بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلي الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إي يوم الدين وسلم تسليناً كثيراً.
أما بعد:
فإن هذا الكتاب يحتوي على تعليقات نافعه لفضيلة شيخنا محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله تعالي ـ لجمل كبيرة من الأحاديث الواردة في كتاب: ((رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين)) للإمام النووي ـ رحمه الله تعالي ـ.
وقد جاءت تلك التعليقات ضمن أحاديث شيخنا اليومية ـ رحمه الله تعالي ـ بعد صلاة العصر في الجامع الكبير بعنيزه. وتكررت طباعتها منذ الطبعة الأولي عام 1415هـ التي اعتني بها فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الله ابن محمد بن أحمد الطيار جزاه الله خيرا.
وإنفاذاً للقواعد والضوابط والتوجيهات التي قررها وعهد بها إلي اللجنة العلمية فضيلة شيخنا ـ رحمه الله تعالي ـ لإخراج مؤلفاته، تم ـ ولله الحمد ـ إعداد هذا الكتاب للنشر ومراجعة محتواه العلمي على أصوله المسموعة المسجلة.
نسأل الله تعالي أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، نافعاً لعباده، وان يجزي فضيلة شيخنا محمد بن صالح العثيمين عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ويضاعف له المثوبة والأجر، إنه سميع قريب.
وصلي الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلي يوم الدين.
اللجنة العلمية
في مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
15/9/1424هـ(/)
مقدمة الإمام النووي رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، مكور الليل على النهار، تذكرة لأولى القلوب والأبصار وتبصرة لذوي الألباب والاعتبار، الذي أيقظ من خلقه من اصطفه فزهدهم في هذه الدار، وشغلهم بمراقبة وإدامة الأفكار، وملازمة الاتعاظ والأذكار، ووفقهم للدؤوب في طاعته والتأهب لدار القرار ن والحذر مما يسخطه ويوجب دار البوار، والمحافظة على ذلك مع تغاير الأحوال والأطوار.
احمده أبلغ حمد وأزكاه، وأشمله وأنماه.
وأشهد أن لا إله إلا الله البر الكريم، الرؤوف الرحيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليليه، الهدي إلي صراط مستقيم، والداعي إلي دين قويم ن صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين، وآل كل وسائر الصالحين.
أما بعد:
فقد قال الله تعالي: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (الذريات: 56/57) وهذا تصريح بأنهم خلقوا للعبادة، فحق عليهم الاعتناء بما خلقوا له، والإعراض عن حظوظ الدنيا بالزهادة؛ فإنها دار نفاد لا محل إخلاد، ومركب عبور لا منزل حبور، ومشرع انفصام لا موطن دوام.(1/7)
فلهذا كان الأيقاظ من أهلها هم العباد، وأعقل الناس فيها هم الزهاد؛ قال الله تعالي: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (يونس: 24) والآيات في هذا المعني كثيرة.
إن لله عباداً فطنا ... طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا ... أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا ... صالح الأعمال فيها سفنا
فإذا كان حالها ما وصفته، وحالنا ما خلقنا له، ما قدمته؛ فحق على المكلف أن يذهب بنفه مذهب الأخيار، ويسلك مسلك أولى النهي والأبصار، ويتأهب لما اشر ت إليه، ويهتم بما نبهت عليه.
وأصوب طريق له في ذلك، وأرشد ما يسلكه السالكين: التأدب بما صح عن نبينا سيد الأولين والآخرين، وأكرم السابقين اللاحقين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين، وقد فال الله تعالي:) وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: من الآية2) وقد صح عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال: ((والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه وأنه قال: ((من(1/8)
دل على خير، فله مثل أجر فاعله)) وأنه قال: ((من دعا إلي هدي كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقصه ذلك من أجورهم شيئاً) وأنه قال لعلي رضي الله عنه: ((فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدا خير لك من حمر النعم)) .
فرأيت أن أجمع مختصراً من الأحاديث الصحيحة، مشتملاً على ما يكون طريقاً لصاحبه إلي الآخره، ومحصلاً لآدابه الباطنة والظاهرة، جامعاً للترغيب والترهيب وسائر أنواع آداب السالكين: من أحاديث الزهد، ورياضات النفوس، وتهذيب الأخلاق، وطهارات القلوب وعلاجها، وصيانة الجوارح وإزالة اعوجاجها، وغير ذلك من مقاصد العارفين.
وألتزم فيه أن لا أذكر حديثاً صحيحاً من الواضحات، مضافاً إلي الكتب الصحيحة المشهورات، وأصدر الأبواب من القرآن العزيز بآيات كريمات، وأوشح ما يحتاج إلي ضبط أو شرح معني خفي بنفائس من التنبهات.(1/9)
وإذا قلت في آخر حديث: ((متفق عليه)) فمعناه: رواه البخاري ومسلم.
وأرجو إن تم هذا الكتاب أن يكون سائقاً للمعتني به إلي الخيرات، حاجزاً له عن أنواع القبائح والمهلكات.
وأنا سائل أخاً انتفع بشيء منه أن يدعو لي، ولوالدي، ومشايخي، وسائر أحبابنا، والمسلمين أجمعين، وعلى الله الكريم اعتمادي، وإليه تفويضي واستنادي، وحسبي الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.(1/10)
مقدمة الشارح
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 102) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء: 1)) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (ايُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب 70/71) .
أما بعد:
فإن اصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلي الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
فهذه الخطبة الطويلة المفيدة ((لكتاب رياض الصالحين)) الذي ألفه الشيخ الحافظ النووي ـ رحمه الله ـ وهو كتاب جيد ولم يسبق لنا قراءته.
ورأيت أن نبدأ فيه ونسأل الله تعالي أن نتمه على خير؛ لأنه كتاب نافع للقلوب، وللأعمال الظاهرة والمتعلقة بالجوارح؛ لذلك ينبغي أن يعتني(1/11)
بهذا الكتاب.
وقد طلب ـ رحمه الله ـ ممن انتفع به أن يدعو له ولوالديه ولسائر المسلمين؛ فنسأل الله أن يغفر له ولوالديه ولسائر المسلمين، وأن يجمعنا وإياه وإخواننا المؤمنين في دار كرامته؛ إنه جواد كريم، وأسال الله أن يوفقنا لاتمامه، وأن ينفعنا بهن وأن يغفر لمؤلفه وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خيراً، والله الموفق.
الشارح
محمد بن صالح العثيمين(1/12)
1- باب الإخلاص وإحضار النية في جميع الأعمال والأقوال البارزة والخفية
قال الله تعالي: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة: 5) وقال تعالي:) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) (الحج: من الآية37) وقال تعالي (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) (آل عمران: من الآية29) .
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالي: ((باب الإخلاص وإحضار النية، في جميع الأعمال والأقوال البارز والخفية)) :
((النية)) محلها القلب، ولا محل لها في اللسان في جميع الأعمال؛ ولهذا كان من نطق بالنية عند إرادة الصلاة، أو الصوم، أو الحج، أو الوضوء، أو غير ذلك من الأعمال كان مبتدعاً قائلاً في دين الله ما ليس منه؛ لأن النبي صلي الله عليه وسم كان يتوضأ، ويصلي ويتصدق، ويصوم ويحج، ولم يكن ينطق بتالنية، فلم يكن يقول: اللهم إني نويت أن أتوضأ، اللهم إني نويت أن أصلي، اللهم إني نويت أن أتصدق، اللهم إني نويت أن أحج، لم يكن يقول هذا؛ وذلك لأن النية محلها القلب، والله عز وجل يعلم ما في القلب، ولا يخفي عليه شيء؛ كما قال الله تعالي في الآية التي ساقها المؤلف: (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ(1/13)
تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) (آل عمران: الآية29) .
ويجب علي الإنسان أن يخلص النية لله سبحانه وتعالي في جميع عباداته، وأن لا ينوى بعباداته إلا وجه الله والدار الآخرة.
وهذا هو الذي أمر الله به في قوله: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ) ، أي مخلصين له العمل، (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) وينبغي أن يستحضر النية، أي: نية الإخلاص في جميع العبادات.
فينوى مثلاً الوضوء، وأنه توضأ لله، وأنه توضأ أمثالاً لأمر الله.
فهذه ثلاثة أشياء:
نية العبادة.
ونية أن تكون لله.
ونية أنه قام بها امتثالاً لأمر الله.
فهذا أكمل شيء في النية.
كذلك في الصلاة: تنوي أولاً: الصلاة، وأنها الظهر، أو العصر، أو المغرب، أو العشاء ن أو الفجر، أو ما أشبه ذلك، وتنوي ثانياً: أنك إنما تصلي لله عز وجل لا لغيره، لا تصلي رياء ولا سمعة، ولا لتمدح على صلاتك، ولا لتنال شيئاً من المال أو الدنيا، ثالثاً: تستحضر أنك تصلي امتثالاً لأمر ربك حيث قال: (أَقِمِ الصَّلاة) (ْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) إلي غير ذلك من الأوامر.
وذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ عدة آيات كلها تدل على أن النية محلها(1/14)
القلب، وأن الله ـ سبحانه وتعالي ـ عالم بنية العبد، ربما يعمل العبد عملاً يظهر أمام الناس أنه عمل صالح، وهو عمل فاسد أفسدته النية، لأن الله ـ تعالي ـ يعلم ما في القلب، ولا يجازى الإنسان يوم القيامة إلا على ما في قلبه، لقول الله تعالي:) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) (فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ) (الطارق: 8-10) يعني: يوم تختبر السرائر ـ القلوب ـ كقوله:) أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ) (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) (العاديات: 9-10) .
ففي الآخرة: يكون الثواب والعقاب، والعمل والاعتبار بما في القلب.
أما في الدنيا: فالعبرة بما ظهر، فيعامل الناس بظواهر أحوالهم، ولكن هذه الظواهر: إن وافقت ما في البواطن، صلح ظاهره وباطنهن وسريرته وعلانيته، وإن خالفت وصار القلب منطوياً على نية فاسد، نعوذ بالله ـ فبما أعظم خسارته !! يعمل ويتعب ولكن لا حظ له في هذا العمل؛ كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((قال الله تعالي: أنا أغني الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه)) .
فالله الله!! أيها الاخوة بإخلاص النية لله سبحانه وتعالي!!
واعلم: أن الشيطان قد يأتيك عند إرادة عمل الخير، فيقول لك: إنك(1/15)
إنما تعمل هذا رياء، فيحبط همتك ويثبطك ولكن لا تلتفت إلي هذا، ولا تطعه، بل اعمل ولو قال لك: إنك إنما تعمل رياء أو سمعة؛ لأنك لو سئلت: هل أنت الآن تعمل هذا رياء وسمعة؟ : لا!!
إذن فهذا الوسواس الذي أدخله الشيطان في قلبك، لا تلتفت له، وافعل لخير؛ ولا تقل: إني أرائي وما أشبه ذلك.
* * *
1- وعن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزي بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤس بن غالب القرشي العدوي ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امري ما نوي فمن كانت هجرته إلي الله ورسوله، فهجرته إلي الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلي ما هاجر إليه)) ؛ متفق على صحته؛ رواه إماما المحدثين: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ابن المغيرة بن بردزبة الجعفي البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج ابن مسلم القشيري النيساوي ـ رضي الله عنهما ـ في صحيحيهما اللذين هما اصح الكتب المصنفة.(1/16)
[الشَّرْحُ]
لما كان هذا الباب في الإخلاص، إخلاص النية لله عز وجل، وأنه ينبغي أن تكون النية مخلصة لله في كل قول، وفي كل فعل، وعلى كل حال، ذكر المؤلف من الآيات ما يتعلق بهذا المعني، وذكر ـ رحمه الله ـ من الأحاديث ما يتعلق به أيضاً، وصدر هذا بحديث عمر بن الخطاب الذي قال فيه: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي)) :
هاتان الجملتان اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ فيهما:
فقال بعض العلماء: إنهما جملتان بمعني واحد، وإن الجملة الثانية تأكيد للجملة الأولي.
ولكن هذا ليس بصحيح، وذلك لأن الأصل في الكلام أن يكون تأسيسا لا توكيداً، ثم إنهما عند التأمل يتبين أن بينهما فرقاً عظيماً؛ فالأولي سبب، والثانية نتيجة:
الأولي: سبب يبين فيها النبي صلي الله عليه وسلم أن كل عمل لابد فيه من نية، فكل عمل يعمله الإنسان وهو عاقل مختار، فلابد فيه من نية، ولا يمكن لأي عاقل مختار أن يعمل عملاً إلا بنية؛ حتى قال بعض العلماء: ((لو كلفنا الله عملاً بلا نية، لكان من تكليف ما لا يطاق!)) .
وهذا صحيح؛ كيف تعمل وأنت في عقلك، وأنت مختار غير مكره، كيف تعمل عملاً بلا نية؟ ! هذا مستحيل؛ لأن العمل ناتج عن إرادة(1/17)
وقدرة، والإرادة هي النية.
إذن: فالجملة الأولي معناها أنه ما من عامل إلا وله نية، ولكن النيات تختلف اختلافاً عظيماً، وتتباين تبتيناً بعيداً كما بين السماء والأرض.
من الناس من نيته في القمة في أعلي شيء، ومن الناس من نيته في القمامة في أخس شيء وأدني شيء؛ حتى إنك لتري الرجلين يعملان عملاً واحداً يتفقان في ابتدائه وانتهائه وفي أثنائه، وفي الحركات والسكنات، والأقوال والأفعال، وبينهما كما بين السماء والأرض، وكل ذلك باختلاف النية.
إذن: الأساس أه ما من عمل إلا بنية، ولكن النيات تختلف وتتابين.
نتيجة ذلك قال: ((وإنما لكل أمري ما نوي)) ؛ فكل امريء له ما نوي: إن نوي الله والدار الآخر في أعماله الشرعية، حصل له ذلك، وإن نوي الدنيا، قد تحصل وقد لا تحصل.
قال الله تعالي:) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) (الاسراء: الآية18) ما قال: عجلنا له ما يريد؛ بل قال: (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ) ، لا ما يشاء هو؛ (لِمَنْ نُرِيدُ) لا لكل إنسان، فقيد المعجل والمعجل له؛ فمن الناس: من يعطي ما يريد من الدنيان ومنهم: من يعطي شيئاً منه، ومنهم: من لا يعطي شيئاً أبدا.
أما: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (الاسراء: 19) لابد أن يجني ثمرات هذا العمل الذي أراد به وجه الله والدار الآخرة.(1/18)
إذن ((إنما لكل امري ما نوي)) .
وقوله: ((إنما الأعمال بالنيات..إلخ)) هذه الجملة والتي قبلها ميزان لكل عمل؛ لكنه ميزان الباطن، وقوله ص فيما أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عها: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) ميزان للأعمال الظاهرة.
ولهذا قال أهل العلم: ((هذان الحديثان يجمعان الدين كله)) حديث عمر: ((إنما الأعمال بالنيات)) ميزان للباطن، وحديث عائشة: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا)) ميزان للظاهر.
ثم ضرب النبي صلي الله عليه وسلم مثلاً يطبق هذا الحديث عليه، قال: ((فمن كانت هجرته إلي الله ورسوله، فهجرته إلي الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلي ما هاجر إليه)) :
((الهجرة)) : أن ينتقل الإنسان من دار الكفر إلي دار الإسلام. مثل أن يكون رجل في أمريكا ـ وأمريكا دار كفر ـ فيسلم، ولا يتمكن من إظهار دينه هناك، فينتقل منها إلي البلاد الإسلامية، فهذه هي الهجرة.
وإذا هاجر الناس، فهم يختلفون في الهجرة.
الأول: منهم من يهاجر، ويدع بلده إلي الله ورسوله؛ يعني إلي شريعة(1/19)
الله التي شرعها الله على رسوله صلي الله عليه وسلم هذا هو الذي ينال الخير،، وينال مقصوده؛ ولهذا قال: ((فهجرته إلي الله ورسوله)) ؛ أي فقد أدرك ما نوي.
الثاني من المهاجرين: هاجر لدنيا يصيبها، يعني: رجل يحب جمع المال، فسمع أن بلاد الإسلام مرتعاً خصباً يصيبها خصباً لاكتساب الأموال، فهاجر من بلد الكفر إلي بلد الإسلام؛ من أجل الماء فقط، لا يقصد أن يستقيم دينه، ولا يهتم بدينه، ولكن همه المال.
الثالث: رجل هاجر من بلد الكفر إلي بلد الإسلام؛ يريد امرأة يتزوجها، قيل له: لا نزوجك إلا في بلاد الإسلام، ولا تسافر بها إلي بلد الكفر، فهاجر من بلده ـ إلي بلاد الإسلام؛ من أجل أن يتزوج هذه المرأة.
فمريد الدنيا ومريد المرأة، لم يهاجر إلي الله ورسوله، ولهذا قال النبي صلي الله عليه وسلم ((فهجرته إلي ما هاجر إليه)) ، وهنا قال ((إلي ما هاجر إليه)) ولم يقل ((فهجرته إلي دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها)) فلماذا؟
قيل: لطول الكلام؛ لأنه إذا قال: فهجرته إلي دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها؛ صار الكلام طويلاً، فقال: ((هجرته إلي ما هاجر إليه))
وقيل: بل لم ينص عليهما؛ احتقاراً لهما، وإعراضاً عن ذكرهما؛ فلأنهما حقيران؛ أي: الدنيا، والزوجة. ونية الهجرة ـ التي هي من أفضل الأعمال - لإرادة الدنيا والمرأة؛ نية منحطة سافلة، قال: ((فهجرته إلي ما هاجر إليه)) فلم يذكر ذلك احتقاراً، لأنها نية فاسدة منحطة.(1/20)
وعلي كل حال، سواء هذا أو الجميع؛ فإن هذا الذي نوي بهجرته الدنيا، أو المرأة التي ينكحها، لا شك أن نية سافلة منحطة هابطة، بخلاف الأول الذي هاجر غلي الله ورسوله صلي الله عليه وسلم.
أقسام الهجرة:
الهجرة تكون للعمل، وتكون للعامل، وتكون للمكان.
القسم الأول: هجرة المكان: فأن ينتقل الإنسان من مكان تكثر فيه المعاصي، ويكثر فيه الفسوق، وربما يكون بلد كفر إلي بلد لا يوجد فيه ذلك.
وأعظمه الهجرة من بلد الكفر إلي بلد الإسلام، وقد ذكر أهل العلم إنه يجب علي الإنسان أن يهاجر من بلد الكفر إلي بلد الإسلام إذا كان غير قادر علي إظهار دينه.
وأما إذا كان قادراً علي إظهار دينه، ولا يعارض إذا أقام شعائر الإسلام؛ فإن الهجرة لا تجب عليه، ولكنها تستحب، وبناء علي ذلك يكون السفر إلي بلد الكف أعظم من البقاء فيه، فإذا كان بلد الكفر الذي كان وطن الإنسان؛ إذا لم يستطع إقامة دينه فيه؛ وجب عليه مغادرته، والهجرة منه.
فذلك إذا كان الإنسان من أهل الإسلام، ومن بلاد المسلمين؛ فإنه لا يجوز له أن يسافر إلي بلد الكفر؛ لما في ذلك من الخطر على دينه، وعلي أخلاقه، ولما في ذلك من الخطر على دينه، وعلي أخلاقه، ولما في ذلك من إضاعة ماله، ولما في ذلك من تقوية اقتصاد الكفار، ونحن مأمورون بأن نغيظ الكفار بكل ما نستطيع، كما قال(1/21)
الله تبارك وتعالي:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة: 123) وقال تعالي: (وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (التوبة: من الآية120) .
فالكافر إيا كان، سواء كان من النصارى، أو من اليهود، أو من الملحدين، وسواء تسمي بالإسلام أم لم يتسم بالإسلام، الكافر عدو لله ولكتابه ولرسوله وللمؤمنين جميعاً، مهما تلبس بما تلبس به؛ فإنه عدو!!
فلا يجوز للإنسان أن يسافر إلي بلد الكفر إلا بشروط ثلاثة:
الشرط الأول: أن يكون عنده علم يدفع به الشبهات؛ لأن الكفار يوردون على المسلمين شبهاً في أخلاقهم، وفي كل شيء يوردون الشبهة؛ ليبقي الإنسان شاكا متذبذبا، ومن المعلوم أن الإنسان إذا شك في الأمور التي يجب فيها اليقين؛ فإنه لم يقم بالواجب، فالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره - الإيمان بهذه - يجب أن يكون يقيناً؛ فإن شك الإنسان في شيء من ذلك فهو كافر.
فالكفار يدخلون علي المسلمين الشك، حتى إن بعض زعمائهم صرح قائلاً: لا تحاولوا أن تخرجوا المسلم من دينه إلي دين النصارى، ولكن يكفي أن تشككوه في دينه؛ لأنكم إذا شككتموه في دينه سلبتموه الدين، وهذا كاف، أنتم أخرجوه من هذه الحظيرة التي فيها الغلبة والعزة والكرامة ويكفي. أما أن تحاولوا أن تدخلوه في دين النصارى - المبني(1/22)
علي الضلال والسفاهة - فهذا لا يمكن، لأن النصارى ضالون، كما جاء في الحديث عن النبي صلي الله عليه وسلم، وإن كان دين المسيح عليه الصلاة والسلام دين حق، لكنه دين الحق في وقته قل أن ينسخ برسالة النبي صلي الله عليه وسلم فإن الهدي والحق فيما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم.
الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يحميه من الشهوات؛ لأن الإنسان يدفع به الشبهات. الذي ليس عنده دين إذا ذهب إلي بلاد الكفر انغمس؛ لأنه يجد زهرة الدنيا، هناك شهوات، من خمر، وزني، ولوط. كل إجرام موجود في بلاد الكفر. فإذا ذهب إلي هذه البلاد يخشي عليه أن ينزلق في هذه الأوحال، إلا إذا كان عنده دين يحميه. فلابد أن يكون عند الإنسان دين يحميه من الشهوات.
الشرط الثالث: أن يكون محتاجاً إلي ذلك؛ مثل أن يكون مريضاً؛ يحتاج إلي السفر إلي بلاد الكفر للاستشفاء، أو يكون محتاجاً إلي علم لا يوجد في بلد الإسلام تخصص فيه؛ فيذهب إلي هناك ويتعلم، أو يكون الإنسان محتاجاً إلي تجارة، يذهب ويتجر ويرجع. المهم أنه لابد أن يكون هناك حاجة ولهذا أري أن الذين يسافرون إلي بلد الكفر من أجل السياحة فقط. أري أنهم آثمون، وأن كل قرش يصرفونه لهذا السفر فإنه(1/23)
حرام عليهم، وإضاعة لمالهم، وسيحاسبون عنه يوم القيامة؛ حين لا يجدون مكاناً يتفسحون فيه أو يتنزهون فيه، حين لا يجدون إلا أعمالهم، لأن هؤلاء يضيعون أوقاتهم، ويتلفون أموالهم، ويفسدون أخلاقهم، وكذلك ربما يكون معهم عوائلهم، ومن عجب أن هؤلاء يذهبون إلي بلاد الكفر التي لا يسمع فيها صوت مؤذن، ولا ذكر ذاكر، وإنما يسمع فيها أبواق اليهود، ونواقيس النصارى، ثم يبقون فيها مدة هم وأهلوهم وبنوهم وبناتهم، فيحصل في هذا شر كثير، نسأل الله العافية والسلامة.
وهذا من البلاء الذي يحل الله به النكبات التي تأتينا، والتي نحن الآن نعيشها كلها بسبب الذنوب والمعاصي، كما اقل الله تعالي: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى: 30) نحن غافون، نحن آمنون في بلادنا. كأن ربنا غافل عنان كأنه لا يعلم، كأنه لا يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
والناس يعصرون في هذا الحوداث، ولكن قلوبهم قاسية والعياذ بالله! وقد قال الله سبحانه:) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) (المؤمنون: 76) أخذناهم بالعذاب، ونزل بهم، ومع ذلك ما استكانوا إلي الله، وما تضرعوا إليه بالدعاء، وما خافوا من سطوته، ولكن قست القلوب - نسأ الله العافية-وماتت؛ حتى أصبحت الحوادث المصيرية تمر على القلب وكأنها ماء بارد، نعوذ بالله من موت القلب وقسوته، وإلا لو كان الناس في(1/24)
عقل، وفي قلوب حية، ما صاروا علي هذا الوضع الذي نحن عليه الآن، مع أننا في وضع نعتبر أننا في حال حرب مدمرة مهلكة، حرب غازات الأعصاب والجنود وغير ذلك، ومع هذا لا تجد أحداً حرك ساكناً إلا أن يشاء الله، هذا لا شك أنه خطأ، إن أناسا في هذه الظروف العصيبة ذهبوا بأهليهم يتنزهون في بلاد الكفر، وفي بلاد الفسق وفي بلاد المجون والعياذ بالله!
والسفر إلي بلاد الكفر للدعوة يجوز؛ إذا كان له أثر وتأثير هناك فإنه جائز، لأنه سفر لمصلحة، وبلاد الكفر كثير من عوامهم قد عمي عليهم الإسلام، لا يدرون عن الإسلام شيئاً، بل قد ضللوا، وقيل لهم إن الإسلام دين وحشية وهمجية ورعاع، ولا سيما إذا سمع الغرب بمثل هذه الحوادث التي حصلت علي أيدي من يقولون إنهم مسلمون، سيقولون أين الإسلام؟! هذه وحشية!! وحوش ضارية يعدو بعضها علي بعض ويأكل بعضها بعضا، فينفر الناس من الإسلام بسبب أفعال المسلمين، نسأل الله أن يهدينا جميعاً صراطه المستقيم.
القسم الثاني: هجرة العمل، وهي أن يهجر الإنسان ما نهاه الله عنه من المعاصي والفسوق كما قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهي الله عنه)) فتهجر كل ما حرم الله(1/25)
عليك، سواء كان مما يتعلق بحقوق الله، أو ما يتعلق بحقوق عباد الله؛ فتجهر السبب والشتم والقتل والغش وأكل المال بالباطل وعقوق الوالدين وقطيعة الأرحام وكل شيء حرم الله تهجره، حتى لو أن نفسك دعتك إلي هذا وألحت عليك، فاذكر أن الله حرم ذلك حتى تهجره وتبعد عنه.
القسم الثالث: هجرة العامل، فإن العامل قد تجب هجرته أحياناً، قال أهل العلم: مثل الرجل المجاهر بالمعصية؛ الذي لا يبالي بها؛ فإنه يشرع هجره إذا كان في هجره فائدة ومصلحة.
والمصلحة والفائدة إنه إذا هجر عرف قدر نفسه، ورجع عن المعصية.
ومثال ذلك: رجل معروف بالغش بالبيع والشراء؛ فيهجره الناس، فإذا هجروه تاب من هذا ورجع وندم، ورجل ثان يتعامل بالربا، فيهجره الناس، ولا يسلمون عليه، ولا يكلمونه؛ فإذا عرف هذا خجل من نفسه وعاد إلي صوابه، ورجل ثالث-وهو أعظمهم-لا يصلي؛ فهذا مرتد كافر - والعياذ بالله -؛ يجب أن يهجر؛ فلا يرد عليه السلام، ولا يسلم عليه، ولا تجاب دعوته حتى إذا عرف نفسه ورجع إلي الله وعاد إلي الإسلام انتفع بذلك.
أما إذا كان الهجر لا يفيد ولا ينفعن وهو من أجل معصية، لا من أجل كفر، لأن الهجر إذا كان للكفر فإنه يهجر. والكافر المرتد يهجر على كل حال - أفاد أم لم يفد - لكن صاحب المعصية التي دون الكفر إذا لم يكن في هجره مصلحة فإنه لا يحل هجره؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما(1/26)
الذي يبدأ بالسلام.
ومن المعلوم أن المعاصي التي دون الكفر عند أهل السنة والجماعة لا تخرج من الإيمان.
فيبقي النظر بعد ذلك؛ هل الهجر مفيد أو لا؟ فإن أفاد، وأوجب أن يدع الإنسان معصيته فإنه يهجر، ودليل ذلك قصة كعب بن مالك - رضي الله عنه، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع - رضي الله عنهم - الذين تختلفوا عن غزوة تبوك فهجرهم النبي صلي الله عليه وسلم وأمر المسلمين بهجرهم، لكنهم انتفعوا في ذلك انتفاعا عظيماً ولجأوا إلي الله، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وأيقنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه فتابوا وتاب الله عليهم.
هذه أنواع الهجرة: هجرة المكان، وهجرة العمل، وهجرة العامل.
* **
2-وعن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم)) قالت: يا رسول الله، كيف تخسف بأولهم وآخرهم(1/27)
وفيهم اسوافهم، ومن ليس منهم؟ قال: ((يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم)) (متفق عليه) هذا لفظ البخاري.
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف حديث عائشة ـ رضي الله عنها- أن النبي صلي الله عليه وسلم أخبر أنه يغزو جيش الكعبة، الكعبة المشرفة حماها الله وأنقذها من كل شر.
هذه الكعبة هي بيت الله؛ بناه إبراهيم، وابنه إسماعيل - عليهما الصلاة والسلام - وكانا يرفعان القواعد من البيت ويقولان) رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة: من الآية127)
هذا البيت أراد ابرهة أن يغزو من اليمن، فغزاه بجيش عظيم في مقدمته فيل عظيم؛ يريد أن يهدم به الكعبة - بيت الله - فلما قرب من الكعبة ووصل إلي مكان يقال له المغمس حرن الفيل، وأبي أن يتقدم، فجعلوا ينهرونه ليتقدم إلي الكعبة فأبي، فإذا صرفوه نحو اليمن هرول وأسرع؛ ولهذا قال الرسول - عليه الصلاة والسلام - في غزوة الحديبة لما أن ناقته حزنت، وبركت من غير علة - قال الرسول صلي الله عليه وسلم: ((ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق!)) فالنبي - عليه الصلاة والسلام - يدافع عن بهيمة،(1/28)
لأن الظلم لا ينبغي، ولو على البهائم.
((ما خلات القصواء وما ذاك لها بخلق - أي عادة- ولكن حبسها حابس الفيل)) وحابس الفيل: هو الرب سبحانه وتعالي، ((والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطتيهم إياها))
المهم أن الكعبة غزيت من قبل اليمن، في جيش عظيم، يقوده هذا الفيل العظيم، ليهدم الكعبة، فلما وصلوا إلي المغمس أبي الفيل أن يمشي، وحرن، فنتهروه، ولكن لا فائدة، فبقوا هناك وانحبسوا، فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل، والأبابيل: يعني الجماعات الكثيرة من الطيور، وكل طير يحمل حجراً قد أمسكه برجله، ثم يرسله على الواحد منهم، حتى يضربه مع هامته ويخرج إلي دبره) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (الفيل: 5) . كأنهم زرع أكلته البهائم، وأندكوا في الأرض، وفي هذا يقول أمية بن الصلت:
حبس الفيل في المغمس حتى ظل يحبو كأنه معقور
فحمي الله عز وجل بيته من كيد هذا الملك الظالم الذي ججاء ليهدم بيت الله، وقد قال الله عز وجل،:) وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الحج: من الآية25)
في آخر الزمان يغزو قوم الكعبة، جيش عظيم.
وقوله: ((حتى إذا كانوا بيداء من الأرض)) أي بأرض واسعة متسعة، خسف الله بأولهم وآخرهم.
خسفت بهم الأرض، وساخوا فيها هم وأسواقهم، وكل من معهم.
وفي هذا دليل على أنهم جيش عظيم؛ لأن معهم اسواقهم؛ للبيع(1/29)
والشراء وغير ذلك.
فيخسف الله بأولهم وآخرهم. لما قال الرسول صلي الله عليه وسلم هذا، ورد على خاطر عائشة - رضي الله عنها- سؤال، فقالت: يا رسول الله ((كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم، ومن ليس منهم؟)) أسو أقهم: الذين جاءوا للبيع والشراء؛ ليس لهم قصد سيء في غزو الكعبة، وفيهم أناس ليسوا منهم تبعوهم من غير أن يعلموا بخطتهم، فقال الرسول صلي الله عليه وسلم: ((يخسف بأولهم وآخرهم وأسواقهم ومن ليس منهم ثم يبعثون يوم القيامة على نياتهم)) كل له ما نوي.
هذا فرد من أفراد قول الرسول - عليه الصلاة والسلام -: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي)) .
وفي هذا الحديث عبرة: أن من شارك أهل الباطل وأهل البغي والعدوان، فإنه يكون معهم في العقوبة؛ الصالح والطالح، العقوبة إذا وقعت تعم الصالح والطالح، والبر والفاجر، والمؤمن والكافر، والمصلي والمستكبر، ولا تترك أحداً، ثم يوم القيامة يبعثون علي نياتهم.
يقول الله عز وجل:) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (لأنفال: 25) والشاهد من هذا الحديث قول الرسول صلي الله عليه وسلم: ((ثم يبعثون علي
نياتهم)) فهو كقوله: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي)) .(1/30)
وعن عائشة - رضي الله عنها- قالت: قال النبي صلي الله عليه وسلم ((لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونبة وإذا استفرتم فانفروا)) متفق عليه.
ومعناه: لا هجرة من مكة؛ لأنها صارت دار إسلام.
[الشَّرْحُ]
في هذا الحديث نفي رسول الله صلي الله عليه وسلم الهجرة بعد الفتح، فقال: ((لا هجرة)) وهذا النفي ليس على عمومه، يعني أن الهجرة لم تبطل بالفتح، بل إنه ((وهذا النفي ليس على عمومه، يعني أن الهجرة لم تبطل بالفتح، بل إنه ((لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها)) _ كما جاء ذلك في الحديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم - لكن المراد بالنفي هنا نفي الهجرة من مكة كما قاله المؤلف - رحمه الله-؛ لأن مكة بعد الفتح صارت بلاد إسلام، ولن تعود بعد ذلك بلاد كفر، ولذلك نفي النبي صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم أن تكون هجرة بعد الفتح.
وكانت مكة تحت سيطرة المشركين، وأخرجوا منها رسول الله صلي الله عليه وسلم، فهاجر صلي الله عليه وسلم بإذن ربه إلي المدينة وبعد ثمان سنوات رجع النبي صلي الله عليه وسلم إلي مكة فاتحاً مظفراً منصوراً- صلوات الله وسلامه عليه-.
فصارت مكة كونها بلد كفر النبي صلي الله عليه وسلم صارت بلد إيمان وبلد إسلام، ولم يكن منها هجرة بعد ذلك.(1/31)
وفي هذا دليل على أن مكة لن تعود بلاد كفر، بل ستبقي بلاد إسلام إلي أن تقوم الساعة، أو إلي أن يشاء الله.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((ولكن جهاد ونية)) ؛ أي الأمر بعد هذا جها؛ أي يخرج أهل مكة من مكة إلي الجهاد.
و ((النية)) أي النية الصالحة للجهاد في سبيل الله، وذاك بان ينوي الإنسان بجهاده، أن تكون كلمة الله هي العليا.
ثم قال عليه الصلاة والسلام ((وإذا استنفرتم فانفروا)) يعني: إذا استنفركم ولي أمركم للجهاد في سبيل الله، فانفروا وجوباً، وحينئذ يكون الجهاد فرض عين، إذا استنفر الناس للجهاد؛ وجب عليهم أن ينفروا، وألا يتخلف أحد إلا من عذره، لقول الله تعالي:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) (إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئا) (التوبة: من الآية38/39) ، وهذا أحد المواضع التي يكون فيها الجهاد فرض عين.
الموضع الثاني: إذا حضر بلدة العدو، أي جاء العدو حتى وصل إلي البلد وحصر البلد، صار الجهاد فرض عين، ووجي علي كل أحد أن يقاتل، حتى على النساء والشيوخ القادرين في هذه الحال، لأن هذا قتال دفاع.
وفرق بين قتال الدفاع وقتال الطلب.
فيجب في هذا الحال أن ينفر الناس كلهم للدفاع عن بلدهم.(1/32)
الموضع الثالث: إذا حضر الصف، والتقي الصفان؛ صف الكفار وصف المسلمسن؛ صار الجهاد حينئذ فرض عين، ولا يجوز لأحد أن ينصرف كما قال الله تعالي:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ) (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (لأنفال: 15، 16) .
وقد جعل النبي صلي الله عليه وسلم التولي يوم الزحف من السبع الموبقات.
الموضع الرابع: إذا احتيج إلي الإنسان؛ بأن يكون السلاح لا يعرفه إلا فرد من الأفراد، وكان الناس يحتاجون إلي هذا الرجل؛ لاستعمال هذا السلاح الجديد مثلاً؛ فإنه يتعين عليه أن يجاهد وإن لم يستنفره الإمام وذلك لأنه محتاج إليه.
ففي هذه المواطن الأربعة، يكون الجهاد فرض عين.
وما سوي ذلك فإنه يكون فرض كفاية.
قال أهل العلم: ويجب علي المسلمين ان يكون منهم جهاد في العام مرة واحدة، يجاهد أعداء الله؛ لتكون كلمة الله هي العليا، لا لأجل أن يدافعوا عن الوطن من حيث إنه وطن، لأن الدفاع عن الوطن من حيث هو وطن يكون من المؤمن والكافر، حتى الكفار يدافعون عن أوطانهم، لكن(1/33)
المسلم يدافع عن دين الله، فيدافع عن وطنه؛ لا لأنه وطنه مثلاً، ولكن لأنه بلد إسلامي؛ فيدافع عنه حماية للإسلام الذي حل في هذه البلد.
ولذلك يجب علينا في مثل هذه الظروف التي نعيشها اليوم النبي صلي الله عليه وسلم يجب علينا أن نذكر جميع العامة بأن الدعوة إلي تحرير الوطن، وما أشبه ذلك دعوة غير مناسبة، وأنه يجب أن يعبأ الناس تعبئة دينية، ويقال إننا ندافع عن ديننا قبل كل شيء؛ لأن بلدنا بلد دين، بلد إسلام يحتاج إلي حماية ودفاع، فلابد ان ندافع عنها بهذه النية. أما الدفاع بنية الوطنية، أو بنية القومية، فهذا يكون من المؤمن والكافر، ولا ينفع صاحبه يوم القيامة، وإذا قتل وهو يدافع بهذه النية فليس بشهيد؛ لأن الرسول صلي الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليري مكانه أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) .
أنتبه إلي هذا القيد ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا)) لا لأنه وطنه وإذا كنت تقاتل لوطنك؛ فأنت والكافر سواء، لكن قلت لتكون كلمة الله هي العليا، ممثلة في بلدك؛ لأن بلدك بلد إسلام؛ ففي هذه الحال يكون القتال قتالاً في سبيل الله.
وثبت عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يكلم أحد في سبيل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيله- أي يخرج - إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب؛ اللون لون الدم،(1/34)
والريح ريح المسك)) .
فأنظر كيف اشترط النبي صلي الله عليه وسلم للشهادة أن يكون الإنسان يقاتل في سبيل الله، والقتال في سبيل الله؛ أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
فيجب على طلبة العلم أن يبينوا للناس أن القتال للوطن ليس قتالاً صحيحاً وإنما يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وأقاتل عن وطني؛ لأنه وطن إسلامي؛ فأحميه من أعدائه وأعداء الإسلام؛ فبهذه النية تكون النية صحيحة والله الموفق.
* * *
4-وعن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنهما - قال: كنا مع النبي صلي الله عليه وسلم في غزاة فقال: ((إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم؛ حبسهم المرض)) وفي رواية: ((إلا شركوكم في الأجر)) رواه مسلم.
ورواه البخاري عن أنس - رضي الله عنه - قال: ((رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلي الله عليه وسلم فقال: ((إن أقواماً بالمدينة خلفنا، ما سلكنا عبا، ولا واديا إلا وهم معنا، حبسهم العذر))(1/35)
[الشَّرْحُ]
قوله: ((في غزاة)) أي في غزوة.
فمعني الحديث أن الإنسان إذا نوي العمل الصالح، ولكنه حبسه عنه حابس فإنه يكتب له أجر ما نوي.
أما إذا كان يعلمه في حال العذر؛ أي: لما كان قادراً كان يعلمه، ثم عجز عنه فيما بعد؛ فإنه يكتب له أجر العمل كاملاً، لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً)) . فالمتمني للخير، الحريص عليه؛ إن كان من عادته أنه كان يعلمه، ولكنه حبسه عنه حابس، كتب له أجره كاملاً.
فمثلاً: إذا كان الإنسان من عادته أن يصلي مع الجماعة في المسجد، ولكنه حبسه حابس، كنوم أو مرض، أو ما أشبهه فإنه يكتب له أجر المصلي مع الجماعة تماماً من غير نقص.
وكذلك إذا كان الإنسان من عادته أن يصلي تطوعاً، ولكنه منعه منه مانع، ولم يتمكن منه؛ فإنه يكتب له أجره كاملاً، وكذلك إن كان من عادته أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، ثم عجز عن ذلك، ومنعه مانع، فإنه يكتب له الأجر كاملاً.
وغيره من الأمثلة الكثيرة.(1/36)
أما إذا كان ليس من عادته أن يفعله؛ فإنه يكتب له أجر النية فقط، دون أجر العمل.
ودليل ذلك: أن فقراء الصحابة رضي الله عنهم قالوا: يا رسول الله سبقنا أهل الدثور بالدرجات العلي، والنعيم المقيم _ يعني: أن أهل الأموال سبقوهم بالصدقة والعتق- فقال النبي صلي الله عليه وسلم: ((أفلا أخبركم بشي إذا فعلتموه أدركتم من سبقكم ولم يدرككم أحد إلا من عمل مثل ما عملتم!! فقال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين)) ففعلوا، فعلم الأغنياء بذلك؛ ففعلوا مثلما فعلوا، فجاء الفقراء إلي الرسول صلي الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا؛ ففعلوا مثله، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: ((ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)) والله ذو الفضل العظيم. ولم يقل لهم: إنكم أدركتم أجر عملهم، ولكن لا شك أن لهم أجر نية العمل.
ولهذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام فيمن آتاه الله مالاً؛ فجعل ينفقه في سبل الخير، وكان رجل فقير يقول: لو أن لي مال فلان لعملت مثل عمل فلان، قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((فهو بنيته النبي صلي الله عليه وسلم فأجرهما سواء)) .(1/37)
أي سواء في اجر النية، أما العمل فإنه لا يكتب له أجره إلا إن كان من عادته أن يعمله.
*وفي هذا الحديث: إشارة إلي من يخرج في سبيل الله، في الغزو، والجهاد في سبيل الله، فإن له أجر ممشاه، ولهذا قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا ولا شعبا إلا وهم معكم)) .
ويدل لهذا قوله تعالي: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (التوبة: 120/121) .
ونظير هذا: أن الرجل إذا توضأ في بيته فأسبغ الوضوء، ثم خرج إلي المسجد؛ لا
يخرجه إلا الصلاة؛ فإنه لا يخطو خطوة إلا رفع الله له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة.
وهذا من فضل الله - عز وجل - أن تكون وسائل العمل فيها هذا الأجر الذي بينه
الرسول صلي الله عليه وسلم. والله الموفق. اهـ.(1/38)
وعن أبي مغن بن يزيد بن الخنس- رضي الله عنهم - وهو وأبوه وجده صحابيون، قال: كان أبي - يزيد - اخرج دنانير يتصدق بها، فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فاخذتها، فآتيته بهان فقال: والله ما إياك أردت فخاصمته إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: ((لك ما نويت يا يزيد ولك ما أخذت يا مغن)) رواه البخاري) .
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث الذي ذكره المؤلف - رحمه الله - في قصة معن بن يزيد وأبيه - رضي الله عنهما -، أن أباه يزيد أخرج دراهم عند رجل في المسجد ليتصدق بها على الفقراء، فجاء ابنه معن فأخذها، وربما يكون ذلك الرجل الذي وكل فيها لم يعلم أنه ابن يزيد. ويتحمل أنه أعطاه لأنه من المستحقين.
فبلغ ذلك أباه يزيد، فقال له: ((ما إياك أردت _ أي ما أردت أن أتصدق بهذه الدراهم عليك - فذهب إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال النبي صلي الله عليه وسلم: ((لك يا يزيد ما نويت، ولك يا معن ما أخذت)) .
فقوله عليه الصلاة والسلام: ((لك يا يزيد ما نويت)) يدل على أن الأعمال بالنيات، وأن الإنسان إذا نوي الخير حصل له، وإن كان يزيد لم ينو أن يأخذ هذه الدراهم ابنه، لكنه أخذها؛ وابنه من المستحقين؛(1/39)
فصارت له، ولهذا قال النبي صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم: ((لك يا معن ما أخذت)) .
ففي هذا الحديث: دليل لما ساقه المؤلف من أجله أن الأعمال بالنيات، وأن الإنسان يكتب له أجر ما نوي؛ وإن وقع الأمر على خلاف ما نوي، وهذه القاعدة لها فروع كثيرة:
منها: ما ذكره العلماء رحمهم الله أن الرجل لو أعطي زكاته شخصاً يظن أنه من أهل الزكاة، فتبين أنه غني وليس من أهل الزكاة فإن زكاته تجزئ، وتكون مقبولة تبرأ به ذمته؛ لأنه نوي أن يعطيها من هو أهل لها، فإذا نوي فله نيته.
ومنها: أن الإنسان لو أراد أن يوقف - مثلاً- بيتلً صغيراً، فقال: وقفت بيتي الفلاني، وأشار إلي الكبير، لكنه، لكنه خلاف ما نواه بقلبه، فإنه على ما نوي وليس على ما سبق به لسانه.
ومنها: لو ان إنساناً جاهلاً لا يعرف الفرق بين العمرة والحج، فحج مع الناس، فقال لبيك حجاً، وهو يريد عمرة يتمتع بها إلي الحج؛ فإنه له ما نوي، مادام أن قصده يريد العمرة، لكن قال لبيك حجاً مع هؤلاء الناس، فله ما نوي، ولا يضر سبق لسانه بشيء.
ومنها أيضاً: لو قال الإنسان لزوجته: أنت طالق؛ ويريد أنت طالق من قيد لا من نكاح، فله ما نوي، ولا تطلق بذلك زوجته.
فهذا الحديث له فوائد كثيرة وفروع منشرة في أبواب زوجته.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه يجوز للإنسان أن يتصدق على ابنه، والدليل على هذا أن النبي صلي الله عليه وسلم أمر بالصدقة وحث عليها، فأرادت زينب(1/40)
- زوجة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنها - أن تتصدق بشيء من مالها، فقال لها زوجها أنا وولدك أحق من تصدقت عليه - لأنه كان فقيراً- رضي الله عنه - فقالت: لا حتى اسال النبي صلي الله عليه وسلم فقال: ((صدق ابن مسعود زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم))
ومن فوائد الحديث: أنه يجوز أن يعطي الإنسان ولده من الزكاة، بشرط أن لا يكون في ذلك إسقاط لواجب عليه.
يعني مثلاً: لو كان الإنسان عنده زكاة وأراد أن يعطيها ابنه، من أجل أن لا يطالبه بالنفقة؛ فهذا لا يجزي؛ لأنه أراد بإعطائه أن يسقط واجب نفقته.
أما لو أعطاه ليقضي ديناً عليه؛ مثل أن يكون على الابن حادث، ويعطيه أبوه من الزكاة ما يسدد به هذه الغرامة؛ فإن ذلك لا بأس به، وتجزئه من الزكاة، لأن ولده أقرب الناس إليه؛ وهو الآن لم يقصد بهذا إسقاط واجب عليه، إنما قصد بذلك إبراء ذمة ولده؛ لا الإنفاق عليه، فإذا كان هذا قصده فإن الزكاة تحل له. والله الموفق أ. هـ.
* * *
6- وعن أبي إسحاق سعد بن أبى وقاص بن أهيب بن عبد مناف ابن زهرة بن كلاب النبي صلي الله عليه وسلم مرة بن كعب بن لوي القرشي الزهري رضي الله عنه، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، رضي الله عنهم، قال: ((جاءني رسول الله(1/41)
صلي الله عليه وسلم عام حجة الوداع من وجع اشتد بين فقلت: يا رسول الله إني قد بلغ بي من الوجع ما تري، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي، أفاتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: لا قلت: فالثلث يا رسول الله، قال: الثلث والثلث كثير - أو كبير- إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تلتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في في أمراتكزقال: فقلت: يا رسول الله اخلف بعد أصحابي، قال: إنك لن تخلف فتعمل عملاً تبنغي به وجه الله؛ إلا أزدت به درجة ورفعة، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون. اللهم أمص لأصحابي هجرتهم، ولا تزدهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة)) يرثي له رسول الله صلي الله عليه وسلم أن مات بمكة. (متفق عليه) .
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف - رحمه الله تعالي - فيما نقله عن سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه - أن النبي صلي الله عليه وسلم جاءه يعوده في مرض ألم به، وذلك في مكة، وكان سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - من المهاجرين الذين هاجروا من مكة إلي المدينة، فتركوا بلدهم لله عز وجل، وكان من عادة النبي صلي الله عليه وسلم أنه يعود المرضي من أصحابه، كما أنه يزور منهم؛ لأن صلي الله عليه وسلم كان(1/42)
أحسن الناس خلقاً؛ على أنه الإمام المتبوع. صلوات الله وسلامه عليه، كان من أحسن الناس خلقاً، وألينهم بأصحابه، واشدهم تحببا إليهم.
فجاءه يعوده، فقال: يا رسول الله: ((إني قد بلغ بي من الوجع ما تري)) أي: اصابه الوجع العظيم الكبير.
((وأنا ذو مال كثير أوكبير)) أي: أن عنده مالاً كبيراً
((ولا يرثني إلا ابنة لي)) أي: ليس له ورثة بالفرض إلا هذه البنت.
((أفأتصدق بثلثي مالي)) يعني بثلثيه: اثنين من ثلاثة!
((قال: لا قلت: الشطر يا رسول)) أي: بالنصف.
((قال: لا: قلت: بالثلث قال: الثلث والثلث كثير)) .
فقوله: ((أفأتصدق)) أي أعطيه صدقة؟ فمنع النبي صلي الله عليه وسلم من ذلك؛ لأن سعداً في تلك الحال كان مريضاً مرضاً يخشي منه الموت، فلذلك منعه الرسول صلي الله عليه وسلم أن يتصدق بأكثر من الثلث.
لأن المريض مرض الموت المخوف لا يجوز أن يتصدق بأكثر من الثلث، لأن ماله قد تعلق به حق الغير؛ وهم الورثة. أما من كان صحيحاً ليس فيه مرض، أو فيه مرض يسير لا يخشي منه الموت، فله أن يتصدق بما شاء؛ بالثلث، أو بالنصف، أو بالثلثين، أو بماله كله، لا حرج عليه.
لكن لا ينبغي أن يتصدق بماله كله؛ إلا إن كان عنده شيء يعرف أنه سوف يستغني به عن عباد الله.
المهم أن الرسول صلي الله عليه وسلم منعه أن يتصدق بما زاد عن الثلث.
وقال: ((الثلث والثلث كثير - أو كبير)) وفي هذا دليل علي أنه إذا(1/43)
نقص عن الثلث فهو أحسن وأكمل؛ ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((لو أن الناس غضوا من الثلث إلي الربع)) ؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((الثلث والثلث كبير))
وقال أبو بكر رضي الله عنه: ((أرضي ما رضيه الله لنفسه)) يعني: الخمس، فأوصي بالخمس رضي الله عنه.
وبهذا نعرف أن عمل الناس اليوم؛ وكونهم يوصون بالثلث؛ خلاف الأولي، وإن كان هو جائزاً. لكن الأفضل أن يكون أدني من الثلث؛ أما الربع أو الخمس.
قال فقهاؤنا رحمهم الله والأفضل أن يوصي بالخمس، لا يزيد عليه؛ اقتداء بأبي بكر الصديق رضي الله عنه.
ثم قال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من ان تذرهم عالة يتكففون الناس)) .
أي: كونك تبقي المال ولا تتصدق به؛ حتى إذا مت وورثه الورثة صاروا أغنياء به، هذا خير من أن تذرهم عالة، لا تترك لهم شيئاً ((يتكففون الناس)) أي: يسألون الناس بأكفهم؛ أعطونا أعطونا.
وفي هذا دليل على أن الميت إذا خلف مالاً للورثة فإن ذلك خير له.
لا يظن الإنسان أنه إذا خلف المال، وورث منه قهراً عليه، أنه لا أجر له في ذلك! لا بل له أجر، حتى إن الرسول - عليه الصلاة والسلام - قال: ((إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة…ألخ)) لأنك إذا تركت المال للورثة انتفعوا به، وهم أقارب، وإن تصدقت به انتفع به الأباعد،(1/44)
والصدقة على القريب أفضل علي البعيد، لأن الصدقة على القريب صدقة وصلة.
ثم قال ((إنك لن تنفق نفقة بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعله في في أمرأتك)) يقول: لن تنفق نفقة؛ أي: لن تنفق مالاً؛ دراهم أو دنانير أوثياباً، أو فرشاً أو طعاماً أو غير ذلك تبتغي به وجه الله إلا أجرت عليه.
الشاهد من هذا قوله: ((تبتغي به وجه الله)) أي: تقصد به وجه الله عز وجل، يعني تقصد به أن تصل إلي الجنة؛ حتى تري وجه الله عز وجل.
لأن أهل الجنة - جعلني الله وإياكم منهم - يرون الله سبحانه وتعالي، وينظرون إليه عياناً بأبصارهم، كما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، وكما يرون القمر ليللة البدر. يعني أنهم يرون ذلك حقا.
((حتى ما تجعله في في امرأتك)) أي: حتى اللقمة التي تطعمها امرأتك تؤجر عليها إذا قصدت بها وجه الله، مع ان الإنفاق على الزوجة أمر واجب، لو لم تنفق لقالت أنفق أو طلق، ومع هذا إذا أنفقت على زوجتك تريد إذا أنفقت على نفسك تبتغي بذلك وجه الله؛ فإن الله يثيبك علي هذا.
ثم قال رضي الله عنه: ((أخلف بعد أصحابي)) يعني أو خلف بعد أصحابي، أي: هل أتأخر بعد أصحابي فأموت بمكة. فبين النبي صلي الله عليه وسلم أنه لن يخلف فقال: ((إنك لن تخلف)) وبين له أنه أو خلف ثم عمل عملاً يبتغي به(1/45)
وجه الله إلا زادت به عن الله درجة ورفعة.
يعني: لو فرض أنك خلفت ولم تتمكن من الخروج من مكة، وعملت عملاً تبتغي به وجه الله؛ فإن الله تعالي يزيدك به رفعة ودرجة، رفعة في المقام والمرتبة، ودرجة في المكان.
فيرفعك الله عز وجل في جنات النعيم درجات. حتى لو علمت بمكة وأنت قد هاجرت منها.
ثم قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((ولعلك أن تخلف)) أن تخلف: هنا غير أن تخلف الأولي ((لعلك أن تخلف)) : أي تعمر في الدنيا؛ وهذا هو الذي وقع فإن سعد ابن أبي وقاص عمر زماناً طويلاً، حتى إنه- رضي الله عنه- كما ذكر العلماء، خلف سبعة عشر ذكراً واثنتي عشر بنتاً.
وكان في الأول ليس عنده إلا بنت واحدة، ولكن بقي وعمر ورزق أولاداً. سبعة عشر ابنا واثنتي عشرة ابنة.
قال: ((ولعلك أن تخلف)) ((حتى ينتفع بك أقواماً ويضر بك آخرون)) وهذا الذي حصل، فإن سعداً _ رضي الله عنه - خلف وصار له أثر كبير في الفتوحات الإسلامية، وفتح فتوحات عظيمة كبيرة، فانتفع به أقوام وهم المسلمون، وضربه آخرون وهم الكفار.
ثم قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((اللهم أمض لأصحابي هجرتهم)) سأل الله أن يمضي لأصحابه هجرتهم وذلك بأمرين:
الأمر الأول: ثباتهم على الإيمان؛ لأنه إذا ثبت الإنسان على الإيمان ثبت على الهجرة.(1/46)
والأمر الثاني: أن لا يرجع أحدهم منهم إلي مكة بعد أن خرج منها؛ مهاجراً إلي الله ورسوله.
لأنك إذا خرجت من البلد مهاجراً إلي الله ورسوله؛ فهو كالمال الذي تتصدق به. يكون البلد مثل المال الذي تصدق به لا يمكن أن ترجع فيه.
وهكذا كل شيء تركه الإنسان لله لا يرجع فيه.
ومن ذلك: ما وفق فيه كثير من الناس من إخراج التليفزيون من بيوتهم؛ توبة إلي الله، وابتعاداً عنه، وعما فيه من الشرور. فهؤلاء قالوا هل يمكن أن نعيده إلي البيت؟
نقول: لا، بعد أن أخرجتموه لله لا تعيدوه؛ لأن الإنسان إذا ترك شيئاً لله، وهجر شيئاً لله، فلا يعود فيه. ولهذا سأل النبي - عليه الصلاة والسلام - ربه أن يمضي لأصحابه هجرتهم.
وقوله: ((ولا تردهم علي أعقابهم)) أي لا تجعلهم ينتكسون عن الإيمان فيرتدون علي أعقابهم؛ لأن الكفر تأخر، والإيمان تقدم، وهذا على عكس ما يقوله الملحدون اليوم؛ حيث يصفون الإسلام بالرجعية، ويقولون إن التقدمية: أن ينسلخ الإنسان من الإسلام، وأن يكون علمانياً؛ يعني أنه لا يفرق بين الإيمان والكفر - والعياذ بالله - ولا بين الفسوق والطاعة، فالإيمان هو التقدم في الحقيقة.
المتقدمون هم المؤمنون، والتقدم يكون بالإيمان، والرده تكون نكوصا لي العقبين؛ كما قال النبي _ عليه الصلاة والسلام - هنا: ((ولا تردهم علي أعقابهم)) .(1/47)
وفي هذا الحديث من الفوائد فوائد عظيمة كثيرة!!
منها: أن من هدي الرسول صلي الله عليه وسلم عيادة المرضي، لأنه عاد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وفي عيادة المرضي فوائد للعائد وفوائد للمعود.
أما العائد فإنه يؤدي حق أخيه المسلم؛ لأن من حق أخيك المسلم أن تعوده إذا مرض.
ومنها: أن الإنسان إذا عاد المريض فإنه لا يزال في مخرفة الجنة، يعني يجني ثمار الجنة حتى يعود.
ومنها: أن في ذلك تذكيراً للعائد بنعمة الله عليه بالصحة، لأنه إذا رأي هذا المريض، ورأي ما هو فيه من المرض، ثم رجع إلي نفسه، ورأي ما فيها من الصحة والعافية عرف قدر نعمة الله عليه بهذه العافية؛ لأن الشيء إنما يعرف بضده.
ومنها: أن فيها جلبا للمودة والمحبة، فإن الإنسان إذا عاد المريض صارت هذه العيادة في قلب المريض دائماً، يتذكرها، وكلما ذكرها أحب الذي يعوده، وهذا يظهر كثيراً فيما إذا برأ المريض، وحصلت منه ملاقاة لك تجده يتشكر منك، وتجد أن قلبه ينشرح بهذا الشيء.
أما المعود: فإن له فيها فائدة أيضاً، لأنها تؤنسه، وتشرح صدره، ويزول عنه ما فيه من الهم والغم والمرض. وربما يكون العائد موفقاً يذكره بالخير والتوبة والوصية؛ إذا كان يريد أن يوصي بشيء عليه من الديون وغيرها، فيكون في ذلك فائدة كبيرة للمعود.
ولهذا قال العلماء: ينبغي لمن عاد المريض أن ينفس له في أجله؛ أي(1/48)
يفرحه يقول: ما شاء الله، أنت اليوم في خير وما اشبهه، وليس لأزماً أن يقول له: أنت طيب مثلاً؛ لأنه قد يكون اشد مرضاً من أمس، لكن يقول أنت اليوم في خير، لأن المؤمن كل أمره خير، إن أصابه ضراء فهو في خير، وإن أصابه سراء فهو في خير، فيقول: اليوم أنت بخير والحمد لله، وما أشبه ذلك مما يدخل عليه السرور.
والاجل محتوم، إن كان هذا المرض أجله مات، وإن كان بقي له شيء من الدنيا بقي.
وينبغي أيضاً أن يذكره التوبة، لكن لا يقول له ذلك بصفة مباشرة؛ لأنه ربما ينزعج، ويقول في نفسه لو أن مرضي غير خطير ما ذكرني بالتوبة.
لكن يبدأ بذكر الآيات والأحاديث التي فيها الثناء على التائبين ما يتذكر به المريض، وينبغي كذلك أن يذكره الوصية، لا يقول له: أوص فإن أجلك قريب، لو قال هكذا انزعج. بل مثلاً: يذكره بقصص واردة عليه، يقول مثلاًك فلان كان عليه دين، وكان رجلاً حازماً، وكان يوصي أهله بقضاء دينه، وما أشبه ذلك..من الكلمات التي لا ينزعج بها.
قال أهل العلم: ينبغي أيضاً إذا راي منه تشوفاً إلي أن يقرأ عليه؛ فينبغي أن يقرأ عليه، ينفث عليه بما ورد عن النبي صلي الله عليه وسلم.
مثل قوله: ((أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً)) ومثل قوله: ((ربنا الله الذي في السماء(1/49)
تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء، فاجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ)) أو يقرأ عليه بسورة الفاتحة؛ لأن سورة الفاتحة رقية يقرأ بها علي المرضي، وعلي الذين لدغتهم العقرب، أو الحية، أو ما أشبه ذلك، فمتي راي العائد من المريض أنه يحب ان يقرأ عليه فليقرأ لئلا يلجيء المريض علي طلب القراءة، لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((رأيت مع أمتي سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب)) وقال: هم الذين لا يسترقون ولا يكتؤؤن ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون))
فقوله: ((لا يسترقون)) أي: لا يطلبون أحداً يقرأ عليهم، فأنت إذا رأيته يتشوق لتقرأ عليه، اقرأ عليه، لئلا تحرجه إلي طلب القراءة.(1/50)
كذلك أيضاً إذا رأيت أن المريض يحب أن تطيل المقام عنده، فأطل المقام؛ فأنت على خير وعلي أجر، فأطل المقام عنده، وأدخل عليه السرور، ربما يكون في دخول السرور على قلبه سبباً لشفائه؛ لأن سرور المريض وانشراح صدره من أكبر أسباب الشفاء، فإذا رايت أنه يحبك تبقي فابق عنده، وأطل الجلوس عنده حتى تعرف أنه قد مل.
أما إذا رأيت ان المريض متكلف ولا يحب أنك تبقي، أو يحب أن تذهب عنه حتى يحضر أهله ويأنس بهم فلا تتأخر، اسأل عن حاله ثم انصرف.
ومن فوائده: حسن خلق النبي صلي الله عليه وسلم، ولا شك أن النبي صلي الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً؛ لأن الله تعالي: (نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 1/4) . فأعظم الناس خلقاً وأحسن الناس خلقاً رسول الله صلي الله عليه وسلم.
ولهذا كان يعود أصحابه، ويزورهم، ويسلم عليهم، حتى إنه يمر بالصبيان الصغار فيسلم عليهم، صلوات الله وسلامه عليه.
ومن فوائد هذا الحديث: انه ينبغي للإنسان مشاورة أهل العلم، لأن سعد بن أبي وقاص، - رضي الله عنه - استشار النبي صلي الله عليه وسلم حينما أراد أن يتصدق بشيء منماله، فقال: يا رسول الله: ((إني ذو مال كثير، ولا يرثني إلا ابنة لي أفاتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا …)) الحديث.
ففيه استشارة أهل العلم والرأي، وكل إنسان بحسبهن فمثلاً إذا كنت تريد أن تقدم على شيء من أمور الدين، فشاور أهل العلم؛ لنهم أعلم بأمور الدين من غيرهم، إذا أردت ان تشتري بيتاً فشاور أصحاب المكاتب(1/51)
العقارية، إذا أردت أن تشتري سيارة فاستشر المهندسين في السيارات وهكذا.
ولهذا يقال: ((ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار)) .
والإنسان بلا شك لا ينبغي له أن يكمل نفسه. من ادعي الكمال لنفسه فهو الناقص، بل لابد أن يراجع خصوصاً في الأمور الهامة التي تتعلق بمسائل الأمة؛ فإن الإنسان قد يحمله الحما والعاطفة على فعل شيء هو في نفسه حق ولا باس به، لكن التحدث عنه قد يكون غير مصيب إما في الزمان، أو في المكان أو في الحال.
ولهذا ترك النبي صلي الله عليه وسلم بناء الكعبة على قواعد إبراهيم؛ خوفاً من الفتنة. فقال لعائشة رضي الله عنها: ((لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم ولجعلت بابين باباً يدخل منه الناس، وبابا يخرجون منه)) .
من أجل أن يتمكن الناس من دخول بيت الله عز وجل، لكن ترك ذلك خوف الفتنة مع كونه مصحلة!!
بل أعظم من ذلك أن الله تعالي نهي أن نسب آلهة المشركين، مع أن آلهة المشركين جديرة بأن تسب وتعاب وينفر منها، لكن لما كان سبها يؤدي إلي سب الرب العظيم المنزه عن كل عيب ونقص، قال الله عز(1/52)
وجل:) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام: 108) فالمهم إنه ينبغي أن نعلم أن الشيء قد يكون حسناً في حد ذاته وفي موضوعه، لكن لا يكون حسناً، ولا يكون من الحكمة، لا من العقل، ولا من النصح، ولا من الأمانة أن يذكر في وقت من الأوقات، أو في مكان من الأماكن، أو في حال من الأحوال، وإن كان هو في نفسه حقا وصدقاً وحقيقة واقعة، ومن ثم كان ينبغي للإنسان أن يستشير ذوي العلم والرأي والنصح في الأمر قبل أن يقدم عليه، حتى لا يكون لديه برهان، لأن الله قال لأشرف خلقه - عليه الصلاة والسلام- وأسدهم رأياً، وأبلغهم نصحاً محمد صلي الله عليه وسلم قال:) فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه) (آل عمران: من الآية159) .
هذا وهو رسول الله صلي الله عليه وسلم أسد الناس رأياً، وأرجحهم عقلاً، وأبلغهم نصحاً صلوات الله وسلامه عليه.
والإنسان ربما تأخذه العطفة فيندفع، ويقول: هذا لله، هذا أنا أفعله، ستصدع بالحقن سأقول: سوف لا تأخذني في الله لومة لائم وما أشبه ذلك من الكلام، ثم تكون العاقبة وخيمة، ثم إن الغالب أن الذي يحكم العاطفة، ويتبع العاطفة، ولا ينظر للعواقب، ولا للنتائج، ولا يقارن بين الأمور، الغالب أنه يحصل علي يديه من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، مع أن نيته طيبة، وقصده حسن، لكن لم يحسن أن يتصرف، لأن هناك فرقاً بين حسن النية وحسن التصرف، قد يكون الإنسان حسن(1/53)
النية، لكنه سيء التصرف، وقد يكون سيء النية، والغالب أن سيء النية يكون سيء التصرف، لكن مع ذلك: قد يحسن التصرف لينال غرضه السيء.
فالإنسان يحمد على حسن نيته، لكن قد لا يحمد علي سوء فعله، إلا أنه إذا علم منه أنه معروف بالنصح والإرشاد النبي صلي الله عليه وسلم فإنه يعذر بسوء تصرفه، ويلتمس له العذر، ولا ينبغي أيضاً أن يتخذ من فعله هذا، الذي لم يكن موافقاً للحكمة- لا ينبغي، بل لا يجوز - أن يتخذ منه قدح في هذا المتصرف، وأن يحمل ما لا يتحمله، ولكن يعذر ويبين له وينصح ويرشد، ويقال: يا أخي هذا كلامك، أو فعلك حسن طيب وصواب في نفسه، لكنه غير صواب في نحله أو في زمانه، أو في مكانه.
المهم أن في حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - إشارة إلي أنه ينبغي للإنسان أن يستشير من هو أكمل منه رأياً، وأكثر منه علما.
وفيه أيضاً من الفوائد: أنه ينبغي للمستشير ان يذكر الأمر على ما هو عليه حقيقة، وأسبابه، وموانعه وجميع ما يتعلق به، حتى يتيبن للمستشار حقيقة الأمر، ويبني مشورته على هذه الحقيقة، ولهذا قال سعد: ((إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة)) فقوله: ((إني ذو مال)) بيان لسبب العطية التي يريد أن يعطيها ((ولا يرثني إلا ابنة لي)) بيان لانتفاء المانع، يعني لا مانع من أن أعطي كثيراً لانتفاء الوارث.
والمستشار، عليه أن يتقي الله - عز وجل- فيما أشار فيه، وأن لا تأخذه العطفة في مراعاة المستشير؛ لأن بعض الناس إذا استشاره(1/54)
الشخص؛ ورأي أنه يميل إلي أحد الأمرين، أو أحد الرأيين ذهب يشير عليه به.
ويقول: أنا أحب أن أوافق الذي يري أنه يناسبه؛ وهذا خطأ عظيم، بل خيانة. والواجب إذا أستشار: أن تقول له ما تري أنه حق، وأنه نافع، سواء أرضاه أم لم يرضه، وأنت إذا فعلت هذا كنت ناصحاً وأديت ما عليك، ثم إن أخذ هـ، وراي أنه صواب قذاك، وإن لم يأخذ به فقد برئت ذمتك، بل خيانة، مع أنك ربما تستنتج شيئاً خطأ، قد تستنتج أنه يريد كذا، وهو لا يريده فتكون خسرانا من وجهين:
الوجه الأول: من جهة الفهم السيء.
الوجه الثاني: من جهة القصد السيء.
وفي قول الرسول عليه الصلاة والسلام ((لا)) دليل علي أنه لا حرج أن يستعمل الإنسان كلمة ((لا)) وليس فيها شيء.
فالنبي عليه الصلاة والسلام استعمل كلمة ((لا)) ومن ذلك أن جابراً- رضي الله عنه - لما أعيا جملة ولحقه النبي عليه الصلاة والسلام، لأن من عادة الرسول عليه الصلاة والسلام- لأنه راعي أمته- أنه يمشي في الآخر، لا يمشي قدامهم؛ بل يمشي وراءهم، لأجل أنه إذا احتاج أحد إلي شيء؛ يساعده عليه الصلاة والسلام، فانظر إلي التواضع وحسن الرعاية.
((لحق جابراً - وكان جملة قد اعيا - لا يمشي _ فضرب النبي صلي الله عليه وسلم(1/55)
الجمل، ودعا له، وقال: ((بغنيه بأوقية)) فقال جابر: لا، ولم ينكر عليه الرسول عليه الصلاة والسلام قوله ((لا)) والنبي عليه الصلاة والسلام هنا عند ما قال له سعد: أتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا إذن: فلا مانع من كلمة ((لا)) فإنها ليست سوء أدب وخلق، وكثير من الناس الآن يأنف أن يقول ((لا)) ويقول بدلاً عنها سلامتك، وهذا طيب أن تدعو له بالسلامة، لكن إذا قلت ((لا)) فلا عيب عليك.
ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز للمريض مرضاً مخوفاً أن يعطي أكثر من الثلث إلا إذا أجازه الورثة؛ لأن الورثة تعلق حقهم بالمال لما مرض الرجل، فلا يجوز أن يعطي أكثر من الثلث، لقول النبي صلي الله عليه وسلم في الثلثين: لا، وفي النصف: لا، وقال: ((الثلث والثلث كثير)) .
وفيه: دليل على أنه ينبغي أن يكون عطاؤه أقل من الثلث، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: أن الناس غضوا من الثلث إلي الربع لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((الثلث والثلث كثير)) .
ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز للإنسان إذا كان مريضاً مرضاً يخشي منه الموت أن يتبرع بأكثر من الثلث من ماله، لا صدقة، ولا مشاركة في بناء مساجد، ولا هبة، ولا غير ذلك. لا يزيد علي الثلث لأن النبي صلي الله عليه وسلم منع سعد بن أبي وقاص أن يتصدق بما زاد عن الثلث.(1/56)
ومن فوائده: أنه ينبغي أن يغض من الثلث؛ يعني: الربع، الخمس، دون ذلك.. لأن الرسول صلي الله عليه وسلم أشار إلي استحباب الغض من الثلث في قوله ((والثلث كثير)) ؛ وبهذا استدل عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - حيث قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلي الربع؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((الثلث والثلث كثير)) .
والوصية كالعطية، فلا يجوز أن يوصي الإنسان بشيء من ماله بعد موته زائدا على الثلث، فليكن من الثلث فأقل.
والأفضل في الوصية أن تكون بخمس المال؛ لأن أبا بكر -رضي الله عنه - قال: ارضي بما رضية الله لنفسه: الخمس، فأوصي بالخمس - رضي الله عنه - ومن ثم فقاؤنا- رحمهم الله -: يسن أن يوصي بالخمس إن ترك مالاً كثيراً.
ومن فوائد هذا الحديث أنه: إذا كان مال الإنسان قليلاً، وكان ورثته فقراء؛ فالأفضل أن لا يوصي بشيء، لا قليل، ولا كثير؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة)) خلافاً لما يظنه بعض العوام أنه لابد من الوصية، فهذا خطأ، والإنسان الذي ماله قليل وورثته فقراء ليس عندهم مال، لا ينبغي له أن يوصي، الأفضل أن لا يوصي.
ويظن بعض العامة أنه لم يوص لم يكن له أجر، وليس كذلك، بل إذا ترك المال لورثته فهو مأجور في هذا، وإن كان الورثة سوف يرثونه قهراً، لكن إذا كان مسترشداً بهدي النبي صلي الله عليه وسلم، لقوله: ((إنك أن تذر ورثتك(1/57)
أغنياء خير من أن تذرهم عالة)) فإن أجره في ذلك أفضل من أن يتصدق عنه بشيء من ماله.
ومن فوائد هذا الحديث: خوف الصحابة المهاجرين من مكة أن يموتوا فيها؛ لأن سعداً رضي الله عنه قال: ((أخلف بعد أصحابي)) وهذه الجملة استفاهمية والمعني ((أخلف؟)) وهذا استفهام توقعي مكروه، يعني أنه لا يحب أن يتخلف فيموت في مكة وقد خرج منها مهاجراً إلي الله ورسوله، وهكذا كل شيء تركه الإنسان لله لا ينبغي أن يرجع فيه، وقد سبق لنا في شرح الحديث أن من ذلك ما فعله بعض الناس؛ حيث تخلصوا من جهاز التلفزيون لما رأوا من مضاره ومفاسده ما يربو على مصالحه ومنافعه، تركوه لله فكسروه، ثم جاؤوا يسألون: هل يعيدوه مرة ثانية؟ نقول: لا تعده مرة أخري ما دمت قد تخلصت منه ابتغاء وجه الله فلا ترجع فيما تركته لله.
ومن فوائد الحديث: ظهور معجزة لرسول الله صلي الله عليه وسلم؛ وهو أن الرسول صلي الله عليه وسلم قال له: ((إنك لن تخلف حتى يضر بك أقوام وينتفع بك آخرون)) فإن الأمر وقع كما توقعه النبي صلي الله عليه وسلم، فإن سعداً - رضي الله عنه- بقي إلي خلافة معاوية وعمر طويلاً بعد قول الرسول صلي الله عليه وسلم له، وهذا من آيات النبي صلي الله عليه وسلم؛ أن يخبر عن شيء مستقبل فيقع كما أخبر به عليه الصلاة والسلام، ولكن هذا ليس خبرا محضاً، بل توقع، لقوله: ((لعلك أن تخلف)) فلم يجزم، ولكن كان الأمر كما توقعه النبي صلي الله عليه وسلم.
ومن فوائد هذا الحديث: انه ما من إنسان يعمل عملاً يبتغي به وجه الله(1/58)
إلا ازداد به رفعة ودرجة، حتى وإن كان في مكان لا يحل له البقاء فيه، لأن العمل شيء والبقاء شيء آخر.
ولهذا كان القول الراجح من أقوال العلم: أن الإنسان إذا صلي في أرض مغصوبة فإن صلاته صحيحة، لأن النهي ليس عن الصلاة بل النهي عن الغضب.
فالنهي منصب على شيء غير الصلاة فتكون صلاته صحيحة في هذا المكان المغضوب، لكنه آثم ببقائه في هذا المكان المغصوب. نعن نعود لو ورد عن الرسول صلي الله عليه وسلم انه قال: ((لا تصل في أرض مغصوبة)) لقلنا: ((إذا صليت في الأرض المغصوبة فصلاتك باطلة، كما نقول: إنك إن صليت في المقبرة والحمام)) هذا غير صلاة الجنازة؛ لأنها تجوز حتى في المقبرة.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان إذا أنفق نفقة يبتغي وجه الله فإنه يثاب عليها، حتى النفقات على أهله وعلى زوجته، بل وعلى نفسه؛ إذا ابتغي بها وجه الله أثابه الله عليها.
وفيه إشارة إلي أنه ينبغي للإنسان أن يستحضر نية التقرب إلي الله في(1/59)
كل ما ينفق حتى لا يكون له في ذلك أجر. كل شيء تنفقه صغيراً كان أم كبيراً، على نفسك أو على أهلك أو على أصحابك أو على أي واحد من الناس؛ إذا ابتغيت به وجه الله أثابك الله على ذلك. وقوله: ((لكن البائس سعد بن خولة..)) سعد بن خولة - رضي الله عنه - من المهاجرين الذين هاجروا من مكة ولكن الله قدر أن يموت فيها؛ فمات فيها، فرثي له النبي عليه الصلاة والسلام؛ أي: توجع له أن مات بمكة؛ وقد كانوا يكرهون للمهاجر أن يموت في الأرض التي هاجر منها.
هذا ما تيسر من الكلام على هذا الحديث، والمؤلف- رحمه الله تعالي- ذكره في باب النية؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال لسعد: ((إنك لن تعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة)) وقال له: ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها)) فأشار في هذا الحديث إلي الإخلاص في كون الإنسان يبتغي بعمله وبإنفاق ماله وجه الله؛ حتى ينال على ذلك الأجر وزيادة الدرجات والرفعة عند الله عز وجل. والله الموفق
* * *
7-وعن أبي هريرة عبد الرحمن بت صخر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينظر إلي أجسادكم ولا إلي صوركم ولكن ينظر إلي قلوبكم)) . (رواه مسلم) .(1/60)
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث يدل على ما يدل عليه قول الله تعالي:) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم) (الحجرات: من الآية13) .
فالله سبحانه وتعالي لا ينظر إلي العباد إلي أجسامهم هل هي كبيرة أو صغيرة، أو صحيحة، أو سقيمة، ولا ينظر إلي الصور، هل هي جميلة أو ذميمة، كل هذا ليس بشيء عند الله، وكذلك لا ينظر إلي الأنساب؛ هل هي رفيعة أو دنيئة، ولا ينظر إلي الأموال، ولا ينظر إلي شيء من هذا أبدا، فليس بين الله وبين خلقه صلة إلا بالتقوي، فمن كان لله أتقي كان من الله أقرب، وكان عند الله أكرم؛ إذا لا تفتخر بمالك، ولا بجمالك، ولا ببدنك، ولا بأولادك، ولا بقصورك، ولا سياراتك، ولا بشيء من هذه الدنيا أبدا إنما إذا وفقك الله للتقوى فهذا من فضل الله عليك فأحمد الله عليه قوله عليه الصلاة والسلام: ((ولكن ينظر إلي قلوبكم)) فالقلوب هي التي عليها المدار، وهذا يؤيد الحديث الذي صدر المؤلف به الكتاب؛ ((إنما الأعمال بالنيات))
القلوب هي التي عليها المدار، كم من إنسان ظاهر عمله أنه صحيح وجيد وصالح، لكن لما بني على خراب صار خراباً، فالنية هي الأصل، تجد رجلين يصليان في صف واحد، مقتدين بإمام واحد، يكون بين صلاتيهما كما بين المشرق والمغرب؛ لأن القلب مختلف، أحدهما قلبه غافل، بل ربما يكون مرائيا في صلاته- والعياذ بالله - يريد بها الدنيا.(1/61)
والآخر قلبه حاضر يريد بصلاته وجه الله واتباع سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم.
فبينهما فرق عظيم، فالعمل على ما في القلب، وعلي ما في القلب يكون الجزاء يوم القيامة؛ كما قال الله تعالي:) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) (الطارق: 8) (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) (الطارق: 8/9) أي: تختبر السرائر لا الظواهر. في الدنيا الحكم بين الناس على الظاهر؛ لقول النبي صلي الله عليه وسلم: ((إنما أنا بشر وإنكم تختصمون، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وأقضي له على نحو مما أسمع لكن في الآخرة على ما في السرائر، نسأل الله أن يطهر سرائرنا جميعاً.
العلم على ما في السرائر: فإذا كانت السريرة جيدة صحيحة فأبشر بالخير، وإن كانت الأخرى فقدت الخير كله، وقال الله عز وجل:) أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ) (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) (العاديات9/10) فالعلم على ما في القلب. وإذا كان الله تعالي في كتابه، وكان رسوله صلي الله عليه وسلم في سنته يؤكدان على إصلاح النية؛ فالواجب على الإنسان أن يصلح نيته، يصلح قلبه، ينظر ما في قلبه من الشك فيزيل هذا الشك إلي اليقين. كيف؟ وذلك بنظره في الآيات:) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (آل عمران: 190)(1/62)
(وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (الجاثية: 4) إذا ألقي الشيطان في قلبك الشك فانظر في آيات الله. انظر إلي هذا الكون من يدبره انظر كيف تتغير الأحوال، كيف يداول الله الأيام بين الناس، حتى تعلم أن لهذا الكون مدبراً حكيماً عز وجل.
الشرك؛ طهر قلبك منه. كيف أطهر قلبي من الشرك؟
أطهر قلبي؛ بأن أقول لنفسي: إن الناس لا ينفعوني إن عصيت الله ولا
ينقذونني من العقاب، وإن أطعت الله لم يجلبوا إلي الثواب.
فالذي يجلب الثواب ويدفع العقاب هو الله. إذا كان الأمر كذلك فلماذا تشرك بالله- عز وجل- لماذا تنوي بعبادتك أن تتقرب إلي الخلق.
ولهذا من تقرب إلي الخلق بما يتقرب به إلي الله ابتعد عنه، وابتعد عنه الخلق.
يعني لا يزيده تقربه إلي الخلق بما يقربه إلي الله؛ إلا بعداً من الله ومن الخلق؛ لن الله إذا رضي عنك أرضي عنك الناس، وإذا سخط عليك أسخط عليك الناس، نعوذ بالله من سخطه وعقابه.
المهم يا أخي: عالج القلب دائماً، كن دائماً في غسيل للقلب حتى يطهر؛ كما قال الله - عز وجل -:) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُم) (المائدة: من الآية41) فتطهير القلب أمر مهم جداً، أسال الله أن يطهر قلبي وقلوبكم، وأن يجعلنا له مخلصين ولرسوله متبعين.(1/63)
8- وعن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري - رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ريياه: أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
وفي لفظ للحديث: ((ويقاتل ليري مكانة؛ أي ذلك في سبيل الله قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) .
قوله: ((من قاتل لتكون)) في هذا إخلاص النية لله - عز وجل- وهذا الذي ساق المؤلف الحديث من أجله؛ إخلاص النية.
فد سئل الرسول صلي الله عليه وسلم عن الذي يقاتل على أحد الوجوه الثلاثة! شجاعة، وحمية، وليري مكانة.
أما الذي يقاتل شجاعة: فمعناه أنه رجل شجاع، يحب القتال؛ لأن الرجل الشجاع متصف بالشجاعة، والشجاعة لابد لها من ميدان تظهر فيه، فتجد الشجاع يحب أن الله ييسر له قتالاً ويظهر شجاعته، فهو يقاتل لأنه شجاع يحب القتال.
الثاني: يقاتل حمية: حمية على قوميته، حمية على قبيلته، حمية على وطنه، حمية لأي عصبية كانت.
الثالث: يقاتل ليري مكانه: أي ليراه الناس ويعرفوا أنه شجاع، فعدل(1/64)
النبي صلي الله عليه وسلم عن ذلك، وقال كلمة موجزة ميزاناً للقتال فقال: ((من قاتل لتكون كلمة الله عي العليا فهو في سبيل الله)) .
وعدل النبي عليه الصلاة والسلام عن ذكر هذه الثلاثة؛ ليكون أعم واشمل؛ لأن الرجل ربما يقاتل من أجل الاستيلاء على الأوطان والبلدان، يقاتل من أجل أن يحصل علي امرأة يسبيها من هؤلاء القوم، والنيات لا حد لها، لكن هذا الميزان الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام ميزان تام وعدل، ومن هنا نعلم أنه يجب ان تعدل اللهجة التي يتفوه بها اليوم كثير من الناس.
ولذلك؛ على الرغم من قوة الدعاية للقومية العربية لم نستفد منها شيئاً، فاليهود استولوا على بلادنا، ونحن تفككنا، دخل في ميزان هذه القومية قوم كفار؛ من النصاري وغير النصاري، وخرج منها قوم مسلمون من غير العرب، فخسرنا ملايين العالم، ملايين الناس؛ من أجل هذه القومية، ودخل فيها قوم لا خير فيهم، قوم إذا دخلوا في شيء كتب عليه الخذلان والخسارة.
واللهجة الثانية: قوم يقاتلون للوطن، ونحن إذا قاتلنا من أجل(1/65)
الوطن؛ لم يكن هناك فرق بين قتالنا وبين قتال الكافر عن وطنه. حتى الكافر يقاتل عن وطنه ويدافع عن وطنه.
والذي يقتل من أجل الدفاع عن الوطن _ فقط- ليس بشهيد. ولك الواجب علينا ونحن مسلمون وفي بلد إسلامي- ولله الحمد- ونسأل الله أن يثبتنا علي ذلك، الواجب أن نقاتل من أجل لإسلام في بلادنا، وانتبه للفرق؛ نقاتل من أجل الإسلام في بلادنا، فنحمي الإسلام الذي في بلادنا، ونحمي الإسلام، لو كنا في أقصي الشرق أو الغرب. لو كانت بلادنا في أقصي الشرق أو الغرب قاتلنا من أجل الإسلام في وطنا أو من أجل وطننا لأنه غسلامي؛ ندافع عن الإسلام الذي فيه.
أما مجرد الوطنية فإنها نية باطلة لا تفيد الإنسان شيئاً، ولا فرق بين الإنسان الذي يقول إنه مسلم والإنسان الذي يقول إنه كافر؛ إذا كان القتال من أجل الوطن لأنه وطن.
والذي يقتل من أجل الدفاع عن الوطن - فقط - ليس بشهيد. ولكن الواجب علينا ونحن مسلمون وفي بلد إسلامي - ولله الحمد- ونسأل الله أن يثبتنا علي ذلك، الواجب أن نقاتل من أجل الإسلام في بلادنا، وانتبه للفرق، نقاتل من أجل الإسلام في بلادنا، فنحمي الإسلام الذي في أقصي الشرق أو الغرب قاتلنا للإسلام وليس لوطننا فقك، فيجب أن تصحح هذه اللهجة، فيقال: نحن نقاتل من أجل الإسلام في وطننا أو من أجل وطننا لأنه إسلامي؛ ندافع عن الإسلام الذي فيه.
أما مجرد الوطنية فإنها نية باطلة لا تفيد الإنسان شيئاً، ولا فرق بين الإنسان الذي يقول إنه مسلم والإنسان الذي يقول إنه كافر؛ إذا كان القتال من أجل الوطن لأنه وطن.
وما يذكر من أن ((حب الوطن من الإيمان)) وأن ذلك حديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم كذب.
حب الوطن إن كان لأنه وطن إسلامي فهذا تحبه لأنه إسلامي. ولا فرق بين وطنك الذي هو مسقط رأسك، أو الوطن البعيد من بلاد المسلمين؛ كلها وطن الإسلام يجب أن نحميه.(1/66)
علي كل حال يجب أن نعلم أن النية الصحيحة هي أن نقاتل من أجل الدفاع عن الإسلام في بلدنا، أو من أجل وطننا لأنه وطن إسلامي، لا لمجرد الوطنية.
أما قتال الدفاع أي: لو أن أحداً صال عليك في بيتك، يريد أخذ مالك، أو يريد أن ينتهك عرض أهلك - مثلا- فإنك تقاتله كما أمرك بذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فقد سئل عن الرجل يأتيه الإنسان ويقول له: أعطني مالك؟ قال: ((لا تعطه مالك قال: أرأيت إن قتلتله؟ قال: قاتله. قال: أرايت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار!!)) ؛ لأنه معتد ظالم؛ حتى وإن كان مسلماً، إذا جاءك المسلم يريد أن يقاتلك من أجل أن يخرجك من بلدك، أو من بيتك فقاتله، فإن قتلته فهو في النار، وإن قتلك فأنت شهيد، ولا تقل كيف أقتل مسلماً؟ فهو المعتدي، ولو كتفنا أيدينا أمام المعتدين الظالمين الذين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ولا ديناً؛ لكان المعتدون لهم السلطة، ولأفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، ولذلك نقول: هذه المسألة ليست من باب قتال الطلب.
قتال الطلب: معلوم أنني لا أذهب أقاتل مسلماً أطلبه، ولكن أدفع عن نفسي، ومالي، وأهلي، ولو كان مؤمنا؛ مع أنه لا يمكن أبدا أن تكون(1/67)
شخص معه إيمان يقدم على مسلم يقاتله ليستولي على أهله وماله أبدا.
ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) لا إيمان لإنسان يقاتل المسلمين إطلاقاً النبي صلي الله عليه وسلم فإذا كان الرجل فاقداً الإيمان، أو ناقص الإيمان؛ فإنه يجب أن نقاتله دفاعاً عن النفس وجوباً؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((قاتله)) وقال: ((إن قتلته فهو في النار)) وقال: ((وإن قتلك فأنت شهيد)) لأنك تقاتل دون مالك، ودون أهلك، ودون نفسك.
والحاصل أن هناك قتالين: قتالاً للطلب؛ أذهب أنا أقاتل الناس مثلاً في بلادهم، هذا لا يجوز إلا بشروط معينة.
مثلاًك قال العلماء: إذا ترك أهل قرية الأذان؛ وهو ليس من أركان الإسلام، وجب على ولي الأمر أن يقاتلهم حتى يؤذنوا؛ لأنهم تركوا شعيرة من شعائر الإسلام.
وإذا تركوا صلاة العيد، وقالوا لا نصليها لا في بيوتنا، ولا في الصحراء؛ يجب أن نقاتلهم، حتى لو فرض أن قوماً قالوا: هل الأذان من أركان الإسلام؟ قلنا: لا، ولكنه من شعائر الإسلام؛ فنقاتلكم حتى تؤذنوا. وإذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين، مثل: قبيلتان بينهما عصبية،(1/68)
تقاتلا، وجب علينا أن نصلح بينهما، فإن بغت إحداهما علي الأخرى وجب أن نقاتلها، حتى تفيء إلي أمر الله، مع أنها مؤمنة، ولكن هناك فرق بين قتال الدفاع وقتال الطلب، الطلب: ما نطلب، إلا من أباح الشارع قتاله، وأما الدفاع فلابد أن ندافع.
ونرجو منكم أن تنبهوا على هذه المسألة؛ لأننا نري في الجرائد والصحف: الوطن! الوطن! الوطن! وليس فيها ذكر للإسلام، هذا نقص عظيم، يجب أن توجه الأمة غلي النهج والمسلك الصحيح، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق لما يجب ويرضي.
* * *
9-وعن أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي _ رضي الله عنه - أن النبي صلي الله عليه وسلم: ((إذا التقي المسلمان بسيفهما فالقتال والمقتول في النار)) قلت: يا رسول الله، هذا القتال فما بال المقتول؟ قال: ((إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)) (متفق عليه) .
[الشَّرْحُ]
قوله: ((إذا التقي المسلمان بسيفهما)) أي: يريد كل واحد منهما أن يقتل الآخر، فسل عليه السيف، وكذلك لو اشهر عليه السلاح؛ كالبندقية، أو غيرها مما يقتل؛ كحجر ونحوه!(1/69)
فذكر السيف هنا على سبيل التمثيل، وليس على سبيل التعيين. بل إذا التقي المسلمان بأي وسيلة يكون بها القتل، فقتل أحدهما الآخر فالقاتل والمقتول في النار - والعياذ بالله فقال أبو بكرة للنبي صلي الله عليه وسلم: ((هذا القاتل؟)) يعني أن كونه في النار واضح؛ لأنه قتل نفساً مؤمنة متعمداً؛ والذي يقتل نفساً مؤمنة متعمداً بغير حق فإنه في نار جهنم.
قال الله تعالي:) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء: 93) . فأبوبكرة - رضي الله عنه- قال للنبي صلي الله عليه وسلم: ((هذا القاتل)) وهذه الجملة هي ما يعرف في باب المناظرة بالتسليم، يعني: سلمنا أن القاتل في النار، فما بال المقتول؟ كيف يكون في النار وهو المقتول؟
فقال النبي صلي الله عليه وسلم: ((لأنه كان حريصا على قتل صاحبه)) فهو حريص علي قتل صاحبه؛ ولهذا جاء بآلة القتل ليقتله، ولكن تفوق عليه الآخر فقتله. فيكون هذا - والعياذ بالله - بنية القتل، وعمله السبب الموصل للقتل يكون كأنه قاتل؛ ولهذا قال: ((لأنه كان حريصا على قتل صاحبه))
ففي هذا الحديث: دليل على أن الأعمال بالنيات، وأن هذا لما نوي قتل صاحبه، صار كأنه فاعل ذلك، أي كأنه قتل. وبهذا نعرف الفرق بين هذا الحديث وبين قوله صلي الله عليه وسلم: ((من قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد)) . وقوله فيمن أتي ليأخذ(1/70)
مالك: ((إن قتلته فهو في النار، وإن قتلك فأنت شهيد))
وذلك أن الإنسان الذي يدافع عن ماله، وأهله، ونفسه، وعرضه إنما دافع رجلاً معتدياً صائلاً، لا يندفع إلا بالقتل، فهنا إذا قتل الصائل كان في النار، وإن قتل المدافع كان شهيداً في الجنة، فهذا هو الفرق بينهما.
فبهذا علم أن من قتل أخاه مريداً لقتله فإنه في النار، ومن قتله أخوه، وهو يريد قتل أخيه، لكن عجز، فالمقتول أيضاً في النار. القاتل والمقتول في النار.
وفي هذا الحديث: دليل على عظم القتل، وإنه من أسباب دخول النار والعياذ بالله.
وفيه: دليل علي أن الصحابة - رضي الله عنهم- كانوا يوردون على الرسول صلي الله عليه وسلم الشبه فيجيب عنها.
ولهذا لا نجد شيئا من الكتاب والسنة فيه شبهة حقيقة إلا وقد وجد حلها، إما أن تكون حلها بنفس الكتاب والسنة من غير إيراد سؤال، وإما أن يكون بإيراد سؤال يجاب عنه. ومن ذلك أيضاً: أن الرسول صلي الله عليه وسلم لما أخبر بأن الدجال يمكث في الأرض أربعين يوماً؛ اليوم الأول كسنة، والثاني كشهر، والثالث كالأسبوع،(1/71)
وبقية الأيام كأيامنا، سأله الصحابة فقالوا: يا رسول الله، هذا اليوم الذي كسنه هل تكفينا فيه صلاة يوم واحد؟ قال: ((لا)) اقدروا له قدره، ففي هذا أبين دليل على أنه لا يوجد - ولله الحمد- في الكتاب والسنة شيء مشتبه ليس له حل، لكن الذي يوجد: قصور في الأفهام تعجز عن معرفة الحل، أو يقصر الإنسان؛ فلا يطلب، ولا يتأمل، ولا يراجع؛ فيشتبه عليه الأمر.
أما الواقع: فليس في القرآن والسنة- ولله الحمد - شي مشتبه إلا وجد حله في الكتاب أو السنة؛ إما ابتداء، وإما جواباً عن سؤال يقع من الصحابة- رضي الله عنهم- والله الموفق.
* * *
10- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ((صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعاً وعشرين درجة، وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتي المسجد لا ينهزه إلا الصلاة، لا يريد إلا الصلاة، فلم يخط خطوة إلارفع له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد كان في الصلاة، ما كانت الصلاة هي تحبسه، والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلي فيه يقولون: اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم تب عليه، ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه)) (متفق عليه)(1/72)
وهذا لفظ مسلم، وقوله صلي الله عليه وسلم: ((ينهزه)) هو بفتح الباء والهاء، وبالزاي: أي يخرجه وينهضه.
[الشَّرْحُ]
إذا صلي الإنسان في المسجد مع الجماعة كانت هذه الصلاة أفضل من الصلاة في بيته أو في سوقه سبعاً وعشرين مرة؛ لأن الصلاة مع الجماعة قيام بما أوجب الله من صلاة الجماعة.
فإن القول الراجح من أقوال أهل العلم أن صلاة الجماعة فرض عين؛ وأنه يجب علي الإنسان أن يصلي مع الجماعة في المسجد، لأحاديث وردت في ذلك، ولما اشار الله إليه - سبحانه وتعالي- في كتابه حين قال:) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ….) (النساء: من الآية102) .
فأوجب الله الجماعة في حال الخوف، فإذا أوجبها في حال الخوف؛ ففي حال الأمن من باب أولى وأحري.
ثم ذكر السبب في ذلك: ((بأن الرجل إذا توضأ في بيته فأسبغ الوضوء، ثم خرج من بيته إلي المسجد لا ينهزه، أو لا يخرجه إلا الصلاة، لم يحط خطوة إلا رفع الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة)) ، سواء أقرب مكانه من المسجد أم عد، كل خطوة يحصل بها فائدتان:
الفائدة الأولي: أن الله يرفعه بها درجة.(1/73)
والفائدة الثانية: أن الله يحط بها خطيئة، وهذا فضل عظيم. حتى يدخل المسجد؛ فإذا دخل المسجد فصلي ما كتب له، ثم جلس ينتظر الصلاة؛ ((فإنه في صلاة ما انتظر الصلاة)) ؛ وهذه أيضاً نعمة عظيمة؛ لو بقيت منتظراً للصلاة مدة طويلة، وأنت جالس لا تصلي، بعد أن صليت تحية المسجد، وما شاء الله - فإنه يحسب لك أجر الصلاة.
وهناك أيضاً شيء رابع: أن الملائكة تصلي عليه ما دام في مجلسه الذي صلي فيه، تقول (0 اللهم صل عليه، اللهم أغفر له، اللهم ارحمه، اللهم تب عليه)) وهذا أيضاً فضل عظيم لمن حضر بهذه النية وبهذه الأفعال.
والشاهد من هذا الحديث قوله: ((ثم خرج من بيته إلي المسجد لا يخرجه إلا الصلاة)) فإنه يدل على اعتبار النية في حصول هذا الأجر العظيم.
أما لو خرج من بيته لا يريد الصلاة، فإنه لا يكتب له هذا الأجر؛ مثل أن يخرج من بيته إلي دكانه؛ ولما أذن ذهب صلي؛ فإنه لا يحصل علي هذا الأجر؛ لأن الأجر إنما يحصل لمن خرج من البيت لا يخرجه إلا الصلاة.
لكن ربما يكتب له الأجر من حين أن ينطلق من دكانه، أو من مكان بيعه وشرائه إلي أن يصل إلي المسجد؛ ما دام انطلق من هذا المكان وهو على طهارة. والله الموفق.
* * *(1/74)
11- وعن أبي العباس عبد الله بن عباس بن عبد المطلب- رضي الله عنهما- عن رسول الله صلي الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه- تبارك وتعالي- قال: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعطيها كتبها الله- تبارك وتعالي- عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عشر حسنات، إلي سبعمائة ضعف، إلي اضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة)) (متفق عليه) .
[الشَّرْحُ]
قوله: (0 إن الله كتب الحسنات والسيئات)) ؛ كتابته للحسنات والسيئات تشمل معنيين:
المعني الأول: كتابة ذلك في اللوح المحفوظ، فإن الله - تعالي- كتب في اللوح المحفوظ؛ كل شي كما قال الله:) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر: 49) وقال تعالي (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (القمر: 53) فالله - سبحانه وتعالي- كتب السيئات والحسنات في اللوح المحفوظ، إذا عملها العبد فإن الله - تعالي- يكتبها حسب ما تقتضيه حكمته، وحسب ما يقتضيه عدله وفضله.
فهاتان كتابتان:
كتابة سابقة: لا يعلمها إلا الله - عز وجل- فكل واحد منا لا يعلم(1/75)
ماذا كتب الله له من خير أو شر حتى يقع ذلك الشيء.
وكتابة لاحقة: إذا عمل الإنسان العمل كتب إذا عمل الإنسان العمل كتب له حسب ما تقتضيه الحكمة، والعدل، والفضل: ((ثم بين ذلك)) أي: ثم بين النبي صلي الله عليه وسلم ذلك كيف يكتب، فبين أن الإنسان إذا هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله - تعالي - حسنة كاملة.
مثاله: رجل هم أن يتوضأ ليقرأ القرآن، ثم لم يفعل ذلك وعدل عنه، فإنه يكتب له بذلك حسنة كاملة.
مثال آخر: رجل هم أن يتصدق، وعين المال الذي يريد أن يتصدق به، ثم أمسك ولم يتصدق، فيكتب له بذلك حسنة كاملة. هم أن يصلي ركعتين، فأمسك ولم يصل، فإنه يكتب له بذلك حسنة كاملة.
فإن قال قائل: كيف يكتب له حسنة وهو لم يفعلها؟
فالجواب علي ذلك: أن يقال إن فضل الله واسع، هذا الهم الذي حدث منه يعتبر حسنة؛ لأن القلب همام؛ إما بخير أو بشر، فإذا هم بالخير فهذه حسنة تكتب له، فإن عملها كتبها الله عشر حسنات إلي سبعمائة ضعف إلي أضعاف كثيرة.
وهذا التفاوت مبني على الإخلاص والمتابعة؛ فكلما كان الإنسان في عبادته أخلص لله كان أجره أكثر، وكلما كان الإنسان في عبادته أتبع للرسول صلي الله عليه وسلم كانت عبادته أكمل، وثوابه أكثر، فالتفاوت هذا يكون بحسب الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلي الله عليه وسلم.
أما السيئة فقال: ((وإن هم بسيئة فلم يتعبها كتبها الله حسنة كاملة))(1/76)
كرجل هم أن يسرق، ولكن ذكر الله- عز وجل- فأدركه خوف الله فترك السرقة، فإنه يكتب له بذلك حسنة كاملة؛ لأنه ترك فعل المعصية لله فأثيب على ذلك كما جاء ذلك مفسراً في لفظ آخر: ((إنما تركها من جراي)) أي من أجلي، هم أن يفعل منكراً كالغيبة مثلاً، ولكنه ذكر أن هذا محرم فتركه لله؛ فإنه يعطي على ذلك حسنة كاملة.
فإن عمل السيئة كتب سيئة واحدة فقط، لا تزيد، لقوله - تعالي-) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (الأنعام: 160) .
وهذا الحديث فيه: دليل على اعتبار النية؛ وأن النية قد توصل صاحبها إلي اليخير.
وسبق لنا أن الإنسان إذا نوي الشر، وعمل العمل الذي يوصل إلي الشر، ولكنه عجز عنه؛ فإنه يكتب عليه إثم الفاعل؛ كما سبق فيمن التقيا بسيفهما من المسلمين: ((إذا التقي المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار)) قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: ((لأنه كان حريصاً على قتل صاحبه)) والله الموفق.(1/77)
12- وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب- رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: ((انطق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلي غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار؛ فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله - تعالي- بصالح أعمالكم.
قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلها أهلا ولا مالا. فناي بي طلب الشجر يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما عبوقهما، فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلها أهلا أو مالا، فلبثت -والقدح علي يدي- أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر- والصبية يتضاغون عند قدمي- فاستيقظا، فشربا غبوقهما. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه.
قال الآخر: اللهم إنه كانت لي ىبنة عم، كانت أحب الناس إلي - وفي رواية؛ ((كنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء)) - فأردتها على نفسها، فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار؛ على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها- وفي رواية: ((فلما قعدت بين رجليها)) - قالت: اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.(1/78)
وقال الثالث: اللهم أستأجرت أجرأء وأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: ((يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت: كل ما تري من أجرك: من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله لا تستهزي بي ! فقلت: لا استهزيء بك فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك منه شيئاً اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجههك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون)) \ (متفق عليه) .
[الشَّرْحُ]
قوله: ((انطلق ثلاثة نفر)) أي: ثلاثة رجال.
((فآواهم المبيت فدخلوا في غار)) يعني: ليبينوا فيهن والغار: هو ما يكون في الجبل مما يدخله الناس يبيتون فيه، أو يتظللون فيه عن الشمس، وما أشبه ذلك. فهم دخلوا حين آواهم المبيت إلي هذا الغار، ولم يستطيعوا أن يزحزهوها؛ لأنها صخرة كبيرة. فرأوا أن يتوسلوا إلي الله - سبحانه وتعالي - بصالح أعمالهم.
فذكر أحدهم بره التام بوالديه، وذكر الثاني عفته التامة، وذكر الثالث ورعه ونصحه.(1/79)
أما الأول: يقول إنه كان له أبوان شيخان كبيران ((وكنت لا أعبق قبلهما أهلاً ولا مالاً)) الأهل: مثل الزوجة والأولاد، والمال: مثل الأرقاء وشبهه.
وكان له غنم، فكان يسرح فيها ثم يرجع في آخر النهار، ويجلب الغنم، ويعطي أبويه- الشيخين الكبيران - ثم يعطي بقية أهله وماله.
يقول: ((فنأي به طلب الشجر ذات يوم)) أي: أبعد بي طلب الشجر الذي يرعاه. فرجع، فوجد أبويه قد ناما، فنظر، هل يسقي أهله وما له قبل أبويه، أو ينتظر حتى برق الفجر؛ أي حتى طلع الفجر- وهو ينتظر استيقاظ أبويه-، فلما استيقظا وشربا اللبن أسقي أهله وما له.
قال: ((اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه)) ومعناه: اللهم إن كنت مخلصاً في عملي هذا- فعلته من أجلك- فافرج عنا ما نحن فيه.
وفي هذا دليل على الإخلاص لله - عز وجل- في العمل، وأن الإخلاص عليه مدار كبير في قبول العمل، فتقبل الله منه هذه الوسيلة وانفرجت الصخرة؛ لكن انفراجاً لا يستطيعون الخروج منه.
أما الثاني: فتوسل إلي الله عز وجل - بالعفة التامة؛ وذلك أنه كان له ابنة عم، وكان يحبها حباً شديداً كاشد ما يحب الرجال النساء ((فأرادها(1/80)
على نفسها)) أي أراداه- والعياذ بالله- بالزنا؛ ليزني بها، ولكنها لم توافق وابت، فألمت بها سنة من السنين، أي: اصابها فقر وحاجةن فاضطرت إلي أن تجود بنفسها في الزنا من أجل الضرورة، وهذا لا يجوز، ولكن على كل حال؛ هذا الذي حصل، فجاءت إليه، فأعطاها مائة وعشرين دينارً، أي: مائة وعشرين جنيهاً؛ من أجل أن تمكنه من نفسها، ففعلت من أجل الحاجة والضرورة، فلما جلس منها مجلس الرجل من امرأته على أنه يريد أن يفعل بها، قالت له هذه الكلمة العجيبة العظيمة: ((اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه)) .
فخوفته بالله- عز وجل- وأشارت إليه إلي إن أراد هذا بالحق فلا مانع عندها، لكن كونه يفض الخاتم بغير حق، هي لا تريده، تري أن هذا من المعاصي؛ ولهذا قالت له: اتق الله، فلما قالت له هذه الكلمة- التي خرجت من أعماق قلبها- دخلت في أعماق قلبه، وقام عها وهي أحب الناس غليه، يعني ما زالت رغبته عنها، ولا كرهها، بل حبها في قلبه، لكن أدركه خوف الله -عز وجل- فقام عنها وهي أحب الناس إليه، وترك لها الذهب الذي أعطاها - مائة وعشرين ديناراً، ثم قال: ((اللهم إن كنت فعلت هذا لأجلك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، إلا أنهم لا يستطيعون الخروج)) وهذا من آيات الله؛ لأن الله على كل شيء قدير، لو شاء الله تعالي لانفرجت عنهم بأول مرة.
ولكنه- سبحانه وتعالي- أراد أن يبقي هذه الصخرة؛ حتى يتم لكل واحد منهم ما أراد أن يتوسل به من صالح الأعمال.(1/81)
وأما الثالث: فتوسل إلي الله - سبحانه وتعالي- بالأمانة والإصلاح والإخلاص في العمل، فإنه يذكر أنه استأجر أجراء على عمل من الأعمال؛ فأعطاهم أجورهم، إلا رجلاً واحداً ترك اجره فلم يأخذه ز فقام هذا المستأجر فثمر المال، فصار يتكسب به بالبيع والشراء وغير ذلك، حتى نما وصار منه إبل وبقر وغنم ورقيق وأموال عظيمة.
فجاءه بعد حين، فقال له: يا عبد الله أعطني أجري. فقال لهك كل ما تري فهو لك؛ من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فاقل: لا تستهزيء بي، الأجرة التي لي عندك قليلة، كيف لي كل ما أري من الإبل والبقر والغنم والرقيق؟ لا تستهزيء بي. فقلت: هو لك، فأخذه واستاقه كله ولم يترك له شيئاً.
اللهم إن كنت فعلت ذلك من أجللك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، وانفتح الباب، فخرجوا يمشون)) لأنهم توسلوا إلي الله بصالح أعمالهم التي فعلوها إخلاصاً لله عز وجل.
ففي هذا الحديث من الفوائد والعبر: فضيلة بر الوالدين؛ وأنه من الأعمال الصالحة التي تفرج بها الكربات، وتزال بها الظلمات.
وفيه: فضيلة العفة عن الزنا، وأن الإنسان إذا عف عن الزنا- مع قدرته عليه- فإن ذلك من أفضل الأعمال، وقد ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أن هذا من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله)) .(1/82)
فهذا الرجل مكنته هذه المرأة التي يحبها من نفسها، فقام خوفاً من الله عز وجل، فحصل عنده كمال العفة، فيرجي أن يكون ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
وفي هذا الحديث أيضاً: دليل علي فضل الأمانة وإصلاح العمل للغير، فإن هذا الرجل بإمكانه- لما جاءه الأجير- أن يعطيه أجرته، ويبقي هذا المال له، ولكن لأمانته وثقته وإخلاصه لأخيه ونصحه له؛ أعطاه كل ما أثمر أجره.
ومن فوائد هذا الحديث: بيان قدرة الله - عز وجل- حيث إنه تعالي أزاح عنهما الصخرة بإذنه، لم يأت آله تزيلها، ولم يأت رجال يزحزحونها، وإنما هو أمر الله عز وجلن أمر هذه الصخرة أن تنحدر فتنطبق عليهم ثم أمرها أن تنفرج عنهم، والله سبحانه- على كل شيء قدير.
وفيه من العبر: أن الله تعالي سميع الدعاء؛ فإنه سمع دعاء هؤلاء واستجاب لهم.
وفيه من العبر: أن الإخلاص من أسباب تفريج الكربات؛ لن كل واحد منهم يقول: ((اللهم إن كنت فعلت ذلك من أجلك فأفرج عنا ما نحن فيه)) .
أما الرياء- والعياذ بالله- والذي لا يفعل الأعمال إلا رياء وسمعة، حتى يمدح عند الناس؛ فإن هذا كالزبد يذهب جفاء، لا ينتفع منه صاحبه،(1/83)
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص له؛ فالإخلاص هو كل شيء زلا تجعل لأحد من عبادتك نصيباً، اجعلها كلها لله وحده، عز وجل- حتى تكون مقبولة عند الله؛ لأنه ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله تعالي أنه قال: ((أنا أغني الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) والله الموفق.(1/84)
2- باب التوبة
قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالي، لا تتعلق بحق آدمي؛ فلها ثلاثة شروط.
أحدها: أن يقلع عن المعصية.
والثاني: أن يندم على فعلها.
والثالث: أن يعزم أن لا يعود إليها أبداً. فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته.
وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها أربعة: هذه الثلاثة، وأن يبرأ منحق صاحبها، فإن كانت مالاً او نحوه رده إليه، وإن كانت حد قذف ونحوه مكنه منه أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحله منها. ويجب أن يتوب من جميع الذنب، وبقي عليه الباقي. وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة:
قال الله تعالي:) وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: من الآية31) وقال تعالي:) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) (هود: من الآية3) وقال تعالي:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) (التحريم: من الآية8) .
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف- رحمه الله تعالي - باب التوبة:
التوبة لغة: من تاب يتوب، إذا رجع.(1/85)
وشرعاً: الرجوع من معصية الله تعالي إلي طاعته.
وأعظمها وأوجبها التوبة من الكفر إلي الإيمان، قال الله تعالي:) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) (لأنفال: من الآية38)) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) (لأنفال: من الآية38)) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) (لأنفال: من الآية38)) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) (لأنفال: من الآية38)) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) (لأنفال: من الآية38) ، ثم يليها التوبة من الكبائر؛ كبائر الذنوب.
ثم المرتبة الثالثة: التوبة من صغائر الذنوب.
والواجب علي المرء، أن يتوب إلي الله - سبحانه وتعالي- من كل ذنب.
وللتوبة شروط ثلاثة: كما قال المؤلف - رحمه الله-، ولكنها بالتتبع تبلغ إلي خمسة:
الشرط الأول: الإخلاص لله، بأن يكون قصد الإنسان بتوبته وجه الله- عز وجل- وأن يتوب الله عليه، ويتجاوز عما فعل من المعصية. لا يقصد بذلك مراءاة الناس والتقرب إليهم، ولا يقصد بذلك دفع الأذية من السلطات وولي الأمر.
وإنما يقصد بذلك وجه الله والدار الآخرة، وأن يعفو الله عن ذنوبه.
الشرط الثاني: الندم على ما فعل من المعصية؛ لأن شعور الإنسان بالندم هو الذي يدل علي انه صادق في التوبة؛ بمعني أن يتحسر على ما سبق منه، وينكسر من أجله، ولا يري أنه في حل منه حتى يتوب منه إلي الله.
الشرط الثالث: أن يقلع عن الذنب الذي هو فيه، وهذا من أهم شروطه. والإقلاع عن الذنب: إن كان الذنب ترك واجب؛ فالإقلاع عنه بفعله؛ مثل أن يكون شخص لا يزكي، فأراد أن يتوب إلي الله، فلابد من ان(1/86)
يخرج الزكاة التي مضت ولم يؤدها. وإذا كان الإنسان مقصراً في بر الوالدين؛ فإنه يجب عليه أن يقوم ببرهما، وإذا كان مقصراً في صلة الرحم؛ فإنه يجب عليه أن يصل الرحم.
وإن كانت المعصية بفعل محرم، فالواجب أن يقلع عنه فوراً، ولا يبقي فيه ولا لحظة.
فإذا كانت من أكل الربا مثلاً، فالواجب أن يتخلص من الربا فوراً، بتركه والبعد عنه، وإخراج ما اكتسبه عن طريق الربا، إذا كانت المعصية بالغش والكذب على الناس وخيانة الأمانة، فالواجب عليه أن يرده إلي صاحبه، أو يستحله منه، وإذا كانت غيبة، فالواجب أن يقلع عن غيبة الناس والتكلم في أعراضهم، أما أن يقول إنه تائب إلي الله وهو مصر على ترك الواجب، أو مصر على فعل المحرم، فإن هذه التوبة غير مقبولة. بل إن هذه التوبة كالاستهزاء بالله عز وجل، كيف تتوب إلي الله- عز وجل- وأنت مصر علي معصيته؟!
لو أنك تعامل بشرا من الناس، تقول أنا تبت إليك وأنا نادم لا أعود، ثم في نيتك وفي قلبك أنك ستعود، وعدت، فإن هذه سخرية بالرجل، فكيف بالله رب العالمين؟!
فالإنسان التائب حقيقة هو الذي يقلع عن الذنب.
ومن الغريب أن بعض الناس تجلس إليه، وتجده يتأوه من وجود الربا، وهو في نفسه يرابي والعياذ بالله، أو يتأوه من الغيبة وأكل لحوم(1/87)
الناس؛ وهو من أكثر الناس غيبة- نسأل الله العافية-، أو يتأوه من الكذب وضياع الأمانة في الناس؛ وهو من أكذب الناس وأضيعهم للأمانة!!
على كل حال، الإنسان لابد أن يقلع عن الذنب الذي تاب منه، فإن لم يقلع فتوبته مردودة لا تنفعه عند الله عز وجل. والإقلاع عن الذنب إما أن يكون إقلاعاً عن ذنب يتعلق في حق الله- عز وجل- فهذا يكفي أن تتوب بينك وبين ربك، ولا ينبغي- بل قد نقول: لا يجوز- أن تحدث الناس بما صنعت من المحرم أو ترك الواجب. لأن هذا بينك وبين الله، فإذا كان الله قد من عليك بالستر، وسترك عن العباد فلا تحدث أحداً بما صنعت إذا تبت إي الله.
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((كل أمتي معافي إلا المجاهرين))
ومن المجاهرة، كما جاء في الحديث: ((أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا…إلي آخره))
إلا أن بعض العلماء قال: إذا فعل الإنسان ذنباً فيه حد، فإنه لا باس أن يذهب إلي الإمام الذي يقيم الحدود- مثل الأمير- ويقول إنه فعل الذنب الفلاني ويريد أن يطهره منه، ومع ذلك فالأفضل أن يستر على نفسه، هذا(1/88)
هو الأفضل.
يعني يباح له أن يذهب إلي ولي الأمر إذا فعل معصية فيها حد كالزنا مثلا، فيقول إنه فعل كذا وكذا؛ يطلب إقامة الحد عليه؛ لأن الحد كفارة للذنب.
أما المعاصي الأخرى فاسترها على نفسك كما سترها الله، وكذلك الزنا وشبهه، استره على نفسك - بالنسبة لغير ولي الأمر- لا تفضح نفسك.
ما دمت أنك قد تبت فيما بينك وبين الله تعالي، فإن الله تعالي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.
أما إذا كان الذنب بينك وبين الخلق، فإن كان مالاً فلابد أن تؤديه إلي صاحبه، ولا تقبل التوبة إلا بأدائه مثل أن تكون قد سرقت مالاً من شخص وتبت من هذا، فلابد أن توصل المسروق إلي المسروق منه.
أو جحدت حقاً لشخص؛ كان يكون في ذمتك دين لإنسان وأنكرته، ثم تبت، فلابد أن تذهب إلي صاحب الدين الذي أنكرته، وتقر عنده وتعترف حتى يأخذ حقه. فإن كان قد مات، فإنك تعطيه ورثته، فإن لم تعرفهم، أو غاب عنك هذا الرجل ولم تعرف له مكاناً، فتصدق به عنه تخلصاً منه، والله- سبحانه وتعالي- يعلمه ويعطيه إياه.
أما إذا كانت المعصية التي فعلتها مع البشر ضرباً وما أشبهه، فاذهب إليه ومكنه من أن يضربك مثل ما ضربته؛ إن كان على الظهر فعلي الظهر، وإن كان علي الرأس فعلي الرأس، أو في أي مكان ضربته فليقتص منك؛ لقول الله تعالي سبحانه:) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (الشورى: من الآية40) ولقوله:) فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة: من الآية194) .(1/89)
وإذا كان بقول؛ أي: أذية بالقول، مثل ان تكون قد سببته أمام الناس ووبخته وعيرته، فلابد أن تذهب إليه وتستحل منه بما تتفقان عليه. حتى لو قال لا أسمح لك إلا بكذا وكذا من الدراهم فأعطه.
الرابع: أن يكون الحق غيبة، يعني أنك تكلمت به في غيبته، وقدحت فيه عند الناس وهو غائب.
فهذه اختلف فيها العلماء؛ فمنهم من قال: لا بد أن تذهب إليه، وتقول له يا فلان إني تكلمت فيك عند الناس، فأرجوك أن تسمح عني وتحللني.
وقال فيها بعض العلماء؛ لا تذهب إليه، بل فيع التفصيل! فإن كان قد علم بهذه الغيبة فلابد أن تذهب إليه وتستحله. وإن لم يكن علم فلا تذهب إليه، واستغفر له، وتحدث بمحاسنه في المجالس التي كنت تغتابه فيها؛ فإن الحسنات يهذبن السيئات. وهذا القول أصح؛ وهو أن الغيبة إذا كان صاحبها لم يعلم بأنك اغتبته، فإنه يكفي أن تذكره بمحاسنه في المجالس التي اغتبته فيها، وأن تستغفر له، تقول: ((اللهم اغفر له)) كما جاء في الحديث: ((كفارة من اغتبته أن تستغفر له)) فلابد في التوبة من أن تصل الحقوق إلي أهلها.
أما الشرط الرابع: فهو العزم على أن لا تعود في المستقبل؛ بأنك لن(1/90)
تعود إلي هذا العمل في المستقبل، فإن كنت تنوي ان تعود إليه عندما تسمح لك الفرصة فإن التوبة لا تصح؛ مثل: رجل كان- والعياذ بالله- يستعين بالمال على معصية الله، يشتري به المسكرات، يذهب إلي البلاد يزني- والعياذ بالله- ويسكر. فأصيب بفقر وقال: اللهم إني تبت إليك، وهو كاذب، يقول: تبت إليك، وهو في نيته أنه إذا عادت الأمور إلي مجاريها الأولي فعل فعله الأول.
فهذه توبة عاجز، تبت أم لم تبت لست بقادر على فعل المعصية، لأنه يوجد بعض الناس يصاب بفقر، فيقول: تركت الذنوب، لكن يحدث قلبه أنه عاد إليه ما افتقده لعاد إلي المعصية مرة ثانية، فهذه توبة غير مقبولة؛ لأنها توبة عاجز، وتوبة العاجز لا تنفعه.
الشرط الخامس: أن تكون في زمن تقبل فيه التوبة، فإن تاب في زمن لا تقبل فيه التوبة لم تنفعه التوبة. وذلك علي نوعين:
النوع الأول: باعتبار كل إنسان بحسبه.
النوع الثاني: باعتبار العموم.
أما الأول: فلابد أن تكون التوبة قبل حلول الأجل- يعني الموت-، فإن كانت بعد حلول الأجل فإنها لا تنفع التائب؛ لقول الله تعالي) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) (النساء: من الآية18) هؤلاء ليس لهم توبة!
وقال تعالي:) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (فَلَمْ يَكُ
يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي(1/91)
عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) (غافر: 84/85) فالإنسان إذا عاين الموت وحضره الأجل؛ فهذا يعني أنه أيس من الحياة، فتكون توبته في غير محلها! بعد أن أيس من الحياة، وعرف أنه لا بقاء له يذهب فيتوب! هذه توبة اضطرار، فلا تنفعه ولا تقبل منه، لابد أن تكون التوبة سابقة.
أما النوع الثاني: وهو العموم، فإن الرسول - عليه الصلاة والسلام- أخبر بأن: ((الهجرة لا تنقطع حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)) .
فإذا طلعت الشمس من مغربها لم ينفع أحداً من توبة. قال الله سبحانه: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرا) (الأنعام: من الآية158) وهذا البعض: هو طلوع الشمس من مغربها كما فسر ذلك النبي صلي الله عليه وسلم.
إذا فلابد أن تكون التوبة في وقت تقبل فيه التوبة، فإن لم تكن كذلك فلا توبة للإنسان.
ثم أختلف العلماء - رحمهم الله- هل تقبل التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره أو لا، في هذا ثلاثة أقوال لأهل العلم !!
منهم من قال: إنها تصح التوبة من الذنب وإن كان مصراً على ذنب آخر، فتقبل توبته من هذا الذنب، ويبقي الإثم عليه في الذنب الآخر بكل حال.(1/92)
ومنهم من قال: لا تقبل التوبة من الذنب مع الإصرار على ذنب آخر.
ومنهم من فصل فقال: إن كان الذنب الذي أصر عليه من جنس الذنب الذي تاب منه فإنها لا تقبل، وإلا قبلت.
مثال ذلك: رجل تاب من الربا ولكنه- والعياذ بالله- يشرب الخمر ومصر على شرب
الخمر.
فهنا من العلماء من قال: إن توبته من الربا لا تقبل، كيف يكون تائبا إلي الله وهو
مصر علي معصيته؟
وقال بعض العلماء: بل تقبل؛ لأن الربا شيء وشرب الخمر شيء آخر، وهذا هو
الذي مشي عليه المؤلف- رحمه الله- وقال: إنها تقبل التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره عند أهل الحق.
فهذا فيه الخلاف: بعضهم يقول: وبعضهم يقول: لا تقبل. أما إذا كان من الجنس؛ مثل أن يكون الإنسان- والعياذ بالله مبتلي بالزنا، ومبتلي أيضاً بالإطلاع على النساء والنظر إليهن بشهوة وما أشبه ذلك، فهل تقبل توبته من الزنا وهو مصر على النظر إلي النساء شهوة؟ أو بالعكس؟
هذا فيه أيضاً خلاف؛ فمنهم من يقول: تصح.
ومنهم من يقول: لا تصح التوبة.
ولكن الصحيح في هذه المسألة أن التوبة تصح من ذنب مع الإصرار على غيره، لكن لا يعطي الإنسان اسم التائب علي سبيل الإطلاق، ولا يستحق المدح الذي يمدح به التائبون؛ لأن هذا لم يتب توبة تامة بل توبة ناقصة، تاب من هذا الذنب فيرتفع عنه إثم هذا الذنب لكنه لا يستحق(1/93)
أن يوصف بالتوبة علي سبيل الإطلاق، بل يقال: هذا توبته ناقصة وقاصرة؛ فهذا هو القول الذي تطمئن إليه النفس؛ أنه لا يعطي الوصف علي سبيل الإطلاق، ولا يحرم من التوبة التي تابها من هذا الذنب.
قال المؤلف- رحمه الله- إن النصوص من الكتاب والسنه تظاهرت وتضافرت على وجوب التوبة من جميع المعاصي، وصدق-رحمه الله- فإن الآيات كثيرة في الحث على التوبة وبيان فضلها وأجرها، وكذلك الأحاديث عن النبي صلي الله عليه وسلم.
وقد بين الله تعالي في كتابه أنه - سبحانه- يحب التوابين ويحب المتطهرين، التوابون: الذين يكثرون التوبة إلي الله- عز وجل -؛ كلما أذنبوا ذنباً تابوا إلي الله.
ثم ذكر المؤلف من الآيات قول الله تعالي: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون) (النور: من الآية31) هذه الجملة ختم الله بها آيتي وجوب غض البصر، وهي قوله:) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا) إلي) أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: الآية 30/31) .
ففي هذه الآية دليل على وجوب التوبة من عدم غض البصر وحفظ الفرج؛ لأن غض البصر يعني: قصره وعدم إطلاقه، ولأن ترك غض البصر(1/94)
وحفظ الفرج؛ كل ذلك من أسباب الهلاك وأسباب الشقاء، وأسباب البلاء. وقد ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: ((ما تركت بعدي فتنة أضر علي الرجال من النساء)) ، ((وأن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء))
ولهذا كان أعداؤنا- أعداء الإسلام- بل أعداء الله ورسوله من اليهود والنصارى والمشركين والشيوعيين وأشباههم وأذنابهم وأتباعهم كل هؤلاء - يحرصون غاية الحرص على أن يفتنوا المسلمين بالنساء، يدعون إلي التبرج، يدعون إلي اختلاط المرأة بالرجل، يدعون إلي التفسخ في الأخلاق، يدعون إلي ذلك بألسنتهم، وأقلامهم، وأعمالهم، - والعياذ بالله؛ لأنهم يعلمون أن الفتنة العظيمة التي ينسي بها الإنسان ربه ودينه إنما تكون في النساء.
النساء اللاتي يفتن أصحاب العقول كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)) .(1/95)
هل تريد شيئاً أبين من هذا.
أذهب للب الرجل - لعقله - الحازم، فيما بالك بالرجل المهيمن؛ الذي ليس عنده حزم، ولا عزم، ولا دين، ولا رجولة؛ يكون أشد والعياذ بالله.
لكن الرجل الحازم تذهب النساء عقله- نسأل اله العافية-، وهذا هو الواقع لذلك قال الله تعالي عقب الأمر بغض البصر، قال: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: من الآية31) وقوله عز وجل: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً) يدل على أنه ينبغي لنا- بل يجب علينا- أن نتواصى بالتوبة، وأن يتفقد بعضنا بعضاً، هل الإنسان تاب من ذنبه أو بقي مصراً عليه؛ لأنه وجه الخطاب للجميع:: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) (النور: من الآية31) وفي قوله تعالي (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) دليل على أن التوبة من أسباب الفلاح، والفلاح- كما قال أهل العلم بالتفسير وباللغة- الفلاح: كلمة جامعة يحصل بها المطلوب ويزول بها المرهوب، فهي كلمة جامعة لخير الدنيا والآخرة.
وكل إنسان يطلب خير الدنيا والآخرة. ما تجد إنساناً- حتى الكافر يريد الخير. لكن من الناس من يوفق ومنهم من لا يوفق.
الكافر يريد الخير؛ لكنه يريد خير الدنيا؛ لأنه رجل بهيمي؛ هو شر الدواب عند الله:) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) (لأنفال: من الآية55) شر من كل دابة تدب على الأرض؛ ومع ذلك هو يريد الخير، ويريد الرفاهية، ويريد التنعم بهذا الدنيا، لكنها- أي الدنيا- جنته، والآخرة - والعياذ بالله-(1/96)
عذابه وناره.
المهم أن كل إنسان يريد الفلاح، لكن على حسب الهمة، المؤمن يريد الفلاح في الدنيا والآخرة، والكافر لا يؤمن بالآخرة؛ فهو يريد الفلاح في الدنيا.
من أسباب الفلاح التوبة إلي الله - عز وجل- كما في الآية: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: من الآية31) أي لتنالوا الفلاح؛ وذلك بحصول المطلوب وزوال المرهوب. والله الموفق.
* * *
13- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: ((والله إني لاستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) (رواه البخاري) .
14- وعن الأعز بن يسار المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، توبوا إلي الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مائة مرة)) (رواه مسلم) .
[الشَّرْحُ]
تقدم الكلام علي ما ذكره المؤلف- رحمه الله- من وجوب التوبة(1/97)
وشروطها، وما ساقه من الآيات الدالة على وجوبها.
وهذان الحديثان ذكرهما المؤلف- رحمه الله- ليستدل على ذلك بالسنة.
لأنه كلما تضافرت الأدلة على الشيء قوي، وصار أوكد، وصار أوجب، فذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام أقسم بأنه يستغفر الله ويتوب إليه أكثر من سبعين مرة.
وهذا هو الرسول عليه الصلاة والسلام- الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر -يستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة.
وفي حديث الأغر بن يسار المزني أنه صلي الله عليه وسلم قال: ((يا أيها الناس توبوا إلي الله واستغفروه فإني أتوب إلي الله في اليوم مائة مرة)) .
ففي هذين الحديثين دليل على وجوب التوبة، لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بها فقال: ((يا أيها الناس توبوا إلي الله)) فإذا تاب الإنسان إلي ربه حصل بذلك فائدتين:
الفائدة الأولي: امتثال أمر الله ورسوله؛ وفي امتثال أمر الله ورسوله كل الخير. فعلي امتثال أمر الله ورسوله تدور السعادة في الدنيا والآخرة.
والفائدة الثانية: الاقتداء برسول الله صلي الله عليه وسلم. حيث كان صلي الله عليه وسلم يتوب إلي الله في اليوم مائة مرة؛ يعني: يقول: أتوب إلي الله، أتوب إلي الله …
والتوبة لابد فيها من صدق، بحيث إذا تاب الإنسان إلي الله أقلع عن الذنب. أما الإنسان الذي يتوب بلسانه وقلبه منطو على فعل المعصية، أو على ترك الواجب. أو يتوب إلي الله بلسانه، وجوارحه مصرة على فعل(1/98)
المعصية؛ فإن توبته لا تنفعه، بل إنها أشبه ما تكون بالاستهزاء بالله عز وجل!
كيف تقول أتوب إلي الله من معصية وأنت مصر عليها، أو تقول أتوب إلي الله من معصية وأنت عازم علي فعلها؟
الإنسان لو عامل بشرا مثله بهذه المعاملة لقال هذا يسخر بي، ويستهزئ بي!! كيف يتنصل من أمر عندي وهو متلبس به؟ ما هذا إلا هزو ولعب، فكيف برب العالمين؟
إن من الناس من يقول إنه تائب من الربا، ولكنه- والعياذ بالله مصر عليه!! يمارس الربا صريحا، ويمارس الربا مخادعة، وقد مر بنا كثيراً أن الذي يمارس الربا مخادعة أعظم إثما وجرما من الذي يمارس الربا بالصراحة. لأن الذي يمارس الربا بالمخادعة جنى علة نفسه مرتين:
أولاً: الوقوع في الربا.
وثانياً: مخادعة الله- عز وجل - وكان الله- سبحانه وتعالي- لا يعلم. وهذا يوجد كثيرا في الناس اليوم الذين يتعاملون في الربا صريحاً، أمرهم واضح، لكن من الناس من يتعامل في الربا خيانة ومخادعة؛ تجد عنده أموالاً لها سنوات عديدة في الدكان، فيأتي الغني بشخص فقير يوقده للمذبحة والعياذ بالله!! فيأتي إلي صاحب الدكان الذي عنده هذه البضاعة، ويبيعها على الفقير بالدين بيعاً صورياً. وكل يعلم أنه ليس بيعاً حقيقياً؛ لأن هذا المشتري - المدين- لا يقلب المال، ولا ينظر إليه، ولا يهمه، بل لو كان أكياساً من الرمل ويبعث عليه علي أنها رز أو سكر أخذها؛ لأنه لا يهمه؛ الذي يهمه أن يقضي حاجة فيبيعها عليه - مثلاً-(1/99)
بعشرة آلاف لمدة سنة، وينصرف بدون أن ينقلها من مكانها، ثم يبيعها هذا المدين على صاحب الدكان بتسعة آلاف- مثلاً- فيؤكل هذا الفقير من وجهين: من جهة هذا الذي دينه، ومن جهة صاحب الدكان، ويقولون: إن هذا صحيح. بل يسمونه التصحيح، يقول قائلهم: تعال أصحح عليك، أو أصحح لك كذا وكذا. سبحان الله، هل هذا تصحيح؟ هذا تلطيخ بالذنوب والعياذ بالله!!
ولهذا يجب علينا - إذا كنا صادقين مع الله - سبحانه وتعالي- في التوبة- أن نقلع عن الذنوب والمعاصي إقلاعاً حقيقياً، ونكرها، ونندم علي فعلها؛ حتى تكون التوبة توبة نصوحاً.
وفي هذين الحديثين: دليل على أن نبينا محمداً صلي الله عليه وسلم اشد الناس عبادة لله، وهو كذلك، فإنه أخشانا لله، وأتقانا لله، وأعلمنا بالله صلوات الله وسلامه عليه.
وفيه دليل على أنه عليه الصلاة والسلام معلم الخير بمقاله وفعاله.
فكان يستغفر الله، ويأمر الناس بالاستغفار؛ حتى يتأسوا به امتثالاً للأمر واتباعا للفعل.
وهذا من كمال نصحه صلوات الله وسلامه عليه لأمته. فينبغي لنا نحن أيضاً أن نتأسي به، إذا امرنا الناس بأمر أن نكون أول من يمتثل هذا الأمر، وإذا نهيناهم عن شيء أن نكون أول من ينتهي عنه، لأن هذا هو حقيقة الداعي إلي الله، بل هذا حقيقة الدعوة غلي الله عز وجل؛ أن تفعل ما تؤمر به، وتترك ما تنهي عنه. كما كان الرسول صلي الله عليه وسلم يأمرنا التوبة وهو -عليه(1/100)
الصلاة والسلام- يتوب أكثر منا. نسأل الله أن يتوب علينا وعليكم، وأن يهدينا وإياكم صراطاً مستقيماً. والله الموفق.
* * *
15- وعن أبي حمزة أنس بن مالك الأنصاري- خادم رسول الله صلي الله عليه وسلم _ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم: سقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة)) (متفق عليه) .
وفي رواية لمسلم: ((لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتي شجرة فاضطجع في ظلها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)) .
[الشَّرْحُ]
قوله- رحمه الله- ((خادم النبي صلي الله عليه وسلم)) وذلك أن أنساً - رضي الله عنه- حين قدم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة أتت به أمة إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم وقالت له: هذا أنس ابن مالك يخدمك، فقبل النبي عليه الصلاة والسلام ذلك، وصار أنس من خدام النبي عليه الصلاة والسلام.
ذكر أنس- رضي الله عنه- أن الرسول صلي الله عليه وسلم قال: ((لله أشد فرحاً بتوبة عبده إذا تاب إليه)) من هذا الرجل الذي سقط على راحلته بعد أن أضلها،(1/101)
وذكر القصة: رجل كان في أرض فلاة، ليس حوله أحد، لا ماء ولا طعام ولا أناس.. ضل بعيره: أي ضاع، فجعل يطلبه فلم يجده، فذهب إلي شجرة ونام تحتها ينتظر الموت! قد أيس من بعيره، وأيس من حياته؛ لأن طعامه وشرابه على بعيره، والبعير قد ضاع، فبينما هو كذلك إذا بناقته عنده قد تعلق خطامها بالشجرة التي هو نائم تحتها. فبأي شيء يقدر هذا الفرح؟ هذا الفرح لا يمكن أن يتصوره أحد إلا من وقع في مثل هذه الحال!! لأنه فرح عظيم، فرح بالحياة بعد الموت، ولهذا أخذ بالخطام فقال: ((اللهم أنت عبدي وأنا ربك)) !! أراد أن يثني على الله فيقول: ((اللهم أنت ربي وأنا عبدك)) لكن من شدة فرحه أخطأ..فقلب القضية.. وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك.
في هذا الحديث من الفوائد: دليل على فرح الله - عز وجل- بالتوبة من عبده إذا تاب إليه، وأنه يحب ذلك- سبحانه وتعالي- محبة عظيمة، ولكن لا لأجل حاجته إلي أعمالنا وتوبتنا؛ فالله غني عنا، ولكن لمحبته سبحانه للكرم؛ فإنه يحب - سبحانه وتعالي- يفرح، ويغضب، ويكره ويحب، لكن هذه الصفات ليست كصفاتنا؛ لأن الله يقول:) ِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: من الآية11) بل هو(1/102)
فرح يليق بعظمته وجلاله ولا يشبه فرح المخلوقين.
وفيه: دليل على أن الإنسان إذا أخطأ في قول من الأقوال ولو كان كفرا سبق لسانه إليه؛ فإنه لا يؤاخذ فهذا الرجل قال كلمة كفر؛ لأن قول سبق اللسان لربه: أنت عبدي وأنا ربك هذا كفر لا شك، لكن لما صدر عن خطأ من شدة الفرح _ أخطأ ولم يعرف أن يتكلم-صار غير مؤاخذ به، فإذا أخطأ الإنسان في كلمة؛ كلمة كفر؛ فإنه لا يؤاخذ بها، وكذلك غيرها من الكلمات؛ لو سب أحدا على وجه الخطأ بدون قصد، أو طلق زوجته على وجه الخطأ بدون قصد، أو أعتق عبده على وجه الخطأ بدون قصد، فكل هذا لا يترتب عليه شيء؛ لأن الإنسان لم يقصده، فهو كاللغو في اليمين، وقد قال الله تعالي:) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) (البقرة: من الآية225) بخلاف المستهزئ فإن المستهزئ يكفر إذا قال كلمة الكفر، ولو كان مستهزئا؛ لقول الله سبحانه) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) (التوبة: من الآية65/66) ، فالمستهزئ قصد الكلام، وقصد
معناه؛ لكن على سبيل السخرية والهزء؛ فلذلك كان كافراً، بخلاف الإنسان الذي لم يقصده؛ فإنه لا يعتبر قوله شيئاً.
وهذا من رحمة الله - عز وجل- والله الموفق.
* * *
16- وعن أبي موسى عبد الله قيس الأشعري- رضي الله عنه- عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((إن الله تعالي يبسط يده بالليل مسيء النهار،(1/103)
ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)) رواه مسلم.
17- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه)) (رواه مسلم) .
18- وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما- عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((إن الله - عز وجل - يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)) . (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن.
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث الثلاثة التي ذكرها المؤلف - رحمه الله- كلها تتعلق بالتوبة.
أما حديث أبي موسى فقد قال الرسول صلي الله عليه وسلم: ((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسي النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)) .
وهذا من كرمه- عز وجل- أنه يقبل التوبة حتى وإن تأخرت فإذا أذنب الإنسان ذنباً في النهار، فإن الله- تعالي- يقبل توبته ولو تاب في(1/104)
الليل. إذا أذنب وتاب في النهار فإن الله-تعالي- يقبل توبته بل إنه - تعالي- يبسط يده حتى يتلقى هذه التوبة التي تصدر من عبده المؤمن.
وفي هذا الحديث: دليل على محبة الله- سبحانه وتعالي- للتوبة، وقد سبق في الحديث السابق - في قصة الرجل الذي أضل راحلته حتى وجدها-: أن الله يفرح بتوبة عبده المؤمن إذا تاب إليه اشد فرحاً من هذا براحلته.
ومن فوائد حديث أبي موسي: إثبات أن الله -تعالي- له يده، وهو كذلك، بل له يدان جل وعلا- كما قال تعالي:) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) (المائدة: من الآية64) ، وهذه اليد التي أثبتها الله لنفسه- بل اليدان- يجب علينا أن نؤمن بهما؛ وأنهما ثابتتان لله.
ولكن لا يجوز أن نتوهم أنها مثل أيدينا؛ لأن الله يقول في كتابه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: من الآية11) وهكذا كل ما مر بك من صفات الله فأثبتها لله- عز وجل- لكن بدون أن تمثلها بصفات المخلوقين؛ لأن الله ليس كمثله شيء؛ لا في ذاته، ولا في صفاته عز وجل.
وفي هذا الحديث: أن الله- سبحانه وتعالي- يقبل توبة العبد وإن تأخرت، لكن المبادرة بالتوبة هي الواجب؛ لأن الإنسان لا يدري، فقد يفجأه الموت فيموت قبل أن يتوب. فالواجب المبادرة، لكن مع ذلك، لو تأخرت تاب الله على العبد.
وفي هذا الحديث: دليل على أن الشمس إذا طلعت من مغربها، انتهي قبول التوبة. وقد يسأل السائل، يقول: هل الشمس تطلع من مغربها؟ المعروف أن الشمس تطلع من المشرق؟!(1/105)
فنقول: نعم هذا هو المعروف، وهذا هو المطرد منذ خلق الله الشمس إلي يومنا هذا. لكن في آخر الزمان يأمر الله الشمس أن ترجع من حيث جاءت فتنعكس الدورة، وتطلع من مغربها، فإذا رآها الناس آمنوا كلهم، حتى الكفار اليهود، والنصارى، والبوذيون، والشيوعيون، وغيرهم؛ كلهم يؤمنون. ولكن الذي لم يؤمن قبل أن تطلع الشمس من مغربها لا ينفعه إيمانه.
كل يتوب أيضاً، لكن الذي لم يتب قبل أن تطلع الشمس من مغربها لا تقبل توبته؛ لأن هذه آية يشهدها كل أحد، وإذا جاءت الآيات المنذرة لم تنفع التوبة ولم ينفع الإيمان!
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه في أن الله -سبحانه وتعالي- يقبل التوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها فهو كحديث أبي موسى.
وأما حديث عبد الله بن عمر: ((إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر)) أي: ما لم تصل الروح الحلقوم، فإذا وصلت الروح الحلقوم فلا توبة، وقد بينت النصوص الأخرى أنه إذا حضر الموت توبة؛ لقوله تعالي:) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآن) (النساء: من الآية18) .
فعليك يا أخي المسلم أن تبادر بالتوبة إلي الله - عز وجل- من الذنوب، وأن تقلع عما كنت متلبسا به من المعاصي، وأن تقوم بما فرطت به من الواجبات، وتسأل الله قبول تتوبتك. والله الموفق.
* * *(1/106)
19- وعن زر بن حبيش قال: أتيت صفوان بن عسال- رضي الله عنه-اسأله عن المسح على الخفين، فقال: ما جاء بك يا زر؟ فقلت: ابتغاء العلم فقال: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب، فقلت: إنه قد حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول، وكنت امرءا من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فجئت أسألك: هل سمعته يذكر في ذلك شيئاً؟ قال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفرا- أو مسافرين- أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم، فقلت: هل سمعته يذكر في الهوى شيئاً؟ قال: نعم: كنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم فأجابه رسول الله صلي الله عليه وسلم نحوا من صوته: ((هاؤم)) فقلت له: ويحك أغضض، قال الإعرابي: المرء يحب القوم ولما يحلق بهم؟ قال النبي صلي الله عليه وسلم: المرء مع من أحب يوم القيامة)) فما زال يحثنا حتى ذكر بابا من المغرب مسيرة سفيان- أحد الرواة-: قبل الشام، خلقه الله - تعالي- يوم خلق السماوات والأرض مفتوحاً للتوبة، لا يغلق حتى تطلع الشمس منه)) (رواه الترمذي وغيره وقال: حديث حسن صحيح) .(1/107)
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث من أحاديث التوبة التي ساقها المؤلف -رحمه الله- في بيان متي تنقطع التوبة. لكنه يشتمل على فوائد:
منها: أن زر بن حبيش أتي إلي صفوان بن عسال- رضي الله عنه- من أجل العلم- يبتغي العلم- فقال له صفوان بن عسال: ((إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضي بما يطلب)) .
وهذه فائدة عظيمة تدل على فضيلة العلم، وطلب العلم؛ والمراد به العلم الشرعي، أي: علم ما جاء به النبي صلي الله عليه وسلم أما علم الدنيا فللدنيا، لكن طلب العلم الذي جاء به النبي صلي الله عليه وسلم هو الذي فيه الثناء والمدح، والحث عليه في القرآن والسنة. وهو نوع من الجهاد في سبيل الله، لأن هذا الدين قام بأمرين:
قام بالعلم والبيان، وبالسلاح: بالسيف والسنان.
حتى إن بعض العلماء قال: ((إن طلب العلم أفضل من الجهاد في سبيل الله بالسلاح)) لأن حفظ الشريعة إنما يكون بالعلم، والجهاد بالسلاح في سبيل الله مبني على العلم، لا يسير المجاهد، ولا يقاتل، ولا يحجم، ولا يقسم الغنيمة، ولا يحكم بالأسري؛ إلا عن طريق العلم، فالعلم هو كل شيء.
ولهذا قال الله عز وجل:) ايَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة: من الآية11) ووضع الملائكة أجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب واحتراماً له، وتعظيماً له، ولا يرد على هذا أن يقول القائل: أنا لا(1/108)
أحس بذلك؟ لأنه إذا صح بذلك؟ لأنه إذا صح الخبر عن الرسول صلي الله عليه وسلم فإنه كالمشاهد عيانا.
أرأيت قوله صلي الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا- تبارك وتعالي- كل ليلة إلي السماء الدنيا حين يبقي ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له)) .
نحن لا نسمع هذا الكلام من الله- عز وجل- لكن لما صح عن نبينا صلي الله علي وسلم صار كأننا نسمعه، ولذلك يجب علينا أن نؤمن بما قال الرسول صلي الله عليه وسلم وبما صح عنه مما يذكر في أمور الغيب، وأن نكون متيقنين لها كأنما نشاهدها بأعيننا ونسمعها بآذاننا.
ثم ذكر زر بن حبيش لصفوان بن عسال إنه حك في صدره المسح على الخفين بعد البول والغائط.
يعني أن الله تعالي ذكر في القرآن قوله:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (المائدة: من الآية6) فيقول إنه حك في صدري؛ أي: صار عندي توقف وشك في المسح على الخفين بعد البول أو الغائط هل هذا جائز أو لا؟
فبين له صفوان بن عسال- رضي الله عنه- أن ذلك جائز لأن النبي صلي الله عليه وسلم أمرهم إذا كانوا سفراً أو مسافرين أن لا ينزعوا خفافهم إلا من جنابة ولكن(1/109)
من غائط وبول ونوم، فدل هذا على جواز المسح على الخفين، بل إن المسح على الخفين أفضل إذا كان الإنسان لابسا لهما.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة- رضي الله عنه- أنه كان مع النبي صلي الله عليه وسلم في سفر، فتوضأ النبي صلي الله عليه وسلم فأهوي المغيرة لينزع خفيه فقال: ((دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين، ومسح عليهما))
ففي هذا دليل واضح على أن الإنسان الذي عليه جوارب، أو عليه خفان؛ أن الأفضل أن يمسح عليهما ولا يغسل رجليه.
ومنها: أنه ينبغي إذا أشكل على الإنسان شيء أن يسأل ويبحث عمن هو أعلم بهذا الشيء؛ حتى لا يبقي في قلبه حرج مما سمع، لأن بعض الناس يسمع الشيء من الأحكام الشرعية ويكون في نفسه حرج، ويبقي متشككاً متردداً، لا يسأل أحداً يزيل عنه هذه الشبهة، وهذا خطأ، بل الإنسان ينبغي له أن يسأل حتى يصل إلي أمر يطمئن إليه ولا يبقي عنده قلق.
فهذا زر بن حبيش- رحمه الله- سأل صفوان بن عسال- رضي الله عنه- عن المسح على الخفين؛ وهل عنده شيء عن رسول الله صلي الله عليه وسلم في ذلك، فقال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفراً أو مسافرين ألا ننزع خفافنا إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم.
فهذا الحديث فيه دليل علي ثبوت المسح على الخفين، وقد تواترت الأحاديث عن الرسول صلي الله عليه وسلم في ذلك، وأخذ بهذا أهل السنة، حتى إن بعض(1/110)
أهل العلم، الذين صنفوا في كتب العقائد، ذكروا المسح على الخفين في كتاب العقائد؛ وذلك لأن الرافضة خالفوا في ذلك؛ فلم يثبتوا المسح على الخفين وأنكروه، والعجب أن ممن روي المسح على الخفين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ومع ذلك هم ينكرونه ولا يقولون به، فكان المسح على الخفين من شعار أهل السنة ومن الأمور المتوترة عندهم؛ التي ليس عندهم فيها شك عن رسول الله صلي الله عليه وسلم.
قال الإمام أحمد: ((ليس في قلبي من المسح شك)) ، أو قال: ((شيء فيه أربعون حديثاً عن النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه)) ولكن لابد من شروط لجواز المسح علي الخفين:
الشرط الأول: أن يلبسهما على طهارة؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال للمغيرة بن شعبة رضي الله عنه حينما أراد أن ينزع خفي النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين، ومسح عليهما)) .
ولا فرق بين أن تكون هذه الطهارة قد غسل فيها الرجل، أو مسح فيها على خف سابق.
فمثلاً: لو توضأ وضوءاً كاملاً، وغسل رجليه، ثم لبس الجوارب؛ يعني الشراب أو الخفين، فهما لبسهما على طهارة.
كذلك لو كان قد لبس جوارب من قبل ومسح عليهما، ثم احتاج إلي(1/111)
زيادة جورب ولبسه على الجورب الأول الذي مسحه- وهو علي طهارة-، فإنه يمسح علي الثاني، لكن يكون ابتداء المدة من المسح على الأول لا من المسح على الثاني؛ هذا هو القول الصحيح؛ أنه إذا لبس خفا على خف ممسوح فإنه يمسح علي الأعلى، لكن يبني على مدة المسح علي الأول.
ولابد أن تكون الطهارة بالماء، فلو لبسهما علي طهارة تيمم فإنه لا يمسح عليهما؛ مثل رجل مسافر ليس معه ماء، فتيمم ولبس الخفين علي طهارة تيمم، ثم بعد ذلك وجد الماء، وأراد أن يتوضأ، ففي هذه الحال لابد أن يخلع الخفين ويغسل قدميه عند الوضوء، ولا يجوز المسح عليهما في هذه الحال، لأنه لم يلبسهما على طهارة غسل فيها الرجل، فإن التيمم يتعلق بعضوين فقط؛ وهما الوجه والكفان.
الشرط الثاني: أن يكون المسح عليهما في الحدث الأصغر، ولهذا قال صفوان بن عسال: ((إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم)) فإذا صار علي الإنسان جنابة؛ فإنه لا يجزئ أن يمسح على الجوربين أو الخفين، بل لابد من نزعهما وغسل القدمين؛ وذلك لأن الطهارة الكبرى ليس فيها مسح إلا للضرورة في الجبيرة، ولهذا لا يمسح فيها الرأس، بل لابد من غسل الرأس - مع أنه في الحدث الأصغر يمسح؛ لكن الجنابة طهارتها أوكد وحدثها أكبر، فلابد من الغسل، ولا يمسح فيها على الخف؛ لهذا الحديث، ولأن المعني والقياس يقتضي ذلك.
الشرط الثالث: أن يكون المسح في المدة التي حددها النبي صلي الله عليه وسلم وهي يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، كما صح ذلك أيضاً من(1/112)
حديث على بن أبى طالب_ رضي الله عنه- في صحيح مسلم قال: ((جعل رسول الله صلي الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم)) يعني: في المسح علي الخفين:
فإذا انتهت المدة فلا مسح، لابد أن يخلع الجوربين أو الخفين، ثم يغسل القدمين، ولكن إذا انتهت المدة وأنت على طهارة فاستمر على طهارتك، لا تنقض الطهارة، ولكن ذا أردت أن تتوضأ بعد انتهاء المدة فلابد من غسل القدمين.
ثم إن زر بن حبيش سأل صفوان بن عسال: هل سمع من النبي صلي الله عليه وسلم يقول في الهوي شيئاً؟
الهوي: المحبة والميل، فقال: نعم، ثم ذكر قصة الأعرابي الذي كان جهوري الصوت فجاء ينادي: يا محمد؛ بصوت مرتفع.
فقيل له: ويحك أتنادي رسول الله صلي الله عليه وسلم بصوت مرتفع؟ والله - عز وجل- يقول:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (الحجرات: 2) ، ولكن الأعراب لا يعرفون الآداب كثيراً؛ لأنهم بعيدون عن المدن وبعيدون عن العلم.
فأجابه النبي صلي الله عليه وسلم بصوت مرتفع كما سأل الأعرابي، لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم أكمل الناس هدياً، يعطي كل إنسان بقدر ما يتحمله عقله، فخاطبه النبي(1/113)
صلي الله عليه وسلم بمثل ما خاطبه به، قال له الأعرابي: ((المرء يحب القوم ولما يلحق بهم)) يعني: يحب القوم ولكن عمله دون علمهم؛ لا يساويهم في العمل، مع من يكون؟ أيكون معهم أو لا؟
فقال النبي صلي الله عليه وسلم: ((المرء مع من أحب يوم القيامة)) نعمة عظيمة - ولله الحمد- وقد روي أنس بن مالك- رضي الله عنه- هذه القطعة من الحديث، أن الرسول صلي الله عليه وسلم قال لرجل يحب الله ورسوله: ((إنك مع من أحببت)) قال أنس: ((فأنا أحب رسول الله صلي الله عليه وسلم وأبابكر عمر وأرجو أن أكون معهم)) .
وهكذا أيضاً نحن نشهد الله - عز وجل- على محبة رسول الله صلي الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين، وصحابته، وأئمة الهدي من بعدهم، ونسأل الله أن يجعلنا معهم.
هذه بشري للإنسان؛ أنه إذا احب قوما صار معهم وإن قصر به عمله؛ يكون معهم في الجنة ويجمعه الله معهم في الحشر، ويشربون من حوض الرسول صلي الله عليه وسلم جميعاً، وهكذا.. كما أن من أحب الكفرة فإنه ربما يكون معهم _ والعياذ بالله- لأن محبة الكافرين حرام، وأن يعلم أنهم أعداء له مهما أبدوا من الصداقة والمودة والمحبة؛ فإنهم لن يتقربوا إليك لمصلحتك فهذا شيء بعيد. إن كان(1/114)
يمكن أن نجمع بين الماء والنار، فيمكن أن نجمع بين محبة الكفار لنا وعداوتهم لنا؛ لأن الله تعالي سماهم أعداء قال:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) (الممتحنة: من الآية1) وقال عز وجل:) مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) (البقرة: 98) .
فكل كافر فإن الله عدو له، وكل كافر فإنه عدو لنا، وكل كافر فإنه لا يضمر لنا إلا الشر.
ولهذا يجب عليك أن تكره من قلبك كل كاف مهما كان جنسه، ومهما كان تقربه إليك فاعلم أنه عدؤك. قال تعالي:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) (الممتحنة: من الآية1) ، إذا نأخذ من هذه قاعدة أصلها النبي - عليه الصلاة والسلام- ألا وهي: ((المرء مع من أحب)) فعليك يا أخي أن تشد قلبك على محبة الله تعالي، ورسوله، وخلفائه الراشدين، وصحابته الكرام، وأئمة الهدي من بعدهم لتكون معهم.
نسأل الله أن يحقق لنا ذلك بمنه وكرمه والله الموفق.
* *
20- وعن أبي سعيد بن مالك بن سنان الخدري- رضي الله عنه- أن نبي الله صلي
الله عليه وسلم قال: ((كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن اعلم أهل الأرض، فدل على راهب، فاتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين(1/115)
نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلي أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله - تعالي- فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلي أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلي الله تعالي، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط، فاتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم- أي حكما- فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلي أيتها كان أدني فهو له، فقاسوا فوجدوه أدني إلي الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة)) (متفق عليه) .
وفي رواية في الصحيح: ((فكان إلي القرية الصالحة أقرب بشبر، فجعل من أهلها)) وفي رواية في الصحيح: ((فاوحي الله تعالي إلي هذه أن تباعدي، وإلي هذه أن تقربي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجدوه إلي هذه أقرب بشبر فغفر له)) وفي رواية: ((فنأي بصدره نحوها)) .
[الشَّرْحُ]
نقل المؤلف- رحمه الله- عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري- رضي الله عنه- أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم إنه ندم وسال عن أعلم أهل الأرض(1/116)
يسأله: هل له من توبة؟ فدل على رجل، فإذا هو راهب -يعني عابداً- ولكن ليس عنده علم، فلما سأله قال إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبة؟ فاستعظم الراهب هذا الذنب وقال: ليس لك توبة! فغضب الرجل وانزعج وقتل الراهب؛ فأتم به مائة نفس، ثم إنه سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم فقط له: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم! ومن الذي يحول بينه وبين التوبة؟ باب التوبة مفتوح، ولكن اذهب إلي القرية الفلانية؛ فإن فيها قوماً يعبدون الله. والأرض التي كان فيها كأنها- والله أعلم- دار كفر فأمره هذا العالم أن يهاجر بدينه إلي هذه القرية التي يعبد فيها الله- سبحانه وتعالي-، فخرج تائبا نادماً مهاجراً بدينه إلي الأرض التي فيها القوم الذين يعبدون الله عز وجل. وفي منتصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة العذاب، والمؤمن تقبض روحه ملائكة الرحمة، فاختصموا؛ ملائكة العذاب تقول: إنه تاب وجاء نادماً تائباً، فحصل بينهما
خصومة، فبعث الله إليهم ملكاً ليحكم بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلي أيتها كان أقرب فهو له؛ يعني فهو من أهلها. إن كانت أرض الكفر أقرب إليه فملائكة العذاب تقبض روحه، وإن كان إلي بلد الإيمان أقرب فملائكة الرحمة تقبض روحه.
فقاسوا ما بينهما؛ فإذا البلد التي اتجه إليها- وهي بلد الإيمان -أقرب من البلد التي هاجر منها بنحو شبر - مسافة قريبة - فقبضته ملائكة الرحمة.(1/117)
ففي هذا دليل علي فوائد كثيرة:
منها: أن القاتل إذا قتل إنساناً عمداً ثم تاب فإن الله - تعالي- يقبل توبته، ودليل ذلك في كتاب الله قوله تعالي:) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: من الآية48)) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: من الآية48)) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: من الآية48) ، يعني ما دون الشرك، فإن الله تعالي يغفره إذا شاء.
وهذا الذي عليه جمهور أهل العلم.
وذكر عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما- أن القاتل ليس له توبة؛ لأن الله يقول:) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء: 93) .
ولكن ما ذهب إليه الجمهور هو الحق، وما روي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- فإنه يمكن أن يحمل على أنه ليس توبة بالنسبة للمقتول؛ وذلك لأن القاتل إذا قتل تعلق فيه ثلاثة حقوق:
الحق الأول: لله، والثاني: للمقتول، والثالث: لأولياء المقتول.
أما حق الله؛ فلا شك أن الله تعالي يغفره بالتوبة، لقول الله تعالي:) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ) (الزمر: من الآية53) .
ولقوله تعالي: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً) (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً) (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ و) (الفرقان: من الآية68/70) .(1/118)
وأما حق المقتول؛ فإن توبة القاتل لا تنفعه ولا تؤدي إليه حقه؛ لأنه مات، ولا يمكن الوصول إلي استحلاله، أو التبرؤ من دمه، فهذا هو الذي يبقي مطالباً به القاتل ولو تاب، وإذا كان يوم القيامة فالله يفصل بينهما.
وأما حق أولياء المقتول، فإنها لا تصح توبة القاتل؛ حتى يسلم نفسه إلي أولياء المقتول، ويقر بالقتل، ويقول: أنا القاتل، وأنا بين أيديكم، إن شئتم اقتلوني وإن شئتم خذو الدية، وإن شئتم اسمحوا، فإذا تاب إلي الله، وسلم نفسه لأولياء المقتول- يعني لورثته - فإن توبته تصح، وما بينه وبين المقتول يكون الحكم فيه إلي الله يوم القيامة.
21- وعن عبد الله بن كعب بن مالك، وكان قائد كعب- رضي الله عنه- من بنيه حين عمي، قال: سمعت كعب بن مالك - رضي الله عنه- يحدث بحديثه حين تخلف عن رسول الله صلي الله عليه وسلم في غزوة تبوك: قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله صلي الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني قد تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحد تخلف عنه، إنما خرج رسول الله صلي الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله - تعالي- بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. ولقد شهدت مع رسول الله صلي الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب حين تخلفت عن رسول الله صلي الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوي ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلي الله عليه وسلم(1/119)
يريد غزوة إلا وري بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسول الله صلي الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازاً واستقبل عدداً كثيراً، فجلي للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجههم الذي يريد والمسلمون مع رسول الله كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ
(يريد بذلك الديوان) قال كعب: فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفي به ما لم ينزل فيه وحي من الله، وغزا رسول الله صلي الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر، فتجهز رسول الله صلي الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معه، فأرجع ولم أقض شيئاً، وأقول في نفسي: أنا قادر علي ذلك إذا أردت، فلم يزل يتمأدي بي حتى استمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلي الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئاً ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل يتمادي بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلت، ثم لم يقدر ذلك لي، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلي الله عليه وسلم يحزنني أني لا أري لي أسوة، إلا رجلاً مغموصا عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله تعالي من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلي الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله صلي الله عليه وسلم حبسه(1/120)
برداه، والنظر في عطفيه، فقال له معاذ بن جبل - رضي الله عنه-: بئس ما قلت! والله يا رسول الله ما
علمنا عليه إلا خيراً، فسكت رسول الله صلي الله عليه وسلم فبينا هو على ذلك رأي رجلاً مبيضاً يزول به السراب، فقل رسول الله صلي الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة، فإذا هو ابو خيثمة الأنصاري- وهو الذي تصدق بصلع من التمر حين لمزه المنافقون، قال كعب: فلما بلغني أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك حضرني بثي فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غداً، واستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله صلي الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل، حتى عرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا، فأجمعت صدقة، وأصبح رسول الله صلي الله عليه وسلم قادماً، وكأن إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعا وثمانين رجلاً، فقبل منهم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلي الله تعالي حتى جئت، فلما سلمت تبسم المغضب، ثم قال: تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي، ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعن ظهرك؟ لرأيت أتي سأخرج من سخطه بعذر؛ لقد أعطيت جدلاً، لكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضي به عني ليوشكن الله(1/121)
يسخطك علي، وإن حدثتك حديث صدق تجد عل فيه إني لأرجو فيه عقبي الله عز وجل، والله ما كأن لي من عذر، والله ما كنت قط أقوي ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.
قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك)) وسار رجال من بني سلمة، فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا، لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلي الله عليه وسلم فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم؛ لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، قال: قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي؟ قال: فذكروا لي رجلين قد شهدا بدرا فيهما أسوة. قال: حين ذكرؤهما لي، ونهي رسول الله صلي الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، قال: فاجتنبنا الناس- أو قال: تغيروا لنا- حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا علي ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلي الله عليه وسلم فاسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه
برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت(1/122)
نحوه أعرض عني، حتى إذا حال ذلك على من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة؛ وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام، فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله صلي الله عليه وسلم؟ فسكت، فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته، فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشي في سوق المدينة؟ إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني، فدفع إلي كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً. فقرأته فإذا فيه: أما بعد؛ فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسيك، فقلت حين قرأتها: وهذه أيضاً من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرتها حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول رسول الله صلي الله عليه وسلم ياتيني، فقال: إن رسول الله صلي الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امراتك، فقلت: أطلقها، أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها
فلا تقربنها، وأرسل إلي صاحبي بمثل ذلك. فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، فجأءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلي الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله إن هلال ابن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا(1/123)
يقربنك. فقالت: إنه والله ما به من حركة إلي شيء ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلي يومه هذا، فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلي الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟ فقلت: استأذنته فيها رسول الله صلي الله عليه وسلم، وما يدريني ماذا يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب! فلبث بذلك عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عنن كلامنا.
ثم صليت صلاة الفجر صباح ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالي منا، قد ضاقت علة نفسي وضاقت على الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفي على سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك ابشر، فحخررت ساجداً، وعرفت أنه قد جاء فرج. فأذن رسول الله صلي الله عليه وسلم الناس بتوبة الله- عز وجل- علينا حين صلي صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا، فذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرسا، وسعي ساع من أسلم قبلي وأوفي على الجبل، وكان الصوت أسرع النبي صلي الله عليه وسلم الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت أتأمم رسول الله صلي الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة ويقولون لي: لتهنك توبة الله عليك، حتى(1/124)
دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلي الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله-رضي الله عنه- يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيرة، فكأن كعب لا ينساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلي الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر
بخير يوم مر عليك مذ ولدتك أمك: فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: لا. بل من عند الله- عز وجل- وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كان وجهه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منهن فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن نخلع من مالي صدقة إلي الله وإلي رسوله. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم أمسك عليك بغض مالك فهو خير لك، فقلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر وقلت: يا رسول الله إن الله تعالي إنما أنجاني بالصدق، وإن توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت، فوالله ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه الله- تعالي-في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلي الله عليه وسلم إلي يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله- تعالي- فيما بقي، قال: فنزل الله تعالي:) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) حتى بلغ: (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَت) حتى بلغ:) وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: من الآية117/119) قال
كعب: والله ما أنعم الله على من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله(1/125)
صلي الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا: إن الله تعالي قال للذين كذبوا حين أنزل الوحى شر ما قال لأحد، فقال الله تعالي:) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (التوبة: 95/96) .
قال كعب: كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أؤلئك الذين قبل منهم رسول الله صلي الله عليه وسلم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلي الله عليه وسلم أمرنا حتى قضي الله- تعالي- فيه بذلك؟ قال الله تعالي:) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) وليس الذي ذكر مما خلفنا تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه. متفق عليه.
وفي رواية: ((أن النبي صلي الله عليه وسلم خرج في غزوة تبوك يوم الخميس، وكان يحب أن يخرج يوم الخميس.
وفي رواية: وكان لا يقدم من سفر إلا نهاراً في الضحى، فإذا قدم بدأ بالمسجد فصلي ركعتين ثم جلس فيه.
[الشَّرْحُ]
هذا حديث كعب بن مالك، في قصة تخلفه عن غزوة تبوك، وكانت غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة.(1/126)
غزا النبي صلي الله عليه وسلم الروم وهم على دين النصارى حين بلغه أنهم يجمعون له، فغزاهم النبي عليه الصلاة والسلام، وقام بتبوك عشرين ليلة، ولكنه لم ير كيداً ولم ير عدوا فرجع. وكانت هذه الغزوة في أيام الحر حين طابت الثمار وصار المنافقون يحبون الدنيا على الآخرة، فتخلف المنافقون عن هذه الغزوة ولجأوا إلي الظل والرطب والتمر، وبعدت عليهم الشقة والعياذ بالله.
أما المؤمنون الخلص، فإنهم خرجوا مع النبي- عليه الصلاة والسلام- ولم يثن عزمهم بعد الشقة ولا طيب الثمار.
إلا أن كعب بن مالك- رضي الله عنه- تخلف عن غزوة تبوك بلا عذر، وهو من المؤمنين الخلص، ولهذا قال: ((إنه ما تخلف عن رسول الله صلي الله عليه وسلم عن غزوة غزاها قط)) كل غزوات الرسول صلي الله عليه وسلم قد شارك فيها كعب- رضي الله عنه- فهو من المجاهدين في سبيل الله ((إلا في غزوة بدر)) ، فقد تخلف فيها كعب وغيره، لأن النبي صلي الله عليه وسلم - عليه الصلاة والسلام- خرج من المدينة لا يريد القتال، ولذلك لم يخرج معه إلا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً فقط؛ لأنهم كانوا يريدون أن يأخذوا عيرا لقريش، أي إبل محملة قدمت من الشام تريد مكة وتمر بالمدينة.
فخرج النبي - عليه الصلاة والسلام_ من أجل أن يستقبل هذه العير ويأخذها، وذلك لأن أهل مكة أخرجوا النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه من ديارهم وأموالهم؛ فلهذا كانت أموالهم غنيمة للنبي- عليه الصلاة والسلام- ويحل له أن يخرج ليأخذها، وليس في ذلك عدوان من رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصحابه،(1/127)
بل هذا أخذ لبعض حقهم.
خرج الرسول صلي الله عليه وسلم في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ليس معهم إلا سبعون بعيراً وفرسان فقط؛ وليس معهم عدة والعدد قليل، ولكن الله جمع بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد لينقذ الله ما أراد عز وجل.
فسمع ابو سفيان - وهو قائد العير- أن النبي صلي الله عليه وسلم خرج إليه ليأخذ العير؛ فعدل عن سيره إلي الساحل وأرسل إلي قريش صارخاً يستنجدهم - أي يستغيثهم- ويقول: هلموا أنقذوا العير.
خرجوا كما قال الله عنهم، خرجوا من ديارهم) ْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه) (لأنفال: من الآية47)
ولما كانوا في أثناء الطريق وعلموا أن العير نجت تراجعوا فيما بينهم وقالوا: العير نجت، فلما لنا وللقتال؟ فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نقدم بدراً فنقيم فيها ثلاثا ننحر الجزور، ونسقي الخمور، ونطعم الطعام، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدا!.
هكذا قالوا، بطرا واستكبارا وفخرا، ولكن- الحمد لله- صارت العرب تتحدث بهم بالهزيمة النكراء التي لم يذق العرب مثلها، لما التقوا بالنبي- عليه الصلاة والسلام- وزكان ذلك في رمضان في السنة الثانية من الهجرة، في اليوم السابع عشر منه، التقوا فأوحي الله عز وجل إلي الملائكة:) أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا(1/128)
الرُّعْبَ) (الأنفال: من الآية12) ، انظر! في الآية تثبيت للمؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا، فما أقرب النصر في هذه الحال؟! رعب في قلوب الأعداء، وثبات في قلوب المؤمنين.
فثبت الله المؤمنين ثباتاً عظيماً، وأنزل في قلوبهم الذين كفروا الرعب.
قال الله سبحانه) َ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) (لأنفال: من الآية12) ، أي: كل مفصل، واضربوا فالأمر ميسر لكم.
فجعل المسلمون- ولله الحمد- يجلدون فيهم؛ فقتلوا سبعين رجلاً واسروا سبعين رجلاً، والذين قتلوا ليسوا من أطرفهم، الذين قتلوا كلهم من صناديهم وكبرائهم، وأخذ منهم أربعة وعشرون رجلاً يسحبون سحباً وألقوا في قليب من قلب بدر، سحبوا حتى ألقوا في القليب جثثاً هامدة، ووقف عليهم النبي - عليه الصلاة والسلام_ وقال لهم: يا فلان ابن فلان، يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا. فقالوا: يا رسول الله، كيف تكلم أناساً قد جيفوا؟ قال: ((والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يجيبون)) ؛ لأنهم موتي، وهذه - ولله الحمد- نعمة، علينا أن نشكر الله عز وجل عليها كلما ذكرناها.(1/129)
نصر الله نبيه، وسمي الله هذا اليوم) عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) (لأنفال: من الآية41) .
هذا اليوم فرق الله فيه الحق والباطل تفريقاً عظيماً. وانظر إلي قدرة الله عز وجل في هذا اليوم، انتصر ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلاً على نحو ألف رجل أكمل منهم عدة وأقوي، وهؤلاء ليس معهم إلا عد قليل من الإبل والخيل، لكن نصر الله عز وجل إذا نزل لقوم لم يقم أمامهم أحد، وإلي هذا أشار الله بقوله) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) (آل عمران: من الآية123) ، ولما كان المسلمون حين فتحوا مكة وخرجوا باثني عشر ألفاً وأمامهم هوزان وثقيف؛ فأعجب المسلمون بكثرتهم وقالوا: لن نغلب اليوم عن قلة، فغلبهم ثلاثة آلاف وخمس مائة رجل. غلبوا اثني عشر ألف رجل بقيادة النبي صلي الله عليه وسلم، لنهم أعجبوا بكثرتهم، قالوا: لن نغلب اليوم عن قله، فأراهم الله عز وجل أن كثرتهم لن تنفعهم.
قال الله تعالي:) وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (التوبة: من الآية25) .
أترون ماذا حصل لأهل بدر؟
اطلع الله عليهم وقال لهم: اعملوا ماشئتم فقد غفرت لكم.
كل معصية تقع منهم فإنها مغفورة، لأن الثمن مقدم.
فهذه الغزوة صارت سبباً لكل خير، حتى إن حاطب بن أبي بلتعة(1/130)
- رضي الله عنه- لما حصل منه ما حصل في كتابه لأهل مكة عندما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يغزوهم غزوة الفتح كتب هو- رضي الله عنه- إلي أهل مكة يخبرهم، ولكن الله أطلع نبيه علي ذلكز أرسل حاطب بن أبي بلتعة بن علي أبي طالب وواحداً معه حتى لحقوها في روضة تسمي روضة خاخ، فأمسكوها وقالوا لها: أين الكتاب؟ فقالت: ما معي كتاب، فقالوا لها: أين الكتاب؟ والله ما كبنا ولا كبنا، أين الكتاب؟ لتخرجنه أو لننزعن ثيابك؟ فلما رأت ذلك لأخرجته، فإذا هو من حاطب بن أبي بلتعة إلي قريش، فأخذوه.
والحمد لله أنه لم يصل إلي قريش، فصار في هذا نعمة من الله على المسلمين وعلى حاطب، لأن الذي أراد ما حصل من نعمة الله.
فلما ردوا الكتاب إلي النبي صلي الله عليه وسلم قال له: ((يا حاطب، ما هذا)) ؟ فاعتذر.
فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال له النبي عليه الصلاة والسلام: ((إنه قد شهد بدراً، وما يدريك، لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم)) .
وكان حاطب من أهل بدر رضي الله عنه.(1/131)
فالمهم أن هذه تخلف عنها كعب، لكنها ليست في أول الأمر، إلا في ثاني الحال؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم لم يخرج لقتال، وإنما خرج للعير، ولكن الله جمع بيته وبين عدوه على غير ميعاد، وكانت غزاة مباركة ولله الحمد. ثم ذكر بيعته النبي صلي الله عليه وسلم ليلة العقبة في مني، حيث بايعوا النبي صلي الله عليه وسلم على الإسلام وقال: إنني لا أحب أن يكون لي بدلها بدر.
يعني هي أحب إليه من غزوة؛ لأنها بيعة عظيمة.
لكن يقول: كانت بدر أذكر في الناس منها، أي أكثر ذكراً، لأن الغزوة اشتهرت بخلاف البيعة.
علي كل حال- رضي الله عنه- يسلي نفسه بأنه إن فاتته بدر فقد حصلت له بيعة العقبة، فرضي الله عن كعب وعن جميع الصحابة.
يقول رضي الله عنه: ((إني لم أكن قط اقوي ولا ايسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة)) - أي: غزوة تبوك- كان قوي البدن، ياسر الحال، حتى إنه كان عنده راحلتان في تلك الغزوة، وما جمع راحلتين في غزوة قبلها أبداً، وقد استعد وتجهز- رضي الله عنه- وكان من عادة النبي صلي الله عليه وسلم أنه إذا أراد غزوة وري بغيرها، أي: أظهر خلاف ما يريد، وهذا من حكمته وحنكته في الحرب، لأن لو أظهر وجهه تبين ذلك لعدوه، فربما يستعد له أكثر، وربما يذهب عن مكانة الذي قصده النبي صلي الله عليه وسلم فيه.
فكان مثلاً إذا أراد أن يخرج إلي الجنوب وري وكأنه يريد أن يخرج إلي الشمال، أو لا أراد أن يخرج إلي الشرق وري وكأنه يريد أن يخرج إلي الغرب حتى لا يطلع العدو على أسراره. إلا في غزوة تبوك، فإن النبي صلي الله عليه وسلم(1/132)
بين امرها ووضحها وجلاها لأصحابه؛ وذلك لأمور:
أولاً: إنها كانت في شدة الحر حين طابت الثمار، والنفوس مجبولة عللا الركون إلي الكسل وإلي الرخاء.
ثانيا: أن المدى بعيد من المدينة إلي تبوك، ففيها مفاوز ورمال وعطش وشمس.
ثالثاً: أن العدو كثير وهم الروم، اجتمعوا في عدد هائل حسب نا بلغ النبي صلي الله عليه وسلم، فلذلك جلي امرها وأوضح أمر الغزاة، وأخبر أنه خارج إلي المسلمون مع رسول الله صلي الله عليه وسلم ولم يتخلف إلا من خذله الله بالنفاق، وثلاثة رجال فقط هم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، رضي الله عنهم. هؤلاء من المؤمنين الخلص، لكن تخلفوا لأمر أراده الله عز وجل. أما غيرهم ممن تخلف فإنهم منافقون منغمسون في النفاق، نسأل الله العافية. فخرج النبي - عليه الصلاة والسلام- بأصحابه- وهم كثير- إلي جهة تبوك حتى نزل بها، ولكن الله تعالي لم يجمع بينه وبين عدوه، بل بقي عشرين يوماً في ذلك المكان، ثم انصرف علي غير حرب.
يقول كعب بن مالك رضي الله عنه: ((إن الرسول صلي الله عليه وسلم تجهز هو والمسلمون وخرجوا من المدينة.
أما هو - رضي الله عنه- فتأخر وجعل يغدو كل صباح يرحل راحلته ويقول: ألحق بهم، ولكنه لا يفعل شيئاً، ثم يفعل كل يوم، حتى تمادي به الأمر ولم يدرك.(1/133)
وفي هذا دليل على أن الإنسان إذا لم يبادر بالعمل الصالح فإنه- حري أن يحرم إياه، كما قال الله سبحانه) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الأنعام: 110) فالإنسان إذا علم الحق ولم يقبله ويذعن له من أول وهلة، فإن ذلك قد يفوته ويحرم إياه- والعياذ بالله- كما أن الإنسان إذا لم يصبر علي المصيبة من أول الأمر فإنه يحرم أجرها، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولي)) .
فعليك- يا أخي - أن تبادر بالأعمال الصالحة، ولا تتأخر فتتمادي بك الأيام ثم تعجز وتكسل ويغلب عليك الشيطان والهوى فتتأخر، فها هو- رضي الله عنه- كل يوم يقول: أخرج، ولكن تمادي به الأمر ولم يخرج.
يقول: فكان يحز في نفسه أنه إذا خرج إلي سوق المدينة وإذا المدينة ليس فيها رسول الله صلي الله عليه وسلم ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا السابقون الأولون من المهاجرين والأنصارن إلا رجل مغموس في النفاق- والعياذ بالله- قد غمسه نفاقة فلم يخرج، أو رجل معذور عذره الله عز وجل. فكان يعتب علي نفسه: كيف لا يبقي في المدينة إلا هؤلاء وأقعد معهم. ورسول الله صلي الله عليه وسلم لم يذكره ولم يسأل عنه حتى وصل إلي تبوك.
فبينما هو جالس وأصحابه في تبوك سأل عنه، فقال رسول الله أين(1/134)
كعب بن مالك؟ فتكلم فيه رجل من بني سلمه وغمزه، ولكن دافع عنه معاذ ابن جبل - رضي الله عنه- فسكت النبي صلي الله عليه وسلم ولم يجب بشيء، لا على الذي غمزه ولا على الذي رد.
فبينما هو كذلك إذ رأي رجلاً مبيضاً، يعنني بياضاً يزول به السراب من بعيد، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: ((كن ابا خيثمة الأنصاري)) فكان ابا خيثمة.
وهذا إما من فراسة النبي - عليه الصلاة والسلام- وإما من قوة نظره صلي الله عليه وسلم.
ولا شك انه من أقوي الرجال نظرا وسمعا ونطقا وفي كل شيء.
وأعطي قوة ثلاثين رجلاً بالنسبة للنساء- عليه الصلاة والسلام- وكذلك أعطي قوة في غير ذلك، صلوات ربي وسلامه عليه.
وأبو خثيمة هذا هو الذي تصدق بصاع عندما حث النبي صلي الله عليه وسلم علي الصدقة، فتصدق الناس كل بحسب حاله. فكان الرجل إذا جاء بالصدقة الكثيرة قال المنافقون: هذا مراء ما أكثر الصداقة ابتغاء وجه الله، وإذا جاء الرجل الفقير بالصدقة اليسيرة قالوا: إن الله غني عن صاع هذا.
انظر- والعياذ بالله- يلمزون المؤمنين من هنا ومن هنا، كما قال الله) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) (التوبة: من الآية79) أي: إذا تصدقوا بما يستطيعون قالوا: إن الله غني عن صاعك.
وهكذا المنافق شر على المسلمين، فإن رأي أهل البخير لمزهمن وإن رأي المقصرين لمزهم، وهو أخبث عباد الله، فهو في الدرك السفل من النار. والمنافقون في زمننا هذا إذا أرادوا أهل الخير وأهل الدعوة وأهل(1/135)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قالوا: هؤلاء متزمتون، هؤلاء متشددون، وهؤلاء أصوليون، هؤلاء رجعيون، وما أشبه ذلك من الكلام.
فكل هذا موروث عن المنافقين في عهد الرسول - عليه الصلاة والسلام- إلي يومنا هذا.
لا تقولوا ليس عندنا منافقون بل عندنا منافقون ولهم علامات كثيرة!!
وقد ذكر ابن القيم- رحمه اله- في كتابه ((مدارج السالكين)) في الجزء الأول صفات كثيرة من صفات المنافقين، كلها مبينة في كتاب الله عز وجل متزمت، هذا بخيل، لله غني عن صدقته. وإذا رأيت رجلاً يلمز المؤمنين من هنا ومن هنا، فاعلم أنه منافق والعياذ بالله) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (التوبة: 79)) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (التوبة: 79)) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (التوبة: 79) فاستفدنا من الحديث فائدتين عظيمتين:
الفائدة الأولي: أن الإنسان لا ينبغي له أن يتأخر عن فعل الخير، بل لابد أن يتقدم ولا يتهاون أو يتكاسل.
وأذكر حديثاً قاله النبي- عليه الصلاة والسلام- في الذين يتقدمون إلي المسجد ولكن لا يتقدمون إلي الصف الأول، بل يكونون في مؤخره. قال ((لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم(1/136)
الله) .
إذا عود الإنسان نفسه على التأخير آخره الله عز وجل. فبادر بالأعمال الصالحة من حين أن يأتي طلبها من عند الله عز وجل.
الفائدة الثانية: أن المنافقين يلمزون المؤمنين، إن تصدق المسلمون بكثير قالوا: هؤلاء مراؤون، وإن قللوا بحسب طاقتهم قالوا: إن الله غني عن عملك وغني عن صاعك، كما سبق.
وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام: ((من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه- أي: بما يعادل تمرة- كما يربي أحدكم فلوه- أي مهره: الحصان الصغير - حتى تكون مثل الجبل، وهي تمرة أو ما يعادلها.
بل قال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة)) ، أي: نصف تمرة، بل قال الله عز وجل:) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة: 7/8) ، والله سبحانه وتعالي لا يضيع أجر المحسنين.(1/137)
يقول رضي الله عنه: إنه لما بلغه أن النبي صلي الله عليه وسلم رجع قافلاً من الغزو، بدأ يفكر ماذا يقول لرسول الله صلي الله عليه وسلم إذا رجع؟ يريد أن يتحدث بحديث وإن كان كذباَ، من أجل أن يعذره النبي صلي الله عليه وسلم فيه، وجعل يشاور ذوي الرأي من أهله ماذا يقول، ولكن يقول رضي الله عنه: فلما بلغ من الباطل، وعزم على أن يبين للنبي صلي الله عليه وسلم الحق، يقول: فقدم النبي صلي الله عليه وسلم المدينة ودخل المسجد، وكان من عادته وسنته أنه إذا قدم بلده فأول ما يفعل أن يصلي في المسجد عليه الصلاة والسلام، وهكذا أمر جابراً-رضي الله عنه- كما سأذكره إن شاء الله، فدخل المسجد وصلي وجلس للناس فجاءه المخلفون الذين تخلفوا من غير عذر من المنافقين، وجعلوا يحلفون له إنهم معذورون، فبايعهم ويستغفر لهم ولكن ذلك لا يفيدهم والعياذ بالله؛ لأن الله قال:) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) (التوبة: من الآية80) ، فيقول: أما أنا فعزمت أن اصدق النبي - عليه الصلاة والسلام_ وأخبره بالصدق، فدخلت المسجد فسلمت عليه، فتبسم تبسم المغضب- أي:
الذي غير راض عني- ثم قال: ((تعال)) فلما دنوت منه قال لي: ((ما خلفك؟)) .
فقال رضي الله عنه: يا رسول الله إني لم أتخلف لعذر، وما جمعت راحلتين قبل غزوتي هذه، وإني لو جلست عند أحد من ملوك الدنيا لخرجت منه بعذر، فلقد أوتيت جدلاً- يعني لو أني جلست عند شخص من الملوك لعرفت كيف أتخلص منه لأن الله أعطاني جدلاً- ولكني لا(1/138)
أحدثك اليوم حديثا ترضي به عني فيوشك أن يسخط الله على في ذلك. رضي الله عنه.
انظر إلي الإيمان! قال: لا يمكن أن أحدثك بالكذب، ولو حدثتك بالكذب، ورضيت عني اليوم، فإنه يوشك أن يسخط الله علي.
فأخبر النبي صلي الله عليه وسلم بالصدق، فأجله.
وفي هذا من الفوائد:
أولاً: أن الله سبحانه وتعالي قد يمن على العبد فيعصمه من المعصية إذا علم من قلبه حسن النية.
فإن كعبا- رضي الله عنه- لما هم أن يزور على الرسول - عليه الصلاة والسلام- جلي الله ذلك عن قلبه وأزاحه عن قلبه، وعزم على ان يصدق النبي عليه الصلاة والسلام.
ثانياً: أنه ينبغي للإنسان إذا قدم بلده، أن يعمد إلي المسجد قبل أن يدخل إلي بيته فيصلي فيه ركعتين، لأن هذه سنة النبي- عليه الصلاة والسلام- القولية والفعلية. أما الفعلية: فكما في حديث كعب بن مالك.
وأما القولية: فإن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما- حين باع علي النبي صلي الله عليه وسلم جملة في أثناء الطريق واستثني أن يركبه إلي المدينة وأعطاه النبي صلي الله عليه وسلم شرطه، فقدم جابر المدينة وقد قدم النبي صلي الله عليه وسلم قبله فجاء إلي رسول الله(1/139)
فأمره أن يدخل المسجد ويصلي ركعتين.
وما أظن أحداً من الناس اليوم- إلا قليلاً - يعمل هذه السنة، وهذا لجهل الناس بهذا، وإلا فهو سهل والحمد لله.
وسواء صليت في مسجدك الذي كنت تصلي فيه القريب من بيتك، أو صليت في أدني مسجد من مساجد البلد الذي أنت فيه حصلت السنة.
ثالثاً: أن كعب بن مالك- رضي الله عنه - رجل قوي الحجة فصيح، ولكن لتقواه وخوفه من الله امتنع أن يكذب، وأخبر النبي صلي الله عليه وسلم الحق.
رابعاً: أن الإنسان المغضب قد يتسم، فإذا قال قائل: كيف أعرف أن هذا تبسم رضا أو تبسم سخط؟
قلنا: إن هذا يعرف بالقرائن، كتلون الوجه وتغيره.
فالإنسان يعرف أن هذا الرجل تبسم رضا بما صنع أو تبسم سخطاً عليه.
خامساً: أنه يجوز للإنسان أن يسلم قائماً علي القاعد؛ لأن كعبا سلم وهو قائم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ((تعال)) .
سادساً: أن الكلام عن قرب أبلغ من الكلام عن بعد، فإنه كان بإمكان الرسول صلي الله عليه وسلم أن يكلم كعب بن مالك ولو كان بعيداً عنه، لكنه أمره أن يدنو(1/140)
منه؛ لأن هذا أبلغ في الأخذ والرد والمعاتبة، فلذلك قال له الرسول عليه الصلاة والسلام: ((ادن)) .
سابعاً: كمال يقين كعب بن مالك- رضي الله عنه- حيث أنه قال: أنني أستطيع أن اخرج بعذر من الرسول - عليه الصلاة والسلام- ولكن لا يمكن أن أخرج منه بعذر يعذرني فيه اليوم ثم يغضب الله على فيه غداً.
ثامناً: إن الله يعلم السر وأخفي، فإن كعباً خاف أن يسمع الله قوله ومحاورته للرسول- عليه الصلاة والسلام- فينزل الله فيه قرآناً، كما أنزل في قصة المرأة المجادلة التي جاءت إلي الرسول - عليه الصلاة والسلام- تشكو زوجها حين ظاهر منها، فأنزل الله فيها آية من القرآن:) قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة: 1) .
يقول كعب: إنه أتي إلي الرسول صلي الله عليه وسلم وصدقه القول وأخبره أنه لا عذر له لا في بدنه ولا في ماله، بل إنه لم يجمع راحلتين في غزوة قبل هذه.
فقال النبي صلي الله عليه وسلم: ((أما هذا فقد صدق)) ويكفي له فخراً أن وصفه النبي - عليه الصلاة والسلام- بالصدق: ((أما هذا فقد صدق، فاذهب حتى يقضي الله فيك ما شاء)) . فذهب الرجل مستسلماً لأمر الله عز وجل مؤمناً بالله، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
فلحقه قوم من بني سلمه من قومه وجعلوا يزينون له أن يرجع عن إقراره، وقالوا له: إنك لم تذنب ذنباً قبل هذا، يعني مما تخلفت به عن رسول الله صلي الله عليه وسلم ويكفيك أن ستغفر لك رسول الله صلي الله عليه وسلم وإذا استغفر لك(1/141)
الرسول صلي الله عليه وسلم غفر الله لك، فارجع كذب نفسك، قل إني معذور، حتى يستغفر لك الرسول - عليه الصلاة والسلام- فيمن استغفر لهم ممن جاؤوا يعتذرون إليه. فهم أن يفعل رضي الله عنه، ولكن الله سبحانه أنقذه وكتب له هذه المنقبة العظيمة التي تتلي في كتاب الله إلي يوم القيامة.
فسال قونه: هل أحد صنع مثلما صنعت؟ قالوا: نعم، هلال بن أمية ومرارة بن الربيع، قالا مثلما قلت، وقيل لهما مثلما قيل لك.
يقول: ((فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدراً لي فيهما أسوة)) .
أحياناً يقيض الله للإنسان ما يجعله يدع الشر اقتداء بغيره وتأسياً به.
فهو- رضي الله عنه- لما ذكر له هذان الرجلان- وهما من خيار عباد الله من الذين شهدوا بدراً - فقال: ((لي فيهما أسوة فمضيت)) أي: لم يرجع إلي النبي عليه الصلاة والسلام.
فأمر النبي - عليه الصلاة والسلام- الناس أن يهجروهم فلا يكلموهم.
فهجرهم المسلمون، ولكنهم بعد ذلك صاروا يمشون وكأنهم بلا عقول، قد ذهلوا، وتنكرت لهم الأرض فما هي بالأرض التي كانوا يعرفونها؛ لأنهم يمشون إن سلموا لا يرد عليهم السلام، وإن قابلهم أحد لم يبدأهم بالسلام. وحتى النبي- عليه الصلاة والسلام- وهو أحسن الناس خلقاً- لا يسلم عليهم السلام العادي.
يقول كعب: كنت أحضر واسلم على النبي صلي الله عليه وسلم فلا أدري: أحرك شفتيه برد السلام أم لا.
هذا وهو النبي عليه الصلاة والسلام، وما ظنك برجل يهجر في هذا(1/142)
المجتمع الإسلامي الذي هو خير القرون؟ إنها ستضيق عليه الأرض، وفعلاً ضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وبقوا علي هذه الحال مدة خمسين يوماً، أي: شهراً كاملاً وعشرين يوماً. والناس قد هجروهم فلا يسلمون عليهم. ولا يردون السلام إذا سلموا. وكأنهم في الناس لإبل جرب لا يقربهم أحد.
فضاقت عليهم الأمور وصعبت عليهم الأحوال، وفروا إلي الله عز وجل، ولكن مع ذلك لم يكن كعب بن مالك يدع الصلاة مع الجماعة.
فكان يحضر ويسلم على تانبي - عليه الصلاة والسلام- ولكن في آخر الأمر ربما يتخلف عن الصلوات لما يجد في نفسه من الضيق والحرج؛ لأنه يخجل أن يأتي إلي قوم يصلي معهم وهم لا يكلمونه أبداً، لا بكلمة طيبة ولا بكلمة تأنيب، فتركوهم بالكلية، فضاقت عليهم الأرض، وبقوا علي هذه الحالة خمسين ليلة تامة، ولما تمت لهم أربعون ليلة أرسل إليهم النبي- عليه الصلاة والسلام- أن يعتزلوا نساءهم. إلي هذا الحد، فرق بينهم وبين نسائهم.
وما ظنك برجل مثل كعب بن مالك وهو شاب يعزل عن امرأته؟ أمر عظيم،: ((إن النبي صلي الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك)) قال: أطلقها أم ماذا؟ لأنه لو قال طلقها لطلقها بكل سهولة؛ طاعة الله ورسوله، فسأل قال: أطلقها أم ماذا؟ فقال له رسول الرسول: إن الرسول - عليه الصلاة والسلام- يأمرك ان تعتزل أهلك. وبقي على ظاهر اللفظ. حتى الصحابي الذي أرسل ما(1/143)
حرف النص، لا معني ولا لفظاً، قال هكذا، قال: ولا أدري.
وهذا من أدب الصحابة رضي الله عنهم، ما قال: أظن أنه يريد أن تطلقها، ولا: أظن انه يريد أن لا تطلقها! ما قال شيئاً، بل قال: إن النبي صلي الله عليه وسلم قال هذا. فقال كعب لزوجته الحقي بأهلك. فلحقت بأهلها.
((فأما صاحباي فاستكانا في بيوتهما يبكيان)) لأنهما لا يستطيعان أن يمشيا في السواق، والناس قد هجروهم لا يلتفت إليهم أحد، ولا يسلم عليهم أحد، وإذا سلموا لا يرد عليهم السلام، فعجزوا عن تحمل هذه الحال، فبقيا في بيوتهما يبكيان.
يقول: ((وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم)) اشبهم: أقواهم واجلدهم: أصبرهم. لأنه أشب منهم أصغر منهم سناً، فكان يشهد صلاة الجماعة مع المسلمين، ويطوف بأسواق المدينة لا يكلمه أحد، لا يكلمه أحد؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم أمر بهجرهم، وكان الصحابة- رضي الله عنهم- أطوع الناس لرسول الله صلي الله عليه وسلم.
يقول: ((وكنت آتي المسجد فاصلي واسلم على النبي صلي الله عليه وسلم وهو جالس للناس بعد الصلاة فأقول: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا)) .
أي: ما يرد عليه رداً يسمع، هذا مع أن النبي صلي الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، ولكن امتثالاً لما أوحي الله إليه أن يهجر هؤلاء القوم هجرهم.
ويقول: كنت اصلي واسارق النبي صلي الله عليه وسلم النظر، يعني: أنظر إليه أحياناً وأنا اصلي، فإذا قبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت إليه أعرض عني.
كل هذا من شدة الهجر.(1/144)
يقول: ((فبينما أنا أمشي ذات يوم في أسواق المدينة وطال على جفوة الناس، تسورت حائطاً لأبي قتادة رضي الله عنه)) تسوره: دخله من فوق الجدار من دون الباب، وكأن الباب مغلق. والعلم عند الله.
يقول: ((فسلمت عليه، فوالله ما رد على السلام)) وهو ابن عمه وأحب الناس إليه، ومع ذلك لم يرد عليه السلام، مع أن الرجل كان مجفيا من الناس منبوذاً، لا يكلم ولا يسلم عليه ولا يرد عليه السلام، ومع ذلك لم يعطف عليه ابن عمه أبو قتادة.
كل هذا طاعة لله ورسوله؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم- لا تأخذهم في الله لومة لائم ولا يحابون أحداً في دين الله ولو كان أقرب الناس إليهم، فقال له: أنشدك الله، هل تعلم أني احب الله ورسوله؟ فلم يرد عليه.
مرتين يناشده مناشدة هل يعلم أنه يحب الله ورسوله أم لا؟ وأبوقتادة يدري، ويعلم أن كعب بن مالك يحب الله ورسوله.
فلما رد عليه الثالثة وقال: أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟
فقال: الله ورسوله أعلم.
لم يكلمه، فلم يقل: نعم؟ ولا قال: لا.
يقول: ففاضت عيناي، أي: بكي- رضي الله عنه- أن رجلاً- ابن عمه- أحب الناس إليه لا يكلمه مع هذه المناشدة العظيمة.
مع أنها- أيضاً- مسالة تعبديه، لأن قوله أنشدك الله هل تعلم أني أحب(1/145)
الله ورسوله؟ طلب شهادة، ومع ذلك لم يشهد له، مع أنه يعلم أنه يحب الله ورسوله؛ ففاضت عيناه.
وتسور البستان أي: خرج إلي السوق، فبينما هو يمشي إذا برجل نبطي من أنباط الشام- والنبطي الذي ليس بعربي ولا بعجمي، وسموا بذلك لأنهم كانوا يخرجون في البراري يستنبطون الماء- يقول: من يدلني على كعب بن مالك!
انظر إلي أهل الشر ينتهزون الفرص!
فعندما قال: من يدلني علي كعب بن مالك؟ قلت: أنا هو، فأعطاني الورقة، وكنت كاتباً؛ لأن الكتاب في ذلك العهد قليلون جداً.
يقول: ((فقرأت الكتاب، فإذا فيه: أما بعد، فقد بلغنا أن صاحبك جفاك- يعني الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان هذا الملك: ملك غسان كافراً-وإنك لست بدار هوان ولا مضيعة، يعني: تعال إلينا نواسك بأموالنا، وربما نواسيك بملكنا.
ولكن الرجل رجل مؤمن بالله تعالي ورسوله، ومحب لله ورسوله صلي الله عليه وسلم.
قال: وهذه من البلاء، يعني: هذا من الامتحان. وصد رضي الله عنه، رجل مجفو لا يكلم، مهجور منبوذ حتى من أقرب الناس إليه، لو كان في قلبه ضعف إيمان لا نتهز الفرصة بدعوة هذا الملك وذهب إليه، لكن عنده إيمان راسخ.(1/146)
يقول: قلت: هذه من البلاء. ثم ذهب إلي التنور فسجره فيه: يعني أوقدها بالتنور.
وإنما أوقدها في التنور ولم يجعلها معه لئلا توسوس له نفسه بعد لك ان يذهب إلي هذا الملك، فأتلفها حتى ييأس منها ولا يحاول ان يجعلها حجة يذهب بها إلي هذا الملك. ثم بقي علي ذلك مدة.
ففي هذه القطعة من الحديث: دليل على جواز التخلف عن الجماعة إذا كان الإنسان مهجوراً منبوذا وعجزت نفسه أن تتحمل هذا كما فعل صاحبا كعب بن مالك رضي الله عنهم.
لأنه لا شك أنه من الضيق والحرج أن يأتي الإنسان إلي المسجد مع الجماعة لا يسلم عليه، ولا يرد سلامه، ومهجور ومنبوذ، هذا تضيق به نفسه ذرعاً ولا يستطيع، وهذا عذر كما قاله العلماء.
ومن فوائد هذا الحديث: شدة امتثال الصحابة لأمر النبي صلي الله عليه وسلم ودليل ذلك ما جري لأبي قتادة - رضي الله عنه- مع كعب بن مالك رضي الله عنه.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه يجب التحرز من أصحاب الشر وأهل السوء الذين ينتهزون الضعف في الإنسان والفرص في إضاعته وهلاكه.
فإن هذا الملك- ملك غسان- انتهز الفرصة في كعب بن مالك- رضي الله عنه- يدعوه إلي الضلال لعله يرجع عن دينه إلي دين هذا الملك بسبب هذا الضيق.
ومن فوائد الحديث: قوة كعب بن مالك- رضي الله عنه- في دين الله وأنه من المؤمنين الخلص، وليس ممن قال الله فيهم) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ(1/147)
آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) (العنكبوت: من الآية10) ، فبعض الناس- والعياذ بالله- يقول: آمنا بالله، ولكن إيمانه ضعيف، إذا أوذي في الله ارتد- والعياذ بالله- وفسق وترك الطاعة، وكعب بن مالك رضي الله عنه أوذي في الله إيذاء أيما أيما أيذاء، لكنه صبر واحتسب وانتظر الفرج، ففرج الله له تفريجاً لم يكن لأحد غيره وصاحبيه، أنزل الله فيهم ثناء عليهم آيات تتلي إلي يوم القيامة.
نحن نقرأ قصتهم في القرآن في صلاتنا! وهذا فضل عظيم النبي صلي الله عليه وسلم قصتهم تقرأ في الصلاة، في الصلوات الخمس، في صلاة النافلة، سرا وعلنا.
ومن فوائد هذا الحديث أيضاً: أنه ينبغي للإنسان إذا رأي فتنة أو خوف فتنة أن يتلف هذا الذي يكون سبباً لفتنة.
فإن كعباً لما خاف على نفسه أن تميل فيما بعد إلي هذا الملك ويتخذ هذه الورقة وثيقة، حرقها رضي الله عنه.
ومن ذلك: - أيضاً ما جري لسيلمان بن داود- عليهما الصلاة والسلام- حينما عرضت عليه الخيل الصافنات الجياد في وقت العصر، فغفل وذهل- بما عرض عليه- عن الصلاة حتى غابت الشمس، فلما غابت الشمس وهو لم يصل العصر دعا بهذه الخيل الصافنات الجياد فجعل يضرب أعناقها وسوقها، يعني: جعل يقتلها ويعقرها انتقاماً من نفسه لنفسه، لأنه انتقم من نفسه التي لهت بهذه الصافنات الجياد عن ذكر الله) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) (صّ: 32)) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) (صّ: 32)) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) (رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) (صّ: 32/33) . فالمهم أنك إذا رأيت شيئاً من(1/148)
مالك يصدك عن ذكر الله فأبعده عنك بأي وسيله تكون، حتى لا يكون سبباً لإلهائك عن ذكر الله.
فإن الذي يلهي عن ذكر الله خسارة، كما قال تعالي:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المنافقون: 9) .
يقول رضي الله عنه: ((فلما تمت لنا أربعون ليلة)) يعني شهر وعشرة أيام، وكان الوحي قد استلبث فلم ينزل كل هذه المدة، وهذه من حكمة الله عز وجل في الأمور الكبيرة العظيمة، يستلبث الوحي ولا ينزل، كما في هذه القصة، وكما في قصة الإفك حين انقطع الوحي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم.
وهذا من حكمة الله عز وجل حتى يتشوف الناس غلي الوحي ويتشوفوا إليه: ماذا سينزل رب العالمين عز وجل؟ فبقي الوحي أربعين ليلة ما نزل، فلما تمت أربعون ليلة أرسل النبي صلي الله عليه وسلم إلي كعب وصاحبيه هلال بن أمية ومرارة بن الربيع - رضي الله عنهم- أن يعتزلوا نساءهم.
وجاءت زوجة هلال بن أمية إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم وأخبرته بأنه في حاجة إليها لتخدمه؛ لأنه ليس له خادم، فأذن لها النبي صلي الله عليه وسلم بشرط أن لا يقربها، فقالت: ((إنه والله ما به من حركة إلي شيء)) يعني أنه ليس له شهوة في النساء، وأنه يبكي- رضي الله عنه- منذ أمر النبي صلي الله عليه وسلم بهجرهم إلي يومه هذا، أربعون يوماً يبكي؛ لأنه ما يدري ماذا تكون النهاية.
يقول رضي الله عنه: ((فلما مضي عشر ليال بعد هذا، وكنت ذات يوم اصلي الصبح على سطح بيت من بيوتنا)) لأنه كما مر كانوا- رضي الله عنهم-(1/149)
قد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، واستنكروا الأرض، واستنكروا الناس، يأتون إلي المسجد لا يكلمهم أحد، وإن سلموا لم يرد عليهم، وإن مر بهم أحد لم يسلم عليهم، ضاقت عليهم الأرض. فصار ذات يوم يصلي الصبح في بيته على سطحه. يقول: ((فسمعت صارخاً يقول وهو على سلع- وهو جبل معروف في المدينة- أوفي عليه وصاح بأعلى صوته يقول: ((يا كعب بن مالك أشر يا كعب بن مالك)) !
يقول: ((فخررت ساجداً، وعرفت أنه قد جاء فرج)) وركب فارس من المسجد يؤم كعب بن مالك ليبشره، وذهب مبشرون غلي هلال بن أمية ومرارة بن الربيع يبشرونها بتوبة الله عليهما. فأنظر إلي فرح المسلمين بعضهم مع بعض، كل يذهب يسعي ويركض من جهة.
يقول: فجاء الصارخ، وجاء صاحب الفرس، فكانت البشري للصارخ؛ لأن الصوت أسرع من الفرس، يقول: فأعطيته ثوبي الإزار والرداء، وليس يملك غيرهما، لكن استعار من أهله أو من جيرانه ثوبين فلبسهما، وأعطي ثوبيه هذا الذي بشره.
أعطاه كل ما يملك، لا يملك غير الثوبين. لكنها والله بشري عظيمة، بشري من الله سبحانه وتعالي عظيمة، أن ينزل الله توبتهم ويمن عليهم بالتوبة.
ثم نزل متوجها إلي الرسول صلي الله عليه وسلم في المسجد، وإذا رسول الله صلي الله عليه وسلم وجزاه الله عن أمته خيراً- قد بشر الناس بعد صلاة الصبح بأن الله أنزل توبته(1/150)
علي هؤلاء الثلاثة؛ لأنه يحب من أصحابه وأمته ان يتوبوا ويرجعوا إلي الله.
يقول: فذهبت أتأمم رسول الله صلي الله عليه وسلم يعني أقصده، فجعل الناس يلاقونني أفواجاً، يعني جماعات، يهنئونه بتوبة الله عليه. رضي الله عنه.
هؤلاء القوم يحبون لإخوانهم ما يحبون لأنفسهم، فلم يحسدوهم على ما أنعم اله به عليهم من إنزال القرآن العظيم بتوبتهم، بل جعلوا يهنئونهم حتى دخل المسجد.
وفي هذه القطعة من الحديث فوائد:
أولاً: شدة هجر النبي - عليه الصلاة والسلام- لهؤلاء الثلاثة، حتى إنه أمرهم أن يعتزلوا نساءهم، والتفريق بين الرجل وامرأته أمره عظيم.
ثانياً: وفيه أن أقول الرجل لامرأته: الحقي بأهلك؛ ليس بطلاق، لأن كعب بن مالك- رضي الله عنه- فرق بين قوله: ألحقي بأهلك، وبين الطلاق، فإذا قال الرجل لامرأته الحقي بأهلك ولم ينو الطلاق، فليس بطلاق.
أما إذا نوي الطلاق فإن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (0 إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوي…)) الحديث.
فإذا نوي الإنسان بهذه الكلمة وأمثالها الطلاق فله ما نوي.
ثالثاً: شدة امتثال الصحابة- رضي الله عنهم- لأمر النبي صلي الله عليه وسلم لأنه- رضي الله عنه- ما تردد، ولا قال: لعلي أراجع الرسول عليه الصلاة والسلام، أو قال للرسول الذي أرسله النبي صلي الله عليه وسلم: ارجع إليه لعله يسمح،(1/151)
بل وافق بكل شيء.
رابعاً: أن النبي صلي الله عليه وسلم كان رحيما بأمته، فإنه بعد ان أمرهم باعتزال النساء رخص لهلال بن أمية، لأنه يحتاج لخدمة امرأته.
خامساً: جواز حكاية الحال عند الاستفتاء أو الشهادة أو ما أشبه ذلك، وإن كان المحكي عنه قد لا يحب أن يطلع عليه الناس، لأن امرأة هلال بن أمية ذكرت من حاله أنه ليس فيه حاجة إلي شيء من النساء.
سادساً: أن الإنسان إذا حصل له مثل هذه الحال وهجره الناس، وصار يتأذي من مشاهدتهم ولا يتحمل، فإنه له أن يتخلف عن صلاة الجماعة، وإن هذا عذر؛ لأنه إذا جاء إلي المسجد في هذه الحال سوف يكون متشوشاً غير مطمئن في صلاته؛ ولهذا صلي كعب بن مالك- رضي الله عنه- صلاة الفجر على ظهر بيت من بيوته، وسبق لنا ذكر هذه الفائدة في قصة هلال بن أمية ومرارة بن الربيع.
سابعاً: حرص الصحابة - رضي الله عنهم- علي التسابق إلي لبشرى؛ لأن البشري فيها إدخال السرور على المسلم. وإدخال السرور على المسلم مما يقرب إلي الله عز وجل؛ لأنه إحسان والله- سبحانه وتعالي- يحب المحسنين ولا يضيع أجرهم.
فلذلك ينبغي لك إذا رأيت من أخيك شيئا يسره، كأن يكون خبراً ساراً أو رؤيا سارة أو ما أشبه ذلك، أن تبشره بذلك، لأنك تدخل السرور عليه.
ثامناً: أنه ينبغي مكافأة من بشرك بهديه تكون مناسبة للحال، لأن كعب بن مالك- رضي الله عنه- أعطي الذي بشره ثوبيه، وهذا نظير ما صح(1/152)
به الخبر عن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- وكان يأمر الناس إذا حجوا أن يتمتعوا بالعمرة إلي الحج، يعني ان يأتوا بالعمرة ويحلوا منها ثم يحرموا بالحج في يوم التروية، وكان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ينهي عن المتعة؛ لأنه يحب ان يعتمر الناس في وقت، وأن يحجوا في وقت، حتى يكون البيت دائماً معموراً بالزوار، ما بين معتمرين وحجاج، فعل هذا اجتهاداً منه- رضي الله عنه- وهو من الاجتهاد المغفور، وإلا فلا شك أن سنة الرسول - عليه الصلاة والسلام - أولي.
المهم أن رجلاً استفتي عبد الله بن عباس في هذه المسألة، فأمره أن يتمتع وأن يحرم بالعمرة ويحل منها.
فرأي هذا الرجل في المنام شخصا يقول له: حج مبرور وعمرة متقبلة، فأخبر بذلك عبد الله بن عباس الذي أفتاه، ففرح بذاك ابن عباس وأمره أن يبقي حتى يعطيه من عطائه، يعني يعطيه هديه على ما بشره به من هذه الريا التي تدل على صواب ما أفتاه به عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
والمهم أن من بشرك بشيء فأقل الأحوال أن تدعو له بالبشارة، أو تهدي له ما تيسر، وكل إنسان بقدر حالة.
يقول رضي الله عنه: حتى دخلت المسجد وإذا رسول الله صلي الله عليه وسلم جالس وحوله أصحابه، فقام إلي كعب طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه- فصاحفه وهناه بتوبة الله عليه.
يقول: والله ما قام إلي أحد من المهاجرين رجل غير طلحة، فكان لا(1/153)
ينساها له، حيث قام ولاقاه وصافحه وهنأه، حتى وقف على النبي صلي الله عليه وسلم وإذا وجهه تبرق أساريره؛ لأنه- عليه الصلاة والسلام- سره أن يتوب الله على هؤلاء الثلاثة الذين صدقوا الله ورسوله، وأخبروا بالصدق عن إيمان، وحصل عليهم ما جري من الأمر العظيم، من هجر الناس لهم خمسين يوماً، حتى نسائهم بعد الأربعين أمر الرسول- عليه الصلاة والسلام- أن يعتزلوهن.
ثم قال له النبي صلي الله عليه وسلم: ((أبشر بخير يوم مر عليك مذ ولدتك أمك)) .
وصدق النبي صلي الله عليه وسلم خير يوم مر على كعب منذ ولدته أمه هو ذلك اليوم، لأن الله أنزل توبته عليه وعلي صاحبيه في قرآن يتلي، تكلم به رب العالمين عز وجل وأنزله على محمد صلي الله عليه وسلم محفوظاً بواسطة جبريل، ومحفوظا إلي يوم القيامة، ولا يوجد أحد سوى الأنبياء أو من ذكرهم الله في القرآن حفظت قصته كما حفظت قصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم.
بقيت هذه القصة تتلي في كتاب في المحاريب وعلى المنابر وفي كل مكان، ومن قرأ هذه القصة فله بكل حرف عشر حسنات، فهذا اليوم لا شك أنه خير يوم مر على كعب منذ ولدته أمه.
فقال كعب: إن من توبتي أن انخلع من مالي صدقة إلي الله وإلي رسوله، أي: يتخلي عنه ويجعله صدقة إلي الله ورسوله شأنه وتدبيره. فقال النبي صلي الله عليه وسلم: ((أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك)) فأمسكه رضي(1/154)
الله عنه.
ففي هذه القطعة من الحديث فوائد:
أولاً: فيها دليل على أن من السنة إذا أتي الإنسان ما يسره ان يهنأ به ويبشره به، سواء كان خير دين أو خير دنيا.
ولهذا بشرت الملائكة إبراهيم عليه السلام بغلام حليم وبغلام عليم، الغلام الحليم: إسماعيل. والغلام العليم: إسحاق. بشرت الملائكة إبراهيم بهذين الغلامين.
ثانياً: إنه لا بأس بالقيام إلي الرجل لمصافتحه وتهنئته بما يسره.
والقيام إلي الرجل لا باس به قد جاءت به السنة، وكذلك القيام للرجل وأنت باق في مكانك لا تتحرك إليه، فهذا أيضاً لا بأس به إذا أعتاده الناس، لأنه لم يرد النهي عنه؛ وإنما النهي والتحذير من الذي يقام له لا من القائم، فإن من يقام له قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: ((من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوا مقعده من النار)) .
قال أهل العلم: والقيام ثلاثة أقسام:
الأول: قيام إلي الرجل.
الثاني: قيام للرجل.(1/155)
والثالث: قيام على الرجل.
فالقيام إلي الرجل: لا باس به، وقد جاءت به السنة أمرا وإقراراً وفعلاً أيضاً.
أما الأمر: فإن النبي صلي الله عليه وسلم لما أقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه عند تحكيمه في بني قريظة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((قوموا إلي سيدكم)) وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه قد أصيب في غزوة الأحزاب في أكحله، والأكحل عرق في الإبهام إذا انفجر مات الإنسان، أصيب به-رضي الله عنه- فدعا الله أن لا يميته حتى يقر عينه في بني قريظة، وكانوا حلفاء للأوس، وخانوا عهد النبي - عليه الصلاة والسلام- وصاروا مع الأحزاب على رسول الله صلي الله عليه وسلم. فلما طعن سعد قال: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني ببني قريظة، وكان من علو منزلته عند رسول الله صلي الله عليه وسلم أن أمر النبي صلي الله عليه وسلم أن يضرب له خباء في المسجد- أي خيمة صغيرة- لأجل أن يعوده من قريب فكان يعوده من قريب.
ولما حصلت غزوة بني قريظة ورضوا أن يحكم فيهم سعد بن معاذ، أمر النبي صلي الله عليه وسلم أن يحضر سعد إلي بني قريظة، فجاء راكبا على حمار؛ لأنه قد أنهكه الجرح، فلما أقبل قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((قوموا إلي سيدكم)) فقاموا فأنزلوه، فقال النبي- عليه الصلاة والسلام - له: إن هؤلاء(1/156)
- يعني اليهود- من بني قريظة حكموك. فقال رضي الله عنه: حكمي نافذ فيهم؟
قال نعم! وأقروا هم به، وقالوا: نعم حكمك نافذ، قال: وفيمن ها هنا - يشير إلي الرسول- عليه الصلاة والسلام- والصحابة - قالوا: نعم، فقال: أحكم فيهم أن تقتل مقاتلهم، وتسبي ذريتهم ونساؤهم، وتغنم أموالهم، حكم صارم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات)) رضي الله عنه.
فنفذ النبي صلي الله عليه وسلم حكمه، وقتل منهم سبعمائة رجل، وسبي نساءهم وذرياتهم، وغنم أموالهم.
الشاهد قوله: ((قوموا إلي سيدكم)) هذا فعل أمر، ولما دخل كعب ابن مالك المسجد قام إليه طلحة بن عبيد الله والنبي صلي الله عليه وسلم يشاهد ولم ينكر عليه.
ولما قدم وفد ثقيف إلي الرسول- عليه الصلاة والسلام- بالجعرانة بعد الغزوة قام لهم- أو قام إليهم - عليه الصلاة والسلام، فالقيام إلي الجل لا بأس به.
الثاني: القيام للرجل: وهذا أيضا لا بأس به، لا سيما إذا اعتاد الناس ذلك وصار الداخل إذا لم تقم له يعد ذلك امتهاناً له، فإن ذلك لا بأس به، وإن كان الأولي تركه كما في السنة، لكن إذا عتاده الناس فلا حرج فيه.
الثالث: القيام عليه: كأن يكون جالساً، ويقوم واحد على رأسه تعظيما له، فهذا منهي عنه.(1/157)
قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا)) .
حتى إنه في الصلاة إذا صار الإمام لا يستطيع القيام وصلي جالسا فإن المأموين يصلون جلوسا، ولو كانوا يقدرون على القيام، لئلا يشبهوا الأعاجم الذين يقومون على ملوكهم)) .
فالقيام على الرجل منهي عنه، اللهم إلا إذا دعت الحاجة إلي ذلك، كأن يخاف على الرجل أن يتعدي عليه أحد فلا بأس أن يقوم عليه القائم، وكذلك إذا قام عليه الرجل إكراماً له في حال يقصد فيه إكرامه وإهانة وكذلك إذا قام عليه الرجل إكراماً له في حال يقصد إكرامه وإهانة العدو، مثل ما حصل من المغيرة بن شعبة- رضي الله عنه- في صلح الحديبية حينما كانت قريش تراسل النبي صلي الله عليه وسلم للمفاوضة فيما بينهم، كان المغيرة بن شعبة- رضي الله عنه- واقفا على رأس رسول الله وبيده السيف تعظيماً لرسول الله صلي الله عليه وسلم وإهانة لرسل الكفار الذين يأتون للمفاوضة.(1/158)
وفي هذا دليل على أنه ينبغي لنا- نحن المسلمين- أن نغيظ الكفار بالقول وبالفعل؛ لأنا هكذا أمرنا، قال الله سبحانه:) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (التوبة: من الآية73) وقال الله تعالي:) وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ) (التوبة: من الآية120) ، ومن المؤسف أن منا من يدخل عليهم السرور والفرح، وربما يشاركهم في أعيادهم الكفرية التي لا يرضاها الله بل يسخط عليها، والتي يخشي أن ينزل العذاب عليهم وهم يلعبون بهذه الأعياد. يوجد من الناس - والعياذ بالله من لا قدر للدين عنده، كما قال ابن القيم-رحمه الله- في كتابه ((أحكام أهل الذمة)) : ((من ليس عنده قدر للدين يشاركهم في الأعياد ويهنئهم)) . وكيف يدخل السرور على أعداء الله وأعدائك؟! ادخل عليهم ما يحزنهم ويغيظهم ويدخل عليهم أشد ما يكون من الضيق، هكذا أمرنا؛ لأنهم أعداء لنا وأعداء لله ولدينه وللملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
المهم أن المغيرة بن شعبة وقف على رأس رسول الله صلي الله عليه وسلم وبيده السيف تعظيماً له حتى إنه في أثناء تلك المراسلة فعل الصحابة شيئا لا يفعلونه في العادة، كان عليه الصلاة والسلام إذا تنخم نخامته تلقوا نخامته بأيديهم بالراحة، ثم يمسحون بها وجوههم وصدوره مع إنهم ما كانوا يفعلون هذا، لكن لأجل إذا ذهب رسول الكفار بين لهم حال الصحابة- رضي الله عنهم- مع نبيهم عليه الصلاة والسلام.
ولذلك لما رجع رسول قريش إلي قريش قال: والله لقد دخلت على(1/159)
الملوك وكسري وقيصر والنجاشي فلم أر أحداً يعظمه أصحابه مثلما يعظم أصحاب محمد محمداً، رضي الله عنهم وأرضاهم، وجزاهم الله عنا خيراً.
المهم أن القيام على الرجل إذا كان المقصود به حفظ الرجل، أو كان المقصود به إغاظة العدو، فإن هذا لا باس به ولا حرج فيهن وإلا فهو منهي عنه.
ثالثاً: إن من أنعم الله عليه بنعمة فإن من السنة ان يتصدق بشيء من ماله، فإن النبي صلي الله عليه وسلم أقر كعب بن مالك على أن يتصدق بشيء من ماله توبة إلي الله عز وجل لما حصل له من الأمر العظيم الذي كان فخراً له إلي يوم القيامة.
ثم ذكر كعب بن مالك ان من توبته ان لا يحدث بحديث كذب بعد إذ نجاه الله تعالي بالصدق، ومازال كذلك ما حدث بحديث كذب أبداً بعد أن تاب الله عليه، فكان - رضي الله عنه- مضرب المثل في الصدق، حتى إن الله أنزل فيه وفي صاحبيه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119) ، أنزل الله تعالي الآيات في بيان منته عليهم بالتوبة من قوله تعالي: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) (التوبة: من الآية117) ففي هذه الآية أكد الله سبحانه وتعالي توبته على النبي والمهاجرين والأنصار، أكدها بقوله: (لَقَدْ تَابَ اللَّه) .
فأما النبي فهو محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم خاتم النبيين الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأما المهاجرون فهم الذين هاجروا من بلادهم من(1/160)
مكة إلي المدينة، هاجروا إلي الله، فجمعوا في ذلك بين الهجرة ومفارقة الوطن ومفارقة الديار وبين نصرة النبي صلي الله عليه وسلم؛ لأنهم إنما هاجروا إلي الله ورسوله، فالمهاجرون جمعوا بين الهجرة والنصرة.
أما الأنصار فهم الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم، أهل المدينة- رضي الله عنهم- الذين أووا النبي صلي الله عليه وسلم ونصروه ومنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم. وقدم الله المهاجرين لأنهم أفضل من الأنصار، لجمعهم بين الهجرة والنصرة.
وقوله: (ِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) وذلك في الخروج معه إلي غزوة تبوك، إلي بلاد بعيدة، والناس في اشد ما يكونون من الحر، والناس في أطيب ما يكونون لو بقوا في ديارهم، لأن الوقت وقت قيظ، والوقت وقت طيب الثمار وحسن الظلال، ولكنهم - رضي الله عنهم- خرجوا في هذه الساعة الحرجة في ساعة العسرة) ِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) فإن بعضهم كاد أن يتخلف بدون عذر فيزيغ قلبه، ولكن الله عز وجل من عليهم بالاستقامة حتى خرجوا مع النبي صلي الله عليه وسلم.
وقوله: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ) أكد ذلك مرة أخري (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) شملهم بالرأفة والرحمة، والرأفة أرق من الرحمة؛ لأنها رحمة ألطف وأعظم من الرحمة العامة.
ثم قال: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) .
والثلاثة: هم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، هؤلاء هم الثلاثة الذين خلفوا رضي الله عنهم، وخلفوا: أي خلف البت(1/161)
في أمرهم، وليس المراد عن الغزوة، بل خلفهم الرسول- عليه الصلاة والسلام- لكي ينظر في أمرهم ماذا يكون حكم الله تعالي فيهم.
وقوله: (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ) ضاقت عليهم الأرض مع سعتها، والرحب هو السعة، والمعني ان الأرض علي سعتها ضاقت بهم. حتى قال كعب بن مالك: ((لقد تنكرت لي الأرض حتى قلت: لا أدري، هل أنا في المدينة أو غيرها)) من شدة الضيق عليهم، رضي الله عنهم.
(وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُم) نفس الإنسان ضاقت عليه فهي لا تتحمل أن تبقي النبي صلي الله عليه وسلم ولكنهم صبروا- رضي الله عنهم- حتى فرج الله عليهم.
وقوله (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْه) (التوبة: من الآية118) ، الظن هنا بمعني اليقين، أي أيقنوا انه لا ملجأ من الله، أي: أنه لا أحد ينفعهم، ولا ملجأ من الله إلا إلي الله، فالله بيده كل شي عز وجل.
وقوله: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (التوبة: من الآية118)) ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تاب عليهم لينالوا مراتب التوبة التي لا ينالها إلا من وفق، لا ينالها إلا أحباب الله، كما قال الله تعالي:) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة: من الآية222) .
أما أولئك الذين اعتذروا من المنافقين إلي الرسول- عليه الصلاة والسلام- واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلي الله، فإن الله أنزل فيهم شر ما أنزل في بشر فقال: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) فلا تلومونهم (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْس) نعوذ بالله رجس، الخمر رجس، القذر الذي يخرج من دبر الإنسان رجس، روث الحمير رجس، هؤلاء مثلهم. (وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (التوبة: من الآية95) ،(1/162)
بئس المأوى، والعياذ بالله، إنهم ينقلون من الدنيا إلي جهنم، نسأل الله العافية، نار حامية تطلع على الأفئدة، مؤصدة عليهم في عمد ممددة.
(يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) لأنكم لا تعلمون سرائرهم ولا يبدو لكم إلا الظواهر (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) لو رضي الناس عنك كلهم والله لم يرض عنك فإنه لا ينفعك إلا رضا الله عز وجل؛ لأن الله إذا رضي عنك أرضي عنك الناس وأمال قلوبهم إليك، كما جاء في الحديث: ((إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: أني أحب فلاناً فأحبه)) يعين الله الرجل له فيحبه جبريل، ((ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض)) فيكون مقبولاً لدي أهل الأرض.
كما قال الله عز وجل:) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) (مريم: 96) .
لكن إذا التمس الإنسان رضا الناس بسخط الله فالأمر بالعكس، يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس.
ولهذا لما تولي معاوية- رضي الله عنه- الخلافة كتبت له عائشة - رضي الله عنها- قالت: سمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول: ((من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله(1/163)
الله إلي الناس)) وما أكثر الذين يطلبون رضا الناس بسخط الخالق عز وجل- والعياذ بالله_.
هؤلاء هم في سخط الله ولو رضي عنهم الناس، فلا ينفعهم رضا الناس قال الله تعالي هنا: (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (التوبة: من الآية96) ، حتى لو رضي عنهم النبي صلي الله عليه وسلم _ اشرف الخلق_ ما نفعهم؛ لأن الله لا يرضي عن القوم الفاسقين.
وفي هذه الآية تحذير من الفسق، وهو ارتكاب المعاصي التي أعظمها الكفر، وكل فسق فإنه ينقص من رضا الله عن الإنسان بحسبه، لأن الحكم المعلق بالوصف يزداد بزيادته وينقص بنقصانه، ويقوي بقوته ويضعف بضعفه. والفسق سبب من أسباب عدم رضا الله (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) والفسق أنواع كثيرة ومراتب عظيمة. فعقوق الوالدين من الفسوق، وقطيعة الرحم من الفسوق، والكذب من الفسوق، فكل معصية من الفسوق.
لكن صغائر الذنوب تكفرها حسنات الأعمال إذا اصلح الإنسان الحسنات، كما قال الله
تعالي:) أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (الاسراء: 78) .(1/164)
وقال عز وجل:) إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (هود: من الآية114) ، فإذا فعل الإنسان حسنة أذهبت السيئة إذا كانت صغيرة، أما الكبائر فلا ينفع فيها إلا التوبة.
علي كل حال: الفسق من أسباب انتفاء رضا الله عن العبد، والطاعة من أسباب الرضا، فالتزم طاعة الله إن كنت تريد رضاه، وإن كنت تريد رضا الناس فأرض الله، إذا رضي الله عنك كفاك مؤنة الناس وأرضي الناس عنك، وإن أسخطت الله برضا الناس فأبشر بسخط الناس مع سخط الله، والعياذ بالله. وذكر- رضي الله عنه - أن النبي صلي الله عليه وسلم خرج من المدينة في يوم الخميس، وكان يحب أن يخرج في يوم الخميس، ولكن ذلك ليس بدائم، أحياناً يخرج يوم السبت، كما خرج في آخر سفره سافرها في حجة الوداع، وربما يخرج في أيام أخر، لكن غالب ما يخرج فيه هو يوم الخميس.
وذكر أن النبي صلي الله عليه وسلم عاد إلي المدينة ضحي، وأنه دخل المسجد فصلي فيه ركعتين، وكان هذا من سنته صلي الله عليه وسلم أنه إذا قدم بلده لم يبدأ بشيء قبل المسجد.
وهاتان الركعتان تشمل كل الوقت، حتى أوقات النهي؛ لأنها صلاة سببية، فليس عنها نهي، في أي وقت وجد سببها حل فعلها.
فينبغي إذا قدم الإنسان إلي بلده أن يبدأ قبل كل شي بالمسجد. وقد تقدم ذكر ذلك.(1/165)
22- وعن أبي نجيد- بضم النون وفتح الجيم- عمران بن الحصين الخزاعي- رضي الله عنهما - أن امرأة من جهينة أتت نبي الله صلي الله عليه وسلم وهي حبلي من الزني، فقالت: يا نبي الله، أصبت حداً فأقمه علي، فدعا نبي الله صلي الله عليه وسلم وليها فقال: ((أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني)) ففعل، فأمر بها نبي الله صلي الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلي عليها. فقال له عمر: تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟ قال: لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالي؟!)) (رواه مسلم) .
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف- رحمه الله تعالي- فيما نقله عن عمران بن حصين رضي الله تعالي عنه: إن امرأة جاءت إلي النبي صلي الله عليه وسلم ((وهي حبلي من الزنا)) يعني حاملاً قد زنت، رضي الله عنها.
((فقالت: يا رسول الله إني قد أصبت حدا فاقمه علي)) أي: أصبت شيئاً يوجب الحد فأقمه علي، فدعا النبي صلي الله عليه وسلم وليها وأمره أن يحسن إليها فإذا وضعت فليأت بها إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم، فلما وضعت أتي بها وليها إلي النبي صلي الله عليه وسلم، ((فأمر بها فشدت عليها ثيابها)) أي: لفت ثيابها وربطت لئلا تنكشف ((ثم أمر بها فرجمت)) أي: بالحجارة: وهي ليست كبيرة ولا صغيرة، حتى ماتت، ثم صلي عليها النبي صلي الله عليه وسلم ودعا لها دعاء الميت: ((فال له عمر:(1/166)
تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت)) أي: والزنى من كبائر الذنوب، فقال: ((لقد تأبت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم)) يعيني: توبة واسعة لو قسمت علي سبعين كلهم مذنب لوسعتهم ونفعتهم، ((وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل)) أي: هل وجدت أفضل من هذه الحال، امرأة جاءت فجادت بنفسها؛ يعني: سلمت نفسها من أجل التقرب إلي الله - عز وجل- والخلوص من إثم الزنى. ما هناك أفضل من هذا؟!
ففي هذا الحديث دليل علي فوائد كثيرة:
منها: أن الزاني إذا زني وهو محصن- يعني قد تزوج- فإنه يجب أن يرجم وجوباً؛ وقد كان هذا في كتاب الله- عز وجل- آية قرأها المسلمون وحفظوها ووعوها ونفذوها، رجم النبي صلي الله عليه وسلم ورجم الخلفاء من بعده، ولكن الله بحكمته نسخها من القرآن لفظاً وأبقي حكمها في هذه الأمة. فإذا زني المحصن- وهو الذي د تزوج - فإنه يرجم حتى يموت. يوقف في مكان واسع، ويجتمع الناس، ويأخذون من الحصي يرمونه به حتى يموت.
وهذه من حكمه الله عز وجل، أي: أنه لم يأمر الشرع بأن يقتل بالسيف وينتهي أمرهن بل يرجم بهذه الحجارة حتى يتعذب ويذوق ألم العذاب في مقابل ما وجده من لذة الحرام؛ لأن هذا الزني تلذذ جميع جسده بالحرام، فكان من الحكمة أن ينال هذا الجسد من العذاب بقدر ما نال من اللذة.
ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إنه لا يجوز أن يرجم بالحجارة الكبيرة؛ لأن الحجارة الكبيرة تجهز عليه ويموت سريعاً فيستريح، ولا(1/167)
بالصغيرة جداً لأن هذه تؤذيه وتطيل موته، ولكن بحصي متوسط حتى يذوق اللم ثم يموت.
فإذا قال قائل: أليس قد قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح)) ، والقتلة بالسيف أريح للمرجوم من الرجم بالحجارة؟
قلنا: بلي قد قاله الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن إحسان القتلة يكون بموافقتها للشرع، فالرجم إحسان لأنه موافق للشرع، ولذلك لو أن رجلاً جانيا جنى على شخص فقتله عمداً وعزر به قبل ان يقتله فإننا نعزر بهذا الجاني إذا أردنا قتله قبل أن نقتله.
مثلاً: لو أن رجلاً جانيا قتل شخصاً فقطع- مثلاً- يديه، ثم رجليه، ثم لسانه، ثم رأسه. فإننا لا نقتل الجاني بالسيف!! بل نقطع يديه، ثم رجليه، ثم لسانه، ثم نقطع رأسه مثلما فعل، ويعتبر هذا إحساناً في القتلة، لأن إحسان القتلة أن يكون موافقاً للشرع علي أي وجه كان.
وفي هذا الحديث دليل على جواز إقرار الإنسان على نفسه بالزنى، من أجل تطهيره بالحد لا من أجل فضحه نفسه.
فالإنسان الذي يتحدث عن نفسه أنه زني، عند الإمام أو نائبه؛ من أجل إقامة الحد عليه، هذا لا يلام ولا يذم.(1/168)
وأما الإنسان الذي يخبر عن نفسه بأنه زني، يخبر بذلك عامة الناس؛ فهذا فاضح نفسه وهو من غير المعافين؛ لأن الرسول صلي الله عليه وسلم يقول: ((كل أمتي معافي إلا المجاهرين. قالوا: من المجاهرون؟ قال: الذي يفعل الذنب ثم يستره الله عليه ثم يصبح يتحدث به)) .
إذا قام قائل هل الأفضل للإنسان إذا زني أن يذهب إلي القاضي ليقر عنده، فيقام عليه الحد، أو الأفضل أن يستر نفسه؟ فالجواب عن هذا أن في ذلك تفصيلاً.
قد يكون الإنسان تاب توبة نصوحاً، وندم، وعرف من نفسه أنه لن يعود فهذا الأفضل أن لا يذهب ولا يخبر عن نفسه، بل يجعل الأمر سرا بينه وبين الله، ومن تاب تاب الله عليه.
واما من خاف أن لا تكون توبته نصوحا، وخاف أن يعود ويرجع إلي الذنب مرة أخري؛ فهذا الأفضل في حقه ان يذهب إلي ولي الأمر، أو إلي القاضي أو غيره، ليقر عنده فيقام عليه الحد.
* * *
23- وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: ((لو أن لابن آدم ملء واد مالاً: لأحب أن له إليه مثله ولا يملا عين ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)) . (متفق عليه) .(1/169)
24-وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال ((يضحك الله- سبحانه وتعالي-إلي رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيستشهد)) (متفق عليه) .
[الشَّرْحُ]
هذان الحديثان في بيان التوبة، وأن من تاب تاب الله عليه مهما عظم ذنبه؛ لأن الله تعالي قال في كتابه:) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً) (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً)) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (الفرقان: 68/70) .
فالحديث الأول عن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- ومعناه: أن ابن آدم لن يشبع من المال، ولو كان له واد واحد ((لا بتغي)) أي طلب أن يكون ل وديان، ولا يملأ غلا التراب؛ وذلك إذا مات ودفن وترك الدنيا وما فيها؛ حينئذ يقتنع؛ لأنها فاتنة، ولكن مع ذلك حث الرسول صلي الله عليه وسلم على التوبة؛ لأن الغالب أن الذي يكون عنده طمع في المال؛ أنه لا يحترز من الأشياء المحرمة من الكسب المحرم.(1/170)
ولكن دواء ذلك بالتوبة إلي الله ولهذا قال: ((ويتوب الله علي من تاب)) فمن تاب من سيئاته- ولو كانت هذه السيئات مما يتعلق بالمال -فإن الله يتوب عليه.
أما الحديث الثاني فهو عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((يضحك الله إلي رجلين.. الحديث)) .
فضحك الله إلي هذين الرجلين؛ لأنه كان بينهما تمام العداوة في الدنيا؛ حتى إن أحدهما قتل الآخر، فقلب الله هذه العدواة التي في قلب كل واحد منهم، وأوال ما في نفوسهما من الغل، لأن أهل الجنة يطهرون من الغل والحقد؛ كما قال الله-تعالي- في وصفهم) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) (الحجر: 47) .
فهذه وجه العجب من الله- عز وجل- لهذين الرجلين أنه كان بينهما تمام العداوة، ثم إن الله-تعالي- من على هذا القاتل الذي كان كافراً فتاب، فتاب الله عليه.
ففيه دليل: على أن الكافر إذا تاب من كفره-ولو كان قد قتل أحداً من المسلمين-فإن الله- تعالي- يتوب عليه؛ لأن الإسلام يهدم ما قبله.(1/171)
3- باب الصبر
قال الله تعالي:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا) (آل عمران: من الآية200)) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا) (آل عمران: من الآية200) وقال تعالي:) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 155) وقال تعالي:) إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: من الآية10)) إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: من الآية10) وقال تعالي:) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى: 43) وقال تعالي:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 153) وقال تعالي:) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِين) (محمد: من الآية31) والآيات في الأمر بالصبر وبيان فضله كثيرة معروفة.
[الشَّرْحُ]
الصبر في اللغة: الحبس.
والمراد به في الشرع: حبس النفس على أمور ثلاثة:
الأول: على طاعة الله.
الثاني: عن محارم الله.
الثالث: على أقدار الله المؤلفة. هذه أنواع الصبر التي ذكرها أهل العلم.
الأمر الأول: أن يصبر الإنسان على طاعة الله لأن الطاعة ثقيلة على النفس، وتصعب على الإنسان، وكذلك ربما تكون ثقيلة على البدن بحيث يكون مع الإنسان شيء من العجز والتعب، وكذلك أيضا يكون فيها مشقة من الناحية المالية؛ كمسألة الزكاة ومسالة الحج، فالطاعات فيها شيء من المشقة على النفس والبدن، فتحتاج إلي صبر، وإلي معاناة قال الله(1/172)
تعالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران: 200) .
الأمر الثاني: الصبر عن محارم الله بكف الإنسان نفسه عما حرم الله عليه، لأن النفس الأمارة بالسوء تدعو إلي السوء، فيصبر الإنسان نفسه, مثل الكذب، والغش في المعاملات، وأكل المال بالباطل بالرب أو غيره، والزنا، وشرب الخمر، والسرقة، وما أشبه ذلك من المعاصي الكثيرة.
فيحبس الإنسان نفسه عنها حتى لا يفعلها، وهذا يحتاج أيضاً إلي معاناة، ويحتاج إلي كف النفس والهوى.
أما الأمر الثالث: فهو الصبر على أقدار الله المؤلمة؛ لأن أقدار الله- عز وجل-على الإنسان ملائمة ومؤلمة.
الملاءمة: تحتاج إلي الشكر، والشكر من الطاعات؛ فالصبر عليه من النوع الأول.
ومؤلمة: بحيث لا تلائم الإنسان تكون مؤلمة؛ فيبتلي الإنسان في بدنه، ويبتلي في ماله بفقده. ويبتلي في أهله، ويبتلي في مجتمعه، وأنواع البلايا كثيرة تحتاج إلي صبر ومعاناة فيصبر الإنسان نفسه عما يحرم عليه من إظهار الجزع باللسان، أو بالقلب، أو بالجوارح لأن الإنسان عند حلول المصيبة له أربع حالات:
الحالة الأولي: أن يتسخط.
والحالة الثانية: أن يصبر.
والحالة الثالثة: أن يرضي.
والحالة الرابعة: أن يشكر.(1/173)
هذه أربع حالات تكون للإنسان عندما يصاب بالمصيبة.
أما الحال الأولي: أن يتسخط إما بقلبه، أو بلسانه، أو بجوارحه.
التسخط بالقلب: أن يكون في قلبه- والعياذ بالله- شيء على ربه من السخط والشره على الله- والعياذ بالله- وما أشبه. ويشعر وكأن الله قد ظلمه بهذه المصيبة.
وأما السخط باللسان: فأن يدعو بالويل والثبور، يا ويلاه ويا ثبوراه، وأن يسب الدهر فيؤذي الله- عز وجل- وما أشبه ذلك.
وأما التسخط بالجوارح: مثل أن يلطم خده، أو يصقع راسه، أو ينتف شعره، أو
يشق ثوبه وما أشبه هذا.
هذه حال السخط، حال الهلعين الذين حرموا الثواب، ولم ينجوا من المصيبة، بل الذين اكتسبوا الإثم فصار عندهم مصيبتان، مصيبة في الدين بالسخط، ومصيبة في الدنيا بما أتاهم مما يؤلمهم.
أما الحال الثانية: فالصبر على المصيبة بأن يحبس نفسه، هو يكره المصيبة، ولا يحبها، ولا يحب أن وقعت، لكن يصبر نفسه؛ لا يتحدث باللسان بما يسخط الله، ولا يفعل بجوارحه ما يغضب الله، ولا يكون في قلبه شيء على الله أبدا، فهو صابر لكنه كاره لها.
والحال الثالثة: الرضا؛ بأن يكون الإنسان منشرحا صدره بهذه المصيبة، ويرضي بها رضاء تاماً وكأنه لم يصب بها.
والحالة الرابعة: الشكر؛ فيشكر الله عليها، وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا رأي ما يكره قال: ((الحمد لله على كل(1/174)
حال)) .
فيشكر الله من أجل أن الله يرتب له من الثواب على هذه المعصية أكثر مما أصابه.
ولهذا يذكر عن بعض العابدات أنها أصيبت في أصبعها، فحمدت الله على ذلك، فقالوا لها: كيف تحمدين الله والأصبع قد أصابه ما أصابه، قالت: إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها. والله الموفق.
ثم ساق المؤلف- رحمه الله تعالي- الآيات التي فيها الحث على الصبر والثناء على فاعليه، فقال: وقول الله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران: 200) ، فأمر الله المؤمنين بمتضي إيمانهم، وبشرف إيمانهم بهذه الأوامر الأربعة: (اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران: من الآية200) .
فالصبر عن المعصية، والمصابرة على الطاعة، والمرابطة كثرة الخير وتتابع الخير، والتقوي تعم ذلك كله. (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .
فاصبروا عن محارم الله: لا تفعلوها، تجنبوها ولا تقربوها.
ومن المعلوم أن الصبر عن المعصية لا يكون إلا حيث دعت إليه النفس، أما الإنسان الذي لم تطرأ على باله المعصية فلا يقال إنه صبر عنها، ولكن إذا دعتك نفسك إلي المعصية فاصبر، واحبس النفس.
وأما المصابرة فهي على الطاعة؛ لأن الطاعة فيها أمران:(1/175)
الأمر الأول: فعل يتكلف به الإنسان ويلزم نفسه به.
والأمر الثاني: ثقل على النفس، لأن فعل الطاعة كترك المعصية ثقيل على النفوس الأمارة بالسوء.
فلهذا كان الصبر على الطاعة أفضل من الصبر عن المعصية؛ ولهذا قال الله تعالي: (وَصَابِرُوا) كان أحدا يصابرك كما يصابر الإنسان عدوه في القتال والجهاد.
وأما المرابطة فهي كثرة الخير والاستمرار عليه، ولهذا جاء في الحديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلي المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)) . لأن فيه استمرار في الطاعة وكثرة لفعلها.
وأما التقوى فإنها تشمل ذلك كله، لأن التقوى اتخاذ ما بقي من عقاب الله، وهذا يكون بفعل الأوامر واجتناب النواهي.
وعلي هذا فعطفها على ما سبق من باب عطف العام على الخاص، ثم بين الله- سبحانه وتعالي- أن القيام بهذه الأوامر الأربعة سبب للفلاح فقال: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .
والفلاح كلمة جامعة تدور على شيئئن: على حصول المطلوب، وعلى النجاة من المرهوب. فمن اتقي الله- عز وجل- حصل له مطلوبة ونجا من مرهوبه.(1/176)
وأما الآية الثانية فقال- رحمه الله- وقوله تعالي: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 155) ، هذه الآية فيها قسم من الله- عز وجل - أن يختبر العباد بهذه الأمور.
فقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) أي: لنختبرنكم.
(بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ) لا الخوف كله بل شيء منه؛ لأن الخوف كله مهلك ومدمر. لكن بشيء منه.
((الخوف)) هو فقد الأمن، وهو أعظم من الجوع، ولهذا قدمه الله عليه، لكن الخائف- والعياذ بالله- لا يستقر لا في بيته ولا في سوقه، والخائف أعظم من الجائع؛ ولهذا بدأ الله به فقال: (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) وأخوف ما نخاف منه ذنوبنا؛ لأن الذنوب سبب لكل الويلات، وسبب للمخاطر، والمخاوف، والعقوبات الدينية، والعقوبات الدنيوية.
(وَالْجُوعِ) يبتلي بالجوع.
والجوع يحمل معنيين:
المعني الأول: أن يحدث الله- سبحانه- في العباد وباء؛ هو وباء الجوع، بحيث يأكل الإنسان ولا يشبع، وهذا يمر على الناس، وقد مر بهذه البلاد سنة معروفة عند العامة تسمي سنة الجوع. يأكل الإنسان الشيء الكثير ولكنه لا يشبع- والعياذ بالله- نحدث أن الإنسان يأكل من التمر مخفراً كاملاً في آن واحد ولا يشبع-والعياذ بالله- ويأكل الخبز الكثير ولا(1/177)
يشبع لمرض فيه. هذا نوع من الجوع.
النوع الثاني من الجوع: الجدب والسنون الممحلة لا يدر فيها ضرع ولا ينمو فيها زرع، هذا من الجوع.
وقوله (ِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ) يعيني: نقص الاقتصاد، بحيث تصاب الأمة بقلة المادة والفقر، ويتأخر اقتصادها، وترهق حكومتها بالديون التي تأتي نتيجة لأسباب يقدرها الله -عز وجل- ابتلاء وامتحاناً.
وقوله: (وَالْأَنْفُسِ) أي: الموت؛ بحيث يحل في الناس أوبئة تهلكهم وتقضي عليهم. وهذا أيضاً يحدث كثيراً ولقد حدثنا أنه حدث في هذه البلاد- أي البلاد النجدية- حدث فيها وباء عظيم تسمي سنته عند العامة (سنة الرحمة) إذا دخل الوباء في البيت لم يبق منهم أحد إلا دفن- والعياذ بالله_، يدخل في البيت فيه عشرة أنفس أو أكثر، فيصاب هذا بمرض، ومن غد الثاني والثالث والرابع، حتى يموتوا عن آخرهم وحدثنا أنه قدم هذا المسجد، مسجد الجامع الكبير بعنيزة- وكان الناس بالأول في قرية صغيرة، ليس فيها ناس كثير كما هو الحال اليوم، يقدم أحياناً في فرض الصلاة الواحد سبع إلي ثمان جنائز، نعوذ بالله من الأوبئة. هذا أيضاً نقص من الأنفس.
وقوله: (وَالثَّمَرَاتِ) أيك أن لا يكون هناك جوع، ولكن تنقص الثمرات، تنزع بركتها في الزروع والنخيل وفي الأشجار الأخري، والله - عز وجل- يبتلي العباد بهذه الأمور ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون.
فيقابل الناس هذه المصائب بدرجات متنوعة، بالتسخط، أو بالصبر أو بالرضا، او بالشكر كما قلناه فيما سبق. والله الموفق.(1/178)
الآية الثالثة: قوله تعالي: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: من الآية10) (يُوَفَّى الصَّابِرُون) أي يعطي الصابرون (أَجْرَهُمْ) أي ثوابهم.
وقوله (بِغَيْرِ حِسَابٍ) وذلك أن الأعمال الصالحة مضاعفة؛ الحسنة بعشرة أمثالها إلي سبع مائة ضعف إلي أضعاف كثيرة.
أما الصبر فإن مضاعفته تأتي بغير حساب من عند الله- عز وجل- وهذا لم يقابل بعدد، بل هو أمر معلوم عند الله ولا حساب فيه، لا يقال مثلاً الحسنة بعشرة أمثالها إلي سبع مائة ضعف، بل يقال إنه يوفي أجره بغير حساب. وفي هذه الآية من الترغيب في الصبر ما هو ظاهر. ثم قال المؤلف:
الآية الرابعة: قوله تعالي: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى: 43) أي: أن الذي يصبر على أذى الناس ويحتملهم ويغفر لهم سيئاتهم التي يسيئون بها إليه؛ فإن ذلك (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي: من مغزوماتها وشدائدها التي تحتاج إلي مقابلة ومصابرة. ولا سيما إذا كان الأذى الذي ينال الإنسان بسبب جهاده في الله- عز وجل- وبسبب طاعته؛ لأن أذية الناس لك لها أسباب متعددة متنوعة. فإذا كان سببها طاعة الله- عز وجل -، والجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإن الإنسان يثاب على ذلك من وجهين:
الوجه الأول: من الأذية التي تحصل له.
والوجه الثاني: صبره على هذه الطاعة التي أوذي في الله من أجلها.(1/179)
وفي هذه الآية حث على صبر الإنسان على أذية الناس، ومغفرته لهم ما أساؤوا إليه فيه. ولكن ينبغي أن يعلم أن المغفرة لمن أساء إليك ليست محمودة على الإطلاق؛ فإن الله تعالي قيد هذا بأن يكون العفو مقروناً بالإصلاح فقال: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه) (الشورى: من الآية40) ، أما إذا لم يكن في العفو والمغفرة إصلاح فلا تعف ولا تغفر.
مثال ذلك: لو كان الذي أساء إليك شخصاً معروفاً بالشر والفساد، وأنك لو عفوت عنه لكان في ذلك زيادة في شره.
ففي هذه الحال الأفضل أن لا تعفو عنه، بل تأخذ بحقك من أجل الإصلاح، أما إذا كان الشخص إذا عفوت عنه لم يترتب على العفو عنه مفسدة؛ فإن العفو أفضل لأن الله يقول: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه) (الشورى: من الآية40) ، وإذا كان أجرك على الله لكان خيراً لك من أن يكون ذلك بمعارضة تأخذ من أعمال صاحبك الصالحة.
الآية الخامسة: قوله تعالي: (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة: من الآية153) أمر الله - سبحانه وتعالي- أن نستعين على الأمور بالصبر عليها، لأن الإنسان إذا صبر وانتظر الفرج من الله سهلت عليه الأمور.
فأنت إذا أصبت بشيء يحتاج إلي الصبر فاصبر وتحمل ((واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)) .
وأما الصلاة فإنها تعين على الأمور الدينية والدنيوية، حتى إن الرسول(1/180)
- عليه الصلاة والسلام- ذكر عنه: ((أنه إذا حز به أمر فزع إلي الصلاة)) .
وبين الله في كتابه أن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر، فإذا استعان الإنسان بالصلاة عل أموره يسر الله له ذلك، لأن الصلاة صلة بين العبد وبين ربه، فيقف الإنسان فيها بين يدي الله، ويناجيه، ويدعوه، ويتقرب إليه بأنواع القربات التي تكون في هذه الصلاة؛ فكانت سبباً للمعونة.
قوله تعالي: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) يعني ذلك المعية الخاصة، لأن معية الله- سبحانه وتعالي- تنقسم إلي قسمين:
معية عامة شاملة لكل أحد، وهي المذكورة في قوله تعالي: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا
كُنْتُمْ) (الحديد: من الآية4) ، وفي قوله تعالي: (ِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) (المجادلة: من الآية7) .
وهذه المعية العامة شاملة لجميع الخلق، فما من مخلوق إلا والله - تعالي- معه يعلمه، ويحيط به سلطاناً وقدرة وسمعا وبصرا وغير ذلك.
أما المعية الخاصة فهي المعية التي تقتضي النصر والتأييد؛ وهذه خاصة بالرسل
وأتباعهم، ليست لكل أحد، (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل: 128) (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) وما أشبه ذلك من(1/181)
الآيات الدالة على هذه المعية الخاصة.
ولكن المعيتين كلتيهما لا تدلان على أن الله - سبحانه وتعالي- فوق سماواته على
عرشه، أمكنتهم، بل هو مع الناس وهو- عز وجل-فوق وهو معك. والعرب يقولون: ما زلنا نسير والقمر معنا. وكل يعلم أن القمر في السماء. فما بلك بالخالق - عز وجل- هو وفق كل شيء استوي على عرشه، ومع ذلك هو محيط بكل شيء مع كل أحد. مهما انفردت فإن الله- تعالي- محيط بك؛ علما وقدرة وسلطانا وسمعا وبصرا وغير ذلك.
وفي قوله تعالي: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) دليل على أن الله يعين الصابر ويؤيده ويكأه حتى يتم له الصبر على ما يحبه الله - عز وجل-.
الآية السادسة: قوله تعالي: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد: 31) .
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) : لنختبركم: فالابتلاء بمعني الاختيار، أو البلوي بمعني الاختيار.
يعني: أن الله اختبر العباد في فرض الجهاد عليهم؛ ليعلم من يصبر ومن لا يصبر؛ ولهذا قال الله- تعالي- في آية أخري: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) (محمد: من الآية4) (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ) (محمد: 5) (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) (محمد: 4/6) .
وقوله عز وجل: (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ) قد يتوهم بعض من قصر علمه(1/182)
أن الله - سبحانه - لا يعلم الشيء حتى قع؛ وهذا غير صحيح؛ فالله - تعالي- يعلم الأشياء قبل وقوعها، كما قال تعالي:) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحج: 70) .
ومن أدعي أن الله لا يعلم بالشيء إلا بعد وقوعه؛ فإنه مكذب لهذه الآية وأمثالها من الآيات الدالة على أن الله- تعالي- قد علم الأشياء قبل أن تقع!!
لكن العلم الذي في هذه الآية (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ) أي: علما يترتب عليه الجزاء.
وقال بعض أهل العلم: المراد بقوله: (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ) أي: علم ظهور، يعني حتى يظهر الشيء؛ لأن علم الله بالشيء قبل أن يكون علم بأنه سيكون، وعلمه بعد كونه علم بأنه كان. وفرق بين العلمين.
فالعلم الأول علم بأنه سيكون، والثاني علم بأنه كان.
ويظهر لك الفرق لو أن شخصاً قال لك: سوف أفعل كذا وكذا غداً فالآن حصل عندك علم بما أخبر به، ولكن إذا فعله غدا صار عندك علم آخر؛ أي: علم بأن الشيء الذي حدثك انه سيفعله قد فعله فعلاً. فهذان وجهان في تخريج قوله تعالي (حَتَّى نَعْلَمَ) .
الوجه الأول: أن المراد به العلم الذي يترتب عليه الثواب أو العقاب، وهذا لا يكون إلا بعد البلوي، بعد أن يبتلي الله العبد ويختبره.(1/183)
الوجه الثاني: أن المراد به علم الظهور؛ لأن علم الله بالشيء قبل أن يكون علم بأنه سيكون، فإذا صار علمه تعالي به علماً بما كان.
وقوله: (الْمُجَاهِدِينَ) المجاهد: صار هو الذي بذل جهده جهده إعلاء كلمة الله، فيشمل المجاهد بعلمه، والمجاهد بعلمه: الذي يتعلم العلم ويعلمه وينشره بين الناس، ويجعل هذا وسيلة لتحكيم شريعة الله، هذا مجاهد. والذي يحمل السلاح لقتال الأعداء هو أيضاً مجاهد في سبيل الله، إذا كان المقصود في الجهادين أن تكون كلمة الله هي العليا.
وقوله: (وَالصَّابِرِينَ) أي: يصبرون على ما كلفوا فيه من الجهاد ويتحملونه ويقومون به.
وقوله: (وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) أي: نختبرها وتتبين لنا وتظهر لنا ظهوراً يترتب عليه الثواب والعقاب.
لما ذكر الله هذا الابتلاء قال: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) ، والخطاب للنبي صلي الله عليه وسلم، ولك من يبلغه هذا الخطاب، يعني: بشر يا محمد، وبشر يا من يبلغه هذا الكلام الصابرين الذين يصبرون على هذه البلوى فلا يقابلونها بالتسخط وإنما يقابلونها بالصبر. وأكمل من ذلك أن يقابلونها بالرضا، وأكمل من ذلك أن يقابلونها بالشكر. كما مر علينا أن المصاب بالمصائب من أقدار الله المؤلمة له أربع حالات: تسخط، وصبر، ورضاً، وشكر، وهنا قال:) وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة: 155/156) .(1/184)
وقوله: (قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ) إذا أصابتهم مصيبة اعترفوا لله - عز وجل- بعموم ملكه، وأنهم ملك لله، ولله أن يفعل في ملكه ما شاء؛ ولهذا قال النبي- عليه الصلاة والسلام- لإحدى بناته، قال لها: ((إن الله ما أخذ وله ما أعطي)) فأنت ملك لربك- عز وجل- يفعل بك ما يشاء حسب ما تقتضيه حكمته تبارك وتعالي.
ثم قال: (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) يعترفون بأنهم لابد أن يرجعوا إلي الله فيجازيهم. أن تسخطوا جازاهم علي سخطهم، وإن صبروا - كما هو شأن هؤلاء القوم- فإن الله تعالي يجازيهم على صبرهم علي هذه المصائب. فيبتلي - عز وجل- بالبلاء ويثيب الصابر عليه.
قال تعالي: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) (البقرة: من الآية157) ، أولئك يعين الصابرين (عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) والصلوات جمع صلاة وهي ثناء الله عليهم في الملأ الأعلى، يثني الله عليهم عند ملائكته.
وقوله: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) الذين هداهم الله- عز وجل- عند حلول المصائب فلم يتسخطوا وإنما صبروا على ما أصابهم. وفي هذه الآية دليل على أن صلاة الله- عز وجل- ليست هي رحمته، بل هي أخص وأكمل وأفضل، ومن فسرها من العلماء بأن الصلاة من الله الرحمة، ومن(1/185)
الملائكة الدعاء، ومن الآدميين الاستغفار؛ فإن هذا لا وجه له، بل الصلاة غير الرحمة؛ لأن الله تعالي عطف الرحمة علي الصلوات، والعطف يقتضي المغايرة. ولأن العلماء مجمعون على أنك يجوز لك أن تقول لأي شخص من المؤمنين: اللهم ارحم فلاناً.
واختلفوا؛ هل يجوز أن تقول: اللهم صل عليه. أو لا يجوز؛ على أقوال ثلاثة:
-فمنهم من أجازها مطلقاًً، ومنهم من منعها مطلقاً، ومنهم من أجازها إذا كانت تبعاً.
والصحيح أنها تجوز إذا كانت تبعاً، كما في قوله ((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد)) ، أو لم تكن ولكن لها سبب؛ كما قال الله) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) (التوبة: من الآية103) ، فإذا كان لها سبب، ولم تتخذ شعاراً، فإن ذلك لا بأس به. فلا بأس أن تقول: اللهم صل على فلان، فلو جاءك رجل بزكاته وقال لك خذ زكاتي وفرقها على الفقراء، فلك أن تقول: صلي الله عليك، تدعو له بأن يصلي الله عليه كما أمر الله نبيه بذلك.
* * *
25- وعن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأن - أو تملأ- ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك.(1/186)
كل الناس يغدو، فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها)) (رواه مسلم) .
[الشَّرْحُ]
سبق لنا الكلام علي الآيات التي ساقها المؤلف- رحمه الله تعالي- في الصبر وثوابه والحث عليه، وبيان محله، ثم شرع رحمه الله في بيان الأحاديث الواردة في ذلك.
فذكر حديث أبي مالك الشعري- رضي الله عنه- أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: الطهور شطر الإيمان)) الحديث، غلي قوله ((والصبر ضياء)) فبين النبي صلي الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الصبر ضياء؛ يعني أن يضيء للإنسان، عندما تحتلك الظلمات وتشتد الكربات، فإذا صبر؛ فإن هذا الصبر يكون له ضياء يهديه إلي الحق.
ولهذا ذكر الله- عز وجل- أنه من جملة الأشياء التي يستعان بها، فهو ضياء للإنسان في قلبه، وضياء له في طريقه ومنهاجه وعلمه؛ لأنه كلما سار إلي الله - عز وجل- علي طريق الصبر؛ فإن الله تعالي- يزيده هدي وضياء في قلبه ويبصره؛ فلهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((الصبر ضياء)) .
أما بقية الحديث؛ فقال عليه الصلاة والسلام: ((الطهور شطر الإيمان)) .
الطهور: يعني بذلك طهارة الإنسان.
شطر الإيمان: أي نصف الإيمان.(1/187)
وذلك لأن الإيمان تخلية وتحلية.
أي: تبرؤ من الشرك والفسوق، تبرؤ من المشركين والفساق بحسب ما معهم من الفسق، فهو تخل.
وهذا هو الطهور؛ أن يتطهر الإنسان طهارة حسيه ومعنوية من كل ما فيه أذي فلهذا جعله النبي عليه الصلاة والسلام شطر الإيمان، ((وسبحان الله)) معناها: تنزيه الله عز وجل عما لا يليق به من العيوب ومماثلة المخلوقات.
فالله- عز وجل- منزه عن كل عيب في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، لا تجد في أسمائه اسما يشتمل على نقص أو على عيب؛ ولهذا قال تعالي: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) (لأعراف: من الآية180) ولا تجد في صفاته صفة تشتمل على عيب أو نقص؛ ولهذا قال الله (ِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) بعد قوله: (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) فالله عز وجل له الوصف الأكمل الأعلي من جميع الوجوه، وله أيضاً الكمال المنزه عن كل عيب في أفعاله، كما قال الله تعالي:) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) (الدخان: 38) فليس في خلق الله لعب ولهو وإنما هو خلق مبني على الحكمة.
كذلك أحكامه لا تجد فيها عيباً ولا نقصاً كما قال الله تعالي:) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) (التين: 8) ، وقال عز وجل:) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50) .
وقوله صلي الله عليه وسلم: ((سبحان الله والحمد لله تملآن- أو قال تملأ- ما بين(1/188)
السماوات والأرض)) شك من الرواي: هل قال النبي صلي الله عليه وسلم: تملآن ما بين السموات والأرض، أو قال تملأ ما بين السموات والأرض.
والمعني لا يختلف. يعني أن سبحان الله والحمد لله تملأ ما بين السماوات والأرض، وذلك لأن هاتين الكلمتين مشتملتان على تنزيه الله عن كل نقص في قوله ((سبحان الله)) وعلى وصف الله بكل في قوله: ((والحمد لله)) .
فقد جمعت هاتان الكلمتان بين التخلية والتحلية كما يقولون؛ أي بين نفي كل عيب ونقص، وإثبات كل كمال، فسبحان الله فيها نفي النقائص، والحمد لله فيها إثبات الكمالات.
فالتسبيح: تنزيه الله عما لا يليق به في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه.
والله - عز وجل- يحمد على كل حال، وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا أصابه ما يسر به قال: ((الحمد لله على كل حال)) ثم إن ها هنا كلمة شاعت أخيرا عند كثير من الناس؛ وهي أقوالهم ((الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه)) .
هذا الحمد ناقص !!
لأن قولك على مكروه سواه تعبير على قلة الصبر، أو - على(1/189)
الأقل- عدم كمال الصبر، وأنك كاره لهذا الشيء، ولا ينبغي للإنسان أن يعبر هذا التعبير، بل الذي ينبغي له أن يعبر بما كان النبي صلي الله عليه وسلم يعبر به؛ فيقول ((الحمد لله على كل حال)) ، أو يقول: ((الحمد لله الذي لا يحمد على كل حال سواه)) .
أما أن يقول: على مكروه سواه، فهذا تعبير واضح على مضادة ما أصابه من الله- عز وجل- وأنه كاره له.
وأنا لا أقول: إن الإنسان لا يكره ما أصابه من البلاء، فالإنسان بطبيعته يكره ذلك، لكن لا تعلن هذا بلسانك في مقام الثناء على الله، بل عبر كما عبر النبي صلي الله عليه وسلم ((الحمد لله على كل حال)) .
قوله صلي الله عليه وسلم: ((والصلاة نور)) .
فالصلاة نور: نور للعبد في قلبه، وفي وجهه، وفي قبره، وفي حشره، ولهذا تجد أكثر الناس نوراً في الوجوه أكثرهم صلاة، وأخشعهم فيها لله عز وجل.
وكذلك تكون نوراً للإنسان في قلبه؛ تفتح عليه باب المعرفة لله- عز وجل-، وباب المعرفة في أحكام الله، وأفعاله، وأسمائه، وصفاته، وهي نور في قبر الإنسان؛ لأن الصلاة هي عمود الإسلام، إذا قام العمود قام البناء، وإذا لم يقم العمود فلا بناء.
كذلك نور في حشرة يوم القيامة؛ كما أخبر بذلك الرسول صلي الله عليه وسلم: ((أن من حافظ عليه كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة يوم القيامة، وحشر مع فرعون وهامان(1/190)
وقارون وابي بن خلف)) .
فهي نور للإنسان في جميع أحواله، وهذا يقتضي أن يحافظ الإنسان عليها، وأن يحرص عليها، وأن يكثر منها حتى يكثر نوره وعلمه وإيمانه.
وأما الصبر فقال: ((إنه ضياء)) فيه نور؛ لكن نور مع حرارة، كما قال الله تعالي) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً) (يونس: من الآية5) .
فالضوء لابد فيه من حرارة، وهكذا الصبر، لابد فيه من حرارة وتعب، لأن فيه مشقة كبيرة، ولهذا كان أجره بغير حساب.
فالفرق بين النور في الصلاة والضياء في الصبر، أن الضياء في الصبر مصحوب بحرارة؛ لما في ذلك من التعب القلبي والبدني في بعض الأحيان.
وقوله: ((الصدق برهان)) .
الصدقة: بذل المال تقربا إلي الله- عز وجل- فيبذل المال على هذا الوجه للأهل، والفقراء، والمصالح العامة، كبناء المساجد وغيرها؛ برهاناً على إيمان العبد، وذلك أن المال محبوب إلي النفوس، والنفوس شحيحة به، فإذا بذله الإنسان لله، فإن الإنسان لا يبل ما يحب إلا لما هو أحب إليه منه. فيكون في بذل المال لله- عز وجل- دليل على صدق الإيمان وصحته.(1/191)
ولهذا تجد أكثر الناس إيماناً بالله- عز وجل- وبإخلافه؛ تجدهم أكثرهم صدقة.
ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((والقرآن حجة لك أو عليك)) لأن القرآن هو حبل الله المتين، وهو حجة الله على خلقه، فإما أن يكون لك، وذلك فيما إذا توصلت به إلي الله، وقمت بواجب هذا القرآن العظيم من التصديق بالأخبار، وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وتعظيم هذا القرآن الكريم واحترامه. ففي هذه الحال يكون حجة لك.
أما إن كان الأمر بالعكس، أهنت القرآن، وهجرته لفظاً ومعني وعملاً، ولم تقم بواجبه؛ فإنه يكون شاهداً عليك يوم القيامة.
ولم يذكر الرسول صلي الله عليه وسلم مرتبة هاتين المرتبتين!
يعني: لم يذكر أن القرآن لا لك، ولا عليك؛ لأنه لابد أن يكون إما لك وإما عليك على كل حال. فنسأل الله أن يجعله لنا جميعاً حجة نهتدي به في الدنيا وفي الآخرة؛ إنه جواد كريم.
قوله: ((كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)) .
أي: كل الناس يبدأ يومه من الغدوة بالعمل، وهذا شيء مشاهد. فإن الله - تعالي- جعل الليل سكناً وقال) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) (الأنعام: من الآية60) ، فهذا النوم الذي يكون في الليل هو وفاة صغري، تهدأ فيه الأعصاب، ويستريح فيه البدن، ويستجد نشاطه للعمل المقبل، ويستريح من العمل الماضي.
فإذا كان الصباح- وهو الغدوة - سار الناس واتجهوا كل لعمله.(1/192)
فمنهم من يتجه إلي الخير، وهم المسلمون، ومنهم من يتجه إلي الشر، وهم الكفار والعياذ بالله.
المسلم أول ما يغدو يتوضأ ويتطهر ((والطهور شطر الإيمان)) كما في هذا الحديث، ثم يذهب فيصلي، فيبدأ يومه بعبادة الله- عز وجل-؛ بالطهارة، والنقاء، والصلاة، التي هي صلة بين العبد وبين ربه، فيفتتح يومه بهذا العمل الصالح، بل يفتتحه بالتوحيد؛ لأنه يشرع للإنسان إذا استيقظ من نومه أن يذكر الله- عز وجل- وأن يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران وهي قوله:) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) إلي آخر السورة: 190-200، هذا المسلم هذا الذي يغدو في الحقيقة وهو بائع نفسه، لكن هل باعها بيعاً يعتقها فيه؟!.
نقول: المسلم باعها بيعا يعتقها فيه؛ ولهذا قال: ((فبائع نفسه فمعتقها)) هذا قسم.
((أو موبقها)) معناها: بائع نفسه فموبقها. الكافر يغدو إلي العمل الذي فيه الهلاك؛ لأن معني (أوبقها) أهلكها. وذلك أن الكافر يبدأ يومه بمعصية الله، حتى لو بدأ والشرب؛ فإن أكله وشربه يعاقب عليه يوم القيامة، ويحاسب عليه.
كل لقمة يرفعها الكافر إلي فمه فإنه يعاقب عليها، وكل شربة يبتلعها من الماء فإنه يعاقب عليها، وكل لباس يلبسه فإنه يعاقب عليه.
والدليل على هذا قوله تعالي:) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ، للذين(1/193)
آمنوا لا غيرهم.
) خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يعني: ليس عليهم من شوائبها شيء يوم القيامة. فمفهوم الآية الكريمة) قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ أنها لغير المؤمنين حرام، وأنها ليست خالصة لهم يوم القيامة، وانهم سيعاقبون عليها.
وقال الله في سورة المائدة؛ وهي من آخر ما نزل) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا) (المائدة: من الآية93) فمفهوم الآية الكريمة: أن على غير المؤمنين جناح فيما طعموه.
فالكافر من حين ما يصبح- والعياذ بالله- وهو بائع نفسه فيما يهلكها، أما المؤمن فبائع نفسه فيما يعتقها وينجيها من النار. نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم.
في آخر هذا الحديث بين رسول الله صلي الله عليه وسلم أن الناس ينقسمون إلي قسمين:
قسم يكون القرآن حجة لهم؛ كما قال: ((والقرآن حجة لك)) .
وقسم يعتنقون أنفسهم بأعمالهم الصالحة.
وقسم يهلكونها بأعمالهم السيئة. والله الموفق.
* * * *
26- وعن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدرى رضي الله عنهما: أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلي الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، فقال لهم حين نفد كل شيء أنفق بيديه: ((ما(1/194)
يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله. وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر))
[الشَّرْحُ]
كان من خلق الرسول الكريم- عليه الصلاة والسلام- أنه لا يسأل شيئاً يجده إلا أعطاه، وما عهد عنه أنه صلي الله عليه وسلم منع سائلاً، بل كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ويعيش في بيته عيش الفقراء، وربما ربط على بطنه الحجر من الجوع
فهو عليه الصلاة والسلام أكرم الناس واشجع الناس.
فلما نفد ما في يده أخبرهم أنه ما من خير يكون عنده فلن يدخره عنهم؛ أي: لا يمكن أن يدخر شيئا عنهم فيمنعهم، ولكن ليس عنده شيء.
ثم حث النبي صلي الله عليه وسلم على الاستعفاف والاستغناء والصبر، فقال: ((ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن الله، ومن يتصبر يصبره الله- عز وجل)) .
هذه ثلاثة أمور:
أولا: من يستغن يغنه الله، أي: من يستغن بما عند الله عما في أيدي الناس؛ يغنه الله عز وجل. وأما من يسأل الناس ويحتاج لما عندهم؛ فإنه(1/195)
سيبقي قلبه فقيراً - والعياذ بالله- ولا يستغني.
والغني غني القلب، فإذا استغني الإنسان بما عند الله عما في أيدي الناس؛ أغناه الله عن الناس، وجعله عزيز النفس بعيداً عن السؤال.
ثانياً: من يستعفف يعفه الله، فمن يستعف عما حرم الله عليه من النساء يعفه الله عز وجل.
والإنسان الذي يتبع نفسه هواها فيما يتعلق بالعفة فإنه يهلك والعياذ بالله؛ لأنه إذا أتبع نفسه هواها وصار يتتبع النساء؛ فإنه يهلك، تزني العين، تزني الأذن، تزني اليد، تزني الرجلن ثم يزني الفرج؛ وهو الفاحشة والعياذ بالله.
فإذا استعف الإنسان عن هذا المحرم أعفه الله- عز وجل- وحماه وحمي أهله أيضاً.
ثالثاً: من يتصبر يصبره الله، أي يعطيه الله الصبر.
فإذا تصبرت، وحسبت نفسك عما حرم الله عليم، وصبرت على ما عندك من الحاجة والفقر ولم تلح على الناس بالسؤال فإن الله- تعالي- يصبرك ويعينك على الصبر. وهذا هو الشاهد من الحديث؛ لأنه في باب الصبر.
ثم قال النبي صلي الله عليه وسلم ((وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر)) أي: ما من الله على أحد بعطاء من رزق، أو غيره؛ خيراً واوسع من الصبر؛ لأم الإنسان إذا كان صبوراً تحمل على كل شيء. إن أصابته الضراء صبر، وإن أعرض له الشيطان بفعل المحرم صبر، وإن خذله الشيطان عن ما أمر الله صبر.(1/196)
فإذا كان الإنسان قد من الله عليه بالصبر؛ فهذا خير ما يعطاه الإنسان، وأوسع ما يعطاه، ولذلك تجد الإنسان الصبور لو أوذي من قبل الناس، لو سمع منهم ما يكره، لو حصل منهم اعتداء عليه، تجده هادي البال، لا يتصلب، ولا يغضب، لأنه صابر على ما ابتلاه الله به؛ فلذلك تجد قلبه دائماً مطمئناً ونفسه مستريحة.
ولهذا قال الرسول صلي الله عليه وسلم ((ما أعطي أحد عطاء خيرا واوسع من الصبر)) والله الموفق.
***
27- وعن أبي يحيي صهيب بن سنان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)) (رواه مسلم) .
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف- رحمه الله- فيما نقله عن صهيب الرومي: إن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير)) أي: إن الرسول عليه الصلاة والسلام أظهر العجب على وجه الاستحسان ((لأمر المؤمن)) أي: لشأنه. فإن شأنه كله خير، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن.(1/197)
ثم فصل الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الأمر الخير، فقال: ((إن أصابته سراء شكر فكان خير له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خير له)) هذه حال المؤمن. وكل إنسان؛ فإنه في قضاء الله وقدره بين أمرين:
مؤمن وغير مؤمن، فالمؤمن على كل حال ما قدر الله له فهو خير له، إن أصابته الضراء صبر على أقدار الله، وانتظر الفرج من الله، واحتسب الأجر على الله؛ فكان ذلك خيراً له، فنال بهذا أجر الصائمين.
وإن اصابته سراء من نعمة دينية؛ كالعلم والعمل الصالح، ونعمة دنيوية؛ كالمال والبنين والأهل شكر الله، وذلك بالقيام بطاعة الله - عز وجل.
فيشكر الله فيكون خيرا له، ويكون عليه نعمتان: نعمة الدين، ونعمة الدنيا.
نعمة الدنيا بالسراء، ونعمة الدين بالشكر، هذه حال المؤمن، فهو علي خير، سواء أصيب بضراء.
وأما الكافر فهو على شر- والعياذ بالله- إن اصابته الضراء لم يصبرن بل يتضجر، ودعا بالويل والثبور، وسب الدهر، وسب الزمن، بل وسب الله- عز وجل- ونعوذ بالله.
وإن اصابته سراء لم يشكر الله، فكانت هذه السراء عقاباً عليه في الآخرة، لأن الكافر لا يأكله أكلة، ولا يشرب إلا كان عليه فيها إثم،(1/198)
وإن كان ليس فيها إثم بالنسبة للمؤمن، لكن على الكافر إثم، كما قال الله تعالي:) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (لأعراف: من الآية32) ، هي للذين آمنوا خاصة، وهي خالصة لهم يوم القيامة، أما الذين لا يؤمنون فليست لهم، ويأكلونها حراماً عليهم، ويعاقبون عليها يوم القيامة.
فالكافر شر، سواء أصابته الضراء أم السراء، بخلاف المؤمن فإنه على خير.
وفي هذا الحديث: الحث على الإيمان النبي صلي الله عليه وسلم وأن المؤمن دائماً في خير ونعمة.
وفيه أيضاً: الحث على الصبر على الضراء، وأن ذلك من خصال المؤمنين. فإذا رأيت نفسك عند إصابة الضراء صابراً محتسباً، تنتظر الفرج من الله- سبحانه وتعالي- وتحتسب الأجر على الله؛ فذلك عنوان الإيمان، وإن رأيت العكس فلم نفسك، وعدل مسيرك، وتب إلي الله.
وفي الحديث أيضاً: الحث على الشكر عند السراء، لأنه إذا شكر الإنسان ربه على نعمة فهذا من توفيق الله له، وهو من أسباب زيادة النعم، كما قال الله تعالي:) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (ابراهيم: 7) وإذا وفق الله الإنسان للشكر؛ فهذه نعمة تحتاج إلي شكرها مرة ثالثة…وهكذا، لأن الشكر قل من يقوم به، فإذا من الله عليك وأعانك عليه فهذه نعمة.(1/199)
ولهذا قال بعضهم:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة على له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتصل العمر
وصدق - رحمه الله- فإن الله إذا وفقك للشكر فهذه نعمة تحتاج إلي شكر جديد، فإن شكرن فهي نعمة تحتاج إلي شكر ثان، فإن شكرت فهي نعمة تحتاج إلي شكر ثالث. وهلم جرا.
ولكننا- في الحقيقة- في غفلة عن هذا. نسأل الله أن يوقظ قلوبنا وقلوبكم، ويصلح أعمالنا وأعمالكم؛ إنه جواد كريم.
* * *
28- وعن أنس رضي الله عنه قال: لما ثقل النبي صلي الله عليه وسلم جعل يتغشاه، فقالت فاطمة رضي الله عنهما: واكرب أباه. فقال: ((ليس علي أبيك كرب بعد اليوم)) . فلما مات قالت: يا ابتاه أجاب رباه دعاه، يا ابتاه من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلي جبريل ننعاهن فلما قالت فاطمة عليها السلام: يا انس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلي الله عليه وسلم التراب؟ (. رواه البخاري) .(1/200)
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف- رحمه الله تعالي- فيما رواه عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أن فاطمة بنت محمد صلي الله عليه وسلم لما ثقل رسول الله صلي الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه ((جعل يتغشاه الكرب)) أي: من شدة ما يصيبه جعل يغشي عليه من الكرب؛ لأنه عليه الصلاة والسلام يتشدد عليه الوعك والمرض، كأن يوعك كما يوعك الرجلان من الناس.
والحكمة في هذا، من أجل أن ينال صلي الله عليه وسلم أعلي درجات الصبر. فإن الصبر منزلة عالية، لا ينال إلا بامتحان واختبار من الله- عز وجل- لأنه لا صبر إلا على مكروه.
فإذا لم يصب الإنسان بشيء يكره فكيف يعرف صبره، ولهذا قال الله تعالي) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِين) (محمد: من الآية31) فكان النبي صلي الله عليه وسلم يوعك كما يوعك الرجلان من الناس.
فجعل يتغشاه الكرب، فتقول فاطمة- رضي الله عنها- ((وأكرب أباه)) تتوجع له من كربه، لأنها امرأة، والمرأة لا تطيق الصبر.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا كرب على أبيك بعد اليوم)) لأنه صلي الله عليه وسلم لما انتقل من الدنيا انتقل إلي الرفيق الأعلى، كما كان صلي الله عليه وسلم - وهو يغشاه الموت- يقول ((اللهم في الرفيق الأعلى، اللهم في الرفيق الأعلى وينظر(1/201)
إلي سقف البيت صلي الله عليه وسلم.
توفي الرسول عليه الصلاة والسلام، فجعلت، رضي الله عنها- تندبه، لكنه ندب خفيف، لا يدل على التسخط من قضاء الله وقدره.
وقولها ((أجاب ربا دعاه)) لأن الله- سبحانه وتعالي- هو الذي بيده ملكوت كل شيء، آجال الخلق بيده، تصريف الخلق بيده، كل شيء إلي الله، إلي الله المنهي وإليه الرجعي.
فأجاب داعي الله، وهو انه صلي الله عليه وسلم إذا توفي صار كغيره من المؤمنين، يصعد بروحه حتى توقف بين يدي الله- عز وجل- فوق السماء السابعة. فقالت: واأبتاه، أجاب ربا دعاه.
وقولها: ((وا ابتاه جنة الفردوس مأواه)) صلي الله عليه وسلم لأنه عليه الصلاة والسلام أعلى الخلق منزلة في الجنة، كما قال النبي صلي الله عليه وسلم ((اسألوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو)) . ولا شك ان النبي صلي الله عليه وسلم مأواه جنة الفردوس، وجنة الفردوس هي أعلي درجات الجنة، وسقفها الذي فوقها عرش الرب جل جلاله، والنبي عليه الصلاة والسلام في أعلى الدرجات منها.
قولها: ((يا أبتاه إلي جبريل ننعاه)) النعي: هو الإخبار بموت الميت،(1/202)
وقالت: إننا ننعاه إلي جبريل لأن جبريل هو الذي كان يأتيه بالوحي صباحاً ومساء.
فإذا فقد النبي عليه الصلاة والسلام؛ فقد نزول جبريل عليه الصلاة والسلام إلي الأرض بالوحي؛ لأن الوحي انقطع بموت النبي صلي الله عليه وسلم.
ثم لما حمل ودفن رضي الله عنها: ((أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلي الله عليه وسلم التراب؟)) يعني من شدة وجدها عليه، وحزنها، ومعرفتها بأن الصحابة- رضي الله عنهم- قد ملأ قلوبهم محبة الرسول عليه الصلاة والسلام فهل طابت؟
والجواب: أنها طابت؛ لن هذه ما أراد الله- عز وجل- وهو شرع الله، ولو كان النبي عليه الصلاة والسلام يفدي بكل الأرض لفداه الصحابة رضي الله عنهم.
لكن الله - سبحانه- هو الذي له الحكم، وغليه المرجع، وكما قال الله تعالي في كتابة: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) (الزمر: 30/31) .
الفوائد:
في هذا الحديث بيان أن رسول الله صلي الله عليه وسلم كغيرة من البشر، يمرض ويجوع، ويعطش، ويبرد، ويحتر وجميع الأمور البشرية تعتري النبي صلي الله عليه وسلم، كما قال صلي الله عليه وسلم ((إنما أنا بشر مثلكم، أنسي كما تنسون)) .(1/203)
وفيه: رد على هؤلاء القوم الذين يشركون بالرسول صلي الله عليه وسلم؛ يدعون الرسول عليه الصلاة والسلام، ويستغيثون به وهو في قبره بل إن بعضهم- والعياذ بالله- لا يسأل الله تعالي ويسأل الرسول صلي الله عليه وسلم؛ كأن الذي يجيب هو الرسول عليه الصلاة والسلام، ولقد ضلوا في دينهم وسفهوا في عقولهم. فإن الرسول صلي الله عليه وسلم لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعا فكيف يملك لغيره؟!
قال الله تعالي آمراً نبيه) قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) بل هو عبد من عباد الله؛ ولهذا قال (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) (الأنعام: من الآية50) .
وقال الله- سبحانه- له أيضا (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً) (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (إِلَّا بَلاغاً) أي: هذه وظيفتي (مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ) (الجالنبي صلي الله عليه وسلم: من الآية21/23) ، ولما أنزل الله تعالي قوله:) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214) ، دعا قرابته صلي الله عليه وسلم وجعل ينادي إلي أن قال: ((يا فاطمة بنت محمد، سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً)) إلي هذا الحد!! التي هي بضعة منه والتي يريبه ما رابه يقول لها: لا أغني عنك من الله شيئاً.(1/204)
فهذا دليل على أن من سواها من باب أولي.
ففيه ضلال هؤلاء الذين يدعون الرسول صلي الله عليه وسلم تجدهم في المسجد النبوي عند الدعاء يتجهون إلي القبر، ويصمدون أمام القبر كصمودهم أمام الله في الصلاة أو اشد.
وفي هذا الحديث: دليل على أنه لا باس بالندب اليسير إذا لم يكن مؤذيا بالتسخط على الله عز وجل، لأن فاطمة ندبت النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه ندب يسير، وليس ينم عن اعتراض على قدر الله عز وجل.
وفيه دليل: على أن فاطمة بنت محمد صلي الله عليه وسلم ورضي الله عنها بقيت بعد حياته صلي الله عليه وسلم بقيت فاطمة، ولكن ليس لها ميراث، لا هي، ولا زوجاته، ولا عمه العباس، ولا أحد من عصبته؛ لأن الأنبياء لا يورثون، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة)) .
وهذا من حكمة الله - عز وجل- لأنهم لو ورثوا لقال من يقول: إن هؤلاء جاءوا بالرسالة يطلبون ملكا يورث من بعدهم؛ ولكن الله - عز وجل- منع ذلك.
فالأنبياء لا يورثون، بل ما يتركونه يكون صدقة يصرف للمستحقين له والله الموفق.(1/205)
29- وعن أبي زيد اسامة بن زيد حارثة مولى رسول الله صلي الله عليه وسلم وحبه وابن حبه، رضي الله عنهما، قال: أرسلت بنت النبي صلي الله عليه وسلم: إن ابني قد احتضر فاشهدنا، فأرسل يقري السلام ويقول: ((إن الله ما أخذ وله ما أعطي، وكل شيء عنده بأجل مسمي فلتصبر ولتحتسب)) فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتيها فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال رضي الله عنهم، فرفع إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم الصبي فأقعده في حجره ونفسه تقعقع، ففاضت عيناهن فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ فقال: ((هذه رحمة جعلها الله تعالي في قلوب عباده)) وفي رواية: في قلوب من شاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)) (متفق عليه) .
ومعني: ((تقعقع)) تتحرك وتضطرب.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف - رحمه الله تعالي- فيما نقله عن أبي زيد اسامة بن زيد بن حارثة- رضي الله عنهما_، وزيد بن حارثة كان مولي لرسول الله صلي الله عليه وسلم، وكان عبداً، فأهدته إليه خديجة- رضي الله عنها- فأعتقه، فصار مولي له، وكان يلقب بحب رسول الله صلي الله عليه وسلم؛ أي حبيبيه، وابنه أيضاً حب، فأسامة حبه وابن حبه رضي الله عنهما، ذكر أن إحدي بنات الرسول صلي الله عليه وسلم أرسلت إليه رسولا،(1/206)
تقول له إن ابنها قد احتضر، أي: حضره الموت. وأنها تطلب من النبي صلي الله عليه وسلم أن يحضر، فبلغ الرسول رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال له النبي صلي الله عليه وسلم ((مرها فلتصبر ولتحتسب، فإن لله ما أخذ وله ما أعطي، وكل شيء عنده بأجل مسمي)) .
أمر النبي عليه الصلاة والسلام الرجل الذي أرسلته ابنته أن يأمر ابنته- أم هذا الصبي- بهذه الكلمات:
قال: ((فلتصبر)) أي: تحتسب الأجر على الله بصبرها؛ لأن من الناس من يصبر ولا يحتسب، يصبر على المعصية ولا يتضجر، لكنه ما يؤمل أجرها على الله فيفوته بذلك خير كثير، لكن إذا صبر واحتسب الأجر على الله، يعني: أراد بصبره أن يثيبه الله ويأجره، فهذا هو الاحتساب ((مرها فلتصبر)) يعني على هذه المصيبة ((ولتحتسب)) أجرها على الله عز وجل. قوله: ((فإن لله ما أخذ وله ما أعطي)) هذه الجملة عظيمة؛ إذا كان الشيء كله لله، إن أخذ منك شيئاً فهو ملكه، وإن اعطاك شيئاً فهو ملكه، فكيف تسخط إذا أخذ منك ما يملكه هو؟
عليك إذا أخذ لله منك شيئا محبوباً لك؛ أن تقول: هذا لله، له أن يأخذ ما شاء الله، وله أن يعطي ما شاء.
ولهذا يسن للإنسان إذا أصيب بمصيبة أن يقول ((إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)) يعني: نحن ملك لله يفعل بنا ما يشاء، وكذلك ما نحبه إذا أخذه من بين أيدينا فهو له- عز وجل- له ما أخذ وله أعطي، حتى الذي يعطيك أنت لا تملكه، هو لله، ولهذا لا يمكن أن تتصرف فيما أعطاك الله إلا على الوجه الذي أذن لك فيه؛ وهذا دليل على أن ملكنا لما يعطينا الله ملك(1/207)
قاصر، ما نتصرف فيه تصرفا مطلقاً، فلو أراد الإنسان أن يتصرف في ماله تصرفاً مطلقا على وجه لم يأذن به الشرع قلنا له أمسك، لا يمكن؛ لأن المال مال الله، فلا تتصرف فيه إلا على الوجه الذي أذن لك فيه.
ولهذا قال: ((ولله ما أخذ وله ما أعطي)) فإذا كان لله ما أخذ، فكيف نجزع؟ كيف نتسخط أن يأخذ المالك ما ملك سبحانه وتعالي؟ هذا خلاف المعقول وخلاف المنقول!
قال: ((وكل شيء عنده بأجل مسمي)) كل شيء عنده بمقدار، كما قال الله تعالي في القرآن الكريم) وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد: من الآية8) بمقدار في زمانه، ومكانه، وذاته، وصفاته، وكل ما يتعلق به فهو عند الله مقدر.
((بأجل مسمي)) أي: معين، فإذا أيقنت بهذا؛ إن لله ما أخذ وله ما أعطي، وكل شيء عنده بأجل مسمي؛ اقتنعت. وهذه الجملة الأخيرة تعني أن الإنسان لا يمكن أن يغير المكتوب المؤجل لا بتقديم ولا بتأخير، كما قال الله) لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (يونس: من الآية49) ، فإذا كان الشيء مقدراً لا يتقدم ولا يتأخر؛ فلا فائدة من الجزع والتسخط؛ لأنه وإن جزعت أو تسخطت لن تغير شيئاً من المقدور.
ثم إن الرسول أبلغ بنت النبي صلي الله عليه وسلم ما أمره أن يبلغه إياها، ولكنها أرسلت إليه تطلب أن يحضر، فقام عليه الصلاة والسلام هو وجماعة من أصحابه، فوصل إليها، فرفع إليه الصبي ونفسه تتقعقع؛ أي تضطرب، تصعد وتنزل، فبكي الرسول عليه الصلاة والسلام ودمعت عيناه. فقال(1/208)
سعد بن عباده وكان معه- هو سيد الحرج- ما هذا؟ ظن أن الرسول صلي الله عليه وسلم بكي جزعاً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((هذه رحمة)) أي بكت رحمة بالصبي لا جوعاً بالمقدور.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)) ففي هذا دليل على جواز البكاء رحمة بالمصاب.
إذا رأيت مصاباً في عقله أو بدنه، فبكت رحمة به، فهذا دليل على أن الله تعالي جعل في قلبك رحمة، وإذا جعل الله في قلب الإنسان رحمه كان من الرحماء الذين رحمهم الله عز وجل. نسأل الله أن يرحمنا وإياكم برحمته.
ففي هذا الحديث دليل على وجوب الصبر؛ لأن الرسول صلي الله عليه وسلم قال: ((مرها فلتصبر ولتحتسب)) .
وفيه دليل أيضاً على أن هذه الصيغة من العزاء أفضل صيغة، أفضل من قوله بعض الناس: ((أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك)) هذه صيغة أختارها بعض العلماء، لكن الصيغة التي اختارها الرسول عليه الصلاة والسلام ((اصبر واحتسب، فإن لله ما أخذ وله ما أعطي، وكل شيء عنده بأجل مسمي)) أفضل؛ لأن المصاب إذا سمعها اقتنع أكثر.
والتعزية في الحقيقة ليست تهنئه كما ظنها بعض العوام، يحتفل بها، وتوضع لها الكراسي، وتوقد لها الشموع، ويحضر لها القراء والأطعمة، بل هي تسلية وتقوية للمصاب أن يصبر، ولهذا لو أن أحداً لم يصب بالمصيبة، كما لو مات له ابن عم ولم يهتم به؛ فإنه لا يعزي، ولهذا قال(1/209)
العلماء رحمهم الله ((تسن تعزية المصاب)) ولم يقولوا تسن تعزية القريب، لأن القريب ربما لا يصاب بموت قريبه، والبعيد يصاب لقوة صداقة بينهما مثلاً.
فالتعزية للمصاب لا للقريب. أما الآن- مع الأسف- انقلبت الموازين وصارت التعزية للقريب، حتى وإن كان قد فرح وضرب الطبول لموت قريبه فإنه يعزي، ربما يكون بعض الناس فقيراً، وبينه وبين ابن عمه في هذه الحال أو يصاب؟ غالبا يفرح، ويقول: الحمد لله الذي خلصني من مشاكلة ورثني ماله! فهذا لا يعزي، هذا يهنأ لو أردنا أن نقول شيئاً.
والمهم أنه يجب أن نعلم أن التعازي إنما هي لتقوية المصاب على الصبر وتسليته، فيختار لها من الكلمات أفضل ما يكون وأقرب ما يكون للتعزية، ولا أحسن من الكلمات التي صاغها نبينا صلي الله عليه وسلم. والله الموفق.
* * *
30- وعن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: ((كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلكا كبر قال للملك: إني قد كبرت فأبعث إلي غلاما أعلمه السحر؛ فبعث إليه غلاما يعلمه، وكان في طريقه إذا سلك راهب، فقد إليه وسمع كلامه فأعجبه، وكان إذا أتي الساحر مر بالراهب وقعد إليه، فإذا أتي الساحر ضربه، فشكا ذلك إلي الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حسبني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حسبني الساحر.(1/210)
فبينما هو علي ذلك إذ أتي علي دابة عظيمة قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها ومضي الناس، فأتي الراهب فاخبره، فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أري وإنك ستبتلي فإن ابتليت فلا تدل علي؛ وكان الغلام يبرئ الأكمة والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء. فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالي، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فأمن باله تعالي فشفاه الله، فأتي الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي قال: أو لك غيري؟! قال ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجئ بالغلام فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمة والأبرص وتفعل وتفعل، فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالي، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب؛ فجئ بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك فأبي فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه
فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جئ بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبي فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جئ بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبي، فدفعه إلي نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلي جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه(1/211)
فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفينهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلي الملك فقال له الملك: ما فعل بك بأصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالي، فدفعه إلي نفر من اصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور وتوسطوا به البحر، فغن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به فقال: اللهم اكفينهم بما شئت فانكفات بهم السفينة فغرقوا، وجاء يمشي إلي الملك فقال له الملك: ما فعل بأصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالي، فقال الملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما أمرك به، قال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع، ثم خذ سهما من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: بسم الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم
قال: بسم رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغة، فوضع يده في صدغه فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام، فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك. قد آمن الناس. فأمر بالأخدود بأفواه السكك فخدت، واضرم فيها النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فاقحموه فيها، أو قيل له: اقتحم، ففعلوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أماه اصبري فإنك على الحق)) (رواه مسلم) .(1/212)
((ذروه الجبل)) : أعلاه، وهي بكسر الذال المعجمة وضمها، و ((القرقور)) بضم القافين: نوع من السفن، و ((الصعيد)) هنا: الأرض البارزة، و ((الأخدود)) الشقوق في الأرض كالنهر الصغير، و ((اضرم)) أوقد و ((انكفات)) أي: انقلبت، و ((تقاعست) 9 توقفت وجبنت)) .
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث الذي ذكره المؤلف - رحمه الله تعالي- في باب الصبر في قصة عجيبة: وهي أن رجلاً من الملوك فيمن سبق كان عنده ساحر اتخذه الملك بطانة؛ من أجل ان يستخدمه في مصالحه ولو على حساب الدين، لأن هذا الملك لا يهتم إلا بما فيه مصلحته، وهو ملك مستبد قد عبد الناس لنفسه كما سيأتي إن شاء الله تعالي في آخر الحديث.
هذا الساحر لما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر.
واختار الغلام لأن الغلام أقبل للتعليم، ولأن التعليم للغلام الشاب هو الذي يبقي، ولا ينسي، ولهذا كان التعلم في الصغر خيرا بكثير من التعلم في الكبر، وفي كل خير، لكن التعلم في الصغر فيه فائدتان عظيمتان بل أكثر:
الفائدة الأولي: أن الشاب في الغالب أسرع حفظاً من الكبير، لأن الشاب فارغ البال ليست عنده مشاكل توجب انشغاله.(1/213)
وثانياً: أن ما يحفظه الشاب يبقي، وما يحفظه الكبير ينسي، ولهذا كان من الحكمة الشائعة بين الناس: ((إن العلم في الصغر كالنقش في الحجر)) لا يزول.
وفيه فائدة ثالثة: وهي أن الشاب إذا ثقف العلم من أول الأمر صار العلم كالسجية له والطبيعة له، وصار كأنه غريزة قد شب عليه فيشب عليه.
فهذا الساحر ساحر كبير قد تقدمت به السن وجرب الحياة وعرف الأشياء. فطلب من الملك أن يختار له شاباً غلاماً يعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً، فعلمه ما علمه، ولكن الله تعالي قد أراد بهذا الغلام خيراً
مر هذا الغلام يوماً من الأيام براهب، فسمع منه فأعجبه كلامه، لأم هذا الراهب- يعني العابد- عابد لله عز وجل، لا يتكلم إلا بالخير، وقد يكون راهباً عالماً لكن تغلب عليه العبادة فسمي بما يغلب عليه من الرهبانية، فصار هذا الغلام إذا خرج من أهله جلس عند الراهب فتأخر على الساحر، فجعل الساحر يضربه، لماذا تتأخر؟ فشكا الغلام إلي الراهب أمر يتخلص به، قال: إذا ذهبت إلي الساحر وخشيت أن يعاقبك فقل: عن الساحر أخرني؛ حتى تنجو من هذا ومن هذا.
وكان الراهب- والله أعلم- أمره بذلك- مع أنه كذب - لعله رأي أن المصلحة في هذا تربو على مفسدة الكذب، مع أنه يمكن أن يتأول!!(1/214)
ففعل، فصار الغلام يأتي إلي الراهب ويسمع منه، ثم يذهب إلي الساحر، فإذا أراد أن يعاقبه على تأخره قال: إن أهلي أخروني، وإذا رجع إلي أهله وتأخر عند الراهب قال: إن الساحر أخرني. فمر ذات يوم بدابة عظيمة، ولم يعين في الحديث ما هذه الدابة، قد حسبت الناس عن التجاوز، فلا يستطيعون أن يتجاوزها، فإذا هذا الغلام أن يخابر: هل الراهب خير له أم الساحر، فأخذ حجراً، ودعا الله سبحانه وتعالي إن كان أمر الراهب خير له أن يقتل هذا الحجر الدابة، فرمي بالحجر، فقتل الدابة، فمشي الناس.
فعرف الغلام أن أمر الراهب خير من أمر الساحر، وهذا أمر لا شك فيه؛ لأن الساحر إما معتد ظالم، وإما كافر مشرك، فإن كان يستعين على سحره بالشياطين يتقرب إليهم ويعبدهم ويدعوهم ويستغيث بهم فهو كافر مشرك. وإن كان لا يفعل هذا لكن يعتدي على الناس بأدوية فيها سحر فهذا ظالم معتد.
أما الراهب، فإن كان يعبد الله على بصيرة فهو مهتد، وإن كان عنده شيء من الجهل والضلال فنيته طيبه، وإن كان عمله سيئاً.
المهم أن الغلام أخبر الراهب بما جري فقال له الراهب: أنت اليوم خير مني، وذلك لأن الغلام دعا الله فاستجاب الله له.
وهذا من نعمة الله على العبد، أن الإنسان إذا شك في المر ثم طلب من الله لآية تبين له شأن هذا الأمر فبينه الله له، فإن هذا من نعمة الله عليه.
ومن ثم شرعت الاستخارة، للإنسان إذا هم بالأمر وأشكل عليه: هل(1/215)
في إقدامه خير أم في إحجامه خير، فإنه يستخير الله، وإذا استخار الله بصدق وإيمان فإن الله تعالي يعطيه ما يستدل به علي أن الخير في الإقدام أو إحجام. إما بشيء يلقيه في قلبه ينشرح صدره لهذا أو لهذا، وإما برؤيا يراها في المنام، وإما بمشورة أحد من الناس، وإما بغير ذلك.
وكان من كرامات هذا الغلام أنه يبرئ الأكمة والأبرص، يعني أنه يدعو لهم فيبرأون، وهذا من كرامات الله له.
وليس كقصة عيسي بن مريم يمسح صاحب العاهة فيبرأ، بل هذا يدعو الله فيستجيب الله تعالي دعاءه، فيبرئ بدعائه الأكمة والأبرص.
وقد اخبر الراهب هذا الغلام بأنه سيبتلي يعني سيكون له محنة واختبار، وطلب منه أن لا يخبر به إن هو ابتلي بشيء.
وكأن هذا الغلام- والله أعلم- مستجاب الدعوة، إذا دعا الله تعالي قبل منه.
وكان للملك جليس أعمي- لا يبصر- فأتي بهدايا كثيرة لهذا الغلام حينما سمع عنه ما سمع وقال: لك ما هنا أجمع- أي كله- إن أنت شفيتني، فقال، إنما يشفيك الله.
انظر إلي الإيمان! لم يغتر بنفسه وادعي أنه هو الذي يشفي المرضي، بل قال: إنما يشفيك الله عز وجل، وهذا يشبه من بعض الوجوه ما جري لشيخ الإسلام ابن تيميه- رحمه الله عليه-، حينما جئ إليه برجل مصروع قد صرعه الجني، فقرأ عليه شيخ الإسلام ابن تيمي ولكنه لم يخرج، فجعل شيخ الإسلام يضربه على رقبته ضرباً شديداً، حتى إن يد شيخ(1/216)
الإسلام أوجعته من الضرب. فتكلم الجني الذي في الرجل وقال له: أخرج كرامة للشيخ، فقال له الشيخ رحمه الله: لا تخرج كرامة لي ولكن أخرج طاعة لله ولرسوله. لا يريد أن يكون له فضل، بل الفضل لله عز وجل أولاً وآخرا. فخرج الجني. فلما خرج الجني استيقظ الرجل فقال: ما الذي جاء بي إلي حضرة الشيخ؟ لأنه حينما صرع يمكن أنه كان في بيته أو سوقه، قال: ما الذي جاء بي إلي حضرة الشيخ؟ فقالوا: سبحان الله! ألم تحس بالضرب الذي كان يضربك؟ قال: ما أحسست به ولا أوجعني. فأخبروه، فبريء الرجل!
الشاهد أن أهل العلم والإيمان لا ينسبون نعمة الله إليهم، وإنما ينسبونها إلي موليها عز وجل وهو الله.
وقال له: ((فإن أنت آمنت دعوت الله لك)) فآمن الرجل، فدعا الغلام ربه أن يشفيه، فشفاه الله، فاصبح مبصراً.
فجاء هذا الجليس إلي الملك وجلس عنده على العادة، فسأله الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك رب غيري؟ قال: وأخبره بالخبر وعذبه تعذيباً شديداً، قال: من الذي علمك بهذا الشيء؟ وكان الراهب قد قال له: إنك ستبتلي، فإن ابتليت فلا تخبر عني. ولكن لعله عجز عن الصبر، فأخبر عن الراهب.
وكان هذا الملك الجبار- والعياذ بالله- لما دلوا على الراهب، جئ بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك ولكنه أبي أن يرجع عن دينه.(1/217)
فأتوا بالمنشار فشذبوه من مفرق رأسه- من نصف الجسم- فبدأوا بالرأس، ثم الرقبة، ثم الظهر حتى انقسم قسمين - شقين: سقط شق هنا وشق هنا- ولكنه لم يثنه ذلك عن دينه. أبي أن يرجع، ورضي أن يقتل هذه القتلة ولا يرجع عن دينه- ما شاء الله-!! ثم جئ بالرجل الأعمى الذي كان جليساً عند الملك وآمن بالله، وكفر بالملك، فدعي أن يرجع عن دينه فأبي، ففعل به كما فعل بالراهب، ولم يرده ذلك عن دينه. وهذا يدل على أن الإنسان يجب عليه أن يصبر.
ولكن هل يجب على الإنسان ان يصبر على القتل، أو يجوز أن يقول كلمة الكفر دفعا للإكراه مع طمأنينة القلب بالإيمان وإن شاء أصر وأبي ولو قتل، هذا إذا كان الأمر عائداً إلي الإنسان بنفسه يعني مثلاً قيل له: اسجد للصنم، فلم يسجد، فقتل، أو سجد دفعاً للإكراه ولم يقتل.
أما إذا كان الأمر يتعلق بالدين، بمعني أنه لو كفر الكفر، بل يجب أن يصبر ولو قتل، كالجهاد في سبيل الله. المجاهد يقدم على القتل ولو قتل، لأنه يريد أن تكون كلمة الله هي العليا، فإذا كان إماماً للناس وأجبر على أن يقول كلمة الكفر فإنه لا يجوز أن يقول كلمة الكفر، لا سيما في زمن الفتنة، بل عليه أن يصبر ولو قتل.
ومثل ذلك ما وقع للإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله- حين امتحن(1/218)
المحنة العظيمة المشهورة، على أن يقول إن القرآن مخلوق وليس كلام الله، فأبي، فأوذي وعزر، حتى إنه يجر بالبغلة بالأسواق-أمام أهل السنة- يجر بالبغلة بالأسواق ويضرب بالسوط حتى يغشي عليهن ولكنه كلما أفاق قال: القرآن كلام ربي غير مخلوق.
وإنما لم يجز لنفسه ان يقول كلمة الكفر مع الإكراه، لأن الناس ينتظرون ماذا يقول الإمام أحمد، فلو قال: القرآن مخلوق، لصار كل الناس يقولون: القرآن مخلوق، وفسد الدين.
ولكنه- رضي الله عنه- جعل نفسه فداء للدين ومع هذا صبر واحتسب، وكانت العاقبة له ولله الحمد. مات الخليفة، ومات الخليفة الثاني الذي بعده، واتي الله بخليفة صالح أكرم الإمام أحمد إكراماً عظيماً، فما مات الإمام أحمد حتى أقر الله عينه بأن يقول الحق عالياً مرتفع الصوت، ويقول الناس الحق معه.
وخذل أعداؤه الذين كانوا يحدثون الخلفاء عليه. ولله الحمد. وهذا دليل على أن العاقبة للصابرين، وهو كذلك، والله الموفق.
لما قتل الملك الراهب، وقتل جليسه، جئ بالغلام فطلب منه أن يرجع عن دينه إلي دين الملك، ودين الملك دين شرك؛ لأنه- والعياذ بالله - يدعو الناس إلي عبادته وتأليهه.
فأبي الغلام أن يرجع عن دينه، فدفعه الملك إلي نفر من أصحابه0 - أي جماعة من الناس- وقال لهم: اذهبوا به إلي جبل كذا وكذا، جبل معروف عندهم شاهق رفيع، وقال لهم إذا بلغوا ذروته: فاطرحوه، يعني علي(1/219)
الأرض، ليقع راس الجبل فيموت، بعد أن تعرضوا عليه ان يرجع عن دينه، فإن رجع وإلا فاطرحوه.
فلما بلغوا به قمة الجبل طلبوا منه ان يرجع عن دينه فأبي؛ لأن الإيمان قد وقر في قلبه، ولا يمكن أن يتحول أو يتزحزح، فلما هموا أن يطرحوه قال: (( (اللهم اكفنيهم بما شئت)) .
دعوة مضطر مؤمن: ((اللهم اكفينهم بما شئت)) أي: بالذي تشاء، ولم يعين. فرجف الله بهم الجبل فسقطوا وهلكوا، وجاء الغلام إلي الملك فقال: ما الذي جاء بك؟ أين أصحابك؟ فقال: قد كفانيهم الله عز وجل.
ثم دفعه إلي جماعة آخرين، وأمرهم أن يركبوا البحر في قرقور- أي سفينة- فإذا بلغوا لجة البحر عرضوا عليه أن يرجع عن دينه، فإن لم يفعل رموه في البحر. فلما توسطوا من البحر عرضوا عليه أن يرجع عن دينه- وهو الإيمان بالله- عز وجل- فقال: لا! أبي، ثن قال: ((اللهم اكفنيهم بما شئت)) فانقلبت السفينة وغرقوا وأنجاه الله. ثم جاء إلي الملك فقال له: أين أصحابك؟ فأخبره بالخبر.
ثم قال له: إنك لست قاتلي حتى تفعل ما آمرك به! قال: وما هو؟ قال تجمع الناس في صعيد واحد، كل أهل البلد تجمعهم في مكان واحد، ثم تصلبني على جذع، ثم تأخذ سهماً من كنانتي فتضعه في كبد القوس، ثم ترميني به وتقول: بسم الله رب الغلام، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني!
فجمع الملك الناس في صعيد واحد، وصلب الغلام، وأخذ سهما(1/220)
من كنانته فوضعها في كبد القوس، ثم رماه وقال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فأصابه السهم من صدغه، فوضع يده عليه ومات، فاصبح الناس يقولون: بسم الله رب الغلام. وآمنوا بالله وكفروا بالملك. وهذا هو الذي كان يريده هذا الغلام.
ففي هذه القطعة من الحديث دليل على مسائل:
ثانياً: قوة إيمان هذا الغلام، وأنه لم يتزحزح عن إيمانه ولم يتحول.
ثانياً: فيه آية من آيات الله، حيث أكرمه الله عز وجل بقبول دعوته، فزلزل الجبل بالقوم الذين يريدون أن يطرحوه من رأس الجبل حتى سقطوا.
ثالثاً: أن الله عز وجل يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، فإذا دعا الإنسان ربه في حال ضرورة موقناً أن الله يجيبه، فإن الله تعالي يجيبه، حتى الكفار إذا دعوا الله في حال الضرورة أجابهم الله، مع انه يعلم انهم سيرجعون إلي الكفر، إذا غشيهم موج كالظل في البحر دعوا الله مخلصين له الدين، فإذا نجاهم أشركوا، فينجيهم لأنهم صدقوا في الرجوع إلي الله عند دعائهم، وهو سبحانه يجيب المضطر ولو كان كافراً.
رابعاً: أن الإنسان يجوز أن يغرر بنفسه في مصلحة عامة للمسلمين، فإن هذا الغلام دل الملك على أمر يقتله به ويهلك به نفسه، وهو ان يأخذ سهماً من كنانته ويضعه في كبد القوس ويقول: باسم الله رب الغلام.
قال شيخ الإسلام: ((لأن هذا جهاد في سبيل الله، آمنت أمة وهو لم يفتقد شيئا، لأنه مات وسيموت إن آجلاً أو عاجلاً)) .(1/221)
فأما ما يفعله بعض الناس من الانتحار، بحيث يحمل آلات متفجرة ويتقدم بها إلي الكفار ثم يفجرها إذا كان بينهم، فإن هذا من قتل النفس والعياذ بالله.
ومن قتل نفسه فهو خالد مخلد في نار جهنم أبد الآبدين، كما جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
لأن هذا قتل نفسه لا في مصلحة الإسلام، لأنه إذا قتل نفسه وقتل عشرة أو مائة أو مائتين، لم ينتفع الإسلام بذلك، فلم يسلم الناس، بخلاف قصة الغلام، فإن فيها لإسلام كثير من الناس، فكل من حضر في الصعيد اسلموا، أما أن يموت عشرة أو عشرون أو مائة أو مائتان من العدو، فهذا لا يقتضي أن يسلم، بل ربما يتعنت العدو أكثر ويوغر صدره هذا العمل حتى يفتك بالمسلمين اشد فتك، كما يوجد من صنع اليهود مع أهل فلسطين، فإن أهل فلسطين إذا مات الواحد منهم بهذه المتفجرات وقتل ستة أو سبعة أخذوا من جراء ذلك ستين نفرا أو أكثر، فلم يحصل في ذلك نفع للمسلمين، ولا انتفاع للذين فجرت هذه المتفجرات في صفوفهم.
ولهذا تري ان ما يفعله بعض الناس من هذا الانتحار، نري أنه قتل(1/222)
للنفس بغير حق، وأنه موجب لدخول النار والعياذ بالله، وان صحابه ليس بشهيد. لكن إذا فعل الإنسان هذا متأولا ظانا أنه جائز، فإننا نرجو أن يسلم من الإثم، وأما أن تكتب له الشهادة فلا؛ لأنه لم يسلك طريقة الشهادة، لكنه يسلم من الإثم لأنه متأول، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر.
في خاتمة هذا الحديث العظيم الذي فيه العبرة لمن أعتبر، فيها أن الملك الكافر الذي يدعو الناس إلي عبادته، لما آمن الناس وقالوا آمنا بالله رب الغلام، جاءه أهل الشر وأهل الحقد على الإيمان وأهله، وقالوا له: أيها الملك إنه وقع ما كنت تحذر منه، وهو الإيمان بالله، وكان يحذر طاغياً ظالماً، فأمر بالأخدود على أفواه السكك فخدت، الأخدود يعني خفر عميق مثل السواقي على أفواه السكك، يعني على أطراف الأزقة والشوارع، وقال لجنوه: من جاء ولم يرجع عن دينه فأقحموه فيها؛ لأنه اضرم فيها النيران_ والعياذ بالله- فكان الناس يأتون ولكنهم لا يرتدون عن دينهم وإيمانهم، فيقحموهم في النار، فكل من لم يرجع عن دينه الحقيقي- وهو الإيمان بالله- قذفوه في النار، ولكنهم إذا قذفوهم في النار واحترقوا بها فإنهم ينتقلون من دار الغرور والبوار إلي دار النعيم والاستقرار، لأن الملائكة تتوفاهم طيبين يقولون:) سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (النحل: من الآية32) ، ولا أعظم من هذا الصبر، أن يري الإنسان النار تتأجح فيقحتم فيها خوفا على إيمان وصرا عليه. فجاءت امرأة ومعها صبي رضيع، فلما رأت النيران كأنها تقاعست أن تقتحتم النار هي وطفلها،(1/223)
فقال لها الطفل: يا أماه اصبري فإنك على الحق، يقوله وهو صغير لا يتكلم، لكن أنطقه الله الذي أنطق كل شيء، وهو كرامة لهذه الأم، أن الله أنطق ابنها من أجل أن تقوي على أن تقتحم النار وتبقي علي إيمانها، لأن تكلم هذا الصبي في المهد آية عظيمة، وقد شهد هذا الصبي بأن أمه على الحق، فصبرت واقتحمت النار، وهذا من آيات الله، وهو دليل على أن الله تعالي) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الزمر: 61) .
ومريم بنت عمران- رضي الله عنها- خرجت من أهلها وذهبت مكانا قصيا وهي حامل بابنها عيسي الذي خلقه الله تعالي بكلمة كن فكان) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ) (مريم: من الآية23) ، يعني الطلق، فوضعت تحت جذع النخلة، وجعل الله تحتها نهرا يمشي، فقيل لها:) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً) (مريم: 25) ، رطب يقع من فرع النخلة، جنيا لم يتاثر بسقوطه على الأرض، وهذا من آيات الله، لأن من المعروف أن الرطب لو سقطت من يد الإنسان- ولو كان واقفا فقط- تمزقت، لكن هذه الرطب لم تتمرق، مع أنها تسقط من فرع النخلة. ثم عن هذه المرأة امرأة ضعيفة ماخض، لم تلد إلا الآن، ومع ذلك تهز النخلة من جذعها فتهتز النخلة، فهذا أيضا من آيات الله، لأن العادة أن النخلة لا تهتز من الجذع إلا إذا هزها أحد قوي من فرعها، فقيل لها) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنا) (مريم: من الآية26) ، ثم أتت به قومها تحمله، هذا الطفل، فصاحوا بها) ايَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً) (مريم: من الآية27) ، يعني شيئا عظيماً، لأنهم أيقنوا بأنها زنت(1/224)
- والعياذ بالله- كيف يأتيها ولد من دون
زوج؟) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً) (مريم: 28) ، يعني أن أبك ليس امرأ سوء، وكذلك أمك ليست بغياً، ليست بزانية، فمن آبين جاءك هذا؟ وهذا تعريض لها بالقذف، فأشارت إليه؟ يعني: اسألوه قالوا:) كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً) (مريم: من الآية29) فظنوا أنها تسخر بهم، فأنطق الله هذا الصبي) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) - كلام صحيح-) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً)) وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً) (وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً) (مريم: 30-33) .
عشر جمل نتكلم بها هذا الصبي الذي في المهد بأبلغ ما يكون من الفصاحة فأنظر إلي قدرة الله عز وجل-، حيث ينطق هؤلاء الصبيان بكلام من أفصح الكلام، بكلام يصدر من ذي عقل، كل ذلك دلالة على قدرة الله، وفيه أيضاً إنقاذ لمريم- رضي الله عنها- من التهمة التي قد تلحقها بسبب هذا الحمل بدون زوج. وهكذا أيضاً هذا الطفل مع المرأة التي تقاعست أن تقتحم النار، أكرمها الله إنطاق هذا الطفل من أجل أن تقتحم النار وتبقي عاى إيمانها. وفي هذه القصص وأمثالها دليل على أن الله- سبحانه وتعالي- برحمته ينجي كل مؤمن في مفازته، وكل متق في مفازته، يعني في موطن يكون فيه هلاكه ولكن الله تعالي ينقذه لما سبق له من التقوي، وشاهد ذلك قوله صلي الله عليه وسلم ((تعرف إلي الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) والله الموفق.(1/225)
31- وعن أنس -رضي الله عنه- قال: مر النبي صلي الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: ((أتقي الله واصبري)) فقالت إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلي الله عليه وسلم فأتت باب النبي صلي الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولي)) (متفق عليه) .
وفي رواية لمسلم: ((تبكي على صبي لها)) .
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف - رحمه الله تعالي- فيما نقله عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أن النبي صلي الله عليه وسلم مر بامرأة وهي عند قبر صبي لها قد مات، وكانت تحبه حباً شديداً، فلم تملك نفسها أن تخرج إلي قبره لتبكي عنده. فلما رآها النبي صلي الله عليه وسلم أمرها بتقوى الله والصبر.
قال لها: ((اتقي الله واصبري، فقالت له: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي)) إليك عني أي: ابعد عني فإنك لم تصب بمثل مصيبتي.
وهذا يدل على أن المصيبة قد بلغت منها مبلغاً عظيماً، فانصرف النبي صلي الله عليه وسلم عنها.(1/226)
ثم قيل لها: إن هذا رسول الله صلي الله عليه وسلم فندمت وجاءت إلي رسول الله، إلي بابه، وليس على الباب بوابون أي: ليس عنده أحد يمنع الناس من الدخول عليه. فأخبرته وقالت: إنني لم أعرفك، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولي)) .
الصبر الذي يثاب عليه الإنسان هو أن يصبر عند الصدمة الأولي أول ما تصيبه المصيبة، هذا هو الصبر.
أما الصبر فيما بعد ذلك، فإن هذا قد يكون تسليا كما تتسلي البهائم. فالصبر حقيقة أن افنسان إذا صدم أول ما يصدم يصبر ويحتسب، ويحسن ان يقول: ((إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها)) .
ففي هذا الحديث عدة فوائد:
أولاً: حسن خلق النبي عليه الصلاة والسلام ودعوته إلي الحق وإلي الخير، فإنه لما رأي هذه المرأة تبكي عند القبر أمرها بتقوى الله والصبر.
ولما قالت: ((إليك عني)) لم ينتقم لنفسه، ولم يضربها، ولم يقمها بالقوة، لأنه عرف أنه أصابها من الحزن ما لا تستطيع أن تملك نفسها، ولهذا خرجت من بيتها لتبكي عند هذا القبر.
فإن قال قائل: أليس زيارة القبور حراما على النساء؟ قلنا بلي هي حرام على النساء، بل هي من كبائر الذنوب!! لأن النبي عليه الصلاة(1/227)
والسلام ((لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)) .
لكن هذه لم تخرج للزيارة، وإنما خرجت لما في قبلها من لوعة فراق هذا الصبي والحزن الشديد، لم تملك نفسها أن تأتي؛ ولهذا عذرها النبي عليه الصلاة والسلام ولم يقمها بالقوة، ولم يجبرها على أن ترجع إلي بيتها.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان يعذر بالجهل، سواء أكان جهلاً بالحكم الشرعي أم جهلاً بالحال، فإن هذه المرأة قالت للنبي صلي الله عليه وسلم: إليك عني، أي: ابعد عني، مع أنه يأمرها بالخير والتقوي والصبر. ولكنها لم تعرف أن رسول الله صلي الله عليه وسلم فلهذا عذرها النبي عليه الصلاة والسلام.
ومنها: أنه لا ينبغي للإنسان المسؤول عن حوائج المسلمين أن يجعل على بيته بواباً يمنع الناس إذا كان الناس يحتاجون إليه. إلا إذا كان الإنسان يخشي من كثرة الناس وإرهاق الناس وإشغال الناس عن شيء يمكنهم أن يتداركوا شغلهم في وقت آخر، فهذا لا بأس به.(1/228)
وما جعل الاستئذان إلا من أجل النظر، ومن أجل أن الإنسان يتصرف في بيته في إدخال من شاء ومنع من شاء.
ومن فوائده: أن الصبر الذي يحمده فاعله هو الصبر الذي يكون عند الصدمة الأولي ويصبر الإنسان ويحتسب، ويعلم أن الله ما أخذ وله ما أعطي، وأن كل شيء عنده بأجل مسمي.
ومن فوائد هذا الحديث: أن البكاء عند القبر ينافي الصبر؛ ولهذا قال لها الرسول صلي الله عليه وسلم: ((اتقي الله واصبري)) .
ويوجد من الناس من يبتلي، فإذا مات له ميت صار يتردد على قبره ويبكي عنده، وهذا ينافي الصبر، بل نقول: إذا شئت ان تنفع الميت فادع الله وأنت في بيتك، ولا حاجة أن تترد على القبر، لأن التردد على القبر يجعل الإنسان يتخيل هذا الميت دائما في ذهنه ولا يغيب عنه، وحينئذ لا ينسي المصيبة أبدا، مع أن الأفضل للإنسان أن يتلهى وأن ينسي المصيبة بقدر ما يستطيع. والله الموفق.
* * *(1/229)
32- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالي: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)) (رواه البخاري) .
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث يرويه النبي صلي الله عليه وسلم عن الله، ويسمي العلماء- رحمهم الله- هذا القسم من الحديث: الحديث القدسي؛ لأن الرسول صلي الله عليه وسلم رواه عن الله.
قوله: (صفيه) : الصفي: من يصطفيه الإنسان ويختاره ويري أنه ذو صلة منه قوية، من ولد، أو أخ، أو عم، أو أب، أو أم، أو صديق، إذا أخذه الله عز وجل ثم احتسبه الإنسان فليس له جزاء إلا الجنة.
ففي هذا دليل على فضيلة الصبر على قبض الصفي من الدنيا، وأن الله عز وجل يجازي الإنسان إذا احتسب، يجازيه الجنة.
وفيه: دليل على فضل الله سبحانه وتعالي وكرمه على عباده، فإن الملك ملكه، والأمر أمره، وأنت وصفيك كلاكما لله عز وجل، ومع ذلك فإذا قبض الله صفي الإنسان واحتسب، فإن له هذا الجزاء العظيم.
وفي هذا الحديث أيضاً من الفوائد: الإشارة إلي أفعال الله، من قوله: ((إذا قبضت صفيه)) ولا شك أن الله سبحانه وتعالي فعال لما يريد، ولكن يجب علينا أن نعلم أن فعل الله تعالي كله خير، لا ينسب الشر إلي الله أبداً،(1/230)
والشر إذا وقع فإنما يقع في المفعولات ولا يقع في الفعل.
فمثلاً إذا قدر الله على الإنسان ما يكره، فلا شك أن ما يكرهه الإنسان بالنسبة إليه شر. لكن الشر في هذا المقدر لا في تقدير الله، لأن الله تعالي لا يقدره إلا لحكمة عظيمة، إما للمقدر عليه وإما لعامة الخلق.
أحياناً تكون الحكمة خاصة في المقدر عليه، وأحياناً في الخلق على سبيل العموم.
المقدر عليه إذا قدر الله عليه شرا وصبر واحتسب نال بذلك خيراً، وإذا قدر الله عليه شرا ورجع إلي ربه بسبب هذا الأمر، لأن الإنسان إذا كان في نعمة دائماً قد ينسي شكر المنعم عز وجل ولا يلتفت إلي الله، فإذا أصيب بالضراء تذكر ورجع إلي ربه سبحانه وتعالي، ويكون في ذلك فائدة عظيمة.
أما بالنسبة للآخرين، فإن هذا المقدر على الشخص إذا ضره قد ينتفع به الآخرون.
ولنضرب لذلك مثلا برجل عنده بيت من الطين، أرسل الله مطراً غزيراً دائماً، فإن صاحب هذا البيت يتضرر، لكن المصلحة العامة للناس مصلحة ينتفعون بها، فصار هذا شراً على شخص وخيراً للآخرين، ومع ذلك فكونه شراً لهذا الشخص أمر نسبي، إذا إنه شر من وجه لكنه خير له من وجه آخر. فيتعظ به ويعلم أن الملجأ هو الله عز وجل، لا ملجأ إلا إليه، فيستفيد من هذا فائدة أكبر مما حصل له من المضرة.
المهم أن هذا الحديث ذكره المؤلف رحمه الله في باب الصبر، لأن(1/231)
فيه فائدة عظيمة فيما إذا صبر الإنسان على قبض صفيه، أنه ليس له جزاء إلا الجنة. والله الموفق.
* * *
33- وعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلي الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرها أنه كلن عذابا يبعثه الله تعالي على من يشاء، فجعله الله تعالي رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع في الطاعون، فيمكث في بلده صابراً محتسباً، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر الشهيد)) (رواه البخاري) .
[الشَّرْحُ]
نقل المؤلف رحمه الله تعالي فيما نقله من الأحاديث الواردة في الصبر حديث عائشة - رضي الله عنها- أنها سألت رسول الله صلي الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرها أن الطاعون عذاب أرسله الله سبحانه وتعالي على من يشاء من عباده.
والطاعون: قيل: إنه وباء معين. وقيل: إنه كل وباء عام يحل بالأرض فيصيب اهلها ويموت الناس منه.
وسواء كان معيناً أم كل وباء عام مثل الكوليرا وغيرها؛ فإن هذه الطاعون عذاب ارسله الله عز وجل. ولكنه رحمة للمؤمنين إذا نزل بأرضه وبقي فيها صابراً محتسباً، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، فإن الله تعالي يكتب له(1/232)
مثل أجر الشهيد، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن عبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه)) .
إذا وقع الطاعون بأرض فإننا لا نقدم عليها، لأن الإقدام عليها إلقاء بالنفس إلي التهلكة، ولكنه إذا وقع في أرض فإننا لا نخرج منها فراراً منه، لأنك مهما فررت من قدر الله إذا نزل بالأرض فإن هذا الفرار لن يغني عنك من الله شيئاً، واذكر القصة التي قصها الله علينا في الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت. قال بعض العلماء في تفسير الآية: إنه نزل في الأرض وباء فخرجوا منها، فقال الله لهم موتوا ثم أحياهم، ليبين لهم أنه لا مفر من قضاء الله إلا الله.
ففي حديث عائشة- رضي الله عنها- دليل على فضل الصبر والاحتساب، وأن الإنسان إذا صبر نفسه في الأرض التي نزل فيها الطاعون ثم مات به، كتب الله له مثل أجر الشهيد.
وذلك أن الإنسان إذا نزل الطاعون في أرضه فإن الحياة غالية عند الإنسان، سوف يهرب، يخاف من الطاعون. فإذا صبر وبي واحتسب الأجر وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، ثم مات به، فإنه يكتب له مثل أجر الشهيد. وهذا من نعمة الله عز وجل.(1/233)
34- وعن أنس- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: ((إن الله عز وجل قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر، عوضته منها الجنة) 9 يريد عينيه (رواه البخاري) .
في هذا الحديث أخبر النبي صلي الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالي أنه قال: ((إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه)) يعني عينيه فيعمي، ثم صبر، إلا عوضه الله بهما الجنة. لأن العين محبوبة للإنسان، فإذا أخذهما الله سبحانه وتعالي وصبر الإنسان واحتسب، فإن الله يعوضه بهما الجنة، والجنة تساوي كل الدنيا، بل قد قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها)) . أي مقدار متر في الجنة خير من الدنيا وما فيها؛ لأن ما في الآخرة باق لا يفني ولا يزول، والدنيا كلها فانية زائلة، فلهذا كانت هذه المساحة القليلة من الجنة خيراً من الدنيا وما فيها.
واعلم أن الله سبحانه وتعالي إذا قبض من الإنسان حاسه من حواسه، فإن الغالب أن الله يعوضه في الحواس الأخرى ما يخفف عليه ألم فقد هذه الحاسة الني فقدها.
فالأعمى يمن الله عليه بقوة الإحساس والإدراك، حتى إن بعض الناس إذا كان أعمي تجده في السوق يمشي وكأنه مبصر يحس بالمنعطفات في الأسواق، ويحس بالمنحدرات وبالمرتفعات، حتى أن بعضهم يتفق(1/234)
مع صاحب السيارة- سيارة الأجرة- يركب معه من أقصي البلد إلي بيته وهو يقول لصاحب السيارة: خذ ذات اليمين، وهكذا حتى يوقفه عند بابه، وصاحب السيارة لا يعرف البيت، لكن هذا يعرف البيت وهو راكب، سبحان الله! فالله عز وجل إذا اقتضت حكمته أن يفقد أحداً من عباده حاسه من الحواس، فالغالب أن الله تعالي يخلف عليه حاسة قوية وإدراكاً قويا يعوض بعض ما فاته مما أخذه الله منه. والله الموفق.
* * *
وعن عطاء بن أبى رباح قال: قال لي ابن عباس- رضي الله عنهما- ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ فقلتك بلي، قال: هذه المرأة السوداء. أتت النبي صلي الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فأدع الله تعالي لي قال: ((إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله تعالي ان يعافيك)) فقالت: اصبر. فقالت: إني انكشف، فادع الله أن لا اتكشف. فدعا لها (متفق عليه) .
قوله: ((ألا أريك امرأة من أهل الجنة)) : يعرض عليه أن يريه امرأة من أهل الجنة. وذلك لأن أهل الجنة ينقسمون غلي قسمين: قسم نشهد لهم بالجنة بأوصافهم، وقسم نشهد لهم بالجنة بأعيانهم.
أما الذين نشهد لهم بالجنة بأوصافهم فكل مؤمن، كل متق، فإننا(1/235)
نشهد بأنه من
أهل الجنة. كما قال الله سبحانه وتعالي في الجنة) أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران: من الآية133) وقال:) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (البينة: 7/8) فكل مؤمن متق يعمل الصالحات فإننا نشهد بأنه من أهل الجنة. ولكن لا نقول هو فلان وفلان، لأننا لا ندري ما يختم له، ولا ندري هل باطنه كظاهره، فلذلك لا نشهد له بعينه. فإذا مات رجل مشهود له بالخير قلنا: نرجو أن يكون من أهل الجنة، لكن لا نشهد أنه من أهل الجنة.
قسم آخر نشهد له بعينه، وهم الذين شهد لهم النبي صلي الله عليه وسلم بأنهم في
الجنة، مثل العشرة المبشرين بالجنة، وهم ابوبكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وسعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وأبوعبيدة عامر بن الجراح، والزبير بن العوام، رضي الله عنهم.
ومثل ثابت بن قيس بن شماس، ومثل سعد بن معاذ، ومثل عبد الله بن سلام، ومثل بلال بن رباح، وغيرهم، رضي الله عنهم، ممن عينهم الرسول عليه الصلاة والسلام، فهؤلاء نشهد لهم بأعيانهم، نقول: نشهد بأن أبا بكر في الجنة، ونشهد بأن عمر في الجنة، ونشهد بأن عثمان في الجنة، نشهد بأن عليا في الجنة، وهكذا.
ومن ذلك هذه المرأة التي قال ابن عباس لتلميذه عطاء بن أبي رباح: ((ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلي! قال: هذه المرأة السوداء)) .
امرأة سوداء لا يؤبه لها في المجتمع، كانت تصرع وتنكشف،(1/236)
فأخبرت النبي عليه الصلاة والسلام وسألته أن يدعو اله لها، فقال لها ((إن شئت دعوت الله لك، وإن شئت صبرت ولك الجنة، قالت: اصبر، وإن كانت تتألم وتتأذي من الصرع، لكنها صبرت من أجل أن تكون من أهل الجنة. ولكنها قالت: يا رسول الله إني أتكشف، فأدع الله أن لا أتكشف. فدعا الله أن لا تتكشف، فصارت تصرع ولا تتكشف.
والصرع- نعوذ بالله منه- نوعان:
صرع بسبب تشنج الأعصاب: وهذا مرض عضوي يمكن أن يعالج من قبل
الأطباء الماديين، بإعطاء العقاقير التي تسكنه أو تزيله تماماً.
وقسم آخر بسبب الشياطين والجن، يتسلط الجني على الإنسي فيصرعه ويدخل
فيه، ويضرب به على الأرض، ويغمي عليه من شدة الصرع، ولا يحس، ويتلبس الشيطان أو الجنى بنفس الإنسان ويبدأ يتكلم على لسانه، الذي يسمع الكلام يقول إن الذي يتكلم الإنسي، ولكنه الجني، ولهذا تجد في بعض كلامه الاختلاف، لا يكون ككلامه وهو مستيقظ؛ لأنه يتغير بسبب نطق الجني.
هذا النوع من الصرع- نسأل الله أن يعيذنا وإياكم منه ومن غيره من الآفات - هذا النوع علاجه بالقراءة من أهل العلم والخير، يقرأون على هذا المصروع.
فأحياناً يخاطبهم الجني ويتكلم معهم، ويبين السبب الذي جعله يصرع هذا الإنسي، وأحياناً يتكلم.
وقد ثبت صرع الجنى للإنسي بالقرآن، والسنة، والواقع.(1/237)
ففي القرآن قال الله سبحانه:) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (البقرة: من الآية275) ، وهذا دليل على أن الشيطان يتخبط من المس وهو الصرع.
وفي السنة: روي الإمام أحمد في مسنده ((أن النبي صلي الله عليه وسلم كان في سفر من أسفاره، فمر بامرأة معها صبي يصرع، فأتت به إلي النبي عليه الصلاة والسلام، وخاطب الجنى وتكلم معه وخرج الجنى. فأعطت أم الصبي الرسول صلي الله عليه وسلم هدية علي ذلك)) .
وكذلك أيضاً كان أهل العلم يخاطبون الجني في المصروع ويتكلمون معه، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله، ذكر ابن القيم - وهو تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية - أنه جئ إلي شيخ الإسلام برجل مصروع، فجعل يقرأ عليه ويخاطبه ويقول لها: اتقي الله أخرجي- لأنها امرأة- فتقول له: أريد هذا الرجل وأحبه، فقال لها شيخ الإسلام: لكنه لا يحبك اخرجي، قالت إني أريد أن أحج به. قال هو لا يريد أن تحجي به اخرجي. فأبت، فجعل يقرأ عليها ويضرب الرجل ضربا عظيماً، حتى إن يد شيخ الإسلام أوجعته من شدة الضرب.
فقالت الجنية: أنا أخرج كرامة للشيخ، قال: لا تخرجي كرامة لي، اخرجي طاعة لله ورسوله. فما زال بها حتى خرجت، ولما خرجت(1/238)
استيقظ الرجل فقال: ما الذي جاء بي إلي حضرة الشيخ؟ قالوا: سبحان الله ! أما أحسست بالضرب الذي كان يضربك اشد ما يكون؟ قال ما أحسست بالضرب ولا أحسست بشيء. والأمثلة علي هذا كثيرة.
هذا النوع من الصرع له علاج يدفعه، وله علاج برفعه.
فهو نوعان:
أما دفعه: فبأن يحرص الإنسان على الأوراد الشرعية الصباحية والمسائية. وهي
معروفة في كتب أهل العلم، منها: آية الكرسي، فإن من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح.
ومنها سورة الإخلاص والفلق والناس، ومنها أحاديث وردت عن النبي عليه الصلاة
والسلام، فليحرص الإنسان عليها صباحاً ومساء، فإن ذلك من أسباب دفع أذية الجن.
وأما الرفع: فهو إذا وقع بالإنسان فإنه يقرأ عليه آيات من القرآن فيها تخويف وتحذير
وتذكير واستعاذة بالله عز وجل حتى يخرج.
الشاهد من هذا الحديث قول النبي صلي الله عليه وسلم لهذه المرأة: ((إن شئت
صبرت ولك الجنة، فقالت: اصبر)) ففي هذا دليل على فضيلة الصبر، وأنه سبب لدخول الجنة. واله الموفق.
* * *
36- وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر غلي رسول الله صلي الله عليه وسلم يحكي نبينا من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، ضربه قومه فادموه، فجعل يمسح الدم عن وجهه، وهو يقول: ((اللهم أغفر(1/239)
لقومي فإنهم لا يعلمون)) (متفق عليه) .
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث يحكي النبي صلي الله عليه وسلم فيه شيئا مما جري للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والأنبياء كلفهم الله تعالي بالرسالة لأنهم اصل لها، كما قال الله تعالي:) اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (الأنعام: من الآية124) ، فهم أهل لها في التحمل والتبليغ والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر علي ذلك، وكان الرسل - عليهم الصلاة والسلام- يؤذنون بالقول وبالفعل، وربما بلغ الأمر إلي قتلهم، وقد بين الله ذلك في كتابه حيث قال لنبيه صلي الله عليه وسلم:) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ) (اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) أي: إن استطعت ذلك فافعل (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى) ولكن لحكمة اقتضت أن يكذبوك، حتى يتبن الحق من الباطل بعد المصارعة والمجادلة) ى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (الأنعام: من الآية35) .
حكي نبينا صلي الله عليه وسلم عن نبي من الأنبياء أن قومه ضربوه، ولم يضربوه إلا حيث كذبوه حتى أدموا وجهه، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، وهذا غاية ما يكون من الصبر، لأن الإنسان(1/240)
لو ضرب على شيء من الدنيا لاستشاط غضباً، وانتقم ممن ضربه، وهذا يدعو إلي الله، ولا يتخذ على دعوته أجراً، مع هذا يضربونه حتى يدموا وجهه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: ((اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) .
وهذا الذي حدثنا به رسول الله صلي الله عليه وسلم لم يحدثنا به عبثاً أو لأجل أن يقطع الوقت علينا بالحديث، وإنما حدثنا بذلك من أجل أن نتخذ منه عبرة نسير عليها، كما قال سبحانه وتعالي:) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف: من الآية111) ، والعبرة من هذا أن نصبر على ما نؤذي به من قول أو فعل في سبيل الدعوة إلي الله، وأن نقول متمثلين:
هل أنت إلا إصبغ دميت وفي سبيل الله ما لقيت
وأن نصبر على ما يصيبنا مما نسمعه أو ينقل إلينا مما يقا فينا بسبب الدعوة إلي الله، وأن نري أن هذا رفعة لدرجاتنا وتكفير لسيئاتنا، فعسي أن يكون في دعوتنا خلل من نقص في الإخلاص أو من كيفية الدعوة وطريقها، فيكون هذا الأذى الذي نسمع، يكون كفارة لما وقع منا، لأن الإنسان مهما عمل فهو ناقص لا يمكن أن يكمل عمله أبداً، إلا أن يشاء الله، فإذا أصيب وأوذي في سبيل الدعوة إلي الله فإن هذا من باب تكميل دعوته ورفعة درجته، فليصبر وليحتسب ولا ينكص علي عقبيه، لا يقول(1/241)
لست بملزم، أنا اصابني الأذي، أنا تعبت، بل الواجب الصبر، والدنيا ليست طويلة! أيام ثم تزول، فاصبر حتى يأتي الله بأمره.
وفي قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((كأني انظر إلي النبي صلي الله عليه وسلم وهو يحكي لنا)) فيه دليل على أن المحدث أو المخبر يخبر بما يؤيد ضبطه للخبر والحديث. وهذا أمر شائع عند الناس، يقول: كأني أنظر إلي فلان وهو يقول لنا كذا وكذا، أي: كأني أنظر إليه الآن، وكأني اسمع كلامه الآن.
فإذا استعمل الإنسان مثل هذا الأسلوب لتثبيت ما يحدث به فله في ذلك أسوة من السلف الصالح رضي الله عنهم. والله الموفق.
* * *
37- وعن أبي سعيد وابي هريرة- رضي الله عنهما- عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا صب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه)) (متفق عليه) ، ((والوصب)) المرض
38- وعن أبي مسعود- رضي الله عنه- قال: دخلت على النبي صلي الله عليه وسلم وهو يوعك، فقلت: يا رسول الله الله، إني توعك وعكا شديداً قال: ((أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم)) قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: ((أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذي؛ شوكة فما فوقها، إلا كفر الله بها سيئاته،(1/242)
وخطت عنه ذنوبه كما تحط الشجرة ورقها)) (متفق عليه) .
و ((الوعك)) مغث الحمي، وقيل: الحمي.
[الشَّرْحُ]
هذان الحديثان: حديث أبي سعيد وأبي هريرة وابن مسعود - رضي الله عنهم- فيهما دليل علي أن الإنسان يكفر عنه بما يصيبه من الهم والنصب والغم وغير ذلك، وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالي، يبتلي سبحانه وتعالي عبده بالمصائب وتكون تكفيراً لسيئاته وحطا لذنوبه.
والإنسان في هذه الدنيا لا يمكن أن يبقي مسروراً دائماً، بل هو يوماً يسر ويوماً يحزن، ويوماً يأتيه شيء ويوماً لا يأتيه، فهو مصاب بمصائب في نفسه ومصائب في بدنه. ومصائب في مجتمعه ومصائب في أهله، ولا تحصي المصائب التي تصيب الإنسان، ولكن المؤمن أمره كله خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خير له.
فإذا أصبت بالمصيبة فلا تظن أن هذا الهم الذي يأتيك أو هذا الألم الذي يأتيك ولو كان شوكة، لا تظن أنه يذهب سدي، بل ستعوض عنه خيراً منه، ستحط عنك الذنوب كما تحط الشجرة ورقها، وهذا من نعمة الله.
وإذا زاد الإنسان على ذلك الصبر والاحتساب، يعني: احتساب(1/243)
الأجر، كان له مع هذا أجر.
فالمصائب تكون على وجهين:
تارة إذا أصيب الإنسان تذكر الأجر واحتسب هذه المصيبة على الله، فيكون فيها
فائدتان: تكفير الذنوب؛ وزيادة الحسنات.
وتارة يغفل عن هذا فيضيق صدره، ويصيبه ضجر أو ما أشبه ذلك، ويغفل عن
نية احتساب الأجر والثواب على الله، فيكون في ذلك تكفير لسيئاته، إذا هو رابح على كل حال في هذه المصائب التي تأتيه.
فإما أن يربح تكفير السيئات وحط الذنوب بدون أن يحصل له أجر؛ لأنه لم ينو شيئا ولم يصبر ولم يحتسب الأجر. وإما أن يربح شيئين: تكفير السيئات، وحصول الثواب من الله عز وجل كما تقدم.
ولهذا ينبغي للإنسان إذا اصيب ولو بشوكة، فليتذكر احتساب الأجر من الله على هذه المصيبة، حتى يؤجر عليها، مع تكفيرها للذنوب.
وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالي وجوده وكرمه، حيث يبتلي المؤمن ثم يثيبه على هذه البلوى أو يكفر عنه سيئاته.
فالحمد لله رب العالمين.
* **
39-وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيراً يصب منه)) (رواه البخاري) .(1/244)
[الشَّرْحُ]
قوله ((يصب)) قرئت بوجهين: بفتح الصاد (يصب) وكسرها (يصب) وكلاهما صحيح.
أما ((يصب منه)) فالمعني أن الله يقدر عليه المصائب حتى يبتليه بها: أيصبر أم يضجر. وأما ((يصب منه)) فهي أعم، أي: يصاب من الله ومن غيره.
ولكن هذا الحديث المطلق مقيد بالأحاديث الأخرى التي تدل على أن المراد: من يرد الله به خيراً فيصبر ويحتسب، فيصيب الله منه حتى يبلوه.
أما إذا لم يصبر فإنه قد يصاب الإنسان ببلايا كثيرة وليس فيه خير، ولم يرد الله به خيراً.
فالكفار يصابون بمصائب كثيرة، ومع هذا يبقون على كفرهم حتى يموتوا عليه، وهؤلاء بلا شك لم يرد بهم خيرا.
لكن المراد: من يرد الله به خيراً فيصيب منه فيصبر منه فيصبر علي هذه المصائب، فإن ذلك من الخير له، لأنه سبق أن المصائب يكفر الله بها الذنوب ويحط بها الخطايا، ومن المعلوم أن تكفير الذنوب والسيئات وحط الخطايا لا شك أنه خير للإنسان، لأن المصائب غاية ما فيها أنها مصائب دنيوية تزول بالأيام، كما مضت الأيام خفت عليك المصيبة، لكن عذاب الآخرة باق- والعياذ بالله- فإذا كفر الله عنك بهذه المصائب صار ذلك خيراً لك.
* * *(1/245)
40- وعن أنس- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه، فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)) (متفق عليه) .
في هذا الحديث نهي النبي صلي الله عليه وسلم الإنسان أن يتمني الموت لضر نزل به. وذلك أن الإنسان ربما ينزل به ضر يعجز عن التحمل ويتعب؛ فيتمني الموت، يقول: يارب أمتني، سواء قال ذلك بلسانه أو بقبله. فنهي النبي صلي الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: ((لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به)) . فقد يكون هذا خيرا له.
ولكن إذا أصبت بضر فقل: اللهم أعني على الصبر عليه، حتى يعنيك الله فتصبر، ويكون ذلك لك خيراً.
أما أن تتمنى الموت فأنت لا تدري، ربما يكون الموت شراً عليك لا يحصل به راحة، كما قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
الإنسان ربما يموت فيموت إلي عقوبة- والعياذ بالله- وإلي عذاب قبر، وإذا بقي قي الدنيا فربما يستعتب ويتوب ويرجع إلي الله فيكون خيراً له؛ فإذا نزل بك ضر فلا تتمن الموت، وإذا كان الرسول - عليه الصلاة والسلام- نهي أن يتمني الإنسان للضر الذي نزل به، فكيف بمن(1/246)
يقتل نفسه إذا نزل به الضر، كما يوجد من بعض الحمقي الذين إذا نزلت بهم المضائق خنقوا أنفسهم أو نحروها أو أكلوا سما أو ما اشبه ذلك، فإن هؤلاء ارتحلوا من عذاب إلي أشد منه، لم يستريحوا، لكن- والعياذ بالله- انتقلوا من عذاب إلي أشد. لأن الذي يقتل نفسه يعذب بما قتل به نفسه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، كما جاء ذلك عن النبي صلي الله عليه وسلم، إن قتل نفسه بحديدة- خنجر أو سكين أو مسمار أو غير ذلك - فإنه يوم القيامة في جهنم يطعن نفسه بهذه الحديدة التي قتل بها نفسه.
وإن قتل نفسه بسم فإنه يتحساه في نار جهنم، وإن قتل نفسه بالتردي من جبل فإنه ينصب له جبل في جهنم يتردي من أبد الآبدين وهلم جرا!
فأقول: إذا كان النبي- عليه الصلاة والسلام- نهي أن يتمني الإنسان الموت للضر الذي نزل به، فإن أعظم من ذلك أن يقتل الإنسان نفسه ويبادر الله بنفسه، نسأل الله العافية.
ولكن الرسول- عليه الصلاة والسلام- لما نهي عن شيء، كان من عادته إذا كان له بديل من المباح أن يذكر بديله من المباح كما هي طريقة القرآن، قال الله سبحانه:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا) (البقرة: 104) ، فلما نهي الله عن كلمة ((راعنا)) بين لنا الكلمة المباحة، قال: (وَقُولُوا انْظُرْنَا) .
ولما جيء للنبي- عليه الصلاة والسلام- بتمر جيد استنكره وقال: ما(1/247)
هذا؟ ((أكل تمر خيبر هكذا؟)) قالوا: لا، والله ي رسول الله، إنا لنشتري الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((لا تفعل، لكن بع الجمع بالدراهم، ثم اتبع بالدراهم جنيباً)) يعني تمراً طيبا. فلما منعه بين له الوجه المباح.
هنا قال: ((لا يتمنين أحدكم الموت لضر نول به، فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي)) .
فتح لك الباب لكنه باب سليم، لأن تمني الموت يدل على ضجر الإنسان وعدم صبره عل قضاء الله، لكن هذا الدعاء ((اللهم أحيني ما كنت الحياة خيراً وتوفني إذا علمت الوفاة خير لي)) هذا الدعاء وكل الإنسان فيه أمره إلي الله، لأن الإنسان لا يعلم الغيب، فيكل الأمر إلي عالمه عز وجل ((أحيني ما علمت الحياة خير لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خير لي)) .
تمني الموت استعجال من الإنسان بأن يقطع الله حياته، وربما يحرمه من خير كثير، ربما يحرمه من التوبة وزيادة الأعمال الصالحة، ولهذا جاء في الحديث: ((ما من ميت يموت إلا ندم، فإن كان محسناً ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم أن لا يكون استعتب)) أي: استعتب من ذنبه(1/248)
وطلب العتبى، وهي المعذرة.
فإن قال قائل: كيف يقول ((اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني ما علمت الوفاة خيراً لي؟)) .
نقول: نعم؛ لأن الله سبحانه يعلم ما سيكون، أما الإنسان فلا يعلم، كما قال الله) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) (النمل: من الآية65)) وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) (لقمان: من الآية34) فأنت لا تدري قد تكون الحياة خيراً لك، وقد تكون الوفاة خيراً لك.
ولهذا ينبغي للإنسان إذا دعا لشخص بطول العمر أن يقيد هذا فيقول: أطال الله بقاءك على طاعته، حتى يكون في طول بقائه خير.
فإن قال قائل: إنه قد جاء تمني الموت من مريم ابنة عمران حيث قالت:) يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً) (مريم: من الآية23) ، فكيف وقعت فيما فيه النهي؟
فالجواب عن ذلك أن نقول:
أولاً: يجب أن نعلم أن شرع من قبلنا إذا ورد شرعنا بخلافه فليس بحجة، لأن شرعنا نسخ كل ما سبقه من الأديان.
ثانياً: أن مريم لم تتمن الموت، لكنها تمنت الموت قبل هذه الفتنة ولو بقيت ألف سنة، المهم أن تموت بلا فتنة، ومثله قول يوسف عليه الصلاة والسلام (ِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي(1/249)
بِالصَّالِحِينَ) (يوسف: من الآية101) ليس معناه سؤال الله أن يتوفاه، بل هو يسأل أن يتوفاه الله علي الإسلام، وهذا لا باس به، كأن يقول: اللهم توفني على الإسلام وعلى الإيمان وعلى التوحيد والإخلاص، أو توفني وأنت راض عني وما أشبه ذلك.
فيجب معرفة الفرق بين شخص يتمني الموت من ضيق نزل به، وبين شخص يتمني الموت على صفة معينة يرضاها الله عز وجل!.
فالأول: هو الذي نهي عنه الرسول عليه الصلاة والسلام.
والثاني: جائز
وإنما نهي النبي - عليه الصلاة والسلام- عن تمني الموت لضر نزل به؛ لأن من تمني الموت لضر نزل به ليس عنده صبر، الواجب أن يصبر الإنسان علي الضر، وأن يحتسب الأجر من الله عز وجل، فإن الضرر الذي يصيبك من هم أو غم أو مرض أو أي شيء مكفر لسيئاتك، فإن احتسبت الأجر كان رفعة لدرجاتك. وهذا الذي ينال الإنسان من الأذى والمرض وغيره لا يدوم، لابد أن ينتهي، فإذا انتهى وأنت تكسب حسنات باحتساب. الأجر على الله عز وجل ويكفر عنك من سيئاتك بسببه؛ صار خيرا لك، كما ثبت عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال: ((عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خير له)) ، فالمؤمن على كل حال(1/250)
هو خير، في ضراء أو في سراء.
* * *
41 ـ وعن عبد الله خباب بن الأرت ـ رضي الله عنه ـ قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستضر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) (رواه البخاري)
وفي رواية: ((وهو متوسد برده، وقد لقينا من المشركين شدة))
[الشَّرْحُ]
حديث أبي عبد الله خباب بن الأرت ـ رضي الله عنه ـ يحكي ما وجده المسلمون من الأذية من كفار قريش في مكة، فجاؤوا يشكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ((وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة)) صلوات الله وسلامه عليه. فبين النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن من كان قبلنا ابتلي في دينه أعظم مما ابتلي به هؤلاء، يحفر له حفرة ثم يلقى فيها، ثم يؤتي بالمنشار على مفرق رأسه ويشق، يمشط بأمشاط الحديد ما بين جلده وعظمه، بأمشاط الحديد(1/251)
يمشط، وهذا تعزير عظيم وأذية عظيمة.
ثم أقسم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن الله سبحانه سيتم هذا الأمر، يعنى سيتم ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام من دعوة الإسلام، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون. أي: فاصبروا وانتظروا الفرج من الله، فإن الله سيتم هذا الأمر. وقد صار الأمر كما أقسم النبي عليه الصلاة والسلام.
ففي هذا الحديث آية من آيات الله، حيث وقع الأمر مطابقا لما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام.
وآية من آيات الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ حيث صدقه الله بما أخبر به، وهذه شهادة له من الله بالرسالة، كما قال الله) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً) (النساء: 166) .
وفيه أيضا دليل على وجوب الصبر على أذية أعداء المسلمين. وإذا صبر الإنسان ظفر!!
فالواجب على الإنسان أن يقابل ما يحصل من أذية الكفار بالصبر والاحتساب وانتظار الفرج، ولا يظن أن الأمر ينتهي بسرعة وينتهي بسهولة، قد يبتلي الله عز وجل المؤمنين بالكفار يؤذونهم وربما يقتلونهم، كما قتل اليهود الأنبياء الذين هم أعظم من الدعاة وأعظم من المسلمين. فليصبر ولينتظر الفرج ولا يمل ولا يضجر، بل يبقى راسيا كالصخرة، والعاقبة للمتقين، والله تعالى مع الصابرين.
فإذا صبر وثابر وسلك الطرق التي توصل إلى المقصود ولكن بدون(1/252)
فوضى وبدون استنفار وبدون إثارة، ولكن بطريق منظمة، لأن أعداء المسلمين من المنافقين والكفار يمشون على خطى ثابتة منظمة ويحصلون مقصودهم.
أما السطحيون الذين تأخذهم العواطف حتى يثوروا ويستنفروا، فإنه قد يفوتهم شيء كثير، وربما حصل منهم زلة تفسد كل ما بنوا، إن كانوا قد بنوا شيئا.
لكن المؤمن يصبر ويتئد، ويعمل بتودة ويوطن نفسه، ويخطط تخطيطا منظما يقضي به على أعداء الله من المنافقين والكفار، ويفوت عليهم الفرص؛ لأنهم يتربصون الدوائر بأهل الخير، يريدون أن يثيروهم، حتى إن حصل من بعضهم ما يحصل حينئذ استعلوا عليهم وقالوا: هذا الذي نريد، وحصل بذلك شر كبير.
فالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال لأصحابه اصبروا، فمن كان قبلكم ـ وأنتم أحق بالصبر منه ـ كان يعمل به هذا العمل ويصبر، فأنتم يا أمة محمد أمة الصبر والإحسان، اصبروا حتى يأتي الله بأمره، والعاقبة للمتقين.
فأنت أيها الإنسان لا تسكت عن الشر، ولكن أعمل بنظام وبتخطيط وبحسن تصرف وانتظر الفرج من الله، ولا تمل، فالدرب طويل، لا سيما إذا كنت في أول الفتنة، فإن القائمين بها سوف يحاولون ـ ما استطاعوا ـ أن يصلوا إلى قمة ما يريدون، فاقطع عليهم السبيل، وكن أطول منهم نفسا وأشد منهم مكرا، فإن هؤلاء الأعداء يمكرون، ويمكر الله، والله خير(1/253)
الماكرين، والله الموفق.
42 ـ وعن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: لما كان يوم حنين، آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن مثل ذلك، وأعطى ناسا من أشراف العرب وآثرهم يؤمئذ في القسمة. فقال رجل: والله إن هذه قسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله، فقلت: والله لأخبرن رسول الله النبي صلي الله عليه وعلي آله وسلم، فأتيته فأخبرته بما قال، فتغير وجهه حتى كان كالصرف ثم قال: ((فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ ثم قال: يرحم الله موسى، فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)) فقلت: لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثاً (متفق عليه) .
وقوله: ((كالصرف)) هو بكسر الصاد المهملة: وهو صبغ أحمر.
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث الذي نقله المؤلف- رحمه الله- عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنه ((لما كان غزوة حنين)) وهي غزوة الطائف التي كانت بعد فتح مكة، غزاهم الرسول صلي الله عليه وسلم وغنم منهم غنائم كثيرة جداً من إبل، وغنم، ودراهم ودنانير، ثم إن النبي صلي الله عليه وسلم نزل بالجعرانة، وهي محل عند(1/254)
منتهى الحرم من جهة الطائف، نزل بها
وصار صلي الله عليه وسلم يقسم الغنائم، وقسم في المؤلفة قلوبهم-أي ك في كبائر القبائل- يؤلفهم على الإسلام، وأعطاهم عطاء كثيراًن حتى كان يعطي الواحد منهم مائة من الإبل.
فقال رجل من القوم: ((والله إن هذه قسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله)) نعوذ بالله- يقول هذا القول في قسمة قسمها رسول الله صلي الله عليه وسلم لكن حب الدنيا والشيطان يوقع الإنسان في الهلكة. نسأل الله العافية. هذه الكلمة كلمة كفر، أن ينسب الله ورسوله إلي عدم العدل، وإلي أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يرد بها وجه الله، ولا شك أن النبي صلي الله عليه وسلم أراد بهذه القسمة وجه الله، أراد أن يؤلف كبار القبائل والعشائر من أجل أن يتقوى الإسلام، لأن أسياد القوم إذا ألفوا الإسلام وقوي إيمانهم بذلك حصل منهم خير كثير، وتبعهم على ذلك قبائل وعشائر، واعتز الإسلام بهذا. ولكن الجهل ـ والعياذ بالله ـ يوقع صاحبه في الهلكة.
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لما سمع هذه الكلمة تقال في رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم ورفعها إليه. أخبره بأن الرجل يقول كذا وكذا، فتغير وجه الرسول صلى الله عليه وسلم حتى كان كالصرف ـ أي كالذهب ـ من صفرته وتغيره، ثم قال: ((فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله)) وصدق النبي عليه الصلاة والسلام! إذا كانت قسمة الله ليست عدلا، وقسمة رسوله ليست عدلا، فمن يعدل إذا! ثم قال ((يرحم الله موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)) .
والشاهد من الحديث هذه الكلمة، وهي أن الأنبياء ـ عليهم الصلاة(1/255)
والسلام ـ يؤذون ويصبرون، فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم قيل له هذا الكلام بعد ثماني سنين من هجرته. يعنى ليس في أول، بل بعد ما مكن الله له، وبعدما عرف صدقه وبعدما أظهر الله آيات الرسول في الآفاق وفي أنفسهم، ومع ذلك يقال: هذه القسمة لم يعدل فيها ولم يرد بها وجه الله.
فإذا كان هذا قول رجل في صحابة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ للنبي صلى الله عليه وسلم فلا تستغرب أن يقول الناس في عالم من العلماء: أن هذا العالم فيه كذا وفيه كذا ويصفونه بالعيوب، لأن الشيطان هو الذي يؤز هؤلاء على أن يقدحوا العلماء، لأنهم إذا قدحوا في العلماء سقطت أقوالهم عند الناس ما بقي للناس أحد يقودهم بكتاب الله. ومن يقودهم بكتاب الله إذا لم يثقوا بالعلماء وأقوالهم؟ تقودهم الشياطين وحزب الشيطان، ولذلك كانت غيبة العلماء أعظم بكثير من غيبة غير العلماء، لأن غيبة غير العلماء غيبة شخصية، إن ضرت فإنها لا تضر إلا الذي اغتاب والذي قيلت فيه الغيبة، لكن غيبة العلماء تضر الإسلام كله؛ لأن العلماء حملة لواء الإسلام، فإذا سقطت الثقة بأقوالهم؛ سقط لواء الإسلام، وصار في هذا ضرر على الأمة الإسلامية.
فإذا كانت لحوم الناس بالغيبة لحوم ميتة، فإن لحوم العلماء ميتة مسمومة، لما فيها من الضرر العظيم، فلا تستغرب إذا سمعت أحدا يسب العلماء! وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل فيه ما قيل، فاصبر، واحتسب الأجر من الله عز وجل، واعلم أن العاقبة للتقوى، فمادام الإنسان في تقوى وعلى نور من الله عز وجل فإن العاقبة له.(1/256)
وكذلك يوجد بعض الناس يكون له صديق أو قريب يخطئ مرة واحدة فيصفه بالعيب والسب والشتم ـ والعياذ بالله ـ في خطيئة واحدة.
وعلى هذا الذي وصف بالعيب أن يصبر، وأن الأنبياء قد سبوا وأذوا وكذبوا، وقيل إنهم مجانين، وإنهم شعراء، وإنهم كهنة، وإنهم سحرة) فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا) (الأنعام: من الآية34) وهكذا يقول الله عز وجل.
ففي هذا الحديث: دليل على أن للإمام أن يعطى من يرى في عطيته المصلحة ولو أكثر من غيره، إذا رأى في ذلك مصلحة للإسلام، ليست مصلحة شخصية يحابي من يحب ويمنع من لا يحب، ولكن إذا رأى في ذلك مصلحة للإسلام وزاد في العطاء، فإن ذلك إليه وهو مسؤول أمام الله، ولا يحل لأحد أن يعترض عليه، فإن اعترض عليه فقد ظلم نفسه.
وفيه: أن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعتبر بمن مضى من الرسل، ولهذا قال: لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر، لأن الله تعالي يقول) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَاب) (يوسف: من الآية111) ويقول (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه) (الأنعام: 90) ، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهدي الأنبياء قبله.
وهكذا ينبغي لنا نحن أن نقتدي بالأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ في الصبر على الأذى، وأن نحتسب الأجر على الله، وأن نعلم أن هذا زيادة في درجاتنا مع الاحتساب، وتكفير لسيئاتنا. والله الموفق.(1/257)
43 ـ وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبده خيرا عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة)) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أعظم الجزاء مع عظم البلاء،) ٍ وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي الله فله الرضى، ومن سخط فله السخط)) (رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
[الشَّرْحُ]
الأمور كلها بيد الله عز وجل وبإرادته، لأن الله تعالى يقول عن نفسه) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) (البروج: 16) ، ويقول إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (الحج: من الآية18) ، فكل الأمور بيد الله.
والإنسان لا يخلو من خطأ ومعصية وتقصير في الواجب؛ فإذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا: إما بماله، أو بأهله، أو بنفسه، أو بأحد ممن يتصل به؛ لأن العقوبة تكفر السيئات، فإذا تعجلت العقوبة وكفر الله بها عن العبد، فإنه يوافي الله وليس عليه ذنب، قد طهرته المصائب والبلايا، حتى إنه ليشدد على الإنسان موته لبقاء سيئة أو سيئتين عليه، حتى يخرج من الدنيا نقيا من الذنوب، وهذه نعمة؛ لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة.(1/258)
لكن إذا أراد الله بعبده الشر أمهل له واستدرجه وأدر عليه النعم ودفع عنه النقم حتى يبطر ـ والعياذ بالله ـ ويفرح فرحا مذموما بما أنعم الله به عليه، وحينئذ يلاقي ربه وهو مغمور بسيئاته فيعاقب بها في الآخرة، نسأل الله العافية. فإذا رأيت شخصا يبارز الله بالعصيان وقد وقاه الله البلاء وأدر عليه النعم، فاعلم إنما أراد به شرا؛ لأن الله أخر عنه العقوبة حتى يوافى بها يوم القيامة.
ثم ذكر في هذا الحديث: ((إن عظم الجزاء من عظم البلاء)) يعنى أنه كلما عظم البلاء عظم الجزاء. فالبلاء السهل له أجر يسير، والبلاء الشديد له أجر كبير، لأن الله عز وجل ذو فضل على الناس، إذا ابتلاهم بالشدائد أعطاهم عليها الأجر الكبير، وإذا هانت المصائب هان الأجر.
((وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى ومن سخطا فله السخط)) .
وهذه ـ أيضا ـ بشرى للمؤمن، إذا ابتلى بالمصيبة فلا يظن أن الله سبحانه يبغضه، بل قد يكون هذا من علامة محبة الله للعبد، يبتليه سبحانه بالمصائب، فإذا رضي الإنسان وصبر واحتسب فله الرضى، وإن سخط فله السخط.
وفي هذا حث على أن الإنسان يصبر على المصائب حتى يكتب له الرضى من الله عز وجل. والله الموفق.(1/259)
44- وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كان ابن لأبي طلحة ـ رضي الله عنه ـ يشتكي، فخرج أبو طلحة، فقبض الصبي، فلما رجع أبو طلحة قال: ما فعل ابني؟ قالت أم سليم ـ وهي أم الصبي ـ: هو أسكن ما كان. فقربت إليه العشاء فتعشى، ثم أصاب منها، فلما فرغ قالت: واروا الصبي، فلما أصبح أبو طلحة أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال ((أعرستم الليلة؟)) قال: نعم، قال: (0 اللهم بارك لهما؛ فولدت غلاما، فقال: لي أبو طلحة: احمله حتى تأتي به النبي صلى الله عليه وسلم، وبعث معه بتمرات، ((أمعه شيء؟)) قال: نعم، تمرات، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فمضغها، ثم أخذها من فيه فجعلها في في الصبي، ثم حنكه وسماه عبد الله. (متفق عليه) .
وفي رواية للبخاري: قال ابن عيينه: فقال رجل من الأنصار، فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرأوا القرآن، يعني من أولاد عبد الله المولد.
وفي رواية لمسلم: مات ابن لأبي طلحة من أم سليم، فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه، فجاء، فقربت إليه عشاء فأكل وشرب، ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك، فوقع بها، فلما أن رأت أنه قد شبع وأصاب منها قالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن(1/260)
قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعهم؟ قال: لا، فقالت: فاحتسب ابنك. قال: فغضب، ثم قال: تركتني حتى إذا تلطخت ثم أخبرتني بابني؟ ! فانطلق حتى أتي رسول الله صلي الله عليه وسلم فأخبره بما كان، فقال رسول الله: ((بارك الله في ليلتكما)) قال: فحملت، قال: وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم في سفر وهي معه، وكان رسول الله اصلي الله عليه وسلم إذا أتي المدينة من سفر لا يطرقها طروقا، فدنوا من المدينة، فضربها المخاض، فاحتبس عليها أبو طلحة، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: يقول أبو طلحة: إنك لتعلم يا رب أنه يعجبني أن أخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج، وأدخل معه إذا دخل، وقد احتبست بما ترى. تقول أم سليم؟ يا أبا طلحة، ما أجد الذي كنت أجد، انطلق، فانطلقا، وضربها المخاض حين قدما فولدت غلاما، فقالت لي أمي: يا أنس، لا
يرضعه أحد حتى تغدو به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح احتملته، فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر تمام الحديث.
[الشَّرْحُ]
حديث انس بن مالك عن أبي طلحة أنه كان له ابن يشتكي، يعني مريضا، وأبو طلحة كان زوج أم أنس بن مالك رضي الله عنهم. وكان هذا الصبي يشتكي، فخرج أبو طلحة لبعض حاجاته، فقبض الصبي. يعني مات، فلما رجع سأل أمه عنه فقال: كيف ابني؟ قالت: ((هو أسكن ما يكون)) وصدقت في قولها، هو أسكن ما يكون؛ لأنه مات، ولا سكون أعظم من الموت. وأبو طلحة ـ رضي الله عنه ـ فهم أنه اسكن ما يكون من(1/261)
المرض، وأنه في عافية، فقدمت له العشاء فتعشى على أن أبنه برئ وطيب. ثم أصاب منها، يعني جامعها، فلما انتهى قالت له: ((واروا الصبي)) أي: ادفنوا الصبي؛ فإنه قد مات، فلما أصبح أبو طلحة رضي الله عنه ووارى الصبي وعلم بذلك النبي صلي الله عليه وسلم، وسأل: ((هل أعرستم الليلة)) فولدت غلاما سماه عبد الله، وكان لهذا الولد تسعة من الولد كلهم يقرأون القرآن ببركة دعاء النبي صلي الله عليه وسلم.
ففي هذا الحديث: دليل على قوة صبر أم سليم ـ رضي الله عنها ـ وأن ابنها الذي مات بلغ بها الحال إلى أن تقول لزوجها هذا القول وتوري هذه التورية، وقدمت له العشاء، ونال منها، ثم قالت: ادفنوا الولد.
وفي هذا دليل على جواز التورية، يعني أن يتكلم الإنسان بكلام تخالف نيته ما في ظاهرة هذا الكلام. فله ظاهر هو المتبادر إلى ذهن المخاطب، وله معنى آخر مرجوح، لكن هو المراد في نية المتكلم، فيظهر خلاف ما يريد.
وهذا جائز، ولكنه لا ينبغي إلا للحاجة، إذا احتاج الإنسان إليه لمصلحة أو دفع مضرة فليور، وأما مع عدم الحاجة فلا ينبغي أن يوري؛ لأنه إذا ورى وظهر الأمر على خلاف ما يظنه المخاطب نسب هذا الموري إلى الكذب وأساء الظن به، لكن إذا دعت الحاجة فلا بأس.
ومن التورية المفيدة التي يحتاج إليها الإنسان: لو أن شخصا ظالما يأخذ أموال الناس بغير حق، وأودع إنسان عندك مالا قال: هذا مالي عندك(1/262)
وديعة، أخشى أن يطلع عليه هذا الظالم فيأخذه، فجاء الظالم إليك وسألك: هل عندك مال لفلان؟ فقلت والله ما له عندي شئ.
المخاطب يظن أن هذا نفي، وأن المعني: ما عندي له شيء. لكن أنت تنوي ب (ما) الذي، أي: الذي عندي له شيء، فيكون هذا الكلام مثبتا لا منفيا. هذا من التورية المباحة، بل قد تكون مطلوبة إذا دعت الحاجة إليها، وإلا ففيما عدا ذلك فلا.
وفي هذا الحديث: أن النبي صلي الله عليه وسلم لما جاء أنس بن مالك بأخيه من أمه ابن أبي طلحة جاء به إلى النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومعه تمرات، فأخذه النبي صلي الله عليه وسلم ومضغ التمرات، ثم جعلها في في الصبي، يعني أدخلها فمه وحنكه، أي: أدخل أصبعه وداره في حنكه؛ وذلك تبركا بريق النبي عليه الصلاة والسلام، ليكون أول ما يصل إلى بطن الصبي ريق الرسول عليه الصلاة والسلام. وكان الصحابة يفعلون هذا إذا ولد لهم أولاد ـ بنون أو بنات ـ جاءوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءوا بالتمرات معهم من أجل أن يحنكه.
وهذا التحنيك هل هو لبركة ريق النبي صلي الله عليه وسلم؟ أو من أجل أن يصل طعم التمرات إلى معدة الصبي قبل كل شئ؟
إن قلنا بالأول صار التحنيك من خصائص الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فلا يحنك أحد صبيا؛ لأنه لا أحد يتبرك بريقه وعرقه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإن قلنا بالثاني: إنه من اجل التمرات ليكون هو أول ما يصل إلى(1/263)
معدة الصبي؛ لأنه يكون لها بمنزلة الدباغ، فإننا نقول: كل مولد يحنك.
وفي هذا الحديث: آية من آيات النبي صلي الله عليه وسلم حيث دعا لهذا الصبي فبارك الله فيه وفي عقبه، وكان له كما ذكرنا تسعة من الولد، كلهم يقرأون القرآن ببركة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام.
وفيه: أنه يستحب تسمية بعبد الله، فإن التسمية بهذا وبعبد الرحمن أفضل ما يكون، قال النبي صلي الله عليه وسلم ((إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن)) .
وأما ما يروى أن ((خير الأسماء ما حمد وعبد)) فلا أصل له، وليس حديثا عن رسول الله صلى الله عليه سلم، الحديث الصحيح: أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام)) . وحارث وهمام أصدق الأسماء لأنها مطابقة للواقع، فكل واحد من بني آدم فهو حارث يعمل، وكل واحد من بني آدم فهو همام يهم وينوي ويقصد وله إرادة.
قال الله تعالى:) يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (الانشقاق: 6) ، وكل إنسان يعمل، فأصدق الأسماء حارث وهمام؛ لأنه مطابق للواقع، وأحبها إلى الله عبد الله، وعبد الرحمن.(1/264)
ولهذا ينبغي للإنسان أن يختار لأبنائه وبناته أحسن الأسماء؛ لينال بذلك الأجر، وليكون محسنا إلى أبنائه وبناته.
أما أن تأتي بأسماء غريبة على المجتمع، فإن هذا قد يوجب مضايقات نفسية للأبناء والبنات في المستقبل، ويكون كل هم ينال الولد أو الابن أو البنت من هذا الاسم فعليك إثمه ووباله؛ لأنك أنت المتسبب لمضايقته بهذا الاسم الغريب الذي يشار إليه، ويقال، انظر إلى هذا الاسم، أنظر إلى هذا الاسم !! .
ولهذا ينبغي للإنسان أن يختار أحسن الأسماء.
ويحرم أن يسمي الإنسان بأسماء من خصائص أسماء الكفار، مثل جورج وما أشبه ذلك من الأسماء التي يتلقب بها الكفار؛ لأن هذا من باب التشبه بهم وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم ((من تشبه بقوم فهو منهم)) .
ويجب علينا ـ نحن المسلمين ـ أن نكره الكفار كرها عظيما، وأن نعاديهم، وأن نعلم أنهم أعداء لنا مهما تزينوا لنا وتقربوا لنا، فهم أعداؤنا حقا، وأعداء الله عز وجل، وأعداء الملائكة، وأعداء الأنبياء، وأعداء الصالحين، فهم أعداء ولو تلبسوا بالصداقة أو زعموا أنهم أصدقاء، فإنهم والله الأعداء، فيجب أن نعاديهم، ولا فرق بين الكفار الذين لهم شأن وقيمة في العالم أو الكفار الذين ليس لهم شأن، حتى الخدم والخادمات،(1/265)
يجب أن نكره أن يكون في بلدنا خادم أو خادمة من غير المسلمين، ولا سيما وأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم يقول ((أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب)) ويقول: ((لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلما)) ، ويقول في مرض موته، في آخر حياته وهو يودع الأمة: ((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)) .
وبعض الناس الآن ـ نسأل الله العافية ـ يخير بين العامل مسلم وعامل كافر فيختار الكافر! قلوب زائغة ضالة، ليست إلى الحق مائلة، يختارون الكفار!! يزين لهم الشيطان أعمالهم، ويقولون كذبا وزورا وبهتانا: إن الكافر أخلص في عمله من المسلم! أعوذ بالله! .
يقولون: أن الكافر لا يصلى، بل يستغل وقت الصلاة في العمل، ولا يطلب الذهاب إلى العمرة أو الحج، ولا يصوم، وهو دائما في عمل.
ولا يهمهم هذا الشيء مع أن خالق الأرض والسموات يقول:) وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) (البقرة: من الآية221) ، فيجب عليكم أيها الإخوة أن تناصحوا إخوانكم الذين اغتروا وزين لهم الشيطان جلب الكفار إلى بلادنا خدما وعمالا وما أشبه ذلك، يجب أن يعلموا أن في ذلك إعانة للكفار(1/266)
على المسلمين؛ لأن هؤلاء الكفار يؤدون ضرائب لحكوماتهم لتقويتها على المسلمين.
والشواهد على هذا كثيرة، فالواجب علينا أن نتجنب الكفار، بقدر ما نستطيع، فلا نتسمى بأسمائهم، ولا نوادهم، ولا نحترمهم، ولا نبدأهم بالسلام، ولا نفسح لهم الطريق، لأن النبي صلي الله عليه وسلم يقول: ((لاتبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه)) .
أين نحن من هذه التعليمات! ؟ أين نحن من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى؟ لماذا لا نحذر إذا كثر فينا الخبث من الهلاك؟ استيقظ النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذات ليلة محمرا وجهه فقال ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب)) إنذار وتحذير، ويل للعرب حملة لواء الإسلام من شر قد اقترب ((فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم إذا كثر الخبث)) .
الخبث العملي والخبث البشري، فإذا كثر الخبث في أعمالنا فنحن عرضة للهلاك، وإذا كثر البشر النجس في بلادنا فنحن عرضة للهلاك، والواقع شاهد بهذا، نسأل الله أن يحمي بلادنا من أعدائنا الظاهرين(1/267)
والباطنين، وأن يكبت المنافقين والكفار، ويجعل كيدهم في نحورهم، إنه جواد كريم.
قول أم سليم ـ رضي الله عنها ـ ((أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت ثم طلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، فقالت فاحتسب ابنك)) يعني أن الأولاد عندنا عارية، وهم ملك لله ـ عز وجل ـ متى شاء أخذهم، فضربت له هذا المثل من أجل أن يقتنع ويحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى.
وهذا يدل على ذكائها ـ رضي الله عنها ـ وعلى أنها امرأة عاقلة صابرة محتسبة، وإلا فإن الأم كالأب ينالها من الحزن على ولدها مثل ما ينال الأب، وربما تكون أشد حزنا؛ لضعفها وعدم صبرها.
وفي هذا الحديث بركة دعاء النبي صلي الله عليه وسلم حيث كان له تسعة من الولد كلهم يقرأون القرآن، ببركة دعاء النبي صلي الله عليه وسلم.
وفيه ـ أيضا ـ كرامة لأبي طلحة رضي الله عنه؛ لأن أبا طلحة كان قد خرج مع النبي صلي الله عليه وسلم في سفر وكانت معه أم سليم بعد ان حملت، فلما رجع النبي صلي الله عليه وسلم من السفر أتاها المخاض، أي: جاءها الطلق قبل أن يصلوا إلى المدينة، وكان النبي صلي الله عليه وسلم: ((لا يحب أن يطرق أهله طروقا)) أي: لا يحب أن يدخل عليهم ليلا دون أن يخبرهم بالقدوم. فدعا أبو طلحة ـ رضي الله عنه ـ ربه وقال: اللهم إنك تعلم أنني أحب أن لا يخرج النبي صلي الله عليه وسلم مخرجا إلا وأنا معه ولا يرجع مرجعا إلا وأنا معه، وقد أصابني ما ترى ـ يناجي ربه سبحانه وتعالى ـ تقول أم سليم: ((فما وجدت الذي كنت أجده من قبل)) يعني هان(1/268)
عليها الطلق، ولا كأنها تطلق.
قالت أم سليم لزوجها أبي طلحة: انطلق، فانطلق، ودخل المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما وصلوا إلى المدينة وضعت. ففي هذا كرامة لأبي طلحة ـ رضي الله عنه ـ حيث خفف الله الطلق على امرأته بدعائه، ثم لما وضعت قالت أم سليم لابنها أنس بن مالك ـ وهو أخو هذا الحمل الذي ولد، أخوه من أمه ـ قالت: احتمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم نمر، فيأخذ النبي صلي الله عليه وسلم التمرة فيمضغها بفمه ثم يحنك بها الصبي، لأن في ذلك فائدتين:
الفائدة الأولى: بركة ريق النبي صلي الله عليه وسلم وكان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يتبركون بريق النبي صلي الله عليه وسلم وبعرقه، حتى كان من عادتهم أنه إذا كان في الصباح وصلى الفجر أتوا بآنية فيها ماء فغمس النبي صلي الله عليه وسلم يديه في الماء، وعرك يديه في الماء، فيأتي الصبيان بهذا الماء ثم ينطلقون به إلى أهليهم يتبركون بأثر النبي صلي الله عليه وسلم.
وكان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ إذا توضأ النبي عليه الصلاة والسلام كادوا يقتتلون على وضوئه، أي: فضل الماء، يتبركون به، وكذلك من عرقه وشعره.
حتى كان عند أم سلمة ـ إحدى زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام وإحدى أمهات المؤمنين ـ عندها جلجل من فضة، أي مثل ((الطابوق) فيه شعرات النبي صلي الله عليه وسلم يستشفون بها، أي يأتون بشعرتين أو ثلاثة(1/269)
فيضعونه في الماء ثم يحركونها من أجل أن يتبركوا بهذا الماء، لكن هذا خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام.
الفائدة الثانية من التمر الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحنكه الصبيان: أن التمر فيه خير وبركة، وفيه فائدة للمعدة، فإذا كان أول ما يصل إلى معدته من التمر كان ذلك خيرا للمعدة.
فحنكه الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ودعا له بالبركة.
والشاهد من هذا الحديث: أن أم سليم قالت لأبي طلحة: احتسب ابنك، يعنى: أصبر على ما أصابك من فقده، واحتسب الأجر على الله. والله الموفق.
45 ـ وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) (متفق عليه)
((والصرعة)) بضم الصاد وفتح الراء، وأصله عند العرب: من يصرع الناس كثيرا.
46 ـ وعن سليمان بن صرد ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت جالسا مع النبي صلي الله عليه وسلم، ورجلان يستبان، وأحدهما قد أحمر وجهه، وانتفخت أوداجه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من(1/270)
الشيطان الرجيم، ذهب منه ما يجد)) فقالوا له: أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((تعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) (متفق عليه) .
[الشَّرْحُ]
هذان الحديثان اللذان ذكرهما المؤلف في الغضب، والغضب جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم، فيستشيط غضبا، ويحتمي جسده، وتنتفح أوداجه، ويحمر وجهه، ويتكلم بكلام لا يعقله أحيانا، ويتصرف تصرفا لا يعقله أيضا.
ولهذا جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أوصني قال: ((لا تغضب)) .
وبين النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في حديث أبي هريرة هذا الذي ذكره المؤلف ـ رحمه الله ـ أن الشديد ليس بالصرعة فقال: ((ليس الشديد بالصرعة)) أي: ليس القوي في الصرعة الذي يكثر صرع الناس فيطرحهم ويغلبهم في المصارعة، هذا يقال عنه عند الناس إنه شديد وقوي، لكن النبي صلي الله عليه وسلم يقول: ليس هذا الشديد حقيقة، ((إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) أي: القوي حقيقة هو الذي يصرع نفسه إذا صارعته وغضب ملكها وتحكم فيها، لأن هذه هي القوة الحقيقة، قوة داخلية(1/271)
معنوية يتغلب بها الإنسان على الشيطان، لأن الشيطان هو الذي يلقي الجمرة في قلبك من أجل أن تغضب.
ففي هذا الحديث الحث على أن يملك الإنسان نفسه عند الغضب، وأن لا يسترسل فيه، لأنه يندم بعده، كثيرا ما يغضب الإنسان فيطلق امرأته، وربما تكون هذه الطلقة آخر تطليقة!
كثيرا ما يغضب الإنسان فيتلف ماله، إما بالحرق أو بالتكسير. كثيرا ما يغضب على ابنه حتى يضربه، وربما مات بضربه. وكذلك يغضب على زوجته مثلا فيضربها ضربا مبرحا، وما أشبه ذلك من الأشياء الكثيرة التي تحدث للإنسان عند الغضب؛ ولهذا نهي النبي صلي الله عليه وسلم أن يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان لأن الغضب يمنع القاضي من تصور المسألة، ثم من تطبيق الحكم الشرعي عليها، فيهلك ويحكم بين الناس بغير الحق.
وكذلك ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ حديث سليمان ـ رضي الله عنه ـ في رجلين أسبا عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فغضب أحدهما حتى انتفخت أوداجه واحمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) أعوذ بالله أي: أعتصم به.
من الشيطان الرجيم: لأن ما أصابه من الشيطان، وعلى هذا فيقول: المشروع للإنسان إذا غضب أن يحبس نفسه وأن يصبر، وأن يتعوذ بالله من(1/272)
الشيطان الرجيم، يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأن يتوضأ، فإن الوضوء يطفئ الغضب، وإن كان قائما فليقعد، وغن كان قاعدا فليضطجع، وإن خاف خرج من المكان الذي هو فيه، حتى لا ينفذ غضبه فيندم بعد ذلك. والله الموفق.
47 ـ وعن معاذ بن انس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كظم غيظا، وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله سبحانه وتعالى على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء)) رواه أبو داود، والترميذي وقال: حديث حسن.
48 ـ وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: ((لا تغضب)) فردد مرارا، قال ((لا تغضب)) 157) (رواه البخاري) .
49 ـ وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة)) (رواه الترميذي وقال: حديث حسن صحيح) .(1/273)
[الشَّرْحُ]
هذه الأحاديث في باب الصبر تدل على فضيلة الصبر.
أما الحديث الأول: حديث معاذ بن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله سبحانه وتعالى على رؤوس الخلائق يوم القيامة))
الغيظ: هو الغضب الشديد، والإنسان الغاضب هو الذي يتصور نفسه أنه قادر على أن ينفذ؛ لأن من لا يستطيع لا يغضب، ولكنه يحزن، ولهذا يوصف الله بالغضب ولا يوصف بالحزن؛ لأن الحزن نقص، والغضب في محله كمال؛ فإذا اغتاظ الإنسان من شخص وهو قادر على أن يفتك به، ولكنه ترك ذلك ابتغاء وجه الله، وصبر على ما حصل له من أسباب الغيظ؛ فله هذا الثواب العظيم أنه يدعى على رؤوس الخلائق يوم القيامة ويخير من أي الحور شاء.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله، أوصني. قال: ((لا تغضب)) فردد مررا فقال: ((لا تغضب)) فقد سبق الكلام عليه.
والحديث الثالث فهو أيضا دليل على أن الإنسان إذا صبر واحتسب الأجر عند الله كفر الله عنه سيئاته، وإذا أصيب الإنسان ببلاء في نفسه أو ولده أو ماله، ثم صبر على ذلك، فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لا يزال يبتليه بهذا حتى لا يكون عليه خطيئة. ففيه دليل على أن المصائب في النفس والولد والمال تكون كفارة للإنسان، حتى يمشي على الأرض وليس عليه(1/274)
خطيئة، ولكن هذا إذا صبر.
أما إذا تسخط فإن من تسخط فله السخط. والله الموفق.
50 ـ وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدينهم عمر رضي الله عنه، وكان القراء أصحاب مجلس عمر ـ رضي الله عنه ـ ومشاورته، كهولا كانوا أو شبابا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه، فاستأذن، فأذن له عمر. فلما دخل قال: هيه يا ابن الخطاب، فو الله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل، فغضب عمر ـ رضي الله عنه ـ حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (لأعراف: 199) ، وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها، وكان وقافا عند كتاب الله تعالى)) (رواه البخاري) .
[الشَّرْحُ]
ما زال المؤلف ـ رحمه الله ـ يأتي بالأحاديث الدالة على الصبر وكظم الغيظ، فذكر هذا الحديث عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أمير المؤمنين، وثالث رجل في هذه الأمة(1/275)
الإسلامية، بعد نبيها صلى الله عليه وسلم وبعد الخليفة الأول، فعمر هو الخليفة الثاني.
وكان قد اشتهر بالعدل بين الرعية، وبالتواضع للحق، حتى أن المرأة ربما تذكره بالآية في كتاب الله فيقف عندها ولا يتجاوزها، فقد قدم عليه عيينة بن حصن ـ وكان من كبار قومه ـ فقال له: هيه يا ابن الخطاب. هذه كلمة استنكار وتلوم. وقال له: إنك لا تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل.
انظر إلى هذا الرجل يتكلم عن هذا الخليفة المشهور بالعدل بهذا الكلام، مع أن عمر كما قال ابن عباس رضي الله عنه (0 كان جلساؤه القراء)) القراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم جلساؤه، سواء كانوا شيوخا أو كهولا أو شبابا، يشاورهم ويدينهم، وهكذا ينبغي لكل أمير أو خليفة أن يكون جلساؤه الصالحين؛ لأنه أن قيض له جلساء غير صالحين؛ هلك وأهلك الأمة، وإن يسر الله له جلساء صالحين نفع الله به الأمة. فالواجب على ولي الأمر أن يختار من الجلساء أهل العلم والإيمان. وكان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ القراء منهم هم أهل العلم، لأنهم لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل.
لما قال الرجل هذا الكلام لعمر: إنك لا تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل، غضب ـ رضي الله عنه ـ غضبا حتى كاد يوقع به، أي: يضر به أو يبطش به.
ولكن ابن أخي عيينة الحر بن قيس قال له: يا أمير(1/276)
المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (لأعراف: 199) ، وإن هذا من الجاهلين.
فوقف عمر ولم يتجاوزها؛ لأنه كان وقافا عند كتاب الله ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ فوقف، وما ضرب الرجل وما بطش به؛ لأجل الآية التي تليت عليه.
وانظر إلى أدب الصحابة ـ رضي الله عنهم عند كتاب الله؛ لا يتجاوزونه، إذا قيل لهم هذا قول الله وقفوا، مهما كان.
فقوله تعالى (خذ العفو) أي: خذ ما عفا من الناس وما تيسر، ولا تطلب حقك كله؛ لأنه لا يحصل لك، فخذ منهم ما عفا وسهل.
وقوله: (وأمر بالعرف) أي: اأمر بما عرفه الشرع وعرفه الناس، ولا تأمر بمنكر، ولا بغير العرف، لأن الأمور ثلاثة أقسام:
1 ـ منكر يجب النهي عنه.
2 ـ وعرف يؤمر به.
3 ـ وما ليس بهذا ولا بهذا فإنه يسكت عنه.
ولكن على سبيل النصيحة ينبغي للإنسان ألا يقول إلا قولا فيه خير، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (0 من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خير أو ليصمت)) .(1/277)
وأما لقوله: (وأعرض عن الجاهلين) فالمعني: أن من جهل عليك وتطاول عليك فأعرض عنه لاسيما إذا كان إعراضك ليس ذلا وخنوعا.
مثل عمر بن الخطاب إعراضه ليس ذلا ولا خنوعا، فهو قادر على أن يبطش بالرجل الذي تكلم، لكن امتثل هذا الأمر واعرض عن الجاهلين.
والجهل له معنيان:
أحدهما: عدم العلم بالشيء.
والثاني: السفه والتطاول، ومنه قول الشاعر الجاهلي:
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلين
أي لا يسفه علينا أحد ويتطاول علينا فنكون أشد منه، لكن هذا شعر جاهلي!! أما الأدب الإسلامي فإن الله تعالي يقول:) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت: 34) ، سبحان الله!! إنسان بينك وبينه عداوة أساء إليك، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا دفعت بالتي هي أحسن ففورا يأتيك الثواب والجزاء: أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) ، وقوله (ولى حميم) أي قريب صديق في غاية ما يكون من الصداقة والقرب، والذي يقول هو الله عز وجل مقلب القلوب، ما من قلب من قلوب بني آدم إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل يصرفه كيف يشاء
فهذا الذي كان عدوا لك ودافعته بالتي هي أحسن، فإنه ينقلب بدل العداوة صداقة (وكأنه ولي حميم) .
فالحاصل أن هذه الآية الكريمة) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ(1/278)
الْجَاهِلِينَ) (لأعراف: 199) ، لما تليت على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ وقف ولم يبطش بالرجل، ولم يأخذه على جهله.
فينبغي لنا إذا حصلت مثل هذه الأمور، كالغضب والغيظ، أن نتذكر كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أن نسير على هديهما، حتى لا نضل، فإن من تمسك بهدي الله فإن الله يقول:) فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) (طه: من الآية123) ، والله الموفق.
51 ـ وعن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا قال: تودون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم)) (متفق عليه) .
((والأثرة)) الانفراد بالشيء عمن له فيه حق.
52 ـ وعن أبي يحي أسيد بن خضير ـ رضي الله عنه ـ أن رجلا من الأنصار قال: يا رسول الله، ألا تستعملني كما استعملت فلانا؟ فقال ((إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)) (متفق عليه) .(1/279)
((وأسيد)) بضم الهمزة. ((وحضير)) بحاء مهملة مضمومة وضاد معجمة مفتوحة، والله أعلم.
[الشَّرْحُ]
هذان الحديثان: حديث عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وحديث أسيد بن حضير ـ رضي الله عنه ـ ذكرهما المؤلف في باب الصبر لأنهما يدلان على ذلك.
أما حديث عبد الله بن مسعود فأخبر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((إنها ستكون بعدي أثرة) والأثرة يعني: الاستئثار بالشيء عمن له فيه حق.
يريد بذلك صلى الله عليه وسلم أنه سيستولي على المسلمين ولاة يستأثرون بأموال المسلمين يصرفونها كما شاؤوا ويمنعون المسلمين حقهم فيها.
وهذه أثرة وظلم الولاة، أن يستأثروا بالأموال التي للمسلمين فيها الحق، ويستأثروا بها لأنفسهم عن المسلمين. ولكن قالوا: ما تأمرنا؟
قال: ((تودون الحق الذي عليكم)) يعني: لا يمنعكم استئثارهم بالمال عليكم أن تمنعوا ما يجب عليكم نحوهم من السمع والطاعة وعدم الإثارة وعدم التشويش عليهم، بل اصبروا واسمعوا وأطيعوا ولا تنازعوا الأمر الذي أعطاهم الله ((وتسألون الله الذي لكم)) أي: اسألوا الحق الذي لكم من الله، أي: اسألوا الله أن يهديهم حتى يؤدوكم الحق الذي عليهم لكم، وهذا من حكمة النبي صلي الله عليه وسلم؛ فإنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ علم أن النفوس(1/280)
شحيحة، وأنها لن تصبر على من يستأثر عليهم بحقوقهم، ولكنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أرشد إلى أمر قد يكون فيه الخير، وذلك بأن نؤدي ما علينا نحوهم من السمع والطاعة وعدم منازعة الأمر وغير ذلك، ونسأل الله الذي لنا، وذلك إذا قلنا: اللهم اهدهم حتى يعطونا حقنا، كان في هذا خير من جهتين.
وفيه دليل على نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر بأمر وقع، فإن الخلفاء والأمراء منذ عهد بعيد كانوا يستأثرون المال، فنجدهم يأكلون إسرافا، ويشربون إسرافا، ويلبسون إسرافا، ويسكنون ويركبون إسرافا، وقد استأثروا بمال الناس لمصالح أنفسهم الخاصة، ولكن هذا لا يعني أن ننزع يدا من طاعة، أو أن ننابذهم، بل نسأل الله الذي لنا، ونقوم بالحق الذي علينا.
وفيه ـ أيضا ـ استعمال الحكمة في الأمور التي قد تقتضي الإثارة، فإنه لا شك أن استئثار الولاة بالمال دون الرعية يوجب أن تثور الرعية وتطالب بحقها، ولكن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمر بالصبر على هذا، وأن نقوم بما يجب علينا، ونسأل الله الذي لنا.
أما حديث أسيد بن حضير ـ رضي الله عنه ـ فهو كحديث عبد الله بن مسعود أخبر النبي صلي الله عليه وسلم ((إنها ستكون أثرة)) ولكنه قال: ((اصبروا حتى تلقوني على الحوض)) .
يعني: اصبروا ولا تنابذوا الولاة أمرهم حتى تلقوني على الحوض، يعني أنكم إذا صبرتم فإن من جزاء الله لكم على صبركم أن يسقيكم من(1/281)
حوضه، حوض النبي صلي الله عليه وسلم، اللهم اجعلنا جميعا ممن يرده ويشرب منه.
هذا الحوض الذي يكون في يوم القيامة في مكان وزمان أحوج ما يكون الناس إليه؛ لأنه في ذلك المكان وفي ذلك الزمان، في يوم الآخرة، يحصل على الناس من الهم والغم والكرب والعرق والحر ما يجعلهم في أشد الضرورة إلى الماء، فيردون حوض النبي صلي الله عليه وسلم، حوض عظيم طوله شهر وعرضه شهر، يصب عليه ميزابان من الكوثر، وهو نهر في الجنة أعطية النبي صلي الله عليه وسلم، يصبان عليه ماء، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب من رائحة المسك، وفيه أوان كنجوم السماء في اللمعان والحسن والكثرة، من شرب منه شربة واحدة لم يظمأ بعدها أبدا. اللهم اجعلنا ممن يشرب منه.
فأرشده النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى أن يصبروا ولو وجدوا الأثرة، فإن صبرهم على ظلم الولاة من أسباب الورد على الحوض والشرب منه.
وفي هذين الحديثين: حث على الصبر على استئثار ولاة الأمور في حقوق الرعية، ولكن يجب أن نعلم أن الناس كما يكونون يولى عليهم، إذا أساؤوا فيما بينهم وبين الله فإن الله يسلط عليهم ولاتهم، كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأنعام: 129) ، فإذا صلحت الرعية يسر الله لهم ولاة صالحين، وإذا كانوا بالعكس كان الأمر بالعكس.
ـ ويذكر أن رجلا من الخوارج جاء إلى على بن أبي طالب ـ رضي الله(1/282)
عنه ـ وقال له: يا على، ما بال الناس انتقضوا عليك ولم ينتقضوا على أبي بكر وعمر؟
فقال له: إن رجال أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ أنا وأمثالي، أما أنا فكان رجالي أنت وأمثالك، أي: ممن لا خير فيه؛ فصار سببا في تسلط الناس وتفرقهم على على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وخروجهم عليه، حتى قتلوه رضي الله عنه.
ـ ويذكر أن أحد ملوك بني أمية سمع مقالة الناس فيه، فجمع أشراف الناس ووجهاءهم وكلمهم ـ وأظنه عبد الملك بن مروان ـ وقال لهم: أيها الناس، أتريدون أن نكون لكم مثل أبي بكر وعمر؟
وقالوا: نعم! فال إذا كنتم تريدون ذلك فكونوا لنا مثل رجال أبي بكر وعمر!! فالله سبحانه وتعالى حكيم، يولي على الناس من يكون بحسب أعمالهم، إن أساؤوا فإنه يساء إليهم، وإن أحسنوا أحسن إليهم.
ولكن مع ذلك لاشك أن صلاح الراعي هو الأصل، وأنه إذا صلح الراعي صلحت، لأن الراعي له سلطة يستطيع أن يعدل من مال، وأن يؤدب من عال وجار. والله الموفق.
53 ـ وعن أبي إبراهيم عبد الله بن أبي أوفى ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو، انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام فيهم فقال: ((يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا(1/283)
الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)) .
ثم قام النبي صلي الله عليه وسلم: ((اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم)) (متفق عليه) .
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن عبد الله بن أبي أوفى ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلي الله عليه وسلم كان في بعض غزواته، فانتظر حتى مالت الشمس، أي: زالت الشمس، وذلك من أجل تقبل البرودة ويكثر الظل وينشط الناس، فانتظر حتى مالت الشمس قام فيهم خطيبا.
وكان صلى الله عليه وسلم يخطب الناس خطبا دائمة ثابتة كخطبة يوم الجمعة النبي صلي الله عليه وسلم وخطبا عارضة إذا دعت الحاجة إليها قام فخطب ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهذه كثيرة جدا، فقال في جملة ما قال: ((لا تتمنوا لقاء العدو)) .
أي: لا ينبغي للإنسان أن يتمنى لقاء العدو ويقول: اللهم ألقني عدوي !
((واسألوا الله العافية)) قل: اللهم عافنا.
((فإذا لقيتموهم)) وابتليتم بذلك ((فاصبروا)) ، هذا هو الشاهد من الحديث، أي: اصبروا على مقاتلتهم واستعينوا بالله عز وجل، وقاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا.(1/284)
((واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)) نسأل الله من فضله!
فالجنة تحت ظلال السيوف التي يحملها المجاهد في سبيل الله؛ لأن المجاهد في سبيل الله إذا قتل صار من أهل الجنة النبي صلي الله عليه وسلم كما في قوله تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 169 ـ171)
والشهيد إذا قتل في سبيل الله فإنه لا يحس بالطعنة أو بالضربة، كأنها ليست بشيء، ما يحس إلا أن روحه تخرج من الدنيا إلى نعيم دائم أبدا، نسألك اللهم من فضلك.
ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)) .
وكان من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أنس بن النصير، قال: ((أني لأجد ريح الجنة دون أحد)) .
انظر كيف فتح الله مشامة حتى شم ريح الجنة حقيقة دون أحد، ثم قاتل حتى قتل ـ رضي الله عنه ـ فوجد فيه بضع وثمانون ضربة ما بين سيف، ورمح، وسهم، وغير ذلك؛ فقتل شهيدا رضي الله عنه؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)) .(1/285)
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، أهزمهم وانصرنا عليهم)) وهذا دعاء ينبغي للمجاهد أن يدعو به إذا لقي العدو.
فهنا توسل النبي- عليه الصلاة والسلام- بالآيات الشرعية والآيات الكونية.
توسل بإنزال الكتاب وهو القرآن الكريم، ـو يشمل كل كتاب، ويكون المراد به الجنس، أي: منزل الكتب على محمد وعلى غيره.
((ومجري السحاب)) : هذه آية كونية، فالسحاب المسخر بين السماء والأرض لا يجريه إلا الله عز وجل، لو اجتمعت الأمم كلها بجميع السماء والأرض لا يجريه إلا الله عز وجل، لو اجتمعت الأمم كلها بجميع آلاتها ومعداتها على أن تجري هذا السحاب أو أن تصرف وجهه ما استطاعت إلي ذلك سبيلاً، وإنما تجري هذا السحاب أو أن تصرف وجهه ما استطاعت إلي ذلك سبيلاً، وإنما يجزيه من إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون.
((وهازم الأحزاب)) : فإن الله عز وجل وحده هو الذي يهزم الأحزاب.
ومن ذلك: أن الله هزم الأحزاب في غزوة الأحزاب، والتي قد تجمع فيها أكثر من عشرة آلاف مقاتل حول المدينة ليقاتلوا الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكن الله تعالي:) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً) (الأحزاب: من الآية25) ، فأرسل عليهم ريحا وجنوداً زلزلت بهم وكفأت قدروهم وأسقطت خيامهم، وصار لا يستقر لهم قرار، ريح شديدة باردة شرقية حتى ما بقوا وانصرفوا.
قال الله عز وجل: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ) (الأحزاب: من الآية25) فالله عز وجل هو هازم الأحزاب، ليست(1/286)
قوة الإنسان هي التي تهزم، بل القوة سبب قد تنفع وقد لا تنفع، لكننا مأمورون بفعل السبب المباح، لكن الهازم حقيقة هو الله عز وجل.
ففي هذا الحديث عدة فوائد:
منها: أن لا يتمني الإنسان لفاء العدو، وهذا غير تمني الشهادة! تمني الشهادة جائز وليس منهيا عنه، بل قد يكون مأموراً به، أما تمني لقاء العدو، فلا تتمناه؛ لأن الرسول النبي صلي الله عليه وعلي آله وسلم قال: ((لا تتمنوا لقاء العدو)) .
ومنها: أن يسأل الإنسان الله العافية، لأن العافية والسلامة لا يعدلها شيء، فلا تتمن الحروب ولا المقاتلة، واسأل الله العافية والنصر لدينه، ولكن إذا لقيت العدو، فاصبر.
ومنها: أن الإنسان إذا لقي العدو فإن الواجب عليه أن يصبر، قال الله تعالي:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لأنفال: 45/46) .
ومنها: أنه ينبغي لأمير الجيش أو السرية أن يرفق بهم، وأن لا يبدأ القتال إلا في الوقت المناسب، سواء كان مناسباً من الناحية اليومية أو من الناحية الفصلية. فمثلاً في أيام الصيف لا ينبغي أن يتحرى القتال فيه؛ لأن فيه مشقة. وفي أيام البرد الشديد لا يتحر ذلك أيضاً؛ لأن في ذلك مشقة، لكن إذا أمكن أن يكون بين بين، بأن يكون في الربيع أو في الخريف، فهذا أحسن ما يكون.(1/287)
ومنها - أيضاً- أنه ينبغي للإنسان أن يدعو بهذا الدعاء: ((اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم ولنصرنا عليهم)) .
ومنها: الدعاء على الأعداء بالهزيمة؛ لأنهم أعداؤك وأعداء الله، فإن الكافر ليس عدواً لك وحدك، بل هو عدو لك ولربك ولأنبيائه ولملائكته ولرسله ولكل مؤمن. فالكافر عدو لكل مؤمن. وعدو لكل رسول، وعدو لكل نبي، وعدو لكل ملك، فهو عدو، فينبغي لك أن تسأل الله دائماً أن يخذل الأعداء من الكفار، وأن يهزمهم، وأن ينصرنا عليهم والله الموفق.(1/288)
4- باب الصدق
قال الله تعالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119) ، وقال تعالي: (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَات) (الأحزاب: من الآية35) وقال تعالي: (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ) (محمد: من الآية21) .
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالي: باب الصدق.
الصدق: معناه مطابقة الخبر للواقع، هذا في الأصل.
ويكون في الإخبار، فإذا أخبرت بشيء وكان خبرك مطابقاً للواقع قيل: إنه صدق، مثل أن تقول عن هذا اليوم: اليوم يوم الأحد، فهذا خبر صدق؛ لأن اليوم يوم الأحد.
وإذا قلت: اليوم يوم الاثنين، فهذا خبر كذب.
فالخبر إن طابق الواقع فهو صدق، وإن خالف الواقع فهو كذب. وكما يكون الصدق في الأقوال يكون أيضاً في الأفعال.
فالصدق في الأفعال: هو أن يكون الإنسان باطنه موافقاً لظاهره، بحيث إذا عمل عملاً يكون موافقاً لما في قلبه.
فالمرائي مثلا ليس بصادق؛ لأنه يظهر للناس أنه من العابدين وليس كذلك.
والمشرك مع الله ليس بصادق؛ لأنه يظهر أنه موحد وليس كذلك.
والمنافق ليس بصادق، لأنه يظهر الإيمان وليس بمؤمن.(1/289)
والمبتدع ليس بصادق، لأنه يظهر الاتباع للرسول- عليه الصلاة والسلام- وليس بمتبع.
المهم أن الصدق مطابقة الخبر للواقع، وهو من سمات المؤمنين وعكسه الكذب، وهو من سمات المنافقين، نعوذ بالله.
ثم ذكر آيات في ذلك:
فقال: وقول الله تعالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119) .
هذه الآية نزلت بعد ذكر قصة الثلاثة الذين خلفوا، وقد تخلفوا عن غزوة تبوك، ومنهم: كعب بن مالك، وقد تقدم حديثه.
وكان هؤلاء الثلاثة حين رجع النبي صلي الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وكانوا قد تخلفوا عنها بلا عذر، واخبروا النبي - عليه الصلاة والسلام-بأنهم لا عذر لهم، فخلفهم، أي: تركهم.
فمعني: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) أي: تركوا، فلم يبت في شأنهم؛ لأن المنافقين لما قدم الرسول- عليه الصلاة والسلام- من غزوة تبوك جاؤوا إليه يعتذرون إليه ويحلفون بالله إنهم معذورون، وفيهم أنزل الله هذه الآية (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (التوبة: 96) .
أما هؤلاء الثلاثة فصدقوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وأخبروه(1/290)
بالصدق بأنهم تخلفوا بلا عذر.
فأرجأهم النبي - عليه الصلاة والسلام- خمسين ليلة،) حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ) (التوبة: من الآية118) ثم انزل الله توبته عليهم.
ثم قال بعد ذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119) ، فأمر الله تعالي المؤمنين بان يتقوا الله، وأن يكونوا مع الصادقين لا مع الكاذبين.
وقال الله تعالي: (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَات) (الأحزاب: من الآية35) هذه في جملة الآية الطويلة التي ذكرها الله في سورة الأحزاب، وهي، (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات) إلي إن قال: (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَات) إلي أن قال: (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الأحزاب: من الآية35) .
فذكر الله الصادقين والصادقات في مقام الثناء، وفي بيان ما لهم من الأجر العظيم.
وقال تعالي: (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ) أي: لو عاملوا الله بالصدق لكان خيراً لهم، ولكن عاملوا الله بالكذب فنافقوا وأظهروا خلاف ما في قلوبهم، وعاملوا النبي صلي الله عليه وسلم بالكذب، فأظهروا أنهم متبعون له وهم مخالفون له. فلو صدقوا الله بقلوبهم وأعمالهم وأقوالهم لكان خيراً لهم، ولكنهم كذبوا الله فكان شرا لهم.
وقال الله: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) (الأحزاب: من الآية24) فقال: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) .(1/291)
فدل ذلك على أن الصدق أمره عظيم، وأنه محل للجزاء من الله سبحانه وتعالى.
إذن علينا أن نصدق، وعلينا أن نكون صادقين، وعلينا أن نكون صرحاء، وعلينا أن لا نخفي الأمر عن غيرنا مداهنة أو مراءاة.
كثير من الناس إذا حدث عن شيء فعله وكان لا يرضيه كذب وقال: ما فعلت.
لماذا؟ لا تستح من الخلق وتبارز الخالق بالكذب؟ ! قل الصدق ولا يهمنك أحد، وأنت إذا عودت نفسك الصدق فإنك في المستقبل سوف تصلح حالك، أما إذا أخبرت بالكذب وصرت تكتم عن الناس وتكذب عليهم، فإنك سوف تستمر في غيك، ولكن إذا صدقت فإنك سوف تعدل مسيرتك ومنهاجك.
فعليك بالصدق فيما لك وفيما عليك؛ حتى تكون مع الصادقين الذين أمرك الله أن تكون معهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119) .
54 ـ عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى(1/292)
النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا)) (متفق عليه) .
[الشَّرْحُ]
هذا الباب عقده المؤلف ـ رحمه الله ـ للصدق فقال: باب الصدق، وذكر آيات سبق الكلام عليها، أما الأحاديث فقال: عن بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة. . .))
قوله: عليكم بالصدق)) .. . أي: ألزموا الصدق، والصدق: مطابقة الخير للواقع، يعني: أن تخبر بشيء فيكون الخبر مطابقا للواقع، مثال ذلك: إذا قلت لمن سألك: أي يوم هذا؟ فقلت اليوم يوم الأربعاء (وهو يوم الأربعاء فعلا) فهذا صدق، ولو قلت يوم الثلاثاء لكان كذبا، فالصدق مطابقة الخبر للواقع، وقد سبق في حديث كعب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ وصاحبيه ما يدل على فضيلة الصدق وحسن عاقبته، وأن الصادق هو الذي له العاقبة، والكاذب هو الذي يكون عمله هباء. ولهذا يذكر أن بعض العامة قال: إن الكذب ينجي، فقال له أخوه الصدق أنجي وأنجي. وهذا صحيح.
واعلم أن الخبر يكون بالسان ويكون بالأركان.
وأما باللسان فهو القول، وأما بالأركان فهو الفعل، ولكن كيف يكون(1/293)
الكذب بالفعل؟ ! إذا فعل الإنسان خلاف ما يبطن فهذا قد كذب بفعله، فالمنافق مثلا كاذب لأنه يظهر للناس أنه مؤمن، يصلي مع الناس ويصوم مع الناس، ويتصدق ولكنه بخيل. وربما يحج، فمن رأى أفعاله حكم عليه بالصلاح، ولكن هذه الأفعال لا تنبئ عما في الباطن، فهي كذب.
ولهذا نقول: الصدق يكون بالسان، ومتى طابقت أعمال الجوارح ما في القلب فهي صدق بالأفعال.
ثم بين النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ عندما أمر بالصدق ـ عاقبته فقال: ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة)) .
البر كثرة الخير، ومنه أسماء الله: ((البر)) أي كثير الخير والإحسان عز وجل.
فالبر يعني كثرة الخير، وهو من نتائج الصدق، وقوله: ((يهدي إلى الجنة)) فصاحب البر ـ نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم ـ يهديه بره إلى الجنة، والجنة غاية كل مطلب، ولهذا يؤمر الإنسان أن يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران: 185) .
وقوله: ((إن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا)) وفي رواية: ((ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا)) .
والصديق في المرتبة الثانية من مراتب الخلق من الذين أنعم الله عليهم كما قال الله سبحانه: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ(1/294)
مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) (النساء: 69) ، فالرجل الذي يتحرى الصدق يكتب عند الله صديقا، ومعلوم أن الصديقية درجة عظيمة لا ينالها إلا أفذاذ من الناس، وتكون في الرجال وتكون في النساء، قال الله تعالى: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) (المائدة: 75) .
وأفضل الصديقين على الإطلاق أصدقهم، هو أبو بكر رضي الله عنه: عبد الله بن أبي قحافة، الذي استجاب للنبي صلي الله عليه وسلم حين دعاه إلى الإسلام، ولم يحصل عنده أي تردد وأي توقف، بمجرد ما دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام أسلم، وصدق النبي صلي الله عليه وسلم حين كذبه قومه، وصدقه حين تحدث عن الإسراء والمعراج وكذبه الناس وقالوا: كيف تذهب يا محمد من مكة إلى بيت المقدس وترجع في ليلة واحدة ثم تقول: إنك صعدت السماء؟ هذا لا يمكن. ثم ذهبوا إلى أبي بكر وقالوا له: أما تسمع ما يقول صاحبك؟ قال: ماذا قال؟ قالوا: إنه قال كذا وكذا ! قال: ((إن كان قد قال ذلك فقد صدق)) ، فمنذ ذلك اليوم سمي الصديق، رضي الله عنه.
وأما الكذب قال النبي صلي الله عليه وسلم ((وإياكم والكذب))
((إياكم)) للتحذير، أي: أحذروا الكذب، والكذب هو الإخبار بما يخالف الواقع، سواء كان ذلك بالقول أو بالفعل.
فإذا قال لك قائل: ما اليوم؟ فقلت يوم الخميس، أو يوم الثلاثاء (وهو يوم الأربعاء) فهذا كذب؛ لأنه لا يطابق الواقع؛ لأن اليوم يوم الأربعاء.(1/295)
والمنافق كاذب؛ لأن ظاهره يدل على أنه مسلم وهو كافر، فهو كاذب بفعله.
وقوله: ((وإن الكذب يهدي إلى الفجور)) الفجور: الخروج عن طاعة الله؛ لأن الإنسان يفسق ويتعدى طوره ويخرج عن طاعة الله إلى معصيته، وأعظم الفجور الكفر ـ والعياذ بالله ـ؛ فإن الكفر فجرة، كما قال الله: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (عبس: 42) ، وقال تعالى: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) (المطففين: 7 ـ 11) ، وقال تعالى: (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (الانفطار: 14) .
فالكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار نعوذ بالله منها.
وقوله: ((وإن الرجل ليكذب)) وفي لفظ ((لا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا)) الكذب من الأمور المحرمة، بل قال بعض العلماء: إنه من كبائر الذنوب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم توعده بأنه يكتب عند الله كذابا.
ومن أعظم الكذب: ما يفعله بعض الناس اليوم، يأتي بالمقالة كاذبا يعلم أنها كذب، لكن من أجل أن يضحك الناس، وقد جاء في الحديث الوعيد على هذا، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((ويل للذي يحدث(1/296)
فيكذب ليضحك القوم، ويل له، ويل له)) ، وهذا وعيد على أمر سهل عند كثير من الناس.
فالكذب كله حرام، وكله يهدي إلى الفجور، ولا يستثنى منه شيء.
ورد في الحديث، أنه يستثنى من ذلك ثلاثة أشياء: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث المرأة زوجها وحديثه إياها.
ولكن بعض أهل العلم قال: إن المراد بالكذب في هذا الحديث التورية وليس الكذب الصريح.
وقال التورية قد تسمى كذبا، كما في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: ثنتين منهن في ذات الله تعالى قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) (الصافات: 89) وقوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) (الانبياء: 63) وواحدة في شأن سارة. . .)) الحديث، وهو لم يكذب، وإنما ورى تورية هو فيها صادق.
وسواء كان هذا أو هذا؛ فإن الكذب لا يجوز إلا في هذه الثلاث على(1/297)
رأي كثير من أهل العلم، وبعض العلماء يقول: الكذب لا يجوز مطلقا: لا مزحا، ولا جدا، ولا إذا تضمن أكل مال أو لا.
وأشد شيء من الكذب أن يكذب ويحلف ليأكل أموال الناس بالباطل، مثل أن يدعي عليه بحق ثابت فينكر ويقول: والله ما لك علي حق، أو يدعي ما ليس له فيقول: لي عندك كذا وكذا، وهو كاذب، فهذا إذا حلف على دعواه وكذب؛ فإن ذلك هو اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في الإثم، ثم تغمسه في النار والعياذ بالله.
وثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: ((من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر؛ لقي الله وهو عليه غضبان)) ، فالحاصل أن الكذب حرام، ولا يجوز للإنسان أن يكذب مطلقا، لا هازلا ولا جادا، إلا في المسائل الثلاث، على خلاف بين العلماء في معنى الحديث السابق.
55 ـ عن أبي محمد الحسن بن على بن أبي طالب، رضي الله عنهما، قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة)) رواه الترمذي وقال: حديث صحيح.(1/298)
قوله: ((يريبك)) هو بفتح الياء وضمها؛ ومعناه: اترك ما تشك في حله، واعدل إلى ما لا تشك فيه.
[الشَّرْحُ]
قوله: ((دع)) أي: اترك. ((ما لا يريبك) بفتح الياء، أي: إلى الشيء الذي لا ريب فيه.
وهذا الحديث من أحاديث الأربعين النووية، وهو حديث جامع مهم، وهو باب من أبواب الورع والاحتياط.
وقد سلك أهل العلم ـ رحمهم الله ـ في أبواب الفقه هذا المسلك، وهو الأخذ بجانب الاحتياط، وذكروا لذلك أشياء كثيرة.
منها: إنسان أصابه ثوبه نجاسة، ولا يدري هل في مقدم الثوب أو في مؤخره، إن غسل المقدم عنده ريبة لاحتمال أن تكون في مؤخرة الثوب! فما هو الاحتياط؟
الاحتياط أن يغسل مقدمه ومؤخره، حتى تزول ريبته ويطمئن.
ومنها: لو شك الإنسان في صلاته: هل صلى ركعتين أو ثلاث ركعات، ولم يترجح عنده شيء؟ فهنا، إن أخذ بركعتين صار عنده ريبه فلعله نقص، وإن أخذ بالثلاث صار عنده ريبه، فلعله لم ينقص، لكن يبقى قلقا؛ فهنا يعمل بما لا ريبة فيه فيعمل بالأقل، فإذا شك هل هي ثلاث أو(1/299)
أربع، فيجعلها ثلاثا، وهكذا.
فهذا الحديث أصل من أصول الفقه، أن الشيء الذي تشك فيه اتركه إلى شيء لا شك فيه.
ثم إن فيه تربية نفسية، وهي أن الإنسان يكون في طمأنينة ليس قلق، لأن كثيرا من الناس إذا أخذ ما يشك فيه يكون عنده قلق إذا كان حي القلب، فهو دائما يفكر: لعلي فعلت. . . لعلي تركت، فإذا قطع الشك باليقين زال عنه ذلك.
قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((فإن الصدق طمأنينة)) وهذا وجه الشاهد من هذا الحديث لهذا الباب (باب الصدق) .
فالصدق طمأنينة، لا يندم صاحبه أبدا، ولا يقول: ليتني وليتني؛ لأن الصدق منجاة، والصادقون ينجيهم الله بصدقهم، وتجد الصادق دائما مطمئنا؛ لأنه لا يتأسف على شيء حصل أو شيء يحصل في المستقبل؛ لأنه قد صدق، و ((من صدق نجا)) .
أما الكذب، فبين النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه ريبة، ولهذا تجد أول من يرتاب في الكاذب نفسه، فيرتاب الكاذب: هل يصدقه الناس أو لا يصدقونه؟
ولهذا تجد الكاذب إذا أخبرك بالخبر قام يحلف بالله أنه صدق؛ لئلا يرتاب في خبره، مع أنه محل ريبة.
تجد المنافقين مثلا يحلفون بالله ما قالوا: ولكنهم في ريبة، قال الله تعالى (وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا)(1/300)
(التوبة: 74) .
فالكذب لا شك أنه ريبة وقلق للإنسان، ويرتاب الإنسان: هل علم الناس بكذبه أم لم يعلموا؟ فلا يزال في شك واضطراب.
فنأخذ من هذا الحديث أنه يجب على الإنسان أن يدع الكذب إلى الصدق؛ لأن الكذب ريبة، والصدق طمأنينة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) : والله الموفق.
56 ـ عن أبي سفيان صخر بن حرب ـ رضي الله عنه ـ في حديثه الطويل في قصة هرقل، قال هرقل: فماذا يأمركم ـ يعني النبي صلي الله عليه وسلم ـ قال أبو سفيان: قلت: يقول: ((اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق، والعفاف، والصلة)) (متفق عليه) .
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن أبي سفيان صخر بن حرب ـ رضي الله عنه ـ وكان أبو سفيان مشركا لم يسلم إلا متأخرا فيما بين صلح الحديبية وفتح مكة. وصلح الحديبية كان في السنة السادسة من الهجرة، وفتح مكة كان في السنة الثامنة من الهجرة.(1/301)
قدم أبو سفيان ومعه جماعة من قريش إلى هرقل في الشام، وهرقل كان ملك النصارى في ذلك الوقت النبي صلي الله عليه وسلم وكان قد قرأ في التوراة والإنجيل وعرف الكتب السابقة، وكان ملكا ذكيا، فلما سمع بأبي سفيان ومن معه وهم قادمون من الحجاز دعا بهم، وجعل يسألهم عن حال النبي صلي الله عليه وسلم وعن نسبه، وعن أصحابه، وعن توقيرهم له، وعن وفائه صلى الله عليه وسلم وكلما ذكر شيئا أخبروه عرف أنه النبي الذي أخبرت به الكتب السابقة، ولكنه ـ والعياذ بالله ـ شح بملكه فلم يسلم للحكمة التي أرادها الله عز وجل.
لكن سأل أبا سفيان عما كان يأمرهم به النبي صلي الله عليه وسلم فأخبره بأنه يأمرهم أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، فلا يعبدوا غير الله، لا ملكا ولا رسولا، ولا شجرا ولا حجرا، ولا شمسا ولا قمرا، ولا غير ذلك، فالعباد ة لله وحده، وهذا الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاءت به الرسل كلهم، جاؤوا بهذا التوحيد قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الانبياء: 25) .
وقال الله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل: 36) ، أي: اعبدوا الله واجتنبوا الشرك.
وهذه دعوة الرسل، فجاء النبي صلي الله عليه وسلم بما جاءت به الأنبياء من قبله بعبادة الله وحده لا شريك له.
ويقول: ((اتركوا ما كان عليه آباؤكم)) انظر كيف الصدع بالحق! كل ما كان آباؤهم من عبادة الأصنام أمرهم النبي صلي الله عليه وسلم بتركه.
وأما ما كان عليه آباؤهم من الأخلاق الفاضلة؛ فإنه لم يأمرهم بتركه.(1/302)
كما قال الله تعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا) فقال سبحانه مكذبا لهم: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) (لأعراف: 28) .
فالحاصل أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمر أمته الذين باشر دعوتهم أن يدعوا ما كان عليه آباؤهم من الإشراك بالله.
وقوله: ((وكان يأمرنا بالصلاة)) الصلاة صلة بين العبد وبين ربه، وهي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، وبها يتميز المؤمن من الكافر، فهي العهد الذي بيننا وبين المشركين والكافرين، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركه فقد كفر)) أي: كفر كفرا مخرجا عن الملة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة)) ، وهذا حد فاصل بين المؤمنين وبين الكافرين.
ولقد أبعد النجعة من قال من العلماء: إن المراد بالكفر الأصغر، كالذي في قوله صلى الله عليه وسلم: ((اثنتان في الناس هما بهم كفر)) ؛ لأنه من تدبر الحديث علم أن هذا تأويل خاطئ، وأن الصواب المتعين أن المراد بالكفر هنا الكفر الأكبر المخرج عن الملة؛ لأن الفاصل بين شيئين، بين(1/303)
الإيمان والكفر، لابد أن يميز أحدهما من الآخر، وإلا لما صلح أن يكون فاصلا، كالحدود التي بين أرضين إحداهما لزيد والأخرى لعمرو، فإن هذه الحدود فاصلة لا تدخل أرض زيد في أرض عمرو ولا أرض عمرو في أرض زيد. وكذلك الصلاة حد فاصل، من كان خارجا منها فليس دخلا فيما وراءها.
إذا الصلاة من بين سائر الأعمال إذا تركها الإنسان فهو كافر، لو ترك الإنسان صيام رمضان وصار يأكل ويشرب بالنهار ولا يبالي لم نقل إنه كافر. لكن لو ترك الصلاة قلنا إنه كافر، ولو ترك الزكاة وصار لا يزكي، يجمع الأموال ولا يزكي، لم نقل إنه كافر، لكن لو ترك الصلاة قلنا إنه كافر. ولو لم يحج مع قدرته على الحج لم نقل إنه كافر، لكن لو ترك الصلاة قلنا إنه كافر.
قال عبد الله بن شقيق رحمه الله، وهو من التابعين، وهو مشهور: ((كان أصحاب محمد صلى الله عليه الصلاة والسلام لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة)) .
إذا الصلاة التي كان الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ت يأمر بها، إذا تركها الإنسان فهو كما لو ترك التوحيد، أي: يكون كافر مشركا والعياذ بالله. وإلى هذا يشير حديث جابر الذي رواه مسلم عن جابر عن النبي صلي الله عليه وسلم(1/304)
أنه قال: ((بين الرجل والشرك والكفر ترك الصلاة)) .
وقوله: ((وكان يأمرنا بالصدق)) وهذا هو الشاهد من الحديث، كان النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يأمر أمته بالصدق، وهذا كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119) .
والصدق خلق فاضل، ينقسم إلى قسمين:
صدق مع الله، وصدق مع عباد الله، وكلاهما من الأخلاق الفاضلة. وضد الصدق الكذب، وهو الإخبار بخلاف الواقع، والكذب ذميم من أخلاق المنافقين، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((آية المنافق ثلاث)) وذكر منها: ((إذا حدث كذب)) وبعض الناس ـ والعياذ بالله ـ مبتلى بهذا المرض، فلا يستأنس ولا ينشرح صدره إلا بالكذب، يكذب دائما، إن حدثك بحديث إذا هو كاذب، إن جلس في المجلس جعل يفتعل الأفاعيل ليضحك بها الناس، وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم ((ويل لمن حدث فكذب ليضحك بها القوم. . . ويل له، ثم ويل له، ثم ويل له)) ثلاث مرات.
وقوله ((العفاف)) أي: العفة، والعفة نوعان: عفة نوعان: عفة عن شهوة الفرج، وعفة عن شهوة البطن.
أما العفة الأولى: فهي أن يبتعد الإنسان عما حرم عليه من الزنى ووسائله وذرائعه؛ لأن الله عز وجل يقول: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً(1/305)
وَسَاءَ سَبِيلاً) (الاسراء: 32) .
وأوجب على الزاني أن يجلد مائة جلدة، ويطرد عن البلد سنة كاملة إن كان لم يتزوج من قبل، أما إذا كان قد تزوج وجامع زوجته وزنى بعد ذلك فإنه يرجم رجما بالحجارة حتى يموت، كل هذا ردعا للناس عن أن يقعوا في هذه الفاحشة؛ لأنها تفسد الأخلاق والأديان والأنساب، وتوجب أمراضا عظيمة ظهرت أثارها في هذا الزمان لما كثرت فاحشة الزنى والعياذ بالله.
ومنع الله كل ما يوصل إلى الزنا ويكون ذريعة له، فمنع المرأة أن تخرج متبرجة فقال: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) (الأحزاب: 33) ، فأفضل مكان للمرأة أن تبقي في بيتها ولا تخرج إلا إذا دعت الحاجة أو الضرورة إلى ذلك، فلتخرج كما أمرها الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ تفلة، أي: غير متطيبة ولا متبرجة.
وكذلك أمر باحتجاب المرأة ـ إذا خرجت ـ عن كل رجل ليس من محارمها، والحجاب الشرعي هو أن تغطي المرأة جميع ما يكون النظر إليه ذريعة إلى الفاحشة، وأهمه الوجه، فإن الوجه يجب حجبه عن الرجال الأجانب أكثر مما يجب حجب الرأس وحجب الذراع وحجب القدم. ولا(1/306)
عبرة بقول من يقول: إنه يجوز كشف الوجه؛ لأن قوله هذا فيه شيء من التناقض.
كيف يجوز للمرأة أن تكشف وجهها، ويجب عليها عند هذا القائل أن تستر قدميها؟ أيهما أعظم فتنة وأيهما أقرب إلى الزنى: أن تكشف المرأة وجهها أو تكشف قدميها؟ كل إنسان عاقل يفهم ما يقول، يقول: إن الأقرب إلى الزنى والفتنة أن تكشف وجهها.
ومن ذلك أيضا: ألا تخرج المرأة متطيبة، فإن خرجت متطيبة فقد أتت بوسيلة الفتنة منها وبها، فيفتن الناس بها، وهي تفتتن أيضا حيث تمشي في الأسواق وهي متطيبة. نسأل الله العافية. ولا يجوز لأحد أن يمكن أهله من ذلك أبدا، وعليه أن يتفقدهم، سواء كانت الزوجة أو البنت، أو الأخت، أو الأم، او غير ذلك، ولا يجوز لأحد ان يمكن أهله من الخروج على غير الوجه الشرعي.
أما النوع الثاني من العفاف: فهو العفاف عن شهوة البطن، أي: عما في أيدي الناس، كما قال تعالى: (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) (البقرة: 273) ، يعني: من التعفف عن سؤال الناس، بحيث لا يسأل الإنسان أحد شيئا، لأن السؤال مذلة، والسائل يده دنيا، سفلى، والمعطي يده عليا، فلا يجوز أن تسأل أحدا إلا ما لابد منه، كما لو كان الإنسان مضطرا أو محتاجا حاجة شبه ضرورية، فحينئذ لا باس أن يسأل. أما بدون حاجة ملحة أو ضرورة فإن السؤال محرم، وقد وردت أحاديث في التحذير منه، حتى أخبر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن السائل يأتي(1/307)
يوم القيامة وما في وجهه مزعة لحم ـ والعياذ بالله ـ قد ظهر منه العظم أمام الناس في هذا المقام العظيم المشهود.
ثم إن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بايعوا النبي صلي الله عليه وسلم على أن لا يسألوا الناس شيئا، حتى كان سوط أحدهم يسقط من على راحلته ولا يقول لأحد: ناولني السوط، بل ينزل ويأخذ السوط.
والإنسان الذي أكرمه الله بالغنى والتعفف لا يعرف قدر السؤال إلا إذا ذل أمام المخلوق، كيف تمد يدك إلى مخلوق وتقول له أعطني وأنت مثله؟ ((وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)) .
أما الخامس، قوله: ((الصلة))
والصلة أن تصل ما أمر الله به أن يوصل من الأقارب الأدنى فالأدنى، وأعلاهم الوالدان، فإن صلة الوالدين بر وصلة. والأقارب لهم من الصلة بقدر ما لهم من القرب، فأخوك أوكد صلة من عمك، وعمك أشد صلة من عم أبيك، وعلى هذا فقس الأدنى فالأدنى.
والصلة جاءت في الكتاب والسنة غير مقيدة، وكل ما جاء في الكتاب والسنة غير مقيد فإنه يحمل على العرف، فما جرى العرف على أنه صلة فهو صلة، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان والأماكن. مثلا إذا كان قريبك مستغنيا عنك وصحيح البدن وتسمع عنه أنه لا يحتاج إلى شيء، فهذا صلته لو تحددت بشهر أو شهر ونصف وما أشبه ذلك فإن هذه صلة بعرفنا، وذلك لأن الناس ـ والحمد لله ـ قد استغنى بعضهم عن بعض، وكل واحد منهم لا يجد على الآخر، لكن لو كان هذا(1/308)
الرجل قريبا جدا كالأب، والأم، والأخ، والعم؛ فإنه يحتاج إلى صلة أكثر، وكذلك لو كان فقيرا فإنه يحتاج إلى صلة أكثر، وكذلك لو مرض فإنه يحتاج إلى صلة اكثر. وهكذا.
المهم أن الصلة لما جاءت في القرآن غير مقيدة فإنه يتبع في ذلك العرف، ويختلف هذا باختلاف الأمور التي ذكرنا: القرب، وحال الشخص، والزمان، والمكان، وما جرت العادة بأنه صلة فهو صلة؛ وما جرت العادة بأنه قطيعة فهو قطيعة.
وقد وردت النصوص الكثيرة في فضل صلة الرحم والتحذير من قطيعتها.
57 ـ عن أبي ثابت، وقيل: أبي سعيد، وقيل: أبي الوليد سهل بن حنيف، وهو بدري، رضي الله عنه، أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه)) (رواه مسلم)
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث ذكره المؤلف رحمه الله ـ في باب الصدق، والشاهد منه قوله: ((من سأل الله تعالى الشهادة بصدق)) . والشهادة مرتبة عالية بعد الصديقية، كما قال الله سبحانه: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ(1/309)
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) (النساء: 69) ، وهي أنواع كثيرة:
منها: الشهادة بأحكام الله عز وجل على عباد الله، وهذه شهادة العلماء التي قال الله فيها: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ) (آل عمران: 18) .
وقد ذهب كثير من العلماء في تفسير قوله: (وَالشُّهَدَاءِ) إلى أنهم العلماء ولا شك أن العلماء شهداء، فيشهدون بأن الله تعالى أرسل رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، ويشهدون على الأمة بأنها بلغت شريعة الله، ويشهدون في أحكام الله: هذا حلال، وهذا حرام، وهذا واجب، وهذا مستحب، وهذا مكره، ولا يعرف هذا إلا أهل العلم؛ لذلك كانوا شهداء.
ومن الشهداء أيضا: من يصاب بالطعن والبطن والحرق والغرق: المطعون والمبطون والحريق والغريق وما أشبههم.
ومن الشهداء: الذين قتلوا في سبيل الله.
ومن الشهداء: الذين يقتلون دون أموالهم ودون أنفسهم، كما قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ حينما سأله رجل وقال: ((أرأيت يا رسول الله إن جاءني رجل يطلب مالي ـ أي عنوة ـ قال: ((لا تعطيه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال قاتله، قال أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار ـ لأنه معتد ظالم ـ قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد قال: أرأيت إن قتلته؟(1/310)
قال هو في النار))
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((من قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد)) .
ومن الشهداء أيضا: من قتل ظلما، كأن يعتدي عليه إنسان فيقتله غيلة ـ ظلما ـ فهذا شهيد.
ولكن أعلى الشهداء هم الذين يقتلون في سبيل الله؛ كما قال تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران 169 ـ171) ، هؤلاء الشهداء في الآية وهم: الذين قاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا، فما قاتلوا لحظوظ أنفسهم، وما قاتلوا لأموالهم، وإنما قاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا، كما قال لك النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين سئل عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) .
هذا الميزان ميزان عدل، لا يخيس ميزان وضعه النبي صلي الله عليه وسلم يزن الإنسان به عمله.(1/311)
فمن قاتل لهذه الكلمة فهو في سبيل الله، إن قتلت فأنت شهيد، وإن غنمت فأنت سعيد، كما قال الله سبحانه: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) إما الشهادة وإما الظفر والنصر. (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا) التوبة: 52) ، أي: إما أن الله يعذبكم، ويقينا شركم، كما فعل الله تعالى بالأحزاب الذين تجمعوا على المدينة يريدون قتل الرسول عليه الصلاة والسلام، فأرسل الله عليهم ريحا وجنودا وألقى في قلوبهم الرعب، (أَوْ بِأَيْدِينَا) كما حصل في بدر، فإن الله عذب المشركين بأيدي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، هذا الذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا هو الشهيد.
فإذا سال الإنسان ربه وقال: اللهم إني أسألك الشهادة في سبيلك ـ ولا تكون الشهادة إلا بالقتال؛ لتكون كلمة الله هي العليا ـ فإن الله تعالى إذا علم منه صدق القول والنية أنزله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه.
بقي علينا الذي يقاتل دفاعا عن بلده: هل هو في سبيل الله أو لا؟
نقول: إن كنت تقاتل دفاعا عن بلدك لأنها بلد إسلامي فتريد أن تحميها من أجل أنها بلد إسلامي فهذا في سبيل الله، لأنك قاتلت لتكون كلمة الله هي العليا.
إما إذا قاتلت من أجل أنها وطن فقط فهذا ليس في سبيل الله؛ لأن الميزان الذي وضعه النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا ينطبق عليه من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، وما سوى ذلك فليس في سبيل الله، ولهذا يجب أن نصحح للإنسان نيته في القتال للدفاع عن بلده، بأن(1/312)
ينوي بذلك بأن يقاتل عن هذا البلد لأنه بلد إسلامية فيريد أن يحفظ الإسلام الذي فيه، وبهذا إذا قتل شهيدا له أجر الشهداء، وإذا غنم صار سعيدا وربح، إما ربح الدنيا وإما ربح الآخرة، وقد وتقدم الكلام على هذه المسألة. والله الموفق.
58 ـ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غزا نبي من الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبني بها، ولا أحد بنى بيوتا لم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر أولادها. فغزا، فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبا من ذلك، فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، فحبست حتى فتح الله عليه، فجمع الغنائم، فجاءت ـ يعنى النار ـ لتأكلها فلم تطعمها، فقال: إن فيكم غلولا، فليبايعني من كل قبيلة رجل، فلزقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول، فليبايعني قبيلتك، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاؤوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب، فوضعها فجاءت النار فأكلتها، فلم تحل الغنائم قبلنا، ثم أحل الله لنا الغنائم لما رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا)) (متفق عليه) .(1/313)
((الخلفات)) بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام: جمع خلفة، وهي الناقة الحامل.
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث الذي نقله المؤلف فيه آيات عظيمة، فإن النبي صلي الله عليه وسلم حدث عن نبي من الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ أنه غزا قوما أمر بجهادهم، لكنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ منع كل إنسان عقد على امرأة ولم يدخل بها، وكل إنسان بنى بيتا ولم يرفع سقفه، وكل إنسان اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر أولادها. وذلك لأن هؤلاء يكونون مشغولين بما أهمهم، فالرجل المتزوج مشغول بزوجته التي لم يدخل بها، فهو في شوق إليها، وكذلك الرجل الذي رفع بيتاً ولم يسقفه، هو ايضاً مشتغل بهذا البيت الذي يريد ان يسكنه هو وأهله، وكذلك صاحب الخلفات والغنم مشغول بها ينتظر أولادها.
والجهاد ينبغي أن يكون الإنسان فيه متفرغاً، ليس له هم إلا الجهاد، ولهذا قال الله سبحانه:) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) (الشرح: 7) أي: إذا فرغت من شؤون الدنيا بحيث لا تنشغل بها فانصب للعبادة.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا صلاة بحضرة الطعام، ولا هو يدافعه الأخبثان)) .(1/314)
فدل على أنه ينبغي للإنسان إذا أراد طاعة أن يفرغ قلبه وبدنه لها، حتى يأتيها وهو مشتاق إليها، وحتى يؤديها على مهل وطمأنينة وإنشراح صدر.
ثم إنه غزا، فنزل بالقوم بعد صلاة العصر، وقد أقبل الليل، وخاف إن أظلم الليل أن لا يكون هناك انتصار، فجعل يخاطب الشمس يقول: أنت مأمورة وأنا مأمور. لكن أمر الشمس أمر كوني وأما أمره فأمر شرعي.
فهو مأمور بالجهاد والشمس مأمورة أن تسير حيث أمرها الله عز وجل، قال الله:) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (يّصلي الله عليه وسلم: 38) منذ خلقها الله عز وجل وهي سائرة حيث أمرت لا تتقدم ولا تتأخر ولا تنزل ولا ترتفع.
قال: ((اللهم فاحبسها عنا)) فحبس الله الشمس ولم تغب في وقتها، حتى غزا هذا النبي وغنم غنائم كثيرة، ولما غنم الغنائم وكانت الغنائم في الأمم السابقة لا تحل للغزاة، بل حل الغنائم من خصائص هذه الأمة ولله الحمد، أما الأمم السابقة فكانوا يجمعون الغنائم فتنزل عليها مار من السماء فتحرقها، فجمعت الغنائم فلم تنزل النار ولم تأكلها، فقال هذا النبي: فيكم الغلول.
ثم أمر من كل قبيلة أن يتقدم واحد يبايعه على أنه لا غلول، فلما بايعوه على أنه لا غلول لزقت يد أحد منهم بيد النبي عليه الصلاة والسلام، فلما لزقت قال: فيكم الغلول- أي: القبيلة هذه- ثم أمر بأن يبايعه كل واحد على حده من هذه القبيلة، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة منهم، فقال:(1/315)
فيكم الغلول: فجاؤوا به. والغلول هو السرقة من الغنيمة، بأن تخفي شيئا منها، فإذا هم قد اخفوا مثل راس الثور من الذهب، فلما جيء به ووضع مع الغنائم أكلتها النار- سبحان الله- وهذه من آيات الله عز وجل.
ففي هذا الحديث دليل على فوائد عديدة:
منها: أن الجهاد مشروع في الأمم السابقة كما هو مشروع في هذه الأمة، وقد دل علي هذا كتاب الله في قوله:) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا) (آل عمران: من الآية146) ، وكذلك قصة طالوت وجالوت وداود - عليه الصلاة والسلام- في سورة البقرة، الآيات 246/252.
ومنها أيضاً من الفوائد: دليل على عظمة الله عز وجل، وأنه هو مدبر الكون، وأنه- سبحانه وتعالي- يجري الأمور على غير طبائعها، أما لتأييد الرسول، وأما لدفع شر عنه، وإما لمصلحة في الإسلام.
المهم أن آيات الأنبياء فيها تأييد لهم بأي وجه كانت. وذلك لأن الشمس حسب طبيعتها التي خلقها الله عليها تجري دائما ولا تقف ولا تتقدم ولا تتأخر إلا بأمر الله، لكن الله هنا أمرها أن تنحس، فطال وقت ما بين صلاة العصر إلي الغروب، حتى فتح الله على يد النبي صلي الله عليه وسلم.
وفي هذا رد على أهل الطبيعة الذين يقولون إن الأفلاك لا تتغير؟! سبحان الله من الذي خلق الأفلاك؟ الله عز وجل، فالذي خلقها قادر على تغييرها، ولكن هم يرون أن هذه الأفلاك تجري بحسب الطبيعة ولا أحد يتصرف فيها والعياذ بالله؛ لأنهم ينكرون الخالق.(1/316)
وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على أن الأفلاك تتغير بأمر الله؛ فهذا النبي دعا الله ووقفت الشمس، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب منه المشركون أن يريهم آية تدل على صدقة فأشار صلى الله عليه وسلم إلى القمر فانشق شقتين وهم يشاهدون، شقة على الصفا وشقة على المروة.
وفي هذا يقول الله عز وجل: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (القمر 1، 2) .
قالوا: هذا محمد سحرنا والقمر لم ينشق، بل محمد سحرنا، أفسد نظرنا وعيوننا، لأن الكافر ـ والعياذ بالله ـ الذي حقت عليه كلمة الله لا يؤمن، كما قال الله: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) (وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) (يونس: 96، 97) . نسأل الله لنا ولكم العافية، وأن يهدي قلوبنا.
القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ويصرفها كيف يشاء. فالذي حقت عليه كلمة العذاب لا يؤمن أبدا ولو جئته بكل آية، ولهذا طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم آية، وأراهم هذه الآية العجيبة، التي لم يقدر أحد عليها، وقالوا:) اسِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) (القمر 2، 3) .
وفي هذا الحديث من الفوائد: بيان نعمة الله على هذه الأمة، حيث أحل لها المغانم التي تنغمها من الكفار ـ وكانت حراما على من سبقا ـ لأن هذه الغنائم فيها خير كثير على الأمة الإسلامية، تساعد على الجهاد وتعينها عليه.(1/317)
فهم يغنمون من الكفار أموالا يقاتلون بها مرة أخرى، وهذا من فضل الله، كما قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي. . . وذكر منها: وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي))
وفي الحديث أيضا من آيات الله أن الذين غلوا لزقت أيديهم بأيدي النبي، وهذا خلاف العادة، ولكن الله على كل شيء قدير؛ لأن العادة إذا صافحت اليد يدا أخرى أنها تنطلق، ولكن الذين غلوا لم تنطلق أيديهم، أمسكوا بيد النبي، فهذه علامة، فالنبي لا يعلم الغيب.
ومن فوائد الحديث: أن الأنبياء لا يعلمون الغيب ـ وهو واضح ـ إلا ما أطلعهم الله عليه، أما هم فلا يعلمون الغيب.
وشواهد كثيرة فيما جرى لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام، حيث يخفى أشياء كثيرة، كما قال الله: (قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) (التحريم: 3) ، أما هو فلا يعلم الغيب.
وأصحابه ـ رضوان الله عنهم ـ يكونون معه يخفون عليه، فكان معه ذات يوم أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ وكان عليه جنابة، فانخنس ليغتسل، فقال له عندما رجع من غسل الجنابة: ((أين كنت يا أبا هريرة؟)) ، إذا فالرسول(1/318)
ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا يعلم الغيب، ولا أحد من الخلق يعلم الغيب، كما قال الله عز وجل: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً) (إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (الجن 26، 27) .
وفي هذا الحديث أيضا دليل على قدرة الله من جهة أن هذه النار لا يدرى من اين جاءت، بل تنزل من السماء، لا هي من أشجار الأرض، ولا من حطب الأرض، بل من السماء يأمرها الله فتنزل فتأكل هذه الغنيمة التي جمعت. والله الموفق.
59 ـ عن أبي خالد حكيم بن حزام، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)) (متفق عليه) .
[الشَّرْحُ]
((البيعان)) أي: البائع والمشتري، وأطلق عليهما أسم البيع من باب التغليب، كما يقال: القمران: للشمس والقمر، والعمران: لأبي بكر وعمر، فالبيعان يعني: البائع والمشتري.
وقوله: ((بالخيار)) أي: كل منهما يختار ما يريد ما لم يتفرقا، أي:(1/319)
ما دام في مكان العقد لم يتفرقا فإنهما بالخيار.
ومثاله: رجل باع على آخر سيارة بعشرة آلاف، فما داما في مكان العقد ولم يتفرقا فهما بالخيار، إن شاء البائع فسخ البيع، وإن شاء المشتري فسخ البيع، وذلك من نعمة الله ـ سبحانه وتعالى ـ وتوسيعه على العباد، لأن الإنسان إذا كانت السلعة عند غيره صارت غالية في نفسه يحب أن يحصل عليها بكل وسيلة، فإذا حصلت له فربما تزول رغبته عنها لأنه أدركها النبي صلي الله عليه وسلم فجعل الشارع له الخيار لأجل أن يتروى ويتزود بالتأني والنظر.
فما دام الرجلان ـ البائع والمشتري ـ لم يتفرقا فهما بالخيار وإن طال الوقت، حتى بقيا عشر ساعات، فلو باع عليه السلعة في أول النهار وبقيا مصطحبين إلى الظهر فهما بالخيار؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما لم يتفرقا)) وفي حديث ابن عمر: ((أو يخير أحدهما الآخر)) أي: أو يقول أحدهما للآخر: الخيار لك وحدك، فحينئذ يكون الخيار له وحده، والثاني لا خيار له. أو يقولا جميعا: لا خيار بيننا.
فالصور أربع:
1 ـ إما يثبت الخيار لهما، وذلك عند البيع المطلق الذي ليس فيه شرط، يكون الخيار لهما ـ للبائع والمشتري ـ وكل منهما له الحق أن(1/320)
يفسخ العقد.
2 ـ وإما أن يتبايعا على أن لا يكون الخيار لواحد منهما، وحينئذ يلزم البيع لمجرد العقد ولا خيار لأحد.
3 ـ وإما أن يتبايعا أن الخيار للبائع وحده دون المشتري، وهنا يكون الخيار للبائع، والمشتري لا خيار له.
4 ـ وإما أن يتبايعا على أن الخيار للمشتري والبائع لا خيار له، وحينئذ يكون الخيار للمشتري، وليس للبائع خيار. وذلك لأن الخيار حق للبائع والمشتري فإذا رضينا بإسقاطه أو رضي أحدهما دون الآخر، فالحق لهما لا يعدوهما، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((المسلمون على شروطهم إلا شرطا حرما حلالا أو أحل حراما)) .
وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما لم يتفرقا)) لم يبين التفرق، ولكن المراد التفرق بالبدن، يعني ما لم يتفرق أحدهما عن الآخر، فإن تفرقا بطل الخيار ولزم البيع.
قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((فإن صدقا وبيتا بورك لهما في بيعهما)) وهذا هو الشاهد من الحديث في الباب؛ لأن الباب باب الصدق.
قوله: ((فإن صدقا وبينا بورك في بيعهما)) . ((إن صدقا)) فيما يصفان السلعة به من الصفات المرغوبة، ((وبينا)) فيما يصفان به السلعة من(1/321)
الصفات المكروهة. فمثلا لو باع عليه هذه السيارة وقال: هذه السيارة جديدة صنع عام كذا، ونظيفة وفيها كذا وكذا، ويمدحها بما ليس فيها، نقولا: هذا كذب فيما قال: وإذا باعه السيارة وفيها عيب ولم يخبره بالعيب نقول: هذا كتم ولم يبين. والبركة في الصدق والبيان. فالفرق بين الصدق والبيان أن الصدق فيما يكون مرغوباً من الصفات، والبيان فيما يكون مكروها من الصفات، فكتمان العيب هذا ضد البيان، ووصف السلعة بما ليس فيها هذا ضد الصدق.
ومثال آخر: باع عليه شاة ويقول: هذه الشاة لبنها كثير، وفيها كذا وكذا في اللبن، وهو يكذب، فهذا ضد الصدق؛ لأنه وصف السلعة بصفات مطلوبة مرغوبة، أما لو باع عليه الشاة وفيها مرض غير بين لكنه كتمه، نقول: هذا لم يبين. وإذا وصفها بما ليس فيها من الصفات المطلوبة فهذا قد كذب ولم يصدق، فالبيان إذا للصفات المكروهة، والصدق للصفات المطلوبة، إذا وصفها بما ليس فيها من الصفات المطلوبة فهذا قد كذب ولم يصدق، وإذا كتم ما فيها من الصفات المكروهة فهذا كتم ولم يبين.
ومن هذا ما يفعله بعض الناس الآن - نسأل الله العافية- يجعل الطيب من المال فوق والرديء أسفل، فهذا لم يبين ولم يصدق أيضاً، لم يبين لأنه ما بين التمر المعيب، ولم يصدق لأنه أظهر التمر بمظهر طيب وليس كذلك.
ومن هذا ما يفعله بعض الذين يبيعون السيارات، يبيعونها في المعارض، والبائع يعلم علم اليقين أن فيها عيباً، لكن يكتمه ويقول(1/322)
للمشتري: ابصر بكل عيب فيها، فيبصر المشتري. لكن لو عين له العيب وحدده له ما اشتراها، وإنما يلبسون على الناس ويقولون لهم: فيها كل عيب ولم لأبع إليك إلا الإطارات أو مصابيح الإنارة، وهو يكذب ويدري ان فيها عيباً لكن لا يخبر المشتري، وهذا حرام على الدلال (صاحب المعرض) وصاحب السيارة، فعليهما أن يبينا للمشتري ويقولا له: فيها العيب كذا وكذا ويخبرانه في الشراء.
أما إذا كان لا يعلم العيب فلا بأس أن يبيعها، ويشترط أنه بريء من كل عيب.(1/323)
5- باب المراقبة
قال الله تعالي: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ) (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (الشعراء: 218/219) وقال الله تعالي (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) (الحديد: من الآية4) وقال تعالي: (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) (آل عمران: 5) وقال تعالي: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (الفجر: 14وقال تعالي: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر: 19) ، والآيات في الباب كثيرة معلومة.
[الشَّرْحُ]
لما ذكر المؤلف- رحمه الله - باب الصدق، وذكر الآيات والأحاديث الواردة في ذلك أعقب هذا بباب المراقبة. المراقبة لها وجهان:
الوجه الأول: أن تراقب الله عز وجل.
والوجه الثاني: أن الله تعالي رقيب عليك كما قال تعالي:) وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) (الأحزاب: من الآية52) .
أما مراقبتك لله فأن تعلم أن الله- تعالي- يعلم كل ما تقوم به من أقوال وأفعال واعتقادات، كما قال الله تعالي: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (الشعراء: 217/219) ، يراك حين تقوم، أي: في الليل حين يقوم الإنسان في مكان خال لا يطلع عليه أحد، فالله سبحانه وتعالي يراه. حتى ولو كان في أعظم ظلمة وأحلك ظلمة؛ فإن الله تعالي يراه.
وقوله: (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (الشعراء: 219) أي: وأنت تتقلب في الذين(1/324)
يسجدون في هذه الساعة، يعني تقلبك فيهم، أي: معهم، فإن الله- سبحانه وتعالي- يري الإنسان حين قيامه وحين سجوده.
وذكر القيام والسجود؛ لأن القيام في الصلاة أشرف من السجود بذكره، والسجود أفضل من القيام بهيئته.
أما كون القيام أفضل من السجود بذكره؟ فلأن الذكر المشروع في القيام هو قراءة القرآن، والقرآن افضل الكلام.
أما السجود فهو أشرف من القيام بهيئته؛ لأن الإنسان الساجد أقرب ما يكون من ربه عز وجل، كما ثبت ذلك عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)) .
ولهذا أمرنا أن نكثر من الدعاء في السجود، كذلك من مراقبتك لله، أتعلم أن الله يسمعك، فأي قول تقوله؛ فإن الله تعالي يسمعك؛ كما قال الله:) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) (الزخرف: 80) ، بلي: يعني نسمع ذلك.
ومع هذا فإن الذي تتكلم به - خيرا كان أم سرا، معلناً أم ميسراً- فإنه يكتب لك أو عليك؛ كما قال الله تبارك وتعالي:) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ: 18) فراقب هذا الأمر، وإياك أن تخرج من لسانك قولاً تحاسب عليه يوم القيامة، اجعل دائما لسانك يقول الحق أو يصمت، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر،(1/325)
فليقل خيراً أو ليصمت)) .
الثالث: أن تراقب الله في سرك وفي قلبك، انظر ماذا في قلبك من الشرك بالله والرياء، والانحرافات، والحقد على المؤمنين، وبغضاء، وكراهية، ومحبة للكافرين، وما اشبه ذلك من الأشياء التي لا يرضاها الله عز وجل؟
راقب قلبك، تفقده دائماً؛ فإن الله يقول:) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُه) (قّ: من الآية16) ، قبل أن ينطق به.
فراقب الله في هذه المواضع الثلاثة، في فعلك، وفي قولك، وفي سريرتك، وفي قلبك، حتى تتم لك المراقبة، ولهذا لما سئل النبي صلي الله عليه وسلم عن الإحسان قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) .
اعبد الله كانك تراه، كأنك تشاهده رأي عين، فإن لم تكن تراه فانزل إلي المرتبة الثانية: ((فإنه يراك)) .
فالأول: عبادة رغبة وطمع، أن تعبد الله كأنك تراه، والثاني: عبادة رهبة وخوف، ولهذا قال: ((فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) .
فلابد أن تراقب ربك، وأن تعلم أن الله رقيب عليك، أي شيء تقوله، أو تفعله، أو تضمره في سرك فالله تعالي عليم به، وقد ذكر المؤلف- رحمه الله- من الآيات ما يدل علي هذا، فبدأ بالآية التي ذكرناها؛ وهي قوله- تعالي- لنبيه محمد النبي صلي الله عليه وعلي آله وسلم:) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ(1/326)
تَقُومُ) (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الشعراء: 217-220) .
الآية الثانية التي ساقها المؤلف- رحمه الله تعالي- في باب المراقبة: قوله تعالي: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) (الحديد: من الآية4) الضمير (هو) يعود على الله، أي: الله سبحانه وتعالي مع عباده أينما كانوا: في بر أو بحر، أو جو، أو في ظلمة، أوفي ضياء. وفي أي حال هو معكم أينما كنتم. وهذا يدل على كمال إحاطته عز وجل بنا علما وقدرة وسلطانا وتدبيرا وغير ذلك. ولا نعني أنه سبحانه وتعالي معنا في نفس المكان الذي نحن فيه؛ لأن الله فوق كل سيء، كما قال الله تعالي: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (الطالب: ـه: 5) ، وقال (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) (الأنعام: من الآية18) وقال تعالي: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) (الملك: من الآية16) وقال: (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة: من الآية255) وقال (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (الأعلى: 1) ، إلي غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على أنه فوق كل شيء، لكنه عز وجل ليس كمثله شيء في جميع نعوته وصفاته، وهو على دنوه، قريب في علوه جل وعلا، كما قال الله تعالي:) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ
إِذَا دَعَانِ) (البقرة: من الآية186) ، ولكن يجب أن نعلم أنه ليس في الأرض، لأننا لو توهمنا هذا، لكان فيه إبطال لعلو الله سبحانه وتعالي. وأيضاً فإن الله سبحانه لا يسعه شيء من مخلوقاته:) وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) (البقرة: من الآية255) .
الكرسي محيط بالسماوات والأرض كلها، والكرسي هو موضع قدي الرحمن عز وجل، والعرش أعظم وأعظم وأعظم، كما جاء في الحديث: ((إن السموات السبع والأرضيين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة ألقيت في(1/327)
فلاة من الأرض)) .
حلقة كحلقة المغفر صغيرة في فلاة من الأرض، أي مكان متسع، نسبة هذه الحلقة إلي الأرض ليست بشيء.
قال: ((زإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة)) ، فما بالك بالخالق جل وعلا! الخالق - سبحانه وتعالي- لا يمكن أن يكون في الأرض، لأنه - سبحانه وتعالي- أعظم من أن يحيط به شيء من مخلوقاته) وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم) (الحديد: من الآية4) .
واعلم أن المعية التي أضافها الله إلي نفسه تنقسم بحسب السياق والقرائن. فتارة يكون مقتضاها الإحاطة بالخلق علما وقدرة وسلطانا وتدبيراً وغير ذلك، مثل هذه الآية: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم) ومثل قوله تعالي:) مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) (المجادلة: من الآية7) .
وتارة يكون المراد بها التهديد والإنذار، كما في قوله تعالي: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) (النساء: 108) ، فإن هذا تهديد وإنذار لهم أن يبينوا ما لا يرضي من القول يكتمونه عن الناس، يظنون أن الله لا يعلم،(1/328)
والله- سبحانه - عليم بكل شيء.
وتارة يراد بها النصر والتأييد والتثبيت وما أشبه ذلك، مثل قوله تعالي: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل: 128) ، وكما في قوله تعالي: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (محمد: 35) ، والآيات في هذا كثيرة.
وهذا القسم الثالث من أقسام المعية تارة يضاف إلي المخلوق بالوصف، وتارة يضاف إلي المخلوق بالعين.
فقوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل: 128) ، هذا مضاف إلي المخلوق بالوصف، فأي إنسان يكون كذلك فالله معه.
وتارة يكون مضافاً إلي المخلوق بعين الشخص، مثل قوله تعالي: (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة: من الآية40) ، فهذا مضاف إلي الشخص بعينه، وهي للرسول - عليه الصلاة والسلام- وأبي بكر - رضي الله عنه- وهما في الغار، لما قال أبو بكر للرسول النبي صلي الله عليه وعلي آله وسلم: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلي قدميه لأبصرنا، لأن قريشاً كانت تطلب الرسول النبي صلي الله عليه وعلي آله وسلم وابا بكر- رضي الله عنه- بكل جد! ما من جبل إلا صعدت عليه، وما من واد إلا هبطت فيه، وما من فلاة إلا بحثت، وجعلت لمن يأتي بالرسول- عليه الصلاة والسلام- وأبي بكر مائتي بعير، مائة للرسول، ومائة لأبي بكر، وتعب الناس وهم يطلبونها، ولكن الله معها. حتى وقفوا على الغار، يقول ابو بكر: لو نظر أحدهم إلي قدميه لأبصرنا، فيقول له الرسول عليه(1/329)
الصلاة والسلام: ((لا تحزن إن الله معنا، فما ظنك باثنين الله ثالثهما؟))
والله ظننا لا يغلبهما أحد، ولا يقدر عليهما أحد. وفعلا هذا الذي حصل؛ ما رأوهما عدم المانع، فلم هناك عش كما يقولون ولا حمامة وقعت على الغار، ولا شجرة نبتت على فم الغار، وما كان إلا عناية الله عز وجل؛ لأن الله معهما.
وكما في قوله ـ سبحانه ـ لموسى وهارون، لما أمر الله موسى وأرسله إلى فرعون هو وهارون: (قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى) (قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه 45، 46) .
الله أكبر: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) إذا كان الله معهما هل يمكن أن يضرهما فرعون وجنوده؟ لا يمكن، فهذه معية خاصة مقيدة بالعين: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) .
المهم أنه يجب علينا أن نؤمن بأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ مع الخلق، لكنه فوق عرشه ولا يساميه أحد في صفاته، ولا يدانيه أحد في صفاته، ولا يمكن أن تورد على ذهنك أو على غيرك كيف يكون الله معنا وهو في السماء؟
نقول: الله ـ عز وجل ـ لا يقاس بخلقه، مع أن العلو والمعية لا منافاة بينهما حتى في المخلوق. فلو سألنا سائل: اين موضع القمر؟ لقلنا: في السماء، كما قال الله: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) (نوح: 16) ، وإذا قال: أين موضع النجوم؟ قلنا في السماء، واللغة العربية يقول المتكلمون فيها: ما زلنا نسير والقمر معنا، وما زلنا نسير القمر والنجم معنا! مع ان القمر في السماء(1/330)
والنجم في السماء، لكن هو معنا، لأنه ما غاب عنا. فالله ـ تعالى ـ وهو على عرشه ـ سبحانه ـ فوق جميع الخلق.
وتقتضي هذه الآية بالنسبة للأمر المسلكي المنهجي بأنك إذا آمنت بأن الله معك، فإنك تتقيه وتراقبه؛ لأنه لا يخفى عليه ـ عز وجل ـ حالك مهما كنت، لو كنت في بيت مظلم ليس فيه أحد ولا حولك أحد فإن الله تعالى معك، لكن ليس في نفس المكان، وإنما محيط بك ـ عز وجل ـ لا يخفى عليه شيء من أمرك. فتراقب الله، وتخاف الله، وتقوم بطاعته، وتترك مناهيه. والله الموفق.) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ ... )
الآية الثالثة التي ساقها المؤلف رحمه الله تعالى ـ في باب المراقبة قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) (آل عمران: 5) ، (شَيْءٌ) نكرة في سياق النفي في قوله: (لا يَخْفَى) فتعم كل شيء، فكل شيء لا يخفي على الله في الأرض ولا في السماء، وقد فصل الله هذا في قوله تبارك وتعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام: 59) .
قال العلماء: إذا كانت الأوراق الساقطة يعلمها؛ فكيف بالأوراق النامية التي ينبتها ويخلقها؛ فهو بها أعلم عز وجل.
أما قوله: (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ) . (حَبَّةٍ) : نكرة في سياق النفي المؤكد بمن. إذا يشمل كل ورقة صغيرة كانت أو كبيرة.
ولنفرض أن حبة صغيرة منغمسة في طين البحر، فهي في خمس(1/331)
ظلمات:
الظلمة الأولي: ظلمة الطين المنغمسة فيه.
الثانية: ظلمة الماء في البحر.
الثالثة: ظلمة الليل.
الرابعة: ظلمة السحاب المتراكم.
الخامسة: ظلمة المطر النازل.
خمس ظلمات فوق هذه الحبة الصغيرة؛ والله عز وجل يعلمها.
وقوله:) اوَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) مكتوب، مبين، بين، ظاهر، معلوم عند رب العالمين عز وجل.
إذا من كان هذا سعة علمه فعلي المؤمن أن يراقب الله سبحانه وتعالي، وأن يخشاه في السر كما يخشاه في العلانية، لأن خشية الله في السر أقوي في الإخلاص، لأنه ليس عندك أحد؛ لأن خشية الله في العلانية ربما يقع في قلبك الرياء ومراءاة الناس.
فاحرص- يا أخي المسلم- على مراقبة الله- عز وجل - وأن تقوم بطاعته امتثالاً لأمره واجتنابا لنهيه، ونسأل الله العون على ذلك؛ لأن الله إذا لم يعنا، فإننا مخذولون؛ كما قال تعالي: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة: 5) فإذا وفق العبد للهداية والاستعانة في إطار الشريعة فهذا هو الذي أنعم الله عليه.(1/332)
) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة: 5/6) ، لابد أن تكون العبادة في نفس هذا الصراط المستقيم، وإلا كانت ضرراً على العبد. فهذه ثلاثة أمور، هي منهج الذين أنعم الله عليهم، ولهذا قال) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (: 6) (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة: 6/7) .
الآية الرابعة التي ذكرها المؤلف- رحمه الله تعالي- في باب المراقبة: قوله تعالي: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (الفجر: 14) ، وهذه الآية ختم الله بها ما ذكره من عقوبة عاد (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ) (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ) (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ) (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ) 10) (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) (فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ) (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (الفجر: 7-14) ، فبين، عز وجل- أنه بالمرصاد لكل طاغية، وأن كل طاغية فإن الله تعالي يقصم ظهره ويبيده ولا يبقي له باقية.
فعاد إرم ذات العماد، ذات البيوت العظيمة المبنية على العمد القوية، أعطاهم الله شديدة النبي صلي الله عليه وسلم فاستكبروا في الأرض وقالوا: من اشد منا قوة؟ ! فقال الله عز وجل:) ? أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة) (فصلت: من الآية15) ، فبين الله - عز وجل- أنه هو اشد منهم قوة، واستدل لذلك بدليل عقلي، وهو أن الله هو الذي خلقهم، ولهذا قال:) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ) (فصلت: من الآية15) ؛ ولم يقل: ((أو لم يروا أن الله هو اشد منهم قوة)) قال (الَّذِي خَلَقَهُمْ) ؛ لنه من المعلوم بالعقل علما ضروريا أن الخالق اقوي من المخلوق، فالذي خلقهم هو اشد منهم قوة:) وَكَانُوا بِآياتِنَا(1/333)
يَجْحَدُونَ) (فصلت: من الآية15) ، فأصابهم الله - سبحانه وتعالي - بالقحط الشديد، وأمسكت السماء ماءها فجعلوا يستقون، أي: ينتظرون أن الله يغيثهم، فأرسل الله عليهم الريح العقيم في صباح يوم من الأيام، أقبلت ريح عظيمة تحمل من الرمال والأتربة ما صار كأنه سحاب مركوم.
) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) (الاحقاف: من الآية24) ، حكمة من الله عز وجل، لم تأتهم الريح هكذا، وإنما جاءتهم وهم يؤملون أنها غيث ليكون وقعها اشد، شيء أقبل فظنوه ريحا تسقيهم فإذا هو ريح تدمرهم، فكون العذاب يأتي في حال يتأمل فيها الإنسان كشف الضرر يكون أعظم وأعظم.
مثل ما لو منيت شخصاً بدراهم ثم سحبتها منه صار اشد وأعظم:) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) (الاحقاف: من الآية24) ، لأنهم كانون يتحدون نبيهم النبي صلي الله عليه وسلم يقولون: إن كان عندك عذاب فأت به إن كنت صادقاً، فجاءتهم) رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ) والعياذ باللههاجت عليهم سبع ليال وثمانية أيام، لأنها بدأت من الصباح وانتهت بالغروب، فصارت سبع ليال وثمانية أيام حسوماً متتابعة قاطعة لدابرهم تحسمهم حسماً، حتى إنها تحمل الواحد منهم إلي عنان السماء، ثم ترمي به، فصاروا كأنهم أعجاز نخل خاوية، أي: مثل أصول النخل الخاوية ملتوين على ظهورهم- والعياذ بالله - كهيئة السجود؛ لأنهم يريدون أن يتخلصوا من هذه الريح بعد أن تحملهم وتضرب بهم الأرض، ولكن لم ينفعهم هذا.(1/334)
قال الله تعالي:) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) (فصلت: 16) والعياذ بالله.
أما) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ) (الفجر: 9) ، فهم أيضاً عندهم عتو وطغيان وتحد لنبيهم، حتى قالوا له:) كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا) (هود: من الآية62) ، أي كنا نرجوك ونظنك عاقلاً، أما الآن فأنت سفيه؛ لأنه ما من رسول أرسل إلا قال له قومه: ساحر أو مجنون، كما قال الله:) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (الذريات: 52) .
فانظرهم ثلاثة أيام:) فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) (هود: من الآية65) ، فلما تمت الثلاثة- والعياذ بالله- ارتجفت بهم الأرض، وصيح بهم؛ فاصبحوا كهشيم المحتظر، أي: مثل سعف النخل إذا طالت عليه المدة صار كأنه هشيم محترق من الشمس والهواء، صاروا كهشيم المحتظر وماتوا عن آخرهم.
أما فرعون - وما أدراك ما فرعون- فهو ذلك الرجل الجبار المتكبر، الذي طغي وأنكر الله- عز وجل - وقال لموسى: ما رب العالمين؟ وقال لقومه: ما لكم من إله غيرينعوذ بالله، وقال لهامان وزيره:) ابْنِ لِي صَرْحاً) يعني: بناء عاليا (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ) (أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى) يقوله تهكما-والعياذ بالله- (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً) (غافر: 36، 37) .(1/335)
وكذب في قوله: وإني لأظنه كاذبا؛ لأنه يعلم أنه صادق، كما قال الله تعالي في مناظر مع موسي، قال له موسي:) لَقَدْ عَلِمْت) يا فرعون) مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) (الاسراء: من الآية102) ، ما أنكر، مقال: علمتبل سكت، والسكوت في مقام التحدي والمناظرة يدل على الانقطاع وعدم الجواب.
وقال الله تعالي عنه وعن قومه:) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً) (النمل: من الآية14) .
فهم- والعياذ بالله- فرعون وجنوده- يعلمون أن موسي صادق، لكنهم مستكبرون جاحدون. ماذا حصل لهم؟
حصل لهم- والعياذ بالله- هزائم، أعظمها الهزيمة التي حصلت للسحرة
جمع جميع السحرة في بلاده باتفاق مع موسى- عليه الصلاة والسلام- وموسى هو الذي عين الموعد أمام فرعون، مع ان موسى أمام فرعون يعتبر ضعيفاً لولا أن الله نصره وأيده.
قال لهم موسى:) مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً) (طه: من الآية59) ، يوم الزينة يوم العيد، لأن الناس يتزينون فيه ويلبسون الزينة. وقوله:) وَأَنْ يُحْشَرَ) يجمع (النَّاسُ ضُحىً) لا في الليل في الخفاء. فجمع فرعون جميع من عنده من عظماء السحرة وكبرائهم، واجتمعوا بموسى- عليه الصلاة والسلام- وألقوا حبالهم وعصيهم. الحبال معروفة، والعصا معروفة، ألقوها في الأرض فصارت الأرض كلها ثعابين- حيات - تمشي،(1/336)
أرهبت الناس كلهم، حتى موسى أوجف في نفسه خيفةّفأيده الله وقال له:) لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى) (68 (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ) (طه: 68/69) .
فالقي ما في يمينه وهي العصا، عصا واحدة فقط؛ فإذا هي تلقف ما يأفكون، كل الحبال والعصي أكلتها هذه العصا، سبحان الله العظيموأنت تعجب: أين ذهبت العصا؟ ليست كبيرة حتى تأكل كل هذا، لكن الله عز وجل على كل شيء قدير، فالتهمت الحبال والعصي، وكأن السحرة أعلم الناس بالسحر بلا شك، فعرفوا أن الذي حصل لموسى وعصاه ليس بسحر، وأنه آية من آيات الله عز وجل، فألقي السحرة ساجدين.
وانظر إلي كلمة (ألقي) كأن هذه السجود جاء اندفاعاً بلا شعور، ما قال: سجدواألقوا ساجدين، كأنهم من شدة ما رأوا اندفعوا بدون شعور ولا اختبار؛ حتى سجدوا مؤمنين بالله ورسوله.
(قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) فتوعدهم فرعون واتهمهم وهو الذي جاء بهم، فقال: (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) (طه: من الآية71) ، سبحان الله! علمهم السحر وأنت الذي أتيت بهم؟! سبحان الله! لكن المكابرة تجعل المرء يتكلم بلا عقل.
قال:) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) أقطع اليد اليمني والرجل اليسري.) وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى) (طه: من الآية71) ، ما الذي قالوا له؟
) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَات) ما يمكن أن نقدمك على ما رأينا من البينات! أنت كذاب لست برب، الرب رب موسى وهارون.(1/337)
) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ) (طه: من الآية72) انظر إلي الإيمان إذا دخل القلوب! رخصت عليهم الدنيا كلها (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاض) أي: افعل ما تريد) إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) إذا قضيت علينا أن نفارق الدنيا (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) لأنه قد أكرهمم لكي يأتوا ويقابلوا موسى (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه: من الآية73) ، فالإيمان إذا دخل القلب، واليقين إذا دخل القلب لا يفتنه شيء، وإلا فإن السحرة جنود فرعون، كانوا في أول النهار سحرة كفرة، وفي آخر النهار مؤمنين برره، يتحدون فرعون لما دخل في قلبهم من الإيمان، فهذه هزيمة نكراء لفرعون، لكن مع ذلك ما زال في طغيانه.
وفي النهاية جمع الناس على أنه سيقضي على موسى فحرج موسى في قومه هرباً منه متجهاً بأمر الله إلي البحر الأحمر ويسمي ((بحر القلزم)) متجهاً إليه مشرقاً، فتكون مصر خلفه غرباً، فلما وصل إلي البحر وإذا فرعون بجنوده العظيمة وجحافله القوية خلفهم والبحر أمامهم،) قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) البحر أمامنا وفرعون وجنوده خلفنا، اين نفر؟ (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء: 62) ، اللهم صل وسلم عليه، هكذا يقين الرسل- عليهم الصلاة والسلام- في المقامات الحرجة الصعبة، تجد عندهم من اليقين ما يجعل الأمر العسير- بل الذي يظن أنه متعذر- أمرا يسيرا سهلا (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) فلما فوض الأمر إلي الله - سبحانه وتعالي- أوحى الله إليه: أن اضرب بعصاك البحر الأحمر. فضرب البحر بعصاة ضربة واحدة فانفلق البحر اثني عشر طريقاً؛ لأن بني إسرائيل كانوا(1/338)
اثنتي عشرة قبيلة، اثني عشر سبطاً، والسبط بمعني القبيلة عند العرب.
فضربهن وبلحظة يبس) فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى) (طه: من الآية77) ، فعبر موسى بقومه في أمن وأمان؛ الماء بين هذه الطرق مثل الجبال كأنه جبل واقف، الماء جوهر سيال، لكنه بأمر الله صار واقفا كالجبال.
حتى إن بعض العلماء قال: إن الله- سبحانه وتعالي - جعل في كل طود من هذه المياه، جعل فيها فرجا حتى ينظر بنو إسرائيل بعضهم إلي بعض؛ لئلا يظنوا أن أصحابهم قد غرقوا وهلكوا، من أجل أن يطمئنوا.
فلما انتهي موسى وقومه خارجين دخل فرعون وقومه، فلما تكاملوا أمر الله البحر أن يعود على حاله فانطبق عليهم، وكان بنو إسرائيل من شدة خوفهم من فرعون وقع في نفوسهم أن فرعون لم يغرق، فأظهر الله جسد فرعون على سطح الماء، قال:) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) (يونس: من الآية92) ، حتى يشاهدوه بأعينهم، واطمانوا أن الرجل قد هلك.
فتأمل هؤلاء الأمم الثلاث الذين هم في غاية الطغيان، كيف أخذهم الله- عز وجل- وكان لهم بالمرصاد، وكيف أهلكوا بمثل ما يفتخرون به.
فقوم عاد قالوا: من اشد منا قوة؛ فأهلكوا بالريح، وهي أصلاً لطيفة وسهلة.
وقوم صالح: أهلكوا بالرجفة والصيحة.
وفرعون أهلك بالماء والغرق، وكان يفتخر بالماء، يقول لقومه: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ) (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ(1/339)
هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) يعني موسى (وَلا يَكَادُ يُبِينُ) (فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) (الزخرف: 51-53) ، فأغرقه الله تعالي بالماء.
فهذه جملة ما تشير إليه هذه الآية الكريمة: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (الفجر: 14) .
الآية الخامسة: قوله عز وجل: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر: 19) ، يعلم يعني الله عز وجل (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ) وخائنة الأعين خيانتها. فالخائنة هنا مصدر كالعاقبة والعافية وما أشبهها.
ويجوز أن تكون اسم فاعل على أنها من خان يخون؛ فيكون من باب إضافة الصفة إلي موصوفها.
على كل حال هذه مسألة نحوية ما تهم هنا، المهم أن للأعين خيانة، وذلك أن الإنسان ينظر إلي الشيء ولا تظن أنه ينظر إليه نظراً محرماً، ولكن الله عز وجل يعلم أنه ينظر نظراً محرماً.
كذلك ينظر إلي الشخص نظر كراهية، والشخص المنظور لا يدري أن هذا نظر كراهية، ولكن الله تعالي يعلم أنه ينظر نظر كراهية، كذلك ينظر الشخص إلي شيء محرم ولا يدري الإنسان الذي يري هذا الناظر أنه ينظر إلي الشيء نظر إنكار رضا، ولكن الله سبحانه هو يعلم ذلك- فهو- سبحانه وتعالي_ يعلم خائنة الأعين.
ويعلم أيضاً ما تخفي الصدور أي: القلوب؛ لأن القلوب في الصدور، والقلوب هي التي يكون بها الفهم، ويكون(1/340)
بها التدبير، كما قال الله:) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) (الحج: من الآية46) (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج: من الآية46) .
سبحان الله! كأن هذه الآية تنزل على حال الناس اليوم، بل حال الناس في القديم. يعني: هل العقل في الدماغ أو العقل في القلب؟
هذه مسألة أشكلت على كثير من النظار الذين ينظرون إلي الأمور نظرة مادية لا يرجعون فيها إلي قول الله تعالي وقول رسوله صلي الله عليه وسلم.
وإلا فالحقيقة أن الأمر فيها واضح أن العقل في القلب، وأن القلب في الصدر) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) وقال (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج: من الآية46) ولم يقل القلوب التي في الأدمغة قال (الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ، فالأمر فيه واضح جداً أن العقل يكون في القلب، ويؤيد هذا قول النبي صلي الله عليه وسلم.: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب)) .
فما بالك بأمر شهد به كتاب الله، والله تعالي هو الخالق العالم بكل شيء، وشهدت به سنة الرسول صلي الله عليه وسلم!
إن الواجب علينا إزاء ذلك أن نطرح كل قول يخالف كتاب الله تعالي(1/341)
وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم وأن نجعله تحت أقدامنا، وأن لا نرفع به رأساً.
إذا: القلب هو محل العقل ولاشك، ولكن الدماغ محل التصور، ثم إذا تصورها وجهزها بعث بها إلي القلب، ثم القلب يأمر أو ينهي النبي صلي الله عليه وسلم فكأن الدماغ (سكرتير) يجهز الأشياء ثم يدفعها إلي القلب، ثم القلب يوجه، يأمر أو ينهي، وهذا ليس بغريب) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذريات: 21) ، وفي هذا الجسم أشياء غريبة تحار فيها العقول، فليس بغريب أن الله- سبحانه وتعالي- يجعل التصور في الرأس، فيتصور الدماغ وينظم الأشياء، حتى إذا لم يبق إلا الأوامر أرسلها إلي القلب، ثم القلب يحرك، يأمر أو ينهي.
لأن النبي- عليه الصلاة والسلام- قال: (0 إذا صلحت صلح الجسد)) فلولا أن الأمر للقلب ما كان إذا صلح صلح الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد كله.
إذاً: فالقلوب هي محل العقل والتدبير للشخص، ولكن لا شك أن لها اتصالا بالدماغ، ولهذا إذا اختل الدماغ فسد التفكير وفسد العقل! فهذا مرتبط بهذا، لكن العقل المدبر في القلب، والقلب في الصدر) وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج: من الآية46) .
* * *(1/342)
60- وأما الأحاديث: فالأول: عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: ((بينما نحن جلوس عند رسول الله صلي الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يري عليه ار السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلي النبي صلي الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلي ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد ان لا إله الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت. فعجبنا يسأله ويصدقه! قال: أخبرني عن الإيمان قال: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت: قال فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة. قال: ما المسؤول عنها باعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن تري الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. ثم انطق فلبتث ملياً، ثم قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)) (رواه مسلم) .
ومعني ((تلد الأمة ربتها)) أي: سيدتها ومعناه: أن تكثر السراري(1/343)
حتى تلد الأمة السرية بنتا لسيدها، وبنت السيد في معني السيد، وقيل غير ذلك. ((والعالة)) الفقراء وقوله: ((مليا)) أي: زمان طويلاً، وكان ذلك ثلاثا.
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف - رحمه الله- حديث عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - هذا الحديث العظيم، الذي قال فيه النبي صلي الله عليه وسلم لعمر في آخره: ((أتدري من السائل)) قال: الله ورسوله أعلم. قال: ((فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)) إذا ديننا في هذا الحديث؛ لأنه مشتمل على كل الدين، على الإسلام، والإيمان، والإحسان.
قوله: ((بينما)) هذه ظرف تدل عل المفاجأة، ولهذا تأتي بعدها ((إذا)) المفيدة للمفأجاة، وكان الصحابة- رضي الله عنهم- يجلسون عند النبي صلي الله عليه وسلم كثيراً، لأن الرسول - عليه الصلاة والسلام- لا يغيب عن أصحابه أو أهله:
إما في البيت: في شؤون بيته- صلوات الله وسلامه عليه- يحلب الشاة ويرقع
الثوب ويخصف النعل.
وإما مع أصحابه في المسجد، وإما ذاهبا إلي عيادة مريض، أو زيارة قريب، أو
غير ذلك من الأمور التي لا يمضي منها لحظة إلا وهو في طاعة الله عليه الصلاة والسلام، قد حفظ الوقت، وليس مثلنا نضيع الأوقات. والغريب أن أغلي شيء عند الإنسان هو الوقت، وهو أرخص شيء عند الإنسان، قال الله:) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ)(1/344)
(لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ) (المؤمنون: 99، 100) ، حتى لا يضيع على الوقت. ما يقول: لعلي أتمتع في المال، أو أتمتع بالزوجة، أو أتمتع في المركوب، أو أتمتع في القصور، بل يقول: لعلي اعمل صالحا فيما تركت.
مضي على الوقت وما استفدت منه، فالوقت هو أغلي شيء، لكن هو أرخص شيء عندنا الآن، نمضي أوقاتنا كثيرة بغير فائدة، بل نمضي أوقاتنا كثرية فيما يضر، ولست أتحدث عن رجل واحد، بل عن عموم المسلمين. اليوم- مع الأسف الشديد- أنهم في سهو ولهو وغفلة، ليسوا جادين في أمور دينهم، أكثرهم في غفلة وفي ترف، ينظرون ما يترف به أبدانهم وإن أتلفوا أديانهم. فالرسول - عليه الصلاة والسلام- كان دائما في المصالح الخاصة أو العامة، عليه الصلاة والسلام.
فبينما الصحابة عنده جلوس، إذا طلع عليهم رجل ((شديد بياض الثياب النبي صلي الله عليه وسلم شديد سواد الشعر، لا يري عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد)) وهذا غريب! ليس مسافرا حتى نقول إنه غريب عن البلد، ولا يعرف فنقول إنه من أهل البلد.
فتعجبوا منه، ثم هذا الرجل الذي جاء نظيفاً: شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، أي: شاب لا يري عليه اثر السفر، لأن المسافر- لا سيما في ذلك الوقت- يكون أشعث أغبر؛ لأنهم يمشون على الإبل، أو على الإقدام، والأرض غير مسفلتة، كلها غبار، لكن هذا لا يري عليه اثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فهو غريب ليس بغريب!(1/345)
حتى جاء وجلس إلي النبي- عليه الصلاة والسلام- وهذا الرجل هو جبريل- عليه الصلاة والسلام- أحد الملائكة العظام، بل هو أفضل الملائكة فيما نعلم؛ لشرف عمله؛ لأنه يقوم بحمل الوحي من الله إلي الرسل عليهم الصلاة والسلام، فهو ملك عظيم، رآه النبي صلي الله عليه وسلم على صورته التي خلق عليها مرتين: مرة في الأرض، ومرة في السماء.
_ مرة في الأرض وهو في غار حراء، رآه وله ستمائة جناح، قد سد الأفق - كل الأفق _ أمام الرسول - عليه الصلاة والسلام- لا يري السماء من فوق، لأن هذا الملك قد سد الأفق؛ لأنه له ستمائة جناح.
سبحان الله!! لأن الله يقول في الملائكة:) جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ) (فاطر: من الآية1) ، لهم أجنحة يطيرون بها طيراناً سريعاً.
والمرة الثانية عند سدرة المنهي. قال الله تبارك وتعالي:) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)
(لنجم: 4) (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى) (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى) (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (لنجم: 4/9) .
هذا في الأرض، دنا جبريل من فوق فتدلي، أي: قرب إلي محمد صلي الله عليه وسلم فأوحي إلي عبده- الرسول عليه الصلاة والسلام- ما أوحاه من وحي الله الذي حمله إياه.
أما الثانية: فقال:) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى) (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى) (لنجم: 13/14) ،
فهذا جبريل. ولكن الله جعل للملائكة قدرة على أن يتشكلوا بغير أشكالهم الأصلية، فها هو قد جاء في صورها هذا الرجل.
قوله: ((حتى جلس إلي النبي صلي الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلي ركبتيه)) أي أسند(1/346)
ركبتي جبريل إلي ركبتي النبي صلي الله عليه: ((ووضع كفيه علي فخذيه)) قال العلماء: وضع كفيه على فخذي نفسه، لا علي فخذي النبي صلي الله عليه وسلم، وذلك من كمال الأدب في جلسة المتعلم أمام المعلم، بأن يجلس بأدب واستعداد لما يسمع، واستماع لما يقال من الحديث.
جلس هذه الجلسة ثم قال: ((يا محمد أخبرني عن الإسلام)) - ولم يقل: يا رسول الله أخبرني- كصنيع أهل البادية الأعراب؛ لأن الأعراب إذا جاؤوا إلي النبي صلي الله عليه وسلم يقولون: يا محمد.
أما الذين سمعوا أدب الله عز وجل لهم فإنهم لا يقولون: يا محمد، وإنما يقولون: يا رسول الله، لأن الله تعالي قال في كتابه:) لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) (النور: من الآية63) ، وهذا يشمل دعاءه عند النداء باسمه، ويشمل دعاءه إذا أمر أو نهي، فلا نجعل أمره كأمر الناس: إن شئنا امتثلنا وإن شئنا تركنا، ولا نجعل نهيه كنهي الناس: إن شئنا تركنا وإن شئنا فعلنا.
كذلك عندما ندعوه، لا ندعوه كدعاء بعضنا بعضا فنقول: يا فلان يا فلان، مثلما تنادي صاحبك، وإنما تقول: يا رسول الله، لكن الأعراب- لبعدهم عن العلم وجهل أكثرهم- إذا جاؤوا ينادونه باسمهن فيقولون: يا محمد.
قال: ((أخبرني عن الإسلام)) أي: ما هو الإسلام؟ قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)) .
هذا الركن الأول: تشهد بلسانك نطقاً، وبقلبك إقراراً: أن لا إله إلا(1/347)
الله، يعني: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالي.
وألوهية الله فرع عن ربوبيته؛ لأن من تاله لله أقر بالربوبية، إذ إن المعبود لابد أن يكون رباً، ولابد أن يكون أيضاً كامل الصفات، ولهذا تجد الذين ينكرون صفات الله- عز وجل- عندهم نقص عظيم في العبودية، لنهم يعبدون من لا شيء.
فالرب لابد أن يكون كامل الصفات، حتى يعبد بمقتضي هذه الصفات، ولهذا قال الله تعالي:) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) (لأعراف: من الآية180) ، ((أدعوه)) أي: تعبدوا له وتوسلوا بأسمائه إلي مطلوبكم. فالدعاء هنا يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة.
المهم أنه قال: ((أن تشهد أن لا إله إلا الله)) ، فلا له من الخلق، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا شمس، ولا قمر ولا سجود ولا حجر، ولا بر، ولا بحر، ولا ولي، ولا صديق، ولا شهيد،، ولا إله إلا الله وحده.
وهذه الكلمة أرسل الله بها جميع الرسل، فقال الله تعالي:) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الانبياء: 25) وقال تعالي:) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل: من الآية36) أي: ابتعدوا عن الشرك.
فهذه الكلمة إذا حققها الإنسان وقالها من قلبه ملتزماً بما تقضيه من الإيمان والعمل الصالح، فإنه يدخل الجنة بها، قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل(1/348)
الجنة)) ، جعلنا الله وإياكم منهم.
وقوله: ((وأن محمداً رسول الله)) أي: تشهد بأن محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي العربي رسول الله، ولم يذكر من سواه من الرسل؛ لأنه نسخ جميع الأديان كل ما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم فإنه ناسخ لما قبله من الأديان.
فكل الأديان باطلة ببعثه الرسول عليه الصلاة والسلام، فدين اليهود باطل، ودين النصاري باطل غير مقبول عند الله؛ لقول الله تعالي:) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران: 85) .
يتعبون في عبادتهم التي ابتدعوها تعبا عظيماً، وينصبون نصبا عظيماً، وكل هذا هباء لا ينفعهم بشيء، لن تقبل منهم.
وقوله: (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) فلو ربحوا في الدنيا ما ربحوا في الآخرة؛ لأن أديانهم باطلة، فالذين يدعون الآن من النصارى أنهم ينتسبون إلي عيسي بن مريم - عليه الصلاة والسلام- هم كذابون، والمسيح بريء منهم، ولو جاء المسيح لقاتلهم، وسنزل في آخر الزمان ولا يقبل إلا الإسلام. فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية فلا يقبلها من أحد، لا يقبل إلا الإسلام.
وقوله: ((وأن محمداً رسول الله)) أي: إلي الخلق كافة، كما قال الله:(1/349)
) تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) (الفرقان: 1) ، للعالمين كلهم.
وقال الله تعالي:) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (لأعراف: 158) ، فهو رسول إلي جميع الخلق.
وقد أقسم صلي الله عليه وسلم: ((أنه لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به؛ إلا كان من أصحاب النار)) .
ولذلك نحن نؤمن ونعتقد بأن جميع النصارى واليهود وغيرهم من الكفرة كلهم من أصحاب النار، لأن هذه شهادة النبي عليه الصلاة والسلام، والجنة حرام عليهم، لأنهم كفرة أعداء لله تعالي ولرسله عليهم الصلاة والسلام، أعداء لإبراهيم، ولنوح، ولمحمد، ولموسى، ولعيسى، ولجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام.
وقوله: ((أن تشهد أن لا إله إلا الله)) مع قوله: ((وأن محمداً رسول الله)) هذان جمعا شرطي العبادة، وهما: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله صلي الله عليه وسلم؛ لأن من قال: لا إله إلا الله أخلص لله، ومن شهد أن محمداً رسول الله(1/350)
اتبع رسول الله ولم يتبع سواه.
ولهذا عد هذان ركنا واحدا من أركان الإسلام، لأنهما يعودان إلى شئ واحد، وهو تصحيح العبادات، لان العبادات لا تصح إلا بمقتضى هاتين الشهادتين: شهادة أن لا اله إلا الله التي يكون بها الإخلاص، وان محمد رسول الله التي يكون بها الاتباع.
وقوله: ((وان محمدا رسول الله)) يجب أن تشهد بلسانك، مقرا بقلبك، أن محمدا رسول اله، أرسله إلى العالمين جميعا رحمة بالعالمين، كما قال الله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107) وأن تؤمن بان خاتم النبيين، كما قال الله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) (الأحزاب: من الآية40) فلا نبي بعده، ومن ادعى النبوة بعده فهو كافر كاذب، ومن صدقه فهو كافر. ويلزم من هذه الشهادة أن تتبعه في شرعيته وسنته، وأن لا تبتدع في دينه ما ليس منهن ولهذا نقول: أن أصحاب البدع الذين يبتدعون في شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم ما ليس منها انهم لم يحققوا شهادة: شهادة أن محمدا رسول الله! حتى وأن قالوا أننا نحبه ونعظمه، فانهم لو أحبوه تمام المحبة وعظموه تمام التعظيم ما تقدموا بين يديه، ولا ادخلوا في شريعته ما ليس منها. فالبدعة مضمونها حقيقة القد لرسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما يقول هذا المبتدع: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكمل الدين ولا الشريعة، لان هناك دينا وشريعة ما جاء بها! ثم في البدعة محذور
آخر، وهو عظيم جدا، وهو انه يتضمن تكذيب(1/351)
قول الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (المائدة: من الآية3) لان الله تعالى إذا كان اكمل الدين، فمعناه انه لا دين بعدما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء المبتدعون شرعوا في دين الله ما ليس منه، من تسبيحات وتهليلات وحركات وغير ذلك، فهم في الحقيقة مكذبون لمضمون قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (المائدة: من الآية3) وكذلك قادحون برسول الله صلى الله عليه وسلم متهمون إياه بأنه لم يكمل الشريعة للبشر، وحاشاه من ذلك. ومن شهادة أن محمدا رسول الله أن تصدقه فيما اخبره به، فكل ما صح عنه وجب عليك أن تصدق به، وأن لا تعارض هذا بعقلك وتقديراتك وتصوراتك، لأنك لو لم تؤمن لا بما صدق به عقلك لم تكن مؤمنا حقيقة، بل متبعا لهواك ولا أخذا بهداك، الذي يؤمن بالرسول عليه الصلاة والسلام_ حقا يقول فيما صح عنه من الأخبار: سمعنا وأمنا وصدقنا. إما أن يقول: كيف كذا؟ كيف يكون كذا؟ وهذا غير مؤمنا حقيقة، ولذلك يخشى على أولئك القوم الذين يحكمون عقولهم فيما اخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام، لانهم أن كانوا لا يقبلون إلا بما
شهدت به عقولهم_ وعقولهم لا شك إنها قاصرة_ فانهم لم يؤمنوا حقا برسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشهدوا انه رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه الحقيقة، عندهم من ضعف هذه الشهادة بمقدار ما عندهم من التشكك فيما اخبر به. كذلك من تحقيق شهادة: ((أن محمدا رسول الله)) إلا تغلو فيه وتنزله بمنزلة اكبر من المنزلة التي أنزله الله إياها، مثل أولئك الذين يعتقدون أن(1/352)
الرسول صلى الله عليه وسلم يكشف الضر، حتى انهم عند قبره يسألون النبي صلي الله عليه وسلم مباشرة أن يكشف الضر عنهم، وان يجلب النفع لهم. هذا غلو في الرسول _ عليه الصلاة والسلام _ وشرك بالله عز وجل!! لا يقدر أحد علي ذلك إلا الله سبحانه وتعالي. والنبي صلي اله عليه وسلم بعده موته لا يملك لنفسه شيئا أبدا. حتى الصحابة لما أصابهم القحط في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه_واستسقوا في مسجد الرسول_ عليه الصلاة والسلام_ ما جاءوا إلى القبر يسألون الرسول أو يقولون ادع لنا اله أو اشفع لنا عند الله حتى ينزل الغيث. قال عمر يدعو الله: ((اللهم أنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلي الله عليه وسلم فتسقينا، وأنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقينا))
ثم أمر العباس أن يقوم ويدعوا الله تعالي بإنزال الغيث. لماذا؟ لان النبي صلي الله عليه وسلم ميت لا عمل له بعد موته، هو الذي قال: ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله الآمن ثلاث: الآمن صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) . فالنبي صلي الله عليه وسلم بنفسه لا يملك شيئا، لا يملك أن يدعو لك وهو في قبره أبدا. فمن أنزله فوق منزلته التي أنزله الله فانه لم يحقق شهادة
((أن محمدا(1/353)
رسول الله)) بل شهد أن محمدا رب مع الله نعوذ بالله، لان معني كونه رسولا انه عبد لا يعبد ورسول لا يكذب، نحن في صلاتنا كل يوم نقول: ((اشهد أن لا اله إلا الله وان محمدا عبده ورسوله)) . فهو عبد كغيره من العباد مبوب، والله هو المعبود عز وجل وهو الرب. إذا نقول لهؤلاء الذين نجدهم يغلون برسول الله صلي الله عليه وسلم وينزلونه فوق منزلته التي أنزله الله، نقول لهم: أنكم لم تحققوا لا شهادة أن لا اله إلا الله، ولا شهادة أن محمدا رسول الله. فالمهم أن هاتين الشهادتين عليهما مدار عظيم، كل الإسلام فهو عليهما. لذلك لو أراد الإنسان أن يتكلم علي ما يتعلق بهما منطوقا ومفهوما ومضمونا وإشارة لاستغرق أياما! ولكن نحن أشرنا إشارة إلى ما يتعلق بهما، ونسأل الله تعالي أن يجعلنا وإياكم ممن يحققهما عقيدة، وقولا، وفعلا،
الركن الثاني: أقام الصلاة: الصلاة سميت صلاة لأنها صلة بين العبد وبين الله، فان الإنسان إذا قام يصلي فانه يناجي ربه ويحاوره، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن أبي هريرة_ رضي الله عنه _ عن النبي صلي الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى قال: ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سال، فإذا قال: ((الحمد لله رب العالمين) قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال:(1/354)
(الرحمن الرحيم) قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال، (ملك يوم الدين) قال مجدني عبدي، فإذا قال: (إياك نعبد وإياك نستعين) قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سال، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير الغضوب عليهم ولا الضالين) قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سال)) . فتأمل محاورة ومناجاة بين الإنسان وبين ربه، ومع ذلك فالكثير منا في هذه المناجاة معرض بقلبه، تجده يتجول يمينا وشمالا، مع انه يناجي من يعلم ما في الصدور عز وجل. وهذا من جهلنا وغفلتنا. فالواجب علينا_ ونسأل الله أن يعيننا عليه_ أن تكون قلوبنا حاضرة في حال الصلاة حتى تبرا ذ متنا وحتى ننتفع بها، لان الفوائد المترتبة علي الصلاة إنما تكون علي صلاة كاملة،
ولهذا كلنا يقرا قول الله عز وجل: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت: من الآية45 ومع ذلك يأتي الإنسان ويصلي فلا يجد في قلبه إنكارا لمنكر، أو عرفا لمعروف زائدا عما سبق حين دخوله في الصلاة. يعني لا يتحرك القلب ولا يستفيد، لان الصلاة ناقصة، هذه الصلاة هي اعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين. وقد فرضها الله_ عز وجل_ علي نبيه محمد صلي الله عليه وسلم بدون واسطة من الله إلى الرسول، وفرضها عليه في اعلي مكان وصله بشر، وفرضها عليه في(1/355)
أشرف ليلة كانت لرسول الله صلي الله عليه وسلم وهي ليلة المعراج، وفرضها عليه خمسين صلاة في اليوم، فهذه أربعة أمور:
أولا: لم يكن فرضها كفرض الزكاة والصيام والحج، بل هو من الله تعالى مباشرة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
ثانيا: من ناحية المكانة فهو في اعلي مكان وصل إليه البشر، تفرض علي النبي صلي الله عليه وسلم وهو في الأرض.
ثالثا: من ناحية الزمان في اشرف ليلة كانت لرسول الله صلي الله عليه وسلم وهي ليلة المعراج.
رابعا: في الكمية: لم تفرض صلاة واحدة، بل خمسون صلاة، مما يدل علي محبة الله لها، وانه يحب من عبده أن يكون مشغولا بها. ولكن الله جعل لكل شئ سببا، لما نزل الرسول_ عليه الصلاة والسلام_ مسلما أتمر الله قانعا بفريضة الله، ومر بموسى_ عليه الصلاة والسلام_ وسأله موسى: ماذا فرض الله علي أمتك؟ قال: ((خمسين صلاة في اليوم والليلة)) ، قال: أن أمتك لا تطيق ذلك، إنني جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل اشد المعالجة اذهب إلى ربك وأساله أن يخفف علي أمتك! فذهب إلى الله، وجعل يتردد بين موسى_ عليه الصلاة والسلام_ وبين الله_ عز وجل_ حتى جعلها الله خمسا، لكن الله بمنه وكرمه _(1/356)
وله الحمد والفضل _ قال: هي خمس بالفعل، وخمسون في الميزان، وليس هذا من باب قبيل الحسنة بعشر أمثالها، بل من باب قبيل الفعل الواحد يجزئ عن خمسين فعلا، فهذه خمس صلوات عن خمسين صلاة، فكأنما صلينا خمسين صلاة، كل صلاة الوحدة بعشر أمثالها لأنه لو كان هذا من باب مضاعفة الحسنات لم يكن هناك فرق بين الصلوات وغيرها، لكن هذه خاصة، صل خمس كأنما صليت خمسين صلاة، قال: هي حمس في الفعل وخمسون في الميزان، وهذا يدل علي عظم هذه الصلوات، ولهذا فرضها
الله_ سبحانه وتعالى_ علي عباده في اليوم والليلة. خمس مرات لابد منها. لابد أن تكون مع الله خمس مرات تناجيه في اليوم والليلة. ولو أن أحدا من الناس حصل علي مقابلة بينه وبين الملك خمس مرات باليوم لعد ذلك من مناقبه ولفرح بذلك وقال: كل يوم أجالس الملك خمس مرات! فأنت تناجي ملك الملوك_ عز وجل_ في اليوم خمس مرات علي الأقل، فلماذا ل اتفرح بهذا؟ احمد الله علي هذه النعمة وأقم الصلاة. وقول النبي صلي الله عليه وسلم: ((وتقيم الصلاة)) يعني: تأتى بها قويمة تامة بشروطها وأركانها وواجباتها.
فمن أهم شروطها: الوقت: لقول الله سبحانه: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (النساء: من الآية103) وإذا كانت الصلوات خمسا فأوقاتها خمسة لغير أهل الأعذار، وثلاثة(1/357)
لأهل الأعذار الذين يجوز لهم الجمع، فالظهر والعصر يكون وقتاهما وقتا واحدا إذا جاز الجمع. والغرب والعشاء يكون وقتاهما وقت واحد إذا جاز الجمع. هذان وقتان. والفجر وقت واحد، ولهذا فصلها الله عز وجل: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) (الإسراء: من الآية78) ، ولم يقل: لدلوك الشمس إلى طلوع الفجر! بل قال: (إلى غسق الليل) وغسق الليل يكون عند منتصفه، لان اشد ما يكون ظلمة في الليل منتصف الليل، لان منتصف الليل هو ابعد ما تكون الشمس عن النقطة التي فيها هذا المنتصف، ولهذا كان القول الراجح أن الأوقات خمسة كما يلي:
1_ الفجر من طلوع الفجر الثاني_ وهو البياض المعترض في الأفق_ إلى أن تطلع الشمس.
وهنا انبه فأقول: أن تقويم أم القرى فيه تقديم خمس دقائق في آذان الفجر علي مدار السنة، فالذي يصلي أول ما يؤذن يعتبر انه صلي قبل الوقت، وهذا شئ اختبرناه في الحساب الفلكي، واختبرناه إضافي الرؤية. فلذلك لا يعتمد هذا بالنسبة لآذان الفجر، لأنه مقدم، وهذه مسالة خطيرة جدا، لو تكبر للإحرام فقط قبل أن يدخل الوقت ما صحت صلاتك وما صارت فريضة. وقد حدثني انس كثيرون ممن يعيشون في البر وليس حولهم أنوار، انهم لا يشاهدون الفجر ال بعد هذا التقويم بثلث ساعة، أي: عشرين دقيقة أو ربع ساعة أحيانا، لكن التقاويم الأخرى الفلكية التي(1/358)
بالحساب بينها وبين هذا التقويم خمس دقائق. علي كل حال: وقت صلاة الفجر من طلوع الفجر الثاني_ وهو البياض المعترض_ إلى طلوع الشمس.
2_ الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شئ مثله، لكن بعد أن تخصم ظل الزوال، لان الشمس خصوصا في أيام الشتاء يكون لها ظل نحو الشمال، هذا ليس بعبرة، بل العبرة انك تنظر إلى الظل مادام ينقص فالشمس لم تزل، فإذا بدا يزيد ادني زيادة فان الشمس قد زالت، فاجعل علامة علي ابتداء زيادة الظل: فإذا صار ظل الشيء كطوله خرج وقت الظهر ودخل وقت العصر.
3_ ووقت العصر إلى أن تصفر الشمس والضرورة إلى غروبها.
4_ ووقت المغرب من غروب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر، وهو يختلف، أحيانا يكون بين الغروب وبين مغيب الشفق ساعة وربع، واحيانا يكون ساعة واثنتين وثلاثين دقيقة، ولذلك وقت العشاء عند الناس الآن لا باس به، واحدة ونصف (1,30) غروبي.
5_ وقت العشاء من خروج وقت المغرب إلى منتصف الليل. بمعني انك تقدر ما بين غروب الشمس وطلوع الفجر ثم تنصفه. فالنصف هو منتهى صلاة العشاء. ويترتب علي هذا فائدة عظيمة: لو طهرت المرأة من الحيض في الثلث الأخير من الليل فليس عليها صلاة العشاء ولا المغرب، لأنها طهرت بعد الوقت.(1/359)
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي_ عليه الصلاة والسلام_ قال: ((وقت العشاء إلى نصف الليل)) . وليس عن رسول الله صلي الله عليه وسلم حديث علي أن وقت العشاء يمتد إلى طلوع الفجر أبدا. ولهذا فان القول الراجح إلى نصف الليل، والآية الكريمة تدل علي هذا، لأنه فصل الفجر عن الأوقات الأربعة (أقم الصلاة لدلوك الشمس) أي: زوالها (إلى غسق الليل) جمع الله بينها لأنها ليس بينها فاصل، فمن ساعة خروج الظهر يدخل العصر، ومن ساعة خروج العصر يدخل المغرب، ومن ساعة خروج المغرب يدخل العشاء، إما الفجر فقال: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (الإسراء: من الآية78) فالفجر لا تتصل بصلاة لا قبلها ولا بعدها، لان بينها وبين الظهر نصف النهار الأول، وبينهما وبين صلاة العشاء نصف الليل الآخر. واعلم أن
الصلاة قبل دخول الوقت لا تقبل حتى ولو كبر المصلي تكبيرة الإحرام ثم دخل الوقت بعد التكبيرة مباشرة، فإنها لا تقبل علي إنها فريضة، لان الشي الموقت بوقت لا يصح قبل وقته، كما لو أراد الإنسان أن يصوم قبل رمضان ولو بيوم واحد فانه لا يجزئه عن رمضان، كذلك لو كبر تكبيرة الإحرام قبل دخول الوقت فان الصلاة لا تقبل منه علي إنها فريضة، لكن أن كان جاهلا لا يدري صارت نافلة ووجب عليه إعادتها(1/360)
فريضة. إما إذا صلاها بعد الوقت فلا يخلو من حالين:
ا_ إما أن يكون معذورا بجهل، أو نسيان، أو نوم، فهذا تقبل منه.
_ الجهل: مثل أن لا يعرف أن الوقت قد دخل وقد خرج، فهذا لا شئ عليه، فانه يصلي الصلاة متي علم وتقبل منه، لأنه معذور.
_ النسيان: مثل أن يكون الإنسان اشتغل بشغل عظيم اشغله وألهاه حتى خرج الوقت، فان هذا يصليها ولو بعد خروج الوقت، والنوم كذلك، فلو أن شخصا نام علي انه سيقوم عند الآذان، ولكن صار نومه ثقيلا فلم يسمع الآذان، ولم يسمع المنبه الذي وضعه عند رأسه حتى خرج الوقت، فانه يصلي إذا استيقظ، لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك))
ب_ فأما الحلة الثانية: فان يؤخر الصلاة عن وقتها عمدا بدون عذر، فاتفق العلماء علي انه آثم وعاص لله تعالى ورسوله صلي الله عليه وسلم.
وقال بعض العلماء: انه يكفر بذلك كفرا مخرجا عن الملة، نسأل الله العافية!، فالعلماء متفقون علي انه لو آخر الصلاة عن وقتها بلا عذر فانه آثم عاص، ولكن منهم من قال انه يكفر، ولكن الجمهور_ وهو الصحيح_ انه لا يكفر، ولكن اختلفوا فيما لو صلاها في هذه الحال، يعني: بعد أن أخرجها عب وقتها عمدا بلا عذر ثم صلي، فمنهم من قال: إنها تقبل_ أي(1/361)
صلاته_ لأنه عاد إلى رشده وصوابه ولانه إذا كان الناسي تقبل منه الصلاة بعد الوقت فالمتعمد كذلك. ولكن القول الصحيح الذي تؤيده الأدلة إنها لا تقبل منه إذا آخرها عن وقتها عمدا ولو صلي ألف مرة، وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد)) ، يعني مردود غير مقبول عند الله، وإذا كان مردودا فلن يقبل، وهذا الذي اخرج الصلاة عمدا عن وقتها إذا صلاها فقد صلاها علي غير أمر الله ورسوله، فلا تقبل منه. واما المعذور فهو معذور، ولهذا أمره الشارع أن يصليها إذا ذال عذره، إما من ليس بمعذور فانه لو بقي يصلي كل دهره فإنها ل اتقبل منه هذه الصلاة التي أخرجها عن وقتها بلا عذر، ولكن عليه أن يتوب إلى الله ويستقيم، ويكثر من العمل الصالح والاستغفار ((ومن تاب
تاب الله عليه)) .
الشرط الثاني من أقام الصلاة: الطهارة، فانه لا تقبل صلاة بغير طهور. قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا تقبل صلاة أحدكم إذا احدث حتى يتوضأ)) . فلابد أن يقوم الإنسان بالطهارة علي الوجه الذي أمر به، فان احدث حدثا اصغر مثل: البول والغائط والريح والنوم واكل لحم الإبل فانه يتوضأ.(1/362)
وفروض الوضوء كما يلي: غسل الوجه، واليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين، كما أمر الله بذلك في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (المائدة: من الآية6)
ومن الرأس: الأذان، ومن الوجه: المضمضة والاستنشاق في الفم والأنف، فلابد في الوضوء من تطهير هذه الأعضاء الأربعة، غسل في ثلاثة ومسح في واحد.
وأما الاستنجاء، أو الاستجمار: فهو اذالة النجاسة، ولا علاقة له بالوضوء، فلو أن الإنسان با ل أو تغوط واستنجي ثم ذهب لشغله، ثم دخل الوقت، فانه يتوضأ بتطهيره الأعضاء الأربعة، ولا حاجة لان يستنجي، لان الاستنجاء إزالة نجاسة، متي أزيلت فانه لا يعاد الغسل مرة ثانية، إلا إذا رجعت مرة ثانية.
والصحيح: انه لو نسي أن يستجمر استجمارا شرعيا ثم توضأ، فان وضوءه صحيح، لأنه هناك ليس علاقة بين الاستنجاء وبين الوضوء أما إذا كان محدثا حدثا اكبر مثل الجنابة فعليه أن يغتسل، فيعمم جميع بدنه بالماء لقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) (المائدة: من الآية6) ومن ذلك: المضمضة والاستنشاق، لأنهما داخلان في الوجه، فيجب تطهيرهما كما يجب تطهير الجبهة والخد واللحية. والغسل الواجب الذي يكفي أن تعم جميع بدنك بالماء، سواء بدأت(1/363)
بالرأس أو بالصدر أو بالظهر أو بأسفل البدن، أو انغمست في بركة وخرجت منها بنية الغسل. والوضوء في الغسل سنة وليس بواجب، ويسن أن يتوضأ قبل أن يغتسل، وإذا اغتسل فلا حاجة إلى الوضوء مرة ثانية، لأنه لم يثبت عن النبي_ عليه الصلاة والسلام_ انه توضا بعد اغتساله فإذا لم يجد الماء، أو كان مريضا يخشي من استعمال الماء، أو كان برد شديد وليس عنده ما يسخن به الماء، فانه يتيمم، لقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة: 6) فبين الله حال السفر والمرض انه يتيمم فيهما إذا لم يجد الماء في السفر. إما خوف البرد فدليله قصة عمرو بن العاص رضي الله عنه: ((أن النبي صلي الله عليه وسلم أرسله في سرية فأجنب، فتيمم وصلي بأصحابه إماما. فلما رجعوا إلى النبي صلي الله عليه وسلم قال له: يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قال: نعم يا رسول الله! ذكرت قول الله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) (النساء: من الآية29) فخفت البرد فتيممت صعيدا طيبا فصليت)) . فاقره النبي صلي الله علي وسلم علي ذلك ولم يأمره بالإعادة، لان من خاف الضرر كمن فيه الضرر، لكن بشرط أن يكون الخوف غالبا أو قاطعا، إما مجرد(1/364)
الوهم فهذا ليس بشيء. واعلم أن طهارة التيمم تقوم مقام طهارة الماء، ولا تنتقص إلا بما تنتقص به طهارة الماء، أو بزوال العذر المبيح للتيمم، فمن تيمم لعدم وجود الماء ثم وجده فانه لابد أن يتطهر بالماء، لان الله تعالى إنما جعل
التراب طهارة إذا عدم الماء. وفي الحديث الذي أخرجه أهل السنن عن أبي هريرة، عن النبي صلي الله علي وسلم انه قال: ((الصعيد الطيب وضوء المسلم_ أو قال طهور المسلم_ وان لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فان ذلك خير)) . وفي صحيح البخاري من حديث عمران بن حصين الطويل، في قصة الرجل الذي اعتزل فلم يصل مع النبي صلي الله عليه وسلم فسأله فقال: ((ما منعك أن تصلي معنا؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، فقال: عليك بالصعيد فانه يكفيك. ثم حضر الماء فأعطي النبي صلي الله عليه وسلم هذا الرجل ماء وقال: أفرغه علي نفسك)) أي: اغتسل به. فدل هذا علي انه إذا وجد الماء بطل التيمم، وهذه_ لله الحمد_ قاعدة حتى عند العامة، يقولون: ((إذا حضر الماء بطل التيمم)) . إما إذا لم يحضر الماء ولم يذل العذر، فانه يقوم مقام طهارة الماء ولا يبطل بخروج الوقت، فلو تيمم الإنسان وهو مسافر وليس عنده ماء وتيمم(1/365)
لصلاة الظهر مثلا، وبقي لم يحدث إلى العشاء فانه لا يلزمه إعادة التيمم، لا ن التيمم ل ايبطل بخروج الوقت، لأنه طهارة شرعية، كما قال الله في القران الكريم: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ
اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ْ) (المائدة: من الآية6) فبين الله أن طهارة التيمم طهارة. وقال الرسول صلي الله عليه وسلم: ((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا)) بفتح الطاء، أي أنها تطهر: ((فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل)) . وفي حديث آخر: ((فعنده مسجده وطهوره)) . يعني: فليتطهر وليصل هذا من الأشياء المهمة في إقامة الصلاة: المحافظة علي الطهارة. واعلم أن من المحافظة علي الطهارة: إزالة النجاسة من ثوبك وبدنك، ومصلاك الذي تصلي عليه. فلابد م الطهارة في هذه المواضع الثلاث: البدن، والثوب، والمصلي.
1 _ أما الثوب فدليله: أن النبي صلي الله عليه وسلم أمر النساء اللاتي يصلين في ثيابهن وهن يحضن بهذه الثياب أن تزيل المرأة الدم الذي أصابها من الحيض من ثوبها، تحكه بظفرها ثم تقرصه بإصبعيها الإبهام والسبابة ثم تغسله، ولما صلي ذات يوم بأصحابه وعليه نعال خلع نعليه فخلع الناس نعالهم،(1/366)
فلم سلم سألهم لماذا خلعوا نعالهم! قالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا، فقال: ((أن جبريل أتاني فاخبرني أن فيهما قذرا)) فدل هذا علي انه لابد من اجتناب النجاسة في الملبوس.
2_ أما المكان: فدليله أن أعرابيا جاء فبال في طائفة من المسجد، أي: في طرف من مسجد النبي صلي الله عليه وسلم لكنه أعرابي_ والأعراب الغالب عليهم الجهل_ فصاح به الناس وزجروه، ولكن الرسول صلي الله عليه وسلم بحكمته نهاهم وقال: اتركوه. فلما قضي بوله دعاه النبي صلي الله عليه وسلم وقال له: ((أن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القران)) فقال الأعرابي: ((اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحد)) ، لان الصحابة زجروه، وأما النبي_ عليه الصلاة والسلام_ فكلمه بلطف، فظن أن الرحمة ضيقة لا تتسع للجميع، وقال: ((اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحد)) ويذكر أن الرسول صلي الله عليه وسلم قال له: ((لقد حجرت واسعا يا أخا العرب)) (،) وأمر النبي _ عليه الصلاة والسلام_ أن يصب علي البول ذنوب من ماء، مثل الدلو، لتطهر الأرض.(1/367)
3_ وأما طهارة البدن: فقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس_ رضي الله عنهما_ أن الرسول صلي الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: ((انهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وفي رواية: لا يستبري من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) والعياذ بالله. فدل هذا: علي انه لابد التنزه من البول. وهكذا بقية النجاسات، ولكن لو فرض أن الإنسان في البر وتنجس ثوبه وليس معه ما يغسله به، فهل يتيمم من اجل صلاته في هذا الثوب؟ لا يتيمم، وكذلك لو اصب بدنه نجاسة رجلها ويده أو ساقه أو ذراعه وهو في البر وليس عنه ما يغسله، فانه لا يتيمم، لان التيمم إنما هو في طهارة الحدث فقط، أما النجاسة فلا يتيمم لها، لان النجاسة عين قذرة تطهيرها بإزالتها أن أمكن فذلك، وان لم يمكن تبقي حتى يمكن إزالتها. والله اعلم.
أحكام المسح علي الخفين والجبيرة:
سبق أن الطهارة تتعلق بأربعة أعضاء من البدن، وهي: الوجه، واليدان، الرأس، والرجلان، فأما الوجه فيغسل، وأما اليدان فتغسلان، وأما الرأي فيمسح، وأما الرجلان فتغسلان أو تمسحان. اثنان غسل، وواحد يمسح، وواحد يغسل أو يمسح!(1/368)
أما الوجه فلا يمكن أن يمسح إلا إذا كان هناك جبيرة، أي: لزقة علي جرح أو ما شابه ذلك. فلو أن إنسانا غطي وجهه بشيء من سموم الشمس أو غيره فانه لا يمسح عليه، بل يزيل القطاء ويغسل الوجه. إلا إذا كان هناك ضرورة فانه يمسح ما غطي به وجهه علي سبيل البدل من الغسل. وأما اليدان فكذلك لا تمسحان، بل لا بد م غسلهما الا اذا كان هناك ضرورة، مثل أن يكون فيهما حساسية يضرها الماء وجعل عليها لفافة، أو لبس قفازين من اجل لا يأتيهما الماء، فلا باس أن يمسح مسح جبيرة للضرورة. وأما الرأس فيمسح، وطهارته أخف من غيره ولهذا لو كان علي راس المرأة حناء ملبد عليه، ألبد المحرم رأسه في حال إحرامه كما فعل النبي_ عليه الصلاة والسلام_ فانه يمسح هذا الملبد ولا حاجة لان يزيله. أما الرجلان فتغسلان وتمسحان، ولهذا جاء القران الكريم علي وجهين في قراءة قوله تعالى: ((وارجلكم)) بالفتح والكسر. ففي قراءة (وارجلكم) وفي قراءة (وارجلكم) . أما قراءة الكسر (ارجلكم) فهي عطفا علي قوله: (وامسحوا برؤوسكم) أي: وامسحوا بأرجلكم. وأما النصب (وارجلكم) فهي عطفا علي قوله تعالى: (اغسلوا وجوهكم) يعني: واغسلوا أرجلكم.(1/369)
ولكن متي تمسح الرجل؟ تمسح الرجل
إذا لبس عليها الإنسان جوارب أو خفين.
الجوارب: ما كان من القطن أو الصوف أو نحوه.
والخفان: ما كان من الجلد أو شبهه، يمسح عليهما، لكن بشروط أربعة.
الشرط الأول: الطهارة: أي طهارة الخفين أو الجوربين، فلو كانا من جلد نجس فانه لا يصح المسح عليهما، لان النجس خبيث لا يتطهر مهما مسحته وغسلته. أما إذا كانتا متنجستين، فمن المعلوم أن الإنسان لا يصلي فيهما، فلا يمسح عليهما.
الشرط الثاني: أن يلبسهما علي طهارة بالماء: فان لبسهما علي تيمم فانه لا يمسح عليهما. فلوان شخصا مسافرا لبس الجوارب علي طهارة تيمم ثم قدم البلد فانه لا يمسح عليهما، لأنه لبسهما علي طهارة تيمم، وطهارة التيمم إنما تتعلق بأوجه والكفين، ولا علاقة لها بالرجلين. وعلي هذا يكون الشرط مأخوذ من قول النبي صلي الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة: ((إني أدخلتهما طاهرتين)) .
الشرط الثالث: أن يكونا في الحدث الأصغر: أي: في الوضوء، أما(1/370)
الغسل فلا تسمح فيه الخفان ولا الجوارب، بل لابد من خلعهما وغسل الرجلين، فلو كان علي الإنسان جنابة فانه لا يمكن أن يمسح علي خفيه.
الشرط الرابع: أن يكون في المدة المحددة شرعا: وهي يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام للمسافر، تبتدئ من أول مرة مسح بعد الحدث، أما ما قبل المسح الأول فلا يحسب من المدة. فلو فرضان شخصا لبسها علي طهارة في صباح اليوم الثلاثاء، وبقي إلى صلي العشاء في طهارته، ثم نام في ليلة الأربعاء، ولما قام لصلاة الفجر مسح، فيوم الثلاثاء: لا يحسب عليه، لأنه قبل المسح، بل يحسب عليه من فجر يوم الأربعاء، لان حديث علي بن أبي طالب_ رضي الله عنه_ قاغل: ((جعل رسول الله صلي الله عليه وسلم ثلاث أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم)) .
وقال صفوان بن عسال: ((كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرا إلا ننزع خناقنا ثلاث أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم)) (،) فالعبرة بالمسح لا باللبس، ولا بالحدث بعد اللبس. فيتم المقيم يوم وليلة، أي: أربعا وعشرين ساعة، ويتم المسافر(1/371)
ثلاثة أيام بلياليهن، أي: اثنتين وسبعين ساعة، فان مسح الإنسان وهو مقيم وسافر قبل أن تتم المدة، فانه يتمم مسح مسافر ثلاثة أيام.
مثلا: لو لبس اليوم لصلاة الفجر ومسح لصلاة الظهر، ثم سافر بعد الظهر، فانه يتمم ثلاثة أيام، يمسح ثلاثة أيام
ولو كان بالعكس: مسح وهو مسافر ثم أقام، فانه يتمم مسح مقيم، لان العبرة بالنهاية لا بالبداية، العبرة في السفر أو الإقامة بالنهاية لا بالبداية. وهذا هو الذي رجع إليه الإمام احمد_ رحمه الله_ وكان بالأول يقول: أن الإنسان إذا مسح مقيما ثم سافر أتم مسح مقيم، لكنه رجع عن هذه لرواية وقال: لنه يتمم مسح مسافر. ولا تستغرب أن العالم يرجع عن قوله، لان الحق يجب أن يتبع، فمتي تبين للإنسان الحق وجب عليه اتباعه، فالإمام احمد_ رحمه الله_ أحيانا يروي عنه في المسالة الواحدة اكثر من أربعة أقوال أو خمسة إلى سبعة أقوال في مسالة واحدة. وهو رجل واحد، أحيانا يصرح بأنه رجع وأحيانا لا يصرح، أن صرح بأنه رجع عن قوله الأول فانه لا يجوز أن ينسب إليه القول الذي رجع عنه، ولا يجوز أن ينسب له الا مقيدا، فيقال: قالبه أولا ثم رجع، أما إذا لم يصرح بالجوع فانه يجب أن تسحب الأقوال كلها عنه، فيقال: له قولان، أو له ثلاث أقوال، أو أربعة أقوال. والإمام احمد تكثر الرواية عنه، لأنه اثري يأخذ بالآثار، والذي يأخذ بالآثار ليس تأتيه الآثار دفعة واحدة حتى يحيط بها مرة واحدة ويستقر علي قوله منها، لكن الآثار تتجدد، ينقل له حديث(1/372)
اليوم،
وينقل له حديث في اليوم الثاني، وهكذا. واعلم أن الإنسان إذا تمت المدة وهو علي طهارة فانه لا تنتقص طهارته، لكن أن انتقضت فلا بد من خلع الخفين وغل القدمين، لكن مجرد تمام المدة لا ينقص الوضوء. كذلك أيضا إذا خلعها بعد المسح وهو علي طهارة، فإنها لا تنتقص طهارته، بل يبقي علي طهارته، فإذا أراد أن يتوضأ فلابد من أن يغسل قدميه بعد أن نزع. والقاعدة في هذا حتى لا تشتبه: انه متي نزع الممسوح فانه ل ايعاد ليمسح، بل لابد من غسل الرجل ثم إعادته إذا اراد الوضوء.
الشرط الثالث: استقبال القبلة: فاستقبال القبلة شرط من شروط الصلاة لا تصح الصلاة إلا به، لان الله تعالى أمر به وكرر الأمر به. قال تعالى: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (البقرة: من الآية150) ، أي: جهته. وكان النبي_ عليه الصلاة والسلام_ أول ما قدم المدينة كان يصلي إلى بيت المقدس، فيجعل الكعبة خلف ظهره والشام قبل وجهه، ولكن بعد ذلك ترقب أن الله سبحانه وتعالى _ يشرع له خلاف ذلك، فجعل يقلب وجهه في السماء ينتظر متي ينزل عليه جبريل بالوحي في استقبال بيت الله الحرام، كما قال الله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ أيولينك قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (البقرة: من الآية144) ، فأمره الله(1/373)
_ عز وجل_ أن يستقبل المسجد الحرام، أي: جهته. إلا انه يستثني من ذلك ثلاث مسائل:
المسالة الأولى: إذا عاجزا كمريض وجهه إلى غير القبلة، ولا يستطيع أن يتوجه إلى القبلة، فان استقبال القبلة يسقط عنه في هذه الحال، لقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن: من الآية 16) وقوله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية286) وقول النبي صلي الله عليه مسلم: ((إذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم))
المسالة الثانية: إذا كان في شدة الخوف، كانسان هارب من عدو، أو هارب من سبع، أو هارب من نار، أو هارب من واد يغرقه! المهم انه في شدة خوف، فهنا يصلي حيث كان وجهه. ودليل ذلك قوله تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 239) ، فان قوله: (فان خفتم) عام يشمل أي خوف. وقوله: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة: من الآية239) علي أن أي ذكر تركه الإنسان من اجل الخوف فلا حرج عليه فيه، ومن ذلك الآيتين الكريمتين والحديث النبوي في أن الوجوب معاق بالاستطاعة(1/374)
المسالة الثالثة: في النافلة في السفر، سواء كان علي طائرة، أو علي سيارة، أو علي بعير، فانه يصلي حيث كان وجهه في صلاة النفل، مثل الوتر وصلاة الليل والضحي ومل أشبه ذلك. والمسافر ينبغي له أن تنفل بجميع النوافل كالمقيم سواء إلا في الرواتب، كراتبه الظهر والمغرب والعشاء، فالسنة تركها، وماعدا ذلك من النوافل فانه باقي علي مشروعيته للمسافر، كما هو مشروع للمقيم. فإذا أراد ان يتنفل وهو مسافر علي طائرته، أو علي بعيره، أو علي حماره، فليتنفل حيث كان وجهه، لان ذلك هو الثابت في الصحيحين عن رسول الله صلي الله عليه وسلم.
فهذه ثلاث مسائل لا يجب فيها استقبال القبلة! أما الجاهل فيجب عليه استقبال القبلة، لكن إذا اجتهد وتحري ثم تبين له الخطأ بعد الاجتهاد، فانه لا أعاده عليه، ولا نقول انه يسقط عنه الاستقبال، بل يجب عليه الاستقبال ويتحري بقدر استطاعته، فإذا تحري بقدر استطاعته ثم تبين له الخطأ، فانه لا يعد صلاته، ودليل ذلك أن الصحابة الذين لم يعلموا بتحويل القبلة إلى الكعبة، كانوا يصلون ذات يوم صلاة الفجر في مسجد قباء، فجاءهم رجل فقال: أن النبي صلي الله عليه وسلم انزل عليه قران وأمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، فاستداروا، بعد أن كانت الكعبة(1/375)
وراءهم جعلوها أمامهم، فاستداروا وبقوا في صلاتهم وهذا في عهد النبي صلي الله عليه وسلم ولم يكن إنكار له، فيكون ذلك مشروعا، فإذا أخطأ الإنسان في القبلة جاهلا فانه ليس عليه اعادة، ولكن اذا تبين ولو في أثناء الصلاة وجب عليه أن يستقيم إلى القبلة، فجاءه إنسان وقال له: القبلة عن يمينك أو يسارك، وجب عليه أن يستدير علي اليمين أو علي اليسار دون أن يستأنف الصلاة، لأنه في الأول كان عن اجتهاد وعن وجه شرعي فلا يبطل. فاستقبال القبلة شرط من شروط الصلاة لا تصح الصلاة إلا به، إلا في
المواضع الثلاث التي ذكرناها، وإلا إذا أخطأ الإنسان بعد الاجتهاد والتحري.
وهنا مسالة: يجب علي من نزل علي شخص ضيفا واراد أن يتنفل أن يسال صاحب البيت عن القبلة، فإذا اخبره اتجه إليها، لان بعض الناس تأخذه العزة بالإثم، ويمنعه الحياء_ وهو حياء في غير محله_ عن السؤال عن القبلة. فبعض الناس يستحي من السؤال حتى لا يقول الناس لا يعرف! لا يضر، فليقولوا ما يقولونه، بل أسال عن القبلة حتى يخبرك صاحب البيت. وأحيانا بعض الناس تأخذه العزة بالإثم أو الحياء، ويتجه بناء علي ظنه إلى جهة ما يتبين له إنها ليست القبلة، وفي هذه الحال وجب عليه أن يعيد الصلاة، لأنه استند إلي غير مستند شرعي. والمستند إلى غير مستند شرعي لا تقبل عبادته، لقول النبي صلي الله علي وسلم: ((من(1/376)
عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد)) .
الشرط الرابع: فان الصلاة لا تصح إلا بنيه، لقول النبي صلي الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوي)) الحديث. وقد دلت الآيات الكريمة علي اعتبار النية في العبادات، مثل قوله تعالى في وصف النبي صلي الله وسلم وأصحابه: (تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً) (الفتح: من الآية29) والآيات في هذا كثيرة، وقال: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (النساء: من الآية100) فالنية شرط من شرط صحة الصلاة، لا تصح الصلاة إلا بها، وهي_ في الحقيقة_ ليست بالأمر الصعب، كل إنسان عاقل مختار يفعل فعلا فانه قد نواه. فلا تحتاج إلى تعب ولا علي نطق محلها القلب: ((إنما الأعمال بالنيات)) . ولان النبي صلي الله عليه وسلم لم ينطق بالنية، ولا أمر أمته بالنطق بها، ولا فعلها أحد من أصحابه فأقراه علي ذلك، فالنطق بالنية بدعة، هذا هو القول الراجح، لأنك كأنما تشاهد الرسول_ عليه الصلاة والسلام_ وأصحابه يصلون ليس فيهم أحد نطق قال: اللهم إني نويت أن اصلي. وما اظرف قصة ذكرها لي بعض الناس_ عليه رحمة الله_ قال لي: أن(1/377)
شخصا في المسجد الحرام_ قديما_ أراد أن يصلي، فأقيمت الصلاة فقال: اللهم إني نويت أن اصلي الظهر ارع ركعات لله تعالى خلف إمام المجد الحرام. لما أراد أن يكبر قال له الرجل إلى جواره: اصبر بقي عليك! قال: ما الباقي؟ قال له: قل في اليوم الفلاني وفي التاريخ الفلاني من الشهر والسنة حتى لا تضيع، هذه وثيقة. فتعجب الرجل! والحقيقة انه محل التعجب، هل أنت تعلم الله_ عز وجل_ بما تريد؟ الله يعلم ما توسوس به نفسك. هل تعلم الله بعدد الركعات والأوقات؟ لا داعي له، الله يعلم هذا. فالنية محلها القلب. ولكن كما نعلم أن الصلوات تنقسم إلى أقسام: نفل مطل، ونفل معين، وفريضة.
الفرائض خمس: الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء. إذا جئت إلى المسجد في وقت الفجر، فماذا تريد أن تصلي؟ أتريد أن تصلي المغرب؟! لا، بل الفجر. جئت وكبرت وأنت ناوي الصلاة، لكن غاب عن ذهنك إنها الفجر.
وهناك مسالة: إذا جئت وكبرت، وغاب عن ذهنك أي صلاة هي، وهذا يقع كثيرا، لا سيما إذا جاء بسرعة يخشى أن تفوته الركعة، فمثلا جئت وحضرت وكبرت ولكنك لم تستحضر انك تريد الفجر. فهنا لا حاجة، ووقوع هذه الصلاة في وقتها دليل علي انه إنما أردت هذه الصلاة. ولهذا لو سالك أي واحد: هل أردت الظهر أو العصر او المغرب او(1/378)
العشاء؟ لقت: أبدا، ما أردت لا الفجر. إذا لا حاجة إلى أن انوي إنها الفجر، صحيح أن نويتها الفجر اكمل، لكن أحيانا يغيب عن الذهن التعيين، فنقول: يعينها الوقت. إذا الفرائض يكون تعيينها علي وجهين:
الوجه الأول: أن يعينها بعينها بقلبه انه نوي الظهر مثلا، وهذا واضح.
الوجه الثاني: الوقت، فما دمت تصلى الصلاة في هذا الوقت فهي هي الصلاة.
هذا الوجه الثاني إنما يكون في الصلاة المؤداة في وقتها، أما لو فرض أن علي إنسان صلوات مقضية، كما لو كان نام يوما كاملا عن الظهر والعصر والمغرب، فهنا إذا أراد أن يقضي لابد يعينها بعينها، لأنه لا وقت لها. النوافل المعنية، مثل الوتر وركعتي الضحى والرواتب للصلوات الخمس، فهذه لابد أن تعينها بالاسم، لكن بالقلب لا بالسان، فإذا أردت أن تصلي الوتر مثلا وكبرت ولكن ما نويت الوتر، وفي أثناء الصلاة نويتها الوتر، فهذا لا يصح، لان المتر نفل معين، والنوافل والمعينة لابد أن تعين بعينها. إذا أراد الإنسان أن ينتقل في أثناء الصلاة من نية إلى نية، هل هذا(1/379)
ممكن؟ ننظر، الانتقال من معين إلى معين، أو من مطلق إلى معين لا يصح.
مثال المطلق: إنسان قام يصلي صلاة نافلة مطلقة، وفي أثناء الصلاة ذكر انه لم راتبة الفجر، فنواها لرابة الفجر. نقول: لا تصح لراتبة الفجر، لأنه انتقال من مطلق إلى معين، والمعين لابد أن تنويه من أوله، فراتبة الفجر من التكبير إلى التسليم. ومثال معين إلى معين: رجل قام يصلي العصر، وفي أثناء صلاته ذظر انه لم يصل الظهر، أو انه صلاها بغير وضوء، فقال: الآن نويتها للظهر، فهل تصح للظهر أم لا؟ هنا لا تصح للظهر، لانه من معين إلى معين، ولا تصح أيضا صلاة العصر التي أبتدأ، لأنه قطعها بانتقا له إلى الظهر. اذ لا تصح ظهرا ولا عصرا، فهي لا تصح عصرا لأنه قطعها، ولا ظهرا لأنه لم يبتدئها ظهرا، وصلاة الظهر من تكبيرة الإحرام إلى السلام. أما الانتقال من معين إلى مطلق فانه يصح ولا باس، مثل إنسان شرع في صلاة الفريضة، ثم لما شرع ذكر انه علي ميعاد لا يمكنه أن يتأخر فيه، فنواها نفلا، فإنها تصح إذا كان الوقت متسعا ولم يفوت الجماعة. هذان شرطان: الشرط الأول: إذا كان ألقت متسعا، والثاني: إذا لم يفوت الجماعة. فمثلا إذا كان في صلاة جماعة فلا يمكن أن يحولها إلى نفل مطلق، لان هذا يستلزم أن يدع صلاة الجماعة. إذا كان الوقت ضيقا
فلا يصح أن يحولها إلى نفل مطلق، لان صلاة(1/380)
الفريضة اذا ضاق وقتها لا يتحمل الوقت سواها، لكن الوقت في سعة والجماعة قد فاتته، نقول: لا باس أن تحولها إلى نفل مطلق وتسلم من ركعتين وتذهب إلى وعدك، ثم بعد ذلك تعود إلى فريضتك، فصار الانتقال ثلاثا:
1_ من مطلق إلى معين: لا يصح المعين ويبقي المطلق صحيحا.
2_ من معين إلى معين: يبطل الأول ولا ينعقد الثاني.
3_ من معين إلى مطلق: يصح ويبقي المعين عليه.
نية الإمامة والإتمام: الجماعة تحتاج إلى إمام ومأموم، واقلها اثنان: إمام ومأموم. وكلما كان اكثر فهو احب إلى الله، ولابد من نية المأموم والإتمام، وهذا شئ متفق عليه، يعني إذا دخلت في جماعة فلابد أن تنوي الإتمام بامامك الذي دخلت معه. ولكن_ كما قلنا_ النية لا تحتاج إلى كبير عمل، لان من أتى إلى المسجد فانه قد نوي أن يتم. أما الإمام فقد اختلف العلماء_ رحمهم الله_ هل يجب أن ينوي أن يكون أو لا يجب؟! فقال بعض أهل العلم: لابد أن ينوي انه الإمام، وعلي هذا لو جاء رجلان ووجدا رجل يصلي ونويا أن يكون الرجل إماما لهما، فصفا خلفه وهولا يدري بهما، لكن هم نويا انه إمام لهما وصارا يتابعانه، فمن قال(1/381)
انه لابد للإمام أن ينوي الإمامة قال: أن صلاة الرجلين لا تصح، وذلك لان الإمام لم ينوي الإمامة. ومن قال انه لا يشترط أن ينوي الإمام الإمامة قال: أن صلاة هذين الرجلين صحيحة، لأنهما ائتما به.
فالأول: هو المشهور من مذهب الإمام احمد رحمه الله.
والثاني: هو مذهب الإمام مالك رحمه الله، واستدل بان النبي صلي الله عليه وسلم صلي ذات ليلة في رمضان وحده، فدخل أناس المسجد فصلوا خلفه، والنبي صلي الله عليه وسلم كان أول ما دخل الصلاة لم ينو أن يكون إماما. واستدلوا كذلك بان ابن العباس_ رضي الله عنهما_ بات عند النبي صلي الله عليه وسلم_ ذات ليلة، فلما قام النبي صلي الله عليه وسلم يصلي من الليل قام يصلي وحده، فقام ابن عباس فتوضأ ودخل معه في الصلاة. ولكن لا شك أن هذا الثاني ليس في دلالة، لان النبي صلي الله عليه وسلم نوي الإمامة، لكن نواها في أثناء الصلاة، ولا باس بان ينويها في أثناء الصلاة. وعلي كل حال الاحتياط في هذه المسالة أن نقول: انه إذا جاء رجلان إلى شخص يصلي فلينبهاه علي انه إمام لهما، فان سكت فقد اقرهما، وان رفض وأشار بيده أن لا تصليا خلفي فلا يصليا خلفه. هذا هو الاحوط والأولى.(1/382)
ثانيا: هل يشترط أن تتساوى صلاة الإمام مع صلاة المأموم في جنس المشروعية؟ بمعني: هل يصلي الفريضة خلف من يصلي النافلة، أو أن يصلي النافلة خلف من يصلي الفريضة؟ ننظر في هذا: أما الإنسان الذي يصلي نافلة خلف من يصلي فريضة فلا باس بهذا، لان السنة قد دلت علي ذلك، فان الرسول صلي الله عليه وسلم انفتل من صلاة الفجر ذات يوم في مسجد الخيف بمني، فوجد رجلين لم يصليا، فقال: ما منعكما أن تصليا في القوم؟ قالا: يا رسول الله صلينا في رحالنا_ يحتمل انهما صليا في رحالهما لظنهما انهما لا يدركان صلاة الجماعة، أو لغير ذلك من الأسباب_ فقال: ((إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة)) . ((فإنها)) أي: الثانية، لان الأولى حصلت بها الفريضة وانتهت وبرئت الذمة. إذا إذا كان المأموم هو الذي يصلي النافلة والأمام هو الذي يصلي الفريضة فلا باس بذلك، كما دلت عليه هذه السنة.(1/383)
أما العكس: إذا كان الإمام يصلي النافلة والمأموم يصلي الفريضة، واقرب مثال لذلك في أيام رمضان، إذا دخل الإنسان وقد فاتته صلاة العشاء ووجد الناس يصلون صلاة التراويح، فهل يدخل معهم بنية العشاء أو يصلي الفريضة وحده ثم يصلي التراويح؟ هذا محل خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: لا يصح أن يصلي الفريضة خلف النافلة، لان الفريضة اعلي من صلاة الإمام. ومنهم من قال: بل يصح أن يصلي الفريضة خلف النافلة، لان السنة وردت بذلك، وهي أن معاذ بن جبل_ رضي الله عنه_ كان يصلي مع النبي_ صلي الله عليه وسلم_ صلاة العشاء، ثم يذهب إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة. فهي له نافلة ولهم فريضة، ولم ينكر عليه النبي صلي الله عليه وسلم. فان قال قائل: لعل النبي صلي الله عليه وسلم لم يعلم؟ فالجواب عن ذلك أن نقول: أن كان قد علم فقد تم الاستدلال، لان معاذ بن جبل_ رضي الله عنه_ قد شكي إلى الرسول_ عليه الصلة والسلام_ في كونه يطول صلاة العشاء، فالظاهر_ والله اعلم_ أن النبي صلي الله عليه وسلم_ اخبر بكل القضية وبكل القصة. وإذا قدر أن رسول الله _ صلي الله عليه وسلم_ لم يعلم أن معاذا معه، ثم يذهب إلى قومه ويصلي بهم، فان رب الرسول صلي الله
عليه وسلم قد علم، وهو الله جلا وعلا، لا يخفي عليه شي في الأرض ولا في السماء، وإذا كان الله قد علم ولم ينزل علي نبيها نكارا لهذا العمل دل هذا علي جوازه، لان الله تعالى لا يقر عباده علي(1/384)
شئ غير مشروع لهم إطلاقا. فتم الاستدلال حئينذ علي كل تقدير. إذا فالصحيح انه يجوز أن يصلي الإنسان صلاة الفريضة خلف من يصلي صلاة النافلة، والقياس الذي ذكر استدلالا علي المنع قياس في مقابلة النص فيكون مطروحا فاسدا لا يعتبر. إذن إذا أتيت في أيام رمضان والناس يصلون صلاة التراويح ولم تصل العشاء فادخل معهم بنية صلاة العشاء، ثم أن كنت قد دخلت معهم في أول ركعة، فإذا سلم الإمام فصل ركعتين لتتم الأربع، وان كنت قد دخلت في الثانية فصل إذا سلم الإمام ثلاث ركعات. وهذا منصوص الإمام احمد_ رحمه الله تعالى_ مع أن مذهبه خلاف ذلك، لكن منصوصه الذي نص عليه وهو شخصيا أن هذا جائز.
إذن تلخص الآتي: من صلي فريضة خلف من يصلي فريضة جائز.
من صلى فريضة خلف من يصلي نافلة فيها خلاف.
من صلي نافلة خلف من يصلي فريضة جائز قولا واحدا.
المثالة الثالثة: في جنس الصلاة، هل يشترط أن تتفق صلاة الإمام والمأموم في نوع الصلاة؟ أي: ظهر مع ظهر، وعصر مع عصر، وهكذا، أم لا؟
ج_ في هذا أيضا خلاف، فمن العلماء من قال: يجب أن تتفق الصلاتان، فيصلي الظهر خلف من يصلي الظهر، ويصلي العصر خلف من يصلي العصر، ويصلي المغرب خلف من يصلي المغرب، ويصلي العشاء(1/385)
خلف من يصلي العشاء، ويصلي الفجر خلف من يصلي الفجر، وهكذا لان النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به قلا تختلفوا عليه)) ومن العلماء من قال: لا يشترط، فيجوز أن تصلي العصر خلف من يصلي الظهر، أو الظهر خلف من يصلي العصر، أو العصر خلف من يصلي العشاء، لان الإتمام في هذه الحال لا يتأثر، وإذا جاز أن يصلي الفريضة خلف النافلة مع اختلاف الحكم، فكذلك اختلاف الاسم لا يضر، وهذا القول اصح. فإذا قال قائل: حضرت لصلاة العشاء بعد أن إذن، ولما أقيمت الصلاة تذكرت أنني صليت الظهر بغير وضوء، فكيف اصلي الظهر خلف من يصلي العشاء؟ نقول له: ادخل مع الإمام وصلي الظهر، أنت نيتك الظهر والإمام نيته العشاء ولا يضر، ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي)) وأما قول النبي صلي الله عليه وسلم: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه)) ، فليس معناه فلا تختلفوا عليه في النية، لأنه فصل وبين فقال: ((فإذا كبر فكبروا،
وإذا سجد فاسجدوا، وإذا رفع فارفعوا)) أي: تابعوه ولا تسبقوه، وكلام النبي صلي الله عليه وسلم يفسر بعضه بعضا. وهذا البحث يفرع عليه بحث آخر: إذا اتفقت الصلاتان في العدد والهيئة فلا إشكال في هذا، مثل ظهر خلف عصر. العدد واحد والهيئة(1/386)
واحدة، هذا لا إشكال فيه. لكن إذا اختلفت الصلاتان، بان كانت صلاة المأموم ركعتين والإمام أربعا، أو بالعكس، أو المأموم ثلاثا والإمام أربعا، أو بالعكس. فنقول: أن كانت صلاة المأموم اكثر فلا إشكال، مثل رجل دخل المسجد يصلي المغرب، ولما أقيمت الصلاة ذكر انه صلي العصر بلا وضوء، فهنا صار عليه صلاة العصر. نقول: ادخل مع الإمام بنية صلاة العصر، وإذا سلم الإمام فانك تأتى بواحدة لتتم لك الأربع. وهذا لا إشكال فيه. أما إذا كانت صلاة الإمام اكثر من صلاة المأموم فهذا نقول: أن دخل المأموم في الركعة الثانية فما بعدها فلا إشكال، وان دخل في الركعة الأولى فحيئنذ يأتي الإشكال، ولنمثل: إذا جئت والإمام يصلي العشاء، وهذا يقع كثيرا في أيام الجمع. يأتي الإنسان من البيت والمسجد جامع للمطر أو ما أشبه ذلك، فإذا جاء وجدهم يصلون العشاء، لكن وجدهم يصلون في الركعتين الأخيرتين، نقول: ادخل معهم
بنية المغرب، صل الركعتين، وإذا سلم الإمام تأتى بركعة ولا إشكال. وإذا جئت ووجدهم يصلون العشاء الآخرة لكنهم في الركعة الثانية، نقول: أدخل معهم بنية المغرب وسلم مع الإمام ولا يضر، ما ذدت ولا نقصت، هذا أيضا لا إشكال فيه، وعند بعض الناس فيه إشكال: يقول: إذا دخلت معه في الركعة الثانية ثم جلست في الركعة التي هي للإمام الثانية، وهي لك الأولى، فتكون جلست في الأولى للتشهد.(1/387)
نقول: هذا لا يضر، الست إذا دخلت مع الإمام في صلاة الظهر في الركعة الثانية فالإمام سوف يجلس للتشهد وهي لك الأولى؟ هذا نفسه ولا إشكال، وإنما الإشكال إذا جئت إلى المسجد ووجدهم يصلون العشاء وهم في الركعة الأولى ودخلت معهم في الركعة الأولى، حيئنذ ستصلي ثلاثا مع الإمام والإمام سيقوم للرابعة، فماذا تصنع؟ أن قمت معه زدت ركعة، صليت أربعا والمغرب ثلاثا لا أربع، وان جلست تخلفت عن الإمام، فماذا تصنع؟ نقول: اجلس، وإذا كنت تريد أن تجمع فانو مفارقة الإمام وأقرا التحيات وسلم، ثم ادخل مع الإمام فيما بقي من صلاة العشاء، لأنك يمكن أن تدركه. أما إذا كنت لا تنوي الجمع، أو ممن لا يحق له الجمع، فانك في هذه الحال مخير، أنشئت فاجلس للتشهد وانتظر
الإمام حتى يكمل الركعة ويتشهد وتسلم معه، وان شئت فانو الانفراد وتشهد وسلم. هذا الذي ذكرناه هو القول الراجح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية_ رحمه الله_. ونية الانفراد هنا للضرورة، لان الإنسان لا يمكن أن يزيد في المغرب علي ثلاث، فالجلوس لضرورة شرعية، ولا باس بهذا. ومما يدخل في قوله: ((وتقيم الصلاة)) أركان الصلاة، والأركان هي الأعمال القولية والفعلية التي لا تصح الصلاة إلا بها، ولا تقوم إلا بها. فمن ذلك: تكبيرة الإحرام: أن يقول الإنسان عند الدخول في(1/388)
الصلاة: ((الله اكبر)) لا يمكن أن تنعقد الصلاة فلو نسي الإنسان تكبيرة الإحرام، جاء ووقف في الصف ثم نسي وشرع في القراءة وصلي فصلاته غير صحيحة وغير منعقدة إطلاقا، لان تكبيرة الإحرام لا تنعقد الصلاة إلا بها، قال النبي صلي الله عليه وسلم لرجل علمه كيف يصلي، قال: ((إذا قمت إلى الصلاة فاسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر)) فلابد من التكبير، وكان النبي صلي الله عليه وسلم مداوما علي ذلك. ومن ذلك أيضا: قراءة الفاتحة: فان قراءة الفاتحة ركن لا تصح الصلاة إلا به، لقوله تعالى: (فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) (المزمل: من الآية20) ،
وهذا أمر. وقد بين النبي صلي الله عليه وسلم هذا المبهم في قوله: (ما تيسر) وان هذا هو الفاتحة، فقال صلي الله عليه وسلم: ((لا صلاة لمن لم يقرا بفاتحة الكتاب)) وقال: ((من صلي صلاة لم يقرا فيها بأم القران فهي خداج)) أي: فاسدة غير صحيحة. فقراءة الفاتحة ركن علي كل مصل: الإمام، والمأموم، والمنفرد، لان النصوص الواردة في ذلك عامة لم تستثن شيئا، وإذا لم يستثني الله تعالى ورسوله شيئا فان الواجب الحكم بالعموم، لأنه لو كان هناك مستثني(1/389)
لبينه الله ورسوله، كما قال الله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل: من الآية89) ولم يرد عن النبي صلي الله عليه وسلم حديث صحيح صريح في سقوط الفاتحة عن المأموم، لا في السرية والجهرية، لكن الفرق بين السرية والجهرية، أن الجهرية لا تقرا فيها إلا الفاتحة، وتسكت وتسمع لقراءة إمامك. أما السرية فتقرا الفاتحة وغيرها حتى يركع الإمام، لكن دلت السنة علي انه يستثني من ذلك ما إذا جاء الإنسان والإمام راكع، فانه إذا جاء والإمام راكع تسقط عنه قراءة الفاتحة، ودليل ذلك ما أخرجه البخاري عن آبي بكرة_ رضي الله عنه_ انه دخل والنبي صلي الله
عليه وسلم راكع في المسجد، فأسرع وركع قبل أن يدخل في الصف، ثم دخل في الصف، قلما سلم النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((أبكم الذي ركع دون الصف ثم مشي إلى الصف؟!)) قال أبو بكرة: أنا يا رسول الله! قال: ((زادك الله حرصا ولا تعد)) (،) لان النبي صلي الله عليه وسلم علم أن الذي دفع أبا بكرة لسرعته والركوع قبل بان يصل إلى الصف هو الحرص علي إدراك الركعة، فقال له: ((زادك الله حرصا ولا تعد)) أي: لا تعد لمثل هذا العمل فتركع قبل الدخول في الصف وتسرع، قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) .(1/390)
ولم يأمره النبي صلي الله عليه وسلم بقضاء الركعة التي أسرع لإدراكها، ولو كان لم يدركها لأمره النبي صلي الله عليه وسلم بقضائها، لان النبي صلي الله عليه وسلم لا يمكن أن يؤخر البيان عن وقت الحاجة، لأنه مبلغ، والبلغ يبلغ متي احتيج الي التبليغ، فإذا كان الرسول_ عليه الصلاة والسلام_ لم يقل له انك لم تدرك الركعة علم انه قد أدركها، وفي هذه الحال تسقط عنه الفاتحة. وهناك تعليل أيضا مع الدليل، وهو أن الفاتحة إنما تجب مع القيام، والقيام في هذه الحال قد سقط من اجل متابعة الإمام، فإذا سقط القيام سقط الذكر الواجب فيه. فصار الدليل والتعليل يدلان علي أن من جاء والإمام راكع فانه يكبر تكبيرة الإحرام وهو قائم ولا يقرا، بل يركع، لكن أن كبر للركوع مرة ثانية فهو افضل، وان لم يكبر فلا حرج، وتكفيه التكبيرة الأولى. ويجب أن يقرا الإنسان الفاتحة وهو قائم، وأما ما يفعله بعض الناس إذا قام الإمام للركعة الثانية مثلا، تجده يجلس ولا يقوم مع الإمام وهو يقرا الفاتحة، فتجده يجلس إلى أن يصل نصف الفاتحة، ثم يقوم وهو قادر علي القيام: نقول لهذا الرجل: أن قراتك للفاتحة غير صحيحة، لان الفاتحة يجب أن تقرا في حال القيام، وأنت
قادر علي القيام وقد قرأت بعضها وأنت قاعد، فلا تصح هذه القراءة. أما ما زاد عن الفاتحة فهو سنة في الركعة الأولى والثانية، وأما في الركعة الثالثة في المغرب، أو في الثالثة والرابعة في الظهر والعصر والعشاء فليس بسنة، فالسنة الاقتصار فيما بعد الركعتين علي الفاتحة، وان قرا(1/391)
احيانا في العصر والظهر شيئا زائدا عن الفاتحة فلا باس به، لكن الأصل الاقتصار علي الفاتحة في الركعتين اللتين بعد التشهد الأول أن كانت رباعية، أو الركعة الثالثة أن كانت ثلاثية. ومن أركان الصلاة: الركوع، وهو الانحناء تعظيما لله عز وجل، لأنك تستحضر انك واقف بين يدي الله، فتنحني تعظيما له عز وجل، ولها قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((أما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل)) (،) أي: قولوا سبحان ربي العظيم، لان الركوع تعظيم بالفعل، وقول: ((سبحان ربي العظيم)) تعظيم بالقول، فيجتمع التعظيمان بالإضافة إلى التعظيم الأصلي وهو تعظيم القلب لله، لأنك لا تنحني هكذا إلا لله تعظيما له، فيجتمع في الركوع ثلاثة تعظيمات:
1_ تعظيم القلب.
2_ تعظيم الجوارح.
3_ تعظيم اللسان.
فالقلب: تستشعر انك ركعت لله، واللسان: تقول سبحان ربي العظيم، والجوارح: تحني ظهرك. والواجب في الركوع الانحناء بحيث يتمكن الإنسان من مس ركبتيه بيديه. فالانحناء اليسير لا ينفع، فلابد من أن تعصر ظهرك حتى تتمكن من(1/392)
مس ركبتيه بيديه. وقال بعض العلماء: أن الواجب أن يكون إلى الركوع التام اقرب منه إلى القيام التام والمؤدي متقارب. المهم انه لابد من هصر الظهر. ومما ينبغي في الركوع أن يكون الإنسان مستوي الظهر لا محدودبا، وان يكون رأسه محاذيا لظهره، ولن يضع يديه علي ركبتيه مفرجتي الأصابع، وان يجافي عضديه عن جنبيه، ويقول سبحان ربي العظيم، يكررها ويقول: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)) ويقول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح)) . ومن أركان الصلاة: السجود، قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) (الحج: من الآية77) وقال النبي صلي الله عليه وسلم ((أمرت أن نسجد علي سبعة اعظم: علي الجبهة_ وأشار بيده إلى انفه_ واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين)) ، فالسجود لابد منه، لأنه ركن لا تتم الصلاة إلا به. ويقول في سجوده ((سبحان ربي الأعلى))
. وتأمل الحكمة انك في الركوع انك تقول: ((سبحان ربي العظيم)) لان الهيئة هيئة تعظيم، وفي السجود(1/393)
تقول: ((سبحان ربي الأعلى)) لان الهيئة هيئة نزول. فالإنسان نزل اعلي أفي جسده_ وهو الوجه _ إلى اسفل ما في جسده_ وهو القدمين_ فتري في السجود أن الجبهة والقدمين في مكان واحد، وهذا غاية ما يكون في التنزيه، ولهذا تقول: ((سبحان ربي الأعلى)) أي أنزه ربي الأعلى الذي هو فوق كل شئ عن كل سفل ونزول. أما أنا فمنزل رأسي واشرف أعضائي إلى محل القدمين ومداسها، فتقول: ((سبحان ربي العلي)) تكررها ما شاء الله، ثلاثا أو اكثر حسب الحال، وتقول: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي)) (،) وتقول ((سبوح قدوس رب الملائكة والروح)) وتكثر من الدعاء بما شئت من أمور الدين ومن أمور الدنيا، لان النبي صلي الله عليه مسلم يقول: ((وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم)) (،) وقال عليه الصلاة والسلام: ((اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)) (،) فاكثر من الدعاء بما شئت، من سؤال الجنة، والتعوذ من النار، وسؤال علم نافع، وعمل صالح، وإيمان راسخ، وهكذا. وسؤال بيت جميل، وامرأة صالحة، وولد صالح، وسيارة، وما
شئت من خير الدين والدنيا، لان الدعاء عبادة ولو في أمور الدنيا، قال(1/394)
الله: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: من الآية60) ، قال: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة: من الآية186) وفي هذه الآية العصيبة ينبغي أن نطيل السجود، وان نكثر من الدعاء بان يأخذ الله علي أيدي الظالمين المعتدين، ونلح ولا نستبطئ الإجابة، لان الله حكيم قد لا يستجيب الدعوة بأول مرة أو ثانية أو ثالثة، من اجل أن يعرف الناس شدة افتقارهم إلى الله فيزدادوا دعاء، والله_ سبحانه وتعالى_ احكم الحاكمين_ حكمته بالغة لا نستطيع أن نصل إلى معرفتها، ولكن علينا أن نفعل ما امرنا به من كثرة الدعاء. ويسجد الإنسان بعد الرفع من الركوع، ويسجد علي ركبتيه أولا ثم كفيه، ثم جبهته وانفه، ولا يسجد علي اليدين أولا، لان النبي صلي الله عليه وسلم نهي عن ذلك فقال: ((إذا سجد أحدكم فلا يبرك بروك البعير)) (،) وبروك البعير يكون علي اليدين أولا كما هو مشاهد، كل من شاهد البعير إذا بركت يجد إنها تقدم يديها، فلا تقدم اليدين، والرسول_ عليه الصلاة والسلام_ نهي عن ذلك، لان
تشبه بني آدم بالحيوان _ ولا سيما في الصلاة_ أمر غير مرغوب فيه.(1/395)
ولم يذكر الله تعالى تشبيه بني آدم بالحيوان إلا في مقام الذم. استمع إلى قول الله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) (لأعراف: من الآية175الي176) ، وقال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ) (الجمعة: من الآية5) ، وقال النبي صلي الله عليه وسلم: ((العائد في هبته كالبيقئ ثم يعود في قيئه)) (،) وقال صلي الله عليه وسلم: ((الذي يتكلم يوم الجمعة والإمام يخطب كمثل الحمار يحمل أسفارا)) . فأنت تري تشبيه بني آدم بالحيوان لم يكن إلا في مقام الذم، ولهذا نهي المصلي أن يبرك كما يبرك البعير فيقدم يديه! بل قدم الركبتين إلا إذا كان هناك عذر، كرجل كبير يشق عليه أن ينزل الركبتين أولا، فلا حرج أو
إنسان مريض، أو إنسان في ركبتيه أذى، وما أشبه ذلك. ولا بد أن يكون السجود علي الأعضاء السبعة: الجبهة، والأنف تبع لها، والكفين، والركبتين، وأطراف القدمين. فهذه سبعة امرنا أن نسجد(1/396)
عليهما كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، والذي امرنا ربنا_ عز وجل_ فنقول: سمعا وطاعة، ونسجد علي الأعضاء السبعة في جميع السجود، فما دمنا ساجد ينفلا يجوز أن نرفع شيئا من هذه الأعضاء، بل لابد أن تبقي هذه الأعضاء ما دمنا ساجدين. وفي حال السجود ينبغي للإنسان أن يضم قدميه بعضها إلى بعض ولا يفرج. أما الركبتان فلم يرد فيهما شئ، فتبقي علي ما هي عليه علي الطبيعة. وأما اليدان فتكونان علي حذو المنكبين، أي: الكتفين، أو تقدمهما قليلا حتى تسجد بينهما، فلها صفتان: الصفة الأولى أن تردها حتى تكون علي حذاء الكتف، والصفة الثانية: أن تقدمها قليلا حتى تكون علي حذاء الجبهة، كلتاهما وردتا عن الرسول عليه الصلاة والسلام. وينبغي أن تجافي عضديك عن جنبيك، وان ترفع ظهرك. ألا إذا كنت في الصف وخفت أن يتأذى جارك من مجافاة العضدين فلا تؤذي جارك، لأنه لا ينبغي أن تفعل سنة يتأذى بها أخوك المسلم وتشوش عليه. وقد رأيت بعض الاخوة الذين يحبون أن
يطبقوا السنة ويمتدون في حال السجود امتدادا طويلا، حتى تكاد تقول انهم منبطحون، وهذا لا شك انه خلاف السنة، وهو بدعة. بل السنة أن ترفع ظهرك وان تعلو فيه. وهذه الصفة التي أشرت إليها من بعض الاخوة كما إنها خلاف السنة ففيها إرهاق عظيم للبدن، لان التحمل في هذه الحال يكون علي الجبهة والأنف، وتجد الإنسان يضجر من أطال السجود.(1/397)
ففيها مخالفة السنة وتعذيب البدن، فلهذا ينبغي إذا رأيتم أحدا يسجد علي هذه الكيفية أن ترشدوه إلى الحق، وتقولوا له: هذا ليس بسنة. وينبغي في حال السجود أيضا أن يكون الإنسان خاشعا لله _ عز وجل_ مستحضرا علو الله سبحانه وتعالى، لأنك سوف تقول: سبحان ربي الأعلى، أي تنزيها له بعلوه_ عز وجل_ عن كل سفل ونزول، ونحن نعتقد بان الله عال بذاته فوق جميع مخلوقاته، كما قال الله: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (الأعلى: 1) ، واثبات علو الله في القران والسنة اكثر من أن يحضر. والإنسان إذا دعا يرفع يديه إلى السماء إلى الله عز وجل، وفي السماء فوق كل شئ، وقد ذكر الله أن استوي علي عرشه في سبع آيات من القران، والعرش اعلي المخلوقات، والله فوق العرش جلا وعلا. ومن أركان الصلاة: الطمأنينة، أي:
الاستقرار والسكون في أركان الصلاة، فيطمئن في القيام، وفي الركوع، وفي القيام بعد الركوع، وفي السجود، وفي الجلوس بين السجدتين، وفي بقية أركان الصلاة، وذلك لما أخرج الشيطان_ البخاري ومسلم_ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا جاء فدخل المسجد فصلي، ثم سلم علي النبي صلي الله عليه وسلم فرد عليه السلام وقال: ((ارجع فصل فانك لم تصل)) يعني: لم تصلي صلاة تجزئك. فرجع الرجل فصلي، ثم جاء فسلم علي النبي صلي الله عليه وسلم فرد عليه(1/398)
وقال: ((ارجع فصل فانك لم تصل)) فرجع وصلي ولكن كصلاته الأولى، ثم جاء إلى النبي صلي الله وسلم عليه، فرد عليه وقال: ((ارجع فصل فانك لم تصل)) فقال: والذي بعثك بالحق لا احسن غير هذا فعلمني. وهذه هي الفائدة من كون النبي صلي الله عليه وسلم لم يعلمه لأول مرة، برده حتى صلي ثلاث مرات، من اجل أن يكون متشوفا للعلم، مشتاقا إليه، حتى يأتيه العلم ويكون كالمطر النازل علي ارض يابسة تقبل الماء، ولهذا اقسم بأنه لا يحسن غير هذا، وطلب من النبي صلي الله عليه وسلم أن يعلمه. ومن المعلوم أن النبي صلي الله عليه وسلم سوف يعلمه، لكن فرق بين المطلوب والمجلوب، إذا كان هو الذي طلب أن يعلم
صار اشد تمسكا وحفظا لما يلقي إليه. وتأمل قسمة بالذي بعث النبي صلي الله عليه وسلم بالحق. فقال: ((والذي بعثك بالحق)) وما قال ((والله!) لاجل أن يكون معترفا غاية الاعتراف بان ما يقوله النبي صلي الله عليه وسلم حق. فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ((إذا قمت للصلاة فاسبغ الوضوء)) أي: توضا وضوءا كاملا، ((ثم استقبل القبلة فكبر)) أي: قل: الله اكبر، وهذه تكبيرة الإحرام. ((ثم أقرا ما تيسر معك من القران)) وقد بينت السنة انه لابد من قراءة الفاتحة. ((ثم اركع حتى تطمئن راكعا)) أي: لا تسرع، بل اطمئن واستقر. ((ثم ارفع حتى تطمئن قائما)) أي: إذا رفعت من الركوع اطمئن كما كنت في الركوع، ولهذا من السنة أن يكون الركوع، ولهذا من السنة أن يكون الركوع والقيام بعد الركوع متساويين أو متقاربين. ((ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا)) أي: تطمئن وتستقر. ((ثم ارفع حتى تطمئن جالسا)) وهذه الجلسة بين(1/399)
السجدتين. ((ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا)) هذا هو السجود الثاني. قال: ((ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)) أي: افعل هذه الأركان: القيام، والركوع، والرفع منه، والسجود، والجلوس بين السجدتين، والسجدة الثانية، في جميع الصلاة.
الشاهد من هذا قوله: ((حتى تطمئن)) وقوله فيما قبل: ((انك لم تصل)) فدل هذا علي انه من لا يطمئن في صلاته في صلاة له. ولا فرق في هذا بين الركوع والقيام بعد الركوع، والسجود والجلوس بين السجدتين، كلها لابد أن يطمئن الإنسان فيها. قال بعض العلماء والطمئنية أن يستقر بقدر ما يقول الذكر الواجب في الركن، ففي الركوع بقدر ما تقول: ((سبحان ربي الأعلى)) ، وفي الجلوس بين السجدتين بقدر ما تقول: ((رب اغفر لي)) ، في القيام بعد الركوع بقدر ما تقول: ((ربنا ولك الحمد)) ، فهكذا. ولكن الذي يظهر من السنة أن الطمأنينة أمر فوق ذلك، لأن كون الطمأنينة بمقدار أن تقول ((سبحان ربي العظيم)) في الركوع لا يظهر لها أثر، لان الإنسان إذا قال: الله اكبر، سبحان ربي العظيم، ثم يرفع، أين الطمأنينة؟ فالظاهر انه لابد من استقرار بحيث يقال: هذا الرجل مطمئن. وعجبا لابن آدم كيف يلعب به الشيطان!! هو واقف بين يدي الله _ عز وجل_ يناجي الله ويتقرب إليه بكلامه وبإثناء عليه وبالدعاء، ثم كأنه ملحوق في صلاته، كان عدوا لاحق له، فتراه يهرب من الصلاة، لماذا؟(1/400)
أنت لو وقفت بين يدي ملك من ملوك الدنيا يناجيك ويخاطبك، لو بقت معه ساعتين
تكلمه لوجدت ذلك سهلا، تقف علي قدميك، ولا تنتقل من ركوع إلى سجود، والي جلوس، وتفرح أن هذا الملك يكلمك ولو جلس معك مدة طويلة، فكيف وأنت تناجي ربك الذي خلقك، ورزقك، وأمدك، واعدك، تناجيه وتهرب هذا الهروب؟! لكن الشيطان عدو للإنسان، والعاقل الحازم المؤمن هو الذي يتخذ الشيطان عدوا، كما قال الله تعالى (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (فاطر: 6) . فالواجب علي الإنسان أن يطمئن في صلاته طمأنينة تظهر عليه في جميع أفعال الصلاة، وكذلك أقوالها. مسالة: ما حكم من لم يقم الصلاة؟ الجواب عن ذلك أن نقول: أما من لم يقمها علي وجه الكمال، يعني انه أخل ببعض الأشياء المكملة للصلاة، فان هذا محروم من الأجر الذي يحصل له بإكمال، لكنه ليس بإثم، فمثلا: لو اقتصر علي ((سبحان ربي العظيم)) في الركوع مع الطمأنينة لكان كافيا، لكنه محروم من زيادة الأجر في التسبيح. وأما من لم يقمها أصلا، يعني انه تركها بالكلية، فهذا كافر مرتد عن الإسلام كفرا مخرجا عن الملة، يخرج من عداد المسلمين في الدنيا، ويكن في عداد الكافرين في الآخرة، اخبر النبي
صلي الله عليه وسلم انه يحشر مع فرعون وهامان، وقارون، وأبي خلف، وهؤلاء رؤوس الكفرة يحشر معهم.(1/401)
والعياذ بالله أما في الدنيا فانه كافر مرتد يجب علي ولي الأمر أن يدعوه للصلاة، فان صلي فذاك، وان لم يصل قتله قتل ردة والعياذ بالله، وإذا قتل قتل ردة حمل في سيارة بعيدا عن البلد، وحفر له حفرة ورمس فيها حتى لا يتأذى الناس برائحته ولا يتأذى أهله وأصحابه بمشاهدته، فلا حرمة له لو ابقي علي وجه الأرض هكذا، ولهذا لا نغسله، ولا نكفنه، ولا نصلي عليه، ولا ندنيه من مساجد المسلمين للصلاة عليه، لأنه كافر مرتد. فإذا قال قائل: ما هذا الكلام؟ أهذا جزاف أم تحامل أم عاطفة؟ قلنا: ليس جزافا، ولا تحاملا، ولا عاطفة، ولكننا نقول بمقتضى دلالة كلام الله تعالى وكلام رسوله صلي الله عليه وسلم وكلام أصحاب رسوله رضي الله عنهم. أما كلام الله: فقد قال الله تعالى في سورة التوبة عن المشركين: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (التوبة: من الآية11) وان لم يكن؟ فليس أخوانا لنا في الدين، وإذا لم يكونوا أخوانا لنا في الدين فهم كفرة، لان كل مؤمن ولو كان عاصيا اكبر معصية لكنها لا
تخرج من الإسلام فهو أخ لنا، إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين فمن المعلوم أن قتال المسلم كفر، لكن لا يخرج من الملة، لان النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) (،) ومع ذلك افن هذا المقاتل لأخيه أخ لنا، ولا يخرج من دائرة،(1/402)
الإيمان، لقول الله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات: من الآية9) إذا الطائفتان المقتتلتان اخوة لنا مع إنها معصية عظيمة. فإذا قال الله في المشركين: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (التوبة: من الآية11) ، إذا إذا لم يقوموا بهذه الأعمال فلسوا باخوة لنا، هذا من القران أما من السنة: فاستمع إلى ما رواه مسلم في صحيحه عن جابر ابن عبد الله_ رضي الله عنهما_ أن الرسول صلي الله عليه وسلم قال: ((بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة)) (،) والبينية تقتضي
التمييز والتفريق، وان كل واحد غير الآخر، ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) فإذا تركها صار غير مسلم، صار مشركا أو كافرا. وما رواه أهل السنن عن بريدة بن الحصيب_ رضي الله عنه_ أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)) ، العهد الذي بيننا وبين الكفار أي: الشيء الفاصل الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر، صار منهم وليس منا.(1/403)
وهذا نص في الموضوع! أما ما قاله الصحابة رضي الله عنهم: فاستمع إلى ما قاله عبد الله بن شقيق_ وهو من التابعين المشهورين_ قال رحمه الله: ((كان أصحاب محمد صلي الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة)) . وقد نقل إجماع الصحابة علي كفر تارك الصلاة إسحاق بن راهويه الإمام المشهور رحمه الله، وبعض أهل العلم. وإذا قدر أن فيهم من خالف فان جمهورهم_ أهل الفتوى منهم_ يقولون انه كافر. هذه أدلة من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلي الله عليه وسلم وكلام الصحابة رضي الله عنهم. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وناهيك به: ((لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة)) ولا نافية للجنس، تنفي الكثير والقليل، والذي لاحظ له لا قليل ولا كثير في الإسلام ما هو إلا كفر، إذن فمن ترك الصلاة فهو كافر. ويترب علي ترك الصلاة أمور دنيوية وأمور أخروية: الأمور الدنيوية: أولا: انه يدعي إلى الصلاة، فان صلي وإلا قتل، وهذا واجب علي ولاة الأمور وجوبا، وهم إذا فرطوا في هذا فسوف يسألهم الله تعالى إذا(1/404)
وقفوا بين يديه، لان كل مسلم ارتد عن الإسلام فانه يدعي إليه، فان رجع وإلا قتل. قال الرسول صلي الله عليه وسلم: ((من بدل
دينه فاقتلوه)) ثانيا: لا يزوج إذا خطب، وان زوج فالعقد باطل، والمرأة لا تحل له أن يطأها، وهو يطأ أجنبية والعياذ بالله، لان العقد غير صحيح، لقوله تعالى: (? فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) (الممتحنة: من الآية10) ثالثا: انه لا ولاية له علي أولاده، ولا علي أخواته، ولا علي أحد من الناس، لان الكافر لا يمكن أن يكون وليا علي مسلم أبدا، حتى بنته لا يزوجها. ولو فرضنا واحدا بعدما تزوج، وكبر وصار له بنات، لا يصلي والعياذ بالله، فانه لا يمكن أن يزوج بنته. ولكن إذا قال قائل: هذا مشكل، يوجد أناس عندهم بنات وهم لا يصلون، كيف نعمل؟ نقول: في مثل هذا الحال إذا كان لا يمكن التخلص من أن يعقد النكاح للبنات فان الزوج يجعل أخاها أو عمها مثلا أو أحدا من عصابتها الأقرب فالأقرب، حسب ترتيب الولاية، يعقد له بالسر عن أبيها حتى(1/405)
يتزوج امرأة بعقد صحيح، أما عقد أبيها لها وهو مرتد كافر فلا يصح، ولو يعقد ألف مرة فليس بشيء. رابعا: لو ترك الصلاة في أثناء زواجه انفسخ نكاحه، ومثاله: رجل تزوج أمراه وهي تصلي وهو يصلي، وبعد ذلك ترك
الصلاة، فإننا نقول: يجب التفريق بينه وبين المرأة وجوبا حتى يصلي، فإذا فرقنا بينهما واعتدت فانه لا يمكن أن يرجع إليها، أما قبل انتهاء العدة، فانه إذا اسلم ورجع إلى الإسلام وصلي فهي زوجته، أما إذا انتهت العدة فقد انفصلت منه، ولا تحل له إلا بعقد جديد علي قول جمهور أهل العلم، وبعضهم يقول: إنها إذا انتهت من العدة ملكت نفسها، ولكن لو اسلم أرادت أن ترجع إليه فلا باس بدون عقد، وهذا القول هو الراجح، دلالة السنة عليه، لكن فائدة العدة هو إنها قبل العدة إذا اسلم لا خيار لها، وأما بعد العدة فلها الخيار إذا اسلم، أن شاءت رجعت إليه، وان شاءت لم ترجع. خامسا: ومن ذلك أيضا انه لا ولاية له علي أحد ممن يتولاه لو كان مسلما، لان من شروط الولاية العدالة، والكافر ليس بعدل، فلا يكون تارك الصلاة وليا علي أحد من عباد الله المسلمين أبدا، حتى لو كانت ابنته فانه لا يزوجها، لأنه ليس له ولاية عليها. سادسا: ومن ذلك أيضا انه لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلي عليه، ولا يدفن مع المسلمين، وإنما يخرج به إلى البر ويحفر له حفرة يرمس فيها رمسا لا قبرا، لأنه ليس له رحمة.(1/406)
ولا يحل لاحد يموت عنده شخص وهو يعرف انه لا يصلي أن يغسله أو
يكفنه أو يقدمه للمسلمين يصلون عليه، لأنه يكون بذلك غاشا للمسلمين، فان الله تعالى قال لنبيه_ عليه الصلاة والسلام_ في حق المنافقين، وهم كفار لكن يظهرون الإسلام، قال: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ) (التوبة: من الآية84) فدل هذا علي أن الكفر مانع من الصلاة، ومن القيام علي القبر بعد الدفن. وقال الله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (التوبة: 113) ويسال بعض الناس عن الرجل المتهم بترك الصلاة يقدم للصلاة عليه بعد موته وأنت شاك هل هو يصلي أولا؟ فنقول: إذا كان هذا الشك مبنيا علي اصل فانك إذا أردت أن تدعوا له تقول: اللهم أن كان مؤمنا فاغفر له وارحمه)) فتقيده، وبهذا تسلم من شره. وأما الأمور الأخروية المترتبة علي ترك الصلاة فمنها:
العذاب الذي في قبره، كما يعذب الكافر واشد.
انه يحشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف.
انه يدخل النار فيخلد فيها ابد الآبدين.
وذهب بعض العلماء إلى انه لا يكفر كفرا خارجا عن الملة، واستدلوا ببعض النصوص، ولكن هذه النصوص لا تخرجه عن أحوال خمسة.(1/407)
أما انه ليس فيها دلالة أصلا علي هذه المسالة، مثل قول بعضهم: أن هذا يعارضه قول الله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: من الآية48) ومن جملته تارك الصلاة. فنقول: أن تارك الصلاة في ظاهر حديث جابر الذي رواه مسلم انه مشرك وان كان لا يسجد للصنم، لكنه أتبع لهواه، وقد قال الله: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) (الجاثية: من الآية23) ثم علي فرض أن مفهوم الآية أن ما دون الشرك تحت المشئية، فان هذا المفهوم خص بالأحاديث الدالة علي أن تارك الصلاة كافر، وإذا كان المنطوق_ وهو اقوي دلالة من المفهوم_ يخصص عمومه بما دل علي التخصيص، فما بالك بالمفهوم؟ أو استدلوا بأحاديث مقيدة بما لا يمكن لمن اتصف به أن يدع الصلاة. مثل قول النبي صلي الله عليه وسلم: ((أن الله قد حرم علي النار من قال لا الاه إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) (،) فان قوله: ((يبتغي بذلك وجه الله)) ، تمنع منعا باتا أن
يدع الإنسان الصلاة، لان من قال لا اله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله، فلابد أن يعمل عملا لما يبتغيه وهو وجه الله. واعظم عمل يحصل به رضا الله_ عز وجل_ هو الصلاة. فهذا الحديث ليس فيه دليل علي أن تارك الصلاة لا يفكر. لأنه مقيد بقيد يمتنع معه غاية الامتناع أن يدع الإنسان الصلاة.(1/408)
3_ أو مقيد بحال يعذر فيها من ترك الصلاة، مثل حديث حذيفة الذي أخرجه بعض أهل السنن في قوم لا يعرفون من الإسلام إلا قول لا الاه إلا الله، وهذا في وقت اندراس الإسلام، وصار لا يعلم عن شئ منه إلا قول لا الاه إلا الله فإنها تنجيهم من النار، لانهم مذودون بعدم العلم بفرائض الإسلام، ونحن نقول بهذا، لو أن قوما في بادية بعيدون عن المدن، وبعيدون عن العلم، لا يفهمون من الإسلام إلا ((لا الاه إلا الله)) وماتوا علي ذلك فليسوا كفارا.
4_ واستدلوا بأحاديث عامة، وهذه الأحاديث من قواعد أصول الفقه أن العام يخصص بالخاص، فالأحاديث العامة الدالة علي أن من قال لا اله إلا الله فهو في الجنة، وما أشبه ذلك، نقول: هذه مقيدة أو مخصوصة بأحاديث كفر تارك الصلاة.(1/409)
5_ واستدلوا بأحاديث ضعيفة لا تقاوم الأحاديث الصحيحة الدالة علي كفر تارك الصلاة، فضلا عن أن تعارضها، فهي لا تعارض ولا تقاوم الأحاديث الدالة علي كفر تارك الصلاة. ثم أن بعضهم لم يتيسر له إقامة الدليل علي أن تارك الصلاة لا يكفر قال: انه يحمل قوله صلي الله عليه وسلم: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) ، علي الكفر الأصغر والشرك الأصغر، فيكون بمعني قول ابن عباس رضي الله عنهما: ((كفر دون كفر)) فيقال: ما الذي يوجب لنا أن نحمل الحديث علي ذلك، لان الكفر إذا أطلق ولم يوجد له معارض فهو الكفر الحقيقي الأكبر. كيف وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((بين الرجل وبين الكفر والشرك)) ، فجعل هنا حدا فاصلا ((بين)) والبينية تقتضي المتباينين منفصلان بعضهما عن بعض، وان المراد بالكفر الكفر الأكبر. وحيئذ تكون أدلة القول بكفر تارك الصلاة موجبة لا معارض لها ولا مقاوم لها، والواجب علي العبد المؤمن إذا دل كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم علي حكم من الأحكام أن يقول به، لأننا نحن ليس بمشرعين، بل المشرع الله، ما قاله تعالى وما قاله رسوله صلي الله عليه وسلم فهو الشرع، نأخذ به ونحكم بمقتضاه،
ونؤمن به سواء وافق أهواءنا أم خالفها، فلا بد أن نأخذ بما دل عليه الشرع.(1/410)
واعلم أن كل خلاف يقع بين الأمة إذا كان الحامل عليه حسن القصد مع بذل الجهد في التحري، لا يلام عليه ولا يضلل، لأنه مجتهد، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فاخطا، ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله اجر)) . وليس من حق الإنسان أن يقدح في أخيه إذا خالفه في الرأي بمقتضي الدليل عنده. أما من عاند واصر بعد قيام الحجة عليه فهذا هو الذي يلام. وبهذا التقرير نعرف انه يجب الحذر التام من التهاون بالصلاة، وانه يجب علي من رأي شخصا متهاونا فيها أن ينصحه بعزيمة وجد، لعل الله أن يهديه علي يده فينال بذلك خيرا كثيرا. وقوله: ((إيتاء الزكاة)) : إيتاء بمعني إعطاء، وإتيان بمعني مجيء، وأتى بمعني جاء، وأتى بمعني أعطى، فإيتاء الزكاة يعني إعطائها لمن عين الله سبحانه أن يعطوا إياها، والزكاة مأخوذة من الزكاة، وهو الطهارة والنماء، لان الذكي يطهر نفسه من البخل، وينمي ماله بالزكاة قال الله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً(1/411)
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (التوبة: من الآية103) والزكاة تعريفها: نصيب مقدرا شرعا من المال مخصوص لطائفة مخصوصة. ((نصيب من المال)) وليس كل
المال، بل أموال معينه بينها الرسول عليه الصلاة والسلام، وبعضها مبين في القران. وليس كل هذه الأجناس من المال تجب فيه الزكاة، بل لابد من شروط. والزكاة جزء بسيط يؤدي بها الإنسان ركنا من أركان الإسلام، يطهر بها نفسه من البخل والرذيلة، ويطهر بها صفحات كتابه من الخطايا، كما قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)) ، وافضل الصدقات الزكاة، فدرهم تخرجه في زكاتك افضل من درهم تخرجه طوعا، لان الله تعالى قال في الحديث القدسي: ((وما تقرب إلى عبدي بشي احب إلى مما افترضته عليه)) ، وركعة من صلاة مفروضة افضل من ركعة من صلاة تطوع، فالفرائض افضل من التطوع. ففي الصلاة تكفير الخطايا، وفيها الإحسان إلى الخلق، لان المزكي يحسن إلى المدفوع إليه الزكاة فيدخل في عداد المحسنين الذين يدخلون(1/412)
في محبة الله، كما قال الله تعالى: (? وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: من الآية195) وفي الزكاة أيضا: تأليف بين الناس، لان الفقراء إذا أعطاهم الأغنياء من الزكاة، ذهب ما في نفوسهم من الحقد علي الأغنياء، أما إذا منعهم الأغنياء ولم يتفضلوا علهم بشيء صار في نفوسهم
أحقاد علي الأغنياء. وفي الزكاة أيضا إغناء للفقراء عن التسلط، لان الفقير إذا قدر أن الغني لا يعطيه شيئا فانه يخشى منه أن يتسلط وان يكسر الأبواب وينهب الأموال، لأنه لابد أن يعيش، لابد أن يأكل ويشرب، فإذا كان لا يعطي شيئا فان الجوع والعطش والعري يدفعه علي أن يتسلط علي الناس بالسرقة والنهب وغير ذلك. وفي الزكاة أيضا: جلب للخيرات من السماء، فانه قد ورد في الحديث: ((ما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء)) . فإذا أدى الناس زكاة أموالهم انزل الله لهم بركات من السماء والأرض، وحصل في هذا نزول المطر ونبات الأرض وشبع المواشئ وسقي الناس بهذا الماء الذي ينزل من السماء، وغير ذلك من المصالح الكثيرة.(1/413)
وفي الزكاة أيضا: أعانه للمجاهدين في سبيل الله، لان من أصناف الزكاة الجهاد في سبيل الله، كما قال الله: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية60) وفي الزكاة تحرير الرقيق من الرق، فان الإنسان يجوز له أن يشتري عبدا مملوكا من الزكاة فيعتقه، لان الله قال: (? وَفِي الرِّقَابِ) (التوبة: من الآية60) وفي الزكاة أيضا: فك اذمم من الديون. كم من إنسان ابتلي بتراكم الديون عليه فتؤدي عنه من الزكاة، فيحصل في هذا خير كثير، فكاك لذمته ورد حق لمن له الحق. وفي الزكاة أيضا: إعانة المسافرين الذين تنقطع بهم السبل، فيضيع ماله الذي أتى به معه ولا يجد ما يوصله إلى بلده، فهذا يعطي من الزكاة مل يوصله إلى بلده ولو كان غنيا في بلده. المهم أن الزكاة فيها مصالح كثيرة، ولهذا صارت ركنا من أركان الإسلام. واختلف العلماء فيما لو تهاون الإنسان بها: هل يكفر كما يكفر بالتهاون بالصلاة أو لا؟ والصحيح انه لا يكفر، ودليل ذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة_ رضي الله عنه_ أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحي له صفائح من نار فاحمي عليها في نار جهنم، فيكوي بها جنبه
وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد فيري سبيله: أما إلى(1/414)
الجنة وأما إلى النار)) ، فان هذا الحديث يدل علي انه لا يكفر، لأنه لو كان كافرا بترك الزكاة لم يكن له سبيل إلى الجنة، والحديث يقول: ثم يري سبيله: أما إلى الجنة وأما إلى النار)) وعن الإمام احمد_ رحمه الله_ رواية انه يكفر إذا بخل بالزكاة، قال: لأنها ركن من أركان الإسلام، وإذا فات ركن من أركان البيت سقط البيت. ولكن الصحيح انه: لا يكفر، إلا انه علي خطر عظيم_ والعياذ بالله_ وفيه هذا الوعيد الشديد. مسالة في الأموال الزكوية: لان الأموال ليست كلها فيها زكاة، بل منها ما فيه الزكاة ومنها ما لا زكاة فيه، فالزكاة واجبة في أمور: أولا: الذهب والفضة: فتجب الزكاة فيهما علي أي حال كانا، سواء كانت نقودا كالدراهم والدنانير، أو تبرا كالقطع من الذهب والفضة، أو حليا يلبس أو يستعار، أو غير ذلك. فهذا المعدن_ وهو الذهب والفضة_ فيه الزكاة علي كل حال، لكن بشرط أن يبلغ النصاب لمدة سنة كاملة. والنصاب من الذهب: خمسة وثمانون جراما، والنصاب من الفضة ستة وخمسون ريالا سعوديا، وهي خمس مائة وخمسة وتسعون جراما. فمن
عنده من الذهب أو الفضة هذا المقدار ملك النصاب، فإذا استمر ذلك إلى تمام السنة ففيه الزكاة، وان نقص فلا زكاة فيه.(1/415)
لو كان عنده ثمانون جراما فلا زكاة عليه، او كان عنده خمس مائة وتسعون جراما من الفضة فلا زكاة عليه. واختلف العلماء: هل يكمل نصاب الذهب بالفضة أو لا؟ يعني لو ملك نصف نصاب من الذهب ونصف نصاب من الفضة، فهل يكمل بعضها ببعض ونقول انه ملك نصابا فتجب عليها الزكاة أو لا؟ الصحيح تنه لا يكمل الذهب من الفضة ولا الفضة من الذهب، فكل واحد مستقل بنفسه، كما انه لا يكمل البر من الشعير، أو الشعير من البر، فكذلك لا يكمل الذهب بالفضة، ولا الفضة بالذهب، فلو كان عند الإنسان نصف نصاب من الذهب، ونصف نصاب من الفضة، فلا زكاة عليه. ويلحق بالذهب والفضة ما جري مجري الذهب والفضة، وهي العملة النقدية، من ورق أو نحاس أو غيره، فان هذه فيها الزكاة إذا بلغت نصابا بأحد النقدين، بالذهب أو بالفضة، فان لم تبلغ فلا زكاة. فمثلا: إذا كان عند الإنسان ثلاثمائة من الريالات الورقية، لكنها لا تبلغ نصابا من الفضة، فلا زكاة عليه، لان هذه مربوطة بالفضة. وأما الجواهر الثمينة من غير الذهب والفضة، مثل اللؤلؤ والمرجان والمعادن
الأخرى، كالألماس وشبهه، فهذه ليس فيها زكاة ولو كثر ما عند الإنسان منها، إلا ما اعد للتجارة ففيه الزكاة من أي صنف كان، أما ما لا يعد للتجارة فلا زكاة فيه، إلا الذهب والفضة. الصنف الثاني مما تجب فيه الزكاة: بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر(1/416)
والغنم، ففيها الزكاة، لكن بشرط أن تبلغ نصابا، واقل نصاب في الإبل خمس، واقل نصاب في البقر ثلاثون، واقل نصاب في الغنم أربعون. والبهيمة ليست كغيرها من الأموال إذا بلغت النصاب، فما ذاد فبحسبانه، لا بل هي مرتبة. ففي أربعين من الغنم شاة أيضا حتى تبلغ مائة واحدي وعشرين فيكون فيها شاتان. فالوقص ما بين النصابين ليس فيه زكاة، فمن أربعين إلى مائة وعشرين كلها ليس فيها إلا شاة واحدة. ومن مائة وو احدي وعشرين إلى مائتين فيه شاتان. وفي مائتين وواحدة ثلاث شياه، وفي ثلاثمائة وتسع وتسعين ثلاث شياه، وفي أربعمائة: أربع شياه. وكذلك الإبل: من أربع وعشرين فاقل زكاتها من الغنم علي كل خمس شاة، ومن الخمس وعشرين فما فوق زكاتها من الإبل، لكنها باسنان مختلفة. وبهيمة الأنعام يشترط لوجوب الزكاة فيها أن تبلغ النصاب، وان تكون سائمة، والسائمة الراعية التي ترعي في البر ولا تعلف، أما
السنة كلها وأما اكثر السنة. فإذا كان عند الإنسان أربعون شاة تسرح وترعي كل السنة ففيها زكاة، وإذا كانت تسرح وترعي ثمانية اشهر ففيها الزكاة، ومثلها سبع اشهر، وإذا كانت ستة اشهر ترعي وستة اشهر تعلف فليس فيها زكاة، وإذا كانت تعلف(1/417)
كل السنة فليس فيها زكاة، لأنه يشترط أن تكون سائمة، أما السنة كلها أو أكثرها. ولكن إذا كان الإنسان متاجرا في الغنم مثلا وليس يبقيها للتنمية والنسل، وإنما يشتري البهيمة اليوم ويبيعها غدا يطلب الربح، فهذا عليه الزكاة، ولم لم يكن عنده إلا واحدة إذا بلغت نصابا في الفضة، لان عروض التجارة فيها الزكاة بكل حال، ونصابها مقدر بنصاب الذهب أو الفضة، والغالب أن الاحظ للفقراء هو الفضة في زماننا، لان الذهب غال. الثالث من الأموال الزكوية: الخارج من الأرض من حبوب وثمار، مثل التمر، والبر، والأرز، والشعير، وما أشبهها. وهذا لابد فيه من بلوغ النصاب وهو ثلاثمائة صاع بصاع النبي صلي الله عليه وسلم. ويعرفه الذين يأخذون الزكاة من الفلاحين. فإذا كان عند الإنسان نخل يثمر، وبلغت ثماره نصابا وجب عليه الزكاة، ويجب عليه أن يخرج من متوسط الثمر، لا من الطيب فيظلم، ولا من الردئ فيظلم، وإنما يكون من
الوسط. وإذا باع الإنسان ثمره فانه يزكي من الثمن، ومقدار الزكاة في الخارج من الأرض العشر، أن كان يشرب سيحا بدون مكائن أو مواتير فان فيه العشر كاملا، واحد من عشرة. فإذا كان عنده مثلا عشرة آلاف كيلو فالواجب عليه ألف كيلو. أما إذا كان يستخرج الماء بوسيلة، كالمواتير والمكائن وشبهها، فان عليه نصف العشر، ففي عشر آلاف كيلو خمسمائة فقط، وذلك لان الذي(1/418)
يسقي بمؤونة يغرم فيه الفلاح اكثر من الذي يسقي بلا مؤونة. فكان من حكمة الله_ عز وجل_ ورحمته أن خفف الزكاة علي هذا الذي يسقيه بالمؤونة والتعب. أما الربع من أصناف الزكاة فهو عروض التجارة: وعرض التجارة: كل ما أعده الإنسان للتجارة، من عقارات وأقمشة واواني وسيارات وغيرها، فليس لها شئ معين، فكل ما عرضته للتجارة، يعني ملكته من اجل أن تنتظر فيه الكسب، فانه عروض تجارة يجب عليك أن تزكيه. ومقدار الزكاة فيه ربع العشر كالذهب والفضة، أي: واحد في الأربعين. وفي المائة اثنان ونصف. وإذا كان لديك مال واردت أن تعرف مقدار الزكاة فالمسالة سهلة، اقسم المال علي اربين والخارج بالقسمة هو الزكاة. فإذا كان عند الإنسان أربعون ألفا من الدراهم، فزكاتها ألف درهم، وفي مائة وعشرين
ألف ريال، وهلم جرا، المهم إذا أردت حساب زكاتك من المال فاقسم المال علي أربعين، فاخارج بالقسمة هو الزكاة. وسمي عروض التجارة عروضا، لأنه ليس بثابت، بل يعرض ويزول، فكل شئ يعرض ويزول يسمي عرضا، كما قال الله تعالى: (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (النساء: من الآية94) والآمال التجارية هكذا عند التجار، يشتري الإنسان السلعة لا يريد عينها، وإنما يريد ما وراءها من كسب، ولهذا تجده يشتريها في الصباح(1/419)
وتكسبه في آخر النهار فيبيعها، فعروض التجارة إذن كل ما أعده الإنسان للاتجار فبه زكاة. وكيفية زكاة العروض انه إذا جاء وقت الزكاة في مال تقوم كل ما عندك من هذه العروض وتخرج ربع عشر قيمتها، حتى وان كنت لم تشترها إلا أخيرا. مثال ذلك: تحل زكاته في شهر رجب، واشتري سلعة في شهر ربيع، فنقول له: إذا جاء شهر رجب فقدر قيمتها بما تساوي واخرج زكاتها. فإذا قال: انها لم تتم عندي سنة؟ قلنا: لا عبرة في عروض التجارة بالسنة! عروض التجارة مبنية علي القيمة، والقيمة لها سنة عندك، فتقدرها بما تساوي وقت الوجوب، سواء كانت اكثر مما اشتريتها به أم اقل. فإذا قدر انك اشتريتها بعشرة آلاف ريال وكانت عند وجوب الزكاة تساوي
ثمانية آلاف ريال فالزكاة علي ثمانية. وإذا اشتريتها بثمانية وكانت تساوي عند وجوب الزكاة عشرة، فالزكاة علي العشرة. وإذا كنت لا تدري هل ستكسب أو لا تكسب فالمعتبر راس المال، فاعتبر راس المال. مصارف الزكاة: تصرف الزكاة علي الذين عينهم الله بحكمته، فقال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) (التوبة: من الآية60) أي: لابد أن(1/420)
تكون الزكاة في هذه الاصناف (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة: من الآية60) فالفقراء والمساكين: هم الذين لا يجدون كفايتهم وكفاية عوائلهم لمدة سنة. مثاله: رجل موظف براتب شهري قدره أربعة آلاف ريال، لكن عنده عائلة يصرف ستة آلاف ريال، فهذا يكون فقيرا، لأنه لا يجد ما يكفيه. فنعطيه أربعة وعشرين ألفا من الزكاة من اجل أن نكمل نفقته. ورجل آخر راتبه ستة آلاف في الشهر، لكنه عنده عائلة كبيرة، والمؤنة شديدة لا يكفيه لا يكفيه الا اثنا عشر ألفا، فنعطيه من الزكاة اثنين وسبعين ألفا. يقول العلماء: يعطيه ما يكفيه لمدة
سنة. ولا نعطيه اكثر من كفاية سنة، لأنه علي مدار السنة تأتى زكاة جديدة تسد حاجته، فلهذا قدرها العلماء بالسنة. فإذا قال قائل: أيهما اشد حاجة: الفقير أو المسكين؟ قال العلماء: إنما يبدأ بالأهم فألاهم، والله تعالى قد بدا بالفقير، فيكون الفقير اشد حاجة من المسكين. الثالث: العاملون عليها: أي: الذين ولاهم رئيس الدولة أمر الزكاة يأخذونها من أهلها وينفقونها في مستحقها، بالعمل لا بالحاجة. فإذا قال ولي الأمر: هؤلاء الواحد منهم إذا عمل بالشهر فراتبه ألف ريال، فنعطيهم علي ألف ريال من الزكاة، وذلك لانهم يتصرفون في الزكاة لمصلحة الزكاة فأعطوا منها. لكن إذا احب ولي الأمر أن يعطيهم من(1/421)
بيت مال المسلمين المال العام ليوفر الزكاة لمستحقيها فلا باس. الرابع: لا مؤلفة قلوبهم: وهم الذين يؤلفون علي الإسلام، يكون رجلا آمن حديثا ويحتاج أن نقوي إيمانه، فنعطيه من الزكاة من اجل إن يالف الاسلام ويحب المسلمين ويتقوي، ويعرف إن دين الإسلام دين صلة ودين رابطة. ثانيا: ومن التأليف أن نعطي شخصا للتخلص من شره، حتى يزول ما في قلبه من الحقد علي المسلمين والعداوة. واختلف العلماء: هل يشترط في المؤلفة قلوبهم أن يكون لهم سيادة
وشرف في قومهم أو لا يشترط؟ والصحيح انه لا يشترط، حتى لو أعطيت فردا من الناس لتؤلفه علي الاسلام كفي. أما إذا أعطيت فردا منه الناس من اجل أن تدفع شره فهذا لا يجوز، لان الواحد من الناس ترفعه إلى ولاة الأمور ويأخذون حقك منه. الخامس: (وَفِي الرِّقَابِ) (البقرة: من الآية177) : ذكر العلماء إنها تشمل ثلاثة أنواع: النوع الأول: أن تشتري عبدا فتعتقه. النوع الثاني: أن تساعد مكاتبا في مكاتبته، والمكاتب هو العبد الذي اشتري نفسه من سيده. الثالث: أن تفك بها أسيرا مسلما عند الكفار أو عند غيرهم، حتى لو اختطف مسلم عند أناس ظلمة ولم يفكوه إلا بفداء من الزكاة فلا باس. السادس: قوله: (وَالْغَارِمِينَ) (التوبة: من الآية60) : والغارم: هو الذي يكون في ذمته(1/422)
دين لا يستطيع وفاءه، أو يكون في ذمته دين لمصلحة عامة وان كان يستطيع وفاءه، ولهذا قال العلماء: أن الغرم نوعان: النوع الأول: الغارم لغيره. والثاني: الغارم لنفسه. الغارم لغيره: هو الذي يغرم مالا لإصلاح ذات البين، مثل أن يكون بين قبيلتين نزاع ومشاجرة ومخاصمة ومعاداة وبغضاء، فيقوم رجل من أهل الخير فيصلح بين القبيلتين علي مال يلتزم به ذمته، فهنا يكون غارما لكن ليس
لنفسه، بل لمصلحة عامة، وهي الإصلاح بين هاتين القبيلتين. قال العلماء: فيعطي هذا الرجل ما يوفي به من العزم وان كان غنيا، لان هذا ليس لنفسه، بل لمصلحة الغير. فلو قدر أن رجلا عنده مائة ألف فاصلح بين قبيلتين بعشرة آلاف ريال يستطيع أن يوفيها من ماله، لكن نقول لا يلزمه، بل نعطيه من الزكاة ما يدفع به هذا الغرم، لان ذلك لمصلحة الغير، ولان هذا يفتح باب الإصلاح للناس، لأننا لو لم نعن هذا الرجل ونعطه ما غرم، لتكاسل الناس عن الإصلاح بين الفئات المتناحرة أو المتعادية، فإذا أعطينا من غرم فيكون هذا تنشيط له. أما النوع الثاني: فهو الغارم لنفسه، مثل رجل استأجر بيتا بخمسة آلاف ريال وليس عنده ما يدفع به الاجار. هو نفسه في أكله وشربه ولباسه ليس محتاجا، لكن يحتاج إلى وفاء الدين الذي لزمه بالاستئجار للبيت، فنعطي هذا الرجل أجرة البيت من(1/423)
الزكاة، لأنه من الغارمين. كذلك إنسان أصيب بجائحة اجتاحت ماله، مثل الحريق أو الغرق أو ما أشبه ذلك، وقد لحقه في هذا دين، فنعطيه ما يسدد دينه، لأنه غير قادر علي الوفاء. هذا النوع من الغرم يشترط فيه أن يكون الغارم عاجزا عن وفاء الدين، فان كان قادرا، فانه لا يعطي، ولكن هل يجوز أن
يذهب الإنسان لمن له الدين ويقول له: هذا الطلب الذي لك علي فلان خذه، وينويه من الزكاة؟ الجواب: نعم يجوز، وليس بشرط أن تعطي الغارم ليعطي الدائن، بل لو ذهبت للطالب منذ أول الأمر وقلت له: يا فلان بلغني انك تطلب من فلان عشرة آلاف ريال، قال نعم، واثبت ذلك، فتعطيه إياها، ولا حاجة لإخبار المدين، وذلك لان المقصود هنا إبراء الذمة، وهو حاصل سواء أخبرته أم لم تخبره. وتأمل التع (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) (التوبة: من الآية60) كل هذه الثلاث معطوفة علي قوله (لِلْفُقَرَاءِ) (البقرة: من الآية273) باللام (وَفِي الرِّقَابِ) (التوبة: من الآية60) ولم يقل وللرقاب، بل قال (وَفِي) (التوبة: من الآية60) الدالة علي الظرفية، يعني انك إذا صرفت الزكاة في هذه الجهات يجوز وان لم تعط صاحبه. (وَالْغَارِمِينَ) (التوبة: من الآية60) معطوفة علي (وَفِي الرِّقَابِ) (التوبة: من الآية60) فيه من دخول في، أي: وفي الغارمين، فلا حاجة لان تملك الغارم ليعطي الدين، بل يكفي أن تذهب وتعطي الدائن ليبرئ المدين. فإذا قال قائل: هل الأحسن أن اذهب إلى الدائن
وأوفيه، أو أعطي(1/424)
الغريم لكي يوفي بنفسه؟ نقول: في هذا تفصيل: إذا كنت تخشى انك لو أعطيت الغريم لم يوف، بل آكل الدراهم وترك الدين علي ما هو عليه فهنا لا تعط الغريم، بل أعط الدائن، لأنك لو أعطيت الغارم سينفق الأموال في أمور غير مهمة وترك الدين، وبعض الناس لا يهتمون بالدين الذي عليهم، فإذا كنت تعلم أن المدين (الغارم) لو أعطيته لأفسد المال وبقت ذمته مشغولة، فلا تعطه وأعط الدائن، أما إذا كان الغريم صاحب عقل ودين، ولا يمكن أن يرضي ببقاء ذمته مشغولة، ويغلب علي ظني كثيرا أنني إذا أعطيته سوف يذهب فورا إلى الدائن ويقضي من دينه، فهنا نعطي الغريم، نقول: خذ هذه الدراهم أوف بها عن نفسك، لان هذا استر له واحسن، ولكن يجب علينا إذا كنا نوزع الزكاة أن نحذر من حيلة بعض الناس! بعض الناس يقدم لك كشفا بالدين عليه، وتوفي ما شاء الله أن توفي، وبعد سنة يقدم لك نفس الكشف ولا يخصم الذي أوفي عنه، فانتبه لهذا، لان بعض الناس_ والعياذ بالله_ لا يهمه حلال ولا حرام، المهم اكتساب المال، فيأتي بالقائمة الأولى التي قد قضي نصفها ويعرضها عليك، فانبه لذلك. وقد قدم لنا من هذا النوع أشياء، وذهبنا نسلم الدائن بناء علي الكشف الذي
قدم، فقال الدائن: انه قد اوفاني. وهذه مشكلة، لكن الإنسان يتحرز، وهو إذا اتقي الله ما استطاع، ثم تبين فيما بعد أن الذي اخذ الزكاة(1/425)
ليس أهلا لها فان ذمته تبرا، وهذه من نعمة الله. يعني لو أعطيت زكاتك شخصا ثم تبين لك انه ليس من أهل الزكاة رغم انك اجتهدت فلا شئ عليك، وزكاتك مقبولة. السابع قوله: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية60) : والجهاد في سبيل الله هو القتال لتكون كلمة الله هي العليا، هكذا حدده النبي صلي الله عليه وسلم حينما سئل عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليري مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) ، وهذه كلمة جامعة مانعة. وقد تقدم الكلام علي هذا. تنبيه: يجوز قتل المسلم الظالم في الحرب وان كان مسلما. فإذا قال قائل: وان كان مكرها؟ الجواب: أن شيخ الإسلام ابن تيمية_ رحمه الله_ قال: إذا قاتل المسلمون مع التتار فانهم يقاتلون وان كانوا مسلمين، ولو كانوا مكرهين. فان كانوا صادقين بأنهم مكرهون فان لهم اجر الشهيد، لانهم قتلوا ظلما من الذي اكرههم، لان الظلم علي الذي اكرههم. وان كانوا غير صادقين، بل هم مختارون طائعون،
فهذا ما أصابهم(1/426)
وهم الذين جروه علي أنفسهم. وقد قال: _ رحمه الله_ في تعليل ذلك: انه لا يعلم المكره من غير المكره، لان ذلك محلة القلب، فالاختيار والكراهة محلها القلب، فلا يعلم المطره من غيره، فيقتل المكره دفاعا عن الحق وحسابه علي الله. نعم، لو فرض انه اسر وهو مسلم حقيقة فانه لا يجوز قتله، أما في ميدان القتال فانه يقتل. وقد ذكرها رحمه الله في الفتاوى في كتاب الجهاد ج ص (544_553) . وقوله سبحانه وتعالى: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية60) يشمل إعطاء الزكاة للمجاهدين أنفسهم، وشراء الأسلحة لهم. فشراء الأسلحة من الزكاة جائز من اجل الجهاد في سبيل الله. قال أهل العلم: ومن ذلك: أن يتفرغ شخص لطلب العلم وهو قادر علي التكسب، لكنه تفرغ من اجل أن يطلب العلم، فانه يعطي من الزكاة مقدار حاجته، لان طلب العلم جهاد في سبيل الله. أما من تفرغ للعبادة فلا يعطي من الزكاة، بل يقال اكتسب. وبهذا عرفنا شرف العلم علي العبادة. فلو جاء رجلان أحدهما دين طيب ويقول: أنا أستطيع أن أتكسب لكن احب أن أتفرغ للعبادة من الصلاة والصيام والذكر وقراءة القران فأعطوني من الزكاة واكفوني العمل! نقول: لا نعطيك بل اكتسب. وجاء
رجل آخر قال: أنا أريد أن أتفرغ لطلب العلم وأنا قادر علي التكسب، لكن أن ذهبت أتكسب لم اطلب العلم فأعطوني ما يكفيني من(1/427)
اجل أن أتفرغ لطلب العلم، قلنا: نعطيك ما يكفيك لطلب العلم، وهذا دليل علي شرف العلم وطلبه. الثامن: (ابْنِ السَّبِيلِ) (التوبة: من الآية60) : وهو الصنف الثامن من أصناف أهل الزكاة. وابن السبيل هو المسافر الذي انقطع به السفر ونفدت نفقته، فلم يكن معه ما يوصله إلى بلده. وليس هذا من باب الفقراء والمساكين، لأنه غني في بلده، لكن قصرت به النفقة في أثناء السفر، فيعطي ما يوصله إلى بلده ولو كان غنيا. وسمي ابن سبيل لمصاحبته للسفر، كما يقال ابن الماء في طير الماء الذي يألف الماء فيقع عليه. هؤلاء ثمانية أصناف لا يجوز صرف الزكاة في غيرهم، فلا يجوز أن تصرف الزكاة في بناء المساجد، ولا في إصلاح الطرق، ولا في بناء المدارس، ولا غيرها طرق الخير، لان الله ذكر هذه الأصناف بصيغة محصورة فقال: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ) (التوبة: من الآية60) و (إِنَّمَا) (التوبة: من الآية60) تفيد الحصر، وهو إثبات الحكم في الذكور ونفيه عما سواه، ولو قلنا بجواز صرف الزكاة في جميع وجوه الخير لفاتت فائدة الحصر، ولكن بناء
المساجد وإصلاح الطرق وبناء المدارس وما أشبهها تفعل من طرق أخرى، من طرق البر والصدقات والتبرعات. هذا هو الركن الثالث من أركان الإسلام الذي ذكره النبي صلي الله عليه وسلم لجبريل_ عليه الصلاة والسلام_ في حديثه الطويل!(1/428)
أما الرابع فقد قال: ((وصوم رمضان)) : ورمضان شهر بين شعبان وشوال، وسمي رمضان بهذا الاسم، قيل: لأنه عند أول تسمية الشهور صلدف انه كان في شدة الرمضاء والحر فسمي رمضان. وقيل: لأنه تطفا به حرارة الذنوب، لان الذنوب حارة: و ((من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) والمهم أن هذا الشهر معلوم للمسلمين، ذكره الله_ سبحانه وتعالى_ باسمه في كتابه فقال: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (البقرة: من الآية185) ، ولم يذكر الله اسما لشهر من الشهور سوي هذا الشهر. وصيام رمضان ركن من أركان الإسلام لا يتم الإسلام إلا به، ولكنه لا يجب إلا علي من تمت فيه الشروط الآتية. أن يكون مسلما، وان يكمن بالغا، وعاقلا، قادرا، مقيما، سالما من الموانع. هذه ستة شروط. _ فان كان صغيرا لم يجب عليه الصوم، أن كان مجنونا لم يجب عليه الصوم، أن كان كافرا لم يجب عليه الصوم، أن كان
عاجزا فعلي قسمين:
أ_ أن كان عجزه يرجي زواله كالمرض الطارئ افطر، ثم قضي أياما بعدد ما فطر(1/429)
ب_ وان كان عجزا لا يرجي زواله كالكبر والأمراض التي لا يرجي برؤها فانه يطعم عن كل يوم مسكينا. _ و ((مقيما)) ضده المسافر، فالمسافر ليس عليه صوم، ولكنه يقضي من أيام آخر. ((سالما من الموانع)) احترازا من الحائض والنفساء، فانهما لا يجب عليهما الصوم، بل ولا يجوز أن تصوما، ولكنهما تقضيان. وصوم رمضان يكمن بعدد أيامه، أما تسعة وعشرين، وأما ثلاثين حسب رؤية الهلال، لان النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتماه فافطروا، فان غم عليكم فاكملوا العدة ثلاثين)) ) عدة شعبان أن كان في أول الشهر، وعدة رمضان أن كان في آخر الشهر. الركن الخامس: ((حج البيت)) وهو بيت الله سبحانه وتعالى_ أي: قصده لأداء المناسك التي بينها الله سبحانه في كتابه وعلي لسان رسوله صلي الله عليه وسلم. فحج البيت أحد أركان الإسلام، ومن حج البيت العمرة، فان النبي صلي الله عليه وسلم سماها حجا اصغر. ولكن له شروط، منها البلوغ، والعقل،(1/430)
والإسلام، والحرية، والاستطاعة، خمسة شروط! فإذا اختل شرط واحد منها فانه لا يجب. ولكن العجز عن الحج أن كان بالمال فانه لا يجب عليه، لا بنفسه ولا بنائبه. وان كان بالبدن: فان كان عجزا
يرجي زواله انتظر حتى يعافيه الله ويزول المانع، وان كان لا يرجي زواله كالكبر، فانه يلزمه أن ينيب عنه من يأتي بالحج، لان امرأة سالت النبي صلي الله عليه وسلم فقالت: ((أن أبي أدركته فريضة الله علي عباده شيخا لا يثبت علي الراحة، أف أحج عنه)) قال: ((نعم)) . فاقرها النبي صلى الله عليه وسلم. على إنها سمت هذا فريضة مع انه لا يستطيع، لكنه قادر بماله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((حجي عنه)) ! هذه خمسة أركان هي أركان الإسلام: شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام. فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم لما اخبره بذلك، قال له: ((صدقت)) . قال عمر: ((فعجبنا له يسأله ويصدقه لان الذي صدق الشخص بقوله يعني أن عنده علما من ذلك. فعجبنا كيف يسأله ثم يقول صدقت. والسائل إذا(1/431)
أجيب يقول فهمت، لا يقول صدقت، لكن جبريل_ عليه الصلاة والسلام_ عنده علم من هذا، ولهذا قال: ((صدقت)) . وقوله: ((اخبرني عن الإيمان)) الإيمان محله القلب، الإسلام محله الجوارح ولهذا نقول: الإسلام عمل ظاهري والإيمان أمر باطني، فهو في القلب.
فالإيمان: هو اعتقاد الإنسان للشيء اعتقادا جازما به لا يتطرق إليه الشك ولا الاحتمال، بل يؤمن به كما يؤمن بالشمس في رابعة النهار لا يمطرى فيه، فهو إقرار جازم لا يلحقه شك بموجب لقبول ما جاء في شرع الله، والإذعان له إذعانا تاما. فقال له: ((الإيمان أن تؤمن بالله) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (البقرة: من الآية185) ، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)) هذه ستة أركان هي أركان الإيمان: قوله: ((أن تؤمن بالله)) : أي: تؤمن بان الله سبحانه موجود، حي، عليم، قادر، انه سبحانه وتعالى رب العالمين، لا رب سواه، وأن له الملك المطلق، وله الحمد المطلق، وإليه يرجع الأمر كله، وانه سبحانه هو المستحق للعبادة لا يستحقها أحد سواه، سبحانه وتعالى، وانه هو الذي عليه التكلان، ومنه النصر والتوفيق، وانه متصف بكل صفات الكمال على وجه لا يماثل صفات المخلوقين، لأنه سبحانه وتعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: من الآية11) إذا تؤمن بوجود الله، وبربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، لا بد(1/432)
من هذا، فمن أنكر وجود الله فهو كافر، - العياذة بالله-
مخلد في النار، ومن تردد في ذلك أو شك فهو كافر، لأنه لا بد في الإيمان من الجزم بان الله حي، عليم، قادر، موجود. ومن شك في ربو بيته فانه كافر. ومن أشرك معه أحد في ربو بيته فهو كافر، ومن قال أن الأولياء يدبرون الكون ولهم تصرف في الكون ودعاهم واستغاث بهم وانتصر بهم فانه كافر والعياذ بالله، لأنه لم يؤمن بالله. ومن صرف شيئا من أنواع العبادة لغير الله فهو كافر، لأنه لم يؤمن بانفراده بالألوهية. فمن سجد للشمس أو القمر، أو للشجر، أو للنهر، أو للبحر، أو للجبال، أو للملك، أو لنبي من الأنبياء، أو لولي من الأولياء، فهو كافرا كفرا مخرجا عن الملة، لأنه أشرك بالله معه غيره. وكذلك من أنكر على وجه التكذيب شيئا مما وصف الله به نفسه فانه كافر، لأنه مكذب لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. فإذا أنكر صفة من صفات الله على وجه التكذيب فهو كافر، لتكذيبه لما جاء في الكتاب والسنة. فإذا قال مثلا: أن الله لم يستو على العرش ولا ينزل إلى السماء الدنيا فهو كافر. وإذا أنكرها على وجه التأويل فانه ينظر: هل تأويله سائغ يمكن أن يكون محل للاجتهاد أو لا، فان كان سائغا فانه لا يكفر، لكنه يفسق، لخروجه عن منهج
أهل السنة والجماعة. وأما إذا كان ليس له مسوغ، فان إنكار التأويل الذي لا مسوغ له(1/433)
كإنكار التكذيب، فيكون أيضا كافرا- والعياذ بالله-. وإذا آمنت بالله على الوجه الصحيح، فانك سوف تقوم بطاعته ممتثلا أمره مجتنبا نهيه، لان الذي يؤمن بالله علي الوجه الصحيح، لابد أن يقع في قلبه تعظيم الله علي الإطلاق، ولابد أن يقع في قلبه محبة الله علي الإطلاق، فإذا احب الله حبا مطلقا لا يساوي أي حب، وإذا عظم تعظيما مطلقا لا يساويه أي تعظيم، فانه بذلك يقوم بأوامر الله وينتهي عما نهي الله عنه. كذلك يجب عليك_ من جملة الإيمان بالله_ أن تؤمن بان الله فوق كل شئ، علي عرشه استوي، والعرش فوق المخلوقات كلها، وهو اعظم المخلوقات التي نعلمها، لأنه جاء في الأثر: ((أن السماوات السبع والأرضيين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض)) السماوات السبع علي سعتها والأرضيين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة بالنسبة للأرض. الق حلقة من حلق المغفر في فلاة من الأرض وانظر نسبة هذه الحلقة بالنسبة للفلاة ماذا تكون؟ لا شئ! وهذه الحلقة بالنسبة للفلاة؟ ليست بشيء. وفي بقية الأثر: ((وان فضل العرش علي الكرسي كفضل الفلاة علي هذه
الحلقة)) . إذا الكرسي بالنسبة للعرش كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض. فانظر(1/434)
إلى عظم هذا العرش، ولهذا وصفه الله بالعظيم، كما قال: (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (التوبة: من الآية129) ، وقال: (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) (البروج: 15) ، فوصفه الله بالمجد والعظمة، وكذلك بالكرم. فهذا العرش استوي الله تعالى فوقه، فالله فوق العرش، والعرش فوق جميع المخلوقات، والكرسي_ وهو صغير بالنسبة للعرش_ وسع السماوات والأرض، كما قال تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ) (البقرة: من الآية255) ، فيجب عليك أن تؤمن بان الله تعالى فوق كل شئ، وان جميع الأشياء ليست بالنسبة إلى الله شيئا، فالله تعالى اعظم واجل من أن يحيط به العقل أو الفكر، بل حتى البصر إذا راء الله_ والله سبحانه وتعالى يراه المؤمنون في الجنة_ لا يمكن أن يدركوه أو يحيطوا به، كما قال الله: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) (الأنعام: من الآية103) ، فشان الله اعظم شان واجل شان، فلا بد أن تؤمن بالله_ سبحانه وتعالى_ علي هذا الوجه العظيم حتى يوجب لك أن تعبده حق عبادته. ومن الإيمان بالله: أن تؤمن بان الله تعالى قد أحط بكل شي علما،
وانه يعلم خائنه الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم ما في السماوات وما في الأرض من قليل وكثير، وجليل ودقيق (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) (آل عمران: 5) . وك1لك تؤمن بان الله تعالى علي كل شئ قدير، وانه إذا أراد شيئا إنما يقول له كن فيكون، مهما كان هذا الأمر. وانظر إلى بعث الناس وخلق الناس، الناس ملايين لا يحصيهم إلا الله_ عز وجل_ وقد قال الله(1/435)
تعالى: (مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) (لقمان: من الآية28) ، كل الخلائق خلقهم وبعثهم كنفس واحدة. وقال الله عز وجل في البعث: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) (النازعات: 14، 13) ، وتري شيئا من آيات الله في حياتك اليومية، فان الإنسان إذا نام فقد توفاه الله، كما قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) (الأنعام: من الآية60) ، لكنها ليست وفاة تامة تفارق فيه الروح الجسد مفارقة تامة، لكن مفارقة لها نوع اتصال بالبدن، ثم يبعث الله النائم من نومه فيحس بأنه قد حي حياة جديدة، وكان اثر هذا يظهر قبل أن توجد هذه الأنوار الكهربائية، لما كان الناس إذا
غشيهم الليل أحسوا بالظلمة وأحسوا بالوحشة وأحسوا بالسكون، فإذا انبلج الصبح أحسوا بالأسفار، والنور والانشراح، فيجدون لذة لأدبار الليل وإقبال النهار. أما اليوم فقد أصبحت الليالي كأنها النهار، فلا نجد اللذة التي كنا نجدها من قبل، ولكن مع ذلك يحس الإنسان بأنه إذا استيقظ من نومه فكأنما استيقظ إلى حياة جديدة، وهذه من رحمة الله وحكمته. وكذلك نؤمن بان الله سميع بصير، يسمع كل ما نقول وان كان خفيا، قال الله تبارك وتعالى: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) (الزخرف: 80) ، وقال الله عز وجل: (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) (طه: من الآية7) ، أي: اخفي من السر، وهو ما يكنه الإنسان في نفسه، كما قال الله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) (قّ: من الآية16) ، أي: ما تحدث به(1/436)
نفسه يعلمه الله وان كان لم يظهر للعباد. وهو_ عز وجل_ بصير، يبصر دبيب النمل الأسود علي الصخرة السوداء في ظلمة الليل، لا يخفي عليه. فإذا آمنت بعلم الله، وقدرته، وسمعه، وبصره، أوجب لك ذلك تراعي ربك_ عز وجل_ وان لا تسمعه إلا ما يرضي
به، وان لا تفعل إلا ما يرضي به، لأنك إن تكلمت سمعك، وان فعلت أراك الله، فأنت تخشى ربك، وتخاف من ربك إن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك، وكذلك تخشى من ربك إن تسمعه ما لا يرضاه، وان تسكت عما أمرك به، كذلك إذا آمنت بتمام قدرة الله فانك تسأله كل ما تريده مما لا يكون فيه اعتداء في الدعاء. ولا تقل إن هذا بعيد، وان هذا شي لا يمكن! كل شي ممكن علي قدرة الله. فها هو موسى_ عليه الصلاة والسلام_ لما وصل إلى البحر الأحمر هاربا من فرعون وقومه، أمره الله إن يضرب البحر بعصاه، فضربه، فانفلق اثني عشر طريقا، كان الماء بين هذه الطرق كالجبال. وفي لحظة يبس البحر وصار يمشون عليه كأنما يمشون علي صحراء لم يصبها الماء أبدا بقدرة الله سبحانه وتعالى. ويذكر إن سعد بن أبي وقاص_ رضي الله عنه_ لما كان يفتح بلاد فارس ووصل إلى دجلة_ النهر المعروف في العراق_ عبر الفرس النهر مشرقين وكسروا الجسور واغرقوا السفن لئلا يعبر إليهم المسلمون، فاستشار_ رضي الله عنه_ الصحابة، وفي النهاية قرروا إن يعبروا النهر، فعبروا النهر(1/437)
يمشون علي سطح الماء بخيلهم وابلهم ورجلهم لم يمسهم سوء! فمن الذي امسك هذا النهر حتى صار كالصفاء، كالحجر يسير
عليه الجند من غير إن يغرقوا؟ انه هو الله_ عز وجل_ الذي علي كل شئ قدير. وكذلك جري للعلاء بن الحضرمي _ رضي الله عنه_ حينما غزا البحرين واعترض لهم البحر، دعا الله_ سبحانه وتعالى_ فعبروا علي سطح الماء من غير أن يمسهم سوء. وآيات الله كثيرة، فكل ما اخبره الله به في كتابه أو اخبر به رسوله_ عليه الصلاة والسلام_ أو شاهده الناس من خوارق العادات فان الإيمان به من الإيمان بالله، لأنه إيمان بقدرة الله سبحانه وتعالى. ومن الإيمان بالله_ سبحانه وتعالى_ إن تعلم انه يراك، فان لم تكن تراه فانه يراك، إن تعبد الله كأنك تراه، فان لم تكن تراه فانه يراك. وهذه مسالة يغفل عنها كثير من الناس، تجده يتعبد لله وكان العبادة أمر عادي يفعله علي سبيل العادة، لا يفعلها كأنه يشاهد ربه عز وجل، وهذا نقص في الإيمان ونقص في العمل. ومن الإيمان بالله: إن تؤمن بان الحكم لله العلي الكبير! الحكم الكوني والشرعي كله لله لا حاكم إلا الله_ سبحانه وتعالى_وبيده كل شئ، كما قال الله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ
بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران: 26) . فكم من ملك سلب ملكه بين عشية وضحاها، وكم من إنسان عادي(1/438)
صار ملكا بين عشية وضحاها، لان الأمر بيد الله. وكم من إنسان عزيز يري انه غالب لكل أحد، فيكون أذل عباد الله بين عشية وضحاها! وما من إنسان ذليل يكون عزيزا بين عشية وضحاها، لان الملك والحكم لله سبحانه وتعالى. وكذلك الحكم الشرعي لله، ليس لاحد، فالله تعالي هو الذي يحلل ويحرم ويوجب، وليس أحد من الخلق له الفصل في ذلك. فالإيجاب والتحليل والتحريم لله، ولهذا نهي الله عباده إن يصفوا شيئا بالحلال والحرام بدون إذن، فقال الله تبارك وتعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النحل: 117، 116) . فالحاصل إن الإيمان بالله بابه واسع جدا، ولو ذهب الإنسان يتكلم عليه لبقي أياما كثيرة، ولكن الإشارة تغني عن طويل العبارة. وقوله صلي الله عليه وسلم: ((وملائكته)) : والملائكة: هم عالم غيبي، خلقهم
الله_ سبحانه وتعالى_ من نور، وجعل لهم أعمالا خاصة، كل منهم يعمل بما أمره الله به، وقد قال الله في ملائكة النار: (عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم: من الآية6) ، فهم ليس عندهم استكبار عن الأمر ولا عجز عنه، يفعلون ما أمروا به ويقدرون عليه، بخلاف البشر، فالبشر قد يستكبرون عن الأمر، وقد يعجزون عنه، أما الملائكة فخلقوا لتنفيذ أمر الله، سواء في العبادات المتعلقة بهم أو في مصالح الخلق.(1/439)
فمثلا جبريل عليه الصلاة والسلام_ اشرف الملائكة_ موكل بالوحي، ينزل به من الله علي رسله وأنبيائه، فهو موكل بإشراف شئ ينتفع به الخلق والعباد، وهو ذو قوة، أمين مطاع بين الملائكة، ولهذا كان اشرف الملائكة. كما إن محمد صلي الله عليه وسلم اشرف الرسل قال الله سبحانه وتعالى: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى) (لنجم: 6، 5) ، يعني علم النبي صلي الله عليه وسلم القران (شَدِيدُ الْقُوَى) أي ذو القوة الشديدة وهو جبريل، (ذُو مِرَّةٍ) أي ذو هيئة حسنة (فَاسْتَوَى) أي: كمل وعلا) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى) . وقال عز وجل: (إِنَّهُ
لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) أي: جبريل) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (التكوير: 21، 20) ومن هؤلاء أيضا من وكلوا بمصالح الخلق من جهة أخرى في حياة الأرض والنبات، مثل ميكائيل_ عليه الصلاة والسلام_ فان ميكائيل موكل بالقطر_ المطر_ والنبات، وفيهما حياة الأبدان، حياة الناس وحياة البهائم. فالأول جبريل موكل بما فيه حياة القلوب وهو الحي وميكائيل موكل بما فيه حياة الأبدان وهو القطر والنبات. ومنهم اسرافيل_ عليه الصلاة والسلام_ وهو أحد حملة العرش العظام، وهو موكل بالنفخ في الصور، وهو قرن عظيم دائرته ما بين السماء والأرض، ينفخ فيه اسرافيل. فان سمعه الناس سمعوا صوتا لا عهد لكم به، صوتا مزعجا، فيفزعون ثم يصقعون، أي يموتون من شدة هذا الصوت، (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ(1/440)
أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) (الزمر: من الآية68) ، تتطاير الأرواح من هذا القرن، من هذا الصور، ثم ترجع كل روح إلى بدنها الذي تعمره في الدنيا، لا تخطئه شعرة بأمر الله عز وجل. فكل هؤلاء الثلاثة موكلون بما فيه الحياة! فجبريل موكل بما فيه حياة القلوب، وميكائيل بما فيه حياة النبات والأرض، واسرافيل بما فيه
حياة الأبدان. ولهذا كان النبي صلي الله عليه وسلم يثني علي الله بربو بيته لهؤلاء الملائكة الثلاثة في افتتاح صلاة الليل، فكان يقول في افتتاح صلاة الليل بدل ((سبحانك اللهم وبحمدك)) ، يقول: ((اللهم رب جبريل وميكائيل واسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك قيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، انك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) . ومنهم من وكل بقبض الأرواح وهو ملك الموت، وله أعوان يساعدونه علي ذلك، وينزلون بالكفن والحنوط للروح التي تخرج من الجسد إن كان من أهل الإيمان_ جعلنا الله منهم_ فانهم ينزلون بكفن من(1/441)
الجنة وحنوط من الجنة، وان كانوا من أهل النبران نزلوا بحنوط من النار وكفن من النار، ثم يجلسون عند المحتضر الذي حضر اجله ويخرجون روحه حتى تبلغ الحلقوم، فإذا بلغت الحلقوم استلها ملك الموت ثم أعطاها إياها فوضعوها في الحنوط والكفن، فالملائكة تكفن وتحنط الروح، والشر يكفنون ويحنطون البدن، فانظر إلى عناية الله بالآدمي، ملائكة يكفنون روحه، وبشر يكفنون بدنه، ولهذا قال الله عز وجل: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ
رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (الأنعام: من الآية61) ، لا يفرطون في حفظها: ولا يفرطون فيها. وملك الموت أعطاه الله تعالى قدرة علي قبض الأرواح في مشارق الأرض ومغاربها، يقبضها ولو ماتوا في لحظة واحدة، لو فرض إن جماعة أصابهم حادث وماتوا في إن واحد، فان ملك الموت يقبض أرواحهم في إن واحد. ولا تستغرب، لان الملائكة لا يقاسون بالبشر، لان الله أعطاهم قدرة عظيمة اشد من الجن. فالجن اقوي من البشر، والملائكة اقوي من الجن. وانظر إلى قصة سليمان_ عليه الصلاة والسلام_ حيث قال: (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ) (النمل: من الآية39) عفريت يعني قوي شديد (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) (النمل: من الآية39) وكان سليمان عادة يقوم من مقامه في ساعة معينة، ف (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ(1/442)
الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) (النمل: من الآية40) ، والثاني أسرع من الأول، أي: مدة بصرك ما ترده إلا وقد جاءك (فَلَمَّا رَآهُ)
(النمل: من الآية40) حالا رآه (مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ) (النمل: من الآية40) قال العلماء: إن هذا الذي عنده علم من الكتاب دعا الله باسمه الأعظم، فحملت الملائكة العرش من اليمن إلى الشام في هذه اللحظة. إذا فالملائكة اقوي من الجن. فلا تستغرب إن يموت الناس في مشارق الأرض ومغاربها وان يقبض أرواحهم ملك واحد، كما قال الله: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (السجدة: 11) إذا قال الله لهذا الملك اقبض روح كل من مات، هل يمكن إن يقول لا؟ لا يمكن! لانهم لا يعصون الله ما أمرهم، ولهذا لما قال الله للقلم اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، والقلم جماد، كتب ما هو قائم إلى يوم القيامة، فالله_ عز وجل_ إذا أمر بأمر لا يمكن إن يعصي إلا المردة من الجن أو من بني آدم، أما الملائكة فلا يعصون الله؟! وهؤلاء أربعة من الملائكة. والملك الخامس مالك، الموكل بالنار، وهو خازنها، وقد ذكره الله في قوله عن أهل النار: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) (الزخرف: 77) ، يعني: ليمتنا ويهلكنا ويرحنا مما نحن فيه! قال: أنكم ماكثون!(1/443)
السادس: خازن الجنة: وورد في بعض الآثار إن اسمه (رضوان) وهذا وكل بالجنة كما إن مالكا وكل بالنار. فمن علمنا اسمه من الملائكة آمنا به باسمه، ومن لم نعلم باسمه آمنا به علي سبيل الإجمال، آمنا بعمله الذي نعلمه وبوصفه وبكل ما جاء به الكتاب والسنة من أوصاف هؤلاء الملائكة. مسالة: قلنا إن الملائكة عالم غيبي، فعل يمكن إن يروا؟ الجواب: نعم قد يرون، أما علي صورتهم التي خلقوا عليها، واما علي صورة من أراد الله إن) أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) (لأنفال: من الآية12) يكون علي صورته! فجبريل رآه النبي صلي الله عليه وسلم علي صورته التي خلقه الله عليها في موضعين، في الأرض وفي السماء: في الأرض عند قار حراء قرب مكة، وفي السماء عند سدرة المنتهي، كما قال الله (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى) (لنجم: 14، 13) ، رآه وله ستمائة جناح قد سد الأفق، أي: ملا الأفق كله وله ستمائة جناح، ولا يعلم قدرة الأجنحة إلا الله عز وجل، لكن إذا كان الشي عاليا سد الأفق
فمعناه انه واسع جدا. هذا الذي رآه النبي صلي الله عليه وسلم علي صورته مرتين، أحيانا يأتيه بصورة إنسان كما في حديث عمر_ رضي الله عنه_ الذي معنا في قصة جبريل، فقد جاءه بصورة رجل شديد سواد الشعر، شديد بياض الثياب، لا يري عليه اثر السفر، ولا يعرفه الصحابة، والله علي كل شئ قدير، قد أعطاهم الله سبحانه وتعالى ذلك إن يتصوروا بصور البشر، أما باختيارهم واما باختيار(1/444)
الله، الله يأمرهم إن يكونوا علي هذه الصورة فالله اعلم. إنما هذه حال الملائكة_ عليهم الصلاة والسلام_ وتفاصيل ما ورد فيهم مذكور في كتاب الله تعالى وفي سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم، لكن علينا إن نؤمن بهؤلاء الملائكة وانهم أقوياء أشداء، قال الله لهم في غزوة بدر: (أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) (لأنفال: من الآية12) ، فكانوا يقاتلون مع الصحابة في بدر، فيري الكافر يسقط مضروبا بالسيف علي رأسه ولا يدري من الذي قتله، والذي قتله هم الملائكة، لان الله قال لهم: (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا
مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (لأنفال: 13، 12) فعلينا إن نؤمن بهم، من علمناه بعينه آمنا به بعينه، وإلا فبالإجمال. وان نؤمن بمن جاء عنهم من عبادات وأعمال علي وفق ما جاء في الكتاب والسنة، والإيمان بهم أحد أركان الإيمان الستة، ومن أنكرهم، أو كذب بهم، أو قال: انهم لا وجود لهم، أو قال: أهم هم قوي الخير، والشياطين هم قوي الشر، فقد كفر كفرا مخرجا عن الملة، لانه مكذب لله تعالى ورسوله صلي الله عليه وسلم وإجماع المسلمين. وقد ضل قوم غاية الضلال حيث أنكروا إن يكون هنالك ملائكة_ والعياذ بالله_ وقالوا: إن الملائكة عبارة عن قوي الخير وليس هناك شئ يسمي عالم الملائكة. وهؤلاء إن قالوا ذلك متاولين فان الواجب إن نبين لهم إن هذا تأويل باطل، بل تحريف، وان قالوا غيره متاولين فانهم كفار، مكذبون لما(1/445)
جاء به الكتاب والسنة وأجمعت عليه الأمة من وجود الملائكة، والله قادر غلي إن يخلق عالما كاملا لا يحس به البشر عن طريق حواسهم المعتادة، فها هم الجن وجودن ولا إشكال في وجودهم، ومع ذلك لا تدركهم حواسنا
الظاهرة كما تدرك الأشياء الظاهرة. ولله تعالى في خلقه شؤون. وقوله: (وَكُتُبِهِ) وهو الركن الثالث، والكتب جمع كتاب، والمراد به الكتاب الذي أنزله الله علي الرسل. فكل رسول له كتاب، كما قال تعالى (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) (الشورى: من الآية17) ، وقال: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: من الآية25) . لكن من لا كتب ما لا نعلمه ومنها ما لا نعلمه! فالتوراة، وهي الكتاب الذي انزل الله علي موسى_ عليه الصلاة والسلام_ معلوم، والإنجيل، وهو الكتاب الذي أنزله الله علي عيسى_ عليه الصلاة والسلام_ معلوم، وصحف إبراهيم_ عليه الصلاة والسلام_ مذكورة في القران، وزبور داود_ عليه الصلاة والسلام_ مذكور في القران، وصحف موسى_ عليه الصلاة والسلام_ إن كانت غير التوراة مذكورة في القران أيضا. فما ذكر الله اسمه في القران وجب الإيمان به بعينه واسمه، وما لم يذكر فانه يؤمن به إجمالا. فنؤمن بان الله انزل علي موسى_ عليه الصلاة والسلام_ كتابا هو التوراة، وعلي عيسي كتابا هو الإنجيل، وعلي داود
عليه الصلاة والسلام_ كتابا هو(1/446)
الزبور، وعلي إبراهيم_ عليه الصلاة والسلام_ صحفا، هكذا نقول. ولا يعني ذلك إن ما وجد عند النصارى اليوم هو الذي نزل علي عيسي، لان الأناجيل الموجودة عند النصارى اليوم محرفة ومغيرة ومبدلة، لعب بها قساوسة النصارى فزادوا فيها ونقصوا وحرفوا، ولهذا تجدها تنقسم إلى أربعة أقسام أو خمسة، ومع ذلك فان الكتاب الذي نزل علي عيسي كتاب واحد، لكن الله تعالى إنما تكفل بحفظ الكتاب الكريم الذي نزل علي محمد صلي الله عليه وسلم، لانه لا نبي بعده، يبين للناس ما هو الصحيح، وما هو المحرف. أما الكتب السابقة فإنها لم تخل من التحريف، لانه سيبعث أنبياء يبينون فيها الحق ويبينون فيها المحرف، وهذا هو السر في إن الله تكفل بحفظ القران دون غيره من الكتب، من اجل إن يعلم الناس حاجتهم إلى الأنبياء إذا وجدوا الكتب محرفة، فتاتي الأنبياء وتبين الحق. فالمهم إن نؤمن بان الكتاب الذي نزل علي النبي المعين حق من عند الله، لا علي إن الكتاب الذي في أيدي اتباعه اليوم هو الكتاب الذي نزل، بل قطعا انه محرف ومغير ومبدل. ومن الإيمان بالكتب إن تؤمن بان كل خبر جاء فيها فهو حق، كما إن كل خبر في القران فهو حق، لان
الأخبار التي جاءت في الكتب التي نزلت علي الأنبياء من عند الله فهو حق، يعني كل حكم لم يحرف ولم يغير فهو حق، لان جميع أحكام الله التي الزم الله بها عباده كلها حق، لكن هل هي بقيت إلى الآن غير محرفة؟ هذا السؤال بينا الجواب عليه بأنها غير(1/447)
مامونة، بل مغيرة ومحرفة ومبدلة. ولكن هل علينا إن نعمل بالأحكام التي جاءت بها الكتب السابقة؟ نقول: أما ما قصة الله علينا من هذه الكتب، فأننا نعمل به ما لم يرد شرعنا بخلافه. مثاله قوله تعالى عن التوراة:) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة: من الآية45) ، هذه مكتوبة في التوراة ونقلها الله_ عز وجل_ لنا في القران، لكن الله، عز وجل، لم يقصها علينا إلا من اجل إن نعتبر ونعمل بها، كما قال الله: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف: من الآية111) ، وقال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ
هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: من الآية90) ، فما قصة الله علينا وما نقه لنا من الكتب السابقة فهو شرع لنا، لان الله لم يذكره عبثا، إلا إذا ورد شرعنا بخلافه، فإذا ورد شرعنا بخلافه صار ناسخا لها. كما إن من الآيات الشرعية النازلة في شرعنا ما يكون منسوخا بآيات أخرى، فكذلك ما ذكره الله عن الكتب السابقة نقلا فانه قد ينسخ بهذه الشريعة. أما ما جاء في كتبهم فأننا لا نصدقه ولا نكذبه، كما أمر بذلك النبي_ عليه الصلاة والسلام_ فيما إذا حدثنا بنو اسرائل ان لا نصدقهم ولا نكذبهم، لأننا ربما نصدقهم بالباطل وربما نكذبهم بحق، فنقول: آمنا بالله وما انزل إلينا وما انزل إليكم، ولا نصدقهم ولا نكذبهم إذا كان لم يشهد(1/448)
شرعنا بصحته ولا بكذبه. فان شهد بصحته أو بكذبه عملنا ما تقتضيه هذه الشهادة، إن شهد بصحته صدقناه، وان شهد بكذبه كبناه. ومن ذلك ما ينسب في أخبار بني إسرائيل إلى أخبار بعض الأنبياء_ عليهم الصلاة والسلام_ كما ذكر عن داود انه أعجبته امرأة رجل من جنده وطلب من الجندي إن يذهب إلى العدو ويقاتل لعله يقتل فيأخذ امرأته من بعده! وانه أرسل الجندي فبعث الله إليه جماعة من الائكة يختصمون إليه فقال
أحد الخصمين: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ) (صّ: من الآية24، 23) ضربه الله لداود حيث كان عنده من النساء ما يبلغ تسعا وتسعين امرأة، فحاول إن يأخذ امرأة هذا الجندي ليكون بها المائة! فهذه القصة كذب واضح، لان داود_ عليه الصلاة والسلام_ نبي من الأنبياء، ولا يمكن إن يتحيل هذه الحيلة، بل لو إن غير نبي ما فعل هذا وهو عاقل فكيف وهو نبي؟! فمثل هذه القصة التي جاءت عن بني إسرائيل نقول إنها كذب، لانها(1/449)
لا تليق بالنبي، ولا تليق بأي عاقل، فضلا عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. الخلاصة: إن ما جاء في كتبهم ينقسم إلى قسمين رئيسيين: أولا: ما قصة الله علينا في القران أو قصة علينا رسول الله صلي الله عليه وسلم فهذا مقبول صحيح.
والثاني: ما نقلوه هم، فهذا لا يخلوا من ثلاث حالات: الحالة الأولى: إن يشهد شرعنا بكذبه، فيجب علينا إن نكذبه ونرده. والثانية: ما شهد شرعنا بصدقه فنصدقه ونقبله لشهادة شرعنا به. والثالث: ما ليس هذا ولا هذا، فيجب علينا إن نتوقف، لانهم لا يؤمنون، ويحصل في خبرهم الكذب والتغيير والزيادة والنقص. قوله: (وَرُسُلِهِ) هذا هو الركن الرابع. الرسل هم البشر الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى إلى الخلق وجعلهم واسطة بينه وبين عباده في تبيلغ شرائعه، وهو بشر خلقوا من أب وأم، إلا عيسي ابن مريم_ عليه الصلاة والسلام_ فان الله خلقه من أم بلا أب. أرسلهم الله سبحانه وتعالى رحمة بالعباد واقامة بالحجة عليهم، كما قال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) إلى قوله: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء: من الآية (163_165) . وهم عدد كثير، أولهم نوح وأخرهم محمد صلي الله عليه مسلم ودليل ذلك قوله تعالى: (َّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ
بَعْدِهِ) (النساء: من الآية163) وقد صح(1/450)
في الصحيحين وغيرهما في حديث الشفاعة: ((إن الناس يوم القيامة يأتون آل نوح فيقولون له: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض)) . أما دليل كون النبي_ عليه الصلاة والسلام_ آخر الرسل فهو قوله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) (الأحزاب: من الآية40) وصح عنه صلي الله عليه وسلم انه قال: ((أنا خاتم النبيين)) . فعلينا إن نؤمن بان جميع الرسل الذين أرسلهم الله صادقون فيما ابلغوا به عن الله وفي رسالتهم. _ علينا إن نؤمن بأسماء من عينت أسماؤهم لنا ومن لم تعين أسماؤهم لنا، فأننا نؤمن بهم علي سبيل الإجمال. _ علينا أيضا إن نؤمن إن ما من أمة إلا أرسل الله إليها رسولا لتقوم عليهم الحجة، كما قال الله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل: من الآية36) ، وقال تعالى: (ً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر: من الآية24) وعلينا إن نصدق بكل ما أخبرت به الرسل إذا صح عنهم من جهة النقل(1/451)
ونعلم انه الحق. وعلينا
إن نتبع خاتمهم محمد صلي الله عليه وسلم، لانه هو الذي فرض علينا اتباعه، قال الله تعالى:) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (لأعراف: من الآية158) ، فامرنا الله تعالى باتباعه. وقال تعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران: من الآية31) ، أما ما سواه من الرسل فأننا نتبعهم إذا ورد شرعنا بالأمر باتباعهم، مثل قوله علبه الصلاة والسلام: ((افضل الصلاة صلاة أخي داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وافضل الصيام صيام أخي داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما)) (،) فهذا حكاية لتعبد داود وتهجده في الليل، وكذلك صيامه، من اجل إن نتبعه فيه. أما إذا لم يرد شرعنا بالأمر باتباعه فقد اختلف العلماء_ رحمهم الله_ هل شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بالأمر بخلافه، أو انه ليس بشرع لنا حتى يرد شرعنا
بالأمر باتباعه؟ والصحيح إن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد شرعنا بخلافه، لأنه تعالى لما ذكر الأنبياء والرسل قال لنبيه صلي الله عليه وسلم: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: من الآية90) ، فأمر الله نبيه محمدا صلي الله عليه وسلم إن يقتدي بهدي(1/452)
من سبقه وقال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف: من الآية111) ، وهذه آخر سورة يوسف التي قص الله تعالى علينا قصته مطولة من اجل إن نعتبر بما فيها. ولهذا اخذ العلماء_ رحمهم الله_ من سورة يوسف فوائد كثيرة، في أحكام شرعية في القضاء وغيره، واخذوا منها: العمل بالقرائن عند الحكم، لقوله تعالى: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (يوسف: الاية27، 26) ، فقالوا: هذه قرينة، لأنه إذا كان القميص قد من قبل فالرجل هو الذي طلبها فقدت قميصه، وإذا كان من دبر_ من الخلف_ فهي التي طلبته وقدت قميصه حتى انقد، فهذه قرينة ثبت بها الحكم، والعلماء
اعتمدوا هذه القرينة وان كان في السنة ما يدل علي الحكم بالقرائن في غير هذه المسالة. لكن القول الراجح في ((شرع من قبلنا ما لم يرد شرعنا بخلافه)) ، وللرسل_ عليهم الصلاة والسلام_ علينا: إن نحبهم، وان نعظمهم بما يستحقون، وان نشهد بأنهم في الطبقة العليا من طبقات أهل الخير والصلاح، كما قال الله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) (النساء: 69) . أما الركن الخامس فهو: ((الإيمان باليوم الآخر)) .(1/453)
واليوم الآخر: هو يوم القيامة، وسمي يوم القيامة باليوم الآخر لأنه لا يوم بعده. فالإنسان له مراحل أربع: مرحلة في بطن أمه، ومرحلة في الدنيا، ومرحلة في البرزخ، ومرحلة يوم القيامة، وهي أخر المراحل، ولهذا سمي اليوم الآخر، يسكن فيه الناس، أما في الجنة نسأل الله إن يجعلنا منهم، واما في النار_ والعياذ بالله_ فهذا هو المصير. والإيمان باليوم الآخر يدخل فيه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية_ رحمه الله_ في كتاب ((العقيدة الواسطية)) وهو كتاب مختصر في عقيدة أهل
السنة والجماعة، من احسن ما كتبه شيخ الإسلام_ رحمه الله_ في جمعه ووضوحه وعدم الاستطرادات الكثيرة. يقول رحمه الله: يدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما اخبر به النبي صلي الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت)) _ فمن ذلك: فتنة القبر: إذا دفن الميت أتاه ملكان يجلسانه ويسألانه ثلاثة أسئلة، يقولان: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك!؟
فيثبت الله الذين أمنوا بالقول الثابت - اسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم- فيقول المؤمن: ربي الله، وديني الإسلام، ونبي محمد، فينادي منادي من السماء أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة والبسوه من الجنة وافتحوا له باب إلى الجنة. ويفسح له في قبره مد البصر ويأتيه من الجنة روحها، ويشاهد فيها ما يشاهد من النعيم.(1/454)
وأما المنافق_ والعياذ بالله_ أو الكافر، فيقول: هات هات.. لا ادري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، لان الإيمان لم يصل إلى قلبه، إنما هو بلسانه فقطن فهو يسمع ولا يدري ما المعنى، لا ويفتح عليه في قبره. هذه فتنة عظيمة جدان ولهذا امرنا النبي_ عليه الصلاة والسلام_ أن نستعيذ بالله منها في كل صلاة ((اللهم أني أعوذ بك من عذاب القبر، وعذاب النار)) _ ومن ذلك أيضا أن نؤمن بنعيم القبر وعذاب القبر. نعيم القبر لمن يستحق النعيم من المؤمنين، وعذاب القبر لمن يستحق العذاب، وقد جاء ذلك في القران والسنة، واجمع عليه أهل السنة والجماعة. _ ففي كتاب الله يقول تبارك وتعالى: (كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (النحل: 32) ويقول الله سبحانه وتعالى في آخر سورة الواقعة: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ) (الواقعة: 89) يقول هذا في حال ذكر المحتضر إذا جاءه الموت. إذا كان من المقربين فله روح وريحان وجنة نعيم في نفس اليوم. أما عذاب القبر فاستمع إلى قول الله عز وجل: (وَلَوْ تَرَى إِذِ(1/455)
الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ) (الأنعام: من الآية93) أي: سكرات الموت (وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ) مادين أيديهم لهذا المحتضر من الكفار (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) وكأنهم شحيحون بأنفسهم، لأنها تبشر_ والعياذ بالله_ بالعذاب، فتهرب في البدن وتتفرق ويشح بها الإنسان، فيقال: (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) (الأنعام: من الآية93) ، أي: اليوم يوم موتهم عند احتضارهم.
وقال الله سبحانه في آل عمران: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) (غافر: 46) فقال: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً) هذا قبل قيام الساعة (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) . ولكن يجب علينا أن نعلم أن هذا النعيم والعذاب أمر غيبي لا نطلع عليه، لأننا لو اطلعنا عليه ما دفنا أمواتنا، لان الإنسان لا يمكن أن يقدم ميته لعذاب يسمعه، يفزع، لان الكافر أو المنافق إذا عجز عن الإجابة يضرب بمرزبة_ قطعة من الحديد مثل المطرقة_ من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شئ إلا الإنسان قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولو سمعها الإنسان لصعق)) .
وقال النبي صلى الله عليه ومسلم: ((لولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر)) ، ولكن من نعمة الله أننا لا نعلم به حسا، بل نؤمن به غيبا ولا(1/456)
ندركه حسا. كذلك لو كان عذاب القبر شهادة وحسا لكان فيه فضيحة! إذا مررت بقبر إنسان وسمعته يعذب ويصيح ففيه فضيحة له. ثالثا: ولو أن شهادة يحس لكان هذا قلقا علي أهله وذويه، فلا ينامون في الليل وهم يسمعون صاحبهم يصيح ليلا ونهارا من العذاب، لكن من رحمة الله_ سبحانه وتعالى_ أن الله جعله غيبا لا يعلم عنه، فلا يأتي شخص ويقول: أننا لو حفرنا القبر بعد يومين لم نجد أثرا للعذاب؟ نقول: لان هذا أمر غيبي، علي أن الله تعالى قد يطلع علي هذا الغيب من شاء من عباده، فربما يطلع عليه، فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن النبي صلي الله عليه وسلم مر بقبرين في المدينة وقال: انهما ليعذبان وما يعذبان في كبيرة، أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) ، فاطلع الله نبيه علي هذين القبرين انهما يعذبان فالحاصل انه يجب علينا أن نؤمن بفتنة القبر، وهي سؤال الملكين عن ربه ودينه ونبيه، وان نؤمن بنعيم القبر لو عذابه، _
ومما يدخل في الإيمان باليوم الآخر: أن يؤمن الإنسان بما يكون في نفس اليوم الآخر، وذلك انه إذا نفخ في الصور النفخة الثانية قام الناس في قبورهم لله رب العالمين حفاة ليس عليهم نعال، وعراة ليس عليهم ثياب،(1/457)
وغرلا ليس مختونين، وبهما ليس معهم مال، كل الناس حتى الأنبياء والرسل يبعثون هكذا، كما قال الله تعالى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (الأنبياء: من الآية104) ، فكما أن الإنسان يخرج من بطن أمه هكذا عاريا غير منتعل، غير مختون، ليس معه مال، فكذلك يخرج من بطن الأرض يوم القيامة علي هذه الصفة، يقومون لرب العالمين الرجال والنساء، والصغار والكبار، والكفار والمؤمنون، كلهم علي هذا الوصف حفاة غرلا بهما، ولا ينظر بعضهم إلى بعض، لأنه قد دهاهم من الأمر ما يشغلهم عن نظر بعضهم إلى بعض، فالأمر اعظم من أن ينظر بعض الناس إلى بعض. ربما تكون المرأة إلى جنب الرجل ولا ينظر إليها ولا تنظر إليه، كما قال اله عز وجل: (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) (وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) (وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (عبس: 33_37) . ومن
الإيمان باليوم الآخر: أن تؤمن بان الله_ سبحانه وتعالى_ يبسط هذه الأرض ويمدها كما يمد الأديم أي الجلد، لان أرضنا اليوم كرة مستديرة منبعجة بعض الشيء من الجنوب والشمال، لكنها مستديرة كما يفيد قوله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (1_3) ، معناه إنها لا تمد إلا إذا انشقت السماء، وذلك يوم القيامة، فتبسط الأرض كما كما يبسط الجلد المدبوغ، ليس فيها أودية ولا أشجار ولأبناء ولا جبال، يذرها الرب_ عز وجل_ قاعا صفصفا لا تري فيها عوجا ولا أمتا، يحشر الناس عليها علي الوصف المذكور أنفا، وتطوي السماوات، يطويها الرب_ عز وجل_ بيمينه، وتدني الشمس من(1/458)
الخلق حتى تكون فوق رؤوسهم بقر ميل، أم مسافة وأما ميل المكحلة وأيا كان في قريبا من الرؤوس، لكننا نؤمن بان من الناس من يسلم من حرها، وهو الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنه السبع الذين ذكرهم الرسول في نسق واحد، فقال عليه الصلاة والسلام: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشا في طاعة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه،
ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: أني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)) الإمام العادل: هو الذي عدل في رعيته، ولا عدل اقوم ولا أوجب من أن يحكم فيهم شريعة الله، هذا راس العدل، لان الله يقول: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ) (النحل: من الآية90) ، فمن حكم شعبه بغير شريعة الله فانه ما عدل، بل هو كافر والعياذ بالله، لان الله قال: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: من الآية44) فإذا وضع هذا الحاكم قوانين تخالف الشريعة وهو يعلم إنها تخالف الشريعة، لكنه عدل عنها وقال: أنا لا اعدل عن القانون، فانه كافر وان صلي، ولو تصدق، ولو صام، ولو حج، ولو ذكر الله تعالى، ولو شهد للرسول_ عليه الصلاة والسلام_ بالرسالة، فانه كافر مخلد في جهنم(1/459)
يوم القيامة ولا يجوز أن يتولى عن شعب مسلم إذا قدر الشعب علي إزاحته عن الحكم. فاهم العدل في الإمام أن يحكم في الناس بشريعة الله. ومن العدل أن يسوي بين الفقير والغني، وبين العدو والولي، وبين القريب والبعيد، حتى العدو يسوي بينه وبين
الولي في مسالة الحكم، حتى أن العلماء رحمهم الله قالوا: لو دخل علي القاضي رجلان أحدهما كافر والثاني مسلم، حرم عليه أن يميز المسلم بشيء، فيدخلان جميعا ويجلسان جميعا، فلا يتحدث لواحد دون الآخر، ولا يبش في وجه المسلم ويكشر في وجه الكافر! وهما في مقام الحكم، بل يجب أن يسوي بينهما، مع أن الكافر لا شك انه ليس كالمسلم (أفنجل الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (القلم: 36، 35) ، لكن في باب الحكم الناس سواء. ومن العدل: أن يقيم الحدود التي فرضها الله_ عز وجل_ علي كل أحد، حتى علي أولاده وذريته، فان النبي صلي الله عليه وسلم وهو اعدل الأئمة، لما شفع إليه أسامة_ رضي الله عنه_ فيها، فقال له: ((أتشفع في حد من حدود الله)) ؟! أنكر عليه، ثم قام النبي صلي الله عليه وسلم فخطب الناس، فحمد الله واثني عليه ثم قال: ((أما بعد.. فإنما اهلك الذين قبلكم انهم كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد! وايم الله_ أي حلف بالله_ لو أن(1/460)
فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) صلي الله عليه وسلم، فاطمة بنت محمد اشرف النساء! سيدة نساء أهل الجنة، بنت افضل البشر، لو
سرقت لقطع يدها وهو أبوها. وتأمل ((لقطعت يدها)) ولم يقل ل أمرت بقطع يدها! فظاهره هو الذي يباشر قطعها لو سرقت. هذا العدل، وبهذا قامت السماوات والأرض. ومن عدل الإمام أن يولي المناصب من هو أهل لها في دينه وفي قوته، فيكون أمينا وقويا، أهلا للأمر الذي ولي عليه. وأركان الولاية اثنان: القوة، والأمانة، قال الله تعالى: (قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ) (النمل: من الآية39) إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (القصص: من الآية26) لسليمان: (ِ أَنَا آتِيكَ بِهِ) (النمل: من الآية39) أي: بعرش بلقيس (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) (النمل: من الآية39) ، فمن العدل أن لا يولي أحدا منصبا ألا وهو أهل له في قوته وفي أمانته، فان ولي من ليس أهلا ويوجد من هو خير منه فليس بعادل. فالنبي صلي الله عليه وسلم جعل الإمام العادل من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وجعله أول هؤلاء السبعة، لان العدل في الرعية صعب جدا، فإذا وفق المرء الذي يوليه الله علي عباده للعدل أن في هذا خيرا كثيرا، وانتفعت الأمة في عصره ومن بعده أيضا، لأنه يكون قدوة صالحة،
فهذا ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.(1/461)
ثانيا: ((سلب نشأ في طاعة الله)) : الشاب ما بين الخامس عشرة سنة إلى الثلاثين. ولا شك أن يكون للشباب اتجاهات وأفكار، ولا يستقر علي شئ، لأنه شاب غض، كل شئ يجذبه، وكل شئ يختطفه، ولهذا أمر الرسول صلي الله عليه وسلم في الحرب أن تقتل شيوخ المقاتلين المشركين وسيتبقي شبابهم، لان الشباب إذا عرض عليهم الإسلام ربما يسلمون. فالشاب لما كان في سن الشباب يكون له أفكار وأهواء واتجاهات فكرية وخلقية وسلوكية، صار الذي يمن الله عليه وينشا في طاعته من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. وطاعة الله هي امتثال أمر الله واجتناب نهيه، ولا امتثال للأمر واجتناب للنهي إلا بمعرفة أن هذا أمر وهذا نهي، إذن لا بد من سبق العلم، فيكون هذا الشاب طالبا للعلم، ممتثلا للأمر، مجتنبا للنهي. الثالث: ((رجل قلبه معلق بالمساجد)) : أي: يحب المساجد. وهل المقصود أماكن السجود؟ أي أن يحب الصلاة، أو المقصود المساجد المخصوصة؟ يحتمل هذا وهذا. هذا رجل قلبه دائما معلق بالمساجد، وهو مشغول في أماكن الصلاة، وفي الصلاة. إذا انتهي من صلاة انتظر الأخرى، وهكذا. وهنا فرق بين قول الإنسان: (
(اللهم أرحني بالصلاة)) ، و ((اللهم أرحني من الصلاة)) . أرحني بالصلاة: هذا خير، أي اجعل الصلاة راحة لقلبي. وأرحني من الصلاة: أي فكني عنها. أعوذ بالله! فهذا الرجل قلبه معلق بالمساجد(1/462)
دائما، وهو مشغول بأماكن الصلاة وبالصلاة، إذا انتهي من صلاة انتظر الأخرى، وهكذا. الرابع: ((رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه)) أي: احب بعضهما بعضا لا لشي سوي الله_ عز وجل_ فليس بينهما قرابة ولا صلة مالية، وليس بينهما صداقة طبيعية، إنما احب في الله_ عز وجل_ لأنه راءه عابدا لله مستقيما علي شرعه فاحبه، وإذا كان قريبا أو صديقا وما أشبه ذلك فلا مانع أن يحبه من وجهين: من جهة القرابة والصداقة، ومن الجهة الإيمانية. فهذان تحابا في الله وصارا كالأخوين، لما بينهما من الرابطة الشرعية الدينية، وهي عبادة الله سبحانه وتعالى. ((اجتمعا عليه)) في الدنيا ((وتفرقا عليه)) أي: لم يفرق بينهما إلا الموت، يحبه إلى أن مات، هذان يظلهما الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ويكونان يوم القيامة علي محبتهما وعلي خلتهما، كما قال الله تعالى: (الإخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف: 67) ،
تبقي الصداقة بينهما في الدنيا والآخرة. اللهم أنا نسألك من فضلك. الخامس: ((ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: أني أخاف الله: رجل قادر علي الجماع، دعته امرأة ليجامعها بالزنا_ والعياذ بالله_ ذات منصب وجمال، أي إنها من خمائل معروفة، ليست من سقط النساء بل من الخمائل المعروفة، وهي جميلة، دعته إلى نفسها في مكان خالي لا يطلع عليهما أحد، وهو فيه شهوة، ويحب النساء، لكنه قال: أني أخاف(1/463)
الله! لم يمنعه من فعل هذا إلا خوف الله عز وجل! فانظر إلى هذا الرجل! المقتضي موجود، لأنه قادر علي الجماع، والمرأة جميلة، وهي ذات منصب، والمكان خال، لكن منه مانع اقوي من هذا المقتضي، وهو خوف الله، قال: ((أني أخاف الله)) ما قال: أني لا اشتهي النساء، وما قال: لست بجميلة، وما قال: أنت من اسافل النساء، وما قال: أن حولنا أحدا، قال: ((أني أخاف الله)) فهذا ممن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. وانظر إلى يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم_ عليهم الصلاة والسلام_ عشقته امرأة العزيز ملك مصر، وكانت امرأة ملك علي حال من الجمال والدلال. غلقت الأبواب بينهما وبين الناس: (وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ) يعني تدعوه إلى نفسها، وكان
رجلا شابا، وبمقتضي الطبيعة البشرية هم بها وهمت به، ولكن رأي برهان ربه ووقع في قلبه خوف الله فامتنع، فهددته بالسجن فقال: (? رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (يوسف: 35، 33) ، وسجن في ذات الله وامتنع عن الزنا مع قوة أسبابه، لكنه رأي برهان ربه فخاف الله، السادس: ((ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) : وهذا فيه كمال الإخلاص، يخلص لله، لا يريد من الناس أن يطلعوا علي عمل من أعماله، بل يريد أن يكون بينه وبين ربه فقط. ولا(1/464)
يريد أن يظهر للناس بمظهر المنة علي أحد، لان الذي يعطي إمام الناس تكون له منة علي من أعطاه. فهو يخفي الصدقة حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، أي: من شدة إخفائه لو أمكن أن لا تعلم يده الشمال ما أنفقت يده اليمين لفعل، فهذا مخلص غاية الإخلاص وهو بعيد عن المن بالصدقة، يظله
الله في ظله يوم لا ظل الاظله، ولكن لاحظ أن إخفاء الصدقة افضل_ بلا شك_ إلا انه ربما يعرض لهذا الأفضل ما يجعله مفضولا، مثل أن يكون في إظهار الصدقة تشجيع للناس علي الصدقة، فهنا قد يكون إظهار الصدقة افضل، ولهذا امتدح الله_ سبحانه وتعالى_ الذين ينفقون سرا وعلانية علي حسب ما تقتضيه المصلحة. فالحال لا تخلوا من ثلاث مراتب: أما أن يكون السر انفع، أو الإظهار انفع، فان تساوي الأمران فالسر انفع. السابع: ((رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)) ذكر الله بلسانه وبقلبه، ليس عنده أحد يرائيه بهذا الذكر، خاليا من الدنيا كلها، قلبه معلق بالله عز وجل. فلما ذكر الله بلسانه وبقلبه، وتذكر عظمة الرب_ عز وجل_ اشتاق إلى الله ففاضت عيناه. فهذا أيضا ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. هذه الأعمال السبعة قد يوفق الإنسان فيحصل علي واحد منها أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة، هذا ممكن، ولا يناقض بعضه بعضا، فقد يوفق الإنسان فيأخذ من كل واحدة من هذه بنصيب، كما اخبر الرسول عليه الصلاة والسلام: ((أن للجنة أبوابا، من كان من أهل(1/465)
الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان
من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان)) ذكر أربعة! فقال أبو بكر: يا رسول الله، ما علي من دعي علي واحد من هذه الأبواب من ضرورة_ أي: الذي يدعي من باب واحد سهل_ فهل يدعي أحد من هذه الأبواب كلها؟ قال: ((نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبو بكر)) نسأل الله من فضله. وهذا يعني أن أبا بكر يدعي من كل الأبواب، لأنه صاحب صلاة، وصدقة، وجهاد، وصيام، فكل مسائل الخير قد اخذ منها بنصيب. رضي الله عنه وأرضاه، وألحقنا به في جنات النعيم. وهنا مسالة احب أن انبه عليها، وهي أن بعض الطلبة يظنون أن المراد بالظل ((في ظل يوم لا ظل إلا ظله)) انه ظل الرب_ عز وجل_ وهذا ظن خاطئ جدا، لا يظنه الأرجل جاهل، وذلك أن من المعلوم أن الناس في الأرض، وان الظل هذا يكون عن الشمس، فلو قدر أن المراد به ظل الرب_ سبحانه وتعالى_ لزم من هذا أن تكون الشمس فوق الله، ليكون حائلا بينها وبين الناس، وهذا شئ مستحيل ولا يمكن، لان الله_ سبحانه وتعالى_ قد ثبت(1/466)
له العلو المطلق من جميع الجهات، ولكن المراد ظل يخلقه الله في ذلك اليوم يظل من يستحقون أن يظلهم الله في ظله، وإنما أضافه الله إلى نفسه لأنه في ذلك
اليوم لا يستطيع أحد أن يظلل بفعل مخلوق، فليس هناك بناء ولا شئ يوضع علي الرؤوس، إنما يكون الظل ما خلقه الله لعباده في ذلك اليوم، فلهذا أضافه الله إلى نفسه لاختصاصه به ومما يكون في ذلك اليوم: نشر الدواوين أي: صحائف الأعمال التي كتبت علي المرء في حياته، وذلك لان الله_ سبحانه وتعالى_ وكل بكل إنسان ملكين: أحدهما عن اليمين، والثاني عن الشمال، كما قال الله تبارك وتعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ: 16_18) . هذان الملكان الكريمان يكتبان كل ما يعلمه المرء من قول أو فعل، أما ما يحدث به نفسه فانه لا يكتب عليه، لان النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((أن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به)) . لكن القول والفعل يكتب علي الإنسان، كاتب الحسنات علي اليمين وكاتب السيئات علي الشمال، فيكتبان كل ما أمرا بكتابته، فإذا كان يوم القيامة الزم كل إنسان هذا الكتاب في عنقه، كما قال الله تعالى (وَكُلَّ(1/467)
إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ
طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (الإسراء: من الآية13) ويخرج له هذا الكتاب فيقال: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (الإسراء: 14) ، فيقراه له، ويتبين كل ما عنده. هذا الكتاب المنشور من الناس من يأخذه بيمينه، ومن الناس من يأخذه بشماله من وراء ظهره. أما من يأخذه بيمينه_ أسال الله أن يجعلنا منهم_ فانه يقول للناس (هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ) (الحاقة: من الآية19) ، يريهم إياه فرحا ومسرورا بما انعم الله به عليه. وأما من أوتى كتابه بشماله فيقول حزا وقما وهما (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ) (الحاقة: من الآية25) . ومما يجب الإيمان به في ذلك اليوم: أن تؤمن بالحساب، بان الله تعالى يحاسب الخلائق، كما قال الله تعالى: (وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء: من الآية47) ، وقال الله تعالى: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً) (الانشقاق: 8) ، فيحاسب الله الخلائق، ولكن حساب المؤمن حساب يسير ليس فيه مناقشة، يخلو الله سبحانه وتعالى بعبده المؤمن ويضع عليه ستره، ويقرره بذنوبه، يقول: أتذكر كذا؟ حتى يقول: نعم، ويقر
بذلك كله، فيقول الله_ عز وجل_ له: ((أني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا اغفرها لك اليوم)) ، وما اكثر الذنوب التي(1/468)
سترها الله علينا! فإذا كان الإنسان مؤمنا قال الله له: ((فأني قد سترتها عليك في الدنيا، وأني اغفرها لك اليوم)) الخ. أما الكافر_ والعياذ بالله_ فانه يفضح ويخزي، وينادي علي رؤوس الأشهاد: (هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (هود: من الآية18) . ومما يجب الإيمان به مما يكون في يوم القيامة: الحوض المورود لنبينا محمد صلي الله عليه وسلم وهو حوض يصب عليه ميزابان من الكوثر، وهو النهر الذي أعطيه النبي صلي الله عليه وسلم في الجنة، كما قال الله تعالى (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) (الكوثر: 1) ، فيصب منه ميزابان علي الحوض الذي يكون في عر صات يوم القيامة. وصفه النبي_ عليه الصلاة والسلام_ بان ماءه اشد بياضا من اللبن، واحلي من العسل، وأطيب من رائحة المسك، وان آنيته كنجوم السماء، وان طوله شهر وعرضه شهر، وان من شرب منه مرة واحدة فانه لا يظمأ بعدها أبدا. هذا الحوض يرده المؤمنون من أمة النبي صلي الله عليه وسلم_ أسال الله أن
يوردني وإياكم إياه_ يرد المؤمنون يشربون منه، وأما من لم يؤمن بالرسول_ عليه(1/469)
الصلاة والسلام_ فانه يطرد عنه ولا يشرب منه، نسأل الله العافية. وهذا الحوض الذي جعله الله للنبي_عليه الصلاة والسلام_ هو اعظم حياض الأنبياء، ولكل نبي حوض يرده المؤمنون من أمته، لكنها لا تنسب إلى حوض الرسول صلي الله عليه وسلم لان هذه الأمة يتمثلون ثلثي أهل الجنة، فلا جرم أن يكون حوض النبي_ عليه الصلاة والسلام_ اعظم الحياض وأكبرها وأوسعها أعظمها واشملها. ومما يجب الإيمان به أيضا في ذلك اليوم: الإيمان بالصراط. والصراط جسر منصوب علي جهنم، وهو أدق من الشعر واحد من السيف، يمر الناس عليه علي قدر أعمالهم، من كان مسارعا في الخيرات في الدنيا كان سريعا في المشي علي هذا الصراط، ومن كان متباطئا، ومن كان قد خلط عملا صالحا وآخر سيئا ولم يعف الله عنه فانه ربما يكدس في النار والعياذ بالله! يختلف الناس في المشي عليه، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يمشي، ومنهم من يزحف، ومنهم من يلقي في جهنم. وهذا الصراط لا يمر عليه إلا المؤمنون
فقط، أما الكافرون فانهم لا يمرون عليه، وذلك أنهم يساقون في عر صات القيامة إلى النار مباشرة، نسأل الله العافية. فإذا عبروا علي الصراط وقفوا علي قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص(1/470)
من بعضهم لبعض، وهذا القصاص غير القصاص الذي يكون في عر صات يوم القيامة، هذا لقصاص_ والله اعلم_ يراد به أن تتخلى القلوب من الأضغان والأحقاد والغل، حتى يدخلوا الجنة وهم علي اكمل حال، وذلك أن الإنسان وان اقتص له ممن اعتدي عليه فلا بد أن يبقي في قلبه شئ من الغل والحقد علي الذي اعتدي عليه، ولكن أهل الجنة لا يدخلون الجنة حتى يقتص لهم اقتصاصا كاملا، فيدخلونها علي احسن وجه، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، ولكن لا يفتح باب الجنة لأحد قبل الرسول صلي الله عليه وسلم ولهذا يشفع هو بنفسه لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة، كما انه شفع للخلائق أن يقضي بينهم ويستريحوا من الهول والكرب والغم الذي أصابهم في عرصات القيامة، وهاتان الشفاعتان خاصتان برسول الله صلي الله عليه وسلم. اعني الشفاعة في أهل الموقف حتى يقضي بينهم، والشفاعة في أهل الجنة حتى يدخلوا الجنة، فيكون له، _ صلي الله عليه وسلم_ شفاعتان: إحداهم في نجاة الناس من الكروب
والهموم، والثانية في حصول مطلوبهم، وهو فتح باب الجنة فيفتح. فأول من يخل الجنة من الناي رسول الله صلي الله عليه وسلم، قبل كل الناس، وأول من يدخلها من الأمم أمة النبي صلي الله عليه وسلم، أما أهل النار_ والعياذ بالله_ فيساقون إلى النار زمرا، ويدخلونها أمة بعد أمة، (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا) والعياذ بالله. الثانية تلعن الأولى وهكذا، ويتبرأ بعضهم من بعض، نسأل الله العافية. فإذا أتوا إلى النار وجدوا أبوبها مفتوحة، حتى يبتغوا بعذابها(1/471)
والعياذ بالله، وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) (169، 168) . فيدخونها ويخلد فيها الكفار ابد الآبدين، إلى ابد لا منتهى له، كما قال الله _ عز وجل _ في كتابه: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وقال سبحانه وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً) (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا
اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرسول) (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيل) (رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) (الأحزاب: 68، 64) . وقال سبحانه وتعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً) (الجن: من الآية23) !! فهذه ثلاث آيات من كتاب الله_ عز وجل_ كلها فيها التصريح بان أهل النار خالدون فيها أبدا، ولا لأحد بعد كلام الله عز وجل. كما أن أهل الجنة خالدون فيها أبدا. فان قال قائل: أن الله تعالى قال في سورة هود: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (هود: 108، 106) ، ففي أهل الجنة قال: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) يعني غير مقطوع، بل هو دائم. وفي أهل النار قال:
(إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) فهل هذا يعني أن أهل النار ينقطع عنهم العذاب؟ فالجواب: نقول لا، ولكن لما كان أهل الجنة يتقلبون بنعمة الله بين(1/472)
الله_ سبحانه وتعالى_ أن أعطاهم لا ينقطع، أما أهل النار فلما كانوا يتقلبون بعدل الله قال: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) فلا معقب لحكمه وقد أراد أن يكون أهل النار في النار، فهو يفعل ما يريد. هذا هو الفرق بين أهل النار وأهل الجنة، فأهل الجنة عطاؤهم غير مجذوذ، وأم أهل النار فانهم يتقلبون بعدل الله، والله سبحانه وتعالى فعال لما يريد. هذا الكلام فيما تيسر مما يتعلق بالإيمان باليوم الآخر. وقوله: ((وان تؤمن بالقدر خيره وشره)) هذا الركن السادس. والقدر: هو تقدير الله_ سبحانه وتعالى_ لما يكون يوم القيامة، وذلك أن الله_ سبحانه وتعالى_ خلق القلم فقال له اكتب! قال: ربي وما اكتب؟ قال: اكتب وهو كائن؟ فجري في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطاءه لم يكن ليصيبه، وقد ذكر الله هذا في كتابه إجمالا فقال: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ
إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحج: 70) وقال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد: 22) ، من قبل أن نبراها أي: من قبل أن نخلقها، أي: من قبل أن نخلق الأرض، ومن قبل أن نخلق أنفسكم، ومن قبل أن نخلق المصيبة. فان الله كتب هذا من قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.(1/473)
قال أهل العلم: ولا بد للإيمان بالقدر من أن تؤمن بكل مراتبه الأربع: المرتبة الأولى: أن تؤمن بان الله_ سبحانه وتعالى_ عليم بكل شئ، وهذا كثير في الكتب العظيم، يذكر الله عموم علمه بكل شئ، كما قال الله تعالى: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (الطلاق: من الآية12) ، ولقوله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام: من
الآية59) . المرتبة الثانية: أن تؤمن بان الله تعالى كتب مقادير كل شئ إلى قيام الساعة، كتبه قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فكل شئ كائن فانه مكتوب قد انتهي منه، جفت الأقلام وطويت الصحف، فما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطاءك لم يكن ليصيبك، فإذا أصابك شئ لا تقل لو فعلت كذا ما أصابني، إن هذا الشيء مكتوب لابد إن يقع كما كتب سبحانه وتعالى، قلا مفر منه مهما عملت، فالأمر سيكون علي ما وقع لا يتغير أبدا، لان هذا أمر قد كتب. فان قال قائل: ألم يكن قد جاء في الحديث: ((من احب إن يبسط له في رزقه، وينسى له في أثره، فليصل رحمه)) ؟.(1/474)
فالجواب: بلي قد جاء هذا، ولكن الإنسان الذي قد بسط له في رزقه ونسئ له في أثره من اجل الصلة، قد كتب انه سيصل رحمه، وانه سيبسط له في الرزق، وانه سينسى له في الأثر، لابد إن يكون الآمر هكذا، ولكن الرسول_ عليه الصلاة والسلام_ قال: ((من احب إن يبسط له في رزقه وينسى له في أثره)) الحديث، من اجل إن نبادر ونسارع في صلة الرحم، وإلا فهو مكتوب إن الرجل سوف يصل رحمه ويحصل له هذا الثواب، أو انه لن يصل رحمه ويحرم من هذا الثواب، أمر منته، لكن اخبرنا الرسول_ عليه الصلاة والسلام_
بهذا من اجل إن نحرص علي صلة الرحم. واعلم إن الكتابة في اللوح المحفوظ يعقبها كتابات آخر. منه: إن الجنين في بطن أمه إذا تم له أربعة اشهر أرسل الله إليه ملكا موكلا بالأرحام فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، واجله، وعمله، وشقي أم سعيد، فيكتب ذلك، وهذه الكتبة غير الكتابة في اللوح المحفوظ، هذه كتابة في مقتبل عمر الإنسان، ولهذا يسميها العلماء: الكتابة العمرة، يعني نسبة العمر. كذلك: هناك كتابة أخرى تكون في كل سنة، وهي في ليلة القدر، فان ليلة القدر يكتب الله فيها ما يكون في تلك السنة، كما قال الله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (الدخان: 4، 3) ، ((يفرق)) أي: يبين ويفصل، ولهذا سميت ليلة القدر.(1/475)
المرتبة الثالثة للإيمان بالقدر: إن تؤمن بان كل شئ بمشيئة الله، لا يخرج عن مشيئته شئ، ولا فرق بين إن يكون هذا الواقع مما يختص الله به، كإنزال المطر وإحياء الموتى وما أشبه ذلك، أي مما يعلمه الخلق، كالصلاة والصيام وما أشبهها، فكل هذا بمشيئة الله. قال الله تعالى: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ)
(وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير: 29، 28) . وقال الله تعالى:) ِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة: من الآية253) ، فين الله_ سبحانه وتعالى_ لنا انه لا مشيئة لنا ألا بمشيئة الله، فلا يكون في ملكه ما لا يشاء أبدا، ولهذا اجمع المسلمون علي هذه الكلمة العظيمة: ((ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن)) . وأما المرتبة الرابعة: فهي الإيمان بان كل شئ مخلوق لله، لقول الله تبارك وتعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (الزمر: 62) ، وقال تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (الفرقان: من الآية2) فكل شئ واقع مخلوق لله عز وجل، فالإنسان مخلوق لله وعمله مخلوق لله، قال الله عن إبراهيم_ عليه الصلاة والسلام_ وهو يخاطب قومه: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات: 96) ، ففعل العبد مخلوق
لله، لكن المباشر للفعل هو العبد وليس الله، لكن الله هو الذي خلق هذا الفعل ففعله العبد،(1/476)
فهو منسوب لله خلقا ومنسوب إلى العبد كسبا وفعلا، فالفاعل هو العبد والكاسب هو العبد، والخالق هو الله. فكل شئ مما يحدث فانه مخلوق لله_ عز وجل_ لكن ما كان من صفات الله فليس بمخلوق، فالقران مثلا أنزله الله علي محمد صلي الله عليه وسلم لكنه ليست بمخلوق. هذه أربع مراتب للإيمان بالقدر! يجب إن تؤمن بها كلها، وإلا فانك لم تؤمن بالقدر. وفائدة الإيمان بالقدر عظيمة جدا، لان الإنسان إذا علم إن الشيء لابد إن يقع كما أمر الله استراح، فإذا أصيب بضراء صبر وقال هذا من عند الله، وان اصب بسراء شكر وقال هذا من عند الله، وقد ثبت عن _ النبي عليه الصلاة والسلام _ انه قال: ((عجبت لامر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وان أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)) لان المؤمن يؤمن بان كل شئ بقضاء الله، فيكون دائما في سرور، ودائما في انشراح، لأنه يعلم إن ما أصابه فانه من الله: إن كان ضراء صبر وانتظر الفرج من الله ولجا إلى الله تعالى في كشف هذه الضراء، وان كان سراء شكر وحمد الله وعلم إن ذلك لم يكن بحوله ولا قوته
لكن بفضل من الله ورحمة.(1/477)
وقوله عليه الصلاة والسلام: ((خيره وشره)) : الخير ما ينتفع به الإنسان ويلائمه، من علم نافع، ومال واسع طيب، وصحة، وأهل وبنين وما أشبه ذلك. والشر ضد ذلك، من الجهل والفقر والمرض وفقدان الأهل والأولاد وما أشبه هذا. كل هذا من الله سبحانه وتعالى، والخير والشر، فان الله سبحانه يقدر الخير لحكمة ويقدر الشر لحكمة، كما قال الله عز وجل: (? وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء: من الآية35) . فإذا علم الله إن من الخير والحكمة إن يقدر الشر قدره لمل يترتب عليه من المصالح العظيمة، كقوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41) . فإذا قال قائل: كيف تجمع بين قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((وان تؤمن بالقدر خيره وشره)) وقوله صلي الله عليه وسلم: ((الشر ليس إليك)) ، فنفي إن يكون الشر إليه؟ فالجواب علي هذا إن نقول: إن الشر المحض لا يكون بفعل الله أبدا، فالشر المحض الذي ليس فيه خيرا لا حالا ولا مالا لا يمكن إن يوجد في
فعل الله أبدا، هذا من وجه، لأنه حتى الشر الذي قدره الله شرا لابد إن(1/478)
يكون له عاقبة حميدة، ويكون شرا علي قوم وخيرا علي آخرين. أرابت لو انزل الله المطر مطرا كثيرا فاغرق زرع إنسان، لكنه نفع الأرض وانتفعت به أمة، لكان هذا خيرا بالنسبة لمن انتفع به، شرا لمن تضرر به، فهو خير من وجه وشر من وجه. ثانيا: حتى الشر الذي يقدره الله علي الإنسان هو خير في الحقيقة، لان إذا صبر واحتسب الأجر من الله نال بذلك أجرا اكثر بأضعاف مضاعفة مما ناله من الشر، وربما يكون سببا للاستقامة ومعرفة قدر نعمة الله علي العبد فتكون العاقبة حميدة. ولهذا ذكر عن بعض العابدات إنها أصيبت في إصبعها أو يدها فانجرحت فصبرت وشكرت الله علي هذا وقالت: ((إن حلاوة اجرها آنستم مرارة صبرها)) ! ثم نقول: إن الشر في الحقيقة ليس في فعل الله نفسه، بل في مفعولاته، فالمفعولات هي التي فيها خير وشر، أما الفعل نفسه فهو خير، ولهذا قال الله عز وجل: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) (الفلق: 2، 1) ، أي: من شر الذي خلقه الله، فالشر إنما يكون في المفعولات لا في الفعل نفسه، أما فعل الله فهو خير. ويدلك لهذا انه لو كان عندك مريض وقيل
إن من شفائه إن تكويه بالنار، فكويته بالنار، فالنار مؤلمة بلا شك، لكن فعلك هذا ليس بشر، بل هو خير للمريض، لأنك إنما تنتظر عاقبة حميدة بهذا الكي، كذلك فعل الله للأشياء المكروهة والأشياء التي فيها شر، هي بالنسبة لفعله وإيجاد خير،(1/479)
لأنه يترتب عليها خير كثير. فان قال قائل: كيف تجمع بين هذا وبين قوله تعالى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) يعني من فضله، هو الذي من عليك بها أولا وأخرا (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) أي: أنت سببها، وإلا فالذي قدرها هو الله، لكن أنت السبب، كما في قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى: 30) . وخلاصة الكلام: إن كل شئ واقع فانه بقدر الله، سواء كان خيرا أم شرا. ثم قال عمر_ رضي الله عنه_ فيما نقله عن جبريل_ عليه الصلاة والسلام_ قال للنبي صلي الله عليه وسلم: ((اخبرني عن الإحسان؟ قال: إن تعبد الله كأنك تراه، فان لم تكن تراه فانه يراك)) . الإحسان: ضد الإساءة، والمراد هنا بالإحسان هنا إحسان العمل، فبين النبي_ عليه الصلاة والسلام_ إن الإحسان إن تعبد الله كأنك تراه، يعني:
تصلي وكأنك تري الله عز وجل، وتزكي وكأنك تراه، وتصوم وكأنك تراه، وتحج وكأنك تراه، تتوضأ وكأنك تراه، وهكذا بقية الأعمال. وكون الإنسان يعبد الله كأنه يراه دليل علي الإخلاص لله_ عز وجل_ وعلي إتقان العمل في متابعة الرسول صلي الله عليه وسلم لان كل من عبد الله علي هذا الوصف فلا بد إن يقع في قلبه من محبة الله وتعظيمهما يحمله علي إتقان(1/480)
العمل وأحكامه. ((فان لم تكن تراه فانه يراك)) أي: فان لم تعبد الله علي هذا الوصف فاعبده علي سبيل المراقبة والخوف ((فانه يراك)) ومعلوم إن عبادة الله علي وجه الطلب اكمل من عبادته علي وجه الهرب! فها هنا مرتبتان: المرتبة الأولى: إن تعبد الله كأنك تراه، وهذه مرتبة الطلب. والثانية: إن تعبد الله وأنت تعلم انه يراك، وهذه مرتبة الهرب، وكلتاهما مرتبتان عظيمتان، لكن الأولى اكمل وافضل. ثم قال جبريل: ((اخبرني عن الساعة)) ، أي: عن قيام الساعة التي يبعث فيها الناس ويجازون فيها علي أعمالهم، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)) ، المسؤول عنها: يعني نفسه عليه الصلاة والسلام، بأعلم من السائل: يعني جبريل، يعني: انك إذا كنت يا جبريل تجهلها، فأنا
كذلك أجهلها. فهذان رسولان كريمان أحدهما رسول ملكي، والثاني رسول بشري، وهما اكمل الرسل، ومع ذلك فكل منهما ينفي إن يكون له علم بالساعة، لان علم الساعة عند من بيده إقامتها عز وجل، وهو الله تبارك وتعالى، كما قال الله في آيات متعددة: (يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي) (لأعراف: من الآية187) ، (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ) (الأحزاب: من الآية63) ، فعلمها عند الله، فمن ادعي علم الساعة فانه كاذب، ومن أين له إن يعلم ورسول الله صلي الله عليه وسلم لا يعلم، وجبريل_ عليه الصلاة والسلام_ لا يعلم، وهما افضل الرسل.(1/481)
ولكن الساعة لها إمارات، كما قال الله تعالى: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) (محمد: من الآية18) ، أي: علاماتها. ولهذا لما اخبر النبي صلي الله عليه وسلم جبريل إن لا علم له بذلك قال: ((فاخبرني عن إماراتها)) أي: علاماته الدالة علي قربها. فقال: ((إن تلد الأمة ربتها، وان تري الحفاة العراة العالة رعاة الشاة يتطاولون في البنيان)) الأول:
((إن تلد الأمة ربتها)) يعني: إن تكون الأمة المملوكة تتطور بها الحال حتى تكون ربة للمماليك الآخرين، وهو كناية عن كثرة الأموال. وكذلك الثاني: ((وان تري الحفاة العراة العالة رعاة الشاة يتطاولون في البنيان)) الحفاة: الذين ليس لهم نعال من الفقر، والعراة: ليس لهم كسوة من الفقر، العالة: الفقراء. يتطاولون في البنيان: يعني انهم لا يلبثون إلا إن يكونوا أغنياء يتطاولون في البنيان حسا بان يرفعوا بنيانهم إلى السماء، ويتطاولون فيها معني إن يحسنوها ويزينوها ويدخلوا عليها كل ما يكون من مكملاتها، لان لديهم وفرة من المال. وكل هذا وقع، وهناك إمارات أخرى وعلامات أخرى ذكرها أهل العلم في باب الملاحم والفتن وأشرط الساعة وهي كثيرة. ثم انطلق جبريل_ عليه الصلاة والسلام_ ولبثوا ما شاء إن يلبثوا، ثم قال النبي صلي الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: ((أتدرى من السائل؟ قال: الله ورسوله اعلم!)) قال: ((فانه جبريل آتكم ليعلمكم دينكم)) . وفي هذا الحديث من الفوائد:(1/482)
1_ إلقاء السائل علي الطلبة ليمتحنهم، كما القي النبي عليه الصلاة والسلام_ المسالة علي عمر رضي الله عنه. 2_ وفيه أيضا: جواز قول الإنسان: الله ورسوله
اعلم، ولا يلزمه إن يقول: الله ثم رسوله اعلم، لان علم الشريعة الذي يصل إلى النبي _ عليه الصلاة والسلام_ من علم الله، فعلم الرسول من علم الله_ سبحانه وتعالى_ فصح إن يقال: الله ورسوله اعلم، كما قال الله تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) (التوبة: من الآية59) ، ولم يقل: ثم رسوله، لان الإيتاء هنا إيتاء شرعي، وإيتاء النبي صلي الله عليه وسلم الشرعي من إيتاء الله. فالمسائل الشرعية يجوز إن تقول: الله ورسوله، بدون (ثم) أما المسائل الكونية، كالمشيئة وما أشبهها، فلا تقال: الله ورسوله، بل: الله ثم رسوله، ولهذا لما قال رجل للنبي صلي الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت. قال: ((اجعلني لله ندا، بل ما شاء الله وحده)) ، 3_ وفي هذا دليل علي إن السائل إذا سال عن شئ يعلمه من اجل إن ينتفع الآخرون فانه يكون معلما لهم، لا الذي أجاب: النبي_ عليه الصلاة والسلام_ وجبريل سائل لم يعلم الناس، لكن كان سببا في هذا الجواب الذي ينتفع به الناس. فقال بعض العلماء: انه ينبغي لطالب العلم إذا جلس إذا مع عالم في مجلس إن يسال عن المسائل التي تهم الحاضرين وان كان يعلم حكمها،(1/483)
من اجل إن ينفع
الحاضرين ويكون معلما لهم. 4_ وفي هذا دليل علي بركة العلم، وان العلم ينتفع به السائل والمجيب، كما قال هنا: ((يعلمكم دينكم)) . 5_ وفيه أيضا دليلا إن هذا الحديث حديث عظيم يشتمل علي الدين كله، ولهذا قال: ((يعلمكم دينكم)) لأنه مشتمل علي أصول العقائد وأصول الأعمال. أصول العقائد وأصول الأعمال هي أركان الإسلام الخمسة. والله الموفق. 61_ الثاني: عن أبي ذر جندب بن جنادة، وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل، رضي الله عنهما، عن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: ((اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. الشرح هذا الحديث من أحاديث الأربعين النووية للمؤلف رحمه الله، وفيه إن النبي صلي الله عليه وسلم أوصى بثلاث وصايا عظيمة(1/484)
الوصية الأولى: قال: ((اتق الله حيثما كنت)) وتقوي الله هي اجتناب المحارم وفعل الأوامر، هذه هي التقوى! إن تفعل ما أمرك الله به إخلاصا لله، واتباعا لرسول الله صلي الله عليه وسلم وان تترك ما نهي الله عنه امتثالا لنهي الله_ عز وجل_ وتنزهها عن محارم الله، فتقوم بما أوجب الله عليك في اعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين وهي الصلاة،
فتاتي بها كاملة بشروطها وأركانها وواجباتها وتكملها بالمكملات، فمن أخل بشيء من شروط الصلاة أو واجباتها اوأركانها فانه لم يتق الله، بل نقص من تقواه بقدر ما ترك ما أمر الله به في صلاته، وفي الزكاة تقوى الله فيها إن تحصي جميع أموالك التي فيها الزكاة وتخرج زكاتك طيبو بها نفسك من غير بخل ولا تقتير ولا تأخير، فمن لم يفعل فانه لم يتقي الله. وفي الصيام تأتى بالصوم كما أمرت، مجتنبا فيه اللغو والرفث والصخب والغيبة والنميمة، وغير ذلك مما ينقص الصوم ويزيل روح الصوم ومعناه الحقيقي، وهو الصوم عما حرم الله عز وجل. وهكذا بقية الواجبات تقوم بها طاعة لله، وامتثالا لأمره، وإخلاصا له، واتباعا لرسوله، وكذلك في المنهيات تترك ما نهي الله عنه، امتثالا لنهي الله_ عز وجل_ حيث نهاك فانته. الوصية الثانية: ((اتبع السيئة الحسنة تمحها)) أي: إذا عملت سيئة فاتبعها بحسنة، فان الحسنات يذهبن السيئات، ومن الحسنات بعد السيئات إن تتوب إلى الله من السيئات فان التوبة من افضل الحسنات، كما قال الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة: من الآية222) ، وقال الله(1/485)
تعالى: (وَتُوبُوا
إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: من الآية31) . وكذلك الأعمال الصالحة تكفر السيئات، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر)) . وقال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما)) فالحسنات يذهبن السيئات. الوصية الثالثة: ((خالق الناس بخلق حسن)) ! الوصيتان الأوليتان في معاملة الخالق، والثالثة في معاملة الخلق، إن تعاملهم بخلق حسن تحمد عليه ولا تذم فيه، وذلك بطلاقة الوجه، وصدق القول، وحسن المخاطبة، وغير ذلك من الأخلاق الحسنة. وقد جاءت النصوص الكثيرة في فضل الخلق الحسن، حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((اكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا)) ، واخبر إن أولى الناس به صلي الله عليه وسلم وأقربهم من منزلة يوم القيامة أحسنهم أخلاقا(1/486)
فالأخلاق الحسنة مع كونها مسلكا حسنا في المجتمع ويكون صاحبها محبوبا إلى الناس فيها اجر عظيم يناله الإنسان يوم القيامة. فاحفظ هذه الوصايا الثلاثة من النبي صلي الله عليه وسلم لتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق
الناس بخلق حسن. والله الموفق. 62_ الثالث: عن ابن عباس_ رضي الله عنهما_ قال: كنت خلف النبي صلي الله عليه وسلم يوما فقال: ((يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سالت فأسال الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم: إن الأمة لو اجتمعت علي إن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وان اجتمعوا علي إن يضروك بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف)) . رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وفي رواية غير الترمذي: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم إن ما أخطاءك لم يكن ليصيبك، وما أصابك أم يكن ليخطئك، واعلم إن النصر مع الصبر، وان الفرج مع الكرب، وان مع العسر يسرا)) .(1/487)
الشرح قوله: ((كنت خلف النبي صلي الله عليه وسلم)) أي راكبا معه. قوله: ((فقال لي يا غلام ... احفظ الله يحفظك)) قال له: يا غلام، لان ابن عباس_ رضي الله عنهما_ كان صغيرا فان النبي صلي الله عليه وسلم توفي وهو قد ناهز الاحتلال، يعني من الخامسة العشرة إلى السادسة عشرة أو اقل. فكان راكبا خلف الرسول صلي الله عليه وسلم فوجه إليه النبي صلي الله عليه وسلم
هذا النداء: ((يا غلام، احفظ الله يحفظك)) كلمة جليلة عظيمة، احفظ الله، وذلك بحفظ شرعه ودينه، بان تمتثل لأوامره وتجتب نواهيه، وكذلك بان تتعلم من دينه ومن شريعته_ سبحانه وتعالى_ ما تقوم به عباداتك ومعاملاتك، وتدعوا به إلى الله _ عز وجل_ لان كل هذا من حفظ الله، فالله_ سبحانه وتعالى_ نفسه ليس بحاجة إلى أحد حتى يحفظ، ولكن المراد حفظ دينه وشريعته، كما قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) (محمد: من الآية7) ، وليس المعني: تنصرون ذات الله، لان الله_ سبحانه وتعالى_ غني عن كل أحد، ولهذا قال في آية أخرى: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ) (محمد: من الآية4) ، ولا يعجزونه: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) (فاطر: من الآية44) . إذا: ((احفظ الله يحفظك)) جملة تدل علي إن الإنسان كلما حفظ دين الله حفظه الله تعالى في بدنه، وحفظه في ماله وأهله، وفي دينه، وهذه أهم الأشياء، إن يحفظك الله في دينك، وهو إن يسلمك من الزيغ والضلال، لان الإنسان كلما اهتدي زاده الله هدي، كما قال تعالى:
(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) (محمد: 17) ، وكلما ضل_ والعياذ بالله_ فانه(1/488)
يزداد ضلالا، كما جاء في الحديث: ((إن العبد فإذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فان هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه)) وان اذنب ثانية انضم إليها نكتة ثانية وثالثة ورابعة، حتى يطبع علي قلبه. نسأل الله العافية. إذا: يحفظك في دينك وفي بدنك ومالك واهلك، أهمها حفظ الدين، نسأل الله تعالى إن يحفظ علينا وعلكم ديننا. وقوله: ((احفظ الله تجده تجاهك)) وفي لفظ آخر: ((تجده أمامك)) . احفظ الله أيضا بحفظ شريعته، بالقيام بأمره واجتناب نهيه تجده تجاهك وأمامك، ومعناهما واحد، يعني تجد الله أمامك يدلك علي كل خير ويذود عنك كل شر، ولا سيما إن حفظت الله بالاستعانة به، فان الإنسان إذا استعان بالله وتوكل علي الله كان الله حسبه، أي كافية، ومن كان الله حسبه فانه لا يحتاج إلى أحد بعد الله. قال الله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (لأنفال: 64) ، أي: وحسب من اتبعك من المؤمنين. (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ) (لأنفال: من
الآية62) ، فإذا كان الله حسب الإنسان، أي كافية، فانه لن يناله سوء، ولهذا قال: ((احفظ الله تجده تجاهك)) أو ((تجده أمامك)) ! والمراد بحفظه حفظ شريعته، ولا سيما بالتوكل عليه والاستعانة به.(1/489)
ثم قال له: ((إذا سالت فأسال الله)) أي لا تعتمد علي أحد مخلوق، إذا سالت فأسال الله. مثلا: إنسان فقير ليس عنده مال، يسال الله يقول: اللهم ارزقني، اللهم هيئ لي رزقا. فيأتيه الرزق من حيث لا يحتسب. لكن لو سال الناس فربما يعطونه أو يمنعونه، ولهذا جاء في الحديث: ((لان يأخذ أحدكم حبله فيحتطب علي ظهره، خير له من إن يأتي رجلا، أعطاه أو منعه)) . فكذلك أنت، إذا سالت فأسال الله، قل: ((اللهم ارزقني)) اللهم أغنني بفضلك عمن سواك)) وما أشبه ذلك من الكلمات التي تتجه بها إلى الله عز وجل. وقوله: ((إذا استعنت فاستعن بالله)) الاستعانة طلب العون، فلا تطلب العون من أي إنسان إلا للضرورة القصوى، ومع ذلك إذا اضطررت إلى الاستعانة بالمخلوق فاجعل ذلك وسيلة وسببا لا ركنا تعتمد عليه! اجعل الركن الأصيل هو الله عز وجل، إذا سالت فأسال الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. وفي هاتين الجملتين دليل علي انه من نقص التوحيد إن
الإنسان يسال غير الله، ولهذا تكره المسالة لغير الله_ عز وجل_ في قليل أو كثير. لا تسال إلا الله عز وجل، ولا تستعن إلا بالله.(1/490)
والله سبحانه إذا أراد عونك يسر لك العون، سواء كان بأسباب معلومة أو بأسباب غير معلومة. قد يعنيك الله بسبب غير معلوم لك، فيدفع عنك من الشر ما لا طاقة لاحد به، وقد يعنيك الله علي يد أحد من الخلق يسخره لك ويذلله لك حتى يعنيك، ولكن مع ذلك لا يجوز لك_ إذا أعانك الله علي يد أحد_ إن تنسي المسبب وهو الله عز وجل، كما يفعله بعض الجهلة الآن من تعلقهم بالسب وضعف اعتمادهم علي الله سبحانه وتعالى لما حصل عون ظاهر من دول كافرة، وما علموا إن الكفرة هم أعداء لهم إلى يوم القيامة سواء أعانوهم أم لا؟. بل النافع الضار هو الله عز وجل وهذا من تسخيره_ سبحانه وتعالى_ لعباده المؤمنين، كما جاء في الحديث: ((إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)) فيجب علينا إن لا ننسي فضل الله الذي سخرهم لنا، ويجب علينا إن ننبه العامة، إذا سمعنا أحدا يركن إليهم ويقول هم الذين نصرونا مائة بالمائة، وهم الأول والآخر، فيجب علينا إن نبين لهم إن هذا خلل في التوحيد. والله اعلم. وقوله: ((واعلم إن الأمة لو
اجتمعت علي إن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك)) . فبين النبي_ عليه الصلاة والسلام_ في هذه الجملة إن الأمة لو(1/491)
اجتمعت كلها علي إن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك! فإذا وقع منهم نفع لك فاعلم انه من الله، لأنه هو الذي كتبه، فلم يقل النبي صلي الله عليه وسلم: لو اجتمعت علي إن ينفعوك بشيء لم ينفعوك. بل قال: ((لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك)) . فالناس بلا شك ينفع بعضهم بعضا، ويعين بعضهم بعضا، ويساعد بعضهم بعضا، لكن كل هذا مما كتبه الله للإنسان، فالفضل لله فيه أولا عز وجل، هو الذي سخر لك من ينفعك ويحسن إليك ويزيل كربتك، وكذلك بالعكس، لو اجتمعوا علي إن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. والإيمان بهذا يستلزم إن يكون الإنسان متعلقا بربه ومتكلا عليه لا يهتم بأحد، لأنه يعلم انهم لو اجتمع كل الخلق علي إن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه. وحيئذ يعلق رجاءه بالله ويعتصم به، ولا يهمه الخلق ولو اجتمعوا عليه، ولهذا نجد الناس في سلف هذه الأمة لما اعتمدوا علي الله وتوكلوا عليه لم يضرهم كيد الكائدين ولا حسد الحاسدين: (وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عمران: من الآية120) . ثم قال غليه الصلاة والسلام: ((رفعت الأقلام وجفت الصحف)) يعني إن ما كتبه الله فقد انتهي، والصحف جفت من المداد، ولم يبقه مراجعة. فما أصابك لم يكن ليخطئك، كما في اللفظ الثاني: ((وما أخطاءك لم يكن ليصيبك)) .(1/492)
وفي اللفظ الثاني قال عليه الصلاة والسلام: ((واعلم إن النصر مع الصبر، وان الفرج مع الكرب، وان مع العسر يسرا)) . يعني: اعلم علم يقين إن النصر مع الصبر، فإذا صبرت وفعلتما أمرك الله به من وسائل النصر فان الله تعالى ينصرك. والصبر هنا يشمل الصبر علي طاعة الله، وعن معصيته، وعلي أقداره المؤلمة، لان العدو يصيب الإنسان من كل جهة، فقد يشعر الإنسان انه لن يطيق عدوه فيتحسر ويدع الجهاد، وقد يشرع في الجهاد ولكن إذا أصابه الأذى استحسر وتوقف، وقد يستمر ولكنه يصيبه الألم من عدوه، فهذا أيضا يجب إن يصبر عليه. قال الله تعالى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) (آل عمران: من الآية140) ، وقال تعالى: (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا
تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء: 104) ، فإذا صبر الإنسان وصابر ورابط فان الله سبحانه وتعالى ينصره. وقوله: ((واعلم إن الفرج مع الكرب)) . كلما اكتربت الأمور وضاقت فان الفرج قريب، لان الله _ عز وجل_ يقول في كتابه: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ الإله مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) (النمل: 62) ، فكلما اشتدت الأمور فانتظر الفرج من الله سبحانه وتعالى. وقوله: ((إن مع العسر يسرا)) فكل عسر بعده يسر، بل إن العسر(1/493)
محفوف بيسرين، يسر سابق ويسر لاحق. قال الله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح: 6، 5) ، وقال ابن عباس_ رضي الله عنهما_: ((لن يغلب عسر يسرين)) . فهذا الحديث الذي أوصى به النبي صلي الله عليه وسلم عبد الله بن عباس_ رضي الله عنهما_ ينبغي للإنسان إن يكون علي ذكر له دائما، وان يعتمد علي هذه الوصايا النافعة التي أوصى بها النبي صلي الله عليه وسلم ابن عمه عبد الله بن
عباس_ رضي الله عنهما_ والله الموفق. 63_ الرابع: عن انس_ رضي الله عنه_ قال: ((إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعهدها علي عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم من الموبقات)) الشرح انس بن مالك_ رضي الله عنه_ من المعمرين، فبقي بعد النبي صلي الله عليه وسلم حالي تسعين سنة. فتغيرت الأمور في عهده_ رضي الله عنه_ واختلفت أحوال الناس، وصاروا يتهاونون في بعض الأمور العظيمة في عهد الصحابة رضي الله عنهم. مثل صلاة الجماعة، فقد كان الصحابة _ رضي الله عنهم_ لا يتخلف أحد عنها إلا منافق أو مريض معذور، ولكن الناس تهاونوا بها ولم يكونوا(1/494)
علي ما كان عليه الصحابة_ رضي الله عنهم_ في عهد النبي صلي الله عليه وسلم. بل إن الناس في عهدنا صاروا يتهاونون بالصلاة نفسها لا بصلاة الجماعة فقط، فلا يصلون، أو يصلون ويتركون، أو يوخرون الصلاة عن وقتها، كل هذه أعمال يسيرة عند بعض الناس، لكنها في عهد النبي صلي الله عليه وسلم والصحابة_ رضي الله عنهم_ كانت تعد من الموبقات. وكذلك أيضا الغش في عهد النبي _ عليه الصلاة والسلام_ قال: ((من غش فليس مني)) . لكن انظر إلى الناس اليوم تجد إن الغش عندهم أهون من
الأشياء، الأشياء، بل إن بعضهم_ والعياذ بالله_ يعد الغش من الشطارة في البيع والشراء والعقود، ويري إن هذا من باب الحذق والذكاء والدهاء نسأل الله العافية_ مع إن النبي صلي الله عليه وسلم تبرا من الإنسان الذي يغش الناس. ومن ذلك الكذب: والكذب من الأشياء العظيمة في عهد الصحابة_ رضي الله عنهم_ فيرونه من الموبقات، لكن كثيرا من الناس يعده أمرا هينا، فتجده يكذب ولا يبالي بالكذب، مع إن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا)) وربما يكذب في أمور اخطر فيجحد ما يجب عليه الناس، أو يدعي ما(1/495)
ليس له ويحاكمهم عند القاضي ويحلف علي ذلك، فيكون_ والعياذ بالله_ ممن يلقي الله وهو عليه غضبان. إلى غير ذلك من المسائل الكثيرة التي يعدها الصحابة من المهلكات، ولكن الناس اختلفوا فصارت في أعينهم أدق من الشعر، وذلك لأنه كلما قوي الإيمان عظمت المعصية عند الإنسان، وكلما ضعف الإيمان خفت المعصية في قلب الإنسان ورآها أمرا هينا، يتهاون ويتكاسل عن الواجب ولا يبالي، لأنه ضعيف الإيمان. 64_ الخامس: عن أبي هريرة _ رضي الله عنه_ عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى
يغار، وغيرة الله تعالى إن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه)) متفق عليه. والغيرة: بفتح الغين واصلها: الأنفة. الشرح قال المؤلف_ رحمه الله تعالى_ فيما نقله عن أبي هريرة_ رضي الله عنه_ قال: إن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى يغار وغيرة الله تعالى إن يأتي المرء ما حرم الله)) . قوله: ((محارمه)) أي: محارم الله. والغيرة صفة حقيقية ثابتة لله_ عز وجل_ ولكنها ليست كغيرتنا، بل(1/496)
هي اعظم واجل، والله_ سبحانه وتعالى_ بحكمته أوجب علي العباد أشياء، وحرم عليهم أشياء، واحل لهم أشياء. فما أوجبه عليهم فهو خير لهم في دينهم ودنياهم، وفي حاضر هم ومستقبلهم، وما حرمه عليهم فانه شر لهم في دينهم ودنياهم، وحاضر هم ومستقبلهم، فإذا حرم الله علي عباده أشياء فانه_ عز وجل_ يغار إن يأتي الإنسان محارمه، وكيف يأتي الإنسان محارم ربه والله_ سبحانه وتعالى_ إنما حرمها من اجل مصلحة العبد، أما الله_ سبحانه وتعالى_ فلا يضره إن يعصي الإنسان ربه، لكن يغار كيف يعلم الإنسان إن الله سبحانه حكيم، ورحيم، ولا يحرم علي عباده شيئا بخلا منه عليهم به، ولكن من اجل مصلحتهم، ثم يأتي العبد فيتقدم فيعصي الله_ عز وجل_ ولا سيما في
الزنا_ نسأل الله العافية_ فانه ثبت عن النبي صلي الله عنه وسلم انه قال: ((ما أحد أغير من الله إن يزني عبده أو يزني أمته)) لان الزنا فاحشة، والزنا طريق سافل سيئ، ومن ثم حرم الله علي عباده الزنا وجميع وسائله، كما قال الله سبحانه: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) (الإسراء: 32) ، فإذا زني العبد_ والعياذ بالله_ فان الله يغار غيرة اشد واعظم من غيرته علي ما دونه من المحارم. وكذلك أيضا_ ومن باب أولى واشد_ اللواط، وهو إتيان الذكر، فان(1/497)
هذا اعظم واعظم، ولهذا جعله الله تعالى اشد في الفحش من الزنا. فقال لوط لقومه: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ) (لأعراف: من الآية80) . قال هنا: (الفاحشة) وفي الزنا قال: (فاحشة) أي: فاحشة من الفواحش، أما اللواط فجعله الفاحشة العظمي نسأل الله العافية. وكذلك أيضا السرقة وشرب الخمر وكل المحارم يغار الله منها، لكن بعض المحارم تكون اشد غيرة من بعض، حسب الجرم، وحسب الضار التي تترتب علي ذلك. وفي هذا الحديث: إثبات الغيرة لله تعالى، وسبيل أهل السنة والجماعة فيه وفي غيره من آيات الصفات
وأحاديث الصفات انهم يثبتونها لله_ سبحانه وتعالى_ علي الوجه اللائق به، يقولون: إن الله يغار لكن ليس كغيرة المخلوق، وان الله يفرح ولكن ليس كفرح المخلوق، وان الله_ سبحانه وتعالى_ له من الصفات الكاملة ما يليق به، ولا تشبه صفات المخلوقين (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: من الآية11) . والله الموفق. 65_ السادس: عن أبي هريرة _ رضي الله عنه_ انه سمع النبي صلي الله عليه وسلم يقول: ((إن ثلاثة من بني إسرائيل: ابرص، واقرع، واعمي، أراد الله إن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا، فأتى الأبرص فقال: أي شئ احب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس، فمسحه، فذهب عنه قذره، واعطي لونا حسنا. قال: فأي المال احب إليك؟ قال: الإبل_ أو قال البقر_ شك الراوي_ فأعطى ناقة عشراء، فقال: بارك الله لك فيها. فأتى الأقرع فقال: أي شئ احب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني هذا الذي قذرني الناس، فمسحه، فذهب عنه، واعطي شعرا حسنا. قال: فأي المال احب إليك، قال:(1/498)
البقر، فأعطى بقرة حاملا، وقال: بارك الله لك فيها. فأتى الأعمى فقال: أي شئ احب إليك؟ قال؟ إن يرد الله إلى بصري فابصر الناس. فمسحه،
فرد اله إليه بصره. قال: فأي المال احب إليك؟ قال: الغنم، فأعطى شاة والدا. فانتج هذان، وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم. ثم انه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال، بعيرا أتبلغ به في سفري. فقال: الحقوق كثيرة. فقال. كأني أعرفك، ألم تكن ابرص يقذرك الناس، فقيرا فأعطاك الله!؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر، فقال: إن كنت كاذبا في دعواك فصيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد هذا، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأعمى في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين وابن سبيل، انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك، ساعة أتبلغ بها في سفري. فقال: قد كنت اعمي فرد(1/499)
الله لي بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله عز وجل. فقال: امسك مالك فإنما ابتليتم، فقد رضي عنك، وسخط علي صاحبيك)) متفق عليه.
والناقة العشراء)) بضم العين وفتح الشين وبالمد: هي الحامل. قوله: ((انتج)) وفي رواية ((فنتج)) معناه: تولي نتاجها، والناتج للناقة كالقابلة للمرأة. وقوله: ((ولد هذا)) هو بتشديد اللام: أي: تولي ولادتها، وهو بمعني انتج في الناقة. فالمولد، والناتج، والقابلة بمعني، لكن هذا للحيوان وهذا لغيره. قوله: ((انقطعت بي الحبال)) هو بالحاء المهملة والباء الموحدة: أي الأسباب. وقوله: ((لا أجهدك)) معناه: لا اشق عليك في رد شئ تأخذه أو تطلبه من مالي. وفي رواية البخاري ((لا أحمدك)) بالحاء المهملة والميم، ومعناه: لا أحمدك بترك شئ تحتاج إليه، كما قالوا: ليس علي طول الحياة ندم، أي علي فوات طولها. الشرح قوله: ((ثلاثة من بني إسرائيل)) إسرائيل هو إسحاق بن إبراهيم_ عليه الصلاة والسلام_ أخو إسماعيل، ومن ذرية إسرائيل موسى وهارون وعيسي وجميع بني إسرائيل، كلهم من ذرية إسحاق عليه الصلاة والسلام. وإسماعيل أخو إسحاق، فهم والعرب أبناء اعم، وقد جاءت أخبار(1/500)
كثيرة عن ابني إسرائيل، وهي ثلاث أقسام: الأول: ما جاء في القران. والثاني: ما جاء في صحيح السنة. والثالث: ما جاء عن أحبارهم وعن علمائهم. فأما الأول والثاني فلا
شك في انه حق، ولا شك في قبوله، مثل قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (البقرة: من الآية246) . ومن السنة مثل هذا الحديث الذي رواه آبو هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم وأما ما روي عنهم عن أحبارهم وعلمائهم فان ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما شهد الشرع ببطلانه، فهذا باطل يجب رده، وهذا يقع كثيرا فيما ينقل من الإسرائيليات في تفسير القران، فانه ينقل في تفسير القران كثير من الأخبار الإسرائيلية التي يشهد الشرع ببطلانها. والثاني: ما شهد الشرع بصدقه، فهذا يقبل، لا لأنه من أخبار بني إسرائيل، ولكن لان الشرع شهد بصدقه وانه حق. والثالث: ما لم يكن في الشرع تكذيبه ولا تصديقه، فهذا يتوقف فيه، لا يصدقون ولا يكذبون، لأننا إن صدقناهم فقد يكون باطلا، فنكون قد صدقناهم بباطل، وان كذبناهم فقد يكون حقا، فقد كذبناهم بحق، ولهذا نتوقف فيه، ولكن مع ذلك لا حرج من التحديث به فيما ينفع في ترغيب أو ترهيب. ذكر النبي_ عليه الصلاة والسلام_ في هذا الحديث إن ثلاثة من بني(1/501)
إسرائيل ابتلاهم الله_
عز وجل_ بعاهات في أبدانهم، أحدهم ابرص، والثاني اقرع ليس علي رأسه شعر، والثالث اعمي لا يبصر. فأراد الله_ سبحانه وتعالي_ إن يبتليهم ويختبرهم، لان الله سبحانه يبتلي العبد بما شاء ليبلوه هل يصبر أو يضجر إذا كان ابتلاه بضراء، وهل يشكر أو يقتر إذا كان قد ابتلاه بسراء. فبعث الله إليهم ملكا من الملائكة واتاهم يسألهم: أي شئ احب إليهم؟ فبدا بالأبرص فقال: ((أي شئ احب إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قذرني الناس به)) لان أهم شئ عند الإنسان إن يكون معافى من العاهات، ولا سيما العاهات المكروهة عند الناس. فمسحه الملك فبرا بإذن الله، وزال عنه البرص، وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا. ثم قال له: ((أي المال احب إليك؟ قال: الإبل_ أو قال _ البقر!)) والظاهر انه قال: الإبل، لأنه في قصة الأقرع أعطي البقر، فأعطاه ناقة عشراء، وقال له: بارك الله لك فيها. فذهب عنه الفقر، وذهب عنه العيب البدني، ودعا له الملك بان يبارك الله له في هذه الناقة. ثم أتى الأقرع وقال: ((أي شئ احب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني الذي قذرني الناس)) فمسحه، فأعطى شعرا حسنا. وقيل له: ((أي المال احب إليك؟ قال البقر، فأعطى بقرة حاملا،
وقال له: بارك الله لك فيها أما الأعمى فجاء الملك فقال له: ((أي شئ احب إليك؟ قال: إن يرد(1/502)
الله علي بصري فابصر به الناس)) ، وتأمل قول الأعمى هذا، فانه لم يسال إلا بصرا يبصر به الناس فقط، أما الأبرص والأقرع فان كل واحد منهما تمني شيئا اكبر من الحاجة، لان الأبرص قال: جلدا حسنا ولونا حسنا، وذاك قال: شعرا حسنا، فليس مجرد جلدا أو شعر أو لون، بل تمنيا شيئا اكبر، أما هذا فان عنده زهدا، لذا لم يسال إلا بصرا يبصر به الناس فقط. ثم أساله: ((أي المال احب إليك؟ قال: الغنم)) وهذا أيضا من زهده، فلم يتمني الإبل ولا البقر، بل الغنم، ونسبة الغنم للبق والإبل قليلة، فأعطاه شاة والدا وقال: بارك الله لك فيها. فبارك الله_ سبحانه وتعالى_ للأول في ابله، والثاني في بقره، وللثالث في غنمه، وصار لكل واحد منهما واد مما أعطي، للأول واد من الإبل، وللثاني واد من البقر، وللثالث واد من الغنم. ثم إن هذا الملك أتى الأبرص في صورته وهيئته، صورته البدنية، وهيئته الرثة، ولباسه لباس الفقير، وقال له: ((رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك)) . فتوسل إليه بذكر حاله انه فقير، وانه ابن سبيل
أي مسافر، وان الحبال أي الأسباب التي توصله إلى أهله قد انقطعت به، وانه لا بلاغ له إلا بالله ثم به. وقال له: ((أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال، بعيرا أتبلغ به في سفري)) لكنه قال: ((الحقوق كثيرة)) وبخل بذلك، مع إن له واديا من الإبل، لكنه قال: الحقوق كثيرة، وهو فيما يظهر_ والله اعلم_(1/503)
انه لا يؤدي شيئا منها، لان هذا من أحق ما يكون، لأنه مسافر وفقير وانقطعت به الحبال، ومن أحق ما يكون استحقاقا للمال، ومع ذلك اعتذر له! فذكره بما كان عليه من قبل فقال له: ((كأني أعرفك، ألم تكن ابرص يقذرك الناس، فقيرا فأعطاك الله)) أي أعطاك المال وأعطاك اللون الحسن والجلد الحسن، ولكنه قال والعياذ بالله: ((إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر)) وانكر نعمة الله. فقال له الملك: ((إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت)) أي: إن كنت كاذبا فيما تقول فصيرك الله إلى ما كنت من الفقر والبرص. والذي يظهر إن الله استجاب دعاء الملك وان كان دعاء مشروطا، لكنه كان كاذبا بلا شك، فإذا تحقق الشرط تحقق المشروط. وأتى القرع فقال له مثلما قال للأبرص، ورد عليه مثلما رد عليه الأبرص، فقال: ((إن كنت كاذبا فصيرك الله
إلى ما كنت عليه)) وأتى الأعمى وذكره بنعمة الله عليه: ((فقال: كنت اعمي فرد الله إلي بصري)) فاقر بنعمة الله عليه ((فخذ ما شئت ودع ما شئت، فوالله ما أجهدك اليوم بشيء أخذته لله عز وجل)) . أي: لا أمنعك ولا اشق عليك بالمنع بشيء أخذته لله عز وجل. فانظر إلى الشكر والاعتراف بالنعمة. فقال له الملك: ((امسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك وسخط علي صاحبيك)) . وهذا يدل علي إن القصة كانت مشهورة بين الناس، ولهذا قال: ((سخط علي صاحبيك)) ، فامسك ماله وبقي قد انعم الله(1/504)
عليه بالصبر، وأما الآخران فان الظاهر إن الله ردهما إلي ما كنا عليه من الفقر والعاهة والعياذ بالله. وفي هذا دليل علي إن شكر نعمة الله علي العبد من أسباب بقاء النعم وزيادتها، كما قال الله تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم: 7) . وفي قصتهم آيات من آيات الله عز وجل: منها: إثبات الملائكة، والملائكة عالم غيبي خلقهم الله _ عز وجل_ من نور، وجعل لهم قوة في تنفيذ أمر الله، وجعل لهم إرادة في طاعة الله، فهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما
يؤمرون. ومنها: إن الملائكة قد يكونون علي صورة بني آدم، فان الملك أتى لهؤلاء الثلاث بصورة إنسان. ومنها أيضا: انهم_ أي الملائكة_ يتكيفون بصورة الشص المعين، كما جاء إلى الأبرص والأقرع والأعمى غفي المرة الثانية بصورته وهيئته. ومنها أيضا: انه يجوز الاختبار للإنسان في إن يأتي الشخص علي هيئة معينة ليختبره، فان هذا الملك جاء علي صورة الإنسان المحتاج المصاب بالعاهة ليرق له هؤلاء الثلاثة، مع إن الملك فيما يبدو_ والعلم عند الله_ لا يصاب في الأصل بالعاهات، ولكن الله_ سبحانه وتعالى_ جعلهم يأتون علي هذه الصورة من اجل الاختبار. ومنها: إن الملك مسح الأقرع والأبرص والأعمى مسحة واحدة فأزال الله عيبهم بهذه المسحة، لان الله_ سبحانه وتعالى_ إذا أراد شيئا قال(1/505)
له كن فيكون، ولو شاء الله لاذهب عنهم العاهة بدون هذا الملك، ولكن الله جعل هذا سببا للابتلاء والامتحان. ومنها: إن الله قد يبارك للإنسان بالمال حتى ينتج منه الشيء الكثير، فان هؤلاء النفر الثلاث صار لواحد واد من الإبل، وللثاني واد من البقر، وللثالث واد من الغنم، وهذا من بركة الله عز وجل. وقد دعا الملك لكل واحد منهم بالبركة. ومنها: تفاوت بني آدم في شكر
نعمة الله ونفع عباد الله، فان الأبرص والأقرع وقد أعطاهم الله المال الأهم والأكبر، ولكن جحدا نعمة الله، قالا: إنما ورثنا هذا المال كابرا عن كابر، وهم كذبة في ذلك، فانهم كانوا فقراء أعطاهم الله المال، لكنهم_ والعياذ بالله_ جحدوا نعمة الله وقالوا: هذا من آبائنا وأجدادنا. أما الأعمى فانه شكر نعمة الله واعترف لله بالفضل، ولذاك وفق وهداه الله وقال للملك: ((خذ ما شئت ودع ما شئت)) ومنها أيضا: إثبات الرضا والسخط لله سبحانه وتعالى، أي انه يرضي علي ما شاء ويسخط علي ما شاء، وهما من الصفات التي يجب إن نثبتها لربنا سبحانه وتعالى، لأنه وصف نفسه بها. ففي القران الكريم: الرضا: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (التوبة: من الآية100) ، وفي القران الكريم: (أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) (المائدة: من الآية80) ، وفي القران العظيم الغضب: (وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ) (النساء: من الآية93) ، وهذه الصفات وأمثالها يؤمن بها أهل السنة(1/506)
والجماعة بأنها ثابتة لله علي وجه الحقيقة، لكنها لا تشبه صفات المخلوقين، كما إن الله_ عز وجل_لا يشبه المخلوقين، فكذلك صفاته لا
تشبه صفات المخلوقين. ومن فوائد هذا الحديث: إن في بني إسرائيل من العجب والآيات ما جعل النبي صلي الله عليه وسلم ينقل لنا من أخبارهم حتى نتعظ. ومثل هذا الحديث قصة النفر الثلاث الذين لجاءوا إلى غار فانطبقت عليهم صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار وعجزوا عن زحزحتها، وتوسل كل واحد منهم إلى الله تعالى بصالح عمله. فالنبي _ عليه الصلاة والسلام_ يقص علينا من أنباء بني إسرائيل ما يكون فيه الموعظة والعبرة، فعلينا إن نأخذ من هذا الحديث عبرة بان الإنسان إذا شكر نعمة الله، واعترف لله بالفضل، وادي ما يجب عليه في ماله، فان ذلك من أسباب البقاء والبركة في ماله. والله الموفق. 66_ السابع: عن أبي يعلي شداد بن اوس_ رضي الله عنه_ عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها، وتمني علي الله))(1/507)
رواه الترمذي وقال صيح حسن. قال الترمذي وغيره من العلماء: معني: ((دان نفسه)) أي: حاسبها. الشرح قوله: ((الكيس)) معناه الإنسان الحازم الذي يغتنم الفرص ويتخذ لنفسه الحيطة حتى لا تفوت عليه الأيام والليالي فيضيع. وقوله: ((من دان نفسه)) أي: من حاسبها ونظر ما فعل من
المأمورات وماذا ترك من المهينات: هل قام بما أمر به، وهل ترك ما نهي عنه، فإذا رأي من نفسه تفريطا في الواجب استدركه إذا أمكن استدراكه، وقام به أو بدله، وإذا راء من نفسه انتهاكا لمحرم اقلع عنه وندم وتاب واستغفر. وقوله: ((عمل لما بعد الموت)) يعني عمل للآخرة، لان كل ما بعد الموت فانه من الآخرة، وهذا هو الحق والحزم، إن الإنسان يعمل لما بعد الموت، لأنه في هذه الدنيا مارا بها مرورا، والمال هو ما بعد الموت، فاذا فرط ومضت عليه الأيام وأضاعها في غير ما ينفعه في الآخرة فليس بكيس، الكيس هو الذي يعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وصار لا يهتم إلا بأمور الدنيا، فيتبع نفسه هواها في التفريط في الأوامر، ويتبع نفسه هواها في فعل النواهي، ثم يتمني علي الله الأماني فيقول: الله غفور رحيم، وسوف أتوب إلى الله في المستقبل، وسوف اصلح من حالي إذا كبرت، وما أشبه من الأماني الكاذبة التي يمليها الشيطان عليه، فربما(1/508)
يدركها وربما لا يدركها. ففي هذا الحديث: الحث علي انتهاز الفرص، وعلي إن لا يضيع الإنسان من وقته فرصة إلا فيما يرضي الله_ عز وجل_وان يدع الكسل والتهاون والتمني، فان التمني لا يفيد شيئا، كما
قال الحسن البصري رحمه الله: ((ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقته الأعمال)) . فعلينا أيها الاخوة إن ننتهز الفرصة في كل ما يقرب إلى الله من فعل الاوامر واجتناب النواهي، حتى إذا قدمنا علي الله كنا علي اكمل ما يكون من حال. نسأل الله إن يعيننا وإياكم علي ذكره وشكره وحسن عبادته. 67_ الثامن: عن أبي هريرة_ رضي الله عنه_ قال: فالرسول الله صلي الله عليه وسلم: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) حديث حسن رواه الترمذي وغيره. الشرح إسلام المرء هو استسلامه لله_ عز وجل_ ظاهرا وباطنا. فأما باطنا فاستسلام العبد لربه بإصلاح عقيدته وإصلاح قلبه، وذلك بان يكون مؤمنا بكل ما يجب الإيمان به علي ما سبق في حديث جبريل.(1/509)
وأما الاستسلام ظاهرا فهو إصلاح عمله الظاهر، كأقواله بلسانه وأفعاله بجوارحه. والناس يختلفون في الإسلام اختلافا ظاهرا كثيرا، كما إن الناس يختلفون في اشكالهم وصورهم، منهم الطويل ومنهم القصير، ومنهم الضخم ومنهم من دون ذلك، ومنهم القبيح ومنهم الجميل، فيختلفون اختلافا ظاهرا. فكذلك أيضا يختلفون في إسلامهم لله_ عز وجل_ حتى قال الله في كتابه: (لا يَسْتَوِي
مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) (الحديد: من الآية10) . وإذا كان الناس يختلفون في الإسلام، فان مما يزيد في حسن إسلام المرء إن يدع ما لا يعنيه ولا يهمه لا في دينه ولا في دنياه. فالإنسان المسلم إذا أراد إن يجعل إسلامه حسنا فليدع ما لا يعنيه، فالشيء الذي لا يهمه يتركه. فمثلا: إذا كان هناك عمل وترددت هل تفعل أو لا تفعل؟ انظر هل هو من الأمور الهامة في دينك ودنياك فافعله، وإلا فاتركه، والسلامة اسلم. كذلك أيضا إن لا تدخل في شؤون الناس إذا كان هذا لا يهمك، وهذا خلاف ما يفعله بعض الناس اليوم، من حرصه علي اطلاعه علي أعراض الناس وأحوالهم، ويجد اثنان يتكلمان فيحاول إن يتقرب منهما حتى يسمع ما يقولان، ويجد شخصا جاء من جهة من الجهات فتراه يبحث وربما يبادر الشخص نفسه ويقول له: من أين جئت؟ وماذا قال لك فلان؟ وماذا قلت له؟ وما أشبه ذلك في أمور لا تعنيه ولا تهمه. فالأمور التي لا تعنيك اتركها، فان هذا من حسن إسلامك، وهو أيضا(1/510)
فيه راحة للإنسان، فكون الإنسان لا يهمه إلا
نفسه هذا هو الراحة، أما الذي يتتبع أحوال الناس ماذا قيل؟ وماذا حدث لهم؟ ... فانه سوف يتعب تعبا عظيما، ويفوت علي نفسه خيرا كثيرا، مع انه لا يستفيد شيئا، فاجعل دأبك داب نفسك، وهمك هم نفسك، وانظر إلى ما ينفعك فافعله، والذي لا ينفعك اتركه، وليس من حسن إسلامك إن تبحث عن أشياء لا تهمك. ولو أننا مشينا علي هذا وصار الإنسان دأبه داب نفسه ولا ينظر إلا إلى فعله، لحصل خيرا كثيرا. أما بعض الناس تجده مشغولا بشؤون غيره فيما لا فائدة له فيه، فيضيع أوقاته ويشغل قلبه ويشتت فكره، وتضيع عليه مصالح كثيرة. أما بعض الناس تجده مشغولا بشؤون غيره فيما لا فائدة له فيه، فيضيع أوقاته ويشغل قلبه ويشتت فكره، وتضيع عليه مصالح كثيرة. وتجد الرجل الدؤوب الذي ليس له هم إلا نفسه وما يعنيه، تحده ينتج ويثمر ويحصل، ويكون في راحة فكرية وقلبية وبدنية، ولذا يعد هذا الحديث من جوامع كلم النبي صلي الله عليه وسلم فإذا أردت شيئا فعلا أو تركا انظر هل يهمك أو لا؟! إن كان لا يهمك اتركه ولا تتعرض له واسترح منه، وأرح قلبك وفكرك وعقلك وبدنك، وان كان يهمك فاشتغل به بحسبه، فعلي كل حال كل إنسان عاقل كما جاء في الحديث السابق: ((الكيس من
دان نفسه وعمل لما بعد الموت)) . فكل إنسان عاقل يحرص علي إن يعمل لما بعد الموت، ويحاسب نفسه علي أعمالها. والله الموفق. التاسع: عن عمر_ رضي الله عنه_ عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((لا يسال الرجل فيما ضرب امرأته)) رواه آبو داود وغيره(1/511)
الشرح تساهل المؤلف _ رحمه الله_ في هذا الحديث حيث قال: ((رواه آبو داود وغيره)) ، لان الغير يشمل جميع من خرج الأحاديث، وان كان مثل هذه الصيغة لا يذكر الأعلى، فمثلا إذا قيل: ((رواه آبو داود وغبره)) فيعني ذلك انه لم يروه البخاري ولا مسلم ولا من هو اعلي من أبي داود، وإنما رواه آبو داود وغيره ممن هو دونه. ومعني الحديث: إن الرجل المتقي الله_ عز وجل_ الذي انتهي به الأمر إلى آخر المراتب الثلاث التي أشار الله إليها في قولهL وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً) (النساء: من الآية34) ، فالضرب آخر المراتب، فقد يضرب الرجل زوجته علي أمر يستحيا من ذكره، فإذا علم تقوي الرجل لله_ عز وجل_ وضرب امرأته فانه لا
يسال، هذا إن صح الحديث، ولكن الحديث ضعيف. أما من كان سيئ العشرة فهذا يسال فيم ضرب امرأته، لأنه ليس عنده من تقوي الله تعالى ما يردعه عن ظلمها وضربها، حيث لا تستحق أن تضرب. والله الموفق(1/512)
6- باب التقوى
التقويم اسم مأخوذ من الوقاية، وهو إن يتخذ الإنسان ما يقيه من عذاب الله. والذي يقيك من عذاب الله هو فعل أوامر الله عز وجل، إن تأخذ أوامر الله وان تترك ما نهي عنه. واعلم إن التقوى أحيانا تقترن بالبر، فيقال بر وتقوي كما في قوله تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: من الآية2) . وتارة تذكر وحدها، فإذا قرنت بالبر صار البر فعل الأوامر واجتناب النواهي. وإذا أفردت صارت شاملة، تعم فعل الأوامر واجتناب النواهي، وقد ذكر الله_ تعالى_ في كتابه إن الجنة أعدت للمتقين، فأهل التقوى هم أهل الجنة_ جعلنا الله منهم_ ولذلك يجب علي الإنسان إن يتقي الله عز وجل، امتثالا لأمره وطلبا لثوابه والنجاة من عقابه. ثم ذكر المؤلف آيات متعددة فقال رحمه الله: قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) (آل عمران: من الآية102) . وقال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن: من الآية16) ، وهذه الآية مبينة للمراد من الأولى. وقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (الأحزاب: 70) ، والآيات في الأمر
بالتقوى كثيرة معلومة، وقال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق: من الآية3، 2) ، وقال تعالى: (إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (لأنفال: من الآية29) ، والآيات في الباب كثيرة ومعلومة.(1/513)
الشرح قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) فوجه الأمر إلى المؤمنين، إلى المؤمنين، لا المؤمن يحمله إيمانه علي تقوي الله. وقوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) وحق التقوى مفسرا بما عقبه المؤلف من قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) بعد هذه الآية أي: إن معني قوله: (حَقَّ تُقَاتِهِ) إن تتقي الله ما استطعت، لان الله لا يكلف نفسا إلا وسعها. وهذه الآية: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ليست آية يقصد بها التهاون بتقوى الله، ونما يقصد بها الحث علي التقوى بقدر المستطاع، أي: لا تدخر وسعى في تقوي الله، ولك الله لا يكلف الإنسان شيئا لا يستطيعه، كما قال تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية286) ، ويستفاد من قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) إن الإنسان إذا لم يستطع القيام بأمر الله علي وجه الكمال، فانه يأتي منه بما قدر عليه، ومن ذلك قول النبي صلي الله عليه وسلم لعمران بن حصين: ((صل قائما فان لم تستطع فقاعدا، فان لم تستطع فعلي جنب)) ، فرتب النبي صلي الله عليه وسلم الصلاة بحسب الاستطاعة، وبان يصلي قائما، فان لم يستطع فقاعدا، فان لم يستطع فعلي جنب، وهكذا أيضا بقية الأوامر، ومثله الصوم، إذا لم يستطع الإنسان إن يصوم في رمضان، فانه يؤخره (وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ(1/514)
أُخَرَ) (البقرة: من الآية185) ، وفي الحج أيضا: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران: من الآية97) فإذا لم تستطع الوصول إلى البيت فلا حج عليك، لكن إن كنت قادرا بمالك دون بدنك، وجب عليك إن تقيم من يحج ويعتمر عنك، والحاصل إن التقوى كغيرها منوطة بالاستطاعة، فمن لم يستطع شيئا من أوامر الله فانه يعدل علي ما يستطيع، ومن اضطر إلى شئ من محارم الله، حل له ما ينتفع به في دفع الضرورة،
لقوله تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) (الأنعام: من الآية119) ، حتى إن الرجل لو اضطر إلى أكل لحم الميتة، أو أكل لحم الخنزير، أو أكل لحم الحمار، أو غير ذلك من المحرمات، فانه يجوز له إن يأكل منه ما تندفع به ضرورته، فهذه هي تقوي الله! إن تفعل أوامر ما استطعت وتجنب نواهيه ما استطعت. وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) فأمر الله تعالى بأمرين، بتقوى الله، وان يقول الإنسان قولا سديدا، أي صوابا. وقد سبق الكلام علي التقوى، وإنها فعل أوامر الله واجتناب نواهيه. أما القول السديد، فهو قول الصواب وهو يشمل كل قول فيه خير سواء كان من ذكر الله، أو من طلب العلم، أو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو من الكلام الحسن الذي يستجلب به الإنسان مودة الناس(1/515)
ومحبتهم، أو غير ذلك، ويجمعه قول النبي صلي الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)) (،) وضد ذلك القول غير السديد، وهو القول الذي ليس بصواب، بل خطا أما في
موضوعه وأما في محله: أما في موضوعه: بان يكون كلاما فاحشا يشتمل علي السب، والشتم، والغيبة، والنميمة، وما أشبه ذلك. أو في محله: أي إن يكون هذا القول في نفسه هو خير، لكن كونه يقال في هذا المكان ليس بخير، لان لكل مقام مقالا، فإذا قلت كلاما هو في نفسه ليس بشر، لكنه يسبب شرا إذا قلته في هذا المحل فلا تقله، لان هذا ليس بقول سديد، ففي هذا الموضوع لا يكون قولا سديد، بل خطا، وان كان ليس حراما بذاته. فمثلا، لو فرض إن شخصا راء إنسانا علي منكر، ونهاه عن المنكر، لكن نهاه في حال لا ينبغي إن يقول له فيها شيئا، أو اغلظ له في القول، أو ما أشبه، لعد هذا قولا غير سديد. فإذا اتقي الإنسان ربه، وقال قولا سديدا، حصل علي فائدتين: (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (الأحزاب: من الآية71) فبالتقوى صلاح الإيمان ومغفرة الذنوب، وبالقول السديد صلاح الأعمال ومغفرة الذنوب. وعلم من هذه الآية إن من لم يتق الله ويقل قولا سديدا، فانه حري بان لا يصلح الله له أعماله، ولا يغفر له ذنبه، ففيه الحث علي تقوي الله وبيان فوائدها. وقال تعالى_ وهي الآية الرابعة_:) (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجاً)(1/516)
(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) يتق الله بفعل ما أمر به، ويترك ما نهي عنه. يجعل له مخرجا من كل ضيق، فكلما ضاق عليه الشيء وهو متق لله_ عز وجل_ جعل له مخرجا، سواء كان في معيشة، أو في أموال، أو في أولاد، أو في مجتمع، أو غير ذلك. متي كنت متقيا الله فثق إن الله سيجعل لك مخرجا من كل ضيق، واعتمد ذلك، لأنه قول من يقول للشيء كن فيكون (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) وما اكثر الذين اتقوا الله فجعل لهم مخرجا، ومن ذلك قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، فنزلت صخرة علي باب الغار فسدته، فأرادوا إن يزيحوها فعجزوا، فتوسل كل واحد منهم بصالح عمله إلى الله عز وجل، ففرج الله عز وجل عنهم وزالت الصخرة وجعل الله لهم مخرجا، والأمثلة علي هذا كثيرة! وقوله (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) هذا أيضا فائدة عظيمة، إن الله يرزقك من حيث لا تحتسب، فمثلا لو فرضنا أن رجلا يكتسب المال من طريق محرم، كطريق الغش أو الربا أو ما أشبه ذلك، ونصح في هذا وتركه لله، فان الله سيجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ولكن لا تتعجل، ولا تظن إن الأمر إذا تأخر فلن يكون، ولكن قد يبتلي الله
العبد فيؤخر عنه الثواب، ليختبره هل يرجع إلى الذنب أم لا، فمثلا إذا كنت تتعامل بالربا، ووعظك من يعظك من الناس، وتركت ذلك، ولكنك بقيت شهرا أو شهرين وجددت ربحا، فلا تياس،(1/517)
ولا تقل أين الرزق من حيث لا احتسب، بل انتظر، وسق بوعد الله وسق به، وستجده، ولا تتعجل، ولهذا جاء في الحديث: ((يستجاب لأحدكم_ أي إذا دعا_ ما لم يعجل، قالوا: كيف يعجل يا رسول الله؟ قال: يقول دعوت فلم يستجب لي)) ، فاصبر، واترك ما حرم الله عليك، وانتظر الفرج والرزق من حيث لا تحتسب. الآية الخامسة قوله تعالى: (إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (لأنفال: من الآية29) ، هذه ثلاث فوائد عظيمة: الفائدة الأولى: (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً) أي يجعل لكم ما تفرقون به بين الحق والباطل، وبين الضار والنافع، وهذا يدخل فيه العلم، بحيث يفتح الله علي الإنسان من العلوم ما لغا يفتحها لغيره، فان التقوى يحصل بها زيادة الهدي، وزيادة العلم، وزيادة الحظ، ولهذا يذكر عن الشافعي رحمه الله تعالى: شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بان العلم نور ... ونور الله لا يؤتيه عاصي(1/518)
ولا شك إن الإنسان كلما اذداد علما، ازداد معرفة، وازداد فرقانا بين الحق والباطل، وبين الضار والنافع، وكذلك يخل فيه ما يفتح الله علي الإنسان من الفهم، لان التقوى سبب لقوة الفهم يحصل بها زيادة العلم، فانك تري الرجلين يحفظان آية من كتاب الله، يستطيع أحدهما إن يستخرج منها ثلاث أحكام مثلا، ويستطيع الآخر إن يستخرج أربعة، أو خمسة، أو عشرة، أو اكثر من هذا بحسب ما آتاه من الفهم. فالتقوى سبب لزيادة الفهم، ويدخل في ذلك أيضا الفراسة، إن الله يعطي المتقي فراسة يميز بها حتى بين الناس، فبمجرد ما يري الإنسان يعرف انه كاذب أو صادق، أو انه بر أو فاجر، حتى انه ربما يحكم علي الشخص وهو لم يعاشره ولم يعرف عنه شيئا، بسبب ما أعطاه الله من الفراسة. ويدخل في ذلك أيضا: ما يحصل للمتقين من الكرامات التي لا تحصل لغيرهم، ومن ذلك: ما حصل لكثير من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، فكان عمر بن الخطاب_ رضي الله عنه_ ذات يوم يخطب علي المنبر في المدينة، فسمعوه يقول في أثناء الخطبة: ((يا سارية الجبل، يا سارية الجبل)) ، فتعجبوا من يخاطب وكيف يقول هذا الكلام في أثناء
الخطبة، فإذا الله_ سبحانه وتعالى_ قد كشف له عن سرية في العراق كان(1/519)
قائدها سلرية بن زنيم، وكان العدو قد حصرهم، فكشف الله لعمر عن هذه السرية، كأنما يشاهدها راء عين، فقال لقائدها: ((يا سارية الجبل)) أي: تحصن بالجبل، فسمعه سارية وهو القائد، وهو في العراق، ثم اعتصم بالحبل. هذه من التقوى، لان كرامات الأولياء كلها جزاء لهم علي تقواهم لله عز وجل. فالمهم إن من آثار التقوى إن الله_ تعالى_ يجعل للمتقين فرقانا يفرق به بين الحق والباطل، وبين البر والفاجر، وبين أشياء كثيرة لا تحصل إلا للمتقي. الفائدة الثانية: (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) وتكفير السيئات يكون بالأعمال الصالحة تكفر الأعمال السيئة كما قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر)) . وقال النبي صلي الله عليه وسلم: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما)) ، فالكفارة تكون بالأعمال الصالحة، وهذا يعني إن الإنسان إذا اتقي الله سهل له الأعمال الصالحة التي يكفر الله بها عنه. الفائدة الثالثة: قوله (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) بان يسركم للاستغفار والتوبة، فان هذا من
نعمة الله علي العبد إن ييسره للاستغفار والتوبة.(1/520)
ومن البلاء للعبد، إن يظن إن ما كان عليه من الذنوب ليس بذنب، فيصر عليه والعياذ بالله، كما قال الله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً) (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (الكهف: 104، 103) ، فكثي من الناس لا يقلع عن الذنب، لأنه زين له_ والعياذ بالله_ فألفه وصعب عليه إن ينتشل نفسه منه، لكن إذا كان متقيا لله_ عز وجل_ سهل الله له الإقلاع عن الذنوب حتى يغفر له، وربما يغفر الله له بسبب تقواه، فتكون تقواه مكفرة لسيئاته، كما حصل لأهل بدر رضي الله عنهم، ((فان الله اطلع علي أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) ، فتقع الذنوب منهم مغفورة لما حصل لهم فيها، أي في الغزوة من الأجر العظيم. وقوله: (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (لأنفال: من الآية29) ، أي: صاحب الفضل العظيم الذي لا يعدله شئ ولا يواذيه شئ، فإذا كان الله موصوفا بهذه الصفة، فاطلب الفضل منه سبحانه وتعالى، وذلك بنقواه والرجوع إليه. والله اعلم. 69_ وأما الأحاديث فالأول: عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، من اكرم الناس، قال: ((اتقاهم)) فقالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: ((فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله)) قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال ((فعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية(1/521)
خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)) . متفق عليه. و ((فقهوا)) بضم القاف علي المشهور، وحكي كسرها، أي: اعلموا أحكام الشرع. الشرح قوله: من كرم الناس؟ قال: ((اتقاهم)) يعني إن اكرم الناس اتقاهم لله عز وجل وهذا الجواب مطابق تماما لقوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: من الآية13) ، فالله_ سبحانه وتعالى_ لا ينظر إلى الناس من حيث النسب، ولا من حيث الحسب، ولا من حيث المال، ولا من حيث الجمال، وإنما ينظر سبحانه إلى إلا عمال، فاكرم الناس عنده اتقاهم له، ولهذا يمد أهل التقوى بما يمدهم به من الكرامات الظاهرة أو الباطنة، لانهم هم اكرم خلقه عنده، ففي هذا حث علي تقوي الله عز وجل، وانه كلما كان الإنسان اتقي لله فهو اكرم عنده، ولكن الصحابة لا يريدون بهذا السؤال الأكرم عند الله! ((قالوا: لسنا عن هذا نسألك)) ثم ذكر لهم إن اكرم الخلق يوسف
ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله، فهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فانه_ عليه الصلات والسلام_ كان نبيا من سلالة الأنبياء، فكان من اكرم الخلق.(1/522)
((قالوا: لسنا عن هذا نسألك، قال: فعن معادن العرب تسألوني؟)) معادن العرب يعني أصولهم وأنسابهم! ((خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)) يعني إن اكرم الناس من حيث النسب والمعادن والأصول، هم الخيار في الجاهلية، لكن بشرط إذا فقهوا. فمثلا بنو هاشم من المعروف هم خيار قريش في الإسلام، لكن بشرط إن يفقهوا في دين الله، وان يتعلموا من دين الله، فان لم يكونوا فقهاء فانهم_ وان كانوا من خيار العرب معدنا_ فانهم ليسو اكرم الخلق عند الله، وليسو خيار الخلق. ففي هذا دليل علي إن الإنسان يشرفه بنسبه، لكن بشرط إن يكون ليه فقه في دينه، ولا شك إن النسب له اثر، ولهذا كان بنو هاشم أطيب الناس وأشرفهم نسبا، ومن ثم كان رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي هو اشرف الخلق (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (الأنعام: من الآية124) ، فلولا إن هذا البطن من بني آدم اشرف البطون، ما كان فيه النبي صلي الله عليه وسلم فلا يبعث الرسول صلي الله عليه
وسلم إلا في اشرف البطون واعلي الأنساب، والشاهد من هذا الحديث قول الرسول صلي الله عليه وسلمان اكرم الخلق اتقاهم لله. فإذا كنت تريد إن تكون كريما عند الله وذا منزلة عنده، فعليك بالتقوى، فكلما كان الإنسان لله اتقي كان عنده اكرم. أسال الله إن يجعلني وإياكم من المتقين.(1/523)
70_ الثاني: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وان الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فان أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) رواه مسلم. الشرح هذا الحديث ساقه المؤلف_ رحمه الله_ لما فيه من أمر النبي صلي الله عليه وسلم بالتقوى، بعد إن ذكر حال الدنيا فقال: ((إن الدنيا حلوة خضرة)) حلوة في المذاق خضرة في المراي، والشيء إذا كان خضرا حلوا فان العين تطلبه أولا، ثم تطلبه النفس ثانيا، والشيء إذا اجتمع فيه طلب العين وطلب النفس، فانه يوشك للإنسان إن يقع فيه. فالدنيا حلوة في مذاقها، خضرة في مراها، فيغتر الإنسان بها وينهمك فيها ويجعلها اكبر همه، ولكن النبي صلي الله عليه وسلم بين إن الله_ تعالى_ مستخلفنا فيها فينظر كيف نعمل، فقال: ((إن الله تعالى
مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون)) هل تقومون بطاعته، وتنهون النفس عن الهوى، وتقومون بما أوجب الله عليكم، ولا تغترون بالدنيا، أو إن الأمر بالعكس؟ ولهذا قال: ((فاتقوا الدنيا)) أي: قوموا بما أمركم به، واتركوا ما نهاكم عنه، ولا تغرنكم حلاوة الدنيا ونضرتها. كما قال تعالى: (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (لقمان: من الآية33) .(1/524)
ثم قال: ((فاتقوا الدنيا واتقوا النساء)) ، أي: احذ روهن وهذا يشمل الحذر من المرأة في كيدها مع زوجها، ويشمل أيضا الحذر من النساء وفتنتهن، ولهذا قال: ((فان أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) . فافتتنوا في النساء، فضلوا وأضلوا_ والعياذ بالله_ ولذلك نجد أعداءنا وأعداء ديننا_ أعداء شريعة الله عز وجل_ يركزون اليوم علي مسالة النساء، وتبرجهن، واختلاطهن بالرجال، ومشاركتهن للرجال في الأعمال، حتى يصبح الناس كأنهم الحمير، لا يهمهم إلا بطونهم وفروجهم والعياذ بالله، وتصبح النساء وكأنهن دمي، أي صور، لا يهتم الناس إلا بشكل المرأة، كيف يزينوها، وكيف يجملونها، وكيف يأتون لها بالمجملات والمحسنات، وما يتعلق بالشعر، وما يتعلق
بالجلد، ونتف الشعر، والساق، والذراع، والوجه، وكل شئ، حتى يجعلوا أكبرهم النساء إن تكون المرأة كالصورة من البلاستيك. لا يهمها عبادة ولا يهمها أولاد. ثم إن أعداءنا_ أعداء دين الله، وأعداء شريعته، وأعداء الحياء_ يريدون إن يقحموا المرأة في وظائف الرجال، حتى يضيقوا علي الرجال الخناق، ويجعلوا الشباب يتسكعون في الأسواق، ليس لهم شغل، ويحصل من فراغهم هذا شر كبير وفتنة عظيمة، لان الشباب والفراغ والغني من اعظم المفاسد كما قيل: إن الشباب والفراغ والجد ... مفسدة للمرء أي مفسده(1/525)
فهم يقحمون النساء الآن بالوظائف الرجالية ويدعون الشباب، ليفسد الشباب وليفسد النساء. أتدرون ماذا يحدث؟ يجدث بتوظيفهن مع الرجال مفسدة الاختلاط، ومفسدة الزنا والفاحشة، سواء في زني العين، أو زني اللسان، أو زني اليد، أو زني الفرج، كل ذلك محتمل إذا كانت المرأة مع الرجل في الوظيفة. وما اكثر الفساد في البلاد التي بتوظف الرجال فيها مع النساء. ثم إن المرأة إذا وظفت، فإنها سوف تنعزل عن بيتها، وعن زوجها، وتصبح الآسرة متفككة، ثم إنها إذا وظفت سوف يحتاج البيت إلى خادم، وحيئذ نستجلب نساء العالم من كل مكان، وعلي كل دين، وعلي كل خلق، ولو كان
الدين علي غير دين الإسلام، ولو كان الخلق خلقا فاسدا، نستجلب النساء ليكن خدما في البيوت، ونجعل نساءنا تعمل في محل رجالنا، فنعطل رجالنا ونشغل نساءنا، وهذا أيضا فيه مفسدة عظيمة وهي تفكك الأسرة، لان الطفل إذا نشا وليس أمامه إلا الخادم، نسي أمه ونسي أباه، وفقد الطفل تعلقه بهما. ففسدت البيوت، وتشتت الأسر، وحصل في ذلك من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله. ولا شك إن أعداءنا وأذناب أعداءنا_ لأنه يوجد فينا أذناب لهؤلاء الأعداء، درسوا عندهم وتلطخوا بأفكارهم السيئة، ولا أقول انهم غسلوا أدمغتهم، بل أقول انهم لوثوا أدمغتهم بهذه الأفكار الخبيثة المعارضة لدين الإسلام_ وقد يقولون: إن هذا لا يعارض العقيدة، بل نقول انه يهدم العقيدة بان يقول الإنسان بان الله له شريك، أو إن(1/526)
الله ليس موجودا وما أشبه فحسب، بل هذه المعاصي تهدم العقيدة هدما، لان الإنسان يبقي ويكون كأنه ثور أو حمار، لا يهتم بالعقيدة ولا بالعبادة، لأنه متعلق بالدنيا وزخارفها وبالنساء، وقد جاء في الحديث الصحيح: ((ما تركت بعدي الضر علي الرجال من النساء)) . ولهذا يجب علينا نحن_ ونحن_ والحمد لله_ أمة مسلمة_ إن نعارض هذه الأفكار، وان نقف ضدها في كل
مكان وفي كل مناسبة، علما بأنه يوجد عندنا قوم_ لا أكثرهم الله ولا أنالهم مقصودهم_ يريدون هذا الأمر، ويريدون الفتنة والشر لهذا البلد المسلم المسالم المحافظ، لانهم يعلمون إن آخر معقل للمسلمين هو هذه البلاد، التي تشمل مقدسات المسلمين، وقبلة المسلمين، ليفسدوها حتى تفسد الأمة الإسلامية كلها، فكل الأمة الإسلامية ينظرون إلى هذه البلاد ماذا تفعل، فإذا انهدم الحياء والدين في هذه البلاد فسلام عليهم، وسلام علي الدين والحياء. لهذا أقول، يا إخواني، يجب علينا شبابا، وكهولا، وشيوخا، وعلماء، ومتعلمين، إن نعارض هذه الأفكار، وان نقيم الناس كلهم ضدها، حتى لا تسري فينا سريان النار في الهشيم فتحرقنا، نسأل الله تعالى إن يجعل كيد هؤلاء الذين يدبرون مثل هذه الأمور في نحورهم، وان لا يبلغهم منالهم، وان يكبتهم برجال صالحين حتى تخمد فتنتهم، انه جواد كريم.(1/527)
71_ الثالث: عن أبي مسعود رضي الله عنه إن النبي صلي الله عليه وسلم كان يقول: اللهم أني أسألك الهدي والتقي والعفاف والغني)) رواه مسلم الشرح من الأحاديث التي أوردها المصنف_ رحمه الله_ في باب التقوى هذا الحديث: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يدعوا الله_ عز
وجل_ بهذا الدعاء: ((اللهم أني أسألك الهدي والتقي والعفاف والغني)) . ((الهدي)) هنا بمعني العلم، والنبي صلي الله عليه وسلم محتاج إلى العلن كغيره من الناس، لان الله سبحانه وتعالى قال له: (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (طه: من الآية114) . وقال الله له: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (النساء: من الآية113) ، فهو عليه الصلاة والسلام محتاج إلى العلم، فيسال الله الهدي. والهدي إذا ذكر وحده يشمل العلم والتوفيق للحق، أما إذا قرن معه ما يدل علي التوفيق للحق فانه يفسر بمعني العلم، لان الأصل في اللغة العربية إن العطف يقتضي المغايرة، فيكون الهدي له معني، وما بعده مما يدل علي التوفيق له معني آخر. وأما قوله: ((والتقي)) فالمراد بالتقي هنا: تقوي الله عز وجل، فسال(1/528)
النبي صلي الله عليه مسلم ربه التقي أي: إن يوفقه إلى تقوي الله، لان الله_ عز وجل_ هو الذي بيده مقاليد كل شئ، فإذا وكل العبد إلى نفسه ضاع ولم يحصل علي شئ، فإذا وفقه الله عز وجل، ورزقه التقي، صار مستقيما علي تقوي الله عز وجل.
وأما قوله: ((العفاف)) فالمراد به إن يمن الله عليه بالعفاف والعفة عن كل ما حرم الله عليه، فيكون عطفه علي التقوى من باب عطف الخاص علي العام، إن خصصنا العفاف بالعفاف عن شئ معين، وإلا فهو من باب عطف المترادفين. فالعفاف: إن يعف عن كل ما حرم الله عليه فيما يتعلق بجميع المحارم التي حرمها الله عز وجل. وأما ((الغني)) فالمراد به الغني عما سوي الله، أي: الغني عن الخلق، بحيث لا يفتقر الإنسان إلى أحد سوي ربه عز وجل. والإنسان إذا وفقه الله ومن عليه بالاستغناء عن الخلق، صار عزيز النفس غير ذليل، لان الحاجة إلى الخلق ذل ومهانة، والحاجة إلى الله تعالى عز وعبادة، فهو عليه الصلاة والسلام يسال الله عز وجل الغني. فينبغي لنا إن نقتدي بالرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الدعاء، وان نسأل الله الهدي والتقي والعفاف والغني. وفي هذا الحديث دليل علي إن النبي صلي الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وان الذي يملك ذلك هو الله. وفي دليل أيضا علي أبطال من تعلقوا بالأولياء والصالحين في جلب(1/529)
المنافع ودفع المضار، كما يفعل بعض الجهال الذين يدعون الرسول عليه الصلاة والسلام إذا كانوا عند قبره، أو يدعون من يزعمون أهم
أولياء من دون الله، فان هؤلاء ضالون في دينهم، سفهاء في عقولهم، لان هؤلاء المدعوين هم بأنفسهم لا يملكون لأنفسهم شيئا، قال الله تعالى لنبيه صلي الله عليه وسلم (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) (الأنعام: من الآية50) ، وقال له: (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) (لأعراف: من الآية188) ، وقال له:) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً) (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (الجن: 22، 21) . فالإنسان يجب إن يعلم إن البشر مهما أتوا من الوجاهة عند الله عز وجل، ومن النزلة والمرتبة عند الله، فانهم ليسوا بمستحقين إن يدعوا من دون الله، بل انهم_ اعني من لهم جاه عند الله من الأنبياء والصالحين_ يبرؤون تبرؤنا تاما ممن يدعونهم من دون الله عز وجل. قال عيسي عليه الصلاة والسلام لما قال له الله: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ
لِي بِحَقٍّ) (المائدة: من الآية116) ، ليس من حق عيسي ولا غيره إن يقول للناس اتخذوني إلها من دون الله: (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) (المائدة: من الآية117، 116) . فالحاصل إنما نسمع عن بعض جهال المسلمين في بعض الأقطار الإسلامية، الذين يأتون إلى قبور من يزعموهم أولياء، فيدعون هؤلاء الأولياء، فان هذا العمل سفه في العقل، وزلال في الدين. وهؤلاء لن(1/530)
ينفعوا أحدا أبدا، فهم جثث هامدة، هم بانفهم لا يستطيعون الحراك فكيف يتحركون لغيرهم، والله الموفق. 72_ الرابع: عن أبي طريف عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: ((من حلف علي يمين ثم راء اتقي الله منها فليأت التقوى رواه مسلم الشرح اليمين هي الحلف بالله عز وجل، أو باسم من أسمائه، أو صفة من صفاته، ولا يجوز الحلف بغير الله، لا بالنبي صلي الله عليه وسلم، ولا جبريل عليه الصلاة والسلام، ولا بأي أحد من الخلق، لقول النبي صلي
الله عليه وسلم: ((من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت)) . وقال: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) فمن حلف بغير الله فهو آثم، ولا يمين عليه، لأنها يمين غير منعقدة،(1/531)
لقول النبي صلي الله عليه وسلم: ((من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد)) . ولا ينبغي للإنسان إن يكثر من اليمين، فان هذا هو معني قوله تعالى: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) (المائدة: من الآية89) ، علي راء بعض المفسرين، قالوا: واحفظوا إيمانكم: أي لا تكثروا الحلف بالله، وإذا حلفت ينبغي إن تقيد اليمين بالمشيئة، فتقول: والله إن شاء الله، لتستفيد بذلك فائدتين عظيمتين: الفائدة الأولى: إن يتيسر لك ما حلفت عليه. والفائدة الثانية: انك لو حنثت فلا كفارة عليك، فمن حلف علي يمين وقال إنشاء الله لم يحنث، ولو خالف ما حلف عليه، ولكن اليمين التي توجب الكفارة هي اليمين علي شئ مستقبل، أما اليمين علي شئ ماضي فلا كفارة فيها، ولكن إن كان الحالف كاذبا فهو آثم، وان كان صادقا فلا شئ عليه، ومثال هذا لو قال قائل: والله ما فعلت كذا! فهنا ليس عليه كفارة صدق أو كذب، لكن إن كان صادقا انه لم يفعله فهو سالم من الإثم، وان كان كاذبا بان كان قد فعله
فهو آثم. وأما اليمين التي فيها الكفارة فهي اليمين علي شئ مستقبل، فإذا حلفت علي شئ مستقبل فقلت: والله لا افعل كذا، فهنا نقول: إن فعلته فعليك الكفارة، وان لم تفعله فلا كفارة عليك، والله لا افعل كذا، فهذه يمين(1/532)
منعقدة، فان فعلته وجبت عليك الكفارة، وان لم تفعله فلا كفارة عليك، ولكن: هل الأفضل إن افعل ما حلفت علي تركه، أو الأفضل إن لا افعل؟ في هذا الحديث بين النبي عليه الصلاة والسلام: انك إذا حلفت علي يمين، ورأيت غيرها اتقي لله منها، فكفر عن يمينك، وات الذي هو اتقي. فإذا قال قائل: والله لا اكلم فلانا، وهو مسلم، فان التقي لله إن تكلمه، لان هجر المسلم حرام، فكلمه وكفر عن يمينك، لان هذا اتقي لله ولو قلت: والله لا ازور قريبي، فهنا نقول: زيارة القريب صلة رحم، وصلة الرحم واجبة، فصل قريبك، وكفر عن يمينك، لان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((فراء غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه فليأت الذي هو خير)) وعلي هذا فقس والخلاصة إن نقول: اليمين علي شئ ماض لا يبحث فيها عن الكفارة، لأنه ليس فيها الكفارة، لكن أما إن يكون الحالف سالما أو يكون آثما. فان كان كاذبا فهو آثم، وان كان صادقا فهو سالما. واليمين
علي المستقبل هي التي فيها الكفارة، فإذا حلف الإنسان علي شئ مستقبل وخالف ما حلف عليه، وجبت عليه الكفارة، إلا إن يقرن يمينه بمشيئة الله، فيقول إن شاء الله، فهذا لا كفارة عليه ولو خالف. والله الموفق.(1/533)
73_ الخامس: عن أبي إمامة صدي بن عجلان الباهي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع فقال: ((اتقوا الله، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا أمراءكم، تدخلوا جنة ربكم)) رواه الترمذي، في آخر كتاب الصلاة وقال: حديث حسن صحيح)) . الشرح كانت خطب الرسول عليه الصلاة والسلام علي قسمين: خطب راتبة وخطب عارضة. فأما الراتبة: فهي خطبة في الجمع والأعياد، فانه صلي الله عليه وسلم كان يخطب الناس في كل جمعة وفي كل عيد، واختلف العلماء_ رحمهم الله_ في خطبة صلاة الكسوف، هل هي راتبة أو عارضة، وسبب اختلافهم: إن الكسوف لم يقع في عهد النبي صلي الله عليه وسلم إلا مرة واحدة، ولما صلي قام فخطب الناس عليه الصلاة والسلام، فذهب بعض العلماء فذهب بعض العلماء إلى إنها من الخطب الراتبة، وقال: إن الأصل إن ما شرعه النبي صلي الله عليه وسلم فهو ثابت مستقر، ولم يقع الكسوف مرة
أخرى فيترك النبي صلي الله عليه وسلم الخطبة، حتى نقول إنها من الخطب العارضة. وقال بعض العلماء: بل هي من الخطب العارضة، التي إن كان لها ما(1/534)
يدعوا إلها خطب وإلا فلا، ولكن الأقرب إنها من الخطب الراتبة، وانه يسن للإنسان إذا صلي صلاة الكسوف إن يقوم فيخطب الناس ويذكرهم ويخوفكم كما فعل النبي صلي الله عليه وسلم. أما الخطب العارضة فهي التي يخطبها عند الحاجة أليها، مثل خطبته صلي الله عليه وسلم حينما اشترط أهل بريرة_ وهي جارية اشترتها عائشة رضي الله عنها_ فاشترط أهلها إن يكون الولاء لهم، ولكن عائشة_ رضي الله عنها_ لم تقبل بذلك، فأخبرت النبي صلي الله عليه وسلم فقال: ((خذيها فاعتقيها، واشترطي لهم الولاء، ثم قام فخطب الناس واخبرهم إن الولاء لمن اعتق)) . وكذلك خطبته حين شفع أسامة بن زيد_ رضي الله عنه_ في المرأة المخزومية، التي كانت تستعير المتاع فتجدده، فأمر النبي صلي الله عليه وسلم إن تقطع يدها، فاهم قريشا شانها، فطلبوا من يشفع لها إلى الرسول صلي الله عليه وسلم، فطلبوا من أسامة بن زيد_ رضي الله عنهما_ إن يشفع، فشفع، ولكن النبي صلي الله عليه وسلم قال له: ((أتشفع في حد من حدود الله)) ثم قال (
(فخطب الناس واخبرهم بان الذي اهلك من كان قبلنا انهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد)) وفي حجة الوداع خطب النبي صلي الله عليه وسلم يوم عرفة، وخطب يوم النحر، ووعظ الناس وذكرهم، وهذه خطبة من الخطب الرواتب التي يسن لقائد(1/535)
الحجيج إن يخب الناس كما خطبهم النبي صلي الله عليه وسلم. وكان من جملة ما ذكر في خطبته في حجة الوداع، انه قال: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم)) وهذه كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) (النساء: من الآية1) ، فأمر الرسول صلي الله عليه وسلم الناس جميعا إن يتقوا ربهم الذي خلقهم، وأمدهم بنعمه، واعدهم لقبول رسالاته، فأمرهم إن يتقوا الله. وقوله: ((وصلوا خمسكم)) أي: صلوا الصلوات الخمس التي فرضها الله_ عز وجل_ علي رسوله صلي الله عليه وسلم. وقوله: ((وصوموا شهركم)) أي: شهر رمضان. وقوله: ((وأدوا زكاة أموالكم)) أي: أعطوها مستحقيها ولا تبخلوا بها. وقوله: ((أطيعوا أمراءكم)) أي: من جعلهم الله أمراء عليكم، وهذا يشمل أمراء المناطق والبلدان، ويشمل الأمير العام: أي أمير الدولة كلها، فان الواجب علي الرعية طاعتهم في غير معصية
الله، أما في معصية الله فلا تجوز طاعتهم ولو أمروا بذلك، لان طاعة المخلوق لا تقدم علي طاعة الخالق جل وعلا، ولهذا قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء: من الآية59) . فعطف طاعة ولاة الأمور علي طاعة الله تعالى ورسوله صلي الله عليه وسلم وهذا يدل علي إنها تابعة، لان المعطوف تابع للمعطوف عليها مستقل، ولهذا تجد إن الله جل وعلا قال: (اأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (النساء: من الآية59) ، فأتى بالفعل ليتبن بذلك إن طاعة النبي صلي الله عليه وسلم طاعة مستقلة أي: تجب طاعته استقلالا كما تجب طاعة الله، ومع هذا فان طاعته من طاعة الله واجبة، فان النبي صلي الله عليه وسلم(1/536)
لا يأمر إلا بما يرضي الله، أما غيره من ولاة الأمور فانهم قد يأمرون بغير ما يرضي الله، ولهذا جعل طاعتهم تابعة لطاعة الله ورسوله. ولا يجوز للإنسان إن يعصي ولاة الأمور في غير معصية الله ويقول إن هذا ليس بدين، لان بعض الجهال، إذا نظم ولاة الأمور أنظمة لا تخالف الشرع، قال: لا يلزمني إن أقوم بهذه الأنظمة، لأنها ليست بشرع، لأنها لا توجد في كتاب الله
تعالى، ولا في سنة رسوله صلي الله عليه وسلم، وهذا من جهله، بل نقول: إن امتثال هذه الأنظمة موجود في كتاب الله، موجود في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، قال الله:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وورد عن النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة انه أمر بطاعة ولاة الأمور، ومنها هذا الحديث، فطاعة ولاة الأمور فيما ينظمونه مما لا يخالف أمر الله تعالى ورسوله صلي الله عليه وسلم مما أمر الله به ورسوله صلي الله عليه وسلم. ولو كنا لا نطيع ولاة الأمور إلا بما أمر الله تعالى به ورسوله صلي الله عليه وسلم لم يكن للأمر بطاعتهم فائدة، لان طاعة الله تعالى ورسوله مأمور بها، سواء أمر بها ولاة الأمور أم لم يأمروا بها، فهذه الأمور التي أوصى بها النبي صلي الله عليه وسلم في حجة الوداع: تقوي الله، والصلوات الخمس، والزكاة، والصيام، وطاعة ولاة الأمور، هذه من الأمور الهامة التي يجب علي الإنسان إن يعتني بها، وان يمتثل أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم فيها، والله اعلم.(1/537)
7- باب اليقين والتوكل
قال الله تعالى: (وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) (الأحزاب: 22) ، وقال تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (آل عمران: 174، 173) ، وقال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) (الفرقان: من الآية58) ، وقال تعالى:) وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (إبراهيم: من الآية11) ، وقال تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (آل عمران: من الآية159) ، والآيات في الأمر بالتوكل كثيرة معلومة. وقال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق: من الآية3) ، أي: كافية. وقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (لأنفال: 2) ، والآيات في فضل التوكل كثيرة معروفة. الشرح جمع المؤلف بين اليقين والتوكل، لان التوكل ثمرة من ثمرات اليقين، فاليقين هو قوة الإيمان والثبات، حتى كان الإنسان يري بعينه ما اخبر الله به رسوله من شدة يقينه، فاليقين هو ثبات وإيمان ليس معه شك بوجه من الوجوه، فيري الغائب الذي اخبر الله_ تعالى_ عنه رسول الله صلي الله عليه وسلم كأنه حاضر بين يديه، وهو اعلي درجات الإيمان!(1/538)
هذا اليقين يثمر ثمرات جليلة، منها التوكل علي الله عز وجل، والتوكل علي الله اعاتماد الإنسان علي ربه_ عز وجل_ في ظاهره وباطنه، في جلب المنافع ودفع المضار: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق: من الآية3) . ففي هاتين المرتبتين_ اليقين والتوكل_ يحصل للإنسان مقصده في الدنيا والآخرة، ويستريح ويعيش مطمئنا سعيدا، لأنه موقن بكل ما اخبر الله به ورسوله ومتوكل علي الله عز وجل. ثم ذكر المؤلف آيات في هذا الباب، منها قوله تعالى: (وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) . الأحزاب: طوائف من قبائل متعددة تألبوا علي رسول الله صلي الله عليه وسلم واجتمعوا علي حربه، وتجمع نحو عشرة آلاف مقاتل من قريش وغيرهم، وحاصروا المدينة، ليقضوا علي النبي صلي الله عليه وسلم، وحصل في هذه الغزوة أزمة عظيمة علي أصحاب الرسول صلي الله عليه وسلم قال الله تبارك وتعالي في وصفها: (وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ) من شدة الخوف (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) الظنون البعيدة) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) فاقسم الناس في هذه الأزمة العصيبة العظيمة إلى قسمين، بينهما الله_ عز وجل_ في هذه الآيات قال: (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) . القسم الأول: قال الله عنهم:) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) (الأحزاب: 12) المنافقون الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، والذين في قلوبهم مرض من المؤمنين وعندهم نقص في يقينهم،(1/539)
قالوا: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا، قالوا: كيف يقول
محمد انه سيفتح كسري ويقصر وصنعاء، وهو الآن محاصر من هؤلاء الناس. كيف يمكن هذا؟ فقالوا:) مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) (الأحزاب: من الآية12) . أما القسم الثاني: المؤمن، قال الله عنهم:) وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) (الأحزاب: من الآية22) وانظر إلى الفرق بين الطائفتين، هؤلاء لما رأوا الأحزاب، ورأوا هذه الشدة، علموا انه سيعقبها نصر وفرج، وقالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، فسيكون النصر وستفتح ممالك قيصر وكسري واليمن، وهكذا كان ولله الحمد.
والشاهد قوله: (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) (الأحزاب: من الآية22) وهذا غاية اليقين، إن يكون الإنسان عند الشدائد، وعند الكرب، ثابتا مؤمنا موقنا، عكس من كان توكله ويقينه ضعيفا، فانه عند المصائب والكرب ربما ينقلب على وجهه، كما قال الله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) (الحج: من الآية11) أي على طرف (فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج: من الآية11) .
كثير من الناس ما دام على عافية فهو مطمئن، ولكن إذا ابتلي_ والعياذ بالله_ انقلب على وجهه، فربما يصل إلى حد الردة والكفر، ويعترض على الله بالقضاء والقدر، ويكره تقدير الله، وبالتالي يكره الله_ والعياذ بالله، لأنه كان في الأول لم يصبه أذى ولا فتنة، ولكنه في الثاني أصابته الفتنة فانقلب على وجهه.(1/540)
وفي هذه الآيات وأشباهها دليل على انه ينبغي للإنسان إن يخاف، ويوجل، ويخشى من زيغ القلب، ويسال الله دائما الثبات، فانه ما من قلب من قلوب بني آدم إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبه كيف يشاء، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه والعياذ بالله.
فنسال الله مقلب القلوب إن يثبت قلوبنا على طاعته، وإن يرزقنا الاستقامة على دينه والثبات عليه.
الآية الثانية: قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران: 173) .
هذه الآية نزلت في الصحابة_ رضي الله عنهم_ حيث حصل عليهم ما حصل في غزوة أحد، مما أصابهم من القرح والجروح الشهداء، فقيل لهم: إن أبا سفيان كان قد عزم على الكرة عليكم، وجمع لكم الناس، فندبهم النبي عليه الصلاة والسلام إلى ملاقاته ومقابلته، فاستجابوا الله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، ووأصيبوا بهذه النكبة العظيمة، فقتل منهم سبعون رجلا استشهدوا في سبيل الله، وحصل للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره من صحابته_ رضي الله عنهم_ ما حصل، ومع هذا استجابوا لله وللرسول.
قال الله تعالى: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظم (ِ172الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) (آل عمران: من الآية173) ، يعني إن أبا سفيان ومن معه ممن بقي من كبراء قريش جمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم يريدون استئصاله، ولكن يأبى الله إلا إن يتم نوره.
قيل للصحابة: اخشوا هؤلاء، ولكنهم ازدادوا إيمانا لان المؤمن(1/541)
كلما اشتدت به الأزمات ازداد إيمانا بالله، لأنه يؤمن بان النصر مع الصبر وإن الفرج مع الكرب وإن مع العسر يسران ولهذا زادهم إيمانا هذا القول وقالوا: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (حَسْبُنَا) أي كافينا في مهماتنا وملماتنا (وَنِعْمَ الْوَكِيل) انه نعم الكافي جل وعلا فانه نعم المولى ونعم النصير.
ولكنه إنما يكون ناصرا لمن انتصر به واستنصر به، فانه_ عز وجل_ اكرم الاكرمين وأجود الاجودين، فإذا اتجه الإنسان إليه في أموره، أعانه وساعده وتولاه، ولكن البلاء من بني ادم، حيث يكون الإعراض كثيرا في الإنسان، ويعتمد على الأمور المادية دون الأمور المعنوية.
قال تعالى: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) ذهبوا ولكنهم لم يجدوا كيدا، وآبو سفيان ومن معه ولوا على أدبارهم، ولم يكروا على الرسول صلى الله عليه وسلم، فكتبت للصحابة رضي الله عنهم_ غزوة من غير قتال. كتبت هذه الرجعة غزوة من غير قتال، قال الله تعالى: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (آل عمران: 174) .
ثم قال: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 175) .
(يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) أي: يخوفكم انتم أولياءه، أي: يلقي في قلوبكم الخوف من أوليائه، فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين.
فالشيطان يأتي إلى المؤمن، يقول: أحذر إن تتكلم في فلان، لأنه ربما يسجنكن وربما يفعل كذا وكذا، فيخوفكن ولكن المؤمن لا يمكن(1/542)
إن يخاف أولياء الشيطان، لان الله قال: (فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) (النساء: من الآية76) بالنسبة للحق.
فعلى الإنسان إن لا يخاف في الله لومة لائم، وإن لا يخاف إلا الله، ولكن يجب إن يكون سيره على هدى من الله عز وجل، فإذا كان سيره على هدى من الله، فلا يخاف أحدا.
الآية الثالثة: قوله تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) (الفرقان: من الآية58) وهو الله عز وجل، اعتمد عليه في أمورك كلها، دقيقها وجليلها، لان الله_ عز وجل_ إذا لم ييسر لك الأمور لم يتيسر لك، ومن أسباب تيسيره، أن تتوكل عليه، لا سيما إذا داهمتك الأمور، وكثرت الهموم، وازدادت الخطوب، فانه لا ملجأ لك إلا الله عز وجل، فعليك بالتوكل عليه والاعتماد عليه حتى يكفيك.
وفي قوله تعالى: (الَّذِي لا يَمُوتُ) دليل على امتناع الموت على الرب عز وجل، قال الله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام) (الرحمن: 27) ، فالله عز وجل_ لا يموت لكمال حياته، فانه هو الأول الذي ليس قبله شئ، وهو الآخر الذي ليس بعده شئ، ثم انه سبحانه وتعالى_ لا ينام أيضا، لكمال حياته وقيوميته قال الله تعالى: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (البقرة: من الآية255) أما الإنس والجن فانهم ينامون ويموتون، وأما الرب_ عز وجل_ فانه لا ينام، لأنه غني عن النوم، أما البشر فانهم في حاجة إلى النوم، لان الأبدان تتعب وتسام وتمل، والنوم راحة عما مضى من التعب، وتجديد نشاط عما(1/543)
يستقبل من العمل، وأما الله سبحانه وتعالى فلا تأخذه سنة ولا نوم.
وقال الله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق: من الآية3) أي: كافيه، فإذا توكلت على الله كفاك كل شئ، وإذا توكلت على غير الله وكلك الله عليه، ولكنك تخذل ولا تتحقق لك أمورك.
وقال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (: 2)) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً) (لأنفال: من الآية4) .
قوله: (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ) أي: إذا ذكرت عظمته وجلاله وسلطانه، خافت القلوب، ووجلتن وتأثر الإنسان، حتى إن بعض السلف إذا تليت عليه آيات الخوف يمرض أياما حتى يعوده الناس، أما نحن فقلوبنا قاسية، نسأل الله إن يلينهان فانه تتلى علينا آيات الخوف وتمر وكأنها شراب بارد، فلا نتأثر بذلك، ولا نتعظ إلا من رحم الله، نسأل الله العافية.
لكن المؤمن: هو الذي إذا ذكر الله وجل قلبه وخاف.
كان بعض السلف إذا قيل له: اتق الله ارتعد، حتى يسقط ما في يده. (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً) (لأنفال: من الآية2) إذا سمعوا كلام الله_ عز وجل_ ازدادوا إيمانا من وجهين:
الوجه الأول: التصديق بما اخبر الله به من أمور الغيب الماضية والمستقبلة.
الوجه الثاني: القبول والإذعان لأحكام الله، فيمتثلون ما أمر الله به، فيزداد بذلك إيمانهم وينتهون عما نهى الله عنه، تقربا إليه وخوفا منه،(1/544)
فيزداد أيمانهم فهم إذا تليت عليهم آياته ازدادوا إيمان من هذين الوجهين.
وهكذا إذا رأيت من نفسك انك كلما تلوت القران ازددت إيمانا، فان هذا من علامات التوفيق.
أما إذا كنت تقرا القران ولا تتأثر به، فعليك بمداواة نفسك، لا أقول إن تذهب إلى المستشفى، لتأخذ جرعة من حبوب أو مياه أو غيرها، ولكن عليك بمداواة القلب، فان القلب إذا لم ينتفع بالقران ولم يتعظ به، فانه قلب قاس مريض، نسأل الله العافية.
فأنت يا أخي طبيب نفسكن لا تذهب إلى الناس، أقرا القران فان رأيت انك تتأثر به إيمان وتصديقا وامتثالا فهنئا لك، فأنت مؤمن، وإلا فعليك بالدواء، داو نفسك من قبل إن يأتيك موت لا حياة بعده، وهو موت القلب، أما موت الجسد فبعده حياة، وبعده بعث وجزاء وحساب.
وقوله عز وجل: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) على ربهم فقط يتوكلون! أي: يفوضون أمورهم كلها إلى مالكهم ومدبرهم خاصة، لا إلى أحد سواه، كما يدل عليه تقديم المعمول على عامله، والجملة معطوفة على الصلة، إشارة إلى الاختصاص والحصر، وانهم لا يتوكلون إلا على الله عز وجلن لان غير الله إذا توكلت عليه، فإنما توكلت على شخص مثلك، ولا يحرص على منفعتك كما تحرص أنت على منفعة نفسك، ولكن اعتمد على الله_عز وجل_ في أمور دينك ودنياك.
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) .(1/545)
يقيمون الصلاة: يأتون بها مستقيمة بواجباتها وشروطها وأركانها، ويكملونها بمكملاتها، ومن ذلك إن يصلوها في أوقاتها، ومن ذلك إن يصلوها مع المسلمين في مساجدهم، لان صلاة الجماعة كان لا يختلف عنها إلا منافق أو معذور، قال ابن مسعود رصي الله عنه: ((لقد رايتنا_ يعني مع الرسول عليه الصلاة والسلام_ وما يختلف عنها_ أي عن الصلاة_ إلا منافق معلوم النفاق أو مريض، ولقد كان الرجل يؤتي به يهادي بين الرجلين، يعني مريض ويحمله رجلان اثنان، حتى يقام في الصف)) لا يثنيهم عن الحضور إلى المساجد حتى المرض رضي الله عنهم. أما كثير من الناس اليوم، فانهم علي العكس من ذلك، فتراهم يتكاسلون ويتأخرون عن صلاة الجماعة. ولهذا لو قارنت بين الصلوات النهارية وصلاة الفجر، لرأيت فرقا بينا، لان الناس يلحقهم الكسل في صلاة الفجر من نوم، ولا يهتمون بها كثيرا. (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة: من الآية3) أي: ينفقون أموالهم في مرضاة الله، وحسب أوامر الله، وفي المحل المناسب. (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً) (لأنفال: من الآية74) حقا: توكيد
للجملة التي قبلها، أي: أحق ذلك حقا. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال: من الآية74) نسأل الله إن يجعلنا وإياكم منهم بمنه وكرمه،(1/546)
انه جواد كريم. وأما الأحاديث: 74_ فالأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد إذ رفع لي سواد عظيم فظننت انهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي هذه أمتك، ومعهم سبعون ألف يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب)) ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلي الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام، فلم يشركوا بالله شيئا_ وذكروا أشياء_ فخرج عليهم رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: ((ما الذي تخوضون فيه؟)) فاخبروه فقال: ((هم الذين لا يرون، ولا يسترقون ولا يتطيرون، وعلي ربهم يتوكلون)) فقام عكاشة بن محصن فقال، ادع الله إن يجعلني منهم، فقال: ((أنت منهم)
) ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله إن يجعلني منهم فقال: ((سبقك بها عكاشة)) متفق عليه.(1/547)
((الرهيط)) بضم الراء: تصغير رهط، وهم دون عشرة انفس. ((والأفق)) : الناحية والجانب. ((وعكاشة)) بضم العين وتشديد الكاف وبتخفيفها والتشديد افصح. الشرح بعدما ساق المؤلف_ رحمه الله تعالى_ الآيات، ذكر هذا الحديث العظيم، الذي اخبر فيه النبي صلي الله عليه وسلم إن الأمم عرضت عليه، أي: أرى الأمم عليه الصلاة والسلام وأنبياءهم. يقول: ((فرأيت النبي ومعه الرهيط)) أي: معه الرهط القليل، ما بين الثلاثة إلى العشرة. ((والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد)) أي: إن الأنبياء_ عليهم الصلاة والسلام_ ليسوا كلهم قد أطاعهم قوهم، بل بعضهم لم يطعه أحد من قومهم، وبعضهم أطاعه الرهط، وبعضهم أطاعه الرجل والرجلان، وانظر إن نوحا عليه الصلاة والسلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، يذكرهم بالله، ويدعوهم إلى الله، قال الله تعالى: (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) (هود: من الآية40) ، كل هذه المدة ولم يلق منهم قبولا، بل ولا سلم من شرهم، قال نوح: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا
أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً) (نوح: 7) ، وكانوا يمرون به ويسخرون منه. يقول: ((رفع لي سواد)) أي: بشر كثير فيهم جهمة من كثرتهم فظننت انهم أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه)) لان موسى من اثر الأنبياء اتباعا،(1/548)
بعث في بني إسرائيل، وانزل الله عليه التوراة التي هي أم الكتب الإسرائيلية. قال: ((ثم قيل لي انظر! فنظرت إلى الأفق فإذا سواد عظيم_ وفي لفظ: قد سد الأفق_ فقيل: انظر الأفق الثاني! فنظرت إليه فإذا سواد عظيم، فقيل لي هذه أمتك)) فالرسول صلي الله عليه وسلم اكثر الأنبياء تابعا، لأنه منذ بعث إلى يوم القيامة والناس يتبعونه، صلوات الله وسلامه عليه، فكان اكثر الأنبياء تابعا، قد ملا اتباعه ما بين الأفقين. ((ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب)) أي: مع هذه الأمة سبعون ألفا يدخلون الجنة، لا يحاسبون، ولا يعذبون، من الموقف إلى الجنة بدون حساب ولا عذاب! اللهم اجعلنا منهم. وقد ورد إن مع كل واحد من السبعين ألف سبعين ألفا أيضا. ((ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك ... قال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلي الله
عليه وسلم_ يعني لعلهم الصحابة رضي الله عنهم_، وقال آخرون: ((لعلهم الذين ولدوا في الإسلام، فلم يشركوا بالله شيئا وذكروا أشياء)) وكل أتى بما يظن، فخرج عليهم النبي صلي الله عليه وسلم فسألهم عما يخوضون فيه فاخبروه فقال صلي الله عليه وسلم ((هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يكتبون ولا يتطيرون وعلي ربهم يتوكلون)) هذا لفظ مسلم وفيه: ((لا يرقون)) . والمؤلف رحمه الله قال: انه متفق عليه، وكان ينبغي إن يبين إن هذا اللفظ لفظ مسلم فقط دون رواية البخاري، وذلك إن قوله: ((لا يرقون))(1/549)
كلمة غير صحيحة، ولا تصح عن النبي علبه الصلاة والسلام، لان معني ((لا يرقون)) أي لا يقرؤون علي المرضي، وهذا باطل، فان الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرقي المرضي. وأيضا القراءة علي المرضي إحسان، فكيف يكون انتفاؤها سببا لدخول الجنة بغير حساب ولا عذاب. فالمهم إن هذه اللفظة لفظة شاذة، وخطا لا يجوز اعتمادها، والصواب: ((هم الذين لا يسترقون)) أي: لا يطلبون من أحد إن يقرا عليهم إذا أصابهم شئ، لانهم معتمدون علي الله، ولان الطلب فيه شئ من الذل، لأنه سؤال الغير، فربما تحرجه ولا يريد إن يقرا، وربما إذا قرا عليك لا يبرا
المرض فتتهمه، وما أشبه ذلك، لهذا قال لا يسترقون. قوله: ((ولا يكتوون)) يعني: لا يطلبون من أحد إن يكويهم إذا مرضوا، لان الكي عذاب بالنار، لا يلجا إليه إلا عند الحاجة. وقوله: ((ولا يتطيرون)) يعني: لا يتشاءمون لا بمرئي، ولا بمسموع، ولا بمشموم، ولا بمذوق، يعني: لا يتطيرون أبدا. وقد كان العرب في الجاهلية يتطيرون، فإذا طار الطير وذهب نحو اليسار تشاءموا، وإذا رجع تشاءموا، وإذا تقدم نحو الإمام صار لهم نظر آخر، وكذلك نحو اليمين وهكذا. والطيرة محرمة، لا يجوز لاحد إن يتطير لا بطيور، ولا بأيام، ولا بشهور، ولا بغيرها، وتطير العرب فيما سبق بشهر شوال إذا تزوج الإنسان فيه، ويقولون: إن الإنسان إذا تزوج في شهر شوال لم يوفق، فكانت(1/550)
عائشة رضي الله عنها تقول: ((سبحان الله، إن النبي صلي الله عليه وسلم تزوجها في شوال، ودخل بها في شوال، وكانت احب نسائه إليه)) كيف يقال إن الذي يتزوج في شوال لا يوفق. وكانوا يتشاءمون بيوم الأربعاء، ويوم الأربعاء يوم كأيام الأسبوع ليس فيه تشاؤم. وكان بعضهم يتشاءم بالوجوه، إذا راء وجها ينكره تشاءم، حتى إن بعضهم إذا فتح دكانه، وكان أول من يأتيه رجل اعور أو اعمي، اغلق دكانه،
وقال اليوم لا رزق فيه. والتشاؤم، كما انه شرك اصغر، فهو حسرة علي الإنسان، فيتألم من كل شئ يراه، لكن لو اعتمد علي الله وترك هذه الخرافات، لسلم، ولصار عيشه صافيا سعيدا. أما قوله: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فمعناه: انهم يعتمدون علي الله وحده في كل شئ، لا يعتقدون علي غيره، لأنه جل وعلا قال في كتابه: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق: من الآية3) ، ومن كان الله حسبه فقد كفي كل شئ. هذا الحديث العظيم فيه صفات من يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب. فهذه أربع صفات: لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلي ربهم يتوكلون. والشاهد للباب قوله (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) . فقام عكاشة بن محصن رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله ((ادع الله إن يجعلني منهم)) ، بادر إلى الخير وسبق إليه، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: ((أنت منهم))(1/551)
ولهذا نحن نشهد الآن بان عكاشة بن محصن_ رضي الله عنه_ يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، لان الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: ((أنت منهم)) . ((فقام رجل آخر فقال: ادع الله إن يجعلني منهم! قال: سبق بها عكاشة)) فرده النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه
رد لطيف، لم يقل لست منهم، بل قال: ((سبقك بها عكاشة)) . فقيل: لأنه كان يعلم بان هذا الذي قال ادع الله إن يجعلني منهم منافق، والمنافق لا يدخل الجنة، فضلا عن كونه يدخلها بغير حساب ولا عذاب. وقال بعض العلماء: بل قال ذلك من اجل إن لا ينفتح الباب، فيقوم من لا يستحق إن يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، ويقول ادع الله إن يجعلني. وعل كل حال، فنحن لا نعلم علما يقينا بان الرسول صلي الله عليه وسلم لم يدع الله له إلا لسبب معين، فالله اعلم. لكننا نستفيد من هذا فائدة، وهو الرد الجميل من رسول الله صلي الله عليه وسلم، لان قوله: ((سبقك بها عكاشة)) لا يجرحه ولا يحزنه، وسبحان الله، صارت هذه مثلا إلى يومنا هذا، كلما طلب الإنسان شيئا قد سبق به قيل: سبقك بها عكاشة. أورد بعض العلماء إشكالا علي هذا الحديث، وقال: إذا اضطر(1/552)
الإنسان إلى القراءة، أي إلى إن يطلب من أحد إن يقرا عليه، مثل إن يصاب بعين، أو بسحر، أو أصيب بجن واضطر، هل إذا ذهب يطلب من يقرا عليه، يخرج من استحقاق دخول الجنة بغير حساب ولا عذاب؟ فقال بعض العلماء: نعم هذا ظاهر الحديث، وليعتمد علي الله وليتصبر ويسال الله العافية. وقال بعض العلماء: بل إن هذا
فيمن استرقي قبل إن يصاب، أي: بان قال: أقرا علي إن لا تصيبني العين، أو إن لا يصيبني السحر أو الجن أو الحمي، فيكون هذا من باب طلب الرقية لامر متوقع لا واقع، وكذلك الكي. فإذا قال إنسان: الذين يكوون غيرهم هل يحرمون من هذا؟ الجواب: لا! لان الرسول صلي الله عليه وسلم يقول: ((ولا يكتوون)) أي: لا يطلبون من يكويهم، ولم يقل ولا يكوون، وهو عليه الصلاة والسلام قد كوي اكحل سعد بن معاذ رضي الله عنه، فسعد بن معاذ الاوسي الأنصاري_ رضي الله عنه_ أصيب يوم الخندق في أكحله فانفجر الدم، والأكحل إذا انفجر دمه قضي علي الإنسان، فكواه النبي صلي الله عليه وسلم في العرق حتى وقف الدم، والنبي صلي الله عليه وسلم هو أول من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب. فالذين يكوون محسنون، والذين يقرؤون علي الناس محسنون، ولكن الكلام علي الذين يسترقون، أي يطلبون من يقرا عليهم، او(1/553)
يكتوون، أي: من يطلبون من يكويهم، والله الموفق. 76_ الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم صلي الله عليه وسلم حين القي في النار وقالها محمد صلي الله عليه وسلم حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا
وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل)) رواه البخاري. وفي رواية له عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان آخر قول إبراهيم صلي الله عليه وسلم حين القي في النار: ((حسبي الله ونعم الوكيل)) . الشرح وإبراهيم ومحمد_ علهما الصلاة والسلام_ هما خليلان لله عز وجل. قال الله تعالى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) (النساء: من الآية125) ، وقال النبي صلي الله عليه وسلم: ((إن الله قد اتخذ خليلا كما أتتخذ إبراهيم خليلا)) والخليل: معناه الحبيب الذي بلغت محبته الغاية، ولا نعلم إن أحد وصف بهذا الوصف إلا محمدا صلي الله عليه وسلم وإبراهيم، فهما الخليلان. وانك تسمع أحيانا يقول بعض الناس: إبراهيم خليل الله، ومحمد حبيب الله، وموسى كليم الله.(1/554)
والذي يقول: إن محمدا حبيب الله في كلامه نظر، لان الخلة ابلغ من المحبة، فإذا قال: محمد حبيب الله، فهذا فيه نوع نقص من حق الرسول عليه الصلاة والسلام، لان أحباب الله كثيرون، فالمؤمنون يحبهم الله، والمحسنون والمقسطون يحبهم الله، والأحباب كثيرون لله. لكن الخلة لا نعلم إنها ثبتت إلا لمحمد وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وعلي هذا فنقول: الصواب إن يقال: إبراهيم خليل
الله، ومحمد خليل الله، ومسي كليم الله عليهم الصلاة والسلام. علي إن محمدا صلي الله عليه وسلم قد كلمه الله_ سبحانه وتعالى_ كلاما بدون واسطة، حيث عرج به إلى السماوات السبع. هذه الكلمة: ((حسبنا الله ونعم الوكيل)) قالها إبراهيم حينما القي في النار، وذلك إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأبوا، وأصروا علي الكفر والشرك. فقام ذات يوم علي أصنامهم فكسرها، وجعلهم جذاذا، إلا كبيرا لهم، فلما رجعوا وجدوا آلهتهم كسرت، فانتقموا_ والعياذ بالله_ لأنفسهم. فقالوا ما نصنع يا إبراهيم؟ (قَالُوا حَرِّقُوهُ) (الأنبياء: من الآية68) انتصارا لآلهتهم (وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) (الأنبياء: من الآية68) فأوقدوا نار عظيمة جدا، ثم رموا إبراهيم في هذه النار. ويقال انهم لعظم النار لم يتمكنوا من القرب منها، وانهم رموا إبراهيم فيها بالمنجنيق من بعد، فلما رموه قال: ((حسبنا الله ونعم الوكيل)) فما الذي حدث؟(1/555)
قال الله تعالى: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء: 69) ، بردا: ضد حر، وسلاما: ضد هلاكا، لان النار حارة ومحرقة
ومهلكة، فأمر الله هذه النار إن تكون بردا وسلاما عليه، فكانت بردا وسلاما. والمفسرون بعضهم ينقل عن بني إسرائيل في هذه القصة، إن الله لما قال (يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء: من الآية69) صارت جميع نيران الدنيا بردا! وهذا ليس بصحيح، لان الله وجه الخطاب إلى نار معينة (يَا نَارُ كُونِي بَرْداً) وعلماء النحو يقولون انه إذا جاء التركيب علي هذا الوجه، صار نكرة مقصودة، أي: لا يشمل كل نار، بل هو للنار التي القي غيها إبراهيم فقط، وهذا هو الصحيح، وبقية نيران الدنيا بقيت علي ما هي عليه. وقال العلماء أيضا: ولما قال الله (كُونِي بَرْداً) قرن ذلك بقوله: (وَسَلاماً) لأنه لو اكتفي بقوله: (بَرْداً) لكانت بردا حتى تهلكه، لان كل شئ يمتثل لامر الله عز وجل، انظر إلى قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) (فصلت: من الآية11) فماذا قالتا: (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (فصلت: من الآية11) ، (قَالَتَا أَتَيْنَا) منفادين لامر الله عز وجل. أما الخليل الثاني الذي قال: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ) فهو النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه، حين رجعوا من أحد، قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم، يريدون إن يأتوا إلى المدينة ويقضوا عليكم فقالوا: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) . قال الله تعالى: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (آل عمران: 174)(1/556)
فينبغي لكل إنسان راء من الناس جمعا له، أو عدوانا عليه، إن يقول: ((حسبنا الله ونعم الوكيل)) فإذا قال هكذا كفاه الله شرهم، كما كفي إبراهيم ومحمدا عليهما الصلاة والسلام، فجعل هذه الكلمة دائما علي بالك، إذا رأيت من الناس عدوانا عليك فقل: ((حسبي الله ونعم الوكيل)) يكفك الله عز وجل شرهم وهمهم. والله الموفق. 79_ السادس عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول اله صلي الله عليه وسلم يقول: ((لو إنكم تتوكلون علي الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصا وتروح بطانا)) رواه الترمذي، وقال: ((حديث حسن)) . معناه: تذهب أول النهار خماصا: أي: ضامرة البطون من الجوع وترجع آخر النهار بطانا: أي: ممتلئة البطون. الشرح يقول النبي عليه الصلاة
والسلام حاثا أمته علي التوكل ((لو إنكم تتوكلون علي الله حق توكله)) أي: توكلا حقيقيا، تعتمدون علي الله _ عز وجل _ اعتمادا تاما في طلب رزقكم وفي غيره ((لرزقكم كما يرزق الطير))(1/557)
الطير رزقها علي الله عز وجل، لانها طيور ليس لها مالك، فتطير في الجو، وتغدوا إلى أوكارها، وتستجلب رزق الله عز وجل. ((تغدوا خماصا)) تغدوا: أي تذهب أول النهار، لان الغدوة هي أول النهار. وخماصا يعني: جائعة كما قال الله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة: من الآية3) ، مخمصة: يعني مجاعة. ((تغدوا خماصا)) يعني جائعة: ليس في بطونها شئ، لكنها متوكلة علي ربها عز وجل. ((وتروح)) أي ترجع في آخر النهار، لان الرواح هو آخر النهار. ((بطانا)) أي ممتلئة البطون، من رزق الله عز وجل. ففي هذا دليل علي مسائل: أولا: انه ينبغي للإنسان إن يعتمد علي الله_ تعالى_ حق الاعتماد. ثانيا: انه ما من دابة في الأرض إلا علي الله رزقها، حتى الطير في جو السماء، لا يمسكه في جو السماء إلا الله، ولا يرزقه إلا الله عز وجل. كل دابة في الأرض، من اصغر ما يكون كالذر، أو اكبر ما
يكون، كالفيلة وأشباهها، فان علي الله رزقها، كما قال الله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا) (هود: من الآية6) ، ولقد ضل ضلالا مبينا من أساء الظن بربه، فقال لا تكثروا الأولاد، تضيق عليكم الأرزاق! كذبوا ورب العرش، فإذا اكثروا من الأولاد اكثر الله في رزقهم، لأنه ما من دابة علي الأرض إلا علي الله رزقها، فرزق أولادك وأطفالك علي الله عز وجل، هو الذي يفتح لك أبواب الرزق من اجل إن تنفق عليهم، لكن كثير(1/558)
من الناس عندهم سوء ظن بالله، ويعتمدون علي الأمور المادية المنظورة، ولا ينظرون إلى المدى البعيد، والي قدرة الله عز وجل، وانه هو الذي يرزق ولو كثر الأولاد. اكثر من الأولاد تكثر لك الأرزاق، هذا هو الصحيح. وفي هذا دليل_ أيضا_ علي إن الإنسان إذا توكل علي الله حق التوكل فليفعل الأسباب. ولقد ضل من قال لا افعل السبب، وأنا متوكل، فهذا غير صحيح، المتوكل: هو الذي يفعل الأسباب متوكلا علي الله عز وجل، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((كما يرزق الطير تغدوا خماصا)) تذهب لتطلب الرزق، ليست الطيور تبقي في أوكارها، لكنها تغدوا وتطلب
الرزق. فأنت إذا توكلت علي الله حق التوكل، فلا بد إن تفعل الأسباب التي شرعها الله لك من طلب الرزق من وجه حلال بالزراعة، أو التجارة، بأي شئ من أسباب الرزق، اطلب الرزق معتمدا علي الله، ييسر الله لك الرزق. ومن فوائد هذا الحديث: إن الطيور وغيرها من مخلوقات الله تعرف الله، كما قال الله تعالى:) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (الإسراء: من الآية44) ، يعني: ما من شئ إلا يسبح بحمد الله) (وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) . (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (الحج: من الآية18) .(1/559)
فالطيور تعرف خالقا عز وجل، وتطير تطلب الرزق بما جلبها الله عليه من الفطرة التي تهتدي بها إلى مصالحها، وتغدو إلى أوكارها في آخر النهار بطونها ملا، وهكذا دواليك في كل يوم،
والله عز وجل يرزقها وييسر لها الرزق. وانظر إلى حكمة الله، كيف تغدو هذه الطيور إلى محلات بعيدة، وتهتدي بالرجوع إلى أماكنها، لا تخطئها، لان الله_ عز وجل_ أعطي كل شئ خلقه ثم هدي. والله الموفق. 80_ السابع: عن أبي عمارة البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((يا فلان، إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، والجات ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجي منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فانك إن مت من ليلتك مت علي الفطرة، وان أصبحت أصبت خيرا)) متفق عليه وفي رواية في الصحيحين عن البراء قال: قال لي رسول الله صلي الله عليه وسلم ((إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضؤك للصلاة، ثم اضطجع علي شقك الأيمن وقل: وذكر نحوه، ثم قال: واجعلهن آخر ما تقول)) .(1/560)
الشرح ثم ذكر المؤلف_ في باب اليقين والتوكل_ حديث البراء ابن عازب رضي الله عنهما، حيث أوصاه النبي صلي الله عليه وسلم إن يقول عند نومه، إذا أوى إلى فراشه، إن يقول هذا الذكر، الذي يتضمن تفويض الإنسان أمره إلى ربه، وانه معتمد علي الله في ظاهره وباطنه، مفوض
أمره إليه. وفيه إن النبي صلي الله عليه وسلم أمره إن يضجع إلى الجنب الأيمن، لان ذلك هو الأفضل، وقد ذكر الأطباء إن النوم علي الجني الأيمن افضل للبدن، واصح من النوم علي الجنب الأيسر. وذكر أيضا بعض أرباب السلوك والاستقامة، انه اقرب في استيقاظ الإنسان، لان بالنوم علي الجنب الأيسر ينام القلب، ولا يستيقظ بسرعة، بخلاف النوم علي الجنب الأيمن، فانه يبقي القلب متعلقا، ويكون اقل عمقا في منامه فيستيقظ بسرعة. وفي هذا الحديث: إن النبي صلي الله عليه وسلم أمره إن يجعلهن آخر ما يقول، مع إن هناك ذكرا بل أذكار عند النوم تقال غير هذه، مثلا: التسبيح والتحميد، والتكبير، فانه ينبغي للإنسان إذا نام علي فراشه إن يقول: سبحان الله ثلاث وثلاثين، والحمد لله ثلاث وثلاثين، والله اكبر أربع وثلاثين، هذا من الذكر، لكن حديث البراء_ رضي الله عنه_ يدل علي إن ما أوصاه الرسول صلي الله عليه وسلم به إن يجعلهن آخر ما يقول. وقد اعد البراء بن عازب_ رضي الله عنه_ هذا الحديث عن النبي صلي الله عليه وسلم، ليتقنه، فقال: ((آمنت بكتابك الذي أنزلت ورسولك الذي أرسلت))(1/561)
فرد عليه النبي عليه الصلاة والسلام، وقال قل: ((ونبيك الذي أرسلت))
ولا تقل: ((ورسولك الذي أرسلت)) . قال أهل العلم: وذلك لان الرسول يكون من البشر ويكون من الملائكة، كما قال الله عن جبريل:) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) (التكوير: 20، 19) ، وأما النبي صلي الله عليه وسلم فلا يكون إلا من البشر. فإذا قال: ((ورسولك الذي أرسلت)) فان اللفظ صالح، لان يكون المراد به جبريل عليه الصلاة والسلام، لكن إذا قال: ((ونبيك الذي أرسلت)) اختص بمحمد صلي الله عليه وسلم، هذا من وجه، ومن وجه آخر: انه إذا قال: ((ورسولك الذي أرسلت)) فان دلالة هذا اللفظ علي النبوة من باب دلالة الالتزام، وأما إذا قال: ((نبيك)) فانه يدل علي النبوة دلالة مطابقة، ومعلوم إن دلالة المطابقة اقوي من دلالة الالتزام. الشاهد من هذا الحديث قوله: ((وفوضت أمري إليك)) وقوله: ((لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك)) فان التوكل: تفويض الإنسان أمره إلى ربه، وانه لا يلجا ولا يطلب منجى من الله إلا إلى الله عز وجل، لأنه إذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له، فإذا أراد الله بالإنسان شيئا فلا مرد له إلا الله عز وجل، يعني: إلا إن يلجا إلى ربك_ سبحانه وتعالى_ بالرجوع
إليه. فينبغي للإنسان إذا أراد النوم إن ينام علي جنبه الأيمن، وان يقول هذا الذكر، وان يجعله آخر ما يقول. والله الموفق.(1/562)
81_ الثامن: عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي رضي الله عنه_ وهو وأبوه وأمه صحابة، رضي الله عنهم_ قال: نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم علي رؤوسنا فقلت: يا رسول الله لو إن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا. فقال: ((ما أظنك يا أبا بكر باثنين علي الله ثالثهما)) متفق عليه. الشرح قوله: ((ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما)) أي: ما ظنك، هل أحد يقدر عليهما أو ينالهما بسوء؟ وهذه القصة كانت حينما هاجر النبي صلي الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وذلك إن رسول الله صلي الله عليه وسلم لما جهر بالدعوة، ودعا الناس، وتبعوه، وخاف المشركون، وقاموا ضد دعوته، وضايقوه، أذوه بالقول وبالفعل، فأذن الله له بالهجرة من مكة إلى المدينة ولم يصحبه إلا آبو بكر رضي الله عنه، والدليل، والخادم، فهاجر بأمر الله، وصحبه آبو بكر رضي الله عنه. ولما سمع المشركون بخروجه من مكة، جعلوا لمن جاء به مائتي(1/563)
بعير، ولمن جاء بابي بكر مائة بعير، وصار الناس يطلبون الرجلين في الجبال، وفي الأودية وفي المغارات، وفي كل مكان، حتى وقفوا علي الغار الذي فيه النبي صلي الله عليه وسلم وأبو بكر، وهو غار ثور الذي اختفيا فيه ثلاث ليال، حتى يبرد عهما الطلب، فقال آبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصرنا، لأننا في الغار تحته، فقال: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما)) وفي كتاب الله انه قال: (ِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة: من الآية40) ، فيكون قال الأمرين كلاهما، أي: قال: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما)) وقال (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) . فقوله: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما)) يعني: هل أحد يقدر عليهما بأذية أو غير ذلك؟ والجواب: لا أحد يقدر، لأنه لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع، ولا مذل لمن اعز ولا معز لمن أذل: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران: 26) . وفي هذه القصة: دليل علي كمال توكل
النبي صلي الله عليه وسلم علي ربه، وانه معتمد عليه، ومفوض إليه أمره، وهذا هو الشاهد من وضع هذا الحديث في باب اليقين والتوكل. وفيه دليل علي أن قصة نسج العنكبوت غير صحيحة، فما يوجد في بعض التواريخ، أن العنكبوت نسجت علي باب الغار، وانه نبت فيه شجرة، وانه كان علي غصنها حمامة، وان المشركين لما جاءوا إلي الغار(1/564)
قالوا هذا ليس فيه أحد، فهذه الحمامة علي غصن شجرة علي بابه، وهذه العنكبوت قد عششت علي بابه، كل هذا لا صحة له، لان الذي منع المشركين من رؤية النبي صلي الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر ليست أمورا حسية_ تكون لها ولغيرها_ بل هي أمور معنوية، وآية من آيات الله عز وجل، حجب الله أبصار المشركين عن رؤية الرسول عليه الصلاة والسلام، وصاحبه آبي بكر رضي الله عنه، أما لو كان أمور حسية، مثل العنكبوت التي نسجت، والحمامة، والشجرة، فكلها أمور حسية، كل يختفي بها عن غيره، لكن الأمر آية من آيات الله عز وجل، فالحاصل أن ما يذكر في كتب التاريخ في هذا لا صحة له، بل الحق الذي لا شك فيه، أن الله _ تعالى_ اعمي أعين المشركين عن رؤية النبي صلي الله عليه وسلم وصاحبه_ رضي الله عنه_ في الغار. والله الموفق. 82_ التاسع: عن
أم المؤمنين أم سلمة، واسمها هند بنت آبي أمية حديقة المخزومية، رضي الله عنها أن النبي صلي الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيته قال: بسم الله، توكلت علي الله، اللهم إني أعوز بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو اظلم أو اظلم، أو اجهل أو يجهل علي)) حديث صحيح رواه(1/565)
أبو داود، والترمذي وغيرهما بأسانيد صحيحة. قال الترمذي: حديث حسن صحيح وهذا لفظ آبي داود. 83_ العاشر: عن انس رضي الله عنه قال: قال رسول اله صلي الله عليه وسلم: ((من قال_ يعني إذا خرج من بيته_ بسم الله توكلت علي الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هديت وكفيت ووقيت، وتنحي عنه الشيطان)) رواه أبو داود والترمذي، والنسائي وغيرهم. وقال الترمذي: حديث حسن، زاد أبو داود: ((فيقول: _يعني الشيطان _ لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟)) . الشرح الشاهد من هذا الحديث قوله: ((بسم الله توكلت علي الله)) فان في هذا دليلا علي أن الإنسان ينبغي له إذا خرج من بيته، أن يقول هذا الذكر، الذي منه التوكل علي الله والاعتصام به، لان الإنسان إذا خرج من بيته فهو عرضة لان يصيبه شئ، أو يعتدي عليه حيوان، من عقرب أو حية أو ما أشبه ذلك، فيقول: (
(بسم الله توكلت علي الله)) وسبق لنا أن التوكل علي الله، والاعتماد عليه من الثقة به وحسن الظن. وقوله: ((اللهم أني أعوذ بك أن أضل)) أي: أضل في نفسي(1/566)
((أو أضل)) أي: يضلني أحد. ((أو أزل)) من الزلل: وهو الخطأ. ((أو أزل)) أي: أحد يتوصل لفعل الخطأ يصدر مني. ((أو اظلم)) او اظلم غيري. ((أو اظلم)) يظلمني غيري. ((أو اجهل)) اسفه. ((أو يجهل علي)) يسفه علي أحد، ويعتدي علي أحد. فهذا الذكر ينبغي أن يقوله الإنسان إذا خرج من بيته، لما فيه من اللجوء إلي الله سبحانه وتعالى والاعتصام به. والله والموفق.(1/567)
8- باب الاستقامة
قال الله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) (هود: من الآية1121) ، وقال تعالى:) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون) َ (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ)) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (فصلت: 32، 30) ، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأحقاف: 41، 13) . الشرح الاستقامة: هي أن يثبت الإنسان علي شريعة الله_ سبحانه وتعالى_ كما أمر الله، ويتقدمها الإخلاص لله عز وجل. ثم ذكر المؤلف عدة آيات في هذا، فذكر قول الله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) الخطاب هنا للنبي صلي الله عليه وسلم يكون له ولامته، إلا إذا قام دليل علي انه خاص به قوله تعالى:) أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)
(وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ) (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) (الشرح: 1_3) ، فان هذا خاص بالنبي صلي الله عليه وسلم. ومثل قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)(1/568)
(الحجر: 87) ، هذا أيضا خاص بالرسول صلي الله عليه وسلم. وأما إذا لم يقل الدليل علي أن الخطاب للخصوصية، فهو له ولامته، وعلي هذه القاعدة يكون قوله:) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) عاما له ولامته، كل واحد يجب عليه أن يستقيم كما أمر، فلا يبدل في دين الله، ولا يزيد فيه ولا ينقص، ولهذا قال في آية أخرى: (وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (الشورى: من الآية15) . الآية الثانية قوله تعالى:) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) (فصلت: من الآية30) . (رَبُّنَا اللَّهُ) أي: خالقنا ومالكن ومدبر أمورنا، فنحن نخلص له، (ثُمَّ اسْتَقَامُوا) علي ذلك، علي قولهم ربنا الله، فقاموا بشريعة الله. هؤلاء الذين اتصفوا بهذين الوصفين: (قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) ملكا بعد ملك (أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا) لا تخافوا: فيما
تستقبلون من أموركم، ولا تحزنوا علي ما مضي من أموركم، (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) لان كل من قال ربي الله، واستقام علي دين الله، فانه من أهل الجنة، ويقولن لهم أيضا: (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) فالملائكة أولياء للذين قالوا ربنا الله ثم(1/569)
استقاموا في الحياة الدنيا، تسددهم وتساعدهم وتعينهم، وكذلك في الآخرة تتلقاهم الملائكة يوم البعث والحساب (هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (الأنبياء: من الآية103) فيبشروهم بالخير في مقام الخوف والشدة. قال الله عز وجل (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) (فصلت: من الآية31) (?لَكُمْ فِيهَا) أي: في الآخرة ما تشتهي أنفسكم، وذلك في نعيم الجنة، لان الجنة فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) (فصلت: من الآية31) أي: تطلبون، بل لهم فوق ذلك: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) (قّ: 35) ، لهم زيادة علي ما يدعونه ويطلبونه ويتمنونه. (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (فصلت: 32) يعني: أن الجنة نزل لهم وضيافة من
غفور رحيم. (غَفُورٍ) غفر لهم سيئاتهم (رَحِيمٍ) بهم، رفع لهم درجاتهم، هذا جزاء الذين يقولون ربنا الله ثم يستقيمون. وفي هذا دليل علي أهمية الاستقامة علي دين الله، بان يكون الإنسان ثابتا لا يزيد، ولا ينقص، ولا يبدل، ولا يغير، فأما من غلا في دين الله، أو جفا عنه، أو بدل فانه لم يكن مستقيما علي شريعة الله عز وجل، والاستقامة لا بد لها من الاعتدال في كل شئ، حتى يكون الإنسان مستقيما علي شريعة الله عز وجل.(1/570)
85_ وعن آبي عمرو، وقيل: آبي عمرة سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا اسأل عنه أحد غيرك؟ قال: ((قل: آمنت بالله، ثم استقم)) رواه مسلم. الشرح قوله: ((قل لي في الإسلام قولا لا اسأل عنه أحدا غيرك)) أي: قل لي قولا لا اسأل عنه أحدا غيرك، فيكون فصلا وحاسما، ولا يحتاج إلي سؤال أحد، فقال له النبي صلي الله عليه وسلم: ((قل: آمنت بالله ثم استقم)) . فقوله عليه الصلاة والسلام: ((قل: آمنت)) ليس المراد بذلك مجرد القول باللسان، فان من الناس من يقول: آمنت بالله واليوم الآخر، وما هم بمؤمنين. ولكن المراد بذلك قول القلب واللسان أيضا. أي: أن يقول الإنسان
بلسانه، بعد أن يقر ذلك في قلبه، ويعتقده اعتقادا جازما لا شك فيه، لأنه لا يكفي الإيمان بالقلب، ولا الإيمان باللسان، لا بد من الإيمان بالقلب واللسان، ولهذا كان النبي عليه الصلاة والسلام_ يقول وهو يدعو الناس إلي الإسلام _ يقول: ((يا أيها الناس قولوا لا اله إلا الله تفلحوا)) فقال: ((قولوا)) أي: بألسنتكم. كما انه لا بد من القول بالقلب. وقوله: ((آمنت بالله)) يشمل الإيمان بوجود الله عز وجل، وبربو بيته، وبألوهيته، وبأسمائه وبصفاته، وبأحكامه، وبأخباره، وكل ما يأتي من(1/571)
قبله_ عز وجل_ تؤمن به، فإذا آمنت بذلك فاستقم علي دين الله، ولا تحد عنه يمينا ولا شمالا، لا تقصر ولا تزد. فاستقم علي الدين، واستقم علي شهادة أن لا اله إلا الله وان محمد رسول الله، وذلك بالإخلاص لله عز وجل، والمتابعة لرسول الله صلي الله عليه وسلم، واستقم علي الصلاة، وعلي الزكاة، والصيام والحج، وعلي جميع شريعة الله. وقوله: ((قل آمنت بالله ثم)) دليل علي أن الاستقامة لا تكون إلا بعد الإيمان، وان من شرط الأعمال الصالحة، أي: من شرط صحتها وقبولها أن تكون مبنية علي الإيمان، فلو أن الإنسان عمل بظاهره علي ما ينبغي، ولكن باطنه
خراب، وفي شك، أو في اضطراب، أو في إنكار وتكذيب، فان ذلك لا ينفعه، ولهذا اتفق العلماء_ رحمهم الله_ علي أن من شروط صحة العبادة وقبولها، أن يكون الإنسان مؤمنا بالله، أي: معترفا به، وبجميع ما جاء من قبله تبارك وتعالى. ويستفاد من هذا الحديث: انه ينبغي للإنسان_ إذا قام بعمل_ أن يشعر بأنه قام به لله، وانه يقوم به بالله، وانه يقوم به في الله، لأنه لا يستقيم علي دين الله إلا بعد الإيمان بالله عز وجل. فيشعر بأنه يقوم به لله، أي مخلصا، وبالله، أي مستعينا، وفي الله، أي متبعا لشرعه، وهذه مستفادة من قوله تبارك وتعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) فالأول: قيام لله، والثاني: قيام به، والثالث: قيام فيه، أي: في شرعه، ولهذا نقول: أن المراد بالسراط المستقيم_ في الآية الكريمة_ هو شرع الله عز وجل(1/572)
الموصل إليه. والله الموفق. 86_ وعن أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((قاربوا وسددوا، واعلموا انه لن ينجو أحد منكم بعمله)) قالوا: ولا انت يا رسول الله؟ قال: ((ولا انا الا ان يتغمدني الله برحمة منه وفضل)) رواه مسلم. و (
(المقاربة)) القصد الذي لا غلو فيه ولا تقصير. و ((السداد)) : الاستقامة والإصابة، و ((يتغمدني)) يلبسني ويسترني. قال العلماء: معني الاستقامة: لزوم طاعة الله تعالى، قالوا: وهي من جوامع الكلم، وهي نظام الأمور، وبالله التوفيق. الشرح هذا الحديث يدل علي أن الاستقامة علي حسب الاستطاعة، وهو قول النبي صلي الله عليه وسلم ((قاربوا وسددوا)) أي: سددوا علي الإصابة، أي: احرصوا علي أن تكون أعمالكم مصيبة للحق بقدر المستطاع، وذلك لان الإنسان مهما بلغ من التقوى، فانه لابد أن يخطئ، كما جاء في الحديث عن النبي صلي الله عليه وسلم انه قال: ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطاءين التوابون)) ، وقال عليه الصلاة(1/573)
والسلام: ((لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجا بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)) فالإنسان مأمور أن يقارب ويسدد بغدر ما يستطيع. ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((واعلموا انه لا ينجوا أحد منكم بعمله)) أي: لن ينجوا من النار بعمله. وذلك لان العمل لا يبلغ ما يجب لله_ عز وجل_ من الشكر، وما يجب له علي عباده من الحقوق، ولكن يتغمد الله_ سبحانه وتعالى_ العبد برحمته فيغفر له. فلما قال: ((لن ينجوا أحد منكم
بعمله)) قالوا له: ولا أنت؟! قال: ((ولا أنا)) حتى النبي عليه الصلاة والسلام لن ينجو بعمله ((إلا أن يتغمدني الله برحمة منه)) . فدل ذلك علي أن الإنسان مهما بلغ من المرتبة والولاية، فانه لن ينجو بعمله، حتى النبي عليه الصلاة والسلام، لولا أن الله من عليه بان غفر له ذنبه ما تقدم منه وما تأخر، ما أنجاه عمله. فان قال قائل: هناك نصوص من الكتاب والسنة تدل علي أن العمل الصالح ينجي من النار ويدخل الجنة، مثل قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97) ، فكيف يجمع بين هذا وبين الحديث السابق؟(1/574)
والجواب عن ذلك: أن يقال: يجمع بينهما بان المنفي دخول الإنسان الجنة بالعمل في المقابلة، أما المثبت: فهو أن العمل سبب وليس عوضا. فالعمل_ لا شك_ انه سبب لدخول الجنة والنجاة من النار، لكنه ليس هو العوض، وليس وحده الذي يدخل به الإنسان الجنة، ولكن فضل الله ورحمته هما السبب في دخول الجنة وهما اللذان يوصلان الإنسان إلى الجنة وينجيانه من النار. وفي هذا الحديث من الفوائد:
أن الإنسان لا يعجب بعمله، مهما عملت من الأعمال الصالحة لا تعجب بعملك، فعملك قليل بالنسبة لحق الله عليك. وفيه أيضا من الفوائد: انه ينبغي علي الإنسان أن يكثر من ذكر الله دائما: ((اللهم تغمدني برحمة منك وفضل)) لان عملك لن يوصلك إلي مرضاة الله، إلا برحمة الله عز وجل. وفي دليل علي حرص الصحابة_ رضي الله عنهم_ علي العلم، ولهذا لما قال: ((لن ينجوا أحد منكم بعمله)) استفصلوا، هل هذا العموم شامل له أم لا؟ فبين لهم صلي الله عليه وسلم انه شامل له.
ومن تدبر أحوال الصحابة_ رضي الله عنهم_ مع النبي صلى الله عليه وسلم. وجد انهم احرص الناس على العلم، وانهم لا يتركون شئيا يحتاجون إليه في أمور دينهم ودنياهم إلا ابتدروه وسألوا عنه. والله الموفق(1/575)
9- التفكر في عظيم مخلوقات الله تعالى
وفناء الدنيا وأهوال الآخرة وسائر أمورها
وتقصير النفس وتهذيبها وحملها على الاستقامة
قال الله تعالى: (إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) (سبأ: من الآية46) ، وقال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (آل عمران: 190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران: 191) وقال تعالى: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ (الغاشية: 17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (الغاشية: 18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (الغاشية: 19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (الغاشية: 20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) (الغاشية: 21) وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) (محمد: من الآية10) ، والآيات في الباب كثيرة.
ومن الأحاديث الحديث السابق: ((الكيس من دان نفسه)) .
[الشَّرْحُ]
التفكر: هو أن الإنسان يعمل فكره في الأمر، حتى يصل فيه إلى نتيجة، وقد أمر الله تعالى_ به _ أي بالتفكر_ وحث عليه في كتابه، لما يتوصل إليه الإنسان به من المطالب العالية والإيمان واليقين.
قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ) (سبأ: من الآية46) قل يا محمد للناس جميعا: ما أعظكم إلا بواحدة: ما اقدم لكم موعظة إلا بواحدة فقط،(1/576)
إذا قمتم بها أدركتم المطلوب، ونجوتم من المرهوب، وهي: (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) .
(تَقُومُوا لِلَّهِ) أي: مخلصين له، فتقومون بطاعة الله_ عز وجل_ على الوجه الذي أمرتم به، مخلصين له، ثم بعد ذلك تتفكروا، فإذا فعلتم ذلك فهذه موعظة، وأي موعظة.
وفي هذه الآية إشارة إلى انه ينبغي للإنسان إذا قام لله يعمل، أن يتفكر ماذا فعل في هذا العمل: هل قام به على الوجه المطلوب، وهل قصر، وهل زاد وماذا حصل له من هذا العمل من طهارة القلب، وزكاة النفس، وغير ذلك.
لا يكن كالذي يؤدي أعماله الصالحة وكأنها عادات يفعلها كل يوم، بل تفكر، ماذا حصل لك من هذا العبادة، وماذا أثرت على قلبك وعلى استقامتك.
ولنضرب لهذا مثلا بالصلاة، قال الله تبارك وتعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (البقرة: من الآية45) ، وقال: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت: من الآية45) ، فلنفكر، هل نحن إذا صلينا زدنا طاقة وقوة ونشاطا على الأعمال الصالحة، حتى تكون الصلاة معينة لنا؟ الواقع أن هذا لا يكون إلا نادرا باعتبار أفراد الناس، فانظر ماذا حدث لك من الصلاة، هل صارت معينة لك على طاعة الله تعالى، وعلى المصائب وعلى غيرها.
كما يذكر عن النبي عليه الصلاة والسلام: ((انه كان إذا حزبه أمر فزع إلى(1/577)
الصلاة)) أي: إذا أهمه وأغمه فزع إلى الصلاة.
كذلك قال الله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت: من الآية45) فانظر في صلاتك، هل أنت إذا صليت وجدت في نفسك كراهية للفحشاء، وكراهية للمنكر، وكراهية المعاصي، أو أن الصلاة لا تفيدك في هذا؟
إذا عرفت هذه الأمور، عرفت نتائج هذه الأعمال الصالحة، وكنت متعظا بما وعظك به النبي صلى الله عليه وسلم.
ز مثال آخر في الزكاة وهي: المال الواجب في الأموال الزكوية، يصرفه الإنسان في الجهات التي أمر الله بها، وقد بين الله فوائدها، وقد قال الله لرسوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (التوبة: من الآية103) فإذا أديت الزكاة فانظر هل طهرتك هذه الزكاة من الأخلاق الرذيلة، هل طهرتك من الذنوب، وهل زكت مالك؟ هل زكت نفسك؟ !
كثير من الناس يؤدي الزكاة وكأنها غرم، يؤديه وهو كاره _ نسأل الله العافية_ يؤديها وهو لا يشعر بأنها تزكي نفسه، وعلى هذا بقية الأعمال، قم لله ثم تفكر ماذا حصل.
فهذه موعظة عظيمة إذا اتعظ الإنسان بها، نفعته وصلحت أحواله، نسأل الله أن يصلح لنا الأعمال والأحوال.
ثم ذكر المؤلف_ رحمه الله تعالى _ قول الله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ(1/578)
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِى الألباب (آل عمران: 190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) (آل عمران: من الآية191) .
هذه الآية في أول الآيات العشر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها كلما استيقظ من صلاة الليل فينبغي للإنسان إذا استيقظ من صلاة الليل أن يقرا من هذه الآية إلى آخر سورة آل عمران: (العشرة الأخيرة من سورة إلا عمران) .
قوله: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (البقرة: من الآية164) يعني في خلقهما من حيث الحجم والكبر والعظمة، وغير ذلك مما أودع الله فيهما، في هذا الخلق آيات ففي النجوم آية من آيات الله، وفي الشمس آية من آيات الله، وكذا القمر، آيات من آيات الله، وكذا الأشجار والبحار والأنهار، وفي كل ما خلق الله في السماوات والأرض آيات عظيمة، تدل على كمال وحدانيته جل وعلا، وعلى كمال قدرتهن وعلى كمال رحمتهن وعلى كمال حكمته، يقول عز وجل: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (البقرة: من الآية164) .
وجمع السماوات وافرد الأرض، لان السماوات سبع كما ذكره الله في عدة آيات: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) (الطلاق: من الآية12) (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (المؤمنون: 86) .
أما الأرض، فان الله تعالى لم يذكرها في القران إلا منفردة، لان المراد(1/579)
بها الجنس الشامل لجميع الأرضيين، وقد أشار الله في سورة الطلاق إلى أن الأرضيين سبع، فقال: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) (الطلاق: من الآية12) ، أي: مثلهن في العدد، وليس مثلهن في الخلقة والعظم، بل السماوات اعظم من الأرض بكثير لكنهن مثل السماوات في العدد، وقد جاءت السنة صريحة في ذلك، مثل قول النبي عليه الصلاة السلام: ((من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع ارضين))
(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) يكون من وجوه متعد:
أولا: من جهة أن الليل مظلم والنهار مضي، كما قال الله تعالى: (وجعلنا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً) (الإسراء: من الآية12) .
ثانيا: اختلافهما في الطول والقصر، أحيانا يطول الليل، وأحيانا يطول النهار، وأحيانا يتساويان كما قال الله تعالى: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) (الحج: من الآية61) ، أي: يدخل هذا في هذا مرة فيأخذ منه، وهذا في هذا فيأخذ منهن هذا من اختلاف الليل والنهار.
ثالثا: ومن اختلاف الليل والنهار اختلافهما في الحر والبرودة تارة يكون الجو باردا وتارة يكون حارا.
رابعا: ومن اختلافهما أيضا، الخصب والجدب، تارة تكون الدنيا(1/580)
جدبا وقحطا وسنين، وتارة تكون خصبة وربيعا ورخاء.
خامسا: ومن اختلاف الليل والنهار اختلافهما في الحرب والسلم، تارة تكون حربا وتارة تكون سلما وتارة تكون عزا وتارة تكون ذلة، كما قال الله تعالى: (? وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران: من الآية140) .
ومن تأمل اختلاف الليل والنهار وجد فيهما من آيات الله_ عز وجل_ ما يبهر العقول.
وقوله تعالى: (لَآياتٍ) أي: علامات واضحات على وحدانية الله، وكمال قدرته وعزته وعلمه ورحمتهن وغير ذلك من آياته.
وقوله: (? لِأُولِي الْأَلْبَابِ) أي: لأصحاب الألباب والألباب جمع لب: وهو العقل، وأولوا الألباب: هم أصحاب العقول وذلك لان العقل لب، والإنسان بلا عقل قشور بلا لب، فالأصل في الإنسان هو العقل، فلهذا نسمي لبا، وأما الإنسان بلا عقل فانه قشور.
ولكن ما المراد بالعقل؟ هل المراد بالعقل الذكاء؟
الجواب: لا، الذكاء شيء والعقل شيء آخر، رب ذكي نابغ في ذكائه لكنه مجنون في تصرفاتهن فالعقل في الحقيقة هو ما يعقل صاحبه عن سوء التصرف، هذا العقل، وأن لم يكن ذكيا فإذا من الله على الإنسان بالذكاء والعقل تمت عليه النعمة، وقد يكون الإنسان ذكيا وليس بعاقل، أو عاقلا وليس بذكي.
جميع الكفار_ وأن كانوا أذكياء_ فانهم ليسوا عقلاء، كما قال الله: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (الأنفال: 22) .(1/581)
كل إنسان يتصرف تصرفا سيئا فليس بعاقل، فأولوا الألباب هم أولوا العقول الذين تفكرون في خلق السماوات والأرض وينظرون في الآيات، ويعتبرون بها، ويستدلون بها على على من هي آيات له، هؤلاء هم أصحاب العقول، وهم أصحاب الألباب فاحرص يا أخي على أن تتفكر في خلق السماوات والأرض، وأن تتدبر ما فيهما من الآيات، وكذلك في الأيام والليالي، وكيف تتغير الأحوال، وكيف تنقلب من حال إلى حال وكل ذلك بيد الله عز وجل، وكل ذلك من آياته.
ثم قال تعالى: في وصف أولي الألباب: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) (آل عمران: من الآية191) ، أي: يذكرون الله في كل حال قياما وقعودا وعلى جنوبهم،
وذكر الله_ عز وجل_ نوعان: نوع مطلق في كل وقت، وهو الذي يشرع للإنسان دائما، أوصى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا قال له: أن شرائع الإسلام كثرت علي، وأني كبير فأوصيني. فقال: ((لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله))
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل احيانه، أي في كل حين، فذكر الله هنا مطلق لا يتقيد بعدد، بل هو إلى(1/582)
الإنسان على حسب نشاطه.
والنوع الثاني: ذكر مقيد بعدد، أو في حال من الأحوال، وهو كثير، منها أذكار الصلوات في الركوع والسجود وبعد السلام، وأذكار الدخول للمنزل، والخروج منه، وأذكار الدخول للمسجد والخروج منه، وأذكار النوم والاستيقاظ وأذكار الركوب على الدابة وأشياء كثيرة شرعها الله عز وجل، لعباده من اجل أن يكونوا دائما على ذكر الله عز وجل، فالمهم أن الله شرع لعباده من الأذكار ما يجعلهم إذا حافظوا عليها يذكرون الله، قياما وقعودا وعلى جنوبهم.
واعلم أن الذكر أيضا يكون على وجهين: ذكر تام: وهو ما تواطأ عليه القلب واللسان.
وذكر ناقص: وهو ما كان باللسان مع غفلة القلب، واكثر الناس_ نسأل الله أن يعاملنا جميعا بعفوه_ عندهم ذكر الله باللسان مع غفلة القلب، فتجده يذكر الله وقلبه يذهب يمينا وشمالا، في دكانه وسيارته وفي بيعه وشرائه.
لكن هو مأجور على كل حال، ولكن الذكر التام هو الذي يكون ذكرا لله باللسان وبالقلب، يعني انك تذكر الله بلسانكن وتذكر الله بقلبك، فأحيانا يكون الذكر بالقلب انفع للعبد من الذكر المجرد، إذا تفكر الإنسان في نفسه وقلبه، في آيات الله الكونية والشرعية، بقدر ما يستطيع، حصل على خير كثير.
قال: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ويقولون: (رَبَّنَا مَا(1/583)
خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً) يتفكرون في خلق السماوات والأرض لماذا خلقت؟ وكيف خلقت؟ وما أشبه ذلك، ثم يقولون بقلوبهم وألسنتهم (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً) أي: لا بد أن يكون لخلق السماوات والأرض غاية محمودة، يحمد الرب عليها عز وجل، ليس لخلق السماوات والأرض باطلا، خلقت ليوجد الناس يأكلون ويشربون ويتمتعون كما تتمتع الأنعام! لا، بل هي مخلوقة لغرض عظيم.
قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات: 56) .
(رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً) فالذين يظنون خلق السماوات والأرض باطلا، هم أصحاب النار، قال الله تبارك وتعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (صّ: 27) .
فكل من ظن أن الله_ سبحانه تعالى_ خلق هذه الخليقة لتوجد وتفنى فقط، بدون أن يكون هنالك غاية ومرجع، فانه من الذين كفروا (ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) .
فالناس لا بد أن يموتوا، ولا بد أن يحاسبوا، ولا بد أن يبعثوا، ولا بد أن يؤولوا إلى دارين لا ثالث لهما، أما الجنة وأما النار، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة وأن يعيذنا من النار.
وقوله: (سُبْحَانَكَ) أي: تنزيها لك أن تخلق هذه السماوات والأرض باطلا.
(فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) فيتوسلون إلى الله_ عز وجل_ بما يثنون عليه من صفات الكمال، أن يقيهم عذاب النار، والوقاية من عذاب النار تكون بأمرين:(1/584)
الأمر الأول: أن يعصمك الله من الذنوب، لان الذنوب هي سبب دخول النار.
الأمر الثاني: أن يمن الله عليك إذا عصيت بالتوبة والإقلاع، لان الإنسان بشر لا بد أن يعصي، ولكن باب التوبة مفتوح ولله الحمد، قال الله: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (الزمر: من الآية53)
مهما عملت من المعاصي، إذا رجعت إلى الله، وتبت، تاب الله عليك، ولكن إذا كانت المعصية تتعلق بآدمي، فلا بد من الاستبراء من حقه، إما بوفائه أو باستحلاله منه، لأنه حق ادمي لا يغفر، فحق الله يغفره مهما عظم، وحق الآدمي لا بد أن تستبراء منه أما بإبراء أو أداء، بخلاف حق الله.
ومع هذا، لو فرض انك لم تدرك صاحبك ولم تعرفه، أو لم تتمكن من وفائها، لأنها دراهم كثيرة، وليس عندك وفاء، وعلم الله أن نيتك انك صادق في توبتك، فان الله يتحمل عنك يوم القيامة ويرضي صاحبك.
وقوله تعالى: (LLأَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ (الغاشية: 17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (الغاشية: 18)
وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (الغاشية: 19) . وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (الغاشية: 20) .
(أَفَلا يَنْظُرُونَ) هذا من باب الحث على النظر في هذه الأمور الأربعة: الأول: (إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) فتتأمل كيف خلقها الله على هذا الجسم الكبير، المتحمل لحمل الأثقال، كما قال تعالى: (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) (النحل: من الآية7) .(1/585)
هذه الإبل الكبيرة الأجسام القوية زللها الله للعبادة، حتى كان الصبي يقودها إلى ما يريد، مع إنها لو عتت ما استطاع الناس أن يدركوها، ولهذا كان من المشروع أن يقول الإنسان إذا استوى على ظهرها راكبا: (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) (الزخرف: من الآية13) أي: مطيقين، لان قرين الإنسان من كان على مثله وعلى شاكلته، فمعنى المقرن يعني المطيق، أي لسنا مطيقين لها لولا أن سخرها الله عز وجل، سخرها الله للعبادة، فمنها ركوبهم ومنها يأكلون، منها يركب ويحمل عليه، ويكون مرنا على ذلك، ومنها ما يؤكل: يأكله الناس وينتفعون به، وكذلك أيضا لهم فيها منافع ومشارب فيتخذون من جلودها بيوتا ومن أصوافها واوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين، إلى غير ذلك من الآيات
العظيمة التي تحملها هذه الإبل.
الثاني: (وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) هذه السماء العظيمة، رفعها الله _ عز وجل_ رفعا عظيما باهرا لا يستطيع أن يناله أحد من الخلق، حتى الجن على قوتهم يقولون: (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً) (الجن: 9) يقول الله عز وجل: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) (الأنبياء: من الآية32) وفي هذه السماوات العظيمة، كيف رفعها الله تعالى بغير عمد: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) (الرعد: من الآية2) ، أي: ترونها مرفوعة بغير عمد فاعتبروها. وفي هذه السماوات من آيات الله_ عز وجل_الشيء الكثير، فهي(1/586)
رفعت هذا الرفع العظيم، وفيما بينها وبين الأرض آيات عظيمة من الأفلاك، والنجوم، والشمس، والقمر، والرياح، والسحب، وغير ذلك من آيات الله.
الثالث: (وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) هذه الجبال الصم العظيمة الكبيرة، لو أن الخلق اجتمعوا كلهم بقواهم ما كونوا مثلها. الآن تجد المعدات الكبيرة إذا أرادوا أن يردموا شيئا لا يردمون إلا شيئا، يسيرا مع المشقة الشديدة، هذه الجبال الصم يجب أن نتفكر فيها، كيف نصبها الله عز وجل؟ نصبها الله عز وجل على حكمة عظيمة، لان الله سبحانه وتعالى_ يجعل في هذه الجبال التي نصبها مصالح عظيمة وكبيرة، منها إنها رواسي ترسي الأرض وتمسكها عن الاضطراب، كما قال الله تعالى: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) (النحل: من الآية15) ، أي: أن تضطرب، فلولا أن الله أرساها بهذه الجبال، لكانت مضطربة كالسفينة على ظهر الماء في شدة الأمواج، ولكن الله جعلها بهذه الجبال ساكنة قارة، لا تضطرب ولا تميد بأهلها. هذه الجبال أيضا تقي من رياح شديدة عاصفة في بعض الأماكن، وتقي أيضا من برودة عظيمة تأتى من ناحية القضب، وتقي أيضا من حرارة شديدة وكذلك من سفوحها آية من آيات الله_ عز وجل_ من النبات، والأودية، والمعادن شيء عظيم كثير، فلهذا قال: (وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) .
الرابع: (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) فجعلها الله سطحا، وسخرها للعباد، وجعلها ذلولا لا مذللة، بحيث لم تكن تربتها لينة جدا لا يستقرون(1/587)
عليها، ولا صلبة جدا لا ينتفعون منها، بل جعلها_ سبحانه وتعالى_ رخوة مسطحة مبسوطة، حتى ينتفع الناس على سطحها بما يسر الله_ سبحانه وتعالى_ لهم من الأسباب النافعة.
وهذه الأرض المسطحة هي أيضا كروية، أي إنها شبه الكرة، مستديرة من كل جانب، إلا إنها مفلطحة من الناحية الشمالية الجنوبية، من ناحية القضبين الشمالي والجنوبي.
ولذلك لو أن أحدا من الناس ركب طائرة متجهة إلى المغرب_ على خط مستقيم_ لكان يخرج إلى المكان الذي أقلعت منه الطائرة، وهذا يدل على إنها مستديرة، لان الإنسان يصل طرفها بطرفها.
ويدل على هذا قوله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (: 1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (: 2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (: 3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ) (الانشقاق: 4) ، وهذا يكون يوم القيامة، فقوله: (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) يدل على إنها الآن ليست ممدودة، لكنها مسطحة، يعني إنها كالسطح، لأنها لكبر حجمها لا يتبين فيها الانحناء الذي يكون في الكرة، فهذه الأشياء الأربعة: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نصبت وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (الغاشية: 20) يحثنا الله عز وجل بالنظر فيها بعين البصر، وعين البصيرة، بعين البصر الذي هو الإدراك الحسي ويمين البصيرة التي هي الإدراك العقلي، حتى نستدل بها على ما تدل عليه من آيات الله من قدرة وعلم ورحمة وحكمة وغير ذلك.
وقوله: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) ولم يكمل المؤلف الآية،(1/588)
لان هذا ورد في عدة آيات من كتاب الله، ففي عدة آيات يحث الله عز وجل عباده إلى أن يسيروا في الأرض، فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ومنها قوله تعالى في سورة القتال: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) (محمد: 10) فأمر الله بالسير والسير ينقسم إلى قسمين.
سير بالقدم وسير بالقلب.
1_ أما السير بالقدم: بان يسير الإنسان في الأرض على أقدامه، أو على راحلتهن من بعير أو سيارة، أو طائرة، أو غيرها حتى ينظر ماذا حصل للكافرين، وماذا كانت حال الكافرين.
2_ وأما السير بالقلب: فهذا يكون بالتأمل والتفكير فيما نقل عن أخبارهم.
واصح كتاب، واصدق كتاب، وانفع كتاب، نقل أخبار الأولين كتاب الله_عز وجل_، كما قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف: من الآية111) .
والقران مملؤ من أخبار الأولين المكذبين للرسل، والمؤيدين للرسل، وبين الله عاقبة هؤلاء وهؤلاء.
ولهذا ينبغي للإنسان أن يقرا الآيات التي فيها أخبار من سبق، وأن يسال عن معناها ويستفسر، حتى يكون على بصيرة من الأمر، وكذلك ايضا ما جاءت به السنة من أخبار الماضين، فإنها جاء بالأحاديث الكثيرة النافعة، وهي إذا صحت عن النبي عليه الصلاة والسلام فإنها(1/589)
اصدق منقول من الأخبار.
ثم بعد ذلك ما نقله المؤرخون، ولكن يجب أن تكون مما نقله المؤرخون على حذر، لان غالب كتب التاريخ ليس لها اصل وليس لها إسناد، وإنما هي أخبار تتناقل بين الناس، فيجب الحذر كل الحذر منها، وأن يحرص الإنسان على أن يتتبعها برفق، ثم هذه الأخبار الواردة في غير الكتاب والسنة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما شهد شرعنا ببطلانه، فهذا يجب رده وبيان خطئه وكذبه حتى يكون الناس منه على بصيرة.
القسم الثاني: ما أيده القران والسنة، فهذا يقبل بشهادة القران والسنة له بالصحة.
القسم الثالث: ما لم يؤيده القران ولا السنة، فهذا يتوقف فيه، لان الأمم السابقة ليس بيننا وبينهم إسناد متصل حتى يمكن أن نعرف صحة ما نقل عنهم، ولكنه ينقل، وتكون أخبار إسرائيلية، ينظر فيها، ولكن يتوقف فيها فلا تقبل ولا ترد هذا هو العدل.
ثم أشار المؤلف_ رحمه الله، إلى الحديث السابق، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (0 الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني))
الكيس: هو الحازم الفطن المتنبه المنتهز للفرص، هو الذي يدين نفسه، أي يحاسبها، فينظر ماذا أهمل من الواجب وماذا فعل من المحرم،(1/590)
وماذا أتى به من الواجب، وماذا تجنب من المحرم، حتى يصلح نفسه.
أما العاجز: فهو الذي يتبع نفسه هواها، فما هوت نفسه اخذ به، وما كرهت نفسه لم يأخذ به، سواء وافق شرع الله أم لا.
هذا هو العاجز، وما اكثر العاجزين اليوم، الذين يتبعون أنفسهم هواها، ولا يبالون بمخالفة الكتاب والسنة، ولا يهتمون بهذا، نسأل الله لنا ولهم الهداية.
وقوله: ((تمنى على الله الأماني)) يعني: يقول سيغفر لي، وسوف استقيم فيما بعد، وسوف أقوم بالواجب فيما بعد، وسوف اترك هذا فيما بعد، أو يقول: الله يهديني، وإذا نصحته قال: اسأل الله لي الهداية، وما أشبه ذلك، هذا عاجز.
والكيس: هو الذي يعمل بحزم وجد، ويحاسب نفسه، ويكون عنده قوة في أمر الله، وفي دين الله، وفي شرع الله، حتى يتمكن من ضبط نفسه، وإلا فان الله يقول في كتابه: عن زوجة العزيز (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) (يوسف: من الآية53) ، نسأل الله أن يرحمنا وإياكم برحمته، ويعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
تم بحمد الله تعالى المجلد الأول ويليه بمشيئة الله عز وجل المجلد الثاني(1/591)
10ـ باب المبادرة إلى الخيرات
وحث من توجه لخير على الإقبال عليه بالجد من غير تردد.
قال الله تعالى (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (البقرة: 148)
وقال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران: 133) .
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (باب المبادرة إلى الخيرات وحث من أقبل على الخير أن يتمه من غير تردد) وهذا العنوان تضمن أمرين:
الأول: المبادرة والمسارعة إلى الخير.
والثاني: أن الإنسان إذا عزم على الشيء ـ وهو خير ـ فليمض فيه ولا يتردد.
أما الأول: فهو المبادرة، وضد المبادرة التواني والكسل، وكم من إنسان توانى وكسل؛ ففاته خير كثير، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز) .
فالإنسان ينبغي له أن يسارع في الخيرات، كل ذكر له شيء من الخير(2/5)
بادر إليه، فمن ذلك الصلاة، والصدقة، والصوم، والحج، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، إلى غير ذلك من مسائل الخير التي ينبغي المسارعة إليها؛ لأن الإنسان لا يدري، فربما يتوانى في الشيء ولا يقدر عليه بعد ذلك، إما بموت، أو مرض، أو فوات، أو غير هذا، وقد جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا أراد أحدكم الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضل الراحلة، وتعرض الحاجة) .
فقد يعرض له شيءٌ يمنعه من الفعل. فسارع إلى الخير ولا تتوانى.
ثم ذكر المؤلف قول الله تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات ِ) واستبقوها: يعني اسبقوا إليها، وهو أبلغ من: سابقوا إلى الخيرات، فالاستباق معناه: أن الإنسان يسبق إلي الخير، ويكون من أول الناس في الخير، ومن المسابقة في الصفوف في الصلاة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها) وقال في النساء: (وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها) .
ورأى النبي صلى الله عليه وسلم أقواماً في مؤخرة المسجد؛ لم يسبقوا ولم يتقدموا، فقال: (لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله عز وجل) . فانتهز الفرصة(2/6)
واسبق إلى الخير.
وقال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ... ) (آل عمران: 133، 134) . قال: سارعوا إلى المغفرة والجنة.
أما المسارعة إلى المغفرة: فأن يسارع الإنسان إلى ما فيه مغفرة الذنوب؛ من الاستغفار، كقول: أستغفر الله، أو اللهم اغفر لي، أو اللهم إني أستغفرك، وما أشبه ذلك، وكذلك أيضاً: الإسراع إلى ما فيه المغفرة، مثل الوضوء، والصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، فإن الإنسان إذا توضأ، فأسبغ الوضوء، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين؛ فإنه تفتح له أبواب الجنة الثمانية؛ ويدخل من أيها شاء، وكذلك إذا توضأ؛ فإن خطاياه تخرج من أعضاء وضوئه؛ مع آخر قطرة من قطر الماء، فهذه من أسباب المغفرة.
ومن أسباب المغفرة أيضاً: الصلوات الخمس كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر،(2/7)
رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر، فليسارع الإنسان إلى أسباب المغفرة.
الأمر الثاني (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) ، وهذا يكون بفعل المأمورات، أي: أن تسارع للجنة بالعمل لها، ولا عمل للجنة إلا العمل الصالح، هذا هو الذي يكون سبباً لدخول الجنة، فسارع إليه.
ثم بين الله هذه الجنة؛ بأن عرضها السماوات والأرض، وهذا يدل على سعتها وعظمها، وأنه لا يقدر قدرها إلا الله عز وجل. فسارع إلى هذه الجنة بفعل ما يوصلك إليها من الأعمال الصالحة، ثم قال الله عز وجل (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) يعني: هيئت لهم، والذي أعدها لهم هو الله عز وجل، كما جاء في الحديث القدسي: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) .
ومن هم المتقون؟ قال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ(2/8)
الْعَامِلِينَ) (آل عمران: 134-136) .
هؤلاء هم المتقون: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) يعني: يبذلون أموالهم (فِي السَّرَّاءِ) يعني في حال الرخاء، وكثرة المال، والسرور، والانبساط، (وَالضَّرَّاءِ) يعني في حال ضيق العيش والانقباض.
ولكن؛ لم يبين الله ـ سبحانه وتعالى ـ هنا مقدار، ولكنه بينه في آيات كثيرة، فقال تعالى (وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (البقرة: 219) .
العفو: يعني ما زاد عن حاجاتكم وضروراتكم فأنفقوه، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان: 67) . فهم ينفقون إنفاقاً ليس فيه إسراف ولا تقتير، وينفقون ـ أيضاً ـ العفو، أي: ما عفا وزاد عن حاجاتهم وضروراتهم.
(وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) أي: الذين إذا اغتاظوا ـ أي اشتد غضبهم ـ كظموا غيظهم، ولم ينفذوه، وصبروا على هذا الكظم، وهذا الكظم من أشد ما يكون على النفس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) .
الصرعة: يعني يصرع الناس، أي: يغلبهم في المصارعة، فليس هذا هو الشديد، ولكن الشديد: هو الذي يملك نفسه عند الغضب؛(2/9)
لأن الإنسان إذا غضب ثارت نفسه، فانتفخت أوداجه، واحمرت عيناه، وصار يحب أن ينتقم، فإذا كظم الغيظ وهدأ، فإن ذلك من أسباب دخول الجنة.
واعلم أن الغضب جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم؛ إذا أتاه ما يهزه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أعلمنا بما يطفئ هذه الجمرة، فمن ذلك: أن يتعوذ الإنسان بالله من الشيطان الرجيم، فإذا أحس بالغضب ـ وأن الغضب سيغلبه ـ قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ومنها: أن يجلس إن كان قائماً، ويضطجع إن كان قاعداً، يعني: يضع نفسه، وينزلها من الأعلى إلى الأدنى، فإن كان قائماً جلس، وإن كان جالساً اضطجع، ومنها: أن يتوضأ بتطهير أعضائه الأربعة؛ الوجه واليدين والرأس والرجلين، فإن(2/10)
هذا يطفئ الغضب، فإذا أحسست بالغضب؛ فاستعمل هذا الذي أرشدك إليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى يزول عنك، وإلا فكم من إنسان أي به غضبه إلى مفارقة أهله فما أكثر الذين يقولون: أنا غضبت على زوجتي فطلقتها ثلاثاً، وربما يغضب ويضرب أولاده ضرباً مبرحاً، وربما يغضب ويكسر أوانيه، أو يشق ثيابه، أو ما أشبه ذلك مما يثيره الغضب، ولهذا قال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) مدحهم لأنهم ملكوا أنفسهم عند ثورة الغضب.
(وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) يعني الذين إذا أساء الناس إليهم عفوا عنهم، فإن من عفا وأصلح فأجره على الله، وقد أطلق الله العفو هنا، ولكنه بين في قوله تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: 40) أن العفو لا يكون خيراً إلا إذا كان فيه إصلاح، فإذا أساء إليك شخص معروف بالإساءة والتمرد والطغيان على عباد الله، فالأفضل ألا تعفو عنه، وأن تأخذ بحقك؛ لأنك إذا عفوت ازداد شره، أما إذا كان الإنسان الذي أخطأ عليك قليل الخطأ، قليل العدوان، لكن الأمر حصل على سبيل الندرة، فهنا الأفضل أن تعفو، ومن ذلك حوادث السيارات التي كثرت، فإن بعض الناس يتسرع، ويعفو عن الجاني الذي حصل منه الحادث، وهذا ليس بالأحسن، الأحسن أن تتأمل وتنظر: هل هذا السائق متهور ومستهتر؛ لا يبالي بعباد الله ولا يبالي بالأنظمة؛ فهذا لا ترحمه، خذ بحقك منه كاملاً،(2/11)
أما إذا كان إنساناً معروفاً بالتأني، وخشية الله، والبعد عن أذية الخلق، والتزام النظام، ولكن هذا أمر حصل من فوات الحرص، فالعفو هنا أفضل؛ لأن الله قال (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) فلابد من مراعاة الإصلاح عند العفو.
(وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) محبة الله ـ سبحانه وتعالى ـ للعبد هي غاية كل إنسان؛ فكل إنسان مؤمن غايته أن يحبه الله عز وجل، وهي المقصود لكل مؤمن؛ لقول الله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران: 31) ، ولم يقل: اتبعوني تصدقوا فيما قلتم، بل عدل عن هذا إلى قوله (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) لأن الشأن - كل الشأن ـ أن يحبك الله عز وجل، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أحبابه.
وأما المحسنون في قوله: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فالمراد بهم المحسنون في عبادة الله، والمحسنون إلى عباد الله.
والمحسنون في عبادة الله؛ بين النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ مرتبتهم في قوله حين سأله جبريل عن الإحسان فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) يعني: أن تعبد الله ـ سبحانه وتعالى ـ بقلب حاضر؛ كأنك ترى ربك تريد الوصول إليه، فإن لم تفعل؛ فاعلم أن الله يراك، فاعبده خوفاً وخشية، وهذه المرتبة دون المرتبة الأولى.(2/12)
فالمرتبة الأولى: أن تعبد الله طلباً ومحبة وشوقاً.
والثانية: أن تعبده هرباً وخوفاً وخشية.
أما الإحسان إلى عباد الله: فأن تعاملهم بما هو أحسن؛ في الكلام، والأفعال، والبذل، وكف الأذى، وغير ذلك، حتى في القول؛ فإنك تعاملهم بالأحسن، قال الله تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) (النساء: 86) ، يعني: إن لم تفعلوا فتردوا بأحسن منها، فلا أقل من أن تردوها؛ ولهذا قال كثير من العلماء: إذا قال المسلم: السلام عليكم ورحمة الله، قل: وعليكم السلام ورحمة الله. هذا أدنى شيء، فإن زدت: (وبركاته) فهو أفضل؛ لأن الله قال: بأحسن منها، فبدأ بالأحسن ثم قال: (أَوْ رُدُّوهَا) كذلك إذا سلم عليك إنسان بصوت واضح بين؛ ترد عليه بصوت واضح بين على الأقل، كثير من الناس ـ أو بعض الناس ـ إذا سلمت عليه رد عليك السلام بأنفه، حتى إنك تكاد لا تسمعه في رد السلام، وهذا غلط؛ لأن هذا خلاف ما سلم عليك به، يسلم عليك بصوت واضح ثم ترد بأنفك!! هذا خلاف ما أمر الله به.
كذلك الإحسان بالفعل؛ مثل معونة الناس ومساعدتهم في أمورهم. فإذا ساعدت إنساناً فقد أحسنت إليه، مساعدة بالمال، بالصدقة بالهدية، بالهبة وما أشبه ذلك هذا من الإحسان.
ومن الإحسان أيضاً: أنك إذا رأيت أخاك على ذنب؛ أن تبين له ذلك وتنهاه عنه؛ لأن هذا من أعظم الإحسان إليه، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) قالوا: يا رسول الله، هذا المظلوم(2/13)
فكيف ننصر الظالم؟ قال: (أن تمنعه من الظلم) فإن منعك إياه من الظلم نصر له وإحسان إليه، والمهم أنه ينبغي لك ـ في معاملة الناس ـ أن تستحضر هذه الآية (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فتحسن إليهم بقدر ما تستطيع.
(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذنُوبِهِم) (آل عمران: 135) .
(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) الفاحشة: ما يستفحش من الذنوب، وهي كبائر الذنوب، مثل الزنا، شرب الخمر، وقتل النفس وما أشبهها، كل مل يستفحش فهو فاحشة (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بما دون الفاحشة من المعاصي الصغار (ذَكَرُوا اللَّهَ) أي: ذكروا عظمته وذكروا عقابه، ثم ذكروا أيضاً رحمته وقبوله للتوبة وثوابها.
فهم يذكرون الله من وجهين:
الوجه الأول: من حيث العظمة، والعقوبة، والسلطان العظيم، فيوجلون ويخجلون ويستغفرون.
والثاني: من حيث الرحمة وقبول التوبة، فيرغبون في التوبة ويستغفرون الله؛ ولهذا قال: (ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِم) ومن أفضل ما يستغفر به سيد الاستغفار: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت،(2/14)
أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فأغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) .
قال الله تعالى: (ومن يغفر الذنوب إلا الله) يعني: لا أحد يغفر الذنوب إلا الله عز وجل لو أن الأمة كلها من أولها إلى آخرها، والجنة والملائكة اجتمعوا على أن يغفروا لك ذنباً واحداً ما غفروه؛ لأنه لا يغفر الذنوب إلا الله عز وجل، ولكننا نسأل الله المغفرة، لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، وأما أن يكون بيدنا أن نغفر، فلا يغفر الذنوب إلا الله.
قال تعالى: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون َ) يعني: لم يستمروا على معاصيهم وظلمهم؛ وهم يعلمون أنها معاصي وظلم، وفي هذا دليل على أن الإصرار مع العلم أمره عظيم، حتى في صغائر الذنوب؛ ولهذا ذهب كثير من العلماء إلى أن الإنسان إذا أصر على الصغيرة صارت كبيرة. ومن ذلك ما يفعله جهلة الناس اليوم من حلق اللحية، تجدهم يحلقون اللحية ويصرون على ذلك، ولا يرونها إلا زينة وجمالاً، والحقيقة أنها شين، وأنها قبح؛ لأن كل شيء ينتج عن المعصية فلا خير فيه، بل هو قبح، وهؤلاء الذين يصرون على هذه المعصية ـ وإن كانت صغيرة ـ أخطئوا؛ لأنها بالإصرار تنقلب كبيرة والعياذ بالله؛ لأن الإنسان لا يبالي بما يفعل، تجده كل يوم، كلما أراد أن يخرج إلى السوق، أو إلى عمله؛ يذهب وينظر في المرآة، فإذا وجد شعرة واحدة قد برزت، تجده(2/15)
يسارع إلى حلقها وإزالتها، نسأل الله العافية، وهذا لا شك أنه معصية للرسول عليه الصلاة والسلام، وإن الإنسان ليخشى عليه من هذا الذنب أن يتدرج به الشيطان إلى ذنوب أكبر وأعظم.
قال الله تعالى: (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) .
اللهم اجعلنا من هؤلاء العاملين واجعل جزاءنا ذلك يا رب العالمين.
* * *
وأما الأحاديث:
87 ـ فالأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا) رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ فيما رواه عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بادروا بالأعمال) وبادروا: يعني أسرعوا إليها؛ والمراد الأعمال الصالحة؛ والعمل الصالح ما بني على أمرين: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن(2/16)
محمد رسول الله، فالعمل الذي ليس بخالص ليس بصالح، لو قام الإنسان يصلي؛ ولكنه يرائي الناس بصلاته، فإن عمله لا يقبل؛ حتى لو أتى بشروط الصلاة، وأركانها، وواجباتها، وسننها، وطمأنينتها، وأصلحها إصلاحاً تاماً في الظاهر، لكنها لا تقبل منه، لأنها خالطها الشرك، والذي يشرك بالله معه غيره لا يقبل الله عمله، كما في الحديث الصحيح؛ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك) يعني إذا أحد شاركني؛ فأنا غني عن شركه، (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) .
كذلك أيضاً: لو أن الإنسان أخلص في عمله، لكنه أتى ببدعة ما شرعها الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فإن عمله لا يقبل حتى لو كان مخلصاً، حتى لو كان يبكي من الخشوع، فإنه لا ينفعه ذلك؛ لأن البدعة وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها ضلالة، فقال: (فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) .
ثم قال: (فتناً كقطع الليل المظلم) أخبر أنه ستوجد فتن كقطع الليل المظلم ـ نعوذ بالله ـ يعني أنها مدلهمة مظلمة؛ لا يرى فيها النور والعياذ(2/17)
بالله، ولا يدري الإنسان أين يذهب؛ يكون حائراً، ما يدري أين المخرج، أسأل الله أن يعيذنا من الفتن.
والفتن منها ما يكون من الشبهات، ومنها ما يكون من الشهوات، ففتن الشبهات: كل فتنة مبنية على الجهل، ومن ذلك ما حصل من أهل البدع الذين ابتدعوا في عقائدهم ما ليس من شريعة الله، أو أهل البدع الذين ابتدعوا في أقوالهم وأفعالهم ما ليس من شريعة الله، فإن الإنسان قد يفتن ـ والعياذ بالله ـ فيضل عن الحق بسبب الشبهة.
ومن ذلك أيضاً: ما يحصل في المعاملات من الأمور المشتبهة التي هي واضحة في قلب الموقن، مشتبهة في قلب الضال والعياذ بالله، تجده يتعامل معاملة تبين أنها محرمة، لكن لما على قلبه من رين الذنوب ـ نسأل الله العافية ـ يشتبه عليه الأمر، فيزين له سوء عمله، ويظنه حسناً، وقد قال الله في هؤلاء: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا ً) (الكهف: 103، 104) ، فهؤلاء هم الأخسرون والعياذ بالله.
وتكون الفتن ـ أيضاً ـ من الشهوات، بمعنى أن الإنسان يعرف أن هذا حرام، ولكن لأن نفسه تدعوه إليه فلا يبالي النبي صلي الله عليه وسلم بل يفعل الحرام، ويعلم أن هذا واجب، لكن نفسه تدعوه للكسل فيترك هذا الواجب، هذه فتنة شهوة، يعني فتنة إرادة، ومن ذلك أيضاً ـ بل من أعظم ما يكون ـ فتنة شهوة الزنا أو اللواط والعياذ بالله، وهذه من أضر ما يكون على هذه الأمة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من(2/18)
النساء) وقال: (اتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) ، ولدينا الآن ـ وفي مجتمعنا ـ من يدعو إلى هذه الرذيلة ـ والعياذ بالله ـ بأساليب ملتوية، يلتوون فيها بأسماء لا تمت إلى ما يقولون بصلة، لكنها وسيلة إلى ما يريدون؛ من تهتك لستر المرأة، وخروجها من بيتها لتشارك الرجل في أعماله، ويحصل بذلك الشر والبلاء، ولكن نسأل الله أن يجعل كيدهم في نحورهم، وأن يسلط حكامنا عليهم؛ بإبعادهم عن كل ما يكون سبباً للشر والفساد في هذه البلاد، ونسأل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يوفق لحكامنا بطانة صالحة؛ تدلهم على الخير، وتحثهم عليه.
إن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء، وهي أعظم فتنة، وهناك أناس الآن يحيكون كل حياكة من أجل أن يهدروا كرامة المرأة، من أجل أن يجعلوها كالصورة، كالدمى، مجرد شهوة وزهرة يتمتع بها الفساق والسفلاء من الناس، ينظرون إلى وجهها كل حين وكل ساعة والعياذ بالله، ولكن ـ بحول الله ـ أن دعاء المسلمين سوف يحيط بهم، وسوف يكبتهم ويردهم على أعقابهم خائبين، وسوف تكون المرأة السعودية ـ بل المرأة في كل مكان من بلاد الإسلام ـ محترمة مصونة، حيث وضعها الله عز وجل.(2/19)
المهم أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ حذرنا من هذه الفتن التي هي كقطع الليل المظلم، يصبح الإنسان مؤمناً ويمسي كافراً، والعياذ بالله. يوم واحد يرتد عن الإسلام، يخرج من الدين، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً. نسأل الله العافية. لماذا؟ (يبيع دينه بعرض من الدنيا) ولا تظن أن العرض من الدنيا هو المال، كل متاع الدنيا عرض، سواء مال، أو جاه أو رئاسة، أو نساء، أو غير ذلك، كل ما في الدنيا من متاع فإنه عرض، كما قال تعالى: (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ) (النساء: 94) فما في الدنيا كله عرض.
فهؤلاء الذين يصبحون مؤمنين ويمسون كفاراً، أو يمسون مؤمنين ويصبحون كفاراً، كلهم يبيعون دينهم بعرض من الدنيا، نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من الفتن. واستعيذوا دائماً يا أخواني من الفتن، وما أعظم ما أمرنا به نبينا عليه الصلاة والسلام، حيث قال: (إذا تشهد أحدكم ـ يعني التشهد الأخير ـ فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال) نسأل الله أن يثيبنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
* * *(2/20)
88 ـ الثاني: عن أبي سروعة ـ بكسر السين المهملة وفتحها ـ عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر، فسلم ثم قام مسرعاً فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم، فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته، قال: (ذكرت شيئاً من تبر عندنا، فكرهت أن يحبسني، فأمرت بقسمته) رواه البخاري.
وفي رواية له: (كنت خلفت في البيت تبرا ً من الصدقة؛ فكرهت أن أبيته) .
(التبر) قطع ذهب أو فضة.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ فيما نقله عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه؛ أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم صلاة العصر، فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين أنصرف من صلاته مسرعاً؛ يتخطي رقاب الناس على بعض حجرات زوجاته، ثم خرج فرأى الناس قد عجبوا من ذلك، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم سبب هذا، وقال (ذكرت شيئاً من تبر عندنا) يعني مما تحب قسمته (فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته) .
ففي هذا الحديث المبادرة إلى فعل الخير، وألا يتوانى الإنسان عن فعله، وذلك لأن الإنسان لا يدري متى يفاجئه الموت؛ فيفوته الخير، والإنسان ينبغي أن يكون كيساً، يعمل لما بعد الموت ولا يتهاون، وإذا كان الإنسان في أمور دنياه يكون مسرعاً، وينتهز الفرص، فإن الواجب(2/21)
عليه في أمور أخراه أن يكون كذلك بل أولى، قال الله تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) (الأعلى: 16-19) .
وفي هذا الحديث دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرع الناس مبادرة إلى الخير، أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ محتاج إلى العمل؛ كما أن غيره محتاج إلى العمل؛ ولهذا لما حدث فقال: (إنه لن يدخل الجنة أحد بعمله) ، قالوا: لا أنت؟ قال: (ولا أنا إلا أن يتغمد ني الله برحمته) ، هذا هو النبي عليه الصلاة والسلام.
وفي هذا الحديث دليل على جواز تخطي الرقاب بعد السلام من الصلاة، ولا سيما إذا كان لحاجة، وذلك لأن الناس بعد السلام من الصلاة ليسوا في حاجة إلى أن يبقوا في أماكنهم، بل لهم الانصراف، بخلاف تخطي الرقاب قبل الصلاة، فإن ذلك منهي عنه؛ لأنه إيذاء للناس، ولهذا قطع النبي صلى الله عليه وسلم خطبته يوم الجمعة حين رأى رجلاً يتخطى الرقاب، فقال له: (أجلس فقد آذيت) .
وفي هذا الحديث دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ كغيره من البشر ـ(2/22)
يلحقه النسيان، وأنه ينسى كما ينسى غيره، وإذا كان صلى الله عليه وسلم ينسى ما كان معلوماً عنده من قبل، فإنه كذلك من باب أولى يجهل ما لم يكن معلوماً عنده من قبل، كما قال الله له (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) (الأنعام: 50) فأمره الله أن يعلن للملأ أنه ليس عنده خزائن الله؛ وأنه لا يعلم الغيب، وأنه ليس بملك صلوات الله وسلامه عليه.
وفي هذا قطع السبيل على من يلتجئون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في مهماتهم وملماتهم، ويدعونه، فإن هؤلاء من أعدائه وليسوا من أوليائه؛ لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لو كان حياً لاستتابهم، فإن تابوا وإلا قتلهم؛ لأنهم مشركون، فإن الإنسان لا يجوز أن يدعو غير الله عز وجل؛ لا ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، وهو ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنما جاء لحماية التوحيد وتحقيق عبادة الله، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وينسى ما كان قد علم من قبل، ويحتاج إلى الأكل والشرب واللباس والوقاية من الأعداء، وقد ظاهر ـ بين درعين في غزوة أحد ـ يعني لبس درعين ـ خوفاً من السلاح.
فهو كغيره من البشر، جميع الأحكام البشرية تلحقه عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا قال الله له: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (الكهف: 110) ، فتأمل وصفه بأنه بشر مثلكم، لو لم يقل (مِثْلُكُمْ) لكفى، يعني إذا قال: إنما أنا بشر علمنا بطريق القياس أنه بشر كالبشر لكن قال (مِثْلُكُمْ) لا أتميز عليكم بشيءٍ إلا بالوحي، (يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ) الآية.(2/23)
وفي هذا الحديث أيضاً دليل على شدة الأمانة وعظمها، وأن الإنسان إذا لم يبادر بأدائها فإنها قد تحبسه، ولهذا قال: (فكرهت أن يحبسني) ، وإذا كان هذا في الأمانة، فكذلك أيضاً في الدين؛ يجب على الإنسان أن يبادر بقضاء دينه إذا كان حالاً، إلا أن يسمح له صاحب الدين فلا بأس أن يؤخر، أما إذا كان لم يسمح له؛ فإنه يجب عليه المبادرة لأدائه ن حتى إن العلماء ـ رحمهم الله ـ قالوا: إن فريضة الحج تسقط على من عليه الدين؛ حتى يؤديه؛ لأن الدين أمره عظيم، كان النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قبل أن يفتح الله عليه الفتوح؛ إذا جئ إليه بالرجل سال: (هل عليه دين؟) فإن قالوا: لا، تقدم وصلى عليه، وإن قالوا نعم، سأل: (هل له وفاء؟) فإن قالوا: نعم، تقدم وصلى، وإن قالوا: لا، تأخر ولم يصل. يترك الصلاة على الميت إذا كان عليه دين. فقدم إليه ذات يوم رجل من الأنصار، ليصلي عليه، فخطا خطوات، ثم قال: (هل عليه دين؟) قالوا: نعم يا رسول الله: ثلاثة دنانير وليس لها وفاء، فتأخر وقال: (صلوا على صاحبكم) فعرف ذلك في وجوه القوم، تغيرت وجوههم، كيف لم يصل عليه النبي عليه الصلاة والسلام؟! فتقدم أبو قتادة رضي الله عنه، وقال يا رسول الله، علي
دينه، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى عليه.
ومع الأسف؛ الآن تجد كثيراً من الناس عليه الدين؛ وهو قادر على(2/24)
الوفاء، ولكنه يماطل والعياذ بالله، وقد ثبت عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ، أنه قال: (مطل الغني ظلم) وأعلم أن الدين ليس كما يفهمه الناس؛ هو الذي يأخذ سلعة بثمن أكثر من ثمنها، الدين كل ما ثبت في الذمة، فهو دين حتى القرض ـ السلف ـ حتى إيجار البيت، حتى أجرة السيارة، أي شيءٍ يثبت في ذمتك فهو دين؛ عليك أن تبادر بوفائه ما دام حالاً.
وفي هذا الحديث أيضاً دليل على جواز التوكيل في قسم ما يجب على الإنسان قسمته؛ ولهذا قال: (فأمرت بقسمته) فأمر ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يقسم، وهذا التوكيل جائز في كل حق تدخله النيابة من حقوق الله؛ كالحج مثلاً، وأداء الزكاة، وحقوق الآدميين؛ كالبيع، والشراء، والرهن، وما أشبهها.
وخلاصة هذا الحديث: هو المبادرة إلى فعل الخيرات، وعدم التهاون في ذلك، واعلم أنك إذا عودت نفسك على التهاون اعتادت عليه وإذا عودتها على الحزم والفعل والمبادرة اعتادت عليه. وأسال الله ـ تعالى ـ أن يعينني وإياكم على ذكره، وشكره، وحسن عبادته.
* * *(2/25)
89 ـ الثالث: عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال: (في الجنة) فألقى تمرات كن في يده، ثم قاتل حتى قتل. متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ فيما نقله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وعن أبيه، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلت حتى قتلت، قال: (أنت في الجنة) ، فألقى تمرات كانت معه، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه، ففي هذا الحديث دليل على مبادرة الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ إلى الأعمال الصالحة، وأنهم لا يتأخرون فيها، وهذا شانهم؛ ولهذا كانت لهم العزة في الدنيا، وفي الآخرة.
ونظير هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم عيد، ثم نزل فتقدم إلى النساء فخطبهن، وأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة منهن تأخذ خرصها وخاتمها، وتلقيه في ثوب بلال، يجمعه، حتى أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتأخرن ـ رضي الله عنهن ـ بالصدقة، بل تصدقن حتى من حليهن.
وفي حديث جابر من الفوائد: أن من قتل في سبيل الله؛ فإنه في الجنة، ولكن من هو الذي يقتل في سبيل الله؟ الذي يقتل في سبيل الله: هو(2/26)
الذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، لا يقاتل حمية ولا شجاعة ولا رياء، وإنما يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، أما من قاتل حمية؛ مثل الذين يقاتلون من أجل القومية العربية مثلاً، فإن هؤلاء ليسوا شهداء؛ وذلك لأن القتال من أجل القومية العربية ليس في سبيل الله، لأنه حمية.
وكذلك أيضاً: من يقاتل شجاعة؛ يعني من تحمله شجاعته على القتال لأنه شجاع، والغالب أن الإنسان إذا اتصف بصفة يحب أن يقوم بها، فهذا أيضاً إذا قتل ليس في سبيل الله.
وكذلك أيضاً: من قاتل مراءاة والعياذ بالله؛ ليرى مكانه، وأنه رجل يقاتل الأعداء الكفار، فإنه ليس في سبيل الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه؛ أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) .
وفي هذا دليل على حرص الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على معرفة الأمور؛ لأن هذا الرجل سأل النبي عليه الصلاة والسلام، وكان هذا من عادتهم؛ أنهم لا يفوتون الفرصة حتى يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يستفيدون من هذا علماً وعملاً، فإن العالم بالشريعة قد من الله عليه بالعلم، ثم إذا عمل به فهذه منّه أخرى، والصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كان هذا شأنهم، فيسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الحكم الشرعي من أجل أن يعملوا به، بخلاف ما(2/27)
عليه من الناس اليوم، فإنهم يسألون عن الأحكام الشرعية؛ حتى إذا عملوا بها تركوها، ونبذوها وراء ظهورهم، وكأنهم لا يريدون من العلم لا مجرد المعرفة النظرية، وهذا في الحقيقة خسران مبين؛ لأن من ترك العمل بعد علمه به فإن الجاهل خير منه.
فإذا قال قائل: لو رأينا رجلاً يقاتلون، ويقولون: نحن نقاتل للإسلام، دفاعاً عن الإسلام، ثم قتل أحد منهم؛ فهل نشهد له بأنه شهيد؟ فالجواب: لا. لا نشهد بأنه شهيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مكلوم يكلم في سبيل الله ـ والله أعلم بمن يكلم في سبيله ـ إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثغب دماً، اللون لون الدم، والريح ريح المسك) فقوله: (والله أعلم بمن يكلم في سبيله) يدل على أن الأمر يتعلق بالنية المجهولة لنا، المعلومة عند الله، وخطب عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ذات يوم فقال: أيها الناس، إنكم تقولون: فلان شهيد وفلان شهيد، ولعله أن يكون قد أوقر راحلته؛ يعني قد حملها من الغلول؛ يعني لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا: من مات أو قتل في سبيل الله فهو شهيد، فلا تشهد لشخص بعينه أنه شهيد؛ إلا من شهد له النبي صلى الله عليه سلم فإنك تشهد له، وأما من سوى هذا فقل كلاماً عاماً قل: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، وهذا نرجو أن يكون من الشهداء، وما أشبه ذلك. والله الموفق.
* * *(2/28)
90 ـ الرابع: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان) متفق عليه.
(الحلقوم) : مجرى النفس. و (المريء) : مجرى الطعام والشراب.
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث ساقه المؤلف ـ رحمه الله ـ في باب المبادرة إلى فعل الخيرات، وعدم التردد في فعلها إذا أقبل عليها. فإن هذا الرجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الصدقة أفضل؟ وهو لا يريد أي الصدقة أفضل في نوعها، ولا في كميتها، وإنما يريد ما هو الوقت الذي تكون فيه الصدقة أفضل من غيرها، فقال له: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح) يعني صحيح البدن شحيح النفس؛ لأن الإنسان إذا كان صحيحاً كان شحيحاً بالمال؛ لأنه يأمل البقاء، ويخشى الفقر، أما إذا كان مريضاً، فإن الدنيا ترخص عنده، ولا تساوي شيئاً فتهون عليه الصدقة.
قال: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل البقاء وتخشى الفقر) وفي رواية: (تخشى الفقر وتأمل الغنى) ، ولكن الرواية الأولى أحسن، وقوله: (تأمل البقاء) يعني: أنك لكونك صحيحاً تأمل البقاء وطول(2/29)
الحياة؛ لأن الإنسان الصحيح يستبعد الموت، وإن كان الموت قد يفجأ الإنسان، بخلاف المريض؛ فإنه يتقارب الموت. وقوله: (وتخشى الفقر) يعني: لطول حياتك، فإن الإنسان يخشى الفقر إذا طالت به الحياة؛ لأن ما عنده ينفد، فهذا أفضل ما يكون؛ أن تتصدق في حال صحتك وشحك.
(ولا تهمل) أي لا تترك الصدقة، (حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت لفلان كذا ولفلان كذا) يعني لا تمهل، وتؤخر الصدقة، حتى إذا جاءك الموت وبلغت روحك حلقومك، وعرفت أنك خارج من الدنيا، (قلت: لفلان كذا) يعني صدقة، (ولفلان كذا) يعني صدقة، (وقد كان لفلان) أي قد كان المال لغيرك، (لفلان) : يعني للذي يرثك. فإن الإنسان إذا مات انتقل ملكه، ولم يبق له شيء من المال.
ففي هذا الحديث دليل على أن الإنسان ينبغي له أن يبادر بالصدقة قبل أن يأتيه الموت، وأنه إذا تصدق في حال حضور الأجل، كان ذلك أقل فضلاً مما لو تصدق وهو صحيح شحيح.
وفي هذا دليل على أن الإنسان إذا تكلم في سياق الموت فإنه يعتبر كلامه إذا لم يذهل، فإن أذهل حتى صار لا يشعر بما يقول فإنه لا عبرة بكلامه، لقوله: (حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان: كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان) .
وفيه دليل على أن الروح تخرج من أسفل البدن، تصعد حتى تصل إلى أعلى البدن، ثم تقبض من هناك، ولهذا قال: (حتى إذا بلغت الحلقوم) ، وهذا كقوله تعالى: (فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ(2/30)
تَنْظُرُونَ) (الواقعة: 83-84) فأول ما يموت من الإنسان أسفله، تخرج الروح بأن تصعد في البدن، إلى أن تصل إلى الحلقوم، ثم يقبضها ملك الموت، نسأل الله أن يختم لنا ولكم بالخير والسعادة. والله الموفق.
* * *
91 ـ الخامس: عن أنس رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ سيفاً يوم أحد فقال: (من يأخذ مني هذا؟ فبسطوا أيديهم، كل إنسان منهم يقول: أنا أنا. قال: (فمن يأخذه بحقه؟) فأحجم القوم، فقال أبو دجانة رضي الله عنه: أنا آخذه بحقه، فأخذه ففلق به هام المشركين. رواه مسلم.
اسم أبي دجانة: سماك بن خرشة. قوله: (أحجم القوم) أي توقفوا. و (فلق به) : أي شق، (هام المشركين) : أي رؤوسهم.
[الشَّرْحُ]
في هذا الحديث يقول أنس: إن الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد؛ وغزوة أحد إحدى الغزوات الكبار التي غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وأحد جبل قرب المدينة، وكان سبب الغزوة: أن قريشاً لما أصيبوا يوم بدر بقتل زعمائهم وكبرائهم؛ أرادوا أن يأخذوا بالثار من النبي صلى الله عليه وسلم فجاءوا إلى المدينة يريدون غزو الرسول صلى الله عليه وسلم فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حين علم بقدومهم، فأشار عليه بعضهم بالبقاء في المدينة، وأنهم إذا دخلوا المدينة أمكن أن يرموهم بالنبل وهم متحصنون في البيوت، وأشار بعضهم؛(2/31)
ولا سيما الشباب منهم والذين لم يحضروا غزوة بدر؛ أشار أن يخرج إليهم، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته ولبس لامته، يعني لامة الحرب، ثم خرج، وأمر بالخروج إليهم في أحد.
فالتقوا في أحد، وصف النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه صفاً مرتباً من أحسن ما يكون، وجعل الرماة الذين يحسنون الرمي بالنبل ـ وهم خمسون رجلاً ـ على الجبل، وأمر عليهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه وقال لهم: لا تبرحوا مكانكم، وابقوا في مكانكم، سواء كانت لنا أو علينا.
فلما التقى الصفان، انهزم المشركون وولوا الأدبار، وصار المسلمون يجمعون الغنائم، فقال الرماة الذين في الجبل: انزلوا نأخذ الغنائم، ونجمعها. فذكرهم أميرهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم لهم أن يبقوا في مكانهم، سواء كانت للمسلمين أو عليهم، ولكنهم ـ رضي الله عنهم ـ ظنوا أن الأمر قد انتهى؛ لأنهم رأوا المشركين ولوا ولم يبقى إلا نفر قليل، فلما رأى فرسان قريش أن الجبل قد خلا من الرماة؛ كروا على المسلمين من خلفهم، ثم اختلطوا بالمسلمين، فصار ما كان بقدر العزيز الحكيم جل وعلا، واستشهد من المسلمين سبعون رجلاً، ومنهم حمزة بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسد الله وأسد رسوله.
فلما أصيب المسلمين بهذه المصيبة العظيمة؛ قالوا: أنى هذا، كيف نهزم ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن جند الله، وأولئك معهم الشياطين: وهم جنود الشياطين، فقال الله عز وجل لهم: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (آل عمران: من الآية165) ، أنتم(2/32)
السبب، لأنكم عصيتم، كما قال الله تعالى: (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ) (آل عمران: من الآية152) يعني حصل ما تكرهون.
فحصل ما حصل؛ لحكم عظيمة؛ ذكرها الله عز وجل في سورة آل عمران، وتكلم عليها الحافظ ابن القيم ـ رحمه الله ـ كلاماً جيداً لم أر مثله في كتاب (زاد المعاد) ؛ في بيان الحكم العظيمة من هذه العزوة.
المهم أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أخذ سيفاً، فقال لأصحابه: (من يأخذ مني هذا السيف؟) كلهم قال: نأخذه، رفعوا أيديهم وبسطوها، يقولون: أنا أنا، فقال: (فمن يأخذه بحقه؟) ، فأحجم القوم؛ لأنهم يعلمون ما حقه، يخشون أن حقه يكون كبيراً جداً لا يستطيعون القيام به، ويخشون أيضاً أن يعجزوا عن القيام به، فيكونون قد أخذوا هذا السيف على العهد من رسول الله ثم لا يوفون به، ولكن الله وفق أبا دجانة ـ رضي الله عنه ـ فقال: أنا آخذه بحقه، فأخذه بحقه؛ وهو أن يضرب به حتى ينكسر، أخذه بحقه ـ رضي الله عنه ـ وقاتل به؛ وفلق به هام المشركين رضي الله عنه.
في هذا دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يبادر بالخير، وألا يتأخر، وأن يستعين بالله عز وجل، وهو إذا استعان بالله وأحسن به الظن؛ أعانه الله.
كثير من الناس ربما يستكثر العبادة، أو يرى أنها عظيمة، يستعظمها، فينكص على عقبيه، ولكن يقال للإنسان: استعن بالله، توكل على الله، وإذا استعنت بالله، وتوكلت عليه، ودخلت فيما يرضيه عز وجل؛ فأبشر(2/33)
بالخير وأن الله ـ تعالى ـ سيعينك؛ كما قال الله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق: من الآية3) .
وفي هذا دليل ـ أيضاً ـ على حسن رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته؛ لأنه لم يخص بالسيف أحد من الناس، ولكنه جعل الأمر لعموم الناس، وهكذا ينبغي للإنسان الذي استرعاه الله رعية، ألا يحابي أحداً، وألا يتصرف تصرفاً يظن أنه محاب فيه، لأنه إذا حابى أحداً، أو تصرف تصرفاً يظن أنه حابى فيه، حصل من القوم فرقة، وهذا يؤثر على الجماعة. أما لو امتاز أحد من الناس بميزة لا توجد في غيره، ثم خصه الإنسان بشيء، ولكنه يبين للجماعة أنه خصه لهذه الميزة؛ التي لا توجد فيهم؛ فهذا لا بأس به. والله الموفق.
* * *
92 ـ السادس: عن الزبير بن عدي قال: أتينا أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج. فقال: (اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم) سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ فيما نقله عن الزبير بن عدي؛ أنهم أتوا إلى أنس بن مالك رضي الله عنه؛ خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد عمر، وبقى إلى حوالي تسعين سنة من الهجرة النبوية، وكان قد أدرك وقته شيء من(2/34)
الفتن، فجاءوا يشكون إليه ما يجدون من الحجاج بن يوسف الثقفي؛ أحد الأمراء لخلفاء بني أمية، وكان معروفاً بالظلم وسفك الدماء، وكان جباراً عنيداً والعياذ بالله.
وهو الذي حاصر مكة لقتال عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وجعل يرمي الكعبة بالمنجنيق؛ حتى هدمها أو هدم شيئاً منها، وكان قد آذى الناس، فجاءوا يشكون إلى أنس بن مالك رضي الله عنه، فقال لهم أنس رضي الله عنه: اصبروا؛ أمرهم بالصبر على جور ولاة الأمور، وذلك لأن ولاة الأمور قد يسلطون على الناس؛ بسبب ظلم الناس، كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأنعام: 129) .
فإذا رأيت ولاة الأمور قد ظلموا الناس في أموالهم، أو في أبدانهم، أو حالوا بينهم وبين الدعوة إلى الله عز وجل، أو ما أشبه ذلك؛ ففكر في حال الناس؛ تجد أن البلاء أساسه من الناس، هم الذين انحرفوا؛ فسلط الله عليهم من سلط من ولاة الأمور، وفي الأثر ـ وليس بحديث ـ كما تكونون يولى عليكم.
ويذكر أن بعض خلفاء بني أمية ـ وأظنه عبد الملك بن مروان ـ جمع وجهاء الناس؛ لما سمع أن الناس يتكلمون في الولاية، جمع الوجهاء وقال لهم: أيها الناس، أتريدون أن نكون لكم كما كان أبو بكر وعمر؟
قالوا: بلى نريد ذلك، قال: كونوا كالرجال الذين تولى عليهم أبو بكر وعمر؛ لنكون لكم كأبي بكر وعمر، يعني أن الناس على دين ملوكهم، فإذا ظلم ولاة الأمور الناس؛ فإنه غالباً يكون بسبب أعمال الناس.(2/35)
وجاء رجل من الخوارج إلى على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وقال: ما بال الناس انتقضوا عليك ولم ينتقضوا على أبي بكر وعمر، قال: لأن رجال أبي بكر وعمر أنا وأمثالي، ورجالي أنت وأمثالك؛ يعني أن الناس إذا ظلموا سلطت عليهم الولاة.
ولهذا قال أنس: اصبروا، هذا هو الواجب، الواجب أن يصبر الإنسان، ولكل كربة فرجة، لا تظن أن الأمور تأتي بكل سهولة، الشر ربما يأتي بغتة ويأتي هجمة، ولكنه لن يدال على الخير أبداً، ولكن علينا أن نصبر، وأن نعالج الأمور بحكمة، لا نستسلم ولا نتهور، نعالج الأمور بحكمة وصبر وتأن، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران: 200) ، إن كنت تريد الفلاح فهذه أسبابه وهذه طرقه؛ أربعة أشياء: (اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .
ثم قال أنس بن مالك: فإنه لا يأتي على الناس زمان إلا وما بعده أشر منه، حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم. يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يأتي على الناس زمان إلا وما بعده أشر منه) . شر منه في الدين، وهذا الشر ليس شراً مطلقاً عاماً، بل قد يكون شراً في بعض المواضع، ويكون خيراً في مواضع أخرى وهكذا.
ومع هذا؛ فإن الناس كما ازادوا في الرفاهية، وكلما انفتحوا على الناس؛ انفتحت عليهم الشرور، فالرفاهية هي التي تدمر الإنسان؛ لأن الإنسان إذا نظر إلى الرفاهية وتنعيم جسده؛ غفل عن تنعيم قلبه، وصار(2/36)
أكبر همه أن ينعم هذا الجسد الذي مآله إلى الديدان والنتن، وهذا هو البلاء، وهذا هو الذي ضر الناس اليوم، لا تكاد تجد أحداً إلا ويقول: ما قصرنا؟ ما سيارتنا؟ ما فرشنا؟ ما أكلنا؟ حتى الذين يقرءون العلم ويدرسون العلم، بعضهم إنما يدرس لينال رتبة أو مرتبة يتوصل بها إلى نعيم الدنيا. وكأن الإنسان لم يخلق لأمر عظيم، والدنيا ونعيمها إنما هي وسيلة فقط. نسأل الله أن نستعمله وإياكم وسيلة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ما معناه: ينبغي على الإنسان أن يستعمل المال كما يستعمل الحمار للركوب، وكما يستعمل بيت الخلاء للغائط.
فهؤلاء هم الذين يعرفون المال ويعرفون قدره، لا تجعل المال أكبر همك، اركب المال، فإن لم تركب المال ركبك المال، وصار همك هو الدنيا.
ولهذا نقول: إن الناس كلما انفتحت عليهم الدنيا، وصاروا ينظرون إليها، فإنهم يخسرون من الآخرة بقدر ما ربحوا من الدنيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله ما الفقر أخشى عليكم) يعني ما أخاف عليكم الفقر، فالدنيا ستفتح. (ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوا كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتكم) ، وصدق الرسول(2/37)
عليه الصلاة والسلام، هذا الذي أهلك الناس اليوم، الذي أهلك الناس اليوم التنافس في الدنيا، وكونهم كأنهم إنما خلقوا لها لا أنها خلقت لهم، فاشتغلوا بما خلق لهم عما خلقوا له، وهذا من الانتكاس نسأل الله العافية.
وفي هذا الحديث وجوب الصبر على ولاة الأمور وإن ظلموا وجاروا، لأنك سوف تقف معهم موقفاً تكون أنت وإياهم على حد سواء؛ عند ملك الملوك، سوف تكون خصمهم يوم القيامة إذا ظلموك، لا تظن أن ما يكون في الدنيا من الظلم سيذهب هباءً أبداً، حق المخلوق لابد أن يؤخذ يوم القيامة؛ فأنت سوف تقف معهم بين يدي الله ـ عز وجل ـ ليقضي بينكم بالعدل، فاصبر وانتظر الفرج، فيحصل لك بذلك اطمئنان النفس والثبات، وانتظار الفرج عبادة، تتعبد لله به، وإذا انتظرت الفرج من الله فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً) .
وفي هذا التحذير من سوء الزمان، وأن الزمان يتغير، ويتغير إلى ما هو أشر. وقد قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذات يوم لأصحابه: (من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) وأظن أننا ـ وعيشنا في الدنيا قليل(2/38)
بالنسبة لمن سبق ـ نرى اختلافاً كثيراً. رأينا اختلافاً كثيراً بين سنين مضت وسنين الوقت الحاضر.
حدثني من أثق به؛ أن هذا المسجد ـ مسجد الجامع ـ كان لا يؤذن لصلاة الفجر إلا وقد تم الصف الأول، يأتي الناس إلى المسجد يتهجدون، أين المتهجدون اليوم إلا ما شاء الله؟ . قليل!! تغيرت الأحوال، كنت تجد الواحد منهم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كالطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً) إذا أصبح يقول: اللهم ارزقني، قلبه معلق بالله ـ عز وجل ـ فيرزقه الله، وأما الآن، فأكثر الناس في غفلة عن هذا الشيء، يعتمدون على من سوى الله، ومن تعلق شيئاً وكل إليه.
نعم في الآونة الأخيرة ـ والحمد لله ـ لا شك أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ فتح على الشباب فتحاً؛ أسأل الله تعالى أن يزيدهم من فضله، فتح عليهم وأقبلوا إلى الله، فتجد بين سنواتنا هذه الأخيرة، والسنوات الماضية بالنسبة للشباب فرقاً عظيماً، قبل نحو عشرين سنة؛ كنت لا تكاد تجد الشباب بالمسجد، أما الآن ـ ولله الحمد ـ فأكثر من في المسجد هم الشباب، وهذه نعمة ولله الحمد، يرجو الإنسان لها مستقبلاً زاهراً، وثقوا أن الشعب إذا صلح فسوف تضطر ولاة أموره إلى الصلاح مهما كان فنحن نرجو لإخواننا في غير هذه البلاد ـ الذين من الله ـ عليهم بالصلاح(2/39)
واستقاموا على الحق ـ أن يصلح لهم الولاة، ونقول: اصبروا فإن ولاتكم سيصلحون رغماً عنهم، فإذا صلحت الشعوب؛ صلحت الولاة بالاضطرار.
نسأل الله أن يصلح للمسلمين ولاة أمورهم وشعوبهم؛ إنه جواد كريم.
* * *
93 ـ السابع: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بادروا بالأعمال سبعاً هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر) . رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
[الشَّرْحُ]
سبق لنا أن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذكر في أحاديث متعددة؛ ما يدل على أنه من الحزم أن يبادر الإنسان بالأعمال الصالحة، وفي هذا الحديث أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أشياء متعددة، ينبغي للإنسان أن يبادر بالأعمال حذراً منها. فقال: (بادروا بالأعمال سبعاً) : يعني سبعة أشياء كلها محيطة بالإنسان؛ يخشى أن تصيبه، منها الفقر. قال: (هل تنظرون إلا فقراً منسياً أو غنى مطغياً) . الإنسان بين حالتين بالنسبة للرزق: تارة يغنيه الله ـ عز وجل ـ ويمده بالمال، والبنين، والأهل، والقصور، والمراكب، والجاه، وغير ذلك من أمور الغنى، فإذا رأى نفسه في هذه(2/40)
الحال؛ فإنه يطغى والعياذ بالله، ويزيد ويتكبر، ويستنكف عن عبادة الله، كما قال تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) (العلق: 6-8) ، يعني: مها بلغت من الاستغناء والعلو؛ فإن مرجعك إلى الله.
ونحن نشاهد أن الغنى يكون سبباً للفساد والعياذ بالله، تجد الإنسان في حال فقره مخبتاً إلى الله، مبنياً إليه، منكسر النفس، ليس عنده طغيان، فإذا أمده الله بالمال؛ استكبر ـ والعياذ بالله ـ وأطغاه غناه.
أو بالعكس: (فقراً منسياً) الفقر: قلة ذات اليد، بحيث لا يكون مع الإنسان مال، فالفقر ينسي الإنسان مصالح كثيرة؛ لأنه يشتغل بطلب الرزق عن أشياء كثيرة تهمه، وهذا شيء مشاهد؛ ولهذا يخشى على الإنسان من هذين الحالين؛ إما الغنى المطغي؛ أو الفقر المنسي. فإذا من الله على العبد بغنى لا يطغي، وبفقر لا ينسي، وكانت حاله وسطاً، وعبادته مستقيمة، وأحواله قويمة، فهذه هي سعادة الدنيا.
وليست سعادة الدنيا بكثرة المال؛ لأنه قد يطغي؛ ولهذا تأمل قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97) ، لم يقل: من عمل عملاً صالحاً من ذكر أو أنثى فلنوسعن عليه المال ولنعطينه المال الكثير، قال: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) ؛ إما بكثرة المال أو بقلة المال، ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله في الحديث القدسي: (إن من عبادي من لو أغنيته لأفسده الغنى، وإن من عبادي من لو أفقرته لأفسده(2/41)
الفقر) . وهذا هو الواقع، من الناس من يكون الفقر خيراً له، ومن الناس من يكون الغنى خيراً له، ولكن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ حذر من غنى مطغٍ وفقر منسٍ.
الثالث: قال: (أو مرضاً مفسداً) المرض يفسد على الإنسان أحواله، فالإنسان ما دام في صحة؛ تجد منشرح الصدر، واسع البال، مستأنساً، لكنه إذا أصيب بالمرض انتكب، وضاقت عليه الأرض، وصار همه نفسه، فتجده بمرضه تفسد عليه أمور كثيرة، لا يستأنس مع الناس، ولا ينبسط إلى أهله؛ لأنه مريض ومتعب في نفسه. فالمرض يفسد على الإنسان أحواله، والإنسان ليس دائماً يكون في صحة، فالمرض ينتظره كل لحظة. كم من إنسان أصبح نشيطاً صحيحاً وأمسى ضعيفاً مريضاً، بالعكس؛ أمسى صحيحاً نشيطاً، وأصبح مريضاً ضعيفاً. فالإنسان يجب عليه أن يبادر إلى الأعمال الصالحة؛ حذراً من الأمور.
الرابع: (أو هرماً منفداً) الهرم: يعني الكبر، فالإنسان إذا كبر وطالت به الحياة، فإنه ـ كما قال الله عز وجل (يرد إلى أرذل العمر) أي إلى أسوئه وآرائه، فتجد هذا الرجل الذي عهدته من أعقل الرجال، يرجع حتى يكون مثل الصبيان، بل هو أردأ من الصبيان؛ لأن الصبي لم يكن قد عقل، فلا يدري عن شيء، لكن هذا قد عقل وفهم الأشياء، ثم رد إلى أرذل العمر، فيكون هذا أشد عليه؛ ولذلك نجد أن الذين يردون إلى أرذل العمر ـ من كبار(2/42)
السن ـ يؤذون أهليهم أشد من إيذاء الصبيان؛ لأنهم كانوا قد عقلوا، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من أن يرد إلى أرذل العمر.
نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من الرد إلى أرذل العمر؛ لأن الإنسان إذا رد إلى أرذل العمر؛ تعب وأتعب غيره، حتى إن أخص الناس به يتمنى أن يموت؛ لأنه آذاه وأتعبه، وإذا لم يتمن بلسان المقال؛ فربما يتمنى بلسان الحال.
أما الخامس: (فالموت المجهز) : يعني أن يموت الإنسان، والموت لا ينذر الإنسان قد يموت الإنسان بدون إنذار، قد يموت على فراشه نائماً، وقد يموت على كرسيه عاملاً، وقد يموت في طريقه ماشياً، وإذا مات الإنسان انقطع عمله، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو لد صالح يدعو له) فبادر بالعمل قبل الموت المجهز، الذي يجهزك ولا يمهلك.
السادس: (أو الدجال فشر غائب ينتظر) الدجال: صيغة مبالغة من الدجل؛ وه الكذب والتمويه، وهو رجل يبعثه الله ـ سبحانه وتعالى ـ في آخر الزمان، يصل إلى دعوى الربوبية، يدعي أنه رب، فيمكث في فتنته(2/43)
هذه أربعين يوماً؛ يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع؛ يعني كجمعة. وسائر أيامه كالأيام المعتادة، لكن يعطيه الله ـ عز وجل ـ من القدرات ما لم يعط غيره، حتى إنه يأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض فتنبت، ويأمر الأرض فتجدب، والسماء فتقحط: تمنع المطر، ومعه جنة ونار، لكنها مموهة؛ جنته نار، وناره جنة.
هذا الرجل أعور العين، كأن عينه عنبة طافية، مكتوب بين عينيه (كافر) كاف. فاء. راء. يقرؤه كل مؤمن؛ الكاتب وغير الكاتب، ولا يقرؤه المنافق ولا الكافر ـ ولو كان قارئاً كاتباً ـ وهذا من آيات الله.
هذا الرجل يرسل الله عليه عيسى ابن مريم عليه الصلاة السلام، فينزل من السماء فيقتله. كما جاء في بعض الأحاديث بباب لدّ في فلسطين حتى يقضي عليه.
فالحاصل أن الدجال شر غائب ينتظر؛ لأن فتنته عظيمة؛ ولهذا نحن في صلاتنا ـ في كل صلاة ـ نقول: أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال. خصمها، لأنها أعظم فتنة تكون في حياة الإنسان.
السابع: (أو الساعة) يعني قيام الساعة الذي فيه الموت العام،(2/44)
والساعة أدهى وأمر كما قال الله عز وجل: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) (القمر: 46) .
فهذه سبع حذر منها النبي عليه الصلاة والسلام، وأمرنا أن نبادر بالأعمال هذه السبع، فبادر يا أخي المسلم بأعمالك الصالحة قبل أن يفوتك الأوان، فأنت الآن في نشاط، وفي قوة، وفي قدرة، لكن قد يأتي عليك زمان لا تستطيع ولا تقدر على العمل الصالح، فبادر وعود نفسك، وأنت إذا عودت نفسك العمل الصالح إعتادته، وسهل علينا وانقادت له، وإذا عودت نفسك الكسل والإهمال؛ عجزت عن القيام بالعمل الصالح، نسأل الله أن يعينني وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
* * *
94 ـ الثامن: عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: (لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه) قال عمر رضي الله عنه: ما أحببت الإمارة إلا يؤمئذ، فتساورت لها رجاء أن أدعى لها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه، فأعطاه إياها، وقال: (امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك) فسار على شيئاً، ثم وقف ولم يلتفت؛ فصرخ: يا رسول الله، على ماذا أقاتل الناس؟ قال: (قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) رواه مسلم.(2/45)
(فتساورت) هو بالسين المهملة: أي وثبت متطلعاً.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: (لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله) ، وفي لفظ: (ويحبه الله ورسوله) يوم خيبر: يعني يوم غزوة خيبر، وخيبر حصون ومزارع كانت لليهود؛ تبعد عن المدينة نحو مائة ميل نحو الشمال الغربي، فتحها النبي عليه الصلاة والسلام كما هو معروف في السير، وكان الذين يعملون فيها اليهود، فصالحهم النبي عليه الصلاة والسلام على أن يبقوا فيها مزارعين بالنصف؛ لهم نصف الثمرة، وللمسلمين نصف الثمرة، وبقوا على ذلك حتى أجلاهم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في خلافته، أجلاهم إلى الشام وإلى أذرعات.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لأعطينه الراية رجلاً يحب الله ورسوله) الراية: هي ما يسمى عندنا العلم، يحمله القائد من أجل أن يهتدي به الجيش وراءه، فقال: (لأعطينه الراية رجلاً يحب الله ورسوله) وقوله: (رجلاً) نكرة لا يعلم من هو، قال عمر بن الخطاب: فما تمنيت الإمارة إلا يومئذ، رجاء أن يصيبه ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام، فتسورت لها وبات الناس تلك الليلة يخوضون ويدوكون، كل منهم يرجو أن يعطاها، فلما أصبحوا قال النبي صلى الله عليه وسلم: أين علي بن أبي طالب؟ ابن(2/46)
عمه قالوا: يا رسول الله، إنه يشتكي عينيه، يعني عنده وجع في عينيه، فدعا به، فجاء، فبصق في عينيه؛ فبرأ كأن لم يكن به وجع في الحال، والله على كل شيء قدير، ثم أعطاه الراية، وقال له: (امش ولا تلتفت حتى يفتح الله) .
ففعل ـ رضي الله عنه ـ فلما مشى قليلاً وقف، ولكنه لم يلتفت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: لا تلتفت، فصرخ بأعلى صوته: يا رسول الله، على ماذا أقاتلهم؟ بدون التفات؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لا تلتفت؛ قال: (قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) ؛ هذه الكلمة كلمة عظيمة، ولو وزنت بها السماوات والأرض لرجعت بالسماوات والأرض، هذه الكلمة يدخل بها الإنسان من الكفر الإسلام، فهي باب الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، (فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) يعني إذا قالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، فإنهم لا يقاتلون، منعوا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، أي بحق لا إله إلا الله؛ أي بالحقوق التابعة لها؛ لأن لا إله إلا الله ليست مجرد لفظ يقوله الإنسان بلسانه، بل لها شروط ولها أمور لابد أن تتم، ولهذا قيل لبعض السلف: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مفتاح الجنة لا إله إلا الله) ؟ فقال نعم، مفتاح الجنة لا إله إلا الله، لكن لابد من عمل؛ لأن المفتاح يحتاج إلى أسنان، وقد صدق رحمه الله: المفتاح يحتاج إلى
أسنان، لو جئت بمفتاح بدون أسنان ما فتح لك.
إذن: قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إلا بحقها) يشمل كل شيء(2/47)
يكفر به الإنسان مع قول لا إله إلا الله، فإن من كفر وإن كان يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولكنه أتى بمكفر؛ فإن هذه الكلمة لا تنفعه.
ولهذا كان المنافقون يذكرون الله، يقولون: لا إله إلا الله، وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم، هيئتهم وشكلهم كأنهم أكمل المؤمنين إيماناً، ويأتون للرسول صلى الله عليه وسلم يقولون له: نشهد إنك لرسول الله، الكلام مؤكد بثلاث مؤكدات (نشهد) و (إن) و (اللام) في (نَشْهَدُ إِنَّك لَرَسُولُ َاللَّهُ) فقال رب العزة والجلال الذي يعلم ما في الصدور: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) (المنافقون: 1) ، أعطاهم شهادة بشهادة، يشهد إن المنافقون لكاذبون، وأكد الله ـ عز وجل ـ كذب هؤلاء في قولهم: نشهد إنك لرسول الله، بثلاثة مؤكدات، فليس كل من قال لا إله إلا الله؛ يعصم دمه وماله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى فقال: (إلا بحقها) .
ولما منع الزكاة من منعها من العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، واستعد أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ لقتالهم، تكلم معه من تكلم من الصحابة، وقالوا: كيف تقاتلهم وهم يقولون: لا إله إلا الله؟ قال رضي الله عنه: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، الزكاة حق المال، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا بحقها) فقاتلهم ـ رضي الله عنه ـ على ذلك، وانتصر ولله الحمد.
فالحاصل: أنه ليس كل من قال لا إله إلا الله، فإنه يمنع دمه وماله، ولكن لابد من حق، ولذلك قال العلماء رحمهم الله: لو أن قرية من القرى تركوا الأذان والإقامة؛ فإنهم لا يكفرون، ولكن يقاتلون، وتستباح دمائهم حتى يؤذنوا ويقيموا، مع أن الأذان والإقامة ليسا من أركان(2/48)
الإسلام، لكنها من حقوق الإسلام، قالوا: ولو تركوا صلاة العيد مثلاً، مع أن صلاة العيد ليست من الفرائض الخمس، لو تركوا صلاة العيد وجب قتالهم، يقاتلون بالسيف والرصاص حتى يصلوا العيد، مع أن صلاة العيد فرض كفاية، أو سنة عند بعض العلماء، أو فرض عين على القول الراجح، لكن الكلام على أن القتال قد يجوز مع إسلام المقاتلين؛ ليذعنوا لشعائر الإسلام الظاهرة؛ ولهذا قال هنا: (إلا بحقها) .
وفي هذا الحديث دليل على أنه يجوز للإنسان أن يقول: لأفعلن كذا في المستقبل، وإن لم يقل: إن شاء الله. ولكن يجب أن نعلم الفرق بين شخص يخبر عما في نفسه، وشخص يخبر أنه سيفعل، يعني يريد الفعل.
أما الأول فلا بأس أن يقول سأفعل بدون إن شاء الله؛ لأنه إنما يخبر عما في نفسه، وأما الثاني: الذي يريد أنه يفعل؛ أي يوقع الفعل فعلاً.
فهذا لا يقل إلا مقيداً بالمشيئة، قال تعالى: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه ُ) (الكهف: 23-24) ، فهناك فرق بين من يخبر عما في نفسه، وبين من يقول إنني سأفعل غداً. غداً ليس إليك، ربما تموت قبل غد، وربما تبقى، ولكن يكون هناك موانع وصوارف، وربما تبقى ويصرف الله همتك عنه، كما يقع كثيراً، كثيراً ما يريد الإنسان أن يفعل فعلاً غداً أو آخر النهار، ثم يصرف الله همته.
ولهذا قيل لبعض الأعراب ـ والأعراب سبحان الله عندهم أحياناً جواب فطري ـ قيل له: بم عرفت ربك؟ فأجاب قائلاً: الأثر يدل على المسير، والبعير تدل على البعير. فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج،(2/49)
وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟ ـ الله أكبر ـ أعرابي لا يعرف؛ لكنه استدل بعقله، فهذه الأمور العظيمة ألا تدل على خالق يخلقها ويدبرها؟ بلى والله.
وسئل آخر: بم عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم وصرف الههم؛ فكيف هذا؟ يعزم الإنسان على شيء ثم تنتقض عزيمته بدون أي سبب ظاهر، إذن: من الذي نقضها؟ الذي نقض العزيمة هو الذي أودعها أولاً، وهو الله عز وجل، وصرف الههم؛ حيث يهم الإنسان بالشيء ـ وربما يبدأ به فعلاً ـ ثم ينصرف.
إذن نقول: إن في هذا الحديث دليل على أن الإنسان له أن يقول سأفعل كذا؛ إخباراً عما في نفسه، لا جزماً بأن يفعل، لأن المستقبل له الله، لكن إذا أخبرت عما في نفسك فلا حرج. والله الموفق.(2/50)
11 ـ باب المجاهدة
قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69) . وقال تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين ُ) (الحجر: 99) . وقال تعالى: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) (المزمل: 8) ، أي انقطع إليه. وقال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة: 7) ، وقال تعالى: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) (المزمل: 20) ، وقال تعالى: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة: 273) ، والآيات في الباب كثيرة معلومة.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (باب المجاهدة) المجاهدة تعني مجاهدة الإنسان نفسه ومجاهدة غيره، فأما مجاهدة الإنسان نفسه فإنها من أشق الأشياء، ولا تتم مجاهدة الغير إلا بمجاهدة النفس أولاً، ومجاهدة النفس تكون بأن يجاهد الإنسان نفسه على شيئين، على فعل الطاعات، وعلى ترك المعاصي؛ لأن فعل الطاعات ثقيل على النفس إلا من خففه الله عليه، وترك المعاصي كذلك ثقيل على النفس إلا من خففه الله عليه، فتحتاج النفس إلى مجاهدة لا سيما مع قلة الرغبة في الخير، فإن الإنسان يعاني من نفسه معاناةً شديدة؛ ليحملها على فعل الخير.
ومن أهم ما يكون من هذا مجاهدة النفس على الإخلاص لله ـ عز وجل ـ في العبادة؛ فإن الإخلاص، أمره عظيم وشاق جداً، حتى إن بعض(2/51)
السلف يقول: (ما جاهدت نفسي على شيءٍ مجاهدتها على الإخلاص ولهذا كان جزاء المخلصين أن من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه حرمه الله على النار.
لكن متى يكون هذا الأمر؟ إن هذا الأمر شديد جداً، فالمجاهدة على الإخلاص لله من أشق ما يكون على النفوس؛ لأن النفوس لها حظوظ؛ ولأن الإنسان يحب أن يكون مرموقاً عند الناس، ويحب أن يكون محترماً بين الناس، ويحب أن يقال: إن هذا رجل عابد، هذا رجل فيه كذا وكذا من خصال الخير، فيدخل الشيطان على الإنسان من هذا الباب، ويحمله على مراءاة الناس. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (من سمع سمّع الله به، ومن راءَى راءى الله به) . يعني أظهر أمره للناس حتى ينكشف والعياذ بالله.
كذلك أيضاً مما يجاهد الإنسان نفسه عليه: فعل الطاعات الشاقة مثل الصوم، فإن الصوم من أشق الطاعات على النفوس؛ لأن فيه ترك المألوف من طعام وشراب ونكاح، فتجده يكون شاقاً على الناس إلا من يسره الله عليه وخفف عنه. تجد بعض الناس مثلاً إذا دخل رمضان كأنما وضع على ظهره جبل ـ والعياذ بالله ـ لأنه يستثقل الصوم ويرى أنه شاق، حتى إن بعضهم يجعل حظ يومه النوم، وحظ ليله السهر في أمر لا خير له فيه؛ كل ذلك من أجل مشقة هذه العبادة عليه.(2/52)
كذلك أيضاً من الأشياء التي تحتاج إلى مجاهدة، مجاهدة الإنسان نفسه على الصلاة مع الجماعة؛ كثير من الناس يسهل عليه أن يصلي في بيته، لكن يشق عليه أن يصلي مع الجماعة في المسجد، فتجده مع نفسه في جهاد، يقول: أصبر، أؤدي هذا الشغل، أو أفعل كذا، أو أفعل كذا، حتى.. سوف.. فتفوته صلاة الجماعة، وثقل صلاة الجماعة على الإنسان يدل على أن في قلب الإنسان نفاقاً، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، لو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً) وهذا يحتاج إلى المجاهدة.
أما مجاهدة النفس علي ترك المحرم؛ فما أكثر المحرمات التي يشق علي بعض الناس تركها، فتجد البعض يعتاد على فعل المحرم ويشق عليه تركه، ولنضرب لهذا مثلين.
المثل الأول: الدخان، فإن كثيراً من الناس ابتلي بشرب الدخان، وأول ما خرج الدخان اختلف العلماء فيه؛ منهم من قال: إنه حلال، ومنهم من قال: إنه حرام، ومنهم من قال: إنه مكروه، ومنهم من ألحقه بالخمر حتى أوجب الحد على شاربه، ولكن بعد أنه مضت الأيام تبين تبيناً لا شك فيه أنه حرام؛ لأن الأطباء أجمعوا على أنه مضر بالصحة، وأنه سبب لأمراض مستعصية تؤدي بالإنسان إلى الموت، ولهذا تجد بعض(2/53)
المدخنين يموت وهو يكلمك، ويموت وهو على الفراش، وإذا حمل أدنى شيء انقطع قلبه ومات، وهذا يدل على أنه ضار، والشيء الضار محرم على الإنسان؛ لأن الله يقول: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) (النساء: من الآية29) ، ويشق على بعض المبتلين بهذا الدخان أن يدعه، مع أنه لو عود نفسه على تركه شيئاً فشيئاً، وأبتعد عن الذين يشربونه لسهل عليه الأمر، وصار يكره شم رائحته، لكن المسألة تحتاج إلى عزيمة قوية وإيمان صادق.
المثل الثاني: مما يشق على كثير من الناس، وقد ابتلى به الكثير: حلق اللحى، فإن حلق اللحية محرم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (خالفوا المجوس. خالفوا المشركين، وفروا اللحى وأحفوا الشوارب) . كثير من الناس قد غلبته نفسه فصار يحلق لحيته، ولا أدرى ماذا يجني من حلق اللحية؟ لا يجني إلا معاصي تتراكم عليه حتى تضعف إيمانه والعياذ بالله، لأن من مذهب أهل السنة والجماعة أن المعاصي تنقص الإيمان، فيكسب حالق اللحية معاصي تنقص إيمانه، مع أنه لا يزيد نشاطه ولا صحته، ولا تندفع عنه بذلك الأمراض، ولكن ابتلي بهذا الشيء وصار شاقاً عليه، فعلى الإنسان أن يجاهد نفسه على فعل الأوامر وعلى ترك النواهي، حتى يكون من المجاهدين في الله ـ عز وجل ـ وقد قال الله تعالى في جزائهم:(2/54)
(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين َ) (العنكبوت: 69) .
أما مجاهدة الغير فإنها تنقسم إلى قسمين: قسم بالعلم والبيان، وقسم بالسلاح.
أما من مجاهدته بالعلم والبيان فهو الذي يتسمى بالإسلام وليس من المسلمين؛ مثل المنافقين وأهل البدع المكفرة وما أشبه ذلك، فإن هؤلاء لا يمكن أن نجاهدهم بالسلاح؛ لأنهم يتظاهرون بالإسلام وأنهم معنا، ولكننا نجاهدهم بالعلم والبيان، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة: 73) ، فجاهد الكفار يكون بالسلاح، وجهاد المنافقين يكون بالعلم والبيان.
ولهذا كان الرسول -عليه الصلاة والسلام ـ يعلم بأن في أصحابه منافقين، ويعلمهم بأعيانهم، ولكنه لا يقتلهم، واستؤذن في قتلهم فقال: (لا يتحدث الناس بأن محمداً يقتل أصحابه) ، فكذلك الذين ينضوون تحت لواء الإسلام من أهل البدع لا نقاتلهم بالسلاح، لكننا نقاتلهم بالعلم والبيان.
ولهذا كان واجباً على شباب الأمة الإسلامية أن يتعلموا العلم على وجه راسخ ثابت، لا على وجه سطحي كما يوجد في كثير من بيوت العلم، حيث يتعلمون علماً سطحياً لا يرسخ بالذهن، علماً يقصد به(2/55)
الإنسان أن يحصل على بطاقة أو شهادة فقط، ولكن العلم الحقيقي هو العلم الذي يرسخ في القلب، ويكون كالملكة للإنسان، حتى إن الإنسان الذي يوفق لهذا النوع من العلم؛ تجده لا تكاد تأتيه مسألة من المسائل إلا عرف كيف يخرجها على الأدلة من الكتاب والسنة والقياس الصحيح، فلابد من علم راسخ.
والناس اليوم في عصرنا محتاجون إلى هذا النوع من العلم؛ لأن البدع بدأ يفشو ظلامها في بلدنا هذه؛ بعد أن كانت نزيهة منها، لكن نظراً لانفتاحنا على الناس، وانفتاح الناس علينا، وذهاب بعضنا إلى بلاد أخرى، ومجيء آخرين إلى بلادنا ليسوا على عقيدة سليمة؛ بدأت البدع تظهر ويفشو ظلامها. وهذه البدع تحتاج إلى نور من العلم يضيء الطريق حتى لا يصيب بلادنا ما أصاب غيرها من البدع المنكرة العظيمة التي قد تصل إلى الكفر ـ والعياذ بالله ـ. فلابد من مجاهدة أهل البدع وأهل النفاق بالعلم والبيان، وبيان بطلان ما هم عليه؛ بالأدلة المقنعة من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة الهدى من بعدهم.
أما النوع الثاني من جهاد الغير: فهو الجهاد بالسلاح، وهذا في جهاد الأعداء الذين يظهرون العداوة للإسلام ويصرحون بذلك؛ مثل اليهود والنصارى الذين يسمون بالمسيحيين، والمسيح منهم بريء عليه الصلاة والسلام، المسيح لو أنه خرج لقاتلهم وهم ينتسبون إليه، يقول الله عز وجل: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ(2/56)
دُونِ اللَّهِ) (المائدة: 116) ، فماذا كان جواب عيسى؟ : (قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المائدة: 116، 117) .
فعيسى بن مريم قال لهم ما أمرهم الله به: اعبدوا الله ربي وربكم، ولكنهم كانوا يعبدون عيسى، ويعبدون مريم، ويعبدون الله ويقولون إن الله ثالث ثلاثة، إذن؛ كيف يصح أن ينتسب هؤلاء إلى عيسى وهو يتبرأ منهم أمام الله عز وجل.
فاليهود والنصارى والمشركين من البوذيين وغيرهم، والشيوعيين، كل هؤلاء أعداء للمسلمين؛ يجب على المسلمين أن يقاتلوهم حتى تكون كلمة الله هي العليا، ولكن مع الأسف، فالمسلمون اليوم في ضعف شديد، وفي هوان وذل، يقاتل بعضهم بعضاً أكثر مما يقاتلون أعداءهم، هم فيما بينهم يتقاتلون أكثر مما يتقاتلون مع أعدائهم، ولهذا سلط الأعداء علينا، وصرنا كالكرة بأيديهم؛ يتقاذفونها حيث يشاءون.
فلهذا يجب على المسلمين أن ينتبهوا لهذا الأمر، وأن يعدوا العدة؛ لأن الله تعالى قال: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) (لأنفال: 60) وقال عز وجل: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا(2/57)
الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة: 29) .
(يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) أي: يبذلون الجزية لنا (عَنْ يَدٍ) فيها قولان للعلماء: (عَنْ يَدٍ) يعني عن قوة منا علينا، أو (عَنْ يَدٍ) يعني عن واحدة من أيديهم، بحيث يمدها هو بنفسه ـ اليهودي أو النصراني ـ ولهذا قال العلماء: لو أرسل بها خادمه لم نأخذها حتى يأتي بنفسه ويسلمها للمسؤول من المسلمين. وتصوروا؛ كيف يريد الله منا؟ وكيف يكون الإسلام في هذه العزة؟ تضرب عليهم الجزية، ويأتون بها هم بأنفسهم، ولو كان أكبر واحد منهم يأتي بها حتى يسلمها إلى المسؤول في الدولة الإسلامية عن يد وهو صاغر أيضاً، لا يأتي بأبهة وبجنود وبقوم وبحشم، لا. بل يأتي وهو صاغر.
ثم إذا قال قائل: كيف تكون تعاليم الإسلام هكذا؟ أليست هذه عصبية؟ قلنا: عصبية لمن؟ هل المسلمون يريدون عصبية لهم يستطيلون بها على الناس؟ .. أبداً فالمسلمون أحسن الناس أخلاقاً، لكنهم يريدون أن تكون كلمة الخالق الذي خلقهم وخلق هؤلاء هي العليا، ولا يمكن أن تكون هي العليا حتى يكون المسلمون هم الأعلون، ولكن متى يكون المسلمون هم الأعلون؟ يكونون كذلك إذا تمسكوا بدين الله حقاً ظاهراً وباطناً، وعرفوا أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
أما أن يذلوا عن دين الله، ثم يذلوا أمام أعداء الله، ثم يصيروا أذناباً لأعداء الله، فأين العزة إذن؟ .. لا يمكن أن تكون بهذا عزة أبداً.
الإسلام دين حق، دين علو، قال الله عز وجل: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى(2/58)
السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ) (محمد: 35) ، أي شيء تريدون بعد؟ .. أنتم الأعلون، والله معكم؛ كيف تدعون إلى السلم؟ كيف تهنون؟ ولكن نظراً لتأخرنا في ديننا، تأخرنا وكنا على العكس من ذلك، كان الناس في عهد السلف الصالح يمشي المسلم وهو يرى أنه هو المستحق لأرض الله، لأن الله قال في كتابه: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: 105) ، فهو يرى أنه صاحب الأرض.
أما الآن فبالعكس ـ مع الأسف الشديد ـ ولهذا نحن نحث أبناءنا وشبابنا على أن يفقهوا الدين حقيقة، يتمسكوا به حقيقة، وأن يحذروا أعداء الله ـ عز وجل ـ وأن يعلموا أنه لا يمكن لعدو الله وعدوهم أن يسعى في مصلحتهم إطلاقاً، بل لا يسعى إلا لمصلحة نفسه، وتدمير المسلمين ومن ورائهم الإسلام. فنسأل الله تعالى أن يعزنا بدينه وأن يعز دينه بنا، وأن يجعلنا من دعاة الحق وأنصاره، وأن يهيئ للأمة الإسلامية قادة خير يقودونها لما فيه صلاحها وسعادتها في دينها ودنياها.
* * *
وأما الأحاديث:
فالأول: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب. وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني(2/59)
لأعيذنه) رواه البخاري.
(آذنته) : أعلمته بأني محارب له: (استعاذني) روي بالنون وبالباء.
[الشَّرْحُ]
نقل المؤلف ـ رحمه الله ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) والمعاداة هي المباعدة، وهي ضد الموالاة، والولي بينه الله ـ عز وجل ـ في قوله: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وكَانُواْ يتَقُونَ) (يونس: 62-63) ، هؤلاء هم أولياء الله، (الَّذِينَ آمَنُوا) أي حققوا الإيمان في قلوبهم بكل ما يجب الإيمان به، (وكَانُواْ يتَقُونَ) أي حققوا العمل الصالح بجوارحهم، فاتقوا جميع المحارم من ترك الوجبات، أو فعل المحرمات، فهم جمعوا بين صلاح الباطن بالإيمان، وصلاح الظاهر بالتقوى، هؤلاء هم أولياء الله.
وليست ولاية الله سبحانه وتعالى تأتي بالدعوى، كما يفعله بعض الدجالين الذين يموهون على العامة بأنهم أولياء لله وهم أعداء والعياذ بالله، فتجد في بعض البلاد الإسلامية أناساً يموهون للعامة؛ يقولون: نحن أولياء، ثم يفعل من العبادات الظاهرة ما يموه به على العامة وهو من أعداء الله، لكنه يتخذ من هذه الدعوة وسيلة إلى جمع المال، وإلى إكرام الناس له، وإلى تقربهم إليه وما أشبه ذلك.(2/60)
وعندنا ـ ولله الحمد ـ ضابط بينه الله عز وجل، وتعريف بين للأولياء (الَّذِينَ آمَنُوا وكَانُواْ يتَقُونَ) هؤلاء هم أولياء الله، فالذي يعادي أولياء الله يقول الله ـ عز وجل ـ: (فقد آذنته بالحرب) ، يعني أعلنت عليه الحرب. فالذي يعادي أولياء الله محارب لله ـ عز وجل ـ نسأل الله العافية، ومن حارب الله فهو مهزوم مخذول لا تقوم له قائمة.
ثم قال سبحانه وتعالى: (وما تَقربَ إلى عبدي بشَيءٍ أَحبَ إليَّ ممّا افتَرضتُ عليه) ، يعني أن الله يقول: ما تقرب إلي الإنسان بشيء أحب إلي مما افترضه عليه، يعني أن الفرائض أحب إلى الله من النوافل، فالصلوات الخمس مثلاً أحب إلى الله من قيام الليل، وأحب إلى الله من النوافل، وصيام رمضان أحب إلى الله من صيام الاثنين والخميس، والأيام الست من شوال، وما أشبهها. كل الفرائض أحب إلى الله من النوافل.
ووجه ذلك أن الفرائض وكدها الله عز وجل فألزم بها العباد، وهذا دليل على شدة محبته لها عز وجل، فلما كان يحبها حباً شديداً ألزم بها العباد، وأما النوافل فالإنسان حر؛ إن شاء تنفل وزاد خيراً، وإن شاء لم يتنفل، لكن الفرائض أحب إلى الله وأوكد، والغريب أن الشيطان يأتي الناس، فتجدهم في النوافل يحسنونها تماماً؛ تجده مثلاً في صلاة الليل يخشع ولا يتحرك، ولا يذهب قلبه يميناً ولا شمالاً، لكن إذا جاءت الفرائض فالحركة كثيرة، والوساوس كثيرة، والهواجس بعيدة، وهذا من تزيين الشيطان، فإذا كنت تزين النافلة؛ فالفريضة أحق بالتزيين، فأحسن الفريضة لأنها أحب إلى الله عز وجل من النوافل.(2/61)
(وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه) اللهم نسألك من فضلك. النوافل تقرب إلى الله وهي تكمل الفرائض، فإذا أكثر الإنسان من النوافل مع قيامه بالفرائض، نال محبة الله، فيحبه الله، وإذا أحبه فكما يقول الله ـ عز وجل ـ (كنت سمعه الذي سمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) يعني أنه يكون مسدداً له في هذه الأعضاء الأربعة؛ في السمع، يسدده في سمعه فلا يسمع إلا ما يرضي الله. كذلك أيضاً بصره، فلا ينظر إلا إلي ما يحب الله النظر إليه، ولا ينظر إلي المحرم، ولا ينظر نظراً محرماً؛ ويده؛ فلا يعمل بيده إلا ما يرضي الله، لأن الله يسدده، وكذلك رجله؛ فلا يمشي إلا إلى ما يرضي الله، لأن الله يسدده، فلا يسعى إلا إلى ما فيه الخير، وهذا يعني قوله: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) .
وليس المعنى أن الله يكون نفس السمع، ونفس البصر، ونفس اليد، ونفس الرجل ـ حاشا لله ـ فهذا محال، فإن هذه أعضاء وأبعاض لشخص مخلوق لا يمكن أن تكون هي الخالق، ولأن الله تعالى أثبت في هذا الحديث في قوله: (وأن سألني أعطيته، ولئن استعاذ ني لأعيذنه) فأثبت سائلاً ومسؤولاً، وعائذاً ومعوذاً به، وهذا غير هذا. ولكن المعنى أنه يسدد الإنسان في سمعه وبصره وبطشه ومشيه.
وفي قول سبحانه وتعالى في هذا الحديث القدسي: (وإن سألني أعطيته) دليل على أن هذا الولي الذي تقرب إلى الله تعالى بالفرائض ثم(2/62)
بالنوافل إذا سأل الله أعطاه، فكان مجاب الدعوة، وهذا الإطلاق يقيد بالأحاديث الأخرى الدالة على أنه يعطي السائل سؤاله ما لم يسال إثماً أو قطيعة رحم، فإن سال إثماً فإنه لا يجاب، لكن الغالب أن الولي لا يسأل الإثم، لأن الولي هو المؤمن التقي، والمؤمن التقي لا يسأل إثماً ولا قطيعة رحم.
(ولئن استعاذ ني لأعيذنه) يعني لئن اعتصم بي ولجأ إلى من شر كل ذي شر لأعيذنه، فيحصل له بإعطائه مسئوله وإعاذته مما يتعوذ منه المطلوب، ويزول عنه الموهوب.
وفي هذا الحديث عدة فوائد:
أولاً: إثبات الولاية له ـ عز وجل ـ وولاية الله تعالى تنقسم إلى قسمين: ولاية عامة، وهي السلطة على جميع العباد، والتصرف فيهم بما أراد. كل إنسان؛ فإن الذي يتولى أموره وتدبيره وتصريفه هو الله عز وجل، ومن ذلك قوله ـ تبارك وتعالى ـ (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) (الأنعام: 61، 62) ، فهذه ولاية عامة تشمل جميع الخلق، والولاية العامة تكون بغير سبب من الإنسان، ويتولى الله الإنسان، شاء أم أبى، وبغير سبب منه.
أما الولاية الخاصة: مثل قوله تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) (البقرة: 257) ، والولاية الخاصة تكون بسبب من الإنسان، فهو الذي يتعرض لولاية الله حتى يكون الله ولياً له: (الَّذِينَ آمَنُوا(2/63)
وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (يونس: 63) .
ومن فوائد هذا الحديث:
فضيلة أولياء الله، وأن سبحانه وتعالى يعادي من عاداهم، بل يكون حرباً عليهم عز وجل.
ومن فوائد هذا الحديث:
أن الأعمال الواجبة من صلاة، وصدقة، وصوم، وحج، وجهاد، وعلم، وغير ذلك؛ افضل من الأعمال المستحبة؛ لأن الله تعالى قال: (ما تقرب إلى عبدي بشيء احب إلى مما افترضت عليه) .
ومن فوائده:
إثبات المحبة لله ـ عز وجل ـ، وأن الله تعالى يحب الأعمال بعضها أكثر من بعض، كما أنه يحب الأشخاص بعضهم أكثر من بعض، فالله عز وجل يحب العاملين بطاعته ويحب الطاعة، وتتفاوت محبته ـ سبحانه وتعالى ـ على حسب ما تقتضيه حكمته.
ومن فوائد هذا الحديث:
أن الإنسان إذا تقرب إلى الله بالنوافل مع القيام بالواجبات فإنه يكون بذلك معاناً في جميع أموره؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي: (وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه..) الخ.
وفيه: دليل أيضاً على أن من أراد أن يحبه الله فأمر سهل عليه إذا سهله عليه، يقوم بالواجبات ويكثر من التطوع بالعبادات، فبذلك ينال محبة الله، وينال ولاية الله.(2/64)
ومن فوائد هذا الحديث:
إثبات عطاء الله عز وجل، وإجابة دعوته لوليه، لقوله: (إن سألني أعطيته، ولئن استعاذ ني لأعيذنه)
وأتى به المؤلف في باب المجاهدة؛ لأن النفس تحتاج إلى جهاد في القيام بالواجبات، ثم بفعل المستحبات، نسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
* * *
97 ـ الثالث: عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) رواه البخاري.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما رواه عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ) ، يعني أن هذين الجنسين من النعم مغبون فيهما كثير من الناس، أي مغلوب فيهما، وهما الصحة والفراغ، وذلك أن الإنسان إذا كان صحيحاً كان قادراً على ما أمره الله به أن يفعله، وكان قادراً على ما نهاه الله عنه أن يتركه لأنه صحيح البدن، منشرح الصدر، مطمئن القلب، كذلك الفراغ إذا كان عنده ما يؤويه وما يكفيه من مؤنة فهو متفرغ.(2/65)
فإذا كان الإنسان فارغاً صحيحاً فإنه يغبن كثيراً في هذا، لأن كثيراً من أوقاتنا تضيع بلا فائدة ونحن في صحة وعافية وفراغ، ومع ذلك تضيع علينا كثيراً، ولكننا لا نعرف هذا الغبن في الدنيا، إنما يعرف الإنسان الغبن إذا حضره أجله، وإذا كان يوم القيامة، والدليل على ذلك قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ (المؤمنون: 100) ، وقال عز وجل في سورة المنافقون: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِين َ) (المنافقون: 10) ، وقال الله عز وجل: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المنافقون: 11) .
الواقع أن هذه الأوقات الكثيرة تذهب علينا سدىً، لا تنفع منها، ولا ننفع أحداً من عباد الله، ولا نندم على هذا إلا إذا حضر الأجل؛ يتمنى الإنسان أن يعطى فرصة ولو دقيقة واحدة لأجل أن يستعتب، ولكن لا يحصل ذلك.
ثم إن الإنسان قد لا تفوته هاتان النعمتان: الصحة والفراغ بالموت، بل قد تفوته قبل أن يموت، قد يمرض ويعجز عن القيام بما أوجب الله عليه، وقد يمرض ويكون ضيق الصدر لا يشرح صدره ويتعب، وقد ينشغل بطلب النفقة له ولعياله حتى تفوته كثير من الطاعات.
ولهذا ينبغي للإنسان العاقل أن ينتهز فرصة الصحة والفراغ بطاعة الله ـ عز وجل ـ بقدر ما يستطيع، إن كان قارئاً للقرآن فليكثر من قراءة القرآن، وإن كان لا يعرف القراءة يكثر من ذكر الله عز وجل، وإذا كان لا يمكنه؛(2/66)
يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أو يبذل لإخوانه كل ما يستطيع من معونة وإحسان، فكل هذه خيرات كثيرة تذهب علينا سدىً، فالإنسان العاقل هو الذي ينتهز الفرص؛ فرصة الصحة، وفرصة الفراغ.
وفي هذا دليل على أن نعم الله تتفاوت، وأن بعضها أكثر من بعض، وأكبر نعمة ينعم الله تعالى بها على العبد: نعمة الإسلام، ونعمة الإسلام التي أضل الله عنها كثيراً من الناس، قال الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً) (المائدة: 3) ، فإذا وجد الإنسان أن الله قد أنعم عليه بالإسلام وشرح الله صدره له؛ فإن هذه أكبر النعم.
ثم ثانياً: نعمة العقل، فإن الإنسان إذا رأى مبتلى في عقله لا يحسن التصرف، وربما يسيء إلى نفسه وإلى أهله؛ حمد الله على هذه النعمة؛ فإنها نعمة عظيمة.
ثالثاً: نعمة الأمن في الأوطان، فإنها من أكبر النعم، ونضرب لكم مثلاً بما سبق عن آبائنا وأجدادنا من المخاوف العظيمة في هذه البلاد، حتى إننا نسمع أنهم كانوا إذا خرج الواحد منهم إلى صلاة الفجر؛ لا يخرج إلا مصطحباً سلاحه؛ لأنه يخشى أن يعتدي عليه أحد، ثم نضرب مثلاً في حرب الخليج التي مضت في العام الماضي؛ كيف كان الناس خائفين! أصبح الناس يغلقون شبابيكهم بالشمع خوفاً من شيء متوهم أن يرسل عليهم، وصار الناس في قلق عظيم، فنعمة الأمن لا يشابهها نعمة غير نعمة الإسلام والعقل.
رابعاً: كذلك مما أنعم الله به علينا ـ ولا سيما في هذه البلاد ـ رغد(2/67)
العيش؛ يأتينا من كل مكان، فنحن في خير عظيم ولله الحمد؛ البيوت مليئة من الأرزاق، ويقدم من الأرزاق للواحد ما يكفي اثنين أو ثلاثة أو أكثر، هذه أيضاً من النعم. فعلينا أن نشكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعم العظيمة، وأن نقوم بطاعة الله حتى يمن علينا بزيادة النعم؛ لأن الله تعالى يقول: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم: 7) .
* * *
98 ـ الرابع: عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً!) متفق عليه هذا لفظ البخاري، ونحوه في الصحيحين من رواية المغيرة بن شعبة.
[الشَّرْحُ]
ثم ذكر المؤلف ـ رحمة الله تعالى ـ ما نقله عن عائشة رضي الله عنها في باب المجاهدة، وقد سبق لنا: أن من جملة المجاهدة مجاهدة الإنسان(2/68)
نفسه وحمل إياها على عبادة الله، والصبر على ذلك. ذكر المؤلف رحمه الله عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت: يا رسول الله لم تصنع ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: (أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً) ، فعائشة ـ رضي الله عنها ـ من أعلم الناس بحال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يصنعه في السر؛ أي في بيته، وكذلك نساؤه ـ رضي الله عنهن ـ هن أعلم الناس بما يصنعه في بيته.
ولهذا كان كبار الصحابة يأتون إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم يسألونهن عما كان يصنع في بيته، فكان صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل يعني في الصلاة تهجداً. وقد قال الله تعالى في سورة المزمل: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) (المزمل: 20) .
فكان يقوم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أحياناً أكثر الليل، وأحياناً نصف الليل، وأحياناً ثلث الليل؛ لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعطي نفسه حقها من الراحة مع القيام التام بعبادة ربه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، فكان يقوم أدنى من ثلثي الليل ـ يعني فوق النصف، ودون الثلثين -ونصفه وثلثه؛ حسب نشاطه ـ عليه الصلاة والسلام ـ؛ وكان يقوم حتى تتورم قدماه وتتفطر من طول القيام؛ أي يتحجر الدم فيها وتنشق.
وقد قام معه شباب من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ولكنهم تعبوا فابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يقول: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقام طويلاً حتى هممت بأمر سوء، قالوا: بما هممت يا أبا عبد الرحمن؟(2/69)
قال: هممت أن أقعد وأدعه، أي يجلس؛ لعجزه عن أن يصبر كما صبر النبي صلى الله عليه وسلم، وحذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ قام معه ذات ليلة فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم البقرة والنساء وآل عمران، الجميع خمسة أجزاء وربع تقريباً، ويقول حذيفة: كلما أتت آية رحمة سأل، وكلما أتت آية تسبيح سبح، وكلما أتت آية وعيد تعوذ، وهو معروف ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه يرتل القراءة.
خمسة أجزاء وربع، مع السؤال عند آيات الرحمة، والتعوذ عند آيات الوعيد، والتسبيح عن آيات التسبيح؛ فماذا يكون القيام؟ يكون طويلاً، وهكذا كان النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقرأ في الليل.
وإذا أطال القراءة أطال الركوع والسجود أيضاً، فكان يطيل القراءة والركوع والسجود.
فإذا كان يقوم ـ عليه الصلاة والسلام ـ مثلاً في ليلة من ليالي الشتاء وهي اثنتا عشرة ساعة، يقوم أدنى من ثلثي الليل؛ فلنقل إنه صلى الله عليه وسلم يقوم سبع ساعات تقريباً وهو يصلي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الليل الطويل. تصور ماذا يكون حاله ـ عليه الصلاة والسلام؟ ومع هذا فقد صبر نفسه، وجاهد نفسه، وقال: (أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً) .(2/70)
وفي هذا دليل على أن الشكر هو القيام بطاعة الله، وأن الإنسان كلما أزداد في طاعة ربه ـ عز وجل ـ فقد ازداد شكراً لله ـ عز وجل ـ؛ وليس الشكر بأن يقول الإنسان بلسانه: أشكر الله، أحمد الله؛ فهذا شكر باللسان، لكن الكلام هنا على الشكر الفعلي الذي يكون بالفعل بأن يقوم الإنسان بطاعة الله بقدر ما يستطيع.
وفي هذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ كل ما تقدم من ذنبه فقد غفر الله له، ,كل ما تأخر فقد غفر الله له، وقد خرج من الدنيا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ سالماً من كل ذنب؛ لأنه مغفور له.
وقد يخص الله أقواماً فيغفر لهم ذنوبهم بأعمال صالحة قاموا بها مثل أهل بدر. فأهل بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، منهم حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر في قصة مشهورة: (أما علمت أن الله أطلع على أهل بدر فقال: اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم) . وهذا من خصائص أهل بدر؛ أن الله غفر لهم ما يفعلون من الذنوب.
وإلا فإن حاطباً ـ رضي الله عنه ـ فعل ذنباً عظيماً، وذلك أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما أراد أن يغزو قريشاً حين نقضت العهد الذي بينه وبينهم في صلح الحديبية، أرسل حاطب ـ رضي الله عنه ـ رسالة خطية إلى أهل مكة، يخبرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قادم عليهم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عن طريق الوحي، فأرسل علي بن أبي طالب ورجلاً معه في إثر المرأة فأدركوها في روضة خاخ ـ روضة معروفة في طريق مكة ـ فلما أدركوها(2/71)
أوقفوها وقالوا لها: أخرجي الكتاب الذي معك لأهل مكة، قالت: ما معي كتاب، قالوا: لابد أن تخرجي الكتاب الذي معك، فإما أن تخرجيه وإما أن نفتشك حتى ما تحت الثياب، فلما عرفت عزيمتهم أخرجت الكتاب من خفها، فإذا فيه خطاب من حاطب ـ رضي الله عنه ـ إلى أهل مكة يخبرهم، فرجعوا به إلى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فاستأذن عمر ـ رضي الله عنه ـ وكان من أقوى الناس في دين الله ـ النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل حاطباً، قال: إن الرجل نافق، كتب بأسرارنا إلى أعدائنا قال: (أما علمت أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ، وكان منهم ـ رضي الله عنه ـ وإلا فهذه جريمة كبيرة.
ولهذا يجب على ولي الأمر إذا أدرك جاسوساً يكتب إلى أعدائنا بأخبارنا أن يقتله ولو كان مسلماً؛ لأنه عاث في الأرض فساداً، فقتل الجاسوس ولو كان مسلماً واجب على ولي الأمر لعظم فساده، ولكن هذا منع منه مانع؛ وهو أنه كان من أهل بدر، ولهذا لم يقل الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أما علمت أنه مسلم؟ بل قال: (أما علمت أن اطلع الله على أهل بدر ... ) .
ففي هذا دليل على أن من خصائص الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهذا قد يقع ـ كما قلت ـ لبعض(2/72)
الصحابة كأهل بدر. قال بعض العلماء: واعلم أن من خصائص الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبناءً عليه: فكل حديث يأتي بأن من فعل كذا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فإنه حديث ضعيف، لأن هذا من خصائص الرسول، أما (غفر له ما تقدم من ذنبه) ، فهذا كثير، لكن (ما تأخر) ، هذا ليس إلا للرسول صلى الله عليه وسلم فقط، وهو من خصائصه، وهذه قاعدة عامة نافعة لطالب العلم؛ أنه إذا أتاك حديث فيه أن من فعل كذا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فاعلم أن قوله (ما تأخر) ضعيف لا يصح؛ لأن هذا من خصائص محمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه.
وفي هذا دليل أيضاً على فضيلة قيام الليل، وطول القيام، وقد أثنى الله على من يقوم الليل ويطيلون، فقال ـ عز وجل ـ (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) (السجدة: 16) ، يعني تبتعد عن الفرش، (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً) أي: إذا نظروا إلى ذنوبهم خافوا (وَطَمَعاً) أي: إذا نظروا إلى فضل الله طمعوا في فضله، (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة: 16، 17) ، أسال الله أن يجعلني وإياكم منهم.
وتتجافي جنوبهم عن المضاجع، ليس بالسهر على التلفزيون، أو على لعب الورق أو على أعراض الناس، أو ما أشبه ذلك، ولكنهم يدعون الله، ويعبدونه ـ عز وجل ـ خوفاً وطمعاً (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أين هذا(2/73)
الذي أخفى لهم؟ جاء في الحديث القدسي ما يبين ذلك حيث قال الله ـ عز وجل ـ: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) ، جعلني الله وإياكم من ساكني هذه الجنان، إنه جواد كريم.
99 ـ الخامس: عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجد، وشد المئزر) متفق عليه.
والمراد: العشر الأواخر من شهر رمضان. (والمئزر) : الإزار، كناية عن اعتزال النساء، وقيل: المراد تشميره للعبادة. يقال: شددت لهذا الأمر مئزري، أي تشمرت، وتفرغت له.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنهما ـ في حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان: إنه إذا دخل العشر شد المئزر، وأحيا ليله، وجد في العبادة، وشمر ـ عليه الصلاة والسلام.
وقد سبق في الحديث السابق: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم في الليل حتى تتفطر(2/74)
قدماه، وأنه يقوم من الليل أكثر من النصف، أو النصف، أو الثلث، أما في ليالي العشر من رمضان؛ فإنه يقوم الليل كله، أي يحيي ليله كله ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالعبادة، لكن بالفطور بعد غروب الشمس، والعشاء، وصلاة العشاء، والأشياء التي يرى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنها قربى إلى الله ـ عز وجل ـ وليس معناه أن كل الليل في صلاة؛ بدليل أن صفية بنت حيي بن أخطب كانت تأتي إليه ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيحدثها بعد صلاة العشاء، ولكن كل ما كان يفعله ـ عليه الصلاة والسلام ـ في تلك الليالي، فإنه قربى إلى الله ـ عز وجل ـ؛ إما صلاة، أو تهيؤ لصلاة، أو غير ذلك.
وفي هذا دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحيي العشر الأواخر من رمضان كلها، ولكنه لا يحيي ليلة سواها؛ أي أنه لم يقم ليلة حتى الصباح إلا في العشر الأواخر من رمضان، وذلك تحرياً لليلة القدر، وهي ليلة تكون في العشر الأواخر من رمضان، ولا سيما في السبع الأواخر منه، فهذه الليلة يقدر الله ـ سبحانه وتعالى ـ فيها ما يكون في تلك السنة، وهي كما قال الله تعالى: (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر: 3) ، فكان يحييها، (ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه) .
ثم ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ معنى قوله: (شد المئزر) فمنهم من قال: إنه كناية عن ترك النساء؛ لأنه يكون معتكفاً، والمعتكف لا يباح له(2/75)
النساء، كما قال تعالى: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد ِ) (البقرة: 187) ، ومنهم من قال: بل هو كناية عن الجد والتشمير في العمل، وكلا الأمرين صحيح، فإن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان لا يأتي أهله في العشر الأواخر من رمضان لأنه معتكف، وكان أيضاً يشد المئزر، ويجتهد، ويشمر ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وهذا من أنواع المجاهدة. فالإنسان يجب أن يجاهد نفسه في الأوقات الفاضلة حتى يستوعبها في طاعة الله.
* * *
100 ـ السادس: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير. أحرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز. وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، ما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان) . رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) .
المؤمن القوي: يعني في إيمانه، وليس المراد القوي في بدنه؛ لأن قوة(2/76)
البدن قد تكون ضرراً على الإنسان إذا استعمل هذه القوة في معصية الله، فقوة البدن ليست محمودة ولا مذمومة في ذاتها، إن كان الإنسان استعمل هذه القوة فيما ينفعه في الدنيا والآخرة صارت محمودة وإن استعان بهذه القوة على معصية الله صارت مذمومة.
لكن القوة في قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي) ، تعني قوة الإيمان، لأن كلمة القوى تعود إلى الوصف السابق وهو الإيمان، كما تقول: الرجل القوي، أي في رجولته، كذلك المؤمن القوي يعني في إيمانه؛ لأن المؤمن القوي في إيمانه تحمله قوة إيمانه على أن يقوم بما أوجب الله عليه، وعلى أن يزيد من النوافل ما شاء الله، والضعيف الإيمان يكون إيمانه ضعيفاً لا يحمله على فعل الواجبات، وترك المحرمات فيقصر كثيراً.
وقوله: (خير) يعني خير من المؤمن الضعيف، وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، ثم قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: (وفي كل خير) يعني المؤمن القوي والمؤمن الضعيف كل منهما فيه خير، وإنما قال: (وفي كل خير) لئلا يتوهم أحد من الناس أن المؤمن الضعيف لا خير فيه، بل المؤمن الضعيف فيه خير، فهو خير من الكافر لا شك.
وهذا الأسلوب يسميه البلاغيون الاحتراز، وهو أن يتكلم الإنسان كلاماً يوهم معنى لا يقصده، فيأتي بجملة تبين أنه يقصد المعنى المعين، ومثال ذلك في القرآن قوله تبارك وتعالى: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) (الحديد: 10) ، لما كان قوله: (أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ(2/77)
بَعْدُ وَقَاتَلُوا) يوهم أن الآخرين ليس لهم حظ من هذا، قال: (وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) .
ومن ذلك قوله تعالى: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) (الأنبياء: 79) ، لما كان هذا يوهم أن داود عنده نقص، قال تعالى: (وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً) .
ومن ذلك قوله تعالى: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) (النساء: 95) ، فهنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وفي كل خير) أي المؤمن القوي والمؤمن الضعيف، لكن القوي خير وأحب إلى الله.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (احرص على ما ينفعك) هذه وصية من الرسول عليه الصلاة والسلام لأمته، وهي وصية جامعة مانعة (احرص على ما ينفعك) يعني أجتهد في تحصيله ومباشرته، وضد الذي ينفع الذي فيه ضرر، وما لا ينفع فيه ولا ضرر، وذلك لأن الأفعال تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم ينفع الإنسان، وقسم يضره، وقسم لا ينفع ولا يضر.
فالإنسان العاقل الذي يقبل وصية صلى الله عليه وسلم هو الذي يحرص على ما ينفعه، وما أكثر الذين يضيعون أوقاتهم اليوم في غير فائدة، بل في مضرة على أنفسهم وعلى دينهم، وعلى هذا فيجدر بنا أن نقول لمثل هؤلاء: إنكم لم تعملوا بوصية النبي صلى الله عليه وسلم؛ إما جهلاً منكم وإما تهاوناً، لكن المؤمن(2/78)
العاقل الحازم هو الذي يقبل هذه النصيحة، ويحرص على ما ينفعه في دينه ودنياه.
وهذا حديث عظيم ينبغي للإنسان أن يجعله نبراساً له في عمله الديني والدنيوي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احرص على ما ينفعك) وهذه الكلمة كلمة جامعة عامة، (على ما ينفعك) أي على كل شيء ينفعك سواء في الدين أو في الدنيا، فإذا تعارضت منفعة الدين ومنفعة الدنيا فقدم منفعة الدين؛ لأن الدين إذا صلح صلحت الدنيا، أما الدنيا إذا صلحت مع فساد الدين فإنها تفسد.
وفي قوله: (احرص على ما ينفعك) إشارة إلى أنه تعارضت منفعتان إحداهما أعلى من الأخرى، فإننا نقدم المنفعة العليا؛ لأن المنفعة العليا فيها المنفعة التي دونها وزيادة، فتدخل في قوله (احرص على ما ينفعك) .
فإذا اجتمع صلة أخ وصلة عم كلاهما سواء في الحاجة، وأنت لا يمكنك أن تصل الرجلين جميعاً، فهنا تقدم صلة الأخ لأنها أفضل وأنفع، وكذلك أيضاً لو أنك بين مسجدين كلاهما في البعد سواء لكن أحدهما أكثر جماعة فإننا نقدم الأكثر جماعة لأنه الأفضل، فقوله (على ما ينفعك) يشير إلى أنه اجتمعت منفعتان إحداهما أعلى من الأخرى فإنها تقدم الأعلى.
وبالعكس إذا كان الإنسان لابد أن يرتكب منهياً عنه من أمرين منهي عنهما وكان أحدهما أشد، فإنه يرتكب الأخف، فالمناهي يقدم الأخف منها، والأوامر يقدم الأعلى منها.(2/79)
وقوله عليه الصلاة والسلام: (واستعن بالله) : ما أروع هذه الكلمة بعد قوله (احرص على ما ينفعك) لأن الإنسان إذا كان عاقلاً ذكياً فإنه يتتبع المنافع ويأخذ بالأنفع ويجتهد، ويحرص، وربما تغره نفسه حتى يعتمد على نفسه وينسى الاستعانة بالله، وهذا يقع لكثير من الناس، حيث يعجب بنفسه ولا يذكر الله عز وجل ويستعين به، فإذا رأى من نفسه قوة على الأعمال وحرصاً على النافع وفعلاً له، أعجب بنفسه ونسى الاستعانة بالله، ولهذا قال: (أحرص على ما ينفعك واستعن بالله) أي لا تنس الاستعانة بالله ولو على الشيء اليسير، وفي الحديث: (ليسأل أحدكم ربه حاجته حتى يسأله الملح، وحتى يسأله شسع نعله إذا انقطع) يعني حتى الشيء اليسير لا تنس الاستعانة بالله عز وجل، حتى ولو أردت أن تتوضأ أو تصلى أو تذهب يميناً أو شمالاً أو تضع شيئاً فاستحضر أنك مستعين بالله عز وجل، وأنه لولا عون الله ما حصل لك هذا الشيء.
ثم قال: (ولا تعجز) يعني استمر في العمل ولا تعجز وتتأخر، وتقول: إن المدى طويل والشغل كثير، فما دمت صممت في أول الأمر أن هذا هو الأنفع لك واستعنت بالله وشرعت فيه فلا تعجز.
وهذا الحديث في الحقيقة يحتاج إلى مجلدات يتكلم عليه فيها الإنسان؛ لأن له من الصور والمسائل ما لا يحصى، منها مثلاً طالب العلم(2/80)
الذي يشرع في كتاب يرى أن فيه منفعة ومصلحة له، ثم بعد أسبوع أو شهر يمل، وينتقل إلى كتاب آخر، هذا نقول عنه: إنه استعان بالله وحرص على ما ينفعه ولكنه عجز، كيف عجز؟ بكونه لم يستمر، لأن معنى قوله: (لا تعجز) أي لا تترك العمل؛ بل ما دمت دخلت فيه على أنه نافع فاستمر فيه، ولذا تجد هذا الرجل يمضي عليه الوقت ولم يحصل شيئاً؛ لأنه أحياناً يقرأ في هذا، وأحياناً في هذا.
حتى في المسألة الجزئية؛ تجد بعض طلبة العلم مثلاً يريد أن يرجع مسألة من المسائل في كتاب، ثم يتصفح الكتاب، يبحث عن هذه المسألة، فيعرض له أثناء تصفح الكتاب مسألة أخرى يقف عندها، ثم مسألة ثانية، فيقف عندها، ثم ثالثة، فيقف، ثم يضيع الأصل الذي فتح الكتاب من أجله، فيضيع عليه الوقت، وهذا ما يقع كثيراً في مثل فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ تجد الإنسان يطالعها ليأخذ مسألة، ثم تمر مسألة أخرى تعجبه وهكذا، وهذا ليس بصحيح؛ بل الصحيح أن تنظر الأصل الذي فتحت الكتاب من أجله.
كذلك أيضاً في تراجم الصحابة، في الإصابة ـ مثلاً ـ لابن حجر ـ رحمه الله ـ حين يبحث الطالب عن ترجمة صحابي من الصحابة، ثم يفتح الكتاب من أجل أن يصل إلى ترجمته، فتعرض له ترجمة صحابي آخر، فيقف عندها ويقرؤها، ثم يفتح الكتاب، يجد صحابياً آخر، ثم هكذا يضيع عليه الوقت ولا يحصل الترجمة التي من أجلها فتح الكتاب، وهذا فيه ضياع للوقت.(2/81)
ولهذا كان من هدي الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يبدأ بالأهم الذي تحرك من أجله، ولذلك لما دعا عتبان بن مالك الرسول صلى الله عليه وسلم، قال له: أريد أن تأتي لتصلي في بيتي؛ لأتخذ من المكان الذي صليت فيه مصلى لي، فخرج النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومعه نفر من أصحابه، فلما وصلوا، إلي بيت عتبان واستأذنوا ودخلوا، وإذا عتبان قد صنع لهم طعاماً، ولكن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يبدأ بالطعام، بل قال: (أين المكان الذي تريد أن نصلي فيه؟) فأراه إياه، فصلى، ثم جلس للطعام، فهذه دليل على أن الإنسان يبدأ بالأهم، وبالذي تحرك من أجله؛ من أجل ألا يضيع عمله سدى.
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم (لا تعجز) أي لا تكسل وتتأخر في العمل إذا شرعت فيه، بل استمر؛ لأنك إذا تركت ثم شرعت في عمل آخر، ثم تركت ثم شرعت ثم تركت، ما تم لك عمل.
ثم قال ـ عليه الصلاة والسلام: (فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا) ويعني بعد أن تحرص وتبذل الجهد، وتستعين بالله، وتستمر، ثم يخرج الأمر على خلاف ما تريد، فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا لأن هذا أمر فوق إرادتك، أنت فعلت الذي تؤمر به، ولكن الله ـ عز وجل ـ غالب على أمره (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا(2/82)
يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21) ، ونضرب مثالاً لذلك: إذا سافر رجل يريد العمرة، ولكنه في أثناء الطريق تعطلت السيارة، ثم رجع فقال: لو أني أخذت السيارة والأخرى لكان أحسن، ولما حصل على التعطل، نقول: لا تقل هكذا؛ لأنك أنت بذلت الجهد، ولو كان الله ـ عز وجل ـ أراد أن تبلغ العمرة ليسر لك الأمر، ولكن الله لم يرد ذلك.
فالإنسان إذا بذل ما يستطيع مما أمر ببذله، وأخلفت الأمور؛ فحينئذ يفوض الأمر إلى الله؛ لأنه فعل ما يقدر عليه، ولهذا قال: (إن أصابك شيء) يعني بعد بذل الجهد والاستعانة بالله ـ عز وجل ـ (فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا كَذا) .
وجزى الله عنا نبينا خير الجزاء؛ فقد بين لنا الحكمة من ذلك، حيث قال: (فإن لو تفتح عمل الشيطان) أي تفتح عليك الوساوس والأحزان والندم والهموم، حتى تقول: لو أني فعلت لكان كذا. فلا تقل هكذا، والأمر انتهى، ولا يمكن أن يتغير عما وقع، وهذا أمر مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وسيكون على هذا الوضع مهما عملت.
ولهذا قال (ولكن قل: قدر الله) أي هذا قدر الله، أي تقدير الله وقضاؤه، وما شاء الله ـ عز وجل ـ فعله (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) (هود: 107) ، لا أحد يمنعه أن يفعل في ملكه ما يشاء، ما شاء فعل ـ عز وجل.
ولكن يجب أن نعلم أنه سبحانه وتعالى ـ لا يفعل شيئاً إلا لحكمة خفيت علينا أو ظهرت لنا، والدليل على هذا قوله تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا(2/83)
أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً) (الإنسان: 30) ، فبين أن مشيئته مقرونة بالحكمة والعلم، وكم من شيء كره الإنسان وقوعه، فصار في العاقبة خيراً له، كما قال تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (البقرة: 216) ، ولقد جرت حوادث كثيرة تدل على هذه الآية، من ذلك: قبل عدة سنوات أقلعت طائرة من الرياض متجهة إلى جدة، وفيها ركاب كثيرون، يزيدون عن ثلاثمائة راكب، وكان أحد الركاب الذين سجلوا في هذه الطائرة في قاعة الانتظار، فغلبته عيناه حتى نام، وأعلن عن إقلاع الطائرة، وذهب الركاب وركبوا، فإذا بالرجل يستيقظ بعد أن أغلق الباب، فندم ندامة شديدة؛ كيف فاتته الطائرة؟ ثم إن الله قدر بحكمته أن تحترق الطائرة وركابها. فسبحان الله! كيف نجا هذا الرجل؟ كره أنه فاتته الطائرة، ولكن كان ذلك خيراً له.
فأنت إذا بذلت الجهد، واستعنت بالله، وصار الأمر على خلاف ما تريد، لا تندم، ولا تقل: لو أني فعلت لكان كذا، إذا قلت هذا انفتح عليك من الوساوس والندم والأحزان ما يكدر عليك الصفو، فقد انتهى الأمر وراح، وعليك أن تسلم الأمر للجبار ـ عز وجل ـ قل: قدر الله وما شاء فعل.
ووالله، لو أننا سرنا على هدي هذا الحديث لاسترحنا كثيراً، لكن تجد الإنسان منا؛ أولاً: لا يحرص على ما ينفعه، بل تمضي أوقاته ليلاً ونهاراً بدون فائدة، تضع عليه سدي. ثانياً إذا قدر أنه اجتهد في أمر ينفعه، ثم فات الأمر، ولم يكن على ما توقع، تجده يندم، ويقول: ليتني(2/84)
ما فعلت كذا، ولو أني فعلت كذا لكان كذا، وهذا ليس بصحيح، فأنت أدّ ما عليك، ثم بعد هذا فوض الأمر لله ـ عز وجل.
فإذا قال قائل: كيف احتج بالقدر؟ كيف أقول: قدر الله وما شاء فعل؟
والجواب أن نقول: نعم؛ هذا احتجاج بالقدر، ولكن الاحتجاج بالقدر في موضعه لا بأس به، ولهذا قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا) (الأنعام: 106، 107) ، فبين له أن شركهم بمشيئته، والاحتجاج بالقدر على الاستمرار في المعصية هذا حرام لا يجوز، لأن الله قال: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) (الأنعام: 148) ، لكن الاحتجاج بالقدر في موضعه هذا لا بأس به، فإن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ دخل ذات ليلة على عليّ بن أبي طالب وفاطمة بنت محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فوجدهما نائمين، فقال لهما: (ما منعكما أن تقوما؟) يعني تقوما تتهجدان، فقال علي: يا رسول الله، إن أنفسنا بيد الله؛ لو شاء أن نقوم لقمنا، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام وهو يضرب على فخذيه، ويقول: (وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (الكهف: 54) .
هذا جدال لكن احتجاج علي بن أبي طالب في محله؛ لأن النائم(2/85)
ليس عليه حرج، فهو لم يترك القيام وهو مستيقظ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة) ولا يبعد أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أراد أن يختبر على بن أبي طالب: ماذا يقول في الجواب؟ وسواء كان ذلك أم لم يكن. فاحتجاج علي بالقدر هنا حجة وذلك لأنه أمر ليس باختياره؛ هل النائم يستطيع أن يستيقظ إذا لم يوقظه الله؟ ... لا إذن هو حجة.
فالاحتجاج بالقدر ممنوع إذا أراد الإنسان أن يستمر على المعصية ليدفع اللوم عن نفسه، نقول مثلاً: يا فلان، صل مع الجماعة، فيقول: والله لو هداني الله لصليت، فهذا ليس بصحيح. يقال لآخر: اقلع عن حلق اللحية، يقول: لو هداني الله لأقلعت، واقلع عن الدخان، يقول لو هداني الله لأقلعت، فهذا ليس بصحيح؛ لأن هذا يحتج بالقدر ليستمر في المعصية والمخالفة.
لكن إن وقع الإنسان في خطأ وتاب إلى الله، وأناب إلى الله وندم وقال: إن هذا الشيء مقدر على، ولكن أستغفر الله وأتوب إليه؛ نقول هذا صحيح، إن تاب واحتج بالقدر فليس هناك مانع.
* * *(2/86)
101 ـ السابع: عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره) متفق عليه.
وفي رواية لمسلم: (حفت) بدل (حجبت) وهو بمعناه، أي بينه وبينها هذا الحجاب: فإذا فعله دخلها.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حفت النار بالشهوات) ، وفي لفظ: (حجبت) ، (وحفت الجنة بالمكاره) وفي لفظ: (حجبت الجنة بالمكاره) يعني أحيطت بها، فالنار قد أحيطت بالشهوات، والجنة قد أحيطت بالمكاره. والشهوات: هي ما تميل إليه النفس، من غير تعقل، ولا تبصر، ولا مراعاة لدين، ولا مراعاة لمروءة.
فالزنى ـ والعياذ بالله ـ شهوة الفرج، تميل إليها النفس كثيراً، فإذا هتك الإنسان هذا الحجاب، فإنه سيكون سبباً لدخوله النار.
وكذلك شرب الخمر، تهواه النفس وتميل إليه، ولهذا جعل الشارع له عقوبة رادعة بالجلد، فإذا هتك الإنسان هذا الحجاب وشرب الخمر أداه ذلك إلى النار ـ والعياذ بالله.(2/87)
وكذلك حب المال؛ شهوة من شهوات النفس، فإذا سرق الإنسان بدافع شهوة حب جمع المال، فلرغبة أن يستولي على المال الذي ترغبه نفسه، فإذا سرق فقد هتك هذا الحجاب؛ فيصل إلى النار ـ والعياذ بالله.
ومن ذلك الغش من أجل أن يزيد ثمن السلعة، هذا تهواه النفس، فيفعله الإنسان، فيهتك الحجاب الذي بينه وبين النار، فيدخل النار.
الاستطالة على الناس، والعلو عليهم، والترفع عليهم، كل إنسان يحب هذا، وتهواه النفس، فإذا فعله الإنسان فقد هتك الحجاب الذي بينه وبين النار، فيصل إلى النار ـ والعياذ بالله.
ولكن ما دواء هذه الشهوة التي تميل إليها النفس الأمارة بالسوء؟ دواؤها ما بعدها، قال: (وحفت الجنة بالمكاره) أو حجبت بالمكاره، يعني أحيطت بما تكرهه النفوس؛ لأن الباطل محبوب للنفس الأمارة بالسوء، والحق مكروه لها، فإذا تجاوز الإنسان هذا المكروه وأكره نفسه الأمارة بالسوء على فعل الواجبات وعلى ترك المحرمات، فحينئذ يصل إلى الجنة.
ولهذا تجد الإنسان يستثقل الصلوات مثلاً، ولا سيما في أيام الشتاء وأيام البرد، ولا سيما إذا كان في الإنسان نوم كثير، بعد تعب وجهد، فتجد الصلاة ثقيلة عليه، ويكره أن يقوم ويترك الفراش اللين الدافئ، ولكن إن هو كسر هذا الحاجب، وقام بهذا المكروه؛ وصل إلى الجنة.
وكذلك النفس الأمارة بالسوء، تدعو صاحبها إلى الزنى شهوة وتحبه النفس الأمارة بالسوء، لكن إذا عقلها صاحبها وأكرهها على(2/88)
تجنب هذه الشهوة، فهذا كره له؛ ولكن هو الذي يوصله إلى الجنة؛ لأن الجنة حفت بالمكاره.
وأيضاً، الجهاد في سبيل الله، مكروه إلى النفس (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 216) ، مكروه للنفس فإذا كسر الإنسان هذا الحجاب، كان ذلك سبباً لدخول الجنة، واستمع إلى قوله الله تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 169، 171) ، فإذا كسر الإنسان هذا المكروه وصل إلى الجنة.
كذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، شديد على النفوس، شاق عليها، وكل إنسان يتهاون فيه ويكرهه، يقول: ما على بالناس؟ أتعب نفسي معهم، وأتعبهم معي؟! ولكنه إذا كسر هذا المكروه، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر؛ فإن هذا سبب لدخول الجنة.. وهلم جراً، كل الأشياء التي أمر الله بها مكروهة للنفوس، لكن أكره نفسك عليها حتى تدخل الجنة.
فاجتناب المحرمات مكروه إلى النفوس، وشديد عليها، لا سيما مع قوة الداعي، فإذا أكرهت نفسك على ترك هذه المحرمات، فهذا من أسباب دخول الجنة، فلو أن رجلاً شاباً أعزب، في بلاد كفر وحرية فيها(2/89)
يفعل الإنسان ما شاء، وأمامه من النساء الجميلات فتيات شابات , وهو شاب أعزب، فلا شك أنه سيعاني مشقة عظيمة في ترك الزنى؛ لأنه متيسر له، وأسبابه كثيرة، لكن إذا أكره نفسه على تركها، صار هذا سبباً لدخول الجنة.
واستمع إلى قول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) ، أي يوم القيامة حيث تدنو الشمس الحارة العظيمة، التي نحس بحرارتها الآن، وبيننا وبينها مئات السنين، هذه الشمس تدنو يوم القيامة، حتى تكون على رؤوس الخلائق بمقدار ميل قال بعض العلماء: الميل: المكحلة، وميل المكحلة صغير أصغر من الإصبع، وقال بعضهم: ميل المسافة، وأيا كان الميل فالشمس قريبة من الرؤوس، لكن هناك أناس يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله ـ أسال الله أن يجعلني وإياكم ممن يظله الله.
يظلهم الله: يعني يخلق لهم ما يظلهم يوم لا ظل إلا ظله، وليس في ذلك اليوم بناء، ولا شجر، ولا جبال تظلل، وليس هناك إلا ظل رب العالمين، أسال الله رب العالمين أن يظلني وإياكم به، هذا الظل يظل الله فيه من يشاء من عباده، ومنهم هؤلاء السبعة الذين ذكرهم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ في قوله: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام(2/90)
عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال) ، وهذا هو الشاهد، فالمرأة ذات منصب؛ يعني شريفة، ليست دنيئة، ذات جمال، والجمال يدعو النفس إلى التطلع إلى المرأة، والاتصال بها (فقال إني أخاف الله) ؛ ولم يقل ما في شهوة، أو حولنا أناس وأخاف منهم أن يكشفونا، بل قال: إني أخاف الله. فالرجل شاب وفيه شهوة، وأسباب الزنى قائمة، والموانع معدومة، ولكن هناك مانع واحد وهو خوف الله ـ عز وجل ـ فقال: أني أخاف الله، فكان هذا من الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله.
والمهم أن النار حجبت بالشهوات، والجنة حجبت بالمكاره، فجاهد نفسك على ما يحب الله وإن كرهت، واعلم علم إنسان مجرب أنك إذا أكرهت نفسك على طاعة الله؛ أحببت الطاعة وألفتها، وصرت ـ بعد ما كنت تكرهها ـ تأبى نفسك أن تتخلف عن الطاعة إذا أردت أن تتخلف عنها.
ونحن نجد بعض الناس يكره أن يصلي مع الجماعة، ويثقل عليه ذلك عندما يبدأ في فعله، لكن إذا به بعد فترة تكون الصلاة مع الجماعة قرة عينه، ولو تأمره ألا يصلي لا يطيعك، فأنت عود نفسك وأكرهها أول الأمر، وستلين لك فيما بعد وتنقاد. أسأل الله أن يعينني وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
* * *(2/91)
102 ـ الثامن: عن أبي عبد الله حذيفة بن اليمان، رضي الله عنهما قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة، ثم مضى فقلت يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء: فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: (سبحان ربي العظيم) فكان ركوعه نحوا من قيامه ثم قال: (سمع الله لمن حمده، ربنا ولك(2/92)
الحمد) ثم قام قياماً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: (سبحان ربي الأعلى) فكان سجوده قريباً من قيامه) رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ـ يعني في ليلة من الليالي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يصلي معه بعض أصحابه، فمره صلى معه حذيفة، ومرة صلى معه ابن مسعود رضي الله عنه، ومرة صلى معه ابن عباس رضي الله عنهما، وكان النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يصلي في الليل وحده، لأن صلاة الليل لا تشرع فيها الجماعة إلا في رمضان، لكن لا بأس أن تقام الجماعة فيها أحياناً كما في هذا الحديث، يقول فافتتح سورة البقرة، فقلت يركع عند المائة، فقرأ السورة كاملة، فظن حذيفة أنه يركع بها؛ أي(2/93)
أنه إذا أكمل سورة البقرة ركع، ولكنه مضى صلى الله عليه وسلم فقرأ سورة النساء كاملة، فقال حذيفة يركع بها، ولكنه مضى فقرأ سورة آل عمران كاملة في ركعة واحدة، يقرأ مترسلاً غير مستعجل، إذا مر بآية تسبيح سبح، وإذا مر بآية سؤال سأل، وإذا مر بآية تعوّذ تعوذ.
فجمع عليه الصلاة والسلام بين القراءة، وبين الذكر، وبين الدعاء، وبين التفكر؛ لأن الذي يسأل عند السؤال، ويتعوّذ عن التعوذ، ويسبح عن التسبيح، لا شك أنه يتأمل قراءته ويتفكر فيها، فيكون هذا القيام روضة من رياض الذكر؛ قراءة وتسبيحاً ودعاءً وتفكراً، والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في هذا كله لم يركع. فهذه السور الثلاث: البقرة والنساء وآل عمران أكثر من خمسة أجزاء وربع، إذا كان الإنسان يقرؤها بترسل ويستعين عند فتح الوعيد ويسأل عن آية الرحمة، ويسبح عند آية التسبيح، كم تكون المدة؟ لا شك أنها تكون طويلة، ولهذا كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقوم حتى تتورم قدماه وتتفطر.
حتى إن ابن مسعود ـ وهو شاب ـ لما صلى معه ليلة من الليالي، يقول: أطال النبي صلى الله عليه وسلم القيام حتى هممت بأمر سوء، قالوا: بم هممت قال: هممت أن أجلس وأدعه، عجز أن يصبر من طول القيام.
ثم أن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ركع بعد أن أتم السور الثلاث فقال: سبحان ربي العظيم، وأطال الركوع نحواً من قيامه، ثم رفع من ركوعه، وأطال القيام بعد الركوع، وقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، حتى كان قيامه نحو من ركوعه، ثم سجد صلى الله عليه وسلم فقال: سبحان ربي الأعلى، وأطال السجود، حتى كان سجوده نحواً من قيامه.
وهكذا كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يصلي فيجعل الصلاة متناسبة؛ إذا أطال القيام؛ أطال الركوع، والسجود، والقيام الذي بعد الركوع والجلوس الذي بين السجدتين، وإذا خفف القراءة؛ خفف الركوع والسجود والقيام؛ من أجل أن تكون الصلاة متناسبة، وهذا فعله صلوات الله وسلامه عليه ـ في الفرض وفي النفل أيضاً، فكان صلى الله عليه وسلم يجعل صلاته متناسبة.
وفي هذا الحديث عدة فوائد:
الفائدة الأولى: وهي التي ساق المؤلف الحديث من أجلها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعمل عمل المجاهد الذي يجاهد نفسه على الطاعة؛ لأنه يعمل هذا العمل الشاق؛ كل هذه ابتغاء وجه الله ورضوانه، كما قال الله تعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه (تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً) (الفتح: من الآية29) .
ومنها: جواز إقامة الجماعة في صلاة الليل، لكن هذا ليس دائماً، إنما يفعل أحياناً في غير رمضان، أما في رمضان فإن من السنة أن يقوم الناس في جماعة.
ومنها: أنه ينبغي للإنسان في صلاة الليل إذا مر بآية رحمة أن يقف ويسأل، مثل لو مر بذكر الجنة يقف ويقول: اللهم اجعلني من أهلها،(2/94)
اللهم إني أسألك الجنة، وإذا مر وعيد يقف، يقول: أعوذ بالله من ذلك، أعوذ بالله من النار ن وإذا مر بآية تسبيح، يعني تعظيم لله سبحانه وتعالى؛ يقف ويسبح الله ويعظمه؛ هذا في صلاة الليل، أما صلاة الفريضة فلا بأس أن يفعل هذا، ولكنه ليس بسنة، إن فعله فإنه لا ينهي عنه، وإن تركه فإنه لا يؤمر به، بخلاف صلاة الليل، فإن الأفضل أن يفعل ذلك، أي يتعوذ عند آية الوعيد، ويسأل، عند آية الرحمة، ويسبح عند آية التسبيح.
ومن فوائد الحديث: جواز تقديم السور بعضها على بعض، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم سورة النساء على سورة آل عمران، والترتيب أن سورة آل عمران مقدمة على سورة النساء، ولكن هذا ـ والله أعلم ـ كان قبل السنة الأخيرة، فإن السنة الأخيرة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقدم سورة آل عمران على سورة النساء؛ ولهذا رتبها الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على هذا الترتيب، أي أن آل عمران قبل سورة النساء، وكان النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقرن بين البقرة وآل عمران؛ في مثل قوله عليه الصلاة والسلام: (اقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما يوم القيامة) فالمهم أن الترتيب في الأخير كان تقديم سورة آل عمران على سورة النساء.(2/95)
ومن فوائد هذا الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح ويكرر التسبيح؛ لأن حذيفة قال: كان يقول: سبحان ربي العظيم، وكان يطيل، ويقول سبحان ربي الأعلى، وذكر أنه يطيل، ولم يذكر شيئاً أخر، فدل هذا على أنك مهما كررت من التسبيح في الركوع والسجود فإنه سنة، ولكن مع هذا كان النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول في ركوعه وفي سجوده، ويكثر من هذا القول: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) ، وكان يقول أيضاً: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) فكل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر ودعاء؛ فإنه يسن للإنسان أن يقوله في صلاته. نسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم اتباع رسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، وأن يتولانا وإياكم في الدنيا والآخرة إنه جواد كريم.
* * *
103 ـ التاسع: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فأطال القيام حتى هممت بأمر سوء! قيل وما هممت به؟ قال هممت أن أجلس وأدعه. متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ فيما نقله عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وكان ـ رضي الله عنه ـ أحد الذين يخدمون رسول الله صلى الله عليه وسلم، صاحب(2/96)
وسادته وسواكه ـ رضي الله عنه ـ فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فأطال القيام، وقد سبق من حديث عائشة: أنه كان صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتفطر قدماه. أو حتى تتورم. تتفطر أحياناً، وتتورم أحياناً من طول القيام.
وصح من حديث حذيفة: أنه قرأ في ركعة واحدة بثلاث سور من طوال السور؛ البقرة والنساء وآل عمران.
وكذلك ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: صلى معه ذات ليلة، فأطال النبي صلى الله عليه وسلم القيام، فهم بأمر سوءٍ؛ يعني بأمر ليس يسر المرء فعله، قالوا: بم هممت يا أبا عبد الرحمن؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه، يعني أجلس وأدعه قائماً؛ لأن ابن مسعود تعب وأعيا، مع أنه شاب، والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يتعب لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان أشد الناس عبادة لله ـ عز وجل ـ وأتقاهم لله، ففي هذا دليل على أنه من السنة أن يقوم الإنسان في الليل، ويطيل القيام، وأنه إذا فعل ذلك فهو مقتدٍ برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن، أعلم أنك إذا أطلت القيام؛ فإن السنة أن تطيل الركوع، والسجود، والجلوس بين السجدتين، والقيام بعد الركوع، فإن من سنة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه كان يجعل صلاته متناسبة؛ إذا أطال القيام أطال بقية الأركان، وإذا خفف القيام خفف بقية الأركان، هذا هو(2/97)
السنة.
* * *
104 ـ العاشر: عن أنس ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله؛ فيرجع اثنان، ويبقى واحد: يرجع أهله وماله، ويبقى عمله) متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
إذا مات الإنسان تبعه المشيعون له؛ فيتبعه أهله يشيعونه إلى المقبرة، وما اعجب الحياة الدنيا، وما أخسها، وما أدناها، يتولى دفنك من أنت أحب الناس إليه، يدفنوك، ويبعدونك عنهم، ولو أنهم أعطوا أجرة على أن تبقى جسداً بينهم ما رضوا بذلك، فأقرب الناس إليك، ومن أنت أحب الناس إليهم؛ هم الذين يتولون دفنك؛ يتبعونك، ويشيعونك.
ويتبعه ماله: أي عبيده وخدمه المماليك له، وهذا يمثل الرجل الغني الذي له عبيد وخدم مماليك، يتبعونه، ويتبعه عمله معه، فيرجع اثنان، ويدعونه وحده، ولكن يبقى معه عمله، نسأل الله أن يجعل عملنا وإياكم صالحاً؛ فيبقى عمله عنده أنيسه في قبره ينفرد به إلى يوم القيامة.
وفي هذا الحديث دليل على أن الدنيا تزول، كل زينة الحياة الدنيا ترجع ولا تبقى معك في قبرك، المال والبنون زينة الحياة الدنيا ترجع،(2/98)
من الذي يبقى؟ .. العمل فقط، فعليك يا أخي أن تحرص على مراعاة هذا الصاحب الذي يبقى ولا ينصرف مع من ينصرف، وعليك أن تجتهد حتى يكون عملك عملاً صالحاً يؤنسك في قبرك إذا انفردت به عن الأحباب والأهل والأولاد.
ومناسبة هذا الحديث للباب ظاهرة؛ لأن كثرة العمل يوجب مجاهدة النفس، فإن الإنسان يجاهد نفسه على الأعمال الصالحة التي تبقى بعد موته نسأل الله لنا ولكم حسن الخاتمة والعافية، وأن يتولانا وإياكم بعنايته ورعايته. إنه جواد كريم.
* * *
105 ـ الحادي عشر: عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه: قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعليه، والنار ذلك) . رواه البخاري.
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث يتضمن ترغيباً وترهيباً يتضمن ترغيباً في الجملة الأولى، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (الجنة أقرب إلى أحدكم من سراك نعله) ، وشراك النعل هو السير الذي يكون على ظهر القدم، وهو قريب من الإنسان جداً، ويضرب به المثل في القرب، وذلك لأنه قد يتكلم الإنسان بالكلمة(2/99)
الواحدة من رضوان الله ـ عز وجل ـ لا يظن أنها تبلغ ما بلغت، فإذا هي توصله إلى جنة النعيم.
ومع ذلك فإن الحديث أعم من هذا؛ فإن كثرة الطاعات، واجتناب المحرمات، من أسباب دخول الجنة، وهو يسير على من يسره الله عليه، فأنت تجد المؤمن الذي شرح الله صدره للإسلام يصلي براحة، وطمأنينة، وانشراح صدر، ومحبة للصلاة، ويزكي كذلك، ويصوم كذلك، ويحج كذلك، ويفعل الخير كذلك، فهو يسير عليه، سهل قريب منه، وتجده يتجنب ما حرمه الله عليه من الأقوال والأفعال، وهو يسير عليه.
وأما ـ والعياذ بالله ـ من قد ضاق بالإسلام ذرعاً، وصار الإسلام ثقيلاً عليه فإنه يستثقل الطاعات، ويستثقل اجتناب المحرمات، ولا تصير الجنة أقرب إليه من شرك نعله.
وكذلك النار، وهي الجملة الثانية في الحديث، وهي التي فيها التحذير، يقول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ (والنار مثل ذلك) أي أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، فإن الإنسان ربما يتكلم بالكلمة لا يلقى لها بالاً، وهي من سخط الله، فيهوي بها في النار كذا وكذا من السنين وهو لا يدري. وما أكثر الكلمات التي يتكلم بها الإنسان غير مبال بها، وغير مهتم بمدلولها، فترديه في نار جهنم، نسأل الله العافية.
ألم تروا إلى قصة المنافقين الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، حيث كانوا يتحدثون فيما بينهم، يقولون: ما رأينا مثل قرائناً هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب السناً، ولا أجبن عند اللقاء؛ يعنون بذلك النبي صلى الله عليه وسلم(2/100)
وأصحابه، يعني أنهم واسعو البطون من كثرة الأكل، وليس لهم هم إلا الأكل. ولا أكذب ألسناً؛ يعني أنهم يتكلمون بالكذب. ولا أجبن عند اللقاء؛ أي أنهم يخافون لقاء العدو، ولا يثبتون بل يفرون ويهربون. هكذا يقول المنافقون في الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وإذا تأملت وجدت أن هذا ينطبق على المنافقين تماماً، لا على المؤمنين، فالمنافقون من أشد الناس حرصاً على الحياة، والمنافقون من أكذب الناس ألسناً، والمنافقون من أجبن الناس عند اللقاء. فهذا الوصف حقيقته في هؤلاء المنافقين.
ومع ذلك يقول الله عز وجل: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) ، يعني ما كنا نقصد الكلام، إنما هو خوض في الكلام ولعب؛ فقال الله عز وجل: (قُلْ) ، يعني: قل يا محمد (أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِين َ) (التوبة: 65، 66) ، فبين الله عز وجل ـ أن هؤلاء كفروا بعد إيمانهم باستهزائهم بالله وآياته ورسوله، ولهذا يجب على الإنسان أن يقيد منطقة، وأن يحفظ لسانه حتى لا يزل فيهلك، نسأل الله لنا ولكم الثبات على الحق، والسلامة من الآثم.
* * *(2/101)
106 ـ الثاني عشر: عن أبي فراس ربيعة بن كعب الأسلمي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أهل الصفة ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال: (سلني) ، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: (أو غير ذلك؟) قلت: هو ذاك، قال: (فأعني على نفسك بكثرة السجود) رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقل عن ربيعه بن كعب الأسلميّ ـ رضي الله عنه ـ وكان خادماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أهل الصفة. والذين يخدمون النبي صلى الله عليه وسلم من الأحرار عدد، منهم ربيعه بن كعب، ومنهم ابن مسعود، ولهم الشرف بخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أهل الصفة؛ وأهل الصفة رجال مهاجرون، هاجروا إلى المدينة، وليس لهم مأوى، فوطنهم النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في صفة في المسجد النبوي، وكانوا أحياناً يبلغون الثمانين، وأحياناً دون ذلك، وكان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يأتونهم بالطعام واللبن وغيره، مما يتصدقون به عليهم.
فكان ربيعة بن كعب ـ رضي الله عنه ـ يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يأتيه بوضوئه وحاجته. الوضوء بالفتح: الماء الذي يتوضأ به، والضوء بالضم: فعل الوضوء، وأما الحاجة فلم يبينها، ولكن المراد: كل ما يحتاجه النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يأتي به إليه.(2/102)
فقال له ذات يوم: (سلني) ، يعني: اسأل، من أجل أن يكافئه النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ على خدمته إياه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق، وكان يقول: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه) ، فأراد أن يكافئه، فقال له: (سلني) يعني اسأل ما بدا لك، وقد يتوقع الإنسان أن هذا الرجل سيسأل مالاً، ولكن همته كانت عالية؛ قال: أسألك مرافقتك في الجنة، يعني كأنه يقول: كما كنت مرفقاً لك في الدنيا، أسألك مرافقتك في الجنة، قال: (أو غير ذلك؟) يعني أو تسأل غير ذلك مما يمكن أن أقوم به؟ قال: هو ذاك، يعني: لا أسال إلا ذاك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأعني على نفسك بكثرة السجود) .
وهذا هو الشاهد؛ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أعني على نفسك بكثرة السجود) ، وكثرة السجود تستلزم كثرة الركوع، وكثرة الركوع تستلزم كثرة القيام؛ لأن كل صلاة في كل ركعة منها وسجودان، فإذا كثر السجود كثر الركوع وكثر القيام، وذكر السجود دون غيره، لأن السجود أفضل هيئة للمصلي، فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وإن كان المصلى قريباً من الله؛ قائماً كان، أو راكعاً، أو ساجداً، أو قاعداً، لكن أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد.
وفي هذا دليل على فضل السجود، واختلف أهل العلم هل الأفضل(2/103)
إطالة القيام أم إطالة الركوع والسجود؟ فمنهم من قال: الأفضل إطالة القيام، ومنهم من قال: الأفضل إطالة الركوع والسجود، والصحيح أن الأفضل أن تكون الصلاة متناسبة، وإلا فإن القيام بلا شك أطول من الركوع والسجود في حد ذاته، لكن ينبغي إذا أطال القيام أن يطيل الركوع والسجود، وإذا قصر القيام أن يقصر الركوع والسجود.
وفي هذا دليل على أن الصلاة مهما أكثرت منها فهو خير إلا أنه يستثنى من ذلك أوقات النهي، وأوقات النهي هي: من صلاة الفجر إلى ارتفاع الشمس مقدر رمح، وعند قيامها في منتصف النهار حتى تزول، ومن صلاة العصر إلى الغروب، فإن هذه الأوقات الثلاثة لا يجوز للإنسان أن يصلي فيها صلاة تطوع، إلا إذا كان لها سبب، كتحية المسجد، وسنة الوضوء، وما أشبه ذلك.
وفي الحديث دليل على جواز استخدام الرجل الحر، وأن ذلك لا يعد من المسألة المذمومة، فلو أنك قلت لشخص من الناس ممن يقومون بخدمتك: أعطني كذا، وأعطني كذا، فلا بأس، وكذلك لو قلت لصاحب المنزل: أعطيني ماء، صب لي فنجن قهوة، أو ما أشبه ذلك، فلا بأس، لأن هذا لا يعد من السؤال المذموم، بل هذا من تمام الضيافة، وقد جرب العادة بمثله.
وفيه دليل أيضاً على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك أن يدخل أحداً الجنة، ولهذا لم يضمن لهذا الرجل أن يعطيه مطلوبه، ولكنه قال له: (فأعني على نفسك بكثرة السجود) فإذا قام بكثرة السجود التي أوصاه بها رسول الله(2/104)
صلى الله عليه وسلم، فإنه حري بأن يكون مرافقاً للرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة. والله الموفق.
* * *
107 ـ الثالث عشر: عن أبي عبد الله ـ ويقال: أبو عبد الرحمن ـ ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (عليك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة) . رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (عليك بكثرة السجود) ، وعليك: يعني الزم كثرة السجود، (فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة) ، وهذا كالحديث السابق، حديث ربيعه بن كعب الأسلمي، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: (فأعني على نفسك بكثرة السجود) ففيه دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يكثر من السجود، وقد سبق لنا أم كثرة السجود تستلزم كثرة الركوع، وكثرة القيام والقعود؛ لأن كل ركعة فيها سجودان، وفيها ركوع واحد، ولا يمكن أن تسجد في الركعة الواحدة ثلاث سجدات أو أربعاً، إذن كثرة السجود تستلزم كثرة الركوع والقيام والقعود.
ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا يحصل للإنسان من الأجر فيما إذا سجد؛ وهو(2/105)
أنه يحصل له فائدتان عظيمتان:
الفائدة الأولى: أن الله يرفعه بها درجة، يعني منزلة عنده وفي قلوب الناس، وكذلك في عملك الصالح؛ يرفعك الله به درجة.
والفائدة الثانية: يحط عنك بها خطيئة، والإنسان يحصل له الكمال بزوال ما يكره، وحصول ما يحب، فرفع الدرجات مما يحبه الإنسان، والخطايا مما يكره الإنسان، فإذا رفع له درجة وحط عنه بها خطيئة؛ فقد حصل على مطلوبه، ونجا من مرهوبه.
* * *
108 ـ الرابع عشر: عن أبي صفوان عبد الله بن بشر الأسلمي ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الناس من طال عمره وحسن عمله) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن.
(بسر) بضم الباء، وبالسين المهملة.
[الشَّرْحُ]
أما حديث عبد الله بن بسر، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس من طال عمره وحسن عمله) لأن الإنسان كلما طال عمره في طاعة الله زاد قرباً إلى الله وزاد رفعة في الآخرة؛ لأن كل عمل يعمله فيما زاد فيه عمره فهو يقربه إلى ربه ـ عز وجل ـ فخير الناس من وفق لهذين الأمرين.(2/106)
أما طول العمر فإنه من الله، وليس للإنسان فيه تصرف؛ لأن الأعمار بيد الله ـ عز وجل ـ، وأما حسن العمل؛ فإن بإمكان الإنسان أن يحسن عمله؛ لأن الله تعالى جعل له عقلاً، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، وبين المحجة، وأقام الحجة، فكل إنسان يستطيع أن يعمل عملاً صالحاً، على أن الإنسان إذا عمل عملاً صالحاً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن بعض الأعمال الصالحة سبب لطول العمر، وذلك مثل صلة الرحم؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه) ، وصلة الرحم من أسباب طول العمر، فإذا كان خير الناس من طال عمره وحسن عمله؛ فإنه ينبغي للإنسان أن يسأل الله دائماً أن يجعله ممن طال عمره وحسن عمله، من أجل أن يكون من خير الناس.
وفي هذا دليل على أن مجرد طول العمر ليس خيراً للإنسان إلا إذا أحسن عمله؛ لأنه أحياناً يكون طول العمر شراً للإنسان وضرراً عليه، كما قال الله تبارك وتعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (آل عمران: 178) ، فهؤلاء الكفار يملى الله لهم ـ أي يمدهم بالرزق والعافية وطول العمر والبنين والزوجات، لا لخير لهم ولكنه شر لهم ـ والعياذ بالله لأنهم سوف يزدادون بذلك إثماً.(2/107)
ومن ثم كره بعض العلماء أن يدعى للإنسان بطول البقاء، قال: لا تقل: أطال الله بقاءك إلا مقيداً؛ قل أطال الله بقاءك على طاعته؛ لأن طول البقاء قد يكون شراً للإنسان. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن طال عمره وحسن عمله، وحسنت خاتمته وعافيته، إنه جواد كريم.
* * *
109 ـ الخامس عشر: عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: غاب عمي أنس بن النضر ـ رضي الله عنه ـ عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع. فلما كان يوم أحد أنكشف المسلمون، فقال: اللهم أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ـ يعني أصحابه ـ وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء ـ يعني المشركين ـ ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر، أني أجد ريحها من دون أحد. قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع! قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل ومثل به المشركين، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس: كنا نرى، أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) إلى آخرها. متفق عليه.
قوله: (ليرين الله) رؤى بضم الياء وكسر الراء؛ أي: ليظهرن الله ذلك(2/108)
للناس، وروي بفتحهما، معناه ظاهر، والله أعلم.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن أنس بين مالك ـ رضي الله عنه ـ عن عمه أنس بن النضر ـ رضي الله عنه ـ أن أنسأ لم يكن مع الرسول صلى الله عليه وسلم ـ يعني أنس بن النضر ـ في بدر، وذلك لأن غزوة بدر خرج إليها النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يريد القتال، وإنما يريد عير قريش وليس معه إلا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، معهم سبعون بعيراً وفرسان يتعاقبون عليها، وقد تخلف عنها كثير من الصحابة لأنها ليست غزوة، ولم يدع إليها أحد؛ وإنما خرج إليها الخفاف من الناس.
قال أنس بن النضر للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يبين له أنه لم يكن معه في أول قتال قاتل فيه المشركين، وقال: لئن أدركت قتالاً ليرين الله ما أصنع.
فلما كانت أحد، وهي بعد غزوة بدر بسنة وشهر، خرج الناس وقاتلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وصارت الدائرة في أول النهار للمسلمين، ولكن، لما تخلف الرماة عن الموقع الذي جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ونزلوا من الجبل؛ كر فرسان المشركين على المسلمين من خلفهم، واختلطوا بهم، وانكشف المسلمون، وصارت الهزيمة. لما انكشف المسلمون تقدم أنس بن النضر ـ رضي الله عنه ـ وقال: (اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء) يعني أصحابه، (وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء) ، يعني أصحابه، (وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء) يعني المشركين.
ثم تقدم ـ رضي الله عنه ـ فاستقبله سعد بن معاذ، فسأله إلي أين؟(2/109)
قال: يا سعد، إني لأجد ريح الجنة دون أحد، وهذا وجدان حقيقي، ليس تخيلاً أو توهماً، ولكن من كرامة الله لهذا الرجل شم رائحة الجنة قبل أن يستشهد ـ رضي الله عنه ـ من أجل أن يقدم ولا يحجم، فتقدم فقاتل، فقتل ـ رضي الله عنه ـ استشهد، ووجد فيه بضع وثمانون، ما بين ضربة بسيف، أو برمح، أو بسهم، حتى إنه قد تمزق جلده، فلم يعرفه أحد إلا أخته، لم تعرفه إلا ببنانه ـ رضي الله عنه.
فكان المسلمون يرون أن الله قد أنزل فيه وفي أشباهه هذه الآية: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 23) ، ولا شك أن هذا وأمثاله ـ رضي الله عنهم ـ يدخلون دخولاً أولياً في هذه الآية، فإنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، حيث قال أنس: والله ليرين الله ما أصنع، ففعل، فصنع صنعاً لا يصنعه أحد إلا من منْ الله عليه بمثله حتى استشهد.
ففي هذا الحديث دليل شاهد للباب، وهو مجاهدة الإنسان نفسه على طاعة الله، فإن أنس بن النضر جاهد نفسه هذا الجهاد العظيم، حتى تقدم يقاتل أعداء الله بعد أن انكشف المسلمون وصارت الهزيمة حتى قتل شهيدً ـ رضي الله عنه ـ والله الموفق.
* * *
110 ـ السادس عشر: عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري ـ رضي الله عنه ـ قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل على ظهورنا فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا: مراء وجاء رجل أخر فتصدق بصاع فقالوا: إن(2/110)
الله لغني عن صاع هذا! فنزلت: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) (التوبة: 79) . متفق عليه.
(نحامل) بضم النون، وبالحاء المهملة: أي يحمل أحدنا على ظهره بالأجرة، ويتصدق بها.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ نقلاً عن أبي مسعود عقبة بن عمرو ـ رضي الله عنه ـ قال: لما نزلت آية الصدقة: يعني الآية التي فيها الحث على الصدقة، والصدقة هي: أن يتبرع الإنسان بماله للفقراء ابتغاء وجه الله، وسميت صدقة لأن بذل المال لله ـ عز وجل ـ دليل على صدق الإيمان بالله، فإن المال من الأمور المحبوبة للنفوس، قال الله تعالى: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً) (الفجر: 20) ، جماً: أي كثيراً عظيماً، وحيث إن المحبوب لا يبذل إلا لمن هو أحب منه، فإذا بذله الإنسان ابتغاء وجه الله؛ كان ذلك دليلاً على صدق الإيمان.
فلما نزلت هذه الآية جعل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يبادرون ويسارعون في بذل الصدقات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي عادتهم ـ رضي الله عنهم ـ أنهم إذا نزلت الآيات بالأوامر بادروها وامتثلوها، وإذا نزلت بالنواهي بادروا بتركها، ولهذا لما نزلت آية الخمر التي فيها تحريم(2/111)
الخمر، وبلغت قوماً من الأنصار، وكان الخمر بين أيديهم يشربون قبل أن يحرم، فمن حين ما سمعوا الخبر أقلعوا عن الخمر، ثم خرجوا بالأواني يصبونها في الأسواق حتى جرت الأسواق في الخمر.
وهذا هو الواجب على كل مؤمن؛ إذا بلغه عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم شيء أن يبادر بما يجب عليه؛ من امتثال هذا الأمر، أو اجتناب هذا النهي.
والمهم هنا أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بدءوا يأتون بالصدقة، كل واحد يحمل بقدرته من الصدقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل بصدقة كثيرة، وجاء رجل بصدقة قليلة، فكان المنافقون إذا جاء الرجل بالصدقة الكثيرة؛ قالوا: هذا مراءٍ، ما قصد به وجه الله. وإذا جاء الرجل بالصدقة القليلة قالوا: إن الله غني عنه، وجاء رجل بصاع، قالوا: إن الله غني عن صاعك هذا.
وهؤلاء هم المنافقون، والمنافقون هم الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، ويظهرون الشماتة بالمؤمنين دائماً، جعلوا أكبر همهم وأعذب مقال لهم، وألذ مقال على أسماعهم؛ أن يسمعوا ويقولوا ما فيه سب المسلمين والمؤمنين ـ والعياذ بالله ـ لأنهم منافقون، وهم العدو، كما قال الله ـ عز وجل ـ فاحذرهم المنافق الذي يظهر لك خلاف ما يبطن.
فهؤلاء صاروا إذا جاء رجل بكثير، قالوا: هذا مراءٍ، وإن جاء بقليل، قالوا: إن الله غني عن صاعك ولا ينفعك، فأنزل الله ـ عز وجل ـ: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا(2/112)
يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) (التوبة: 79) ويلمزون: يعني يعيبون، والمطوعين: هم المتطوعين المتصدقين، (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُم) ، هذه معطوفة على قوله: (الْمُطَّوِّعِينَ) يعني ويلمزون الذين لا يجدون إلا جهدهم، فهم يلمزون هؤلاء وهؤلاء، (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، فهم سخروا بالمؤمنين فسخر الله منهم، والعياذ بالله.
ففي هذا دليل على حرص الصحابة على استباق الخير، ومجاهدتهم أنفسهم على ذلك، أيضاً على أن الله ـ عز وجل ـ يدافع عن المؤمنين، وأنظر كيف أنزل الله آية في كتاب الله، مدافعة عن المؤمنين الذين كان هؤلاء المنافقين يلمزونهم.
وفيه دليل على شدة العداوة من المنافقين للمؤمنين، وأن المؤمنين لا يسلمون منهم؛ إن عملوا كثيراً سبوهم، وإن عملوا قليلاً سبوهم، ولكن الأمر ليس إليهم، بل الله ـ عز وجل ـ ولهذا سخر الله منهم، وتوعدهم بالعذاب الأليم في قوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
أما حكم المسألة هذه؛ فإن الله تعالى قال في كتابه: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة: 7-8) ، القليل والكثير من الخير سيراه الإنسان، ويجازى به، والقليل والكثير من الشر سيراه الإنسان، ويجازى عليه، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الإنسان إذا تصدق بعدل تمرة) أي بما يعادلها (من كسب طيب ـ ولا يقبل الله إلا الطيب ـ فإن الله تعالى يأخذها بيمينه فيربيها كما يربى أحدكم(2/113)
فلوه، حتى تكون مثل الجبل) .
وقارن بين حبة من التمر وبين الجبل؛ لا نسبة، الجبل أعظم بكثير، فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يجزي الإنسان على ما عمل من خير قل أو كثر، ولكن، احرص على أن تكون نيتك خالصة لله، واحرص على أن تكون متبعاً في ذلك رسول صلى الله عليه وسلم.
* * *
111 ـ السابع عشر: عن سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعه بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر جندب بن جنادة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته: فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته: فإستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً: فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم، وأنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد في ملكي شيئاً، يا عبادي لو(2/114)
أن أولكم وأخركم، وأنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم، قاموا في صعيد، واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد
غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) قال سعيد: كان أبو إدريس إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه. رواه مسلم وروينا عن الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ قال: ليس لأهل الشام حديث أشرف من هذا الحديث.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن أبي ذر الغفاري ـ رضي الله عنه ـ في باب المجاهدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه عن ربه ـ تبارك وتعالى ـ يعني أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ حدث عن الله أنه قال ... إلى آخره، وهذا يسمى عند أهل العلم بالحديث القدسي، أو الحديث الإلهي، أما ما كان من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يسمى بالحديث النبوي.
وهذا الحديث القدسي يقول الله تعالى فيه: (يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي) ، أي ألا أظلم أحداً، لا بزيادة سيئات لم يعملها، ولا(2/115)
بنقص حسنات عملها، بل هو ـ سبحانه وتعالى ـ حكم، عدل، محسن، فحكمه وثوابه لعباده دائر بين أمرين: بين فضل وعدل، فضل لمن عمل الحسنات، وعدل لمن عمل السيئات، وليس هناك شيء ثالث وهو الظلم.
أما الحسنات فإنه ـ سبحانه وتعالى ـ يجازي الحسنة بعشر أمثالها، من يعمل حسنة يثاب بعشر حسنات، أما السيئة فبسيئة واحدة فقط، قال الله تعالى في سورة الأنعام ـ وهي مكية: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (الأنعام: 160) ، ولا يظلمون بنقص ثواب الحسنات، ولا يظلمون بزيادة جزاء السيئات، بل ربنا ـ عز وجل ـ يقول: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) (طه: 112) ، ظلماً بزيادة في سيئاته، ولا هضماً بنقص من حسناته.
وفي قوله تعالى: (إني حرمت الظلم على نفسي) دليل على أنه ـ جل وعلا ـ يحرم على نفسه، ويوجب على نفسه، فمما أوجب على نفسه: الرحمة، قال تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة) (الأنعام: 54) ، ومما حرم على نفسه: الظلم، وذلك لأنه فعال لما يريد، يحكم بما يشاء، فكما أنه يوجب على عباده ويحرم عليهم؛ يوجب على نفسه ويحرم عليها ـ جل وعلا ـ، لأن له الحكم التام المطلق.
وقوله تعالى: (وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) أي لا يظلم بعضكم بعضاً، والجعل هنا هو الجعل الشرعي، وذلك لأن الجعل الذي أضافه الله إلى نفسه: إما أن يكون كونياً مثل قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا(2/116)
النَّهَارَ مَعَاشاً) (النبأ: 10، 11) ، وإما أن يكون شرعياً مثل قوله تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ) (المائدة: 103) ، ما جعل: أي ما شرع، وإلا فقد جعل ذلك كوناً، لأن العرب كانوا يفعلون هذا، ومثل هذا الحديث: (جعلته بينكم محرماً) أي جعلته جعلاً شرعياً لا كونياً، لأن الظلم يقع.
وقوله: (جعلته بينكم محرماً) ، الظلم بالنسبة للعباد فيما بينهم يكون في ثلاثة أشياء بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وهو يخطب الناس في حجة الوداع: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم فأشهد) . فهذه ثلاثة أشياء: الدماء، والأموال، والأعراض.
فالظلم فيما بين البشر حرام في الدماء، فلا يجوز لأحد أن يتعدى على دم أحد، ولا على دم تفوت به النفس وهو القتل، ولا على دم يحصل به النقص، كدم الجروح، وكسر العظام، وما أشبهها، كل هذا حرام لا يجوز.
وأعلم أن كسر عظم الميت ككسره حياً، كما جاء ذلك عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ، فالميت محترم لا يجوز أن يؤخذ من أعضائه(2/117)
شيء، ولا أن يكسر من أعضائه شيء، لأنه أمانة وسوف يبعث بكامله يوم القيامة، وإذا كان كذلك فلا يجوز أن تأخذ منه شيئاً.
ولهذا نص فقهاء الحنابلة ـ رحمهم الله على أنه لا يجوز أن يؤخذ من الميت شيء من أعضائه، ولو أوصى به، وذلك لأن الميت محترم، كما أن الحي محترم. كسر عظم الميت ككسره حياً، فإن أخذنا من الميت عضواً، أو كسرنا منه عظماً، كان ذلك جناية عليه، وكل اعتداءً عليه، وكنا آثمين بذلك.
والميت نفسه لا يستطيع أن يتبرع بشيء من أعضائه، لأن أعضاءه أمانة عنده، أمانة لا يحل له أن يفرط فيها، ولهذا قال الله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، فسرها عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ بالإنسان إذا كان عليه جنابة، وكان في البرد، وخاف أن اغتسل أن يتضرر، جعل عمرو بن العاص هذا داخلاً في الآية، وذلك حين كان عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ في سرية، وأجنب، وكانت الليلة باردة فتيمم، وصلى بأصحابه، فلما رجعوا إلى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وبلغه الخبر، قال: (يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب) ـ يعني لم تغتسل ـ؟ قال: يا رسول الله، إني ذكرت قول الله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) (النساء: 29) ، وخفت البرد فتيممت، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وأقره على فعله وعلى استدلاله بالآية، ولم يقل: إن الآية لا تدل على هذا.(2/118)
فإذن كل شيء يضر أبداننا، أو يفوت منها شيئاً، فإنه لا يحل لنا أن نفعله، لقوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) . فما حرم علينا أن نتناول الدخان وغيره من الأشياء الضارة إلا من أجل حماية البدن، فالبدن محترم. فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (دماءكم) ، يشمل الدم الذي يهلك به الإنسان وهو القتل، والدم الذي بدون ذلك، وهو الجرح، أو كسر العظم، أو ما أشبه ذلك.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (وأموالكم) فإن الأموال قد حرم الله ـ سبحانه وتعالى ـ على بعضنا أن يأخذ من مال أخيه بغير حق، بأي نوع من الأنواع؛ سواء أخذه غصباً بأن يأخذ بالقوة، أو أخذه سرقة، أو اختطافاً، أو خيانة، أو غشاً، أو كذباً، بأي نوع من هذه الأنواع يأخذه، فإنه حرام عليه.
وعلى هذا فالذين يبيعون على الناس بالغش ـ ولا سيما أهل الخضار ـ فإن كل مالٍ، بل كل قرش يدخل عليهم من زيادة في الثمن بسبب الغش؛ فإنه حرام، فالذين يغشون في البيع أو في الشراء يرتكبون محظورين:
المحظور الأول: العدوان على إخوانهم المسلمين بأخذ أموالهم بغير حق.
المحظور الثاني: أنهم ينالون تبرؤ النبي صلى الله عليه وسلم منهم، وبئس البضاعة بضاعة يلتحق فيها صاحبها بالبراءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: (من غشنا فليس منا) .(2/119)
ومن ذلك ما يفعله بعض الجيران، حيث تجده يدخل المراسيم على جاره من أجل أن تزيد أرضه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن (من اقتطع من الأرض شبر بغير حق، فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين) يكون يوم القيامة من سبع ارضين، في عنقه طرق من سبع أرضين ـ والعياذ بالله ـ يحمله في يوم المحشر. وهذا من الظلم.
ومن الظلم أيضاً: أن يكون لشخص على شخص دراهم، ثم ينكر الذي عليه الحق، ويقول: ليس لك عندي شيء، فهذا من أكل المال بالباطل، حتى لو فرض أنه تحاكم إلى القاضي مع خصمه، وغلبه عند القاضي، فإنه لا يغلبه عند الله، قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ (إنكم تختصمون إلى، لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فاقضي له، وإنما أقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه؛ فإنما أقتطع له جمرة من نار، فليستقل أو ليستكثر) فلا تظن أنك إن غلبت خصمك عند القاضي، وكنت مبطلاً، تسلم بهذا في الآخرة أبداً؛ لأن القاضي إنما يقضي بنحو ما يسمع ولا يعلم الغيب، ولكن علام الغيوب ـ جل وعلا ـ هو الذي يحاسبك يوم القيامة.(2/120)
وكذلك أيضاً من أكل الأموال: أن يدعي شخص على آخر ما ليس له، ويقيم على ذلك البينة بالشهادة الزور، ويحكم له بذلك، فإن هذا من أكل المال بالباطل، والأمثلة على ذلك كثيرة، ولكنها كلها محرمة إذا لم تكن بحق ولهذا قال ـ عز وجل ـ (فلا تظالموا) .
أما الأعراض فهي أيضاً حرام، فلا يحل للإنسان أن يقع في عرض أخيه، فيغتابه في المجلس أو يسبه، فإن ذلك من كبائر الذنوب. قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) (الحجرات: 12) أنظر للترتيب: أجتنبوا كثيراً من الظن، فإن ظن الإنسان بأخيه شيئاً تجسس عليه، ولهذا قال: (وَلا تَجَسَّسُوا) ، فإذا تجسس صار يغتابه، ولهذا قال في الثالثة: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) . ثم قال تعالى: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) ؟ الجواب: لا. لا يجب، بل يكره، ولهذا قال: (فَكَرِهْتُمُوهُ) ، قال بعض المفسرين: إذا كان يوم القيامة، فإنه يؤتي بالرجل الذي اغتابه الشخص، يمثل له بصورة إنسان ميت، ثم يقال له: كل من لحمه، ويكره على ذلك، وهو يكرهه، لكن يكره على هذا عقوبة له، والعياذ بالله.
فالغيبة ـ وهي انتهاك عرض أخيك ـ محرمة، وقد روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم مر ليلة عرج به بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، يعني يكرون الوجوه والصدور بهذه الأظفار التي من النحاس، فقال: (يا جبريل، من هؤلاء؟) قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم(2/121)
الناس ويفعلون في أعراضهم. نعوذ بالله.
ثم أن الإنسان إذا انتهك عرض أخيه، فإن أخاه يأخذ في الآخرة من حسناته، ولهذا يذكر أن بعض السلف قيل له: إن فلان يغتابك، فقال: مؤكداً؟ قال: نعم، اغتابك، فصنع هدية له، ثم بعث بها إليه، فاستغرب الرجل! كيف يغتابه، ويرسل له هدية؟ قال: نعن إنك أهديت إلي حسنات، والحسنات تبقى، وأن أهديت إليك هدية تذهب في الدنيا، فهذه مكافأة على هديتك لي , انظر فقه السلف ـ رضي الله عنهم.
فالحاصل أن الغيبة حرام، ومن كبائر الذنوب، ولا سيما إذا كانت الغيبة في ولاة الأمور من الأمراء أو العلماء، فإن غيبة هؤلاء أشد من غيبة سائر الناس، لأن غيبة العلماء تقلل من شأن العلم الذي في صدورهم، والذي يعلمونه الناس، فلا يقبل الناس ما يأتون به من العلم، وهذا ضرر على الدين، وغيبة الأمراء تقلل من هيبة الناس لهم؛ فيتمردون عليهم وإذا تمرد الناس على الأمراء فلا تسأل عن الفوضى:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
فنسأل الله أن يحمينا وإياكم مما يغضبه، إنه جواد كريم.
ثم قال الله تعالى: (يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدني أهدكم) ، ضال يعني: تائهاً، أي لا يعرف الحق، ضال يعني: غاوياً لا(2/122)
يقبل الحق، فالناس في الضلال قسمان:
قسم تائه: لا يعرف الحق. من النصارى، فإن النصارى ضالون، تائهون، لا يعرفون الحق إلا بعد أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم عرفوا الحق لكنهم استكبروا عنه، فلم يكن بينهم وبين اليهود فرق في أنهم علموا الحق ولم يتبعوه.
وقسم غاو: أي اختار الغي على الرشد بعد أن علم بالرشد، وهؤلاء مثل اليهود، فإن اليهود عرفوا الحق ولكنهم لم يقبلوا، بل ردوه.
ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) (فصلت: 17) ، هداهم الله، وبين لهم، ودلهم، لكنهم استحبوا العمى على الهدى، واستحبوا الغي على الرشد، فالناس كلهم ضالون إلا من هدى الله.
لكن؛ ما هي هداية القسم الأول، وهو الضال الذي لم يعرف الحق؟ هداية القسم الأول: أن يبين الله لهم الحق ويدلهم عليه، وهذه الهداية حق على الله، حق على الله أوجبه الله على نفسه، فكل الخلق قد هداهم الله بهذا المعنى، يعني بمعنى البيان، قال الله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى) (الليل: 12) ، وقال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ) (البقرة: 185) ، هدى للناس عموماً.
ولكن الهداية الثانية، هي هداية التوفيق لقبول الحق، هذه هي التي يختص الله بها من يشاء من عباده، فالهداية هديتان هداية بيان الحق، وهذه عامة لكل أحد، وقد أوجبها الله على نفسه، وبين لعباده الحق من(2/123)
الباطل، وهداية توفيق لقبول الحق والعمل به، تصديقاً للخبر وقياماً بالطلب، وهذه خاصة يختص الله بها من يشاء من عباده.
والناس في هذا الباب ينقسمون إلى أقسام:
القسم الأول: من هدي الهدايتين، أي علمه الله ووفقه للحق وقبوله.
والقسم الثاني: من حرم الهدايتين، فليس عنده علم، وليس له عبادة.
والقسم الثالث: من هدي بالدلالة والإرشاد، ولكنه لم يهد هداية التوفيق، وهذا شر الأقسام، والعياذ بالله.
والمهم أن الله ـ عز وجل ـ يقول: (كلكم ضال) ، أي كلكم لا يعرف الحق. أو كلكم لا يقبل الحق، إلا من هديته (فاستهدوني أهدكم) يعني: اطلبوا الهداية مني، فإذا طلبتموها؛ فإنني أجيبكم وأهديكم إلى الحق، ولهذا جاء الجواب في: (استهدوني أهدكم) ، وكأنه جواب شرط، ليتحقق المشروط عند وجود الشرط، ودليل هذا أن الفعل جزم (استهدوني أهدكم) ، فمتى طلبت الهداية من الله بصدق وافتقار إليه، وإلحاح، فإن الله يهديك.
ولكن أكثرنا معرض عن هذا، فأكثرنا قائم بالعبادة، لكن على العادة، وعلى ما يفعل الناس، كأننا لسنا مفتقرين إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ في طلب الهداية، فالذي يليق بنا: أن نسأل الله دائماً الهداية، والإنسان في كل صلاة يقول: رب اغفر لي، ارحمني واهدني بل إنه في كل صلاة: يقول على سبيل الركنية: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ(2/124)
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة: 7) ، ولكن أين القلوب الواعية؟ ! إن أكثر المصلين يقرأ هذه الآية، وتمر عليه مر الطيف، أي مر الغيم الذي يجري بدون ماء، وبدون شيء، ولا ينتبه لها.
والذي يليق بنا أن نتنبه، وأن نعلم أننا مفتقرون إلى الله ـ عز وجل ـ في الهداية، سواء الهداية العلمية، أو الهداية العملية، أي هداية الإرشاد والدلالة ـ أو هداية التوفيق، فلابد أن نسأل الله دائماً الهداية.
(فاستهدوني أهدكم) وربما تشمل هذه الجملة الطريق الحسي، كما تشمل الطريق المعنوي، فالهداية للطريق المعنوي: هي الهداية إلى دين الله، والهداية للطريق الحسي: كأن تكون في أرضه قد ضللت الطريق وضعت، فمن تسأل؟ فإنك تسأل الله الهداية، ولهذا قال الله عن موسى صلى الله عليه وسلم: (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) (القصص: 22) ، أي السبيل المستوي الموصل للمقصود بدون تعب، وقد جرب هذا، فإن الإنسان إذا ضاع في البر فإنه يلجأ إلى الله تعالى ويقول: رب أهدني سواء السبيل، أو عسى ربي أن يهديني سواء السبيل،، وذلك لأننا محتاجون إلى الله في الهدايتين؛ هداية الطريق الحسي، كما أننا محتاجون إلى الله في الهداية إلى الطريق المعنوي. نسأل الله أن يهدينا جميعاً الهداية فيمن هدى.
ثم قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فإستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم) ، هاتان الجملتان الخاصتان بالجوع والعرى ذكرهما(2/125)
الله ـ عز وجل ـ بعد أن ذكر الهداية، لأن في الهداية غذاء القلب بالعلم والإيمان، والجوارح بالعمل الصالح.
أما الطعام والشراب والكسوة فهي غذاء البدن، لأن البدن لا يستقيم إلا بالطعام، ولا يستتر إلا بالكسوة، ولهذا قال: (يا عبادي، لكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم) وصدق ربنا ـ عز وجل ـ كلنا جائع إلا من أطعمه الله، ولولا أن الله تعالى يسر لنا ما يكون به طعامنا لهلكنا، يقول الله تعالى مبيناً ذلك في سورة الواقعة: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) .
والجواب: بل أنت ـ يا ربنا ـ الذي زرعته، لأن الله يقول: (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (الواقعة: 65، 67) ، وتأمل كيف قال تعالى: (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً) ، ولم يقل: لو نشاء ما أنبتناه، لأنه إذا نبت وشاهده الناس؛ تعلقت به قلوبهم، فإذا جعل حطاماً بعد أن تعلقت به القلوب؛ صار ذلك أشد نكاية، ولهذا قال تعالى (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً) ، ولم يقل لو نشاء ما أنبتناه.
وقال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) (الواقعة: 69) ، يعني: من السحاب، (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) ؛ لأن الماء الذي نشرب من السحاب، ينزله الله ـ عز وجل ـ على الأرض فيسلكه ينابيع، يدخله في الأرض، ويجري فيما تحت الأرض كالأنهار، ثم يستخرج بالأدوات التي سخرها الله ـ عز وجل ـ في كل وقت بحسبه، وهذا من حكمة الله ـ عز وجل ـ أن استودع الماء في بطون الأرض، ولو بقى على ظهر(2/126)
الأرض لفسد، وأفسد الهواء وأهلك المواشي، بل وأهلك الآدميين من رائحته ونتنه، ولكن الله ـ عز وجل ـ بحكمته ورحمته جعل هذه الأرض تشربه وتسلكه ينابيع فيها، حتى تأتي حاجة الناس إليه؛ فيحفرونه، فيصلون إليه.
والذي أنزله هو الله ـ عز وجل ـ، ولو اجتمع الناس كلهم على أن ينزلوا قطرة من السماء ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ولكن الله ـ عز وجل ـ هو الذي ينزله بقدرته ورحمته، إذن، نحن لا نطمع شيئاً من طعام، أو مأكول، ولا من مشروب؛ إلا بالله ـ عز وجل ـ ولهذا قال: (كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم) .
واستطعام الله ـعز وجل ـ يكون بالقول وبالفعل؛ بالقول: بأن تسأل الله ـ عز وجل ـ أن يطعمنا وأن يرزقنا، وأما بالفعل، فله جهتان:
الجهة الأولى: العمل الصالح، فإن العمل الصالح سبب لكثرة الأرزاق وسعتها، قال الله ـ عز وجل ـ: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف: 96) ، وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (المائدة: 65، 66) ، (مِنْ فَوْقِهِمْ) : أي من ثمار الأشجار، (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) : أي من ثمار الزروع، فالمهم أن هذا من أسباب إطعام الله.
الجهة الثانية من جهة الاستطعام الفعلي: أن نحرث الأرض، ونحفر(2/127)
الآبار، ونستخرج المياه، ونزرع الحبوب، ونغرس الأشجار، وما أشبه ذلك.
فالاستطعام يكون بالقول، ويكون بالفعل، والفعل له جهتان: الجهة الأولى: العمل الصالح، والجهة الثانية: الأسباب الحسية المادية كالحرث، وحفر الآبار، وما أشبه ذلك.
وقوله ـ جل ذكره ـ: (فاستطعموني أطعمكم) هذا جواب شرط مقدر، أو جواب الأمر الذي كان في الشرط، يعني أنك إذا استطعمت الله فإن الله يطعمك، ولكن استطعام الله ـ عز وجل ـ يحتاج إلى أمر مهم، وهو حسن الظن بالله ـ جل وعلا ـ، أي أن تحسن الظن بربك أنك إذا استطعمته أطعمك، أما أن تدعو الله وأنت غافل لاهٍ، أو تفعل الأسباب وأنت معتمد على قوتك لا على ربك؛ فإنك قد تكون مخذولاً، والعياذ بالله، لكن استطعم الله وحده وأخلص له وحده في ذلك.
(يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم) ، كلكم عار إلا من كسوته، ذلك لأن الإنسان يخرج من بطن أمه ليس عليه ثياب، بل يخرج مجرداً؛ لا ثياب، ولا شعر يكسوه، كما يكون في الحيوان، وهذا من حكمة الله ـ عز وجل.
فمن حكمته تعالى: أن جعلنا نخرج بادية أبشارنا، بادية جلودنا، حتى نعرف أننا محتاجون إلى كسوة تستر عورتنا حساً، كما أننا محتاجون إلى عمل صالح يستر عورتنا معنى، لأن التقوى لباس، كما قال تعالى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) (الأعراف: 26) ، فأنت انظر في نفسك تجد أنك(2/128)
محتاج إلى الكسوة الحسية لأنك عار، كذلك أيضاً محتاج إلى الكسوة المعنوية ـ وهي العمل الصالح ـ حتى لا تكون عارياً، ولهذا ذكر بعض العابرين للرؤيا أن الإنسان إذا رأى نفسه في المنام عارياً فإنه يحتاج إلى كثرة الاستغفار، لأن هذا دليل على نقصان تقواه، فإن التقوى لباس.
وعلى كل حال؛ فنحن عراة إلا كسوة الله ـ عز وجل ـ وقد سخر الله لنا من الكسوة ما نكسو به أبداننا ـ ولله الحمد ـ من أصناف اللباس المتنوعة، لا سيما في البلاد الغنية التي ابتلاها الله ـ عز وجل ـ بالمال، فإن المال ـ في الحقيقة ـ فتنة يخشى على الأمة منه، كما قال محمد صلى الله عليه وسلم: (والله ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم أن تفتح عليكم الدنيا، فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم؛ فتهلككم كما أهلكتهم) فالمال ابتلاء وبلوى، تحتاج إلى صبر على أداء ما يجب فيه، وإلى شكر على ما يجب له.
وعلى كل حال، أقول: إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ من علينا باللباس، ولولا أن الله يسره لنا ما تيسر، ولو أنك نظرت في الخلق في وقتك الآن، وتأملت لوجدت ـ كما سمعنا ـ من يبتون عراة، ليس على أبدانهم ما يسترهم، ربما يسترون السوءة بالأشجار ونحوها، وليس عليهم ما يسترهم دون ذلك، فمن الذي سترك ومن عليك؟ هو الله، ولهذا قال ـ عز وجل ـ (يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم) .
ونقول في قوله: (استكسوني أكسكم) كما قلنا في قوله: (استطعموني(2/129)
أطعمكم) ، يعني أن الاستكساء يكون بالقول، ويكون بالفعل؛ أما الذي بالقول: فبأن تسال الله ـ عز وجل ـ أن يكسوك، وإذا سالت الله أن يكسو بدنك حسياً، فسأل الله أن يكسو عورتك المعنوية بالتوفيق إلى طاعته.
وأما الاستكساء بالفعل فعلى وجهين:
الوجه الأول: بالأعمال الصالحة، والوجه الثاني: بفعل الأسباب الحسية التي تكون بها الكسوة؛ من إحداث المعامل، والمصانع، وغير ذلك.
وفي الربط بن الطعام والكسوة والهداية مناسبة؛ لأن الطعام في الحقيقة كسوة البدن باطناً، لأن الجوع والعطش معناه خلو المعدة من الطعام والشراب، وهذا تعرٍّ لها، والكسوة ستر البدن ظاهراً، والهداية الستر المهم المقصود وهو ستر القلوب والنفوس من عيوب الذنوب.
ثم قال تعالى: (يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم) هذا أيضاً من تمام نعمة الله على العبد، إنه ـ جل وعلا ـ يعرض عليه أن يستغفر إلى الله ويتوب إليه، مع أنه يقول: (إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً) ، أي جميع الذنوب، من الشرك بالله، والكفر، والكبائر، والصغائر، كلها يغفرها الله، ولكن بعد أن يستغفر الإنسان ربه، ولهذا قال: (فاستغفروني أغفر لكم) ،، أي اطلبوا منى المغفرة حتى أغفر لكم.
ولكن طلب المغفرة ليس مجرد أن يقول الإنسان: اللهم اغفر لي، بل لابد من توبة صادقة يتوب بها الإنسان إلى الله ـ عز وجل.(2/130)
والتوبة الصادقة هي التي تجمع خمسة شروط:
الشرط الأول: أن يكون الإنسان مخلصاً فيها لله ـ عز وجل ـ لا يحمله على التوبة مراءاة الناس، ولا تسميعهم، ولا أن يتقرب إليهم بشيء، وإنما يقصد بالتوبة الرجوع إلى الله حقيقة، والإخلاص شرط في كل عمل، ومن جملة الأعمال الصالحة: التوبة إلى الله ـ عز وجل ـ، كما قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: 31) .
الشرط الثاني: أن يندم الإنسان على ما وقع منه من الذنب، يعني أن يحزن، ويتأسف، ويعرف أنه ارتكب خطأ حتى يندم عليه، أما أن يكون ارتكاب الخطأ وعدمه عنده على حد سواء؛ فهذه ليست بتوبة، بل لابد من أن يندم بقلبه ندماً يتمنى أنه لم يقع منه هذا الذنب.
الشرط الثالث: أن يقلع عن الذنب فلا توبة مع الإصرار على الذنوب، كما قال تعالى: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران: 135) ، أما أن بقول إنه تائب من الذنب وهو مصر عليه، فإنه كاذب مستهزئ بالله ـ عز وجل ـ، فمثلاً لو قال: أتوب إلى الله من الغيبة، ولكنه كلما جلس مجلساً اغتاب عباد الله؛ فإنه كاذب في توبته، ولو قال أتوب إلى الله من الربا ولكنه مصر عليه؛ يبيع بالربا ويشتري بالربا، فهو كاذب في توبته، ولو قال: أتوب إلى الله من استماع الأغاني، ولكنه مصر على ذلك، فهو كاذب في توبته، ولو قال: أتوب إلى الله من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم في إعفاء اللحية، وكان يحلقها، وهو يقول أتوب إلى الله من حلقها: فإنه كاذب، وهكذا جميع المعاصي إذا كان الإنسان مصراً عليها فإن دعواه(2/131)
التوبة كذب، ولا تقبل توبته.
ومن التخلي عن الذنب والإقلاع عنه: أن يرد المظالم إلى أهلها إذا كانت المعصية في حقوق العباد، فإن كانت في أخذ مال فليرد المال إلى من أخذه منه، فإن كان قد مات فليرده إلى ورثته، فإن تعذر عليه أن يعرف الورثة، أو نسى الرجل، أو ذهب الرجل إلى مكان لا يمكن العثور عليه، مثل أن يكون أجنبياً، فيرجع إلى بلده، ولا يدري أين هو، ففي هذه الحال يخرج ما عليه صدقة ينويها لصاحب المال الذي يطلبه.
وإذا كان الذنب في غيبة، وكان المغتاب قد علم أن هذا الرجل قد اغتابه، فلابد أن يذهب إلى المغتاب ويتحلل منه، وينبغي للمغتاب إذا جاءه أخوه يعتذر إليه أن يقبل، وأن يسامح عنه، فإذا جاء إليك أخوك معتذراً مقراً بالذنب، فاعف عنه واصفح (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة: 13) ، ولكن إذا لم يقبل أن يتسامح عن غيبته إلا بشيء من المال؛ فأعطه من المال حتى يقتنع ويحللك.
كذلك إذا كانت المعصية مسابة بينك وبين أحد حتى ضربته مثلاً، فإن التوبة من ذلك أن تذهب إليه وتستسمح منه، وتقول: ها أنا أمامك اضربني كما ضربتك، حتى يصفح عنك، المهم أن من الإقلاع عن المعصية إذا كانت لآدمي أن تحلل منه، سواء كانت مظلمة مال، أو بدن، أو عرض.
الشرط الرابع: أن يعزم على ألا يعود في المستقبل، فإن تاب وأقلع عن الذنب، لكن في قلبه أنه حانت الفرصة عاد إلى ذنبه، فإن ذلك لا(2/132)
يقبل منه، فهذه توبة لا عب، فلابد أن يعزم، فإذا عزم قدر أنه نفسه سولت له بعد ذلك، وفعل المعصية، فإن ذلك لا ينقص التوبة السابقة، لكن يحتاج إلى توبة جديدة من الذنب مرة ثانية.
الشرط الخامس: أن تكون التوبة في الوقت الذي تقبل فيه، فإن فات الأوان لم تنفع التوبة، ويفوت الأوان إذا حضر الإنسان الموت. فإذا حضره الموت فلا توبة ولو تاب لم ينفعه، لقوله تعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) (النساء: 18) ، الآن لا فائدة فيها، ولهذا لما أغرق فرعون (قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس: 90) فقيل له (آلْآنَ) ، يعني أتقول هذا الآن (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (يونس: 91) ، فات الأوان، ولهذا يجب على الإنسان أن يبادر بالتوبة، لأنه لا يدري متى يفجؤه الموت، كم من إنسان مات بغتة وفجأة، فليتب إلى الله قبل أن يفوت الأوان.
أما الثاني الذي يفوت به أوان التوبة: إذا طلعت الشمس من مغربها، فإن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أخبر أن الشمس إذا غابت سجدت تحت عرش الرحمن ـ عز وجل ـ، واستأذنت الله، فإن أذن لها استمرت في سيرها، وإلا قيل: أرجعي من حيث جئت، فترجع بإذن الله وأمره،(2/133)
فتطلع على الناس من المغرب، فحينئذ يؤمن جميع الناس، يتوبون ويرجعون إلى الله، ولكن ذلك لا ينفعهم، قال الله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) يعني عند الموت، (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) يعني يوم القيامة للحساب، (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) يعني طلوع الشمس من مغربها، (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً) (الأنعام: 158) .
هذه خمسة شروط للتوبة، لا تقبل إلا بها، فعليك يا أخي أن تبادر بالتوبة إلى الله، والرجوع إليه، مادمت في زمن الإمهال، قبل ألا يحصل لك ذلك، واعلم أنك إذا تبت إلى الله توبة نصوحاً؛ فإن الله يتوب عليك، وربما يرفعك إلى منزلة أعلى من منزلتك، أنظر إلى أبيك أدم، حيث نهاه الله عن الأكل من الشجرة، فعصى ربه بوسوسة الشيطان له، قال الله تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) (طه: 121، 122) ، لما تاب نال الاجتباء. واجتباه الله، وصار في منزلة أعلى من قبل أن يعصي ربه، لأن المعصية أحدثت له خجلاً وحياء من الله، وأنابه إليه، ورجوعاً إليه، فصارت حاله أعلى حالاً من قبل.
واعلم أن الله اشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن من رجل كان على راحلته وعليها طعامه وشرابه في أرض فلاة، لا أحد فيها، فأضاع الناقة، وطلبها فلم يجدها، فنام تحت شجرة ينتظر الموت، فإذا بخطام ناقته متعلقاً بالشجرة، قد جاء الله بها، فأخذ بخطامها، وقال من شدة الفرح: (اللهم(2/134)
أنت عبدي، وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) ، أراد أن يقول: اللهم أنت ربي، وأنا عبدك، ولكن أخطأ من شدة الفرح، لأن الإنسان إذا أشتد فرحه لا يدري ما يقول، كما أنه إذا اشتد غضبه لا يدري ما يقول، فالله بتوبة عبده المؤمن أشد فرحاً من فرح هذا بناقته. نسأل الله أن يتوب علينا وعليكم، ويرزقنا الإنابة إليه.
وقوله جل ذكره: (يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني) ، يعني أنه ـ تبارك وتعالى ـ غني عن العباد، ولا ينتفع بطاعتهم ولا تضره معصيتهم، فإنه ـ عز وجل ـ قال في كتابه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذريات: 56، 58) ، فالله ـ عز وجل ـ لا ينتفع بأحد، ولا يتضرر بأحد لأنه غني عن الخلق ـ جل وعلا ـ، وإنما خلق الخلق لحكمة أرادها ـ تبارك وتعالى ـ خلقهم لعبادته، ثم إنه وعد الطائعين بالثواب، وتوعد العاصين بالعقاب، وحكمة منه؛ لأته خلق الجنة والنار، وقال: لكل منكما على ملؤها , فالنار لابد أن تكلأ، والجنة لابد أن تملأ كما قال ـ عز وجل: (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (هود: 119) ، إذن فالله تعالى لن ينفعه طاعة الطائعين، ولن تضره معصية العاصين، ولن يبلغ أحد ضرره مهما كان.
ولهذا قال فيما بعد هذه الجملة: (لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم(2/135)
كانوا على أتقى قلب رجل منكم، ما زاد في ملكي شيئاً) . لو أن أول الخلق وأخرهم وأنسكم وجنهم كانوا متقين، على أتقى قلب رجل واحد، ما زاد ذلك في ملك الله من شيئاً، لأن الملك ملكه، لا للطائعين ولا للعاصين.
كذلك أيضاً يقول ـ جل وعلا ـ: (يا عبادي، لو أن أولكم وأخركم، وأنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) لو كان العباد كلهم من جن وأنس، وأولهم وأخرهم، لو كانوا كلهم فجاراً وعلى أفجر قلب رجل، فإن ذلك لا ينقص من ملك الله شيئاً، قال الله تعالى: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) (الزمر: 7) ، فالله ـ جل وعلا ـ لا ينقص ملكه بمعصية العصاة، ولا يزيد بطاعة الطائعين، هو ملك الله على كل حال.
ففي هذه الجمل الثلاث دليل على غنى الله ـ سبحانه وتعالى ـ، وكمال سلطانه، وأنه لا يتضرر بأحد ولا ينتفع بأحد؛ لأنه غني عن كل أحد.
ثم قال تعالى: (يا عبادي لو أن أولكم وأخركم، وأنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) ، هذه الجملة تدل على سعة ملك الله ـ عز وجل ـ وعلى كمال غناه ـ تبارك وتعالى ـ لو أن الأولين والآخرين، والأنس والجن، قاموا كلهم في صعيد واحد، فسألوا الله ما تبلغه نفوسهم، من أس مسألة وإن عظمت، فأعطي الله كل إنسان ما سأل، بل أعطي الله كل سائل ما سأل، فإن ذلك لا ينقص من ملك الله شيئاً؛ لأن الله جواد، واجد، عظيم الغني، واسع العطاء ـ عز وجل.(2/136)
(إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) . أغمس المخيط في البحر، وانظر؛ ماذا ينقص البحر؟ إنه لا ينقص البحر شيئاً، ولا يأخذ المخيط من البحر شيئاً يمكن أن ينسب إليه، وذلك لأنه ـ عز وجل ـ واسع الغنى، جواد، ماجد، كريم ـ سبحانه وتعالى.
(يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها، لكم، ثم أوفيكم إياها) ، ومعنى (إنما هي أعمالكم) أي الشأن كله أن الإنسان بعمله ـ يحصى الله أعماله، ثم إذا كان يوم القيامة وفاه إياها. (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة: 7، 8) ، (فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) ؛ لأنه هو الذي أخطأ، وهو الذي منع نفسه الخير، أما إذا وجد خير فليحمد الله؛ لأن الله تعالى هو الذي من عليه أولاً وأخراً، من عليه أولاً بالعمل، ثم من عليه ثانياً بالجزاء الوافر (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) (الأنعام: 160) .
فهذا الحديث حديث عظيم، تناوله العلماء بالشرح واستنباط الفوائد والأحكام منه، وممن أفرد له مؤلفاً: شيخ الإسلام أبن تيمية ـ رحمه الله ـ، فإنه شرح هذا الحديث في كتاب مستقل، فعلى الإنسان أن يتدبر هذا الحديث ويتأمله، ولا سيما الجملة الأخيرة منه، وهي أن الإنسان يجزى بعمله، إن خير فخير، وإن شراً فشر، وهذا هو وجه وضع المؤلف لهذا الحديث في باب المجاهدة، أن الإنسان ينبغي له أن يجاهد نفسه، وأن يعمل الخير حتى يجد ما عند الله خيراً وأعظم أجراً. والله الموفق.(2/137)
12 ـ باب الحث على الازدياد من الخير في أواخر العمر
قال الله تعالى: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) (فاطر: 37) ، قال ابن عباس والمحققون: معناه: أو لم نعمركم سنين سنة؟ ويؤيده الحديث الذي سنذكره إن شاء الله تعالى. وقيل: معناه: ثماني عشرة سنة. وقيل: أربعين سنة. قاله الحسن والكلبي ومسروق، ونقل عن ابن عباس أيضاً. ونقلوا: أن أهل المدينة كانوا إذا بلغ أحدهم أربعين سنة تفرغ للعبادة: وقيل هو البلوغ.
وقوله تعالى: (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) قال ابن عباس والجمهور: هو النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل الشيب، وقاله عكرمة، وابن عيينة، وغيرهما. والله أعلم.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ: (باب الحث على الازدياد من الخير في أواخر العمر) . اعلم أن المدار على آخر العمر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) ، ولهذا كان من الدعاء المأثور: اللهم اجعل خير عمري آخره ,خير عملي خواتمه، وصح عن النبي ـ عليه الصلاة(2/138)
والسلام: أن (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا اله دخل الجنة) .
فالذي ينبغي للإنسان كلما طال به العمر؛ أن يكثر من الأعمال الصالحة، كما أنه ينبغي للشباب أيضاً أن يكثر من الأعمال الصالحة؛ لأن الإنسان لا يدري متى يموت، قد يموت في شبابه، وقد يؤخر موته، لكن لا شك أن من تقدم به السن فهو إلى الموت أقرب من الشاب؛ لأنه أنهى العمر.
ثم ساق المؤلف قول الله تعالى: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) (ما) : نكرة موصوفة؛ أي أو لم نعمركم عمراً يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير، وهذا العمر اختلف المفسرين فيه، فقيل: هو ستون سنة، وقيل ثمانية عشر سنة، وقيل أربعون سنة، وقيل البلوغ. والآية عامة، عمروا عمراً لهم فيه فرصة يتذكر فيه من يتذكر، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، فقد يكون الإنسان يتذكر في أقل من ثمانية عشر سنة، وقد لا يتذكر إلا بعد ذلك، حسب ما يأتيه من النذر والآيات، وما يكون حوله من البيئة الصالحة، أو غير الصالحة.
المهم أنه يقال لهم توبيخاً: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) وفي هذا دليل على أنه كلما طال بالإنسان العمر، كان أولى بالتذكر.
وأما قوله تعالى: (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) فالصحيح أن المراد بالنذير:(2/139)
النبي، وهو اسم جنس يشمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشمل الرسل الذين من قبله، كلهم نذر ـ عليهم الصلاة والسلام.
فالواجب على الإنسان أن يحرص في آخر عمره على الإكثار من طاعة الله، ولا سيما ما أوجب الله عليه، وأن يكثر من الاستغفار والحمد، كما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) (النصر: 13) . هذه السورة يقال أنها آخر سورة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها قصة عجيبة.
نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة والعاقبة، وأن يجعل خير أعمارنا أواخرها، خير أعمالنا خواتيمها.
* * *
112 ـ وأما الأحاديث فالأول: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة) رواه البخاري.
قال العلماء: معناه: لم يترك له عذراً إذ أمهله هذه المدة. يقال: أعذر الرجل: إذا بلغ الغاية في العذر.(2/140)
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعذر الله تعالى إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة) . والمعنى أن الله ـ عز وجل ـ إذا عمر الإنسان حتى بلغ ستين سنة فقد أقام عليه الحجة، ونفى عنه العذر؛ لأن ستين سنة يبقى الله الإنسان إليها؛ يعرف من آيات الله ما يعرف، ولاسيما إذا كان ناشئاً في بلد إسلامي، لا شك أن هذا يؤدي إلى قطع حجته إذا لاقى الله ـ عز وجل ـ لأنه لا عذر له، فلو أنه مثلاً قصر في عمره إلى خمس عشرة سنة، أو عشرين سنة، لكان قد يكون له عذر في أنه لم يتمهل ولم يتدبر الآيات، ولكنه إذا أبقاه إلى ستين سنة، فإنه لا عذر له، قد قامت عليه الحجة، مع أن الحجة تقوم على الإنسان من حين أن يبلغ، فإنه يدخل في التكليف ولا يعذر بالجهل، فإن الواجب على المرء أن يتعلم من شريعة الله ما يحتاج إليه، مثلاً: إذا أراد أن يتوضأ لابد أن يعرف كيف يتوضأ، إذا أراد أن يصلي لابد أن يعرف كيف يصلي، إذا صار عنده مال لابد أن يعرف ما مقدار النصاب، وما مقدار الواجب، وما أشبه ذلك، إذا أراد أن يصوم، لابد أن يعرف كيف يصوم، وما هي المفطرات، وإذا أراد أن يحج أو
يعتمر يجب أن يعرف كيف يحج، وكيف يعتمر، وما هي محظورات الإحرام، إذا كان من الباعة الذين يبيعون ويشترون بالذهب مثلاً، لابد أن يعرف الربا، وأقسام الربا، وما الواجب في بيع الذهب بالذهب، أو بيع الذهب بالفضة، وهكذا إذا(2/141)
كان ممن يبيع الطعام، لابد أن يعرف كيف يبيع الطعام، ولابد أن يعرف ما هو الغش الذي يمكن أن يكون، وهكذا.
والمهم أن الإنسان إذا بلغ لستين سنة فقد قامت عليه الحجة التامة، وليس له عذر، وكل إنسان بحسبه، كل إنسان يجب عليه أن يتعلم من الشريعة ما يحتاج، إليه، في الصلاة والزكاة والصيام والحج والبيوع والأوقاف وغيرها، حسب ما يحتاج إليه.
وفي هذا الحديث دليل على أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ له الحجة على عباده وذلك أن الله أعطاهم عقولاً، وأعطاهم أفهاماً، وأرسل إليهم رسلاً، وجعل من الرسالات ما هو خالد إلي يوم القيامة، وهي رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فإن الرسالات السابقة محدودة، حيث إن نبي يبعث إلى قومه خاصة، ومحدودة في الزمن؛ حيث أن كل رسول يأتي بنسخ ما قبله، إذا كانت الأمة التي أرسل إليها الرسولان واحدة.
أما هذه الأمة فقد أرسل الله إليها محمداً صلى الله عليه وسلم، وجعله خاتم الأنبياء، وجعل آيته العظيمة الباقية هذا القرآن العظيم، فإن آيات الأنبياء تموت بموتهم، ولا تبقى بعد موتهم إلا ذكرى، أما محمد صلى الله عليه وسلم فإن آيته هذا القرآن العظيم، باقية إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) (العنكبوت: 50، 51) ، فالكتاب كاف عن كل آية لمن تدبره، وتعقله، وعرف معانيه، وانتفع بأخباره، واتعظ بقصصه، فإنه يغني عن كل شيء من الآيات.(2/142)
لكن الذي يجعلنا نحس بهذا الآيات العظيمة، أننا لا نقرأ القرآن على وجه نتدبره، ونتعظ بما فيه. كثير من المسلمين ـ إن لم يكن أكثر المسلمين ـ يتلون الكتاب للتبرك والأجر فقط، ولكن الذي يجب أن يكون هو أن نقرأ القرآن لنتدبره ونتعظ بما فيه، (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ) ، هذا الأجر (لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) هذه هي الثمرة، (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (صّ: 29) . والله الموفق.
* * *
113 ـ الثاني عن أبن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان عمر رضي الله عنه ـ يدخلني مع أشياع بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟! فقال عمر: إنه من حيث علمتم! فدعاني ذات يوم فأدخلني معهم، فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم، قال: ما تقولون في قول الله تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) (النصر: 1) ؟ فقال بعضهم: امرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا. وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً. فقال لي: أكذلك تقول يا أبن عباس؟ فقلت: لا. قال: فما تقول؟ قلت هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له قال: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) وذلك علامة أجلك: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) (النصر: 3) فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ ما أعلم منها إلا ما تقول. رواه البخاري.(2/143)
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن عبد الله بن عباس- رضي الله عنه ـ أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه -كان يدخله في أشياخ بدر وكان من سيره عمر وهديه ـ رضي الله عنه ـ أنه يشاور الناس ذوي الرأي فيما يشكل عليه، كما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران: 159) ، والشورى الشرعية ليست تكوين مجلس للشورى حتى يكون مشاركاً في الحكم، ولكن الشورى الشرعية أن ولي الأمر إذا أشكل عليه أمر من الأمور، جمع الناس له من ذوي الرأي والأمانة من أجل أن يستشيرهم في القضية الواقعة، فكان من هدي عمر ـ رضي الله عنه ـ ومن سنته المشكورة، وسعيه الحميد أنه يشاور الناس، يجمعهم ليستشيرهم في الأمور الشرعية، والأمور السياسية، وغير ذلك، وكان يدخل مع أشياخ بدر، أي مع كبار الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ عبد الله بن عباس، وكان صغير السن بالنسبة لهؤلاء، فوجدوا في أنفسهم: كيف يدخ عبد الله بن عباس ـ رضي اله عنهما ـ مع أشياخ القوم ولهم أبناء مثله ولا يدخلهم.
فأراد عمرـ رضي الله عنه ـ أن يريهم مكانة عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ من العلم والذكاء والفطنة، فجمعهم ودعاه، فعرض عليهم هذه السورة: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً، فانقسموا إلى قسمين لما سألهم عنها ما تقولون فيها؟ قسم سكت، وقسم قال: إن الله أمرنا إذا جاء النصر والفتح، أن نستغفر لذنوبنا، وأن نحمده(2/144)
ونسبح بحمده، ولكن عمر ـ رضي الله عنه ـ أراد أن يعرف ما مغزى هذه السورة، ولم يرد أن يعرف معناها التركيبي من حيث الألفاظ والكلمات.
فسال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: ما تقول في هذه السورة؟ قال: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني علامة قرب أجله، أعطاه الله آية: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) يعني فتح مكة، فإن ذلك علامة أجلك؛ (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) فقال: ما أعلم فيها إلا ما علمت، وظهر بذلك فضل عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما.
وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يفطن لمغزى الآيات الكريمة، فإن المعنى الظاهر الذي يفهم من الكلمات والتركيبات؛ هذا أمر قد يكون سهلاً، لكن مغزى الآيات الذي أراده الله تعالى هو الذي قد يخفي على كثير من الناس، ويحتاج إلى فهم يؤتيه الله تعالى من يشاء.
وقوله تبارك وتعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) ، أي سبح الله مصحوباً بالحمد، فالباء هنا للمصاحبة، وذلك لأنه إذا كان التسبيح مصحوباً بالحمد فإنه به يتحقق الكمال، لأن الكمال لا يتحقق إلا بانتقاء العيوب، وثبوت صفات الكمال، فانتفاء العيوب مأخوذ من قوله: (فَسَبِّحْ) لأن التسبيح معناه التنزيه عن كل نقص وعيب، وثبوت الكمالات مأخوذ من قوله: (بِحَمْدِ) لأن الحمد هو وصف المحمود بالصفات الكاملة، وليس هو الثناء كما هو مشهور عند كثير من العلماء، إذا قالوا: الحمد هو الثناء على الله بالجميل، وبعضهم يقول: بالجميل الاختياري وما أشبه ذلك، والدليل على ذلك الحديث القدسي، حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن(2/145)
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله قال: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي تصفين، يعني الفاتحة، فإذا قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، قال: حمدني عبدي، وإذا قال: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قال: أثنى على عبدي) . ففرق بين الحمد والثناء.
والمهم أن الإنسان إذا جمع بين التسبيح والحمد، فقد جمع بين إثبات الكمال لله ونفى النقائض عنه.
أما قوله: (وَاسْتَغْفِرْهُ) ، فمعناه: أطلب منه المغفرة، والمغفرة هي التجاوز عن الذنب والستر، يعني: المغفرة تجمع بين الستر الذنب والتجاوز عنه، وذلك من مدلول اشتقاقها، فإنها مأخوذة من المغفر؛ وهو ما يوضع على الرأس عند الحرب ليقي السهام، فهو واق وساتر.
وأما قوله: (إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) ، ففيه أن الله ـ عز وجل ـ موصوف بكثرة التوبة، لقوله: (تَوَّاباً) وهي صيغة مبالغة، لكثرة من يتوب؛ فيتوب الله عليه.
والله ـ عز وجل ت تواب على عبده توبة سابقة لتوبته، وتوبة لاحقه لها، كما قال الله تعالى: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) (التوبة: 118) ، فالتوبة السابقة: أن يوفق الله العبد للتوبة، والتوبة اللاحقة: أن يقبل الله منه التوبة إذا تاب إليه.(2/146)
وللتوبة شروط خمسة سبق ذكرها.
الأول: الإخلاص لله ـ عز وجل ـ في التوبة.
والثاني: الندم على ما حصل منه من الذنب.
والثالث: الإقلاع عنه في الحال.
والخامس: أن تكون التوبة في الوقت الذي تقبل فيه.
وينبغي للإنسان أن يكثر من هذا الذكر في الركوع والسجود: (سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي) . فإنه جامع بين الذكر والدعاء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقوله في ركوعه وسجوده بعد نزول هذه السورة. والله الموفق.(2/147)
13 ـ باب بيان كثرة طرق الخير
قال الله تعالى: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم) (البقرة: 215) ، وقال تعالى: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) (البقرة: 197) ، وقال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة: 7) ، وقال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ) (الجاثية: 15) ، والآيات في الباب كثيرة.
[الشَّرْحُ]
قال مؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ: (باب بيان كثرة طرق الخير) ، الخير له طرق كثيرة وهذا من فضل الله ـ عز وجل ـ على عباده من أجل أن تتنوع لهم الفضائل والأجور، والثواب الكثير، وأصول هذه الطرق ثلاثة: إما جهد بدني، وإما بذل مالي، وإما مركب من هذا وهذا، هذه أصول طرق الخير. أما الجهد البدني فهو أعمال البدن؛ مثل الصلاة، والصيام، والجهاد، وما أشبه ذلك، وأما البذل المالي فمثل الزكوات، والصدقات، والنفقات، وما أشبه ذلك، وأما المركب فمثل الجهاد فسبيل الله بالسلاح؛ فإنه يكون بالمال ويكون بالنفس، ولكن أنواع هذه الأصول كثيرة جداً، من أجل أن تتنوع للعباد الطاعات، حتى لا يملوا. لو كان الخير طريقاً واحد لمل الناس من ذلك وسئموا، ولما حصل الابتلاء، ولكن إذا تنوع كان ذلك أرفق بالناس، وأشد في الابتلاء.
قال الله تعالى في هذا الباب: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (البقرة: 148) ، وقال(2/148)
تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) (الأنبياء: 90) ، وهذا يدل على أن الخيرات ليست خيراً واحداً، بل طرق كثيرة.
ثم ذكر المؤلف آيات تشير إلى الخير له طرق، قال تعالى: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) (البقرة: 197) ، (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم) (البقرة: 215) ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة: 7) ، والآيات في هذا كثيرة، تدل على أن الخيرات ليست صنفاً واحداً، أو فرداً واحداً، أو جنساً واحداً.
ويدل لما قلنا أن من الناس من تجده يألف الصلاة، فتجده كثير الصلوات، ومنهم من يألف قراءة القرآن، فتجده كثيراً يقرأ القرآن، ومنهم من يألف الذكر، والتسبيح، والتحميد، وما أشبه ذلك، فتجده يفعل ذلك كثيراً، ومنهم الكريم الطليق اليد الذي يحب بذل المال فتجده دائماً يتصدق، ودائماً ينفق على أهله ويوسع عليهم في غير إسراف.
ومنهم من يرغب العلم وطلب العلم، الذي هو في وقتنا هذا قد يكون أفضل أعمال البدن؛ لأن الناس في الوقت الحاضر، في عصرنا، هذا محتاجون إلى العلم الشرعي، لغلبة الجهل، وكثرة المتعالمين الذين يدعون أنهم علماء، وليس عندهم من العلم إلا بضاعة مزجاة، فنحن في حاجة إلى طلبة علم، يكون عندهم علم راسخ ثابت مبني على الكتاب والسنة، من أجل أن يردوا هذه الفوضى التي أصبحت منتشرة في القرى والبلدان والمدن؛ كل إنسان عنده حديث أو حديثان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصدى للفتيا، ويتهاون بها، وكأنه شيخ الإسلام ابن تيمية، أو الإمام(2/149)
أحمد أو الإمام الشافعي، أو غيرهم من الأئمة، وهذا بنذر بخطر عظيم؛ إن لم يتدارك الله الأمة بعلماء راسخين، عندهم علم قوي وحجة قوية.
ولهذا نرى أن طلب العلم اليوم أفضل الأعمال المتعدية للخلق، أفضل من الصدقة، وأفضل من الجهاد، بل هو جهاد في الحقيقة، لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ جعله عديلاً للجهاد في سبيل الله، وليس الجهاد الذي يشوبه ما يشوبه من الشبهات، ويشك الناس في صدق نية المجاهدين، لا، الجهاد الحقيقي الذي تعلم علم اليقين أن المجاهدين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا، فتجدهم مثلاً يطبقون هذا المبدأ في أنفسهم قبل أن يجاهدوا غيرهم، فالجهاد الحقيقي في سبيل الله: الذي يقاتل فيه المقاتلون لتكون كلمة الله هي العيا يعادله طلب العلم الشرعي، ودليل ذلك قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) ، يعني ما كانوا ليذهبوا إلى الجهاد جميعاً، (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ) يعني وقعدت طائفة، وإنما قعدوا (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة: 122) ، فجعل الله طلب العلم معادلاً للجهاد في سبيل الله، الجهاد الحق الذي يعلم بقرائن الأحوال وحال المجاهدين أنهم يريدون أن تكون كلمة الله هي العليا.
فالمهم أن طرق الخير كثيرة، وأفضلها فيما أرى ـ بعد الفرائض التي فرضها الله ـ هو طلب العلم الشرعي، لأننا اليوم في ضرورة إليه، لقد سمعنا وجاءنا استفتاء عن شخص يقول: من صلى في مساجد البلد الفلاني فإنها لا تصح صلاته، لأن الذين تبرعوا لهذه المساجد فيهم كذا،(2/150)
وكذا ومن صلى على حسب الأذان، فإنه لا تصح صلاته. لماذا؟! لأنه مبني على توقيت وليس على رؤية الشمس، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله، ما لم يحضر العصر) ، أما الآن؛ الأوقات مكتوبة في أوراق، والناس يمشون عليها، هؤلاء كلهم لا تصح صلاتهم، يعني كل المسلمين ـ على زعمه ـ لا تصح صلاتهم، وهذه بلبلة.
والمشكلة أن مثل هذا، يقال: إنه رجل عنده شيء من العلم، لكنه علم الأوراق الذي يعطى الإنسان فيه بطاقة تشهد بأنه متخرج من كذا وكذا، ثم يقول: أنا من، أنا ,,!! فالحاصل أنه لابد للأمة الإسلامية من علماء راسخين في العلم، أما أن تبقى الأمور هكذا فوضى، فإنهم على خطر عظيم، ولا يستقيم للناس دين، ولا تطمئن قلوبهم، ويصير كل واحدٍ تحت شجرة يفتي، وكل واحد تحت سقف يفتي، وكل واحد على قمة جبل يفتي، وهذا ليس صحيح، لابد من علماء عندهم علم راسخ ثابت، مبني على الكتاب والسنة، وعلى العقل والحكمة. والله الموفق.
* * *(2/151)
وأما الأحاديث فكثيرة جداً وهي غير منحصرة فنذكر، ومنها طرفاً منها:
117 ـ الأول: عن أبى ذر جندب بن جنادة ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: (الإيمان بالله، والجهاد في سبيله) قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: (أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمناً) ، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين صانعاً، أو تصنع لأخرق) . قلت: يا رسول الله، أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: تكف شرك عن الناس؛ فإنها صدقة على نفسك) متفق عليه.
(الصانع) بالصاد المهملة، هذا هو المشهور، وروي: (ضائعاً) بالمعجمة أي ذا ضياع من فقر أو عيال، ونحو ذلك، و (الأخرق) : الذي لا يتقن ما يحاول فعله.
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ في باب كثرة الخير، فيما نقله عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ أنه سال النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: (الإيمان بالله والجهاد في سبيله) والصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال من أجل أن يقوموا بها، وليسوا كمن بعدهم، فإن من بعدهم ربما يسألون عن أفضل الأعمال، ولكن لا يعملون. أما الصحابة فإنهم يعملون، فهذا ابن مسعود ـ رضي اله عنه ـ سأل النبي صلى الله عليه وسلم:(2/152)
أي العمل أحب إلى الله؟ قال: (الصلاة على وقتها) . قلت ثم أي؟ قال (بر الوالدين) . قلت ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله) .
وهذا أيضاً أبو ذر يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال؛ فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل الأعمال إيمان بالله، وجهاد في سبيله، ثم سأله عن الرقاب: أي الرقاب أفضل؟ والمراد بالرقاب: المماليك، يعني: ما هو الأفضل في إعتاق الرقاب؟ فقال: (أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً) وأنفسها عند أهلها يعني: أحبها عن أهلها، وأكثرها ثمناً: أي أغلاها ثمناً، فيجتمع في هذه الرقبة النفاسة، وكثرة الثمن، ومثل هذا لا يبذله إلا الإنسان عنده قوة وإيمان.
ومثال ذلك: إذا كان عند رجل عبيد ومنهم واحد يحبه؛ لأنه قائم بأعماله، ولأنه خفيف النفس، ونافع لسيده، وهو كذلك أيضاً أغلى العبيد عنده ثمناً، فإذا سألا أيما أفضل؟ أعتق هذا، أو ما بعده، أو ما دونه؟ قلنا أن تعتق هذا، لأن هذا أنفس الرقاب عندك، وأغلاها ثمناً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرقاب: أغلاها ثمناً، أنفسها عند أهلها. وهذا كقوله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران: 92) .
وكان ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به، اتباعاً لهذا الآية.
وجاء أبو طلحة ـ رضي الله عنه ـ حين نزلت هذه الآية: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ(2/153)
حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله أنزل قوله: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وأن أحب مالي إلى بيرحاء، وبيرحاء بستان نظيف قريب من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتني إليه، ويشرب من ماء فيه طيب عذب، وهذا يكون غالباًً عند صاحبه، فقال أبو طلحة: وإن أحب مالي إلي بيرحاء، وإني أجعلها صدقة لله ورسوله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بخ. بخ) . يعني يتعجب ويقول: (مال رابح، مال رابح) ثم قال: (أرى أن تجعلها في الأقربين) ، فقسمها أبو طلحة في قرابته، والشاهد أن الصحابة يتبادرون الخيرات.
ثم سأله أبو ذر: إن لم يجد، يعني رقبة بهذا المعني، أنفسها عند أهلها وأغلاها ثمناً؟ قال: (تعين صانعاً أو تصنع لأخرق) ، يعني: تصنع لإنسان معروفاً، أو تعين أخرق، ما يعرف، فتساعده وتعينه، فهذا أيضاً صدقة ومن الأعمال الصالحة.
قال: فإن لم أفعل؟ قال: (تكف شرك عن الناس؛ فإنها صدقة منك على نفسك) وهذا أدنى ما يكون؛ أن يكف الإنسان شره عن غيره، فيسلم الناس منه، والله الموفق.
* * *(2/154)
118 ـ الثاني: عن أبي ذر أيضاً ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقه، وكل تهليله صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى) رواه مسلم. (السلامى) بضم السين المهملة وتخفيف اللام وفتح الميم: المفصل.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله في باب كثرة طرق الخيرات، فيما نقله عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة) السلامى هي العظام، أو مفاصل العظام، يعني أنه يصبح كل يوم على كل واحد من الناس صدقة في كل عضو من أعضائه، في كل مفصل من مفاصله، قالوا: والبدن فيه ثلاثمائة وستون مفصلاً، ما بين صغير وكبير، فيصبح على كل إنسان كل يوم ثلاثمائة وستون صدقة.
ولكن هذا الصدقات ليست صدقات مالية، بل هي عامة، كل أبواب الخير صدقة، كل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنك إذا أعنت الرجل في دابته وحملته عليها أو رفعت له(2/155)
عليها متعة فهو صدقة) كل شيء صدقة، قراءة القرآن صدقة، طلب العلم صدقة، وحينئذ تكثر الصدقات، ويمكن أن يأتي الإنسان بما عليه من الصدقات، وهي ثلاثمائة وستون صدقة.
ثم قال: (ويجزى من ذلك) ، يعني: عن ذلك (ركعتان يركعهما من الضحى) يعني أنك صليت من الضحى ركعتين؛ أجزأت عن كل الصدقات التي عليك، وهذا من تيسير الله ـ عز وجل ـ على العباد.
وفي الحديث دليل على أن الصدقة تطلق على ما ليس بمال.
وفيه أيضاً دليل على أن ركعتي الضحى سنة، سنة كل يوم، لأنه إذا كان كل يوم عليك صدقة على كل عضو من أعضائك، وكانت الركعتان تجزي، فهذا يقضي أن صلاة الضحى سنة كل يوم، من أجل أن تقضي الصدقات التي عليك.
قال أهل العلم: وسنة الضحى يبتدئ وقتها مع ارتفاع الشمس قدر رمح، يعني حوالي ربع إلى ثلث ساعة بعد الطلوع، إلى قبيل الزوال، أي إلى قبل الزوال بعشر دقائق، كل هذا وقت لصلاة الضحى، في أي وقت فيه تصلى ركعتي الضحى، ما بين ارتفاع الشمس قدر رمح إلى وقت الزوال، فإنه يجزي لكن الأفضل أن تكون في آخر الوقت، لقول النبي(2/156)
صلى الله عليه وسلم: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال) ، يعني حين تقوم الفصال من الرمضاء لشدة حرارتها؛ ولهذا قال العلماء: إن تأخير ركعتي الضحى إلى آخر الوقت أفضل من تقديمها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب أن تؤخر صلاة العشاء إلى آخر الوقت، إلا مع المشقة.
فالحاصل أن الإنسان قد فتح الله له أبواب طرق الخير كثيرة، وكل شيء يفعله الإنسان من هذه الطرق، فإن الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. والله الموفق.
* * *
119 ـ الثالث: عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي أعمال أمتي، حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن) رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ فيما نقله عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها) عرضت علي: يعني بلغت عنها، وبينت لي، والذي بينها له هو الله ـ عز وجل ـ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو الذي يحلل ويحرم ويوجب، فعرض الله ـ عز وجل ـ على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم المحاسن والمساوئ من أعمال الأمة، فوجد من(2/157)
محاسنها: الأذى يماط عن الطريق، ويماط: يعني يزال، والأذى ما يؤذي المارة؛ من شوك، وأعواد، وأحجار، وزجاج، وأرواث، وغير ذلك. كل ما يؤذي فإماطته من محاسن الأعمال.
وقد بين النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن إماطة الأذى عن الطريق صدقة، فهو من محاسن الأعمال، وفيه ثواب الصدقة، وبين النبي صلى الله عليه وسلم: أن (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) ، فإذا وجدت في الطريق أذى فأماطته؛ فإن ذلك من محاسن أعمالك، وهو صدقة لك، وهو من خصال الإيمان وشعب الإيمان.
وإذا كان هذا من المحاسن ومن الصدقات، فإن وضع الأذى في طريق المسلمين من مساوئ الأعمال، فهؤلاء الناس الذين يلقون القشور في الأسواق، في ممرات الناس؛ لاشك أنهم إذا آذوا المسلمين فإنهم مأزورون، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (الأحزاب: 58) قال العلماء: لو زلق به حيوان أو إنسان فانكسر، فعلى من وضعه ضمانه، يضمنه بالدية أو بما دون الدية إذ كان لا يحتمل الدية، المهم أن هذا من أذية المسلمين.
ومن ذلك أيضاً ما يفعله بعض الناس من إراقة المياه في الأسواق(2/158)
فتؤذي الناس، وربما السيارات من عندها، فتفسد على الإنسان ثيابه، وربما يكون فيها فساد لا شك للإسفلت؛ لأن الإسفلت كلما أتى عليه الماء وتكرر؛ فإنه يذوب ويفسد.
فالمهم أننا ـ مع الأسف الشديد ونحن أمة مسلمة ـ لا تبالي بهذه الأمور، وكأنها لا شيء، يلقى الإنسان الأذى في الأسواق، ولا يهتم بذلك، يكسر الزجاجات في الأسواق، ولا يهتم بذلك، الأعواد يلقيها؛ لا يهتم بذلك، حجر يضعه لا يهتم بذلك، إذن يستحب لنا كلما رأينا ما يؤذي أن نزيله عن الطريق؛ لأن ذلك صدقة، ومن محاسن الأعمال.
ثم قال: (ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن) النخاعة يعني النخامة، وسميت بذلك لأنها تخرج من النخاع، النخامة تكون في المسجد لا تدفن؛ لأن المسجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مفروش بالحصباء، بالحصى الصغار، فالنخامة تدفن في التراب، أما عندنا الآن فليس هناك تراب، ولكن إذا وجدت فإنها تحك بالمنديل حتى تذهب، واعلم أن النخامة في المسجد حرام، فمن تنخع في المسجد فقد أثم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (البصاق في المسجد خطيئة) فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم أنها خطيئة وكفارتها دفنها، يعني إذا فعلها الإنسان وأراد أن يتوب فليدفنها، لكن في عهدنا: فليحكها بمنديل أو نحوه حتى تزول.
وإذا كانت هذه النخاعة، فما بالك بما هو أعظم منها، مثل ما كان فيما مضى، حيث يدخل الإنسان المسجد بحذائه ولم يقلبها ويفتش فيها، ويكون فيها الروث الذي ينزل إلى المسجد، فيتلوث به فأنت اعتبر(2/159)
بالنخامة، ما هو مثلها في أذية المسجد، أو أعظم منها ومن ذلك أيضاً أن بعض الناس تكون معه المناديل الخفيفة، ثم يتنخع فيها ويرمي بها في أرض المسجد، هذا أذى، ولا شك أن النفوس تتقزز إذا رأت مثل ذلك، فكيف إذا كان ذلك في بيت من بيوت الله، فإذا تنخعت في منديل، فضعه في جيبك، حتى تخرج فترمي به فيما أعد لذلك، على ألا تؤذي به أحداً. والله الموفق.
* * *
120 ـ الرابع: عنه: أن ناساً قالوا يا رسول الله: ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: (أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؟ إن بكل تسبيحه صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة) قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) رواه مسلم.
(الدثور) بالثاء المثلثة: الأموال، وأحدها دثر.(2/160)
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ أن ناساً قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يعني استأثروا بالأجور وأخذوها عنا، وأهل الدثور: يعني أهل الأموال؛ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم؛ يعني: فنحن وهم سواء في الصلاة وفي الصيام، ولكنهم يفضلوننا بالتصدق بفضول أموالهم، أي بما أعطاهم الله تعالى من فضل المال؛ يعني: ولا نتصدق.
وهذا كما جاء في الحديث الآخر عن فقراء المهاجرين، قالوا: ويعتقون ولا نعتق. فانظر إلى الهمم العالية من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ؛ يغبطون إخوانهم بما أنعم الله عليهم من الأموال التي يتصدقون بها ويعتقون منها، وليسوا يقولون: عندهم فضول أموال؛ يركبون بها المراكب الفخمة، ويسكنون القصور المشيدة، ويلبسون الثياب الجميلة؛ ذلك لأنهم قوم يريدون ما هو خير وأبقى، وهو الآخرة، قال الله تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى: 16، 17) ، وقال الله تعالى لنبيه صلى اله عليه وسلم: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى) (الضحى: 4) .
فهم اشتكوا إلى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ شكوى غبطة، لا شكوى حسد، ولا اعتراض على الله ـ عز وجل ـ ولكن يطلبون فضلاً يتميزون به عمن أغناهم الله؛ فتصدقوا بفضول أموالهم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؟!) يعني إذا(2/161)
فاتتكم الصدقة بالمال، فهناك الصدقة بالأعمال الصالحة: (إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة) ، وقد سبق الكلام على الأربع الأولى فيما سبق.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (أمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة) فإن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من أفضل الصدقات؛ لأن هذا هو الذي فضل الله به هذه الأمة على غيرها، فقال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: 110) ، ولكن لابد للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من شروط:
الشرط الأول: أن يكون الأمر والناهي عالماً بحكم الشرع، فإن كان جاهلاً فإنه لا يجوز أن يتكلم؛ لأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يأمر بما يعتقد الناس أنه شرع الله ـ وليس له أن يتكلم في شرع الله بما لا يعلم؛ لأن الله حرم ذلك بنص القرآن، فقال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33) .
فمن منكرات الأمور: أن يتكلم الإنسان عن شيء يقول إنه معروف، وهولا يدري أنه معروف، أو يقول: إنه منكر، وهو لا يدري أنه منكر.
الشرط الثاني: أن يكون عالماً بأن المخاطب قد ترك المأمور أو فعل المحظور، فإن كان لا يدري ' فإنه لا يجوز له أن يفعل؛ لأنه حينئذ يكون(2/162)
قد قفا ما ليس له به علم، وقد قال الله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء: 36) .
يوجد بعض الناس الذين عندهم غيرة، وحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ يتسرع فينكر من غير أن يعلم الحال التي عليها المخاطب. فمثلاً يجد إنساناً معه امرأة في السوق، فيتكلم في ذلك مع الرجل: لماذا تمشي مع المرأة؟ وهو لا يدري أنه محرم لها. هذا خطأ عظيم، إذا كنت في شك فسأله قبل أن تتكلم. أما إذا لم تكن هناك قرائن توجب الشك في هذا الرجل فلا تتكلم. ما أكثر الناس الذين يصطحبون نساءهم في الأسواق. وانظر إلى حال النبي ـ عليه الصلاة السلام ـ كيف يعامل الناس في هذه المسألة.
دخل رجل يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أصليت؟) قال: لا. قال: (قم فصل ركعتين وتجوز فيهما) . ما قال له: لماذا تقعد؟ لأن الإنسان إذا دخل المسجد ينهى أن يجلس قبل أن يصلي ركعتين، ففي أي وقت تدخل المسجد، في الصباح، في المساء، بعد العصر، بعد المغرب، بعد الفجر؛ لا تجلس حتى تصلي ركعتين، فهذا الرجل جاء وجلس، لكن هناك احتمال أنه صلى قبل أن يجلس، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يره، ولهذا قال له: (أصليت؟) قال: لا. قال: (قم فصل(2/163)
ركعتين وتجوز فيهما) يعني خفف. فهنا لم يأمره أن يقوم فيصلي حتى سأله، وهذه هي الحكمة.
الشرط الثالث: من شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ألا يترتب على النهي عن المنكر ما هو أنكر منه، فإن ترتب على ذلك ما هو أنكر منه فإنه لا يجوز، من باب درء أعلى المفسدتين بأدناهما
فلو فرض أن شخصاً وجدناه على منكر كأن يشرب الدخان مثلاً، ولو نهيناه عن شرب الدخان ذهب يشرب الخمر، فإننا لا ننهاه؛ إذ كنا نعلم أن هذا الرجل سيقدم على ما هو أعظم؛ فإننا لا ننهاه عن شرب الدخان عندئذ. لماذا؟ لأن شرب الدخان أهون من شرب الخمر، ودليل هذه المسألة قول الله تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام: 108) ، فسب آلهة المشركين مصلحة مشروعة، لكن إذا ترتب عليها سب الله ـ عز وجل ـ وهو أهل للثناء والمجد، فإنه ينهى عنه. لهذا قال الرسول ـ عليه الصلاة والسلام: (لعن الله من لعن والديه) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (من الكبائر شتم الرجل والديه. قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: (نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه) .
فالحاصل: أنه لابد ألا يتضمن الإنكار ما هو أنكر من المنكر؛ درءاً(2/164)
لأعلى المفسدتين بأدناهما.
ثم إنه يجب على الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر أن ينوي بهذا إصلاح الخلق. لا الانتصار عليهم، لأن من الناس من يأمر بالمعروف أو ينهي عن المنكر لينفذ سلطته وينتصر لنفسه، وهذا نقص كبير. قد يحصل فيه خير من جهة درء المنكر وفعل المعرف، ولكنه نقص كبير فأنت إذا أمرت بالمعروف، أو نهيت عن المنكر، فانو بقلبك أنك تريد إصلاح الخلق، لا أنك تتسلط عليهم، وتنتصر عليهم، حتى تؤجر، ويجعل الله في أمرك ونهيك بركة. والله المستعان.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة) يعني أن الرجل إذا أتى امرأته، فإن ذلك صدقة، قالوا يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: (أرأيتم لو وضعها في الحرام، أكان عليه وزر؟) يعني لو زنى ووضع الشهوة في الحرام، هل يكون عليه وزر؟ قالوا: نعم. قال: (فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) والحمد لله. ومعنى ذلك: أن الرجل إذا استغنى بالحلال عن الحرام، كان له بهذا الاستغناء أجر.
ومن ذلك أيضاً: إذا أكل الإنسان طعاماً، فإنه ينال شهوته بالأكل والشرب، ومع ذلك ـ لكونه يستغني به عن الحرام ـ فإنه يكتب له به أجر.
ولهذا قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لسعد بن أبي وقاص: (واعلم أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعله في فم(2/165)
امرأتك) ، مع أن ما يجعله الإنسان في فم امرأته أمر لابد منه، إذ إن المرأة تقول: أنفق علي أو طلقني، وتخصمه في ذلك، تغلبه إذا لم ينفق، مع قدرته على الإنفاق، فلها الحق في أن تفسخ النكاح. ومع ذلك إذا أنفق عليها ينبغي بذلك وجه الله، فإن الله تعالى يؤجره على ذلك.
وفي حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ تنبيه على ما يسميه الفقهاء قياس العكس: وهو إثبات نقص حكم الأصل في ضد الأصل لمفارقة العلة فهنا العلة في كون الإنسان يؤخر إذا أتى أهله، هو أنه وضع شهوته في حلال، نقيض هذه العلة: إذا وضع شهوته في حرام، فإنه يعاقب على ذلك، وهذا هو ما يسمى عند العلماء بقياس العكس، لأن القياس أنواع قياس علة، وقياس دلالة، وقياس شبه، وقياس عكس. والله الموفق.
123 ـ السابع: عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح) متفق عليه.
(النزل) : القوت والرزق وما يهيأ للضيف.
124 ـ الثامن: عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا نساء المسلمات لا تحقرن(2/166)
جارة لجارتها ولو فرسن شاة) متفق عليه.
قال الجوهري: الفرسن من البعير: كالحافر من الدابة، قال: ربما استعير في الشاة.
[الشَّرْحُ]
هذا الحديثان اللذان نقلهما المؤلف ـ رحمه الله ـ عن أبي هريرة رضي اله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الأول: فهو أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح) ، غدا: يعني ذهب غدوة، أي ذهب أول النهار، وذلك مثل أن يذهب إلى المسجد لصلاة الفجر. (أو راح) : الرواح يطلق على بعد الزوال، مثل الذهاب إلى صلاة الظهر أو العصر، وقد يطلق الرواح على مجرد الذهاب، كما في قول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في حديث أبي هريرة: (من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى..) إلى آخر الحديث فإن معنى راح في الساعة الأولى: أي ذهب إلى المسجد في الساعة الأولى، لكن إذا ذكرت الغدوة مع الرواح، صارت الغدوة أو النهار، والرواح آخر النهار.
وظاهر الحديث أن من غدا إلى المسجد أو راح، سواء غداء للصلاة،(2/167)
أو لطلب علم، أو لغير ذلك من مقاصد الخير، أن الله يكتب له الجنة نزلاً، والنزل: ما يقدم للضيف من طعام ونحوه على وجه الإكرام، أي أن الله تعالى يعد لهذا الرجل الذي ذهب إلى المسجد صباحاً أو مساءً، يعد له في الجنة نزلاً إكراماً له.
ففي هذا الحديث إثبات هذا الجزاء العظيم لمن ذهب إلى المسجد أو النهار أو آخره. وفيه بيان فضل الله ـ عز وجل ـ على العبد، حيث يعطيه على مثل هذه الأعمال اليسيرة هذا الثواب الجزيل.
وأما حديثه الثاني: فهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) ، يعني أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ في هذا الحديث حث على الهدية للجار ولو شيئاً قليلاً، قال: (ولو فرسن شاة) الفرسن ما يكون في ظلف الشاة، وهو شيء بسيط زهيد كأن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول: لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو قل.
وقد جاء عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال: (إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك) . حتى المرق إذا أعطيته جيرانك هدية، فإنك تثاب على ذلك. كذلك أيضاً: (لا تحقرن شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) فإن هذا من المعروف. إذا لم تلق أخاك بوجه عبوس مكفهر، بل بوجه منطلق منشرح، فإن هذا من الخير ومن المعروف، لأن أخاك إذا واجهته بهذه المواجهة يدخل عليه السرور ويفرح، وكل شيء يدخل(2/168)
السرور على أخيك المسلم؛ فإنه خير وأجر، كل شيء تغيظ به الكافر فإنه خير وأجر. قال الله تعالى: (وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِح) (التوبة: 120) .
* * *
125 ـ التاسع عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة: فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) متفق عليه.
(البضع) من ثلاثة إلى تسعة بكسر الباء وقد تفتح. (والشعبة) : القطعة.
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث بين فيه الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن الإيمان ليس خصلة واحدة، أو شعبة واحدة، ولكنه شعب كثيرة؛ بضع وسبعون، يعني من ثلاث وسبعين إلى تسع وسبعين، أو بضع وستون شعبة، ولكن أفضها كلمة واحدة: وهي لا إله إلا الله، هذه الكلمة لو وزنت بها السماوات والأرض لرجحت بها، لأنها كلمة الإخلاص، وكلمة التوحيد، الكلمة التي سأل الله أن يختم لي ولكم بها، من كانت آخر كلامه من الدنيا دخل(2/169)
الجنة. هذه الكلمة هي أفضل شعب الإيمان، (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) ، يعني إزالة الأذى عن الطريق، وهو كل ما يؤذي المارين، من حجر، أو شوك، أو زجاج، أو خرق، أو غير ذلك، كل ما يؤذي المارين إذا أزلته فإن ذلك من الإيمان.
(والحياء شعبة من الإيمان) وفي حديث آخر: (الحياء من الإيمان) . والحياء: حالة نفسية تعتري الإنسان عند فعل ما يخجل منه، وهي صفة حميدة كانت خلق النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ فكان من خلقه ـ عليه الصلاة والسلام ـ الحياء، حتى أنه كان أكثر حياء من العذراء في خدرها ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلا أنه لا يستحي من الحق.
فالحياء صفة محمودة، لكن الحق لا يستحي منه، فإن الله يقول: (وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) (الأحزاب: 53) ، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) (البقرة: 26) الحق لا يستحي منه، ولكن ما سوى الحق فإن من الأخلاق الحميدة أن تكون حيياً، ضد ذلك من لا يستحي، فلا يبالي بما فعل، ولا يبالي بما قال. ولهذا جاء في الحديث: (إن مما أردك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) . والله الموفق.
* * *(2/170)
126 ـ العاشر: عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً، فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه، حتى رقى فسقى الكلب، فشكر له، فغفر له قالوا: يا رسول الله إن لنا في البهائم أجراً فقال في كل كبدٍ رطبةٍ أجر) متفق عليه.
وفي رواية للبخاري: (فشكر الله له، فغفر له، فأدخله الجنة) .
وفي روايى لهما: (بينما كلب يطيف بركية قد كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها فاسقت له به، فسقته فغفر لها به) .
(الموق) : الخف. و (يطيف) يدور حول (ركية) وهي البئر.
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف ـ رحمة الله تعالى ـ في باب كثرة طرق الخيرات هذه القصة الغريبة التي رواها أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه بينا رجل يمشي في الطريق مسافراً، أصابه العطش، فنزل بئراً فشرب منها، وانتهى عطشه، فلما خرج، وإذا بكلب يأكل الثرى من العطش، يعني: يأكل الطين المبتل الرطب، يأكله من العطش، من أجل أن يمص ما فيه من(2/171)
الماء، من شدة عطشه، فقال الرجل: والله لقد أصاب الكلب من العطش ما أصابني، أو بلغ بهذا الكلب من العطش ما يلغي بي، ثم نزل البئر وملأ خفه ماء. الخف: ما يلبس على الرجل من جلود ونحوها، فملأه ماء فأمسكه بفيه، وجعل يصعد بيديه، حتى صعد من البئر، فسقى الكلب، فلما سقى الكلب شكر الله له ذلك العمل، وغفر له، وأدخله الجنة بسببه.
وهذا مصداق قول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك) ، عمل يسير شكر الله به عامل هذا العمل، وغفر له الذنوب، وأدخله الجنة.
ولما حدث صلى الله عليه وسلم الصحابة بهذا الحديث، وكانوا ـ رضي الله عنهم -أشد الناس حرصاً على العلم، لا من أجل أن يعلموا فقط، لكن من أجل أن يعلموا فيعملوا. سألوا النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قالوا: يا رسول الله، إن لنا في البهائم أجراً؟ قال: (في كل ذات كبدٍ رطبةٍ أجر) ؛ لأن هذا كلب من البهائم، فكيف يكون لهذا الرجل الذي سقاه هذا الأجر العظيم؟ هل لنا في البهائم من أجر؟ قال: (في كل ذات كبد رطبة أجر) الكبد الرطبة تحتاج إلى الماء؛ لأنه لولا الماء ليبست وهلك الحيوان.(2/172)
إذن نأخذ من هذه قاعدة، وهي أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذا قص علينا قصة من بني إسرائيل فذلك من أجل أن نعتبر بها، وأن نأخذ منها عبرة، وهذا كما قال الله ـ عز وجل ـ: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف: 111) .
وفي رواية أخرى، ولعلها قصة أخرى، أن امرأة بغياً من بغايا بني إسرائيل، يعني أنها تمارس الزنى ـ والعياذ بالله ـ رأت كلباً يطوف بركية، يعني يدور عليها عطشان، لكن لا يمكن أن يصل إلى الماء؛ لأنها ركية بئر، فنزعت موقها ـ يعني الخف الذي تلبسه ـ استقت له به من هذا البئر، فغفر الله لها.
فدل هذا على أن البهائم فيها أجر. كل بهيمة أحسنت لها بسقي، أو إطعام، أو وقاية من حر، أو وقاية من برد، سواء كانت لك أو لغيرك من بني آدم، أو كانت من السوائب، فإن لك في ذلك أجراً عند الله ـ عز وجل ـ هذا وهن بهائم؛ فكيف بالآدميين؟ إذا أحسنت إلى الآدميين كان أشد وأكثر أجراً. ولهذا قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ (من سقى مسلماً على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم) ، يعني لو كان ولدك الصغير وقف عند البرادة يقول لك: أريد ماء، وأسقيته وهو ظمآن، فقد سقيت مسلماً على ظمأ، فإن الله يسقيك من الرحيق المختوم. أجر كثير، ولله الحمد، غنائم(2/173)
ولكن أين القابل لهذه الغنائم؟ أين الذي يخلص النية، ويحتسب الأجر على الله ـ عز وجل ـ؟ فأوصيك يا أخي ونفسي لأن تحرص دائماً على اغتنام الأعمال بالنية الصالحة حتى تكون لك عند الله ذخراً يوم القيامة، فكم من عمل صغيراً أصبح بالنية كبيراً! وكم من عمل كبير أصبح بالغفلة صغيراً!
* * *
127 ـ الحادي عشر: عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد أريت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة(2/174)
قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين) . رواه مسلم.
وفي رواية: (مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأدخل الجنة) .
وفي رواية لهما: (بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له) .
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لقد أريت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين) . وفي الرواية الأخرى: أنه دخل الجنة، وغفر الله له بسبب غصن أزاله عن طريق المسلمين، وسواء كان هذا الغصن من فوق، يؤذيهم من عند رؤوسهم، أو من أسفل يؤذيهم من جهة أرجلهم. المهم أنه غصن شوك يؤذي المسلمين فأزاله عن الطريق، أبعده ونحاه، فشكر الله له ذلك، وأدخله الجنة، مع أن هذا الغصن إذا آذى المسلمين فإنما يؤذيهم في أبدانهم، ومع ذلك غفر الله لهذا الرجل، وأدخله الجنة. ففيه دليل على فضيلة إزالة الأذى عن الطريق، وأنه سبب لدخول الجنة.
وفيه أيضاً دليل على أن الجنة موجودة الآن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى هذا الرجل يتقلب فيها، وهذا أمر دل عليه الكتاب والسنة، وأجمع عليه أهل السنة والجماعة؛ أن الجنة موجودة الآن، ولهذا قال الله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران: 133) ، أعدت: يعني هيئت. وهذا دليل على أنها موجودة الآن، كما أن النار أيضاً موجودة الآن، ولا تفنيان أبداً. خلقهما الله ـ عز وجل ـ للبقاء، لا فناء لهما، ومن دخلهما لا يفنى أيضاً، فمن كان من أهل الجنة بقى فيها خالداً مخلداً فيها أبد الآبدين. ومن كان من أهل النار من الكفار دخلها خالداً مخلداً فيها أبداً الآبدين.
وهذا الحديث دليل على أن من أزال عن المسلمين الأذى فله هذا الثواب العظيم في أمر حسيً، فكيف بالأمر المعنوي؟ هناك بعض الناس ـ والعياذ بالله ـ أهل شر وبلاء، وأفكار خبيثة، وأخلاق سيئة، يصدون الناس(2/175)
عن دين الله، فإزالة هؤلاء عن طريق المسلمين أفضل بكثير وأعظم أجراً عند الله. فإذا أزيل أذى هؤلاء، إذا كانوا أصحاب أفكار خبيثة سيئة إلحادية، يرد عليها، وتبطل أفكارهم.
فإن لم يجد ذلك شيئاً قطعت أعناقهم، لأن الله يقول في كتابه العزيز: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33) ، و (أو) هنا قال بعض العلماء: إنها للتنويع، يعني أنهم يقتلون ويصلبون وتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وينفوا من الأرض حسب جريمتهم.
وقال بعض أهل العلم: بل إن (أو) هنا للتخيير، أي أن ولي الأمر مخير: أن شاء قتلهم وصلبهم، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن شاء نفاهم من الأرض، حسب ما يرى فيه المصلحة، وهذا القول قول جيد جداً؛ اعني أن تكون (أو) هنا للتخيير لأنه ربما يكون هذا الإنسان جرمه ظاهر سهل، ولكنه على المدى البعيد يكون صعباً، ويكون مضلاً للأمة. فهنا مثلاً هل نقول لولي الأمر أن جرم هذا الإنسان سهل. أنفه من الأرض، أطرده يكفي، أو اقطع يده اليمنى ورجله اليسرى يكفي، قد يقول لا يكفي؛ هذا أمر يخشى منه في المستقبل، هذا لا يكفي المسلمين شره إلا أن أقتله؛ نقول: نعم لك ذلك. فكون (أو) هنا للتخيير أقرب للصواب من كونها تنزل على حسب الجريمة.
والواجب على ولاة الأمور أن يزيلوا الأذى عن طريق المسلمين، أي(2/176)
أن يزيلوا كل داعية إلى شر، أو إلى إلحاد، أو إلى مجون، أو إلى فسوق بحيث يمنع من نشر ما يريد من أي شيء كان من الشر والفساد، وهذا هو الواجب.
ولكن لا شك أن ولاة الأمور الذين ولاهم الله على المسلمين في بعضهم تقصير، وفي بعضهم تهاون. يتهاونون بالأمر في أوله حتى ينمو ويزداد، وحينئذ يعجزون عن صده. فالواجب أن يقابل الشر من أول أمره بقطع دابره، حتى لا ينتشر ولا يضل الناس به.
المهم أن إزالة الأذى عن الطريق، والطريق الحسي، طريق الأقدام، والطريق المعنوي، طريق القلوب، والعمل على إزالة الأذى عن هذا الطريق كله مما يقرب إلى الله. وإزالة الأذى عن طريق القلوب، والعمل الصالح أعظم أجراً، وأشد إلحاحاً من إزالة الأذى عن طريق الأقدام. والله الموفق.
* * *
128 ـ الثاني عشر: عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع , أنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصا فقد لغا) رواه مسلم.(2/177)
[الشَّرْحُ]
في هذا الحديث دليل على أن الحضور إلى الجمعة بعد أن يحسن الإنسان وضوءه، ثم يستمع إلى الخطيب وهو يخطب، وينصت، فإنه يغفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة، وفضل ثلاثة أيام، وهذا عمل يسير ليس فيه مشقة على الإنسان؛ أن يتوضأ ويحضر إلى الجمعة ن وينصت لخطبة الإمام حتى يفرغ.
وقوله في هذا الحديث (من توضأ) لا يعارض ما ثبت في الصحيحين وغيرهما، عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) فإن هذا الحديث الثاني فيه زيادة على الحديث الأول، فيؤخذ بها. كما أنه أيضاً أصح منه. فإنه أخرجه الأئمة السبعة، وهذا لم يخرجه إلا مسلم، فيجب أولاً على من أراد حضور الجمعة أن يغتسل وجوباً، فإن لم يفعل كان آثماً، ولكن الجمعة تصح، لأن هذا الغسل ليس عن جنابة حتى نقول أن الجمعة لا تصح؛ بل هو غسل واجب كغيره من الوجبات، إذا تركه الإنسان أثم وإن فعله أثيب.
ويدل على أنه ليس شرطاً لصحة الصلاة وإنما هو واجب؛ أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ دخل ذات يوم وأمير المؤمنين(2/178)
عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يخطب الناس يوم الجمعة، فقال أمير المؤمنين عمر: لماذا تأخرت؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين ما زدت على أن توضأت ثم أتيت، يعني كأنه شغل ـ رضي الله عنه ـ ولم يتمكن من الحضور مبتكراً. فقال عمر ـ وهو على المنبر والناس يسمعون ـ قال الأمير المؤمنين عثمان: والوضوء أيضاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل) يعني كيف تقتصر على الوضوء؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل) فأمر من أتى الجمعة بالاغتسال؟! ولكن لم يقل له اذهب فاغتسل، لأنه لو ذهب واغتسل، فربما تفوته الجمعة التي من أجلها وجب الغسل فيضيع الأصل إلى الفرع.
فالحاصل أن هذا الحديث الذي ساقه المؤلف، وإن كان يدل على عدم وجوب الاغتسال؛ لكن هناك أحاديث أخرى تدل على وجوب الاغتسال.
وفي هذا الحديث دليل على فضيلة الاستماع إلى الخطبة، والإنصات، والاستماع: أن يرعاها سمعه، والإنصات: ألا يتكلم، هذا الفرق بينهما. فيستمع الإنسان ويتابع بسمعه كلام الخطيب، ولا يتكلم. وقد ثبت عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: أن (من يتكلم يوم الجمعة والأمام يخطب كمثل الحمار يحمل أسفاراً) والحمار أبلد الحيوانات،(2/179)
يحمل أسفاراً ـ يعني كتباً ـ ولكنه لا ينتفع بالكتب إذا حملها؟ ووجه الشبه بينهما أن هذا الذي حضر لم ينتفع بالخطبة لأنه تكلم، وقال صلى الله عليه وسلم: (والذي يقول له: أنصت ـ يعني يسكته ـ فقد لغا) ومعنى لغا أي فاته أجر الجمعة، فالمسألة خطيرة.
ولهذا قال هنا: (ومن مس الحصى فقد لغا) وقد كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يفرش المسجد بالحصبة، وهي الحصى الصغار مثل العدس، أو أكبر قليلاً، أو أقل، يفرش بها الفرش التي نفرشها الآن، فكان بعض الناس ربما يعبث بالحصى، يحركها بيده، أو يمسحها بيده، أو ما أشبه ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم (من مس الحصى فقد لغا) لأن مس الحصى يلهيه عن الاستماع للخطبة، ومن لغا فلا جمعة له، يعني يحرم ثواب الجمعة التي فضلت بها هذه الأمة على غيرها.
وإذا كان هذا في مس الحصى، فكذلك أيضاً الذي يعبث بغير مس الحصى، الذي يعبث بتحريك القلم، أو الساعة، أو المروحة التي يحركها ويلفها دون حاجة، أو الذي يعبث بالسواك، يريد أن يتسوك والإمام يخطب إلا لحاجة، كأن يأتيه النوم أو النعاس؛ فأخذ يتسوك ليطرد النعاس عنه؛ فهذا لا بأس به، لأنه لمصلحة استماع الخطبة، وقد سئلنا عن الرجل يكتب ما يستمعه في الخطبة؛ لأن بعض الناس ينسى فيقول: أنا كلما مرت(2/180)
على جملة مفيدة أكتبها، هل يجوز أم لا؟ فالظاهر أنه لا يجوز، لأن هذا إذا اشتغل بالكتابة تلهى عما يأتي بعدها، لأن الإنسان ليس له قلبان. فإذا كان يشتغل بالكتابة تلهى عما يقوله الخطيب أثناء كتابته لما سبق، ولكن الحمد لله، الآن قد جعل الله للناس ما يرحهم، حيث جاءت هذه المسجلات. فبإمكانك أن تحضر المسجل تسجل الخطبة في راحة، وتستمع إليها في بيتك، أو في سيارتك، على أي وضع كنت. والله الموفق.
* * *
129 ـ الثالث عشر: عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ العبد المسلم، أو المؤمن، فغسل وجهه، وخرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء، أو مع أخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء، أو مع أخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب) رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف رحمه الله فيما نقله عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ في فضائل الوضوء الذي أمر الله به في كتابه، في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (المائدة: 6) .(2/181)
هذا الوضوء تطهر فيه الأعضاء الأربعة؛ الوجه، اليدان، والرأس، والرجلان، وهذا التطهير يكون تطهيراً حسياً، ويكون تطهيراً معنوياً. أما كونه تطهيراً حسياً فظاهر؛ لأن الإنسان يغسل وجهه، ويديه، ورجليه، ويمسح الرأس، وكان الرأس بصدد أن يغسل كما تغسل بقية الأعضاء، ولكن الله خفف في الرأس؛ ولأن الرأس يكون فيه الشعر، والرأس هو أعلى البدن، فلو غسل الرأس ولا سيما إذا كان فيه الشعر؛ لكان في هذه مشقة على الناس، ولا سيما في أيام الشتاء، ولكن من رحمة الله ـ عز وجل ـ أن جعل فرض الرأس المسح فقط، فإذا توضأ الإنسان لا شك أنه يطهر أعضاء الوضوء تطهيراً حسياً، وهو يدل على كمال الإسلام؛ حيث فرض على معتنقيه أن يطهروا هذه الأعضاء التي هي غالباً ظاهرة بارزة.
أما الطهارة المعنوية، وهي التي ينبغي أن يقصدها المسلم، فهي تطهيره من الذنوب، فإذا غسل وجهه، خرجت كل خطايا نظر إليها بعينه، وذكر العين ـ والله أعلم ـ إنما هو على سبيل التمثيل، وإلا فالأنف قد يخطئ، والفم قد يخطئ؛ فقد يتكلم الإنسان بكلام حرام، وقد يشم أشياء ليس له حق يشمها، ولكن ذكر العين؛ لأن أكثر ما يكون الخطأ في النظر.
فلذلك إذا غسل الإنسان وجهه بالوضوء خرجت خطايا عينيه، فإذا غسل يديه خرجت خطايا يديه، فإذا غسل رجليه خرجت خطايا رجليه، حتى يكون نقياً من الذنوب. ولهذا قال الله تعالى حين ذكر الوضوء(2/182)
والغسل والتيمم: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) ، يعني ظاهراً وباطناً، حساً ومعنى، (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة: 6) ، فينبغي للإنسان إذا توضأ أن يستشعر هذا المعنى، أي أن وضوءه يكون تكفيراً لخطيئاته، حتى يكون بهذا الوضوء محتسباً الأجر على الله ـ عز وجل ـ والله الموفق.
* * *
130 ـ الرابع عشر: عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) رواه مسلم.
131 ـ الخامس عشر: عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟) قالوا بلى يا رسول الله، قال: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط) رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) يعني أن الصلوات(2/183)
الخمس تكفر الخطايا ما بين صلاة الفجر إلى الظهر، ومن الظهر إلى العصر، ومن العصر إلى المغرب، ومن المغرب إلى العشاء، ومن العشاء إلى الفجر، هذه تكفر ما بينها من الخطايا. فإذا عمل الإنسان سيئة وأتقن هذه الصلوات الخمس، فإنها تمحو الخطايا، لكن قال: (إذا اجتنبت الكبائر) يعني إذا اجتنبت كبائر الذنوب.
وكبائر الذنوب هي: كل ذنب رتب عليه الشارع عقوبة خاصة، فكل ذنب لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعله فهو من كبائر الذنوب، كل شيء فيه حد في الدنيا كالزنى، أو وعيد في الآخرة كأكل الربا، أو فيه نفي إيمان، مثل (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ، أو فيه براءة منه، مثل (من غشنا فليس منا) ، أو ما أشبه ذلك فهو من كبائر الذنوب.
واختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتنبت الكبائر) هل معني الحديث أن الصغائر تكفر إذا اجتنبت الكبائر، وأنها لا تكفر إلا بشرطين هما: الصلوات الخمس، واجتناب الكبائر؟ أو أن معنى الحديث أنها كفارة لما بينهن إلا الكبائر فلا تكفرها، وعلى هذا فيكون لتكفير السيئات الصغائر شرط واحد، وهو إقامة هذه الصلوات الخمس، أو الجمعة إلى الجمعة، أو رمضان إلى رمضان، وهذا هو المتبادر ـ والله(2/184)
أعلم ـ أن المعنى: أن الصلوات الخمس تكفر ما بينها إلا الكبائر فلا تكفرها، وكذلك الجمعة إلى الجمعة، وكذلك رمضان إلى رمضان، وذلك لأن الكبائر لابد لها من توبة خاصة، فإذا لم يتب توبة خاصة فإن الأعمال الصالحة لا تكفرها، بل لابد من توبة خاصة.
أما حديث أبي هريرة الثاني، فهو أن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ عرض على أصحابه عرضاً، يعلم النبي صلى الله عليه وسلم ماذا سيقولون في جوابه، ولكن هذا من حسن تعليمه عليه الصلاة والسلام، أنه أحياناً يعرض المسائل عرضاً، حتى ينتبه الإنسان لذلك، ويعرف ماذا سيلقى إليه، قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟) يعرض عليهم هل يخبرهم، ومن المعلوم أنهم سيقولون: نعم يا رسول الله أخبرنا، ولكنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ اتخذ هذه الصيغة وهذا الأسلوب من أجل أن ينتبهوا إلى ما سيلقى إليهم، قالوا: بلى يا رسول الله، يعني أخبرنا فإننا نود أن تخبرنا بما ترفع به الدرجات وتمحا به الخطايا، قال: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة) هذه ثلاثة أشياء:
أولاً: إسباغ الوضوء على المكاره، يعني إتمام الوضوء في أيام الشتاء؛ لأن أيام الشتاء يكون الماء فيها بارداً. وإتمام الوضوء يعني إسباغه، فيكون فيه مشقة على النفس، فإذا أسبغ الإنسان وضوءه مع هذه المشقة، دل هذا على كمال الإيمان، فيرفع الله بذلك درجات العبد ويحط عنه خطيئته.
ثانياً: كثرة الخطا إلى المساجد، يعني أن يقصد الإنسان المساجد، حيث شرع له إتيانهن، وذلك في الصلوات الخمس، ولو بعد المسجد فإنه كلما بعد المسجد عن البيت ازدادت حسنات الإنسان، فإن الإنسان إذا توضأ في بيته وأسبغ الوضوء، ثم خرج منه إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة واحدة إلا رفع الله له بها درجة، وحط(2/185)
عنه بها خطيئة.
ثالثاً: انتظار الصلاة بعد الصلاة، يعني أن الإنسان من شدة شوقه إلى الصلوات، كلما فرغ من صلاة، فقلبه متعلق بالصلاة الأخرى ينتظرها، فإن هذا يدل على إيمانه ومحبته وشوقه لهذه الصلوات العظيمة، التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم (وجعلت قرة عيني في الصلاة) . فإذا كان ينتظر الصلاة بعد الصلاة، فإن هذا مما يرفع الله به الدرجات، ويكفر به الخطايا.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (فذلكم الرباط) أصل الرباط: الإقامة على جهاد العدو بالحرب وارتباط الخيل وإعدادها، وهذا من أعظم الإعمال، فلذلك شبه به ما ذكر من الأفعال الصالحة والعبادة في هذا الحديث، أي أن المواظبة على الطهارة والصلاة والعبادة كالجهاد في سبيل الله.(2/186)
وقيل: إن الرباط هاهنا اسم لما يربط به الشيء، والمعنى: أن هذه الخلال تربط صاحبها عن المعاصي وتكفه عنها.
هذان الحديثان ذكرهما المؤلف في باب كثرة طرق الخير؛ لأن هذه طرق متعددة من الخير؛ الصلوات الخمس، الجمعة إلى الجمعة، رمضان إلى رمضان، كثرة الخطا إلى المساجد، إسباغ الوضوء على المكاره، انتظار الصلاة بعد الصلاة. والله الموفق.
* * *
132 ـ السادس عشر: عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من صلى البردين دخل الجنة) متفق عليه.
(البردان) الصبح والعصر.
133 ـ السابع عشر: عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً) رواه البخاري.
[الشَّرْحُ]
نقل المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى البردين دخل الجنة) .(2/187)
البردان: هما صلاة الفجر وصلاة العصر، وذلك لأن صلاة الفجر تقع في أبرد ما يكون من الليل، وصلاة العصر تقع في أبرد ما يكون من النهار بعد الزوال، من صلاهما دخل الجنة، يعني أن المحافظة على هاتين الصلاتين وإقامتهما من أسباب دخول الجنة.
وقد ثبت عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر) هذا فيه تشبيه الرؤيا بالرؤيا، وليس المعنى تشبيه المرئي بالمرئي، لأن الله ليس كمثله شيء، ولكنكم ترونه رؤية حقيقية مؤكدة كما يرى الإنسان القمر ليلة البدر، وإلا فإن الله عز وجل أجل وأعظم من أن يشابهه شيء من مخلوقاته.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر هذا الحديث: (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا) يعني بالتي قبل الطلوع الشمس: الفجر، والتي قبل غروبها: العصر، فهاتان الصلاتان هما أفضل الصلوات، وأفضلها صلاة العصر؛ لأنها هي الصلاة الوسطى التي قال الله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) (البقرة: 238) . فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في غزوة الأحزاب: (ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر) ،(2/188)
وهذا نص صريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (من صلى البردين) المراد صلاهما على الوجه الذي أمر به، ذلك بأن يأتي بهما في الوقت، وإذا كان من أصحاب الجماعة كالرجال فليأت بهما مع الجماعة، لأن الجماعة واجبة، ولا يحل لرجل أن يدع صلاة الجماعة في المسجد وهو قادر عليها.
أما حديثه الثاني: فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً) يعني أن الإنسان إذا كان من عادته أن يعمل عملاً صالحاً، ثم مرض فلم يقدر عليه، فإنه يكتب له الأجر كاملاً. والحمد لله على نعمه.
إذا كنت مثلاً من عادتك أن تصلي مع الجماعة، ثم مرضت ولم تستطيع أن تصلي مع الجماعة، فكأنك مصل مع الجماعة، يكتب لك سبع وعشرون درجة، ولو سافرت وكان من عادتك وأنت مقيم في البلد أن تصلي نوافل، وأن تقرأ قرآناً، وأن تسبح وتهلل وتكبر، ولكنك لما سافرت انشغلت بالسفر عن هذا، فإنه يكتب لك ما كنت تعمله في البلد مقيماً، مثلاً لو سافرت وصليت وحدك في البر ليس معك أحد، فإنه يكتب لك صلاة الجماعة كاملاً إذا كنت في حال الإقامة تصلي مع الجماعة.
وفي هذا تنبيه على أنه ينبغي للعاقل ما دام في حال الصحة والفراغ، أن يحرص على الأعمال الصالحة، حتى إذا عجز عنها لمرض أو شغل كتبت له كاملة. اغتنم الصحة، اغتنم الفراغ، اعمل صالحاً، حتى إذا شغلت عنه بمرض أو غيره كتب لك كاملاً، ولله الحمد. ولهذا قال ابن(2/189)
عمر: (خذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) ، هكذا جاء في حديث ابن عمر، أما من قوله، وإما من قول النبي عليه الصلاة والسلام، أن الإنسان ينبغي له في حال الصحة أن يغتنم الفرصة، حتى إذا مرض كتب له عمله في الصحة، وأن يحرص ـ ما دام مقيماً ـ على كثرة الأعمال الصالحة، حتى إذا سافر كتب له ما كان يعمل في الإقامة. نسأل الله أن يخلص لنا ولكم النية، ويصلح لنا لكم العمل.
* * *
134 ـ الثامن عشر: عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل معروف صدقة) رواه البخاري، ورواه مسلم من رواية حذيفة رضي الله عنه.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله في باب كثرة طرق الخيرات، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل معروف صدقة) .
المعروف: ما عرف في الشرع حسنه إن كان مما يتعبد به لله، وإن كان(2/190)
مما يتعامل به الناس فهو مما تعارف الناس على حسنه، وهذا الحديث (كل معروف) يشمل هذا وهذا، فكل عمل تتعبد به إلى الله فإنه صدقة، كما ورد في حديث سابق: (كل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهى عن المنكر صدقة) .
وأما ما يتعارف عليه الناس على حسنه مما يتعلق بالمعاملة بين الناس فهو معروف، مثل الإحسان إلى الخلق بالمال، أو بالجاه، أو بغير ذلك من أنواع الإحسان. ومن ذلك: أن تلقى أخاك بوجه طلق لا بوجه عبوس، وأن تلين له القول، وأن تدخل عليه السرور؛ ولهذا قال العلماء ـ رحمهم الله ـ إن من الخير: إذا عاد الإنسان مريضاً، أن يدخل عليه السرور ويقول: أنت في عافية، وإن كان الأمر على خلاف ما قال، بأن كان مرضه شديداً، يقول ذلك ناوياً أنه في عافية أحسن ممن هو دونه، لأن إدخال السرور على المريض سبب للشفاء. ولهذا تجد أن الإنسان إذا كان مريضاً مرضاً عادياً صغيراً، إذا قال له الإنسان إن هذا شيء يسير هين لا يضر سر بذلك ونسى المرض، ونسيان المرض سبب لشفائه، وكون الإنسان يعلق قلبه بالمرض فذلك سبب لبقائه. وأضرب لكم مثلاً لذلك برجل فيه جرح، تجد أنه تلهى بحاجة أخرى لا يحس بألم الجرح، لكن إذا تفرغ تذكر هذا الجرح وآلمه.
انظر مثلاً إلى الحمالين الذين يحملون الأشياء على السيارات(2/191)
وينزلونها، أحياناً يسقط على قدمه شيء فيجرحه، ولكنه ما دام يحمل لا يشعر به ولا يحس به، فإذا فرغ أحس به وتألم.
إذن فغفلة المريض عن المرض، وإدخال السرور عليه، تأميله بأن الله عز وجل سيشفيه، فهذا خير ينسيه المرض، وربما كان سبباً للشفاء.
إذن كل معروف صدقة. لو أن أحد إلى جنبك ورأيته محتراً يتصبب العرق من جنبيه، فروحت عليه بالمروحة، فإنه لك صدقة، لأنه معروف. لو قابلت الضيوف بالانبساط وتعجيل الضيافة لهم وما أشبه ذلك فهذا صدقة.
انظر إلى إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما جاءته الملائكة ضيوفاً ماذا صنعه؟ قالوا: سلاماً. قال: سلام. قال العلماء: وقول إبراهيم سلامٌ ابلغ من قول الملائكة سلاماً، لأن قول الملائكة سلاماً يعني نسلم سلاماً، وهو جملة فعلية تدل على التجدد والحدوث. وقول إبراهيم: سلامٌ جملة اسمية تدل على الثبوت والاستمرار فهو أبلغ. وماذا صنع عليه الصلاة والسلام؟ راغ إلى أهله فجاء بعجل سمين.
(فراغ) : قال العلماء: معناه انصرف مسرعاً بخفية، وهذا من حسن الضيافة، ذهب مسرعاً لئلا يمنعوه، أو يقولوا: انتظر ما نريد شيئاً (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) (الذريات: 26) ، وفي الآية الأخرى: (بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) (هود: 69) .
حنيذ يعني مشوياً، ومعلوم أن اللحم المشوي أطعم من اللحم المطبوخ، لأن طعمه يكون باقياً فيه (فَجَاءَ بِعِجْلٍ) والعلماء يقولون: إن(2/192)
العجل من أفضل أنواع اللحم، لأن للحمه ليناً وطعماً. ثم قال تعالى: (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) ما وضعه في مكان بعيد وقال لهم اذهبوا إلى مكان الطعام وإنما قربه إليهم.
ثم قال: (أَلا تَأْكُلُونَ) ولم يقل لهم: كلوا. و (ألا) أداة عرض يعني عرض عليهم الأكل ولم يأمرهم.
ولكن الملائكة لم يأكلوا، فهم لا يأكلون، ليس لهم أجواف، بل خلقهم الله من نور جسراً واحداً: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) (الأنبياء: 20) ، دائماً يقولون: سبحان الله، سبحان الله، فلم يأكلوا لهذا السبب.
(فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) لأنهم لم يأكلوا، يقولون: أنه من عادة العرب أن الضيف إذا لم يأكل فقد تأبط شراً، ولهذا فمن عادتنا إلى الآن أنه إذا جاء الضيف ولم يأكل قالوا: مالح، يعني ذق من طعامنا، فإذا لم يمالح قالوا إن هذا الرجل قد نوى بنا شراً. فنكرهم إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأوجس منهم خيفة (قَالُوا لا تَخَفْ) ثم بينوا له الأمر (قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) (الذريات: 28) وكان قد كبر، وكانت امرأته قد كبرت. (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ) لما سمعت البشرى (فِي صَرَّةٍ) أي في صيحة (فَصَكَّتْ وَجْهَهَا) عجباً، (وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) ، يعني أألد وأنا عجوز عقيم؟ قالت الملائكة: (كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ) الرب عز وجل يفعل ما يشاء إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون.
ثم قال تعالى: (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيم ُ) (الذريات: 30) ، وهنا قدم الحكيم على العليم، وفي آيات كثيرة يقدم العليم على الحكيم، والسبب(2/193)
أن هذه المسألة، أي كونها تلد وهي عجوز خرجت عن نظائرها، ما لها نظير إلا نادراً ن فبدأ بالحكيم الدال على الحكمة، يعني أن الله حكيم أن تلدي وأنت عجوز.
المهم أن إبراهيم ـ عليه الصلاة السلام ـ قد ضرب المثل في حسن الضيافة، وحسن الضيافة من المعروف، وكل معروف صدقة، فاصنع للناس خيراً ومعروفاً، واعلم أن هذه صدقة تثاب عليها ثواب الصدقة. والله الموفق.
* * *
135 ـ التاسع عشر: عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة) . رواه مسلم.
وفي رواية له: (فلا يغرس المسلم غرساً فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة) .
وفي رواية له: (لا يغرس مسلم غرساً ولا يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء إلا كانت له صدقة) وروياه جميعاً من رواية أنس رضي(2/194)
الله عنه.
قوله (يرزؤه) أي ينقصه.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ في باب كثرة طرق الخيرات ما نقله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فيمن غرس غرساً، فأكل من شيء، من إنسان، أو حيوان، أو طير، أو غير ذلك، أو نقصه أو سرق منه، فإنه له بذلك صدقة. ففي هذا الحديث حث على الزرع، وعلى الغرس، وأن الزرع والغرس فيه الخير الكثير، فيه مصلحة في الدين، ومصلحة في الدنيا.
أما مصلحة الدنيا: فما يحصل فيه من إنتاج، ومصلحة الغرس والزرع ليست كمصلحة الدراهم والنقود، لأن الزرع والغرس ينفع نفس الزارع والغارس، وينفع البلد كله، كل الناس ينتفعون منه، بشراء الثمر، وشراء الحب، والأكل منه، ويكون في هذا نمو للمجتمع وكثرة لخيراته، بخلاف الدراهم التي تودع في الصناديق ولا ينتفع بها أحد.
أما المنافع الدينية: فإنه إن أكل منه طير؛ عصفور، أو حمامه، أو دجاجة، أو غيرها ولو حبة واحدة، فإنه له صدقة، سواء شاء ذلك أو لم يشأ، حتى لو فرض أن الإنسان حين زرع أو حين غرس لم يكن بباله هذا(2/195)
الأمر، فإنه إذا أكل منه صار له صدقة، وأعجب من ذلك لو سرق منه سارق، كما لو جاء شخص مثلاً إلى نخل وسرق منه تمراً، فإن لصاحبه في ذلك أجراً، مع أنه لو علم بهذا السارق لرفعه إلى المحكمة، ومع ذلك فإن الله تعالى يكتب له بهذه السرقة صدقة إلى يوم القيامة!
كذلك أيضاً إذا أكل من هذا الزرع دواب الأرض وهوامها كان لصاحبه صدقة. ففي هذا الحديث دلاله واضحة على حث النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ على الزرع وعلى الغرس، لما فيه من المصلحة الدينية والمصالح الدنيوية.
وفيه دليل على كثرة طرق الخير، وأن ما انتفع به الناس من الخير، فإن لصاحبه أجراً وله فيه الخير، سواء نوى أو لم ينو، وهذا كقوله تعالى: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (النساء: 114) ، فذكر الله سبحانه وتعالى أن هذه الأشياء فيها خير، سواء نويت أو لم تنو، من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، فهو خير ومعروف، نوى أم لم ينو، فإن نوى بذلك ابتغاء وجه الله فإن الله يقول: (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) .
وفي هذا دليل على أن المصالح والمنافع إذا انتفع الناس بها كانت خيراً لصاحبها وأجراً وإن لم ينو، فإن نوى زاد خيراً على خير، وآتاه الله تعالى من فضله أجراً عظيماً. أسأل الله العظيم أن يمن علي وعليكم بالإخلاص والمتابعة لرسول صلى الله عليه وسلم إنه جواد كريم.(2/196)
136 ـ العشرون: عنه قال: أراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: (إنه قد بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد؟) فقالوا: نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك، فقال: (بني سلمة دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم) رواه مسلم.
وفي رواية: (إن بكل خطوة درجة) رواه مسلم. ورواه البخاري أيضاً بمعناه من رواية أنس رضي الله عنه.
و (بنو سلمة) بكسر اللام: قبيلة معروفة من الأنصار رضي الله عنهم، (وآثارهم) خطاهم.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ ما نقله عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال: أراد بنو سلمة أن يقربوا من المسجد، ينتقلوا من ديارهم وأحيائهم حتى يكونوا قرب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، من أجل أن يدركوا الصلوات معه ويتلقوا من عمله، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم، قال: (إنه قد بلغني أنكم تريدون أن تنقلوا قرب المسجد) قالوا: نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دياركم تكتب آثاركم) قالها مرتين، وبين لهم أن لهم بكل خطوة حسنة أو درجة.
ففي هذا الحديث دليل على أنه إذا مشى الإنسان إلى المسجد، فإنه لا(2/197)
يخطو خطوة إلا رفع له بها درجة، وقد جاء ذلك مفسراً في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ فأسبغ الوضوء، ثم خرج من بيته إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا كتب الله له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة) فسيكتب شيئين الأول: أنه يرفع له بها درجة. والثاني: أنه يحط بها عنه خطيئة. هذا إذا توضأ في بيته وأسبغ الوضوء سواء كان ذلك قليلاً ـ يعني سواء كانت الخطوات قليلة ـ أم كثيرة، فإنه يكتب له بكل خطوة شيئان: يرفع بها درجة، ويحط عنه بها خطيئة.
وفي هذا الحديث دليل على أنه نقل للإنسان شيء عن أحد، فإنه يثبت قبل أن يحكم بالشيء، ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم بني سلمة قبل أن يقول لهم شيئاً، قال: بلغني أنكم تريدون كذا وكذا. قالوا: نعم. فيؤخذ منه أنه ينبغي للإنسان إذا نقل له شيء عن أحدٍ أن يثبت قبل أن يحكم بمقتضى الشيء الذي نقل له، حتى يكون إنساناً رزيناً ثقيلاً معتبراً، أما كونه يصدق بكل ما نقل، فإنه يفوته بذلك الشيء الكثير، ويحصل له ضرر، بل الإنسان ينبغي عليه أن يثبت.
وفي هذا الحديث أيضاً دليل على كثرة طرق الخيرات، وأن منها المشي إلى المساجد، وهو كما سبق مما يرفع الله به الدرجات، ويحط به الخطايا، فإن كثرة الخطايا إلى المساجد سبب لمغفرة الذنوب، وتكفير(2/198)
السيئات، ورفعه الدرجات. والله الموفق.
* * *
137 ـ الحادي والعشرون: عن أبي المنذر أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة، فقيل له، أو فقلت له اشتريت حماراً تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، فقال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد جمع الله لك ذلك كله) رواه مسلم.
وفي رواية: (إن لك ما احتسبت) .
(الرمضاء) : الأرض التي أصابها الحر الشديد.
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث يتعلق بما قبله من الأحاديث الدالة على كثرة طرق الخير، وأن طرق الخير كثيرة، ومنها الذهاب إلى المساجد، وكذلك الرجوع منها، إذا احتسب الإنسان ذلك عند الله تعالى، فهذا الحديث الذي ذكره المؤلف ـ رحمه الله ـ في قصة الرجل الذي كان له بيت بعيد عن المسجد، وكان يأتي إلى المسجد من بيته من بعد، يحتسب الأجر على(2/199)
الله، قادماً إلى المسجد وراجعاً منه. فقال له بعض الناس: لو اشتريت حماراً تركبه في الظلماء والرمضاء، يعني في الليل حين الظلام، في صلاة العشاء وصلاة الفجر، أو في الرمضاء، أي في أيام الحر الشديد، ولا سيما في الحجاز، فإن جوها حار. فقال رضي الله عنه: ما يسرني أن بيتي إلى جنب المسجد؛ يعني أنه مسرور بأن بيته بعيد عن المسجد، يأتي إلى المسجد بخطى، ويرجع منه بخطى، وأنه لا يسره أن يكون بيته قريباً من المسجد، لأنه لو كان قريباً لم تكتب له تلك الخطى، وبين أنه يحتسب أجره على الله عز وجل، قادماً إلى المسجد وراجعاً منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن له ما احتسب) .
ففي هذا دليل على أن كثرة الخطى إلى المساجد من طرق الخير، وأن الإنسان إذا احتسب الأجر على الله كتب الله له الأجر حال مجيئه إلى المسجد وحال رجوعه منه.
ولا شك أن للنية أثراً كبيراً في صحة الأعمال، وأثراً كبيراً في ثوابها، وكم من شخصين يصليان جميعاً بعضهما إلى جنب بعض، ومع ذلك يكون بينهما في الثواب مثل ما بين السماء والأرض، وذلك بصلاح النية وحسن العمل، فكلما كان الإنسان أصدق إخلاصاً لله وأقوى اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر أجراً، وأعظم أجراً عند الله عز وجل. والله الموفق.
* * *(2/200)
139 ـ الثالث والعشرون: عن عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) متفق عليه.
وفي رواية لهما عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة) .
[الشَّرْحُ]
هذا الحديث في بيان من طرق الخيرات، لأن طرق الخيرات ـ ولله الحمد ـ كثيرة، شرعها الله لعباده ليصلوا بها إلى غاية المقاصد، فمن ذلك الصدقة، فإن الصدقة كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) يعني كما لو أنك صببت ماءٍ على النار انطفأت، فكذلك الصدقة تطفئ الخطيئة.
ثم ذكر المؤلف هذا الحديث الذي بين فيه أن الله سبحانه وتعالى(2/201)
سيكلم كل إنسان على حدة يوم القيامة، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (الانشقاق: 6) ، يعني سوف تلاقي ربك ويحاسبك على هذا الكدح، أي الكد والتعب الذي عملت، ولكن بشرى للمؤمن، كما قال الله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (البقرة: 223) ، الحمد لله. المؤمن إذا لاقى ربه فإنه على خير.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم هنا في الحديث: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) يعني بكلمة الله يوم القيامة بدون مترجم، يكلم الله كل عبد مؤمن، فيقرره بذنوبه، يقول له: عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا، فإذا أقر بها وظن أنه قد هلك، قال: (إني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم) فكم من ذنوب علينا سترها الله عز وجل لا يعلمها إلا هو، فإذا كان يوم القيامة أتم علينا النعمة بمغفرتها وعدم العقوبة علينا. ولله الحمد.
ثم قال: (فينظر أيمن منه) يعني عن يمينه (فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشام منه) أي عن يساره (فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه) . قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة) يعني ولو بنصف تمرة أو قل. أتق النار بهذا.(2/202)
ففي هذا الحديث دليل على كلام الله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى يتكلم بكلام مسموع مفهوم، لا يحتاج إلى ترجمة، يعرفه المخاطب به.
وفيه دليل على أن الصدقة ولو قلت تنجي من النار، لقوله: (اتقوا النار ولو شق تمرة) .
قال: (فإن لم يجد فبكلمة طيبة) يعني إن لم يجد شق تمرة فليتق النار بكلمة طيبة.
والكلمة الطيبة تشمل قراءة القرآن، فإن أطيب الكلمات القرآن الكريم. وتشمل التسبيح التهليل، وكذلك تشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتشمل تعليم العلم وتعلم العلم، وتشمل كذلك كل ما يتقرب به الإنسان إلى ربه من القول، يعني إذا لم تجد شق تمرة فإنك تتقي النار ولو بكلمة طيبة. فهذا من طرق الخير وبيان كثرتها ويسرها، فالحمد لله أن شق التمرة تنجي من النار، وأن الكلمة الطيبة تنجب من النار. نسأل الله أن يجنبنا وإياكم من النار.
* * *
140 ـ الرابع والعشرين: عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها) رواه مسلم.(2/203)
والأكلة بفتح الهمزة هي الغدوة أو العشوة.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها) وفسر المؤلف ـ رحمه الله ـ الأكلة بأنها الغدوة أو العشوة، أي الغداء أو العشاء.
ففي هذا دليل على أن رضا الله ـ عز وجل ـ قد ينال بأدنى سبب، قد ينال بهذا السبب اليسير ولله الحمد. يرضى الله عن الإنسان إذا انتهى من الأكل قال: الحمد لله، وإذا انتهى من الشرب قال: الحمد لله؛ وذلك أن للأكل والشرب آداباً فعلية وآداباً قولية.
أما الآداب الفعلية: فإن يأكل باليمين ويشرب باليمين، ولا يحل له أن يأكل بشماله أو يشرب بشماله، فإن هذا حرام على القول الراجح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يأكل الرجل بشماله أو يشرب بشماله، وأخبر أن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله، وأكل رجل بشماله عنده فقال: (كل بيمينك) قال: لا أستطيع، فقال: (لا استطعت) ، فما استطاع الرجل بعد ذلك أن يرفع يده اليمنى إلى فمه؛ عوقب والعياذ بالله.
وأما الآداب القولية: فإن يسمي عند الأكل، يقول: باسم الله،(2/204)
والصحيح أن التسمية عند الأكل أو الشرب واجبة، وأن الإنسان يأثم إذا لم يسم الله عند أكله أو شربه، لأنه إذا لم يفعل، إذا لم يسم عند الأكل والشرب، فإن الشيطان يأكل معه ويشرب معه.
ولهذا يجب على الإنسان إذا أراد يأكل أن يسمي الله، وإذا نسى أن يسمي في أول الطعام ثم ذكر في أثنائه فليقل: باسم الله أوله وآخره، وإذا نسى أحد أن يسمي فذكره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عمر بن أبي سلمة وهو ربيبه بن زوجته أم سلمة رضي الله عنها، حينما تقدم للأكل فأكل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا غلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) وهذا فيه دليل على أن التسمية ـ إذا كانوا جماعة ـ تكون من كل واحد، فكل واحد يسمي، ولا يكفي أن يسمي واحد عن الجميع، بل كل إنسان يسمي لنفسه.
أما عند الانتهاء فمن الآداب أن يحمد الله عز وجل على هذه النعمة حيث يسر له هذا الأكل، مع أنه لا أحد يستطيع أن ييسره، كما قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (الواقعة: 63، 64) ، (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) (الواقعة (86، 96) لولا أن الله عز وجل نمى هذا الزرع حتى كمل، وتيسر حتى وصل بين يديك، لعجزت عنه.
وكذلك الماء، لولا أن الله يسره فأنزله من المزن وسلكه ينابيع في(2/205)
الأرض حتى استخرجته لما حصل لك هذا، ولهذا قال في الزرع: (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) (الواقعة: 65) ، وقال في الماء: (لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ) (الواقعة: 70) ، فلهذا كان من شكر نعمة الله عليك بهذا الأكل والشرب أن تحمد الله إذا انتهيت من الشرب أو من الأكل، ويكون هذا سبباً لرضا الله عنك.
قوله (الأكلة) فسرها المؤلف بأنها الغدوة أو العشوة، ليست الأكلة اللقمة، ليس كلما أكلت لقمة قلت: الحمد لله، أو كلما أكلت تمرة قلت: الحمد لله، السنة أن تقول إذا انتهيت نهائياً. وذكر أن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ كان يأكل ويحمد على كل لقمة، فقيل له في ذلك فقال: أكل وحمد خير من أكل وسكوت، ولكن لا شك أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الإنسان إذا حمد الله في آخر أكله أو آخر شربه كفى، ولكن إن رأى مصلحة مثلاً في الحمد؛ يذكر غيره أو ما أشبه ذلك، فأرجو ألا يكون في هذا بأس، كما فعله الإمام أحمد رحمه الله. والله الموفق.
* * *
141 ـ الخامس والعشرون: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على كل مسلم صدقة) قال: أرأيت إن لم يجد؟ قال: (يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق) قال:: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: (يعين ذا الحاجة الملهوف) قال: أرأيت إن لم يستطع قال: (يأمر بالمعروف أو الخير) قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: (يمسك عن الشر فإنها صدقة) متفق عليه.(2/206)
[الشَّرْحُ]
نقل المؤلف ـ رحمه الله ـ عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على كل مسلم صدقة) وقد مر علينا مثل هذا التعبير من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أعم منه، حيث قال: (على كل سلامي من الناس صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس) ، والسلامى هي مفاصل العظام، وهذا يدل على أن لله عز وجل علينا صدقة كل يوم، هذه الصدقة متنوعة؛ إما أن تكون تسبيحة، أو تكبيرة، أو تهليلة، أو أمر بمعروف، أو نهياً عن منكر، أو أن تعين الملهوف، المهم أن طرق الخيرات كثيرة. ولكن النفس الأمارة بالسوء تثبط الإنسان عن الخير، وإذا هم بشيء فتحت له باباً غيره، ثم إذا هم به فتحت له باباً آخر حتى يضيع عليه الوقت، ويخسر وقته ولا يستفيد منه شيئاً.
ولهذا ينبغي للإنسان أن يبادر ويسارع في الخير، كلما فتح له باب من الخير فليسارع إليه؛ لقوله تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات) (المائدة: 48) ، ولأن الإنسان إذا انفتح له باب الخير أول مرة ولم يفعل فإنه يوشك أن يؤخره الله عز وجل. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله) ، فالمهم أنه ينبغي للإنسان العاقل الحازم المؤمن أن ينتهز سبل الخير، وأن يحرص غاية الحرص على أن يأخذ من(2/207)
كل باب منها بنصيب حتى، يكون ممن سارع في الخيرات، وجنى ثمرات هذه الأعمال الصالحة، نسأل الله أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، إنه جواد كريم.(2/208)
14 ـ باب الاقتصاد في الطاعة
قال الله تعالى: (طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه: 1، 2) ، وقال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185) .
[الشَّرْحُ]
لما ذكر المؤلف ـ رحمة الله ـ في باب السابق كثرة طرق الخير، بين في هذا الباب أنه ينبغي للإنسان أن يقتصد في الطاعة، فقال: (باب اقتصاد في الطاعة) والاقتصاد: هو أن يكون الإنسان وسطاً بين الغلو والتفريط، لأن هذا هو المطلوب من الإنسان في جميع أحواله؛ أن يكون دائراً بين الغلو والتفريط، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان: 67) .
وهكذا الطاعة ينبغي أن تقتصد فيها، بل يجب عليك أن تقتصد فيها؛ فلا تكلف نفسك ما لا تطيق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه خبر الثلاثة الذين قال أحدهم: إني لا أتزوج النساء، وقال الثاني: أصوم ولا أفطر، وقال الثالث: أقوم ولا أنام، خطب عليه الصلاة والسلام وقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، وإني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) فتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن رغب عن سنته، وكلف نفسه(2/209)
ما لا تطيق.
ثم استشهد المؤلف بقوله تعالى: (طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه: 1، 2) ، (طه) هذه حرفان من حروف الهجاء، أحدهما طاء والثاني هاء، وليست اسماً من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم كما زعمه بعضهم، بل هي من الحروف الهجائية التي ابتدأ الله بها بعض السور الكريمة من كتابه العزيز، وهي حروف ليس لها معنى؛ لأن القرآن نزل باللغة العربية، واللغة العربية لا تجعل للحروف الهجائية معنى، بل لا يكون لها معنى إلا إذا ركبت وكانت كلمة.
ولكن لها مغزى عظيم، هذا المغزى العظيم هو التحدي الظاهر لهؤلاء المكذبين للرسول عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم عجزوا أن يأتوا بشيء مثل القرآن؛ لا سورة ولا بعشرة سور ولا بآية، ومع هذا فإن هذا القرآن الذي أعجزهم لم يأت بحروف غريبة لم يكونوا يعرفونها، بل أتى بالحروف التي يركبون منها كلامهم.
ولهذا لا تكاد تجد سورة ابتدئت بهذه الحروف إلا وجدت بعدها ذكر القرآن، في سورة البقرة: (آلم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ) ، وفي سورة آل عمران (آلم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) ، وفي سورة الأعراف (المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ) وفي سورة يونس (آلر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) . وهكذا نجد بعد كل حروف هجائية في بداية السورة يأتي ذكر القرآن، إشارة إلى أن هذا القرآن كان من هذه الحروف التي يتركب منها كلام العرب، ومع ذلك أعجز(2/210)
العرب، هذا هو الصحيح في المراد من هذه الحروف الهجائية.
وقوله عز وجل: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) يعني ما أنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرآن لينال الشقاء به، ولكن لينال السعادة والخير والفلاح في الدنيا والآخرة، كما قال الله سبحانه تعالى في هذه السورة نفسها (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) (طه: 123، 127) ، (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) ولكن لتسعد في الدنيا والآخرة؛ ولهذا لما كانت الأمة الإسلامية أمة القرآن تتمسك به وتهتدي بهديه، صارت لها الكرامة والعزة والرفعة على جميع الأمم، ففتحوا مشارق الأرض ومغاربها، ولما تخلفت عن العمل بهذا القرآن
تخلف عنها من العزة والنصر والكرامة بقدر ما تخلفت به من العمل بهذا القرآن.
ثم ساق المؤلف آية أخرى، وهي قول الله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185) ، يعني أن الله يريد بنا فيما شرع لنا التيسير، وهذه الآية نزلت في آيات الصيام حتى لا يظن الظان أنه ألزم الناس به للمشقة والتعب، فبين الله تعالى أنه يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر، ولهذا من سافر لم يجب عليه الصوم، ويقضي من أيام أخر، ومن مرض لم يجب عليه الصوم، ويقضي من أيام أخر، هذا من التيسير (يُرِيدُ(2/211)
اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) .
ولهذا كان هذا الدين الإسلامي ـ ولله الحمد ـ دين السماحة واليسر والخير والسهولة، أسأل الله أن يرزقني وإياكم التمسك به والوفاة عليه وملاقاة ربنا عليه.
* * *
142ـ وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة قال: (من هذه؟) قالت: هذه فلانة تذكر من صلاتها، قال: (مه) ، عليكم بما تطيقون، فو الله لا يمل الله حتى تملوا) وكان أجب الذين إليه ما داوم صاحبه عليه. متفق عليه.
(ومه) كلمة نهي وزجر، ومعنى (لا يمل الله) أي: لا يقطع ثوابه عنكم وجزاء أعمالكم، وبعاملكم معاملة المال حتى تملوا فتتركوا، فينبغي لكم أن تأخذوا مل تطيقون الدوام عليه ليدوم ثوابه لكم وفضله عليكم.
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ في باب الاقتصاد في الطاعة، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، فقال: (من هذه؟) قالت: فلانة، وذكرت من صلاتها، يعني أنها تصلي كثيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مه) ومه: يعني أمر بالكف، فهي عند النحويين(2/212)
اسم فعل بمعنى اكفف، وصه: بمعنى أسكت.
فالمعنى أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمر هذه المرأة أن تكف عن عملها الكثير، الذي قد يشق عليها وتعجز عنه في المستقبل فلا نديمه، ثم أمر النبي - عليه الصلاة والسلام- أن نأخذ من العمل بما نطيق، فقال: (عليكم بما تطيقون) يعني لا تكلفوا أنفسكم وتجهدوها، فإن الإنسان إذا أجهد نفسه، وكلف نفسه، ملت وكلت، ثم انحسرت وانقطعت.
وذكرت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحب الدين إليه أدومه، أي: ما دام عليه صاحبه، يعني أن يعمل وأن قل إذا داومت عليه كان أحسن لك، لأنك تفعل العمل براحة، وتتركه وأنت ترغب فيه، لا تتركه وأنت تمل منه.
ولهذا قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: فو الله لا يمل الله حتى تملوا) يعني أن الله عز وجل يعطيكم من الثواب بقدر عملكم، مهما داومتم من العمل فإن الله تعالى يثيبكم عليه.
وهذا الملل الذي يفهم من ظاهر الحديث أن الله يتصف به، ليس كمللنا نحن، لأن مللنا نحن ملل تعب وكسل، وأما ملل الله عز وجل فإنه صفة يختص به جل وعلا، والله سبحانه وتعالى لا يلحقه تعب ولا يلحقه كسل، قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) (قّ: 38) هذه السماوات العظيمة والأرض وما بينهما خلقها الله تعالى في ستة أيام: الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، قال (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) يعني ما تعبنا بخلقها(2/213)
في هذه المدة الوجيزة مع عظمها.
ففي هذا الحديث فوائد، منها: أن الإنسان ينبغي له إذا رأى عند أهله أحد أن يسأل: من هو؟ لأنه قد يكون هذا الداخل على الأهل ممن لا يرغب في دخوله، فإن من النساء من تأتي إلى أهل البيت تحدثهم بأحاديث يأثمون بها من الغيبة وغيرها، وربما تدخل امرأة ـ بحسن نية أو غير حسن نية ـ تسال مثلاً عن البيت؛ عما يفعل الزوج، وعما يفعل الابن، عما يفعل أخوك، ثم إذا ذكرت ما يفعل قالت: هذا يسير، كيف ما يعطيكم إلا كذا؟ كيف ما يعطيكم إلا هذه الثياب؟ إلا هذا الطعام؟ وما أشبه ذلك، حتى تفسد المرأة على زوجها، فلذلك ينبغي للإنسان إذا وجد عند أهله أحد أن يسأل عنهم: من هؤلاء؟ كما سأل النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ عائشة عن المرأة التي عندها.
وفيه أيضاً أنه ينبغي للإنسان أن لا يجهد نفسه بالطاعة وكثرة العمل، فإنه إذا فعل هذا مل، ثم ترك، وكونه يبقى على العمل ولو قليلاً مستمراً عليه أفضل، وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت، قال ذلك رغبة في الخير، فبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له: (أنت الذي قلت ذلك؟) قال: نعم يا رسول الله، قال: (إنك لا تطيق ذلك) ثم أمره أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، فقال: إني لا أطيق أكثر من ذلك، فأمره أن يصوم يوماً ويفطر يومين، فقال: أطيق أكثر من ذلك، فقال: (صم يوماً وأفطر يوماً) قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: (لا أكثر من ذلك هذا صيام داود) .(2/214)
وكبر عبد الله بن عمرو وصار يشق عليه أن يصوم يوماً ويترك يوماً، فقال: ليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صار يصوم خمسة عشراً يوماً سرداً، ويفطر خمسة عشر يوماً سرداً.
ففي هذا دليل على أن الإنسان ينبغي له أن يعمل العبادة على وجه مقتصد، لا غلو ولا تفريط، حتى يتمكن من الاستمرار عليها، وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل. والله الموفق.
* * *
143 ـ وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له تقدم من ذنبه وما تأخر؟! قال أحدهم: أما أنا فاصلي الليل أبداً، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) متفق عليه.(2/215)
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ في باب الاقتصاد في العبادة: أن ثلاثة نفر جاءوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون زوجاته عن عمله الذي يعمله في بيته، وذلك لأن عمل النبي صلى الله عليه وسلم إما ظاهر يعرفه الناس كلهم؛ كالذي يفعله في المسجد أو في السوق أو في مجتمعاته مع أصحابه، فهذا ظاهر يعرفه غالب الصحابة الذين في المدينة، وإما أن يكون سراً لا يعرفه إلا من في بيته، أو من كانوا من خدمه مثل عبد الله بن مسعود، وأنس بن مالك وغيرهما رضي الله عنهم.
فجاء هؤلاء النفر الثلاثة إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألونهم كيف كانت عبادته في السر، يعني في بيته، فأخبروا بذلك، فكأنهم تقالوها، لأن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يصوم ويفطر، وكان يقوم ويرقد، وكان يتزوج النساء عليه الصلاة والسلام ويستمتع بهن، فكأنهم تقالوا هذا العمل، لأن معهم نشاطاً ـ رضي الله عنهم ـ على حب الخير، ولكن النشاط ليس مقياساً، المقياس ما جاء به الشرع.
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم قلتم كذا وكذا، قالوا: نعم، لأن أحدهم قال: أصلي الليل أبداً ولا أرقد، والثاني قال: أصوم النهار أبداً ولا أفطر، والثالث قال: أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فأقروا على أنفسهم بأنهم قالوا ذلك.
ولا شك أن هذا الذي قالوا خلاف الشرع، لأن هذا فيه إشقاقاً على النفس وإتعاباً لها؛ يبقى الإنسان لا يرقد أبداً كل الدهر يصلي! هذا لا شك(2/216)
أنه مشق على النفس ومتعب لها، وأنه داع إلى الملل، وبالتالي إلى كرهة العبادة، لأن الإنسان إذا مل الشيء كرهه.
كذلك الذي قال: أصوم أبداً؛ يبقى صيفاً وشتاءً صائماً! هذا لا شك أنه مشقة.
والثالث قال: أعتزل النساء ولا أتزوج أبداً، هذا أيضاً يشق على الإنسان، لاسيما الشباب يشق عليه أن يدع النكاح. ثم إن التبتل وعدم النكاح منهي عنه، قال عثمان بن مظعون: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهانا عن التبتل، ولو إذن لنا لاختصينا.
فالمهم أن هذه العبادة التي أرادها هؤلاء ـ رضي الله عنهم ـ كانت شاقة، وهي خلاف السنة، ولكن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ سألهم واستقرهم: هل قالوا ذلك؟ قالوا: نعم، قال: (أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) يعني من رغب عن طريقي واتخذ عبادة أشد، فإنه ليس مني.
ففي هذا دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يقتصد في العبادة، بل ينبغي له أن يقتصد في جميع أموره، لأنه إن قصر فاته خير كثير، وإن شدد فإنه سوف يكل ويعجز ويرجع، ولهذا ينبغي للإنسان أن يكون في أعماله كلها(2/217)
مقتصداً.
ولهذا جاء في الحديث: (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) والمنبت الذي يمشي ليلاً ونهاراً دائماً، هذا لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، بل يتعب ظهره، وبالتالي يعجز ويتعب ويحسر ويقعد.
فالاقتصاد في العبادة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي لك أيها العبد أن تشق على نفسك، وأمش رويداً رويَداً، كما سبق الحديث أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، فعليك بالراحة، ولا تقتصر ولا تزد، فإن خير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم. أسأل الله أن يجعلني وإياكم من متبعي هديه الذين يمشون على طريقته وسنته.
* * *
144 ـ وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هلك المتنطعون) قالها ثلاثاً. رواه مسلم.
المتنطعون: المتعمقون المتشددون في غير مواضع التشديد.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما تقله عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هلك المتنطعون. هلك المتنطعون. هلك المتنطعون) الهلاك: ضد البقاء، يعني أنهم تلفوا وخسروا،(2/218)
والمتنطعون: هم المتشددون في أمورهم الدينية والدنيوية، ولهذا جاء في الحديث: (لا تشددوا فيشدد الله عليكم) .
وانظر إلى قصة بني إسرائيل حين قتلوا قتيلاً فادرؤوا فيه وتنازعوا حتى كادت الفتنة أن تثور بينهم، فقال لهم موسى عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) (البقرة: 67) ، يعني وتأخذوا جزءاً منها فتضربوا به القتيل، فيخبركم من الذي قتله، فقالوا له (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً) يعني: تقول لنا اذبحوا بقرة واضربوا ببعضها القتيل ثم يخبركم عن قتله؟ ولو أنهم استسلموا وسلموا لأمر الله وذبحوا أي بقرة كانت لحصل مقصودهم، لكنهم تعنتوا فهلكوا، قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي؟ ثم قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها؟ ثم قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي وما عملها؟ وبعد أن شدد عليهم ذبحوها وما كادوا يفعلون.
كذلك أيضاً من التشديد في العبادة، أن يشدد الإنسان على نفسه في الصلاة أو في الصوم أو في غير ذلك مما يسره الله عليه، فإنه إذا شدد على نفسه فيما يسره الله فهو هالك. ومن ذلك ما يفعله بعض المرضى ولا سيما في رمضان حي يكون الله قد اباح له الفطر وهو مريض ويحتاج إلي الأكل والشرب، ولكنه يشدد على نفسه فيبقى صائماً فهذا أيضاً نقول إنه ينطبق عليه الحديث: هلك المتنطعون.(2/219)
ومن ذلك ما يفعله بعض الطلبة المجتهدين في باب التوحيد؛ حيث تجدهم إذا مرت بهم الآيات والأحاديث في صفات الرب عز وجل جعلوا ينقبون عنها، ويسألون أسئلة ما كلفوا بها، ولا درج عليها سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى من بعدهم، فتجد الواحد ينقب عن أشياء ليست من الأمور التي كلف بها تنطعاً وتشقاً، فنحن نقول لهؤلاء: إن كان يسعكم ما وسع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فأمسكوا، وإن لم يسعكم فلا وسع الله عليكم، وثقوا بأنكم ستقعون في شدة وفي حرج وفي قلق.
مثال ذلك: يقول بعض الناس: إن الله عز وجل له أصابع، كما جاء في الحديث الصحيح: (إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء) فيأتي هذا المتنطع فيبحث: هذه الأصابع كم عددها؟ وهل لها أنامل؟ وكم أناملها؟ وما أشبه ذلك.
كذلك مثلاً: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى الثلث الآخر) ، يقول: كيف ينزل؟ كيف ينزل في ثلث الليل وثلث الليل يدور على الأرض كلها؟ معنى هذا أنه نازل دائماً، وما أشبه ذلك الكلام الذي لا يؤجرون عليه، ولا يحمدون عليه، بل هم إلى الإثم أقرب منهم(2/220)
إلى السلامة وهم إلى الذم أقرب منهم إلى المدح.
هذه المسائل التي يكلف بها الإنسان، وهي من مسائل الغيب، ولم يسال عنها من هو خير منه، وأحرص منه على معرفة الله بأسمائه وصفاته، يجب عليه أن يمسك عنها، وأن يقول: سمعنا وأطعنا وصدقنا وآمنا، أما أن يبحث أشياء هي مسائل الغيب، فإن هذا لا شك أنه من التنطع.
ومن ذلك أيضاً ما يفعله بعض الطلبة من إدخال الاحتمالات العقلية في الدلائل اللفظية؛ فتجده يقول: يحتمل كذا ويحتمل كذا، حتى تضيع فائدة النص، وحتى يبقى النص كله مرجوجاً لا يستفاد منه. هذا غلط. خذ بظاهر النصوص ودع عنك هذه الاحتمالات العقلية، فإننا لو سلطنا الاحتمالات العقلية على الأدلة اللفظية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما بقى لنا حديث واحد أو آية واحدة يستدل بها الإنسان، ولأورد عليها كل شيء، وقد تكون هذه الأمور العقلية وهميات وخيالات من الشيطان، يلقيها في قلب الإنسان حتى يزعزع عقيدته وإيمانه والعياذ بالله.
ومن ذلك أيضاً ما يفعله بعض المتشددين في الوضوء، حيث تجده مثلاً يتوضأ ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر، وهو في عافية من ذلك. يذكر أن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كان يتوضأ، فإذا وجهه الأرض التي تحته ليس فيها إلا نقط من الماء، من قلة ما يستعمل من الماء، وبعض الناس تجده يشدد في الماء فيشدد الله عليه، فإنه إذا استرسل مع هذه الوساوس ما كفاه أربع ولا خمس ولا ست ولا أكثر من(2/221)
ذلك، فيسترسل مع الشيطان حتى يخرج عن طوره، حتى يقول: هل أحد عاقل يتصرف هذا التصرف.
أيضاً في الاغتسال من الجنابة، تجده يتعب تعباً عظيماً عند الاغتسال، في إدخال الماء في أذنيه، وفي إدخال الماء في منخريه، وكل هذا داخل في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (هلك المتنطعون. هلك المتنطعون. هلك المتنطعون) . فكل من شدد على نفسه في أمر قد وسع الله له فيه فإنه يدخل في هذا الحديث. والله الموفق.
* * *
145 ـ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الذين يسر، ولن يشاد الدين إلا غلبه، فسددوا وقاربوا ابشروا، استعينوا بالغدوة والروحة وشيءٍ من الدلجة) رواه البخاري.
وفي رواية له: (سددوا وقاربوا اغدوا وروحوا، وشيءٍ من الدلجة القصد القَصد تبلغوا) .
قوله: (الذين) هو مرفوع على ما لم يسم فاعله. وروي منصوباً، وروي: (لن يشاد الدين أحد) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إلا غلبه) أي: غلبه الدين، وعجز ذلك المشاد عن مقاومة الدين لكثرة طرقه. (والغدوة) سير أول النهار، (والروحة) : آخر النهار. (والدلجة) : آخر الليل. وهذا استعارة وتمثيل،(2/222)
ومعناه: استعينوا على طاعة الله عز وجل بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم، بحيث تستلذون العبادة ولا تسأمون، وتبلغون مقصود كم، كما أن المسافر الحاذق يسير في هذه الأوقات ويستريح هو ودابته في غيرها، فيصل المقصود بغير تعب. والله أعلم.
[الشَّرْحُ]
ساق المؤلف ـ رحمه الله ـ في باب القصد في العبادة حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر) يعني: الدين الذي بعث به الله محمد صلى الله عليه وسلم، والذي يدين به العباد ربهم ويتعبدون له به يسر، كما قال عز وجل (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185) ، وقال تعالى حين ذكره أمره بالوضوء والغسل من الجنابة والتيمم ـ عند العدم أو المرض ـ قال: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (المائدة: 6) ، وقال تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج) (الحج: 78) .
فالنصوص كلها تدل على أن هذا الدين يسر، وهو كذلك.
ولو تفكر الإنسان في العبادات اليومية لوجد الصلاة خمس صلوات ميسرة موزعة في أوقات، يتقدمها الطهر؛ طهر للبدن وطهر للقلب، فيتوضأ الإنسان عند كل صلاة، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، واشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، فيطهر بدنه أولاً ثم قلبه بالتوحيد ثانياً، ثم يصلي.
ولو تفكرت أيضاً في الزكاة، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام،(2/223)
تجد أنها سهلة، فأولاً لا تجب إلا في الأموال النامية، أو ما في حكمها، ولا تجب في كل مال، بل في الأموال النامية التي تنمو وتزيد كالتجارة، أو ما في حكمها كالذهب والفضة وإن كان لا يزيد، أما ما يستعمله الإنسان في بيته، وفي مركوبه، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس على المؤمن في عبده ولا فرسه صدقة) ، جميع أواني البيت وفرش البيت والخدم الذين في البيت، والسيارات وغيرها مما يستعمله الإنسان لخاصة نفسه، فإنه ليس فيه زكاة، فهذا يسر.
ثم الزكاة الواجبة يسيرة جداً، فهي ربع العشر، يعني واحد من أربعين، وهذا أيضاً يسير، ثم إذا أديت الزكاة فإنها لن تنقص مالك، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما نقصت صدقة من مال) ، بل تجعل فيه البركة وتنميه وتزكيه وتطهره.
وانظر إلى الصوم أيضاً، ليس كل السنة ولا نصف السنة ولا ربع السنة، بل شهر واحد من أثنى عشر شهراً، ومع ذلك فهو ميسر، إذا مرضت فأفطر، وإذا سافرت فأفطر، وإذا كنت لا تستطيع الصوم في كل دهرك فأطعم عن كل يوم مسكيناً.
أنظر إلى الحج أيضاً ميسر، قال تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ(2/224)
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران: 97) ومن لم يستطع: إن كان غنياً بماله أناب من يحج عنه، وإن كان غير غني بماله ولا بدنه سقط عنه الحج.
فالحاصل أن الدين يسر، يسر في أصل التشريع، ويسر فيما إذا طرأ ما يوجب الحاجة إلى التيسير، قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لعمران بن حصين: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) فالدين يسر.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه) يعني: لن يطلب أحد التشدد في الدين إلا غلب وهزم، وكل ومل وتعب، ثم استحسر فترك، هذا معنى قوله: (لن يشاد الدين أحدا إلا غلبه) يعني أنك إذا شددت الدين وطلبت الشدة، فسوف يغلبك الدين، وسوف تهلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: (هلك المتنطعون) .
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فسددوا وقاربوا ابشروا) ، سدد أي افعل الشيء على وجه السداد والإصابة، فإن لم يتيسر فقارب، ولهذا قال: (وقاربوا) ، والواو هنا بمعنى (أو) ، يعني سددوا إن أمكن، وإن لم يمكن فالمقاربة. (وابشروا) يعني ابشروا أنكم إذا سددتم أصبتم، أو قاربتم، فابشروا بالثواب الجزيل والخير والمعونة من الله عز وجل، وهذا يستعمله النبي عليه الصلاة والسلام كثيراً يبشر أصحابه بما يسرهم،(2/225)
ولهذا ينبغي للإنسان أن يحرص على إدخال السرور على إخوانه ما استطاع، بالبشارة والبشاشة وغير ذلك.
ومن ذلك أن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما حدث أصحابه بأن الله تعالى يقول يوم القيامة: (يا آدم فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، فيقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين) فاشتد ذلك على الصحابة وقالوا: يا رسول الله، آينا ذلك الواحد؟ قال: أبشروا، فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً، ومنك رجل. ثم قال: والذي نفسي بيده، إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبرنا، فقال: أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبرنا، فقال: أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، فكبرنا، فقال: ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود) .
وهكذا ينبغي للإنسان أن يستعمل البشرى لإخوانه ما استطاع. ولكن أحياناً يكون الإنذار خيراً لأخيه المسلم، فقد يكون أخوك المسلم في جانب تفريط في واجب، أو انتهاك لمحرم، فيكون من المصلحة أن تنذره وتخوفه. فالإنسان ينبغي له أن يستعمل الحكمة، ولكن يغلب جانب البشري، فلو جاءك رجل مثلاً وقال: إنه أسرف على نفسه، وفعل معاصي كبيرة، وسأل هل له من توبة؟ فينبغي لك أن تقول: نعم أبشر، إذا تبت تاب(2/226)
الله عليك، فتدخل عليه السرور، وتدخل عليه الأمل حتى لا ييأس من رحمة الله عز وجل.
الحاصل أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال: (سددوا وقاربوا وابشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القَصد تبلغوا) يعني معناه: استعينوا في أطراف النهار؛ وأوله وآخره، وشيء من الليل (والقصد القصد تبلغوا) هذا يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يضرب مثلاً للسفر المعنوي بالسفر الحسي، فإن الإنسان المسافر حساً يبتغي له أن يكون سيرة في أول النهار وفي آخر النهار وفي شيء من الليل، لأن ذلك هو الوقت المريح للراحلة وللمسافر، ويحتمل أنه أراد بذلك أن أول النهار وآخره محل التسبيح، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الأحزاب: 41، 42) ، وكذلك الليل محل للقيام.
وعلى كل حال فالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمرنا أن لا نجعل أوقاتنا كلها دأباً في العبادة، لأن ذلك يؤدي إلى الملل والاستحسار والتعب والترك في النهاية. أعانني الله وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
* * *
146 ـ وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: (ما هذا الحبل؟) قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد) متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ فيما نقله أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد يعني المسجد النبوي ـ فإذا حبل ممدود بين ساريتين، أي بين عمودين، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا حبل لزينب تربطه، فإذا تعبت من الصلاة تعلقت به من أجل أن تنشط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (حلوه) يعني أخروه وأزيلوه. ثم قال: (ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر(2/227)
فليرقد) .
ففي هذا دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يتعمق وأن يتنطع في العبادة، أن يكلف نفسه ما لا تطيق، بل يصلي ما دام نشيطاً، فإذا تعب فليرقد ولينم، لأنه إذا صلى مع التعب تشوش فكره وسئم ومل وربما كره العبادة، وربما ذهب ليدعو لنفسه فإذا به يدعو عليها، فلو سجد وأصابه النعاس ربما أراد أن يقول: رب اغفر لي، قال: رب لا تغفر لي، لأنه نائم، فلهذا أمر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بحل هذا الحبل، وأمرنا أن يصلي الإنسان نشاطه، فإذا تعب فليرقد.
وهذا وإن ورد في الصلاة فإنه يشمل جميع الأعمال، فلا تكلف نفسك ما لا تطيق، بل عامل نفسك بالرفق واللين، ولا تتعجل الأمور، الأمور ربما تتأخر لحكمة يريدها الله عز وجل، لا تقل أنا أريد أن أتعب(2/228)
نفسي، بل انتظر وأعط نفسك حقها، ثم بعد ذلك يحصل لك المقصود.
ومن ذلك أيضاً ما يفعله بعض الطلبة، حيث تجده مثلاً يطالع في دروسه وهو نعسان، فيتعب نفسه ولا يحصل شيئاً، لأن الذي يراجع وهو نعسان لا يستفيد، وإن ظن أنه يستفيد فإنه لا يستفيد شيئاً أبداً؛ ولهذا ينبغي على الإنسان إذا أصابه النعاس وهو يراجع كتباً ـ سواء كتباً منهجية أو غير ذلك ـ ينبغي له أن يغلق الكتاب، وأن ينام ويستريح.
وهذا يعم جميع الأوقات، حتى لو فرض أن الإنسان أصابه النعاس بعد صلاة العصر وأراد أن يرقد ويستريح فلا حرج، أو بعد صلاة الفجر وأراد أن يرقد ويستريح فلا حرج، كلما أتاك النوم فنم، وكلما صرت نشيطاً فاعمل (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (الشرح: 7، 8، كل الأمور اجعلها بالتيسير، إلا ما فرض الله عليك فلابد أن يكون في الوقت المحدد له، وأما الأمور التطوعية فالأمر فيها واسع، لا تتعب نفسك في شيء. نسأل الله أن يعيني وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
* * *
147 ـ وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نعس أحدكم وهو يصلي، فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلي وهو ناعس لا يدري لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه) متفق عليه.(2/229)
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ فيما نقله عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نعس أحدكم وهو يصلي، فليرقد حتى يذهب عنه النوم) النعاس هو فترة في الحواس يكون نتيجة غلبة النوم، فلا يستطيع الإنسان معه أن يتحكم في حواسه، ولذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم من غلب عليه النعاس وهو يصلي أن ينصرف من صلاته، ولا يصلي وهو ناعس، ثم علل ذلك بقول: فإن أحدهم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يذهب يستغفر فيسيب نفسه بدل أن يقول: اللهم اغفر لي ذنبي أو ما أذنبت، يذهب يسب نفسه بهذا الذنب الذي أراد أن يستغفر الله منه، وكذلك ربما أراد أن يسال الله الجنة فيسأله النار، وربما أراد أن يسال الهداية فيسأل ربه الضلالة وهكذا، لهذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرقد.
ومن حكم ذلك أن الإنسان لنفسه عليه حق، فإذا أجبر نفسه على فعل العبادة مع المشقة فإنه يكون قد ظلم نفسه، فأنت يا أخي لا تفرط فتقصر، ولا تفرط فتزيد.
ويؤخذ من هذا الحديث أنه لا ينبغي للإنسان أن يحمل نفسه ويشق عليها في العبادة، وإنما يأخذ ما يطيق. والله الموفق.
* * *(2/230)
148 ـ وعن أبي عبد الله جابر بن سمرة ـ رضي الله عنهما ـ قال: كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات، فكانت صلاته قصداً، وخطبته قصداً) رواه مسلم.
قوله: (قصداً) أي بين الطول والقصر.
[الشَّرْحُ]
حديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما، قال إنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، والظاهر أنه يريد الجمعة، فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً، والقصد معناه التوسط، الذي ليس فيه تخفيف مخل ولا تثقيل ممل، وقد ثبت عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه) أي علامة على فقهه ودليل عليه، ويؤخذ من هذا الحديث أنه لا ينبغي للإنسان أن يجمل نفسه ويشق عليها في العبادة، وإنما يأخذ ما يطيق. والله الموفق.
* * *
149 ـ وعن أبي جحبفة وهب بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة فقال: ما شأنك: قالت أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال له: كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل. فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال له: نم، فنام. ثم ذهب يقوم(2/231)
فقال له: نم فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن. فصلينا جميعاً، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه , فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: (صدق سلمان) . رواه البخاري.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما رواه عن أبي جحيفة وهب بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين سلمان وأبي الدرداء رضي الله عنهما جميعاً، آخى بينهما: أي عقد بينهما عقد أخوة، وذلك أن المهاجرين حين قدموا المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم وبين الأنصار، الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم، فكان المهاجرون في هذا العقد للأنصار بمنزلة الأخوة، حتى إنهم كانوا يتوارثون بهذا العقد، حتى أنزل الله عز وجل: (وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) (الأنفال: 75) .
فجاء سلمان ذات يوم ودخل على دار أخيه أبي الدرداء رضي الله عنه، فوجد امرأته أن الدرداء متبذلة، يعني ليست عليها ثياب المرأة ذات الزوج، بل عليها ثياب ليست جميلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: إن أخاك أبا الدرداء ليس له شيء من الدنيا، يعني أنه معرض عن الدنيا، وعن الأهل، وعن الأكل، وعن كل شيء.(2/232)
ثم إن أبا الدرداء لما جاء صنع لسلمان طعاماً، فقدمه إليه وقال: كل فإني صائم، فقال له: كل وأفطر ولا تصم، لأنه علم من حاله بواسطة كلام زوجته أنه يصوم دائماً، وأنه معرض عن الدنيا وعن الأكل وغيره، فأكل ثم نام، فقام ليصلي، فقال له سلمان: نم، فنام، ثم قام ليصلي، فقال: نم ولما كان آخر الليل قام سلمان ـ رضي الله عنه ـ وصليا جميعاً.
وقوله صليا جميعاً: ظاهره أنهما صليا جماعة، ويحتمل أنهما صليا جميعاً في الزمن وكل يصلي وحده. وهذه المسألة ـ أعني الصلاة جماعة في صلاة الليل ـ جائزة، لكن لا تفعل دائماً، وإنما تفعل أحياناً، فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الليل جماعة مع ابن عباس رضي الله عنهما، ومع حذيفة بن اليمان، ومع عبد الله بن مسعود، ولكن العلماء يقولون: إن هذا يفعل أحياناً لا دائماً.
ثم قال له سلمان: (إن لنفسك عليك حقاً، وأن لأهلك عليك حقاً، وإن لربك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه) وهذا القول الذي قاله سلمان هو القول الذي قاله النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لعمر بن العاص رضي الله عنهما.
ففي هذا دليل على أن الإنسان لا ينبغي له أن يكلف نفسه بالصيام والقيام، وإنما يصلي ويقوم على وجه يحصل به الخير، ويزول به التعب والمشقة والعناء. والله الموفق.
* * *(2/233)
151 ـ وعن أبي ربعي حنظلة بن الربيع الأسيدي الكاتب، أحد كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقيني أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت نافق حنظلة! قال: سبحان الله! ما تقول؟ قلت نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً. قال أبو بكر رضي الله عنه: فو الله لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما ذاك؟) قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأى عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسبنا كثيراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظة ساعة وساعة) ثلاث مرات، رواه مسلم.
قوله: ربعي) بكسر الراء. (والأسيدي) بضم الهمزة وفتح السين وبعدها ياء مكسورة مشددة وقوله: (عافسنا) هو بالعين والسين المهملتين، أي عالجنا ولا عبنا. (والضيعات) : المعايش.(2/234)
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ فيما نقله عن حنظلة الكاتب، أحد كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه قال: لقيني أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ فقلت: نافق حنظلة، يعني نفسه، ومعنى نافق: يعني صار من المنافقين، قال ذلك ظناً منه ـ رضي الله عنه ـ أن ما فعله نفاق، فقال أبو بكر: وما ذاك؟ فقال رضي الله عنه: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر بالجنة والنار حتى كأنا رأى عين، يعني كأنما نرى الجنة والنار رأى عين من قوة اليقين، حيث يخبرهم بذلك صلى الله عليه وسلم، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كالمشاهد، بل قد يكون أعظم؛ لأنه خبر من اصدق الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وأعلم الخلق بالله.
فإذا خرجنا من عنده عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، يعني لهونا معهم ونسينا ما كنا عليه عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر عن نفسه أنه يصيبه كذلك، ثم ذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وصلا إليه قال حنظلة: نافق حنظلة يا رسول الله، قال: وما ذاك؟ فأخبره بأنهم إذا كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فحدثهم عن الجنة والنار، أخذهم من اليقين ما يجعلهم كأنهم يرونهما رأي العين، ولكن إذا خرجوا عافسوا الأهل والأولاد والضيعات وتلهوا بهم نسوا كثيراً.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم) أي من شدة اليقين تصافحكم إكراماً لكم وتثبيتاً لكم؛ لأنه كلما(2/235)
زاد يقين العيد، فإن الله سبحانه وتعالى يثبته ويقويه، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) (محمد: 17) ، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة، ساعة وساعة. ساعة وساعة) يعني ساعة للرب عز وجل، وساعة مع الأهل والأولاد، وساعة للنفس حتى يعطي الإنسان لنفسه راحتها، ويعطي ذوي الحقوق حقوقهم.
وهذا من عدل الشريعة الإسلامية وكمالها، أن الله عز وجل له حق فيعطي حقه عز وجل، وكذلك للنفس حق فتعطى حقها، وللأهل حق فيعطون حقوقهم، وللزوار والضيوف حق فيعطون حقوقهم، حتى يقوم الإنسان بجميع الحقوق التي عليه على وجه الراحة، ويتعبد لله عز وجل براحة، لأن الإنسان إذا أثقل على نفسه وشدد عليها مل وتعب، وأضاع حقوقاً كثيرة.
وهذا كما يكون في العبادة وفي حقوق النفس والأهل والضيف، يكون كذلك أيضاً في العلوم، فإذا طلب الإنسان العلم ورأى في نفسه مللاً في مراجعة كتاب ما، فلينتقل إلى كتاب آخر، وإذا رأى من نفسه مللاً من دراسة فن معين، فإنه ينتقل إلى دراسة فن آخر، وهكذا يريح نفسه، ويحصل علماً كثيراً. أما إذا أكره نفسه على الشيء حصل له من الملل والتعب ما يجعله يسأم وينصرف، إلا ما شاء الله؛ فإن بعض الناس يكره نفسه على المراجعة والمطالعة والبحث مع التعب، ثم يأخذ عليه ويكون هذا دأبا له، ويكون ديدناً له، حتى إنه إذا فقد هذا الشيء ضاق صدره، والله يؤتي فضله من يشاء والله ذو الفضل العظيم.(2/236)
152ـ وعن أبن عباس رضي الله عنهما قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم، فسال عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم، ولا يصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروه فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه) رواه البخاري.
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ في باب الاقتصاد في العبادة هذا الحديث؛ الذي نذر فيه رجل يقال له أبو إسرائيل؛ أن يقوم في الشمس ولا يقعد، وأن يصمت ولا يتكلم، وأن يصوم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فرأى هذا الرجل قائماً في الشمس، فسأل عنه فأخبر عن قصته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه) .
وهذا النذر كان قد تضمن أشياء محبوبة إلى الله عز وجل، وأشياء غير محبوبة، أما المحبوبة إلى الله فهي الصوم؛ لأن الصوم عبادة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه) ، وأما وقوفه قائماً في الشمس من غير أن يستظل، وكونه لا يتكلم؛ فهذا غير محبوب إلى الله عز وجل، فلهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل أن يترك ما نذر.
وليعلم أن النذر اصله مكروه، بل قال بعض العلماء: أنه محرم، وأنه لا يجوز للإنسان أن ينذر؛ لأن الإنسان إذا نذر كلف نفسه ما لم يكلفه الله،(2/237)
ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال (إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل) ، ولكن إذا قدر أن الإنسان نذر فالنذر أقسام: قسم حكمه حكم اليمين، وقسم آخر نذر معصية، وقسم ثالث نذر طاعة.
أما الذي حكمه حكم اليمين، فهو الذي قصد الإنسان به تأكيد الشيء؛ نفياً أو إثباتاً أو تصديقاً أو تأكيداً، ومثاله: إذا قيل للرجل أخبرتنا بكذا وكذا ولكنك لم تصدق، فقال: إن كنت كاذباً فلله على نذر أن أصوم سنة، فلا شك أن غرضه من ذلك أن يؤكد قوله ليصدقه الناس، هذا حكمه حكم اليمين؛ لأنه قصد بذلك تأكيد ما قال، وكذلك أيضاً إذا قصد الحث؛ مثل أن يقول: إن لم افعل كذا فلله على نذر أن أصوم سنة، فهذا أيضاً قصد الحث وأن يفعل ما ذكر، حكمه حكم اليمين أيضاً، ودليل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) ، وهذا نوى اليمين فله ما نوى.
أما القسم الثاني: فهو المحرم فالمحرم إذا نذره الإنسان يحرم عليه الوفاء به، مثل أن يقول: لله عليه نذر أن يشرب الخمر، فهذا نذر محرم، فلا يحل له أن يشرب الخمر، ولكن عليه كفارة يمين على القول الراجح،(2/238)
وإن كان بعض العلماء قال: إنه لا شيء عليه، لأنه غير منعقد، ولكن الصحيح أنه نذر منعقد، ولكن لا يجوز الوفاء به، ومثل ذلك أن تقول المرأة: لله عليها نذر أن تصوم أيام حيضها؛ فهذا حرام، ولا يجوز أن تصوم أيام الحيض، وعليها كفارة يمين.
أما القسم الثالث: فهو نذر الطاعة، أن ينذر الإنسان نذر طاعة، مثل أن يقول: لله على نذر أن أصوم الأيام البيض؛ وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، فيلزمه أن يوفي بنذره، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه) ، أو يقول: لله علي نذر أن اصلي ركعتين في الضحى، فيلزمه أن يوفي بنذره لأنه طاعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه) .
فإن اشتمل نذره على طاعة وغير طاعة؛ وجب أن يوفي بالطاعة، وغير الطاعة لا يوفي، ويكفر كفارة يمين، مثل قصة الرجل، حيث نذر أن يقوم في الشمس، وألا يستظل، وألا يتكلم، وأن يصوم، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصوم لأنه طاعة، ولكنه قال في القيام، وعدم الاستظلال، وعدم الكلام؛ مروه فليستظل وليقعد وليتكلم، وكثير من الناس اليوم إذا استبعد الأمر أو أشفق عليه ينذر؛ فمثلاً: إذا مرض له إنسان؛ قال: لله علي نذر إن شفى الله مريضي لأفعلن كذا وكذا، فهذا منهي عنه، إما نهي كراهة أو نهي تحريم، اسأل الله العافية لمريضك بدون نذر، لكن لو فرضنا أنه نذر؛ إن شفي الله مريضه أن يفعل كذا وكذا فشفاه الله، وجب عليه أن يوفي بالنذر. والله الموفق.(2/239)
15 ـ باب المحافظة على الأعمال
قال الله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) (الحديد: 16) ، وقال تعالى: (وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) (الحديد: 27) ، وقال تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً) (النحل: 92) ، وقال تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر: 99) .
وأما الأحاديث؛ فمنها حديث عائشة: وكان أحب الدين إليه ما داوم صاحبه عليه وقد سبق في الباب قبله.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف رحمه الله: باب المحافظة على الأعمال: يعني الأعمال الصالحة.
لما ذكر ـ رحمه الله ـ باب الاقتصاد في الطاعة، وأن الإنسان لا ينبغي أن يشق على نفسه في العبادة وإنما يكون متمشياً على هدى النبي صلى الله عليه وسلم أعقبه بهذا الباب الذي فيه المحافظة على الطاعة، وذلك أن كثيراً من الناس ربما يكون نشيطاً مقبلاً على الخير فيجتهد، ولكنه بعد ذلك يفتر ثم يتقاعس ويتهاون.
وهذا يجري كثيراً للشباب، لأن الشاب يكون عنده اندفاع قوي أو(2/240)
تأخر شديد؛ إذ إن غالب تصرفات الشباب إنما تكون مبنية على العاطفة دون التعقل، فتجد الواحد منهم يندفع ويشتد في العبادة، ثم يعجز أو يتكاسل فيتأخر، ولهذا ينبغي للإنسان ـ كما نبه المؤلف رحمه الله ـ أن يكون مقتصداً في الطاعة غير منجرف، وأن يكون محافظاً عليها لأن المحافظة على الطاعة دليل على الرغبة فيها، وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، فإذا حافظ الإنسان على عبادته واستمر عليها؛ كان هذا دليلاً على محبته وعلى رغبته في الخير.
وقد ذكر المؤلف عدة آيات، منها قوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً) (النحل: 92) ، امرأة تغزل، فغزلت غزلاً جيداً قوياً متيناً، ثم بعد ذلك ذهبت تنقضه أنكاثاً، حتى لم يبق منه شيء، كذلك بعض الناس يشتد في العبادة ويزيد، ثم بعد ذلك ينقضها فيدعها.
وكذلك ذكر ـ رحمه الله ـ عن بني إسرائيل قول الله عز وجل: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) أي ما استمروا عليها ولا رعوها، ولكنهم أهملوها، وقال تعالى: (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) (الحديد: 16) ، يعني طال عليهم الأمد ـ أي الزمن ـ بالأعمال، فقست قلوبهم وتركوا الأعمال والعياذ بالله، فالمهم أن الإنسان ينبغي له أن يحافظ على العمل، وألا يتكاسل وألا يدعه، بل يستمر على ما هو عليه.(2/241)
وإذا كان هذا في العبادة فهو أيضاً في أمور العادة، فينبغي ألا يكون للإنسان كل ساعة وجهة، وكل ساعة فكر، بل يستمر ويبقى على ما هو عليه ما لم يتبين الخطأ، فإن تبين الخطأ فلا يقر الإنسان نفسه على خطأ لكن ما دام الأمر لم يتبين فيه الخطأ؛ فإن بقاءه على ما هو عليه أحسن، وأدل على ثباته، وعلى أنه رجل لا يخطو خطوة إلا عرف أين يضع قدمه وأين ينزع قدمه.
وبعض الناس لا يهتم بأمور العادة، فتجد كل يوم له فكر، وكل يوم له نظر، وهذا يفوت عليه الوقت ولا يستقر نفسه على شيء، ولهذا يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال: من بورك له في شيء فليلزمه، كلمة عظيمة، يعني إذا بورك لك في شيء، أي شيء يكون؛ فالزمه ولا تخرج عنه مرة هنا ومره هنا، فيضيع عليك الوقت ولا تبني شيئاً، نسأل الله أن يثنتنا وإياكم على الحق، وأن يجعلنا من دعاة الحق وأنصاره.
* * *
153 ـ وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن حزبه من الليل، أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل) رواه مسلم.(2/242)
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من نام عن حزبه من الليل أو عن شيء منه فقضاه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، يعني فكأنما صلاه في ليلته.
هذا فيه دليل على أن الإنسان ينبغي له إذا كان يعتاد شيئاً من العبادة أن يحافظ عليها، ولو بعد ذهاب وقتها.
والحزب معناه: هو الجزء من الشيء، ومنه أحزاب القرآن، ومنه أيضاً الأحزاب من الناس، يعني الطوائف منهم، فإذا كان الإنسان لديه عادة يصليها في الليل؛ ولكنه نام عنها، أو عن شيء منها فقتضاه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر؛ فكأنما صلاه في ليلته، ولكن إذا كان يوتر في الليل؛ فإنه إذا قضاه في النهر لا يوتر، ولكنه يشفع الوتر، أي يزيده ركعة، فإذا كان من عادته أن يوتر بثلاث ركعات فليقض أربعة، وإذا كان من عادته أن يوتر بخمس فليقض ستاً، وإذا كان من عادته أن يوتر بسبع فليقض ثماني وهكذا.
ودليل ذلك حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غلبه نوم أو وجع من الليل؛ صلى من النهار تنتي عشرة ركعة، والقضاء فيما(2/243)
بين صلاة الفجر وصلاة الظهر مقيد بأحاديث تدل على أن صلاة الفجر لا صلاة بعدها حتى تطلع الشمس، ولا بعد طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمح، فيقيد عموم هذا الحديث الذي ذكره المؤلف بخصوص الحديث الذي ذكرناه، وأن القضاء يكون من بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، وقد يقال بأنه لا يقيد، لأن القضاء متى ذكره الإنسان قضاه، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، ولا كفارة لها إلا ذلك) .
ويؤخذ من الحديث الذي ذكره المؤلف أنه ينبغي للإنسان المداومة على فعل الخير، وألا يدع ما نسيه إذا كان يمكن قضاؤه، أما ما لا يمكن قضاؤه فإنه إذا نسيه سقط، مثل سنة دخول المسجد التي تسمى تحية المسجد، إذا دخل الإنسان المسجد، ونسى وجلس وطالت المدة؛ فإنه لا يقضيها؛ لأن هذه الصلاة سنة مقيدة بسبب، فإذا تأخرت عنه سقطت سنتها، وهكذا كل ما قيد بسبب؛ فإنه إذا زال سببه لا يقضى، إلا أن يكون واجباً من الواجبات؛ كالصلاة المفروضة، وأما ما قيد بوقت فإنه يقضى إذا فات؛ كالسنن الرواتب؛ لو نسيها الإنسان حتى خرج الوقت فإنه يقضيها بعد الوقت، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك لو فات الإنسان صيام ثلاثة أيام من الشهر ـ الأيام البيض ـ فإنه يقضيها بعد ذلك، وإن كان صيام ثلاثة أيام من الشهر واسعاً؛ فتجوز(2/244)
في أول الشهر وفي وسطه وفي آخره، لكن الأفضل في الأيام البيض: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر. والله الموفق.
* * *
154 ـ وعن عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل) متفق عليه.
155 ـ وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع أو غيره صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة) رواه مسلم.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل) ساق المؤلف هذا الحديث في باب الاستقامة على الطاعة ودوامها، وأن الإنسان لا يقطعها.
وقد وصى النبي عليه الصلاة والسلام عبد الله بن عمرو ألا يكون مثل(2/245)
فلان ويحتمل هذا الإبهام أن يكون من النبي عليه الصلاة والسلام وأن النبي صلى الله عليه وسلم أحب ألا يذكر اسم الرجل، ويحتمل أنه من عبد الله بن عمرو أبهمه لئلا يطلع عليه الرواة، ويحتمل أنه من الراوى بعد عبد الله بن عمرو.
وآياً كان ففيه دليل على أن المهم من الأمور والقضايا القضية نفسها دون ذكر الأشخاص، ولهذا كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أراد أن ينهي عن شيء فإنه لا يذكر الأشخاص، وإنما يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا وما أشبه ذلك.
وترك ذكر اسم الشخص فيه فائدتان عظيمتان:
الفائدة الأولى: الستر على هذا الشخص.
الفائدة الثانية: أن هذا الشخص ربما تتغير حاله؛ فلا يستحق الحكم الذي يحكم عليه في الوقت الحاضر؛ لأن القلوب بيد الله، فمثلاً: هب أنني رأيت رجلاً على فسق، فإذا ذكرت اسمه، فقلت لشخص: لا تكن مثل فلان؛ يسرق أو يزني أو يشرب الخمر، أو ما أشبه ذلك، فربما تتغير حال هذا الرجل، ويستقيم، ويعبد الله، فلا يستحق الحكم الذي ذكرته من قبل، فهذا كان الإبهام في هذه الأمور أولى وأحسن، لما فيه من ستر، ولما فيه من الإحتياط إذا تغيرت حال الشخص.
وفي قوله عليه الصلاة والسلام (كان يقوم من الليل فترك قيام الليل) التحذير من كون الإنسان يعمل العمل الصالح ثم يدعه، فإن هذا قد ينبئ عن رغبة عن الخير، وكراهة له، وهذا خطر عظيم، وإن كان الإنسان قد يترك الشيء لعذر، فإذا تركه لعذر، فإن كان مما يمكن قضاؤه قضاه وإن(2/246)
كان مما لا يمكن قضاؤه فإن الله ـ تعالى ـ يعفو عنه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من مرض أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً، وكذلك إذا تركه لعذر فإنه يقضه.
وفي حديث عائشة الذي ساقه المؤلف؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ترك القيام الليل من وجع أو غيره، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يوتر بإحدى عشر ركعة، فإذا قضي الليل ولم يوتر لنوم أو شبهه؛ فإنه يقضي هذه الصلاة، لكن لما فات وقت الوتر صار المشروع أن يجعله شفعاً، بناء على ذلك: فمن كان يوتر بثلاث ونام عن وتره فليصل في النهار أربعاً، وإذا كان يوتر بخمس فليصل ستاً، وإن كان يوتر بسبع فليصل ثماني، وإن كان يوتر بتسع فليصل عشراً، وإن كان يوتر بإحدى عشرة ركعة فليصل اثنتي عشرة ركعة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله.
وفي هذا دليل على فائدة مهمة وهي: أن العبادة المؤقتة إذا فاتت عن وقتها لعذر فإنها تقضى، أما العبادة المربوطة بسبب؛ فإنه إذا زال سببها لا تقضى، ومن ذلك سنة الوضوء مثلاً؛ إذا توضأ الإنسان فإن من السنة أن يصلي ركعتين، فإذا نسى ولم يذكر إلا بعد مدة طويلة سقطت عنه، وكذلك إذا دخل المسجد وجلس ناسياً، ولم يذكر إلا بعد مدة طويلة فإن تحية المسجد تسقط عنه؛ لأن المقرون بسبب لابد أن يكون موالياً للسبب، فإن فصل بينهما سقط، والله الموفق.(2/247)
16 ـ باب الأمر بالمحافظة على السنة وآدابها
قال الله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر: 7) وقال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم: 3، 4) وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (آل عمران: 31) ، وقال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب: 21) .
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ: باب الأمر بالمحافظة على السنة وآدابها، السنة: يراد بها سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي طريقته التي كان عليها في عباداته وأخلاقه ومعاملاته، فهي أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وإقراراته، هذه هي السنة. ويطلق الفقهاء السنة على العمل الذي يترجح فعله على تركه، وهو الذي يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه.
ولا شك أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعثه الله ـ تعالى ـ بالهدى ودين الحق. والهدى: هو العلم النافع ودين الحق: هو العمل الصالح، فلابد من علم، ولابد من عمل، ولا يمكن أن يحافظ الإنسان على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن يعلمها، وعليه فيكون الأمر بالمحافظة على السنة أمراً بالعلم وطلب العلم.
وطلب العلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: فرض عين، وفرض كفاية، وسنة.(2/248)
أما فرض العين: فهو علم ما تتوقف العبادة عليه. يعني العلم الذي لا يسع المسلم جهله، مثل العلم بالوضوء، بالصلاة، بالزكاة، بالصيام، بالحج، وما أشبه ذلك، فالذي لا يسع المسلم جهله؛ فإن تعلمه يكون فرض عين. ولهذا نوجب على هذا الشخص أن يتعلم أحكام الزكاة لأنه ذو مال، ولا نوجب على الآخر أن يتعلم أحكام الزكاة لأنه ليس ذا مال.
كذلك الحج: نوجب على هذا أن يتعلم أحكام الحج لأنه سوف يحج، ولا نوجب على الآخر أن يتعلمها؛ لأنه ليس بحاج.
أما فرض كفاية: فهو العلم الذي تحفظ به الشريعة، يعني هو العلم الذي لو ترك لضاعت الشريعة، فهذا فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، فإذا قدر أن واحداً في البلد قد قام بالواجب في هذا الأمر وتعلم، وصار يفتي ويدرس، ويعلم الناس، صار طلب العلم في حق غيره سنة وهو القسم الثالث.
إذن طالب العلم يدور أجره بين أجر السنة، وأجر فرض الكفاية، وأجر فرض العين. والمهم أنه لا يمكن أن نحافظ على السنة وآدابها إلا بعد معرفة السنة وآدابها.
ثم ذكر المؤلف من كتاب الله عز وجل، منها قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران: 31) ، هذه الآية يسمها بعض العلماء آية المحنة، أي آية الامتحان، لأن الله ـ تعالى ـ امتحن قوماً ادعوا أنهم يحبون الله، قالوا: نحن نحب الله، دعوى يسيرة، لكت على المدعي البينة، قال الله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي) فمن ادعى محبة(2/249)
الله، وهو لا يتبع الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فليس صادقاً. بل هو كاذب، فعلامة محبة الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن تتبع رسوله صلى الله عليه وسلم.
واعلم أنه بقدر تخلفك عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم يكون نقص محبتك لله، وما نتيجة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ جاء ذلك في الآية نفسها (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) وهذه الثمرة؛ أن الله يحبك، لا أن تدعي محبة الله. فإذا أحبك الله؛ فإنه لن يحبك إلا إذا أتيت ما يحب، فليس الشان أن يقول القائل: أنا أحب الله، ولكن الشأن كل الشأن أن يكون الله عز وجل ـ يحبه. نسأل الله عز وجل ـ أن يجعلنا وإياكم من أحبابه. وهذا هو الشأن.
وإذا أحب الله الشخص، يسر الله له أمور دينه ودنياه، ورد في الحديث: (أن الله إذا أحب شخصاً نادى جبريل: أني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماوات: أن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماوات، ثم يوضع له القبول في الأرض) فيحبه أهل الأرض، ويقبلونه، ويكون إماماً لهم، إذاً محبة الله هي الغاية، ولكنها غاية لمن كان متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم غاية كمن كان يحب الرسول صلى الله عليه وسلم فمن اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم أحبه الله.
وذكر المؤلف قوله تعالى (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر: 7) وهذه الآية في سياق قسمة الفيء؛ يعني المال الذي(2/250)
يؤخذ من الكفار. يقول الله عز وجل: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ) يعني ما أعطاكم من المال فخذوه ولا تردوه، (وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) أي لا تأخذوه.
ولهذا بعث الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ على الصدقة في سنة من السنوات، فلما رجع أعطاه فقال: يا رسول الله تصدق به على من هو أفقر مني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما جاءك من هذا المال، وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك) فما أعطانا الرسول صلى الله عليه وسلم فإننا نأخذه، وما نهانا عنه فإننا لا نأخذه.
وهذه الآية ـ وإن كانت في سياق قسمة الفيء ـ فإنها كذلك بالنسبة للأحكام الشرعية، فما أحله النبي صلى الله عليه وسلم لنا فإننا نقبله ونعمل به على أنه حلال، وما نهانا عنه فإننا ننتهي عنه، ونتركه ولا نتعرض له، فهي وإن كانت في سياق الفيء فهي عامة تشمل هذا وهذا.
ثم ذكر أيضاً قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) يعني بالأسوة: القدوة. والحسنة: ضد السيئة، والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ هو أسوتنا وقدوتنا، ولنا فيه أسوة حسنة، وكل شيء تتأسى فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه خير وحسن.
ويشمل قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(2/251)
معنيين:
المعنى الأول: هو أن كل ما يفعله فهو حسن، فالتأسي به حسن.
الثاني: أننا مأمورون بأن نتأسى به أسوة حسنة، لا نزيد على ما شرع ولا ننقص عنه، لأن الزيادة أو النقص ضد الحسن، ولكننا مأمورون بأن نتأسى به وكل شيء نتأسى به فيه فإنه حسن.
وأخذ العلماء من هذه الآية أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم حجة يحتج بها ويقتدى به فيها، إلا ما قام الدليل على أنه خاص به، فما قام الدليل على أنه خاص به فهو مختص به، مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ) إلى أن قال (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (الأحزاب: 50) ، فما كان من خصائصه فهو من خصائصه.
ومن ذلك أيضاً: الوصال في الصوم، أي أن يسدد الإنسان صوم يومين بلا فطر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، قالوا: يا رسول الله، إنك تواصل، يعني فكيف تنهانا؟ فقال: (إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقي) وفي لفظ: (إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني) يعني يطعمه الله ويسقيه بما(2/252)
يمده به من ذكره، وتعلق قلبه به حتى ينسى الأكل والشرب ولا يطلبه. ونحن نعلم الآن أن الرجل لو شغل بأمر من أمور الدنيا نسى الأكل والشرب حتى أن الشعراء يتمثلون بهذا بقولهم:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها
عن الشراب وتلهيها عن الزاد
يعني أن أحاديثها بك إذا قامت تتحدث؛ ألهاها ذلك عن الشراب وعن الزاد.
فالنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لقوة تعلقه بربه، إذا قام من الليل يتهجد، فإن الله ـ تعالى ـ يعطيه قوة بما يحصل له من الذكر، تكفيه عن الأكل والشرب. أما نحن فلسنا كهيئته، ولهذا منع الوصال، وبين أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم.
* * *
وذكر المؤلف قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء: 65) .
[الشَّرْحُ]
ساق المؤلف رحمه الله تعالى ـ فيما ساقه من الآيات الدالة على المحافظة على السنة وآدابها قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما) هذه الآية لها صلة بما قبلها وهي قوله تعالى (يَا أَيُّهَا(2/253)
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: 59) ، فأمر الله ـ تعالى ـ بطاعته، وبطاعة رسوله وأولي الأمر منا.
وأولو الأمر: يشمل العلماء والأمراء، لأن العلماء ولاة أمورنا في بيان دين الله، والأمراء ولاة أمرنا في تنفيذ شريعة الله ن ولا يستقيم العلماء إلا بالأمراء، ولا الأمراء إلا بالعلماء. فالأمراء عليهم أن يرجعوا إلى العلماء ليستبينوا منهم شريعة الله. والعلماء عليهم أن ينصحوا الأمراء، وأن يخوفوهم بالله، وأن يعظوهم حتى يطبقوا شريعة الله في عباد الله عز وجل.
ثم قال: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) يعني: إن اختلفتم في شيء من الأشياء، فليس قول بعضكم حجة على الآخر، ولكن هناك حكم الله ـ عز وجل ـ ورسوله صلى الله عليه وسلم فعليكم بالرجوع إلى حكم الله ـ تعالى ـ وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم أما الرجوع إلى الله فهو الرجوع إلي كتابه، القرآن العظيم، أما الرجوع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الرجوع إلى سنته صلى الله عليه وسلم إن كان حياً بمراجعه شخصياً، وإن كان ميتاً فبمراجتة ما صح من سنته صلى الله عليه وسلم، (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر) وهذا حث على الرجوع إلى الله ـ تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وأن الرجوع إلى الله ورسوله من مقتضيات الإيمان.
(ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) يعني أحسن عاقبة، فالرجوع إلى الله ورسوله خير للأمة وأحسن عاقبة، مهما ظن الظان أن الرجوع إلى الكتاب والسنة يشكل أمراً قد يعجز الناس، وقد لا يطيقون ذلك، فهذا ظن خاطئ(2/254)
لا قيمة له، فبعض الناس يظنون أن الرجوع إلى الإسلام الذي كان في صدر هذه الأمة لا يتناسب مع الوقت الحاضر والعياذ بالله، ولم يعلم هؤلاء أن الإسلام حاكم وليس محكوماً عليه، وأن الإسلام لا يتغير باختلاف الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص، الإسلام هو الإسلام، فإن كنا نؤمن بالله واليوم الأخر؛ فلنرجع إلى الكتاب والسنة (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي: أحسن مآلاً وعافية.
ثم قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) (النساء: 60) ، والاستفهام هذا للتعجب ح يعني ألا تتعجب من قوم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل عليك، وبما أنزل من قبلك، ولكنهم لا يريدون التحاكم إلى الله ورسوله، إنما يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت؛ وهو كل ما خالف شريعة الله.
ومن هؤلاء القوم ما ابتلى الله به المسلمين من بعض الحكام الذين يريدون أن يرجعوا في الحكم بين الناس إلى قوانين ضالة بعيدة عن الشريعة، وضعها فلان وفلان من كفار، لا يعلمون عن الإسلام شيئاً، هم أيضاً في عصر قد تختلف العصور عنه، وفي أمة قد تختلف عنها الأمم الأخرى.
لكن ـ مع الأسف ـ إن بعض الذين استعمروهم الكفار من البلاد الإسلامية، أخذوا هذه القوانين، وصاروا يطبقونها على الشعب الإسلامي، غير مبالين بمخالفتها لكتاب الله ـ تعالى ـ وسنة رسوله صلى اله عليه وسلم وهم(2/255)
يزعمون أنهم آمنوا بالله ورسوله، كيف ذلك؟ وهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وقد أمروا أن يكفروا به، أمروا أمراً من الله أن يكفروا بالطاغوت، ومع ذلك يريدون أن يكون التحاكم إلى الطاغوت، (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (النساء: 60) ، يريد الشيطان أن يضلهم عن دين الله ضلالاً بعيداً ليس قريباً، لأن من حكم غير شريعة الله فقد ضل أعظم الضلال، وأبعد الضلال.
قال الله عز وجل: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) (النساء: 61) ، أي إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله؛؛ وهو القرآن، وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً، ولم يقل: رأيتهم لأجل أن يبين أه هؤلاء منافقين، فأظهر في وضع الإضمار لهذه الفائدة. ولأجل أن يشمل هؤلاء وغيرهم من المنافقين، فإن المنافق ـ والعياذ بالله ـ إذا دعي إلى الله ورسوله أعرض وصد.
(فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً) ، يعني كيف حالهم إذا أصابتهم مصيبة وكشفت عوراتهم واطلع عليها، ثم جاءوك يحلفون بالله وهم كاذبون: (إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً) يعني ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق بين الشريعة وبين القوانين الوضعية، ولا يمكن أن يكون هناك توفيق بين حكم الله وحكم الطاغوت أبداً، حكم الطاغوت لو فرض أنه وافق حكم الله؛ لكان حكماً لله لا للطاغوت؛ ولهذا ما في القوانين الوضعية من المسائل(2/256)
النافعة، فإنها سبق إليها الشرع الإسلامي.
ولهذا قال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (النساء: 63) ، يعني: هؤلاء هم الذين يعلم الله ما في قلوبهم، وإن أظهروا للناس أنهم يؤمنون بالله، وأنهم يريدون الإحسان والتوفيق بين الأحكام الشرعية والأحكام القانونية، هؤلاء هم الذين يعلم الله ما في قلوبهم، وماذا أرادوا لأمتهم (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) وهذا الأمر بالإعراض عنهم تهديد لهم (وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) أي قل لهم قولاً بليغاً يبلغ إلى أنفسهم ليتعظوا به.
ثم قال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) يعني ما أرسلنا الرسل لتقرأ أقوالهم ويتركون، بل ما أرسلت الرسل إلا ليطاعوا، وإلا فلا فائدة من إرسالهم.
الرسالة معناها ومقتضاها أن الرسول يطاع: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً(2/257)
رَحِيماً) يعني لو أنهم إذا ظلموا أنفسهم بما أضمروه في نفوسهم من الباطن، جاءوك فاستغفروا الله: يعني طلبوا من الله المغفرة، واستغفرت لهم أنت؛ لوجدوا الله تواباً رحيماً، ولكنهم ـ والعياذ بالله ـ بقوا على نفاقهم وعلى عنادهم.
وهذه الآية استدل بها دعاة القبور الذين يدعون القبور ويستغفرونها حيث قالوا: لأن الله قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً) فأنت إذا أذنبت، فأذهب إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام، واستغفر الله ليستغفر لك الرسول.
ولكن هؤلاء ضلوا ضلالاً بعيداً؛ لأن الآية صريحة قال: (إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ولم يقل: إذا ظلموا أنفسهم جاءوك، فهي تتحدث عن شيء مضى وانقضى، يقول: لو أنهم إذ ظلموا أنفسهم بما أحدثوا، ثم جاءوك في حياتك، واستغفروا الله، واستغفر لهم الرسول، لوجدوا الله توباً رحيما، أما بعد موت الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فإنه لا يمكن أن يستغفر الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد؛ لأنه انقطع عمله، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) فعمل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بعد موته لا يمكن، لكنه صلى الله عليه وسلم يكتب له أجر كل ما عملته الأمة، فكل ما عملنا من خير وعمل صالح من فرائض ونوافل، فإنه يكتب أجره للرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه هو الذي علمنا، فهذا داخل في قوله: (أو علم ينتفع به) .
الحاصل أنه لا دلالة في هذه الآية على ما زعمه هؤلاء الداعون لقبر النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم ذكر المؤلف ـ رحمه اله ـ قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) هذه الآية ذكرها الله ـ عز وجل ـ عقب قوله تعالى: (وَمَا(2/258)
أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً) وهذه الآية فيها إقسام من الله ـ عز وجل ـ بربوبيته لمحمد صلى الله عليه وسلم، الدالة على عنايته به صلى الله عليه وسلم عناية خاصة، وذلك لأن الربوبية هنا ربوبية خاصة.
ولله ـ عز وجل ـ على خلقه ربوبيتان: ربوبية عامة لكل أحد، مثل قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة: 2) ، وربوبية خاصة لمن اختصه من عباده مثل هذه الآية: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) . وقد اجتمع النوعان في قوله ـ تعالى ـ عن سحرة آل فرعون: (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) (الأعراف: 122) ، فرب العالمين عامة، ورب موسى وهارون خاصة.
والربوبية الخاصة تقتضي عناية خاصة من الله عز وجل، فاقسم ـ سبحانه وبحمده ـ بربوبيته لعبده محمد صلى الله عليه وسلم فسماً مؤكداً بلا في قوله: (فَلا وَرَبِّكَ) و (لا) هذه يراد بها التوكيد ولو قال: فوربك لا يؤمنون؛ لتم الكلام، ولكنه أتي بلا للتوكيد، كقوله تعالى: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (القيامة: 1) ، ليس المراد النفي أن الله لا يقسم بيوم القيامة، بل المراد التوكيد، فهي هنا للتوكيد والتنبيه.
(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) أي يجعلونك حكماً فيما حصل بينهم من النزاع؛ لأن معنى (شجر) أي حصل من النزاع (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) يجعلوك أنت الحكم فيما حصل بينهم من النزاع، في أمور الدين، وفي أمور الدنيا.(2/259)
ففي أمور الدين: لو تنازع رجلان في حكم مسألة شرعية؛ فقال أحدهما: هي حرام، وقال الثاني: هي حلال، فالتحاكم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فلا يؤمن أحد منهما ـ أي من المتشاجرين ـ إلا إذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو تنازع الناس في أمر دنيوي بينهم، كما حصل بين الزبير بن العوام ـ رضي الله عنه ـ وجاره الأنصاري، حين تحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ماء الوادي، فحكم بينهما، فهذا تحاكم في أمور الدنيا، المهم أنه لا يؤمن أحد حتى يكون تحاكمه في أمور الدين والدنيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم إن الإيمان المنفي هنا، إن الإنسان لا يرضى بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقاً، فهو نفى للإيمان من أصله، لأن من لا يرضى بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقاً كافر، ـ والعياذ بالله ـ خارج عن الإسلام، وإن كان عدم الرضا بالحكم في مسألة خاصة، وعصى فيها، فإنها ـ إذا لم تكن مكفرة ـ فإنه لا يكفر.
وقوله عز وجل: (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) لو قال قائل: كيف يكون تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته؟ فالجواب أن نقول: يكون تحكيمه بعد موته بتحكيم سنته صلى الله عليه وسلم.
فالشيء الأول: (لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) .
والشيء الثاني: (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) ، يعني أن الإنسان قد يحكم الكتاب والسنة، ولكن يكون في قلبه حرج، يعني ما يطمئن أو ما يرضى إلا رغماً عنه، فلابد من أن لا يجد الإنسان في نفسه(2/260)
حرجاً مما قضى الله ورسوله.
الشيء الثالث: (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) أي ينقادوا انقياداً تاماً، ليس فيه تأخر ولا تقهقر، فهذه شروط ثلاثة لا يتم الإيمان إلا بها.
أولاً: تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أن لا يجد الإنسان في نفسه حرجاً مما قضاه الرسول صلى الله عليه وسلم.
والثالث: أن يسلم تسليماً تاماً بالغاً.
وبناءً على هذا نقول: إن الذين يحكمون القوانين الآن، ويتركون وراءهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما هم بمؤمنين؛ ليسوا بمؤمنين، لقول الله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) ولقوله: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: 44) ، وهؤلاء المحكمون للقوانين لا يحكمونها في قضية معينة خالفوا فيها الكتاب والسنة، لهوى أو لظلم، ولكنهم استبدلوا الدين بهذا القانون، وجعلوا هذا القانون يحل محل شريعة الله، وهذا كفر؛ حتى لو صلوا وصاموا وتصدقوا وحجوا، فهم كفار ما داموا عدلوا عن حكم الله ـ وهم يعلمون بحكم الله ـ وإلى هذه القوانين المخالفة لحكم الله.
(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء: 65) ، فلا تستغرب إذا قلنا: إن من استبدل شريعة الله بغيرها من القوانين فإنه يكفر ولو صام وصلى؛ لأن الكفر ببعض الكتاب كفر بالكتاب كله، فالشرع لا يتبعض، إما تؤمن به جميعاً، وإما أن تكفر به جميعاً، وإذا آمنت ببعض(2/261)
وكفرت ببعض، فأنت كافر بالجميع، لأن حالك تقول: إنك لا تؤمن إلا بما لا يخالف هواك. وأما ما خالف هواك فلا تؤمن به. هذا هو الكفر. فأنت بذلك اتبعت الهوى، واتخذت هواك إلهاً من دون الله.
فالحاصل أن المسألة خطيرة جداً، من أخطر ما يكون بالنسبة لحكام المسلمين اليوم، فإنهم قد وضعوا قوانين تخالف الشريعة وهم يعرفون الشريعة، ولكن وضعوها ـ والعياذ بالله ـ تبعاً لأعداء الله من الكفرة الذين سنوا هذه القوانين ومشى الناس عليها، والعجب أنه لقصور علم هؤلاء وضعف دينهم، أنهم يعلمون أن واضع القانون هو فلان بن فلان من الكفار، في عصر قد اختلفت العصور عنه من مئات السنين، ثم هو في مكان يختلف عن مكان الأمة الإسلامية، ثم هو في شعب يختلف عن شعوب الأمة الإسلامية، ومع ذلك يفرضون هذه القوانين على الأمة الإسلامية، ولا يرجعون إلى كتاب الله ولا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأين الإسلام؟ وأين الإيمان؟ وأين التصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه رسول إلى الناس كافة؟ وأين التصديق بعموم رسالته وأنها عامة في كل شيء؟.
كثير من الجهلة يظنون أن الشريعة خاصة بالعبادة التي بينك وبين الله ـ عز وجل ـ فقط، أو في الأحوال الشخصية من نكاح وميراث وشبهه، ولكنهم أخطئوا في هذا الظن، فالشريعة عامة في كل شيء، وإذا شئت أن يتبين لك هذا؛ فسال ما هي أطول آية في كتاب الله؟ سيقال لك إن أطول آية هي: آيه الدين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ....) (البقرة: 282) كلها في المعاملات، فكيف نقول إن الشرع الإسلامي خاص(2/262)
بالعبادة أو بالأحوال الشخصية. هذا جهل وضلال، إن كان عن عمد فهو ضلال واستكبار، وإن كان عن جهل فهو قصور، والواجب أن يتعلم الإنسان ويعرف، نسأل الله لنا ولهم الهداية.
المهم أن الإنسان لا يمكن أن يؤمن إلا بثلاثة شروط:
الأول: تحكيم النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: ألا يجد في صدره حرجاً ولا يطيق صدره بما قضى النبي عليه الصلاة والسلام.
والثالث: أن يسلم تسليماً، وينقاد انقياداً تاماً. فبهذه الشروط الثلاثة يكون مؤمناً، وإن لم تتم فإنه إما خالي من الإيمان مطلقاً، وإما ناقص الإيمان، والله الموفق.
* * *
وقال تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه) .
[الشَّرْحُ]
ثم ينقل المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ في سياق الآيات في باب الأمر بالمحافظة على السنة وآدابها قوله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه) من يطع الرسول محمد صلى اله عليه وسلم فقد أطاع الله.
والطاعة: موافقة الأمر، سواء كان ذلك في فعل المأمور أو ترك المحذور، فإذا قيل طاعة ومعصية فالطاعة لفعل المأمور والمعصية لفعل المحذور.
أما إذا قيل: طاعة على سبيل الإطلاق، فإنها تشمل الأوامر والنواهي،(2/263)
يعني أن امتثال الأوامر طاعة واجتناب النواهي طاعة، فالذي يطيع النبي صلى الله عليه وسلم في أمره ونهيه، أي إذا أمره امتثل، وإذا نهاه اجتنب، فإنه يكون مطيعاً لله عز وجل، هذا منطوق الآية، ومفهومها: أن من يعص الرسول فقد عصى الله.
وفي هذه الآية دليل على أن ما ثبت في السنة، فإنه كالذي ثبت في القرآن، أي أنه من شريعة الله ويجب التمسك به، ولا يجوز لأحد أن يفرق بين الكتاب والسنة، ولقد أخبر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ محذراً؛ حينما قال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من عندي فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) ، يعني إنه يحذر من أنه ربما يأتي زمان على الناس يقولون: لا نتبع إلا ما في القرآن، أما ما في السنة فلا تأخذ به.
وهذا أمر قد وقع، فوجد من الملاحدة من يقول: لا نقبل السنة، لا نقبل إلا القرآن، والحقيقة لأنهم كذبة، فإنهم لم يقبلوا لا السنة ولا القرآن، لأن القرآن يدل على وجوب اتباع السنة، وأن ما جاء في السنة كالذي جاء في القرآن، ولكنهم يموهون على العامة، ويقولون: إن السنة ما دامت ليست قرآناً يتلى ويتواتر بين المسلمين، فإن ما فيها قابل للشك، وقابل للنسيان، وقابل للوهم وما أشبه ذلك. والله الموفق.
* * *(2/264)
وقال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
[الشَّرْحُ]
ذكر المؤلف قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور: 63) ، وهذا تحذير من الله ـ عز وجل ـ للذين يخالفون عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني يرغبون عن أمره فيخالفونه، ولهذا لم يقل: يخالفون أمره، وإنما قال: (يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي يرغبون عنه فيخالفونه، حذرهم من أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم، قال الإمام أحمد: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك والعياذ بالله.
أي أنه إذا رد شيئاً من كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، فربما يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. ويهلك لبس هلاكاً بدنياً، بل هلاكاً دينياً. والهلاك الديني أشد من الهلاك البدني مثآل كل حي، طالت به الحياة أم قصرت، لكن الهلاك الديني خسارة في الدنيا والآخرة والعياذ بالله.
وقوله (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يعني أنهم يعاقبون قبل أن تحل بهم الفتنة تسأل الله العافية، ففي هذا دليل على وجوب قبول أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الذي يخالف عنه مهدد بهذه العقوبة (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
* * *(2/265)
وقال الله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .
[الشَّرْحُ]
نقل المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما ذكره من الآيات التي صدر بها باب المحافظة على اتباع السنة وآدابها قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) والخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم أخبره الله ـ عز وجل ـ أنه يهدي إلى صراط مستقيم؛ يعني يدل إليه ويبينه للناس، والصراط المستقيم بينه الله في قوله: (صِرَاطِ اللَّهِ) يعني الصراط الذي نصبه الله ـ تعالى ـ لعباده، هو شريعته، وأضافه الله إلى نفسه، لأنه هو الذي نصبه، لأنه يوصل إليه، كما أنه أضافه في سورة الفاتحة إلى الذين أنعم الله عليهم، لأنهم هم الذين يسلكونه.
فالنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يهدي الناس إلى الصراط، ويدلهم عليه، ويدعوهم إليه، ويرغبهم في سلوكه، ويحذرهم من مخالفته، وهكذا من خلفه في أمته من العلماء الربانيين، فإنهم يدعون إلى الصراط المستقيم، صراط الله العزيز الحكيم.
فإذا قال قائل: ما الجمع بين هذه الآية: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وبين قوله تعالى: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (القصص: 56) ، فإن هذه الآية نزلت حين اغتم النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب، وكان عمه أبو طالب مشركاً، ولكنه كان يدافع عنه، ويرفع منزلته، ويذب عنه، ويقول فيه المدائح والقصائد العظيمة، ولكنه حرم خير الإسلام والعياذ بالله، ومات على الكفر.
قال أهل العلم: الجمع بينهما أن الآية التي وفيها إثبات الهداية يراد بها(2/266)
هداية الدلالة، يعني أنك تدل الخلق، وليس كل من دل على الصراط اهتدى، وأما الهداية التي نفى الله عن رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ حيث قال: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) فهي هداية التوفيق، لا أحد يستطيع أن يوفق أحد للحق، ولو كان أباه، أو أبنه أو عمه، أو أمه، أو خاله، أو جدته، أبداً، من يضلل الله فلا هدي له.
ولكن علينا أن ندعو عباد الله إلى دين الله، وأن نرغبهم فيه، وأن نبينه لهم، ثم إن اهتدوا فلنا ولهم، وإن لم يهتدوا فلنا وعليهم، قال الله تعالى: (طسَمَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الشعراء: 1-3) ، يعني لعلك تهلك نفسك بالهم والغم، إذا لم يكونوا مؤمنين، فلا تفعل، إن الهداية بيد الله، بل أدّ ما عليك وقد برئت ذمتك، والله الموفق.
* * *
وقال الله تعالى: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً) .
[الشَّرْحُ]
ختم المؤلف الآيات بقوله تعالى: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً) (الأحزاب: 34) ، والخطاب لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم الطاهرات المطهرات الطيبات، هؤلاء النسوة هن أطهر زوجات على وجه الأرض منذ خلق أدم.
وقد حاول المنافقون أن يدنسوا فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في قصة الإفك؛ التي نسجوا خيوطها ورموا بها الصديقة بنت الصديق رضي الله(2/267)
عنها، حيث اتهموها بما هي بريئة منه، فأنزل الله في براءتها عشر آيات من كتابه تتلى إلى يوم القيامة، فقال تعالى: (نَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ) إلى قوله تعالى: (تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور: 11) ، فنساء النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة ما يتلى، يتلوه النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ويتلونه هن أيضاً، فيقول عز وجل: اذكرن هذا، اذكرن ما يتلى في البيوت، والتزمن بالسنة، وقمن بما يجب، لأن الذي يتلى في بيته الكتاب والحكمة، لا شك أنه قد حصل على خير كثير، وعلم غزير، وأنه مسئول عن هذا العلم، فكل من آتاه الله علماً وحكمة، فإنه مسئول عنه أكثر ممن جهل، نسأل الله أن يوفقنا وإياكم إلى العلم والحكمة. إنه جواد كريم.
* * *
156ـ فالأول عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) متفق عليه.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ فيما نقله عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن(2/268)
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعوني ما تركتكم) قاله النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن بعض الصحابة من حرصهم على العلم ومعرفة السنة، كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء قد لا تكون حراماً فتحرم من أجل مسألتهم، أو قد لا تكون واجبة، فتجب من أجل مسألتهم، فلهذا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعوه، أن يتركوا ما تركه ما دام لم يأمرهم ولم ينههم، فليحمدوا الله على العافية.
ثم علل ذلك بقوله: (فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم) يعني أن الذين من قبلنا أكثروا المسائل على الأنبياء، فشدد عليهم كما شددوا على أنفسهم، ثم اختلفوا على أنبيائهم أيضاً، فليتهم لما سألوا فأجيبوا قاموا بما يلزمهم، ولكنهم اختلفوا على الأنبياء.
والاختلاف على الإنسان يعني مخالفته، وهنا مثال جاء به القرآن مصدقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم هذا، اختلف بنو إسرائيل في قتيل قتل بينهم، فادعت كل قبيلة أن الأخرى هي التي قتلته، وادارءوا فيها، وتنازعوا فيها، ورفعوا الأمر إلى نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام، فقال لهم: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) (البقرة: 67) ، اذبحوا بقرة وخذوا عضواً من أعضائها واضربوا به القتيل وسيخبركم القتيل من الذي قتله.
فقالوا له: (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً) أي: أتضحك علينا؟ وما صلة البقرة برجل قتل؟ وكيف يحيا القتيل بعد موته؟ وهذا من جبروت بين إسرائيل وعنادهم، ورجوعهم إلى العقول دون النص، هؤلاء رجعوا إلى عقولهم الوهمية دون النص، ولو أخذوا بالنص لسلموا من هذا (قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) لأن الذي يسخر بالناس جاهل معتد عليهم، والجهل(2/269)
هنا بمعنى العدوان، أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.
فلما رأوا أنه صادق، وهو صادق عليه الصلاة والسلام: (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ) لو أنهم أخذوا أي بقرة من السوق وذبحوها لحصل المقصود، لكن تعنتوا، وتشددوا فشدد الله عليهم (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ) ؛ لا فارض: يعني لا طاعن في السن كبيرة، ولا بكر: يعني صغيرة (عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ) (البقرة: 68) ، أمرهم أن يفعلوا، وهذا تأكيد للأمر السابق: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) لكنهم أبوا، (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا) عرفنا سنها فأخبرنا ما هو لونها، (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) (البقرة: 69) ، شدد عليهم مرة ثانية، لو ذبحوا أي بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك لكفى، لكن تشددوا فشدد عليهم. من يجد بقرة على هذه الصفة؟ صفراء فاقع لونها تسر الناظرين، لونها جميل صاف بين.
ومع ذلك ما امتثلوا: (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ) يعني ما عملها؟ (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا) ليس فيها عيب: (قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) أعوذ بالله من الضلال، وتحكم العقول على النصوص، الآن جئت بالحق، وقبل ما جاء بالحق!! لكن أهواءهم وعقولهم أنكرت ذلك. (قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) يعني ما قاربوا أن يفعلوا، ولكن بالإلحاح والمساءلات فعلوا.(2/270)
ثم أخذوا جزءاً منها. فضربوا به القتيل فأحياه الله ثم قال: الذي قتلني فلان وانتهت المشكلة. المهم أن كثرة السؤال للأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ قد تسبب شدة الأمر على الأمة.
ومن ذلك ما وقع للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في قضية الأقرع بن حابس. الأقرع بن حابس من بني تميم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا) فرض الحج مرة، وحيث لم يطلب منا أن نكرر فيكفي مرة واحدة، فقال الأقرع: أفي كل عام يا رسول الله؟ فهذا السؤال في غير محله. قال: (لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من قبلكم: كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم) .
هذا أيضاً من التشديد، ففي عهد الني صلى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يسأل عن شيء مسكوت عنه، ولهذا قال: (دعوني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم) أما في عهدنا، وبعد انقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم فسأل، اسأل عن كل شيء تحتاج إليه؛ لأن الأمر مستقر الآن، وليس هناك زيادة ولا نقص، أما في عهد التشريع فيمكن أن يزاد ويمكن أن ينقص، وبعض العوام يفهم من قوله تعالى: (لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (المائدة: من الآية101) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (دعوني ما تركتكم ... ) يفهم من ذلك فهماً خاطئاً فتجده يفعل الحرام، ويترك(2/271)
الواجب ولا يسأل، حتى إن بعضهم يقال له: هذا حرام، اسأل العلماء، فيقول لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم، وهذا لا يجوز.
فالواجب على الإنسان أن يتفقه في دين الله. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) .
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا نهيتكم عن شيءٍ فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم) فعمم في النهي وخص في الأمر.
أما في النهي فقال: (ما نهيتكم عن شيءٍ فاجتنبوه) . فأي شيء ينهانا عنه الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإننا نتجنبه، وذلك لأن المنهي عنه متروك، فالنهي أمر بالترك ليس فيه مشقة. كل إنسان يستطيع أن يترك وليس عليه مشقة ولا ضرر، فما نهانا عنه فإننا نتجنبه، إلا أن هذا مقيد بالضرورة، فإذا اضطر الإنسان إلى شيءٍ محرم، وكان لا يجد سواه، وتندفع به ضرورته، فإنه حلال لقول الله تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْه) (الأنعام: من الآية119) ، ولقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ... ) إلى قوله: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة: 3) .
فيكون قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عن شيءٍ فاجتنبوه) يكون مقيداً بحال الضرورة، يعني أنه وجدت ضرورة إلى شيءٍ محرم صار هذا(2/272)
المحرم حلالاً بشرطين:
الشرط الأول: أن لا تندفع ضرورته بسواه.
الشرط الثاني: أن يكون مزيلاً للضرورة. وبهذين القيدين نعرف أنه لا ضرورة إلى دواء محرم، يعني لو كان هناك ولكنه محرم، فإنه لا ضرورة إليه.
فلو قال قائل: أنا أريد أن أشرب دماً أستشفي به، كما يدعي بعض الناس أنه إذا شرب من دم الذئب شفي من بعد الأمراض، نقول: هذا لا يجوز.
أولاً: لأن الإنسان ربما يشفى بغير هذا المحرم؛ إما من الله، وإما بدعاء، وإما بقراءة، وإما بدواء آخر مباح
وثانياً: أنه ليس يقيناً أنه إذا تداوى بالدواء يشفى، فما أكثر الذين يتداوون ولا يشفون، بخلاف من كان جائعاً وليس عنده إلا ميتة، أو لحم خنزير، أو لحم حمار، فإنه يجوز أن يؤكل في هذه الحالة؛ لأننا نعلم أن ضرورته تندفع بذلك، بخلاف الدواء.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) . فهذا يوافق قول الله عز وجل: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن: من الآية16) ، يعني إذا أمرنا بأمر، فإننا نأتي منه ما استطعنا، وما لا نستطيعه يسقط عنا، مثلاً: أمرنا بأن نصلي الفرض قياماً، فإذا لم نستطع صلينا جلوساً، فإذا لم نستطع صلينا على جنب، كما قال صلى الله عليه وسلم لعمر بن حصين: (صل(2/273)
قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً ن فإن لم تستطع فعلى جنب) .
وتأمل قوله: (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) بخلاف النهي، لأن الأمر فعل وإيجاب، قد يكون شاقاً على النفس ولا يستطيع الإنسان أن يقوم به، فلهذا قيده بقوله: (فأتوا منه ما استطعتم) ، مع ذلك فإن هذا الأمر مقيد بقيد آخر، وهو ألا يوجد مانع يمنع، فإذا وجد مانع يمنع، فهذا يدخل في قوله: (فأتوا منه ما استطعتم) . ولهذا قال العلماء: لا واجب مع عجز، ولا محرم مع الضرورة. والشاهد من هذا الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) فإن هذا يدخل في المحافظة على السنة وآدابها.
وأما ما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو عفو، وهذا من رحمة الله. فالأشياء إما مأمور بها، أو منهي عنها، أو مسكوت عنها، فما سكت الله ورسوله فإنه عفو لا يلزمنا فعله ولا تركه، والله الموفق.
* * *
157ـ الثاني: عن أبي نجيح العرباض بن سارية ـ رضي الله عنه ـ قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال: (أوصيكم بتقوى الله. والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها(2/274)
بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة) رواه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
(النواجذ) بالذال المعجمة: الأنياب، وقيل الأضراس.
[الشَّرْحُ]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله في باب الأمور بالمحافظة على السنة وآدابها، عن العرباض بن سارية ـ رضي الله عنه ـ قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منا القلوب وذرفت منها العيون) وهذا من دأبه صلى الله عليه وسلم أنه كان يعظ الناس بالمواعظ أحياناً على وجهٍ راتب، كما في يوم الجمعة، خطب يوم الجمعة، وخطب العيدين. وأحياناً على وجهٍ عارض، إذا وجد سبب يقضي الموعظة، قام ـ عليه الصلاة والسلام ـ فوعظ الناس.
ومن ذلك موعظته صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الكسوف، فإنه خطب ووعظ موعظة عظيمة بليغة، من أحب أن يرجع إليها فعليه بكتاب زاد المعاد لابن القيم رحمه الله.
أما هنا فيقول: (وعظنا موعظة بليغة، وجلت منا القلوب، وذرفت منها العيون) . وجلت: يعني خافت. وذرفت العيون من البكاء، فأثرت فيهم تأثيراً بالغاً، حتى قالوا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا؛(2/275)
لأن المودع إذا أراد المغادرة، فإنه يعظ من خلفه بالمواعظ البليغة التي تكون ذكرى لهم فلا ينسونها، ولهذا تجد الإنسان إذا وعظ عند فراقه لسفر أو غيره، فإن الموعظة تمكث في قلب الموعوظ وتبقى، لهذا قالوا: كأنها موعظة مودع فأوصنا.
فقال صلى الله عليه وسلم: (أوصيكم بتقوى الله) وهذه الوصية التي أوصى بها الله ـ عز وجل ـ عباده، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) (النساء: من الآية131) ، والتقوى كلمة جامعة من أجمع الكلمات الشرعية، ومعناها: أن يتخذ الإنسان وقاية من عذاب الله، ولا يكون هذا إلا بفعل الأوامر واجتناب النواهي، ولا يكون فعل الأوامر واجتناب النواهي إلا بعلم الأوامر والنواهي. إذاَ فلابد من علم، ولابد من عمل، فإذا اجتمع للإنسان العلم والعمل، نال بذلك خشية الله، وحصلت له التقوى.
فتقوى الله إذن: أن يتخذ الإنسان وقاية من عذابه، بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، ولا وصول إلى ذلك إلا بالعلم. وليس المراد بالعلم أن يكون الإنسان بحراً في العلم، بل المراد به العلم بما يعين عليه من أوامر الله. والناس يختلفون في ذلك: فمثلاً من عنده مال يجب أن يعلم أحكام الزكاة، ومن قدر على الحج وجب عليه أن يعلم أحكام الحج، وغيرهم لا يجب عليهم، فعلوم الشريعة فرض كفاية إلا ما تعين على العبد فعله، فإن علمه يكون فرض عين.
قال صلى الله عليه وسلم: (والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي) . السمع(2/276)
والطاعة، يعني لولى الأمر (وإن تأمر عليكم عبد حبشي) ، سواء كانت إمرته عامة، كالرئيس الأعلى في الدولة، أو خاصة كأمير بلدة، أو أمير قبيلة وما أشبه ذلك. وقد أخطأ من ظن أن المراد بقوله: (وإن تأمر عليكم عبد حبشي) أن المراد بهم الأمراء الذين دون الولي الأعظم الذي يسميه الفقهاء الإمام الأعظم، لأن الإمارة في الشرع تشمل الإمارة العظمى، وهي الإمامة وما دونها؛ كإمارة البلدان، والمقاطعات والقبائل وما أشبه ذلك. ودليل هذا أن المسلمين منذ تولى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يسمون الخليفة (أمير المؤمنين) فيجعلونه أميراً. وهذا لا شك فيه، ثم يسمى أيضاً إماماً، لأنه السلطان الأعظم، ويسمى سلطاناً. لكن الذي عليه الصحابة أنهم يسمونه (أمير المؤمنين) .
وقوله: (وإن تأمر عليكم عبد حبشي) يعني حتى ولو لم يكن من العرب، لو كان من الحبشة، وتولى، وجعل الله له السلطة، فإن الواجب السمع والطاعة له، لأنه صار أميراً، ولو قلنا بعدم السمع والطاعة له، لأصبح الناس فوضى، كلٌ يعتدي على الآخر، وكلٌ يضيع حقوق الآخرين، وقوله: (والسمع والطاعة) هذا الإطلاق مقيد بما قيده به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إنما الطاعة في المعروف) ثلاث مرات، يعني فيما يقره الشرع، وأما ما ينكره الشرع، فلا طاعة لأحد فيه حتى لو كان الأب أو(2/277)
الأم أو الأمير العام أو الخاص، فإنه لا طاعة له.
فمثلاً لو أمر ولي الأمر بأن لا يصلي الجنود، قلنا: لا سمع ولا طاعة، لأن الصلاة فريضة، فرضها الله على العباد وعليك أنت أيضاً، أنت أول من يصلي، وأنت أول من تفرض عليه الصلاة، فلا سمع ولا طاعة.
ولو أمرهم بشيء محرم، كحلق اللحى مثلاً. قلنا: لا سمع ولا طاعة، نحن لا نطيعك، إنما نطيع النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: (اعفوا اللحى، وحفّوا الشوارب) .
وهكذا كل ما أمر به ولي الأمر، إذا كان معصية لله، فإنه لا سمع له ولا طاعة، يجب أن يعصى علناً ولا يهتم به، أن من عصى الله وأمر العباد بمعصية الله، فإنه لا حق له في السمع والطاعة. لكن يجب أن يطاع في غير هذا. يعني ليس معنى ذلك أنه إذا أمر بمعصية تسقط طاعته مطلقاً. لا. إنما تسقط طاعته في هذا الأمر المعين الذي هو معصية لله. أما ما سوى ذلك، فإنه تجب طاعته، وقد ظن بعض الناس أنه لا تجب طاعة ولي الأمر إلا فيما أمر الله به، وهذا خطأ، لأن ما أمر الله به فإنه يجب علينا أن ننفذه ونفعله، سواء أمرنا به ولي الأمر أم لا.
فالأحوال ثلاثة: إما أن يكون ما أمر به ولي الأمر مأموراً به شرعاً، كما لو أمر بالصلاة مع الجماعة مثلاً، فهذا يجب امتثاله لأمر الله ورسوله ولأمر(2/278)
ولي الأمر. وأما أن يأمر ولي الأمر بمعصية الله، من ترك واجب أو فعل محرم، فهنا لا طاعة له ولا سمع. وأما أن يأمر الناس بما ليس فيه أمر شرعي ولا معصية شرعية، فهذا تجب طاعته فيه، لأن الله قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء: 59) فطاعة ولي الأمر في غير معصية طاعة لله ولرسوله. والله الموفق.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فإنه من يعش منكم، فسيرى اختلافاً كثيراً) يعني أن من يعش منكم ويمد له في عمره، فسيرى اختلافاً كثيراً؛ اختلافاً كثيراً في الولاية، واختلافاً كثيراً في الرأي، واختلافاً كثيراً في العمل، واختلافاً كثيراً في حال الناس عموماً، وفي حال بعض الأفراد خصوصاً، وهذا الذي وقع؛ فإن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لم ينقرضوا حتى حصلت الفتن العظيمة في مقتل عثمان رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقبلها مقتل عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وغير ذلك من الفتن المعروفة في كتب التاريخ.
والذي يجب علينا ـ نحن إزاء هذه الفتن، أن نمسك عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم، وألا نخوض فيه، وألا نتكلم فيه؛ لأنه كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: هذه دماء طهر الله سيوفنا منها، فيجب أن نطهر ألسنتنا منها , وصدق رضي الله عنه، فما فائدتنا أن ننبش عما جرى بين علي بن أبي طالب وعائشة رضي الله عنهما، أو بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ـ من الحروب التي مضت وانقضت، ذكر هذه الحروب وتذكرها لا يفيدنا إلا ضلالاً؛ لأننا في هذه الحال نحقد على بعض(2/279)
الصحابة، ونغلو في بعض، كما فعلت الرافضة حين غلوا في آل البيت، فزعموا أنهم يوالون آل البيت، وبالله العظيم إن آل البيت لبرآء من غلوهم، وأول من تبرأ من غلوهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإن السبئية أتباع عبد الله بن سبأ، وهو أول من سن الرفض في هذه الأمة، وكان يهودياً، أظهر الإسلام ليفسد الإسلام، كما قال شيخ الإسلام أبن تيمية ـ رحمه الله ـ وهو العلم الذي قد سبر حال القوم وعرفها، قال: إن عبد الله بن سبأ يهودي دخل في الإسلام ليفسده، كما دخل بولس في دين النصارى ليفسده، هذا الرجل ـ أعني عبد الله بن سبأ ـ عليه من الله ما تولاه ـ تظاهر بأنه يحب آل البيت،
وبأنه يدافع عنهم، ويدافع عن علي بن أبي طالب، حتى أنه قام بين يدي علي بن أبي طالب يقول له: أنت الله حقاً، قاتله الله، لكن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أمر بالأخدود؛ يعني بالحفر فحفرت، ثم ملئت حطباً، ثم دعا بأتباع هذا الرجل ثم أوقد فيهم النار، أحرقهم بالنار؛ لأن ذنبهم عظيم والعياذ بالله، ويقال: إن عبد الله بن سبأ أفلت منه وهرب إلى مصر. والله أعلم.
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ حينما بلغه الخبر: إن علي بن أبي طالب أصاب في قتلهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) وهؤلاء بدلوا دينهم؛ ولكن لو كنت إياه لم أحرقهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تعذبوا بعذاب الله) فبلغ ذلك علي بن أبي طالب فقال: ما أسقط ابن أم الفضل(2/280)
على الهنات يعني: العيب، كأنه ـ رضي الله عنه ـ صوب ما قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهم.
إنني أقول: إن من مذهب أهل السنة والجماعة؛ أن نسكت عما شجر بين الصحابة، فلا نتكلم فيه، نعرض بقلوبنا وألسنتنا عما جرى بينهم، ونقول: كلهم مجتهدون، المصيب منهم له أجران، والمخطئ منهم له أجر واحد، تلك أمة قد خلت، لما ما كسبت، ولكم ما كسبتم، ولا تسألون عما كانوا يعملون، لو قرأ إنسان التاريخ حول هذه الأمور؛ لوجد العجب العجاب، وجد من ينتصر لبي أمية، ويقدح في علي بن أبي طالب وآل النبي، ووجد من يغلو في علي بن أبي طالب وآل النبي ويقدح قدحاً عظيماً في بني أمية؛ لأن التاريخ يخضع للسياسة.
لذا يجب علينا ـ نحن ـ فيما يتعلق بالتاريخ ألا نتعجل في الحكم، لأن التاريخ يكون فيه كذب، ويكون فيه هوى وتغيير للحقائق، ينشر غير ما يكون، ويحذف ما يكون، كل هذا تبعاً للسياسة، ولكن ـ على كل حال ـ ما جرى بين الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يجب علينا أن نكف عنه. كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، حتى لا يكون في قلوبنا غل على أحد منهم. نحبهم كلهم، ونسأل الله أن يميتنا على حبهم، نحبهم كلهم ونقول: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم ـ وهو الصادق المصدوق ـ: (وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) وهذا هو الذي وقع. ولكن هل هذه الجملة تنزل(2/281)
على كل زمان، بمعنى أن من عاش من الناس فسوف يرى التغير، أو أن هذا خاص بمن خاطبهم الرسول عليه الصلاة والسلام؟ . نقول: إنه ينطبق على كل زمن، فالذين عمروا منا يجدون الاختلاف العظيم بين أول حياتهم وآخر حياتهم، فمن عاش ومد له في العمر؛ رأى التغير العظيم في الناس، رأى التغير لأنه كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) قد وقع، وحصل خلاف بين الأمة في السياسة، وفي العقيدة، وفي الأفعال، والأحكام العملية، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم حث عند هذا الاختلاف على لزوم سنة واحدة فقال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ) .
فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا ـ عندما نرى هذا الاختلاف ـ أن نلزم سنته، فقال: (عليكم بسنتي) يعني ألزموها. وكلمة: عليكم، يقول علماء النحو: أنها جار ومجرور محول إلى فعل الأمر، يعني: ألزموا سنتي.
وسنته عليه الصلاة والسلام هي: طريقته التي يمشي عليها، عقيدة، وخلقاً، وعملاً، وعبادةً وغير ذلك، نلزم سنته، ونجعل التحاكم إليها، كما قال الله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء: 65) ، فسنة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ هي سبيل النجاة لمن أراد الله نجاته من الخلافات والبدع، وهي ـ ولله الحمد ـ موجودة في كتب أهل العلم الذين ألفوا في السنة، مثل الصحيحين للبخاري ومسلم، والسنن والمسانيد وغيرها مما ألفه أهل العلم وحفظوا به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(2/282)
وقوله: (وسنة الخلفاء الراشدين المهديين) . الخلفاء جمع خليفة: وهم الذين خلفوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمته علماً وعملاً ودعوة وسياسة، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدين الأربعة؛ أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم، وألحقنا بهم في جنات النعيم، هؤلاء الخلفاء الأربعة ومن بعدهم من خلفاء الأمة، الذين خلفوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمته، هم الذين أمرنا باتباع سنتهم، ولكن ليعلم أن سنة هؤلاء الخلفاء تأتي بعد سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فلو تعارضت سنة خليفة من الخلفاء مع سنة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الحكم لسنة محمد صلى الله عليه وسلم لا لغيرها؛ لأنها ـ أعني سنة الخلفاء -تابعة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
أقول هذا؛ لأنه قد جرى نقاش بين طالبين من طلبة العلم في صلاة التراويح، أحدهما يقول: السنة أن تكون ثلاثاً وعشرون ركعة. والثاني يقول: السنة أن تكون ثلاث عشرة ركعة، أو إحدى عشرة ركعة. فقال الأول للثاني: هذه سنة الخليفة عمر بن الخطاب أنها ثلاث وعشرون، يريد أن يعارض بهذا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال الآخر: سنة النبي صلى الله عليه وسلم مقدمة، هذا إن صح عن عمر أنها ثلاث وعشرون، ومع أن الذي صح عن عمر بأصح إسناد، رواه مالك في الموطأ أنه أمر تميماً الداري وأبي بن كعب أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة لا ثلاث وعشرون، هذا الذي صح عنه رضى الله عنه. على كل حال لا يمكن أن نعارض سنة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بسنة أحد من الناس، لا الخلفاء ولا غيرهم، وما خالف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم من أقوال الخلفاء، فإنه يعتذر عنه ولا يحتج به، ولا يجعل حجة على سنة(2/283)
الرسول صلى اله عليه وسلم.
المهم أن سنة الخلفاء الراشدين تأتي بعد سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر!! هذا وهما أبو بكر وعمر فكيف بمن عارض قول الرسول صلى الله عليه وسلم بقول من دون أبى بكر وعمر بمراحل.
يوجد بعض الناس إذا قيل له: هذه هي السنة، قال: لكن قال العالم الفلاني كذا وكذا، من المقلدين المتعصبين. أما من احتج بقول عالم وهو لا يدري عن السنة فهذا لا بأس به، لأن التقليد لمن لا يعلم بنفسه جائز ولا بأس به.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تمسكوا بها) أي تمسكوا بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، (عضوا عليها بالنواجذ) والنواجذ: أقصى الأضراس، وهو كناية عن شدة التمسك، فإذا تمسك الإنسان بيديه بالشيء وعض عليه بأقصى أسنانه، فإنه يكون ذلك أشد تمسكاً مما لو أمسكه بيد واحدة، أو بيدين بدون عض، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نمسك أشد التمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده عليه الصلاة والسلام.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أمر باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وحث علة التمسك بها، والعض عليها بالنواجذ، قال: (وإياكم ومحدثان الأمور) . يعني أحذركم من محدثات الأمور، أي من الأمور المحدثة، وهذه الإضافة من باب إضافة الصفة إلى موصوفها،(2/284)