيا فإذا مات انتهى فليس هناك عمل بعد الموت إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية يعني هو نفسه يضع وقفا عقارا أي شيء للفقراء أو علم ينتفع به يعني من بعده أو ولد صالح يدعو له لأن غير الصالح لا يدعو لوالديه ولا يبرهما لكن الصالح هو الذي يدعو لوالديه بعد موتهما ولهذا يتأكد علينا أن نحرص غاية الحرص على صلاح أولادنا لأن صلاحهم صلاح لهم وخير لا حيث يدعون لنا بعد الموت وأفضل هذه الثلاثة العلم الذي ينتفع به واضرب لكم مثلا بل أمثالا كثيرة أبو هريرة رضي الله عنه من أفقه الصحابة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم يسقط أحيانا على الأرض من شدة الجوع ومع ذلك أكثر المسلمين الآن لا يقرءون إلا رواياته فهو الذي نقل لنا هذه الأحاديث وهي صدقة جارية إذا ما قورنت بأي صدقات أخرى في عهده.
الإمام أحمد شيخ الإسلام ابن تيمية يدرسنا وهو في قبره لأن كتبه بين أيدينا أكبر خليفة أكبر تاجر في عهد ابن تيمية رحمه الله هل وصل خيرهم إلينا اليوم أبدا إذا العلم أنفع(4/567)
الثلاثة فالصدقة الجارية قد تتعثر والولد الصالح قد يموت لكن العلم النافع الذي ينتفع به المسلمون باق إلى ما شاء الله فاحرص أخي على العلم فهو لا يعدله شيء كما قال الإمام أحمد لمن صحت نيته فاحرص على العلم الشرعي وعلى مساعداته كالنحو وما أشبه ذلك حتى ينفعك الله وينفع بك والله الموفق(4/568)
باب ثناء الناس على الميت
950 - عن أنس رضي الله عنه قال مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم وجبت ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم وجبت فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما وجبت قال هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض متفق عليه
951 - وعن أبي الأسود قال قدمت المدينة فجلست إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمرت بهم جنازة فأثنى على صاحبها خيرا فقال عمر وجبت ثم مر بأخرى فأثنى على صاحبها خيرا فقال عمر وجبت ثم مر بالثالثة فأثني على صاحبها شرا فقال عمر وجبت قال أبو الأسود فقلت وما وجبت يا أمير المؤمنين قال قلت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة فقلنا وثلاثة قال وثلاثة فقلنا واثنان قال واثنان ثم لم نسأله عن الواحد رواه البخاري(4/569)
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب ثناء الناس على الميت ثناء الناس على الميت يعني ذكره بخير أو بشر فالميت إذا مات فإما أن يثني الناس عليه خيرا وإما شرا حسب ما يعلمون من حاله.
ثم ذكر المؤلف حديث أنس رضي الله عنه وحديث أبي الأسود مع عمر بن الخطاب ففي حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجنازة في مجلسه فأثنوا على صاحبها خيرا فقال وجبت ثم مروا بجنازة أخرى فأثنوا عليها شرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم وجبت فقال عمر بن الخطاب ما وجبت يا رسول الله قال أثنيتم على الأول خيرا فوجبت له الجنة وأثنيتم على الثاني شرا فوجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض والثاني كأنه والله أعلم من المنافقين والمنافقون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم موجودون في المدينة بكثرة يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر والعياذ بالله والمنافقون في الدرك الأسفل من النار إلا من تاب، وفي هذا دليل على أن المسلمين إذا أثنوا على الميت خيرا دل ذلك على أنه من أهل الجنة فوجبت له الجنة وإذا أثنوا عليه شرا دل ذلك على أنه من أهل النار فوجبت له النار ولا فرق في هذا(4/570)
بين أن تكون الشهادة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو بعده لأن حديث أبي الأسود مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم وقد تنازل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن ذكر من شهد له اثنان بخير كان من أهل الجنة ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أننا لا نشهد لأحد بجنة أو نار إلا من يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم فنشهد لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة ونشهد بالنار لمن شهد له بالنار فمثال من شهد له بالجنة الخلفاء الأربعة (أبو بكر وعمر وعثمان وعلي) وكذلك بقية العشرة المبشرين بالجنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وسعد بن أبي وقاص في الجنة وسعيد بن زيد في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة والزبير بن العوام في الجنة هؤلاء عشرة جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم جميعا من أهل الجنة وعكاشة بن المحصن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يدخل من هذه الأمة سبعون ألفا بلا حساب أو عذاب قال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني(4/571)
منهم قال أنت منهم فقال آخر يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم قال سبقك بها عكاشة.
ثابت بن القيس رضي الله عنه كان جهوري الصوت ولما نزل قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون خاف رضي الله عنه وبقي في بيته محبوسا يبكي يخشى أن يكون حبط عمله لأنه جهوري الصوت ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فأخبره الخبر فقال بل تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة فكل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة نشهد له ومن شهد له بالنار فإننا نشهد له بالنار وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لجماعة بالنار وكذلك في القرآن قال الله تعالى في أبي لهب وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم {سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد} وأخبر صلى الله عليه وسلم أن عمه أبا طالب في ضحضاح من نار وعليه نعلان يغلي منهما(4/572)
دماغه والعياذ بالله وجاءه رجل فقال يا رسول الله أين أبي فقال أبوك في النار وأخبر أنا عمرو بن لحي الخزاعي يجر قسطه في النار قال شيخ الإسلام ابن تيمية وكذلك من أجمعت الأمة على الثناء عليه فإننا نشهد له بالجنة فمثلا الإمام أحمد رحمه الله الشافعي أبو حنيفة مالك سفيان الثوري سفيان بن عيينة وغيرهم من الأئمة أجمعت الأمة على الثناء عليهم فنشهد لهم بأنهم من أهل الجنة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أجمع الناس بالثناء عليه إلا من شذ ومن شذ شذ في النار يشهد له بالجنة على هذا الرأي ويؤيد هذا الرأي حديث عمر رضي الله عنه الذي رواه البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال من شهد له أربعة وثلاثة واثنان ثم لم يسألوه عن الواحد.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل المحرمين على النار(4/573)
باب فضل من مات له أولاد صغار
952 - عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يموت له ثلاثة لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم متفق عليه
93 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد لا تمسه النار إلا تحلة القسم متفق عليه.
وتحلة القسم قول الله تعالى {وإن منكم إلا واردها} والورود هو العبور على الصراط وهو جسر منصوب على ظهر جهنم عافانا الله منها
954 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يوما نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله قال اجتمعن(4/574)
يوم كذا وكذا فاجتمعن فأتاهن النبي صلى الله عليه وسلم فعلمهن مما علمه الله ثم قال ما منكن من امرأة تقدم ثلاثة من الولد إلا كانوا لها حجابا من النار فقالت امرأة واثنين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم واثنين متفق عليه
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب فضل من مات له أولاد صغار يعني باب الفضل الذي يعطاه من مات له أولاد صغار يعني فاحتسب الأجر من الله عز وجل وصبر ثم ذكر حديث أنس وأبي هريرة وأبي سعيد وكلها تدل على فضل ذلك أن الإنسان إذا مات له أولاد صغار لم يبلغوا الحنث يعني لم يبلغوا فإنهم يكونون له سترا من النار بفضل رحمته إياهم لأن هؤلاء الأولاد الصغار هم محل الرحمة فالأولاد إذا كبروا استقلوا بأنفسهم ولم يكن عند والدهم من الرحمة لهم كالرحمة التي عنده للأولاد الصغار وإذا كان له أولاد صغار وماتوا واحتسب الأجر من الله وهم ثلاثة فإنهم يكونون له سترا من النار فلا تمسهم النار إلا تحلة القسم يريد ب تحلة القسم قوله تعالى وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما(4/575)
مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا وفي حديث أبي سعيد الخدري في اجتماع النساء حتى أتى إليهن النبي صلى الله عليه وسلم فعلمهن مما علمه الله وأخبرهن أنه ما من امرأة يموت لها ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا لم تمسه النار إلا تحلة القسم فقالت امرأة وثنين فقال واثنين وعلى هذا فيكون ذلك من فضل الله أيضا أنه إذا مات للإنسان اثنان من الولد ذكورا أو إناثا ثم صبر واحتسب كان ذلك له حجابا من النار والله الموفق(4/576)
باب البكاء والخوف عند المرور بقبور الظالمين ومصارعهم وإظهار الافتقار إلى الله تعالى والتحذير من الغفلة عن ذلك
955 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يعني لما وصلوا الحجر ديار ثمود لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم متفق عليه وفي رواية قال لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين ثم قنع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب البكاء عند المرور بقبور الظالمين والخوف من أن يصيب الإنسان ما أصابهم ثم ذكر حديث ابن عمر بمرور النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر(4/577)
ديار ثمود وثمود هم قوم صالح الذين أرسل الله إليهم صالحا عليه الصلاة والسلام فذكرهم بالله ولكنهم كفروا به فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ثم أخذتهم الصيحة والرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين وكان الله تعالى قد أعطاهم قدرة وقوة في نحت الجبال وبناء القصور في السهول وأصبحوا أمة قوية ولكن الله تعالى أخذهم برجفة وصيحة فماتوا عن آخرهم مر بهم النبي صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى تبوك فقال صلى الله عليه وسلم لا تدخلوا على هؤلاء إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم ولهذا نقول لا يجوز لأحد أن يذهب لديار ثمود ليتفرج وينظر مساكنهم لأن ذلك وقوع في معصية الرسول صلى الله عليه وسلم إلا رجلا يريد أن يذهب للعبرة ويكون باكيا عند مروره بتلك الأماكن فإن لم يكن باكيا فإنه لا يجوز أن يدخل عليهم لأنه ربما يصيبه ما أصابهم ولما مر النبي صلى الله عليه وسلم بواديهم قنع رأسه يعني خفضه وأسرع السير حتى تجاوز الوادي وبه نعرف خطأ هؤلاء الجهال الذين يذهبون إلى ديار ثمود للتفرج والتنزه ويبقون فيها أياما ينظرون آثارهم القديمة فإن ذلك معصية للرسول صلى الله عليه وسلم ومخالفة لهديه وسنته فإنه صلى الله عليه وسلم لما مر بهذه الديار أسرع وقنع رأسه صلى الله عليه وسلم حتى جاوز الوادي وحذر من أن يسكن الإنسان في مساكن الذين ظلموا(4/578)
أنفسهم والذين أهلكهم الله في هذه الأرض خوفا أن يصيب الإنسان ما أصابهم من عذاب الله إما بكفره بالله عز وجل حتى يستحق هذا العذاب وإما بعقوبة يعاقب بها وإن لم يكفر وإذا لقي الله تعالى يوم القيامة فالله بصير بالعباد والله الموفق(4/579)
كتاب آداب السفر
باب استحباب الخروج يوم الخميس واستحبابه أول النهار
956 - عن كعب بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة تبوك يوم الخميس وكان يحب أن يخرج يوم الخميس متفق عليه وفي رواية في الصحيحين لقما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلا في يوم الخميس
957 - وعن صخر بن وداعة الغامدي الصحابي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم بارك لأمتي في بكورها وكان إذا بعث سرية أو جيشا بعثهم من أول النهار وكان صخر تاجرا وكان يبعث تجارته أول النهار فأثرى وكثر ماله رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن(4/580)
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى كتاب آداب السفر السفر هو مفارقة الوطن وهو أن يخرج الإنسان من وطنه إلى وطن آخر وسمي سفرا لأنه من الإسفار وهو الخروج والظهور كما يقال أسفر الصبح إذا ظهر وبان وقيل في المعنى سمي السفر سفرا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال يعني يبين ويوضح أحوالهم فكم من إنسان لا تعرفه ولا تعرف سيرته إلا إذا سافرت معه وعندئذ تعرف أخلاقه وسيرته وإيثاره إلخ حتى كان عمر رضي الله عنه إذا زكى رجل شخصا عنده قال له هل سافرت معه هل عاملته إن قال نعم قبل ذلك وإن قال لا فقال لا علم لك به ثم إن السفر ينبغي للإنسان أن يتحرى فيه الأوقات التي تكون أسهل وأنسب ومن ذلك أن يكون في آخر الأسبوع كما كان النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر أسفاره يخرج يوم الخميس وربما خرج في غيره فقد خرج صلى الله عليه وسلم في آخر سفرة سافرها وهي حجة الوداع يوم السبت لكن دائما كان إذا سافر ولاسيما إذا كان في غزو كان ذلك يوم الخميس والحكمة من ذلك والله أعلم أنه يوم ترفع(4/581)
فيه الأعمال وتعرض على الله عز وجل فكان يحب صلى الله عليه وسلم أن يعرض على الله عمله في ذلك اليوم وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يخرج من أول النهار لما في ذلك من استقبال النهار لأنه ربما يفاجأ الإنسان في سفره طولا وقد تجهز قليلا فيصعب عليه التخلص منه وهذا في الأسفار التي كانت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم على الدواب والأرجل أما اليوم فكما تشاهدون الناس لا يجدون صعوبة في أول النهار أو آخره ثم إن السفر في الوقت الحاضر مرتبط بطائرات ومواعيد وعلى كل حال إذا خرج في أول النهار وفي يوم الخميس فهو أفضل وإن لم يتيسر له ذلك فلا بأس والحمد لله ثم ذكر حديث صخر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اللهم بارك لأمتي في بكورها أي في أول النهار فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أن يبارك الله في أول النهار فيه لأمته لأنه مستقبل العمل فإن النهار كما قال الله تعالى معاش وجعلنا النهار معاشا فإذا استقبله الإنسان من أوله صار في ذلك بركة وهذا شيء مشاهد أن الإنسان إذا عمل في أول النهار وجد في عمله بركة لكن وللأسف أكثرنا اليوم ينامون في أول النهار ولا يستيقظون إلا في الضحى فيفوت عليهم أول النهار الذي فيه بركة وقد قال العامة أمير النهار أوله يعني أن أول النهار هو(4/582)
الذي يتركز عليه العمل وكان صخر يبعث بتجارته أول النهار فأثرى وكثر ماله من أجل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة لهذه الأمة في بكورها والله الموفق(4/583)
باب استحباب طلب الرفقة وتأميرهم على أنفسهم واحدا يطيعونه/0
958 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن الناس يعلمون من الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده رواه البخاري
959 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب رواه أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة وقال الترمذي حديث حسن
960 - وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم حديث حسن رواه أبو داود بإسناد حسن
961 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خير الصحابة أربعة وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة(4/584)
آلاف ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قله رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب استحباب الرفقة وتأمير أحدهم هذا الباب تضمن مسألتين الأولى أنه ينبغي للإنسان أن يكون معه رفقة في السفر وألا يسافر وحده ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لو يعلم الناس ما في الوحدة ما سار راكب بليل قط وحده يعني أن الإنسان لا ينبغي أبدا أن يسير وحده في السفر لأنه ربما يصاب بمرض أو إغماء أو يتسلط عليه أحد أو غير ذلك من المحظورات فلا يكون معه أحد يدافع عنه أو يخبر عنه أو ما أشبه ذلك وهذا في الأسفار التي تتحقق فيها الوحدة وأما ما يكون في الخطوط العامرة التي لا تكاد تمر فيها دقيقة واحدة إلا وتمر بك فيها سيارة فهذا وإن كان الإنسان في سيارة وحده فليس من هذا الباب يعني ليس من باب السفر وحده لأن الخطوط الآن عامرة من محافظة لأخرى ومن مدينة لثانية وما أشبه ذلك(4/585)
فلا يدخل في النهي ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن شعيب أن الراكب شيطان والراكبين شيطانان والثلاثة ركب يعني من يسافر وحده شيطان والذي يسافر وليس معه سوى واحد شيطانان والثلاثة ركب يعني ليسوا من الشياطين بل هم ركب مستقل وهذا أيضا على الحذر والتنفير من سفر الوحدة وكذلك من سفر الاثنين والثلاثة لا بأس وهذا كما قلت مقيد بالأسفار التي لا يكون فيها ذاهب وآت ثم ذكر حديث أبي سعيد وأبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر المسافرين إذا سافروا أن يؤمروا أحدهم يعني يؤمرون واحدا منهم يتولى تدبيرهم يقول نذهب ونجلس نتوضأ نتناول العشاء وما أشبه ذلك لأنهم إذا لم يؤمروا واحدا صار أمرهم فوضى ولهذا قيل لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم لابد من أمير يتولى أمرهم وظاهر الحديث أن هذا الأمير إذا رضوه وجبت طاعته فيما يتعلق بمصالح السفر لأنه أمير أما ما لا يتعلق بأمور السفر فلا تجب طاعته كالمسائل الخاصة بالإنسان إلا أنه لا يعني ذلك أن هذا الأمير يستبد بل يكون كما قال الله تبارك وتعالى فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فعليه أن يشاورهم في الأمور التي يخفى فيها جانب المصلحة ولا يستبد برأيه أما الأمور الواضحة فلا حاجة للمشورة فيها والله الموفق(4/586)
باب آداب السير والنزول والمبيت والنوم في السفر واستحباب السري والرفق بالدواب ومراعاة مصلحتها
962 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض وإذا سافرتم في الجدب فأسرعوا عليها السير وبادروا بها نقيها وإذا عرستم فاجتنبوا الطريق فإنها طرق الدواب ومأوى الهوام بالليل رواه مسلم معنى أعطوا الإبل حظها من الأرض أي ارفقوا بها في السير لترعى في حال سيرها وقوله نقيها هو بكسر النون وإسكان القاف وبالياء المثناة من تحت وهو المخ معناه أسرعوا بها حتى تصلوا المقصد قبل أن يذهب مخها من ضنك السير والتعريس النزول في الليل
963 - وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فعرس بليل اضطجع على يمينه وإذا عرس قبيل(4/587)
الصبح نصب ذراعه ووضع رأسه على كفه رواه مسلم قال العلماء إنما نصب ذراعه لئلا يستغرق في النوم فتفوت صلاة الصبح عن وقتها أو عن أول وقتها
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب آدابا كثيرة تتعلق بالسفر والرواحل وذلك أن المسافر إذا سافر على راحلة بهيمة من الإبل أو حمر أو بغال أو خيل فإن عليه أن يراعي مصلحتها لأنه مسئول عنها ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان راكبا على ناقته وقد شق لها زمامها فإذا أتى مرتفعا من المرتفعات أرخى لها قليلا ومن الآداب أن الإنسان إذا سافر في أيام الخصب فإنه ينبغي أن يتأنى في السير يعني لا يسير سيرا حثيثا يعطي فيه الإبل حقها من الرعي لأنه إذا كان يمشي الهوينى أمكن لها ذلك فإذا كانت الأرض معشبة وخصبة وأنت على إبل فلا تسرع السير دعها ترعى في مهل من أجل أن تنال حظها من الخصب أما إذا كان الأمر بالعكس وكانت السنة جدبا فإن(4/588)
المفروض أن تسرع لأنك إذا أمهلت في السير والأرض جدب لا ترعى طالت مدة السفر فيذهب مخها وهذا من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم وأن الله تعالى قد أعطاه مصالح الرعاية للإنسان والبهائم حيث أرشد صلى الله عليه وسلم المسافرين إلى هذه الآداب في الخصب تأن في السير في الجدب أسرع في السير كذلك أمر صلى الله عليه وسلم أننا إذا عرسنا نزلنا ليلا لنستريح ونام فإننا لا ننام في الطريق يعني في الجادة لأنها طرق البهائم الناس يستطرقون هذا الطريق فربما يأتي إنسان غافل فيقع في هذا الطريق كذلك هي أيضا مأوى الهوام تأتي إلى هذه الطرق حتى إذا سقط من أحد شيء من الطعم أكلته ولهذا يكثر وجود الهوام في هذه الطرق فلهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا ننام في الطرقات بل نرتفع عنها حتى لا يحرج السائرين على الطريق وحتى لا تتعرض لأذى الهوام ومثل ذلك بل من باب أولى طرق سيارات اليوم فإن الإنسان يبتعد عنها لأنه ربما يأتي سائق ينعس ولو لحظة فيقتحم بسيارته هؤلاء الذين ينامون على الطريق وتحدث كارثة فابعد عن هذه الطرق السريعة لا تنم حولها حتى لا تقع في الخطر وهذا من إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم(4/589)
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه إذا عرس في أول الليل اضطجع على يمينه وإذ عرس قبيل الفجر اتكأ على يده اليسرى لأن إذا كان أول الليل ينام على اليمين ليعطي النفس حظها من النوم ولهذا كان صلى الله عليه وسلم في بيته إذا نام ينام على الجنب الأيمن بل أمر بذلك أما إذا كان قبيل الفجر فكان ينصب ذراعه صلى الله عليه وسلم وينام على يده لئلا يستغرق في النوم فتفوته صلاة الفجر وفي هذا إشارة إلى أن الإنسان أيضا يعطي نفسه حظها من الراحة ولا ينسى عبادة ربه ففي أول الليل يمكنه أن ينام ويشبع قبل الفجر ثم يقوم أما في آخر الليل فإنه لا ينام نومة المطمئن بل نومة المستيقظ الذي لا يستغرق في النوم لئلا تفوته صلاة الفجر وفي هذا دليل على أن الإنسان ينبغي له أن يستعمل المنبه في النوم ينبهه حتى لا تفوته الصلاة فإن نصب الرسول صلى الله عليه وسلم ذراعه من أجل أن يتنبه كذلك الإنسان ينبغي أن يجعل معه منبها للصلاة فهذا من آداب السفر الذي دل عليها خير البشر صلى الله عليه وسلم والله الموفق(4/590)
964 - وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل رواه أبو داود بإسناد حسن بالدلجة السير في الليل
965 - وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال كان الناس إذا نزلوا منزلا تفرقوا في الشعاب والأودية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان فلم ينزلوا بعد ذلك منزلا إلا انضم بعضهم إلى بعض رواه أبو داود بإسناد حسن
966 - وعن سهل بن عمرو وقيل سهل بن الربيع بن عمرو الأنصاري المعروف بابن الحنظلية وهو من أهل بيعة الرضوان رضي الله عنه قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة رواه أبو داود بإسناد صحيح
967 - وعن أبي جعفر عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال(4/591)
أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه وأسر إلي حديثا لا أحدث به أحدا من الناس وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدف أو حائش نخل يعني حائط نخل رواه مسلم هكذا مختصرا وزاد فيه البرقاني بإسناد مسلم هذا بعد قوله حائش نخل فدخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جرجر وذرفت عيناه فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح سراته أي سنامه وذافره فسكن فقال من رب هذا الجمل لمن هذا الجمل فجاء فتى من الأنصار فقال هذا لي يا رسول الله فقال أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه يشكو إلي أنك تجيعه وتدئبه ورواه أبو داود كرواية البرقاني قوله ذفراه هو بكسر الذال المعجمة وإسكان الفاء وهو لفظ مفرد مؤنث قال أهل اللغة الذفري الموضع الذي يعرق من البعير خلف الأذن وقوله تدئبه أي تتعبه
968 - وعن أنس رضي الله عنه قال كنا إذا نزلنا منزلا لا نسبح حتى نحل الرحال رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم(4/592)
وقوله لا نسبح أي لا نصلي النافلة ومعناه أنا مع حرصنا على الصلاة لا نقدمها على حط الرحال وإراحة الدواب
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في آداب السفر ساقها النووي رحمه الله في رياض الصالحين منها أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد أمته إلى أن يسيروا في الليل وأخبر أن الأرض تطوى للمسافر إذا سافر في الليل يعني أنه يقطع في الدلجة الليل ما لا يقطعه في النهار وذلك لأن الليل وقت براد فهو أنشط للرواحل وأسرع في سيرها ولهذا عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بأنه تطوى الأرض للمسافر إذا مشى في الليل ومن الآداب أيضا أنه ينبغي للجماعة ألا يتفرقوا إذا نزلوا منزلا فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا نزلوا منزلا تفرقوا في الأودية والشعاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما ذلكم من الشيطان يعني تفرقهم فما نزلوا بعد ذلك منزلا إلا اجتمعوا جميعا لأن ذلك أقوى لهم وأحفظ ولو تسلط عليهم عدو في هدأة الليل وكانوا جميعا أمكنهم المدافعة لكن إذا تفرقوا توزعوا وفشلوا ومن ذلك أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالرفق بالبهائم وأنه يجب على الإنسان أن يعاملها معاملة حسنة فلا يكلفها ما لا تطيق ولا(4/593)
يقصر عليها في أكل أو شرب ومن ذلك أيضا أن الإنسان يركب الراحلة وحده وله أن يردف غيره لكن بشرط أن تكون الراحلة مطيقة لذلك فإن لم تكن مطيقة لضعفها أو نحو ذلك فإنه لا يحل له أن يكلفها ما لا تطيق لأن هذه البهائم تتعب كما يتعب الإنسان هي مكونة مما كون منه الإنسان لحم وعظم ودم فإن كان الإنسان يتعب إذا حمل ما لا يطيق أو حمل عملا يتعبه كذلك هذه البهائم ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نتقي الله عز وجل فيها وألا نقصر في حقها ثم ذكر حديث ابن الحنظلية أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قلما يقضي حاجته إلا إلى هدف أو حائل هدف يعني هدف مثل العنزة كان يركزها ويقضي حاجته صلى الله عليه وسلم فدخل ذات يوم حائط رجل من الأنصار فإذا بجمل فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أي الجمل رأى النبي صلى الله عليه وسلم جاء يجرجر وعيناه تذرفان يشكو صاحبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم من رب هذا الجمل فجاء رجل من الأنصار فقال إنه لي يا رسول الله فأخبره صلى الله عليه وسلم أن الجمل يشكو إليه صاحبه بأنه يجيعه ويحمله ما لا يطيق وأمره أن يتقي الله تعالى فيه وهذا من آيات النبي صلى الله عليه وسلم أن(4/594)
البهائم العجم تشكو إليه إذا رأته صلى الله عليه وسلم لأن هذا من آيات الله التي يؤيد الله بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى ما أرسل رسولا إلا أعطاه آيات تدل على نبوته لئلا يكذبه الناس لأن الناس إذا جاء إليهم رجل وقال أنا رسول الله لكم بدون آية ما صدقوه لكن الله تعالى يؤتي رسله آيات تدل على أنهم صادقون وأعظم آيات أعطيها الأنبياء ما أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية وغيره أيضا أنه ما من آية لنبي من السابقين إلا كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثلها أو أعظم منها إما له شخصيا وإما لأتباعه وذكر على ذلك أمثلة وشواهد كثيرة لكن لم يعط أحد من الأنبياء مثل ما أعطي النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الوحي القرآن ولهذا قال إنما الذي أوتيته وحي أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة لأن هذا الوحي باق إلى يومنا هذا والناس كلما قرءوه ازدادوا إيمانا بالله ورسوله لما فيه من الآيات العظيمة الدالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رسول الله حقا والله الموفق(4/595)
/0L2 باب إعانة الرفيق في الباب أحاديث كثيرة تقدمت كحديث: والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه وحديث: كل معروف صدقة وأشباههما
969 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن في سفر إذ جاء رجل على راحلة له فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له فذكر من أصناف المال ما ذكره حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل رواه مسلم
970 - وعن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أراد أن يغزو فقال: يا معشر المهاجرين والأنصار، إن من إخوانكم قوما ليس لهم مال، ولا عشيرة، فليضم أحدكم إليه الرجلين أو الثلاثة، فما لأحدنا من ظهر يحمله إلا عقبة يعني كعقبة أحدهم، قال: فضممت إلي اثنيين أو ثلاثة ما لي إلا عقبة كعقبة أحدهم من جملي رواه أبو داود
971 - وعنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلف في(4/596)
المسير فيزجي الضعيف ويردف ويدعو له رواه أبو داود بإسناد حسن
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى باب الإحسان إلى الرفيق عند السفر والرفق به وهذا من آداب السفر أن الإنسان يحسن إلى رفيقه في السفر ويرفق به ثم ذكر المؤلف رحمه الله ثلاثة أحاديث: منها أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في سفر فجعل يلتفت يمينه وشماله وكأنه يريد حاجة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان عنده فضل زاد به على من زاد له وذكر أصنافا من المال فصار الناس كل منهم ينظر إلى رفيقه ويركبه معه ويشركه في زاده وهكذا أيضا في الحديث الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يتعاقب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد حتى يكون الناس كلهم سواء وكذلك الحديث الثالث أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكون في أخريات القوم في السفر يزجي الضعيف يسوقه ويدعو له كما ثبت ذلك عنه في صحيح مسلم في قصة جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم لحقه وكان جابر على(4/597)
جمل قد أعيا فضربه النبي صلى الله عليه وسلم أي ضرب الجمل ودعا له فصار يمشي كما تمشي الركاب بل كان يتقدم عليها والحاصل أنه ينبغي للإنسان أن يكون مع رفقائه في السفر محسنا إليهم قاضيا لحاجتهم معينا لهم فإن هذا من الآداب النبوية التي جاءت بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم(4/598)
/0L2 باب ما يقول إذا ركب الدابة للسفر
قال الله تعالى: {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمه ربكم إذا استوتيم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقربين وإنا إلى ربنا لمنقلبون}
972 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما إأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا إلي سفر، كبر ثلاثا، ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل.
اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبه المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل والولد وإذا رجع قالهن وزاد فيهن آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في باب آداب السفر: باب ما(4/599)
يقوله إذا ركب دابته للسفر.
هكذا قيد المؤلف رحمه الله الحكم فيما إذا ركب للسفر وظاهر الآية الكريمة أن الحكم عام وأن الإنسان إذا ركب دابته أو سيارته أو السفينة فإنه يقول ما ذكره الله عز وجل ثم ذكر حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركب دابته خارجا في سفر قال كذا وكذا وذكر قبل ذلك الآية وهي قوله تعالى: وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون الآية.
{وجعل لكم} يعني: سير لكم.
{من الفلك} : يعني السفن وهي ثلاثة أنواع: بحرية، وبرية، وجوية أما البحرية فكانت معروفة من قديم الزمان من زمن نوح صلى الله عليه وسلم حين أوحى الله إليه {أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا} ثم قال: {ولقد تركناها آية فهل من مدكر} وأما السفن البرية فظهرت متأخرة وهي السيارات، وأما الجوية فهي أيضا بعد ذلك وهي الطائرات وكلها داخلة في قوله: {وجعل لكم من الفلك} فإنها فلك لأنها تجمع ما شاء الله من الخلق وقوله تعالى: {والأنعام} يعني الإبل والبغال والحمير والخيل وغيرها مما يركب وقد اختلف العلماء في جواز ركوب(4/600)
الإنسان ما لم تجر العادة بركوبه، كما لو ركب البقر فمنهم من قال: إنه جائز ما لم يشق عليه ومنهم من قال: إنه لا يجوز لأنها لم تخلق لهذا والصحيح أنه جائز وأنه لا بأس أن يركب الإنسان ما لم تجر العادة بركوبه لكن بشرط ألا يشق عليها فإن شق عليه فهو ممنوع وقوله تعالى: {لتستووا على ظهوره} اللام إما للتعليل أو للعاقبة، يعني أنه جعل لنا ما نركب لنستقر على الظهور، فلم يجعله صعبا نزرا لا يستوي الإنسان على ظهره ولا يستقره، بل هو يستقر على ظهره، وهذا مشاهد في السيارات والسفن والطائرات والإبل الذلول وما أشبه ذلك {ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه} بعد الاستواء تذكرون نعمة الله بما يسر لكم مما خلق من الأنعام ومما علمكم من الفلك وتقولوا: {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون} كان الذي يتبادر أن يقول الإنسان: الحمد لله الذي سخر لنا هذا ولكنه أمر أن يقول: {سبحان الذي سخر لنا هذا} لماذا، لأن (سبحان) تدل على التنزيه: يعني تنزيه الله عز وجل عن الحاجة وعن النقص فكأن الإنسان يشعر إذا ركب على هذه الفلك والأنعام أنه محتاج إليه يستعين به على حاجاته فيسبح الله عز وجل الذي هو مستغن عن(4/601)
كل خلقه فكان التسبيح في هذا المقام أنسب مع أنه جاء في السنة أنه يحمد الله، لكننا نتكلم عن هذه الآية: {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين} يعني: ما كنا مطيقين له لولا أن الله سخره أي ذلله كما قال الله تعالى في آية أخرى: {وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون} أرأيتم لو كانت هذه البعير الكبيرة الجسم القوية النشيطة لو لم تسخر هل نركبها؟ هل نقدر عليها؟ الجواب: لا هناك من السباع ما هو دونها بكثير ولا نستطيع أن نقدر عليه، لكن الله سخر لنا هذا الذي نركبه، حتى إن الصبي الصغير يأخذ بزمام الناقة ويقودها إلى حيث شاء، هذا من تسخير الله عز وجل وتذليله {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين أي: مطيقين} وإنا إلى ربنا لمنقلبون {هذه الجملة جملة عظيمة، كأن الإنسان لما ركب مسافرا على هذه الذلول أو الفلك كأنه يتذكر السفر الأخير من هذه الدنيا وهو سفر الإنسان إلى الله عز وجل إذا مات، وحملته الناس على أعناقهم فيتذكر ويقول:} وإنا إلى ربنا لمنقلبون {جل وعلا، فالمقلب إلى الله والله تعالى يقول في كتابه العزيز:} يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا {كادح إلى ربك، لم يقبل كادح لربك بل كادح إليه: يعني سيكون مآلك ومآل كدحك وكدحك إلى الله عز وجل:} كادح(4/602)
إلى ربك {أي: عامل وراجع إلى ربك} فملاقيه {كلنا سوف يلاقي الله، ولكن على أي شيء وشأن نلاقي الله عز وجل؟ يعني: الإنسان لا يهمه أين يموت ولا متى يموت ربما أنه يحب أن يطيل الله عمره وأن يموت في بلد مقدس كما اختار ذلك موسى صلى الله عليه وسلم لكن الشأن كل الشأن على أي شيء يموت نسأل الله أن يتوفانا وإياكم على الإيمان والتوحيد هذا هو المهم فإن مت على خير فإنه لا فرق أن تموت هنا أوهناك أو في بلد مقدس أو غير مقدس ولا في هذا الشهر ولا في هذا اليوم ولا في هذا الوقت المهم أن تموت على خير فينبغي للإنسان إذا ركب سيارته أو الطائرة أن يقول هذا الذكر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: يكبر ثلاثا ويقول:} سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون {ثم يدعو بهذا الدعاء الذي ذكره ابن عمر رضي الله عنهما وتأمل في هذا الحديث كلمة تدل على إحاطة الله بكل شيء يقول: أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل الصاحب في السفر يعني تصحبني في سفري، تيسره علي، تسهله(4/603)
علي وأنت الخليفة في الأهل أي: الخليفة في الأهل من بعدي تحوطهم برعايتك وعنايتك، فهو جل وعلا مع الإنسان في سفره، وخليفته في أهله، لأنه جل وعلا بكل شيء محيط والله الموفق}
973 - وعن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سافر يتعوذ من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحور بعد الكون، ودعوة المظلوم.
وسوء المنظر في الأهل والمال رواه مسلم هكذا هو في صحيح مسلم الحور بعد الكون بالنون وكذا رواه الترمذي، والنسائي، قال الترمذي: ويروي الكور بالراء وكلاهما له وجه، قال العلماء: ومعناه بالنون والراء جميعا: الرجوع من الاستقامة أو الزيادة إلى النقص.
قالوا: ورواية الراء مأخوذة من تكوير العمامة وهو لفها وجمعها ورواية النون من الكون مصدر كان يكون كونا إذا وجد واستقر
974 - وعن علي بن ربيعة قال: شهدت علي بن أبي طالب رضي الله عنه أتي بدابة ليركبها فلما وضع رجله في(4/604)
الركاب قال: بسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله الذي سخر لنا هذا وما كنا مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم قال: الحمد لله ثلاث مرات، ثم قال: الله أكبر ثلاث مرات، ثم قال: سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، فقيل: يا أمير المؤمنين، من أي شيء ضحكت؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت، ثم ضحك فقلت: يا رسول الله من أي شيء ضحكت؟ قال: إن ربك سبحانه يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ: حسن صحيح.
وهذا لفظ أبي داود.
[الشَّرْحُ]
هذان الحديثان في الأدعية والأذكار التي تقال إذا ركب الإنسان راحلته في السفر وسبق لنا شرح الآية الكريمة أن الله تعالى قال: لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين كذلك أيضا يتعوذ الإنسان من وعثاء السفر ومن كآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل، ويتعوذ أيضا من(4/605)
دعوة المظلوم، ويسأله الله المغفرة والرحمة ويحمد الله ثلاثا ويكبر ثلاثا، كل هذا مما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذكرته بلفظه فهذا هو الأحسن والأفضل وإلا فقل ما تيسر، وأهم شيء ما ذكره الله تعالى في القرآن: {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين} وفي حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه بيان سعة مغفرة الله ورحمته وأنه عز وجل يفرح من عبده إذا استغفره وتاب إليه وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم براحلته وذكر الحديث وهو أن رجلا مسافرا أضل راحلته وفقدها فطلبها فلم يجدها وعليه طعامه وشرابه فأيس منها ومن الحياة ونام تحت شجرة ينتظر الموت، فبينما هو كذلك إذا براحلته قد تعلقت بالشجرة، فأخذ بزمامها وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك يريد أن يقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك لكنه أخطأ من شدة الفرح فالله عز وجل يفرح بتوبة عبده فعليك أخي المسلم أن تتوب إلى الله وترجع وتستغفر وتعلم أنك متى(4/606)
استغفرت الله تعالى بصدق وإخلاص فإن الله تعالى يغفر لك {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} نسأل الله أن يغفر لنا ولكم ويرحمنا ويرحمكم إنه على كل شيء قدير(4/607)
/0L2 باب تكبير المسافر إذا صعد الثنايا وشبهها وتسبيحه إذا هبط الأودية ونحوها والنهي عن المبالغة برفع الصوت بالتكبير ونحوه
975 - عن جابر رضي الله عنه قال: كنا إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبحنا رواه البخاري.
976 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وجيوشه إذا علوا الثنايا كبروا وإذا هبطوا سبحوا رواه أبو داود بإسناد صحيح
[الشَّرْحُ]
هذا الباب عقده المؤلف النووي رحمه الله في (رياض الصالحين) تحت آداب السفر وما يقال فيه، فمن ذلك أنه من آداب السفر أنه إذا صعد الإنسان شيئا مرتفعا كالجبل وكذلك الطائرة إذا صعدت فإنه يكبر يقول: الله أكبر إما مرة أو مرتين أو ثلاثا وإذا نزل: سبح قال: سبحان الله مرة أو مرتين أو ثلاثا ووجه ذلك أن الإنسان إذا علا فإنه يرى نفسه في مكان عال فقد يستعظم نفسه(4/608)
فيقول: الله أكبر يعني يرد نفسه إلى الاستصغار أما كبرياء الله عز وجل فيقول: الله أكبر.
يعني: لو علوت أيتها النفس فإن فوقك من هو أعلى منك وهو الله عز وجل أما إذا نزل فالنزول سفول ودنو وذل فيقول: سبحان الله يعني أنزهه الله سبحانه وتعالى عن السفول والنزول، لأنه سبحانه وتعالى فوق كل شيء، وإن كان جل وعلا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ينزل إلى السماء الدنيا هذا نزول يليق بجلاله وعظمته ولا يلزم منه السفول لأن الله تعالى ليس كمثله شيء المهم أنه من الآداب المستحبة التي من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنك إذا صعدت تقول الله أكبر وإذا نزلت واديا تقول: سبحان الله كذلك الطائرة عند ارتفاعها تكبر عند نزولها المطار تسبح لأنه لا فرق بين الصعود في الهواء والنزول منه أو على الأرض والله الموفق(4/609)
979 - وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فكنا إذا أشرفنا على واد وهللنا وكبرنا وارتفعت أصواتنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنه معكم، إنه سميع قريب متفق عليه اربعوا بفتح الباء الموحدة أي: ارفقوا بأنفسكم
[الشَّرْحُ]
تقدم أنه ينبغي للمسافر إذا علا وارتفع أن يكبر، وإذا هبط ونزل أن يسبح، وبينا الحكمة في ذلك، ولكن ينبغي للإنسان إذا فعل هذا ألا يجهد نفسه ولا يشق عليها ولا يرفع صوته رفعا بالغا، كما في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فكانوا يهللون ويكبرون ويرفعون أصواتهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيها الناس اربعوا على أنفسكم يعني هونوا عليها ولا تشقوا على أنفسكم في رفع الصوت؟ فإنكم لا تدعو أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا مجيبا قريبا وهو الله عز وجل لا يحتاج أن تجهدوا أنفسكم في رفع الصوت عند التسبيح والتحميد والتكبير، لأن الله(4/610)
تعالى يسمع ويبصر وهو قريب جل وعلا مع أنه فوق السماوات لكنه محيط بكل شيء جل وعلا قال ابن عباس: رضي الله عنهما: ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في كف أحدكم كل السماوات والأرض لا تنسب إلى الله عز وجل فهو جل وعلا محيط بكل شيء وهو فوق كل شيء وفي هذا دليل أنه لا ينبغي للإنسان أن يشق على نفسه في العبادات لا في أدائها ولا في المداومة عليها، ولهذا لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال من شدة رغبته في الخير: لأقومن الليل ما عشت ولأصومن النهار ما عشت يعني: يريد أن يصوم كل النهار ويقوم كل الليل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فدعاه، وقال: أنت الذي قلت هذا قال: نعم يا رسول الله قال: إنك لا تطيق ذلك ثم أمره أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام أن يقوم وينام فقال: إني أطيق أكثر من ذلك فمازال به حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم له: صم يوما وأفطر يوما قال: فإني أطيق أكثر من ذلك، قال: لا أفضل من هذا، هذا صوم داود صلى الله عليه وسلم يصوم يوما ويفطر يوما ليتقوى بيوم الفطر(4/611)
على يوم الصيام فلما كبر رضي الله عنه شق عليه ذلك شق أن يصوم يوما ويفطر يوما فقال: ليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم ثم صار يصوم خمسة عشر يوما سردا ويفطر خمسة عشر يوما سردا لأنه عجز أن يصوم يوما ويفطر يوما أما في القيام فقال له: أعظم ما يكون أن ينام نصف الليل ويقوم ثلث الليل وينام سدس الليل، قسمه ثلاثة أقسام: ينام النصف، ويقوم الثلث، وينام السدس، وقال: لا أفضل من ذلك والحاصل أنه لا ينبغي للإنسان أن يشق على نفسه في العبادة متى تسهلت فليحمد الله بعض الناس في أيام الشتاء يكون عنده الماء الساخن والبارد، يتوضأ بالبارد ويترك الساخن، يعذب نفسه والله عز وجل يقول: ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم نعم، إذا لم يكن عندك إلا الماء البارد واستعمله وشق عليك فلك أجر أما أن تعدل عن السهل إلى الصعب طلبا للأجر فهذا ليس بصواب، متى تسهل الأمر فافعله، كذلك بعض الناس مثلا يقول: امشي على رجلي للحج لأنه أصعب من المشي بالسيارة قلنا: هذا خطأ، إذا سهل الله لك العبادة فافعل(4/612)
أو أنك تقرأ على نور ضعيف ولا تقرأ على نور قوي، لأن القراءة على النور الضعيف أصعب هذا أيضا خطأ كلما تسهلت العبادة فافعل ما تيسر ولكن لا تقصر أما إذا لم يمكن إلا مع تعب فهذا الأمر إلى الله ومتى تعبت في العبادة فلك أجر والله الموفق(4/613)
/0L2 باب استحباب الدعاء في السفر
980 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن وليس في رواية أبي داود: على ولده(4/614)
/0L2 باب ما يدعو به إذا خاف ناسا أو غيرهم
981 - عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوما قال: اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم رواه أبو داود، والنسائي بإسناد صحيح
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) : باب دعاء المسافر المسافر: هو الذي فارق وطنه يكون مسافرا حتى يرجع إليه ودعوة المسافر دعوة محتاج في الغالب والإنسان إذا احتاج ودعا ربه أوشك أن يستجاب له لأن الله سبحانه وتعالى يجيب دعوة المضطر ودعوة المحتاج أكثر مما يستجيب لغيرهما ثم ذكر الحديث ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد.
أما دعوة المظلوم فمعناها إذا ظلمك أحد فأخذ مالك أو غير(4/615)
ذلك فهذا ظلم فإذا دعوت الله عليه استجاب الله دعاءك، حتى ولو كان المظلوم كافرا وظلمته ثم دعا الله فإن الله يستجيب دعاءه، ولا حبا للكافر ولكن حبا للعدل، والمظلوم لابد أن ينصف له من الظالم ولهذا لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال له: اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب فالمظلوم دعوته مستجابة إذا دعا على ظالمه بمثل ما ظلمه أو أقل إما إذا تجاوز فإنه يكون معتديا فلا يستجاب له هذه واحدة الثانية: دعوة المسافر إذا دعا الله عز وجل أن ييسر سفره أو يعينه عليه أو غير ذلك من الدعوات فإن الله تعالى يستجيب له ولذا ينبغي أن يغتنم فرصة الدعاء في السفر وإذا كان السفر سفر طاعة كعمرة وحج فإنه يزداد ذلك قوة في إجابة الدعاء الثالثة: دعوة الوالد في بعض ألفاظ الحديث على (ولده) وفي بعض ألفاظه مطلقة (الوالد) أي سواء دعا لولده أو عليه وهذا هو(4/616)
الأصح دعوة الوالد لولده أو عليه مستجابة أما دعوته لولده فلأنه يدعو لولده شفقة ورحمة والراحمون يرحمهم الله عز وجل وأما عليه فإنه لا يمكن أن يدعو على ولده إلا باستحقاق فإذا دعا عليه وهو مستحق لها استجاب الله دعوته هذه ثلاث دعوات مستجابات دعوة المظلوم والمسافر والوالد سواء الأم أو الأب ثم ذكر المؤلف حديثا فيما يسن للإنسان إذا خاف ناسا أو غيرهم ماذا يقول، مثلا قابلك أناس تخشى منهم قابلك شخص تخشى من شره فقل: اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم إذا قلت ذلك بصدق وإخلاص ولجوء إلى الله كفاك الله شرهم (اللهم إنا نجعلك في نحورهم) : أي أمامهم تدفعهم عنا وتمنعنا منهم (ونعوذ بك من شرورهم) ففي هذه الحال يكفيك الله شرهم، كلمتان يسيرتان إذا قالهما الإنسان بصدق وإخلاص فإن الله تعالى يستجيب له والله الموفق(4/617)
/0L2 باب ما يقول إذا نزل منزلا
982 - عن خولة بنت حكيم رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من نزل منزلا ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك رواه مسلم
983 - وعن ابن عمرو رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل قال: يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما خلق فيك وشر ما يدب عليك وأعوذ بالله من شر أسد وأسود ومن الحية والعقرب ومن ساكن البلد ومن والد وما ولد رواه أبو داود والأسود الشخص قال الخطابي: وساكن البلد: هم الجن الذين سكان الأرض قال: والبلد من الأرض ما كان مأوى الحيوان وإن لم يكن فيه بناء ومنازل قال: ويحتمل أن المراد بالوالد: إبليس وما ولد الشياطين(4/618)
[الشَّرْحُ]
هذان الحديثان في بيان ما يقوله الإنسان إذا كان مسافرا ونزل منزلا ففي حديث خولة بنت حكيم رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله هذا قوله: نزل منزلا يشمل من نزل منزلا في السفر إذا كان مسافرا ثم نزل ليستريح لغداء أو عشاء أو نوم أو غير ذلك فإنه إذا نزل يقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وأعوذ أي: أعتصم بكلمات الله التامات، وكلمات الله التامات تشمل كلماته الكونية والشرعية فأما الكونية فهي التي ذكرها الله في قوله إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فيحميك الله تعالى بكلماته الكونية يدفع عنك ما يضرك إذا قلت هذا الكلام كذلك الكلمات الشرعية وهي الوحي فيها وقاية من كل سوء وشر وقاية من الشر قبل نزوله أما قبل نزوله فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح وأما بعد نزول الأثر فقد(4/619)
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن الفاتحة إذا قرئ بها على المريض فإنه يبرأ بها حتى إن الصحابي رضي الله عنه لما قرأ الفاتحة على سيد القوم الذي لدغ قام كأنما نشط من عقال يعني: برأ حاله لأن القرآن شفاء {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور ورحمة للمؤمنين} فاحرص يا أخي المسلم إذا نزلت منزلا في بر أو بحر أو منزلا اشتهيته للنوم وما أشبه ذلك فقل أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فإنه لا يضرك شيء حتى ترتحل من منزلك ذلك والله الموفق(4/620)
باب استحباب تعجيل المسافر الرجوع إلى أهله إذا قضى حاجته
984 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليعجل إلى أهله متفق عليه نهمته مقصوده
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه (رياض الصالحين) فيما يتعلق بالسفر باب استحباب تعجيل المسافر الرجوع إلى أهله إذا قضى حاجته وذلك أن المسافر إذا سافر فإنه يترك أهله وربما يحتاجون إليه في تعليمهم ورعايتهم وغير ذلك وربما يحدث لهم أشياء توجب أن يكون عندهم ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث في ذكره المؤلف إن الإنسان إذا قضى نهمته من سفره فليرجع إلى أهله وقال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إن السفر قطعة من العذاب ويعني ذلك عذاب الضمير وعذاب الجسم ولاسيما(4/621)
الذي كان في الزمن السابق حيث يسافرون على الإبل ويكون فيها مشقات كبيرة حر في الصيف وبرد في الشتاء ولهذا قال صلى الله عليه وسلم إنه قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه لأنه أي المسافر مشغول البال ولا يأكل ويشرب كطعامه وشربه العادي في أيامه العادية وكذلك في النوم فإذا كان كذلك فليرجع الإنسان إلى الراحة إلى أهله وبلده ليقوم على أهله بالرعاية والتأديب وغير ذلك وفي هذا دليل على أن إقامة الإنسان في أهله أفضل من سفره إلا أن يكون هناك حاجة ووجهه أن أهله يحتاجون إليه ولهذا لما قدم مالك بن الحويرث ومعه عشرون رجلا من قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقاموا عنده نحو عشرين ليلة فرأى أنهم قد اشتاقوا إلى أهلهم قال ارجعوا إلى أهليكم وأقيموا فيهم وأدبوهم وعلموهم فدل ذلك على أن الإنسان لا ينبغي أن يغيب عن أهله إلا بقدر الحاجة هذا هو الأفضل والله الموفق(4/622)
باب استحباب القدوم على أهله نهارا وكراهته في الليل لغير حاجة
985 - عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرقن أهله ليلا وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يطرق الرجل أهله ليلا متفق عليه
986 - وعن أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطرق أهله ليلا وكان يأتيهم غدوة أو عشية متفق عليه الطروق المجيء في الليل(4/623)
باب ما يقوله إذا رجع وإذا رأى بلدته فيه حديث ابن عمر السابق في باب تكبير المسافر إذا صعد الثنايا
987 - وعن أنس رضي الله عنه قال أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بظهر المدينة قال آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون فلم يزل يقول ذلك حتى قدمنا المدينة رواه مسلم(4/624)
باب استحباب ابتداء القدوم بالمسجد الذي في جواره وصلاته فيه ركعتين
988 - عن كعب بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين متفق عليه
[الشَّرْحُ]
هذان البابان من آداب السفر الباب الأول أن الإنسان إذا غاب عن أهله وطالت غيبته وطالت فلا يطرقهم ليلا أي لا يأتيهم في الليل إلا لحاجة أو إعلان الحاجة مثل أن يحصل عليه في السفر مشقة لو انتظر إلى الصباح مثلا فهذه حاجة يقدم عليهم في الليل ولا حرج وكذلك أيضا إذا كان قد أعلمهم أنه سيقدم عليهم الليلة الفلانية فلا بأس أن يقدم عليهم ليلا أما إذا كان أطال الغيبة فإنه لا يطرقهم ليلا لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل ذلك فقال لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة يعني لأجل أن المرأة تتجمل وتتزين لزوجها لئلا يقدم(4/625)
عليها وهي شعثة غير ماشطة أو لم تستحد أي لم تحلق عانتها فلهذا قيد المسألة إذا أطال السفر أما إذا لم يطل السفر كسفر يوم أو يومين أو ما أشبه ذلك فلا حرج عليه أن يقدم إلى أهله متى شاء والحاصل أنه إذا أطال الغيبة فلا يقدم على أهله ليلا إلا لحاجة أو إعلام فلا بأس أما الحديث الثاني فهو إذا قدم الإنسان من السفر فليبدأ قبل كل شيء بالمسجد قبل أن يدخل على أهله يبدأ بالمسجد ويصلى فيه ركعتين لأن النبي صلى الله عليه وسلم سن ذلك لأمته في قوله وفعله فكان صلى الله عليه وسلم إذا قدم أول ما يبدأ به هو المسجد يصلي فيه ركعتين ولما جاءه جابر رضي الله عنه ليأخذ ثمن جمله الذي باعه عليه قال له أدخلت المسجد وصليت قال لا قال ادخل المسجد وصل ركعتين وهذه السنة قد غفل عنها كثير من الناس إما جهلا بذلك وإما تهاونا ولكن ينبغي للإنسان أن يحيي هذه السنة وإذا وصل إلى البلد فليكن أول ما يبدأ به أن يدخل إلى المسجد ويصلي ركعتين ثم بعد ذلك يذهب إلى أهله والله الموفق(4/626)
باب تحريم سفر المرأة وحدها
989 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم عليها متفق عليه
990 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم فقال له رجل يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا قال انطلق فحج مع امرأتك متفق عليه
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله في كتاب (رياض الصالحين) باب تحريم سفر المرأة وحدها يعني بلا محرم وذلك أن المرأة ناقصة العقل والدين كل إنسان يخدعها وكل(4/627)
إنسان يذل بها وهي فتنة الرجال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت فتنة بني إسرائيل في النساء وقال ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء فلهذا تمنع المرأة من السفر بلا محرم واختلف العلماء فيما إذا كان السفر قصيرا هل تمنع منه أم لا فمنهم من قال بالمنع حتى من السفر القصير ومنهم من قال لا تمنع إلا من السفر الطويل والصحيح أنها تمنع مما يسميه الناس سفرا فكل ما يطلق عليه اسم سفر فإنه لا يجوز للمرأة أن تسافر إلا مع ذي محرم خوفا عليها من الفتنة والشر والبلاء ثم ذكر المؤلف حديث أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم فيما يدل على أنه يحرم أن تسافر المرأة بلا محرم وظاهر الحديث أنه لا فرق بين المرأة الشابة والكبيرة والحسناء والقبيحة ومن معها نساء ومن لا نساء معها ومن هي آمنة وغير آمنة فالحديث عام وإذا قدر أن يوجد في سفر من الأسفار السلامة يقينا فإن ذلك لا يوجد في كل سفر ولما كانت المسألة(4/628)
خطيرة منعت المرأة منعا باتا من السفر بلا محرم وقد تهاون بعض الناس اليوم في السفر بلا محرم ولاسيما في سفر الطائرة وكذلك النقل الجماعي وهذا غلط وتهاون في طاعة الله ورسوله فلا يحل للمرأة أن تسافر بلا محرم ولو بالطائرة حتى لو كان محرمها سيشيعها إلى أن تركب الطائرة ومحرمها الثاني يقابلها في البلد الآخر فإن ذلك لا يجوز لأننا مهما قدرنا من السلامة فإنه من يركب إلى جنب هذه المرأة لأن النساء الآن في الطائرة لا يفرق بينهم وبين الرجال تجد المرأة إلى جانب الرجل لهذا نقول إنه يحرم على المرأة أن تسافر بلا محرم في الطائرة أو السيارة أو الجمل أو الحمار أو الأرجل كل ذلك حرام والمحرم هو من تحرم عليه تحريما مؤبدا بنسب أو مصاهرة أو رضاعة وقد ذكر الله ذلك في القرآن الكريم قال حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت هؤلاء سبع من النسب ثم قال {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة}(4/629)
هذا من الرضاعة وكذلك العمة من الرضاعة والخالة من الرضاعة كلها محارم لقول النبي صلى الله عليه وسلم يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب أما المصاهرة فأبو الزوج وجده من قبل الأب أو الأم محرم للزوجة وابن الزوج وابن بنت الزوج وإن نزل كذلك أيضا من محارم الزوجة فلو أن جد الزوج سافر بامرأة ابنه فإن ذلك لا بأس به لأنه محرم ولو أن ابن الزوج النابه سافر بزوجة أبيه فلا بأس لأنها محرم له وأما ما يظنه بعض العوام من أن الإنسان إذا أنقذ امرأة من هلاك صار محرما لها فهذا ليس له أصل كان يقول بعض الناس إذا غرقت امرأة ثم جاء إنسان وأنقذها أو شبت حريق بالبيت فجاء إنسان فأنقذها يدعي بعض العوام أنه يصير محرما لها وهذا ليس له أصل وهذا غير صحيح الحارم سبع من النسب وسبع من الرضاع وأربع من المصاهرة أما الزوج فمعلوم أنه محرم لأنه زوج والله الموفق(4/630)
كتاب الفضائل
باب فضل قراءة القرآن
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين كتاب الفضائل الفضائل جمع فضيلة ثم بدأ بفرائض كتاب الله عز وجل فقال باب فضل قراءة القرآن والقرآن الذي بين أيدينا هو كلام الله عز وجل تكلم به سبحانه وتعالى حقيقة كلاما سمعه جبريل ثم تلاه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى وإنه لتزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين وقال نزل به على قلبك لأن القلب هو محل الوعي والإدراك والفقه لتكون من المنذرين وقال الله تبارك وتعالى {لا تحرك به لسانك لتعجل به} وكان النبي صلى الله عليه وسلم من شدة حرصه على القرآن كان يبادر جبريل وجبريل يقرأ عليه يلقنه فيبادره القراءة فقال الله تعالى {لا تحرك به لسانك لتعجل به} يعني اسكت حتى يقرأ جبريل {إن علينا جمعه وقرءانه فإذا قرأنه فاتبع قرءانه} يعني قرأه جبريل الذي رسول رب العالمين إلى محمد صلى الله عليه وسلم(4/631)
{فإذا قرأنه فاتبع قرءانه} يعني أقرأه بعده {ثم إن علينا بيانه} يعني لا تقاطع جبريل في القراءة فهذا القرآن تكلم الله به جل وعلا وهو يتكلم به سبحانه وتعالى إذا أراد أن ينزله كما قال تعالى {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} وهذه الجملة جملة ماضية يعني أنها فعل ماض {قد سمع} يدل على تقدم كلام هذه المرأة وعلى تأخر كلام الله في قصتها وشأنها {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله يسمع تحاوركما أن الله سميع بصير} وقال تعالى {وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال} هذا في أحد يقول إذ غدوت من أهلك إذا فالغدو سابق المؤمنين على كلام الله تعالى هذا والله جل وعلا يتكلم متى شاء بما شاء كيف شاء ولا يحل لنا أن نقول إن كلام الله تعالى ككلامنا يعني أن صوته في القرآن كأصواتنا كلا لكنه يتكلم بالحروف التي نتكلم بها فهذا القرآن الذي بين أيدينا هو الحروف التي نكون منها كلامنا وهو كلام الله عز وجل المعنى واللفظ كله كلام الله هذا هو ما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف وأئمة أهل السنة أن القرآن كلام الله وأنه منزل من عنده وأن الله تكلم به حقيقة وأنه تلقاه عنه(4/632)
جبريل ثم نزل به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى {إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين} فهو أمين أعني جبريل عليه الصلاة والسلام نزل به على أمين البشر جبريل أمين الملائكة ومحمد أمين البشر وكلاهما أمين على وحي الله عز وجل هذا القرآن له فضائل عظيمة فضائل عامة وفضائل في آيات وسور خاصة مثلا الفاتحة هي السبع المثاني وهي أم الكتاب آية الكرسي هي أعظم آية في كتاب الله وهلم جرا هناك آيات أو سور لها فضل خاصة أما القرآن عموما فله أيضا فضائل عامة وهذا يوجب علينا أن نحرص غاية الحرص على تلاوة كتاب الله عز وجل ليلا ونهارا لأن الإنسان إذا تلا كلام الله صار له بكل حرف بكل حرف عشر حسنات الحرف الواحد من الكلمة له فيه عشر حسنات فمثلا (قل) فيها عشرون حسنة لأنها حرفان القاف واللام (أعوذ) هذه أربعة أحرف فيها أربعون حسنة وهذا ثواب عظيم لا يتصور الإنسان إذا قرأ هذا الكتاب العزيز العظيم الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} وينبغي إذا قرأ القرآن أن يترسل فيه وألا يتعجل عجلة توجب سقوط بعض الحروف فإن بعض الناس يهذه هذا حتى(4/633)
يسقط بعض الحروف هذا ما تلاه كما أنزل لابد من بيان الحروف لكن التجويد المصطلح عليه في كتب التجويد ليس بواجب لكنه من كمال تحسين الصوت الواجب ألا تسقط حرفا من الحروف ولا شدة من الشدات وأما قواعد التجويد المعروفة فهي من باب التحسين والتكميل وليست من باب الواجبات ولهذا يضعف القول بأن التجويد واجب وأن من لم يجود القرآن آثم فإن هذا قول ضعيف جدا بل يقال القرآن أمره ولله الحمد بين واضح لا تسقط حرفا من حروفه وأما مراعاة قواعد التجويد فليست بواجبة لكنها من باب تحسين الصوت بالقرآن واعلم أن القرآن أول ما نزل نزل على سبعة أحرف لأن الناس عرب من قبائل متعددة ولهجات مختلفة وأنتم تعرفون أن الواحد إذا أراد أن يتكلم بلهجة غيره يصعب عليه ويشق عليه فكان من رحمة الله عز وجل أن جعل القرآن على سبعة أحرف كل يقرأ بلهجته بقي على هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كله وفي عهد أبي بكر وفي عهد عمر في عهد عثمان صار الناس يقرءون على لهجاتهم فصار في هذا اختلاف واللغة القرشية كانت غلبت على جميع اللهجات بعد أن تطور اللسان وصارت الدولة كل خلفائها من قريش غلبت اللغة(4/634)
القرشية غلب حرف قريش على جميع اللهجات فلما خاف أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه أن يختلف الناس في كلام الله وأن تؤدي هذه الأحرف السبعة إلى شقاق ونزاع أمر رضي الله عنه أن يوحد القرآن على حرف واحد ألا وهو حرف قريش أي لغة قريش فجمع القرآن على حرف واحد على لغة قريش وهو الذي نقرأ به الآن ثم أمر بسائر المصاحف فأحرقت لئلا تبقى فيفتتن الناس بها فكان في ذلك مصلحة عظيمة وفضيلة لأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه لا توصف فنسأل الله تعالى أن يجزيه عن المسلمين خيرا وأحث نفسي وإياكم على تلاوة كتاب الله لا تتركوا القرآن ولو في الشهر مرة تقرؤه كله أو مرتين أو أربعة أو عشر مرات وهذا أدنى ما يكون من الكمال أن تقرأه كل ثلاثة أيام هذا أفضل ما يكون وإن رأيت أنه لا يتيسر لك إلا في الأسبوع مرة أو كل عشرة أيام مرة أو في الأسبوعين مرة أو في ثلاثة أسابيع مرة أو في الشهر مرة المهم لا تهجر القرآن لأنه كلام الله عز وجل ولا يزيدك إلا نورا في القلب وبصيرة في العلم والله الموفق(4/635)
991 - عن أبي أمامة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه رواه مسلم
992 - وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يؤتي يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله في كتاب رياض الصالحين كتاب الفضائل باب فضل قراءة القرآن عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اقرءوا القرآن فأمر بقراءة القرآن وأطلق فهي مستحبة كل وقت وعلى كل حال إلا إذا كان الإنسان على حاجة يعني يبول أو يتغوط فلا يقرأ القرآن لأن القرآن معظم محترم فلا يقرأ في هذه الحال وكلك إذا كان الإنسان مع أهله حال جماعه فإنه لا يقرأ القرآن لكنه يقول عند جماعة بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا(4/636)
قال النبي صلى الله عليه وسلم اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه إذا كان يوم القيامة جعل الله عز وجل ثواب هذا القرآن شيئا قائما بنفسه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه يشفع لهم عند الله سبحانه وتعالى فإن القرآن إذا تلاه الإنسان محتسبا فيه الأجر عند الله فله بكل حرف عشر حسنات ومثله حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من قرأ القرآن وعمل به فإنه يأتي يوم القيامة يتقدمه سورة البقرة وآل عمران يحاجان عن صاحبهما يوم القيامة ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قيد في هذا الحديث قراءة القرآن بالعمل به لأن الذين يقرءون القرآن ينقسمون إلى قسمين قسم لا يعمل به فلا يؤمنون بأخباره ولا يعملون بأحكامه هؤلاء يكون القرآن حجة عليهم وقسم آخر يؤمنون بأخباره ويصدقون بها ويعملون بأحكامه فهؤلاء يكون القرآن حجة لهم يحاج عنهم يوم القيامة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال القرآن حجة لك أو عليك وفي هذا دليل على أن أهم شيء في القرآن العمل به ويؤيد هذا قوله تعالى كتاب أنزلناه إليك مباركا ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب أي يتفهمون معانيها(4/637)
ويعملون بها وإنما أخر العمل عن التدبر لأنه لا يمكن العمل بلا تدبر إذا إن التدبر يحصل به العلم والعمل فرع عن العلم فالمهم أن هذا هو الفائدة من إنزال القرآن أن يتلى ويعمل به يؤمن بأخباره يعمل بأحكامه يمتثل أمره يجتنب نهيه فإذا كان يوم القيامة فإنه يحاج عن أصحابه وفي هذا دليل على أن الترتيب بين سورة البقرة وآل عمران والنساء هو ما في المصحف الآن يعني البقرة ثم آل عمران ثم النساء وأما حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ بالبقرة ثم النساء ثم بآل عمران فإن هذا نسخ في الترتيب الأخير حيث جعلت آل عمران قبل النساء ولهذا اتفق الصحابة رضي الله عنهم على أن آل عمران بعد سورة البقر فهي بينها وبين سورة النساء والله الموفق
993 - وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيركم من تعلم القرآن وعلمه رواه البخاري(4/638)
994 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران متفق عليه
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى فيما نقله في كتابه رياض الصالحين باب فضل قراءة القرآن عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه الخطاب للأمة عامة فخير الناس من جمع بين هذين الوصفين من تعلم القرآن وعلم القرآن تعلمه من غيره وعلمه غيره والتعلم والتعليم يشمل التعلم اللفظي والمعنوي فمن حفظ القرآن يعني صار يعلم الناس التلاوة ويحفظهم إياه فهو داخل في التعليم وكذلك من تعلم القرآن على هذا الوجه فهو داخل في التعلم وبه نعرف فضيلة الحلق الموجودة الآن في كثير من البلاد ولله الحمد في المساجد حيث يتعلم الصبيان فيها كلام الله عز وجل فمن ساهم فيها بشيء فله أجر ومن أدخل أولاده فيها فله أجر ومن تبرع وعلم فيها فله أجر كلهم داخلون في قوله خيركم من تعلم القرآن وعلمه(4/639)
والنوع الثاني تعليم المعنى يعني تعليم التفسير أن الإنسان يجلس إلى الناس يعلمهم تفسير كلام الله عز وجل كيف يفسر القرآن والقرآن كما نعلم متشابه تجد في بعض الأحيان آيات تتكرر بلفظها مثل يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير هذه تكررت بلفظها في سورتين التوبة والتحريم وكذلك كثير من الآيات يتكرر فإذا علم الإنسان غيره كيف يفسر القرآن وأعطاه القواعد في ذلك فهذا من تعليم القرآن وليعلم أن القرآن الكريم ليس كغيره من الكتب من حيث التفسير يعني أنه لا يجوز للإنسان أن يفسر القرآن بهواه ويحمل الآيات على ما يريده هو كما يفعل أهل الإلحاد بآيات الله عز وجل من أهل التعطيل وغيرهم يحملون الآية على غير ما أراد الله مثلا يقول في قوله تعالى {وجاء ربك والملك صفا صفا} يقول وجاء أمر ربك هذا حرام لا يجوز لأن الذي يفسر القرآن إنما يشهد على الله أنه أراد كذا وهذه عظيمة وليست هينة لو كنت تفسر كلام عالم من العلماء لعد ذلك جناية إذا فسرته بما يريد أنت فكيف بكلام رب العالمين ولهذا جاء في الحديث من قال في(4/640)
القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار فالواجب أن الإنسان يتحرز من أن يقول معنى الآية كذا وكذا وهو لا يدري لكن إذا كان طالب علم وتكلم بمعنى الآية عند من هو أعلم منه على أساس أنه سيرشده إذا أخطأ فلا بأس ومن ذلك ما يلقى في الاختبارات مثل فسر الآية كذا وكذا ويكون الطالب ليس عنده في تلك الساعة استحضار لمعناها فهل يفسرها بما عنده نقول نعم لأن هذا يختبر وإذا أخطأ فعنده من سينبهه لكن يتحرى أخطاءه أما الإنسان الذي يفسر ليس على هذا الوجه وهو ليس عنده علم فإنه لا يجوز له أن يقدم على هذا لأن كلام الله ليس كغيره أما حديث عائشة رضي الله عنها ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة الماهر الذي يجيد القرآن يتقنه هذا مع السفرة الكرام البررة وهؤلاء السفرة الكرام البررة هم الملائكة كما قال تعالى {في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة} فالماهر مع الملائكة وأما الذي يتتعتع فيه يتهجاه وهو عليه شاق فله أجران الأول للتلاوة والثاني للتعب(4/641)
والمشقة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة أجرك على قدر نصبك أي على قدر تعبك فالذي يتتعتع في القرآن ويشق عليه له أجران أجر التلاوة وأجر قراءة القرآن لكن الأول أفضل منه لأن الأول مرتبته عظيمة وفرق بين إنسان له مرتبة عالية وإنسان دون ذلك ولكن له أجر ونضرب مثلا لهذا والثواب ليس له نظير لكن لو أن رجلا له شرف وسيادة ومنزلة عالية في الناس لكن دراهمه قليلة وآخر وضيع بين الناس ليس له قيمة لكن دراهمه كثيرة الأول أفضل فالمهم أن الماهر بالقرآن المجيد فيه مع السفرة الكرام البررة وأما الذي يتلوه ويتتعتع فيه وهو عليه شاق فله أجران إذا تالي القرآن ليس بخاسر مهما كان والله الموفق
995 - وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها حلو ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا(4/642)
ريح لها وطعمها حلو ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر متفق عليه
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث ساقه المؤلف رحمه الله في باب فضل قراءة القرآن في رياض الصالحين في بيان أحوال الناس بالنسبة للقرآن أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب أمثلة للمؤمن والمنافق المؤمن إما أن يكون قارئا للقرآن أو غير قارئ فإن كان قارئا له فمثله كمثل الأترجة يعني الثمرة ريحها طيب وطعمها طيب فهذا المؤمن الذي يقرأ القرآن لأن نفسه طيبة وقلب طيب وفيه خيره لغيره الجلسة معه خير وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل الجليس الصالح كمثل حامل المسك إما أن يبيعه أو تجد منه رائحة طيبة فالمؤمن الذي يقرأ القرآن كله خير في ذاته وفي غيره فهو كالأترجة لها رائحة طيبة ذكية وطعمها طيب(4/643)
أما المؤمن الذي لا يقرأ القرآن فهو كمثل التمرة طعمها حلو ولكن ليس لها رائحة ذكية كرائحة الأترجة ونفى النبي صلى الله عليه وسلم ريحها لأنه ليس بريح طيب وإن كان كل شيء له رائحة لكن ليست رائحتها ذكية لكنها حلوة طيبة هذا المؤمن الذي لا يقرأ القرآن إذا فالمؤمن القارئ للقرآن أفضل بكثير من الذي لا يقرأ القرآن ومعنى لا يقرؤه يعني لا يعرفه ولم يتعلمه ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة لها رائحة طيبة لكن طعمها مر لأن المنافق في ذاته خبيث لا خير فيه والمنافق هو الذي يظهر أنه مسلم ولكن قلبه كافر والعياذ بالله هو الذي قال الله فيه ومن الناس يقول آمنا بالله وباليوم الأخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون يوجد منافقون يقرءون القرآن قراءة طيبة مرتلة مجودة لكنهم منافقون والعياذ بالله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج يقرءون القرآن لا يتجاوز حناجرهم هؤلاء والعياذ بالله(4/644)
ضرب لهم النبي صلى الله عليه وسلم مثلا بالريحانة ريحها طيب وذلك لما معهم من القرآن وطعمها مر وذلك لخبث طويتهم وفساد نيتهم والمنافق الذي لا يقرأ القرآن ضرب النبي صلى الله عليه وسلم له مثلا بالحنظلة طعمها مر وليست لها ريح هذا المنافق الذي لا يقرأ القرآن لا خير فيه طعمه مر وليس معه قرآن ينتفع الناس به هذه أقسام الناس بالنسبة لكتاب الله عز وجل فاحرص أخي المسلم على أن تكون من المؤمنين الذين يقرءون القرآن ويتلونه حق تلاوته حتى تكون كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها حلو والله الموفق
996 - وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب فضل قراءة القرآن فيما نقله عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما(4/645)
ويضع به آخرين يعني معناه أن هذا القرآن يأخذه أناس يتلونه ويقرءونه فمنهم من يرفعه الله به في الدنيا والآخرة ومنهم من يضعهم الله به في الدنيا والآخرة فمن هذا ومن هذا من عمل بهذا القرآن تصديقا بأخباره وتنفيذا لأوامره واجتنابا لنواهيه واهتداء بهديه وتخلقا بما جاء به من أخلاق وكلها أخلاق فاضلة فإن الله تعالى يرفعه به في الدنيا والآخرة وذلك لأن هذا القرآن هو أصل العلم ومنبع العلم وكل العلم وقد قال الله تعالى يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات أما في الآخرة فيرفع الله به أقواما في جنات النعيم ويقال للقارئ اقرأ ورتل واصعد وله إلى منتهى قراءته صعود في الجنة إن شاء الله وأما الذين يضعهم الله به فقوم يقرءونه ويحسنون قراءته لكنهم يستكبرون عنه والعياذ بالله لا يصدقون بأخباره ولا يعملون بأحكامه يستكبرون عنه عملا ويجحدونه خبرا إذا جاءهم شيء من القرآن كقصص الأنبياء السابقين أو غيرهم أو عن اليوم الآخر أو ما أشبه ذلك صاروا والعياذ بالله يشككون في(4/646)
ذلك ولا يؤمنون بل {في قلوبهم مرض} مرتابون والعياذ بالله وربما يصل بهم الحال إلى الجحد مع أنهم يقرءون القرآن وفي الأحكام يستكبرون لا يأتمرون بأمره ولا ينتهون بنهيه هؤلاء والعياذ بالله يضعهم الله في الدنيا والآخرة ولابد أن يكون أمرهم خسارا حتى لو فرض أن الدنيا دانت لهم وتزخرفت فإن مآلهم إلى الخسار والعياذ بالله ولكن ربما يمهل لهم ويملي لهم وتنفتح عليهم الدنيا ولكنهم كلما انفتح عليهم شيء من زهرة الدنيا فإنهم لا يزدادون به إلا خسارا والعياذ بالله {ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون} يعني ربما يمهل الله سبحانه وتعالى للكافر الجاحد المستكبر وتزدان له الدنيا لكنه لا يزيده ذلك إلا خسارا وإنما في الآخرة والعياذ بالله فالحذر الحذر أن تكون من القسم الثاني يضعهم الله بهذا القرآن كن من القسم الأول الذين يرفعهم الله بالقرآن جعلنا الله وإياكم منهم(4/647)
997 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا حسد إلا في اثنين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار متفق عليه والآناء الساعات
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في باب فضل القرآن في كتاب رياض الصالحين فيما نقله عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا حسد إلا في اثنتين الحسد قال العلماء إن معناه هنا هو الغبطة يعني لا شيء فيه غبطة إلا هاتين الاثنتين وذلك لأن الناس يغبط بعضهم بعضا في أمور الدنيا وفي أمور الآخرة فتجد مثلا بعض الناس يغبط هذا الرجل حين أعطاه الله المال والأولاد والأهل والقصور والسيارات وما أشبه ذلك يقول هذا هو الحظ هذا هو المغتبط وما أشبه ذلك يحسد يغبط بعض الناس على ما آتاه الله من الصحة وسلامة البنيان وغير ذلك يغبطه على أنه له شرف وجاه في قومه إن قال سمع وإن عمل اتبع فيقول هذا هو(4/648)
الحظ لكن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الذي يغبط من حصل على هذين الاثنين الأولى آتاه الله تعالى الحكمة القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار آتاه الله القرآن حفظه وفهمه وعمل به آناء الليل والنهار يقوم به يفكر ماذا قال الله عز وجل عن الصلاة فيقول أقيموا الصلاة فيقيمها ماذا قال عن الزكاة فيقول {وءاتوا الزكاة} فيؤتيها ماذا قال عن الوالدين قال الله تعالى {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا} وماذا قال عن صلة الأرحام {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} فيصل رحمه ماذا قال عن الجيران قال تعالى {والجار ذي القربى والجار الجنب} إلى آخره فتجده يقوم بالقرآن آناء الليل والنهار هذه هي الغبطة وهي الغنيمة وهي الحظ والثاني رجل آتاه الله المال يعني صار غنيا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار يعني في سبيل الله فيما يرضي الله عز وجل أي شيء يرضي الله ينفق ماله فيه بناء المساجد الصدقات على الفقراء إعانة المجاهدين إعانة الملهوفين وغير ذلك المهم لا يجد شيئا يقرب إلى الله إلا بذل ماله فيه(4/649)
ليلا ونهارا ليس ممسكا ولا مبذرا فيغلو ويزيد بل ينفقه لله وبالله وفي الله منفقا لله مستعينا به متمشيا على شرعه هذا هو الذي يغبط أما الذي عنده حظ من الدنيا يتمتع به كما تتمتع البهيمة بالعلف ثم يذهب عنها هذا ليس محسودا ولا يحسد على ذلك لأنه تالف أو متلوف عنه لكن الذي ينفق ماله في سبيل الله فهذا هو الذي يغبط وفي هذا دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يقوم بالقرآن آناء الليل والنهار دائما يجعل أعماله كلها مبنية على القرآن يتمشى بهدي القرآن وأنه ينبغي لمن آتاه الله المال أن يؤدي حقه ويقوم بواجبه وينفقه حيث كان إنفاقه خيرا والله الموفق
998 - وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدنو وجعل فرس ينفر منها فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال تلك السكينة تنزلت للقرآن متفق عليه(4/650)
الشطن بفتح الشين المعجمة والطاء المهملة الحبل
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف النووي رحمه الله في كتاب رياض الصالحين في باب فضل قراءة القرآن ما يدل على فضل قراءة القرآن من الأحاديث السابقة واللاحقة فمن ذلك حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن رجلا كان يقرأ في سورة الكهف وسورة الكهف هي التي بين الإسراء ومريم هذه السورة من فضائلها أن الإنسان إذا قرأها يوم الجمعة أضاء له ما بين الجمعتين وفيها قصص وعبر قصها الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم وكان هذا الرجل يقرأ القرآن فغشاه يعني غطاه شيء مثل الظلة كأنه غمامة كلما قرأ نزل كلما قرا نزل من فوق وجعلت الفرس وهي مربوطة بشطنين جعلت تميل تنفر من هذا الذي رأته فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال تلك السكينة نزلت لقراءة القرآن لأن السكينة تنزل عند قراءة القرآن إذا قرأه الإنسان بتمهل وتدبر فإن السكينة تنزل حتى تصل إلى قلب القارئ فينزل الله السكينة في قلبه وهذه القصة من كرامات الأولياء والأولياء لهم كرامات لكن ليس لكل ولي كرامة إنما يؤتى الله بعض أوليائه كرامة تثبيتا له وتصديقا لما كان عليه من الحق وهي يعني(4/651)
الكرامات أمور خارقة للعادة يعني لا يأتي على وفق العادة يجريها الله عز وجل على يدي بعض أوليائه تكريما له وتثبيتا له وتصديقا لما هو عليه من الحق وهي في نفس الوقت معجزة للرسول الذي يتبعه هذا الولي وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن الخوارق ثلاثة أقسام 1 - قسم آيات للأنبياء 2 - وقسم كرامات للأولياء 3 - وقسم إهانات من الشياطين يجريها الله على خلاف العادة على أيدي الشياطين والعياذ بالله وعلامة ذلك أن الذي تحصل له هذه الخوارق إما أن يكون نبيا أو وليا للرحمن أو وليا للشيطان ومن المعلوم أنه بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن تكون كرامة معجزة أبدا لأن النبوة انقطعت وذاك رسول الله وخاتم النبيين بقيت الكرامات والأحوال الشيطانية والشعوذات والسحر وما أشبه ذلك الكرامات علامتها أن يجريها الله عز وجل على يد عبد صالح من أولياء الله وأولياء الله هم المؤمنون المتقون كما قال تعالى ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون فإذا أجرى شيء خارق للعادة على يد رجل صالح مؤمن تقي معروف بالخير قيل هذه كرامة القسم الثالث السحر والأحوال الشيطانية وهذه تجري على طواغيت(4/652)
وأولياء الشياطين الذين يدعون أنهم أولياء ويلعبون بعقول السفهاء وعقول العامة تجد الإنسان يكبر عمامته ويوسع كمه ويطيل لحيته ويعفر جبهته في الأرض ليظهر عليه أثر السجود وما أشبه ذلك من اللعب بعقول الناس ثم يستخدم الشياطين لأغراض خاصة فتقلب له البعير وربما تحمله في الهواء ويطير حتى إن بعضهم شوهد في أول يوم عرفة ثم حملته الشياطين حتى أدرك الناس في عرفة ...
هذا من زمان وهم يلعبون بعقول الناس هؤلاء شياطين وإن كانوا يفعلون هذا الشيء فإنه لا كرامة لهم والكرامات والإهانات ألف فيها العلماء كثيرا ومن أحسن ما ألف كتاب [الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان] لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ذكر فيها أشياء كثيرة من كرامات الأولياء وأشياء أخرى من إهانات الأعداء يذكر أن (مسيلمة الكذاب) الذي خرج في اليمامة بالرياض وادعى أنه نبي أنه جاءه قوم فقالوا له إن عندنا بئرا غار ماؤها ولم يبق منه إلا قليل(4/653)
وطلبوا منه أن يأتي إليها لأجل أن يباركها كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا شكوا إليه قلة الماء يسر على يديه صلى الله عليه وسلم أن ينبع الماء من بين أصابعه فجاءوا إلى (مسيلمة الكذاب) فذهب إلى البئر يقولون إنه مج فيها مجة من الماء ولما مج فيها غار الماء الموجود فيها وكانوا يتوقعون أن الماء يكثر وينهمر فأراهم الله عز وجل آية لتكذيب هذا الرجل هذا لاشك أنه أمر خارق للعادة لأنه ليس من العادة أن الإنسان يمج الماء في بئر ليس فيها إلا ماء قليل ثم يغار هذا خلاف العادة لكن الله أجرى ذلك إهانة له فعلى كل حال إذا رأيت من شخص ما يكون خارقا للعادة فإن كان مؤمنا تقيا يعرف بالصلاح والاستقامة فهذا من كرامات الأولياء وإن لم يكن كذلك فهي أحوال شيطانية من الشياطين أو سحر يسحر أعين الناس لأن السحر قد يسحر الأعين حتى ترى المتحرك ساكنا والساكن متحركا فهاهم سحرة فرعون ألقوا حبالا عادية وعصيا في الأرض ثم سحروا أعين الناس حتى جعل الوادي كله حيات حتى موسى صلى الله عليه وسلم أوجس في نفسه خيفة فأوحى الله تعالى أن يلقى عصاه {فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين} حية عظيمة فجعلت تمشي على هذه الحبال والعصي تلقفها فعرفوا أنه صادق لأنه التهم كل سحر فالحاصل أن هذه الظلة التي حصلت للقارئ والذي كان يقرأ سورة الكهف هذه كرامة له وهي شهادة من الله عز وجل بالفعل(4/654)
على أن هذا القرآن حق تنزل السكينة لقراءته وتلاوته نسأل الله تعالى أن ينفعنا وإياكم به وأن يجعله حجة لنا وقائدا إلى جنات النعيم
999 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح(4/655)
باب الأمر بتعهد القرآن والتحذير من تعريضه للنسيان
1002 - عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها متفق عليه
1003 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت متفق عليه
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله في كتاب رياض الصالحين باب الأمر بتعهد القرآن والتحذير من تعريضه للنسيان يعني أن كتاب الله عز وجل إذا من الله عليك فحفظته فتعهده وذلك لأن القرآن الكريم كما شبهه النبي صلى الله عليه وسلم كالإبل في عقلها إذا تعهدها الإنسان أمسكها وإن أطلقها ذهبت(4/657)
وضاعت وقد أقسم على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حين قال كما في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها فينبغي لك أن تجعل لك حزبا معينا تتعاهده كل يوم مثلا تقول كل يوم أقرأ جزءا فتختم القرآن في شهر أو جزأين فتختمه في خمسة عشر يوما أو ثلاثا أجزاء فتختمه في عشرة أيام إلى تسعة أيام إلى ثلاثة أيام تعاهد هذا حتى لا تنساه وقد وردت أحاديث في التحذير من نسيانه لمن أهمله أما من نساه بمقتضى الطبيعة فإنه لا يضر لكن من أهمل وتغافل عنه بعد أن أنعم الله عليه بحفظه فإنه يخشى عليه من العقوبة فأنت يا أخي إذا من الله عليك بالقرآن فتعاهده بالقراءة بتلاوته بتكرار التلاوة وكذلك أيضا بالعمل به لأن العمل بالشيء يؤدي إلى حفظه وبقائه ولهذا قال بعض العلماء قيد العلم بالعمل به فإن العمل بالعلم يقتضي بقاءه لأنه لا يزال على قلبك وعلى جوارحك فإذا صار هكذا فإنه يبقى ولا ينسى أما إذا أهمل فإنه يضيع وينبغي لمن قرأ القرآن أن يقرأه بتدبر وتمهل ولا يحل له أن يسرع السرعة التي توجب إسقاط بعض الحروف لأنه إذا أسقط بعض الحروف فقد غير كلام الله من موضعه وحرفه أما العجلة التي لا تستوجب سقوط الحروف فإنه لا بأس بها والله الموفق(4/658)
باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن وطلب القراءة من حسن الصوت والاستماع لها
1004 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما أذن لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به متفق عليه.
معنى أذن الله أي استمع وهو إشارة إلى الرضي والقبول.
1005 - وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود متفق عليه.
وفي رواية لمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة(4/659)
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) في آداب القراءة باب استحباب تحسين الصوت بالقراءة وطلب القراءة من حسن الصوت والاستماع إليه هاتان مسألتان: المسألة الأولى استحباب تحسين الصوت في قراءة القرآن وتحسين الصوت ينقسم إلى قسمين أحدهما تحسين الأداء بحيث يبين الحروف ويخرجها من مخارجها حتى يبدو القرآن واضحا بينا فلا يخفى ولا يحذف شيء من الحروف لئلا ينقص شيء مما أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثاني تحسين النغمة بالصوت يحسن به صوته وكلاهما أمر مطلوب ولكن الأمر الأول تحسين الأداء لا ينبغي المبالغة فيه والغلو فيه بحيث تجد الرجل يقرأ القرآن يتكلف ويحمر وجهه ويتكلف في الغنة وفي الإدغام وفي مثل ذلك فإن هذا من إقامة الحروف المتكلفة ولكن لتكن قراءته طبيعية يبين فيها الحروف والحركات هذا هو المطلوب وأما الغلو والمبالغة فإنهما ليسا مطلوبين وبه نعلم أن تعلم التجويد ليس بواجب لأنه يعود إلى تحسين الصوت بدون غلو ولا مبالغة فهو من الأمور المستحبة التي يتوصل بها الإنسان إلى شيء(4/660)
مستحب لا إلى شيء واجب.
وأما القسم الثاني هو تحسين الصوت فقد يقول قائل حسن الصوت ليس باختيار الإنسان لأن الله تعالى هو الذي يمن على من يشاء من عباده فيعطيه حنجرة قوية وصوتا طيبا فيقال نعم الأمر كذلك لكن يحسن الإنسان الصوت بالتعلم لأن حسن الصوت غريزي ومكتسب فلا يزال يقرأ بصوت حسن حتى يتعلم ويؤدي بصوت حسن & ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أذن الله لشيء إذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به.
أذن قال العلماء استمع يعني ما استمع الله لشيء من الأشياء التي يسمعها جل وعلا مثل استماعه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به يعني نبي والأنبياء هم أفضل طبقات الخلق يتغنى بالقرآن يعني يقرؤه بصوت حسن يجهر به يعني يرفع صوته به فهذا هو الذي يأذن الله له أي يستمع له جل وعلا لأنه يحب الصوت الحسن بالقرآن والأداء الحسن.
ثم ذكر حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وهو عبد الله بن قيس أحد خطباء النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم استمع إلى قراءته ذات ليلة فأعجبته فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود(4/661)
وآل داود يعني به داود صلى الله عليه وسلم داود عنده صوت حسن جميل رفيع حتى قال الله تعالى يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد فكانت الجبال ترجع مع داود وهو يتلو الزبور لحسن صوته تجاوبه جبال أحجار جامدة وكذلك الطير تؤوب معه سبحان الله تأتي فإذا سمعت قراءته تجمعت في جو السماء وجعلت ترجع معه فكانت الجبال والطيور إذا سمعت قراءة داود للزبور قامت ترجع معه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود يعني صوتا حسنا كصوت آل داود يقول أبو موسى لما قال له الرسول لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة قال لو علمت أنك تستمع أو قال تسمع لحبرته لك تحبيرا يعني يزينه أحسن مما كان.
قال العلماء وفي هذا دليل على أن الإنسان لو حسن صوته بالقرآن لأجل أن يتلذذ السامع ويسر به فإن ذلك لا بأس به ولا يعد من الرياء بل هذا مما يدعو إلى الاستماع لكلام الله عز وجل حتى يسر الناس به ولهذا يوجد(4/662)
بعض الناس إذا ضاق صدره استمع إلى قراءة إنسان حسن القراءة حسن الصوت وهذه متيسرة الآن في أشرطة لبعض القراء الذي لا يتكلفون القراءة وأصواتهم حسنة وأداؤهم حسن إذا استمع الإنسان إليهم لا يكاد يمل لأن كلام الله له تأثير إذا جاء من إنسان حسن الصوت وحسن الأداء لا يمل.
ويستفاد من هذين الحديثين أنه ينبغي للإنسان أن يقرأ القرآن على أكمل ما يمكنه أن يقرأه عليه من حسن الصوت وحسن الأداء ونسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن يقيم حروفه وحدوده حتى يكون حجة لنا لا علينا والله الموفق.
1006 - وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء بالتين والزيتون فما سمعت أحدا أحسن صوتا منه متفق عليه.
1007 - وعن أبي لبابة بشير بن عبد المنذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من لن يتغن بالقرآن فليس منا رواه أبو داود بإسناد(4/663)
جيد.
ومعنى يتغنى يحسن صوته بالقرآن.
1008 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال لي النبي صلى الله عليه وسلم اقرأ علي القرآن فقلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل قال إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} قال حسبك الآن فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في بيان تحسين الصوت والقراءة في القرآن الكريم فحديث البراء بن عازب رضي الله عنه أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء فقرأ والتين والزيتون قال فما سمعت قراءة أحسن من قراءته أو قال صوتا أحسن من صوته وكلاهما صحيح فالنبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس صوتا بالقرآن وهو أول وأولى من يدخل في قوله فيما سبق من حديث ما أذن الله لشيء(4/664)
إذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به فرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس صوتا بالقرآن وأحسن الناس أداء في القراءة لأن القرآن عليه أنزل والقرآن هو خلقه صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الحديث دليل على أن صلاة العشاء لا بأس أن يقرأ فيها بقصار المفصل لأن سورة التين من قصار المفصل ولكن الأكثر أن يقرأ فيها من أوساطه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذ بن جبل أن يقرأ فيها بـ (سبح اسم ربك الأعلى) (هل أتاك حديث الغاشية) (والليل إذا يغشى) (والشمس وضحاها) وما أشبه ذلك لكن لا حرج أن يقرأ بقصار المفصل (كالتين وإذا زلزلت) وما أشبه ذلك وكذلك أيضا حث النبي صلى الله عليه وسلم على التغني بالقرآن وقال من لم يتغن بالقرآن فليس منا.
قال العلماء وهذه الكلمة لها معنيان الأول (من لم يتغن به) أي من لم يستغن به عن غيره بحيث يطلب الهدى من سواه فليس منا فهذا لا شك أن من طلب الهدى من غير القرآن أضله الله والعياذ بالله.
والمعنى الثاني (من لم يتغن) أي من لم يحسن صوته بالقرآن(4/665)
فليس منا فيدل على أنه ينبغي للإنسان أن يحسن صوته بالقرآن وأن يستغنى به عن غيره.
وأما الحديث الثالث عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب منه أن يقرأ عليه فقال عبد الله بن مسعود أأقرأ عليك وعليك أنزل فقال صلى الله عليه وسلم إني أحب أن أسمعه من غيري لأن الإنسان الذي يستمع قد يكون أقرب إلى تدبر القرآن من القارئ فالقارئ تجده يركز على ألا يخطئ في القراءة والمستمع يتدبر ويتأمل ولهذا قيل (القارئ حالب والمستمع شارب) يعني القارئ يحلب الناقة أو الشاة والمستمع شارب فهو الذي يستفيد المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من عبد الله بن مسعود أن يقرأ عليه فقال أأقرأ القرآن وعليك أنزل قال إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأ بسورة النساء حتى إذا جاء إلى قول الله تعالى {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيد} يعني كيف تكون الحال فقال صلى الله عليه وسلم حسبك الآن يقول فالتفت فإذا عيناه تذرفان يبكي صلى الله عليه وسلم أن يؤتى به يوم القيامة شهيدا على أمته لأنه يؤتى يوم القيامة من كل أمة بشهيد الأنبياء شهداء العلماء شهداء لأن العلماء واسطة بين الرسل وبين الخلق هم الذين يحملون شريعة الرسل إلى الخلق فهم شهداء(4/666)
فالعالم يشهد بأمرين.
أمر أعلى وأمر أسفل الأمر الأعلى يشهد بأن هذا حكم الله والأمر الأسفل يشهد لأنه قد بلغ الناس لأن العالم يبلغ فمثلا يقرأ آية حديثا ويقول للناس معناها كذا وكذا اعلموا بها فيشهد عليهم فهو شاهد من طرفين طرف أعلى وطرف أسفل الطرف الأعلى أنه يشهد بأن هذا حكم الله بلغه للعباد والأسفل أنه يشهد أنه بلغ الناس به فقامت عليهم الحجة فيوم القيامة يؤتى من كل أمة بشهيد وأول من يشهد الرسل نشهد أننا بلغنا رسالة ربنا إلى خلقه ويؤتى من هذه الأمة بـ محمد صلى الله عليه وسلم يستشهده الله فيشهد أنه بلغ مع أن النبي صلى الله عليه وسلم استشهد ربه في أكبر مجمع للمسلمين في ذلك الوقت في يوم عرفة لما خطب الناس الخطبة الطويلة العظيمة البليغة قال ألا هل بلغت قالوا نعم قال اللهم اشهد قال ألا هل بلغت قالوا نعم قال اللهم اشهد قال(4/667)
ألا هل بلغت قالوا نعم قال اللهم اشهد.
لما وصل إلى هذه الآية بكى صلى الله عليه وسلم لأمه تصور هذه الحال تخيلها حالا عظيمة كل أمة جاثية وكل أمة تدعى إلى كتابها كل أمة تأتي على الركب من شدة الهول وعظمته {كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون} ولهذا قال في الآية الكريمة التي وقف عليها عبد الله بن مسعود {يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض} يعنى يودون أنهم ما بعثوا وما قبضوا {ولا يكتمون الله حديثا} {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا} يودون أنهم بقوا في الأرض أو أن يكونوا ترابا ولكن لا ينفعهم ولهذا قال تعالى {ولا يكتمون الله حديثا} فالمهم أنه يجوز للإنسان أن يطلب من شخص قارئ أن يقرأ عليه ولو كان هذا القارئ أقل منه علما لأن بعض الناس يعطيه الله تعالى حسن صوت وحسن أداء وإن كان قليل العلم فلا بأس أن تقول يا فلان جزاك الله خيرا اقرأ علي إما أن تعين له ما يقرأ وإما أن تدع الأمر إليه فتستمع وفي هذا الحديث بركة القرآن أنه ينتفع به القارئ والمستمع ولا شك أن القرآن أعظم الكتب بركة وأفيدها(4/668)
وأصلحها للقلب وأرضاها للرب نسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهل القرآن الذين يعملون به ظاهرا وباطنا يموتون عليه ويحيون عليه والله الموفق.(4/669)
باب الحث على سور وآيات مخصوصة
1010 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في {قل هو الله أحد} والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن.
وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه أيعجز أحدكم أن يقرأ بثلث القرآن في ليلة فشق ذلك عليهم وقالوا أينا يطيق ذلك يا رسول الله فقال قل هو الله أحد الله الصمد ثلث القرآن رواه البخاري.(4/670)
1011 - وعنه أن رجلا سمع رجلا يقرأ قل هو الله أحد يرددها فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وكأن الرجل يتقالها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن رواه البخاري.
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله فيما نقله من الأحاديث في باب الحث على سور معينة في كتاب الله في فضل قل هو الله أحد الله الصمد ...
وهي تسمى سورة الإخلاص لأن الله سبحانه وتعالى أخلصها لنفسها فلم يذكر فيها شيئا إلا من أسماء الله وصفاته وأيضا من قرأها مؤمنا بها معتقدا لما دلت عليه فإنه مخلص الله عز وجل سالم من الشرك هذه السورة كلها أسماء لله وصفاته (قل هو الله أحد) يقال إن المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا انسب لنا ربك يعني ما نسبه كأنهم يقولون من(4/673)
هو ابن له والعياذ بالله أو أنهم سألوه من أي شيء هو أمن ذهب أو فضة أو ما أشبه ذلك فأنزل الله هذه السورة.
{قل هو الله أحد} أحد يعني واحد منفرد عن كل مخلوقاته جل وعلا و (أحد) اسم مختص بالله سبحانه وتعالى لا يطلق على غيره.
{الله الصمد} الصمد اختلفت عبارات المفسرين في معناه لكن المعنى الجامع لها أن الصمد هو الكامل في صفاته الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته فهو الكامل في علمه في قدرته في رحمته في حلمه وفي غير ذلك من صفاته وكذلك هو الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته كل الخلائق تصمد إليه في حاجتها وتسأله حتى المشركون إذا كانوا في البحر وماجت الأمواج فإنما يدعون الله وحده فهو جل وعلا مرجع الخلائق كلها فالصمد إذا معناه الكامل في صفاته الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} لم يلد ليس له أولاد عز وجل لأنه غني عن كل أحد قال الله تعالى {أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة} وفي هذا رد وإبطال لما ادعته اليهود والنصارى والمشركون اليهود قالوا عزيز ابن الله يعني قالوا إله يلد وابنه عزير والنصارى(4/674)
قالوا المسيح ابن الله والمشركون قالوا الملائكة بنات الله فأبطل الله ذلك كله {لم يلد ولم يولد} وذلك لأنه جل وعلا هو الأول الذي ليس قبله شيء فهو الأول وما بعده كائن بعد أن لم يكن أما الرب جل وعلا فإنه أول أزلي أبدي.
{ولم يكن له كفوا أحد} يعني لا أحد يكافئه ويكون ندا له لا في علمه ولا في قدرته ولا في غير ذلك ولما افتخرت عاد بقوتها وقالوا {من أشد منا قوة} قال الله عز وجل {أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات} ريحا هواء من ألين المخلوقات فدمرهم تدميرا وهم يقولون من أشد منا قوة؟ ! والله عز وجل لا يكون له كفوا أحد.
واعلم أن (كفوا) فيها ثلاث قراءات كفوا بضم الفاء ولا يصلح أن تكون كفوا بسكون الفاء وفيها قراءتان أخريان بالهمز مع سكون الفاء وبالهمزة مع ضم الفاء كفئا وكفؤا وأما مع الواو فإنها مضمومة ونسمع كثيرا من القراء يقرءونها بالسكون مع الواو وهذا لحن فأنت إذا قرأتها بالواو ضم الفاء.
وهذه السورة أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنها تعدل ثلث القرآن وقال(4/675)
لأصحابه أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فشق عليهم ذلك فقال {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} تعدل ثلث القرآن يعني أجرها كأجر ثلث القرآن لكنها لا تجزئ عن القرآن ولهذا لو قرأها الإنسان مثلا ثلاث مرات بدل قراءة الفاتحة في الصلاة لا تجزئ لأن هناك فرقا بين المعادلة في الأجر والمعادلة في الإجزاء قد يكون الشيء معادلا لغيره في الأجر ولكنه لا يعادله في إجزائه أرأيتم مثلا إذا قال الإنسان لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل يعني يعادل عتق أربعة رقاب لكن لو كان عليه عتق رقبة وقال ذلك ما نفعه ذلك فهناك فرق بين المعادلة في الثواب والمعادلة في الإجزاء فهي تعدل ثلث القرآن في الثواب ولكنها لا تعدل في الإجزاء ولهذا لو قرأها الإنسان ثلاث مرات في الصلاة لم تجزئه عن الفاتحة والله الموفق.(4/676)
1012 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في {قل هو الله أحد} إنها ثلث القرآن رواه مسلم.
1013 - وعن أنس رضي الله عنه أن رجلا قال يا رسول الله إني أحب هذه السورة قل هو الله أحد قال إن حبها أدخلك الجنة رواه الترمذي وقال حديث حسن رواه البخاري في صحيحه تعليقا.
1014 - وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس رواه مسلم
1015 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان فلما نزلتا أخذ بهما وترك ما سواهما رواه الترمذي وقال حديث حسن.(4/677)
1016 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي تبارك الذي بيده الملك رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن وفي رواية أبي داود تشفع.
1017 - وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه متفق عليه.
قيل كفتاه المكروه تلك الليلة وقيل كفتاه من قيام الليل.
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله تعالى في باب الحث على قراءة سور وآيات معينة من سور القرآن ما سبق في سورة الفاتحة وسورة الإخلاص وقد تقدم الكلام عليهما ومن ذلك المعوذتان فإن المعوذتين وهما قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس ما تعوذ بهما متعوذ عن إيمان وصدق إلا أعاذه الله عز(4/678)
وجل أما سورة {الفلق} فيقول الله عز وجل {قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق} يعني قل أيها الإنسان مستعينا بربك أعوذ برب الفلق من شر ما خلق.
الفلق فلق الصبح وفلق الحب والنوى قال الله تعالى {فالق الإصباح} وقال {إن الله فالق الحب والنوى} فهو عز وجل رب الفلق لا يستطيع أحد أن يفلق شيئا من هذه التي ذكرها الله إلا الله عز وجل {من شر ما خلق} أي كل ما خلق ومنهم نفسه كما جاء في الحديث الصحيح نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا والنفس أمارة بالسوء فتستعيذ بالله من شر ما خلق أي من شر كل ما خلق من الإنس والجن والنفس وغير ذلك {ومن شر غاسق إذا وقب} الغاسق الليل لأن الليل تخرج فيه الهوام وتخرج فيه السباع وتكون فيه الشرور فتستعيذ بالله من شر الليل إذا وقب أي إذا دخل {ومن شر النفاثات في العقد} يعني الساحرات(4/679)
اللاتي ينفثن في العقد ليسحرن الناس ونص على النساء وإن كان السحر يكون في النساء وفي الرجال لأنه هو الغالب فيهن ويجوز أن يكون من {النفاثات} أي النفوس النفاثات فتشمل النساء والرجال {ومن شر حاسد إذا حسد} هذه العين صاحب العين والعياذ بالله الشرير الذي لا يحب الخير للغير تجده إذا من الله على أحد بشيء من مال أو جاه أو علم أو ولد أو زوجة أو غير ذلك يخرج من نفسه الخبيثة كما يخرج السهم فيصيب الرجل وهذا السهم لا ينفعه شيئا لكن نفسه خبيثة والعياذ بالله لا تحب الخير للغير فيصاب الإنسان بالعين قال النبي صلى الله عليه وسلم لو سبق القضاء شيء أو قال القدر لسبقته العين فالعين تدرك وهي حق حتى قال بعض العلماء إنها المراد من قوله تعالى {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر} .
{ومن شر حاسد إذا حسد} ثم قال {إذا حسد} لأن الحاسد قد لا يحسد لكن إذا حسد والعياذ بالله تعدى شره غيره يعني تعدى إلى غيره ويجوز أن يكون المراد بالآية الحاسد العائن وغير العائن لأن بعض الناس حسود والعياذ بالله.(4/680)
والحسد هو كراهة ما أنعم الله به على غيرك وإن كنت لا تتمنى زواله فإن تمنيت زواله صار أشد والعياذ بالله.
والحاسدون والعياذ بالله نسأل الله العافية لا يحرقون إلا أنفسهم الحاسد يحترق كلما أنعم الله على عباده نعمة احترق قلبه فهذا الحاسد والعياذ بالله أحيانا إذا حسد بغى على الغير واعتدى عليهم مثلا افترض أن إنسانا من الله عليه بمال وصار ينفقه في سبيل الله ووجده رجل حسود والعياذ بالله قلبه يحترق أيضا إذا من الله على إنسان بعلم وصار له قبول عند الناس صار والعياذ بالله يحسد وهلم جرا والحسد والعياذ بالله من كبائر الذنوب وقد ذم الله اليهود عليه فقال {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} فالفضل من الله يؤتيه من يشاء وأنت إذا حسدت جنيت على من أعطاهم الله الفضل وجنيت واعتديت على حق الله(4/681)
كأنك تقول ما استحق هذا الرجل هذه النعمة فتحسد هذه سورة الفلق.
والمهم أن الإنسان ينبغي أن يتعوذ بهاتين السورتين وذكر الترمذي رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الجان ومن عين الإنسان حتى نزلت {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} فصار يتعوذ بهما وترك ما سواهما والله الموفق.
1018 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة رواه مسلم.
1019 - وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم قلت الله لا إله إلا هو الحي القيوم فضرب في صدري وقال ليهنك العلم أبا المنذر رواه مسلم.(4/682)
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في بيان فضل آيات أو سور من القرآن الكريم منها سورة البقرة نقل المؤلف رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تجعلوا بيوتكم مقابر قال العلماء معنى ذلك لا تتركوا الصلاة فيها يعني صلوا في بيوتكم وإنما سمى البيوت في حال عدم الصلاة فيها مقابر لأن المقبرة لا تصح الصلاة فيها كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام وقال لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها فالمقبرة لا تصح فيها صلاة النافلة ولا الفريضة ولا سجدة التلاوة ولا سجدة الشكر ولا أي شيء من الصلوات إلا صلاة واحدة وهي صلاة الجنازة إذا صلى على الجنازة في المقبرة فلا بأس سواء كان ذلك قبل الدفن أم بعده لكن بعد الدفن لا(4/683)
يصلى عليها في أوقات النهي يعني مثلا لو جئت لحضور جنازة بعد صلاة العصر ووجدت أنهم قد دفنوها فلا تصل عليها لأنه يمكنك أن تصلي في وقت آخر غير وقت النهي كالضحى مثلا وأما إذا جئت وهم لم يدفنوها لكن قد وضعت في الأرض للدفن فلا بأس أن تصلي عليها ولو كان ذلك بعد العصر لأنه في هذه الحال تكون صلاة لها سبب والصلاة التي لها سبب ليس عنها وقت نهي ثم أخبر صلى الله عليه وسلم أن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة يعني إذا قرأت في بيتك سورة البقرة فإن الشيطان يفر منها ولا يقرب البيت والسبب أن في سورة البقرة (آية الكرسي) ويدل لهذا ما بعد الحديث الذي ذكره المؤلف حديث أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله أي آية في كتاب الله أعظم قال آية الكرسي فضرب النبي صلى الله عليه وسلم على صدره وقال ليهنك العلم يا أبا المنذر يعني هنأه حيث علم أن أعظم آية في كتاب الله (آية الكرسي) لأن هذه الآية مشتملة على عشر صفات من صفات الله عز وجل يقول عز وجل الله لا إله إلا هو الحي القيوم ففي هذا إخلاص التوحيد لله عز وجل ومعنى (لا إله إلا هو) أي لا معبود بحق إلا هو جل وعلا فجميع المعبودات من دون الله معبودة بغير حق حتى وإن سميت آلهة(4/684)
فإنما هي أسماء سموها ما أنزل الله بها من سلطان {الحي القيوم} يعني الكامل في حياته وفي قيوميته فهو الحي الكامل في حياته لم يسبق حياته عدم ولا يلحقها فناء لأنه الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء قال الله عز وجل {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} قال بعض السلف ينبغي لمن قرأ بهذه الآية {كل من عليها فان} ألا يقف بل يقول {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} .
{كل من} لأجل أن يتبين في ذلك نقص المخلوقات وكمال الخالق جل وعلا فهو سبحانه وتعالى الحي الكامل في حياته كذلك حياته لا يلحقها نقص بوجه من الوجوه وحياة غيره كلها نقص انظر حياتك أنت إن جئت بالسمع فسمعك ناقص لا تسمع كل شيء البصر كذلك الصحة كذلك وما أكثر الأمراض التي تصيب الناس وهكذا بقية أسباب الحياة ناقصة.
أما الرب عز وجل فهو كامل الحياة القيوم معناها القائم بنفسه القائم على غيره يعني معنى القائم بنفسه لا يحتاج لغيره {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} و {إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضي لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم} فهو غني وفي(4/685)
الحديث القدسي أنه قال جل وعلا يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني فهو قائم بنفسه لا يحتاج لأحد قائم على غيره كل من سواه فإن القائم عليه هو الله عز وجل قال الله تعالى {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} يعني كمن لا يملك شيئا والقائم على كل نفس بما كسبت هو الله عز وجل.
إذا (القيوم) له معنيان القائم بنفسه والقائم على غيره {لا تأخذه سنة ولا نوم} .
السنة هي النعاس والنعاس هو مقدمة النوم والنوم معروف الله عز وجل لا تأخذه سنة ولا نوم والإنسان تأخذه السنة ويأخذه النوم اختار أم لم يختر أحيانا ينام الإنسان وهو يصلي ينعس وهو يكلم الناس لكن الله عز وجل لا تأخذه سنة ولا نوم لكمال حياته وكمال قيوميته وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يعني(4/686)
مستحيل غاية الاستحالة أن ينام عز وجل لأنه كامل الحياة كامل القيومية من يقوم على الخلق لو نام الخالق لا أحد فهو جل وعلا لا تأخذه سنة ولا نوم والله أعلم.
1020 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إني محتاج وعلي عيال وبي حاجة شديدة فخليت عنه فأصبحت فقال سول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة قلت يا رسول الله شكا حاجة وعيالا فرحمته فخليت سبيله فقال أما إنه قد كذبك وسيعود فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصدته.
فجاء يحثو من الطعام فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود فرحمته وخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة قلت يا رسول الله شكا حاجة وعيالا فرحمته وخليت سبيله فقال إنه قد كذبك وسيعود.
فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم أنك لا(4/687)
تعود ثم تعود فقال دعني فإني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت ما هن قال إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل أسيرك البارحة فقلت يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال ما هي قلت قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} وقال لي لا يزال عليك من الله حافظ ولن يقربك شيطان حتى تصبح فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما إنه قد صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب منذ ثلاث يا أبا هريرة قلت لا قال ذاك شيطان رواه البخاري.
[الشَّرْحُ]
هذه القصة قصة عجيبة عظيمة وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم وكل أبا هريرة رضي الله عنه على صدقة رمضان يعني الفطر يحفظها وكانوا يجمعونها قبل العيد بيوم أو يومين وكان أبو هريرة وكيلا عليها وفي ليلة من الليالي جاء رجل يحثو من الطعام فأمسكه أبو هريرة وقال لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخاف وقال إني(4/688)
ذو عيال وذو حاجة فرحمه وأطلقه فلما أصبح وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له صلى الله عليه وسلم ما فعل أسيرك البارحة وهذه من آيات الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عنده ولكنه علم بذلك عن طريق الوحي قال ما فعل أسيرك البارحة قلت يا رسول الله إنه قال إنه ذو حاجة وذو عيال فرحمته وأطلقته فقال النبي صلى الله عليه وسلم كذبك يعني كذب عليك وسيعود يقول فعلمت أنه سيعود لقول النبي صلى الله عليه وسلم إنه سيعود وكان الصحابة رضي الله عنهم يؤمنون بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كما يؤمنون بما يشاهدونه بأعينهم أو أكثر يقول فرصدته فجاء فجعل يحثو من الطعام فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتكى شكايته الأولى أنه محتاج وذو عيال فرحمه رضي الله عنه وإنما رحمه مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كذبك لأن أبا هريرة يعلم حلم النبي صلى الله عليه وسلم وسعة صدره وأنه لن يؤنبه وفعلا لم يؤنبه فلما أصبح وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره قال إنه كذبك وسيعود وفي المرة الثالثة جعل يترقبه وجاء يأكل من الطعام فقلت لأرفعن أمرك إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المرة لأنك قلت لن تعود ثلاث مرات وعدت فقال دعني وإني أعلمك كلمات ينفعك الله بهن قال وما هن قال آية الكرسي الله لا إله إلا هو الحي(4/689)
القيوم إذا أويت إلى فراشك للنوم فاقرأها فإنه لا يزال عليك من الله حافظ فلا يقربك شيطان حتى تصبح كلمات يسيرة تحفظك لو جعلت مائة حارس ما استطاعوا أن يمنعوا الشياطين عنك ولكن هذه كلمات يسيرة يحفظك الله بها فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له الخبر فقال إنه صدقك وهو كذوب يعني هذه المرة ما قاله لك صادق فيه وهو كذوب أتدري من تخاطب منذ ثلاث ليال قلت يا رسول الله لا أعلم قال ذاك شيطان متلبس في صورة آدمي وفي هذا الحديث فوائد كثيرة(4/690)
ولكننا نعود لشرح آية الكرسي حيث وقفنا عند قوله تعالى {لا تأخذه سنة ولا نوم} والسنة النعاس والنوم معروف {له ما في السماوات وما في الأرض} هذه جملة تفيد عموم ملك الله عز وجل وأنه منفرد بالملك سبحانه وتعالى {له ما في السماوات وما في والأرض} والدليل على عموم ملكه أن (ما) في قوله {ما في السماوات} اسم موصول - يعني له الذي - واسم الموصول يفيد العموم والدليل على انفراده بالملك أنه قدم فيها الخبر {له ما في السماوات} وتقديم الخبر يدل على الحصر فلا أحد يملك شيئا في السماوات ولا في الأرض إلا الله وما يملكه الإنسان من ثياب وعقارات ونحو ذلك ملك مقيد لا يستطيع أن يتصرف فيه كيف يشاء لو أراد إنسان أن يحرق ثوبه منع إذا فلمكي الذي هو ملكي لست حرا في تصرفي فيه إلا على حسب الشرع ولهذا لا يجوز لنا أن نرابي في أموالنا مع أنه ربما يكون الذي أعطى الربا موافقا راضيا لكن لا يجوز لأننا لسنا أحرارا في أملاكنا لا نملكها إلا ملكا مقيدا الملك التام المطلق الذي يفعل فيه المالك ما يشاء هو ملك الله عز وجل {له ما في السماوات وما في الأرض} .
{من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} (من) اسم استفهام بمعنى النفي يعني لا أحد يشفع عند الله إلا بإذن الله والشفاعة معروفة(4/695)
وهي التوسط للغير لجلب منفعة أو لدفع مضرة من المعلوم أن ملوك الدنيا مهما عظم ملكهم يشفع الإنسان عندهم بدون أي استئذان حتى إن الملك الكبير الملك تشفع عنده زوجته ولا تستأذن منه لكن الله عز وجل لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه أكرم عباده عنده لا يشفع إلا بإذن الله وهذا دليل على كمال سلطانه عز وجل وأنه من كمال سلطانه لا أحد يستطيع أن يتكلم عنده ولا بالشفاعة التي هي خير إلا بإذنه من أكرم الخلق من بني آدم عند الله إنه محمد صلى الله عليه وسلم ويوم القيامة لا يمكن أن يشفع إلا بعد أن يستأذن من الله ثم يسجد سجودا طويلا يفتح الله عليه من المحامد ما لم يفتحه عليه من قبل ثم يشفع ومن دونه من باب أولى لا أحد يشفع إلا بإذن الله لماذا لكمال ملكه وسلطانه عز وجل {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} يعلم الله عز وجل {ما بين أيديهم} كل الأمور المستقبلة {وما خلفهم} كل الأمور الماضية وهذا دليل على كمال علمه عز وجل وأنه محيط بكل شيء ماضيا وحاضرا ومستقبلا فما بين يديك ما تستقبله ولو بلحظة وما خلفك ما خلفته ولو بلحظة فمثلا كلامنا اليوم بعد صلاة العصر من بين أيدينا أم من خلفنا من خلفنا كلماتي الآن(4/696)
أنا أقول الآن وما بعد الآن مستقبل والآن حاضر فالله عز وجل يعلم كل ما يكون بين أيدينا الحاضر والمستقبل وما خلفنا وهذا يدل على كمال علمه جل وعلا لأن علم غيره ناقص.
أولا نجهل كثيرا من الأمور ثم يتجدد لنا العلم.
ثانيا إذا علمنا شيئا فهناك آفة لعلمنا وهي النسيان أما علم الله عز وجل فليس فيه نسيان ولا جهل سابق كما قال موسى صلى الله عليه وسلم لما قال له فرعون {قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} .
لا يضل يعني لا يجهل ولا ينسى ما مضى فعلمنا نحن محفوف بآفتين آفة سابقة وهي الجهل وآفة لاحقة وهي النسيان وعلم الله عز وجل خال من ذلك كله.(4/697)
1021 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال وفي رواية من آخر سورة الكهف رواه مسلم.
1022 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال بينما جبريل عليه & السلام قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم ولم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته رواه مسلم.
النقيض الصوت.
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله تعالى في سياق الأحاديث في باب الحث على آيات وسور معينة من كتاب الله ما يتعلق بسورة الكهف وما يتعلق بفاتحة الكتاب وآخر سورة البقرة.
أما الأول فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف أو من آخرها عصم من الدجال والدجال رجل كافر(4/700)
يبعث في آخر الزمان يدعي النبوة أولا ثم يدعي أنه إله والعياذ بالله وفتنته أعظم فتنة تكون على الأرض منذ خلق آدم إلى قيام الساعة كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال إن خرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإلا فالله خليفتي على كل مسلم وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من فتنته وما من نبي من الأنبياء إلا أنذر قومه حتى يستعد بنو آدم لهذه الفتنة العظيمة وإن كان من المعلوم أنه لا يأتي إلا في آخر الزمان لكن لأجل التنبيه لعظم فتنته وأنها كبيرة عظيمة لا ينجو منها إلا من أنجاه الله عز وجل هذا الدجال يجعل الله على يديه آيات خوارق فتنة للناس منها أنه يأمر السماء فتمطر ويأمر الأرض فتنبت فيأتي إلى القوم ليس في أرضهم رعي ومواشيهم ضعاف عجاف فيدعوهم ويمنيهم فيتبعونه فيأمر السماء فتمطر ويأمر الأرض فتنبت ثم تروح عليهم مواشيهم وهي أكثر ما تكون لبنا وأوفر ما تكون لحما ثم يأتي إلى آخرين فيدعوهم ولكنهم ينكرونه فيصبحون مقفرين ليس في أرضهم نبات هل تجدون أعظم من هذه الفتنة لاسيما في البادية فيتبعه أناس كثيرون فمن تبعه أدخله جنته(4/701)
ومن أنكره أدخله ناره وهي جنة فيما يبدو للناس لكنها نار والعياذ بالله وناره نار فيما يبدو للناس لكنها جنة وماء عذب ولكن الناس ليس لهم إلا الظاهر إلا أن الله سبحانه وتعالى بين لنا آياته أنه كاذب لما أخبرنا به صلى الله عليه وسلم من أن هذا الرجل مكتوب بين عينيه كافر يقرؤها كل مؤمن حتى الذي لا يستطيع القراءة ويعمى عنها كل منافق كما أن الإنسان في القبر إذا كان مؤمنا أجاب بالصواب وقال ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد وإذا كان منافقا ولو كان قارئا لم يجب والعياذ بالله وأعطانا نبينا صلى الله عليه وسلم آية أيضا بينة وهي أنه أعور ليس له إلا عين واحدة وربنا جل وعلا ليس بأعور منزه عن كل عيب ونقص فمن وفق سلم من فتنته ونجا يبقى هذا الدجال الخبيث في الأرض أربعين يوما أول يوم كسنة يعني اثني عشر شهرا واليوم الثاني كشهر ثلاثون يوما والثالث كالأسبوع سبعة أيام وبقية الأيام كأيامنا يبقى هذه المدة ثم ينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فيقتل هذا الدجال المسيح(4/702)
الصادق النبي الطاهر يقتل هذا المسيح الخبيث الدجال يسلطه الله عز وجل عليه فيقتله ومن أجل عظم فتنته أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ منه في كل صلاة فقال إذا تشهد أحدكم فليقل أعوذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال لأن فتنته عظيمة فينبغي لنا أن نستعيذ بالله عز وجل بقلب صادق من فتنة هذا المسيح الدجال ثم إنه أيضا من أسباب الوقاية من فتنته أن من حفظ عشر آيات من سورة الكهف من أولها أو آخرها وقرآهن عليه عصم من فتنته.
ومن السور المعينة والآيات المعينة سورة الفاتحة وآيتان من آخر سورة البقرة فإنهما ما قرأهما واحد من هذه الأمة مؤمنا إلا آتاه الله تعالى ما فيهما من الطلب وفي سورة الفاتحة اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال الله تعالى لعبده إذا قرأها في الصلاة هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
وأما آخر سورة البقرة {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها(4/703)
ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} سبع جمل دعائية ما يدعو بهن مؤمن موقنا مؤمنا إلا استجاب الله له وهذه ميزة وفضل عظيم نسأل الله تعالى أن يعفو عنا وعنكم وأن ينصرنا على القوم الكافرين.(4/704)
باب استحباب الاجتماع على القراءة
1023 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) باب استحباب الاجتماع على تلاوة القرآن يعني بذلك أنه من المستحب أن الناس يجتمعون على تلاوة القرآن كما يوجد الآن في حلقات تحفيظ القرآن في المساجد فإن هذا النوع يجتمعون يتعلمون القرآن ويعلمونه فإن هذا مما ندب إليه النبي صلى الله عليه وسلم وذلك فيما رواه أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده هذه أربعة أشياء تترتب على هذا الاجتماع بقوله صلى الله عليه وسلم ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله وبيوت الله في الأرض المساجد قال الله تعالى في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والأصال رجال لا تلهيهم تجارة(4/705)
ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأضاف الله هذه الأماكن إلى نفسه تشريفا وتعظيما ولأنها محل ذكره وتلاوة كلامه والتقرب إليه بالصلاة وإلا فهو سبحانه وتعالى فوق عرشه فوق سماواته لا يحل في شيء من خلقه ولا يحل فيه شيء من خلقه جل وعلا لكن هذه الإضافة للتشريف.
وقد قال العلماء رحمهم الله المضاف إلى الله نوعان صفة لا تقوم إلا بمحل فهذه تكون من صفات الله عز وجل مثل عزة الله قدرة الله كلام الله سمع الله بصر الله هذه صفة لا تقوم إلا بموصوف فتكون من صفات الله عز وجل.
الثاني شيء بائن من الله عز وجل مخلوق فهذا ليس من صفات الله وإنما هو مضاف إليه عز وجل على سبيل التشريف والتكريم مثل مساجد الله بيوت الله ناقة الله ومثل قوله تعالى في آدم {ونفخت فيه من روحي} كذلك في عيسى ابن مريم فإن الروح شيء بائن من الله تعالى مخلوق من مخلوقاته لكن أضيف إليه على سبيل التشريف والتكريم.
وقوله صلى الله عليه وسلم يتلون كتاب الله تلاوة كتاب الله عز وجل تنقسم(4/706)
إلى ثلاثة أقسام: 1 - تلاوة اللفظ 2 - تلاوة المعنى 3 - تلاوة العمل أما تلاوة اللفظ فمعروف يقرأ هذا وهذا وهذا وهي على نوعين: 1 - أن يقرأ القارئ صفحة أو صفحتين ثم يتابع الباقون يقرءون نفس ما قرأ وهذا غالبا يكون في التعليم.
2 - أن يقرأ القارئ صفحة أو صفحتين ثم يقرأ الثاني بعده صفحة أو صفحتين غير ما قرأهما الأول وهلم جرا.
فإن قال قائل هذا النوع الثاني يفوت فيه ثواب بعضهم لأن ما قرأه هذا غير ما قرأه ذاك فيقال لا يفوته شيء لأن المستمع كالقارئ له ثوابه ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى في سورة يونس في قصة موسى صلى الله عليه وسلم حين دعا على آل فرعون {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} القائل هو موسى كما في أول الآية {وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب(4/707)
الأليم} فقال الله تعالى {قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون} الداعي واحد لكن قال العلماء إن هارون كان يستمع ويؤمن على دعائه فكان الدعاء لهما جميعا.
أما التلاوة المعنوية فأن يتدارس هؤلاء القوم كلام الله عز وجل ويتفهموا معناه وقد كان السلف الصالح لا يقرءون عشر آيات حتى يتفهموها وما فيها من العلم والعمل.
أما القسم الثالث من التلاوة فهي تلاوة العمل وهذه هي المقصود الأعظم للقرآن الكريم كما قال تعالى {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آيتاه وليتذكر أولو الألباب} العمل بما جاء في القرآن وذلك بتصديق ما أخبر الله به والقيام بما أمر به والبعد عما نهى عنه هذه التلاوة العملية لكتاب الله عز وجل يقول صلى الله عليه وسلم إلا نزلت عليهم السكينة السكينة شيء يقذفه الله عز وجل في القلب فيطمئن ويوقن ويستقر ولا يكون عنده قلق ولا شك ولا ارتياب هو ذاته مطمئن وهذه من أكبر نعم الله على العبد أن ينزل السكينة في قلبه بحيث يكون مطمئنا غير قلق ولا شاك راضيا بقضاء الله وقدره مع الله عز وجل في قضائه وقدره إن أصابته(4/708)
ضراء صبر وانتظر الأجر من الله وإن أصابته سراء شكر وحمد الله على ذلك مطمئن مستقر مستريح هذه السكينة نعمة عظيمة نسأل الله أن ينزل في قلوبنا وقلوبكم السكينة وقد قال الله تعالى {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم} فهي من أسباب زيادة الإيمان وغشيتهم الرحمة يعني غطتهم والغشيان بمعنى الغطاء كما قال تعالى {والليل إذا يغشى} يعني يغطي الأرض بظلامه & غشيتهم الرحمة أي رحمة الله عز وجل فتغشاهم وتحيط بهم وتكون لهم بمنزلة الغطاء الشامل لكل ما يحتاجون إليه من رحمة الله عز وجل وحفتهم الملائكة أحاطت بهم يستمعون الذكر ويكونون شهداء عليهم وذكرهم الله فيمن عنده يذكرهم الله تعالى في الملأ الأعلى وهذا كقوله تعالى في الحديث القدسي من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه وهذا الحديث يدل على فضيلة الاجتماع على كتاب الله عز وجل والله الموفق.(4/709)
باب فضل الوضوء
قال الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} إلى قوله تعالى {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} .
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) باب فضل الوضوء.
الوضوء في اللغة العربية مأخوذ من الوضاءة وهي الحسن والنظافة.
وأما في الشرع فهو تطهير الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة.
والأعضاء الأربعة هي الوجه واليدان والرأس والرجلان والوضوء من نعمة الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة حيث أمرهم به ورتب عليه الثواب الذي سيذكر في هذا الباب إن شاء الله قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة الآية.
{يا أيها الذين آمنوا} إذا سمعت الله يقول {يا أيها الذين آمنوا} فانتبه وارعها سمعك فإما خير تؤمر به وإما شر تنهى عنه وإما خبر صادق تنتفع به(5/5)
{إذا قمتم إلى الصلاة} أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة فريضة أو نافلة {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} {فاغسلوا وجوهكم} ولم يذكر الله تعالى غسل الكفين لأنه سنة وليس بواجب والوجه من الأذن إلى الأذن عرضا ومن منحني الجبهة إلى أسفل اللحية طولا ويدخل فيه المضمضة في الفم والاستنشاق في الأنف {وأيديكم إلى المرافق} والمرفق هو المفصل الذي بين الذراع والعضد وهو داخل في الغسل لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غسل يديه شرع في العضد {وامسحوا برؤوسكم} الرأس يمسح ولا يجب غسله وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده لأن الرأس فيه شعر فلو فرض غسله لكان فيه مشقة على الناس ولجرى الماء على الثياب وللحق الناس مشقة في أيام الشتاء ولكن من رحمة الله أن الرأس يمسح ولا يغسل ومن الرأس الأذنان يمسحان أيضا لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح بأذنيه {وأرجلكم إلى الكعبين} يعني واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين والكعبان هما العظمان الناتئان أسفل الساق وهما داخلتان في الغسل هذه أربع أعضاء وهذه هي أعضاء الوضوء ثم قال عز وجل {وإن كنتم جنبا فاطهروا} وفي الآية الثانية(5/6)
{فاغتسلوا} يعني إذا كان الإنسان عليه جنابة وجب عليه أن يطهر جميع بدنه من رأسه إلى أخمص قدميه ومنه المضمضة والاستنشاق فالمضمضة والاستنشاق واجبتان في الوضوء وكذلك الغسل.
والجنب هو الذي حصلت عليه جنابة والجنابة إما إنزال المني بشهوة وإما جماع وإن لم ينزل فإذا جامع الإنسان زوجته وجب عليه أن يغتسل سواء أنزل أم لم ينزل وإذا أنزل وجب عليه غسل سواء جامع أو لم يجامع حتى لو فكر وأنزل وجب عليه الغسل {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} يعني أن الإنسان إذا وجب عليه الوضوء أو الغسل ولم يجد ماء أو كان مريضا يتضرر باستعمال الماء فإنه يتيمم يضرب الأرض بكفيه ويمسح وجهه وكفيه {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} يعني فيما فرض علينا لم يرد أن يحرجنا ويلحق بنا المشقة بل هو أرحم بنا من أنفسنا وأولادنا وأمهاتنا والدليل على أنه أرحم بنا من أنفسنا قوله تعالى {ولا تقتلوا أنفسكم} يوصيك ألا تقتل نفسك هو أرحم بك من نفسك فهو لا يريد منا بهذا الفرض أن يشق علينا أو يلحقنا الحرج ولكن يريد ليطهركم هذا الذي أراده الله منا بالوضوء والغسل أن يطهر ظواهرنا بالماء وبواطننا بالتوحيد ولهذا يسن إذا فرغت من الوضوء أن تتشهد تقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن(5/7)
محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين {وليتم نعمته عليكم} وذلك بهذا الوضوء الذي يحصل به تكفير السيئات ورفعة الدرجات فإن من توضأ وأسبغ الوضوء ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء وقوله {ولعلكم تشكرون} أي لأجل أن تشكروا الله عز وجل على نعمه & فالواجب على المرء أن يشكر الله على نعمه لأن نعم الله لا تحصى ولاسيما النعم الدينية لأن بها سعادة الدنيا والآخرة.
والشكر هو القيام بطاعة الله بامتثال أمره واجتناب نهيه باللسان والأركان والقلوب نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر نعمته وحسن عبادته إنه على كل شيء قدير.
1024 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل متفق عليه.(5/8)
1025 - وعنه قال سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء رواه مسلم.
1026 - وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث ذكرها النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب فضل الوضوء حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل يعني أن هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم تدعى يوم القيامة غرا محجلين.
الغرة بياض الوجه والتحجيل بياض الأطراف أطراف اليدين وأطراف الرجلين يعني أن هذه المواضع تكون نورا يتلألأ يوم القيامة لهذه الأمة وهذه خاصة بنا ولله الحمد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم سيما ليست لغيركم يعني علامة تتبين بها أمة محمد في هذا اليوم المشهود(5/9)
وهذا دليل على فضل الوضوء وأن أعضاء الوضوء تأتي بيضاء يوم القيامة تلوح من النور يقول فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل هذه الجملة ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم بل هي من كلام أبي هريرة رضي الله عنه وليست بصحيحة من جهة الحكم الشرعي لأن ظاهرها أن الإنسان يمكنه أن يطيل غرته يعني يطيل وجهه وهذا غير ممكن فالوجه محدد من الأذن إلى الأذن ومن منحنى الجبهة إلى أسفل اللحية وهذا مما يدل على أن هذه الجملة من كلام أبي هريرة رضي الله عنه قالها اجتهادا كما أشار إلى ذلك ابن القيم في النونية قال
وأبو هريرة قال ذا من كيسه ...
فغدا يميزه أولو العرفان
وإطالة الغرات ليس بممكن ...
أيضا وهذا واضح التبيان
لكن على كل حال ما فرضه الله علينا أن نغسل الوجوه والأيدي إلى المرافق والأرجل إلى الكعبين هذا هو منتهى الوضوء وكفى فخرا أن يأتي الناس يوم القيامة وهذه المواضع تتلألأ نورا من أجسادهم من أثر الوضوء ففي هذا دليل على فضيلة الوضوء وعلى إثبات البعث وأن الأمم يوم القيامة يأتي كل أمة تدعى إلى كتابها هل صدقت كتابها أم لم تصدق؟ وأما الحديث الثاني حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء الحلية يوم القيامة(5/10)
يحلى بها الرجال والنساء يلبس الرجال والنساء حلية من ذهب وفضة ولؤلؤ وحلوا أساور من فضة {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا} فهم يحلون بهذه الأنواع الثلاثة يلبس الرجل والمرأة في الجنة حليا من هذه الأنواع الثلاثة ذهب وفضة ولؤلؤ ولابد أن تكون مرصوفة على وجه يحصل به الجمال أكثر وأكثر لأن التحلي بكل نوع من هذا لا شك أنه يكسب الإنسان جمالا فإذا رصف بعضها إلى بعض ورتبت ترتيبا حسنا أعطت جمالا أكثر فيوم القيامة تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء إذن كل الذراع يكون حلية مملوءا حلية من ذهب وفضة ولؤلؤ وهذا يدل على فضيلة الوضوء حيث تكون مواضعه يوم القيامة يحلى بها الإنسان في الجنة جعلني الله وإياكم من أهلها وأما الحديث الثالث حديث عثمان رضي الله عنه ففيه أن من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه تخرج خطاياه من هذا الوضوء حتى من تحت أظفاره وعلى هذا فالوضوء يكون سببا لكفارة الخطايا حتى من أدق مكان وهو ما تحت الأظفار وهذه الأحاديث وأمثالها تدل على أن الوضوء من أفضل العبادات وأنه عبادة ينبغي للإنسان أن ينوي به التقرب إلى الله عز وجل يعني أن يستحضر وهو يتوضأ أنه يتقرب إلى الله كما أنه إذا صلى يستشعر أنه يتقرب إلى الله كذلك وهو يتوضأ ويستشعر بأنه يمتثل أمر الله في قوله {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} ويستشعر أيضا أنه متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في وضوئه وكذلك أيضا يستحضر(5/11)
أنه يريد الثواب وأنه يثاب على هذا العمل حتى يتقنه ويحسنه والله الموفق
1027 - وعنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ مثل وضوئي هذا ثم قال من توضأ هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه وكانت صلاته ومشيته إلى المسجد نافلة رواه مسلم
1028 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف رحمه الله في باب: بيان فضل الوضوء منها حديث عثمان رضي الله عنه أنه توضأ فغسل كفيه ثلاثا وتمضمض واستنشق ثلاثا بثلاث غرفات وغسل وجهه ثلاثا وغسل يديه إلى المرفقين ثلاثا ومسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ومسح أذنيه وغسل رجليه ثلاثا إلى الكعبين(5/12)
قال النبي صلى الله عليه وسلم: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث بهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه وهذا شيء يسير ولله الحمد أن الإنسان يعمل هذا العمل ثم يغفر ما تقدم من ذنبه وأخذ العلماء من ذلك أنه يستحب لمن أسبغ الوضوء أن يصلي ركعتين وتسمى سنة الوضوء سواء في الصباح أو المساء في الليل أو النهار بعد الفجر أو بعد العصر لأنها سنة لها سبب فإذا توضأ الإنسان نحو وضوء الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يصلي ركعتي يغفر له ما تقدم من ذنبه وفي الحديث قال وكان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة يعني: زائد على مغفرة الذنوب وليس معنى نافلة يعني صلاة تطوع قد تكون صلاة فريضة ولكن نافلة يعني زائدا على مغفرة الذنوب لأن ذنوبه غفرت بوضوئه وصلاته الأولى فيكون مشيه للمسجد وصلاته ولو فريضة نافلة أي زيادة على مغفرة الذنوب لأن النفل في اللغة معناه الزيادة كما قال الله تعالى ومن الليل فتهجد به نافلة لك ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي هريرة في أن الوضوء تخرج به الخطايا إذا غسلت وجهك خرجت خطايا وجهك مع الماء أو مع آخر قطر الماء أو هنا للشك من الراوي وعلى كل حال فإن(5/13)
الإنسان إذا غسل وجهه خرجت خطايا وجهه وإذا غسل يديه خرجت خطايا يديه التي كان قد بطش بها وإذا غسل رجليه خرجت خطايا رجليه حتى يخرج نقيا من الذنوب ولله الحمد فهذا دليل على فضيلة الوضوء ولكن من منا يستحضر هذا الفضل فهل يكتب هذا الفضل للإنسان سواء أستحضره أم لا؟ الظاهر إن شاء الله أنه يكتب له سواء أستحضر أو لم يستحضر لكن إذا استحضر فهو أكمل لأنه إذا استحضر هذا احتسب الأجر على الله عز وجل وأيقن أنه سيجازي ويكافأ على هذا العمل جزاء وفاقا بخلاف ما إذا توضأ وهو غافل لكننا نرجو من الله سبحانه وتعالى أن يكتب هذا الأجر حتى من الإنسان الغافل الذي يتوضأ على سبيل إبراء ذمته والله الموفق
1029 - وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أنا قد رأينا إخواننا قالوا أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد قالوا كيف تعرف من لم يأتوا بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال رأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله قالوا بلى يا رسول الله قال فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض رواه مسلم(5/14)
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث الذي أورده النووي رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) باب فضل الوضوء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر نهي عن زيارة القبور لأن الناس حديثو عهد بشرك فخشي أن تتعلق قلوبهم بالقبور وتفتتن بها فنهى عن الزيارة ثم لما استقر الإيمان في قلوبهم أمرهم بالزيارة فقال كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الموت وفي رواية تذكر الآخرة فأمر بزيارتها وبين الحكمة العظيمة من هذه الزيارة وأنها تذكر الإنسان الذي على ظهر الأرض أنه اليوم على ظهرها وغدا في بطنها ولا يدري متى يكون هذا؟ قد يصبح الإنسان على ظهر الأرض ويمسي في بطنها وقد يمسي على ظهر الأرض ويصبح في بطنها فكان في زيارة المقابر تذكير بالموت والآخرة لأن الإنسان يمر بالمقبرة فإذا فكر يرى أباه عمه زوجته أخاه وما أشبه ذلك أمس كانوا معه يأكلون ويشربون ويتنعمون والآن هم مرتهنون بأعمالهم في القبور يتذكر العام الماضي في مثل هذا الوقت وهم معنا فرحين بالدنيا مغتبطين بها والآن غادروها وصاروا مرتهنين بأعمالهم من يعمل خيرا يلقه ومن يعمل سوءا يلقه فهي تذكر(5/15)
الآخرة تذكر الموت حقا أخرجوا إلى المقابر انظروا هؤلاء لا يحصيهم إلا الله عز وجل أو لا يحصون إلا بمشقة كانوا بالأمس معنا والآن هم في بطن الأرض ولا تدري فلعلك ضجيعهم في مدة يسيرة فهي تذكر الموت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كان يخرج هو بنفسه إلى البقيع يزور أهل البقيع ويسلم عليهم صلى الله عليه وسلم ويدعو لهم السلام عليكم دار قوم مؤمنين يعني يا أهل دار قوم مؤمنين والظاهر والله أعلم أنه يسلم عليهم ويسمعونه إذ لا فائدة من خطاب لا يسمعه المخاطب لكنهم لا يستجيبون لأنهم في قبورهم فيسلم عليهم السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون وصدق النبي صلى الله عليه وسلم ما من حي إلا سيلحق الميت بمشيئة الله عز وجل يقول وإنا إن شاء الله بكم للاحقون واختلف العلماء رحمهم الله لماذا قال: وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وهو أمر معلوم متيقن والصحيح أنه لا إشكال في هذا فإن معنى التعليق هنا أننا إذا لحقنا بكم نلحق بمشيئة الله متى شاء لحقنا بكم لأن الأمر أمره والملك ملكه هو الذي يدبر عز وجل ما شاء فيمن شاء أليس الله يقول لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين مع أنهم سيدخلونه لأن الله أكد الدخول بالقسم واللام ونون التوكيد ولا شك في أنهم سيدخلونه ولهذا لما جرى الصلح في الحديبية على أن الرسول سيرجع ولا يكمل عمرته قال له عمر ألست(5/16)
تحدثنا أننا ندخل البيت ونطوف به قال بلى لكن هل حددت لك هذا العام وإنك آتيه ومطوف به فالحاصل أن كلمة إن شاء الله هنا ليس معناها التعليق الذي يكون الإنسان فيه مترددا بين حصول الشيء وعدمه بل معنى التعليق أن لحوقنا بكم ليس باختيارنا ولكنه بمشيئة الله عز وجل ثم قال صلى الله عليه وسلم وددت أنا لقينا إخواننا تمنى أن يلقى إخوانه صلى الله عليه وسلم اللهم اجعلني وإياكم منهم قالوا يا رسول الله ألسنا إخوانك قال أنتم أصحابي أخص من الإخوان الصاحب أخ وزيادة والأخ أخ بلا مصاحبة قال أنتم أصحابي يعني فأنتم أخص منهم وهم الصحابة إخوان للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحاب له أما من جاءوا بعدهم من المؤمنين فهم إخوانه وليسوا أصحابه وددت أنا لقينا إخواننا قالوا أولسنا إخوانك يا رسول الله قال أنتم أصحابي لكن إخواني قوم يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني اللهم لك الحمد اللهم ثبتنا على ذلك يؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله حقا وهم لا يرونه لكنهم مثل الذين يرونه قالوا يا رسول الله كيف تعرفهم يعني وأنت لم تدركهم فضرب مثلا برجل له خيل غر غر يعني فيها بياض في رأسها(5/17)
ومحجلة بياض في أرجلها مع خيل دهم يعني سود ليس فيها أي غرة هل يشتبه عليه هذا بهذا؟ قالوا لا قال فإنكم تأتون يوم القيامة غرا محجلين يعني من أثر الوضوء ففي هذا دليل على فضيلة الوضوء وأن هذه الأمة يأتون يوم القيامة وهم غر محجلون من أثر الوضوء غر يعني بيض الوجوه محجلون يعني بيض الأرجل والأيدي وهذا البياض بياض نور وإضاءة يعرفهم الناس يوم القيامة في هذا اليوم المشهود العظيم تعرف أمة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بهذه السيما والعلامة التي ليست لغيرهم أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يحشرني وإياكم على هذا الوجه وأن يجعلنا من أمته ظاهرا وباطنا إنه على كل شيء قدير
1030 - وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا بلى يا رسول الله قال إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط رواه مسلم
1031 - وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله الطهور شطر الإيمان رواه مسلم وقد سبق بطوله في باب الصبر(5/18)
وفي الباب حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه السابق في آخر باب الرجاء وهو حديث عظيم مشتمل على جمل من الخيرات
1032 - وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء رواه مسلم وزاد الترمذي اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في بيان فضل الوضوء وقد سبق حديث في هذا المعنى وتكلمنا على زيارة القبور التي ذكرها المؤلف رحمه الله وبينا أن فيها فائدة عظيمة وهي تذكير الإنسان الموت أو الآخرة وليعلم أن زيارة القبور لا تحل للنساء فلا يجوز للمرأة أن تزور المقبرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ولأن المرأة ضعيفة لا تتحمل فربما تنوح وتبكي وتلطم ولأن المقابر في(5/19)
الغالب تكون خالية من الناس فيخشى إذا خرجت المرأة إليها أن يتبعها السفهاء من الناس ويحصل بذلك المحذور والفتنة لهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم زائرات القبور أما إذا مرت المرأة بالمقبرة من غير أن تخرج لقصد الزيارة فلا بأس أن تقف وتسلم وتدعو كما يدعو الرجل يعني هناك فرق بين القصد وعدم القصد ثم ليعلم أيضا أن أصحاب القبور مهما بلغوا من العمل الصالح والتقى لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا يملكون لغيرهم أيضا نفعا ولا ضرا ولهذا هم يدعى لهم ولا يدعو هم يدعى لهم كما سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لهم ولكنهم لا يدعون لأنهم لا يفيدون وقد قال الله عز وجل ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين وقال تعالى {والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} أما ما ذكره رحمه الله من الأحاديث الباقية فهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ألا أنبئكم أو أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات وإنما ساق الحديث وشك على سبيل الاستفهام من أجل أن ينتبه السامع لما يلقي إليه لأن الأمر مهم فقال ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله قال إسباغ الوضوء على المكارة وكثرة الخطا إلى(5/20)
المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط إسباغ الوضوء على المكاره يعني أن الإنسان يتوضأ وضوءه على كره منه إما لكونه فيه حمى ينفر من الماء فيتوضأ على كره وإما أن يكون الجو باردا وليس عنده ما يسخن به الماء فيتوضأ على كره وإما أن يكون هناك أمطار تحول بينه وبين الوصول لمكان الوضوء فيتوضأ على كره المهم أنه يتوضأ على كره ومشقة لكن بدون ضرر أما مع الضرر فلا يتوضأ بل يتيمم هذا مما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ولكن هذا لا يعني أن الإنسان يشق على نفسه ويذهب يتوضأ بالبارد ويترك الساخن أو يكون عنده ما يسخن به الماء ويقول لا أريد أن أتوضأ بالماء البارد لأنال هذا الأجر فهذا غير مشروع لأن الله يقول {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم} ورأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا واقفا في الشمس قال ما هذا قالوا نذر أن يقف في الشمس فنهاه عن ذلك وأمره أن يستظل فالإنسان ليس مأمورا ولا مندوبا في أن يفعل ما يشق عليه ويضره بل كلما سهلت عليه العبادة فهو أفضل لكن إذا كان لابد من الأذى والكره فإنه يؤجر على ذلك لأنه بغير اختياره(5/21)
كذلك كثرة الخطا إلى المساجد فيه دليل على أن الجماعة تكون في المسجد ولا تكون في البيت وأن الإنسان إذا كثرت خطاه إلى المساجد يرفع الله له به الدرجات ويمحو عنه الخطايا وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل إذا توضأ في بيته فأسبغ الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفع الله له بها درجة وحط عنه بها خطيئة وهذه نعمة عظيمة فإذا وصل المسجد وصلى لم تزل الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه تقول اللهم صل عليه اللهم اغفر له اللهم ارحمه ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة وكثرة الخطا معناه أن يأتي الإنسان للمسجد ولو من بعد وليس المعنى أن يتقصد الطريق البعيد أو أن يقارب الخطا هذا غير مشروع بل يمشي على عادته ولا يتقصد البعد يعني مثلا لو كان بينه وبين المسجد طريق قريب وآخر بعيد لا يترك القريب لكن إذا كان بعيدا ولابد أن يمشي إلى المسجد فإن كثرة الخطا إلى المساجد مما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات وأما انتظار الصلاة بعد الصلاة بمعنى أن الإنسان إذا فرغ من هذه الصلاة يتشوق إلى الصلاة الأخرى(5/22)
وهكذا يكون قلبه معلقا بالمساجد كلما فرغ من صلاة فهو ينتظر الصلاة الأخرى هذا أيضا مما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قال فذلكم الرباط فذلكم الرباط يعني المرابطة على الخير وهو داخل في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} ثم ذكر المؤلف حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الطهور شطر الإيمان يشمل طهور الماء التيمم طهارة القلب من الشرك والشك والغل والحقد على المسلمين وغير ذلك مما يجب التطهر منه فهو يشمل الطهارة الحسية والمعنوية شطر الإيمان نصفه والنصف الثاني هو التحلي بالأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة لأن كل شيء لا يتم إلا بتنقيته من الشوائب وتكميله بالفضائل فالتكميل بالفضائل نصف والتنقية من الرذائل نصف آخر ولهذا قال الطهور سطر الإيمان وأما شطره الثاني فهو التكميل بالأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة ثم ذكر المؤلف آخر ما ختم به الباب حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الرجل إذا أسبغ الوضوء ثم قال اشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فإنه تفتح له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء وزاد الترمذي رحمه الله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين هذه الأحاديث في فضل الوضوء(5/23)
والمؤلف لم يستوعب كل ما ورد في هذا الباب من فضائل لكن لو لم يكن من فضائله إلا حديث واحد لكفى به دعوة إلى الوضوء وإحسانه وفق الله الجميع لما فيه الخير والصلاح(5/24)
/0L2 باب فضل الأذان
1033 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أنة يستهموا عليه لاستهموا عليه ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا متفق عليه الاستهام الاقتراع والتهجير التبكير إلى الصلاة
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه (رياض الصالحين) باب الأذان يعني في فضله وما ورد فيه والأذان هو الإعلام بالصلاة أي بدخول وقتها إن كانت مما يقدم أو بفعلها إن كانت مما يؤخر هذا هو الأذان يعني ينادي الإنسان فيعلم الناس أن الوقت قد دخل في صلاة المغرب والفجر والعصر والظهر إلا أن يبردوا بها وكذلك في العشاء إذا أخروها فالأذان كذلك يؤخر وإلا فإنه يؤذن عند دخول الوقت لقول النبي صلى الله عليه وسلم إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم والأذان المشروع هو الذي يؤذن للصلوات الخمس وفرض في السنة الثانية من الهجرة بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى(5/25)
المدينة شرع الأذان واختلف الصحابة حين تشاوروا كيف يعلم بدخول وقت الصلاة؟ فقال بعضهم نوقد نارا عظيمة يعرف الناس أن الوقت قد دخل وقال بعضهم بل نضرب بالناقوس الناقوس الذي يشبع الجرس وهو الذي ينادي به النصارى لصلواتهم وقال آخرون بل ننفخ بالبوق كما يفعل اليهود وكل هذا كرهه النبي صلى الله عليه وسلم هرع رجل من الصحابة وهو عبد الله بن زيد رأى رجلا في المنام وفي يده ناقوس قال له أتبيع هذا؟ قال وماذا تصنع به قال أعلم به للصلاة قال أفلا أدلك على خير من ذلك قال بلى فقرأ عليه الأذان وقرأ عليه الإقامة فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالخبر فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن هذا رؤيا حق ثم علمه بلال فأذن به بهذا الأذان المعروف ولما كان في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه وكثر الناس جعل أذانا أولا للجمعة قبل الأذان الثاني الذي هو عند حضور الإمام فكان في يوم الجمعة أذانان وفي رمضان أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا أن يؤذن في آخر الليل إذا قرب وقت السحور وقال إن بلالا يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر فصار عندنا الفجر لها أذان أول(5/26)
ولكن ليست لها بل لأجل الإعلان أن وقت السحور قد حل والجمعة لها أذان أول من سنة عثمان رضي الله عنه وهو أحد الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباع سنتهم قال بعض المتحذلقين الذين يدعون أنهم سلفيون سنيون إن أذان الجمعة الأول لا نقبله لأنه بدعة لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهذا القول منهم قدح للنبي صلى الله عليه وسلم وقدح بالخلفاء الراشدين وقدح بالصحابة رضي الله عنهم وهؤلاء المساكين وصلوا إلى هذا الحد من حيث لا يعلمون أما كونه قدحا بالرسول صلى الله عليه وسلم فلأن النبي قال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وبإجماع المسلمين أن عثمان رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين وأما كونه قدح بالخلفاء الراشدين فهو قدح بعثمان رضي الله عنه وهو منهم والقادح في واحد منهم قادح في الجميع كما أن المكذب للرسول الواحد مكذب بجميع الرسل وأما كونه قدحا في الصحابة فلأن الصحابة لم ينكروا على عثمان رضي الله عنه مع أنه لو أخطأ لأنكروا عليه كما أنكروا عليه الإتمام في (منى) في الحج لكن في أذان الجمعة الأول لم ينكروا عليه فهل هؤلاء المتحذلقون المخالفون أعلم بشريعة الله ومقاصدها من الصحابة؟(5/27)
لكن صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إن آخر هذه الأمة يلعن أولها آخرها والعياذ بالله ويقدح فيهم فالأذان الأول للجمعة أذان شرعي بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وبإجماع الصحابة الإجماع السكوتي ولا عذر لأحد وقطع الله لسان من يعترض على خلفاء هذه الأمة الراشدين وعلى الصحابة قد يقول قائل لماذا لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم والجمعة موجودة في عهده؟ والجواب أن السبب هو أن الناس في عهد عثمان كثروا واتسعت المدينة واحتاجوا إلى أذان ينبههم يكون قبل الأذان الأخير الذي يكون عند مجيء الإمام فكان من الحكمة أن يؤذن وعثمان رضي الله عنه بني على أساس فهاهو النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بلالا أن يؤذن بآخر الليل لا لأن الصلاة حلت ولكن ليوقظ النائم ويرجع القائم فهو مقصد شرعي ولا إشكال في شرعية أذان الجمعة الأول إذا فالأذان الأول ليوم الجمعة مشروع بسنة الخلفاء الراشدين وإيماء سيد المرسلين محمد وإجماع الصحابة الذين أدركوا هذا أما الأذان في آخر الليل فإنه مشروع بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان لإيقاظ النائم وإرجاع القائم لكن هل يشرع في غير رمضان؟ نقول لعله قياسا على فعل عثمان رضي الله عنه نرى أنه لا بأس به(5/28)
وهنا مسألة ثانية الصلاة خير من النوم زعم بعض المتأخرين أنها تقال في الأذان الأول الذي قبل الفجر وأخطئوا خطأ عظيما لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالا أن يقولها في أذان الفجر قال إذا أذنت الأول في صلاة الصبح فقل الصلاة خير من النوم ومعلوم أن الأذان للصلاة لا يكون إلا بعد دخول وقتها لقول النبي صلى الله عليه وسلم إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وسمى أذانا أولا باعتبار الإقامة لأن الإقامة أذان ثان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم بين كل أذانين صلاة وجاء في صحيح مسلم رحمه الله من حديث عائشة رضي الله عنها قالت فإذا أذن للأذان الأول للفجر قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى يأتيه المؤذن فيؤذنه لصلاة الفجر وهذا صريح في أن أذان الفجر الأول يكون بعد دخول الوقت وأما الأذان آخر الليل فليس أذانا للفجر بل هو أذان للنائمين ليقوموا وللقائمين ليرجعوا ويتسحروا إذا كان ذلك في رمضان والأذان من أفضل الأعمال وهو أفضل من الإمامة يعني أن مرتبة المؤذن في الأجر أفضل من مرتبة الإمام لأن المؤذن يعلن لتعظيم الله وتوحيد الله والشهادة للرسول بالرسالة وكذلك أيضا يدعو الناس إلى الصلاة(5/29)
والفلاح في اليوم والليلة خمس مرات أو أكثر والإمام لا يحصل منه ذلك والمؤذن لا يسمع صوته شجر ولا حجر ولا مدر إلا شهد له يوم القيامة ولهذا كان الأذان مرتبته في الشرع أعلى من مرتبة الإمامة فإن قال قائل إذا كان كذلك لماذا لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يؤذن ولا الخلفاء الراشدون أجاب العلماء عن هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين كانوا مشغولين بمصالح العباد لأنهم خلفاء أئمة يدبرون أمة الأمة والأذان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كالأذان في وقتنا الآن إذا أراد الإنسان أن يؤذن ليس عليه سوى أن ينظر إلى الساعة ويعرف الوقت حل أو لم يحل لكن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يراقبون الشمس ويتابعون الظل حتى يعرفوا أن الشمس قد زالت وكذلك أيضا يراقبونها حتى يعرفوا أنها غربت ثم يراقبون الشفق ثم يراقبون الفجر ففيه صعوبة عظيمة؟ لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون لا يتولون الأذان لا لأن فضلة أقل من الإمامة ولكن لأنهم مشغولون بما هم فيه عن الأذان وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضيلته بأن الناس لو يعلمون ما فيه النداء ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا سبحان الله معنى هذا أن الناس لو يعلمون ما في الأذان من فضل وأجر لكانوا يقترعون أيهم الذي يؤذن بينما الناس الآن مع الأسف يتدافعون هذا يقول أذن وهذا يقول بل أذن أنت(5/30)
وهكذا فينبغي عليك إذا كنت في رحلة أن تحرص أن تكون أنت المؤذن لكن معلوم أن الرحلة لها أمير سواء سفر أو نزهة فإذا نصب الأمير شخصا للأذان فليس لأحد أن يتقدم ويؤذن لأنه صار مؤذنا راتبا وكذلك إذا قال لأحدهم أنت الإمام صار هو الإمام ولا أحد يتقدم عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يؤمن رجل رجلا في سلطانه إلا بإذنه وفق الله الجميع لما فيه الخير والصواب
1034 - وعن معاوية رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة رواه مسلم
1035 - وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال له إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة قال أبو سعيد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البخاري(5/31)
[الشَّرْحُ]
هذان الحديثان ساقهما المؤلف رحمه الله في (رياض الصالحين) في: باب فضل الأذان عن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة إذا بعث الناس فإن المؤذنين يكون لهم ميزة ليست لغيرهم وهي أنهم أطول الناس أعناقا فيعرفون بذلك تنويها لفضلهم وإظهار لشرفهم لأنهم يؤذنون ويعلنون بتكبير الله عز وجل وتوحيده والشهادة لرسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة والدعوة إلى الصلاة وإلى الفلاح يعلنونها من الأماكن العالية ولهذا كان جزاؤهم من جنس العمل أن تعلو رءوسهم وأن تعلو وجهوههم وذلك بإطالة أعناقهم يوم القيامة وهذا يدل على أنه ينبغي للإنسان أن يحرص على أن يكون مؤذنا حتى لو كان في نزهة هو وأصحابه فإنه ينبغي أن يبادر لذلك وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لو يعلم الناس ما في النداء ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا وكذلك من فضيلة الأذان ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما من إنس ولا جن ولا شيء يسمع صوت المؤذن إلا شهد له بذلك يوم القيامة وهذا أيضا من فضائل الأذان أن صاحبه يشهد له يوم القيامة بأنه من المؤذنين تنويها لفضله بيانا لثوابه فالحاصل أن الأذان له فضل عظيم وأنه ينبغي للإنسان أن يكون مؤذنا إلا أنه إذا كان هناك مؤذن راتب فإنه لا يحل لأحد أن يتجاوزه ويؤذن(5/32)
عنه إلا إذا كان قد وكله أو ما أشبه ذلك يعني لا تظنوا أن الإنسان ينبغي له أن يبادر للمسجد ويؤذن قبل المؤذن الراتب لأن هذا عدوان عليه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه إلا بإذنه والله الموفق
1036 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قضي النداء أقبل حتى إذا ثوب للصلاة أدبر حتى إذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول اذكر كذا واذكر كذا لما لم يذكر من قبل حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى؟ متفق عليه التثويب الإقامة
1037 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة رواه مسلم(5/33)
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث أيضا في فضل الأذان منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط كراهة أن يسمع ذكر الله عز وجل وهذا هو معنى قوله تعالى من شر الوسواس الخناس الذي يخنس عند ذكر الله عز وجل ويختفي ويبعد لأن الشيطان أكره ما عنده عبادة الله وأبغض ما عنده من الرجال عباد الله وأحب ما يحب الشرك بالله عز وجل والمعاصي لأنه يأمر بالفحشاء {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} فيحب من الناس أن يأتوا ما لم يأمر الله به ويكره أن يأتوا ما أمر الله عز وجل فإذا أذن المؤذن ولى وأبعد عن مكان الأذان حتى يخرج بعيدا عن البلاد لئلا يسمع الأذان فإذا انتهى الأذان أقبل حتى يغوي بني آدم فإذا أقيمت الصلاة فإنه في حال الإقامة أيضا يولي ويدبر ثم إذا فرغت الإقامة أقبل حتى يحول بين المرء وقلبه في صلاته يقول له اذكر كذا اذكر كذا اذكر كذا ...
حتى لا يطيق المصلي وهذا أمر يشهد له الواقع فإن الإنسان أحيانا ينسى أشياء فإذا دخل في الصلاة فتح الشيطان عليه باب التذكر حتى جعل يذكرها ويذكر أن رجلا جاء إلى أبي حنيفة رحمه الله وقال إنه استودع وديعة ونسيها فقال له اذهب فتوضأ فصل ركعتين وستذكرها ففعل الرجل فتوضأ ودخل في الصلاة فذكره إياها الشيطان وهذا أمر يشهد له الواقع(5/34)
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فائدتان عظيمتان 1 - بيان فضل الأذان وأنه يطرد الشياطين ولهذا استحب الكثير من العلماء إذا ولد المولود أول ما يولد أن يؤذن في أذنه حتى يطرد الشيطان عنه وبعضهم يقول: يؤذن في أذنه حتى يكون أول ما يسمع ذكر الله عز وجل وعلى كل حال فالأذان يطرد الشياطين ولكن هل إذا أذن الإنسان في غير وقت الأذان هل يطرد الشياطين؟ الله أعلم لكن ذكر الله على سبيل العموم يطرد الشياطين لأن معنى الخناس الذي يخنس عند ذكر الله عز وجل أما الحديث الثاني ففضيلته أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر إذا سمعنا المؤذن أن نقول مثل ما يقول إذا قال الله أكبر نقول الله أكبر..
إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله نقول أشهد أن لا إله إلا الله إذا قال أشهد أن محمدا رسول الله نقول أشهد أن محمد رسول الله..
إلا حي على الصلاة حي على الفلاح فلا نقول لأننا نحن مدعوون والمؤذن داع فلا يصح أن نقول (حي على الصلاة) بعده لكننا نقول كلمة الاستعانة (لا حول ولا قوة إلا بالله) وهذه الكلمة تعني أننا عزمنا على الإجابة ولكننا نستعين بالله عز وجل ولهذا أقول إن هذه الكلمة كلمة استعانه تعين الإنسان على أموره وعلى صلاح أحواله ولهذا قال الرجل المؤمن في قصة صاحبي الجنتين قال لصاحبه {ولولا(5/35)
إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله} يعني لكان خيرا لك وسلمت جنتك من التلف فهذه الكلمة كلمة عظيمة حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري رضي الله عنه ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة قال بلى قال لا حول ولا قوة إلا بالله فإذا قال المؤذن حي على الصلاة حي على الفلاح نقول لا حول ولا قوة إلا بالله وإذا قال في صلاة الفجر الصلاة خير من النوم نقول الصلاة خير من النوم وإذا قال الله أكبر قلنا الله أكبر وإذا قال لا إله إلا الله قلنا لا إله إلا الله ثم بعد ذلك نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم نقول اللهم صل على محمد فإن من صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه بها عشرا ثم نسأل الله له الوسيلة اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد فإذا صلينا على النبي صلى الله عليه وسلم وسألنا الله له الوسيلة حلت لنا الشفاعة يعني شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم الوسيلة درجة عالية في الجنة أعلى ما يكون لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله قال النبي صلى الله عليه وسلم وأرجو أن أكون أنا هو وهذا الرجاء إن شاء الله تعالى سيكون محققا لأننا نعلم أن أفضل الخلق(5/36)
عند الله محمد صلى الله عليه وسلم ولأن أمة محمد تدعو الله بذلك بعد كل أذان والدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد كل الأمة تقول اللهم آت محمدا الوسيلة وأمة محمد جديرة بإذن الله إذا دعت أن يؤتي محمد الوسيلة أن يقبل الله منها ولهذا قال أرجو أن كون أنا هو إذن ينبغي لنا إذا سمعنا المؤذن أن نقول مثل ما يقول حتى لو كنا نقرأ نقطع القراءة ونجيب المؤذن وإذا فرغنا نقبل على القراءة واختلف العلماء رحمهم الله فيما إذا كان الإنسان يصلي هل يتابع المؤذن فقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نعم ولو كنت تصلي لأن الأذان ذكر لا يبطل الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ولا يستثن حالا من الأحوال ولكن أكثر العلماء يقولون إذا كنت تصلي لا تجب المؤذن لأن الصلاة فيها شغل خاص بها والأذان طويل يشغلك كثيرا عنها ولكن لو عطست وأنت تصلى فقل الحمد لله ما في مانع لأنها كلمة واحدة لا تشغلك عن الصلاة أما إجابة المؤذن طويلة فلا تجب المؤذن ولكن إذا فرغت من الصلاة فأجب المؤذن لأنك سكت اشتغالا بصلاتك كذلك إذا كنت على قضاء الحاجة وأذن المؤذن فلا تجبه لأن هذا ذكر لكن إذا فرغت وخرجت من المرحاض أجب وقيل بل يجيبه بقلبه لكن هذا فيه نظر لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فقولوا مثل ما يقول والمتابعة(5/37)
بالقلب ليست قولا كذلك لو سمعت عدة مؤذنين فهل تجيب كل مؤذن؟ نقول إذا كانوا يؤذنون في صوت واحد بمعنى أن يبدأ الثاني قبل أن يتم الأول فانشغل بالأول ولا عليك بالثاني أما إذا سمعت الثاني بعد انتهاء الأول فتابعه لأنه خير وهو داخل في عموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم فقولوا مثل ما يقول لكن العلماء رحمهم الله قيدوا هذا فيما لو لم يكن قد صلى فإن كان أذن وصلى ثم بعد ذلك سمع أذانا قالوا فلا يجبه لأنه غير مدعون بهذا الأذان هو أدى ما فرض عليه فلا يحتاج أن يتابع المؤذن ولكن في هذا القول نظر لأنه مخالف لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن ولم يستثن شيئا وقولهم إنه غير مدعو بهذا الأذان نقول إنه غير مدعو به الآن لكن في المستقبل لابد أن يدعى للصلاة والأمر هنا سهل نقول أجب المؤذن ولو كنت قد صليت وأنت على خير ولا يضرك شيء والله المرفق
1038 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا سمعتم النداء فقولوا كما يقول المؤذن متفق عليه(5/38)
1039 - وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة رواه البخاري
1040 - وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا والإسلام دينا غفر له ذنبه رواه مسلم
1041 - وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث بقية باب فضل الأذان ساقها النووي رحمه الله في (رياض الصالحين) منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن ومنها من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة(5/39)
والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد ومنها أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا ومنها أن الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد فأما الحديث الأول فقد سبق الكلام عليه أنه ينبغي للإنسان إذا سمع النداء أن يقول مثل ما يقول المؤذن كما بينا من قبل وأما الحديث الثاني من قال حين يسمع النداء يعني وفرغ المؤذن كما دل عليه الحديث السابق إذا فرغ المؤذن فإنك تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم تقول اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه اللهم مقاما محمودا الذي وعدته اللهم رب هذه الدعوة التامة إنك لا تخلف الميعاد هي الدعوة إلى الصلاة والفلاح لأن ذلك من أتم ما يكون من الدعوات الصلاة القائمة يعني الصلاة التي ستقام لأن النداء إعلام بدخول وقت الصلاة آت محمدا الوسيلة والفضيلة يعني أعطه الوسيلة وهي درجة في الجنة أعلى ما يكون من درجاتها وهي للنبي صلى الله عليه وسلم والفضيلة يعني الميزة والرتبة العالية وقد حصل له ذلك وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته وقد وعده الله ذلك في قوله(5/40)
ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ومن هذا المقام المحمود الشفاعة العظمى فإن الناس يوم القيامة يلحقهم من الكرب والغم ما لا يطيقون في ذلك اليوم العظيم الذي مقداره خمسون ألف سنة في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر عارية أجسادهم حافية أقدامهم شاخصة عيونهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه.
الشمس تدنو منهم قدر ميل ولا هناك عوج ولا أمت ولا ظل ولا بناء ولا شيء فيطلبون من يشفع لهم عند الله فيأتون آدم ثم نوحا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى حتى تصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقوم ويشفع في هذا المقام يحمده الأولون والآخرون لأن الناس كلهم في هذا المقام فإذا تعذر الأنبياء الكرام الكبار إبراهيم وموسى وعيسى ونوح وآدم أبو البشر ثم قام هذا النبي الكريم فشفع إلى الله فهنا يحمده الأولون والآخرون وهذا من المقام المحمود الذي وعده الله عز وجل ثم إن هذا الحديث رواه البخاري إلى قوله الذي وعدته لكن قد صحت الزيادة إنك لا تخلف الميعاد فينبغي أن يقولها الإنسان لأنها صحيحة ولأن هذا دعاء المؤمنين {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تحزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد}(5/41)
فهو جل وعلا لا يخلف الميعاد لكمال صدقه وكمال قدرته جل وعلا وإخلاف الوعد إما أن يكون عن كذب من الوعد وإما أن يكون عن عجز منه والله جل وعلا أصدق القائلين وأقدر القادرين فهو سبحانه وتعالى وعد نبيه في قوله {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} وهو جل وعلا صادق في وعده قادر على تنفيذه أما من قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا فهذه تقال إذا قال المؤذن اشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله وكنت معه فقل هذا أما آخر الأحاديث ففيه الحث على الدعاء بين الأذان والإقامة وأن الدعاء بينهما حري بالإجابة فينبغي أن تنتهز هذه الفرصة لعل الله أن يستجيب لك والله الموفق(5/42)
باب فضل الصلوات
قال الله تعالى {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) باب فضل الصلوات الصلوات هي عبادات معلومة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم وهي أكد أركان الإسلام بعد الشهادتين وأفضل أركان الإسلام بعد الشهادتين وأنفع أركان الإسلام بعد الشهادتين وهي صلة بين الإنسان وربه لأن الإنسان يقوم بين يدي الله عز وجل يناجيه يقول الحمد لله رب العالمين فيقول الله حمدني عبدي {الرحمن الرحيم} فيقول الله أثنى علي عبدي {ملك يوم الدين} فيقول الله مجدني عبدي {إياك نعبد وإياك نستعين} فيقول هذا بيني وبين عبدي نصفين {أهدنا الصراط المستقيم} هذا لعبدي ولعبدي ما سأل مجاورة مناجاة ثم هي أيضا أفعال وأقوال كلها تعظيم من حين يبدأ الإنسان بقوله الله أكبر يعني أكبر من كل شيء علما وسلطانا وكبرياء وجبروتا وكل شيء السماوات السبع والأرضون السبع في كفه كخردلة في كف(5/43)
أحدنا فكل هذه السماوات على عظمها يطويها بيمينه عز وجل ويقبض الأرض على كبرها كقبضة أحدنا بيده على الشيء ثم يناجيه بكلام ثم ينحني تعظيما له بفعله ويعظمه بلسانه يقول سبحان ربي العظيم ثم يرفع ثم يسجد وهذا الرفع من أجل الفصل بين ركن التعظيم وهو الركوع وركن الذل وهو السجود ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم أما الركوع فعظموا فيه الرب ثم يسجد لله ذلا وخضوعا فيضع أشرف ما به على مستوى أقدامه التي هي أسفل ما به يضع جبهته على الأرض ذلا لله وخضوعا لله عز وجل ثم يقول سبحان ربي الأعلى تنزيها لربه سبحانه وتعالى عن السفول كأنما يقول سبحان من تنزه عن السفول فكان أعلى فوق كل شيء فالصلاة عبادة عظيمة نسأل الله أن يفتح علينا وعليكم حتى نعرف قدرها ويدلك على فضلها وعظمها ومحبة الله لها أنه ما من فريضة فضت على الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بواسطة الوحي إلا الصلاة فرضها الله على رسوله منه له مباشرة كلمه بها وفرضها عليه في أعلى مكان يصل إليه البشر وفرضها عليه في أشرف ليلة كانت لرسوله صلى الله عليه وسلم وهي ليلة المعراج وفرضها عليه عددا كبيرا خمسين صلاة في اليوم والليلة لأن الله يحبها ولأن ثوابها عظيم ولكن من لطف الله أن خففها حتى(5/44)
صارت خمس صلوات عن خمسين صلاة اللهم لك الحمد الصلاة لها ثمرات جليلة عظيمة منها: 1 - ما ذكره الله تعالى في الآية التي صدر المؤلف بها هذا الباب {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} الفحشاء: فواحش الذنوب كالزنا واللواط وما أشبهها والمنكر: ما دون ذلك الصلاة تنهى عن الفحشاء المنكر..
لكن متى؟ إذا كانت صلاة مقامة على الوجه الأكمل ولهذا نجدنا كثيرا نصلي ولا نجد القلوب تتغير أو تكره الفحشاء أو المنكر أو يكون الإنسان بعد الصلاة خيرا منه قبلها لا نجد هذا لأن الصلاة التي نصليها ليست الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر وإلا فكلام الله حق ووعده صدق الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر إذا كنت قد هممت بذنب أو كان قلبك يميل إلى المعاصي فإنك إذا صليت انمحى ذلك كله لكن بشرط أن تكون الصلاة التي تراد منك والتي تريدها أنت لله عز وجل صلاة أكمل ما يكون ولهذا يجب علينا ونسأل الله أن يعيننا يجب علينا أن نعتني بصلاتنا نكملها بقدر المستطاع بجميع أركانها وشروطها وواجباتها ومكملاتها فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر قال بعض السلف من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا نسأل الله العافية لأنها ليست الصلاة المطلوبة منا الصلاة المطلوبة منا أن تكون صلاة بمعنى الكلمة كان بعض السلف إذا دخل في(5/45)
صلاته لا يحس بشيء يغيب عن كل شيء إلا عن الله عز وجل حتى إن عروة بن الزبير رحمه الله وهو من فقهاء التابعين أصابت أحد أعضائه أكلة جروح تتقرح حتى تقضي على الجسم كله فقرر الأطباء أن تقطع رجله حتى لا تسري الأكلة إلى بقية البدن وكان في ذلك الوقت لا يوجد (بنج) فقال أمهلوني حتى أدخل في صلاتي فلما دخل في صلاته قطعوا رجله فلم يحس بها لأن قلبه منشغل مع الله والقلب إذا انشغل لا يحس بما يصيب البدن انظر إلى الحمالين مثلا يحملون السيارة أو يفرغونها فيصاب أحدهم بجرح في يده أو قدمه مع التحميل ولا يحس به لأنه مشغول فإذا انتهى من العمل أحس بالجرح فالإنسان في صلاته لابد أن يكون مع الله عز وجل لا يذهب قلبه يمينا وشمالا كما هي العادة عند كثير منا ولا تتسلط الهواجس ولا الوساوس إلا إذا دخل الإنسان في الصلاة جاء الشيطان يقول له اذكر كذا..
اذكر كذا ...
افعل كذا لا تفعل كذا وهذا يخل بالصلاة ربما ينصرف الإنسان ما من صلاته شيء وإن كانت تبرأ الذمة لكن ما أدرك شيئا منها وكان عمر رضي الله عنه يجهز جيشه في الصلاة فأخذ البطالون من هذا أنه لا بأس أن الإنسان وهو في صلاته يوسوس وما إلى ذلك(5/46)
لكن تجهيز الجيش جهاد في سبيل الله والجهاد في سبيل الله يجوز أن يدخل على الصلاة ولهذا نجد أن الله شرع للمسلمين صلاة الخوف فعمر رضي الله عنه يجهز جيشه في صلاته وهو حاضر القلب لم يذهب قلبه يمينا ولا شمالا لأنه يعبد الله عز وجل وإن كان يجهز الجيش وهو يصلي فنسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر وأن يتقبل منا ومنكم إنه على كل شيء قدير(5/47)
/0L2 باب فضل الصلوات
1042 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أرأتيم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقي من درنه شيء؟ قالوا لا يبقي من درنه شيء قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا متفق عليه
1043 - وعن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الصلوات الخمس كمثل نهر غمر جار على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات رواه مسلم الغمر بفتح الغين المعجمة الكثير
1044 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأنزل الله تعالى {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} فقال الرجل ألي هذا؟ قال لجميع أمتي كلهم متفق عليه
1045 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الصلوات(5/48)
الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر رواه مسلم
1046 - وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة وذلك الدهر كله رواه مسلم هذه الأحاديث من فضائل الصلوات فقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم بنهر غمر جار النهر الغمر: الكثير الماء الجاري: معروف ضد الراكد يغتسل منه الإنسان في اليوم خمس مرات فهل يبقى من وسخه شيء الجواب لا يبقى من وسخه شيء فهكذا الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا حتى يبقي الإنسان طاهرا نقيا من الخطايا ولكن كما أسلفنا فيما مضى أن هذا في الصلوات التي يتمها الإنسان ويحققها ويحضر قلبه ويشعر أنه يناجي الله سبحانه وتعالى فإذا تمت الصلاة على المطلوب حصل هذا الثواب العظيم وكذلك أيضا من فضائل الصلوات الخمس أن الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة مكفرات لما بينهن ما لم تغش الكبائر يعني ما لم(5/49)
تفعل فالصلوات الخمس تكفر الصغائر لكن الكبائر لا فالغش مثلا في المعاملات كبيرة من كبائر الذنوب لأن النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ من فاعله فقال من غش فليس منا فإذا صلى الإنسان الصلوات الخمس وهو غاش فإن الغش لا يكفر لأنه كبيرة من كبائر الذنوب الحلف الكاذب في السلعة هذا أيضا من كبائر الذنوب ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم المنان والمسبل والمنفق سلعته بحلف كاذب كذلك لو كان الإنسان ينزل ثوبه خيلاء فإن هذا من كبائر الذنوب فإنه لا يكفر عنه ذلك إذا صلى بل لو أنزله إلى أسفل من الكعب ولو لم يكن خيلاء فإنه من كبائر الذنوب فلا يغفر له بصلاته لأنه كبيرة الغيبة أيضا من كبائر الذنوب فإذا اغتاب الإنسان رجلا واحدا فقط بين صلاة الفجر والظهر مثلا فإن صلاة الظهر لا تكفر هذه الغيبة لأنها من كبائر الذنوب ولو كانت مرة واحدة لرجل واحد والغيبة هي التي يسميها العوام السبابة يعني أن يذكر أخاه بما يكره(5/50)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال ذكرك أخاك بما يكره قال أرأيت إن كان فيه ما أقول قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته والغيبة تختلف آثامها باختلاف آثارها وعواقبها فمثلا اغتياب العلماء أشد من العوام واغتياب ولاة الأمور أشد من اغتياب من دونهم وبهذا نعرف أن هذه النشرات التي توزع بين الناس الآن من الغيبة وأن نشرها بين الناس من كبائر الذنوب وأن الإنسان يأثم بها إثما عظيما لأنها توجب أن يكره الناس من اغتيبوا فيها وأن يتمردوا عليهم وتوجب أيضا إيغار الصدور وإيقاظ الفتن فهي والعياذ بالله غيبة لولاة الأمور من أكبر الآثام في الغيبة فالذي ينشرها أو يصورها ويوزعها آثم فاعل كبيرة والعياذ بالله عليه إثمها وإثم كل من تأثر بها نسأل الله السلامة والعافية لأن هذه الأمور لا شك أنها داخلة في الغيبة ذكرك أخاك بما يكره ثم ما مصدر هذا الكلام من قال إن هذا الكلام صحيح من يقول إنه صحيح ولذلك يوجد في بعض النشرات أشياء كذب ليست بصحيحة فتكون جامعة بين الغيبة والبهتان والعياذ بالله وثالثا ماذا يترتب على نشر هذه الأوراق هل تصلح الأمور هل يقلع الناس عما وصفوا به في هذه النشرات؟ أبدا لا يزيد الأمر إلا شدة(5/51)
لذلك نرى أن توزيع مثل هذه النشرات في غيبة ولاة الأمور من كبائر الذنوب وأن الإنسان آثم إذا نشرها أو صورها أو وزعها بين الناس لما فيها من انطباق حقيقة الغيبة عليها ثم يتولد عليها مفاسد عظيمة ليست كما لو اغتبت زيدا أو اعتمرا فالأمر يكون عليه شخصيا لكن هذا يترتب عليه أنه ضرر على المغتاب شخصيا وضرر على الأمن لأنه يوجب إيغار الصدور وكراهة ولاة الأمور فنحن نحذر من نشر هذه الأوراق ونرى أن من شارك في نشرها أو توزيعها فإنه آثم فاعل كبيرة من كبائر الذنوب ولو كنا نعلم أن الأمر ستصلح بمثل هذا لكان الأمر هينا ولكن الأمور ما تزداد إلا كراهة لولاة الأمور وشرا مستطيرا نسأل الله عز وجل أن يجازي من نشرها بما يستحق إنه على كل شيء قدير(5/52)
/0L2 باب صلاة الصبح والعصر
1047 - عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من صلى البردين دخل الجنة متفق عليه البردان الصبح والعصر
1048 - وعن زهير بن عمارة بن روبية رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها يعني الفجر والعصر رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب فضل صلاة الصبح وصلاة العصر هاتان الصلاتان تميزتا بفضل ليسا في غيرهما أما الفجر فقد قال الله تبارك وتعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرءان الفجر إن قرءان الفجر كان مشهودا يشهده الله وملائكته وهذه فضيلة عظيمة واختصت أيضا بأنها مفصولة عن الصلوات الخمس منفردة بوقتها فبينها وبين صلاة العشاء نصف الليل الأخير وبينها وبين صلاة الظهر نصف النهار الأول لأن وقت العشاء ينتهي بنصف الليل ولا يمتد إلى طلوع الفجر فإذا انتصف الليل خرج وقت صلاة العشاء وبقي(5/53)
هذا النصف إلى الفجر ليس وقتا لصلاة مفروضة لكنه وقت التهجد لمن وفقه الله عز وجل أما من طلوع الشمس إلى زوال الشمس فليس أيضا وقتا لصلاة مفروضة وإنما هو وقت لصلاة مطلقة كصلاة الضحى وما أشبه ذلك فتميزت بأنها مشهودة وبأنها منفردة بوقتها لا يتصل بها ما قبلها ولا تتصل بما بعدها أما صلاة العصر فتميزت بأنها الصلاة الوسطى فإن الصلاة الوسطى بنص الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم هي صلاة العصر وتميزت بأن الله تعالى نوه بفضلها وشرفها حيث خصها بالذكر بعد أن عمم فقال {حافظوا على الصلوات} هذا عام {والصلاة الوسطى} يعني صلاة العصر فخصها بالذكر لفضيلتها وهناك فضائل وميزات اشتركت فيها صلاة الفجر وصلاة العصر منها ما أشار إليه المؤلف رحمه الله في هذا الباب 1 - أن من صلى البردين دخل الجنة والبردين هما صلاة الفجر وصلاة العصر لأن الفجر يأتي في براد الليل في آخره والعصر تأتي في براد النهار في آخره ولذلك قال قال صلى الله عليه وسلم من صلى البردين دخل الجنة 2 - وكذلك أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها يعني صلاة الفجر وصلاة العصر(5/54)
ففي الأول إثبات دخول الجنة وفي الثاني انتفاء دخول النار فيكون هذا كقوله تعالى {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من المحافظين على الصلوات والصلاة الوسطى وأن يحرمنا على النار ويدخلنا الجنة إنه على كل شيء قدير
1049 - وعن جندب بن سفيان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى الصبح فهو في ذمة الله فانظر يا ابن آدم لا يطلبنك الله من ذمته بشيء رواه مسلم
1050 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم الله وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون متفق عليه
1051 - وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم(5/55)
فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا متفق عليه وفي رواية فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة
1052 - وعن بريدة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله رواه البخاري
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في بيان فضيلة صلاة الفجر وصلاة العصر فمنها الحديث الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من صلى الفجر فهو في ذمة الله عز وجل يعني في عهده وأمانة فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء يعني لا تغدوا ولا تعملوا عملا سيئا فيطالبكم الله تعالى بما عهد به إليكم وهذا دليل على أن صلاة الفجر كالمفتاح لصلاة النهار بل لعمل النهار كله وأنها كالمعاهدة مع الله بأن يقوم العبد بطاعة ربه عز وجل ممتثلا لأمره مجتنبا لنهيه ومن فضائل صلاة الفجر والعصر 1 - أن الله سبحانه وتعالى وكل بالعباد ملائكة معقبات يتعاقبون فينا(5/56)
يحفظوننا من أمر الله عز وجل يجتمعون في صلاة الفجر وفي صلاة العصر ثم يصعد الذين باتوا فينا إلى الله عز وجل فيسألهم وهو أعلم كيف تركتم عبادي يسألهم ذلك إظهارا لشرف العباد وتنويها بفضلهم وليس خفاء عليه لأنه يعلم السر وأخفى لكن لإظهار فضيلتهم يسألهم كيف تركتم عبادي فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون لأنهم يأتون في أول الليل وأول النهار فيتعاقبون في صلاة الفجر وصلاة العصر هؤلاء ينزلون وهؤلاء يصعدون وقيد الله سبحانه وتعالى وقت صعودهم ونزولهم بهاتين الصلاتين لفضلهما لأن صلاة العصر هي الصلاة الوسطى وصلاة الفجر هي الصلاة المشهودة 2 - ومن ذلك أيضا ما رواه جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر ليلة الرابع عشر فقال صلى الله عليه وسلم إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر يعني يوم القيامة يراه المؤمنون في الجنة كما يرون القمر ليلة البدر ليس المعنى أن الله مثل القمر لأن الله ليس كمثله شيء بل هو أعظم وأجل عز وجل وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه لكن المراد من المعنى تشبيه الرؤية بالرؤية فكما أننا نرى القمر ليلة(5/57)
البدر رؤية حقيقية ليس فيها اشتباه فإننا سنرى ربنا عز وجل كما نرى هذا القمر رؤية حقيقية بالعين دون اشتباه واعلم أن ألذ نعيم وأطيب نعيم عند أهل الجنة أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم هو النظر إلى وجه الله فلا شيء يعدله ولهذا قال عز وجل للذين أحسنوا الحسنى وزيادة فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها النظر إلى وجه الله الحسنى اسم تفضيل مؤنث يقابله أحسن في المذكر فالزيادة زيادة على الأحسن وهي النظر إلى وجه الله عز وجل فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر أننا نرى ربنا كما نرى القمر ليلة البدر فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا والمراد من قوله استطعتم ألا تغلبوا على صلاة أي على أن تأتوا بهما كاملتين ومنها أن تصلي في جماعة إن استطعتم ألا تغلبوا على هذا فافعلوا وفي هذا دليل على أن المحافظة على صلاة الفجر وصلاة العصر من أسباب النظر إلى وجه الله عز وجل ويا لها من قيمة عظيمة حافظ على صلاة الفجر وصلاة العصر تنظر إلى وجه الله يوم القيامة في جنات النعيم 3 - من فضائل صلاة العصر خاصة أن من تركها فقد حبط عمله لأنها عظيمة وقد استدل بهذا بعض(5/58)
العلماء على أن من ترك صلاة العصر كفر لأنه لا يحبط الأعمال إلا الردة كما قال تعالى {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعلمون} وقال تعالى {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} فيقول بعض العلماء صلاة العصر خاصة من تركها فقد كفر وكذلك من ترك بقية الصلوات عموما فقد كفر وهذا القول ليس ببعيد من الصواب لأن حبوط العمل لا يكون إلا بالكفر والردة ففي هذا دليل على عظم شأن هذه الصلاة صلاة العصر ولذلك نص الله على المحافظة عليها من بين سائر الصلوات فقال {حافظوا على الصلوات والصلوات الوسطى} يعني صلاة العصر {وقوموا لله قانتين}(5/59)
باب فضل المشي إلى المساجد
1053 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح متفق عليه
1054 - وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من تطهر في بيته ثم مضى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة رواه مسلم
1055 - وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال كان رجل من الأنصار لا أعلم أحدا أبعد من المسجد منه وكانت لا تخطئه صلاة فقيل له لو اشتريت حمارا لتركبه في الظلماء وفي الرمضاء قال ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جمع الله لك ذلك كله رواه مسلم
1056 - وعن جابر رضي الله عنه قال خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد قالوا نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك فقال بني سلمة دياركم تكتب آثاركم دياركم تكتب آثاركم فقالوا ما يسرنا أنا كنا(5/60)
تحولنا رواه مسلم وروى البخاري معناه من رواية أنس
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب فضل المشي إلى المساجد المشي للمساجد يعني الصلاة فيها والمشي إلى المساجد يكون لأسباب متعددة مثلا لحضور درس قراءة القرآن إصلاح شيء فيها أو غير ذلك لكن من جاء إلى المساجد للصلاة فهذا المقصود من هذا الباب ففي حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من غدا إلى المسجد أو راح كتب الله له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح غدا يعني ذهب في الصباح راح يعني ذهب في العشي بعد الزوال فإنه يكتب له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح ونحن ولله الحمد نغدوا إلى المساجد ونروح في كل يوم وليلة خمس مرات فيكتب للإنسان نزل في الجنة يعني ضيافة في الجنة هذه من فضائل المشي إلى المساجد ومن فضائلها أيضا أن الإنسان إذا تطهر في بيته وخرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة ففي الحديث الذي ساقه المؤلف هنا أنه لا يخطو خطوة إلا رفع الله له بها درجة والخطوة الثانية يحط عنه خطيئة لكن في حديث آخر أنه لا يخطو(5/61)
خطوة إلا رفع الله له بها درجة وحط عنه بها خطيئة فيكتسب في الخطوة الواحدة رفع الدرجة وحط الخطيئة بشرط أن يتوضأ في بيته ويسبغ الوضوء ثم يخرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة فهذا له بكل خطوة يخطوها أن يرفع الله له بها درجة ويحط عنه خطيئة وهذه نعم عظيمة من الله عز وجل ومن فوائد ذلك أنه ينبغي للإنسان أن يأتي إلى المسجد ماشيا ويرجع ماشيا فهو الأفضل ودليل ذلك قصة الأنصاري الذي كان بعيد الدار فقيل له لو اشتريت حمارا تركبه في الظلماء والرمضاء فقال لا فأنا أحتسب على الله خطاي فقال النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب الله لك ذلك كله فدل ذلك على أن المجيء إلى المسجد على القدمين أفضل من المجيء على مركوب لأنه يحسب لك أجر الخطا ولكن إذا كان الإنسان معذورا فلا بأس أن يأتي بالسيارة وخطوة السيارة دورة لعجلتها إذا دار عجلها دورة واحدة فهذه خطوة لأنه عند دوراته يرتفع الذي باشر الأرض ثم يدور حتى يرجع ثانية إلى الأرض فهو كرفع القدم من الأرض ثم وضعها مرة ثانية فإذا كان الإنسان معذورا فلا بأس أن يأتي بالسيارة وهذا أيضا من فضائل المشي إلى المساجد أن الله تعالى يكتب للإنسان الخطوات كلما ذهب وكلما رجع(5/62)
ومما يدل أيضا على فضل المشي إلى المساجد ولو بعدت حديث جابر في بني سلمة يقول خلا ما حول المسجد يعني من المنازل فأراد بنو سلمة أن يأتوا المسجد ويقربوا منه فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم عن ذلك قالوا نعم أردنا أن نتحول لنقرب من المسجد فقال يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم يعني الزموا دياركم ولا تقربوا تكتب آثاركم فدل هذا على أنه كلما كان منزل الإنسان أبعد من المسجد فإنه أكثر أجرا لأنه قال تكتب آثاركم ولكن لا يعني هذا أن الإنسان يتقصد أن ينزل بعيدا من المسجد لكن إذا قدر إلا يصلي إلا في المكان البعيد أو كانت ديار قوم أو ما أشبه ذلك فإنه يكتب آثاره فدل ذلك على فضيلة المشي إلى المساجد وفضل الله واسع وعطاؤه كثير يعطي على العمل القليل الأجر الكثير نسأل الله لنا ولكم من فضله العظيم
1057 - وعن أبي موسى رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصليها ثم ينام متفق عليه(5/63)
1058 - وعن بريده رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال بشروا المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة رواه أبو داود الترمذي
1059 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله قال إسباغ الوضوء على المكارة وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط رواه مسلم
1060 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان قال الله عز وجل {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر} الآية رواه الترمذي وقال حديث حسن
[الشَّرْحُ]
هذه بقية الأحاديث في فضل المشي إلى المساجد ذكر الحديث الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم(5/64)
ممشى فأبعدهم وذلك لما سبق من أن الإنسان إذا تطهر في بيته وخرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفع الله له بها درجة وحط عنه خطيئة ولا تزال الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه فإذا كان بيتك بعيدا عن المسجد ولم يمنعك البعد من حضور الجماعة فإنك أعظم أجرا من القريب لأن القريب ليس له عذر يسهل عليه الوصول للمسجد أما البعيد فقد يكون له شيء من العذر لبعده ومع ذلك يتجشم البعد ويأتي إلى المسجد ويصلي مع الجماعة فكان هذا أفضل ثم ذكر أن الذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أفضل من الذي يصلي ثم ينام وهذا في صلاة العشاء فإن المشروع في صلاة العشاء أن تؤخر إلى ثلث الليل لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العشاء ذات يوم وقد مضى عامة الليل وقال أنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي فهذا الذي صلى وحده ونام لأنه يشق عليه أن ينتظر صلاة الجماعة لكونهم يؤخرونها نقول له إذا انتظرت وصليت مع الجماعة فهو أفضل وأما إذا كان الإمام يصلي على العادة فإنه لا يجوز للإنسان أن يصلي ثم ينام لأن صلاة الجماعة واجبة حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار(5/65)
ثم ذكر الحديث الذي أخرجه الترمذي قال بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة وهذا الحديث ضعيف لكن لا شك أن الذي يذهب إلى المسجد في الظلم فإن حزاءه من جنس العمل يعني كما تجشم الظلم وأتى إلى المساجد فإنه يكتب له النور يوم القيامة وأضعف منه الحديث الذي بعده إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان فإن الله يقول إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله هذا أيضا حديث ضعيف لا يصح رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه يكفي في فضل المشي إلى المساجد ما سبق من الأحاديث الصحيحة الواضحة نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في العمل والموفقة لما يرضاه جل وعلا(5/66)
باب فضل انتظار الصلاة
1061 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يزال أحدكم في صلاة مادامت الصلاة تحبسه لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة متفق عليه
1062 - وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الملائكة تصلي على أحدكم مادام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث تقول اللهم اغفر له اللهم ارحمه رواه البخاري
1063 - وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر ليلة صلاة العشاء إلى شطر الليل ثم أقبل علينا بوجه بعدما صلى فقال صلى الناس رقدوا ولم تزالوا في صلاة منذ انتظرتموها رواه البخاري
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في بيان فضل انتظار الصلاة سواء كان ذلك بعد صلاة سابقة أو تقدم الإنسان إلى المسجد ينتظر الصلاة فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث أن الإنسان مادام ينتظر الصلاة فإنه في الصلاة وبين أيضا أن الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث تقول(5/67)
اللهم صل عليه اللهم اغفر له اللهم ارحمه وقوله ما لم يحدث قيل ما لم يحدث حدثا في الإسلام يعني ما لم يعص وقيل ما لم يحدث حدثا ينقص الوضوء لأنه إذا أحدث حدثا ينقض الوضوء & فإنه يبطل الصلاة فيمنع أن يكون في صلاة وأيا كان ففيه دليل على فضيلة انتظار الصلاة بعد الصلاة وعلى فضيلة انتظار الصلاة وإن لم يكن بعد الصلاة فيؤخذ من هذا أنه ينبغي للإنسان أن يتقدم إلى المسجد ثم ذكر قصة تأخير النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل يعني أنه لم ينته منها حتى منتصف الليل والصحابة ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم فلما انصرف من صلاته قال إن الناس صلوا وناموا وإنكم ما تزالون في صلاة ما انتظرتم الصلاة فكانت من وقت العشاء إلى نصف الليل أي إلى أن صلى النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في انتظاره ولا يزالون في صلاة ما انتظروا الصلاة وفي هذا الحديث دليل على أن الأفضل تأخير صلاة العشاء وهو كذلك إلا إذا كان يشق على الناس أو على بعضهم فالأفضل أن يقدموا وعلى هذا فإذا كانوا جماعة في سفر أو في غير سفر أو في بلد لا تقام فيها جماعات فإن الأفضل أن تؤخر الصلاة إلى قريب من منتصف الليل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن هذا لوقتها لولا أن أشق على أمتي وكان صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطئوا أخر والله الموفق(5/68)
باب فضل صلاة الجماعة
1064 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة متفق عليه
1065 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطت عنه بها خطيئة فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه ما لم يحدث تقول اللهم صل عليه اللهم ارحمه ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة متفق عليه وهذا لفظ البخاري
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب فضل صلاة الجماعة يريد بذلك رحمه الله بيان فضل الصلاة مع الجماعة وقد اتفق العلماء على أن صلاة الجماعة من أفضل العبادات وأجل الطاعات لكن اختلفوا هل هي سنة أو واجب أو شرط لصحة الصلاة على أقوال ثلاثة 1 - أنها سنة إن قام بها الإنسان أثيب على ذلك وإن تركها فلا(5/69)
إثم عليه 2 - أنها واجبة يجب على الإنسان أن يصلي مع الجماعة فإن لم يفعل فهو إثم وصلاته صحيحة 3 - أن الجماعة شرط لصحة الصلاة وأنه إذا لم يصل مع الجماعة فصلاته باطلة ولا تقبل منه وهذا الأخير اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ورواية عن الإمام أحمد أن الإنسان إذا صلى وحده بدون عذر شرعي فإن صلاته لا تقبل كالذي يصلي بغير وضوء وعللوا ذلك بأن صلاة الجماعة واجبة والقاعدة أن من ترك واجبا في الصلاة بطلت صلاته لكن القول الراجح أنها واجبة يأثم الإنسان بتركها ولكنه إذا صلى وحده قبلت صلاته فليست شرطا لصحة الصلاة ويدل على هذا حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ووجه الدلالة أنه لو كانت صلاة المنفرد لا ثواب فيها ما صحت المفاضلة ولكن يأثم الإنسان الذي لا يصلي مع الجماعة وأما حديث أبي هريرة فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المرء في بيت وفي سوقه بخمس وعشرين ضعفا ولا منافاة بين الحديثين بل يؤخذ بالزائد لأن فضل الله واسع ثم بين ذلك وذلك أنه إذا توضأ في بيته فأسبغ الوضوء يعني أتمه ثم خرج من بيته إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطت عنه بها خطيئة الخطوة الواحدة فيها فائدتان(5/70)
1 - أنه يرفع له بها درجة 2 - أنه يحط عنه بها خطيئة فإذا دخل المسجد وصلى لم تزل الملائكة تصل عليه مادام في مصلاه تقول اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يحدث ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة وهذا أجر عظيم وفضل كبير لا ينبغي للرجل المؤمن العاقل أن يفرط فيه لو أنه قيل لك إن سلعتك إذا بعتها في بلدك بعتها بمائة وإذا بعتها في بلد آخر بالسفر إليه بعتها بمائة وعشرة لسافرت من أجل عشرة بالمائة ولم يشق عليك السفر والكثير من الناس والعياذ بالله حرموا الخير تجدهم قريبين من المسجد يتركون هذا الفضل العظيم وهذا المكسب العظيم الواحد بسبع وعشرين يعني أضعاف ومع ذلك لا يأتي إلى المسجد نسأل الله العافية وربح الدنيا مع قلته يسعى إليه ويهتم به مع أنه زائل فإن كل ما في الدنيا من نعيم فإما زائل عنك وإما زائل أنت عنه ولابد فما من نعيم دائم ولا إقامة دائمة ونعيم الآخرة باق ومع ذلك نجد بعض الناس يفرط فيه ولا يهتم به وفضل الله تعالى يؤتيه من يشاء نسأل الله تعالى أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته
1066 - وعنه قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلي المسجد فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له(5/71)
فيصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال له هل تسمع النداء بالصلاة قال نعم قال فأجب رواه مسلم
1067 - وعن عبد الله وقيل عمرو بن قيس المعروف بابن أم مكتوم المؤذن رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله إن المدينة كثيرة الهوام والسباع فقال رسول الله تسمع حي على الصلاة حي على الفلاح فحيهلا رواه أبو داود بإسناد حسن ومعنى حيهلا تعال
1068 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم متفق عليه
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث الثلاثة في بيان وجوب صلاة الجماعة وأن تكون في المسجد فمنها حديث أبي هريرة الأخير أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم وهو الصادق البار بدون قسم أنه هم أن يأمر بالصلاة فتقام ثم يأمر رجلا فيصلي بالناس ثم ينطلق بحزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة(5/72)
فيحرق عليهم بيوتهم بالنار وهذا يدل على وجوب صلاة الجماعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يهم هذا الهم إلا لترك أمر واجب ولا يخبر الناس بذلك إلا ليحذرهم من تركه ومخالفته وإلا لم يكن هناك فائدة وكونه صلى الله عليه وسلم هم أن يعاقبهم هذه العقوبة دليل على تأكد الجماعة وأنها أمر مهم وقد روي بسند ضعيف أنه قال لولا ما فيها من النساء والذرية لكن هذا ضعيف ولكن يكفي أن يكون هم بذلك وأخبر الأمة به ثم من الذي تجب عليه الجماعة هو الذي يستطيع أن يصل إليها وهو يسمع النداء ولهذا استفتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل قال يا رسول الله إنني رجل أعمى وليس لي قائد يقودني إلى المسجد يريد أن يرخص له النبي صلى الله عليه وسلم فرخص له فلما أدبر ناداه قال هل تسمع النداء قال نعم قال فأجب فدل ذلك على وجوب صلاة الجماعة على الأعمى وأن العمى ليس عذرا في ترك الجماعة ودل ذلك أيضا على أنها تجب في المسجد وأنه ليس المقصود الجماعة فقط بل الجماعة وأن تكون في المسجد ودل ذلك أيضا على أن العبرة بسماع النداء ولكن المراد سماع النداء المعتاد وليس بالميكروفون(5/73)
ودل ذلك أيضا على أنه لا يصح افتداء من كان خارج المسجد بمن في المسجد ولو أمكنه أن يقتدي به يعني مثلا لو كان الإنسان عند بيت بجوار المسجد وهو يسمع تكبيرات الإمام فقال لابنه مثلا نصلي مع الإمام جماعة في بيتنا فإن ذلك لا يصح لأنه لابد من حضور المكان الذي تقام فيه الجماعة إلا أنه إذا امتلأ المسجد وصلى الناس في الأسواق فإن الذين خارج المسجد يكونون تبعا لمن في المسجد في اتصال الصفوف وإلا فبدون اتصال الصفوف فإن من كان خارج المسجد لا تصح صلاته مع أهل المسجد لابد من الحضور حتى لو كان يسمع كل التكبيرات فإذا قال قائل إذا كان مريضا ولا يستطيع الحضور لكن يسمع النداء بواسطة الميكروفون يتابع الإمام قلنا لا يصلي مع الإمام هو معذور في ترك الجماعة وإذا كان من عادته أنه يصلي مع الجماعة فإنه يكتب له ما كان يعمل لما كان صحيحا لقول النبي صلى الله عليه وسلم من مرض وسافر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما والله أعلم
1069 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال من سره أن يلقي الله تعالى غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادي بهن فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم(5/74)
سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف رواه مسلم وفي رواية له قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه
[الشَّرْحُ]
ساق المؤلف رحمه الله في باب فضل الجماعة هذا الأثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا الأثر الذي كأنما يخرج من مشكاة النبوة كأنه من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم في سلاسته وحسنه ونظمه يقول رضي الله عنه من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن وكلنا يسره أن يلقى الله تعالى مسلما مؤمنا به جل وعلا فمن أراد ذلك فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن أي في المكان الذي نادى به عليهن أي المسجد وذلك لوجوب صلاة الجماعة في المسجد فلا يجوز لأحد يقدر على أن يصلي في المسجد إلا وجب عليه إذا كان من أهل(5/75)
وجوب الجماعة كالرجال ثم ذكر رضي الله عنه أن الله سبحانه وتعالى شرع لنبيه صلى الله عليه وسلم سنن الهدى يعني طرق الهدى فكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو هدى ونور شرعه الله له وإنهن يعني الصلوات الخمس من سنن الهدى وصدق رضي الله عنه بل الصلوات الخمس أعظم سنن الهدى بعد الشهادتين لأن الصلاة أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين ثم قال لو أنكم صليتم في بيوتكم كما صلى هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم يعني لو أن كل واحد صلى في بيته كما صلى هذا المتخلف لتركنا السنة ولتعطلت المساجد ولانقطع الناس بعضهم عن بعض ولما تعارفوا ولا تآلفوا ولا حصل هذا المظهر العظيم في الدين الإسلامي ولكن من رحمة الله وحكمته أن شرع للعباد أن يصلوا جماعة كل يوم خمس مرات تلقى أخاك تسلم عليه ويسلم عليك وتقتدي معه على إمام واحد فهي نعمة عظيمة من أعظم روابط الأخوة في المودة والمحبة ثم قال ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق والمنافقون كثيرون لاسيما إذا اعتز الإسلام وقوي ما استطاع الإنسان أن يعلن كفره ولهذا لم يبرز النفاق ولم يكثر في عهده صلى الله عليه وسلم إلا حين انتصر المسلمون في غزوة بدر لما انتصر المسلمون في غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة بدأ النفاق يظهر خاف الكفار على أنفسهم فصاروا يعلنون الإسلام حتى إنهم يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم(5/76)
يقولون نشهد إنك لرسول الله فيقول الله عز وجل {والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} يعني ما قالوا صدقا بل قالوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم & قول ما يتخلف عنها إلا منافق لماذا يتخلف المنافق لأن المنافق لا يرجو ثوابا ولا يؤمن بالحساب فلا يحضرها ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم أثقل الصلوات على المنافقين العشاء والفجر لأن صلاة العشاء لا يرى فيها الذي يتخلف ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يوجد كهرباء ولا أنوار فيتخلف الإنسان ولا يدري عنه ثم إن صلاة العشاء والفجر تأتي في وقت الراحة والنوم فهي ثقيلة على المنافقين لا يأتون إليها ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ثم ذكر رضي الله عنه أن الرجل من المسلمين يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف فهو رجل مريض لا يستطيع أن يمشى وحده يهادونه يمشون به وريدا وريدا حتى يقام في النصف فيصلي مع الجماعة رضي الله عنهم وبهذه الأعمال وغيرها ملكوا مشارق الأرض ومغاربها ولما تخلفت الأمة الإسلامية واختلفت قلوبها صارت إلى ما ترون الآن أمة ذليلة على أنهم يبلغون مليارا من البشر ومع ذلك هم في أذل ما يكون من الأمم(5/77)
لأنهم متفرقون بل بعضهم متعادون بل بعضهم يرى أن الآخر أشد عليه من اليهود والنصارى والعياذ بالله لأنهم متنازعون متفرقون لكن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتخلف أحد عن الجماعة حتى ولو كان مريضا يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف فلو أننا عدنا إلى ما كان الصحابة عليه لصرنا أمه عزيزة مرموقة كل يخافها وكل يصانعها وكل يتودد إليها نسأل الله أن يعيد لنا مجدنا لديننا ويعيد لنا كرامتنا إنه على كل شيء قدير
1070 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذنب من الغنم القاصية رواه أبو داود بإسناد حسن
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب فضل الجماعة فيما نقله عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من ثلاثة في قرية ولا بدو يعني ولا بادية لا تقام فيهم الجماعة إلا استحوذ عليهم الشيطان يعني معنى ذلك أنه إذا كان ثلاثة في قرية أو في بادية لا تقام فيهم الجماعة ولا(5/78)
الجمعة إلا استحوذ عليهم الشيطان فدل ذلك على أنه لا يجوز ترك الجماعة ولكن هذا الحديث يفيد أنه لا يجوز إذا كانوا ثلاثة فأكثر لكن هناك أحاديث أخرى تدل على أن الجماعة تجب إذا كانا اثنين فأكثر أما في الجمعة فلا تجب إلا إذا كانوا ثلاثة فأكثر في غير البرية أما البادية والمسافرون في البر فليس عليهم جمعة لكن القرى والأمصار فيها جمعة وأدنى ما يكون ثلاثة فإن قيل كيف يمكن أن تكون قرية أو مدينة ليس فيها إلا ثلاثة فالجواب يمكن هذا بأن تكون هذه المدينة مسافرين جاءوا للدراسة مثلا كما يوجد الآن في المجتمعات في بعض البلاد الخارجية يكون من فيها من المواطنين ثلاثة فقط والباقون كلهم مسافرون جاءوا للدراسة فهؤلاء تلزمهم الجمعة لأن فيها ثلاثة مواطنين وأما البادية فلا تجب عليهم الجمعة لأن الجمعة لا تكون إلا في القرى والأمصار ولهذا لم تكن البادية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهم حول المدينة يقيمون الجمعة وفي قوله وعليكم بالجماعة إنما يأكل الذئب القاصية من الغنم دليل على أنه لا ينبغي للمسلمين الافتراق والاختلاف وأنه واجب عليهم الاجتماع وأن الشرود عن الجماعة سبب في الهلاك لأن النبي صلى الله عليه وسلم شبه ذلك بالقاصية من الغنم البعيدة يأكلها الذئب فتهلك فهكذا الذي يشذ عن الجماعة حتى لو برأي ينفرد به ويظن أن النصوص معه وتدل عليه فإن الواجب إذا رأى الإنسان في رأي أن النصوص وتدل على خلاف ما يراه الجمهور فالواجب عليه أن يعيد النظر مرة بعد أخرى إذ لا يمكن أن يكون(5/79)
الجمهور توهموا وأنت الذي أصبت ولهذا لما قال حذيفة لابن مسعود رضي الله عنه إن قوما يعتكفون في البصرة والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لا اعتكاف إلا في ثلاثة مساجد الحرام والنبوي والأقصى قال لعلهم ذكروا ونسيت وحفظوا فوهم ابن مسعود حذيفة وذلك لأن المسلمين يكادون كالمجمعين على أن الاعتكاف يصح في كل مسجد وأنه لو فرض صحة حديث حذيفة لكان معناه لا اعتكاف تاما إلا في هذه المساجد الثلاثة وإلا فلا يمكن أن يخاطب الله بالقرآن الكريم الأمة الإسلامية يقول ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ثم نقول لا اعتكاف إلا في ثلاثة مساجد لا يحضرها ولا واحد بالمائة من المسلمين هذا خلاف البلاغة وخلاف الفصاحة لكن بعض الناس يحب الإغراب في الشيء يحب أن يذكر ومن أمثال العامة خالف تذكر هو إن شذ وخالف ما عليه الجماعة اشتهر ولهذا تجد بعض الناس يفتي بأقوال شاذة ما لها دليل مخالف للدليل ورأي الجمهور ثم يشتهر بهذا وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم الشاذ عن الجماعة بالقاصية من الغنم يأكلها الذئب والله الموفق(5/80)
باب الحث على حضور الجماعة في الصبح والعشاء
1071 - عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله رواه مسلم وفي رواية الترمذي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من شهد العشاء في جماعة كان له قيام نصف ليلة ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة قال الترمذي حديث حسن صحيح
1072 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ولو يعلمون ما فيه العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا متفق عليه وقد سبق بطوله
1073 - وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة الفجر والعشاء ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا(5/81)
متفق عليه
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب فضل صلاة الفجر وصلاة العشاء يعني في جماعة ونص على هاتين الصلاتين لما فيهما من الأجر الكثير ففي حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن الإنسان إذا صلى العشاء والفجر في جماعة فكأنما صلى الليل كله أي فكأنه قام يصلي الليل كله العشاء نصف الليل والفجر نصف الليل وهذا فضل عظيم يعني كأنك قائم الليل كله وأنت في فراشك إذا صليت الفجر في جماعة والعشاء في جماعة وقال صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة لو يعلمون ما في العتمة وصلاة الفجر لأتوهما ولو حبوا العتمة هي العشاء والفجر معروف لو يعلمون ما فيهما من الأجر والثواب لأتوهما يحبون على الأرض كما يحبو الصبي لما فيهما من الأجر العظيم وكذلك الحديث الذي يعده لأبي هريرة أيضا أن أثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر لأن المنافقين يصلون رياء وسمعه وصلاة العشاء والفجر ظلمة لا يشاهدون فهم يأتون إليهما كرها لكن الظهر والعصر والمغرب يأتون لأن الناس يشاهدونهم فهم يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا والعشاء والفجر ما فيهما مراءاة لأنها ظلمة وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن توجد أنوار ولا سرج فلا يشاهدهم أحد فيكون حضورهم العشاء(5/82)
والفجر ثقيلا عليهم لفوات المراءاة هذا من وجه ومن وجه آخر أن صلاة العشاء والفجر وقت الراحة والنوم ففي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان الناس لا يسهرون كما يسهر الناس اليوم ينامون مبكرين بعد صلاة العشاء والفجر يقومون ومنهم من يمن الله عليه بقيام ومنهم من يقوم لصلاة الفجر فهما ثقيلتان على المنافقين فينبغي للإنسان أن يحرص على صلاة العشاء والفجر لكن صلاة العشاء ليست أفضل من صلاة العصر فصلاة العصر أفضل ولهذا صارت صلاة الفجر قرينة للعصر وقرينة للعشاء فهي قرينة للعصر كما سبق من صلى البردين دخل الجنة وقال صلى الله عليه وسلم إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس - الفجر - وصلاة قبل غروبها - العصر - فافعلوا وهي أي صلاة الفجر مع العشاء أيضا إذا اجتمعتا فكأنما قام الإنسان الليل كله وكذلك أيضا لو يعلم الناس ما في العشاء والفجر لأتوهما ولو حبوا فاحرص أخي المسلم على جميع الصلوات كن محافظا عليها فإن(5/83)
الله عز وجل يقول قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون فذكر الله الصلاة في أول الأوصاف الحميدة وفي آخرها وقال تعالى في سورة المعارج {إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون} ...
وفي آخر الأوصاف الحميدة قال {والذين هم على صلاتهم يحافظون} وفي هذا يعرف أن الصلاة أعظم الأعمال بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله جعلني الله وإياكم من مقيمي الصلاة ومؤتي الزكاة المحافظين على أداء فرائض الله واجتناب محارمه(5/84)
باب الأمر بالمحافظة على الصلوات المكتوبات والنهي الأكيد والوعيد الشديد في تركهن
قال الله تعالى {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} وقال تعالى {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}
1074 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل قال الصلاة على وقتها قلت ثم أي قال بر الوالدين قلت ثم أي قال الجهاد في سبيل الله متفق عليه(5/85)
1075 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان متفق عليه
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب وجوب المحافظة على الصلوات والتحذير من إضاعتها الصلوات خمس كتبهن الله عز وجل على عباده في كل يوم وليلة لقوله تبارك وتعالى حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يخفف عن العباد قال هن خمس في الفعل خمسون في الميزان وسأل النبي صلى الله عليه وسلم رجل عن الإسلام ومنه الصلوات فذكر له خمس صلوات قال هل علي غيرها قال لا إلا أن تتطوع وأرسل معاذا إلى اليمن وقال أخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة وقد أمر الله بالمحافظة عليها فقال حافظوا على الصلوات والصلوات الوسطى خصها لما لها من المزية والفضل والمراد بالصلاة الوسطى صلاة العصر فسرها بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بكتاب الله وبمراده ولا قول لأحد بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم وقال تعالى {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} وليت المؤلف جاء بالآية الأخرى {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} لأن هذه الآية تدل على أن لم يقم الصلاة فهو كافر ثم ذكر حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله قال الصلاة على وقتها يعني على الوقت المطلوب شرعا إن كان مما يطلب تقديمه فتقديمه أفضل وإن كان مما يطلب تأخيره أفضل والصلوات الخمس كلها الأفضل فيها التقديم إلا العشاء فالأفضل فيها التأخير ما لم يشق على الناس وإلا الظهر في شدة الحر فالأفضل فيها التأخير تيسيرا على الناس وتخفيفا عليهم أما الفجر والعصر والمغرب فالأفضل فيها التعجيل على كل حال لكن قال العلماء رحمهم الله من قام حين يسمع النداء يتوضأ ويتأهب للصلاة فهذا تقديم يعني ليس المعنى أنه من حين يؤذن نصلي المهم أن تستعد للصلاة من أول وقتها قال ابن مسعود ثم أي قال صلى الله عليه وسلم بر الوالدين يعني الإحسان إليهما بالقول والمال والخدمة وغير ذلك قال ثم أي قال الجهاد في سبيل الله قال ابن مسعود ولو استزدته لزادني يعني لو طلب زيادة ثم أي ثم أي لزاده النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك بناء على ما عرفه من قرينه الحال وفي الحديث دليل على إثبات المحبة لله عز وجل وأنه يحب الأعمال كما يحب العاملين وأن حبه يتفاوت سبحانه وتعالى وفيه أن بر الوالدين مقدم على الجهاد في سبيل الله واجبه على واجبه وتطوعه على تطوعه فمثلا إذا كان الوالدان ليس عندهما من يعولهما ولا من يخدمهما وهما في ضرورة للولد فإنه يجب عليه أن يبقى ولا يجاهد وإذا كان عندهم من يقوم بخدمتهما وأمرهما فهذا بقاؤه عندهما مستحب ثم الجهاد وإذا احتاج إليه كان أفضل وإن لم يحتج إليه فبر الوالدين أفضل والله أعلم بالنسبة لصلاة الفجر المعروف أن التوقيت الذي يعرفه الناس الآن ليس بصحيح فالتوقيت مقدم على الوقت بخمس دقائق على أقل تقدير وبعض الإخوان خرجوا إلى البر فوجدوا أن الفرق بين التوقيت الذي بأيدي الناس وبين طلوع الفجر نحو ثلث ساعة فالمسألة خطيرة جدا ولهذا لا ينبغي للإنسان في صلاة الفجر أن يبادر في إقامة الصلاة وليتأخر ثلث ساعة أو 25 دقيقة حتى يتقين أن الفجر قد حضر وقته
1075 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان متفق عليه
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله في كتاب رياض الصالحين باب فضل الصلوات الخمس والنهي الأكيد والوعيد الشديد على من ضيعهن ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا اله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان هكذا رواه ابن عمر رضي الله عنهما وفي(5/88)
لفظ أنه قدم الصوم على الحج فعلى الأول بني البخاري رحمه الله الترتيب الصحيح فبدأ بالحج قبل الصيام وأكثر الأحاديث على تقديم الصيام على الحج قوله صلى الله عليه وسلم بني الإسلام يعني أنه شبه الإسلام بالقصر الذي له خمسة أعمدة ومعلوم أن الأعمدة هي أساس البنيان وأنه إذا فقدت الأعمدة تداعى البنيان وانهدم فإن بني على غير أعمدة بني بناء ضعيفا ولكن الإسلام بناء قوي محكم شرعه الله عز وجل لعباده وقال اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا هذه الدعائم وهذه الأعمدة الخمسة بينها صلى الله عليه وسلم بقوله شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يعني أن تشهد معترفا بلسانك مؤمنا بقلبك أنه لا معبود بحق إلا الله كل ما عبد من دون الله فهو باطل هناك أناس يعبدون الشمس وهناك أناس يعبدون القمر وهناك أناس يعبدون الشعرى وهناك أناس يعبدون البقر وهناك أناس يعبدون فروج النساء ...
أمم مختلفة لكن من المعبود حقا الله عز وجل هو المعبود حقا هذا هو مقتضى الشرع ومقتضى العقل لأن الذي يستحق العبادة هو الذي خلق الخلق من الذي خلق الخلق الله عز وجل قال تبارك وتعالى {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} وقال تعالى {أفرأيتم ما تمنون(5/89)
أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون} لو اجتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا جنبا واحدا ما استطاعوا بل قال عز وجل {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له سبحان الله كل المعبودات بالباطل على اختلاف أصنافها لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له هذا في القدر في الشرع قال الله تبارك وتعالى} قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله {إذن لا أحد يستطيع أن يأتي بمثل كلام الله ولا أن يخلق مثل خلق الله} ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله إذن هذا الذي يوصف بكل هذه الأوصاف هو المستحق للعبادة هل يستحق العبادة شيء مدبر الشمس مدبره} والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم {هل هي يستحق أن تعبد القمر هل يستحق أن يعبد النجم الشجر لا أحد يستحق(5/90)
فكل مخلوق حاج إبراهيم صلى الله عليه وسلم قومه فلما جن عليه الليل وأظلم رأي كوكبا وكان من قومه من يعبد النجوم قال هذا ربي وكالعادة غاب الكوكب فلما أفل قال لا أحب الآفلين لأن الرب لا يغيب عن عباده فلما رأى القمر بازغا وهو أعلى النجوم إضاءة} قال هذا ربي فلما أفل قال {أي غاب} لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين {وهذا أشد من الأول جاء إلى شيء أكبر وهي الشمس وهم يعبدون أيضا فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي فلما أفلت غابت أعلن صلى الله عليه وسلم التوحيد قال} يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين {إذن لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله وكل ما يعبد من دون الله فهو باطل والعجيب أن هذه الأصنام التي تعبد يا إخواني أنها يوم القيامة تجمع وتحصب في نار جهنم كما يحصب الحصى وكذلك عابدوها يحصبون} إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون {نعم لو كانت هذه الأصنام آلهة حقا هل ترد النار(5/91)
وكذلك الذين يعبدونها لما جاءت هذه الآيات أراد المشركون أن يشبهوا بها قالوا عيسى ابن مريم يعبد إذن يلقى في النار فأنزل الله تعالى قوله} وإن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها معبدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون {فعيسى ابن مريم ممن سبقت لهم من الله الحسنى لأنه أحد أولي العزم من الرسل المهم يا إخواني أن تعلموا أن كل من يعبد من دون الله فهو باطل سواء كان نجما أو وليا أو صالحا أو عالما أو رئيسا كل ما يعبد من دون الله فهو باطل عبادته باطلة فشهادة أن لا إله إلا الله تتضمن الإخلاص الذي لا تصح العبادة إلا به والمتابعة التي يتضمنها شهادة أن محمدا رسول الله ولهذا يعد هذا ركنا واحدا أما الثاني فهو إقامة الصلاة يعني الصلوات الخمس وما يتبعها من النوافل لكون الصلاة من أركان الإسلام والصلوات الواجبة بالإجماع وهي خمس الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء والجمعة تكون في محل الظهر وماعدا ذلك فمختلف فيه فالوتر اختلف العلماء هل هو واجب يأثم الإنسان بتركه أم سنة أم فيه تفصيل وهو أن من له ورد من الليل يجب عليه أن يوتر ومن ليس له ورد وإنما ينام إذا صلى العشاء إلى الفجر فهذا لا(5/92)
يجب عليه الوتر وأما صلاة الكسوف فمختلف فيها من العلماء من يقول واجبة ومنهم من يقول ليست بواجبة والصحيح أنها واجبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها وفزع لما كسفت الشمس وصلاها صلاة غريبة لكنها فرض كفاية إذا قام بها من يكفي من أهل البلد سقطت من الباقين وكذلك أيضا اختلف العلماء رحمهم الله في تحية المسجد هل هي واجبة أم لا والقول بالوجوب قول قوي لكن يمنع القطع به أحاديث تدل على أنها ليست بواجبة مثل مجيء الإمام يوم الجمعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم يدخل المسجد يوم الجمعة ويصعد المنبر ويخطب الناس ويجلس ولا يصلي تحية المسجد وكذلك رويت أخبار أخرى تدل على عدم وجوب تحية المسجد وكذلك صلاة العيدين اختلف فيهما العلماء منهم من يقول إنها واجبة ومنهم من يقول إنها سنة ومنهم من يقول فرض كفاية المهم أن الصلوات المجمع على وجوبها هي الخمس والجمعة بدلا عن الظهر ومعنى إقامة الصلاة أن يأتي بها الإنسان في أوقاتها متمما شروطها وأركانها واجباتها ومكملا ذلك بمستحباتها هذا هو إقام الصلاة وأما إتياء الزكاة فهو إعطاء الزكاة لمستحقها والزكاة هي القسط من مالك الذي أوجبه الله عليك في الذهب والفضة والنقد وعروض التجارة والخارج من الأرض وبهيمة الأنعام فيجب أن تعطي الزكاة هذه لمستحقيها وقد بين الله المستحقين لها في قوله} إنما الصدقات للفقراء(5/93)
والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل {وأما حج البيت فهو قصد مكة لأداء المناسك وقد فرضه الله عز وجل على هذه الأمة في السنة التاسعة أو العاشرة من الهجرة وأما صوم رمضان فهو صوم الشهر الذي بين شعبان وشوال وفرض في السنة الثانية من الهجرة فهذه هي أركان الإسلام من أتى بها فهو المسلم وقد بنى على أساس متين ومن لم يأت بها فهو بين فاسق أو كافر فمن لم يأت بالشهادتين فهو كافر ومن لم يصل فهو كافر ومن منع الزكاة فهو فاسق ومن لم يحج فهو فاسق ومن لم يصم فهو فاسق والله الموفق}
1076 - وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله متفق عليه(5/94)
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب المحافظة على الصلوات الخمس فيما نقله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة أمرت الآمر له هو الله عز وجل أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فالذي أمره بقتالهم هو الذي خلقهم وله أن يتصرف في ملكه كيف يشاء له أن يأمر بقتل هؤلاء وله أن يأمر بقتالهم إلى أن يسلموا فإذا أسلموا كف عنهم وهذا الحديث مخصوص بقوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وكذلك حديث بريدة بن الطفيل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله عز وجل وذكر الحديث وفيه أنهم إذا أرادوا الجزية فاقبلها وكف عنهم وعلى هذا فيقاتل الكفار إلى غايتين إما أن يسلموا وإما أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فإن لم يفعلوا لا هذا ولا هذا وجب على المسلمين قتالهم وقتال(5/95)
المسلمين لهم بأمر الله الذي هو ربهم ورب الكافرين ليس تعصبا من المسلمين لدينهم وحق لهم أن يتعصبوا له لأنه دين الله عز وجل ودين غير المسلمين دين باطل منسوخ لا يقبله الله عز وجل من أي أحد كما قال تعالى {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} وقوله حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة سبق الكلام عليه إذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم وفي هذا دليل على أن الكفار إذا قوتلوا فأموالهم حلال لنا كما أننا نستبيح دماءهم فنستبيح أموالهم من باب أولى وكذلك أيضا نستبيح نساءهم وذرياتهم يكونون سبيا لنا ويكونون أرقاء للمسلمين لأننا نأخذهم بكلمات الله عز وجل بأمره ودينه وشرعه فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله وقد قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة حتى راجعه الصحابة وراجعه عمر في ذلك ولكنه أصر على مقاتلتهم وقال والله لو منعوني عناقا أي ماعزا صغيرة وفي رواية عقالا وهي ما تربط به البعير كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على ذلك يقول فلما رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال علمت(5/96)
أنه الحق فهذا دليل على أهمية الصلاة وأن الناس يقاتلون على تركها إلى أن يصلوا والله الموفق
1077 - وعن معاذ رضي الله عنه قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب متفق عليه
[الشَّرْحُ]
نقل المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين كتاب المحافظة على الصلوات حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن معاذ بن جبل أنه بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن اليمن معروف جنوب الجزيرة العربية بعثه في السنة العاشرة من الهجرة في ربيع الأول ولما أراد أن يبعثه قال له إنك تأتي قوما من أهل الكتاب وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى لأن الله أنزل على اليهود التوراة وعلى النصارى الإنجيل وإنما أخبره بذلك ليكون مستعدا لهم(5/97)
لأن أهل الكتاب هم أعلم الناس في ذلك الوقت بشرائع الله فيجب على الإنسان أن يعرف حالهم حتى يمكن أن يجادلهم بما يفحمهم به وليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله وهذا هو مفتاح الإسلام وهذا لا يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مختص بالرسالة فهناك رسل قبله موسى وهود وعيسى وغيرهم ولكن رسول الله هو خاتم النبيين وشريعته نسخت جميع الشرائع فلا نبي بعده ولا شريعة سوى شريعته فإن هم أطاعوك في ذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة وهذا هو الشاهد فإن هم أطاعوك في ذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم في أموالهم هذه إحدى روايات البخاري تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم الأغنياء هنا جمع غني وهم الذين يملكون نصابا زكاويا والغني في كل موضع بحسبه فيفسر في باب وجوب الزكاة بالنصاب الزكوي ويفسر في باب أهل الزكاة بأنه الذي يجد ما يكفيه وعائلته لمدة سنة فأكثر فإن واقفوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم يعني احذر أن تأخذ الطيب من الأموال بل خذ الوسط لا يظلمون ولا يظلمون لا تأخذ الردي من المستحقين للزكاة ولا الأجود فتظلم الذين تجب عليهم الزكاة خذ الوسط(5/98)
واتق دعوة المظلوم يعني إنك إن أخذت من كرائم أموالهم فقد ظلمتهم فيدعون عليك فاتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب فالله تعالى يستجيب لها ولو كانت من كافر المظلوم إذا دعا الله ولو كان كافرا فإن الله ينتقم له ممن ظلمه إما عاجلا وإما آجلا لأن هذا من باب إقامة العدل والله سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين ومن تمام حكمته العدل بين عباده فيأخذ للمظلوم من الظالم والشاهد من هذا الحديث قوله فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة والله الموفق
1078 - وعن جابر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة رواه مسلم
1079 - وعن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح(5/99)
1080 - وعن شقيق بن عبد الله التابعي المتفق على جلالته رحمه الله قال كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة رواه الترمذي في كتاب الإيمان بإسناد صحيح
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في التحذير من إضاعة الصلاة حديث جابر وحديث بريدة أما حديث جابر فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إن بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة وحديث بريدة العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر فهذان الحديثان يدلان على أن تارك الصلاة كافر وأنه كافر مخرجا عن الملة فالذي لا يصلي أشد من اليهود والنصارى اليهود لو ذبحوا لأكل الإنسان ذبيحتهم والنصراني أيضا كذلك أما تارك الصلاة لو ذبح فإن ذبيحته لا تحل تارك الصلاة مثلا لو كان أنثى لا تصلي فإنه لا يحل للمسلم أن يتزوجها ولو كانت نصرانية جاز أن يتزوجها المسلم ولو كانت يهودية جاز أن يتزوجها أيضا المسلم تارك الصلاة لا يقر على ترك الصلاة بل يقال صل وإلا قتلناك واليهودي والنصراني يقر على دينه إما بمعاهدة أو استئمان أو ذمه فدل ذلك على أن ترك الصلاة أعظم من اليهودية والنصرانية هذا الأمر الذي(5/100)
يتهاون به الناس اليوم وليعلم أن الإنسان إذا ترك الصلاة ثم عقد له على امرأة فإن النكاح غير صحيح ولو جامعها فإنه يجامعها بزنى والعياذ بالله وكذلك لو عقد له وهو يصلي ثم ترك الصلاة انفسخ النكاح ووجب أن يفرق بينه وبين المرأة إلا أن يتوب ويعود إلى الإسلام فيبقى على نكاحه وليعلم أيضا أن تارك الصلاة إذا مات على ترك الصلاة فإنه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين ولا يدعى له بالرحمة ولا تناله شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ولكن ماذا نصنع به..
هل نبقي جيفته للكلاب تأكلها ونحن نشاهده لا لأن هذا فساد لقلوب أقاربه لكن نخرج به برا ونحفر له حفرة ونغرسه فيها بثيابه بدون تكفين ولا تغتسل ولا صلاة عليه ولا كرامة له ولولا أن أهله يتأثرون لقلنا يبقي على وجه الأرض تأكله الكلاب والناس ينظرون إليه لكنه يرمى اتقاء لنتنه ورائحته وخبثه وإذا كان يوم القيامة قال النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحشر مع فرعون وهامات وقارون وأبي بن خلف وبهذا نعلم أن ترك الصلاة أمر عظيم وأنه يجب على من مات عنده ميت وهو لا يصلي أن يبعده عن مدافن المسلمين ولا يحل له أن يقدمه للمسلمين ليصلوا عليه وهو يعلم أنه مات لا يصلى أبدا فإن(5/101)
فعل فهو مسيء إلى المسلمين والمسلمون ليس عليهم إثم لأنهم ما علموا لأن الله قال ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون والذي لا يصلي كافر بالله ورسوله حتى لو قال أو من بأن الله موجود وأن محمدا رسوله لا يكفي لأن المنافقين يقولون مثل هذا الكلام {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكذبون} ثم اعلم أنه إذا مات لك ميت وهو لا يصلي فإنه لا يحل لك من ميراثه شيء على قول أكثر أهل العلم لأن ميراثه ليس لأقاربه المسلمين كما أنه هو لو مات عنه قريب مسلم فإنه لا يرثه يعني مثلا إنسان مات وله ابن لا يصلي وله ابن عم بعيد يصلي من يرثه ابن العم البعيد وابنه لا يرث ولو مات عن أبيه وهو لا يصلي وله عم والولد غني ومات عن أبيه الذي لا يصلي وعمه المسلم الذي يصلي فالمال للعم لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وإجماع الصحابة كما حكاه عنهم عبد الله بن شقيق أو شقيق بن عبد الله قال كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفرا إلا الصلاة وقال(5/102)
النووي في هذا الرجل إنه متفق على جلالته وثقته وعدالته وتحريه وقد صرح علماؤنا المتأخرون كالشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله بأنه كافر كفرا مخرجا عن الملة وأنه مرتد عن دين الإسلام ومع الأسف أن الناس الآن يتهاونون في هذا الأمر نسأل الله تعالى أن يهدينا لما فيه الخير والصلاح
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر فإن انتقص من فريضته شيئا قال الرب عز وجل انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم تكون سائر أعماله على هذا رواه الترمذي وقال حديث حسن
[الشَّرْحُ]
هذا آخر حديث في باب فضل الصلاة والوعيد على من تركها والنهي الأكيد وفيه أن أول ما يحاسب عليه العبد من أعماله يوم القيامة الصلاة وهذا بالنسبة لحق الله عز وجل فإن صلحت فقد أفلح ونجح وإلا فعلى العكس خاب وخسر والعياذ بالله أما بالنسبة لحقوق الآدميين فأول ما يقضى بين الناس في الدماء لأنها أعظم الحقوق الدماء يعني القتل ثم يأتي بقية المحاسبة(5/103)
على ما يبقى ولكن الله عز وجل إذا حاسب العبد على الصلاة وصحت أفلح ونجح وإلا خاب وخسر ثم يحمد الله عز وجل أن ينظر في أعماله هل له نوافل فإنها تكمل بها الفرائض ولهذا كان من فضل الله ورحمته ونعمته وإحسانه أن شرع لنا النوافل خلف الصلوات وقبلها وفي كل وقت إلا الأوقات المنهي عنها وذلك لأن الإنسان لابد أن يكون في صلاته خلل فيكمل بهذه النوافل فالظهر له أربع ركعات قبلها بتسليمين وركعتان بعدها وصلاة العصر ليس لها راتبه لكن لها سنة مطلقة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم بين كل أذانين صلاة صلاة المغرب لها راتبة بعدها ركعتان وسنة مطلقة قبلها صلاة العشاء بعدها ركعتان الفجر قبلها ركعتان صلاة الليل صلاة الوتر صلاة الضحى كل هذه النوافل يزداد بها أجر المصلي ويكمل بها النقص الذي حصل في الفريضة وهذه من نعمة الله عز وجل نسأل الله أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته(5/104)
باب فضل الصف الأول والأمر بإتمام الصفوف الأول وتسويتها والتراص فيها
1082 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها فقلنا يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربها قال يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف رواه مسلم
1083 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لا ستهموا متفق عليه
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله في كتاب رياض الصالحين باب فضل الصف الأول والتراص في الصفوف وتسويتها وإكمال الأول فالأول هذه مسائل متعددة بين رحمه الله حكمها بما ساقه من أحاديث الحديث الأول عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها الملائكة لها عبادات متنوعة وهم عليهم الصلاة والسلام لا(5/105)
يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون وتأمل قوله {يسبحون الليل والنهار} ولم يقل يسبحون في الليل والنهار لأنهم يستوعبون لوقت كله في التسبيح ومن عباداتهم عند ربهم أنهم يصفون عند الله عز وجل كما قال تعالى {وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون} وكيف صفوفهم قال النبي صلى الله عليه وسلم يكملون الأول فالأول ويتراصون إذن فنحن إذا صففنا بين يدي الله في صلاتنا ينبغي أن نكون كالملائكة يكملون الأول فالأول ويتراصون الأول فالأول كما أنه من سنة الملائكة عند الله عز وجل ومما رغب فيه النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الأمور التي ينبغي أن يتزاحم الناس عليها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي هريرة لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول يعني من الأجر ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا يعني لو لم يجدوا طريقا يصلون إلى الصف الأول به إلا أن يجروا قرعة لفعلوا وهذا يدل على فضيلة الصف الأول ويدل على أن الأفضل التراص في الصفوف ويدل على أنه يكمل الأول فلأول فهذه ثلاث مسائل ينبغي للإنسان أن ينتبه لها 1 - ألا يقف في صف حتى يكمل الذي قلبه 2 - في الصلاة يتراصون يلصق بعضهم كعبه بكعب أخيه ومنكبه بمنكبه حتى تتم المراصة لأنهم إذا لم يتراصوا تدخل(5/106)
الشياطين بينهم كأولاد الغنم الصغار ثم يشوشون عليهم صلاتهم ولكن يجب التنبه لمسائل 1 - ليس المراد بالمراصة المراصة التي تشوش على الآخرين وإنما المراد منها ألا يكون بينك وبينه فرجة 2 - الصف الأول لا يجوز التقدم إليه بوضع المنديل أو الكتاب أو ما أشبه ذلك وكأنه أصبح ملكا له يحجزه دائما سواء جاء أو لا حتى إني سمعت بعض الناس عندنا هنا في الجمعة أنه جاء شخص متقدم فوجد المكان ليس فيه شيء فتقدم إليه وصف فيه فجاء صاحبه الذي كان من عادته أن يصلي فيه وكأنما اشتراه من كيسه فال لماذا تجلس هنا مكاني فقال الرجل لقد وجدت مكانا خاليا فجلست فيه فقال لا هذا مكاني..
سبحان الله..
اشتريته من مالك المساجد لله عز وجل..
من جاء الأول فهو أحق وليس أحد أحق بمكانه من أحد أبدا والإنسان ينبغي له أن يتجنب هذه الأمور بل قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله أن التحجز حرام وأنه لا يجوز حتى بعض الفقهاء قال يتوجه أن لا تصح صلاته لأنه شبه مغصوب حيث إنه جلس في مكان لا يستحقه(5/107)
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا معناه أنهم يتقدمون ويتسابقون ثم إن حجز الأماكن فيه مضرة فيقل الإنسان إن مكاني مضمون فينحرف عن الخير بناء على أن مكانه مضمون المهم بارك الله فيكم أن المراد من قول الرسول صلى الله عليه وسلم لو يعلم الناس من في النداء والصف الأول من يتقدم بنفسه نعم إذا كان إنسا حاضر بالمسجد ولكنه أراد أن يبتعد عن الصف الأول لأجل أن يقرأ أو يصلي أو يراجع أو ينام ولا بأس بالنوم في المسجد فلا بأس لأنه مستحقة لكن يجب أن يصل إلى مكانه قبل أن تتصل الصفوف فيحتاج إلى تخطي الرقاب وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يتخطى الرقاب فقال اجلس فقد آذيتهم وفي حديث أبي هريرة الثاني دليل على جواز الاستهام في القرب يعني لو تنازع اثنان في الأذان وليس بينهما مؤذن راتب ومتساويان في الصفات المطلوبة في الأذان فحينئذ نقرع بينهما فمن خرجت له القرعة هو الذي يؤذن ومع الأسف أنك ترى بعض الناس الآن جماعة مسافرين أو ما أشبه ذلك كل واحد يقول للثاني أذن أنت وهو لا يعلم ما في الأذان من خير فهو الأذان لا يسمعه شجر ولا مضر ولا حجر إلا شهد لك يوم القيامة فينبغي أن تبادر للأذان(5/108)
نسأل الله لنا ولكم الخير وأن يجعلنا من المتسابقين للخيرات إنه على كل شيء قدير
1084 - وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها رواه مسلم
1085 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخرا فقال لهم تقدموا فأتموا بي وليأتم بكم من بعدكم لا يزال قوم(5/109)
يتأخرون حتى يؤخرهم الله رواه مسلم
1086 - وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم رواه مسلم
1087 - وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة متفق عليه وفي رواية للبخاري فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في بيان فضل الصفوف نقلها النووي رحمه الله في رياض الصالحين منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها وذلك لأن صفوف النساء تكون خلف الرجال ذا هو السنة فإذا كان أولها فهو قريب من الرجال فيكون شرها وآخرها بعيد عن الرجال فيكون(5/110)
خيرها أما الرجال فكلما تقدموا فهو أفضل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم محذرا عن التأخر لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله وهذه خطيرة أن الإنسان كلما تأخر عن الصف الأول أو الثاني أو الثالث ألقى الله في قلبه محبة التأخر في كل عمل صالح والعياذ بالله ولهذا قال لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله فأنت يا أخي تقدم في الصف الأول فالأول وقوله في الحديث خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها ما لم يكن النساء في مكان خاص لهن فإن خير صفوفهن أولها لأنه أقرب من الإمام ولا محذور فيه لأنهن بعيدات عن الرجال ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسوي مناكب أصحابه عند التكبير مناكبهم يعني أكتافهم ويقول استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم يعني أن اختلاف الناس بعضهم متقدم وبعضهم متأخر يوجب اختلاف القلوب وآخر الأحاديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بتسوية الصف وقال إن تسوية الصف من تمام الصلاة وهو كذلك وفي رواية إقامة الصفوف من تمام الصلاة فالذي ينبغي لنا أن نقيم صفوفنا وتكملة الأول فالأول والتراص حتى يكون ذلك من تمام صلاتنا والله الموفق(5/111)
1088 - وعنه قال أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري رواه البخاري بلفظه ومسلم بمعناه وفي رواية للبخاري وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه(5/112)
1089 - وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم متفق عليه وفي رواية لمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح حتى رأى أنا قد عقلنا عنه ثم خرج يوما فقام حتى كاد يكبر فرأى رجلا باديا صدره من الصف فقال عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في تتمة باب إقامة الصفوف والحث على تسويتها وما يتعلق بذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسوي الصفوف فيقبل على الناس ويقول أقيموا صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري فأمرهم صلى الله عليه وسلم بإقامة الصفوف وأخبر أنه يراهم من وراء ظهره وهذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أنه في هذه الحالة المعينة يرى الناس من وراء ظهره أما فيما سوى ذلك فإنه لا يرى من وراء ظهره شيئا وأخبر صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير أنه إما أن تسووا الصفوف أو يخالفن الله بين وجوهكم فقال عباد الله لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم واختلف العلماء في قوله بين وجوهكم فقيل المعنى أن الله(5/113)
يعاقبهم بأن يجعل وجوههم نحو ظهورهم فتلوى الأعناق وقيل المعنى أي بين وجهات نظركم هو كالحديث الذي سبق لا تختلفوا فتختلف قلوبكم وهذا المعنى أصح وأرجح فالرسول عليه الصلاة والسلام نهى أن نختلف بل قال لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ومعلوم أن الاختلاف الظاهر يؤدي إلى اختلاف الباطن فإذا اختلف الناس فيما بينهم ظاهرا أدى ذلك إلى اختلاف القلوب وإذا اختلفت القلوب صار الشر والفساد والعياذ بالله وخلاصة هذا الباب كله أننا مأمورون بتسوية الصفوف على النحو التالي 1 - تسوية الصف بالمحاذاة بحيث لا يتقدم أحد على أحد ولهذا كان الصحابة يلصق أحدهم قدمه بقدم صاحبه ومنكبه بمنكبه وفي هذا الوصف دليل على فساد فهم هؤلاء الذين إذا وقفوا في الصف فتحوا بين أرجلهم حتى تكون القدم لاصقة بالقدم لكن المناكب متباعدة وهذا بدعة ليس من السنة السنة أننا نتراض جميعا بحيث يلصق الكعب بالكعب والمنكب بالمنكب 2 - تسوية الصف بإكمال الأول فالأول بحيث لا يصف أحد في الصف الثاني والأول لم يتم أو في الثالث والثاني لم يتم ...
إلخ 3 - أن الأولى إذا اجتمع رجال ونساء أن تبتعد النساء عن الرجال فإن خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها 4 - سد الفرج ألا ندع للشياطين فرجا يدخلون من بينها لأن(5/114)
الشياطين تسلط على بني آدم ابتلاء من الله وامتحانا فإذا وجدوا فرجة في الصف تخللوا المصلين حتى يشوشوا عليهم صلواتهم ومن تمام الصفوف 5 - إذا كانوا ثلاثة فإنه يتقدم أحدهم إماما ويكون الباقيان خلفه وإن كان بالغين أو صغيرين أو بالغ وصغير كلهم يكونون خلفه لأن ذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة النفل وصلاة الفرض مثل صلاة النفل إلا إذا قام دليل على الفرق بينهما والله الموفق
1090 - وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية يمسح صدورنا ومناكبنا ويقول لا تختلفوا فتختلف قلوبكم وكان يقول إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول رواه أبو داود بإسناد حسن
1091 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولينوا بأيدي إخوانكم ولا تذروا فرجات للشيطان ومن وصل صفا وصله الله ومن قطع صفا قطعه الله رواه أبو داود بإسناد صحيح
1092 - وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رصوا صفوفكم(5/115)
وقاربوا بينها وحاذوا بالأعناق فوالذي نفسي بيده إني لأردى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحذف حديث صحيح رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في تكمله هذا الباب الذي فيه بيان فضيلة الصف الأول وتكميل الأول فالأول من الصفوف فإن في هذه الأحاديث دليل على مسائل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح صدور أصحابه ومناكبهم ليسوي صفوفهم ويقول لا تختلفوا فتختلف قلوبكم وكان صلى الله عليه وسلم يتخلل الصف من ناحية يسوي بيده الكريمة وكان هذا عادته ولما كثر الناس في زمن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وفي زمن عثمان صار هناك رجال موكلون من قبل الخليفة يسوون الصفوف فإذا جاءوا إلى الإمام وقالوا إن الصفوف قد تمت وكملت كبر للصلاة وهذا دليل على عناية النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بالصفوف والتراص فيها وتسويتها وعدم فرجات الشيطان حتى تكون الصلاة تامة مستوية فإن تسوية الصف من تمام الصلاة ومن إقامة الصلاة(5/116)
1093 - وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر رواه أبو داود بإسناد حسن
1094 - عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم وفيه رجل مختلف في توثيقه
1095 - وعن البراء رضي الله عنه قال كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه يقبل علينا بوجهه فسمعته يقول رب قني عذابك يوم تبعث أو تجمع عبادك رواه مسلم
1096 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطوا الإمام وسدوا الخلل رواه أبو داود
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في بيان الصفوف الأول وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يكمل الصف الأول فالأول وأخبر أن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول وفي حديث أنس بن مالك الذي نقله المؤلف في(5/117)
هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن نبدأ بالصف المقدم فالمقدم وما كان من نقص فليكن بالمؤخرة يعني أمرهم أن يتموا الصفوف الأول فالأول وما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر وهذا يدل على أن من وقف في الثاني قبل تمام الأول ولو كان معه غيره فإنه لم يصب السنة بل السنة ألا يكون أحد في الثاني حتى يتم الأول ولا في الثالث حتى يتم الثاني..
إلخ هذه هي السنة وفي الأحاديث التي ذكرها المؤلف هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله وملائكته يصلون على ميامين الصفوف لكن هذا الحديث فيه رجل مختلف في توثيقه وعلى هذا فيكون ضعيفا وإن كان على شرط مسلم من حيث الإسناد لكن إذا كان فيه رجل مختلف بتوثيقه فليكن ضعيفا أما الحديث الأخير فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يوسط الإمام فقال وسطوا الإمام يعني اجعلوه وسطا وهذا هو العدل ولهذا لما كان في أول الهجرة وكان الناس يصفون إذا كانوا ثلاثة صفا واحدا كان مشروعا أن الإمام يكون بينهم لا يكون متطرفا من حيث اليسار بل يكون بينهم فدل ذلك على أن توسيط الإمام له أهمية به نعرف أن ما(5/118)
يفعله بعض الناس الآن تجدهم يكملون الصف يمينا والأيسر ليس فيه إلا القليل هذا خلاف السنة السنة أن يكون اليمين واليسار متقاربين فإذا تساويا فهنا نقول الأيمن أفضل فإن زاد رجل أو رجلان في الإيمن فلا بأس أما أن يكون الأيمن تاما والأيسر ليس فيه إلا قليل فهذا خلاف السنة لأنه ليس فيه توسيط الإمام وقد عرفتم أن الحديث الذي فيه إن الله وملائكته يصلون على ميامين الصفوف فيه رجل قد اختلف في توثيقه ...
والله أعلم(5/119)
باب فضل السنن الراتبة مع الفرائض وبيان أقلها وأكملها وما بينهما
1097 - عن أم المؤمنين أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعا غير الفريضة إلا بني الله له بيتا في الجنة أو إلا بني له بيت في الجنة رواه مسلم
1098 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد الجمعة وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء متفق عليه
1099 - وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة وقال في الثالثة لمن شاء متفق عليه
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب فضل(5/120)
النوافل والسنن الراتبة التابعة للمفروضات واعلم أن من نعمة الله عز وجل أن شرع لعباده نوافل زائدة عن الفريضة لتكمل بها الفرائض لأن الفرائض لا تخلو من نقص ولولا أن الله شرعها لكانت بدعة لكن من نعمة الله أن شرع هذه النوافل حتى تكمل نقص الفرائض والنوافل أنواع متعددة وأجناس منها الرواتب التابعة للمفروضات وهي اثنتا عشرة ركعة أربع قبل الظهر يسلم بين كل ركعتين وركعتان بعدها وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء وركعتان قبل صلاة الفجر من صلاهن في كل يوم وليلة بنى الله له بيتا في الجنة كما في حديث أم حبيبة رضي الله عنها والأفضل أن تصلى هذه الرواتب في البيت للمأموم والإمام لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة حتى لو كنت في مكة أو في المدينة فالأفضل أن تصلي هذه السنن الراتبة في بيتك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها في بيته ويقول أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة وهناك نوافل تابعة للمفروضات لكنها ليست كهذه الرواتب وهو ما رواه عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بين(5/121)
كل أذانين صلاة ثلاث مرات وقال في الثالثة لمن شاء لئلا يتخذها الناس سنة راتبة وعلى هذا فيكون بين كل أذانين يعني الأذان والإقامة صلاة الفجر بين الأذان والإقامة سنة راتبة الظهر بين الأذان والإقامة سنة راتبة العصر ليس لها راتبة قبلها ولا بعدها لكن تدخل في هذا الحديث أن الإنسان إذا أذن للعصر فليصل ركعتين قبل الإقامة المغرب كذلك ليس لها سنة راتبة قبلها لكن يسن أن يصلي ركعتين بعد الأذان وقد ورد فيها حديث بخصوصها قال صلوا قبل المغرب ثلاثا وقال في الثالثة لمن شاء العشاء كذلك ليس لها راتبة قبلها لكن تدخل في الحديث أن يصلي بعد الأذان وقبل الإقامة ركعتين وإذا فاتت الرواتب التي قبل الصلاة فإنه يقضيها بعد ذلك وإذا كان للصلاة سنتان قبلها بعدها وفاتته الأولى فإنه يبدأ أولا بالبعدية ثم ما فاتته مثال ذلك دخل والإمام يصلي الظهر وهو لم يصل راتبة الظهر فإذا انتهت الصلاة يصلي أولا الركعتين اللتين بعد الصلاة ثم يقضي الأربع التي قبلها الجمعة قال ابن عمر رضي الله عنهما إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعدها ركعتين وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر أن يصلي الإنسان بعدها أربع ركعات فقال(5/122)
إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعا فقال بعض العلماء يقدم القول وتكون راتبة الجمعة أربع ركعات وقال بعضهم يجمع بين القول والفعل فتكون راتبة الجمعة ست ركعات وقال بعضهم إن صليت في المسجد فأربع وإن صليت بالبيت فركعتان لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصليها بالبيت ركعتين وقال صلوا بعد الجمعة أربعا فإن صلى بالمسجد فأربع وإن صلى بالبيت فركعتان والأمر في هذا واسع إن شاء الله لك ينبغي للإنسان أن يحرص على هذه السنن الراتبة لما فيها من الخير وتكميل ناقص الفرائض والله أعلم(5/123)
باب تأكيد ركعتي سنة الصبح
1100 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعا قبل الظهر وركعتين قبل الغداة رواه البخاري
1101 - وعنها قالت لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر متفق عليه
1102 - وعنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها رواه مسلم وفي رواية لهما أحب إلي من الدنيا جميعا
1103 - وعن أبي عبد الله بلال بن رباح رضي الله عنه مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليؤذنه بصلاة الغداة فشغلت عائشة بلالا بأمر سألته عنه حتى أصبح جدا فقام بلال فآذنه بالصلاة وتابع أذانه فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما خرج صلى بالناس فأخبره أن عائشة شغلته بأمر سألته عنه حتى أصبح جدا وأنه أبطأ عليه بالخروج فقال يعني النبي صلى الله عليه وسلم إني كنت ركعت ركعتي الفجر فقال يا رسول الله إنك أصبحت جدا فقال لو أصبحت أكثر مما(5/124)
أصبحت لركعتهما وأحسنتهما وأجملتهما رواه أبو داود بإسناد حسن
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب تأكيد ركعتي الصبح يعني سنة الفجر تمتاز سنة الفجر وهي ركعتان قبل الصلاة بأمور 1 - أنه يسن تخفيفهما فلو أطالهما الإنسان لكان مخالفا للسنة بل يخفف حتى كانت عائشة تقول أنه يخفف فيهما حتى أقول أقرأ بأم القرآن من شدة التخفيف 2 - أنه يسن فيهما قراءة معينة إما قل يا أيها الكافرون في الركعة الأولى و {قل هو الله أحد} في الثانية وإما {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ...
} البقرة و {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم..
} الآية آل عمران يعني مرة هذا ومرة هذا 3 - ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على شيء من النوافل يعني رواتب الصلوات أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر يتعاهدهما صلى الله عليه وسلم 4 - أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنهما خير من الدنيا وما فيها وأحب إليه من الدنيا وما فيها 5 - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدعهما حضرا ولا سفرا كل هذا تتميز(5/125)
به سنة الفجر فينبغي للإنسان أن يحافظ عليها وأن يحرص عليها حضرا وسفرا وإذا فاتته قبل الصلاة فليصلهما بعدها إما في نفس الوقت وإما بعد ارتفاع الشمس قيد رمح وذكر عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعا قبل الظهر لكنهما بتسليمتين لأن الظهر راتبتها ست ركعات أربع قبلها واثنتان بعدهما فينبغي لنا أن نحرص على ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص عليه وأن نفتدي بسنته صلى الله عليه وسلم ما استطعنا فإن الله يقول {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} والله الموفق(5/126)
باب استحباب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر على جنبه الأيمن والحث عليه سواء كان تهجد بالليل أم لا
1110 - عن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقة الأيمن رواه البخاري
1111 - وعنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر وتبين له الفجر وجاءه المؤذن قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقة الأيمن هكذا حتى يأتيه المؤذن للإقامة رواه مسلم قولها يسلم بين كل ركعتين هكذا هو في مسلم ومعناه بعد كل ركعتين
1112 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه رواه أبو داود والترمذي بأسانيد صحيحة قال الترمذي حديث حسن صحيح(5/127)
[الشَّرْحُ]
سبق لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتي الفجر وسبق أن هاتين الركعتين تتميزان عن بقية الرواتب بميزات سبق ذكرها ومن مميزاتها أنه إذا صلى هاتين الركعتين اضطجع على شقة الأيمن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ثبت ذلك عن عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أنه كان إذا صلى سنة الفجر اضطجع بعدها على الجنب الأيمن وفي حديث عائشة الثاني الذي رواه مسلم أنه كان صلى الله عليه وسلم يصلي إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين وفي هذا دليل على وهم من توهم أنه إذا صلى إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا أربعا ثم ثلاثا بناء على حديثها رضي الله عنها أنها قالت كان النبي لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا فلا يسأل عن حسنهن وطولهن ثم أربعا فلا يسأل عن حسنهن وطولهن ثم ثلاثا فظن بعض الناس أنه يصلي أربعا جميعا ثم أربعا جميعا ثم ثلاثا وهذا وهم فقد أخذوا بظاهر الحديث فيحمل هذا على أنه يصلي أربعا على ركعتين ركعتين ثم يستريح ثم يصلي أربعا على ركعتين ركعتين ثم يستريح ثم يصلي ثلاثا هكذا يجب أن يحمل لأن الراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك واحد وهي عائشة والفعل واحد فيجب حمل بعضها على بعض لتتفق السنة لا يقال إنه يفعل هذا مرة وهذا مرة لأن كلمة كان تدل على دوام الفعل(5/128)
غالبا وأما حديث أبي هريرة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم من صلى ركعتي الفجر أن يضطجع على جنبه الأيمن فهذا وإن كان الترمذي وأبو داود قد روياه وقال المؤلف إنه بأسانيد صحيحة فقد قال حبر الأمة وبحر العلوم العقلية والنقلية شيخ الإسلام ابن تيمية إن هذا حديث منكر وإنه لم يصح الأمر به عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو الصحيح لأن الرسول لم يأمر بأن يضطجع الرجل إذا صلى سنة الفجر على جنبه الأيمن وقول المؤلف رحمه الله في الترجمة لا فرق بين المتهجد وغيره إشارة إلى خلاف في ذلك وهو أن بعض العلماء قال يسن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر مطلقا وبعضهم قال لا يسن مطلقا وبعضهم قال بالتفصيل إن كان له تهجد فإنه يسن له أن يضطجع بعدهما من أجل الراحة بعد التعب وإن لم يكن له تهجد فلا يضطجع ومن أعجب الأقوال وأغربها أن بعض العلماء قال إن الاضطجاع بعد سنة الفجر شرط لصحة صلاة الفجر وأن من لم يضطجع فصلاته باطلة وهذه من غرائب العلم وغرائب الأقوال ما الرابط بين هذا الاضطجاع وبين صلاة الفجر الجهة منفصلة عن الصلاة ولا علاقة لها بالاضطجاع لكن ذكرناه لأجل أن تعجبوا من آراء بعض أهل العلم رحمهم الله أنهم يقولون أقوالا لا يدل عليها نقل ولا عقل والصحيح هو ما قاله شيخ الإسلام أنه إذا كان الإنسان متعبا من تهجده فإنه يستريح(5/129)
يضطجع على جنبه الأيمن وهذا بشرط ألا يخشى أن يغلبه النوم فتفوته الصلاة فإن خشي فلا ينم(5/130)
باب سنة الظهر
1113 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها متفق عليه
1114 - وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعا قبل الظهر رواه البخاري
1115 - وعنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في بيتي قبل الظهر أربعا ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يدخل فيصلي ركعتين وكان يصلي بالناس المغرب ثم يدخل بيتي فيصلي ركعتين ويصلي بالناس العشاء ويدخل بيتي فيصلي ركعتين رواه مسلم
1116 - وعن أم حبيبة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح
1117 - وعن عبد الله بن السائب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي أربعا بعد أن تزول الشمس قبل الظهر وقال إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء(5/131)
فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح رواه الترمذي وقال حديث حسن
1118 - وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يصل أربعا قبل الظهر صلاهن بعدها رواه الترمذي وقال حديث حسن
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله باب سنة الظهر وذكر أحاديث متعددة كلها تدل على أن الظهر لها ست ركعات أربع قبلها بسلامين وركعتان بعدها وأنه إذا نسي الإنسان أو فاته الأربع القبلية فإنه يصليها بعد الظهر لأن الرواتب تقضى كما تقضى الفرائض ولكن قد ورد في حديث أخرجه ابن ماجه أنه يبدأ أولا بالسنة البعدية ثم السنة القبلية فمثلا جئت لصلاة الظهر والإمام يصلي ولم تتمكن من صلاة السنة القبلية نقول صل وبعد الانتهاء من الصلاة صلي الركعتين اللتين بعد الصلاة ثم صل ركعتين وركعتين للتي قبل الصلاة هذه هي السنة وفي هذه الأحاديث دليل على أن الإنسان ينبغي له أن يحافظ على الرواتب لقول عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدع أربعا قبل الظهر يعني لا يتركها إلا أنه في السفر لا يصلي سنة الظهر القبلية ولا البعدية لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي راتبة الظهر إذا كان مسافرا والله الموفق(5/132)
باب سنة العصر
1119 - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين رواه الترمذي وقال حديث حسن
1120 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن
1121 - وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل العصر ركعتين رواه أبو داود بإسناد صحيح(5/133)
باب سنة المغرب بعدها وقبلها تقدم في هذه الأبواب حديث ابن عمر وحديث عائشة وهما صحيحان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد المغرب ركعتين
1122 - وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلوا قبل المغرب قال في الثالثة لمن شاء رواه البخاري
1123 - وعن أنس رضي الله عنه قال لقد رأيت كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري عند المغرب رواه البخاري
1124 - وعنه قال كنا نصلي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد غروب الشمس قبل المغرب فقيل أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاهما قال كان يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا رواه مسلم
1125 - وعنه قال كنا بالمدينة فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري فركعوا ركعتين حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما رواه مسلم(5/134)
باب سنة العشاء بعدها وقبلها
في حديث ابن عمر السابق صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العشاء وحديث عبد الله بن مغفل بين كل أذانين صلاة متفق عليه كما سبق
[الشَّرْحُ]
هذه الأبواب في بيان سنة العصر والمغرب والعشاء وقد سبق بيان سنة الفجر وسنة الظهر فأما العصر فمن السنن قبلها أن يصلي الإنسان أربع ركعات استئناسا بهذا الحديث رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا وهذه الجملة دعائية يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لمن صلى قبل العصر أربعا وهذا الحديث وإن كان فيه مقال عند أهل العلم لكنه يرجى أن ينال الإنسان الأجر إذا صلى هذه الأربع وأما المغرب فلها سنة قبلها وبعدها لكن السنة التي قبلها ليست راتبة والتي بعدها راتبة السنة التي قبلها فيها الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلوا قبل المغرب ثلاثا وقال في الثالثة لمن شاء لئلا تتخذ سنة راتبة فإذا أذن المغرب فصل ركعتين سنة لكن ليست كالتي بعدها راتبة مؤكدة بل هي سنة إن تركها الإنسان فلا حرج وإن فعلها فلا حرج ولهذا قال أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم يرانا نصلي فلم يأمرنا ولم ينهنا(5/135)
وأما العشاء فلها سنة قبلها وبعدها لكن السنة قبلها ليست راتبة بل هي داخلة في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم بين كل أذانين صلاة أما بعدها فيسن ركعتان فتبين بهذا أن الصلوات الخمس الفجر لها سنة قبلها وليس لها سنة بعدها الظهر لها سنة قبلها وبعدها العصر ليس لها سنة قبلها ولا بعدها يعني راتبة لكن لها سنة غير راتبة قبلها وأما بعدها فهو وقت نهي المغرب لها سنة بعدها أي راتبة وقبلها غير راتبة العشاء لها سنة بعدها يعني راتبة وقبلها وليست براتبة هذه هي السنن التابعة للمفروضات ومن فوائدها أنه إذا حصل نقص بالفرائض فإنها تكملها(5/136)
باب سنة الجمعة
فيه حديث ابن عمر السابق أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد الجمعة متفق عليه
1126 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعا رواه مسلم
1127 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين في بيته رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب سنة الجمعة الجمعة صلاة مستقلة ليست هي الظهر ولهذا لا يجمع العصر إليها يعني إذا كان الإنسان مسافرا ومرر ببلد وصلى معهم الجمعة فلا تجمع العصر إليها لأنها مستقلة والسنة إنما جاءت بالجمع بين الظهر والعصر لا بين الجمعة والعصر ولأنها أي الجمعة تختلف عن سائر الصلوات بما يشرع قبلها وبعدها وفي يومها فلا سنة يعني ليس لها راتبة إذا جاء الإنسان إلى المسجد يصلي ما شاء إلى أن يحضر الإمام من غير عدد معين يصلي(5/137)
يقرأ حتى يأتي الإمام سواء صلى ركعتين أم أربعا أم ستا على حسب نشاطه وأما بعدها فلها سنة راتبة والسنة الراتبة التي بعدها ركعتان بالبيت لقول ابن عمر رضي الله عنهما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الجمعة لا يصلي بعدها شيئا حتى ينصرف إلى بيته فيصلي ركعتين وفي حديث أبي هريرة الذي ذكره المؤلف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعا فاختلف العلماء رحمهم الله هل سنة الجمعة أربع ركعات بسلامين أم ركعتان فمنهم من قال إنها أربع ركعات لأن هذا هو الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وأما الركعتان فهما فعله وأمره مقدم على فعله فتكون أربع ركعات ومنهم من قال هي ركعتان فقط لأن هذا هو الذي ذكره ابن عمر رضي الله عنهما وأما الأربع فليست براتبة ومنهم من فضل فقال إن صلى في المسجد سنة الجمعة صلى أربعا وإن صلى بالبيت صلى ركعتين وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه ومنهم من قال يجمع بين هذا وهذا فيصلي أربعا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي ركعتين بفعله فتكون السنة بعد الجمعة ست ركعات والله الموفق(5/138)
باب استحباب جعل النوافل في البيت سواء الراتبة وغيرها والأمر بالتحول للنافلة من موضع الفريضة أو الفضل بينهما بكلام
1128 - عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة متفق عليه
1129 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا متفق عليه
1230 - وعن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قضى أحدكم صلاته في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
لما ذكر المؤلف رحمه الله الرواتب التابعة للمفروضات بين في هذا الباب أن الأصل للإنسان أن يصلي في بيته وذكر في ذلك أحاديث منها(5/139)
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلوا في بيوتكم صلوا في بيوتكم فأمر أن يصلى في البيت فإن صلاة المرء في بيته أفضل إلا المكتوبة فدل ذلك على أن الإنسان ينبغي له أن تكون جميع رواتبة في بيته سواء الرواتب أو صلاة الضحى أو التهجد أو غير ذلك حتى في مكة والمدينة الأفضل أن تكون الرواتب في البيت أفضل من كونها في المسجد في المسجد الحرام أو المسجد النبوي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا وهو في المدينة والصلاة في مسجده خير من ألف صلاة إلا المسجد الحرام وكثير من الناس الآن يفضل أن يصلي النافلة في المسجد الحرام دون البيت وهذا نوع من الجهل فمثلا إذا كنت في مكة وأذن لصلاة الفجر وسألك سائل هل الأفضل أن تصلي الراتبة في البيت أو أذهب إلى المسجد الحرام قلنا الأفضل في البيت سنة الضحى أفضل في المسجد الحرام أم في البيت قلنا في البيت التهجد أفضل في المسجد الحرام أم في البيت قلنا في البيت وهلما جرا إلا الفرائض فالفرائض لابد أن تكون في المساجد ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الأخير فإنه جاعل في صلاته في بيته خيرا يعني أن البيت إذا صليت فيه جعل الله فيه خيرا جعل الله في صلاتك فيه خيرا من هذا أن هلك إذا رأوك تصلي اقتدوا بك وألفوا الصلاة وأحبوها ولاسيما الصغار منهم ومنها أن الصلاة في البيت أبعد من الرياء فإن الإنسان في المسجد يراه الناس وربما يقع في قلبه شيء من الرياء أما في البيت فإنه أقرب إلى الإخلاص وابعد عن الرياء ومنها أن الإنسان إذا صلى في بيته وجد فيه الراحة راحة قلبية وطمأنينة وهذا لا شك(5/140)
أنها تزيد في إيمان العبد فالمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نصلي في بيوتنا إلا الفرائض كذلك يستثني من ذلك النوافل قيام رمضان فإن الأفضل في قيام رمضان أن يكون جماعة في المساجد مع أنه سنة وليس بواجب لكن دلت السنة على أن قيام رمضان في المسجد أفضل فإن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ثلاث ليال أو ليلتين ثم تخلى وقال إني خشيت أن تفرض عليكم والله الموفق
1131 - وعن عمر بن عطاء أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب ابن أخت نمر يسأله عن شيء رآه منه معاوية في الصلاة فقال نعم صليت معه الجمعة في المقصورة فلما سلم الإمام قمت في مقامي فصليت فلما دخل أرسل إلي فقال لا تعد لما فعلت إذا صليت الجمعة فلا تصلها حتى تتكلم أو تخرج فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك أن لا توصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث الذي ذكره رحمه الله في استحباب الفصل بين الفرض والسنة حديث معاوية رضي الله عنه أنه رأى رجلا صلى الجمعة ثم قام فصلى يعني السنة فدعاه معاوية وأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ألا توصل صلاة(5/141)
بصلاة حتى نخرج أو نتكلم فمثلا إذا صليت الظهر الظهر لها راتبة بعدها وأردت أن تصلي الراتبة لا تصل في مكانك قم في محل آخر أو اخرج إلى بيتك وهو أفضل أو على الأقل تكلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن توصل صلاة بصلاة حتى يخرج الإنسان أو يتكلم ولهذا قال العلماء يسن الفصل بين الفرض وسنته بكلام أو انتقال من موضعه والحكمة من ذلك ألا يوصل الفرض بالنفل فليكن الفرض وحده والنفل وحده حتى لا يختلط هكذا قال أهل العلم رحمهم الله والله الموفق(5/142)
باب الحث على صلاة الوتر وبيان أنه سنة مؤكدة وبيان وقته
1132 - عن علي رضي الله عنه قال الوتر ليس بختم كصلاة المكتوبة ولكن سنة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن
1133 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول الليل ومن أوسطه ومن آخره وانتهى وتره إلى السحر متفق عليه(5/143)
1135 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أوتروا قبل أن تصبحوا رواه مسلم
1136 - وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي صلاته بالليل وهي معترضة بين يديه فإذا بقي الوتر أيقظها فأوترت رواه مسلم وفي رواية له فإذا بقي الوتر قال قومي فأوتري يا عائشة
1137 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بادروا الصبح بالوتر رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح
1138 - وعن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل فإن(5/147)
صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل رواه مسلم
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في بقية ما يتعلق بالوتر ذكرها المؤلف في رياض الصالحين منها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أوتروا قبل أن تصبحوا لأن الوتر ينتهي وقته بطلوع الفجر فإذا طلع الفجر فلا وتر حتى ولو بين أذان الفجر والإقامة لا وتر ولكن إذا طلع الفجر والإنسان لم يوتر فإنه يصلي في النهار شفعا إن كان يوتر بثلاث صلى أربعا إن كان يوتر بخمس صلى ستا إن كان يوتر بسبع صلى ثماني لقول عائشة رضي الله عنها كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غلبه نوم أو وجع صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة واعلم أن الوتر له صفات الصفة الأولى أن يوتر بواحدة فقط وهذا جائز ولا يكره الوتر بها الثانية أن يوتر بثلاث وله الخيار إن شاء سلم من الركعتين ثم أتى بالثالثة وإن شاء سردها سردا بتشهد واحد الثالثة أن يوتر بخمس فيسردها سردا لا يتشهد إلا في آخرها الرابعة أن يوتر بسبع فيسردها سردا لا يتشهد إلا في آخرها الخامسة أن يوتر بتسع فيسردها سردا لكن يتشهد بعد الثامنة ولا(5/148)
يسلم ثم يصلي التاسعة ويسلم السادسة أن يوتر بإحدى عشرة فيسلم من كل ركعتين ويوتر بواحدة هذه صفة الوتر وقد سبق أنه سنة مؤكدة وأن من العلماء من أوجبه فلا تضيع الوتر ثم إن كنت ترجو أن تستوتر من آخر الليل فاجعل الوتر في آخر الليل وإن كنت تخاف ألا تقوم فاجعل الوتر من أول الليل لا تنم إلا موترا ولهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة أن يوتر قبل أن ينام لأن أبا هريرة كان يقرأ أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في أول الليل وينام في آخره فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يوتر قبل أن ينام واعلم أن الوتر سنة في الحضر والسفر حتى في السفر لا تتركه ومن ذلك ليلة المزدلفة فإن الإنسان إذا صلى العشاء فإنه يصلي المغرب والعشاء جمعا ثم يوتر وإن كان جابر رضي الله عنه لم يذكره في حديثه لكن الأصل بقاء ما كان على ما كان وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدع الوتر حضرا ولا سفرا والله الموفق(5/149)
باب فضل صلاة الضحى وبيان أقلها وأكثرها وأوسطها والحث على المحافظة عليها
1139 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أرقد متفق عليه.
والإيتار قبل النوم إنما يستحب لمن لا يثق بالاستيقاظ آخر الليل فإن وثق فآخر الليل أفضل..
1140 - وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة: فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى رواه مسلم.
1141 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء الله رواه مسلم.
1142 - وعن أم هانئ فاختة بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل فلما فرغ من غسله صلى ثماني(5/150)
ركعات وذلك ضحى.
متفق عليه وهذا مختصر لفظ إحدى روايات مسلم.
[الشَّرْحُ]
باب فضل صلاة الضحى وبيان أقلها وأكثرها وأوسطها صلاة الضحى هي: ركعتان أو أكثر تفعلان من ارتفاع الشمس قدر رمح إلى قبيل الزوال.
وارتفاع الشمس قدر رمح يكون بمقدار ربع ساعة أو نحوها بعد طلوع الشمس فمن ثم يبدأ وقت صلاة الضحى إلى أن يبقى على الزوال عشر دقائق أو قريب منها.
كل هذا وقت لها لكن فعلها في آخر الوقت أفضل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: صلاة الأوابين حين ترمض الفصال والفصال: أولاد النوق، وترمض يعني: تشتد عليها الرمضة.
وهذا في آخر الوقت.
وهذه من الصلوات التي يسن تأخيرها ونظيرها في الفرائض صلاة العشاء فإن صلاة العشاء لها أن تؤخر في آخر وقتها إلا إذا شق على الناس.
وصلاة الضحى مما عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض أصحابه عهد بها إلى أبي هريرة وأبي الدرداء وأبي ذر قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله(5/151)
عنه حين أوصاه قال: أوصاني بثلاثة: صيام ثلاثة أيام من كل شهر ولم يعين وقتها من الشهر ولهذا قالت عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر لا يبالي أصامها من أول الشهر أو وسطه أو آخره &.
ولا فرق بين أن تكون متوالية يعني متتابعة أو متفرقة كلها يحصل بها الأجر، لكن أفضل هذه الأيام الثلاثة أيام البيض: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر.
وأوصاه صلى الله عليه وسلم بركعتي الضحى ركعتان يركعهما ما بين ارتفاع الشمس قدر رمح إلى قبيل الزوال.
والثالث بأن توتر قبل أن تنام وإنما أوصاه بالوتر قبل أن ينام لأن أبا هريرة رضي الله عنه كان يدرس في أول الليل أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينام إلا متأخرا ويخشى ألا يقوم من آخر الليل فلهذا أوصاه أن يوتر قبل أن ينام الشاهد من هذا وركعتي الضحى.
ثم ذكر حديث أبي ذر أنه يصبح على كل سلامى من الناس صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس.
السلامى هي الأعضاء أو العظام والمفاصل وقد ذكر العلماء السابقون رحمهم الله أن في كل إنسان ثلاثمائة وستين مفصلا كل مفصل يطالبك كل يوم بصدقة لأن الذي أحياه عز وجل وأمده وعافاه له(5/152)
عليك منة وفضل، كل يوم كل عضو يطالبك بصدقة، لكنها ليست بصدقة مال، بل هي كل ما يقرب إلى الله من قول أو عمل أو بذل مال أو غير ذلك فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة فكل ما يقرب إلى الله فهو صدقة، ومثل هذا يسير على المرء أن يؤدي ثلاثمائة وستين صدقة كل يوم قال: ويجزئ من ذلك يعني بدلا عن ذلك يجزئ ركعتان يركعهما في الضحى هذه نعمة كبيرة بدلا من أن تطالب عن كل عضو من أعضائك بصدقة يكفيك أن تصلي ركعتين من الضحى.
وهذا يدل على أنه ينبغي للإنسان أن يواظب عليهما أي على ركعتي الضحى حضرا وسفرا.
ولكن هل لها عدد معين؟ نقول إن أقلها ركعتان، وأما أكثرها فما شاء الله، لو تبقى تصلي كل الضحى، فأنت على خير ولهذا تقول عائشة رضي الله عنها كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الضحى أربع ركعات ويزيد ما شاء الله، ولم تحدد.
وأما قول من قال: إن أكثرها ثمان، ففيه نظر، لأن حديث أم هانئ في فتح مكة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ثماني ركعات، لا يدل على أن هذا هو أعلاه، فقد وقع اتفاقا وما يقع اتفاقا ليس فيه دليل على الحصر.
وعلى هذا فنقول: أقلها ركعتان ولا حد لأكثرها، صل ما شئت، لكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي أربعا وربما صلى ثماني فينبغي للإنسان أن يغتنم عمره بصالح الأعمال لأنه سوف يندم إذا جاءه الموت أن أمضى(5/153)
ساعة من دهره لا يتقرب بها إلى الله عز وجل كل ساعة تمر عليك وأنت لا تتقرب إلى الله بها فهي خسارة لأنها راحت عليك لم تنتفع بها.
فانتهز الفرصة بالصلاة والذكر وقراءة القرآن والتعلق بالله عز وجل اجعل قلبك دائما مع الله سبحانه وتعالى ربك في السماء وأنت في الأرض لا تغفل عن ذكر الله بلسانك وفي فعالك وبجنانك بالقلب فإن الدنيا زائلة لن تبقى لأحد.
انظر الأولين من سبقك من الأمم السابقة والماضية البعيدة المدى وانظر من سبقك من أصحابك بالأمس كانوا معك يتمتعون ويأكلون كما تأكل ويشربون كما تشرب والآن هم في أعمالهم مرتهنون وأنت سيأتي عليك هذا طالت الدنيا أم قصرت قال تعالى: يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه فانتهز الفرصة يا أخي انتهز الفرصة لا ينفعك يوم القيامة لا مال ولا بنون ولا أهل لا ينفعك إلا أن تأتي الله بقلب سليم أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن يأتي ربه بقلب سليم وأن يتوفانا & على الإيمان والتوحيد إنه على كل شيء قدير(5/154)
/0L2 باب الحث على صلاة تحية المسجد بركعتين وكراهية الجلوس قبل أن يصلي ركعتين في أي وقت دخل/0
1144 - عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين متفق عليه.
1145 - وعن جابر رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال: صل ركعتين متفق عليه.(5/155)
باب استحباب ركعتين بعد الوضوء(5/156)
باب فضل يوم الجمعة ووجوبها والاغتسال لها والتطيب والتبكير إليها والدعاء يوم الجمعة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه وبيان ساعة الإجابة ...
قال الله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون}
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب فضل الجمعة وذكر أشياء من خصائص يوم الجمعة، ويوم الجمعة هو اليوم الذي بين الخميس والسبت، وهو اليوم الذي خصت به هذه الأمة، وأضل الله عنه اليهود والنصارى، اليهود كان لهم السبت، والنصارى كان لهم الأحد، فكانوا تبعا لنا مع أنهم قبلنا في الزمن، وهذا من فضائل هذه الأمة ولله الحمد، وهذا اليوم هو يوم الخصائص، ويوم السبت والأحد ليس فيه خصائص، لكن ضل اليهود والنصارى عن يوم الجمعة، فصار لنا ولله الحمد والمنة.
ويوم الجمعة له خصائص متعددة، ومن أحسن من ذكرها ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد فليرجع إليه فإنه واف شاف.
ثم صدر المؤلف رحمه الله هذا الباب بقول الله تعالى: فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا في فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وكان هذا آخر آية سبقت وهو قوله: {يا أيها الذين أمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة..
..
} فخاطب الله المؤمنين أن يتركوا البيع إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، والمراد به النداء الثاني الذي يكون إذا حضر الإمام أما & النداء الأول فإن عثمان بن عفان رضي الله عنه لم كثر & الناس في المدينة أمر أن يؤذن أذان سابق ليستعد الناس للحضور فكان هذا من سنة الخليفة الراشد عثمان الذي أمرنا باتباع سنته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ولقد ضل من قال إنه بدعة، وسفه الصحابة رضي الله عنهم وسفه الخليفة الراشد، ونحن نقول له: أنت المبتدع في هذا القول الذي ادعيت أن هذا بدعة وكيف يكون بدعة وقد سماه الرسول صلى الله عليه وسلم سنة، سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي.
لكن هؤلاء سفهاء الأحلام وإن كانوا كبار السن، كيف تضلل الصحابة رضي الله عنهم بقائدهم عثمان بن عفان، وتدعي أنك أنت صاحب السنة؟، بل أنت صاحب البدعة في هذا القول.
يقول عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر(5/159)
الله} والمراد بذكر الله: الخطبة والصلاة أما الخطبة فيذكر الله فيها بالتشهد وذكر الأحكام والموعظة وغير ذلك، وأما ذكر الله في الصلاة فهذا ظاهر: {وذروا البيع} اتركوا البيع، ولهذا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة حرم البيع إلا على من لا تجب عليه كالنساء مثلا، وأما من تجب عليه الجمعة فإنه يحرم عليه البيع ولو باع لم يصح، حتى لو كان في طريقه إلى المسجد، وسمع أذان الجمعة ومعه زميل له فتبايعا فإن البيع باطل لا ينتقل به المبيع إلى المشتري ولا الثمن إلى البائع لأنه باطل وكل شيء نهى الله عنه فهو باطل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل قوله: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} يشمل، المسافر الذي في البلد إذا سمع أذان الجمعة يجب أن يحضر الجمعة، لأنه مؤمن، فمن الذي أخرجه، فإذا قال أنا مسافر قلنا ألست مؤمنا؟ فيقول: بلى إذا قال: بلى، قلنا اسمع {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم} يعني خير لكم من البيع لأن فيه إقامة شعيرة من شعائر الإسلام وقياما بواجب فهو خير من البيع & {إن كنتم تعلمون} يعني إن كنتم من ذوي العلم فاعلموا أنه خير، والمراد بهذه الجملة الشرطية الحث على ترك البيع والتوجه إلى الجمعة.(5/160)
{فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} يعني انتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله في البيع والشراء لكن لا يلهيكم ذلك عن ذكر الله.
ولهذا قال: {واذكروا الله كثيرا} يعني: لا تظنوا أنكم إذا فرغتم من ذكر الله في الخطبة والصلاة أنكم انتهيتم من ذكر الله، لا، ذكر الله في كل حال وفي كل وقت وفي كل مكان، قال الله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} من ذوي الألباب؟ {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} فالحاصل أنه إذا قضيت الصلاة فلا جلوس بعدها ملزم، اخرج، ابتغ الرزق، ابتغ من فضل الله، وفي هذا إشارة إلى أن الإنسان إذا قدم الصلاة على البيع والشراء ثم اشترى وباع بعد ذلك فإنه يرزق، لأنه قال: {وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا(5/161)
لعلكم تفلحون} وفي هذا إشارة إلى أنه لا خطبة بعد صلاة الجمعة، لأن الله قال: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} ما في خطبة ولا كلام ولا موعظة تكفي المواعظ التي في الخطبة التي قبل الصلاة والتي كانت مشروعة في هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله إذا تكلم أحد بعد الصلاة فلا تستمع له إلا أن يكون كتابا من السلطان، لأن الكتابات الموجهة من السلطان لابد أن تستمعها الرعية، لأن السلطان له حق على(5/162)
الرعية يوجهها ويدلها على الخير، أما غير ذلك من النصائح فإن في الخطبتين كفاية، خير الهدي، هدي من؟ محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن يخطب بعد الصلاة، ولم يرو عنه ذلك بحرف صحيح ولا ضعيف.
يوجد بعض الناس يتخذها سنة راتبة، كلما انتهت صلاة الجمعة قام يتكلم، فتكون الجمعة فيها كم خطبة؟، ثلاث خطب، من أين هذا؟ أما لو طرأ أمر لابد منه، لو جاء كتاب من السلطان أو من نائب السلطان من أحد الوزراء أو من غيرهم ممن له أن يتكلم، فهذا نعم، يقرأ على الناس ويسمع.
وقوله تبارك وتعالى: {لعلكم تفلحون} لعل هنا للتعليل وليست للترجي، وكلما جاءتك لعل في كتاب الله فهي للتعليل، لأن الرجاء إنما يكون في شأن من يتعسر عليه الأمر، وأما الرب عز وجل فكل شيء يسير عليه، فإذا وجدت لعل في القرآن فهي للتعليل مثل: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} وما أشبه ذلك.
{لعلكم تتقون} يعني: لأجل أن تتقوا {ولعلكم تفلحون} يعني لأجل أن تفلحوا.
رزقنا الله وإياكم الفلاح والصلاح والإصلاح والهداية، نسأل الله أن يهدينا وأن يهدي لنا وأن يهدي بنا، إنه على كل شيء قدير.
وأنبه على أنه لا يشتري المساويك، حتى المساويك بعد نداء الجمعة الثاني لا يجوز بيعها(5/163)
ولا شراؤها ولذلك نبه صاحب المساويك.
وأقول لك عبارة أحسن من المساويك جمع (سيئ) لكن قل: أعواد الأراك، والله أعلم..
1147 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب فضل الجمعة وما يتعلق بها فيما نقله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة والمراد بذلك خير يوم من أيام الأسبوع، وإنما قلنا هذا لئلا يتعارض مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: خير يوم طلعت عليه الشمس يوم عرفة: فإن يوم عرفة أفضل باعتبار العام، وهذا أفضل باعتبار الأسبوع، فيه خلق آدم، وآدم هو أبو البشر خلقه الله عز وجل بيده، خلقه من تراب ثم قال له: كن فيكون خلق يوم الجمعة وفيه أدخل الجنة وهي جنة المأوى التي يأوي إليها البشر، أدخله الله الجنة هو وزوجه وقال: اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأذن الله لهما أن يأكلا من جميع أشجار الجنة مما شاءا ونهاهما عن شجرة معينة اختبارا وابتلاء(5/164)
{فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو & تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} وأقسم لهما أن يأكلا من هذه الشجرة وأنه بذلك يحصل لهما الخلد والملك الذي لا يبلى، وما زال بهما حتى أكلا من الشجرة، وكان الله تعالى قد وضع على عورتيهما هيبة فلما أكلا من الشجرة بدت لهما سوءاتهما، وصار كل إنسان ينظر إلى عورته، آدم ينظر إلى عورته، وحواء تنظر إلى عورتها، انكشفت لأنهما هتكا حرمة الله عز وجل بأكلهما من الشجرة، وقال الله تعالى عن ذلك: {وعصى آدم ربه فغوى} لما أكلا منها أمرهما الله عز وجل أن يخرجا من الجنة فهبطا إلى الأرض، وهذا من حكمة الله عز وجل، لأنه لولا ذلك ما وجدت هذه البشرية وهذه الخليقة وحصل هذا الامتحان، ولكن الله تعالى بحكمته قدر لكل شيء سببا، فانظر كيف نزل من الجنة العالية إلى الأرض الهابطة بمعصية واحدة؟ فما بالك بنا نحن معاصينا كثيرة بالليل والنهار، نسأل الله أن يعاملنا وإياكم بعفوه، ومع ذلك نؤمل أملا ما هو إلا أوهام، نؤمل أننا في الدرجات العليا مع أننا هابطون بكثرة المعاصي والتهاون بالواجبات وما يعتري القلوب من الحقد والبغضاء والكراهية، نسأل الله أن يتوب علينا وعليكم وأن يصحح قلوبنا وقلوبكم.
وهذه الجنة التي أهبط منها آدم، اختلف فيها هل هي جنة المأوى أو أنها جنة بستان عظيم على ربوة طيبة الهواء كثيرة الماء؟ والصواب أنها جنة الخلد، وفي هذا يقول ابن القيم:(5/165)
فحي على جنات عدن فإنها ...
منازلنا الأولى وفيها المخيم
والله على كل شيء قدير، فهذا فضل يوم الجمعة أنه فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وكلاهما حكمة: خلق آدم حكمة، إدخاله الجنة حكمة، إنزاله إلى الأرض بسبب المعصية حكمة، ولكن اعلموا أن آدم تاب إلى الله هو وزوجه {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} وقال الله تعالى: {ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} فكان بعد التوبة خيرا منه قبل التوبة، والله الموفق
1148 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى، فقد لغا رواه مسلم.
1149 - وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر رواه مسلم.
1150 - وعنه وعن ابن عمر رضي الله عنهم، أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول(5/166)
على أعواد منبره: لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين رواه مسلم.
1151 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل متفق عليه.
1152 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم متفق عليه المراد بالمحتلم: البالغ والمراد بالوجوب: وجوب اختيار، كقول الرجل لصاحبه حقك واجب علي، والله أعلم.(5/167)
1154 - وعن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى رواه البخاري..(5/170)
1156 - وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة، فقال: فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا، إلا أعطاه إياه(5/172)
وأشار بيده يقللها.
متفق عليه.
1157 - وعن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أسمعت أباك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن ساعة الجمعة؟ قال: قلت: نعم، سمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة رواه مسلم.(5/173)
/0L2 باب استحباب سجود الشكر عند حصول نعمة ظاهرة أو اندفاع بلية ظاهرة
1159 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة نريد المدينة، فلما كنا قريبا من عزوراء نزل ثم رفع يديه فدعا الله ساعة ثم خر ساجدا فمكث طويلا ثم قام فرفع يديه ساعة، ثم خر ساجدا فعله ثلاثا وقال: إني سألت ربي، وشفعت لأمتي، فأعطاني ثلث أمتي، فخررت ساجدا لربي شكرا، ثم رفعت رأسي فسألت ربي لأمتي، فأعطاني ثلث أمتي، فخررت ساجدا لربي شكرا، ثم رفعت رأسي فسألت ربي لأمتي، فأعطاني الثلث الآخر، فخررت ساجدا لربي رواه أبو داود
[الشَّرْحُ]
قال رحمه الله تعالى: باب سجود الشكر عند تجدد النعم واندفاع النقم.
من & المعلوم أن نعمة الله سبحانه وتعالى لا تحصى، كما قال الله تبارك وتعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها وأضرب مثلا بالنفس الذي يتكرر في الدقيقة الواحدة إلى ستين مرة، هذا النفس لو قبض لهلك الإنسان، فهو نعمة كبرى ولا يمكن عدها، وكذلك الصحة والعافية، الأكل والشرب، البراز والبول، كلها نعم عظيمة، لكنها نعم مستمرة، ولو كلف الإنسان أن يسجد عند كل نعمة منها لبقي ساجدا مدى(5/177)
الدهر، لكن هناك نعم تتجدد للإنسان، كإنسان ولد له، أو تسهل له الزواج، أو قدم له غائب ميئوس منه، أو حصل له مال أو ما أشبه ذلك من النعم التي تتجدد أو بشر بنصر المسلمين، أو ما أشبه ذلك، فهذا يستحب للإنسان أن يسجد لله تبارك وتعالى شكرا له.
فمثلا إذا بشر بولد قيل له: أبشر بولد هذه نعمة متجددة، فيسجد لله كما يسجد في الصلاة ويقول: سبحان ربي الأعلى، سبحانك الله ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، ثم يشكر الله على النعمة المعينة التي حصلت، فيقول: أشكرك يا ربي على هذه النعمة ويثني على الله تعالى في ذلك.
هكذا أيضا في اندفاع النقم، الإنسان في سلامة دائمة، ودائما هو معرض للآفات وللنقم، لكن أحيانا تنعقد أسباب النقمة ويشاهدها فيرفعها الله عنه، ولنضرب لذلك مثلا بحادث، إنسان مثلا يمشي في الطريق فانقلبت السيارة فنجا، هذه اندفاع نقمة، فيسجد لله تعالى شكرا على اندفاع هذه النقمة، أو إنسان مثلا يمشي وبينما هو كذلك انخسفت به حفرة في الأرض فنجا، فحضره اندفاع نقمة، يحمد الله سبحانه وتعالى على ذلك.
واندفاع النقم كثير، فإذا دفع الله عنك نقمة فاسجد لله تعالى شكرا على اندفاع هذه النقمة، وقل مثلا في السجود: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، اللهم إني أشكرك على أن نجيتني من هذه المصيبة ويذكرها، هذا سجود الشكر.
واختلف العلماء رحمهم الله، هل تشترط له الطهارة أو لا؟(5/178)
والصحيح أنها لا تشترط، وذلك لأن هذا يأتي بغتة والإنسان غير متأهب فلو ذهب يتوضأ لطال الفصل بين السبب ومسببه فإذا كان & على غير طهارة فليسجد.
والله الموفق..(5/179)
/0L2 باب فضل قيام الليل
قال الله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} وقال تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} وقال تعالى: {كانوا قليلا & من الليل ما يهجعون}
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب فضل قيام الليل.
قيام الليل يعني: الصلاة فيه وهو أفضل الصلاة بعد المكتوبة، كما سيأتي إن شاء الله في الأحاديث.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الثناء على القائمين في الليل، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتهجد، قال: ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا فأمر الله نبيه أن يتهجد من الليل يعني لا كل الليل، لأن قيام كل الليل ليس من السنة إلا أحيانا، كقيام عشر رمضان، وأما البقية فالسنة أن ينام ويقوم.
قوله: {فتهجد به نافلة لك} اختلف العلماء في قوله: {نافلة لك} فقيل: المعنى أن هذا خاص بك يعني الوجوب، وجوب التهجد، لأن غير النبي صلى الله عليه وسلم لا يجب عليه التهجد إلا أن ينذره، إن نذر أن يتهجد لزمه الوفاء بالنذر وإلا فلا.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يجب عليه أن يتهجد من الليل، وقيل: المعنى {نافلة لك} يعني أنه نافلة أي زيادة، فضل وهذا له ولغيره عليه الصلاة(5/180)
والسلام.
ثم قال تعالى مبينا ما يكون من ثمرات التهجد، قال: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال العلماء: إذا قال الله تعالى في القرآن عسى فهو واجب يعني أن الله سيبعثك مقاما محمودا أي يبعثك يوم القيامة مقاما تحمد عليه من كل الخلائق.
فلرسول الله صلى الله عليه وسلم المقام المحمود يوم القيامة، ومنه الشفاعة العظمى، يعني من المقام المحمود للنبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة العظمى، وهي أن الناس يوم القيامة يبعثون في صعيد واحد ليس هناك جبال ولا أشجار ولا بناء ولا أنهار، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، لا يحول بينهم وبين الداعي شيء ولا بينهم وبين الرائي شيء في صعيد واحد.
وتدنو الشمس، تدنو الشمس منهم حتى تكون & على قدر ميل، ويطول هذا اليوم حتى يكون مقداره خمسين ألف سنة، سبحان الله، الإنسان ما يستطيع أن يقف ولا أربعا وعشرين ساعة، لكن هذا اليوم مقداره خمسون ألف سنة.
فيلحق الناس من الهم والكرب ما لا يطيقون، فيطلب بعضهم إلى بعض النظر في الأمر لعل أحدا يشفع لهم عند الله عز وجل لكي يريحهم من هذا الموقف، يلهمهم الله عز وجل أن يذهبوا إلى آدم، آدم أبو البشر، كل البشر أبوهم واحد وهو آدم عليه الصلاة والسلام، وكما هو العادة أن الإنسان يفر إلى أقرب من يراه أنه أنفع، فيذهبون إلى أبيهم، ألا ترى ما نحن فيه، إن الله خلقك بيده، وعلمك أسماء كل شيء وأسجد لك الملائكة، يعني أعطاك خيرا كثيرا، فاشفع لنا إلى(5/181)
الله، فيعتذر يعتذر بماذا؟ يقول: إن الله نهاه عن أكل الشجرة فأكل منها، وهذه معصية، فهو خجلان من الله عز وجل، فكيف يشفع لكم عند الله؟ فيذهبون إلى نوح وهو أول الرسل من البشر، أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض هو نوح صلى الله عليه وسلم فيذكرونه بنعمة الله عليه، أنه أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، ولكنه يعتذر، يعتذر بماذا؟ بقوله: {رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين} لأن الله وعده أن ينجيه وأهله وكان أحد أبنائه كافرا لم ينج من الماء حتى قال له نوح: {يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء} يعني ولا أركب معك لأن المياه عظيمة، فكيف كانت؟ السماء فتحها، في قراءة {فَفَتَحْنَا أبواب السماء} وفي قراءة {فَفَتَّحْنَا أبواب السماء} وهي أعظم فتح الله أبواب السماء بماء منهمر غزير أشد من القرب وفجرنا الأرض عيونا حتى التنور الذي هو محل النار وهو أشد الأرض يبوسة وأبعدها من الماء، بدأ التنور يفور فجرنا الأرض عيونا، كل الأرض إذا كان السماء فتحت بماء منهمر، والأرض فجرت بالعيون كيف يكون منسوب المياه؟ يكون عظيما عظيما حتى صعد الماء إلى قمم الجبال.
وكانت امرأة معها صبي من الكفار الذين كفروا بنوح معها صبي، كلما ارتفع الماء في الجبل صعدت عليه، كلما ارتفع صعدت عليه، حتى وصل الماء إلى قمة الجبل فارتفع المنسوب ووصل إلى كعبيها ثم إلى ركبتيها ثم ألجمها الماء فرفعت صبيها هكذا من أجل أن ينجو من الغرق، فتغرق هي والولد & ترجو أن ينجو من(5/182)
الغرق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لو نجا الله أحدا لنجى أم الصبي لكن والعياذ بالله قضى الله على أهل الأرض أن يغرقوا كلهم إلا من ركب في هذه السفينة.
ابن نوح الذي كفر بأبيه أبى أن يركب، قال: {سآوي إلى جبل يعصمني من الماء} قال له أبوه {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين} غرق لكن نوحا عليه الصلاة والسلام قال: {رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين} سبحان الله كلام الله عز وجل لنبي من الأنبياء من أولي العزم: {إني أعظك أن تكون من الجاهلين} فيأتون إلى نوح في ذلك اليوم نسأل الله أن ينجينا وإياكم من عذابه يأتون إلى نوح ويقولوا اشفع لنا، فيذكر ذنبه أنه سأل ما ليس له به علم، والمذنب ليس له وجه يشفع، المذنب لا يمكن أن يشفع عند من عصاه، لأنه ليس له وجه فيعتذر.
فيذهبون إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم أبو الأنبياء الذي أمرنا أن نتبع ملته ويذكرونه بنعمة الله عليه ولكنه يعتذر، يعتذر بأشياء ما تضره، ولكنه عليه الصلاة والسلام بكمال إيمانه جعلها من الأشياء الضارة، فيذكر ما يذكر من العذر، ويقول: اذهبوا إلى موسى.
يأتون موسى ويذكرونه بنعمة الله عليه، ولكنه يعتذر، بماذا(5/183)
يعتذر؟ يقول: إنه قتل نفسا لم يؤذن له بقتلها حين قتل القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلي، إسرائيلي من بني إسرائيل كان مع قبطي يتنازعان، وكان موسى من أشد الناس صرامة قويا شديدا، وهذا من حكمة الله، لأن بني إسرائيل لا ينفعهم إلا الأقوياء الأشداء، فبعثه الله إلى بني إسرائيل، فلما رأى هذا القبطي قد استغاثه الإسرائيلي عليه وكزه موسى يعني أعطاه وكزة بيده، فقضى عليه.
فقال يعتذر أنه قتل نفسا لم يؤم بقتلها، اذهبوا إلى عيسى، فيذهبون إلى عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، الذي هو آخر الرسل قبل محمد عليه الصلاة والسلام، ليس بينه وبينه نبي ولا رسول، ولكنه يعتذر بدون أن يذكر شيئا، لكنه يدلهم على من هو أكمل منه، وهو محمد صلوات الله وسلامه عليه أسأل الله تعالى أن يدخلني وإياكم في شفاعته يأتون إلى محمد فيقول: أنا لها ويذهب ويسجد تحت العرش بعد إذن الله عز وجل، ثم يؤذن له بالشفاعة فيشفع، فينزل الرب عز وجل للقضاء بين عباده، فيقضي بينهم ويستريحون من هذا الموقف.
هذا المقام يا إخواني هل يحمد عليه الرسول؟ نعم لا شك كل الأنبياء الكرام والرسل، أولو العزم كلهم يعتذرون حتى تصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وانظر كيف كانت هذه السلسلة، يعني لو شاء الله تبارك وتعالى(5/184)
لدلهم على محمد من أول الأمر، لكن ليظهر فضل هذا النبي الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، ويتحقق قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} ونعم هذا المقام مقاما، فصلوات الله وسلامه عليه، وسيأتي إن شاء الله بقية الكلام عن الآيات.(5/185)
باب فضل قيام الليل
قال الله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} وقال تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} وقال تعالى {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون} قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب فضل قيام الليل، ثم ذكر قول الله تبارك وتعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} وسبق الكلام على هذه الآية، ثم ذكر قول الله تبارك وتعالى {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون} هذا في سياق قوله تعالى: {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون} فوصفهم الله عز وجل بهذه الأوصاف الجليلة: إذا ذكروا بآيات الله خروا سجدا، أي خروا سجدا فيما يتطلب السجود فلا يستكبرون عن وضع جباههم وأنوفهم على الأرض بل يتذللون لله إذا أمر بالسجود سجدوا، ويحتمل أن يكون معنى قوله: {خروا سجدا} أي: أن المراد بذلك كمال التذلل لله بالعبادة، سواء كان سجدة أو غيرها، {وسبحوا بحمد ربهم}(5/186)
أي: سبحوا الله سبحانه وتعالى، وتسبيح الله يعني: تنزيهه عن كل نقص وعيب، هذا هو التسبيح، سبحت الله يعني نزهته وبرأته من كل نقص وعيب، لأنه جل وعلا كامل الصفات، إذ ينتفى عنه جميع النقائص.
وقوله: {بحمد ربهم} الباء للمصاحبة، أي سبحوا الله تسبيحا مقرونا بالحمد مصاحبا به.
والحمد هو: وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم.
هذا معنى الحمد، حمدت الله يعني: اعتقدت أن له أوصافا كاملة، وذكرت بلساني ذلك، فإن كرر المدح صار ثناء، كما يدل على ذلك حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى علي عبدي {وهم لا يستكبرون} يعني: لا يستكبرون عن عبادة الله، إذا أمرهم الله امتثلوا الأمر بذل وخضوع، وشعور بالعبودية، وشعور بكمال الألوهية والربوبية لله عز وجل.
{تتجافى} أي: تتباعد جنوبهم، عن المضاجع، أي: عن المراقد فهم يحيون الليل بالصلاة وذكر الله عز وجل، وإذا أتموا صلاتهم ختموا ذلك بالاستغفار، كما قال تعالى: {وبالأسحار هم يستغفرون} & قال بعض السلف: هذا يدل على كمال معرفتهم بأنفسهم، يقومون(5/187)
الليل، ثم يستغفرون في آخر الليل خوفا من أن يكونوا قصروا مع الله عز وجل.
{يدعون ربهم خوفا وطمعا} يدعون الله دعاء المسألة، ودعاء العبادة.
دعاء المسألة أن يقولوا: يا ربنا اغفر لنا، يا ربنا أغننا، يا ربنا يسر أمورنا، يا ربنا اشرح صدورنا هذا دعاء المسألة.
أما دعاء العبادة أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويصوموا رمضان ويحجوا البيت، ويبروا الوالدين، ويصلوا الأرحام إلى غير ذلك من العبادات، وكانت العبادة دعاء لأنك لو سألت العبد: لأي شيء تعبد الله؟ لقال: لنيل رضوان الله عز وجل فهو داع بلسان الحال وقد يصحبه دعاء بلسان المقال، فالصلاة مثلا فيها دعاء، يدعو الإنسان فيها بدعاء ركن في الصلاة، إذا لم تدع في الصلاة بهذا الدعاء بطلت صلاتك، في أي موضع؟ ! في الفاتحة {اهدنا الصراط المستقيم} هذا دعاء ركن في العبادة لو تركته ما صحت صلاتك، فالصلاة دعاء بلسان الحال ودعاء بلسان المقال، ولهذا قال: {يدعون ربهم} أي: يعبدونه ويسألونه.
{خوفا وطمعا} خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه، لأنهم إن فعلوا المحرم عوقبوا، وإن تركوا المحرم وقاموا بالواجب أثيبوا، فهم خائفون طامعون، وقيل: خوفا من ذنوبهم وطمعا في فضل الله، فالإنسان إذا نظر إلى نفسه وإلى ذنوبه خاف، لأنها ذنوب أثقل من الجبال، وأكثر من الرمال نسأل الله تعالى أن يعاملنا بعفوه وإن نظر إلى سعة رحمة الله وسعة عفوه، وأن العفو أحب إليه من(5/188)
العقوبة، وأنه يفرح بتوبة عبده المؤمن، أشد من أي فرح في الدنيا كلها، قال النبي عليه الصلاة والسلام: لله أشد فرحا اللام هذه للابتداء، وهي للتوكيد، لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم كان معه راحلته عليها طعامه وشرابه فأضلت ضاعت منه في أرض فلاة ما حوله أحد، فضاعت، طلبها فلم يجدها، فيئس من الحياة، فاضطجع تحت شجرة ينتظر الموت، ما بقي إلا أن يموت، فإذا بخطام الناقة متعلقا بالشجرة خطام يعني: زمام فقام وأخذه وقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك هو يريد أن يقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك لكن من شدة الفرح قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك , فالله جل وعلا أشد فرحا بتوبة عبده من هذا الرجل براحلته.
إذا نحن نطمع في فضل الله، ذنوبنا كثيرة عظيمة، لكن فضل الله أوسع، ورحمته أوسع، إذا كانت الصلوات الخمس تكفر ما بينها إذا لم ترتكب الكبائر فهذا فضل عظيم، فعلى كل حال، هم يدعون الله خوفا وطمعا، خوفا من عذابه، وطمعا في ثوابه، خوفا من ذنوبهم، وطمعا في فضله، كل الأوجه صحيحة.
{ومما رزقناهم ينفقون} من: للتبعيض يعني: ينفقون بعض ما رزقناهم، لأنه لا ينبغي للإنسان أن يتصدق بكل ماله، ولهذا لما قال أبو لبابة يا رسول الله إني أتصدق بكل مالي.
قال: يكفيك(5/189)
الثلث، تصدق بالثلث حتى إن العلماء قالوا: إذا نذر الصدقة بماله كله أجزأه ثلثه، لأن هذا هو المذكور فعلى هذا تكون (من) للتبعيض، يعني: ينفقون شيئا مما رزقناهم.
وقيل: إن (من) للبيان، لبيان الجنس، فينفقون حسب الحال، قد ينفقون قليلا أو كثيرا، الثلث، أو النصف، أو الكل، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه عندما حث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فتصدق أبو بكر بكل ماله، وتصدق عمر بشطر ماله بالنصف قال: الآن أسبق أبا بكر، لأن الصحابة يتسابقون، ليس حسدا ولكن تسابق في الخيرات فلما جاء بنصف ماله وإذا أبو بكر قد تصدق بكل ماله، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله.
قال لعمر: ما تركت؟ ! قال: تركت النصف، ثم قال عمر: والله لا أسابقه على شيء أبدا بعد اليوم.
لأن أبا بكر رضي الله عنه له سوابق، فضائل لا يلحقه لا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا من دونهم.
المهم أنهم ينفقون مما رزقهم الله.
فما هو الجزاء وما هي الثمرة؟ ! {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} اللهم اجعلنا منهم يا رب.(5/190)
لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين، وذلك في جنات النعيم، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، أتظنون أن قول الله تعالى: {فيهما فاكهة ونخل ورمان} أتظنون أن النخل والرمان والفاكهة كالذي في الدنيا؟ لا والله، ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء، اسم الرمان لكن لا يمكن أن يخطر على بالك، اسم النخل لكن لا يخطر على بالك، اسم الفاكهة لكن ما تخطر على بالك: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من هؤلاء الأبرار الكرام البررة إنه على كل شيء قدير.
قال تعالى: {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون}
1160 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف في كتابه رياض الصالحين باب فضل قيام الليل، وذكر آيات ثلاثا، تكلمنا عن اثنتين منها، فهذه هي الثالثة، وهي قوله تعالى: كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون هذه من(5/191)
أوصاف المتقين الذين أعد الله لهم الجنات والعيون، من أوصافهم أنهم كانوا لا يهجعون من الليل إلا قليلا، وذلك أنهم يشتغلون بالقيام والتهجد وقراءة القرآن وغير ذلك.
قال الله تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك} فكانوا يقومون من الليل، ثم إذا فرغوا من القيام رأوا أنهم مقصرون، فجعلوا يستغفرون الله عز وجل، وبالأسحار يستغفرون.
وقال تعالى في سورة آل عمران: {والمستغفرين بالأسحار} أي في آخر الليل.
ثم ذكر الأحاديث في ذلك، ومنها حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل ويطيل القيام حتى تتفطر قدماه، لأن الدم ينزل فيها، فتتفطر، فقيل: كيف تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا فجعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذه الأعمال من شكر نعمة الله سبحانه وتعالى، فدل ذلك على أن الشكر هو القيام بطاعة المنعم، وليس الإنسان إذا قال: أشكر الله.
هذا شكر باللسان، ولكن لا يكفي، لابد من الشكر بالجوارح والقيام بطاعة الله عز وجل، وفي هذا دليل على تحمل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم للعبادة ومحبته لها، لأنه لا يمكن لأحد أن يفعل ذلك إلا لمحبة شديدة، ولهذا قال: جعلت قرة عيني في الصلاة فالصلاة أحب الأعمال إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد قام معه من الليل من أصحابه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قام معه ذات ليلة فأطال(5/192)
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم القيام قال عبد الله: حتى هممت بأمر سوء، قالوا: بما هممت يا أبا عبد الرحمن؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه.
وهو شاب، أقل سنا من الرسول عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك عجز أن يكون كالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ولكن لو قال قائل: هل الأفضل في قراءة الليل أن أطيل القيام، أو أن أطيل السجود والركوع؟ قلنا: انظر ما هو أصلح لقلبك، قد يكون الإنسان في حال السجود أخشع وأحضر قلبا، وقد يكون في حال القيام يقرأ القرآن ويتدبر القرآن، ويحصل له لطائف من كتاب الله عز وجل ما لا يحصل له في حال السجود، ولكن الأفضل أن يجعل صلاته متناسبة إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود، وإذا قصر القيام قصر الركوع والسجود، حتى تكون متناسبة كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
1164 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل نام ليلة حتى أصبح، قال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه، أو قال: في أذنه(5/193)
متفق عليه.(5/194)
1167 - وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
[الشَّرْحُ]
نقل المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب فضل قيام الليل عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس أفشوا السلام.
اعلم أن خطاب الشرع إذا صدر بالنداء، دل ذلك على أهمية هذا الخطاب، لأن النداء يوجب تنبه المخاطب، فإنه فرق بين أن تقول الكلام مرسلا وبين أن تنادي من تخاطب، فالثاني يكون أبلغ في التنبيه والانتباه.
يقول: يا أيها الناس أفشوا السلام يعني: أظهروا وأعلنوا وأكثروا من السلام، والسلام يخاطب به المسلم والسلم عليه، فإن المسلم ينبغي له أن يسلم كل من لاقاه ممن يستحق أن يسلم عليه، سواء عرفه، أو لم يعرفه.
والذي يستحق أن يسلم عليه هو المسلم الذي لا يحل هجره، أمام الكافر فلا تبدأه بالسلام سواء كان كافرا لا ينتسب للإسلام، أو كان كافرا(5/198)
ينتسب للإسلام لكنه على بدعة مكفرة، فهذا لا تسلم عليه، لأنه لا يستحق، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام.
وينبغي للمسلم أن يرفع صوته حتى يسمع، وألا يسلم بأنفه، لأن بعض الناس نسأل الله لنا ولهم الهداية يكون عنده كبرياء أو عنده جفاء، فإذا لاقاك سلم عليك بأنفه، لا تكاد تسمعه، هذا خلاف إفشاء السلام.
فإفشاء السلام أن ترفع صوتك وتجهر به: السلام عليك.
قال العلماء: إلا إذا سلم على قوم أيقاظ بينهم نيام، فلا ينبغي أن يرفع صوته رفعا يستيقظ به النيام، لأن هذا يؤذي النائمين.
ثم إن الصيغة المستحبة أن تقول السلام عليك إن كان المسلم عليه واحدا، وإن كانوا جماعة رجال تقول: السلام عليكم، وإن كانوا جماعة نساء تقول السلام عليكن، حسب المخاطب، ثم إنك إذا قلت: السلام عليك أو عليكم أو عليكن، فإنك تشعر أنك تدعو لهم بالسلامة، السلام عليكم ليست مجرد تحية، دعاء بالسلامة، كأن الله يسلم من كل الآفات من آفات الذنوب وآفات القلوب وآفات الأجسام وآفات الأعراض من كل آفة، ولهذا لو قلت: أهلا ومرحبا، بدل السلام، ما أجزأك، لأن أهلا ومرحبا ما فيها دعاء، فيها صحيح: تحية، تهنئة، ولكنها ليست فيها دعاء.
فالسلام المشروع أن تقول: السلام عليكم.(5/199)
أما المسلم عليه فالواجب عليه أن يرد كما سلم عليه، هذا أمر واجب لقول الله تعالى: وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها فإذا قال السلام عليكم.
فقلت: أهلا ومرحبا أبا فلان، حياك الله سررنا بمجيئك..
تفضل..
كل هذه الكلمات لا تجزئ عن كلمة واحدة ما هي؟ عليك السلام.
لابد أن تقول عليك السلام، فإن لم تفعل فأنت آثم عليك وزر، لأنك تركت واجبا، فحيوا بأحسن منها أو ردوها.
كذلك أيضا إذا سلم عليك بصوت مرتفع بين واضح، لا ترد عليه السلام بأنفك، هذا لا يجوز لأنك لم ترد بمثلها ولا بأحسن منها، فقوله تعالى: {فحيوا بأحسن منها أو ردوها} يشمل الصيغة، وصفة الأداء.
كذلك قال عليه الصلاة والسلام: أطعموا الطعام لمن يطعم الطعام؟ لمن يحتاج إليه، إطعامك أهلك من الزوجات والأولاد بنين أو بنات ومن في بيتك أفضل ما يكون، أفضل من أن تتصدق على مسكين، لأن إطعامك أهلك قيام بواجب، والقيام بالواجب أفضل من القيام(5/200)
بالتطوع لقول الله تعالى في الحديث القدسي: ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه فإطعام الطعام لأهلك أفضل من إطعام المسكين، لأن الأول واجب وهذا تطوع، فمن أطعم الطعام أهله ولم يقصر بشيء وقام بالواجب فقد أطعم الطعام، وما فضل فتصدق به فهو خير.
وصلوا بالليل والناس نيام اللهم اجعلنا من هؤلاء ربما كان أحسن وألذ النوم ما كان من بعد منتصف الليل إلى الفجر، فإذا قام الإنسان في هذا الوقت لله عز وجل يتهجد، يتقرب إليه بكلامه وبدعاء خاشع بين يديه، والناس نائمون فهذا من أفضل الأعمال.
(صلوا بالليل والناس نيام) وهذا محل الشاهد من هذا الحديث، أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الصلاة بالليل من أسباب دخول الجنة، والثواب قال: تدخلوا الجنة بسلام تسلم عليك الملائكة {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم} يهنئونهم بما صبروا وبهذا الثواب العظيم.
و (تدخلوا الجنة بسلام) ظاهره أنه بلا عقاب ولا عذاب لأن من عذب لم يسلم.
فهذه الأمور الثلاثة في هذا الحديث من أسباب دخول الجنة بسلام،(5/201)
نسأل الله تعالى أن يعينني وإياكم عليها، وأن يجعلنا ممن يدخلون الجنة بسلام، إنه على كل شيء قدير.
1167 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل.
رواه مسلم.
1168 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة.
متفق عليه.
1169 - وعنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل مثنى مثنى، ويوتر بركعة.
متفق عليه.
1170 - وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه، ويصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئا، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليا إلا رأيته، ولا نائما إلا رأيته.
رواه البخاري.(5/202)
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في بيان فضل صلاة الليل.
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم صيام شهر رمضان أحد أركان الإسلام، وهو واجب بالإجماع، وشهر المحرم أفضل الشهور التي يتطوع بها بالصوم، وعلى هذا فيكون صوم شهر المحرم من الصيام المستحب، لأنه أفضل الصيام بعد الفريضة.
وأما الشاهد من هذا الحديث وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل هذا هو الشاهد، صلاة الليل أفضل من صلاة النهار، ما عدا الرواتب التابعة للمكتوبات فإنها أفضل من النفل المطلق في الليل، فمثلا راتبة الظهر أربع ركعات بسلامين قبلها وركعتان بعدها، أفضل من ست في الليل، لأنه راتبة مؤكدة، تابعة للفريضة، وأما النفل المطلق ففي الليل أفضل من النهار، ولهذا قال: أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل.
أما حديث ابن عمر الأول والثاني، ففيه دليل على أن صلاة الليل تكون مثنى مثنى، لا يمكن أن تصلي أربعا، بل لابد من اثنين ويسلم، اثنين ويسلم، قال الإمام أحمد رحمه الله: فإن قام إلى الثالثة ناسيا فهو كما لو قام إلى ثالثة في الفجر.
يعني: فيجب عليه أن يرجع فإن لم يفعل بطلت صلاته يعني لو كنت تصلي بالليل على ركعتين ركعتين، فقمت إلى الثالثة ناسيا، وجب عليك أن ترجع حتى لو بدأت في قراءة الفاتحة، يجب أن ترجع فإن لم تفعل بطلت صلاتك، لأن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: صلاة الليل مثنى مثنى يعني على ثنتين ثنتين، إلا أنه استثنى من ذلك الوتر، إذا أوتر بثلاث(5/203)
أو خمس أو سبع أو تسع، فإذا أوتر بثلاث فإن شاء سلم من الركعتين الأوليين وأتى بالثالثة وحدها، وإن شاء جمع الثلاث جميعا بسلام واحد.
وإن أوتر بخمس سردها كلها بسلام واحد وتشهد واحد، وإن أوتر بسبع كذلك، كلها بسلام واحد، وإن أوتر بتسع كذلك، إلا أنه في الثامنة يجلس ويتشهد ولا يسلم ثم يأتي بالتاسعة ويسلم وإن أوتر بإحدى عشرة سلم من كل ركعتين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث ابن عمر الأول والثاني دليل أن الوتر لا يكون بعد طلوع الفجر، إذا طلع الفجر انتهى وقت الوتر، فإن غلبه النوم ولم يوتر قبل طلوع الفجر صلى من النهار، لكن يصلي شفعا، فإن كان من عادته أن يوتر بثلاث صلى أربعا، وإن كان من عادته أن يوتر بخمس صلى ستا..
..
وهلم جرا.
فهذه الأحاديث في فضل صلاة الليل وفي كيفية صلاة الليل، وأنها مثنى مثنى.
أما حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ففيه دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان أحيانا يديم العمل الصالح، حتى لا تراه إلا على هذا العمل، كان لا تراه قائما إلى رأيته، ولا تراه نائما إلا رأيته، وكذلك في الصوم، لا تراه صائما إلا رأيته، ولا تراه مفطرا إلا رأيته.
يعني أنه عليه الصلاة والسلام يتبع ما هو أصلح وأنفع، أحيانا يديم الصوم، أحيانا يديم الفطر، أحيانا يديم النوم، لأنه عليه الصلاة والسلام يتبع ما(5/204)
هو الأفضل والأرضى لله وما هو الأريح لبدنه، لأن الإنسان له حق على نفسه كما قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص: إن لنفسك عليك حقا والله الموفق
1171 - وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي إحدى عشرة ركعة تعني في الليل يسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المنادي للصلاة رواه البخاري..
1172 - وعنها قالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة: يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا.
فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ فقال: يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي متفق عليه.
1173 - وعنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام أول الليل، ويقوم آخره فيصلي.
متفق عليه.(5/205)
1174 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فلم يزل قائما حتى هممت بأمر سوء.
قيل: ما هممت؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه.
متفق عليه.
1175 - وعن حذيفة رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المئة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها يقرأ مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم فكان ركوعه نحوا من قيامه ثم قال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، ثم قام طويلا قريبا مما ركع ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريبا من قيامه.
رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في بيان صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل.
منها: حديث عائشة الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة وقد بين ذلك في أحاديث أخرى، أنه يسلم من ركعتين ثم(5/206)
ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعة، يعني: يصلي إحدى عشرة ركعة، يسلم من اثنتين، ويوتر بواحدة، ثم كان صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين قبل الغداة، يعني إذا أذن الفجر صلى ركعتين، وكان يخفف هاتين الركعتين حتى تقول عائشة أقرأ بأم القرآن؟ لشدة تخفيفه لهما، ثم يضطجع على جنبه الأيمن حتى يأتيه المؤذن يؤذنه بالصلاة صلى الله عليه وسلم ففي هذا دليل على أن قيام الليل إحدى عشرة ركعة يوتر بواحدة، ودليل على أنه ينبغي أن يصلي الإنسان الراتبة في بيته أفضل من المسجد، لاسيما الإمام، وفيه أيضا أن الإمام لا يخرج من بيته إلا للإقامة، يبقى في بيته حتى يأتي وقت الإقامة، فيخرج إلى المسجد ويصلي، هذا هو الأفضل أفضل من أن يتقدم الإمام ويصلي بالمسجد أما غير الإمام فينتظر الإمام، والإمام ينتظره غيره، فلذلك كان الأفضل في حقه أن يتأخر إلى قرب إقامة الصلاة، إن لم يكن لهذا سبب أو في تقدمه مصلحة مثل أن يكون تقدمه يشجع المصلين فيتقدمون، ولو تأخر لكسلوا، فهذا أيضا للمصلحة.
وفي حديثها الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، لأنها سئلت كيف كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ قالت: كان لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا هذه أربع وأربع وثلاث: إحدى عشرة، هذا هو السنة وهو الأفضل ألا يزيد في صلاة الليل على إحدى عشرة(5/207)
ركعة أو ثلاث عشرة ركعة.
وقولها رضي الله عنها: يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن.
قد ظن بعض الناس أنها أربع مجموعة بسلام واحد، وهذا خطأ لأنه قد جاء مفصلا مبينا أنها أربع ركعات، يسلم من كل ركعتين وأربع ركعات يسلم من كل ركعتين وثلاث ركعات، فيكون قولها: أربعا لا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي..
..
يكون فيه دليل على أنه إذا صلى الأربع بسلام استراح قليلا لقلوها: ثم يصلي وثم للترتيب في المهلة ثم يصلي الأربع على ركعتين ثم يسلم.
وأنا أشير في هذه المسألة أنه ينبغي للإنسان ألا يتعجل في فهم النصوص، بل يجمع شواردها حتى يضم بعضها إلى بعض ليتبين له الأمر، فبعض الإخوان الذين بدءوا يتعلمون ولاسيما علم الحديث، صاروا يصلون بالناس أربع ركعات جميعا، وهذا غلط، غلط على السنة، وفهم خاطئ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صلاة الليل فقال: مثنى مثنى لا يمكن أن يصلي أربعا، ممكن أن يصلي خمسا جميعا، وسبعا جميعا، وتسعا جميعا.
أما حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم بابه مفتوح، بيته بيت للأمة، للصحابة، يأتي الواحد منهم يحب أن يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، لا يقول له لا تصل معي، صل في بيتك، لا بل يفتح له صدره، ويدخل البيت ويصلي معه.
وكان ابن(5/208)
مسعود رضي الله عنه من الذين يخدمون الرسول صلى الله عليه وسلم صاحب السواك، ينظف سواك الرسول، وصاحب الوساد وساده وصاحب النعل.
فكان يدخل على الرسول ويصلي معه، فدخل فصلى معه ذات ليلة فلما دخل في الصلاة أطال النبي صلى الله عليه وسلم القيام، يقول: حتى هممت بأمر سوء، قيل: بماذا هممت يا أبا عبد الرحمن؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه، وهو شاب، والرسول صلى الله عليه وسلم أسن منه، ومع ذلك كان يقف ويطيل حتى يعجز الشباب عن قيامه عليه الصلاة والسلام.
وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لكنه يصلي صلى الله عليه وسلم شكرا لله عز وجل، كما قال: أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا.
والمرة الثانية صلى معه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فبدأ بسورة البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ولكنه مضى، فقلت: يركع بها، ولكنه أتمها ثم بدأ بسورة النساء، فأتمها، ثم بدأ بسورة آل عمران فأتمها، يرتل عليه الصلاة والسلام، يرتل القرآن، وهذه السور الثلاث تمثل خمسة أجزاء وربع.
بالترتيل كم تستغرق من وقت؟ ! والنبي صلى الله عليه وسلم واقف لا يمر بآية رحمة إلا سأل، ولا آية تسبيح إلا سبح، ولا آية وعيد إلا تعوذ فيجمع بين القراءة والذكر والدعاء صلى الله عليه وسلم، مع هذا الطول العظيم، ثم ركع، فكيف كان ركوعه؟ ! كان ركوعه نحوا من قيامه، أطال الركوع ثم رفع قائلا: سمع الله لمن حمده،(5/209)
وكان قيامه نحوا من ركوعه، ثم سجد، فكان سجوده نحوا من قيامه، وهكذا صلاته كانت متناسبة، وإذا أطال في القراءة أطال في الركوع والسجود، يقول في الركوع: سبحان ربي العظيم، ويقول في السجود: سبحان ربي الأعلى، ويقول أيضا إضافة إلى ذلك: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي.
ويقول أيضا: سبوح قدوس رب الملائكة والروح.
فالصلاة روضة من رياض العبادات، فيها من كل زوج بهيج، قرآن وذكر ودعاء وتسبيح وتكبير وتعوذ، ولهذا كانت هي أفضل العبادات البدنية، أفضل من الصيام، وأفضل من الزكاة، وأفضل من الحج، وأفضل من كل العبادات، إلا التوحيد، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله , لأن هذا هو مفتاح الإسلام.
فالحاصل أن هذه صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من الليل، فاحرص أخي المسلم، أسأل الله أن يعينني وإياك على اتباعه ظاهرا وباطنا، وأن يتوفانا على ملته ويحشرنا في زمرته، ويدخلنا معه جنات النعيم.
1176 - وعن جابر رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت رواه مسلم.(5/210)
المارد بالقنوت: القيام..
1177 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ويصوم يوما ويفطر يوما متفق عليه..
1178 - وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن في الليل لساعة، لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله تعالى خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة.
رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث ساقها الإمام النووي في باب فضل صلاة الليل، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت والمراد بطول القنوت أي طول الخشوع لله عز وجل والقيام والركوع والسجود.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله أيهما أفضل: طول القراءة مع تخفيف الركوع والسجود، أو الأفضل تقصير القراءة والركوع والسجود؟ بمعنى هل الأفضل أن تقصر الركعات مع كثرة العدد، أو أن تطيل(5/211)
الركعات مع قلة العدد، والصواب أن الأفضل في ذلك أن تكون الصلاة متناسبة، وقد سبق معنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعل ركوعه نحوا من قيامه، وسجوده نحوا من قيامه، أي قريبا منه، وذكر رحمه الله من ذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود أما صلاته، يعني النافلة، صلاة الليل، فإنه كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، فيقسم الليل ثلاثة أقسام، النصف الأول للنوم، ثم الثلث للقيام، ثم السدس للنوم، لأن هذا فيه راحة البدن، فإن الإنسان إذا نام نصف الليل أخذ حظا كبيرا من النوم، فإذا قام الثلث ثم نام السدس فإن التعب الذي حصل له في القيام يذهب بالنوم الذي في آخر الليل، ولكن مع هذا، إذا قام الإنسان في أي ساعة من الليل فإنه يرجى له أن ينال الثواب، هذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم هو الأحب إلى الله والأفضل، لكن يكفي أن تقوم الثلث الأخير أو الثلث الأوسط أو النصف الأول، حسب ما تيسر لك؟ قالت عائشة رضي الله عنها: من كل الليل أوتر النبي صلى الله عليه وسلم من أول الليل ووسطه وآخره.
فالأمر في هذا ولله الحمد واسع.
ثم ذكر الحديث الثالث: إن في الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يدعو الله تعالى بخير إلا أعطاه إياه.
وهذه الساعة غير معلومة بعينها، يعني: الله أعلم.
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا بهذا من أجل أن نجتهد، وأن نتحرى قدر الله عز وجل،(5/212)
وهذه الساعة كساعة يوم الجمعة مبهمة، وإن كانت ساعة يوم الجمعة أرجى ما يكون إذا حضر الإمام يعني الخطيب إلى أن تقضى الصلاة.
والله الموفق
1181 - وعنها رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع أو غيره، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة.
رواه مسلم..
1182 - وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من نام عن حزبه، أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل رواه مسلم.
1183 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله رجلا قام من الليل، فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء , رواه أبو داود.
بإسناد صحيح.(5/213)
1184 - وعنه وعن أبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا أو صلى ركعتين جميعا، كتبا في الذاكرين والذاكرات رواه أبو داود بإسناد صحيح.
1185 - وعن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا نعس أحدكم في الصلاة، فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس، لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه.
متفق عليه.
1186 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه، فلم يدر ما يقول، فليضطجع.
رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
هذه بقية الأحاديث التي نقلها النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في: باب فضل صلاة الليل، وتدل على أمور، الأمر الأول أن الإنسان إذا فاته قيام الليل فإنه يقضيه من النهار، ولكنه لا يوتر، لأن الوتر تختم به صلاة الليل وقد انتهت كما دل على(5/214)
ذلك حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا غلبه وجع أو غيره، يعني كالنوم فلم يصل في الليل، صلى في النهار ثنتي عشرة ركعة، لأنه عليه الصلاة والسلام، كان يواظب في أكثر أحيانه على إحدى عشرة ركعة، فكان يقضي ما هو الأكمل والأكثر، يقضي ثنتي عشرة ركعة، وعلى هذا فإذا كان من عادة الإنسان أنه يوتر بثلاث، ولم يقم، فإنه يقضي بالنهار أربعا، ولا يقضي ثلاثا، وإذا كان من عادته أن يوتر بخمس يقضي ستا وهلم جرا، ولكن متي يقضي؟ يقضيه فيما بين طلوع الشمس وارتفاعها إلى زوال الشمس، كما يدل على ذلك حديث عمر رضي الله عنه فيمن فاته ورده أو حزبه في الليل، أو شيء منه، أنه يقضيه في النهار بالضحى، فيقضي ذلك في الضحى، فإن نسي ولم يتذكر إلا بعد الظهر قضاه بعد الظهر، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها.
ومما دلت عليه هذه الأحاديث أن الإنسان إذا غلبه النوم وجاءه النعاس وهو يصلي فلا يصلي، وذلك لأنه ربما يذهب يستغفر لنفسه فيسب نفسه لأنه ينعس، وأيضا ربما يستعجم القرآن على لسانه، فيتكلم بالكلمة من القرآن على غير وجهها فيحرف القرآن، فأنت إذا كان من عادتك أن تصلي بالليل وجاءك النوم، فلا تجهد نفسك، نم حتى يزول عنك النعاس(5/215)
ثم استأنف القيام، فإن طلع الفجر فاقض الوتر في الضحى ولكن شفعا.
ومما تدل عليه هذه الأحاديث أنه ينبغي للإنسان إذا كان له أهل وقام من الليل أن يوقظ أهله، لكن حسن نشاط الأهل، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل فإذا لم يبق إلا الوتر أيقظ عائشة فأوترت، يعني ليس من اللازم أن توقظ أهلك معك، قد يكون أهلك ليسوا مثلك في النشاط البدني أو في النشاط النفسي، فلا توقظهم معك، ليس بلازم إلا إذا رأيت أنهم يرغبون، ولكن لا تنسهم من آخر الليل، يقومون ولو للوتر، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يقوم الليل ويصوم النهار ويعبد ربه حق عبادته.(5/216)
باب استحباب قيام رمضان وهو التراويح
1187 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه متفق عليه.
1188 - وعنه رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة، فيقول: من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
قال رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب استحباب قيام رمضان وهو التراويح سميت تراويح، لأن السلف الصالح رضي الله عنهم كانوا يقومون رمضان ويطيلون القيام والركوع والسجود، فإذا صلوا أربع ركعات يعني بتسليمتين استراحوا، وإذا صلوا أربعا استراحوا، ثم يصلون ثلاثا، وهذا يؤيده حديث عائشة رضي الله عنها السابق، كان يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا.(5/217)
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر فيه بعزيمة، يعني ما يلزم لكنه يرغب، يقول: من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه.
وقام النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ثلاث ليال في رمضان، يصلي بهم جماعة، ثم تأخر وقال: إني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها فتركه، وبقي الناس يأتون إلى المسجد يصلون الرجلين والثلاثة كل يصلي مع صاحبه، فخرج عمر ذات ليلة فوجدهم يصلون أوزاعا، فرأى رضي الله عنه بثاقب رأيه أن يجمعهم على إمام واحد، فأمر أبي بن كعب رضي الله عنه وآخر معه أن يصليا بالناس إحدى عشرة ركعة، فاجتمع الناس على إمام واحد في التراويح، وبقي المسلمون على هذا إلى يومنا هذا، لكن اختلف العلماء في عدد ركعات التراويح، فمنهم من قال: إحدى عشرة ركعة، ومنهم من قال: ثلاث عشرة ركعة، ومنهم من قال: ثلاث وعشرون ركعة، ومنهم من قال أكثر من ذلك، والأمر في هذا واسع لأن السلف الذين اختلفوا في هذا لم ينكر بعضهم على بعض، فالأمر في هذا واسع، يعني نحن لا ننكر على من زاد على إحدى عشرة ركعة، ولا على من زاد على ثلاث وعشرين ركعة.
ونقول: صل ما شئت ما دامت جماعة المسجد قد رضوا بذلك، ولم ينكر أحد.(5/218)
أما إذا اختلف الناس فالرجوع إلى السنة أولى، والسنة ألا يزيد على ثلاث عشرة ركعة لأن عائشة سئلت كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان؟ فقالت: كان لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة.
فأما مع عدم الخلاف فإنه يصلي ثلاثا وعشرين أو أكثر، ما دام الناس لم يقولوا خفف، فإذا قالوا: خفف فلا يزيد على إحدى عشرة، أو ثلاث عشرة ركعة.
والله الموفق(5/219)
باب فضل قيام ليلة القدر وبيان أرجى لياليها
قال الله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} إلى آخر السورة.
وقال تعالى {إنا أنزلناه في ليلة مباركة ...
} .
1189 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه متفق عليه.
1190 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها، فليتحرها في السبع الأواخر.
متفق عليه.
1191 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاوز في العشر الأواخر من رمضان ويقول: تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان متفق عليه.
1192 - وعنها رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تحروا ليلة القدر في(5/220)
الوتر من العشر الأواخر من رمضان.
رواه البخاري.
1193 - وعنها رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان، أحيا الليل كله، وأيقظ أهله، وجد وشد المئزر.
متفق عليه.
1194 - وعنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي العشر الأواخر منه، ما لا يجتهد في غيره.
رواه مسلم.
1195 - وعنها قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قال قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني.
رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب فضل ليلة القدر.
وليلة القدر سميت بذلك لوجهين:(5/221)
الوجه الأول: أنه يقدر فيها ما يكون في السنة من أعمال بني آدم وغيرها، ودليل ذلك قوله تعالى: إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم يعني: يفصل ويبين.
والوجه الثاني: أن ذلك الشرف، أي ليلة القدر، أي ليلة ذات الشرف لأن قدرها عظيم، ويدل لذلك قوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر..
} هذه الليلة & خصت بفضلها هذه الأمة، فكانت لها، ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم عرضت عليه أعمار أمته فتقاصرها، فأعطي ليلة القدر وجعلت هذه الليلة خيرا من ألف شهر، فإذا كان الإنسان له عشرون سنة، صار له عشرون ألف سنة في ليلة القدر، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة.
والله تعالى خص هذه الأمة وخص نبيها صلى الله عليه وسلم بخصائص لم تكن لمن سبقهم، فالحمد لله رب العالمين.
ثم ذكر المؤلف أحاديث وردت في ذلك، وأنها أي ليلة القدر في رمضان وأنها في العشر الأواخر منه، وأنها في أوتاره آكد، وأنها في ليلة سبع وعشرين آكد، لكن هي تنتقل في العشر يعني قد تكون هذه السنة ليلة إحدى وعشرين والسنة الثانية ليلة ثلاث وعشرين، والثالثة ليلة خمس وعشرين، أو سبع وعشرين، أو تسع وعشرين، أو أربع وعشرين أو ست وعشرين، أو اثنتين وعشرين، تنتقل لأنها ليست ليلة معينة دائما، لكن أرجى ما تكون ليلة سبع وعشرين ثم الأوتار، وأرجى العشر الأواخر السبع الأواخر منها، لأن جماعة من الصحابة أروا ليلة القدر في السبع الأواخر، فقال(5/222)
صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر وهذا يحتمل أنه كل عام أو أنه تلك السنة فقط، وعلى كل حال فهي في العشر الأواخر من رمضان.
وذكر المؤلف رحمه الله أحاديث عن عائشة رضي الله عنها، مما يدل على فضل هذه المرأة، وأنها حفظت لأمه محمد صلى الله عليه وسلم من سنته ما لم تحفظه امرأة أخرى من النساء، فهي رضي الله عنها أكثر النساء حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظت من شريعة الله وسنة رسوله ما لم تحفظه امرأة سواها فجزاها الله عن أمه محمد خيرا.
تقول عائشة للرسول صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن وافقت أو علمت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني.
والعفو: هو المتجاوز عن سيئات عباده، وهو سبحانه وتعالى عفو قدير، يعني يعفو مع المقدرة، ليس كبني آدم إذا عجز عن الشيء سامح، إنما يعفو مع القدرة جل وعلا، وهذا هو كمال العفو، وهو سبحانه وتعالى يحب العافين عن الناس، فمن عفا وأصلح فأجره على الله، وهو سبحانه يحب الذين يأخذون من الناس العفو، بل أمر بذلك فقال: {خذ العفو وأمر بالعرف} .
قال العلماء: معنى العفو يعني خذ ما عفي من الناس، يعني ما سهل منه خذه ولا تشد الحبل، فخذ العفو واترك ما وراء ذلك، وهذا من آداب القرآن أن الإنسان يكون واسع الصدر لبني آدم يأخذ العفو، فالشاهد أن أفضل ما تدعو به(5/223)
تقول: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني والله الموفق(5/224)
باب فضل السواك وخصال الفطرة
1196 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة متفق عليه.
1197 - وعن حذيفة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من النوم يشوص فاه بالسواك.
متفق عليه.
الشوص: الدلك.
1198 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم سواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك، ويتوضأ ويصلي.
رواه مسلم.
1199 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرت عليكم في السواك رواه البخاري.
1200 - وعن شريح بن هانئ قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: بأي شيء كان يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك.
رواه مسلم.
1201 - وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم(5/225)
وطرف السواك على لسانه.
متفق عليه.
وهذا لفظ مسلم.
1202 - وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب رواه النسائي، وابن خزيمة في صحيحه بأسانيد صحيحة.
وذكر البخاري رحمه الله في صحيحه هذا الحديث تعليقا بصيغة الجزم فقال: وقالت عائشة رضي الله عنها.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب فضل السواك وسنن الفطرة.
السواك هو: التسوك وهو دلك الأسنان واللثة واللسان بعود الأراك هذا السواك المعروف هو عود الأراك، ويحصل الفضل بعود الأراك أو بغيره من كل عود يشابهه، والصحيح أنه يحصل أيضا بالخرقة أو بالإصبع لكن العود أفضل، والسواك ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيه فائدتين عظيمتين كما في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب مطهرة للفم يعني: يطهر الفم من الأوساخ والأنتان وغير ذلك مما يضر وقوله للفم يشمل كل الفم الأسنان واللثة واللسان كما في حديث أبي موسى أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وطرف السواك على لسانه.
الفائدة الثانية: مرضاة للرب، أي أنه من أسباب رضا الله عن العبد أن يتسوك.(5/226)
وللسواك مواضع يتأكد فيها وإلا فهو مسنون كل وقت لكن يتأكد في مواضع معينة منها إذا قام من النوم فإنه يسن له أن يستاك لحديث حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك يعني يتسوك وكذلك يؤيده حديث عائشة أنهم كانوا يعدون له سواكه ووضوءه فإذا قام تسوك وتوضأ وصلى ما شاء الله ويسن عند القيام من النوم بالليل أو بالنهار لأن الفم يتغير فيسن أن يتسوك كذلك يسن إذا دخل الإنسان بيته أول ما يدخل يتسوك لأن عائشة سئلت أي شيء يبدأ به الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته قالت السواك.
ثالثا: يتسوك عند الصلاة ذهب ليصلي فريضة أو نافلة صلاة ذات ركوع أو سجود أو صلاة جنازة فإنه يسن أن يتسوك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة يسن السواك أيضا بتأكد عند الوضوء ومحله عند المضمضة أو قبل أو بعد لكنه عند الوضوء كما جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وألحق العلماء رحمهم الله ما إذا تغير فمه بأكل أو شرب لبن أو نحوه مما له دسم، فإنه يسن أن يتسوك لأنه يطهر الفم، وعلى كل حال فالسواك سنة ويتأكد في مواضع ولكنه من حيث السنية مشروع كل وقت حتى للصائم بعد الزوال فإنه كغيره يسن له أن يتسوك وأما من كره ذلك من أهل العلم فقوله لا دليل عليه والصحيح أن الصائم يتسوك أول النهار والله الموفق(5/227)
1203 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الفطرة خمس، أو خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وقص الشارب متفق عليه الاستحداد: حلق العانة، وهو حلق الشعر الذي حول الفرج.
1204 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء قال الراوي: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة قال وكيع وهو أحد رواته انتقاص الماء يعني: الاستنجاء رواه مسلم.
البراجم بالباء الموحدة والجيم، وهي: عقد الأصابع وإعفاء اللحية معناه: لا يقص منها شيئا.
1205 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
ساق المؤلف رحمه الله أحاديث خصال الفطرة في باب فضل السواك وخصال الفطرة.
والفطرة يعني التي فطر الخلق على استحسانها وأنها من الخير والمراد بذلك الفطر السليمة لأن الفطر المنحرفة لا عبرة بها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.
وذكر منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الفطرة خمس وفي لفظ خمس من الفطر فعلى اللفظ الأول يكون المعنى أن الفطرة هي هذه الخمس، وعلى الثاني يكون المعنى أن هذه الخمس من الفطرة وهناك أشياء أخرى غيرها من الفطرة، وهذا اللفظ أقرب إلى الواقع لأن الخمس التي ذكرت في حديث أبي هريرة يوجد شيء من الفطرة غيرها(5/228)
فيكون الأقرب أن لفظ الحديث خمس من الفطرة.
أما على اللفظ الأول على الحصر فقد يراد بذلك الفطرة تامة وأما الأخرى فتكون من الفطرة التي هي من مكملات الفطرة.
أولا: الختان: الذي يسمى عند الناس الطهارة وهو للرجال والنساء، أما الرجال فختانهم واجب، وأما النساء فختانهن سنة وليس بواجب وذلك أن الرجل إذا لم يختن وبقيت الجلدة التي فوق الحشفة فإنه يحتقن بها البول وتكون سببا في النجاسة لأنه إذا احتقن بها البول ثم حصل ضغط عليها خرج البول الذي صار بينها وبين الحشفة فتلوثت الثياب وتنجست ثم هي أيضا عند الكبر وعندما يصل الإنسان إلى حد الزواج يكون هناك مشقة شديدة عند الجماع فلذلك كان من الفطرة أن تقص هذه الجلدة ولهذا كان كثير من الكفار الآن يختتنون لا لأجل الطهارة والنظافة لأنهم نجس لكنهم يختتنون من أجل التلذذ عند الجماع وعدم المشقة هذه واحدة.
ومتى يكون الختان يكون الختان من اليوم السابع فما بعده، وكلما كان في الصغر فهو أفضل لأن ختان الصغير لا يكون فيه إلا الألم الجسمي دون الألم القلبي أما الكبير لو ختنا من له عشر سنوات مثلا فإنه يكون فيه ألم قلبي وجسمي ثم إن نمو اللحم ونبات اللحم وسرعة البرء في الصغار أكثر لهذا قال العلماء إن الختان في زمن الصغر أفضل وهو كذلك.
الثاني الاستحداد: يعني حلق العانة والعانة هي الشعر(5/229)
الخشن الذي ينبت حول القبل وهو من علامات البلوغ فمن الفطرة أن يحلق الإنسان هذا الشعر لأنه إذا طال فربما يتلوث بالنجاسة من أسفل أو من القبل ويحصل في ذلك وسخ وقذر ولأنه مضر وإن كان بعض الناس مثل البهائم يبقي العانة ويجعلها تزداد وتطول نسأل الله السلامة.
الثالث: قص الشارب: وهو الشعر النابت فوق الشفة العليا وحده: الشفة كل ما طال على الشفة العليا فهو شارب فهذا يحف لأن بقاءه & يكون فيه تلويث بما يخرج من الأنف من الأذى ثم عند الشرب أيضا يباشر الشعر المتلوث الماء فيقذره وربما يحمل ميكروبات مضرة وعلى كل حال فهو من السنة أهم شيء أنه من السنة والتقرب إلى الله عز وجل إذا حففته.
الرابع: قص الأظفار يعني تقليمها والمراد بذلك أظفار اليدين والرجلين ولا ينبغي أن نقص حتى يصل إلى اللحم لأن هذا يضر الإنسان وربما يحصل فيه خراج أو ما أشبه ذلك لكن نقصهما قصا معتدلا.
الخامس: نتف الإبط إذا كان فيه شعر فإنها تنتف ولا تقص ولا تحلق بل نتفها أولى لأن النتف يزيلها بالكلية ويضعف أصولها حتى لا تنبت فيما بعد وهذا أمر مطلوب شرعا.
هذه خمسة أشياء: الختان، الاستحداد، قص الشارب، تقليم الأظفار، نتف الإبط.
أما الختان فيفعل مرة واحدة وينتهي أمره، وهنا أنبه على مسألة وهي أن بعض الناس قد يولد مختونا، ليس له قلفة تجد(5/230)
الحشفة بارزة ظاهرة من حين أن يولد وشهدنا ذلك بأعيننا فهذا لا يختن ما بقى شيء يختن من أجله أما الأربع الباقية الاستحداد، قص الشارب تقليم الأظفار، نتف الإبط، فإنها لا تترك فوق أربعين يوما لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأمته بأن لا تترك هذه الأشياء فوق أربعين يوما فلها مدة محددة لا تتجاوزها، وأحسن ما يكون في ضبط الأربعين أن تجعل وقتا معينا، مثلا تقول أول جمعة من كل شهر أقوم بعملي هذا حتى لا تنسى لأنه أحيانا ينسى الإنسان وربما يمضي أربعون يوما، وخمسون يوما وما يذكر فإذا جعلت شيئا معينا بأن تقول مثلا أول جمعة من كل شهر أزيل هذه الأشياء الأربعة علمت الوقت ولكن هذا ليس بسنة إنما هو من أجل ضبط الوقت لفعل السنة وهو أن لا تتركها فوق الأربعين يوما.
ولا يحلق الشارب بالموسى حتى إن الإمام مالك رحمه الله قال: أرى أن يؤدب من حلق شاربه لأنه يشوه الخلقة ولأنه خلاف السنة السنة حفه أو تقصيره.
وفي الإبط الأصل النتف إلا أن بعض الناس يشق عليه النتف جدا فلا بأس من استخدام الأدهان وشبيهها.
1204 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص(5/231)
الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق الحانة وانتقاص الماء قال الراوي: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة قال وكيع وهو أحد رواته انتقاص الماء يعني الاستنجاء رواه مسلم.
البراجم بالباء الموحدة والجيم وهي عقد الأصابع وإعفاء اللحية معناه لا يقص منها شيئا..
1205 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
هذه بقية خصال الفطرة، وقد سبق حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الفطرة خمس: الختان والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وذكرنا أن الأربعة التي سوى الختان لا تترك فوق أربعين يوما لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقت ذلك.
أما حديث عائشة ففيه أن الفطرة عشر خصال منها ما سبق في حديث أبي هريرة ومنها ما ذكر في حديث عائشة دون حديث أبي هريرة فمن ذلك إعفاء اللحية فإنه من الفطرة وفي حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعفاء اللحى.
واللحية قال أهل اللغة إنها شعر الوجه واللحيين يعني: العوارض(5/232)
وشعر الخدين فهذه كلها من اللحية وأما الشارب فقد سبق الكلام عليه وإعفاء اللحية يعني إرخاءها وإطلاقها وتركها على ما هي عليه هذا من الفطرة التي فطر الله الناس عليها وعلى استحسانها وعلى أنها من علامة الرجولة بل ومن جمال الرجولة، وعلى هذا فلا يجوز للإنسان أن يحلق لحيته فإن فعل فقد خالف طريق النبي صلى الله عليه وسلم وعصى أمره ووقع في مشابهة المشركين والمجوس لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خالفوا المجوس أو المشركين وفروا اللحى وحفوا الشوارب ولم يكن الناس يعرفون هذا يعني لم يكن المسلمون يعرفون حلق اللحية بل كان بعض الغلاة الظلمة إذا أرادوا أن يعزروا شخصا حلقوا لحيته وهذا حرام عليهم لأنه لا يجوز التعزير بمحرم لكن يقاس به أنهم كانوا يعدون حلق اللحية مثلة وتعزيرا وعذابا أما بعد أن استعمر الكفار ديار المسلمين في مصر والشام والعراق وغيرها وأدخلوا على المسلمين هذه العادة السيئة وهي حلق اللحية صار الناس لا يبالون بحلقها بل كان الذي يعفي لحيته مستنكرا من بعض البلاد الإسلامية وهذه لا شك أنها معصية للرسول صلى الله عليه وسلم ومن يعص الرسول صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله ومن يطع الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله وإذا ابتلى الإنسان بأحد من أقاربه يحلق لحيته فالواجب عليه أن ينصحه ويبين له الحق أما هجره فهذا حسب المصلحة إذا كان هجره يفيد في ترك المعصية فليهجره وإن(5/233)
كان لا يفيد أو لا يزيد الأمر إلا شدة فلا يهجره لأن الهجر دواء يستعمل حيث ينفع وإذا لم ينفع فإن الأصل تحريم هجر المؤمن لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يحل للمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام.
ومما زيد في هذا الحديث الاستنشاق، الاستنشاق من الفطرة لأنه تنظيف وإزالة لما في الأنف فهو طهارة والاستنشاق يكون في الوضوء ويكون في غير الوضوء كلما احتجت إلى تنظيف الأنف فاستنشق الماء ونظف أنفك وهذا يختلف باختلاف الناس من الناس من لا يحتاج إلى هذا إلا في الوضوء ومن الناس من يحتاج إليه كثيرا ومن ذلك أيضا أي من سنن الفطرة المضمضة فإنها من الفطرة لأن فيها تنظيف الفم والفم يحتاج إلى تنظيف لأنه يمر به الأكل والدهن وما أشبه ذلك فيحتاج إلى تنظيف فكانت المضمضة من خصال الفطرة.
ومن ذلك أيضا الاستنجاء وقد فسر وكيع انتقاص الماء بأنه الاستنجاء لأن الاستنجاء تنظيف وتطهير وإزالة أذى.
ومن ذلك أيضا غسل البراجم، والبراجم قال العلماء إنها مسقط الأصابع فإن مسقط الأصابع من الباطن يحتاج إلى تنظيف أكثر من(5/234)
ظاهرها لأن ظاهرها ممسوح ما فيه شيء يحتاج إلى تنظيف أكثر.
وفي هذا الحديث دليل على أن إعفاء اللحية مع كونه مخالفة للمشركين من خصال الفطرة فيندفع بذلك شبهة من شبه وقال: إن من الكفار اليوم من يعفي لحيته أفلا يليق بنا أن نخالفهم ونحلق اللحى؟ انظر والعياذ بالله من الشيطان.
فنقول: إن إعفاءهم اللحى تبع للفطرة ونحن مأمورون بالفطرة وإذا شابهونا هم بالفطرة فإنا لا نمنعهم ولا ينفع أن نعدل عن الفطرة من أجل أنهم وافقونا فيها كما أنهم إذا وافقونا في تقليم الأظفار فإننا لا نقول نترك تقليم الأظفار بل نقلمها وهكذا بقية الفطرة إذا وافقنا فيها الكفار فإننا لا نعدل عنها والله الموفق.
ولنعلم أن الإكثار من استخدام الماء في الوضوء أو الغسل داخل في قول الله تعالى: ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ولهذا قال الفقهاء رحمهم الله يكره الإسراف ولو كان على نهر جار فكيف إذا كان على مكائن تستخرج الماء فالحاصل أن الإسراف في الوضوء وغير الوضوء من الأمور المذمومة.(5/235)
باب تأكيد وجوب الزكاة وبيان فضلها وما يتعلق بها
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب تأكيد وجوب الزكاة وبيان فضلها وما يتعلق بها.
الزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه: بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله , أن محمد رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والله سبحانه وتعالى يذكرها كثيرا مع الصلاة في القرآن الكريم، ولهذا اختلف العلماء رحمهم الله هل تاركها يكفر كما يكفر تارك الصلاة أم لا؟ على قولين.
والزكاة هي: التعبد لله تعالى في دفع مال مخصوص من أموال مخصوصة هذا المال المخصوص مقدر: ربع العشر، نصف العشر، العشر.
وكذلك يدفع لطائفة مخصوصة كما سيأتي إن شاء الله والزكاة لها فوائد عظيمة منها تكميل إسلام العبد لأنها أحد أركان الإسلام وهي أفضل من الصدقة يعني لو أدى الإنسان مائة ريال زكاة أو مائة ريال صدقة تطوع كانت مائة ريال الزكاة أحب إلى الله عز وجل وأفضل(5/236)
ومنها أن الإنسان يخرج بها عن دارة البخلاء إلى دائرة الكرماء لأنها بذل مال والبخل إمساك المال فإذا بذلها الإنسان خرج من كونه بخيلا إلى كونه كريما ومنها مضاعفة الحسنات لأن الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله مثلهم كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة يعني: ريال بمائة ريال أو أكثر ومنها أن فيها جبرا لقلوب الفقراء ودفعا لحاجتهم وحماية من غضبهم لأن الفقراء إذا لم يعطوا من مال الأغنياء ربما يغضبون ويتجرءون ويكرهون الأغنياء ويرون أنهم في واد والأغنياء في واد والأمة الإسلامية أمة واحدة يجب أن يعتقد كل إنسان أنه لبنة في سور قصر مع إخوانه المسلمين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ومنها أنها سبب في شرح الصدر لأن الإنسان كلما بذل شيئا من ماله شرح الله له صدره وهذا شيء مجرب وواقع لو يتصدق الإنسان بأدنى من واجب الزكاة لوجد في صدره انشراحا وفي قلبه محبة للخير ومنها أنها تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء وهذه فائدة عظيمة تدفع ميتة السوء يعني الإنسان يموت على أحسن حال(5/237)
وحسن الخاتمة أحسن الله لي ولكم الخاتمة أعز ما يكون على الإنسان لأنه وقت فراق الدنيا إلى الآخرة والشيطان أحرص ما يكون على بني آدم عند الموت لأنها هي الساعة الحاسمة إما من أهل النار أو من أهل الجنة وفي حديث ابن مسعود: إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها فالأعمال بالخواتيم والصدقة وعلى رأسها الزكاة تدفع ميتة السوء ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة فالناس تكون الشمس فوق رءوسهم قدر ميل وهؤلاء المتصدقون وعلى رأس صدقاتهم الزكاة يكونون في ظل صدقاتهم يوم القيامة.
وحكى لي بعض الصلحاء أن رجلا كان يمنع أهله من الصدقة من البيت يقول: لا تتصدقوا وفي يوم من الأيام نام ورأى في المنام كأن الساعة قد قامت ورأى فوق رأسه ظلا يظله من الشمس إلا أن فيه ثلاثة خروق يقول: فجاءت تمرات فسدت هذه الخروق فتعجب(5/238)
كيف الثوب متخرق وتجيء التمرات تسد الخروق فلما قصها على زوجته أخبرته أنها تصدقت بثوب وثلاث تمرات فكان الكساء الأول هو الثوب لكنه مخرق فجاءت التمرات الثلاث فسدت الخروق ففرح بذلك وأذن لها بعد هذا أن تتصدق بما شاءت فالحاصل أن هذه الرؤيا مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة ومنها أنها تلين القلب وصدقات التطوع تلين القلب حيث إن الإنسان يعطيها الفقراء المحتاجين فيلين قلبه ويرحمهم وفي ذلك تعرض لرحمة الله لأن الله إنما يرحم من عباده الرحماء ولها فوائد كثيرة قد يطول في المقام ذكرها.
وسيأتي إن شاء الله الكلام على الآيات التي ذكرها المؤلف والله الموفق.
قال الله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} وقال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} وقال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} .
[الشَّرْحُ]
قال النووي رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب تأكيد وجوب الزكاة وبيان فضلها وما يتعلق بها ثم ذكر آيات ثلاث الآية الأولى(5/239)
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فإقامة الصلاة أن تأتي بها مستقيمة على الوجه الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وإيتاء الزكاة هو إعطاؤها لمستحقها وقد سبق بيان معنى الزكاة وبيان فوائدها ما يسر الله تعالى.
ثم ذكر الآية الثانية وهي قوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} {وما أمروا} يعني بذلك الناس {إلا ليعبدوا الله} أي يتذللوا له بالعبادة بكل ما تعبدهم به من عقيدة أو قول أو عمل {مخلصين له الدين} أي مخلصين له العمل وإخلاص العمل لله ألا يبتغي الإنسان شيئا بعلمه سوى الله عز وجل لا يبتغي به دنيا ولا جاها ولا رئاسة ولا غير ذلك لا يريد إلا ثواب الله وقوله {حنفاء} يعني مائلين عن الشرك إخلاص بلا إشراك وقوله {ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة} وهذا هو الشاهد في قوله {ويؤتوا الزكاة} وقوله {وذلك دين القيمة} {وذلك} أي عبادة الله تعالى مخلصين له الدين وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة {دين القيمة} أي دين الملة القيمة فهو العمل المرضي عند الله عز وجل وقال سبحانه {خذ من أموالهم صدقة} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم {خذ من أموالهم صدقة} يعني بذلك الزكاة {تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم} تطهرهم من الذنوب والأخلاق الرذيلة أما كونها تطهر من الذنوب فلقوله(5/240)
صلى الله عليه وسلم: الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وأما كونها تطهر الأخلاق الرذيلة فلأنها تلحق الإنسان بالكرماء والمحسنين بما يبذله من أموال الزكاة لمستحقيها {وتزكيهم بها} أي تنمي أخلاقهم بعد التطهير من الأخلاق الرذيلة تنمي الأخلاق الفاضلة {وتزكيهم بها} تزكيهم أيضا دينا فهي تزكية دين وتزكية أخلاق {وصل عليهم} أي ادع لهم بالصلاة عليهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوما بصدقة قال لهم: اللهم صل عليهم امتثالا لأمر الله {إن صلواتك سكن لهم} صلاتك عليهم يعني دعاءك لهم بالصلاة مسكن لهم تسكن إليه نفوسهم وتطمئن قلوبهم وتنشرح صدورهم ويسهل عليهم بذل المال {والله سميع عليم} ففي هذه الآيات الثلاث دليل على وجوب الزكاة وأنها من أفضل الأعمال وسيأتي إن شاء الله الأحاديث.
1206 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان متفق عليه.
1207 - وعن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله(5/241)
صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته، ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة قال: هل علي غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطوع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وصيام شهر رمضان قال: هل علي غيره، قال: لا، إلا أن تطوع قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة فقال: هل علي غيرها قال: لا، إلا أن تطوع فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق متفق عليه.
1208 - وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن فقال: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث الثلاثة ذكرها النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب تأكيد وجوب الزكاة أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما وهو(5/242)
قول النبي صلى الله عليه وسلم: بني الإسلام..
..
فقد تقدم الكلام عليه مفصلا ولا حاجة إلى إعادته وأما حديث طلحة بن عبيد الله في قصة الرجل النجدي الذي جاء ثائر الرأس يسمعون صوته ولا يفقهون ما يقول وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فذكر له خمس صلوات وصيام رمضان والزكاة ولم يذكر شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لعلمه صلى الله عليه وسلم بأنه قد نطقها وشهد بها لأنه جاء مسلما لكن يريد أن يستفسر عن تفاصيل بعض الأشياء وفيه قوله صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل لما ذكر صلى الله عليه وسلم خمس صلوات وصيام رمضان والزكاة وقال الرجل هل علي غيرها قال: لا، إلا أن تطوع فدل هذا على أنه لا يجب في اليوم والليلة أكثر من خمس صلوات، فالوتر ليس بواجب لكنه سنة مؤكدة وتحية المسجد ليست بواجبة لكنها سنة مؤكدة وصلاة العيدين ليست بواجبة لكنها سنة مؤكدة وكذلك أيضا ما اختلف فيه العلماء.
هكذا ذهب بعض أهل العلم وجعل هذا الحديث أصلا في عدم وجوب ما ذكر ولكن عند التأمل تجد الحديث ليس فيه دليل على ذلك يعني أنه لا يدل على عدم وجوب تحية المسجد وعلى عدم وجوب صلاة العيد وما أشبهها لأن هذه الصلوات لها أسباب عارضة تجب بوجود أسبابها إلا أن القول الراجح أن تحية المسجد ليست بواجبة ولكنها سنة مؤكدة أما صلاة العيد فواجبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر حتى الحيض من النساء وذوات الخدور والعواتق أن يخرجن ويصلين إلا أن الحيض يعتزلن المصلى، وأما الوتر(5/243)
فنعم في الحديث دليل على أنه ليس بواجب لأن الوتر يتكرر يوميا فلو كان واجبا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل فالصواب أن الوتر سنة مؤكدة وليس بواجب لو تركه الإنسان لا يأثم لكن من داوم على تركه سقطت عدالته قال الإمام أحمد رحمه الله من ترك الوتر فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة.
وأما صيام رمضان تعم لا يجب على الإنسان أن يصوم غيره اللهم إلا إن نذر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من نذر أن يطيع الله فليطعه.
وأما الزكاة فلا يجب غيرها أيضا في المال إلا ما كان له سبب كالنفقة على الزوجة والأقارب وما شابه ذلك مما له سبب معين يجب بوجوب السبب.
وأما قول الرجل لما أدبر والله لا أزيد على هذا ولا أنقص عاهد الله عهدا بيمين ألا يزيد على هذا ولا ينقص فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق، أفلح إن صدق وهذا دليل على أن الإنسان إذا اقتصر على الواجب في الشرع فإنه مفلح ولكن لا يعني هذا أنه لا يسن أن يأتي بالتطوع لأن التطوع تكمل به الفرائض يوم القيامة وكم من إنسان أدى الفريضة وفيها خلل وفيها خروق وفيها خدوش تحتاج إلى تكميل وإلى رتق الصدع.
أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما في بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى(5/244)
اليمن فقد سبق الكلام عليه أيضا فلا حاجة إلى إعادته لكن فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فهذا هو الشاهد في هذا الباب والله الموفق.
1209 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله متفق عليه.
1210 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه وكفر من كفر من العرب فقال عمر رضي الله عنه كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله؟ فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، قال عمر رضي الله عنه: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق متفق عليه..(5/245)
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث التي ساقها المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب تأكيد وجوب الزكاة وبيان فضلها ذكر منها ما سبق الكلام عليه وذكر منها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.
قوله (أمرت) الآمر له هو الله عز وجل وفي هذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم عبد مأمور مكلف يؤمر وينهى كما يؤمر وينهى سائر الناس لأنه عبد من عباد الله عليه الصلاة والسلام ليس ربا ولا يملك شيئا من حقوق الربوبية بل هو عبد يؤمر وينهى وربما يحصل له أكبر من ذلك لقول الله تبارك وتعالى له عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين وكقوله تعالى {لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم} يعاتبه ربه عز وجل ويقول له سبحانه وتعالى {واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} فمن زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم له شيء من الربوبية وأن ينفع ويضر ويجيب الدعوة ويكشف السوء فقد أشرك بالله وكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
يقول عليه الصلاة والسلام: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا(5/246)
إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة يقاتل من امتنع عن واحدة من هذه الأربع: من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ومن إقامة الصلاة ومن إيتاء الزكاة يقاتلهم حتى يذعنوا ويرضخوا لهذه الأربع فإذا فعلوا ذلك يعني شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل يعني: إذا فعلوا ذلك فقد استسلموا ظاهرا فيعصمون دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله، لأن من الناس من يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة وقلبه منطوي على الكفر ولهذا قال: حسابهم على الله فالمنافقون يقولون: لا إله إلا الله لكن لا يذكرون الله إلا قليلا ويقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم نشهد إنك لرسول الله ويقيمون الصلاة ولكن لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ويتصدقون ولكن لا ينفقون إلا وهم كارهون ومع ذلك قلوبهم منطوية على الكفر نسأل الله العافية ولهذا قال: وحسابهم على الله عز وجل.
ثم ذكر رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه في تحاور أبي بكر الصديق رضي الله عنه الخليفة الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب الخليفة الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة دينية مع أن كل واحد منهما يحب الآخر حبا عظيما لكن هذه المحبة لا تمنع من المحاورة والمراجعة الدينية لأن الدين فوق كل شيء لما كان أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم باختيار الصحابة له أن يكون الخليفة بعد الرسول(5/247)
وكذلك بإشارة الرسول صلى الله عليه وسلم إليه حيث خلفه عنه في الحج وهي إمامة كبرى بالنسبة للناس وفي الصلاة وهي إمامة صغرى لأن أمير الحج يؤم من الناس أكثر ما يؤمه أمير المسجد خلفه النبي صلى الله عليه وسلم إماما للمسجد حين مرض وخلفه في الحج بالناس عام تسع من الهجرة واتفق الصحابة بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم على أن الخليفة من بعده أبو بكر ارتد من ارتد من العرب والعياذ بالله وقد أشار الله إلى ذلك في قوله {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} وقد حصل ارتد من ارتد من العرب ومنعوا الزكاة وكفروا بالله فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه فحاوره عمر قال: كيف تقاتل الناس؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وهذا هو الذي سمعه عمر من النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فإن ابنه سمع من الرسول أكثر من ذلك، سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة لكن عمر روى ما سمع: (حتى يقولوا لا إله إلا الله) فقال أبو بكر: (والله لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة، الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا يعني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على ذلك) وهذا دليل على حزمه رضي الله عنه حزم أبي بكر مع أنه ألين من عمر لكن في مواقف الشدة والضيق يكون أبو بكر أحزم من عمر.
نضرب لكم أمثلة منها هذا المثال: عمر رأى ألا يقاتل الناس لكن بعد مراجعة أبي بكر له علم أنه الحق لما رأى أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال وهو(5/248)
الخليفة من بعد الرسول عرف أنه الحق إذ إن الله سبحانه وتعالى لم يشرح صدر هذا الخليفة الراشد (أول خليفة في الأمة الإسلامية) إلا لحق عرف أنه الحق لما شرح الله صدر أبي بكر له هذا موقف صار أبو بكر أجلد من عمر وأشد وأثبت.
والموضع الثاني: لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم أظلمت المدينة واضطرب الناس وصار يوما عظيما واجتمع الناس في المسجد وقام عمر وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت ولكنه صعد يعني غشي عليه وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم اهتز قلبه يقولها بجد وحزم وكان أبو بكر رضي الله عنه حين مات الرسول صلى الله عليه وسلم خارج المدينة في حائط له فذهبوا فأخبروه أخبروا أبا بكر فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وكشف عن وجهه وقد غطي عليه الصلاة والسلام كشف عن وجهه وقبله وقال: بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا والله لا يجمع الله عليك موتتين أما الموتة الأولى فقد متها ثم خرج إلى الناس وإذا عمر يتكلم ينكر ويقول: (ما مات غشي عليه وليبعثنه الله) فقال أبو بكر: (على رسلك) يعني أرفق فجلس عمر أو بقي قائما فصعد أبو بكر المنبر وخطب الناس خطبة عظيمة بليغة في هذا المقام الضنك قال: (أما بعد أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات رضي الله عنه وهو أشد الناس فجيعة به ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم تلا قوله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون} وقوله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا}(5/249)
يقول عمر: (حتى عثرت فما تقلني رجلاي يعني: لا يقدر أن يقف فجلس لأنه علم أن هذا هو الحق فانظر إلى ثبات أبي بكر في هذا المقام.
أما الموضع الثالث: فهو في صلح الحديبية صلح الحديبية فيه شروط ظاهرها أنه فيه غضاضة على المسلمين منها: أن من جاء من قريش مسلما انتبه من جاء من قريش مسلما رده الرسول إلى قريش ومن ذهب من المسلمين إلى قريش فلا يلزمهم رده.
هذا الشرط ظاهره أنه إجحاد عجز عمر فلا يقدر على هذا فقال: (يا رسول الله كيف؟ كيف؟ من خرج منهم مسلما وجاء مهاجرا إلينا نرده، ومن ذهب منا لا يردونه كيف نعطي الدنية في ديننا ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال: بلى لكن هذا أمر الله وأنا عبد الله ورسوله ولن أعصي الله وسينصرنا الله عز وجل فعجز عمر فذهب إلى أبي بكر يستنجد به لعله يشير على الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم الموافقة فكان جواب أبي بكر رضي الله عنه كجواب الرسول صلى الله عليه وسلم حرفا بحرف مواقف عظيمة في هذا المقام الضنك قال: إنه لرسول الله وإن الله ناصره فاستمسك بغرزه يقول لعمر يعني: احذر أن تخالفه فإنه على الحق.
في هذه المواقف الثلاثة العظيمة تبين ثبات أبي بكر رضي الله عنه وأنه(5/250)
أثبت الصحابة وأحق الصحابة بالخلافة وأحزمهم وأعقلهم وهكذا يتبين حال الإنسان الثابت الذي ينظر إلى الأمور من بعيد ويسبر غورها والإنسان الذي عنده غيرة لكنه لا يريد أن يتعجل فالتعجل قد يكون فيه غرر.
المهم من هذا الحديث أو الفائدة منه في هذا الباب الذي بوبه النووي رحمه الله في رياض الصالحين أن من امتنع عن الزكاة وجب على الإمام قتاله حتى يؤدي الزكاة والله الموفق.
1211 - وعن أبي أيوب رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني بعمل يدخلني الجنة، قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم متفق عليه.
1212 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا متفق عليه.(5/251)
1213 - وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث الثلاثة في باب تأكيد وجوب الزكاة وبيان فضلها حديث أبي أيوب وأبي هريرة وجرير وكلها تدل على ما سبق من أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من فرائض الإسلام وفي حديث أبي أيوب زيادة وتصل الرحم والرحم: هم القرابة من جهة الأب أو من جهة الأم وصلتهم بما جرى به العرف والعادة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين كيفية الصلة، وكل شيء جاء في الكتاب والسنة ولم يبين فإن مرجعه إلى عادة الناس وعرفهم وهذا يختلف باختلاف الأحوال واختلاف الأزمان واختلاف البلدان ففي حالة الحاجة والفقر وشدة المؤونة تكون صلتهم بإعطائهم ما يتيسر من المال وما يسد حاجتهم وكذلك إذا كان هناك مرضي في القرابة فإن صلتهم أن تعودهم وتتكرر عليهم بحسب ما فيهم من مرض وبحسب القرابة , وإذا كانت الأمور ميسرة وليست هناك حاجة كما في عرفنا اليوم، فإنه يكفي أن تصلهم بالهاتف أو بالمكاتبة أو في المناسبات البعيدة كالأعياد وغير ذلك، والمهم أن صلة الرحم واجبة، ولكن غير محددة في الشرع فيرجع فيها على ما جرى به العرف وتعارفه الناس بينهم(5/252)
وأما في حديث جرير بن عبد الله ففيه زيادة على ما سبق من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة النصح لكل مسلم أن الإنسان ينصح لكل مسلم بحيث يعامله كما يعامل نفسه وكما يحب أن يعامله الناس فلا يشتمه ولا يقذفه ولا يخدعه ولا يغشه ولا يخونه ويكون له ناصحا من كل وجه وإذا استشاره في شيء وجب عليه أن يشير عليه بما هو الأصلح له في دينه ودنياه وقد ذكر أن جرير بن عبد الله رضي الله عنه حينما بايع النبي صلى الله عليه وسلم على هذه البيعة النصح لكل مسلم ذكر عنه أنه اشترى فرسا من شخص بثمن ثم إنه لما ركبه ورأى الفرس لقاه جيدا فرجع إلى البائع وقال: (إن فرسك هذا يساوي أكثر فزاده إلى أن زاده قسطا بثمن الأول مرة أو مرتين) لأنه بايع النبي صلى الله عليه وسلم على (النصح لكل مسلم) فعلى المرء أن يكون واصلا لرحمه وأن يكون ناصحا لإخوانه المسلمين وفي حديث تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدين النصيحة ثلاث مرات قالوا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم والله الموفق
1214 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من صاحب ذهب، ولا فضة، لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له(5/253)
صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه، وجبينه، وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار.
قيل: يا رسول الله فالإبل؟ قال: ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها، حلبها يوم وردها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت، لا يفقد منها فصيلا واحدا، تطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أولاها، رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار.
قيل: يا رسول الله فالبقر والغنم؟ قال: ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاع قرقر، لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء، ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار.
قيل: يا رسول الله فالخيل؟ قال: الخيل ثلاثة: هي لرجل وزر، وهي لرجل ستر، وهي لرجل أجر، فأما التي هي له وزر فرجل ربطها رياء وفخرا ونواء على أهل الإسلام، فهي له وزر وأما التي هي له ستر فرجل ربطها في سبيل الله ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها فهي له ستر وأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج أو روضة فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات ولا تقطع طولها فاستنت شرفا أو شرفين إلا كتب الله(5/254)
له عدد آثارها وأرواثها حسنات ولا مر بها صاحبها على نهر فشربت منه ولا يريد أن يسقيها إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات.
قيل: يا رسول الله فالحمر؟ قال: ما أنزل علي في الحمر شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} متفق عليه.
وهذا لفظ مسلم.
ومعنى القاع: المكان المستوى من الأرض الواسع والقرقر: الأملس.
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث الذي أورده المؤلف رحمه الله في باب تأكيد وجوب الزكاة وبيان فضلها وهو حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم مطولا فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والخيل والحمر وذكر حكم كل منها عليه الصلاة والسلام وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يبين للناس بيانا شافيا كافيا حتى ترك أمته وقد أكلم به لله الدين وأتم به النعمة على المؤمنين فقال صلى الله عليه وسلم: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمى عليها في نار جهنم فيكوى به جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، ثم يرى سبيله إما إلى(5/255)
الجنة وإما إلى النار فالذهب والفضة تجب الزكاة في أعيانهما في كل حال، فالزكاة واجبة في أعيان الذهب والفضة في كل حال سواء أعدها الإنسان للنفقة أو للزواج أو لشراء بيت يحتاج إلى سكناه أو شراء سيارة يحتاج إلى ركوبها أو ادخرهما ليستكثر بهما المال أو غير ذلك ففيهما الزكاة تجب على كل حال حتى ذهب المرأة الذي تلبسه والفضة التي تلبسها تجب عليها الزكاة تجب الزكاة فيها على كل حال لكن لابد من بلوغ النصاب وهو في الذهب خمسة وثمانون جراما ونصف جرام، والفضة خمسمائة وخمسة وتسعون جراما، فإذا كان عند الإنسان من الفضة هذا المقدار ومن الذهب ذلك المقدار وجب عليه الزكاة على كل حال فإن لم يفعل فجزاؤه ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار لا من ذهب وفضة، من نار والعياذ بالله قطع نارية ويحمي عليها في نار جهنم ونار جهنم فضلت على نار الدنيا كلها بتسعة وستين جزءا نار الدنيا كلها حتى نار الغاز وما هو أشد حرارة نار جهنم فضلت عليها بتسعة وستين جزءا نسأل الله أن يجيرنا وإياكم منها يحمى عليها في نار جهنم فيكوى به جنبه يعني الجنب الأيمن والأيسر وجبينه يعني وجهه وظهره واضح معناه كلما بردت أعيدت لا تبقى حتى تبرد وتسكت عنه، كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ليس ساعة ولا ساعتين ولا شهرا ولا شهرين ولا سنة ولا سنتين خمسون ألف سنة وهو يعذب هذا العذاب والعياذ بالله حتى يقضى بين العباد ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار نسأل الله العافية.(5/256)
وعلى هذا يكون هذا الحديث كالتفسير لقول الله تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ومعنى يكنزونها أي: لا يؤدون زكاتها، كما فسرها بذلك أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم لأن ما لا يؤدى زكاته فهو كنز، ولو كان على رؤوس الجبال، وما تؤدى زكاته فليس بكنز ولو كان في باطن الأرض فالكنز ما لا تؤدى زكاته.
{يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم} وهذا عذاب وألم جسدي ويعذبون عذابا قلبيا فيقال لهم {هذا ما كنزتم لأنفسكم فذقوا ما كنتم تكنزون} فيحصل لهم العذاب الجسدي والعذاب القلبي بالتوبيخ والتأنيب فكيف يكون قلبه في تلك الساعة وهو يقال له هذا ما كنزت لنفسك سيتقطع قلبه ألم جسدي وألم قلبي والعياذ بالله هذا جزاء من لا يؤدي الزكاة من الذهب أو الفضة وما قام مقام الذهب والفضة بالنقدية فله حكمه وعلى هذا فمن عنده أوراق تساوي هذا المبلغ من الذهب والفضة فعليه أن يزكي عنها ومعاملة الناس الآن في غالب الدول كلها بالأوراق فئة ريال فئة خمسة فئة عشرة..
..
هذه الأوراق تقوم مقام الذهب والفضة لأنها جعلت بدلا عنها في التعامل بين الناس فإذا ملك الإنسان أوراقا تساوي هذا القدر من الفضة فعليه زكاته يعني تساوي (56) ريالا عربيا من الفضة فعليه الزكاة، ومعلوم أن الفضة ترتفع أحيانا وتنزل أحيانا، فيقدر قيمتها إذا(5/257)
وجبت عليه الزكاة فإذا بلغت النصاب أي (56) ريالا من الفضة فعليه زكاته، ومقدار الزكاة ربع العشر.
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الإبل والبقر والغنم وجعل من حق الإبل حلبها يوم وردها إذا وردت على الماء فإنها تحلب وجرت العادة أنهم يحلبونها ويتصدقون بها على الحاضرين هذا من حقها لأن الإبل روايا كبيرة فيها ألبان فإذا وردت الماء درت وإذا درت صار فيها فضل كبير من اللبن فإذا جاء الفقراء يوزع عليهم هذا من حقها.
وذكر عليه الصلاة والسلام الخيل وأنها ثلاثة أنواع أجر وستر ووزر.
أما الحمر فإنه قال: لم ينزل علي فيها شيء، إلا هذه الآية الجامعة الفاذة {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} فإن استعملت الحمير في خير فهو خير وإن استعملتها في شر فهي شر والله أعلم.(5/258)
باب وجوب صوم رمضان وبيان فضل الصيام وما يتعلق به
قال الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} إلى قوله تعالى {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} الآية.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب وجوب صوم رمضان وبيان فضل الصوم وما يتعلق به.
ذكره رحمه الله بعد الكلام على الزكاة لأن هذا هو الترتيب الذي جاء في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسألة جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأماراتها.
صوم رمضان: هو التعبد لله سبحانه وتعالى بترك الأكل والشرب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس هذا هو الصيام أن يتعبد الإنسان لله بترك هذه الأشياء لا أن يتركها على العادة أو من أجل البدن ولكنه يتعبد لله بذلك يمسك عن الطعام والشراب والنكاح وكذلك سائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس من هلال رمضان إلى هلال شوال.(5/259)
وصيام رمضان أحد أركان الإسلام هذه منزلته في دين الإسلام وهو فرض بإجماع المسلمين لدلالة الكتاب والسنة على ذلك.
ثم ذكر المؤلف الآيات التي تدل على هذا فقال: يا أيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون فوجه الله الخطاب للمؤمنين لأن صيام رمضان من مقتضيات الإيمان ولأن صيام رمضان يكمل به الإيمان ولأن ترك صيام رمضان ينتقص به الإيمان.
واختلف العلماء فيما لو تركه تهاونا أو كسلا هل يكفر أم لا؟ والصحيح أنه لا يكفر وأنه لا يكفر الإنسان بترك شيء من أركان الإسلام سوى الشهادتين والصلاة وقوله تعالى: {كتب عليكم الصيام} أي: فرض وقوله {كما كتب} أي: كما فرض {على الذين من قبلكم} وإنما ذكر الله تعالى أنه فرض على من قبلنا ولم يذكر مثل ذلك في الصلاة لأن الصيام فيه مشقة فيه تعب فيه ترك المألوف ولا يخفى أنه في أيام الحر وطول النهار يكون شديدا على النفوس فذكر الله أنه فرضه على من قبلنا تسلية لنا لأن الإنسان إذا علم أن هذا الشيء له ولغيره هان عليه وذكره أيضا من أجل أن يبين أنه جل وعلا أكمل لنا الفضائل كما أكمل لمن سبقنا ما شاء من الفضائل.
وقوله: {لعلكم تتقون} أي: لأجل أن تتقوا الله، لأن الصيام جنة.
يقيك من المعاصي، ويقيك من النار لأن من صام رمضان إيمانا(5/260)
واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه {لعلكم تتقون} أي من أجل التقوى وهذه هي الحكمة من إيجاب الصوم ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه لأن الله لم يرد أن يعذب العباد بترك ما يشتهون ويألفون ولكنه أراد أن يدعوا قول الزور والعمل به والجهل.
ثم قال: {أياما معدودات} ذكرها على وجه التقرير ليبين أن المسألة ليست شهورا ولا سنوات ولكنها أيام وليست طويلة أياما معدودات.
{فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} وهذا أيضا تفسير آخر، أولا: الأيام قليلة أيام معدودة ثانيا: أن من كان يشق عليه الصوم أو سافر فإنه يفطر وعليه عدة من أيام أخر.
{وعلى الذين يطيقونه} وهم مقيمون {فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم} هذا في أول الأمر أول ما فرض الله الصوم قال للذين يطيقونه عليكم فدية طعام مسكين فإن تصدقتم فهو خير لكم وأن تصوموا خير لكم فخير الله الناس في أول الأمر بين أن يصوم الإنسان أو يطعم عن كل يوم مسكينا ثم تعين الصيام(5/261)
في الآية التي بعدها.
{إن كنتم تعلمون} أي إن كنتم من ذوي العلم الذين يفهمون.
ووجه ذلك أن الصوم أشق على كثير من الناس من إطعام المسكين فلما كان أشق علم أنه أفضل لأن الإنسان إذا عمل عبادة شاقة بأمر الله كان أجرها أعظم ومن ثم كان الأبعد من المسجد أعظم أجرا من الأدنى من المسجد لأنه أكثر عملا لكن ليس معنى ذلك أن الإنسان يطلب المشقة في العبادات التي يسرها الله هذا من التنطع في الدين لكن إذا كلفك الله بعبادة وشقت عليك صار هذا أعظم أما أن تتطلب المشقة كما يفعل بعض الجهال في أيام الشتاء مثلا يذهب فيتوضأ بالماء البارد يقول: لأن إسباغ الوضوء على المكاره مما يرفع الله به الدرجات ويمحو به الخطايا نقول: يا أخي ما هذا أراد الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا توضأ بماء بارد في أيام الشتاء كان أعظم أجرا ولكنه لم يقل: اقصد الماء البارد فإذا من الله عليك بالماء الساخن تستطيع أن تسبغ الوضوء فيه إسباغا كاملا فهذا أفضل.
{فمن كان منكم مريضا} والمرض ثلاثة أقسام: 1 - قسم مرضي لا يرجى برؤه بل هو مستمر فهذا لا صيام على المريض ولكن عليه أن يطعم عن كل يوم مسكينا لأنه من جنس الكبير العاجز عن الصوم الذي لا يرجى زوال عجزه.
2 - القسم الثاني: المريض مرضا يضره الصوم، ويخشى عليه أن يهلك(5/262)
به كمريض لا يستطيع الاستغناء عن الماء مثل بعض أنواع المرض السكري وما أشبه ذلك فهذا يحرم عليه الصوم لقول الله تعالى {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} .
3 - والقسم الثالث: مرض يشق معه الصوم لكن لا ضرر فيه والأفضل أن يفطر ولا يصوم ويقضي بعد ذلك وأما المرض الذي لا يتأثر به الصيام كمرض العين اليسير ومرض السن وما أشبه ذلك فإنه لا يجوز فيه الفطر لأن الحكمة من الرخصة هي إزالة المشقة وهذا لا مشقة عليه إطلاقا فلا يحل له الفطر والأصل وجوب الصوم في وقته إلا بدليل بين واضح يبيح للإنسان أن يفطر ثم يقضي بعد ذلك.
وأما السفر فإنه ينقسم كالمرض أيضا إلى ثلاثة أقسام قسم يضره الصوم ويشق عليه مشقة شديدة بسبب سفره مثل أن يسافر في أيام الحر والأيام الطويلة ويعلم أن لو صام لتضرر به وشق عليه مشقة غير محتملة فهذا يكون عاصيا إذا صام والدليل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم شكي إليه أن الناس قد شق عليهم الصوم وهم في سفر فدعا بماء فشربه والناس ينظرون إليه حتى لا يكون في صدورهم حرج إذا أفطروا وكان ذلك بعد العصر ولكن بعض الصحابة رضي الله عنهم بقوا على صومهم فجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له إن بعض الناس قد صام فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة فوصفهم بالعصيان لأنهم لم يقبلوا(5/263)
رخصة الله مع مشقة ذلك عليهم مشقة شديدة.
والقسم الثاني من يشق عليه مشقة ولكنها محتملة فهذا يكره له الصوم وليس من البر أن يصوم ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، قال: ما هذا؟ قالوا: صائم، فقال صلى الله عليه وسلم: ليس من البر الصيام في السفر.
والقسم الثالث: من لا يتأثر بالسفر إطلاقا يعني صائم ولا يتأثر لأن النهار قصير والجو بارد ولا يهمه فهذا اختلف فيه العلماء أيهما أفضل يفطر أو يصوم أو يخير والصحيح أن الأفضل أن يصوم لأن ذلك أشد اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه أيسر على المكلف فإن الصيام مع الناس أيسر من القضاء ولأنه أسرع في المبادرة في إبراء الذمة ولأنه يوافق الزمن الذي يكون فيه الصوم أفضل وهو شهر رمضان فمن أجل هذه الأربعة كان الصوم أفضل.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان في حر شديد حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وكان الصيام في السفر وأكثرنا ظلا صاحب الكساء وما فينا صائم إلى رسول الله وعبد الله بن رواحة) .(5/264)
هذا حكم الصوم في السفر والسفر عام فيمن يسافر للعمرة أو يسافر لغير ذلك وفيمن سفره دائم وسفره عارض وعلى هذا فإن أصحاب سيارات الحمولة يفطرون ولو كان سفرهم مستمرا لأن لهم وطنا يأوون إليه فإذا فارق الرجل الوطن فهو مسافر فإن سأل سائل متى يصومون قلنا يصومون في أيام الشتاء أو إذا قدموا إلى بلدهم.
1215 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه متفق عليه.
وهذا لفظ رواية البخاري وفي رواية له: يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به والحسنة بعشرة أمثالها.
وفي رواية لمسلم: كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى(5/265)
سبعمائة ضعف قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي للصائم فرحتان فرحة عند فطره فرحة عند لقاء ربه ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك.
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث حديث أبي هريرة نقله المؤلف رحمه الله في باب وجوب الصوم في رياض الصالحين بعد أن ذكر الآيات.
وذكر فيه فوائد: 1 - أن الله سبحانه وتعالى جعل الصوم له وعمل ابن آدم الثاني أي غير الصوم لابن آدم يقول الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي.
والمعنى أن الصيام يختصه الله سبحانه وتعالى من بين سائر الأعمال لأنه أي الصيام أعظم العبادات إطلاقا فإنه سر بين الإنسان وربه لأنه الإنسان لا يعلم إذا كان صائما أو مفطرا هو مع الناس ولا يعلم به نيته باطنة فلذلك كان أعظم إخلاصا فاختصه الله من بين سائر الأعمال قال بعض العلماء ومعناه إذا كان الله سبحانه وتعالى يوم القيامة وكان على الإنسان مظالم للعباد فإنه يؤخذ للعباد من حسناته إلا الصيام فإنه لا يؤخذ منه شيء لأنه لله عز وجل وليس للإنسان وهذا معنى جيد أن الصيام يتوفر أجره لصاحبه ولا(5/266)
يؤخذ منه لمظالم الخلق شيئا.
ومنها أن عمل ابن آدم يزاد من حسنة إلى عشرة أمثالها إلا الصوم فإنه يعطى أجره بغير حساب يعني أنه يضاعف أضعافا كثيرة قال أهل العلم ولأن الصوم اشتمل على أنواع الصبر الثلاثة ففيه صبر على طاعة الله وصبر & وصبر عن معصية الله وصبر على أقدار الله.
أما الصبر على طاعة الله فلأن الإنسان يحمل نفسه على الصيام مع كراهته له أحيانا يكرهه لمشقته لا لأن الله فرضه لو كره الإنسان الصوم لأن الله فرضه لحبط علمه لكنه كرهه لمشقته ولكنه مع ذلك يحمل نفسه عليه فيصبر عن الطعام والشراب والنكاح لله عز وجل ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي النوع الثاني من أنواع الصبر: الصبر عن معصية الله، وهذا حاصل للصائم فإنه يصبر نفسه عن معصية الله عز وجل فيتجنب اللغو والرفث والزور وغير ذلك من محارم الله.
الثالث: الصبر على أقدار الله وذلك أن الإنسان يصيبه في أيام الصوم (ولاسيما في الأيام الحارة والطويلة) من الكسل والملل والعطش ما يتألم ويتأذى به ولكنه صابر لأن ذلك في مرضاة الله.
فلما اشتمل على أنواع الصبر الثلاث كان أجره بغير حساب قال الله تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
ومن الفوائد التي اشتمل عليها هذا الحديث أن للصائم فرحتين الفرحة الأولى عند فطره إذا أفطر فرح بفطره فرح بفطره من وجهين(5/267)
الوجه الأول: أنه أدى فريضة من فرائض الله وأنعم الله بها عليه وكم من إنسان في المقابر يتمنى أن يصوم يوما واحدا فلا يكون له وهذا قد من الله عليه بالصوم فصام فهذه نعمة فكم من إنسان شرع في الصوم ولم يتمه فإذا أفطر فرح لأنه أدى فريضة من فرائض الله ويفرح أيضا فرحا آخر وهو أن الله أحل له ما يوافق طبيعته من المآكل والمشارب والمناكح بعد أن كان ممنوعا منها.
فهاتان فرحتان في الفطر الأولى أن الله من عليه بإتمام هذه الفريضة.
الثانية أن الله من عليه بما أحل له من محبوباته من طعام وشراب ونكاح.
ومن فوائد هذا الحديث الإشارة إلى الحكمة من فرض الصوم حيث قال صلى الله عليه وسلم: فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب يعني: لا يقول قولا يأثم به ولا يصخب فيتكلم بكلام صخب بل يكون وقورا مطمئنا متأنيا فإن سابه أحد أو شاتمه فلا يرفع صوته عليه بل يقول: إني صائم، يقول ذلك لئلا يتعالى عليه الذي سابه كأنه يقول: أنا لست عاجزا عن أن أقابلك بما سببتني ولكني صائم يمنعني صومي من الرد عليك وعلى هذا فيقوله جهرا.
كذلك أيضا إذا قال: (إني صائم) يردع نفسه عن مقابلة هذا الذي سابه كأنه يقول لنفسه (إني صائم فلا تردى على هذا الذي سب) وهذا أيضا معنى جليل عظيم ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى من الدنيا ما يعجبه(5/268)
وخاف أن تتعلق نفسه بذلك قال: لبيك إن العيش عيش الآخرة فالنفس مجبولة على محبة ما تميل إليه فإذا رأى ما يعجبه من الدنيا فليقل لبيك يعني إجابة لك يا رب.
إن العيش عيش الآخرة أما عيش الدنيا فزائل وفان.
فهذه من فوائد الصوم نقلها المؤلف رحمه الله تعالى مما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي هذا الحديث نوعان من أنواع الحديث ألفاظ قدسية من كلام الله عز وجل التي رواها النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه وألفاظ نبوية من عند النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
1216 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة قال أبو بكر رضي الله عنه بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها قال: نعم وأرجو أن تكون منهم متفق عليه.(5/269)
1217 - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن في الجنة بابا يقال له: الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم يقال أين الصائمون فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد متفق عليه.
1218 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا متفق عليه.
1219 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث التي ساقها النووي في كتابه رياض الصالحين كلها تدل على فضل الصيام فمنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أنفق زوجين في سبيل الله دعي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير(5/270)
زوجين صنفين مثل أن ينفق دراهم ودنانير أو دراهم وأمتعة أو خيلا وإبلا وما أشبه ذلك قال تعالى: وكنتم أزواجا ثلاثة أي أصنافا ثلاثة ثم ذكر الرسول أبواب الجنة وفي قوله (دعي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير) يعني أن الملائكة تدعوه من كل باب فتقول هذا خير هذا خير هذا خير وهذا يدل على فضل الإنفاق في سبيل الله وفيه أيضا أنه من كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان لأن هذا الباب خاص بهم فالريان يعني الذي يروي لأن الصائمين يعطشون ولاسيما في أيام الصيف الطويلة الحارة فيجازون بتسمية هذا الباب بما يختص بهم باب الريان وقوله: (من كان من أهل الصدقة ...
من أهل الجهاد ...
من أهل الصيام) يعني من كان يكثر من هذا الشيء وهذا يعني من صام فقط ولم يكن يصلي فإنه لا يدخل الجنة لأنه كافر لكن المراد بذلك المسلمون الذين يكثرون الصلاة فإنهم يدعون من باب الصلاة والذين يكثرون الصدقة يدعون من باب الصدقة،..
..
على كل حال من كان من أهل الجنة دخل الجنة من أي باب كان وأبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة، أما أبواب النار فذكرها الله في القرآن فقال تعالى {لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم} أما أبواب الجنة الثمانية(5/271)
فصحت بها السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما حدث النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث قال أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما على من دعي من أحد & هذه الأبواب من ضرورة يعني الذي يدعى من باب واحد لا يشق عليه فهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها يعني كل باب عليه ملائكة ينادون عليه يا فلان قال نعم يعني ممكن أن يكون الإنسان كثير الصلاة كثير الصدقة والجهاد فيدعي من الأبواب كلها؟ قال: نعم وأرجو أن تكون منهم.
فأبو بكر رضي الله عنه يدعى من الأبواب الثمانية كلها لأنه رضي الله عنه سباق إلى الخير كل خير له فيه نصيب حتى إنه رضي الله عنه عندما حث النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على الصدقة ورغب فيها فأتى عمر رضي الله عنه وكان يحب أن يسبق أبا بكر لا حسدا لأبي بكر ولكن حبا في السبق إلى الخير فأتى عمر بنصف ماله للصدقة فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذا أبو بكر قد جاء بجميع ماله كل ماله فقال له الرسول ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله، قال عمر والله لا أسابقه بعدها أبدا لأن أبا بكر رضي الله عنه أسبق الصحابة على الخير وأقواهم إيمانا وأشدهم تصديقا بالله ورسوله.
ثم ذكر أحاديث أخرى كلها تدل على الصيام آخرها قوله في حديث أبي هريرة: (من صام إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) إذا صام إيمانا بالله واحتسابا بثواب الله فإن الله تعالى يغفر له ما تقدم من ذنبه(5/272)
1220 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين متفق عليه.
1221 - وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين متفق عليه وهذا لفظ البخاري.
وفي راوية مسلم: فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما.
[الشَّرْحُ]
نقل النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب وجوب صوم رمضان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النيران، وصفدت الشياطين.
هذه ثلاثة أشياء تكون في رمضان: 1 - تفتح أبواب الجنة ترغيبا للعاملين لها بكثرة الطاعات من صلاة وصدقة وذكر وقراءة للقرآن وغير ذلك.
2 - وتغلق أبواب النيران وذلك لقلة المعاصي فيه من(5/273)
المؤمنين.
3 - وصفدت الشياطين يعني المردة منهم كما جاء ذلك في رواية أخرى والمردة يعني الذين هم أشد الشياطين عداوة وعدوانا على بني آدم والتصفيد معناه الغل يعني تغل أيديهم حتى لا يخلصوا إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، وكل هذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حق أخبر به نصحا للأمة وتحفيزا لها على الخير وتحذيرا لها من الشر.
وأما حديث أبي هريرة الثاني: فقال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته.
يعني أنه يجب على المسلمين أن يصوموا إذا رأوا الهلال هلال رمضان فإن لم يروه فلا صيام عليهم ولهذا قال: (فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما) يعني: لو تغبى الهلال في غيم أو قطر وما أشبه ذلك فإنه يجب أن يكمل شعبان ثلاثين يوما هذا لفظ البخاري.
أما لفظ رواية مسلم: فصوموا ثلاثين يوما وهذا فيما إذا غبي هلال شوال فبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنه متى غبي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان فإنه يجب أن يكمل شعبان ثلاثين يوما (وإذا غبي ليلة الثلاثين من رمضان فإنه يكمل ثلاثين يوما) والله الموفق(5/274)
باب الجود وفعل المعروف والإكثار من الخير في شهر رمضان والزيادة من ذلك في العشر الأواخر منه
1222 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة متفق عليه.
1223 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله باب الجود في شهر رمضان.
الجود هو بذل المحبوب من مال أو عمل والإنسان يجود بماله فيعطي الفقير ويهدي إلى الغني ويواسي المحتاج ويجود كذلك بعمله فيعين الإنسان في أموره في سيارته في دكانه في بيته فالجود هو بذل المال أو العمل وربما يدخل في ذلك أيضا بذل الجاه بأن يشفع لأحد(5/275)
أو يتوسط له في جلب منفعة أو دفع مضرة أو ما أشبه ذلك.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أنس بن مالك رضي الله عنه (أجود الناس) بماله وبدنه وعلمه ودعوته ونصيحته وكل ما ينفع الخلق وكان أجود ما يكون في رمضان لأن رمضان شهر الجود يجود الله فيه على العباد والعباد الموفقون يجودون على إخوانهم والله تعالى جواد يحب الجود وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه جبريل في رمضان كل ليلة يدارسه القرآن من أجل أن يثبته في قلبه وأن يحصل الثواب بالمدارسة بينه وبين جبريل وجبريل عليه السلام ينزل لكن على كيفية لا نعلمها لأنه ملك من الملائكة والملائكة لا يرون إلا إذا شاء الله عز وجل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن أجود بالخير من الريح المرسلة أي أنه يسارع إلى الخير عليه الصلاة والسلام ويجود به حتى إنه أسرع من الريح المرسلة يعني التي أرسلها الله عز وجل فهي سريعة عاصفة ومع ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من هذه الريح في رمضان.
ثم ذكر المؤلف حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل أي أحياه بالذكر والقرآن والصلاة والعبادة وأيقظ أهله وشد مئزره أيقظهم ليصلوا وشد المئزر أي تأهب تأهبا كاملا للعمل لأن شد المئزر معناه أن الإنسان يتأهب للعمل ويتقوى عليه وقيل معنى شد المئزر أنه يتجنب النساء عليه الصلاة والسلام لأنه يتفرغ للعبادة وكلاهما صحيح(5/276)
النبي صلى الله عليه وسلم يتفرغ للعبادة في العشر الأواخر من رمضان ويحيي الليل كله بطاعة الله فهذا من الجود بالنفس كلنه جود في حق الله عز وجل والله هو الذي يمن على من يشاء من عباده إذا من عليك بالعمل فله المنة يمن عليك بالعمل أولا ثم يمن عليكم بقبوله ثانيا وفقنا الله وإياكم لما يحب(5/277)
باب النهي عن تقدم رمضان بصوم بعد نصف شعبان إلا لمن وصله بما قبله أو وافق عادة له بأن كان عادته صوم الاثنين والخميس فوافقه
1224 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم متفق عليه.
1225 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصوموا قبل رمضان صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حالت دونه غياية فأكملوا ثلاثين يوما رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
الغياية بالغين المعجمة وبالياء المثناة من تحت المكررة وهي: السحابة..
1226 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح..
1227 - وعن أبي اليقظان عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: من صام(5/278)
اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح..(5/279)
باب ما يقال عند رؤية الهلال
1228 - عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام ربي وربك الله هلال رشد وخير رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب النهي عن تقدم رمضان بصوم بعد منتصف شعبان.
ثم ذكر أحاديث رحمه الله منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتقدم الرجل رمضان بصوم يوم أو يومين إلا من له عادة، مثل أن يكون من عادته أن يصوم يوم الاثنين فصادف يوم الاثنين قبل رمضان بيوم أو يومين فلا بأس أو يكون من عادته أن يصوم أيام البيض ولم يتيسر أن يصوم اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر إلا أن يصوم قبل رمضان بيوم أو يومين فلا بأس فهذا يدل على أن المقصود بالنهي الخوف من أن يحتاط الإنسان لدخول رمضان فيقول أصوم قبله بيوم أو يومين احتياطيا فإن هذا الاحتياط لا وجه له ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته أي لرؤية الهلال فإن حال بينكم وبينه غياية يعني غيم أو قطر أو ما أشبه ذلك فأكملوا العدة ثلاثين يوما يعني عدة شعبان.
واختلف العلماء رحمهم الله في هذا النهي هل هو نهي تحريم أو نهي كراهة والصحيح أنه نهي تحريم لاسيما اليوم الذي يشك فيه فإن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا فنقول لا يجوز للإنسان أن يصوم قبل رمضان بيوم أو يومين إلا من له عادة ولا يجوز أن يصوم يوم الشك وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا كان في الليلة غيم أو قطر يمنع من رؤية الهلال مطلقا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته.
وأما النهي عن الصوم بعد منتصف شعبان فإنه وإن قال الترمذي حسن صحيح فإنه ضعيف قال الإمام أحمد إنه شاذ إنه يخالف حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تصوموا قبل رمضان بيوم أو يومين فإن مفهومه أنه يجوز أن يصوم قبل رمضان بثلاثة أيام وأربعة أيام وعشرة أيام.
وحتى لو صح الحديث فالنهي فيه ليس للتحريم وإنما هو للكراهة كما أخذ بذلك بعض أهل العلم رحمهم الله.
إلا من له عادة بصوم فإنه يصوم ولو بعد نصف شعبان وعلى هذا يكون الصيام ثلاثة أقسام: 1 - بعد النصف إلى الثامن والعشرين هذا مكروه إلا من اعتاد الصوم لكن هذا القول مبني على صحة الحديث والإمام أحمد لم يصححه وعلى هذا فلا كراهة.
2 - قبل رمضان بيوم أو يومين فهذا محرم إلا من له عادة.
3 - يوم الشك فهذا محرم مطلقا لا تصم يوم الشك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه.
ولكن كما قلت يظهر أن النهي لمن أراد أن يجعله من رمضان وأما من أراد التطوع به فإنه يحرم تحريم الذرائع يعني: بمعنى أنه يخشى أن الناس إذا رأوا هذا الرجل قد صام ظنوا أنه صام احتياطا وهذا لا يجوز أن يحتاط صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته والله الموفق(5/282)
باب فضل السحور وتأخيره ما لم يخش طلوع الفجر
1229 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تسحروا فإن في السحور بركة متفق عليه.
1230 - وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة قيل: كم كان بينهما قال: قدر خمسين آية متفق عليه.
1231 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان بلال وابن أم مكتوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم قال: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا.
متفق عليه.
1232 - وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فضل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب فضل السحور يقال: السحور والسحور فالسحور الأكل الذي يتسحر به الإنسان والسحور بالضم الفعل يعني تسحر الإنسان.(5/283)
والسحور حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وأيده بفعله فقال صلى الله عليه وسلم تسحروا فإن في السحور بركة فأمر وبين أمر بأن نتسحر وبين أن في السحور بركة فمن بركة السحور امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم وامتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم كله خير كله أجر وثواب ومن بركته أنه معونة على العبادة فإنه يعين الإنسان على الصيام فإذا تسحر كفاه هذا السحور إلى غروب الشمس مع أنه في أيام الإفطار يأكل في أول النهار وفي وسط النهار وفي آخر النهار ويشرب كثيرا فينزل الله البركة في السحور يكفيه من قبل طلوع الفجر إلى غروب الشمس ومن بركته أنه يحصل به التفريق بين صيام المسلمين وصيام غير المسلمين ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أن فصل ما بيننا وبين صيام أهل الكتاب أكلة السحر يعني السحور لأن أهل الكتاب يصومون من نصف الليل فيأكلون قبل منتصف الليل لا يأكلون في السحر أما المسلمون ولله الحمد فيأكلون في السحر في آخر الليل والتمييز بين المسلمين والكفار أمر مطلوب في الشرع ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم، قال: خالفوا المجوس وفروا اللحى وحفوا الشوارب يعني أرخوا اللحى لا تقصوها ولا تحلقوها وقال صلى الله عليه وسلم من تشبه بقوم فهو منهم وينبغي أن يؤخر السحور إلى قبيل طلوع الفجر ولا يتقدم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال الناس بخير ما عجلوا(5/284)
الفطر وأخروا السحور وقال صلى الله عليه وسلم: إن بلال يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر.
وأما قوله في الرواية التي ساقها المؤلف: (ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا) فهذه مدرجة في الحديث شاذة ليست بصحيحة لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأكل والشرب حتى يؤذن ابن أم مكتوم دليل على أن بينهما فرقا كبيرا يتسع للأكل والشرب والسحور فهي جملة ضعيفة شاذة لا عمدة عليها وقد بين زيد بن ثابت رضي الله عنه حينما ذكر أنه تسحر مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قاموا إلى الصلاة ولم يكن بينهما إلا قدر خمسين آية خمسون آية: من عشر دقائق إلى ربع الساعة إذا قرأ الإنسان قراءة مرتلة أو دون ذلك وهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم يؤخر السحور تأخيرا بالغا وعلى أنه يقدم صلاة الفجر ولا يتأخر ثم إنه ينبغي للإنسان حين تسحره أن يستحضر أنه يتسحر امتثالا لأمر الله ورسوله ويتسحر مخالفة لأهل الكتاب وكرها لما كانوا عليه ويتسحر رجاء البركة في هذا السحور ويتسحر استعانة به على طاعة الله حتى يكون هذا السحور الذي يأكله خيرا وبركة وطاعة والله الموفق(5/285)
باب فضل تعجيل الفطر وما يفطر عليه وما يقوله بعد الإفطار
1233 - عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر متفق عليه.
1234 - وعن أبي عطية قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة رضي الله عنها فقال لها مسروق: رجلان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلاهما لا يألو عن الخير: أحدهما يعجل المغرب والإفطار والآخر يؤخر المغرب والإفطار؟ فقالت: من يعجل المغرب والإفطار؟ قال: عبد الله يعني ابن مسعود فقالت: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع.
رواه مسلم.
قاله: لا يألوا أي لا يقصر في الخير.
1235 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: أحب عبادي إلى أعجلهم فطرا رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
1236 - وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم متفق عليه.(5/286)
1237 - وعن أبي إبراهيم عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم فلما غربت الشمس قال لبعض القوم: يا فلان انزل فاجدح لنا، فقال: يا رسول الله لو أمسيت؟ قال: انزل فاجدح لنا قال: إن عليك نهارا قال: انزل فاجدح لنا قال: فنزل فجدح لهم فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم وأشار بيده قبل المشرق متفق عليه.
قوله: اجدح بجيم ثم دال ثم حاء مهملتين أي: اخلط السويق بالماء.
1238 - وعن سلمان بن عامر الضبي الصحابي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أفطر أحدكم، فليفطر على تمر، فإن لم يجد، فليفطر على ماء فإنه طهور رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
1239 - وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات فإن لم تكن رطبات فتميرات فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن..(5/287)
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب فضل تعجيل الفطر وما يفطر به وما يقال عند الفطور.
هذه ثلاث مسائل المسألة الأولى: تعجيل الفطر لكن بشرط أن يتحقق غروب الشمس لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمر بن الخطاب الذي ساقه المؤلف: (إذا أقبل الليل من هاهنا يعني من المشرق وأدبر النهار من هاهنا يعني من المغرب وغربت الشمس فقد أفطر الصائم) فإذا بادر الإنسان بالفطر من حين أن يغرب قرص الشمس ولو كان البياض ظاهرا والشعاع في الأفق ما دام قرص الشمس قد غاب فأفطر وبادر وهذه هي السنة القولية والفعلية من الرسول صلى الله عليه وسلم أما الفعلية فدليلها حديث عائشة رضي الله عنها حين سألها عطية ومسروق عن رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما يؤخر الفطر ويؤخر صلاة المغرب والثاني يعجل الفطر ويعجل صلاة المغرب أيهما أصوب فقالت عائشة: من هذا؟ أي الذي يعجل قالوا: ابن مسعود رضي الله عنه فقالت: (هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل) يعني: يعجل الفطر ويعجل صلاة المغرب هذه سنة فعلية تدل على أن الأفضل تقديم الإفطار أما القولية فحديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال الناس(5/288)
بخير ما عجلوا الفطر فما دام الناس يبادرون إلى السنة ويتسابقون إلى الخير فهم بخير لا يزالون بخير أما إذا تباطأوا ولم يفطروا مبادرين فإن ذلك هو الشر ولهذا كان الرافضة المخالفون لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم يؤخرون الفطور لا يفطرون إلا إذا اشتبكت النجوم فيحرمون من الأجر والثواب ويحرمون من تعجيل إعطاء النفوس حظوظها من الأكل والشرب يعذبون في الدنيا قبل الآخرة لأن الإنسان إذ تأخر وهو عطشان أو جائع يتألم أكثر فهم يؤلمون أنفسهم بتأخير الفطور ويخالفون السنة ويفوتهم الأجر.
ثم إن المؤلف رحمه الله ذكر أن الأفضل أن يفطر على رطب فإن لم يجد فتمر فإن لم يجد فماء لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفطر على رطيبات قليلة لا يكثر لأنه لا ينبغي الإكثار عند الفطور فإن المعدة خالية فإذا أكثرت فهذا يضرك أعطها شيئا فشيئا قلل عند الفطور ولهذا ليس من الطب أن الإنسان إذا أفطر يتعشى مباشرة كما يفعل بعض الناس بل الطب يقتضي أن تعطي المعدة الشيء القليل لأنها خالية فكان عليه الصلاة والسلام يفطر على رطيبات فإن لم تكن فعلى تميرات فإن لم تكن حسا حسوات أو حسيات من ماء هكذا ينبغي أن تفطر على الرطب ثم التمر ثم الماء.
والرطب الآن والحمد لله موجود حتى في غير أيام الصيف فالناس يدخرون الرطب الآن في الثلاجات ويبقى مدة فالأفضل أن تفطر على الرطب فإن لم يكن عندك شيء فالتمر(5/289)