تخصيص جزاء تنفيس الكربة بيوم القيامة
السؤال
لم خص الرسول صلى الله عليه وسلم جزاء تنفيس الكربة بيوم القيامة, أما في غيرها فإن الجزاء فيها يكون في الدنيا والآخرة؟
الجواب
الكرب يوم القيامة تكون شديدة عظيمة هائلة، فيكون ذلك في الدار الآخرة والناس أحوج ما يكونون إلى تنفيس الكرب الشديدة العظيمة، بخلاف الدنيا فإن مصائبها وما يحصل فيها من الثواب دون ذلك الشيء العظيم الذي جعل جزاؤه في الآخرة.(32/24)
معنى حديث: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)
السؤال
حديث: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)، هل المراد به في الدنيا أم في الآخرة؟
الجواب
في الدنيا والآخرة جميعاً، وهذا مشاهد ومعاين، فكم من أناس رفعهم الله بالقرآن! وجاء: (والقرآن حجة لك أو عليك) , ففي الآخرة الناس يتفاوتون: من كان القرآن حجة له فهو مرفوع، ومن كان حجة عليه فهو مخفوض وموضوع، وفي الدنيا كذلك الرفعة حاصلة وكذلك الوضع بسبب القرآن حاصلة وذلك إذا كان الإنسان ليس آتياً بما هو مطلوب منه بالنسبة للقرآن.
وقوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] الرفعة هنا في الدنيا والآخرة، وكما هو معلوم أن أهل العلم لهم منزلة ومكانة في النفوس، ولهم تميز على غيرهم.(32/25)
التفضيل بين قراءة القرآن من المصحف أو الحفظ
السؤال
أيهما أفضل قراءة القرآن من المصحف أم من الحفظ؟
الجواب
قراءة القرآن من المصحف لا شك أن فيها التركيز وعدم فوات شيء، لكن الإنسان يمكن أن يعمل هذا وهذا، فيمكن للإنسان أن يقرأ من المصحف حتى يتحقق، ومن يقرأ القرآن من حفظه قد يفوته شيء، ولكنه إذا قرأ من المصحف تذكر ذلك الشيء الذي قد يفوته في حال الحفظ، وكون الإنسان يقرأ في هذا وفي هذا أحسن، ولا شك أن قراءته مع النظر تجعل الإنسان يتأمل في المعاني؛ لأنه لا يكون مشتغلاً بالحفظ لئلا يسقط منه شيء، فالقرآن أمامه يستطيع أن يقرأه بكل سهولة ولا يلتبس عليه، ويتوقف ويتأمل.(32/26)
نوع الطريق في قوله: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً)
السؤال
قوله: (من سلك طريق يلتمس فيه علماً) , هل الطريق هنا حسي؟
الجواب
حسي ومعنوي، والمعنى هو أن الإنسان يشتغل بالعلم وبالقراءة، ويأخذ بالوسائل الممكنة بدون أن يسافر, وابن رجب ذكر القسمين.(32/27)
معنى قوله: (وذكرهم الله فيمن عنده)
السؤال
نريد من فضيلة الشيخ أن يعيد شرح: (وذكرهم الله فيمن عنده)؟
الجواب
( ذكرهم الله فيمن عنده) يعني: أن من ذكر الله عز وجل في ملأ من الناس في الأرض فإن الله عز وجل يذكر الذاكر في ملأ من الملائكة عند الله عز وجل.(32/28)
ستر المسلم مع نصيحته
السؤال
قول صلى الله عليه وسلم: (من ستر مسلماً) هل يعني ذلك عدم نصيحته؟
الجواب
لا, ولكن ينصحه ويستره.(32/29)
تفسير قوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى مسيرة)
السؤال
في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:280] هل الصدقة هنا تشمل الزكاة؟
الجواب
لا، هذه الآية تتعلق بالمعسر، فأمر الله بإمهاله, وأرشد إلى أن هناك شيئاً أفضل من الإمهال وهو الإسقاط بالتصديق عليه بإبراء ما في ذمته.(32/30)
طلب العلم عند المبتدعة
السؤال
هل الطالب الذي يطلب العلم عند أهل البدع يدخل فيما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث؟
الجواب
لكل امرئ ما نوى، فإذا كان الشيء الذي يدرسه ليس له علاقة بالعقيدة، ولا له علاقة بما يعود عليه بالمضرة، وإنما هو شيء يتعلق مثلاً باللغة، وما وجد غيره ممن يقوم بهذه المهمة، فهو إن شاء الله على خير؛ لأنه سيأخذ ما عنده من خير ويترك الشر الذي عنده، ودراسة اللغة ونحوها عند من يكون عنده علم بها من أهل البدع لا يصار إليه إلا للضرورة، وذلك إذا لم يجد من يقوم بذلك ممن يكون سليماً من البدع.(32/31)
أهمية النية في إعانة الآخرين
السؤال
قوله: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) , هل يشترط أن تحصل الإعانة بنية واحتساب أم لا يشترط؟
الجواب
لا شك أنه يشترط، لحديث: (إنما الأعمال بالنيات).(32/32)
حال حديث: (من جاء مسجدي ليتعلم أو يعلم فهو بمنزلة المجاهد
السؤال
حديث: (من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله) , هل هو صحيح؟
الجواب
نعم صحيح، ولا شك أن هذا الحديث يدل على هذا الفضل العظيم لمن يتعلم في المسجد النبوي.(32/33)
هل يشرع لرجال الحسبة الستر على العصاة؟
السؤال
هل يجوز الستر من رجال الهيئة للعصاة وهم في عملهم؟
الجواب
نعم، إذا وقع الإنسان في هفوة، وهو ممن يناسب الستر عليه؛ لكونه غير معروف بالمعصية، وإنما هذه سقطة حصلت منه؛ فيستر عليه.(32/34)
التنفيس عن غير المؤمن
السؤال
قوله: (ومن نفس عن مؤمن) هل يختص التنفيس بالمؤمن أم أن التقييد غير مراد, فقد ورد حديث البغي التي سقت الكلب فغفر لها؟
الجواب
تلك البغي كانت على دين، وفي كل كبد رطبة أجر، حتى الكافر، وهذا الحديث مقيد بالمسلمين، ولا شك أن من أحسن إلى غيره حتى من الكفار فإنه مأجور على ذلك إذا كان الأمر يقتضي ذلك.(32/35)
سماع أشرطة العلم
السؤال
هل سماع أشرطة العلم في السيارة أو في البيت يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً)؟
الجواب
لا شك أن سماعها من وسائل تحصيل العلم، وهو مأجور على ذلك، ولكل امرئ ما نوى.(32/36)
أخذ العلم عن المشايخ والقراءة من المؤلفات
السؤال
أيهما أحسن في تحصيل العلم: أخذه عن المشايخ أو القراءة في الكتب والمؤلفات؟
الجواب
أخذه عن المشايخ لا شك أولى, وكونه يقرأ في الكتب أيضاً مطلوب منه, ما يكون الأمر مقصوراً على الوقت الذي يكون فيه مع المشايخ, بل يكون على صلة وثيقة بالعلم؛ وذلك بتقليب الكتب والرجوع إليها, وينبغي للطالب أن يأخذ عن المشايخ؛ لأنهم هم الذين يقومون نطقه، ويقومون كلامه؛ لأنه قد ينطق بالشيء على غير حقيقته وعلى غير وضعه فينبه, والإنسان قد يقرأ من الكتاب ولكن يفهمه خطأً.(32/37)
تعليق على تصحيح الغماري لحديث: (جئتم من الجهاد الأصغر)
السؤال
قال ابن رجب: وقال إبراهيم بن أبي عبلة لقوم جاءوا من الغزو: قد جئتم من الجهاد الأصغر، فما فعلتم في الجهاد الأكبر؟ قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد القلب, يقول شعيب: ذكره المزي في تهذيب الكمال والذهبي في السير.
قال ابن رجب: ويروى هذا مرفوعاً من حديث جابر بإسناد ضعيف، ولفظه: (قدمت من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر, قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد لهواه).
يقول شعيب في الحاشية: رواه البيهقي في الزهد، والخطيب في تاريخه، وفي سنده ضعيف ومتهم، وضعفه البيهقي والعراقي، وقال الحافظ ابن حجر في تسديد القوس فيما نقله عنه العجلوني في كشف الخفاء: هو مشهور على الألسنة وهو من كلام إبراهيم بن أبي عبلة.
اهـ
الجواب
على كل حال، هذا الحديث من ناحية المعنى غير مستقيم، فالجهاد الأكبر لا شك أنه قتال الكفار، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ولكن لا شك أن جهاد النفس هو الذي يمكن من حصول الفائدة الكبيرة من الجهاد الأكبر؛ لأن الإنسان الذي لا يجاهد نفسه لا يستطيع أن يجاهد غيره.
مداخلة: الشيخ الألباني ذكر هذا الحديث في السلسلة الضعيفة (2465) من رواية الخطيب في التاريخ وأبي بكر الشافعي في الفوائد والبيهقي في الزهد وقال: منكر.
والحديث قال عنه الغماري في المداوي: والحديث له شواهد كثيرة يمكن جمعها في جزء مفرد، ولنا عزم على ذلك.
الشيخ: الغماري معروف أنه مخلط، وهو صاحب كتاب المداوي أحمد بن الصديق، وله المغير على شرح المناوي، ولعله أسوأ الغماريين, فله كتابات قبيحة لاسيما كتابه الذي يشيد فيه ببناء القبور، ويقول: إنه يستحب بناء القبور، وصنف رسالة بعنوان: إحياء المقبور من أدلة استحباب بناء المساجد والقباب على القبور، يعني: أنه ينبش عن كل ما هب ودب من أجل أن يستدل على استحباب هذا الذي جاءت الشريعة بتحريمه، وحذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في أواخر أيامه، بل في أواخر لحظاته صلى الله عليه وسلم! وله مؤلفات كثيرة، وله كتاب اسمه: توجيه الأنظار إلى توحيد العالم الإسلامي في الصوم والإفطار, وكان من أسوأ ما قاله في هذا الكتاب أنه أتى بقصة كريب وصيام أهل الشام قبل أهل الحجاز، وأن ابن عباس قال: لهم رؤيتهم ولنا رؤيتنا أو نحو هذا الكلام، فقال: ابن عباس لم يقل هذا إلا لأنه لا يعبأ برؤية معاوية ولا رؤية أهل الشام! يعني: رؤية معاوية وأهل الشام لا يلتفت إليها، ولا يعتبر بها.(32/38)
شرح الأربعين النووية [33]
من فعل سيئة جوزي عليها بسيئة واحدة دون زيادة، ومن هم بالسيئة وتركها لأجل الله تعالى كتبت له حسنة كاملة، ومن هم بالحسنة ولم يفعلها كتبت له حسنة كاملة، فإن عملها كتبها الله تعالى له عشر حسنات، وقد يضاعفها أضعافاً كثيرة، وما يزال العبد يتقرب إلى ربه بفعل القربات أداءً للفرائض واستكثاراً من النوافل لتتضاعف حسناته حتى يبلغ منزلة الولاية لله تبارك وتعالى، فيحظى بالحفظ والقرب والمحبة.(33/1)
شرح حديث ابن عباس (إن الله كتب الحسنات والسيئات)(33/2)
المراد بالكتابة في قوله: (كتب)
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم -فيما يرويه عن ربه- أن الله عز وجل قال: (إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة، وإن عملها كتبها الله له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة، وإن عملها كتبها الله له سيئة واحدة) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذه الحروف].
هذا الحديث -حديث عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما- فيه قوله: (إن الله كتب الحسنات والسيئات) وهذه الكتابة للحسنات والسيئات يحتمل أن تكون هي الكتابة القدرية، وأن الله تعالى كتب كل أعمال العباد وما يفعلونه في اللوح المحفوظ، فما يفعلونه من الخير والشر ومن الحسنات والسيئات كتبه الله في اللوح المحفوظ.
ويحتمل أن يكون المراد بالكتابة كتابة الملائكة الكتبة الذين يكتبون الحسنات والسيئات بأمر الله عز وجل.
ومما يدل على هذا ما جاء في بعض الأحاديث بهذا المعنى وفيه: (إذا هم بالسيئة فلم يعملها قال: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جرائي) ومعناه إذا أنه إذا هم بها ولم يعملها أنهم كتبوها حسنة، وإذا هم بالسيئة وعملها تكتب سيئة واحدة، قال: (وإن لم يعملها فاكتبوها حسنة، إنما تركها من جرائي) أي: إنما تركها من أجلي.
وهذا فيه أن الملائكة هم الذين يتولون الكتابة، وعلى كل فليس هناك تنافي بين الكتابتين، فإن الكل حاصل، فالكتابة في اللوح المحفوظ حاصلة لكل ما هو كائن، والملائكة يكتبون كل ما يصدر عن العبد من الخير والشر.
ثم إن الإجمال في قوله: (إن الله كتب الحسنات والسيئات) بينه في الكلام الذي بعده، وذلك بالتفصيل فيما يتعلق بالحسنة والتفصيل فيما يتعلق بالسيئة، فالتفصيل الذي في الحسنة هو قوله: (فإذا هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله حسنة كاملة، وإن هم بها وعملها كتبها الله عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة) فإذا هم بالحسنة ولم يعملها كتبها الله حسنة كاملة من أجل نيته ومن أجل قصده، وهذا من فضل الله عز وجل وكرمه وإحسانه إلى عباده، وإذا عملها كتبت عشرًا إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والله تعالى يضاعف لمن يشاء.(33/3)
ثواب طاعة الله وترك معصيته وفضل العمل
وصفت الحسنة التي تحصل لكون الإنسان هم بالحسنة ولم يعملها بأنها كاملة لئلا يتوهم نقصانها، وذلك لأنها كانت بمجرد هم وليس هناك عمل، فمن فضل الله عز وجل أنه جعل الثواب على ذلك حسنة كاملة.
وإذا عملها كتبت له عشراً إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وفي هذا بيان الفرق بين كون الإنسان ينوي ولا يعمل، وكونه ينوي ويعمل، فإن الأول لا مضاعفة فيه، والثاني فيه المضاعفة إلى عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف وإلى أضعاف كثيرة، وهذا واضح.
وأما الحديث الذي فيه: (نية المؤمن خير من عمله) فهو يخالف ما جاء من التفصيل في هذا الحديث الذي معنا، فهو حديث ضعيف كما ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح.
وعلى هذا فلا شك أن الإنسان الذي ينوي ويعمل أفضل من الإنسان الذي ينوي فقط؛ لأن الإنسان بمجرد نيته يحصل على حسنة كاملة إذا لم يعمل، وإذا عمل فإنه يحصل على عشرٍ، أو يضاعف الله عز وجل له إلى سبعمائة ضعف وإلى أضعاف كثيرة.
وقوله: (وإذا هم بالسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة) وهذا فيما إذا كان تركها من أجل الله، ووصفت بأنها كاملة -أيضاً- لبيان فضل الله عز وجل ولئلا يتوهم نقصانها؛ لأنها ما حصلت في مقابل عمل، وإنما حصلت في مقابل ترك، وهو كون الإنسان هم بمعصية وتركها، فالله تعالى يكتبها حسنة.
وإن عملها كتبت سيئة واحدة، ووصفت بواحدة من أجل بيان أن السيئات لا تزاد، وأن الإنسان لا يخاف أن تزاد سيئاته، بل الأجر يضاعف، وأما السيئات فإن السيئة بمثلها ولا تضاعف، كما قال الله عز وجل: {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112] لا يخاف هضماً أي: نقصاً من الحسنات، ولا ظلماً وذلك بالزيادة في السيئات، وإنما يحصل الفضل والجود والكرم بالثواب والجزاء على الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف كثيرة، وأما السيئة فإنما تكتب بمثلها، فمن هم بالسيئة وتركها من أجل الله يجد عليها أجراً واحداً من أجل أنه تركها لله، وإن عملها كتبت سيئة واحدة.(33/4)
حالات تارك المعاصي
ذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره عند قول الله عز وجل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160] أن من هم بالسيئة له ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يتركها من أجل الله، فهذا يثاب عليها بالحسنة كما جاء في هذا الحديث.
الثانية: أن يتركها ذهولاً وغفلة عنها لكونها ما جاءت على باله، فهذه ليست له ولا عليه.
الثالثة: وإذا هم بها ولم يفعلها من أجل العجز أو أي مانع آخر مع حرصه عليها ورغبته الشديدة في الوقوع فيها، فإن هذا يكسب إثماً ولا يجد أجراً وثواباً؛ لأن تركه للسيئة إنما كان للعجز مع تصميمه وحرصه عليها وفعله الأسباب التي توصل إليها، ولكنه لم يقدر ولم يتمكن، فهذا مأزور غير مأجور.(33/5)
شرح حديث (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)
قال الإمام النووي عليه رحمة الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم -فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى- أنه قال: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).
هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه، وقد شرحه الشوكاني في رسالة اسمها: (قطر الولي في شرح حديث الولي) وطبعت مع مقدمة بعنوان: (ولاية الله والطريق إليها).(33/6)
بيان الولي وخطورة معاداة أولياء الله تعالى
قوله: (من عادى لي ولياً) الولي هو المؤمن التقي، كما قال الله عز وجل: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] فقد بين سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين أن أولياء الله هم المؤمنون المتقون، أي الذين جمعوا بين الإيمان والتقوى، فولاية الله هي كون أن يكون الإنسان مؤمناً تقياً.
قوله: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) أي: أعلمته بأني محارب له.
وهذا يدل على خطورة معادة أولياء الله عز وجل، وأن أهلها وصفوا بهذا الوصف، وهو أنهم محاربون لله عز وجل، والله تعالى محارب لهم، فأعلمهم بأنه محارب لهم، فهذا يدلنا على قبح معاداة أولياء الله، وأن المطلوب هو موالاتهم ومحبتهم، وذلك في الله ومن أجل الله، والحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان، وأما معاداة أولياء الله فهي من أقبح الأمور ومن أسوأ الأشياء، وذلك لأن المطلوب في حقهم الولاية، وليس المعاداة.
وهو يدل على أن ذلك من الكبائر؛ لأن كونه يوصف بأنه محارب لله عز وجل وأن الله تعالى يحاربه يدل على منتهى قبحه ومنتهى سوئه.(33/7)
الطريق الموصلة إلى الولاية
قال: (وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته عليه).
بعد أن قال: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) بين بأي شيء تكون الولاية، والطرق التي توصل إلى الولاية، وأنها التقرب إلى الله عز وجل بفعل الأوامر، وكذلك الإتيان بالنوافل مع الفرائض؛ لأن ولاية الله عز وجل إنما هي بالإيمان والتقوى كما عرفنا، فلما قال: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) بين بعد ذلك من هم أولياء الله، أو الطريقة التي يتم بها الوصول إلى الله عز وجل، وهي فعل الفرائض، أي: أداء الواجبات وترك المحرمات، ثم بعد ذلك الإتيان بالنوافل مع الفرائض.
فالإتيان بالفرائض دون النوافل هو الاقتصاد، وأصحابه هم المقتصدون الذين ذكرهم الله عز وجل في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32] والمقتصد هو الذي يأتي بالفرائض، يأتي بما أوجب الله عز وجل عليه ويترك ما حرم الله عليه.
والسابق بالخيرات هو الذي يأتي بالفرائض ويأتي معها بالنوافل التي تقربه إلى الله عز وجل، والتي تزيد في إيمانه وفي درجته ورفعته عند الله سبحانه وتعالى.
فقوله: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) يدل على أن فعل الفرائض هو الأحب إلى الله عز وجل، وأن العبد ما تقرب إلى الله عز وجل بشيء أحب إليه تعالى مما افترض عليه، وذلك لأنه يكون أدى واجباً وترك أمراً محرماً، فلو فعل فإنه يؤجر، وإذا ترك الأوامر فإنه يأثم، وكذلك إذا فعل النواهي فإنه يأثم، وإذا تركها من أجل الله عز وجل فإنه يؤجر.
والحاصل أن الفرائض تؤدى بأداء ما فرض الله وترك ما حرم الله، وهذا هو أحب شيء إلى الله عز وجل فيما يتقرب به العبد إليه سبحانه وتعالى.
وفيه دليل على إثبات المحبة لله عز وجل، وعلى تفاوت الناس في محبة الله سبحانه وتعالى، وكذلك الأعمال متفاوتة في المحبة، فمنها ما هو أحب إلى الله، ومنها ما هو دونه، فإن الإتيان بالفرائض هو الأحب إلى الله، ومعنى ذلك أن الإتيان بالنوافل دون ذلك؛ لأنه قال: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) وذلك لأنه فعل أمراً واجباً وترك أمراً محرماً، وأما بالنسبة للنوافل فالإنسان إذا أتى بها أتى بالكمال، وإذا لم يأت بها فاته ذلك الكمال وفاته أجرها، لكن الأوامر والنواهي والتكاليف والفرائض هي التي يثاب على أمتثالها ويعاقب على مخالفتها.(33/8)
النوافل ومنزلتها عند الله تعالى
قال: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).
معنى هذا أن الإنسان يأتي بالفرائض، ثم يأتي بالنوافل ويستمر عليها ويداوم عليها؛ لأن قوله: (لا يزال) يدل على ذلك، فكونه يداوم على النوافل ويستمر عليها هو مما يكسب محبة الله عز وجل التي إذا حصلت له سدد في تصرفاته وفي أعماله، وذلك لأنه صار من السابقين إلى الخيرات بإذن الله؛ لأن المقتصد هو الذي يأتي بالفرائض فقط، والسابق بالخيرات هو الذي يأتي بالفرائض ويأتي معها بالنوافل ويستمر عليها ويداوم عليها، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل) وهذا المقصود به النوافل.
وأما الفرائض فإنه متعين على الإنسان أن يأتي بكل ما فرض الله عز وجل عليه، ولكن النوافل زائدة على الفرائض.
وقيل لها: (نافلة) لأنها زائدة على الفريضة، فكون الإنسان يأتي بها يكون ذلك زيادة في كماله وزيادة في فضله عند الله عز وجل وكون الله عز وجل يحبه؛ لأنه أتى بالفرائض وأتى بالنوافل، أتى بما هو واجب وأتى بما هو كمال ومستحب ومندوب، وجمع بين الأصل والفرع، بين الفرض والنفل، بين الواجب والمستحب.
وإذا ظفر الإنسان بمحبة الله عز وجل سدده الله عز وجل في تصرفاته وفي أفعاله، فلا يستعمل سمعه إلا في خير، ولا يستعمل بصره إلا في خير، ولا يستعمل يده إلا في خير، ولا يستعمل رجله إلا في المشي إلى خير، فيكون مسدداً في أعماله وفي تصرفاته وفي حركاته وسكناته؛ لأن هذه الحواس وهذه النعم التي أنعم الله تعالى بها على العبد في صحته وعافيته استعملها فيما يعود عليه بالخير، وامتنع وابتعد عن استعمالها فيما يعود عليه بالضر.(33/9)
شبهة الاستدلال للحلول ودفعها
وليس في هذا الحديث دليل على الحلول والاتحاد كما هو قول أهل الباطل الذي ابتلي به بعض الناس فقالوا: إن الله -تعالى عن قولهم- حال في المخلوقات! فإن الله عز وجل هو الأول الذي ليس قبله شيء، والمخلوقات خلقها الله عز وجل، وكانت عدماً فأوجدها، وكانت بعد أن لم تكن، ووجودها مباين لوجود الله عز وجل، فليس الخالق حالاً في المخلوقات، ولا المخلوقات حالة في الله سبحانه وتعالى.
ولهذا فإن الحديث فيه متقرب ومتقرَّب إليه، وفيه سائل ومسئول: (ولئن سألني لأعطينه)، وفيه مستعيذ ومستعاذ به: (ولئن استعاذني لأعيذنه).
وفرق بين الخالق والمخلوق، فلا يكون الخالق حالاً في المخلوق، ولا المخلوق حالاً في الخالق، بل الله عز وجل مباين للمخلوقات، فليس هناك حلول، وإنما المعنى هو أن الله تعالى يسدده في سمعه وبصره وبطشه ومشيه، فلا يستعمل هذه الوسائل وهذه النعم إلا فيما يعود عليه بالخير، وهذا نتيجة كون الإنسان يحصل محبة الله عز وجل بفعل الفرائض والإتيان بالنوافل مع ذلك، فيجلب بذلك محبة الله عز وجل له، وإذا أحبه سدده في سمعه وبصره وبطشه ومشيه وجميع تصرفاته، فتكون حركاته وتصرفاته لله، وذلك في طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(33/10)
الولاية واستجابة الله دعاء وليه
إن مع ما سبق يحصل الثواب، وتحصل الإجابة في دعائه إذا سأل الله عز وجل، قال: (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) ففي ذلك جمع بين الترغيب والترهيب، وبين تحصيل ما هو مطلوب والسلامة مما هو مرهوب، فتحصيل ما هو مطلوب مرغوب هو كونه يعطيه ما يسأل، وكذلك يستعيذ به مما هو مرهوب ومخوف فيعيذه الله عز وجل، ويكون بذلك قد حَصَّل الخير لأنه سأل الله تعالى فأعطاه، وسلم من الشر لأنه استعاذ بالله فأعاذه.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.(33/11)
الأسئلة(33/12)
حكم ترك المعصية خوفاً وحياءً من الناس
السؤال
إذا ترك العبد السيئة التي هم بها من غير خوف من الله تبارك وتعالى وإنما تركها خوفاً من الناس وحياءً منهم، فما حكمه؟
الجواب
هذا لا يحصل له أجر؛ لأن الله تبارك وتعالى هو الذي يجب أن يُخاف وأن يستحيا منه، ولا ينبغي للمسلم أن يكون الناس همه، وإنما يكون همه خوف الله سبحانه وتعالى.
والذي يجعل الناس همه ويخشى الناس ولا يخشى الله هو على خطر عظيم.
وقد يقال: هل في هذه الحالة يعاقب بتقديم خوف الناس على خوف الله؟ فأقول: الله تعالى أعلم، لكنه يكون بهذا الوصف قد عمل سوءاً واستحق العقوبة، والله تعالى أحق أن يخشى.(33/13)
جريمة معاداة الصحابة رضي الله تعالى عنهم
السؤال
في قوله (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) ألا يكون أعظم أولياء الله هم الصحابة، وعليه فمن عاداهم فإن الله قد آذنه بالحرب؟
الجواب
لا شك، وهذا هو الواقع، فهذه الأمة هي خير الأمم، وخير هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم والجهاد معه والذب عنه والدفاع عنه، وتلقي الكتاب والسنة عنه وإيصالهما إلى الناس، فهم خيار أولياء الله وسادات أولياء الله بعد النبيين والمرسلين، فرضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فهم سادات هذه الأمة، وهم خيارها، وهم أفاضلها، وهم الذين يلون الأنبياء والمرسلين؛ لأن خير البشر هم الرسل والأنبياء عليهم السلام، ويليهم أصحابهم وأتباعهم، ومعلوم أن خير أمم الرسل أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وخير أمة محمد عليه الصلاة والسلام هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يعاديهم إنما يعادي خيار أولياء الله الذين هم المقدمون على غيرهم بعد الأنبياء والمرسلين، ولا شك أن من حصل منه ذلك فإنه قد جنى على نفسه، وجلب أنواع الضرر وأنواع الشر إلى نفسه، وذلك ببغضه وبحقده وبِغِلِّه على خيار هذه الأمة والذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).(33/14)
المحبة وفعل المعاصي
السؤال
إذا كان الإنسان يسمع القول الفاحش ويبصر المحرمات ويرتكبها، فهل هذا معناه أن الله لم يحبه؛ إذ لو أحبه لسدده؟
الجواب
الإنسان الذي يسمع القول الفاحش وسائر ما حرم الله، وكذلك ينظر إلى ما حرم الله، ذلك إنسان لم يحصل له التسديد، وإنما حصل له أن ابتلي، وأن أقدم بنفسه وبمشيئته وإرادته إلى استعمال هذه النعم فيما حرم الله تعالى استعمالها فيه، وحصول هذه الأشياء منه لا يصل به إلى حد الكفر كما هو معلوم من مذهب أهل السنة والجماعة في أصحاب المعاصي بأنهم عندهم إيمان وعندهم نقص في الإيمان، فيوصف من ارتكب كبيرة أو فعل أمراً محرماً بأنه مؤمن ناقص الإيمان، فلا يعطونه الإيمان الكامل، ولا يسلبونه مطلق الإيمان، وإنما هو مؤمن ناقص الإيمان.
وذلك بخلاف الطرفين المقابلين للوسط، وهما طرفا التفريط والإفراط، طرف التفريط الذي فيه المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
وطرف الخوارج والمعتزلة الذين يخرجونه من الإيمان بارتكابه الكبيرة، ويحكم الخوارج بكفره، وهو في منزلة بين المنزلتين عند المعتزلة، مع اتفاقهم جميعاً على تخليده في النار، وأنه لا فرق بينه وبين الكفار في الخلود؛ لأنه إما محكوم بكفره -كما هو عند الخوارج- وإما خرج من الإيمان وإن لم يدخل في الكفر كما هو قول المعتزلة.(33/15)
ارتباط الولاية بسلامة الجوارح من الآثام
السؤال
من يريد أن يعرف ولايته لله عز وجل قوة أو ضعفاً أو عدماً فهل ضابط ذلك أن ينظر إلى جوارحه ومدى امتثالها لأوامر الله؟
الجواب
نعم، لا شك أن هذا من الوسائل التي بها يعرف كون الإنسان مستقيماً أو غير مستقيم؛ لأن هذه الجوارح جعلها الله عز وجل نعماً أنعم بها على الإنسان، فأعطاه السمع والبصر والأيدي التي يبطش بها والأرجل التي يمشي بها، فإذا استعملها فيما يعود عليه بالخير فهذه علامة الولاية، وإذا استعملها في غير ذلك، فهذا علامة عدم الولاية.(33/16)
معنى حرب الله جل جلاله لمعادي أوليائه
السؤال
ما معنى حرب الله عز وجل لمن عادى أولياءه؟
الجواب
معنى ذلك أن معادي أولياء الله محارب لله والله محاربه، ومعلوم أن من كان كذلك فقد باء بكل شر ورجع بكل بلاء؛ لأن محاربة الله عز وجل لا طاقة للعبد بها.
ومن المحاربين لله تعالى أكلة الربا، والله تعالى محارب لهم، ومعنى ذلك أنه ليس لهم ولاية، وإنما هناك الحرب التي تكون بينهم وبين الله، فيكفي ذلك في بيان منتهى سوئهم وخبثهم، ولهذا فإن مثل هذا التعبير ومثل هذا اللفظ يدل على أن معاداة أولياء الله عز وجل من الكبائر، وأن أمرها خطير وليس بالأمر الهين.(33/17)
دلالة ترك ذكر المنهيات في حديث الولاية
السؤال
في حديث الولاية لم يُذكر ترك المنهيات، وإنما ذُكر أداء الواجبات والنوافل، فهل يفهم منه أن فعل الواجبات أعظم من ترك المنهيات؟
الجواب
معلوم أن ما افترض الله عز وجل هو أوامر ونواهٍ، والأوامر مطلوب الإتيان بها، والنواهي مطلوب تركها، فليس أداء الفرائض مقصوراً على العبادات الفعلية، بل يدخل فيه ترك المحرمات.
أما القول بأن ترك الواجب أعظم من فعل الأمر المحرم، فنقول: كل منهما سيئ، ولكن ترك الواجب أعظم من فعل المحرم، وإنما طرد إبليس اللعين وأبعد لأنه ترك الواجب الذي أوجبه الله عز وجل عليه، وهو السجود لآدم عليه السلام.(33/18)
سبيل معرفة ولي الله والبعد عن أذاه
السؤال
الولاية لا سبيل إلى الجزم بها لأحد معين، فكيف السبيل إلى البعد عن معاداة الأولياء، نرجو إيضاح الناحية العملية المطلوبة في هذا الحديث؟
الجواب
معلوم أنه لا أحد يجزم له بأنه من أهل الجنة، ولكن من عرف بالصلاح والتقى وبانطباق الإيمان والتقوى عليه فيما يظهر للناس، فهذا هو السبيل الذي يمكن أن يعرف ويميز به من يكون ولياً لله ممن يكون عدواً لله سبحانه وتعالى، نعم لا أحد يقطع بنهايته وأنه من أهل الجنة، ولكن الناس يرون ويشاهدون من هو من أهل الصلاح، ومن هو من أهل الفساد، ومن هو من أهل الاستقامة ومن هو من أهل الإعراض عن الله سبحانه وتعالى.(33/19)
حكم تخصيص الولاية وحصرها في أشخاص
السؤال
هل صحيح ما تقوله الصوفية من أن الولاية ومنزلة الولي لا تنبغي لكل أحد، بل هي لأناس مخصوصين؟
الجواب
كلا، فهذا احتكار للولاية حتى لا تحصل إلا لأناس يزعمون الولاية أو تُزعم لهم، ثم يعبدون من دون الله، أو تُعمل معهم أمور لا تليق إلا بالله سبحانه وتعالى.
وولاية الله عز وجل سهلة ميسورة، ليس فيها إلا كون الإنسان يقبل على طاعة الله ويبتعد عن محارم الله، وبذلك يكون من أولياء الله كما قال الله عز وجل: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63].(33/20)
دعوى الولاية لأصحاب الأضرحة وحمل نفي ضررهم ونفعهم على معاداتهم
السؤال
بعض الناس يرى أن الولاية هي لأصحاب الأضرحة والقباب، وأن من لا يعتقد أنهم ينفعون ويضرون فهو ممن عاداهم، فما صحة هذا الأمر؟
الجواب
هذا من البلاء، ومن مكائد الشيطان وتلاعبه بكثير من الناس، وهذه نتيجة لاحتكار الولاية وحصرها في أشخاص معينين، ثم بعد ذلك يتعلق بهم، وتصرف لهم الأمور التي لا تليق إلا بالله عز وجل والأشياء التي لا تطلب إلا من الله عز وجل، كأن يستغاث بهم، ويطلب منهم كشف الكروب، ورد الغائب، وما إلى ذلك من الأمور التي يحتاج إليها الناس، كل ذلك نتيجة لهذه المزاعم الباطلة ولهذه الظنون الكاذبة، وولاية الله عز وجل قد بينها الله عز وجل في كتابه فقال: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63].
والواجب هو الحذر من الافتتان بالقبور، وبناء المساجد عليها لا يجوز، وكذلك دفن الموتى في المساجد غير جائز، وكل ذلك محرم، وهو من الأسباب التي توقع الناس في الشرك وتوقعهم في التعظيم للمخلوقين الذي يؤدي بهم إلى الشرك، والعياذ بالله.(33/21)
طلب الولاية بالاقتصار على باب من النوافل
السؤال
من اجتهد في باب من أبواب النوافل فهل يظفر بمحبة الله تعالى أم لا بد من أن يجتهد في جميع النوافل؟
الجواب
معلوم أن الفرائض هي الأساس، وكونه يتقرب إلى الله عز وجل بالنوافل المختلفة لا شك أن هذا أكمل، أعني كونه يأتي بنوافل الصلاة، ونوافل الصدقة، ونوافل الصيام، ونوافل الحج، وسائر النوافل في وجوه الخير، فلا شك أن هذا هو الكمال، والناس يتفاوتون في ذلك، ومحبة الله عز وجل تحصل بفعل الفرائض وأداء النوافل، ولكن على الإنسان أن يحرص على أن يكون له نصيب من جميع وجوه الخير، ولا يقصر نفسه على باب من أبواب الخير ثم يهمل الأبواب الأخرى، بل يحرص على أن يكون له نصيب من هذه الأبواب.(33/22)
محبة الله وعلامتها
السؤال
هل حديث الولاية يدل على أن الله تعالى لا يحب إلا من أحبه؛ لأنه لا يتقرب إليه بالنوافل إلا من أحبه؟
الجواب
هناك محبة صحيحة مبنية على الاتباع، وهناك دعاوى للمحبة، والدعاوى ليس لها قيمة، وإنما العبرة بالاتباع الذي يكون مع ادعاء المحبة.
فكون الإنسان يحب الله بالادعاء لا قيمة لادعائه، ولكن إذا أقيمت البينة على هذه الدعوة -وهي الاتباع للرسول صلى الله عليه وسلم- فذلك الذي تحصل به محبة الله، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] فليس فما هو اتباع محبة مدعاة دون أن يكون لها حقيقة، حيث تكون الدعوى موجودة والمخالفة موجودة، فيدعي المحبة ويأتي بشيء يخالف مقتضاها، وذلك بفعل ما حرمه الله عز وجل وترك ما أوجبه الله سبحانه وتعالى.
فالمحبة الحقيقية التي تثمر محبة الله عز وجل هي المحبة التي تكون مبنية على الاتباع وعلى فعل المأمورات وترك المنهيات والتقرب إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحات.(33/23)
حكم زيادة (حتى أجعله عبداً ربانياً يقول كن فيكون) في حديث الولاية
السؤال
هل وردت في حديث الولي زيادة: (حتى أجعله عبداً ربانيا يقول كن فيكون)؟
الجواب
هذا كلام لا يستقيم، ولا يكون الإنسان بهذه المنزلة وبهذا الوصف حيث يقول للشيء: (كن) فيكون، هذا لا يحصل إلا لله سبحانه وتعالى، فهو الذي يقول للشيء كن فيكون، وأما المخلوق فإنه لا يقول للشيء: (كن) فيكون، وما جاء شيء في هذا أبداً.(33/24)
لفظ التردد الوارد في حديث الولاية
السؤال
جاء في آخر حديث الولاية من طريق آخر: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته) فهل يؤخذ من هذا إثبات صفة التردد، وما معنى هذا؟
الجواب
الحديث ورد، وهو بقية هذا الحديث في صحيح البخاري، والحديث أورده البخاري في (كتاب الرقائق) في (باب التواضع) فذكر الحديث وفي آخره هذه الجملة: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته) والمقصود من ذلك أن العبد يكره الموت، ويكره الشدة التي تكون عند الموت، والله عز وجل يكره مساءته، ولا بد له من الموت؛ لأنه ينتقل إلى خير؛ لأنه يلقى الله عز وجل فيجازيه على ما قدم من أعمال، فيكون في ذلك خير له، وإن كان حصول ذلك له بشيء يكرهه وهو الموت، فمعنى ذلك أنه يكون محبوباً من جهة ومبغوضاً من جهة، محبوب من جهة أنه يؤدي إلى ما هو خير، ومكروه من جهة أن العبد يكره ذلك، وهذا نظير الشيب الذي قال عنه القائل: الشيب كره وكره أن أفارقه فاعجب لشيء على البغضاء محبوب يقول: الشيب كره وأكره أن أفارقه؛ لأنَّه إذا نظر إلى ما قبله -وهو الشباب- صار الشيب غير مرغوب فيه، ولكن إذا نظر إلى ما بعده -وهو الموت- صار مرغوباً فيه، فيكون محبوباً باعتبار ومبغوضاً باعتبار.
فمن ذلك كون العبد يكره الموت والله تعالى يكره مساءته، فهو من هذا القبيل.
وأما قضية التردد بالمعنى الذي يدل على عدم العلم بما هي عليه الأمور مما يحصل من الناس فهذا لا يضاف إلى الله عز وجل؛ لأن الله تعالى عالم بكل شيء، وعالم ببواطن الأمور، وعالم بنهاية الأمور ولا يخفى عليه شيء، وإنما ذكر هذا من أجل بيان ما يحصل للعبد من كونه يكره الموت والله تعالى يكره مساءته.(33/25)
الولاية وكراهة الموت
السؤال
كيف يكون العبد ولياً لله وهو يكره الموت ولقاء الله عز وجل؟
الجواب
الله تعالى جبل الناس على عدم محبة الموت، وهذا لا ينافي ولاية الله عز وجل.
ثم إنه قد يكون طول البقاء مع الاستقامة خيراً للإنسان، وكون الإنسان يحب أن يعيش وهو على خير مداوم على العبادة فيه زيادة كمال وزيادة أعمال وزيادة قربات يتقرب بها إلى الله عز وجل، وإنما البقاء وطول العمر مع المعاصي هو الذي يكون ضاراً، ويعود على صاحبة بالضرر.(33/26)
الفرق بين الحلول ووحدة الوجود
السؤال
نرجو توضيح الفرق بين الحلول ووحدة الوجود؟
الجواب
كلها أمور قبيحة وأمور سيئة، وكلها مخالفة، والفروق الدقيقة بينها لا أستحضرها.(33/27)
درجات الولاية
السؤال
هل في حديث الولاية دلالة على أن الأولياء على درجتين: درجة من يفعل الفرائض، ودرجة من يفعل المستحبات؛ لقوله: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل)؟
الجواب
لا شك أن هذا كله داخل في ولاية الله تعالى، فالذي يأتي بالفرائض من أولياء الله، والذي يزيد عليها النوافل أعظم ولاية لله عز وجل وأمكن في هذا الوصف، وإلا فإن كل من كان مؤمناً تقياً هو من أولياء الله تعالى، إلا أن هذا مقتصد وهذا سابق بالخيرات، وهم متفاوتون.(33/28)
فرح العبد بعد تركه المعصية لمانع غير خوف الله
السؤال
من ترك سيئة لعجزه عنها أو لصارف صرفه، ثم بعد ذلك فرح لأنه قد منع منها فهل يؤجر على ذلك؟
الجواب
لا شك أنه يؤجر على ذلك، فإذا كان امتناعه في الأصل عجزاً، ولكنه بعد ذلك سر وفرح، فلا شك أنه يؤجر على هذا الفرح وعلى هذا السرور.(33/29)
حكم الحرص على عمل السيئة ثم تركها لعجز عنها
السؤال
هل يأثم المسلم إذا هم بالسيئة مع الحرص على عملها ثم عجز عنها؟
الجواب
أي نعم، يأثم.(33/30)
تجاوز الله تعالى عن الخواطر ومعناه
السؤال
ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها مالم تعمل أو تتكلم)؟
الجواب
المراد بذلك الخواطر التي تهجم وحديث النفس الذي يهجم على الإنسان، وأما شيء يخطر في ذهن الإنسان، ويتابعه ويفكر فيه وهو شغله الشاغل وهمه، ولا يبعده عن نفسه، وإنما يجلبه على نفسه، فهذا هو الذي يحصل له الضرر بسببه.(33/31)
معنى قول السلف: الويل لمن غلبت آحاده عشراته
السؤال
ما معنى قول بعض السلف: (الحسنة بعشرة والسيئة بواحدة، فالويل لمن غلبت آحاده على عشراته)؟
الجواب
هذا كلام ينسب إلى ابن مسعود ذكره الحافظ ابن رجب في شرحه لهذا الحديث، وقال: يعني أن الله عز وجل يضاعف الحسنات، والحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بواحدة.
وقال: إن كون الإنسان تغلب آحاده عشراته، فهذا يعني أنه مذموم؛ لأن معنى ذلك أن الأشياء المحرمة والأشياء التي تكون السيئة منها بمثلها تكون هي الأكثر، وتغلب على العشرات التي هي الحسنات؛ إذ الحسنة بعشر أمثالها، فلا شك أن هذا ذم ووصف سيئ، والأصل أن الإنسان يحرص على زيادة حسناته وأن تكون سيئاته متلاشية مضمحلة.(33/32)
دلالة قوله: (إن الله كتب) على إثبات صفة الكتابة
السؤال
في الحديث: (إن الله كتب الحسنات والسيئات) فهل فيه إثبات صفة الكتابة؟
الجواب
معلوم أن المقصود بذلك القدر، والله عز وجل كتب مقادير الخلائق، فحين خلق القلم قال: (اكتب.
فجرى بما هو كائن).
وأما نفس الكتابة فقد جاء أنه تعالى كتب التوراة بيده، وأما ما جاء في الحديث فالمراد به إما كتابة المقادير في اللوح المحفوظ، وذلك بالقلم الذي أمر، أو المراد به كتابة الملائكة الذين يكتبون الحسنات والسيئات.(33/33)
اشتراك الناوي والعامل في الأجر والوزر
السؤال
في الحديث: (إنما الدنيا لأربعة نفر) فقال في الثاني: (فهما في الأجر سواء) وقال في الرابع: (فهما في الوزر سواء) فنرجو التوضيح؟ الشيخ: هذا بالنسبة للأصل، وليس مع المضاعفة والتضعيف، وإنما هو باعتبار الأصل.(33/34)
معاداة ساب العلماء والطاعن فيهم لله تعالى
السؤال
هل من معاداة الله سب العلماء والطعن فيهم والتحذير من مجالسهم؟
الجواب
هذا من معاداة أولياء الله عز وجل، وكون الإنسان يسب العلماء ويحذر منهم وينال منهم هذا فيه صرف الناس عن الاستفادة من علمهم، وقطع الطريق الموصلة إلى النفع، ولاشك أن هذا من الأمور الخطيرة، والأمور الضارة لمن يبتلى بشيء من ذلك.(33/35)
مقالة لابن دقيق العيد في قوله: (كنت سمعه الذي يسمع به)
السؤال
قال ابن دقيق العيد: في قوله: (كنت سمعه الذي يسمع به) قال: إنه قد يغلب على عبد ذكر الله تعالى حتى يعرف بذلك، فإن خوطب بغيره لم يكد يسمع لمن يخاطبه حتى يتقرب إليه بذكر الله؟
الجواب
لا أدري ما معنى هذا الكلام! اللهم إلا إذا كان المراد به الإنسان المشغول بذكر الله، وذكر الله ليس قول (لا إله إلا الله) و (سبحان الله) و (الحمد لله)، بل هو كل عبادة الله عز وجل؛ لأنه كله ذكر لله عز وجل، فالصلاة من ذكر الله، وقراءة القرآن من ذكر الله، والتسبيح من ذكر الله، والتهليل من ذكر الله، فقد يكون معنى هذا أنه لا يسمع إلا ما هو خير، أو أنه لا يريد أن يسمع إلا ما هو خير، وأنه إذا خوطب بشيء غير ذلك لا يسمع ولا يريد أن يسمع، فلعل هذا هو المعنى.(33/36)
معنى قوله: (ولا يهلك على الله إلا هالك)
السؤال
زاد مسلم في حديث ابن عباس بشأن كتابة الحسنات والسيئات (ولا يهلك على الله إلا هالك) فما معنى هذه الزيادة؟
الجواب
معناها أنه مع هذا الفضل والإحسان وهذه الأبواب من الخير، لم يدخل في رحمة الله ولم يكن من أهلها، فحينئذ يكون هالكاً، والعياذ بالله.(33/37)
من يعرف الوليَّ
السؤال
سمعت من يقول: لا يعرف الولي إلا الولي.
فهل ورد في ذلك آثار منقولة؟
الجواب
لا أعلم هذا، والولاية -كما هو معلوم- واضحة جلية يعرفها المتقون وغير المتقين، فمن كان معروفاً بالصلاح والولاية يشهد له الناس، والناس يعرفونه، كالشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه، فإنه كان معروفاً بالعبادة والتقى والإيمان، ويعترف بذلك الصالحون وغيرهم.(33/38)
حكم الإشارة بالجوارح عند ذكر صفات الله تعالى
السؤال
هل تجوز الإشارة باليد عند قولنا: (إن الله كتب)؟
الجواب
ليس للإنسان أن يستعمل الإشارة عند ذكر هذا؛ لأن مثل ذلك يؤدي إلى كون الإنسان يشبه، أي أن ذلك يؤدي به ذلك إلى التشبيه، والإنسان ليس له أن يفعل ذلك إلا في حدود ما ورد، فالإنسان إذا أراد أن يحكي الذي قد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك فلا بأس، أما أن يأتي الإنسان فيستعمل في كل صفة شيئاً من أعضائه مشيراً بها إلى ذلك فهذا لا يجوز.(33/39)
مقالة في الفرق بين الاتحاد والحلول عند القائلين بهما من أهل الضلالة
السؤال
يذكر عن الشيخ ربيع في الفرق بين الاتحاد والحلول أن الاتحاد هو قولهم: إن الله اتحد بالمخلوقات، فكل ما تراه فهو الله.
أما الحلول فهو عندهم أن يحل في شخص معين، كعيسى مثلاً، تعالى الله عما يقولون.
الجواب
لا أعرف هذا، أعني كون الحلول في شخص معين، فأهل الحلول هم الذين قالوا: إن الله حال في المخلوقات.
أما كونه في شخص معين فلا علم به؛ لكني أقول: يرجع إلى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه قد بحث هذا، وسيعرف الفرق بين ذلك.(33/40)
حديث الولي وصحته
السؤال
حديث الولي هناك من أهل العلم من ضعفه، وعلل ذلك بوجود رواة في الإسناد متكلم فيهم، فما هو القول الصحيح؟
الجواب
الشوكاني لما ذكر هذا الحديث قال: ورجال إسناده قد جاوزوا القنطرة، وارتفع عنهم القيل والقال.
والحافظ ابن رجب ذكر أنه جاء من طرق أخرى ومن وجوه أخرى غير هذه الطريق، ووجوده في صحيح البخاري كاف في ثبوته.(33/41)
أفضل الفرائض وأفضل النوافل
السؤال
ما أفضل الفرائض، وأفضل النوافل؟
الجواب
أفضل الفرائض الصلاة، فهي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي الصلة الوثيقة بين العبد وربه، وتتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، وهي الحد الفاصل بين الإيمان والكفر، وهي آخر عروة في الإسلام تنقض في هذه الحياة الدنيا، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وهي من آخر ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي عمود الإسلام، وقد فرضت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في السماء، فكل ذلك يدلنا على فضل الصلاة وتقديمها على غيرها.
أما النوافل فهي متفاوتة، ففيما يتعلق بالصدقة جاء أن أفضلها ما كان عن ظهر غنى، وجاء في الصيام أن أفضله صيام داود، وجاء أن أفضل الصلاة بعد المفروضة قيام الليل، وجاء في وجوه العبادات ما يكون أفضل من غيره في العبادة نفسها.
ومعلوم -أيضاً- أن الشيء الذي يتعدى نفعه يكون أولى من الذي لا يتعدى نفعه، وكان قاصراً على الإنسان نفسه، ولهذا جاء في الحديث: (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب)؛ لأن العلم للإنسان ولغيره، وأما العبادة فهي للإنسان وحده وليست لغيره.(33/42)
استحضار النية لصلاة الفجر مع التفريط فيها
السؤال
ما قولكم في الرجل الذي ينوي أن يصلي الفجر في وقته وفي الجماعة، لكن لا يصليه إلا بعد شروق الشمس وهو يستطيع أن يصلي في الوقت مع الجماعة؟
الجواب
هذه نية ليس لها قيمة.(33/43)
رجال الصحيح ومدى قبول أحاديثهم
السؤال
عبارة الإمام الشوكاني في حديث الولي أن رجال إسناده قد جاوزوا القنطرة هل تؤخذ على إطلاقها، بحيث لو وجد أحد هؤلاء الرجال في إسناد آخر في الكتب الستة، يكتفى بكونه من رجال الصحيحين؟
الجواب
لا يقال هذا؛ لأن بعضهم انتقى له، الإمام البخاري انتقى له، فانتقى شيئاً من حديثه، فليس كل حديث شخص من رجال الصحيحين يكون سليماً، لكن لا شك أنه يقال: على شرط البخاري أو على شرط مسلم، أعني هذا الحديث إذا كان رجاله رجال الصحيح فإنه على شرطهما، لكن لا يقال: إن كل حديث عنهم يكون ثابتاً، إذ قد يكون هذا الذي حصل من صاحب الصحيح انتقاءً، وقد تكون هناك أحاديث منكرة أو منتقدة على الراوي، فـ البخاري روى الحديث الذي سلم من الانتقاد، ولهذا تجد الحافظ ابن حجر في مقدمة (فتح الباري) في الأشخاص الذين تكلم فيهم من رجال البخاري يذكر شيئاً من الاعتذار عن الإمام البخاري للإخراج عنهم، وأن ذلك لكون الراوي له متابع، أو لكونه كذا، في أوجه كثيرة ذكرها الحافظ ابن حجر عند كلامه على الأشخاص في التخريج للرواة.(33/44)
معيار مضاعفة الأجر إلى سبعمائة ضعف
السؤال
المضاعفة إلى سبعمائة ضعف هل هي لكل الناس ولكل عمل، أم أن هناك شروطاً توصل العمل إلى هذه الدرجات؟ وبأي اعتبار تضاعف الحسنة؟
الجواب
ليس ذلك في كل عمل، وليس لكل أحد، وإنما جاء ذلك فيما يتعلق بالصيام نفسه أن الله يضاعفه إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ولا شك أن الناس يتفاوتون فيما يقومون به من الأعمال، وفيما يقوم بقلوبهم من الإخلاص والصدق، وليس كلهم على حد سواء في هذا.
وأما بأي اعتبار تضاعف الحسنة فالجواب: تضاعف بفضل الله عز وجل وجوده وكرمه وإحسانه، ولا شك أن الصدق والإخلاص وكون الإنسان ظاهره وباطنه مع الله عز وجل لا شك أن هذا من أسباب حصول المضاعفة، ولكن الكل يرجع إلى فضل الله عز وجل وكرمه وإحسانه.(33/45)
كيفية معرفة الملائكة همّ العبد بالحسنة والسيئة
السؤال
ما هو السبيل الذي تعرف به الملائكة همَّ العبد بالسيئة أو همه بالحسنة؟
الجواب
الله تعالى يطلعهم على ذلك ويمكنهم من ذلك.(33/46)
مقدار حسنة تارك المعصية لله تعالى بعد الهم بها
السؤال
من هم بسيئة وتركها لله، هل تكتب له حسنة مضاعفة أو حسنة واحدة؟
الجواب
تكتب حسنة غير مضاعفة، لأنه قال: (كتبها الله له حسنة كاملة).
أي: حسنة واحدة، ولكنها كاملة، ولهذا فرَّق بين من عمل ومن لم يعمل، فالذي ترك حصَّل الحسنة، والذي فعل حصَّل عشراً.(33/47)
تعليق العبد فعل المعصية على حدوث شيءٍ وحكمه
السؤال
من نوى أنه إذا جاءه أمر معين يسيء، فإن لم يأته فلن يسيء، هل تكتب له سيئة بنيته؟
الجواب
إذا كان عازماً على الشيء ومشغولاً به تكتب عليه سيئة.(33/48)
الحسنات والسيئات في الأماكن المقدسة
السؤال
نود توضيح الكلام حول مضاعفة السيئات أو الحسنات في الحرمين؟
الجواب
لا شك أن السيئة في الأماكن المقدسة تختلف عنها في الأماكن الأخرى، ولكن هذا الاختلاف لا يرجع إلى العدد، وإنما يرجع إلى الكيف، بمعنى أن السيئة في الحرم ليست كالسيئة في مكان آخر، لكن لا يقال: إن السيئة بسيئتين، ولكنها تعظم بالكيف وليس بالكم، ولا شك أن الأعمال الصالحة في الحرم لها شأن، وما جاء فيه تنصيص كالصلاة فإنه يقال به على موجب ما ورد، حيث ورد أن الصلاة بألف صلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المسجد الحرام بمائة ألف، وفي المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة، وأما ما عدا ذلك فلا يقال فيه شيء بدون دليل، ولا شك أن الله يضاعف لمن يشاء، وفضل الله واسع، والمكان المقدس له فضله وله ميزته، لا من ناحية الحسنات ولا من ناحية خطورة السيئات فحسب، بل له فضله من جهات أخرى.(33/49)
شرح الأربعين النووية [34]
من رحمة الله بهذه الأمة أن تجاوز لها عن الخطأ والنسيان والإكراه، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين: أمة الدعوة وأمة الإجابة فأمة الإجابة هم الذين وفقهم الله عز وجل للدخول في هذا الدين، وعلى المؤمن أن يعلم أنه في هذه الدنيا كالغريب المسافر الذي يتحين الفرصة لكي يرجع إلى أهله، فلا يشتغل إلا بالأعمال الصالحة، ويكون هواه تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فيحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله.(34/1)
شرح حديث: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان)
الحديث التاسع والثلاثون من أحاديث الأربعين للإمام النووي رحمه الله: عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه) حديث حسن رواه ابن ماجة والبيهقي وغيرهما.
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان).
التجاوز: هو العفو.
قوله: (عن أمتي) أي: أمة الرسول صلى الله عليه وسلم أمتان: أمة دعوة، وأمة إجابة، وأمة الدعوة هم كل إنسي وجني من حين بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، هؤلاء هم أمة محمد عليه الصلاة والسلام الذين وجهت إليهم الدعوة، والذين يتحتم على كل منهم أن يدخل في الدين الحنيف الذي بعث الله به رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
وأمة الإجابة هم الذين وفقهم الله عز وجل للدخول في الدين الحنيف، وصاروا مسلمين.
والحديث مثال لأمة الإجابة، أما أمة الدعوة فمن أمثلتها ما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار) فقوله: (أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني) المراد بذلك أمة الدعوة، وهم الذين وجهت إليهم الدعوة كما قلت: كل إنسي وجني من حين بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الثقلين الجن والإنس صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
والخطأ: هو فعل الشيء من غير قصد، والنسيان: أن يفعل الإنسان فعلاً هو معلوم له، ولكنه فعله نسياناً، فمثلاً: يعلم الإنسان شيئاً، ولكنه يذهل عنه وينساه عند الفعل.
وأما الاستكراه: فهو الإلجاء إلى قول أو فعل.
والتجاوز الذي في الحديث إنما هو عن الإثم، يعني: كون الإنسان إذا أخطأ لا يأثم، وإذا نسي لا يأثم، وإذا فعل أشياء أكره عليها فإنه لا يأثم، فهذا هو الذي رفع في هذا الحديث، وأما الضمان في المتلفات فإن ذلك لا يسقط، مثل: القتل خطأ كما قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] فالدية لازمة، ولو كان ذلك خطأً، بل الدية إنما تكون في الخطأ.
فإذاً: الضمان متعين ولازم، وإنما الذي رفع عن المخطئ هو الإثم، وكذلك لو أتلف شيئاً من مال غيره ولو عن طريق الخطأ فإنه مضمون.
قوله: (وما استكرهوا عليه) يعني: ما أُلجئوا إليه سواء كان ذلك الذي ألجئوا إليه قولاً أو فعلاً، وسواء تعلق بقول أو فعل، إلا أن من الأشياء التي يلجأ إليها ما لا يجوز فعلها، وذلك كأن يلزم بأن يقتل إنساناً، فإنه لا يقتل ذلك الإنسان، ولا يستبقي حياته بقتل غيره، بل إذا ألزموه بأنه يقتل وإلا قتلوه فلا يقتل حتى ولو قتلوه، أما كونه يستبقي حياته بأن يقتل غيره، فإن ذلك لا يجوز، وهذا بإجماع العلماء.
وهناك مسائل خلافية منها: الزنا، هل إذا أُجبر عليه يفعل أو لا يفعل؟ فذكر النووي في الشرح أنه لا يفعل، وهي مسألة خلافية بين أهل العلم، ولكن ما يتعلق بالقتل، فهذا مجمع عليه ومتفق عليه بأنه لا يقتل غيره إذا ألزم وألجيء إلى ذلك؛ لأن في ذلك استبقاء لحياته بقتل غيره.(34/2)
شرح حديث: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)
الحديث الأربعون: عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك).
رواه البخاري.
قول عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي) هذا فيه فائدتان: الفائدة الأولى: كون النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بمنكبه وهو يحدثه هذا فيه تنبيه له، ولفت نظره إلى أن يستعد وأن يعي ما يلقى عليه في هذه الحال.
الفائدة الثانية: أن ابن عمر رضي الله عنه قد ضبط ما رواه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ضبط مع الحديث الحالة والهيئة التي كان عليها عندما حدثه الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث.
قوله: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) أي: مثل المسافر الغريب الذي ليس في بلده, والذي هو مهموم مشغول بإنهاء مهمته ليبادر بالرجوع إلى بلده.
وعابر السبيل: هو الذي يمر بالبلد وليس مقيماً فيها.
فكذلك شأن الإنسان في هذه الحياة الدنيا لا يتخذها وطناً، ولا يتخذها قراراً، ولا يتخذها سكناً، فإن مكثه فيها إنما هو زائل، والبقاء فيها مؤقت، والإنسان يستعد فيها ويشتغل فيها لآخرته، ويستعد فيها بالأعمال الصالحة التي تقربه إلى الله عز وجل زلفاً، فلا يتخذها داراً للقرار، وإنما هي دار ممر ومعبر، فيكون فيها بمثابة الغريب الذي يريد الرجوع إلى بلده في أقرب فرصة.
أو يكون كعابر السبيل الذي يمر بالبلد فيجتازه ماراً وليس مستقراً ولا مقيماً ولا باقياً في ذلك البلد، فيعلم أنه في هذه الحياة الدنيا إنما هو في دار الممر ودار المعبر، وهو في طريقة إلى الآخرة، وكل يوم يمضي على الإنسان يباعده من الحياة الدنيا ويقربه من الآخرة، ويدنيه من الأجل والنهاية التي سينتهي إليها، ويكون قد غادر هذه الحياة، وانتقل من دار العمل إلى دار الجزاء.
وفي حديث آخر: (ما مثلي ومثل الحياة الدنيا إلا كراكب نام تحت ظل شجرة، ثم قام وتركها) أي: أنه مر بشجرة وهو عابر سبيل، فاستراح ونام تحتها شيئاً يسيراً ثم قام وتركها، فذلك الظل الذي استظل فيه وهو مار ليس بدار قرار ولا محل استقرار، وإنما هو محل عبور ومحل انتقال، فهذا شأن الدنيا كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم إن أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم كانوا يبادرون إلى تنفيذ ما يوصي به الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا فإن ابن عمر رضي الله عنه بادر إلى القيام بوصية النبي عليه الصلاة والسلام في قوله (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) فكان يعتبر نفسه على هذا الوصف الذي أرشد إليه الرسول عليه الصلاة والسلام، بل ويوصي أيضاً غيره بأن يكون كذلك؛ ولهذا كان يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء) معناه: إذا أصبحت فلا تتوقع أو تطمع أو تؤمل أنك باقٍ إلى المساء، بل استعد للعمل في ذلك اليوم كأنك لا تدرك المساء، وكذلك إذا كنت في المساء فأنت تعمل في تلك الليلة كأنك لا تدرك الصباح، وذلك قصر الأمل في هذه الحياة الدنيا، وأن الإنسان لا يطمع فيها بالبقاء، ولا يغفل أو يسهو أو يلهو، بل عليه أن يكون مستعداً بالأعمال الصالحة، وفي أي وقت يأتيه الموت فإنه يأتيه وهو على حالة طيبة، وقد جاء في صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: (إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل).
فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بادر إلى تنفيذ ما أوصاه به النبي عليه الصلاة والسلام، صار ابن عمر يوصي غيره في أن يكون كذلك، وهذا يعني أنك تستعد للموت في أي لحظة من لحظاتك في الليل أو النهار، وتعمر أوقاتك بطاعة الله وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، حتى إذا فجأك الأجل فإنه يفجؤك وأنت على حالة طيبة.
وقد ذكر في ترجمة منصور بن زاذان وهو من رجال الكتب الستة، في تهذيب الكمال عن هشيم بن بشير الواسطي أنه قال: لو قيل لـ منصور بن زاذان: إن ملك الموت بالباب ما زاد في عمله شيئاً، أي: ما كان عنده شيء يزيده على ما كان يفعله من قبل؛ لأنه دائماً على استعداد للموت بالأعمال الصالحة.
ويقول أيضاً: (وخذ من صحتك لمرضك).
معناه: أنك تنتهز فرصة الصحة وتمام العافية فتغتنمها، وتستعمل تلك الصحة بالأعمال الصالحة قبل أن يأتي مرض أو كبر يمنعك من أن تأتي بما يقدر عليه الصحيح المعافى، فالإنسان يكون صحيحاً معافى يستطيع أن يعمل، ويستطيع أن يتقرب إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحة، فيأتيه وقت من الأوقات وهو لا يتمكن، كأن يصيبه مرض أو يصيبه هرم وكبر فلا يستطيع أن يعمل الأعمال التي كان يعملها في حال صحته.
قوله: (ومن حياتك لموتك)، معناه: أنك تعمر حياتك وعمرك ومدة بقائك في هذه الحياة في طاعة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، حتى تجد ذلك بعد موتك كما قال الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، والله تعالى يقول: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] فالإنسان عندما يريد أن يسافر فإنه يتهيأ للسفر بأخذ ما يحتاج إليه من الزاد والراحلة، وكذلك في السفر إلى الآخرة يكون زاده التقوى، فعليه أن يستعد بذلك الزاد بمغادرة هذه الحياة حتى يجد الثواب والجزاء على ذلك بعد الموت.
يقول ابن القيم في (الفوائد): ولذلك نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نبذ الدنيا وراء ظهره هو وأصحابه، واطرحوها ولم يألفوها، فهجروها ولم يميلوا إليها، وزهدوا فيها حقيقة الزهد، ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب، ولوصلوا بها إلى كل مرغوب، ولكن علموا أنها دار معبر وممر، لا دار مقام ومستقر.(34/3)
شرح حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)
الحديث الحادي والأربعون: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به).
قوله: (لا يؤمن أحدكم) أي: لا يؤمن الإيمان الواجب، فهذا نفي لكمال الإيمان الواجب.
قوله: (حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) أي: حتى يكون متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الله عز وجل، فهذا هو المؤمن حقاً، وهو الذي يكون هواه تابعاً لما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيعمل بالأعمال الصالحة التي يحبها الله، ويحب ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فتكون محابه تابعة لمحاب الله ورسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وأن يسير إلى الله عز وجل على هدى وعلى بصيرة.
قال الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] ويقول سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] فليس لأحد كلام مع كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وليس هناك لأحد خيار مع ما أمر الله به ورسوله عليه الصلاة والسلام، بل على المسلم أن يستسلم وينقاد لكل ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فيمتثل الأوامر، ويجتنب النواهي، ويصدق الأخبار، ويعبد الله وفقاً لما جاء به رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
إذاً: الحديث معناه ومؤداه هو الأمر بالاتباع، وأن الإنسان يكون متبعاً وسائراً على البيضاء التي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عليها، والتي لا يزيغ عنها إلا هالك كما جاء ذلك عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
والحديث قال فيه النووي: حديث صحيح رويناه في كتاب (الحجة) بإسناد صحيح، وكتاب الحجة هو كتاب (الحجة على تارك المحجة) لـ نصر المقدسي، وهو من كتب العقيدة على طريقة السلف، والحديث ضعفه الحافظ ابن رجب، وبيّن أسباب ضعفه، ولكن الحافظ ابن حجر في فتح الباري ذكر ما يدل على ثبوته، وذلك عندما ذكر عدة أقوال لبعض أهل العلم يذمون فيها الأخذ بالرأي، ثم قال: ويجمع ذلك كله قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) رواه الحارث بن أبي أسامة وغيره ورجاله ثقات، وصححه النووي في آخر الأربعين.
(فتح الباري: الجزء: (13)، صفحة: (289))، وذكر أن له شاهداً من حديث أبي هريرة.
ومعنى هذا الحديث مطابق لقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
قال الحافظ ابن رجب في شرح هذا الحديث: المعروف أن الهوى عند الإطلاق يراد به ما يكون مذموماً، وهو الذي فيه مخالفة الحق.
ثم ذكر بعد ذلك بعض الآيات في ذلك مثل قوله: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26]، وقال في سورة النازعات في آخرها: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41].
وقال أيضاً: ويطلق أيضاً على ما يحبه الإنسان ويميل إليه، ويشمل ذلك الميل إلى الحق وإلى الباطل.
ثم قال: ويطلق أيضاً على ما يكون حقاً.
ثم ذكر بعض الأدلة على ذلك، وقال: إن ما جاء في هذا الحديث هو من المحبة المحمودة، أي: الهوى الذي هو محمود وليس بمذموم.
فهذا هو الحديث الحادي والأربعون من الأربعين النووية، وهي أربعون، ولكن النووي زاد عليها حديثين: الحادي والأربعين والثاني والأربعين، فيكون ذكر الأربعين إنما هو للتغليب مع حذف الزيادة اليسيرة.(34/4)
الأسئلة(34/5)
معنى حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)
السؤال
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به) هناك أمور ثقيلة على النفس، ويفعلها الإنسان امتثالاً، مثل: أن بعض الناس يحب إطالة ثوبه، لكنه يقصره امتثالاً لأمر الله وأمر رسوله، وهناك أمور مكروهة للنفس كالوضوء في شدة البرد، ولكن يفعلها الإنسان امتثالاً، فكيف يكون الهوى تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحالة؟
الجواب
لا يجوز للإنسان أن يحب إطالة ثوبه؛ لأن ذلك محرم، فلا يجوز له أن يحب الشيء المحرم، وإنما عليه أن يأتي بالشيء المشروع الذي شرعه الله، وأما إطالته بحيث ينزل إلى الكعبين فإن هذا مما جاء في الأحاديث التحذير منه، وجاء النهي عن ذلك، فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار).
فالإنسان لا يجوز له أن يقع في قلبه محبة شيء حرمه الله عز وجل؛ لأن الإنسان يجب أن تكون محابه تابعة لما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فالشيء الذي يحبه الله ورسوله يحبه، والشيء الذي لا يحبه الله ورسوله لا يحبه هو، فتكون محابّه تابعة لما يحبه الله ورسوله، فيحب الله ورسوله، ويحب من يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما فيما يتعلق بكونه يتوضأ في شدة البرد، فهذا من الأمور الشاقة التي حُفّت بها الجنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حُفّت الجنة بالمكاره) يعني: أن الطريق إلى الجنة فيه تعب وفيه نَصَب، فيحتاج الإنسان أن يصبر، والصبر يكون على الطاعات ولو شقّت على النفوس، ويكون الصبر عن المعاصي ولو مالت إليها النفوس، والإنسان إذا صبر على الطاعات ولو شقت على النفوس ستكون العاقبة حميدة، وإذا صبر عن المعاصي ولو مالت إليها النفوس فكذلك تكون العاقبة حميدة؛ لأنه لو لم يصبر عن المعاصي فإن تلك لذة يستعجلها الإنسان، ويعقبها حسرة بعد ذلك.(34/6)
ضابط الإكراه وما يسوغ للمكره
السؤال
هل الإكراه سائغ على عمومه أم أن هناك من العلماء من لا يسوغ له قبول الإكراه كقصة الإمام أحمد في محنة خلق القرآن؟
الجواب
نعم، إذا استطاع الإنسان أن يصبر فيلزمه الصبر، وأما إذا كان لا يستطيع الصبر فعنده مندوحة ومجال لأنْ يتخلص، وأن يُبقي على نفسه، ويكون هذا بأن يفعل الشيء الذي أُكره عليه مع اطمئنان قلبه إلى كراهية ذلك، وأن ما جرى على لسانه أو على بدنه أو على جسده وجوارحه مما يخالف ما كان عليه قلبه، بحيث لا يكون منشرح الصدر مطمئن البال إلى ذلك الذي فعله، بل هو كاره له ومُلجأ إليه، ويعتبر نفسه مضطراً إلى ذلك.(34/7)
من صبر على الإكراه أقوى إيماناً ممن استسلم
السؤال
هل قبول الإكراه دليل على ضعف الإيمان؟
الجواب
لا ينبغي أن يقال هذا، لكن لا شك أن الذي يصبر أقوى.(34/8)
حكم من أُكره على الزنا
السؤال
إذا أُكره الإنسان على فعل محرم كالزنا مثلاً: فهل يرتكبه؟
الجواب
الأرجح أنه لا يفعل بالزنا، وفي ذلك خلاف ذكره الحافظ ابن رجب.
وفي تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28] قال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان (7/ 589): والتحقيق الذي لا شك فيه أن هذه الآية عامة في كل ما يتناوله لفظها، وأن كل ما فيها من الوعيد عام لمن أطاع من كره ما أنزل الله.(34/9)
حكم من أكره على قتل كافر
السؤال
جاء الإجماع أنه لا يجوز قتل الإنسان المكره غيره من المسلمين بإبقاء نفسه فإذا أكره على قتل كافر فهل هذا جائز؟
الجواب
إذا كان الكافر معاهداً فحكمه أنه يعامَل معاملة المسلم؛ لأن نفسه معصومة كالمسلم.(34/10)
من فضائل ابن عمر
السؤال
قوله: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي) ذكر بعض العلماء فائدة ثالثة وهي: فضيلة ابن عمر، فما صحة هذا القول؟
الجواب
فضيلة ابن عمر في كونه استسلم وانقاد لما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وبادر إلى ذلك.
وأما وضع الرسول صلى الله عليه وسلم يده على منكبه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يصافح أصحابه، ويضع يده بأيديهم، وكل أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لهم فضل ونُبْل، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ولكن الشيء الذي يدل على فضل عبد الله بن عمر كونه بادر إلى تنفيذ هذه الوصية؛ لأنه كان يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء) فنفذ الوصية، ثم هو يطلب من غيره أن ينفذها.(34/11)
حكم من أكره على قول كلمة الكفر
السؤال
قال القرطبي في تفسيره: قال العلماء: من أكره على كلمة الكفر فلا يجوز له أن ينطق بها إلا أن ينوي المعاريض، فهل هذا صحيح، وكيف يكون؟
الجواب
المعاريض: هي أن يقصد الإنسان بكلامه شيئاً، وغيره يفهم شيئاً آخر.
مثل: قصة أم سليم مع زوجها أبي طلحة، لما كان ابنه مريضاً، فمات، ولما جاء وسأل عنه، قالت زوجته أم سليم: إنه قد هدأت نفسه واستراح.
ففهم أنه خف منه المرض واستراح من شدته، وهي تقصد أنه قد مات، لكنها لا تريد أن توضح لزوجها ذلك، وأيضاً هي لم تكذب، فهذه هي المعاريض، وتسمى أيضاً: تورية، مثلما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة فإنه يورّي بغيرها، فكان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يتجه إلى جهة الجنوب، فإنه يسأل ويبحث عن الطرق المؤدية إلى جهة الشمال، فالذي يسمع أنه يبحث في جهة الشمال يظن أنه سيذهب شمالاً، مع أنه سيذهب جنوباً، وهذه تورية.
وكذلك ما يُذكر عن محمد بن نوح أنه عند فتنة القول بخلق القرآن لما أُلزم بأن يقول: إن القرآن مخلوق، ورّى فقال: أشهد أن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، هؤلاء مخلوقات.
ويحرك أصابعه الأربعة، ويقول: هؤلاء مخلوقات.
فهو يقصد شيئاً وغيره يفهم شيئاً آخر، فهذه تورية ومعاريض.
فإذا أكره الإنسان على قول الكفر أو قول الباطل وأمكنه التخلص من ذلك بالمعاريض، فهذا شيء طيب، ولكن إذا لم يكن لديه مجال للمعاريض، وأُكره على النطق باللفظ المعين الذي يطلبونه منه ويحددونه له، ولا مجال فيه للتعريض، فإنه يفعل ذلك مع بغضه له في قلبه، ويكون بهذا معذوراً كما قال الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106].(34/12)
حكم الحلف على التورية
السؤال
هل يجوز الحلف على التورية؟
الجواب
إذا كان هذا لدفع ظلم أو باطل، أو للتخلص من شر أحد، فله أن يورّي ويحلف على توريته.(34/13)
حدّ الإكراه
السؤال
ما هو حد الإكراه؟ وهل التهديد يكفي بأن يكون حداً للإكراه؟
الجواب
لا يكفي مجرد التهديد الذي يمكن أن يفلت منه، أو كان مجرد كلام ليس معه فعل الإكراه، لكن إذا هُدّد بالقتل أو شدة الضرب والعذاب حقيقةً، وأُحضرت الأشياء التي يراد إتلافه بها، ويقال له: إما فعلت كذا وإلا فعلنا بك كذا.
وأما مجرد أن يقال كلام لمعرفة هل عنده صبر أو ليس عنده صبر؟ فما كل ما يقال يمكن أن يتحقق، بل قد يقول الإنسان شيئاً وهو لا يريده، فمجرد كونه يقال له: قل كذا ويهدَّد دون أن يظهر له أنهم جازمون وصادقون فيما يقولون من التهديد، إلا إذا وجد شيء من ذلك سيقع حقيقة فهذا هو الإكراه.(34/14)
حكم من أتلف شيئاً في حال الإكراه
السؤال
هل على المكرَه ضمان إذا أتلف شيئاً؟
الجواب
نعم، عليه ضمان، وعلى من أكرهه أيضاً كذلك ضمان، فينقسم الضمان بين المتسبب والمباشر.(34/15)
حكم من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام خطأً أو نسياناً
السؤال
من نسي أو أخطأ فارتكب محظوراً من محظورات الإحرام فهل تلزمه الكفارة؟
الجواب
نعم، العلماء ذكروا أنها تلزمه الكفارة، كونه ترك واجباً من واجبات الإحرام، كأن يترك مثلاً: طواف الوداع أو نحوه، فعليه الكفارة، لقول ابن عباس: (من ترك نسكاً فعليه دم).
وأما من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام خطأً أو نسياناً، كالجماع الذي يفسد معه الحج، فهذا فيه خلاف بين أهل العلم على قولين: منهم من قال: إذا كان ناسياً لا يكون عليه شيء.
ومنهم من قال: بل يكون عليه شيء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه الرجل وأخبره بارتكاب المحظور، أمره بالكفارة دون أن يسأله عن كونه ناسياً أم لا، فدلّ هذا على أن الكفارة لازمة في كل حال.(34/16)
حكم من نسي التشهد الأول ولم يسجد للسهو
السؤال
إذا ترك واجباً من واجبات الصلاة، ناسياً، مثل: التشهد الأول، ومضى وقت عليه، فماذا يفعل؟
الجواب
هذا ترك واجباً يجبره سجود السهو، فإذا لم يأتِ به فإنه يعيد الصلاة؛ لأنه لم يأتِ بجبر الواجب؛ فإذا كان قد مضى عليه وقت وهو لم يسجد للسهو فإنه يعيد الصلاة.(34/17)
معنى (أو) في حديث: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)
السؤال
يقول البعض في (أو) عند قوله: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) أنها بمعنى: بل، فيكون معنى الحديث: كن في الدنيا كأنك غريب، بل عابر سبيل.
فهل هذا المعنى صحيح؟
الجواب
ليس هناك حاجة إليها؛ لأن (أو) للتنويع بين حالتين: حالة إنسان مقيم في بلد، وحالة إنسان مار في بلد، وهما شيئان وكل منهما ليس بمستقر، لا هذا ولا هذا، لكن لا شك الذي هو عابر السبيل أشد غُربة، فـ (أو) هي للتنويع، يعني: هذا أو هذا، والنتيجة واحدة، فكلهم غرباء.(34/18)
حكم من أُكره على ترك الصلاة
السؤال
هل يترك الصلاة من أكره على ذلك؟
الجواب
يمكن للإنسان المكره أن يصلي على حسب حاله، فيراه الناس جالساً، وهو يصلي وهم لا يدرون عنه، فلو أُكره على عدم الركوع والسجود فيمكنه أن يصلي وهو جالس أو واقف، ويأتي بأفعال الصلاة على حسب طاقته، مثل: الإنسان المربوط في سارية لا يستطيع أن يركع أو يسجد، فيصلي على حسب حاله.
فلهذا إذا أُكره فإنه لا يظن أنه لا يستطيع أن يصلي، بل يصلي على الوضع الذي يقدر عليه، دون أن يعلم الذين أكرهوه والله تعالى هو الذي يعلمه.(34/19)
درجة حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)
السؤال
حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، بناء على الشاهد الذي ذكره الحافظ ابن حجر من حديث أبي هريرة، والشواهد العامة التي ذكرها الحافظ ابن رجب، فهل يُجزم بصحة هذا الحديث؟
الجواب
الذي يبدو أنه يكون صحيحاً أو حسناً.(34/20)
حكم تقوية الحديث بظاهر القرآن
السؤال
هل من الممكن أن نأخذ قاعدة: الحديث يتقوى بظاهر القرآن؟
الجواب
القرآن هو الدليل، وأما الشيء الذي لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يضاف إليه، ولا يقال: إن هذا هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولكن من ناحية أخرى: أنه إذا كان المعنى موجوداً في القرآن، فالحكم مأخوذ من القرآن، والحديث الضعيف وجوده كالعدم.(34/21)
حكم قتل الكافر المحارب
السؤال
ذكرتم أنه لا يجوز قتل المعاهد لإبقاء النفس، فهل يجوز قتله إن لم يكن معاهداً، كأن يكون حربياً؟
الجواب
إذا كان حربياً يجوز قتله.(34/22)
التوفيق بين حديث: (الحلف على نية المستحلف) وبين جواز الحلف على التورية
السؤال
ذكرتم أن للمرء أن يورّي ويحلف على توريته، فكيف يوفق هذا مع حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك)، وفي رواية: (الحلف على نية المستحلف)؟
الجواب
نعم، هذا يكون في الأمور التي لابد منها، وأما أمور التي يمكن للإنسان أن يتخلص من الناس، كأن يُسأل سؤالاً ليس من حقه أن يُسأل عنه؛ لأنه ما كل طلب يُحقق، لكن من الناس من يكون فضولياً، فيسأل عن أشياء لا ينبغي أن يسأل عنها، فإذا تخلص الإنسان منه بتورية، فما في ذلك بأس.(34/23)
حكم من لم يحرم من ميقاته وأراد الإحرام من ميقات آخر
السؤال
من ترك الإحرام من الميقات ناسياً وهو مغادر من المدينة فهل له أن يؤخر الإحرام حتى يمر على ميقات أهل رابغ؟
الجواب
لا، ليس له ذلك؛ لأنه تجاوز ميقاته الذي يجب عليه أن يحرم منه، فكونه يذهب إلى ميقات آخر ليحرم منه، فليس له ذلك.(34/24)
حكم العلاج بترديد أسماء الله الحسنى
السؤال
هناك علاج انتشر، وهو: كيف تعالج نفسك بطاقة الشفاء الموجودة في أسماء الله الحسنى؟ فكل مرض تردد عليه اسماً من أسماء الله فيُشفى بإذن الله، مثل: مرض الأذن، قل: السميع السميع السميع، والعمود الفقري، قل: الجبار الجبار الجبار، العضلات، قل: القوي القوي، فما حكم هذا العمل؟
الجواب
هذا مجرد كون الإنسان يسمع هذه الحكاية فإنه يعرف الجواب، وهو أن هذا شيء مخترع محدث، وليس له أساس.(34/25)
معنى التردد في حديث: (وما ترددتُ في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن)
السؤال
ما معنى التردد في الحديث القدسي: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن)؟
الجواب
قد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (وما تردّدتُ في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته) ما معنى: (تردد الله)؟ فأجاب بقوله: المتردد منا وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه لا يعلم عاقبة الأمور، لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا، فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد، فيريد الفعل لما فيه من المصلحة، ويكرهه لما فيه من المفسدة، لا لجهله به، كالشيء الواحد الذي يُحَبُّ من وجه، ويُكرَه من وجه كما قيل: الشيب كُرْهٌ وكُرْهٌ أن أفارقه فاعجب لشيء على البغضاء محبوبُ وهذا مثل إرادة المريض للدواء الكريه، بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب، وفي الصحيح: (حُفّت الجنة بالمكاره، وحُفّت النار بالشهوات).
وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216]، ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في الحديث، فإنه قال: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوباً للحق محباً له، يتقرب إليه أولاً بالفرائض وهو يحبها، ثم يجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها، فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق، فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين، بقصد اتفاق الإرادة، وبحيث يحب ما يحب محبوبه ويكره ما يكره محبوبه.
والرب يكره أن يُساء عبده ومحبوبه، والله تعالى قد قضى بالموت، فكل ما قضى به فهو يريده ولا بد منه، فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه، وهو مع ذلك كاره للمساءة التي تحصل له بالموت، فصار الموت مراداً للحق من وجه، مكروهاً من وجه آخر، وهذا حقيقة التردد، وهو أن يكون الشيء الواحد مراداً من وجه مكروهاً من وجه آخر.
وإن كان لا بد من ترجيح أحد الجانبين كما ترجح إرادة الموت، لكن مع وجود كراهة الرب المساءة لعبده، وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره إساءته كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ولا يريده.
فالفرق بينهما أن المؤمن عندما يموت ينتقل إلى نعيم، والكافر ينتقل إلى جحيم، كما جاء في صحيح مسلم وهو أول حديث عنده في كتاب الزهد يقول: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر).
فهذا هو معنى كلام شيخ الإسلام الأخير هذا، لكن كون الله عز وجل يقال: من صفاته التردد، فلا أدري عن هذا.(34/26)
حكم ترك الجماعة بسبب قنوت الإمام في صلاة الفجر
السؤال
هل يجوز ترك صلاة الجماعة لأن الإمام في بلدنا يقنت في صلاة الصبح دائماً؟
الجواب
ليس للإنسان أن يترك صلاة الجماعة من أجل القنوت في الفجر، بل يصلي مع الناس ولو قنتوا، ولكن إذا أمكن أن يكون هناك مسجد آخر لا يقنت فيه الإمام -ولو كان أبعد من الأول- فهذا هو المناسب.(34/27)
حكم استماع الأناشيد الإسلامية كبديل عن الموسيقى في وليمة العرس
السؤال
رجل عاش في مجتمع لهم عادة في وليمة العرس أن يستمعوا الموسيقى، فأراد أن يغير هذا المنكر، فجاء بالأناشيد الإسلامية لمصلحة الدعوة، فهل هذا البديل سائغ؟
الجواب
لا، بل هناك بديل أحسن من هذا وهذا، وهو الكلام الذي فيه فائدة، والنفع ليس في الأصوات، ولا الاستماع للنغمات، وإنما يكون بالكلام المفيد الذي يحرك القلوب وينفع الناس.(34/28)
حكم السفر إلى بلاد الكفار لغرض التجارة
السؤال
ما هو التفصيل في السفر إلى بلاد الكفار؟ وهل يجوز السفر للتجارة إذا لم تكن التجارة متوفرة في بلاد إسلامية؟
الجواب
يجوز للإنسان أن يسافر إلى بلاد الكفار لغرض صحيح مع قيامه بما يجب عليه في دينه، وعدم تقصيره في شيء مما يجب عليه، وأما إذا كان لا يتمكن من أداء شعائر دينه، وأنه يمنع من ذلك، فإنه لا يسافر ولا يبقى في البلد الذي يكون كذلك.
وكونه يسافر لعلاج أو يسافر لتجارة أو يسافر لأي مصلحة شرعية مع تمكنه من قيامه بشعائر دينه فلا بأس بذلك.
والأولى ترك ذلك والحرص على عدم الذهاب إلى بلاد الكفار.
وأما الجواز: فهو جائز إذا تمكن من أداء شعائر دينه ولم يحصل له الإخلال بشيء من ذلك.(34/29)
حكم صيام من احتجم أثناء صيامه
السؤال
احتجمت وأنا صائم، فهل صيامي صحيح؟
الجواب
إذا احتجم وهو صائم فإنه يقضي ذلك اليوم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أفطر الحاجم والمحجوم).(34/30)
مسامحة من أخذ شيئاً للانتفاع به فأخلّ به أو أتلفه
السؤال
أعطيت سيارتي لأحد أصحابي، وردّها إلي بعد يومين، فوجدت أن السيارة قد خربت بسبب إعطائي له، فهل أسامحه على هذا الخطأ وأسكت، أم آخذ حقي منه؟
الجواب
لا شك أن مسامحتك أحسن.(34/31)
حكم صلاة الظهر قبل صلاة الجمعة
السؤال
الناس في بلادي لا يصلون يوم الجمعة الجمعة وحدها، بل يصلون الظهر أيضاً قبل صلاة الجمعة، فهل أصلي معهم؟
الجواب
لا، أبداً، هذا لا يجوز؛ فالله سبحانه وتعالى لم يفرض في اليوم والليلة إلا خمس صلوات، ولم يفرض ست صلوات في اليوم والليلة، وهذا من التنطّع والتكلّف، وليس هذا هو هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو القدوة والأسوة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هُمْ أحرص الناس على كل الخير، وأسبق الناس إلى كل خير، ومع ذلك لم يفعلوا هذا، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، لكنه شر سلموا منه وابتلي به من ابتلي من بعدهم.(34/32)
كيفية الخروج من الخلاف والأخذ بالقول الأحوط
السؤال
ما معنى القول: بأن الخروج من الخلاف أولى؟ ومتى يكون؟
الجواب
إذا كانت المسألة فيها خلاف وكان أحد القولين إذا أتى به الإنسان فإنه يكون قد أخذ بالاحتياط، فهذا هو المقصود بالخروج من الخلاف، يعني: الأخذ بالقول الأكثر احتياطاً، مثل ما ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في آداب المشي إلى الصلاة: أن الإنسان إذا جاء وأدرك الركوع فيكبر تكبيرتين تكبيرة الإحرام ثم تكبيرة الركوع، وبعض العلماء قال: تُجزئ تكبيرة الإحرام عن تكبيرة الركوع، قال: والأولى الإتيان بهما جميعاً؛ خروجاً من خلاف من أوجب التكبيرتين، فكون الإنسان يأتي بالتكبيرتين فهذا هو الاحتياط.(34/33)
حكم تطبيق قاعدة الأخذ بالأحوط في الذهب المحلّق
السؤال
هل يمكن تطبيق قاعدة: الأخذ بالأحوط في مسألة الذهب المحلّق للخروج من الخلاف؟
الجواب
لا؛ لأن هذا فيه مقابلة بين الأدلة، ثم أيضاً هذا تضييق على النساء، والنساء قد وسّع الله لهن في لبس الحلي، فيكون ما جاء في النهي عن ذلك شاذاً، ثم الخلاف نادر في هذه المسألة.(34/34)
حكم من رأى مخطئاً فأوصى صاحباً له بنصحه ولم يباشر نصحه بنفسه
السؤال
إذا وجدت أخاً أخطأ أمامي وأنا لا أعرفه، وصاحبي يعرفه، فقلت له: هذا فَعَل كذا فانصحه، فهل هذا الفعل مني صحيح أم لابد أن أنصحه أنا مباشرة؟
الجواب
لا شك أنك إذا نصحت المخطئ بنفسك، فهذا أفضل من أنك تأمر غيرك بالنصح.(34/35)
حكم الدراسة في الجامعات المختلطة
السؤال
كثير من الشباب الملتزم عندنا يقاطعون المدارس والجامعات المختلطة؛ بحجة حرمة الدراسة فيها، وآباؤهم يُكرهونهم على الدراسة أو الطرد من البيت، فما جوابكم على هذه المسألة؟
الجواب
إن الدراسة في الجامعات المختلطة إذا كان الإنسان يجد سبيلاً إلى الابتعاد عنها، فهذا هو المطلوب بالنسبة للرجال.
أما بالنسبة للنساء فلا يجوز لهن الدراسة في الجامعات المختلطة مطلقاً، سواء وجدن دراسة غيرها أم لا، فإذا وجد الرجال دراسة مستقلة عن النساء فيتعين عليهم ذلك، وإن لم يجدوا إلا هذه الدراسة وتركوها فإنها تفوتهم هذه المصلحة التي يحتاج إليهم الناس في المستقبل، فإن الرجال يمكنهم أن يدرسوا في الجامعات المختلطة، ولكن عليهم أن يبتعدوا عن النساء، ولا يخالطوهن ولا يتكلموا معهن، والرجل يمكن أن يبتعد عن المرأة، لكن المرأة لا تستطيع أن تبتعد عن الرجل.
والحاصل أن الدراسة في الجامعات المختلطة فيما يتعلق بالنساء لا يجوز لهن مطلقاً؛ لأن المرأة ولو ابتعدت عن الرجال فكثير منهم لا يبتعدون عنها، بل يلاحقونها ويضايقونها، ويحصل منهم أفعال سوء وقلة حياء.
فإذا كان الرجل لا يجد إلا الدراسة في هذه الجامعات وإلا فسوف يبقى بدون دراسة، ومعلوم أن التدريس في المدارس إنما يكون لأصحاب الشهادات، فإذا ترك الطيبون والمستقيمون هذه الدراسة، فمعنى ذلك أنه يصفو الجو للناس الذين فيهم خلل ونقص، ويكونون هم الذين يتولون التدريس فيما بعد.
فله أن يدرس، ولكن عليه أن يبتعد عن النساء، والرجل إذا ابتعد عن المرأة فإنه يسلم منها بإذن الله.(34/36)
شروط التكفير وموانعه
السؤال
أرجو من فضيلتكم أن تبينوا لنا شروط التكفير وموانعه؟
الجواب
التكفير ليس بالأمر الهين، ومن الأشياء التي أكره الكلام فيها مسألتان: مسألة الطلاق، ومسألة التكفير، فهي من المسائل التي أجد مشقة عند الكلام فيها، ولا أحرص على الكلام فيها.
ومعلوم أن التكفير إنما يرجع فيه إلى ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فتكفيرنا لا يكون إلا لمن كفّره الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، أو أجمع المسلمون عليه، فهذا هو الأساس للتكفير، فإذا وجد شيء من كتاب الله عز وجل أو سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو أجمع عليه أهل العلم، فهذا هو الأساس الذي يبنى عليه التكفير، وإذا كان بخلاف ذلك فيكون محل نظر.(34/37)
حكم الاجتماع للحديث العام في أبواب المساجد وممراتها بعد الصلوات
السؤال
نريد منكم نصيحة توجهونها لطلبة العلم، حيث يقع من بعضهم الوقوف في ممرات الحرم النبوي بعد صلاة العشاء، فيتضايق بعض الناس من تجمعاتهم؟
الجواب
الإنسان عليه ألا يعمل شيئاً فيه إضرار بالغير، كأن يكون عند الأبواب أو في الطرق المؤدية إلى الأبواب، فهذا التجمع فيه مضرة، والإنسان إذا كان ولابد له من ذلك فليكن في مكان ليس طريقاً وليس ممراً، فيعدل وينحرف عن الجهة التي فيها الطريق، هذا إذا لم يحصل منه إلا الكلام والفعل الطيب، وأما إذا كان الحديث في أمور الدنيا فلا يصلح أن يكون ذلك في المسجد، بل يفعل ذلك خارج المسجد.(34/38)
حكم مخالفة أنظمة المرور ودفع الغرامة من الربا
السؤال
قطعت الإشارة الحمراء بسيارتي، فهل يجوز أن أدفع الغرامة بمال ربوي لحكومة كافرة؟
الجواب
مرورك أو عبورك الإشارة وهي حمراء غلط، ولا يليق بالإنسان أن يكون كذلك، بل عليه أن يتحلى بالأخلاق والآداب الكريمة، والمسلمون عليهم أن يظهروا بمظهر الإسلام، وأن يكونوا قدوة في الأخلاق والآداب، ولا يظهر منهم أشياء يعابون بها ثم يعاب الإسلام بها وهو بريء من ذلك، فإن من المسلمين من يدعو إلى الإسلام بفعله كما يدعو إليه بقوله، ومنهم من يكون بخلاف ذلك، فتكون أفعاله وأقواله مخالفة لما جاء في الإسلام، وهذا يجعل أعداء الإسلام ينتقدون الإسلام مع المسلمين، ويحسبون أن هذه من أمور الإسلام مع أن الإسلام منها بريء.
فعلى المسلم أن يتقيد بأنظمة المرور، ولا ينبغي أن يحصل منه تجاوز لها، لاسيما وهذا يترتب عليه أخطار؛ لأن الإنسان إذا رأى الإشارة حمراء ثم عبر، ويأتي من في الشارع الآخر فيعبرون لأن إشاراتهم خضراء، فحينئذٍ يحصل التصادم وتحصل المضرّة، وهذا لا يليق بالمسلم أن يعرض نفسه ولا يعرض غيره للضرر، بل إن وقوفه وعدم إقدامه أمر مطلوب منه، سواء في بلاد المسلمين أو في بلاد الكفار.
وأما قضية دفع الغرامة من الربا فليس للإنسان أن يأخذ الربا ولا أن يتعامل به، حتى يحتاج بعد ذلك إلى أن يصرفه هنا أو هناك.(34/39)
حكم القول بأن التوحيد ينقص
السؤال
إذا كان الإيمان يزيد وينقص، فهل نقول: كذلك التوحيد يزيد وينقص؟
الجواب
إذا كان المقصود بالتوحيد كون الإنسان يشهد أن لا إله إلا الله مع ما يقوم في القلب، فإن الناس يتفاوتون فيما يقوم في القلب، ولا شك أن من يقولون كلمة الإخلاص هم متفاوتون في العلم بها والإيمان بها، فمن يجريها على لسانه دون العلم بها أو العمل بمقتضاها، يختلف عمن يقولها وهو عالم بمعناها مصدق بها وعامل بمقتضاها.
وكذلك أيضاً فيما يتعلق بتوحيد العبادة؛ فالناس يتفاوتون في ذلك، ففيهم المقصّر، وفيهم الذي يأتي بما هو مطلوب منه.(34/40)
حكم تخميس الفيء
السؤال
هل الفيء يُخمّس؟
الجواب
الفيء لا يُخمّس، بل يصرف في مصالح المسلمين، وإنما الذي يُخمّس هو الغنيمة، فيكون أربعة أخماس للغانمين، وخمس يصرف في مصارف الخير.(34/41)
حكم المداومة على رفع اليدين في مواطن الإجابة
السؤال
ما حكم المداومة على رفع اليدين في مواطن إجابة الدعاء مثل رفعها بين الأذان والإقامة؟
الجواب
لا نعلم شيئاً محدداً في هذا، بل جاء أن الدعاء مطلق، وليس فيه شيء يدل على رفع اليدين فيه، ولا جاء شيء يدل على المنع من رفعهما، والإنسان إذا رفع فلا بأس، وإن ترك لا بأس.
وكونه يداوم على رفع اليدين باعتبار أنها سنة، لا نعلم شيئاً يدل على هذا، وأما كونه يحرص على أن يرفع يديه؛ لأنه يرجو من الله أن يحقق رغبته، فلا نعلم شيئاًَ يمنع من هذا.(34/42)
شرح الأربعين النووية [35]
شرع الله عز وجل كامل شامل لجميع أمور الحياة؛ وذلك أنه جاء بكل ما يصلح الإنسان في دينه ودنياه، وفي معاملته مع ربه ومعاملته مع الخلق، ومن ذلك ما بينه الشرع الحنيف في كيفية قسمة الميراث بين ورثة الميت، وكذلك بيان المحرمية من النسب ومن الرضاعة، وكذلك بيان حرمة الخمر والميتة والخنزير والأصنام.(35/1)
شرح حديث: (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك)
الحديث الثاني والأربعون من الأحاديث الأربعين للإمام النووي رحمه الله: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم أتيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
هذا الحديث هو آخر كتاب النووي الأربعين، وكما هو واضح أن الكتاب ليس فيه أربعون حديثاً، بل هي اثنان وأربعون حديثاً، ولعله ذكر الأربعين تغليباً وحذف الكسر الذي هو بعد الأربعين، فقال عنه: الأربعون.
وهذا الحديث هو من الأحاديث القدسية التي يرويها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه.(35/2)
ذكر بعض أسباب المغفرة
هذا الحديث مشتمل على ثلاثة من أسباب المغفرة: السبب الأول: كون الإنسان يدعو الله ويرجو المغفرة.
والثاني: كونه يستغفر.
والثالث: كونه لا يشرك بالله شيئاً، يعني: يخلص لله في عمله، ويكون سالماً من الشرك.(35/3)
سعة رحمة الله عز وجل
قوله: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي)، يعني: أنك إذا دعوت الله عز وجل وألححت عليه في الدعاء وطلبت منه المغفرة ورجوت الله عز وجل ولم تيئس فإن الله تعالى يغفر لك ما كان منك من الذنوب جميعاً ولو تكررت ولو كثرت ولا يبالي، وهذا نظير قول الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
فإذاً: من أسباب المغفرة كون الإنسان يدعو الله ويرجوه أن يغفر له، فإذا فعل ذلك فإن الله تعالى يجيبه ويغفر له.
ومغفرة الذنوب هو سترها عن الخلق والتجاوز عنها بحيث لا يعاقب عليها، هذا هو مغفرتها؛ لأن الغفر هو الستر، ولهذا قيل للمغفر: مغفر لأنه يستر الرأس ويغطيه عن السهام.
فغفر الذنوب سترها عن الناس وعدم إظهارها وحصول ستر الله عز وجل للعبد فيها، وكونه يتجاوز عنها فلا يؤاخذ عليها ولا يعاقب عليها، فيكون كأنه لم يكن، ولكن هذا يكون مع التوبة إلى الله عز وجل، فالإنسان عليه أن يرجو ويدعو وهو تائب لا أن يكون مصراً على الذنب وهو مشغول بالذنب ومهموم بالذنب وشغله متعلق بالذنب وفكره متعلق بالذنب ثم يقول: اللهم اغفر لي، فإن هذا مما يكون على اللسان دون تواطؤ القلب عليه، وإنما يكون الاستغفار نافعاً إذا تواطأ القلب واللسان على ذلك، وكان بتوبة من الله سبحانه وتعالى.
قوله: (يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك)، يعني: هنا بين كثرة الذنوب وأنها تبلغ عنان السماء، ويحتمل أن يكون المراد بعنان السماء أنها تصل إلى السماء بكثرتها، أو يقال: إن المراد بالعنان هو السحاب، أي: أنها تبلغ إلى السحاب، أو مع العلم أن الإنسان إذا نظر فإن الذنوب يكون حجمها ومقدارها بالغاً هذا المبلغ، فإذا ما كثرت الذنوب وبلغت هذا المبلغ وعظمت هذا العظم وتاب الإنسان منها واستغفر الله عز وجل، فإن الله تعالى يغفر له ويتوب عليه.(35/4)
شروط التوبة
التوبة لابد فيها من شروط: الأول: أن يقلع الإنسان من الذنب، بمعنى: أن يترك الذنب الذي وقع فيه نهائياً ويتخلص منه ويبتعد عنه.
الثاني: أن يندم على ما مضى، بأن يندم على فعله الماضي وعلى ذنوبه التي وقع فيها.
الثالث: أن يعقد العزم في المستقبل على ألا يعود إلى ذلك.
هذا إذا كان الذنب في حق من حقوق الله وفيه كفارة عليه أن يأتي بالكفارة، وإن كان يتعلق بحقوق الآدميين.
فالشرط الرابع: أن عليه أن يعيد حقوقهم إليهم أو يطلب منهم الحل والمسامحة.(35/5)
خطر الشرك وفضل التوحيد
قوله: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم أتيتني لا تشرك بي شيئاً آتيتك بقرابها مغفرة)، وهذا فيه أن ترك الشرك والسلامة منه وإخلاص العمل لله عز وجل سبب من أسباب مغفرة الذنوب، فإن الشرك إذا لم يتب منه لا يغفر، كما قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فذنب الشرك لا يغفر، وصاحبه معاقب ومخلد في النار أبد الآباد، ولا يخرج منها بحال من الأحوال.
وأما ما كان من الذنوب دون الشرك فأمر صاحبها إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه وتجاوز ولم يعاقبه على ما حصل منه من الذنوب، وإن شاء عذبه، ولكنه إذا عذبه لا يخلده في النار ولا يعذبه عذاب الكفار، بل يبقى فيها المدة التي شاء الله تعالى أن يبقى فيها لمعاقبته على ما حصل منه من الكبائر، ولكنه بعد ذلك يخرج من النار ويدخل الجنة.
فإذاً: لا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار الذين هم أهلها ولا سبيل لهم إلى الخروج منها، وأما أهل الإيمان والتوحيد الذين لم يشركوا بالله شيئاً فإنهم وإن بقوا في النار ما بقوا وإن مكثوا في النار ما مكثوا فإن الله تعالى يخرجهم منها ويدخلهم الجنة، كما جاء في هذه الآية من سورة النساء: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فكل ذنب دون الشرك فهو تحت مشيئة الله عز وجل.
وكذلك جاءت الأحاديث المتواترة الكثيرة في إخراج أهل الكبائر من النار بشفاعة الشافعين وبعفو أرحم الراحمين؛ فإنها تدل على خروج من كان من أهل التوحيد من النار إن دخلها، وإذا شاء الله تعالى أن يعفو عنه فإنه لا يدخلها، ولهذا يقول الله عز وجل في هذا الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض) أي: ملئها أو ما يقارب ملأها.
(خطايا ثم أتيتني لا تشرك بي شيئاً) يعني: سليماً من الشرك؛ لأن وجود الشرك لا يغفر الله تعالى معه الذنوب، ولهذا فإن المشركين يؤاخذون على شركهم بالله وعلى أعمالهم الأخرى التي يأتون بها مع الشرك؛ والكفار يتفاوتون في الكفر ويتفاوتون في التعذيب في النار، ويتفاوتون في إيذاء المسلمين في هذه الحياة الدنيا، فمنهم من يكون مع كفره يؤذي المسلمين، ومنهم من يكون مع كفره يأتي بالأمور المنكرة والأمور القبيحة فيكون بذلك أسوأ ممن ليس عنده إلا مجرد الكفر، كما قال الله عز وجل: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88]، ولهذا كان أصحاب النار في النار دركات بعضهم أسفل من بعض، كما أن أهل الجنة في الجنة درجات بعضهم أعلى من بعض، فأهل الجنة يتفاوتون بالرفعة وأهل النار يتفاوتون بالسفل والنزول في النار، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145].(35/6)
زيادات ابن رجب على الأربعين النووية
لقد زاد الحافظ ابن رجب الحنبلي المتوفى سنة (795هـ) ثمانية أحاديث وأضافها إلى الأربعين النووية، وهي على نسقها وعلى طريقتها من جوامع الكلم؛ لأن أحاديث الإمام النووي الاثنين والأربعين هي من جوامع الكلم، فأضاف إليها ثمانية من جوامع الكلم فصارت خمسين حديثاً، وقد شرحها في كتابه العظيم (جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم).(35/7)
شرح حديث: (ألحقوا الفرائض بأهلها)
أول هذه الأحاديث: [عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر) خرجه البخاري ومسلم].
وهذا حديث عظيم وحديث جامع من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وهو أصل في باب الفرائض وقسمة المواريث.(35/8)
الفروض المقدرة في كتاب الله عز وجل وأوجهها
قوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها) أي: ألحقوا الفروض المقدرة في كتاب الله بأهلها، والفروض المقدرة في كتاب الله ستة هي: النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس، ويقال فيهما على سبيل الاختصار: الثلثان والنصف ونصفهما ونصف نصفهما؛ لأن النصف نصفه الربع، ونصف الربع الثمن، والثلثان نصفها الثلث، ونصف الثلث السدس.
ويمكن أن يعكس الأمر فيقال: السدس والثمن وضعفهما وضعف ضعفهما.
أو يؤتى في الوسط فيقال: الثلث والربع وضعف كل ونصفه، يعني: يؤتى إلى الوسط ويشار إلى ما تحته وإلى ما فوقه.
والثلث تحته السدس وفوقه الثلثان، والربع تحته الثمن، وفوقه النصف.
فيقال فيها هذه الأوجه الأربعة في بيان الاختصار بحيث يبدأ بأعلاها ثم ترتب ترتيباً تنازلياً، أو يبدأ بأسفلها وترتب ترتيباً تصاعدياً، أو يؤتى بوسطها ويضاف إليه نصف الاثنين وضعف الاثنين اللذين هما الثلث والربع.
فهذه هي الفروض المقدرة في كتاب الله عز وجل.(35/9)
كيفية قسمة التركة بين الورثة
تلحق الفرائض المقدرة بأهلها وكذلك ما ألحق بها من كون الأولاد إذا اجتمعوا ذكوراً وإناثاً فإن القسمة تكون بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، يعني: يرثون تعصيباً، وتوزع التركة بينهم على هذا الأساس، ومعلوم أن الذكر من الأولاد لا يفرض له وإنما يأخذ الباقي بعد الفروض، وكذلك إذا كان معه أخته أو أخواته فإنه يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا مما هو موجود في كتاب الله عز وجل، وليس مقصوراً على أصحاب الفروض المقدرة؛ لأن أولئك قدر لهم شيء على هذا الأساس، وهو أنهم يرثون تعصيباً ويكون للذكر مثل حظ الأنثيين ولا يختص الذكور بذلك، وإنما يختص الذكور بذلك فيما إذا بعدت القرابة، فإذا بعدت القرابة بحيث تكون الأنثى لا ترث مع أخيها ولا مع ابن عمها وإنما يختص الرجال بذلك كأبناء الإخوة الأشقاء لأب وكالأعمام وأبناء الأعمام والأعمام فإن الأمر يختص بالرجال دون النساء، ولهذا لا ترث العمة مع العم وإنما يرث العم وحده، وابن العم يرث دون بنت العم، وابن الأخ الشقيق يرث دون بنت الأخ الشقيق، وابن الأخ لأب يرث دون بنت الأخ لأب؛ لأن القسمة بين الذكور والإناث إنما جاءت في الفروع مطلقاً؛ حيث قال الله عز وجل: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11]، والأولاد هم البنون وأبناء البنين ذكوراً وإناثاً وإن نزلوا.
وكذلك بالنسبة للإخوة الأشقاء ولأب أنهم إذا اجتمعوا يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين.
وأما أبناء الإخوة إذا جاءوا ومعهم أخواتهم أو بنات أعماهم فإنهم يستقلون بالميراث عن أخواتهم وبنات أعمامهم؛ فلا يعصب ابن الأخ أخته ولا ابنة عمه، وإنما يستقل بالميراث؛ لأن البنات أو بنات الإخوة ليس لهن نصيب من الميراث لو انفردن، فكذلك لا يكون لهن نصيب من الميراث مع إخوانهن أو بني أعمامهن وإنما يختص به الرجال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر).
فإذاً: تكون القسمة بين الذكور والإناث إذا اجتمعوا خاصة بمن يرثن من الإناث لو انفردن، واللاتي يفرض لهن لو انفردن هن البنات وبنات الأبناء وإن نزلن والأخوات الشقيقات والأخوات لأب والأخوات لأم؛ فإن لهن ميراثاً مقدراً في كتاب الله ليس على سبيل التعصيب وإنما على سبيل الفرض، فأولاد الأم لكل واحد سدس، وإذا زادوا عن واحد سواء كانوا إناثاً خلصاً أو ذكوراً خلصاً أو ذكوراً وإناثاً فإن لهم الثلث يشتركون فيه ويتساوون فيه، لا يفرق بين الذكر والأنثى؛ لأن ميراثهم إنما كان بسبب قرابة الأم وليس عصبة.
والذين يرثون للذكر مثل حظ الأنثيين هم الذين يرثون عصبة ويكون الواحد من الذكور لو انفرد حاز المال كله، ولو كان معه أخته أو أخواته أو إخوانه فإنه يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، وهذه القسمة بهذه الطريقة تختص بالأبناء وأبناء الأبناء وإن نزلوا مع أخواتهم، وكذلك بالإخوة الأشقاء مع أخواتهم، والإخوة لأب مع أخواتهم.
ثم إنه جاء في السنة ما يستثنى من ذلك وهو أنه لو وجدت بنت ومعها أخت شقيقة وهناك أخ لأب فإن الشقيقة تأخذ الباقي تعصيباً مع الغير كما جاءت السنة في ذلك؛ وذلك لكونها أقرب، ولا يمكن أن يكونوا عصبة؛ لأن الأخ لأب لا يرث مع الأخت الشقيقة ميراثاً واحداً؛ لأن الميراث الواحد للإخوة الأشقاء مع الأخوات الشقيقات وللإخوة للأب مع الأخوات لأب.
أما إذا وجدت أخت شقيقة وكان هناك إخوة لأب فإن الميراث الذي يكون بعد النصف أو بعد الثلثين إذا كان هناك بنت أو بنات، تأخذه الأخت الشقيقة أو الأخوات الشقيقات إذا لم يكن معهن إخوانهن، فإن كان معهن إخوانهن فالباقي لهم ولهن للذكر مثل حظ الأنثيين، لكن إذا كانت الأخت الشقيقة موجودة ولا يوجد معها إخوة أشقاء ولكن وجد معها إخوة لأب فإن الأخت الشقيقة أولى من الإخوة لأب؛ لأنها أقرب إلى الميت منهم، وقد جاءت السنة بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيستثنى ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها).
ويمكن أن يقال: إذا كان المقصود بالفرائض ما جاء التنصيص عليه في الكتاب والسنة والمقصود به بيان من يرث سواء فرضاً أو تعصيباً فإن الأخت الشقيقة يكون لها فرض جاءت به السنة، ولكنه ليس بشيء ترثه على التقدير وإنما على ما بقي؛ لأنه إذا كان هناك بنت للميت أخذت النصف والشقيقة النصف الباقي، وإن كان له ابنتان أو بنت وبنت ابن فإن الشقيقة تأخذ الثلث الباقي، وعلى هذا ليس لها فرض مقدر في كتاب الله ولكن لها فرض بالتعصيب مثل ما جاء في الإخوة الأشقاء والإخوة لأب والأبناء وأبناء الأبناء مع أخواتهم فإنه يكون للذكر مثل حظ الأنثيين.
وفي هذه الصورة إما أن تكون مستثناة من الحديث فلا يعطى المال لأولى رجل ذكر، أو يقال: إن ميراثها جاءت به السنة، وجاء أنها وارثة مع البنت أو مع البنات، وعلى هذا لا يبقى للذكور شيء؛ لأن الإناث قد حزنه، وهذا هو التعصيب مع الغير؛ لأن التعصيب ينقسم إلى ثلاثة أقسام: تعصيب بالنفس، وتعصيب بالغير وتعصيب مع الغير.
والعاصب بالنفس: هو الذي إذا انفرد يحوز الميراث بأكمله، وإن كان وحده أخذ ما أبقت الفروض كالابن وابن الابن والأخ الشقيق والأخ لأب، وكذلك الأب والجد؛ فإن هؤلاء يحوزون المال إذا انفردوا، وإذا كان هناك أصحاب فروض أخذ أصحاب الفروض فروضهم وأخذوا ما أبقت الفروض.(35/10)
جهات قرب الورثة من الميت
قوله: (فلأولى رجل ذكر) أولى بمعنى أقرب، وهذا مأخوذ من قول: فلان يلي فلاناً، يعني: أنه بعده، ويليه مباشرة، وليس بمعنى أنه أحق رجل ذكر، وإنما هو أولى وأقرب رجل ذكر إلى الميت.
وعلى هذا فإذا ترك الميت أبناء إخوة أشقاء وأبناء إخوة لأب وأعمام وأبناء الأعمام فإن أقربهم الإخوة الأشقاء إذا كانوا موجودين فيحوزون الميراث ويستقلون به إذا كانوا منفردين، وإن كان معهم أصحاب فروض أخذوا ما أبقت الفروض، فيكون قوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر).
إذاً: فأقرب هؤلاء الأربعة الأصناف هم الإخوة الأشقاء؛ وقدموا على الإخوة لأب؛ لأن عندهم سببين: سبب القرابة من جهة الأم، وسبب القرابة من جهة الأب، فالجهة واحدة وهي جهة الإخوة.
وأما إذا وجد إخوة لأب وأعمام فإن الإخوة لأب أولى من الأعمام؛ لأن الأخ لأب يدلي إلى الميت بأبيه، وأما العم فيدلي إليه بجده، فمن كان متفرعاً عن الأب القريب فهو أولى من المتفرع عن الأب البعيد، وهكذا الأعمام أخوان الجد أو من فوقهم الذين هم إخوان أبي الجد وإن علاء، وكذلك أبناؤهم وإن نزلوا، فكل من يدلي إلى الميت بمن هو قريب منه هو الذي يحوز الميراث، ومن كان أبعد فإنه لا يحوزه سواء كان ذلك في جهة واحدة أو في جهتين، كالإخوة لأب مع الأعمام فإن هؤلاء في جهة وهؤلاء في جهة؛ لأن أبناء الإخوة يدلون بالإخوة وذلك لمشاركتهم الميت في أبيه، وأما الأعمام فيشاركون الميت في جده وليس في أبيه، فمن يدلي إلى الميت بالأب القريب أولى ممن يدلي إليه بالأب البعيد الذي هو فوق القريب.
وعلى هذا فقوله صلى الله عليه وسلم: (لأولى رجل ذكر) يعني: من كان قريباً إلى الميت، سواء كان ذلك القرب من جهة واحدة أو من جهتين، وهناك من يدلي إلى الميت بسببين كالأم والأب وهناك من يدلي بسبب واحد وهو الأب فقط، فإن الإخوة الأشقاء مقدمون على الإخوة لأب؛ لأن هؤلاء يدلون بالأم والأب وهؤلاء يدلون بالأب فقط، فكانوا أولى وأقرب إلى الميت من هؤلاء.
وهكذا إذا كان ذلك في جهتين كما قلنا بالنسبة للإخوة الأشقاء أو الإخوة لأب مع الأعمام الذين يدلون بقرابتهم إلى الميت في مشاركتهم في جده؛ لأن العم يشارك الميت في أب أبيه، وأما الأخ فيشاركه في أبيه، ومن يشارك في الأب أولى ممن يشارك في الجد.(35/11)
سبب ذكر تقييد الرجل بالذكر في الحديث
قوله: (لأولى رجل ذكر) معلوم أن الرجل هو الذكر والذكر هو الرجل، فلماذا جاء ذكر الذكر مع ذكر الرجل؟ علل العلماء بتعليلات متعددة، ولكن يبدو أن أقربها هو: أن الرجل عندما يذكر فإنه يتبادر الذهن إلى نجدته وقوته ونصرته وأنه رجل؛ لأن الصغير لا يقال له: رجل، وإنما يقال له: ذكر، فلما كان الأمر لا يختص بأصحاب النجدات والإعانات والنصرة والقوة والدفاع عن الميت لكونه عنده قدرة على ذلك وإنما الأمر يتعلق فقط بالإرث، أضاف إلى ذلك شيئاً يبين أنه ليس الأمر خاصاً بمن يوصف بأنه رجل وهو الذي عنده قوة وعنده شدة وعنده إعانة.
فإذاً: جاء ذكر الذكر بعد ذكر الرجل ليبين أن الأمر لا يختص بالرجال وإنما هو بالذكور الذين يقابلون الإناث.
ولهذا جاء في ميراث الأبناء إذا اجتمعوا مع البنات مع أخواتهم والإخوة إذا اجتمعوا مع أخواتهم قوله عز وجل: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]؛ لأن الذكر يقابل الأنثى والرجل يقابل المرأة، والمرأة غالباً تطلق على الكبيرة والرجل يطلق على الكبير، والأمر لا يختص بالرجال والنساء الكبار وإنما هو للذكور، فيستوي في ذلك من بلغ عمره مائة سنة ومن عمره سنة أو أقل من سنة، فما دام أنهم أبناء للميت أو إخوة للميت أشقاء أو لأب فإنهم يتساوون في الميراث لا يفرق بين كبير وصغير، بل ذلك منوط بالذكورة والأنوثة، ولهذا قال عز وجل: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:176] فيما يتعلق بميراث الأبناء، وجاء في الإخوة الأشقاء في آخر سورة النساء: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:176]، يعني: أن الذكور لهم ضعف الإناث سواء كان الذكور كباراً أو صغاراً، وسواء كانت الإناث كباراً أو صغاراً.
وعلى هذا فهذا الحديث إذا ضم إلى آيات المواريث وإلى ما جاءت به السنة من أحاديث تبين بعض أنواع المواريث مثل ما ذكرنا في مسألة الشقيقة مع البنت أو البنتين فإنها تكون مقدمة على الإخوة لأب، ولا يقال: إن قوله: (لأولى رجل ذكر) بأن أولى رجل ذكر الذي يستقل عن الأنثى هو الذي لا يفرد فيه إلا الأنثى لو انفردت، كأبناء الإخوة الأشقاء وأبناء الإخوة لأب وكذلك الأعمام وأبناء الأعمام فإن الذكور هم الذين يستقلون بالميراث.(35/12)
الوارثون بالتعصيب
جاءت السنة بتوريث العصبة الذين هم عصبة بالنفس في المعتقة والمعتق، وهذا بسبب الإعتاق وبسبب النعمة على المعتق، فإنهم يرثون المعتق سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً، والنساء ليس فيهن من يرث بالتعصيب بالنفس إلا المعتقة فقط، كما يقول صاحب الرحبية: وليس في النساء طراً عصبة إلا التي منت بعتق الرقبة يعني: أن النساء ليس فيهن عصبة بالنفس إلا التي منت بعتق الرقبة التي هي المعتقة، فإنها ترث ولكن هذا الميراث بعد أن ينتهي العصبة من جهة النسب وإن علوا وإن نزلوا، كالأعمام وإن علوا، وكأبناء الأعمام وأبناء الإخوة وإن نزلوا، فإن الإرث بالتعصيب في النسب مقدم على الإرث بالتعصيب بالسبب الذي هو العتق، لكن العتق يكون فيه ميراث النساء بالنفس، وعلى فهذا فهناك ميراث تعصيب بالنفس وتعصيب بالغير.
والذين يرثون بالتعصيب بالنسب هم: الذكور الذين يستقلون بالميراث لو انفردوا والمعتق والمعتقة إذا انفردوا، والمعتقة تأتي من الإناث فيمن يرث بالتعصيب بالنفس.
والذي يرث بالتعصيب بالغير هي المرأة التي يفرض لها لو انفردت، ولكنه إذا جاء معها أخوها فإنه يكون للذكر مثل حظ الأنثيين كالبنات والبنين وكأبناء البنين وبنات البنين فإنه يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، وكالإخوة الأشقاء مع أخواتهم الشقيقات والإخوة لأب مع أخواتهم لأب، فإن الأنثى إذا انفردت فرض لها النصف، كالبنت وبنت الابن والشقيقة والأخت لأب، وإن كن أكثر من واحدة فرض لهن الثلثان، وسواء كان هذا الميراث بطبقة واحدة أو بطبقتين فإذا لم توجد بنتان ولكن وجد بنت وبنت ابن فإن البنت يكون لها النصف وبنت الابن يفرض لها السدس تكملة الثلثين؛ لأن البنات المجتمعات لا يحصلن أكثر من ثلثين، فإن كن في درجة واحدة حزنه بالتساوي، وإن كن في درجتين فإن التي في الدرجة الأولى تأخذ النصف والتي في الدرجة الثانية وهي بنت الابن مع البنت يفرض لها السدس تكملة الثلثين، وهكذا الأخت لأب مع الأخت الشقيقة فإنه يفرض للشقيقة النصف والأخت لأب يفرض لها السدس تكملة الثلثين؛ لأنهن يرثن ميراث الأخوات، والأخوات يكون لهن الثلثان.
لكن إذا وجد معهن إخوانهن صار للذكر مثل حظ الأنثيين، فالبنات مع البنين وبنات الأبناء مع بني البنين الذين في درجة واحدة يشتركون في الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين، وكذلك الإخوة الأشقاء مع الأخوات الشقيقات والإخوة لأب مع الأخوات لأب يكون للذكر مثل حظ الأنثيين.
فالعصبة بالغير أربعة أصناف: اللاتي يفرض لهن النصف لو انفردن، واللاتي يفرض لهن الثلثان لو اجتمعن، وإذا جاء معهن إخوانهن فللذكر مثل حظ الأنثيين، وإن انفردن فالنصف لواحدة والثلثان لاثنتين فأكثر، وسواء كن في طبقة واحدة كالبنات أو في طبقتين كالبنات وبنات الابن فإن الميراث يكون الثلثين فقط، وهذا هو التعصيب بالغير.
وأما التعصيب مع الغير فميراث الأخوات الشقيقات والأخوات لأب مع البنات، فالأخوات مع البنات عصبات.
فإذا وجدت شقيقة مع بنت أو بنتين فإنها تأخذ الباقي، فإن كانت مع بنت واحدة أخذت الباقي وهو نصف، وإن كانت مع ابنتين أخذت الباقي وهو الثلث.
وكذلك الأخت الشقيقة إذا كانت واحدة فلها النصف، وإن كن اثنتين فلهن الثلثان، والأخوات لأب ليس لهن شيء، كما أن بنات الأبناء ليس لهن شيء إذا حاز البنات الثلثين.
فإن وجدت شقيقتان ووجدت أخت لأب فإنها لا تأخذ الباقي.
والأخوات الشقيقات يأخذن الباقي بعد فرض البنت ويقدمن على الإخوة لأب؛ لأنهن يدلين إلى الميت بقرابتين، بخلاف الأخ لأب فإنه يدلي إلى الميت بقرابة واحدة.
هذا هو ما يتعلق بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر).(35/13)
شرح آيات المواريث
في مسألة المواريث ذكر الله عز وجل ثلاث آيات في سورة النساء، الآية الأولى: تتعلق بعمودي النسب وهم أصول الميت وفروعه، وأصول الميت هم آباؤه وأمهاته، وفروعه هم أبناؤه وبناته وأبناء بنيه وإن نزلوا.
والآية الثانية: تتعلق بميراث الزوجين والإخوة لأم الذين لا يرثون إلا بالفرض وليس لهم تعصيب، ولا يرثون بالتعصيب بحال، وهؤلاء يرثون من جهة قرابة الأم ومن جهة الزوجية ونصيبهم إنما هو بالفرض فقط.
وأما القسم الأول المذكور في آية العمودين ففيه فرض وفيه تعصيب؛ لأن الأب يفرض له ويرث بالتعصيب، والابن لا يرث إلا بالتعصيب والبنت يفرض لها، والبنتان يفرض لهما ومع إخوانهما يشتركون للذكر مثل حظ الأنثيين.
أما الآية التي في آخر سورة النساء وهي الثالثة فهي في الإخوة الأشقاء والإخوة لأب وميراثهم على طريقة ميراث الأبناء، وهي في الكلالة، ومعنى كلالة: ألا يكون للميت أصول ولا فروع، أي: ليس له ولد ولا والد، فمن ليس له ولد ولا والد فإنه يورث كلالة؛ لأنهم كالمحيطين بالميت بخلاف الأصول فإنها فوقه والفروع تكون تحته، وأما الإخوة فهم محيطون به، فقيل لهم: كلالة، فيرثون كلالة إذا لم يكن للميت والد ولا ولد.
فالإخوة للأم كذلك لا يرثون إلا عند عدم الولد والوالد، وكذلك الإخوة الأشقاء والإخوة لأب لا يرثون إلا عند عدم الولد والوالد، ولكن كما هو معلوم أنه بالنسبة للولد الذكر أو الذكور والإناث يأخذون الميراث ولا يبقى للإخوة شيء، وأما إذا كانوا إناثاً خلصاً فلهن النصف أو الثلثان والباقي يأخذه أقرب من يكون للميت، والإخوة الأشقاء هم أقرب من يكون للميت إذا لم يكن له أصول ولا فروع، وميراثهم على طريقة ميراث الأبناء، فإن الأخت الواحدة لها النصف والبنتين لهما الثلثان، وهكذا الأختان الشقيقتان أو لأب لهما الثلثان، فإذا كن اثنتين فأكثر فإنهن يشتركن في الثلثين، ولو وجدت أخت شقيقة وأخت لأب فإن الأخت الشقيقة لها النصف والأخت لأب لها السدس تكملة الثلثين؛ لأنهن يرثن بالإخوة الثلثين، فتكون الأقرب منهن الشقيقة لها النصف والتي هي أبعد والتي هي أبعد منها لها بقية الثلثين، وإذا اجتمع الذكور والإناث فللذكر مثل حظ الأنثيين، وإذا كان هناك إخوة أشقاء مع أخواتهم أو إخوة لأب مع أخواتهم فإنه للذكر مثل حظ الأنثيين، وإن وجد ذكور خلص فإن الإخوة الأشقاء يحجبون الإخوة لأب؛ لأنهم يدلون إلى الميت بسببين وهما: الأبوة والأمومة، والإخوة لأب إنما يدلون إليه بالأبوة فقط.(35/14)
الفرق بين خرجه فلان ورواه فلان
ويلاحظ في تعبير ابن رجب رحمه الله عند التخريج أنه يقول: خرجه فلان، وأما النووي فإنه يقول: رواه فلان، فـ ابن رجب حين يعبر بالتخريج يقول: خرجه البخاري ومسلم خرجه مسلم خرجه البخاري خرجه أبو داود، ولا فرق بين هذا وهذا، وكل من التعبيرين صحيح؛ فإن قيل: رواه البخاري ومسلم أو قيل: خرجه البخاري ومسلم فالمعنى والمؤدى واحد.(35/15)
شرح حديث: (تحرم الرضاعة ما تحرم الولادة)
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحرم الرضاعة ما تحرم الولادة)، أخرجه البخاري ومسلم.
هذا أيضاً من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، فإن كل واحدة من النسب يحرم مثلها من السبب الذي هو الرضاع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (تحرم الرضاعة ما تحرم الولادة)، وهذا يمكن أن يعرف عن طريق المحرمات بالنسب ثم ما يماثلهن من الرضاعة.(35/16)
حد الرضاع المحرم
العلماء لهم تفاصيل فيما يتعلق بالرضاعة وبيان كيفيتها.
ومما يدخل في مسائلها أن التحريم إنما يكون بخمس رضعات فأكثر، فإذا قل عن خمس رضعات فإنه لا يحرم، كما ثبتت السنة بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأن يكون ذلك في زمن الرضاعة وهو الحولان، فرضاع الكبير لا يؤثر ولا عبرة به، وما جاء في قصة سالم مولى أبي حذيفة هذا خاص به، ولا يقال: إنه يتعداه إلى غيره، ولو قيل بتعديه لأمكن كل امرأة أن تتخلص من زوجها بأن تحلب من ثديها في كأس ثم تعطيه ويشرب وهو لا يدري، فإذا فرغ قالت: أنا أمك من الرضاعة وتخلصت منه، فرضاع الكبير لا يؤثر، وإنما جاء ذلك في قصة سالم مولى أبي حذيفة وهو خاص بـ سالم مولى أبي حذيفة فلا يتعداه إلى غيره.
فإذاً: الرضاع يكون خمس رضعات فأكثر وفي المدة التي ينفع فيها الرضاع ويسد الرضاع فيها الجوع، وأما إذا كان تغذى الطفل بالطعام وفطم عن الرضاع فإن رضاعه لا عبرة به.(35/17)
المحرمية بالرضاع
لو رضع طفل من امرأة فإنه يكون أخاً لجميع أولادها ولو كانوا من عدة أزواج قبل الذي رضع من لبنه وهو زوجها أو بعده، أي: إذا كانت قد تزوجت بعدة أزواج ولها من كل زوج أولاد فرضع شخص من لبنها مع أحد أولادها من الرجل الذي هو زوجها في الوقت الحاضر، فإنه يكون أخاً لجميع أولادها السابقين واللاحقين، ويكون أيضاً أخاً لأولاد صاحب اللبن ولو كانوا من عدة زوجات، سواء كانوا قبل هذا الرضاع أو بعد هذا الرضاع؛ وهذا يكون خاصاً بالمرتضع، أما إخوانه الذين لم يرضعوا فلا علاقة لهم بهذا التحريم، وكذلك يكون المرتضع ابناً لجميع أمهات المرضعة، ويكون ابناً للفحل وأخاً لجميع أولاده وابناً لأمهاته وآبائه، كل ذلك يختص به هذا المرتضع الذي رضع اللبن فهو الذي ينفرد بالحرمة ويحصل له هذا الانتشار الواسع، وأما الذين لم يحصل لهم رضاع من أقاربه فإنه ليس لهم علاقة بهذا التحريم.(35/18)
شرح حديث: (إن الله عز وجل ورسوله حرم بيع الخمر)
الحديث الخامس والأربعون: عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يقول: (إن الله عز وجل ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ قال: لا، هو حرام، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم الشحوم جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه) رواه البخاري ومسلم.
يعني: لما حرمت عليهم الميتات عمدوا إلى الشحوم فأذابوها وباعوها على أنها ودك لا شحم، وهذا من حيل اليهود التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم احتالوا على ما حرم الله فحولوه إلى شيء آخر، وصار له اسم آخر والنتيجة واحدة، والله تعالى إذا حرم شيئاً حرم ثمنه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله ورسوله حرم جاء في بعض الروايات: (حرما) بالتثنية؛ لأن الضمير يرجع إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذه الرواية التي فيها الإفراد: (حرم) فإنه يقال فيها: إن الضمير يرجع إلى الثاني الذي هو الرسول صلى الله عليه وسلم، والضمير الذي يرجع إلى الله محذوف وتقديره: إن الله حرم ورسوله حرم، فيكون خبر الأول محذوفاً والثاني موجوداً، ويكون هذا مثل قوله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة:62] يعني: والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه.
وكذلك قول الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ والرأي مختلف يعني: نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك راضٍ، فحذف الخبر في الأول فقال: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ بدلالة الثاني على الأول، أي: بدلالة المذكور على المحذور، فيكون ذكر الضمير على سبيل الإفراد هو من هذا القبيل.(35/19)
تحريم بيع الميتة والخمر
قوله: (حرم بيع الخمر والميتة)، الميتة هي حرام أكلها وبيعها؛ لأن الله تعالى إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، فلا يقال: إنه يتخلص من المحرم ببيعه ثم يؤكل ثمنه، بل ما هو حرام فإنه يحرم بيعه، والخمر حرمت لما فيها من الفساد ولما فيها من الضرر ولما فيها من زوال العقل، بهذه اللذة التي صار إليها من ابتلي بها، وهي لذة عاجلة تعقب حسرة وتعقب ندامة، وقد سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم الخبائث؛ لأن الإنسان إذا أتى بها وسكر فإن كل شيء يمكن أن يفعله، حتى إنه قد يزني بمحارمه والعياذ بالله؛ لأن عقله قد ذهب وليس بموجود، ولهذا يقول ابن الوردي في لاميته العظيمة التي يقول فيها في شطر من شطر أبياتها: كيف يسعى في جنون من عقل فهذا شيء عجيب! فإنسان أعطاه الله عقلاً ثم كيف يسعى باختياره وإرادته إلى أن يكون من جملة المجانين؟! ومعلوم أن السكران يذهب عقله والعياذ بالله! فيحصل منه أنواع الخبائث، ولهذا قيل للخمر: إنها أم الخبائث؛ لأنها تؤدي إلى الخبائث، فالإنسان إذا فقد عقله يتصرف تصرفات خبيثة وقد يقع فيها على محارمه والعياذ بالله! وقد يحصل منه أمور منكرة وأمور مستقذرة مثل قصة سكران كان يبول ويأخذ بوله ويشربه ويغسل به وجهه! وكل هذا قبح وسوء، سببه ونتيجته هو تضييع العقل وإفساد العقل.
إذاً: فالله تعالى حرم الميتة فلا تؤكل ولا تباع، وحرم الخمر فلا تشرب ولا تباع، وحرم الخنزير فلا يؤكل ولا يباع، وكذلك حرم الله الأصنام فلا يجوز بيعها، وإن كانت أعيانها قد تكون طاهرة وتكون سليمة فقد تكون من حجارة أو من خشب فلا يجوز بيعها؛ لأنها أصنام تعبد من دون الله، لكن لو كسرت وحطمت وصارت قطعاً فإنه يمكن الاستفادة من هذه القطع وهذه الكسر؛ لأنها خرجت عن كونها صنماً، فيمكن أن يستفاد من هذه الحجارة في بناء أو في غير ذلك.(35/20)
حكم شحوم الميتة وجلودها
قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى ورسوله حرم الميتة) هناك شيء يتعلق بشحوم الميتة، فقد سأل رجل فقال: (يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟) يعني: يتخذونها للإضاءة، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا، هو حرام)، وقد اختلف العلماء في قوله: (هو حرام) هل يرجع إلى البيع أو يرجع إلى هذه الأمور التي ينتفع بها؟ فمنهم من قال: إن التحريم يرجع إلى البيع، ومنهم من قال: إن التحريم يرجع إلى الاستفادة منها والاستصباح ودهن الجلود وطلاء السفن، يعني: أن تطلى من الخارج بهذه الأدهان بحيث لا يؤثر فيها الماء وكثرة سيرها في الماء ومكثها في الماء، فيكون ذلك مما يساعد ويعين على سلامتها وعلى بقائها وعدم تأثرها.
ولا شك أن عدم استعمال الميتة وما يتعلق بها أولى، وإنما يستثنى من ذلك الجلود، فإنه يجوز الاستفادة بها بعد الدبغ؛ لأنها تطهر بالدبغ كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا إنما يكون خاصاً فيما يؤكل لحمه ويكون ميتة، والمذكى كما هو معلوم مما يؤكل لحمه يمكن الاستفادة من جلده، ولا يقال: إنه نجس كالميتة، وإنما هو طاهر، ولكنه يدبغ من أجل إزالة الشعر والاستفادة منه.
أما إذا كان الجلد مما لا يؤكل لحمه كالحمير والكلاب والخنازير وغير ذلك فإنه لا يستفاد منه ولا ينتفع به، وإنما الاستفادة تكون من مأكول اللحم؛ لأنه هو الذي تنفع فيه الذكاة، وأما ما لا يؤكل لحمه فهو بمنزلة الميتة وإن ذكي؛ لن ذكاته لا تخرجه من كونه ميتة.
ثم قال: (قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم الشحوم جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه) يعني: أذابوه وصار بدل ما كان شحماً يقال له: ودك، فباعوه وأكلوا ثمنه، وهذا من حيلهم التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حرام.
فالخمر لا يستفاد منها ببيعها ولا يستفاد منها بشيء، وإنما يجب إراقتها وإتلافها، والميتة كذلك لا يستفاد منها إلا بجلدها إذا دبغ، وكذلك الأمور الأخرى لا يستفاد منها لا بالأكل بالنسبة للخنزير ولا بالبيع، وكذلك بالنسبة للأصنام لا يستفاد منها ببيعها؛ لأن ذلك يؤدي إلى الإشراك بها مع الله، وكونها تعبد من دون الله وفي ذلك مضرة، وإنما تحطم وتكسر ولا تبقى صنميتها ووثنيتها، ويمكن أن يستفاد منها في بنيان أو في جدار؛ لأنها لم تبق صنماً.(35/21)
شرح حديث: (كل مسكر حرام)
قال ابن رجب رحمه الله تعالى: عن أبي بردة عن أبيه أبي موسى رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فسأله عن أشربة فيها فقال: وما هي؟ قال: البتع والمزر، فقيل لـ أبي بردة: ما البتع؟ قال: نبيذ العسل، والمزر نبيذ الشعير، فقال: كل مسكر حرام) خرجه البخاري.
قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر حرام)، هذا جواب جامع يدخل فيه المسئول عنه وغير المسئول عنه، وأن القضية معلقة بالإسكار، فكل ما أسكر فإنه حرام سواء كان من الشعير أو من العسل أو من العنب أو من التمر أو من أي شيء، وسواء كان جامداً أو سائلاً أو مسحوقاً أو غير مسحوق، كل ذلك حرام؛ لأن الأمر علق بالإسكار.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر حرام) هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، ولهذا لما سئل بعض الصحابة عن الباذق -وهو نوع من الشراب- قال: (سبق محمد صلى الله عليه وسلم الباذق، فقال: (كل مسكر حرام))، يعني: أن الشريعة في عموماتها وكلياتها يدخل فيها ما كان معروفاً وما ليس بمعروف، فقوله: (كل مسكر حرام)، أنيط الحكم بالإسكار في جميع أحواله سواء كان سائلاً أو جامداً أو دقيقاً أو أي شيء آخر، ولا ينظر إلى ما وراء ذلك.
ثم إن قوله: (كل مسكر حرام)، يكون في القليل والكثير، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)، وإنما حرم القليل الذي لا يسكر؛ لأنه ذريعة إلى المسكر، وهذا من باب سد الذرائع ومنع الأشياء التي توصل إلى الغايات، فالقليل وإن كان لا يسكر فإنه حرام.
فالرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن نوعين من النبيذ فعلق الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر بالإسكار، وهذا معناه: أنه إذا كان غير مسكر فلا بأس، وإن كان مسكراً فهو حرام، وقد جاء في حديث وفد عبد القيس أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الانتباذ في أوعية غليظة يمكن أن يحصل الإسكار فيها ولا يظهر على الخارج منها، وهي الدباء وهو القرع الذي يخرج لبه ثم ييبس ويكون يوضع يكون فيه النبيذ، وكذلك الحنتم وهي جرار ينتبذ بها، والمقير وهو الذي طلي بالقار، والمزفت وهو الذي طلي بالزفت، وكانت هذه أشياء غليظة يمكن أن يحصل فيها الإسكار ولكن لا يظهر على خارجها، وليست كالأسقية التي هي من الجلود؛ فإنها إذا حصل تغير في داخلها ظهر على سطحها، أما هذه فلا يظهر على سطحها، وكان هذا في أول الأمر، ثم إن ذلك نسخ بما يوافق هذه القاعدة التي جاءت في حديث أبي موسى وكذلك في حديث بريدة بن الحصيب الذي ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم الناسخ والمنسوخ في ثلاثة أمور فقال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها، وكنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ألا فادخروا، وكنت نهيتكم عن الانتباذ في أوعية فانتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكراً).
أي: المهم ألا تستعملوا شيئاً يوصل إلى حد الإسكار، فما أسكر كثيره لا تستعملوه لا كثيره ولا قليله، فهذا الحديث بين فيه صلى الله عليه وسلم أن الأمر يتعلق بالإسكار، وأنه إذا لم يصل إلى حد الإسكار في الكثير فإنه لا بأس بالقليل والكثير، وإن كان كثيره يسكر وقليله لا يسكر فإنه يحرم الكثير والقليل.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو موسى عن هذين الشرابين اللذين كانا موجودين في اليمن وهما: نبيذ العسل، ونبيذ الشعير، ما أجابه الرسول صلى الله عليه وسلم عليهما وإنما أجابه بقاعدة كلية يندرج تحتها المسئول عنهما وغيرهما، فذكر له: أن كل مسكر حرام وكل ما لم يسكر فإنه حلال.(35/22)
الأسئلة(35/23)
حكم الأدوية التي يدخل في تركيبها الكحول
السؤال
كل مسكر حرام قليله وكثيره فكيف بنسبة الكحول في الدواء؟
الجواب
الشيء الذي يتخذ للعلاج إذا كانت نسبته قليلة مع الدواء فإن ذلك لا يؤثر، مثل البنج فقد ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله أن استعمال البنج في الدواء حتى يغيب العقل من أجل قطع شيء من الإنسان بحيث لا يشعر أن ذلك جائز.(35/24)
حكم العطور المشتملة على كحول
السؤال
كل العطور الآن تصنع من الكحول، فما مقدار كمية الكحول الجائزة؟
الجواب
هذا الكلام ليس بصحيح، لا يقال: كل العطور تصنع من الكحول؛ فكم هناك من العطور التي لا كحول فيها! وكم من طيب ليس فيه شيء من الكحول! ولكن إذا كان هناك طيب فيه كحول وطيب سالم من الكحول فكون الإنسان يأخذ الحلال البين ويترك الشيء الذي هو مشتبه أولى؛ حتى يتقي الشبهات لئلا يقع في المحرم.(35/25)
حكم التماثيل المتخذة للزينة
السؤال
ما حكم التماثيل التي تباع ويتخذها الناس كزينة في البيوت؟
الجواب
ليس للناس أن يحوزوا هذه التماثيل ولا أن يقتنوها، بل يجب أن تحطم وتتلف، ولا يجوز أن يقتني الناس تماثيل؛ لأن التماثيل كما هو معلوم هي وسيلة إلى الشرك.(35/26)
توحيد الضمير في قوله: (إن الله ورسوله حرم)
السؤال
ألا يكون قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ورسوله حرم) من باب التأدب مع الله عز وجل حتى لا ينسب التشريع لكليهما؟
الجواب
قد جاء في الحديث في بعض الروايات الصحيحة: (إن الله ورسوله ينهيانكم) وكذلك جاء: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما).(35/27)
نجاسة عين الخمر
السؤال
هل الخمر نجسة العين؟
الجواب
من العلماء من قال: إنها نجسة العين وأن الإنسان إذا وقعت عليه فإنه يزيل تلك النجاسة.(35/28)
بيان محرمية الرضاع
السؤال
في أي شيء تكون محرمية الرضاع؟
الجواب
تكون بما يماثلها من النسب؛ فالأخت من الرضاع كالأخت من النسب، والأم من الرضاع كالأم من النسب، والجدة من الرضاع كالجدة من النسب، والجد من الرضاع كالجد من النسب، والابن من الرضاع كالابن من النسب، وكذلك حليلة الابن من الرضاع كحليلة الابن من النسب، كما ذكر ذلك العلماء وقالوا: إن قوله تعالى: {وحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23]، فقوله: {مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23] ليس إخراجاً لزوجات الأبناء من الرضاعة وإنما جاءت في إخراج زوجات الأبناء المتبنين؛ فإن ذلك لا يحرم وإنما الذي يحرم هو زوجة الابن من الرضاع كزوجة الابن من النسب.(35/29)
شرح الأربعين النووية [36]
جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم أحاديث تجمع معاني كثيرة في ألفاظ قليلة، ومن تلك الأحاديث: حديث علامات المنافق، وحديث التقلل من الطعام، وحديث التوكل على الله، وحديث الحث على ذكر الله، وهذه الجوامع مما اهتم بها العلماء وحرصوا على جمعها واعتنوا بشرحها، فينبغي الاعتناء بها والاستفادة منها.(36/1)
شرح حديث: (ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه)
الحديث السابع والأربعون من الأحاديث الخمسين بتتمة ابن رجب، وهو الحديث الخامس من الأحاديث الثمانية التي زادها ابن رجب: عن المقدام بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطن، بحسب امرئ أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه) رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال الترمذي: حديث حسن.
ذكر المصنف تخريجه عن الإمام أحمد وعن ثلاثة من أصحاب السنن الأربعة وهم من عدا الإمام أبا داود رحم الله تعالى الجميع.
وكان من طريقة الإمام النووي رحمه الله عندما يخرج الأحاديث أن يقول: رواه فلان وفلان، فيعبر بـ (رواه)، وأما الحافظ ابن رجب فإنه يعبر بـ (خرجه) وأحياناً يعبر بـ (رواه)، ولا فرق بين خرجه ورواه، فإن المقصود به المؤلف الذي روى هذا الحديث في كتابه بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطن)، الوعاء هو: الظرف الذي توضع فيه الأشياء، والبطن هو: الذي يوضع فيه الطعام، وإذا أُكثر من الطعام أدى إلى تخمة وصار ضرراً وشراً على صاحبه؛ وذلك لما ينتج عنه من الكسل والخمول والفتور، وما يحصل عنه أيضاً من الأمراض والأمور المنغصة.
وبعد أن بين النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن البطن هو شر وعاء يملأ أرشد عليه الصلاة والسلام إلى الطريقة المثلى في الأكل وهي أخذ الكفاية، ثم بين هذه الكفاية فقال عليه الصلاة والسلام: (بحسب امرئ) أي: يكفيه (أكلات يقمن صلبه)، أكلات: جمع أكلة، أي: لقيمات يقمن صلبه، وصلبه هو ظهره، وذلك أنه إذا أكل الإنسان وحصل له التغذي بالطعام فإنه يكون عنده نشاط وتكون عنده قوة وفيه حياة، وإذا ذهب عنه الطعام أدى به ذلك إلى السقام وإلى المرض، وربما أدى به ذلك إلى الموت بسبب الجوع.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (بحسب) الحسب هنا بمعنى الكافي، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، أي: كافيك الله، وكافي من اتبعك من المؤمنين، وقد مر في حديث أبي هريرة: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)، أي: لو لم يكن عنده من الشر إلا هذا لكان كافياً فكيف إذا كانت عنده شرور أخرى، فإن ذلك شر إلى شر وضرر إلى ضرر.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الإنسان إذا لم يكتف بهذه الأكلات التي يحصل بها إقامة الصلب إلى هذه القسمة الثلاثية، وهي أن يكون ثلث بطنه لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة أحوال للناس: فالحالة الأولى: حال من يملأ بطنه، وبذلك يتعرض لأسباب الأمراض وللأسقام وللكسل والخمول، والحالة الثانية: حال من يأتي بالطريقة التي فيها الكفاية، وهي الأكلات التي يقمن صلبه، وإذا كان ولا بد فهناك شيء بين الكفاية والامتلاء، وهو أن يملأ الثلثين ويبقى ثلث يكون فيه مجال للتنفس وهذه هي الحالة الثالثة.
فهذا هو هديه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالمآكل والمشارب.(36/2)
شرح حديث: (أربع من كن فيه كان منافقاً)
قال المصنف رحمه الله: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر) خرجه البخاري ومسلم.
هذه أربع خصال إذا اجتمعت في الإنسان صار منافقاً، وإذا وجدت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق.
والمراد بالنفاق هنا: النفاق العملي وليس النفاق الاعتقادي، والنفاق العملي هو الذي لا يخرج من الملة، والنفاق الاعتقادي هو النفاق المخرج من الملة، وهو الذي أصحابه مخلدون في النار، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145].
فأقرب الأقوال في معنى النفاق هنا أنه النفاق العملي الذي هو إخلاف الوعود والفجور في المخاصمة، وكذلك الغدر عند المعاهدة والكذب، والمطلوب من المسلم أن يكون متحلياً بضد هذه الخصال، فيكون عند الحديث صادقاً، فلا يقدم على الكذب ولا يحدث صاحبه بما هو كذب، ويحذر من أن يكون من أهل الفجور والكذب، وإذا لم يحدث بما هو صدق فليمسك عن الكلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).
وقوله: (وإذا وعد أخلف) هذا يكون فيمن يعد وفي نيته أن يخلف، فهذا هو الوصف المذموم، وأما إذا وعد الإنسان وهو يريد ألا يخلف ثم حصل له مانع يمنعه من الوفاء بالوعد وحصل له أشياء تحول بينه وبين تنفيذ ما وعد فإن هذا لا يكون آثماً، وإنما الآثم هو الذي من شأنه أن يعد وهو غير صادق في وعده.
وقوله: (وإذا خاصم فجر) أي: أنه إذا خاصم لا يتحاشى في الكلام، بل يزيد في الكلام ويتكلم بالكلام الباطل في حال الخصومة، والأصل أن يمسك المرء لسانه عند الخصومة فلا يتعدى ولا يتجاوز ولا يتكلم إلا بما هو خير، ولا يتكلم بشيء تصل إليه مضرته، بل يكون كلامه باعتدال وتوسط، ولا يتجاوز الحد إلى أن يكون ظالماً لمن يحدثه ومن يخاصمه فيكون فاجراً بالخصومة، فالفجور هو: الميل عن الحق مع الاحتيال عليه.
وقوله: (وإذا عاهد غدر) أي: أنه إذا أعطى العهد والميثاق فإنه يغدر ولا يفي بعهده.(36/3)
شرح حديث: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله)
قال المصنف رحمه الله: وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً) رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم، وقال الترمذي: حسن صحيح.
هذا الحديث فيه بيان أن الإنسان عليه أن يكون متوكلاً معتمداً على الله في جميع شئونه مع أخذه بالأسباب المشروعة التي شرعها الله عز وجل، فلا يكون متوكلاً بدون الأخذ بالأسباب وإنما يكون متوكلاً مع الأخذ بالأسباب؛ لأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أرشد إلى الاثنين معاً، كما في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله).
فقوله: (احرص على ما ينفعك)، هذا فيه أخذ بالأسباب واستعانة بالله عز وجل وتوكل عليه وطلب للمعونة منه، فيكون الإنسان قد جمع بين الأخذ بالأسباب والاعتماد على مسبب الأسباب وهو الله سبحانه وتعالى، فإن الأسباب إذا لم يشأ الله أن تكون مفيدة لم يحصل الإنسان من ورائها على فائدة، ولكنها تكون مفيدة بتوفيق الله عز وجل وإعانته وتسديده، فعند ذلك ينفع السبب وينتهي إلى حصول المسبب، وإلا فإن الأسباب في حد ذاتها دون عون الله لا تنفع، فعلى الإنسان أن يأخذ بها ولا يعتمد عليها، ولكن يعتمد على مسببها الذي هو النافع الضار الذي لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وكما جاء في حديث وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
وفي هذا الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير)، ثم بين كيف يكون رزق الطير، فقال: (تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، فالطير لا تجلس في أوكارها تنتظر شيئاً يأتيها وإلا ماتت وهلكت، وإنما شأنها أنها تأخذ بالأسباب فتذهب في الصباح خاوية البطون خماصاً، ثم ترجع بطاناً، أي: ممتلئة البطون، فهي قد أخذت بالأسباب، فأنتم عليكم أن تأخذوا بالأسباب وأن تتوكلوا على الله سبحانه وتعالى، لا أن تتوكلوا على الله عز وجل بدون أخذ بالأسباب؛ لأن الأخذ بالأسباب والاعتماد عليها والغفلة عن الله عز وجل من أخطر الأشياء، واعتقاد أن الأسباب تنفع وتضر بطبيعتها قدح في التوحيد، فهي لا تنفع ولا تضر إلا إذا جعلها الله نافعة أو جعلها ضارة.
ومحو الأسباب عن أن تكوناً أسباباً نقص في العقل، فالذي يقول: إذا كتب الله لي شيئاً فسيأتيني ولن أفعل الأسباب ناقص العقل، وذلك مثل أن يقول الإنسان: إن الولد لا يأتي إلا عن طريق الزواج، لكن إذا كتب الله لي أن يأتيني فسيأتيني ولو بغير زواج؛ فهذا نقص في العقل؛ لأن الولد لا يأتي إلا بفعل الأسباب بطريق الزواج، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7].
وجاء في حديث الرجل الذي قال: أعقل ناقتي أم أدعها وأتوكل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (اعقلها وتوكل)، يعني: خذ بالأسباب وتوكل على الله عز وجل، فلا يهمل الإنسان الأسباب أصلاً ولا يأتي بالأسباب معتمداً عليها غافلاً عن الله عز وجل؛ لأن الأسباب إذا لم يجعلها الله نافعة لم يحصل من ورائها فائدة للإنسان.
وقوله: (لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، الطير هذا شأنها، والله تعالى ألهمها هذا العمل الذي قامت به من غدوها في الصباح تبحث عن الرزق ثم ترجع في المساء فتبيت في أوكارها وقد امتلأت بطونها وجلبت الرزق والعيش لأفراخها التي في عشها، فلم تهمل الأسباب؛ فأنتم كذلك إذا فعلتم مثلما تفعل هذه الطيور معتمدين على الله عز وجل مع أخذكم بالأسباب، فإن الله تعالى يرزقكم ويحقق لكم ما تريدون من الخير.(36/4)
شرح حديث (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)
قال المصنف رحمه الله: [عن عبد الله بن بشر رضي الله تعالى عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فدلني على شيء أتمسك به، فقال: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله عز وجل) خرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ].
هذا الحديث فيه حرص الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم على الخير وسؤالهم عن أمور الدين وعن الأمور الجامعة التي يحصلون فيها الأجور العظيمة، وهي أعمال خفيفة ويسيرة لا مشقة فيها، بل عملها يسير وفضلها كبير وجزاؤها عظيم من الله سبحانه وتعالى، فهو يسأل ويقول: (إن شرائع الإسلام كثرت علي) والمقصود من ذلك: النوافل، وإلا فإن الفرائض يتعين على كل مسلم أن يأتي بها، ولكن السائل يسأل عن الشيء الذي يمكنه أن يعتني به وأن يحرص عليه فيما يتعلق بالنوافل، فهو يطلب أن يدله صلى الله عليه وسلم على باب منها يتمسك به يكون جامعاً للخير ومحصلاً للأجر، كما سبق أن مر بنا في الحديث: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).
فلما أراد باباً جامعاً يتمسك به من أبواب الخير فيما يتعلق بالنوافل أرشده النبي صلى الله عليه وسلم ألا يزال لسانه رطباً من ذكر الله عز وجل؛ وذلك بكثرة ذكر الله سبحانه وتعالى.
ومعلوم أن ذكر الله عز وجل يطلق إطلاقاً عاماً ويطلق إطلاقاً خاصاً، فإطلاقه العام يدخل تحته الصلوات، ويدخل تحته قراءة القرآن، ويدخل تحته الأذكار، وأما الذكر الخاص فهو الأذكار الخاصة كالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير، فإن هذه الأذكار هي الذكر الخاص، وإلا فإن الصلاة ذكر لله عز وجل؛ لأنها مشتملة على ذكر الله من أولها إلى آخرها، وكذلك قراءة القرآن فهو خير الذكر وخير الكلام وأفضل الكلام، ثم بعد ذلك الأذكار التي مع الأدعية؛ لأن الأدعية هي سؤال الله عز وجل ما يريده الإنسان، وأما الأذكار فهي الثناء على الله عز وجل بما يليق به من التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، وهذه هي الأذكار التي أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون الإنسان لسانه رطباً بها، وذلك سهل عليه في أي وقت وفي أي حين، والنبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في الصحيح- كان يذكر الله على كل أحيانه، والله عز وجل أمر بذكره فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42].
وأثنى الله عز وجل على الذاكرين والذاكرات فقال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35]، ذكر ذلك في جملة الخصال العشر التي ذكرها الله عز وجل في سورة الأحزاب.
فهذا هو المعنى الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)، وهذا لا شك أنه من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإنسان يأتي بذكر الله عز وجل، وذكر الله عز وجل هو تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل وتعظيم وثناء على الله عز وجل، ويكون لسانه رطباً بذلك؛ لأنه إذا كان مشتغلاً بذكر الله عز وجل صار منشغلاً عن غير ذكر الله عز وجل من الكلام الذي لا يليق والذي لا ينبغي، فتعويد الإنسان نفسه أن يكون ذاكراً لله يحصل به الحسنات العظيمة لعمل يسير وشيء سهل خفيف، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حديث في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)، وهما من ذكر الله عز وجل، فوصفهما بأنهما خفيفتان على اللسان، وذكر الله عز وجل كله خفيف على اللسان.
فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا العمل العظيم الذي هو إدامة ذكر الله وكثرة ذكره سبحانه وتعالى، وهذا يكون من الإنسان وهو ماشٍ وقائم وقاعد ومضطجع وفي جميع أحواله، وذلك سهل عليه؛ لأنه لا يحتاج إلى كلفة ولا يحتاج إلى مشقة، وليس فيه إلا تحريك اللسان بخير، حتى يعود على الإنسان بخير، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
وبهذا يكون انتهينا من شرح الأحاديث الأربعين أو الاثنين وأربعين التي جمعها الإمام النووي رحمه الله المتوفى سنة (676هـ)، ثم الثمانية التي أضافها الحافظ ابن رجب المتوفى سنة (795هـ).
وهذا الذي ختم به ابن رجب لا شك أنه ختام عظيم، وهو نظير ختم البخاري لكتابه بحديث: (كلمتان خفيفتان على اللسان)، كما أن الإمام النووي رحمه الله ختم الاثنين والأربعين بحديث أنس بن مالك الذي فيه: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي).
فالإمام النووي رحمه الله ختم بذلك الحديث، وابن رجب رحمه الله ختم بهذا الحديث، والبخاري رحمه الله ختم بذلك، ولهذا تابعه بعض العلماء فختموا كتبهم بهذا الحديث، فإن المنذري ختم به كتابه الترغيب والترهيب.(36/5)
ذكر بعض جوامع الذكر
ونذكر الفصل الأخير من كلام ابن رجب رحمه الله، قال: ابن رجب رحمه الله تعالى: فصل: قد ذكرنا في أول الكتاب أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بجوامع الكلم، فكان صلى الله عليه وسلم يعجبه جوامع الذكر ويختاره على غيره من الذكر، كما في صحيح مسلم عن ابن عباس عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: (ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟! قالت: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته).(36/6)
ميزة الأذكار النبوية على المحدثات من الأذكار
بعض الناس يكون عندهم أدعية متنوعة ليست من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من كلام سلف هذه الأمة، وإنما أنشأها بعض المتأخرين، ثم تجد بعض الناس يحرص عليها، كما سبق أن مرت الإشارة في دروس مضت عن دلائل الخيرات، وأن فيه أدعية محدثة، وأنها مشتملة على باطل، وبعضها فيه أمور محذورة، وبعضها فيه غلو، وبعضها فيه جفاء، والأدعية التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم هي التي ينبغي أن يحرص عليها الإنسان وأن يعتني بها، وأن يستعملها في دعائه، وأن يترك مثل هذه الأدعية.
ويكفي في عدم صلاحيتها وأنها غير مناسبة أن بعض الناس يسأل عنها، وما دام الإنسان يسأل عنها فعليه أن يأخذ بالشيء الذي لا يحتاج أن يسأل عنه وهو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فكون الإنسان يسمع بكلام ولا يدري صحته من سقمه، وهل هو طيب أو رديء فيأتي ويقول: ما رأيك في هذا الدعاء؟ يدل على أن فيه شيئاً، فالإنسان ليس بحاجة إلى أن يشغل نفسه بمثل هذا السؤال، وإنما يشغل نفسه بتعلم الأذكار والأدعية التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذ بها؛ لأنها من كلام الذي أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم، وأيضاً كلامه فيه العصمة؛ لأنه كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم، أما غيره من الناس فإنه يخطئ ويصيب، فقد يأتي بشيء محذور وقد يأتي بشيء لا يليق كما في دلائل الخيرات من الأدعية السيئة كدعاء: اللهم صل على محمد حتى لا يبقى من الصلاة شيء، اللهم ارحم محمداً حتى لا يبقى من الرحمة شيء، اللهم بارك على محمد حتى لا يبقى من البركة شيء، اللهم سلم على محمد حتى لا يبقى من السلام شيء.
وأيضاً مثل: اللهم صل على محمد ما سرحت البهائم، اللهم صل على محمد ما شدت العمائم، اللهم صل على محمد ما نفعت التمائم.
فهذا كلام البشر لا ينبغي أن يلتفت الإنسان إليه، وإنما يحرص على كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فقد أعطاه الله جوامع الكلم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فالإنسان إذا حرص على كلامه وتعلم الأدعية والأذكار من كلامه صلى الله عليه وسلم فإنه يحصل الشيء الذي فيه العصمة، ويحصل الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أتى بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(36/7)
من الأذكار الجامعة: (سبحان الله عدد خلقه)
قال ابن رجب رحمه الله: وخرجه النسائي ولفظه: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته) وخرَّج أبو داود والترمذي والنسائي من حديث سعد بن أبي وقاص أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة وبين يديها نوى أو قال: حصى تسبح به، فقال: (ألا أخبرك بما هو أيسر من هذا وأفضل؟ سبحان الله عدد ما خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد ما بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك).
فهذه أدعية جامعة، ولكن ذكر الحصى وذكر النوى لم يثبت فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله: وخرَّج الترمذي من حديث صفية قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يدي أربعة آلاف نواة أسبح الله بها، فقلت: لقد سبحت بهذه، فقال: ألا أعلمك بأكثر مما سبحت به؟ فقلت: علمني، فقال: قولي: سبحان الله عدد خلقه).
وخرَّج النسائي وابن حبان في صحيحه من حديث أبي أمامة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو يحرك شفتيه فقال: ماذا تقول يا أبا أمامة؟ قال: أذكر ربي قال: ألا أخبرك بأكثر وأفضل من ذكرك الليل؟ مع النهار والنهار مع الليل، أن تقول: سبحان الله عدد ما خلق، وسبحان الله ملء ما خلق، وسبحان الله عدد ما في الأرض والسماء، وسبحان الله ملء ما في الأرض والسماء، وسبحان الله عدد ما أحصى كتابه، وسبحان الله ملء ما أحصى كتابه، وسبحان الله عدد كل شيء، وسبحان الله ملء كل شيء، وتقول: الحمد لله مثل ذلك) رواه النسائي في عمل اليوم والليلة، وصححه ابن حبان وانظر تمام تخريجه فيه.
وفي النسخة الثانية قال: إسناده ضعيف، يحيى بن أيوب ليس بالقوي، وابن زرارة لا يعرف.
وعلى كلٍ الإنسان يأتي بما ثبت ويستغني عما لم يثبت.(36/8)
أهمية تواطؤ القلب مع اللسان في الذكر
وقوله: (يحرك شفتيه) أي: أن ذكر الله عز وجل يكون باللسان مع القلب.
والقراءة لا تكون إلا بتحريك اللسان، ولا يكفي الإنسان أن يقرأ بقلبه أو يستحضر القرآن بقلبه دون أن يحرك لسانه، وإنما القراءة تكون بتحريك اللسان، كما قال عز وجل: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة:16]، وقال: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18].
والرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يستدلون على قراءته في الصلاة السرية باضطراب لحيته؛ لأنهم كانوا يرون عوارضه تتحرك من جهة اليمين ومن جهة الشمال إذا كانوا وراءه، وإنما تتحرك بالقراءة، والقراءة إنما هي باللسان، لأنه لو كانت القراءة بالقلب لم تتحرك اللحية.
قال رحمه الله: [وخرَّج البزار نحوه من حديث أبي الدرداء، وخرَّج ابن أبي الدنيا بإسناد له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ معاذ: (يا معاذ! كم تذكر ربك كل يوم؟ تذكره كل يوم عشرة آلاف مرة؟ قال: كل ذلك أفعل، قال: أفلا أدلك على كلمات هن أهون عليك من عشرة آلاف وعشرة آلاف؟ أن تقول: لا إله إلا الله عدد ما أحصاه، لا إلا الله عدد كلماته، لا إله إلا الله عدد خلقه، لا إله إلا الله زنة عرشه، لا إله إلا الله ملء سماواته، لا إله إلا الله ملء أرضه، لا إله إلا الله مثل ذلك معه، والله أكبر مثل ذلك معه، والحمد لله مثل ذلك معه)].
ويناسب الإنسان أن يقتني مثل صحيح الكلم الطيب، الذي جمعه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه لله من كتاب الكلم الطيب لـ ابن تيمية رحمه الله، فإن هذا الكتاب مع اختصاره مشتمل على جملة كبيرة من الأذكار والأدعية.
وأما هذا الحديث فرواه الدولابي في الأسماء والكنى من طريق واصل بن مرزوق عن رجل من بني مخزوم يكنى أبا شبل عن جده، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا الحديث فيه مبهم، والإنسان يحرص على الإتيان بما ثبت وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(36/9)
أثر ابن مسعود في الذكر
قال رحمه الله: وبإسناده أن ابن مسعود ذكر له امرأة تسبح بخيوط معقدة فقال: (ألا أدلك على ما هو خير لك منه؟ سبحان الله ملء البر والبحر، سبحان الله ملء السماوات والأرض، سبحان الله عدد خلقه ورضا نفسه، فإذا أنت قد ملأت البر والبحر والسماء والأرض).
وهذا موقف، وابن مسعود رضي الله عنه له قصة مع الذين كانوا في المسجد متحلقين وبأيديهم حصى، وأحدهم يقول: ليسبح كل واحد مائة، ويهلل مائة، فوقف على رءوسهم رضي الله عنه، وقال: يا هؤلاء! عدوا سيئاتكم، فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء، فإما أنكم أهدى طريقة مما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إنكم تفتحون باب ضلالة، قالوا: سبحان الله يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير، فقال رضي الله عنه: وكم من مريد للخير لم يصبه).
يعني: أن المطلوب مع إرادة الخير موافقة السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(36/10)
أثر سليمان بن طرخان التيمي في الذكر
قال رحمه الله: وبإسناده عن المعتمر بن سليمان التيمي قال: كان أبي يحدث خمسة أحاديث ثم يقول: أمهلوا! سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول لا قوة إلا بالله، عدد ما خلق وعدد ما هو خالق، وزنة ما خلق وزنة ما هو خالق، وملء ما خلق وملء ما هو خالق، وملء سماواته وملء أرضه، ومثل ذلك وأضعاف ذلك، وعدد خلقه وزنة عرشه ومنتهى رحمته ومداد كلماته ومبلغ رضاه، وحتى يرضى وإذا رضي.
هذا من كلام سليمان بن طرخان التيمي والد المعتمر بن سليمان ومعلوم أن الأحاديث فيها ذكر الله عز وجل، وكونه يتخللها السكوت ثم يؤتى بمثل هذا الدعاء، هذا شيء غريب غير معروف، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يحدث أصحابه وما كان يتوقف ويذكر الله عز وجل مثل هذا الذكر، فنفس الحديث هو ذكر لله عز وجل، فاشتغال الإنسان بالحديث أو بالعلم هو ذكر لله سبحانه وتعالى، دون أن يحصل هذا التوقف والإمهال من أجل أن يؤتى بمثل هذا الكلام.
وقوله: (ومنتهى رحمته)، رحمة الله عز وجل ليس لها نهاية إلا إذا كان المقصود بالرحمة الجنة؛ لأنها من رحمة الله سبحانه وتعالى، وهي محدودة معروفة؛ ولكن ليس لنعيمها نهاية، بل نعيمها دائم ومستمر لا ينقطع ولا ينتهي أبد الآباد؛ فإذا كان المقصود بذلك الجنة فالجنة هي رحمة مخلوقة، فقد جاء في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله قال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء).
وأما رحمة الله عز وجل فهي صفة من صفاته، فلا يصلح أن يقال: إن لها منتهى، فرحمة الله عز وجل وسعت كل شيء وليس لها نهاية.
وابن رجب رحمه الله يجمع أشياء كثيرة طيبة وصحيحة ويجمع أشياء فيها غرابة.
قال رحمه الله: وبإسناده عن المعتمر بن سليمان قال: رأيت عبد الملك بن خالد بعد موته فقلت: ما صنعت؟ قال: خير، فقلت: ترجو للخاطئ شيئاً، قال: يلتمس علم تسبيحات أبي المعتمر نعم الشيء.
وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من هذه الرؤيا وغيرها.
قال رحمه الله: قال ابن أبي الدنيا وحدثني محمد بن أبي الحسين قال: حدثني بعض البصريين أن يونس بن عبيد رآه رجلٍ فيما يرى النائم كان قد أصيب ببلاد الروم، فقال: ما أفضل ما رأيت ثَمَّ من الأعمال؟ قال: رأيت تسبيحات أبي المعتمر من الله بمكان.
وعلى كل فإن الكلمات الجامعة والأدعية الجامعة هي التي جاءت في الأحاديث الصحيحة، وهي التي ينبغي للإنسان أن يشتغل بها، وأما مثل هذه الأمور ومثل هذه الحكايات والمنامات فلا يشتغل بها الإنسان.(36/11)
الأسئلة(36/12)
معنى تسمية بعض الأحاديث بجوامع الكلم
السؤال
ما معنى تسمية أهل العلم لبعض الأحاديث أنها من جوامع الكلم وهل يدل ذلك الاستثناء على أن البعض الآخر ليست من جوامع الكلم؟
الجواب
بعض الأحاديث يكون فيه كلام جامع تدخل تحته معانٍ كثيرة، وبعضها يكون فيه كلام لا يندرج تحته معانٍ كثيرة، مثل أن يسأل عن مسألة معينة فيأتي بالجواب عليها، وقد يسأل عن مسألة معينة ويأتي بجواب جامع مثل ما مر في حديث أبي موسى الأشعري أنه سأله عن شراب يقال له: البتع؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر حرام)، فأتى بجواب يشمل هذا ويشمل غيره.
وقد يسأل عن شيء خاص ويجيب بجواب خاص، فلا يعتبر جومع الكلم كالأحاديث الجامعة.(36/13)
معنى قوله في حديث النفاق: (وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم)
السؤال
ذكر في حديث النفاق أن من كانت فيه خصاله الأربع كان منافقاً خالصاً، وذكرتم في شرحه أنه النفاق العملي مع أنه وصفه بالخلوص، فإذا كان المرء لا يخرج من الملة بوجود هذه الخصال الأربع، فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم).
الجواب
هذا لا يعني أنه خرج من الإيمان، وإنما يعني أنه وإن حصل منه الصلاة والصيام وزعم أنه مسلم فهو منافق هذا النفاق العملي، لكن لا يقال: إنه خرج من الإسلام وصار من الكفار.(36/14)
مشروعية رفع الأصبع عند ذكر الله
السؤال
هل يشرع رفع الإصبع كلما ذكر الله تبارك وتعالى، حتى في غير الخطبة؟
الجواب
لا نعلم شيئاً يدل على مشروعيته باستمرار، ولكن أقول: الأصل فيه الجواز، وأما كون الإنسان لا يفعل كذا إلا رفع إصبعه، فلا أعلم شيئاً يدل عليه.(36/15)
الفرق بين قولهم (رواه فلان) و (خرَّجه فلان)
السؤال
قيل: إن الفرق بين (رواه) و (خرَّجه) أن الراوي هو الذي يروي الحديث بإسناد، والذي يروي بلا إسناد يسمى مخرجاً، فهل هذا صحيح؟
الجواب
لا يقال له: مخرج أبداً، وإنما المخرِّج هو الذي يروي بالإسناد، ومن الغلط أن بعض الناس في هذا العصر يستعملون ذلك في حقب المتأخرين الذين يذكرون الأحاديث في كتبهم كـ النووي وابن حجر والسيوطي، فيقولون: خرجه ابن حجر وخرجه السيوطي وخرجه فلان، وهم ما خرجوه، فهؤلاء يذكرونه فقط ولا يخرجونه، وإنما الذي يخرج هو الذي يسند، وأما من يذكر الحديث فلا يقال له مخرج أبداً، وإنما يقال: ذكره فلان وعزاه إلى كذا، عزاه السيوطي إلى فلان، وعزاه ابن رجب أو ابن حجر إلى فلان، وهكذا وإذا قيل: رواه أبو داود أو رواه الترمذي أو خرَّجه البخاري أو خرَّجه مسلم فكله بمعنى واحد، وهو أن يأتوا بالأسانيد.(36/16)
الفرق بين خلف الوعد والغدر في حديث المنافق
السؤال
ما الفرق بين إذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر؟
الجواب
الوعد غير العهد، فالعهد أن يعطي عهد الله وميثاقه، مثل ما يحصل في الجهاد والمعاهدة بين المسلمين والكفار، وأما الوعد فهو أن يقول: إني سأفعل كذا وكذا وهو ناوٍ ألا يفعل.(36/17)
أهمية حضور القلب لنيل ثواب الذكر
السؤال
هل مجرد ذكر اللسان بدون مواطأة القلب يؤجر عليه الإنسان؟
الجواب
لا يؤجر ما لم يحضر القلب، كما جاء أن الدعاء من قلب لاهٍ لا يستجاب؛ لعدم حضور القلب، فكذلك الذكر.(36/18)
الجمع بين حديث: (ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه) وحديث شرب أبي هريرة اللبن
السؤال
كيف نجمع بين حديث: (ما ملأ ابن آدم)، وحديث أبي هريرة لما شرب اللبن فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم (اشرب)، وفي الأخير قال أبو هريرة: (والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً)؟
الجواب
لا يلزم من قوله: (لا أجد له مسلكاً) أن يكون قد امتلأ بطنه وأنه لم يبق فيه مجال، بل معناه أنه أخذ كفايته وحاجته وأنه قد روي، لكن الري كما هو معلوم يحصل بدون امتلاء البطن.(36/19)
حكم أمر الجالسين بالتسبيح والتحميد والتهليل
السؤال
يكون الرجل في مجلس لا يذكرون الله بل كلامهم في أمور الدنيا المباح، فإذا ذكرهم إنسان وقال لهم: قولوا: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته، أو قال لهم: قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، هل في ذلك بأس؟
الجواب
المناسب أن يحول الكلام من كونه كلاماً فيما لا ينفع إلى ما ينفع مثل قراءة القرآن والباقون يسمعون، أو يقرءون شيئاً من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يتذاكرون شيئاً من العلم بدلاً من أن يقول: سبحوا وهللوا وكبروا، فيكونون شبيهين بمن أنكر عليهم ابن مسعود.(36/20)
توصيف النفاق العملي ودخوله في الكبائر
السؤال
هل النفاق العملي من الكبائر؟
الجواب
الكبيرة عند العلماء هي التي تشتمل على حد في الدنيا أو توعد عليها بلعنة أو غضب أو نار أو إحباط عمل أو ما إلى ذلك، وهذه الأشياء ينظر فيما ورد من الأحاديث بخصوصها، فعلى ضوء ذلك يتبين هل هي من الكبائر أو ليست من الكبائر.
فإذا قيل: هل يجوز إطلاق النفاق الأصغر والكفر الأصغر، فيقال: كافر ومنافق لمن وقع في تلك الخصال؟ فالجواب: لا يوصف أحد إلا في شيء ورد، وإذا كان المقصود أنه كفر دون كفر فينبه على ذلك ولا يطلق، حتى لا يظن أن الإنسان أضيف إليه شيء لا يستحقه، بل يضاف إليه شيء يستحقه حيث ورد، فمن وجد فيه شيء من ذلك فإنه يقال: وقع كفر دون كفر.(36/21)
تنبيه على كتاب: الهداية بترتيب فوائد البداية والنهاية
السؤال
يقول أحد الإخوان: لقد جمعت فوائد البداية والنهاية في كتاب (الهداية بترتيب فوائد البداية والنهاية)، لأحد تلاميذ الشيخ مقبل رحمه الله، وقدم له محمد بن عبد الوهاب الوصابي ومحمد الإمام.
الجواب
لكن لا ندري ما نوع هذه الفوائد؛ لأن الفوائد متنوعة، فأحياناً تكون مسائل فقهية، ولا شك أنها مهمة؛ لأنها أقوال لأناس وجدت في غير مظنتها، حيث إنها تبحث غالباً في كتب الفقه، فإذا وجدت في كتب التراجم فذلك فائدته كبيرة، لكن كلامنا هنا فيما فيه تحريك للقلوب وتأثير على النفوس وشحذ للهمم في الاقتداء بأولئك الأخيار الذين حصل منهم ما حصل، أو تفضل الله عليهم بما تفضل من الصلاح والتقى والاستقامة، حتى قالوا مثل هذه الكلمات النيرة الواضحة المفيدة العظيمة.(36/22)
هدية المدرس إلى المدير حرام
السؤال
مديرة مدرسة انتقلت من مدرستها إلى مدرسة أخرى لإدارتها، وفي الوقت ذاته قدر لها الزواج، فأراد مجموعة من المعلمات أن يهدين لها هدية مشتركة جماعية بمناسبة زواجها، فهل تدخل هذه الهدية في هدايا العمال؟
الجواب
نعم تدخل، سواء كانت في مناسبة أو غير مناسبة.(36/23)
الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية
السؤال
أريد الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، وهل الشرعية مندرجة تحت الكونية؟
الجواب
الإرادة الكونية هي المشيئة، وهي القدر السابق الذي لا يتخلف، وكل شيء أراده الله كونه فلا بد من وجوده، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فكل شيء شاءه الله لا بد من وجوده، وكل شيء لم يشأه الله لا يمكن وجوده: فما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن وأما الإرادة الدينية فإنها تكون فيما يحبه الله ولا تكون فيما يسخطه الله، أي: أن الإرادة الكونية تكون في المحبوب المرغوب وفي المكروه، وتكون في الخير والشر وأما الإرادة الدينية فإنما تكون في الخير فقط، ولكن المراد بها قد يتخلف، بخلاف المراد كوناً فلابد أن يتحقق.
والإرادة الدينية تتحقق فيمن وفقه الله عز وجل لفعل الخيرات، وتتخلف فيمن لم يحصل له التوفيق، ولهذا يحب الله عز وجل من الناس أن يعبدوه وأراد ذلك شرعاً؛ لكن فيهم من يعبده وفيهم من يعصيه، فيهم من يستجيب وفيهم من لا يستجيب.
وتجتمع الإرادتان الكونية والدينية في حق المؤمن حيث أراد الله إيمانه كوناً وشرعاً.
فإذاً: الدينية لا يلزم حصولها لكل أحد؛ لأنها تكون لمن وفقه الله عز وجل، ولهذا جاء في قوله تعالى في سورة يونس: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25]، فهو يدعو إلى الإسلام كل أحد، ولكن يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.(36/24)